الكتاب: عودة الحجاب المؤلف: محمد أحمد إسماعيل المقدم جـ 1: دار طيبة (توزيع دار الصفوة) - الطبعة العاشرة، 1428 هـ - 2007م جـ 2: دار ابن الجوزي، القاهرة - الطبعة الأولى، 1426 هـ - 2005 م جـ 3: دار القمة، دار الإيمان (الإسكندرية) - الطبعة الثانية، 2004 م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- عودة الحجاب محمد إسماعيل المقدم الكتاب: عودة الحجاب المؤلف: محمد أحمد إسماعيل المقدم جـ 1: دار طيبة (توزيع دار الصفوة) - الطبعة العاشرة، 1428 هـ - 2007م جـ 2: دار ابن الجوزي، القاهرة - الطبعة الأولى، 1426 هـ - 2005 م جـ 3: دار القمة، دار الإيمان (الإسكندرية) - الطبعة الثانية، 2004 م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] عودة الحجاب القسم الأول معركة الحجاب والسفور جمع وترتيب محمد أحمد اسماعيل المقدم غفر الله له ولوالديه وللمسلمين توزيع دار الصفوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 جميع الحقوق محفوظة للناشر الطبعة العاشرة 1428 هـ - 2007م توزيع دار الصفوة ت: 0101999555 E-mail.ddarelsafwah@yahoo.com الناشر دار طيبة للنشر والتوزيع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 مقدمة الطبعة الثالثة الحمد لله الذي اخمد ذكر الطواغيت فصار بعز التوحيد والإسلام مطموساً وأذل بقهره منهم أعناقاً ورؤوساً وصرف عن أهل طاعته بلطفه وإسعاده أذى وبوساً ورفع كيد شياطين الإنس والجن عن قلوب أهل الإيمان فأصبح عنها محبوساً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص في معتقده وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله صلى اللهم وسلم عليه وعلى آله وصحبه وعلى سائر التابعين مقصده الصابرين من البلاء على أشده. أما بعد: فما أشد حاجتنا إلى إعادة النظر في تقويم الرجال بعد رحلة الشقاء التي تركت قلوبنا مجرحة وأيدينا مرتعدة وسيوفنا ملثمة تلك الرحلة التي قام فيها على امرنا فريق التحف الإسلام وتبطن الكفر حمل بين فكيه لساناً مسلماً وبين جنبيه قلباً كافراً مظلماً حرص كل الحرص على أن يطفئ نور الإسلام ويهدم عز المسلمين فلم يجد أعون له على هذا الغرض السيئ من أن يقدم لنا الكفر والفسوق والعصيان في ثوب إسلامي ويتولى تزيينه لنا سدنته من الزعماء وربائبه من المفكرين فكانت النتيجة ركاماً ضحلاً تافهاً مظلماً من المبادئ التي أخذناها لنستر بها عُريَنا فعرينا! والمناهج التي اقتبسناها لننسج بها آمالنا فنسجنا بها أكفاننا! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 (إن كثيراً ممن نعتبرهم اليوم دعائم النهضة الحديثة لم يصبحوا كذلك في أوهام الناس إلا بسبب الدعايات المغرضة التي أرادت أن تضعهم في هذه المنزلة لتحقق بذلك أغراضها في نشر مذاهبهم والتمكين لأرائهم ولأن كثيراً من الآراء المنحرفة التي لم تكن تستطيع أن تجد طريقها إلى الفكر الإسلامي وإلى مجتمعاته قد أصبح قبولها ممكناً بنسبتها إلى هذه الزعامات وإلى هؤلاء الأئمة الذين لا يتطرق إلى الناس شك في إخلاصهم وعلمهم والواقع أن كثيراً من هؤلاء الرجال قد أحيطوا بالأسباب التي تبني لهم مجداً وذكراً بين الناس ولم يكن الغرض من ذلك خدمتهم ولكن الغرض منه كان ولا يزال هو خدمة المذاهب والآراء التي نادوا بها والتي وافقت أهداف الاستعمار ومصالحه وخطة الاستعمار واليهودية العالمية في ذلك كانت تقوم - ولا تزال - على السيطرة على أجهزة النشر التي نسميها الآن " الإعلام " وإلقاء الأضواء من طريقها على كُتاب ومفكرين من نوع خاص يبنون وينشئون بالطريقة التي يبني بها نجوم التمثيل والرقص والغناء بالمداومة عن الإعلان عنهم والإشادة بهم وإسباغ الألقاب عليهم ونشر أخبارهم وصورهم وذلك في الوقت الذي يُهمل فيه الكتاب والمفكرون الذين يمثلون وجهات النظر المعارضة أو تُشوه آراؤهم وتُسفه ويُشهَّر بهم ثم هي تقوم على تكرار آرائهم آناً بعد آن لا يملون من التكرار لأنهم يعلمون أنهم يخاطبون في كل مرة جيلاً جديداً أو هم يخاطبون الجيل نفسه فيتعهدون بالسقي البذور التي ألقوها من قبل. ونحن حين ندعو إلى إعادة النظر في تقويم الرجال لا نريد أن ننقص من قدر أحد ولكننا لا نريد أن تقوم في مجتمعنا أصنام جديدة معبودة لأناس يزعم الزاعمون أنهم معصومون من كل خطأ وأن أعمالهم كلها حسنات لا تقبل القدح والنقد حتى أن المخدوع بهم والمتعصب لهم والمروج لآرائهم ليهيج ويموج إذا وصف أحد الناس إماماً من أئمتهم بالخطأ في رأي من آرائه في الوقت الذي لا يهيجون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 فيه ولا يموجون حين يوصف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم بما لا يقبلون أن يوصف به زعماؤهم " المعصومون "! ويحتمون بحرية الرأي في كل ما يخالفون به إجماع المسلمين ويأبون على مخالفيهم في الرأي هذه الحرية يخطئون كبار المجتهدين من أئمة المسلمين ويجرحونهم بالظنون والأوهام ويثورون لتخطئة ساداتهم أو مواجهتهم بالحقائق الدامغة) اهـ (1) - ويرهق كثير من الكتاب عقولهم في تحديد هوية أولئك المتآمرين وهذا لا مبرر له إذ يكفينا أنهم (كارهون لما أنزل الله) فلا نبالي حينئذ أن يكونوا حقاً صنائع اليهودية أو الصليبية أو الماسونية أو الشيوعية لأن الكفر مهما تعددت ألوانه فهو كفر ينبغي محاربته واستئصاله ودين الشيطان لا يعرف الجنسية. - وهؤلاء الذين ما يزالون يتعامَون عن رؤية الواقع الصارخ الذي يؤكد أن هناك مؤامرة وتدبيراً خفياً يستهدف القضاء على الإسلام - غافلون مخدوعون بأصحاب القفازات الحريرية الذين هم " من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ". إن من الغفلة أن نعمى عن أعداء ديننا بل ونتخذهم أولياء من دون المؤمنين وهم - في ذات الوقت - لا يدخرون وسعاً في تحطيم مقومات الأمة وتنفيذ مخططات أعدائها: بأبي وأمي ضاعت الأحلام أم ضاعت الأذهان والأفهام من حاد عن دين النبي محمد أله بأمر المسلمين قيام إن لا تكن أسيافهم مشهورة فينا فتلك سيوفهم أقلام (2) - وإذا كنا بصدد الحديث عن المؤامرة على المرأة المسلمة كجزء من مشروع استعماري شامل لتغيير وجه الحياة في مصر واقتلاع المجتمع الإسلامي من   (1) (الإسلام والحضارة الغربية) للدكتور محمد محمد حسين رحمه الله، ص (47-49) بتصرف. (2) (غذاء الألباب بشرح منظومة الآداب) لمحمد بن أحمد السفاريني (2/14) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 جذوره فلا ريب يستوقفنا مواقف رضعاء ألبان الغرب والشرق الذين غسلت أدمغتهم في دهاليز الكفر وترعرعوا في كنف الإلحاد وعادوا إلى بلادنا لترتفع على أكتافهم أعمدة الهيكل العلماني من هنا كان لابد من وقفات معهم تبين بالوثائق والأدلة موقفهم من الإسلام وعليه موقف الإسلام منهم. ولئن كان هناك رجال وقفوا حياتهم على هدم الإسلام فلابد أن يكون مصيرهم الهدم ومن عجيب أمر بعض السذج أنهم تأخذهم بأولئك الهدامين رأفة في دين الله وينكرون على من يكشف كيدهم قائلين: " وما يدريك لعلهم تابوا! ففلان حج أو اعتمر وفلان بنى مسجداً وفلان أعلن أنه يستمع إلى إذاعة القرآن الكريم "! نقول: هذا فهم قاصر لمعنى التوبة في حق هؤلاء فإن من شرط توبتهم أن يتوبوا عن مظالمهم وان يقلعوا عن غيهم ويتبرأوا مما بدر منهم في حق دين الحق ويندموا على ما بارزوا به الإسلام والمسلمين ويعلنوا ذلك على الملأ. وقد يقول قائل: " لعلهم تابوا ولكن حيل بينهم وبين إعلان توبتهم " نقول: هذا محتمل وقد قال الله تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق} البروج (10) وقال - صلى الله عليه وسلم -: ( ..... وإنما الأعمال بالخواتيم) (3) والخواتيم مغيبة فلهذا كان من أصول أهل السنة عدم الحكم لمعين بالجنة ولا الحكم على معين بالنار إلا بنص من الوحي ولكن هذا لم يمنعهم من أن يجروا أحكام الإسلام على من كان يظهر الإسلام في الدنيا وأحكام الكفر على من أظهره في الدنيا وانشرح به صدره ولم يمنعهم ذلك أيضاً من أن يحذروا من ضلال المضلين وتلبيس الملحدين مع علمهم بأن الخواتيم مغيبة إذ إن ذلك من واجبات الديانة.   (3) قطعة من حديث رواه الشيخان - انظر " جامع الأصول " (10/220- 221) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وحينما نعرض الوثائق التاريخية التي تنطق بإدانة أولئك المتمسلمين الذين رفعوا عقيرتهم بالصد عن سبيل الله فإن مقصودنا الأول هو تحذير المسلمين من ضلالهم أما القطع بخاتمة شخص معين أو الحكم عليه بجنة أو نار فهذا لا يملكه إلا العزيز الغفار. ومن هنا يتضح لك الجواب عما رمانا به أحد " عُباد الصليب " وقد أخذته الحمية وتدفقت من قلبه الغيرة على شخصيات تناولها البحث بالنقد فكتب في (الأهرام) تحت عنوان: " تشويه العظماء ": (إن محاولات هؤلاء المتخلفين وهجماتهم لم تقتصر على أعلامنا الأحياء بل امتدت لتشمل روادنا الراحلين أي أن حقد المتخلفين لم يقف احتراماً للموت بل استطاع أن يتجاوز حواجزه حتى ينفث سمومه هناك حيث رحاب الله وانهالت عليهم تهم الإلحاد والكفر والزندقة وكأن هؤلاء المتخلفين قد ورثوا بابوات روما في العصور الوسطى المظلمة في منح صكوك الغفران لمن يحبونه وحجبها عمن يحقدون عليهم!! (قلت: أنت أدرى!!) . وقد آن الأوان ليعلم هؤلاء المتخلفون الجهلاء أن السلطة الوحيدة التي تملك حق اتهام الآخرين على وجه هذه الأرض هي السلطة القضائية وذلك بناء على قرائن وشواهد محددة أما أن يتخيل جاهل متخلف أن في قدرته تحديد الذاهبين إلى الجنة والساقطين في الجحيم فإنه بهذا يتدخل في إرادة الله سبحانه وتعالى) اهـ ولا أجد جواباً عليه إلا أن أنقل قوله: (ولكي ندرك خطورة ما يجري الآن فلنا أن نتخيل حياتنا الثقافية بدون طابور روادنا العظام ابتداء برفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين وهدى شعراوي ولطفي السيد وطه حسين، ... وسلامة موسى ومحمد مندور وانتهاءً بتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وزكي نجيب محمود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ولويس عوض وأمينة السعيد وعبد الرحمن الشرقاوي وحسين فوزي ويوسف إدريس وأحمد بهاء الدين وغيرهم ممن حملوا شعلة الثقافة المستنيرة عبر ما يزيد عن قرن ونصف من الزمان) اهـ ثم أتساءل: ما هو الذي يجمعك يا عابد الصلبان مع هؤلاء الرواد " العظام " سوى وحدة الهدف؟ إن وثائق الإدانة لهؤلاء الرواد العظام (!) تتزاحم أمامي الآن كل منها يستبق ليحتل السطور القليلة في هذه المقدمة ولكني أرجئ أغلبها وأتخير وثيقة واحدة وهي عبارة مظلمة نطق بها يوماً أحد روادك العظام وهو الذي أسماه أبوه (أحمد بهاء الدين) قال: قال: (لابد من مواجهة الدعوات الإسلامية في أيامنا مواجهة شجاعة بعيداً عن اللف والدوران وإن الإسلام كغيره من الأديان يتضمن قيماً خلقية يمكن أن تستمد كنوع من وازع الضمير أما ما جاء فيه من أحكام وتشريعات دنيوية فقد كانت من قبيل ضرب المثل ومن باب تنظيم حياة نزلت في مجتمع بدائي إلى حد كبير ومن ثم فهي لا تلزم عصرنا ومجتمعنا) اهـ (4) إن الإسلام دين الله الحق لا يهزم أبداً في معركة شريفة ولا يهاب الصراع مع الباطل أياً كان إذ: (ليس الخطر الذي يهدد المجتمع الإسلامي ناشئاً عن هذا الصراع فالصراع بين الأصيل والدخيل سنة من سنن الله العليم الحكيم يضرب فيها الحق والباطل {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} الرعد آية 17 ليس هذا الصراع إذاً مصدر خطر بل إنه ربما يدعو إلى التفاؤل والاطمئنان ولكن مصدر الخطر وعلامته هي أن يزول هذا الصراع وأن يفقد الناس الإحساس   (4) انظر: (الصحافة والأقلام المسمومة) للأستاذ أنور الجندي - ص (214) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 بالفرق بين ما هو إسلامي وبين ما هو غربي إن فقدان هذا الإحساس هو النذير بالخطر لأنه يعني فقدان الإحساس بالذات فالجماعات البشرية إنما تدرك ذاتها من طريقين معاً: من طريق وحدتها التي تكونها المفاهيم والتقاليد المشتركة ومن طريق مخالفتها للآخرين التي تنشأ عن المغايرة والمفارقة ولذلك كان الخطر الذي يتهدد هذه الوحدة يأتيها من طريقين: الشعوبية التي تفتتها والعالمية التي تميعها فزوال الإحساس بالمغايرة والمفارقة هو هدم لأحد الركنين اللذين تقوم عليهما الشخصية وهذا هو ما لا نريد أن يكون، نريد أن يظل هذا التمييز بين ما هو إسلامي وبين ما هو طارئ مستجلب - شرقياً كان أو غربياً - حياً في نفوس الأجيال الصاعدة والتالية وهي أمانة تلقاها جيلنا عمن قبله ولابد أن يحملها إلى من يجئ بعده) (5) وأخيراً لا يفوتني في هذا المقام أن أتقدم بالشكر الجزيل لكل من أعان على نشر هذا الكتاب والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الإسكندرية في الجمعة الثالث عشر من شهر الله المحرم 1406 هـ.   (5) (الإسلام والحضارة الغربية) ص (59- 60) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 مقدمة الطبعة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إلى إلا الله وحده وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (آل عمران: 102) {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً} (النساء: 1) {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} (الأحزاب: 70) أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. بين يديك - أيها القارئ - مواقف تاريخية تبين لك فصول (المعركة) التي نشبت في أواخر القرن الماضي واستمرت أمداً بعيداً بين (الحجاب) وبين (السفور) بين (العفة والفضيلة) وبين (التهتك والرذيلة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وقد تركز البحث حول تاريخ هذه المعركة في (مصر) وإن كان من حقه أن يستوفي تفاصيل المعركة في سائر البقاع الإسلامية ولهذا الأمر مسوغات - منها عزة المصادر المرضية التي يمكن من خلالها استنباط المقصود. - ومنها أن مصر لما لها من مركز حساس ولما تتمتع به من صدارة تؤهلها للقيادة الفكرية - يقر بها الجميع - كانت الأسوة والقدوة في شتى المجالات بعامة وفي مجال (المرأة) بخاصة الأمر الذي جعل من فصول المعركة خارجها صورة مطابقة لما حدث فيها ولا ينسى التاريخ وصية الملك " عبد العزيز " لأبنائه بأن يقيسوا حال الأمة العربية قوة وضعفاً بحال مصر فهي ميزان قوة العرب والمسلمين (6) ولا ينسى التاريخ أن دفاع المسلمين المصريين ضد الإنكليز وعملائهم من دعاة ما يسمى بـ (تحرير المرأة) كان انطلاقاً من وجهة نظر الشاعر " أحمد محرم " التي يلخصها قوله مشيراً إلى " مصر ": احفظوها إن مصر إن تضع ضاع في الدنيا تراث المسلمين ومن هنا لم يكن عفواً أن يبدأ المبشرون الصليبيون بمصر قلعة الإسلام الصامدة ومركز ثقله ولم يكن عفواً أن يكون قادة الغزو الصليبي الجديد لمصر من القساوسة المعروفين بكيدهم للإسلام والمسلمين أمثال " دنلوب " هذا الكاهن الذي: (خلع عنه ثوب الكهنوت ودخل في خدمة الحكومة يدير مدارسها في خلال ربع قرن فكان يناهض القرآن مناهضة سرية متواصلة) (7) وأمثال" كرومر" الذي تخرج هو ودنلوب من أكبر المدارس اللاهوتية في أوربا (8) وغيرهم من النصارى الذين رحلوا إلى مصر ليتخذوها قاعدة انطلاق وليجندوا زملاءهم من المنافقين والمنافقات الذين أظهروا أسماء المسلمين وأبطنوا قلوب الذئاب {يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون} (البقرة:9) فمن هنا جاز تجريحهم وكشف عوارهم تحذيراً منهم ونصيحة للمسلمين كما بين ذلك علماء " الجرح والتعديل " {ولا عدوان إلا على الظالمين} (البقرة: 193) ولله در القائل: من الدين كشف الستر عن كل كاذب وعن كل بدعي أتى بالعجائب ولولا رجال مؤمنون لهدمت صوامع دين الله من كل جانب   (6) "مدافع آية الله " لمحمد حسنين هيكل (ص 254) ، وانظر ص (17، 252) من نفس المصدر، وانظر أيضاً: " تحفة الناظرين فيمن ولي مصر من الولاة والسلاطين " للشيخ عبد الله الشرقاوي المطبوع بهامش " فتوح الشام " للواقدي ص (11،17- 21) . (7) " المخاطر التي تواجه الشباب المسلم " د / " مصطفى حلمي " ص (28) نقلاً عن (الإسلام وآسيا أمام المطامع الأوربية) تأليف أوجين يونج ص (157) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 هذا وقد حرصت أن أعزو - ما استطعت - كل قول إلى قائله لأخرج من تبعته وقصرت جهدي على الجمع والترتيب إلا فيما لابد منه من التوضيح والتهذيب. وهذا الجزء هو الأول من مجموعة (عودة الحجاب) يتلوها إن شاء الله تعالى الأجزاء: الثاني، وموضوعه: المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية. والثالث، ويتضمن: مقدمة في ذم التبرج والحث على الحجاب - شروط زي المرأة المسلمة - الاختلاط وأضراره - معاني الحجاب وتاريخه - بدعة الدعوة إلى السفور - السفور والغيرة - السفور والحياء - أدلة القرآن الكريم والسنة النبوية على وجوب انتقاب المرأة وسرد المذاهب في ذلك ومناقشة أدلة المخالفين. والرابع، ويتضمن: ثلاث قضايا جامعة: تعليم المرأة، وعمل المرأة، وأحكام القرار في البيوت - يسر الله إتمامها.   (8) " المرأة ومكانتها في الإسلام " لأحمد عبد العزيز الحصين ص (207) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 - هذا عدا مسائل أخرى تفرعت من أبواب هذا البحث تعم الحاجة إلى تبيينها وإن بعدت عن المقصود الأصلي منه ولكن قد يذكر الشيء بالشيء وتصح الإضافة بأدنى مشابهة في الزي والفيء وكلها نبضات قد يعوزها الترتيب والتنسيق ولكن أرجو ألا يعوزها الصدق والتوفيق والله سبحانه وتعالى أسأل أن يجعل سعيي هذا مشكوراً وجهدي في هذا الجمع والترتيب - وإن كنت مقلاً - مبروراً ويتوب علينا وعلى سائر العصاة فيما فرط منا من السيئات والذنوب توبة لا يصيبنا بعدها نصب ولا يمسنا فيها لغوب وحسبي بعد ذلك أن أدعو الله أن لا يصرف من نيتي شيئاً إلى غيره وأن يوفقني كي لا أبتغي بما سطرته إلا وجه الله والدار الآخرة فإن من كان همه هناك كان في شغل شاغل عن مدح المادحين وقدح القادحين {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله وعليه توكلت وإليه أنيب} (هود: 88) والحمد لله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 معركة الحجاب والسفور (قضية المرأة) بين المنهزمين والمتآمرين (9) إن جملة الأحكام التي يطلق عليها عنوان (الحجاب) هي في الحقيقة مشتملة على أهم أجزاء النظام الاجتماعي في الإسلام فإذا وضعت هذه الأحكام موضعها الصحيح في النظام الإسلامي بكامله ثم تأملها أحد فيه أثارة من البصيرة الفطرية السليمة لم يلبث أن يعترف بأنها الصورة الوحيدة الممكنة التي تضمن القصد والاعتدال في الحياة الاجتماعية وأن هذه الأحكام لو عرضت على العالم منفذة في الحياة العملية بروحها الحقيقية الصحيحة لهرولت الدنيا المنكوبة إلى هذا النبع الصافي تلتمس فيه الدواء لأدوائها الاجتماعية المتفشية بدل أن تنفر منه أو تطعن عليه. في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي ومطلع القرن التاسع عشر فوجئت الممالك الإسلامية بطوفان من الاستعمار الغربي وبينما المسلمون في هجود الكرى لم يستيقظوا بعد كل اليقظة جعل هذا السيل يمتد من قطر إلى قطر حتى شرق العالم الإسلامي وغرب وما أن انتصف القرن التاسع عشر حتى غدت معظم الأمم المسلمة عبيداً للغرب الأوربي وخولاً له والتي لم تدخل منها في عبوديته لم تسلم من الخضوع لسلطانه ورهبة بأسه وسطوته. ولما بلغ هذا الانقلاب تمامه بدأت في المسلمين آثار اليقظة والحركة فلما فتحوا أعينهم على الحال التي قد صاروا إليها فشلت ريحهم وزال عنهم بغتة ذلك   (9) مستفاد بتصرف من كتاب " الحجاب " للمودودي رحمه الله ص (37- 47) طبع مؤسسة الرسالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الفخار والاعتزاز الذي طالما تأصل فيهم لبقائهم في عز الغلبة ومجد السيادة قروناً متوالية فعادوا يفكرون في أنفسهم كالسكران يفيقه توالي الضربات من عدو شديد ويبحثون عن الأسباب التي هبطت بهم وغلبت الإفرنج عليهم غير أن عقولهم لم تكن ثابت بعد إلى رشدها إذ كان السكر لا ريب قد ذهب عنهم ولكن ميزان الفكر كان لا يزال مختلاً فيهم: فبجانب كان يلح بهم شعور بالذلة والهوان ويؤزهم أزاً على تبديل ما هم فيه من الأحوال وبجانب آخر يغلبهم من حب الراحة وإيثار الدعة والارتخاء ما يحملهم على توخي أقرب الطرق وأسهلها لتبديل تلك الحالة وقد خارت فيهم من جهة ثالثة قوى الفكر والعقل وصدئت ملكات الفهم والذكاء بطول تعطلها عن العمل زد على ذلك كله ما أخذ بمجامع نفوسهم من الدهشة والروعة التي تعتري بالطبع كل أمة منهزمة مستعبدة، وتغلغلت هذه العوامل في محبي الإصلاح من المسلمين وأوقعتهم في كثير من الضلالات العقلية والعملية فأكثرهم ما كادوا يفطنون للأسباب الحقيقية في ارتقاء أوربة وانحطاطهم وأما الذين فهموها منهم وأدركوها فأعوزهم من بعد الهمة والعزيمة ما يتشجعون به على اختيار الطريق الوعرة للرقي والتقدم وكان من وراء ذلك كله الروعة والدهشة التي تعتري الطائفتين على السواء فلما مضوا بهذه العقلية المريضة الزائفة يريدون الإصلاح لم يروا أضمن للرقي من ولا أدنى للوصول إليه من أن يحاكوا في حياتهم اليومية كل مظاهر التمدن والحضارة الغربية فيعودوا كالمرآة الصافية يرى فيها خيال الروضة والأزهار والرياحين وليس فيها من حقيقة هذه المناظر من شيء. " لتتبعن سنن من كان قبلكم " (10) وهذه هي الفترة الانهزامية التي غدت الأمم الإسلامية فيها تحاكي أمم الغرب   (10) صدر حديث رواه الشيخان وغيرهما عن أبي سعيد الخدري عن النبي " وتتمته: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 في الزي واللباس وسائر المظاهر الاجتماعية في آداب المجالس وأطوار الحياة حتى في الحركة والمشي والتكلم والنطق لقد حاولوا تشكيل المجتمع المسلم على الصيغة الغربية وقبلوا الإلحاد والدهرية والمادية في نشوة التجدد بدون حيطة أو شعور بالعواقب وعدوا من لوازم التنور الفكري إيمان المرء بكل ما بلغه من قبل الغرب من فكرة ناضجة أو فجة والإفاضة فيه في مجالسه ورحبوا بالخمر والقمار واليانصيب والتهتك والرقص وما إلى ذلك من ثمرات الحضارة الغربية ثم سلموا بجميع معتقدات الغرب وأعماله في الأخلاق والآداب والاجتماع والاقتصاد والسياسة والقانون حتى في العقائد الإيمانية والعبادات سلموا بكل ذلك من غير فهم أو شعور ومن غير نقد أو تجريح كأنه تنزيل من السماء ليس لهم قبله إلا أن يقولوا: (آمنا) وأصبح المسلمون أنفسهم يستحيون من كل ما نظر إليه أعداء الإسلام بالتحقير والتعيير ولو كان هذا الشيء من الأمور الثابتة في الشرع الحنيف وطفقوا يحاولون أن يمحوا تلك السبة عن أنفسهم: - اعترض الغربيون على ما عندهم من أحكام الجهاد فقال هؤلاء المنهزمون: (ما لنا وللجهاد يا سادة؟ إنا نعوذ بالله من هذه الهمجية) ... - اعترضوا على الرق فقال هؤلاء: (إنما هو حرام عندنا أصلاً) (11) - وأطالوا لسان القدح في تعدد الزوجات فجاء المنهزمون ينسخون بضلالهم وجهلهم آيات القرآن ويحرفون الكلم عن مواضعه (12) - ثم قال أولئك الغربيون: (لابد من مساواة الرجل والمرأة في جميع نواحي   = ( .... شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم قلنا يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) (11) انظر " أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن " للشنقيطي (3/386- 389) . (12) انظر المرجع السابق (3/773- 380) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الحياة) فوافقهم المنهزمون وقالوا: (وهذا هو الذي ينادي به ديننا ويدعو إليه) . - وطعن القوم في أحكام الزواج والطلاق في الإسلام فقامت طائفة من المنهزمين تعالجها بالإصلاح والتعديل. - ولما عابوا الإسلام بأنه عدو لما يسمى (الفنون الجميلة) استدرك هؤلاء قائلين: (كلا بل ما زال الإسلام مذ كان يحتضن هذه الفنون ويحضوا عليها ويشرف على الرقص والموسيقى والتصوير والغناء ونحت التماثيل ...... ) ففي سبيل دفع تهم الجمود التي يلصقها الغربيون بالشريعة رأينا هؤلاء المنهزمين ينجرفون إلى أقصى الطرف المناقض في بيان ما تنطوي عليه الشريعة من مرونة التطبيق حتى يبلغوا بهذه المرونة حد الميوعة وانعدام الذات والمقومات تلك الميوعة التي تجعلها صالحة لأن تكون ذيلاً لأي نظام وتبعاً للأهواء وبذلك ينتهون إلى إلغاء وظيفة الدين لأنهم بدلاً من تقويم عوج الحياة بنصوص الشريعة يحتالون على نصوص الشريعة حتى يبرروا بها عوج الحياة المعاصرة. نشأة " مسألة الحجاب ": كان هذا الدور أخبث الأدوار وأخزاها في تاريخ المسلمين ففي هذا العصر نشأت " مسألة الحجاب " ولو كان البحث في هذه المسألة مقصوراً على تعيين الحد الذي وضعه الإسلام لحرية المرأة لهان الأمر ولم يستعص حله لأن أكثر ما هنالك من الاختلاف بين المسلمين في هذا الباب هو منحصر في وجه المرأة ويديها: هل يجوز إبداؤها أم لا؟ وليس في هذا كبير خطورة ولكن الواقع ههنا غير ما ذكرنا. الواقع في الحقيقة أنه نشأت هذه المسألة في المسلمين لكون الغرب قد نظر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 إلى الحجاب والنقاب بعين المقت والازدراء وصوره أقبح تصوير وأشنعه فيما كتب ونشر وعدَّ (حبس) المرأة - على حد تعبيره - من أبرز عيوب الإسلام ولكن أنى للمنهزمين أن يغضوا عن هذه النقيصة التي أخذها (سادتهم) عليهم فيما أخذوا؟! لقد فعلوا في هذه المسألة - الحجاب - مثل ما فعلوا في مسائل الجهاد والرق وتعدد الزوجات وما شاكلها من المسائل فما كان منهم إلا أن عمدوا إلى الكتاب والسنة يتصفحون أوراقهما وإلى كتب الفقه والأحكام ينقبون عن اجتهادات الأئمة فيها وأقوال الفقهاء لعلهم يجدون في ثناياها ما يعينهم على أن يغسلوا عن أنفسهم هذا العار الذميم الذي عيرهم به الغربيون. فإذا بهم يقعون على أقوال لبعض الأئمة تجيز للمرأة أن تبدي وجهها وكفيها وتخرج كذلك من بيتها لحوائجها ويؤخذ منها أيضاً أن المرأة يجوز لها أن تشهد الحرب لسقي المجاهدين ومداواة الجرحى ثم وجدوا في تلك الأقوال إذناً بخروج المرأة إلى المسجد للصلاة وجلوسها للتعلم والتعليم فكفاهم هذا القدر من المعلومات لأن يدعوا أن الإسلام قد أعطى للمرأة حرية مطلقة (13) وأن الحجاب من تقاليد الجهلاء اتخذه المتأخرون من المسلمين الجامدين المتشددين ولا أثر له في آية ولا في حديث وإنما القرآن والسنة يعلمان الحياء والعفاف على سبيل التوجيه الخلقي العام وليس فيهما قانون أو ضابط بقيد حركة المرأة وتنقلها بقيد ما. ومن الضعف الطبيعي في الإنسان إنه إذ اختار مذهباً من المذاهب في شئون حياته يكون بدء اختياره لذلك المذهب بنزعة عاطفية غير عقلية ثم يأتي بعد ذلك فيستعين بالمنطق والعقل ليثبت كون نزعته تلك صحيحة معقولة كذلك وقع في أمر الحجاب أيضاً فما عرضت للمسلمين مسألة الحجاب لشعورهم بضرورة عقلية أو شرعية إليه وإنما أتت من ذلك الميل والنزوع الذي نشأ من تأثرهم ببريق   (13) يأتي في ثنايا هذا البحث إبطال هذه الادعاءات ومناقشة شبهات القوم إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 حضارة أمة غالية ومن ارتياعهم لدعاية تلك الأمة ضد التمدن الإسلامي. وذلك أن المسمين برجال (الإصلاح) لما رأوا المرأة الأوربية وما هي عليه من زينة وحرية في الحركة والجولة ونشاط زائد في المجتمع الغربي .... لما رأوا كل هذا بعيون مسحورة وعقول مندهشة تمنوا بدافع الطبيعة أن يجدوا مثل ذلك في نسائهم أيضاً حتى يجاري تمدنهم تمدن الغرب ثم أثرت فيهم الدعوات الجديدة إلى تحرير المرأة وتعليم النساء ومساواتهن بالرجال ... تلك الدعوات التي كانت تنصبُّ عليهم كالوابل المدرار بلغة قوية منطقية وفي طبع أنيق كذاب حتى أماتت هذه الكتب والمنشورات الغربية بقوة دعايتها ملكة النقد والتجريح عندهم فاستقر في سويداء قلوبهم أنه لابد لكل من يرغب أن يعدَّ من (المتنورين التقدميين) ويدفع عن نفسه تهمة (الرجعية والتخلف) أن يؤمن بتلك النظريات إيمانه بالغيب ويؤيدها ويحامي عنها فيما يكتب ويخطب ثم يروجها في الحياة العملية بحسب ما أوتي من همة وجراءة كان هؤلاء تكاد تسوح بهم الأرض من فرط الخجل حينما يرون الغربيين يتهكمون بنسائهم المتنقبات المستورات في اللباس العادي وينبذونهن بـ (الجنائز المكفنة المتحركة) وإلى متى - يا ترى - يطيق القوم الصبر على هذه الوخزات؟ ... لذلك استعدوا آخر الأمر - طوعاً أو كرهاً - لأن يقوموا فيدفعوا عن أنفسهم هذا العار المخزي. وهذه النزعات والعواطف هي التي دفعت المنهزمين إلى أن يقوموا بحركة ما يسمى : (تحرير المرأة) التي بدأوها في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي فمنهم من كانت هذه النزعات كامنة في شعورهم الخفي فلا يدرون بأنفسهم ماذا يجرهم ويدفعهم إلى تلك الحركة فكانوا مخدوعين عن أنفسهم ومنهم آخرون كانوا يشعرون بنزعاتهم شعوراً تاماً ولكنهم يستحيون ويحجمون عن إبداء نزعاتهم الحقيقية فهؤلاء لم يكونوا مخدوعين بل دهاة خادعين وأياً كان الأمر فقد قام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 كلا الفريقين بعمل واحد ألا وهو: سحب ذيل الخفاء على المحركات والدوافع الحقيقية لحركته تلك وحاول أن يظهرها بمظهر حركة عقلية بدلاً من إظهارها حركة عاطفية وساق في تأييدها جميع الأدلة التي تلقاها من الغرب مباشرة كصحة النساء وارتقائهن في مجال الفكر والعمل وحقوقهن الفكرية واستقلالهن الاقتصادي وتخلصهن من ظلم الرجال وأثرتهم وانحصار رقي المدنية في رقيهن لكونهن شطراً كاملاً من الأمة ... إلى آخر هذه الحجج وحتى ينخدع عامة المسلمين ولا يفتضح عليهم صميم المقصد من تلك الحركة وهو حمل المرأة المسلمة على اقتفاء آثار المرأة الأوربية واتباع المناهج الاجتماعية الرائجة بين أمم الغرب أعني: اليهود والنصارى ... ولكن الأدهى والأخبث أنهم عادوا يخدعون الناس في هذا الصدد عن طريق احتيالهم في إثبات حركتهم الضالة بنصوص واستنباطات من الكتاب والسنة بالرغم من وجود البون الشاسع بين المنهج الإسلامي الرباني في الاجتماع ومقاصد هذه الشريعة العليا وبين مبادئ النظام الاجتماعي الأوربي ومقاصده. فإن المقصد الأعلى الذي يريد أن يحققه الإسلام من خلال نظامه الاجتماعي هو صون الأعراض وكبح جماح الشهوات وترويضها وضبطها وتقييدها بضوابط أخلاقية تضمن استعمالها في خير الإنسان وطهارته بدل إهمالها أو تضييعها في الفوضى والهمجية. وأما النظام الاجتماعي الغربي فعلى العكس من ذلك يرمي إلى الحث على سير التمدن بإشراك المرأة والرجل في تدبير شؤون الحياة وتحمل تبعاتها على حد سواء واستعمال الشهوات في فنون ووسائل تحول متاعب الحياة إلى لذات ومسرات. ومن هنا يتضح الفرق إذ أن الإسلام يضع نظاماً للاجتماع ليخدم مقاصده، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 فقد فصل فيه بين دائرتي عمل الرجل والمرأة إلى حد كبير وحُظر اختلاط الذكور بالإناث بدون قيد خلقي ثم حسمت فيه جميع الأسباب التي يمكن أن تخل بهذا الضبط والتقييد وبذلك تجفف منابع الفتنة وتسد الذرائع إليها وتراعى حرمات الله وتؤدى حقوقه سبحانه وتعالى وكذا حقوق النفس وحقوق الخلق في انسجام فطري وتناسق طبيعي وهذا بخلاف النظام الأوربي الذي يدفع الجنسين إلى ميدان مشترك في الحياة مع رفع جميع الحجب من بينهما تلك الحجب التي تحول دون اختلاطهما الحر ومعاملتهما المطلقة التي لا تحدها حدود. ولك أن تقدر شدة مكر القوم الذين يريدون من جانبهم أن يتبعوا التمدن الغربي ثم يُسوِّغون فعلهم هذا بقواعد النظام الإسلامي الاجتماعي. إن أقصى ما أوتيت المرأة من الحرية في النظام الإسلامي هو أن تبدي وجهها وكفيها إذا دعت الضرورة وأن تخرج من بيتها لحاجتها ولكن هؤلاء يجعلون هذا الحد الأقصى من حريتها نقطة البدء وبداية المسير فيقومون إلى آخر حدود الإسلام ويتقدمون في سبيل الحرية ويتمادون إلى أن يخلعوا عن أنفسهم ثوب الحياء والاحتشام فلا يقف الأمر بإناثهم عند إبداء الوجه والكفين بل يجاوزه إلى تعرية الوجه والذراع والنحر إلى آخر هذه الهيأة القبيحة المعروفة وهي الهيأة التي لا تخص بها المرأة الأزواج والأخوات والمحارم فقط بل يخرجن بكل تبرج من بيوتهن ويمشين في الأسواق ويخالطن الرجال في الجامعات ويأتين الفنادق والمسارح ويتبسطن مع الرجال الأجانب ... ثم يأتي القوم فيحملون رخصة الإسلام للمرأة في الخروج من البيت للحاجة وهي الرخصة المشروطة بالتستر والتعفف على أنها يحل لها أن تغدو وتروح في الطرقات وتتردد إلى المنتزهات والملاعب والسينما في أبهى زينة وأفتنها للناظرين ثم يتخذ إذن الإسلام لها في ممارسة أمور غير الشؤون المنزلية - ذلك الإذن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 المقيد المشروط بأحوال خاصة - يتخذ حجة ودليل على أن تودِّع المرأة المسلمة جميع تبعات الحياة المنزلية وتدخل في النشاط السياسي والاقتصادي والعمراني تماماً وحذو القذة بالقذة كما فعلت الإفرنجية. وها هو ذا المودودي - رحمه الله - يصرخ في وجوه هؤلاء الأحرار في سياستهم العبيد في عقليتهم قائلاً: (ولا ندري أيُّ القرآن أو الحديث يستخرج منه جواز هذا النمط المبتذل من الحياة؟ وإنكم - يا إخوان التجدد - إن شاء أحدكم أن يتبع غير سبيل الإسلام فهلا يجترئ ويصرح بأنه يريد أن يبغي على الإسلام ويتفلت من شرائعه؟ وهلا يربأ بنفسه عن هذا النفاق الذميم والخيانة الوقحة التي تزيِّن له أن يتبع علناً ذلك النظام الاجتماعي وذلك النمط من الحياة الذي يحرمه الإسلام شكلاً وموضوعاً ثم يخطو الخطوة الأولى في هذا السبيل باسم اتباع القرآن كي ينخدع به الناس فيحسبوا أن خطواته التالية موافقة للقرآن) أهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 حركة " تحرير المرأة " في مصر البذرة الأولى: (إن المتتبع لتاريخ ما يسمى بحركة " تحرير المرأة " في مصر يجد أن جذور هذه الحركة تمتد إلى عهد محمد علي باشا والي مصر حينما بعث المبعوثين إلى فرنسا ليتلقوا هناك الخبرات والمهارات الفنية ثم يحملوها معهم إلى مصر لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد بل رجع المبعوثون من فرنسا حاملين تيارات فكرية مادية دخيلة على دينهم بعد أن بهرتهم رهبانية العلم المادي وتعبدهم سلطان العقل لقد عاد أولئك المبعوثون يحتلون مراكز الصدارة والتوجيه في مختلف الميادين السياسية والتربوية والفكرية) (14) - دور الشيخ " رفاعة الطهطاوي " (1801- 1873 م) : (وكان من أعضاء الجيل الأول لهؤلاء المبعوثين الشيخ " رفاعة رافع الطهطاوي " الذي أقام في باريس خمس سنوات " من 1826 - 1831 " تقريباً وكان قد رافق البعثة المصرية كواعظ وإمام لها وما إن عاد إلى مصر حتى بدأ يبذر البذور الأولى لكثير من الدعوات الدخيلة على البيئة المصرية المسلمة تلك الدعوات التي حمل جراثيمها معه من فرنسا مثل الدعوة إلى فكرة " الوطنية القومية " بمفهومها المادي المحدود المنابذ للرابطة الإسلامية بين المسلمين مهما تباعدت أوطانهم وكذا استوحى من واقع الحياة الفرنسية أفكاراً عن المرأة هي أبعد   (14) انظر " الإسلام والحضارة الغربية " للدكتور " محمد محمد حسين " رحمه الله ص (17 - 18) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 ما تكون عن شرائع الإسلام وآدابه وقد تجلى ذلك في مواقفه الجريئة من قضايا تعليم الفتاة وتعدد الزوجات وتحديد الطلاق واختلاط الجنسين حيث ادَّعى في كتابه " تخليص الإبريز في تلخيص باريز " (15) (ص 305) أن: {السفور والاختلاط بين الجنسين ليس داعياً إلى الفساد} اهـ وذلك ليُسوِّغ دعوته إلى الاقتداء بالفرنسيين حتى في إنشاء المسارح والمراقص مدعياً - ما معناه -: {الرقص على الطريقة الأوربية ليس من الفسق في شيء بل هو أناقة وفتوة} وأنه لا يخرج عن قوانين الحياء ودعا المرأة إلى التعلم حتى تتمكن من تعاطي الأشغال والأعمال التي يتعاطاها الرجال) (16) وهكذا كان "رفاعة الطهطاوي" أول من أثار قضية (تحرير المرأة) في مصر في القرن التاسع عشر الميلادي فسنَّ بذلك أسوأ السنن وبذر هذه الأفكار الدخيلة في التربية الإسلامية ولم يدرك أنه حين ينقل هذه الآراء خاصة ما يتعلق منها بمدلول كلمة "الحرية" إلى المجتمع الإسلامي يمكن أن ينتهي إلى نفس النتيجة التي انتهت إليها أوربة وهي نبذ الدين وتسفيه رجاله والخروج على حدوده لم يدرك ذلك ولم يلاحظ إلا الجانب البراق الذي يأخذ نظر المحروم من الحرية حين تمارس في مختلف صورها وألوانها وفي أوسع حدودها فكان كالجائع المحروم الذي بهرته مائدة حافلة بألوان الأطعمة فيها ما يلائمه وما لا يلائمه ولكنه   (15) (وقد كتب الطهطاوي هذا الكتاب أثناء إقامته في فرنسا وعرضه على أستاذه (جومار) قبل أن ينشره بعد عودته) اهـ من "السابق" ص (19- 20) . (وقد بين لنا هذا الكتاب - أي" تخليص الإبريز" - أن صاحبه خلق من جديد في الفترة التي قضاها في فرنسا يأنس إلى علمائها ويأنسون إليه فإذا عاد إلى القاهرة أشرف على حركة الترجمة وعُيِّن رئيساً لتحرير الوقائع المصرية وكتب المقالات وألف الكتب وترجم القوانين وعُيِّن ناظراً لمدرسة الألسن) اهـ من " تطور النهضة النسائية في مصر"لإبراهيم عبده ودرية شفيق ص (53) (16) " الإسلام والحضارة الغربية " د / محمد محمد حسين ص (36) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 لم ينظر إليها إلا بعين حرمانه ولم يرها إلا صورة من النعيم الذي يتوق إليه ويشتهيه. (وكانت دعوة جريئة من " رفاعة " لم يجد لها معارضاً خاصة وأن حاكم البلاد قد بارك دعوته وبارك أول كتاب وضعه " رفاعة " وهو " تخليص الإبريز في تلخيص باريز " يبرز فيه تقدم الغرب ويحسن لمواطنيه الانتفاع بتقدمه وأكثر من هذا فقد قرأ"محمد علي"الكتاب قبل نشره - بناء على تزكية له من الشيخ " حسن العطار " شيخ الأزهر - فأمر بطبعه وأصدر أمره بقراءته في قصوره وتوزيعه على الدواوين والمواظبة على تلاوته والانتفاع به في المدارس المصرية بل إنه أمر بعد ذلك بترجمته إلى التركية) (17) اهـ لقد كان " رفاعة " أول من وضع الأفكار النظرية موضع التنفيذ وأول من أنتج عملاً فكرياً يمهد لخطة اجتماعية عملية وتجلى ذلك في مؤلفيه (تلخيص الإبريز) و (المرشد الأمين) الذي ألفه بناء على أمر الخديوي " إسماعيل " وذلك عام (1872) قبل افتتاح أول مدرسة للبنات ترعاها الحكومة بعام واحد وقبل موت رفاعة بأعوام قليلة ولما كان الخديوي " إسماعيل " يقود - في بداية تلك المرحلة - حركة التحديث في كل الميادين السياسية والفكرية والاجتماعية فقد حاول بعد ذلك أن يقنع أهل الرأي بتأليف كتاب في الحقوق والعقوبات يطبقه في المحاكم بحيث يكون سهل العبارة مرتب المسائل على نحو ترتيب القوانين الأوربية ولكن رفض أهل الرأي من مشايخ الأزهر هذه الدعوة فطلب الخديوي من الشيخ رفاعة إقناعهم بقبول ذلك ولكنه اعتذر عن ذلك على الوجه الذي وصفه الشيخ " رشيد رضا " في كتاب تاريخ الإمام " محمد عبده " على الوجه التالي:   (17) " المؤامرة على المرأة المسلمة " د / السيد احمد فرج ص (38) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 قال الشيخ " رشيد ": {حدثني " علي باشا رفاعة بن رفاعة بك الطهطاوي " قال: إن " إسماعيل باشا " الخديوي لما ضاق بالمشايخ ذرعاً استحضر والده رفاعة بك وعهد إليه أن يجتهد في إقناع شيخ الأزهر وغيره من كبار الشيوخ بإجابة هذا الطلب وقال له: (إنك منهم ونشأت معهم وأنت أقدر على إقناعهم فأخبرهم أن أوربا تضطرب إذ هم لم يستجيبوا إلى الحكم بشريعة " نابليون ") فأجابه بقوله: " إنني يا مولاي قد شخت ولم يطعن أحد في ديني فلا تعرضني لتكفير مشايخ الأزهر إياي في آخر حياتي وأقلني من هذا الأمر" فأقاله} (18) وكان أن انزوى " الطهطاوي " بعيداً عن مكان الصدارة وانتأى بعيداً ليحتل مكانه الشيخ " محمد عبده " الذي كان في ذلك الوقت في شرخ الشباب يحدوه جرأة الشباب وإقدامه وهنا تبدأ مرحلة جديدة من مراحل تحرير المرأة. مرقص فهمي والقذيفة الأولى: وفي سنة (1894) أي بعد الاحتلال الإنكليزي لمصر بحوالي اثنتي عشرة سنة ظهر أول كتاب في مصر أصدره صليبي حقود من أولياء (كرومر) الملقب باللورد أظهره محتمياً بالنفوذ البريطاني الذي أمَّن له الطريق نحو طعن الإسلام وأهله ذلكم هو (مرقص فهمي) المحامي وكتابه هو (المرأة في الشرق) دعا فيه صراحة وللمرة الأولى في تاريخ المرأة المسلمة إلى تحقيق أهداف خمسة محددة وهي: - أولاً: القضاء على الحجاب الإسلامي.   (18) " تاريخ الإمام محمد عبده " للشيخ محمد رشيد رضا (1/620- 621) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 ثانياً: إباحة اختلاط المرأة المسلمة بالأجانب عنها. ثالثاً: تقييد الطلاق وإيجاب وقوعه أمام القاضي. رابعاً: منع الزواج بأكثر من واحدة. خامساً: إباحة الزواج بين المسلمات والأقباط. وقد أحدث الكتاب ضجة عنيفة ولم يلبث المسلمون حين صدموا به حتى انطلقت في غمرات هذه الضجة قذيفة أخرى تفجرت في الوسط الإسلامي: - " الدوق دراكير " و " المصريون ": فقد صدر كتاب ألفه (الدوق دراكير) (19) باسم (المصريون) حمل فيه على نساء مصر وهاجم المصريين وتعدى على الإسلام ونال من الحجاب الإسلامي وقرار المرأة المسلمة في البيت واقتصار وظيفتها على تربية النشء ورعاية الزوج وقد هاجم (المثقفين) المصريين بصفة خاصة لسكوتهم وعدم تمردهم على هذه الأوضاع. (وقد بدأ الاستعمار الإنكليزي إثر هذه الضجة يبحث عن وسيلة لشد أزر"مرقص فهمي" فلجأ إلى الأميرة [نازلي فاضل] (20) ليستعجلها على عمل شيء يساند"مرقص فهمي" من خلال صالونها) (21)   (19) وكان داركير قد زار مصر ثلاث مرات سائحاً عابراً في خريف عام (1893م) . (20) وهي ابنة الأمير " مصطفى فاضل " باشا نجل " إبراهيم " باشا ابن " محمد علي " باشا الكبير كان والدها مصطفى فاضل يعتبر نفسه أحق بعرش مصر من الخديوي إسماعيل ومن هنا كانت الأميرة نازلي تعلن الحرب على الخديوي (عباس) اهـ من جريدة المساء الخميس (4أغسطس 1983م) من مقالة [هل انتحر محرر المرأة بسبب امرأة؟] للصحافي مصطفى أمين. (21) " الحركات النسائية في الشرق " لمحمد فهمي عبد الوهاب ص (13- 14) طبعة دار الاعتصام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 - الجذور (22) : كانت دعوة تحرير المرأة جزءاً من منهج كلي شمل كافة اتجاهات الحياة في المجتمع المصري وتعود خيوطه إلى مدرسة الشيخ "محمد عبده" تلميذ " جمال الدين الأفغاني " أو إن شئت " المتأفغن " (23) وقد سارا على الدرب الذي رسمه الطهطاوي وزاد الأفغاني نشاطه المريب وعلاقاته بالمحافل الماسونية وتبنيه لمبادئ الثورة الفرنسية "الماسونية" (*) . ومع وجود بعض الجوانب المشرقة في منهاج محمد عبده إلا أننا لا نستطيع أن نتجاهل نشاطه حيث كان له أخطر الأثر في عملية "التغريب" وتقريب الأمة الإسلامية نحو القيم الغربية مما جعل اللورد كرومر يشيد بدعوته وبتلامذته ويعلق عليهم أمله في تغريب المجتمع المصري ويذكر أنهم لذلك يستحقون (أن يعاونوا بكل ما هو مستطاع من عطف الأوربي وتشجيعه) اهـ ويكفي للتدليل على خطر هذه المدرسة أن نقرر دور تلاميذها في إفساد الحياة في مصر: فهذا " لطفي السيد " يحيي التاريخ الفرعوني والنعرة الوطنية الإقليمية ويرعى الدعوة إلى "الحرية" بمفهومها الغربي الدخيل على الأمة الإسلامية.   (22) انظر " الإسلام والحضارة الغربية " ص (41 - 100) و " قاسم أمين " للدكتور " ماهر حسن فهمي " ص (19 - 20) . (23) هناك خلاف منتشر في حقيقة نسب الأفغاني هل هو حقاً أفغاني أم إنه شيعي إيراني انظر (المجلة) العدد 233/3 أغسطس 1984 م / 7 ذو القعدة 1404 هـ - ص (61 - 63) وانظر أيضاً (الإسلام والحضارة الغربية) ص (61 - 63) . (*) انظر: (دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام) للأستاذ مصطفى فوزي بن عبد اللطيف غزال نشر (دار طيبة) - الرياض وهي دراسة كشفت الكثير من جوانب الغموض في سيرته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وهي كلها مبادئ بلغت مداها على يد تلميذ آخر لمحمد عبده هو (سعد زغلول) . وهذا تلميذه (قاسم أمين) يفسد الحياة الاجتماعية في مصر بدعوته إلى "تحرير المرأة" بالمعنى الذي يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. لقد كان يريد " محمد عبده " أن يقيم سداً في وجه التيار العلماني اللاديني ليحمي المجتمع الإسلامي من طوفانه ولكن الذي حدث أن هذا السد أصبح قنطرة للعلمانية عبرت عليه إلى العالم الإسلامي لتحتل المواقع واحداً تلو الآخر ثم جاء فريق من تلاميذ"محمد عبده " وأتباعه فدفعوا نظرياته واتجاهاته إلى أقصى طريق العلمانية (اللادينية) . رام نفعاً فضر به من غير قصد ... ومن البر ما يكون عقوقاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 قاسم أمين (1865م - 1908م) فتنة الأجيال وداعية السفور في عهد الاحتلال (ولد " قاسم أمين " في أول ديسمبر عام 1863م بالإسكندرية والتحق بمدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية وكانت تقع بحي رأس التين إلى جوار السراي) (24) وقيل (إن أباه "محمد بك أمين" من أصل كردي) (25) وقيل: (بل أصل الأسرة تركي وإن بعض أفراد أسرة " محمد بك أمين " قد ولي "السليمانية" من أعمال العراق وبقيت الأسرة ردحاً من الزمن تقوم بهذه الولاية حتى ظن أنها كردية وممن صحح هذا "أحمد خاكي" في كتابه "قاسم أمين") (26) (وكان أبوه قد أخذ رهينة في الأستانة على أثر خلاف وقع بين الدولة العلية والأكراد ثم جاء إلى مصر في عهد إسماعيل باشا وانتظم في الجيش المصري ورقي إلى رتبة أميرالاي وتزوج بكريمة "أحمد بك خطاب" شقيق "إبراهيم باشا خطاب" فولدت له أولاداً أكبرهم " قاسم ") (27) (وفي سنة 1881م نال قاسم إجازة الحقوق ثم عمل بمكتب صديق والده التركي "مصطفى فهمي" المحامي) (28) (وانضم للكوكبة التي كانت تحيط   (24) (قاسم أمين) تأليف د / ماهر حسن فهمي ص (30) . (25) (بناة النهضة العربية) تأليف جرجي زيدان ص (99) . (26) (قاسم أمين) تأليف د / ماهر حسن فهمي ص (28) . (27) (بناة النهضة العربية) تأليف جرجي زيدان ص (99) . (28) (قاسم أمين) تأليف د / ماهر حسن فهمي ص (33) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 بجمال الدين الأفغاني حيث التقى بمحمد عبده وسعد زغلول ومحمد فتحي زغلول وعبد الله النديم وأديب إسحاق وغيرهم) (29) رحل " قاسم " إلى فرنسا ليتم تعليمه هناك وانبهر بالحياة في أوربا حتى أنه صرح بأن: (أكبر الأسباب في " انحطاط " الأمة المصرية تأخرها في الفنون الجميلة التمثيل والتصوير والموسيقى) (30) (وبعد أن كان يقر العامة حين يقولون: " مصر أم الدنيا " فإنه الآن في باريس يقول أن الأصح أن تسمى " خادمة الدنيا ") (31) (ويتعرف قاسم على صديقته الفرنسية " سلافا " التي تصاحبه إلى المجتمعات الفرنسية والحفلات ويتعرف إلى كثير من الأسر وتقوى العلاقة بينهما فبينما كان يقرأ في مصر مقدمة ابن خلدون وإحياء علوم الدين للغزالي والأغاني نجده في فرنسا يقرأ مع زميلته حكم لارشفوكو وشعر لامارتين وفلسفة فنلون ورينان وأعمال فولتير وروسو وسبنسر وغيرهم) (32) (وكانت في فرنسا في الوقت نفسه حركة نسائية كما كانت في إنكلترا وأمريكا حركة نسائية أخرى..) (33) (كل هذه الأفكار تأثر بها مصري يعيش في قلب باريس في قلب هذه النظريات) (34)   (29) (قاسم أمين) لأحمد خاكي ص (45) . (30) (كلمات) تأليف قاسم أمين ص (24) . (31) (قاسم أمين) تأليف د / ماهر حسن فهمي ص (44) . (32) السابق ص (40 - 41) . (33) السابق ص (43) . (34) السابق ص (43) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 (وفي هذا الوسط اضطرب قاسم المسلم الشرقي) (35) والتقى قاسم في فرنسا بالأفغاني ومحمد عبده وانضم إلى جمعية العروة الوثقى واتخذه محمد عبده مترجماً له) (36) (وبعد أن أتم قاسم دراسته في فرنسا طلب إليه أستاذه لرنود أن يعمل معه بضعة شهور يكتسب فيها خبرات عملية ووافق قاسم أمين) (37) الخطوة الأولى: رده على " داركير " قرأ قاسم أمين كتاب داركير عن المصريين فتألم أشد الألم حتى قيل إنه مرض عشرة أيام بعد قراءته لشدة تأثره فحاول أن يدافع عن المصريين والإسلام وألف رداً بالفرنسية حاول فيه تفنيد اتهاماته لمصر والمصريين وبين فيه فضائل الإسلام على المرأة المصرية ورفع من شأن الحجاب وعده دليلاً على كمال المرأة وحاول شرح الحكمة الإيجابية في قوانين الشرع الإسلامي إلا أن دفاعه قد بدا تبريرياً وشرحه قد اتسم بالخنوع والذلة فيقول وكأنه يناشد داركير أن يعتبر الإسلام في مرتبة النصرانية والمجوسية: (إن الإسلام دين خلقي لا يقل عن المجوسية ولا عن المسيحية وإن روح القرآن لا تختلف عن الروح الإنجيلية) (38) اهـ ويقول أيضاً: ( ... ولهذا كان أمامها - أي مصر - طريقان: العودة إلى تقاليد الإسلام أو محاكاة أوربا وقد اختارت الطريق   (35) السابق ص (45) . (36) السابق ص (47) . (37) السابق ص (51) . (38) (قاسم أمين - الأعمال الكاملة) تحقيق دكتور محمد عمارة المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1976 - (ج 1 / ص 217) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الثاني.. إنها قد خطت اليوم بعيداً في هذا الطريق حتى ليصعب عليها الارتداد عنه إن مصر تتحول إلى بلد أوربي بطريقة تثير الدهشة وقد أخذت إدارتها وأبنيتها وآثارها وشوارعها وعاداتها ولغتها وأدبها وذوقها وغذاؤها وثيابها تتسم كلها بطابع أوربي.. لقد اعتاد المصريون قضاء الصيف في أوربا (؟!) كما اعتاد الأوربيون قضاء الشتاء في مصر فلعل أوربا تقدر لمصر مسيرتها ولعلها ترد لها يوماً بعض هذا الود الكبير الذي تكنه لها مصر) (39) اهـ ومما يجدر الإشارة إليه أن قاسماً استنكر في كتابه - المصريون - خطة بعض السيدات المصريات اللائي يتشبهن بالأوربيات فاقتنص بعض خصومه الفرصة ووشوا به إلى الأميرة نازلي بأن قاسماً إنما يعنيها هي بهذا التعريض بذم المصريات اللائي يقلدن الإفرنجيات ويسرن سيرتهن لأنه لم يكن في نساء مصر آنذاك من يتشبه بالنساء الأوربيات غيرها (40) فقد كانت الوحيدة التي تختلط بالرجال وتجالسهم في صالونها الذي افتتحته آنذاك ليكون مركزاً تبث منه الدعوة إلى التغريب عامة وإلى "تحرير المرأة" خاصة (41) .   (39) المصدر السابق (1/263) . (40) من مقال لداود بركات رئيس تحرير الأهرام (جريدة الأهرام مايو 1928 (. (41) {وكان من رواد " صالون الضرار " هذا سعد زغلول والشيخ محمد عبده واللقاني ومحمد بيرم وغيرهم وكانت نازلي تؤيد هؤلاء في قصر الدوبارة وهو مقر المندوب السامي الإنكليزي ضد قصر عابدين وتسعى لترقيتهم وهم يعتمدون عليها في كل أمر وكانت الأميرة نازلي قد افتتحت هذا المنتدى إثر عودتها إلى مصر بعد الاحتلال وبعد أن قويت روابطها مع اللورد كرومر واتخذت من المعتمد البريطاني أداة لحماية رواد هذه الدعوة وتعبئتهم لتوجيه هذه الحركة متى أمكن ذلك} اهـ من (الأخوات المسلمات) ص 240 وما بعدها، (الحركات النسائية في الشرق) ص 15، مقالة داود بركات في عدد الأهرام الخاص بمرور 75 عاماً على تأسيسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 - رد فعل الأميرة " نازلي ": غضبت الأميرة مما فعله قاسم أمين وقالت للشيخ (محمد عبده) قولاً شديداً بعد أن هددت وتوعدت وقد أشير إلى جريدة (المقطم) لسان حال الإنكليز في مصر في ذلك الوقت - أن تكتب ست مقالات تتعقب آراء قاسم أمين في كتابه المصريون وتفند أخطاؤه في دفاعه عن الحجاب واستنكاره الاختلاط بين الجنسين ولكن لم تلبث هذه الحملة أن ألغيت بعد أن اقتنع قاسم أمين بضرورة تصحيح خطأه (42) واتفق معه (سعد زغلول) و (محمد عبده) على أن ينشر كتاباً يصحح فيه خطأه ويؤيد فيه الدوق دراكير ويواصل مناصرته لكتاب (المرأة في الشرق) للقبطي (مرقص فهمي) وهكذا خرج قاسم أمين على البلاد بكتابه " تحرير المرأة " سنة (1899 م) ودعا فيه إلى نفس ما سبق أن دعا إليه ذلك الصليبي بحذافيره اللهم إلا أنه لم يتعرض لمسألة زواج المسلمات من الأقباط.   (42) وقد حكت " هدى شعراوي " في مذكراتها المنشورة بمجلة (حواء) العدد رقم (1221) بتاريخ 16 فبراير 1980م عن الشيخ عبد العزيز البشري أنه قال في احتفال بذكرى قاسم أمين: (إن كثيرين من الحاضرين كانوا أشد من وجع الضرس وضرباته على دعوة قاسم أمين وعلى شخص قاسم أمين وقال: إن قاسماً كان في مبدأ حياته من الرجعيين حتى أنه لما رد على الدوق دراكير دافع عن الحجاب واستنكر السفور فظنت الأميرة نازلي فاضل - وكان مجلسها يجمع العلماء والفضلاء أمثال محمد عبده وسعد زغلول وعبد الكريم سلمان وفارس نمر ويعقوب صروف والمويلحي وأبنه - أنه يقصدها فغضبت لذلك ولكن سعداً قدم صديقه إليها ولما رأى شدة عقلها ورجاحة حلمها ووثاقة فضلها انقلب عن رأيه وأخذ يطالب بتحرير المرأة) اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 - أثر الأميرة " نازلي " في فكر الشيخ " محمد عبده ": كان الشيخ محمد عبده مقرباً لدى الأميرة نازلي فاضل وقد سعى لأستاذه الأفغاني كي يتوسط لها لدى السلطان في الآستانة ليمنحها وساماً سلطانياً (43) . وكانت هي قد سعت لدى الخديوي " توفيق " ليعفو عن الشيخ محمد عبده عقب عودته من منفاه كما التمست وساطة كرومر للأمر نفسه (44) وتم المراد وعفا عنه الخديوي. وقد أدركت تلك الأميرة ما للشيخ من تفوق عقلي وخلقي فخصته بمكانة متميزة (45) . وقد ظهر تأثيرها على موقف الشيخ محمد عبده من الإنكليز الذين كان يشتد عليهم قبل التعرف على الأميرة أثناء صحبة الأفغاني وعقب الثورة العرابية أما بعد اتصال الشيخ بالأميرة التي كانت صديقة لبعض الإنكليز فقد خفت حملته ضد إنكلترا وسمح بصداقته الشخصية للورد كرومر صديق الأميرة (46) . وهذا ما أحنق صدور بعض الوطنيين عليه وإن دافع عنه تلاميذه بقولهم: (إنه سمح بصداقته للورد كرومر دون تفريط في حق بلاده أو عدول عن رأيه السياسي) (47) .   (43) تاريخ الإمام محمد عبده) (1/897) . (44) السابق (1/895) . (45) مجلة الهلال - العدد الماسي ص (225) من الهلال ج 7 م 66. (46) السابق. (47) السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الخطوة الثانية: كتاب " تحرير المرأة " (48) ظروف تأليف الكتاب: كتب (فارس نمر) صاحب (المقطم) في مقال له في مجلة (الحديث) الحلبية عام 1929 م يقول: (إن الشيخ محمد عبده تطوع للقيام بهذه المهمة (49) وتحدث الشيخ محمد عبده مع الأميرة "نازلي" في هذا الشأن واتفق "محمد عبده" و"سعد زغلول" و"محمد المويلحي" وغيرهم على أن يتقدم "قاسم أمين" بالاعتذار إلى سمو الأميرة فقبلت اعتذاره ثم أخذ يتردد على صالونها وارتفع مقامها لديه وإذا به يضع كتابه الأول عن المرأة الذي كان الفضل فيه للأميرة نازلي والذي أقام الدنيا وأقعدها بعد أن كان قاسم أمين أكثر الناس دعوة إلى الحجاب) اهـ نظرة في الكتاب: طبع الكتاب في سنة 1899م وقد ألغى فيه أفكاره الدفاعية التي أوردها في   (48) بتأمل عنوان الكتاب يتبين لنا أنه كان يعتبر المرأة مستعبدة وقد أخذ على نفسه أن يحررها وقد جاء في مجلة الهلال أنه كان ((يعلم ما يعتور مشروعه من العقبات وما سيلقاه من مقاومة تيار الرأي العام الآن إصلاح المرأة يقتضي منحها الحرية ويتناول تقبيح الحجاب والنهي عن الطلاق وتعدد الزوجات مما يعده العامة من قبيل العقائد الدينية وهو ليس من الدين في شيء فاضطر أن يبين ذلك في أثناء بحثه)) اهـ من مقدمة " أسباب ونتائج لقاسم أمين " ص (10) وانظر أيضاً " بناة النهضة العربية " لجرجي زيدان" ص (101) . (49) يشير إلى إيقاف مقالات الهجوم على " قاسم أمين ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 كتابه السابق (المصريون) (50) سواء المتعلقة بتقييمه للإنسان المصري أو المتعلقة بالمرأة المصرية أو أحكام الشريعة وما يسميه (المدنية الإسلامية) فبينما نجده في كتابه المصريون يصف المصري بالأمانة والشجاعة والذكاء وقوة الاحتمال ويعزي هذه الخصال الجيدة لحقيقة الهوية الإسلامية للمصري نجده يقول بعد خمس سنوات في كتابه (تحرير المرأة) : ((فالتركي مثلاً نظيف صادق شجاع والمصري على ضد ذلك إلا أنك تراهما رغماً عن هذا الاختلاف متفقين في الجهل والكسل والانحطاط إذن لابد أن يكون بينهما أمر جامع وعلة مشتركة هي السبب الذي أوقعهما معاً في حالة واحدة ولما لم يكن هناك أمر يشمل المسلمين جميعاً إلا الدين ذهب جمهور "الأوروباويين" وتبعهم قسم عظيم من نخبة المسلمين إلى أن الدين هو السبب الوحيد في انحطاط المسلمين وتأخرهم عن غيرهم)) (51) قد انصرف جهد المؤلف في هذا الكتاب إلى التدليل على ما زعمه من أن: ((حجاب المرأة بوضعه السائد (52) ليس من الإسلام وأن الدعوة إلى السفور (53) ليس فيها خروج على الدين أو مخالفة لقواعده)) وقد تناول في كتابه هذا أربع مسائل وهي: الحجاب، واشتغال المرأة بالشئون العامة، وتعدد الزوجات، والطلاق وهو يذهب في كل مسألة من هذه المسائل إلى ما يطابق مذهب الغربيين زاعماً أن ذلك هو مذهب الإسلام - قال: (سيقول قوماً إن ما أنشره اليوم بدعة، فأقول: نعم! أتيت ببدعة ولكنها ليست في الإسلام بل في العوائد وطرق المعاملة التي يحمد طلب الكمال فيها) (54)   (50) بل لم يحاول نقل كتابه (المصريون) إلى اللغة العربية ولا إعادة إصداره في مصر (51) (قاسم أمين - الأعمال الكاملة) (2/72) (52) يقصد تغطية المرأة جميع بدنها عن الأجانب. (53) يقصد به كشف وجهها. (54) " تحرير المرأة " ص (5) ط محمد زكي الدين بالقاهرة 1347 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 والذي يهمنا فيما نحن بصدده ما كتبه فيما يتعلق بالحجاب: لقد اعتبر قاسم أمين الحجاب (أصلاً من أصول الأدب يلزم التمسك به ولكنه يطالب بأن يكون منطبقاً على الشريعة الإسلامية) (55) ثم يقول: (إن الشريعة ليس فيها نصاً يوجب الحجاب على الطريقة المعهودة) وإنما هي في زعمه: (عادة عرضت لهم من مخالطة بعض الأمم فاستحسنوها وأخذوا بها وبالغوا فيها وألبسوها لباس الدين كسائر العادات الضارة التي تمكنت في الناس باسم الدين والدين براء منها) (56) ثم يورد قاسم أمين قوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن} الآيتان (57) ثم يقول: (إن الآية قد أباحت أن تظهر بعض أعضاء من جسم المرأة أمام الأجنبي عنها غير أنها لم تسم تلك المواضع وقد قال العلماء (58) : إنها وكلت فهمها وتعيينها إلى ما كان معروفاً في العادة وقت الخطاب واتفق الأئمة على أن الوجه والكفين مما شمله الاستثناء في الآية ووقع الخلاف بينهم في أعضاء أخر كالذراعين والقدمين) (59) اهـ ثم ينتقل إلى الكلام على الحجاب بمعنى قصر المرأة في بيتها وحظر   (55) " تحرير المرأة " ص (54) . (56) " المصدر السابق " ص (57 - 58) . (57) سورة النور (30 - 31) . (58) كذا!!! ولم يسمِّ واحداً منهم. (59) " تحرير المرأة " ص (58) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 مخالطتها بالرجال فيقول: (إن الحجاب بهذا المعنى هو تشريع خاص بنساء النبي " ويستشهد على ذلك بقوله تعالى: {وإذا سألتموهن متاعاً فسألوهن من وراء حجاب} (60) الآية وقوله تعالى: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء} (61) الآية. أما نساء المسلمين عامة فهن - في زعمه - منهيات عن الخلوة بالأجنبي فقط) (62) اهـ ويستمر قاسم بنفس التهافت في علاج القضايا الأخرى ويزيد على ذلك تهكمه بالفقهاء واستهزاءه بعلماء الشريعة بل وبنصوصها الصريحة كما فعل في قضية تعدد الزوجات وهو في كل ذلك يستدل بالنصوص القرآنية والأحاديث النبوية (63) ثم يعرض لشرحها شرحاً ملتوياً مغرضاً يوجه لتبرير فكرة معينة يحاول أن يسخر النصوص لخدمتها تلبيساً على ضحاياه المخدوعين. وما أصدق ما قاله بعض معاصريه: (ما رأيت باطلاً أشبه بحق من كلام قاسم أمين) بل هذا " أحمد شوقي " يشير إلى لباقة قاسم أمين في دعم   (60) الأحزاب (53) . (61) الأحزاب (32) . (62) اقتضت الضرورة " عدو المرأة المسلمة " أن يتظاهر في بعض المواضع بمظهر المسلم الوقور الغيور على دينه الحافظ لحدود الله المحترم للفقهاء والأدلة الشرعية بينما تخلى عن هذا القناع في مثل قوله: ((في البلاد الحرة قد يجاهر الإنسان بأن لا وطن له ويكفر بالله ورسله ويطعن على شرائع قومه وآدابهم وعاداتهم ... يقول ويكتب ما شاء في ذلك ولا يفكر أحد أن ينقص شيئاً من احترامه لشخصه متى كان قوله صادراً عن نية حسنة واعتقاد صحيح (!) كم من الزمن يمر على مصر قبل أن تبلغ هذه الدرجة من الحرية؟)) اهـ من (قاسم أمين - الأعمال الكاملة) (1 / 165) . (63) " تحرير المرأة " ص (68) هذا وقد وقع في آخر جملة في الكتاب خطأ مطبعي غير مقصود لفظاً، ولكن لا يبعد أن الحكمة الإلهية شاءت أن يقع في محله لأنه مطابق لمقصود الكتاب ألا وهو قول " قاسم أمين ": تم كتاب تجريد المرأة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 دعوته بالقرآن والسنة متسائلاً: أكان قاسم أمين يَغار على الإسلام أم يُغير عليه؟؟!! ولك البيان الجزل في أثنائه العلم الغزير في مطلب خشن كثير في مزالقه العثور ما بالكتاب ولا الحديث إذا ذكرتهما نكير حتى لنسأل هل تغار على العقائد أم تغير؟ (64) وقد علق الدكتور " محمد محمد حسين " - رحمه الله - على هذا المنهج اللئيم بقوله: (أحب أن أسأل الذين يحاولون أن يسوغوا باطلهم الذي يقحمونه على إسلامنا بمزاعم يتحايلون على إلصاقها بالدين ونصوصه أحب أن أسأل سؤالاً حاسماً يفرق بين الحق والباطل: هل تعلمون أن أحداً من المسلمين قد دعا قبل اليوم بدعوتكم؟ فإذا كان ذلك لم يحدث من قبل فهل تستطيعون أن تزعموا أن صحابة رسول الله " ورضي الله عنهم وفقهاء المسلمين قد غفلوا جميعاً عن فهم نصوص دينهم حتى جاء هؤلاء الذين أوحى إليهم شياطين الجن والإنس في باريس من أمثال قاسم أمين فانتكس تفكيرهم بين معاهدها ومباذلها حين لم يعتصموا في دين الله بحبل متين ولم يأووا بهديه إلى ركن رشيد يذود عنهم كل شيطان مريد وذلك حين بعثوا إلى تلك البلاد لينقلوا إلينا الصالح النافع من علومها وصناعاتها فضلوا الطريق وعادوا إلينا بغير الوجه الذي بعثوا به جاء هؤلاء بعد ثلاثة عشر قرناً من نزول القرآن ليخرجوا للناس حقائق التنزيل التي غاب علمها عن الأولين والآخرين من الفقهاء والمفسرين ويضربوا بإجماع المسلمين في الأجيال المتعاقبة والقرون المتطاولة عرض الحائط أليس ابتداع هذه الدعوة في ظل الاحتلال   (64) " الشوقيات " (2 / 168) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الإنكليزي وتزعم فريق من المتفرنجين الذين عرفوا بموالاة ذلك الأجنبي المحتل هو وحده دليلاً كافياً على إنها طارئة علينا من الغرب تقليداً لمذاهب أهله المبتدعين في دينهم بأهوائهم وأهواء رؤسائهم والخارجين على نصرانيتهم وكتابها) اهـ (65) - هل كان للشيخ " محمد عبده " (1842 - 1905 م) دور في الكتاب؟ (كان المعروف عن قاسم أمين أنه ليس له إلمام بالعلوم الإسلامية بحيث يتمكن من إضفاء الصبغة الفقهية على كتابه ومن هنا شاع بين الناس وقتها أن مؤلفه في الحقيقة أستاذه هو الشيخ محمد عبده) (66) . قال الدكتور " محمد محمد حسين": (جاء كتابه - تحرير المرأة - مملوءاً بالمغالطات سواء كان ذلك في تفسير الآيات القرآنية أو في النصوص التاريخية والفقهية أو الأدلة العقلية وهذا الاتجاه الذي يفسر النصوص تفسيراً جيداً مخالفاً لكل ما هو ثابت متواتر في تفسيرها هو جزء من اتجاه عام تزعمه الشيخ " محمد عبده " متذرعاً إليه بالدعوة إلى فتح باب الاجتهاد الذي زعم أن الفقهاء أغلقوا بابه وهو يدعو إلى الملائمة بين الإسلام وبين الحضارة الغربية) (67) اهـ. قال " داود بركات " رئيس تحرير الأهرام: (وقد حمل الشيخ محمد عبده الدعوة إلى تحرير المرأة في دروسه في الرواق العباسي بالأزهر حين أعلن أن الرجل والمرأة يتساويان عند الله وقد ترددت آراء كثيرة بأن الشيخ محمد عبده كتب بعض فصول الكتاب أو كان له دور في   (65) " حصوننا مهددة من داخلها " ص (121 - 122) طبعة المكتب الإسلامي (1398 هـ) . (66) " الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر " (1/ 281 - 282) للدكتور محمد محمد حسين رحمه الله. (67) " الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر " (1 / 281 - 282) للدكتور محمد محمد حسين رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 مراجعتها) (68) . ومما أورده " لطفي السيد ": (أنه اجتمع في جنيف عام 1897 م بالشيخ محمد عبده وقاسم أمين وسعد زغلول وأن قاسم أمين أخذ يتلو عليه فقرات من كتاب تحرير المرأة وصفت بأنها تنم عن أسلوب الشيخ محمد عبده) (69) اهـ. وقالت " وداد السكاكيني ": (فتح - أي محمد عبده - على الناس أبواباً جديدة تلج منها المرأة المسلمة إلى الحياة التي وهبها الخالق إياها كما وهبها للرجل ولكن النفوس لم تكن هيئت تمام التهيؤ في البداية ورأى الإمام ألا يخاطر فيلج بنفسه هذا الميدان ويرقى مرتقاه الصعب فيقف أمام الجهلاء يحاربونه فيؤثر ذلك على مركزه كإمام للإصلاح يستند على الدين وتضيع بذلك فرص في الإصلاح في الميادين الأخرى فهيأ لهذا الميدان بالذات جندياً يصلح له من تلاميذه هو " قاسم أمين " ثم وقف يسانده ويحميه من بعيد حتى وصلت الدعوة في تحرير المرأة إلى أبعد مما كان يقصد الشيخ " محمد عبده " إذن لم تكن دعوة قاسم أمين مبتكرة ولا بدعة في سبقها) (70) اهـ وقال د / محمد عمارة جامع الأعمال الكاملة لـ قاسم أمين ومحققها:   (68) الأهرام - مايو 1928م وانظر (دحض بدعة المساواة بين الرجل والمرأة) في القسم الثاني من هذا الكتاب ص (93 - 115) . (69) نقلاً عن كتاب (الأخوات المسلمات) ص (247) وانظر (تطور النهضة النسائية) لإبراهيم عبده ودرية شفيق ص (74) (75) . (70) " قاسم أمين " لوداد السكاكيني ص (46) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 (ففي تحرير المرأة وبالذات في الفصول التي تتناول وجهة نظر الشريعة والدين في هذه القضية نلتقي بمجموعة من الآراء الفقهية والمناقشات لا يستطيع أن يبحثها ولا أن يستخلصها كاتب مثل قاسم أمين وأهم من ذلك نجد أحكاماً كلية تدل على أن صاحبها ومصدرها قد استقصى بحث هذا الأمر في جميع مصادره الرئيسية في الفكر الإسلامي على اختلاف مذاهبه وتياراته الفكرية وهو الأمر الذي لا نعتقد أنه قد توافر في ذلك العصر سوى لقلة قليلة في مقدمتهم جميعاً الأستاذ الغمام محمد عبده) (71) اهـ بينما يجزم د / محمد عمارة في موضع آخر بهذه النسبة المشار إليها آنفاً بقوله وهو يعدد إنجازات الشيخ محمد عبده: (ومن أبرز أعماله الفكرية في هذه المرحلة ... الفصول التي شارك بها في كتاب " تحرير المرأة " لقاسم أمين سنة 1899 م) (72) اهـ وذكرت "درية شفيق" (أن دور محمد عبده في الكتاب قد أثار حفيظة بعض الرجعيين الذين اتهموه بالزيغ والكفران) (73) وقال الدكتور السيد أحمد فرج - حفظه الله -: (وقد بالغ بعض الكتاب فرأى أن فصولاً كاملة بنصوصها في كتاب تحرير المرأة كتبها الشيخ محمد عبده من إنشائه وهي الفصول الآتية: 1 - حجاب النساء من الجهة الدينية ص (59 - 72) 2 - الزواج ص (123 - 132) 3 - تعدد الزوجات ص (133 - 140)   (71) " قاسم أمين الأعمال الكاملة " المقدمة: دراسة في فكر قاسم أمين ص 144. (72) " الإسلام والمرأة في رأي الإمام محمد عبده " ص 138. (73) (تطور النهضة النسائية) ص (78) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 4 - الطلاق ص (141 - 164) (محمد عمارة - الأعمال الكاملة " لمحمد عبده " 2/ 105- 129 بيروت 1972) وهذا الادعاء من كاتبه يرد عليه لأنه يحتاج إلى دليل يوثقه والأرجح أنها من فكر الشيخ محمد عبده وإنشاء كاتبها فالشيخ هو الذي وجه الأفكار وأرشد إلى ما يحتاجه الكاتب من نصوص الكتاب والسنة وكتب الفقه الإسلامي وهو الذي أرشده بتوجيهاته أثناء الكتابة أو قراءة أصول الكتاب قبل طبعه كما جاء في مذكرات احمد لطفي السيد. والمعروف عن الشيخ محمد عبده أنه كان يملي الأفكار ويوجه إليه أكثر مما يكتب هكذا فعل مع قاسم أمين ومع أشهر تلاميذه في مجال الإصلاح الإسلامي السيد " محمد رشيد رضا ") (74) . بين " قاسم " و " سعد ": قال الصحافي " مصطفى أمين ": (كان قاسم أمين لا يفترق عن سعد زغلول وكان قاسم أمين هو الذي توسط في زواج سعد زغلول بصفية زغلول وكان سعد زغلول هو الذي وقف إلى جوار قاسم أمين عندما أصدر كتاب تحرير المرأة وهوجم بعنف وضراوة واتهم بالكفر ومنع من دخول قصر الخديوي بدعوى أنه يدعو إلى الإباحية وأقفل الناس بيوتهم في وجهه وذهب عدد من الشباب المتحمسين إلى بيته في شارع الهرم واقتحموا بيته وطالبوا قاسم أمين أن يسمح لهم بأن يجتمعوا بزوجته على انفراد تطبيقاً لدعوته إلى سفور المرأة. عندما أقفل كبار المصريين في وجه قاسم أمين فتح سعد له بيته   (74) المؤامرة على المرأة المسلمة: تاريخ ووثائق ص (76 - 77) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ودعاه هو وزوجته ليتناول الغداء والعشاء على مائدته ومائدة صفية زغلول وأصر أن يخرج في عربته مع قاسم أمين ويطوف شوارع العاصمة متحدياً للأصدقاء الذين نصحوه بأن لا يظهر مع قاسم أمين في مكان عام وإلا ضربه الناس بالطوب وعندما وضع قاسم أمين كتابه الثاني " المراة الجديدة " متحدياً العاصفة الهوجاء ومطالباً أن تحضر المرأة مجالس الرجال وتمارس الأعمال الحرة أهدى كتابه الجديد إلى سعد زغلول صديقه الحميم ونصيره الأول) (75) اهـ دور سعد زغلول: قال العقاد: (وكان- أي "سعد زغلول" - رجلاً له رأي في المرأة وفيما ينبغي أن تكون عليه شريكة الحياة يخالف رأي السواد الغالب في تلك الأوقات وفي جميع الأوقات وحسبه من ذلك أنه هو الذي أعان قاسم أمين زميله وصديقه الحميم على إظهار كتابه في تحرير المرأة وتشجيعه على احتمال ما لقي في سبيله من سخط وعناء) (76) اهـ وقال الدكتور السيد احمد فرج - حفظه الله -: (والرأي أنه لم يكن في استطاعة قاسم أمين أن يبرز نفسه بهذه الآراء الجريئة في ذلك العصر لولا تعضيد الإمام محمد عبده وأحد تلاميذه الذي صار زعيماً للأمة سعد زغلول باشا وقد بلغ حب قاسم أمين لهما مبلغاً كبيراً فأهدى كتابه الثاني المرأة الجديدة لسعد زغلول واستشهد على صحة أقواله فيه بمباركة الشيخ محمد عبده لها وينشر كل بنود اقتراح الشيخ في شأن   (75) نقلاً عن جريدة المساء الخميس 4 أغسطس 1983 مقالة بعنوان (هل انتحر محرر المرأة؟) هذا وقد ذكر الصحافي مصطفى أمين في مقالته هذه أنه حدثت قطيعة بين الصديقين حتى الموت تسببت من لعب قاسم أمين بالورق " القمار " حتى خسر مبالغ طائلة أودت بثروته وأثقلته بالدين. (76) (سعد زغلول) تأليف عباس محمود العقاد ص 527. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 إصلاح قانون الأحوال الشخصية في آخره. وسعد زغلول في الحقيقة هو الذي ضمن تنفيذ أفكار قاسم أمين تنفيذاً عملياً فقد رحل الشيخ محمد عبده سنة 1905 ورحل تلميذه قاسم أمين بعده بسنوات قليلة وكان في ميعة شبابه ثم بقى سعد زغلول وقد أهلته مواهبه الفذة أن يقود المجتمع ويكيفه كما يريد وكان قادراً خاصة وأن الظروف الاجتماعية والفورة الوطنية قد هيأتا الناس لتقبل الأفكار الجديدة ووضعها موضع التنفيذ العملي فقد ظل العقلاء كما سماهم "جرجي زيدان" يتهامسون في موضوع تحرير المرأة حتى صرح الشيخ محمد عبده بآرائه فكثر مريدوه والمؤمنون على أقواله وأول أولئك قاسم أمين (77) وسعد زغلول المنفذ الحقيقي لهذه الأفكار) (78) اهـ. وأياً ما كان الأمر فقد أحدث الكتاب ضجة عنيفة لأنه صادر من مسلم يشغل وظيفة مستشار في الدولة سبق له أن هاجم أعداء الحجاب منذ وقت قريب ولم تقتصر هذه الضجة على الأوساط الإسلامية الغيورة على دينها بل شملت الأوساط الوطنية والأدبية. ردود فعل كتاب " تحرير المرأة ": تجلت ردود الفعل في موجة عارمة من المعارضة كان أكثرها مقالات صحافية وقد اتهمه المعارضون بالهذيان وبأنه ممن تخطف زخارف التمدن الغربي بصائرهم يرى المحاسن ولا يرى المساوئ وهاجمه علماء الدين هجوماً عنيفاً وحكم الفقهاء بأنه خرق في الإسلام ومروق من الدين وعدها الكثيرون ضرباً من   (77) " بناة النهضة العربية " لجرجي زيدان ص 105. (78) " المؤامرة على المرأة المسلمة " ص 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 المبالغة في تقليد الغربيين واتهمه آخرون بالجناية على الدين ثم الوطن وأنه يرمي إلى قلب الهيئة الاجتماعية المصرية وممالأة الإنكليز على ضياع البلاد وإنه ينفذ أمنية من أماني الأمم الصليبية التي تريد بها هدم الإسلام وتقويض الآداب والأخلاق وتحريض النساء على الفساد واتهمه من يعضد هذه الدعوة بأنه ليس من المسلمين. وبادر إلى مناصرة قاسم حفنة من الكتاب وعلى رأسهم "جرجي نقولا باز" الذي ألف تأييداً لقاسم كتابين أحدهما: (إكليل غار على رأس المرأة) والآخر (النسائيات) (79) . ولم يكتف دعاة الحق وأنصار الحجاب بالمقالات العنيفة بل ألفوا الكتب العديدة (التي بلغ عددها مائة كتاب) (80) تبطل شبهات قاسم وتقيم الحجة عليه من أدلة الشريعة المطهرة. من هذه الكتب: (" السنة والكتاب في حكم التربية والحجاب " لمحمد إبراهيم القياتي. ومنها: " الجليس الأنيس في التحذير عما في تحرير المرأة من التلبيس " لمحمد أحمد حسنين البولاقي. ومنها: " خلاصة الأدب " لحسين الرفاعي. ومنها: " نظرات في السفور والحجاب " لمصطفى الغلاييني. ومنها: " قولي في المرأة " لمصطفى صبري. ومنها: " رسالة في مشروعية الحجاب " لمصطفى نجا.   (79) " قاسم أمين " د. " ماهر حسن فهمي " ص (172) . (80) " تطور النهضة النسائية " ص (12) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ومنها: " رسالة الفتى والفتاة " لعبد الرحمن الحمصي) (81) . موقف " محمد طلعت حرب ": على أن أول كتاب ألف في الرد على قاسم أمين هو كتاب " تربية المرأة والحجاب " وهو أهم ما ألف وأعمقه أثراً ألفه " محمد طلعت حرب " الذي اقترن اسمه فيما بعد - وللأسف - بشئون الاقتصاد الربوي وقد استنكر في كتابه هذا على قاسم دعوته ودافع عن الحجاب (82) . ويبدأ الكتاب بمقدمة يثبت فيها المؤلف أن المستعمر الغربي يجاهد بكل الطرق ليغير وضع المرأة المسلمة كأنما وكلتهم المرأة للدفاع عنها وما ذلك إلا ليثبتوا أن الشريعة الإسلامية قد ظلمتهن أما هدفهم البعيد فهو التدخل في شئون المسلمين باسم الإنسانية وفرنجة المرأة في المجتمع الشرقي لتنحل مقوماته الاجتماعية قال: (إن رفع الحجاب والاختلاط كلاهما أمنية تتمناها أوربا من قديم الزمان لغاية في النفس يدركها كل من وقف على مقاصد أوربة بالعالم الإسلامي) . وقال أيضا: (إنه لم يبق حائل يحول دون هدم المجتمع الإسلامي في المشرق لا في مصر وحدها - إلا أن يطرأ على المرأة المسلمة التحويل بل الفساد الذي عم الرجال في المشرق) وهو يذكر أن الخديوي " إسماعيل " حين أراد أن ينفصل بمصر عن الدولة العثمانية وعد ملوك أوربة - إن هم أيدوه من أجل تحقيق هدفه - أن يبدل أحكام القرآن فيما يتصل بالحياة السياسية والاجتماعية فيفصل السياسة عن الدين ويطلق   (81) " قاسم أمين " د. " ماهر حسن فهمي " ص (164 - 165) . (82) ولمحمد طلعت حرب كتاب آخر في الرد على قاسم أمين هو: (فصل الخطاب في المرأة والحجاب) شن فيه حملة عنيفة على ضلالات قاسم ووقفت كثرة الشعب في جانبه وأيدته فاستهدفت قاسم للإهانة تلو الإهانة (انظر: " تطور النهضة النسائية " ص " 70 ") الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 الحرية للنساء بحيث يسرن في أثر المرأة الغربية وينقل إلى مصر معالم المدنية الأوربية. وذكر أن الحرية كانت دائما شعار الإسلام فكان أولى بقاسم أن يجعل عنوان كتابه تربية المرأة بدلاً من تحريرها ثم يقول طلعت حرب: (ومن عجيب المصادفات أن الذي يقرأ " الرحلة الأصمعية " التي طبعت باللغة التركية سنة 1893 في مصر يقرأ فيها الاعتراضات التي وجهها الأوربيون إلى مؤلف الرحلة فيما يختص بوضع المرأة المسلمة فإذا ما قرأنا " تحرير المرأة " لقاسم أمين وجناه يردد نفس الاعتراضات فهل هذا يرجع إلى توارد الخواطر؟ ويتحدث طلعت حرب في الباب الأول من كتابه عن وظيفة المرأة فيقرر أن الأديان (83) جميعاً تنفي مساواة المرأة بالرجل مساواة كاملة ويورد النصوص من التوراة والإنجيل والقرآن التي تؤكد سيادة الرجل وحسن المعاملة والتقدير للمرأة ويقرر أن سعادة الأسرة لا تكون بوجود قائدين في بيت واحد وإنما تكون بتوجيه الرجل توجيها حكيما. ثم قال: (إن للمرأة أعمالا غير ما للرجل ليست بأقل أهمية من أعماله ولا بالأدنى منها فائدة وهي تستغرق معظم زمن المرأة إن لم نقل كله: الرجل يسعى ويكد ويشقى ويتعب ويشتغل ليحصل على رزقه ورزق عياله وامرأته ترتب له بيته وتنظف له فرشه وتجهز له أكله وتربى له أولاده وتلاحظ له خدمه وتحفظ عينه عن المحارم وهو يسكن إليها ... ) (84)   (83) اعلم - رحمك الله - أنه لا يصح أطلاق كلمة " الأديان "! هكذا مجموعة في سياق التقرير والاحتجاج بها لأن الدين واحد هو الإسلام الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه قال تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} (آل عمران: 19) والشرائع هي التي تختلف من نبي لآخر قال تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً} (المائدة: 48) والله أعلم. (84) " تربية المرأة والحجاب " ص (17) طبعة القاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وينتقل إلى الباب الثاني فيتناول تربية المرأة ويؤكد أن (الشريعة قد حثت على التربية الخلقية التي تضمن إصلاح النفس وعمار الكون وضمان السعادتين وكان السلف الصالح يعودون أبنائهم عليها فيشبون وقد تشبعوا بمكارم الأخلاق ولم تول الدنيا عنا إلا يوم أهملنا تلك التربية ثم دهمتنا المدنية الغربية بما بها من مظاهر خادعة فحسبناها منتهى ما يدركه الإنسان من الكمال فتسابقنا إلى التشبه والتقليد. فإذا كنا نريد إصلاح حقيقي فلننظر إلى مدنيتنا الإسلامية ولنقتبس منها أسس التربية السليمة لكل أفراد المجتمع من بنين وبنات) . ثم ينتقل إلى أهم نقاط البحث وهي مشروعية الحجاب فيعرض لقوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) وينقل من أحاديث رسول الله " وسيرة الصحابة رضي الله عنهم أن المقصود ستر الوجه لأنه أعظم زينة للمرأة أما ما جاء في قوله تعالى (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) فهي الكحل والخضاب ثم كيف يمكن الاختلاط مع غض البصر؟ وإذا كان " قاسم أمين " يرى أن الحجاب خاص بنساء النبي " وأن قوله تعالى: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء) (الأحزاب 32) فيه معنى التخصيص فإن قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن) (الأحزاب 59) قد قطع كل شك في وجوب الحجاب وقد اعتمد "قاسم" على رأي بعض الفقهاء في إباحة كشف الوجه واليدين والقدمين مع أن رأى الفقهاء في هذه الإباحة كان خاصاً بالصلاة وحدها لا بقضية الحجاب والسفور. على أن من يقول بجواز النظر لوجه المرأة عند أمن الفتنة قد قضى بتحريم ذلك على الإطلاق خصوصاً في هذه الأيام حيث نشاهد تبذل الشباب واستهتارهم كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 حين فما بالنا لو خلعت المرأة الحجاب وأطلقنا لها الحرية؟ إن الإحصائيات تثبت أن المرأة الشرقية - بسبب الحجاب - أكثر نساء العالم تعففاً ولا نريد أن نمزق ستار العفاف. وإذا كان " قاسم " يتساءل: لماذا اختص النساء بالاحتجاب والتبرقع دون الرجال وكلاهما مأمور بغض الأبصار؟ الإجابة واضحة إذ من المسلم به أن لكل من الزوجين وظيفة اختص بها وكانت وظيفة الرجل خارج بيته للسعي على معاشه ووظيفة المرأة منزلية داخل البيت وخروجها للضرورة فتكليفها بالتبرقع دون الرجل أكثر ملائمة لظروفها (*) أما ما قيل عن علم عائشة رضي الله عنها فهو حجة على قائله لأنها كانت محتجبة حجابا تاما بالإجماع ولم يمنعها الحجاب من التفقه في أمور الدين والمشاركة في أمور الحياة وكذلك كان كل النساء المسلمات اللائي نبغن وبلغن درجة من العلم والكمال فالحجب لم يمنع من تحصيل العلم ولا تدريسه وإذا كان الحجاب هو المانع من الترقي فلما لم يترق كل الرجال؟ (*) قال الشيخ " سعيد الجابي " رحمه الله في كتابه " كشف النقاب ": (وإذا قيل ينبغي على الرجال أن يستتروا خوف فتنة النساء اللواتي أمرن بغض أبصارهن. فنقول: إن النساء اللواتي أمرن بالقرار والوقار وإخفاء صوت الخلخال عن الجار والكلام من وراء حجاب وإدناء الجلباب والإقلال من الخروج خارج الأبواب كاف لهن ومغن عن أن يكلف الرجال بستر وجوههم عنهن سيما وأن أعمال الرجال خارج البيوت وأعمال النساء في داخلها والفرق بين العملين ظاهر لا يماري فيه إلا مكابر ولا سيما أن جمال وجه الرجال سريع الزوال إذا راعوا الحكم الشرعي بإعفاء اللحى القائمة مقام النقاب والحجاب والجلباب وهي عند بعض الزوجات أعظم مصاب! وإذا كانت الضرورات تبيح المحظورات فلا مانع من أن تظهر المرأة عينيها أو عينها بعد ستر وجهها وحينئذ لا يقال: حرموا هذه المسكينة أن تبصر طريقها أو النور أو جمال الطبيعة بل يقال: حرموا هذا المسكين أن يرى جمال وجهها) اهـ نقله عنه الشيخ محمد أديب كلكل في " فقه النظر " ص (64 - 65) . ولو نظرنا إلى المرأة الأوربية لوجدنا الأمر يرجع إلى حاجة أوربا للأيدي العاملة بسبب ظروف حياتها فخرجت النساء لمساعدة الرجال على الكسب والتعمير فلما ابتذلت المرأة هناك أعرض الشباب عن الزواج فاضطرت المرأة أن تستمر في العمل لتعيش على أن الناظر إلى المرأة الشرقية الآن (85) يراها قد خرجت وأقبلت على ملاذ الدنيا وأغرتنا الحضارة الأوربية على التساهل وسيسير الزمن بنا - باسم الحرية والمدنية - حسب التخطيط الذي يدفعنا الأجنبي إليه إلى أن تصبح المرأة الشرقية مثل الأجنبية ما لم نبادر إلى تقييد تلك الحرية لا إطلاقها   (85) طبع الكتاب سنة 1899 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وإلى تحرير الرجل قبل المرأة من الجهالة والفساد. ويختم " طلعت حرب " كتابه قائلا: (الحجاب أصل من أصول الأدب فيلزم التمسك به إلا أن المطلوب أن يكون منطبقا على ما جاء به الشرع) (86) موقف " محمد فريد وجدي ": ونشر"محمد فريد وجدي" في " المؤيد " و " اللواء " بضع مقالات قال في بعضها: (إذا أشرنا اليوم بوجوب كشف الوجه واليدين فإن سنة التدرج سوف تدفع المرأة إلى خلع العذار للنهاية في الغد القريب التي بلغت بها حالة التبذل درجة ضج منها الأوربيون أنفسهم وبدلا من أن نضرب الأمثلة بالغرب دائما ينبغي أن نولي وجوهنا إلى عظمة مدنيتنا الإسلامية الماضية) (87) ويتهكم أحد الكتاب بالدعوة إلى خروج المرأة للعمل ويحاول أن يتصور المرأة وقد خرجت إلى معترك الحياة تعمل فإذا البيوت مقفرة والشوارع مزدحمة بالرجال والنساء والمحال التجارية وقف بها المتحككون بالنساء البائعات أما الزى فخليط عجيب امرأة بقبعة وأخرى بغيرها والمقص قد تحيف الجيوب والذيول والأكمام والتصقت الملابس بالمرأة حتى صارت كبعض جسمها ثم يتساءل قائلا: (أهذا ما نريده؟ إن ما نريده حقا هو تربية المرأة قبل كل شيء) (88)   (86) السابق ص (105) . (87) " قاسم أمين " د / " ماهر حسن فهمي " ص (162) . (88) السابق ص (163) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 موقف " مصطفي كامل " (1874 - 1908) : كان للكتاب دوي شديد في الأوساط الوطنية لأنه كان بمثابة تحدى صريح للرأي الإسلامي العام وهجوم سافر ضد الإسلام لذلك لم يكن عجبا أن يقف الحزب الوطني المصري أو بمعنى آخر أن يقف " مصطفى كامل " من هذه الحركة موقف المقاومة والعناد إذ تحسس ورائها الأصابع البريطانية فربط بين هذه الحركة التي يديرها ذلك النادي الذي جمع بين أذناب الاستعمار وبين الإنكليز على أنها وسيلة من وسائله المتلونة في القضاء على مقومات الأمة فسارع إلى مقاومة هذه الحركة الخائنة وتحذير الأمة منها فأشار إليها في أول اجتماع عام عقده عقب صدور ذلك الكتاب في الخامس من شعبان سنة (1317 هـ) الموافق الثامن عشر من سبتمبر (1899 م) حيث قال: (إني لست ممن يرون أن تربية البنات يجب أن تكون على المبادئ الأوربية فإن في ذلك خطراً كبيراً على مستقبل الأمة فنحن مصريون (*) ويجب أن نبقى كذلك ولكل أمة مدنية خاصة بها فلا يليق بنا أن نكون قردة مقلدين للأجانب تقليداً أعمى بل يجب أن نحافظ على الحسن من أخلاقنا ولا نأخذ عن الغرب إلا فضائله فالحجاب في الشرق عصمة وأي عصمة فحافظوا عليه في نسائكم وبناتكم وعلموهن التعليم الصحيح وإن أساس التربية التي بدونه تكون ضعيفة ركيكة غير نافعة ... هو تعليم الدين) (89) وقد بلغ " بمصطفى كامل" الاهتمام بمقاومة هذه الحركة المسمومة إلى الحد الذي جعله يفتح صدر صحيفة " اللواء " منذ أول ظهورها سنة (1900 م) لكل طاعن على " قاسم أمين " وأفكاره فكانت " اللواء " - كما يقول الدكتور   (*) الواجب أن يقول: (فنحن مسلمون) وإلا فما قيمة المصريين أو غيرهم بدون الإسلام؟ (89) " الحركات النسائية " ص (16 - 17) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 " محمد حسين هيكل " -: (خصماً لدوداً لقاسم وأفكاره وكانت ميدان لأشد المطاعن عليه) (90) اهـ وكتب " مصطفى كامل " في اللواء (31 يناير 1901 م) يؤكد على (وجوب الالتفات إلى تربية النساء فهي دعوة يوافق عليها كل مثقفي الأمة أما الحرية للمرأة فلا محل للحديث عنها الآن وعملية التطور الطبيعي تسير سيرها المحترم وفرق بين التطور والتطوير القسري الذي لا يؤمن معه من سوء العاقبة فإن الرجل منا أهون عليه أن يموت من أن يرى من أهل بيته امرأة فاسدة ولو كانت بهجة العلم وحليته) ثم يخدش قاسماً - وما أصاب - فيقول: (ولست أدري إذا كان هذا الشعور شعوراً طبيعياً عند الرجال أو منشؤه الميراث الذي يحمله كل منا في دمه من أخلاق آبائه وأجداده وسواء كان هذا أو ذاك فإن الحرية التي تقتل العصمة شر عندي من الحجاب القاتل للرذائل) (91) . أثر كتاب " تحرير المرأة " في العراق والشام: واجه الكتاب هناك معارضة عنيفة لا تقل عن التي واجهها في مصر وأعلن المعارضون لقاسم أن الدعوة إلى خروج المرأة المسلمة إقتداء بالغربية دعوة لا تستند إلى حجة مقبولة لأن الغربية لم تناد بالخروج إلى المجتمعات وإلى الحرية المطلقة وإنما الرجال هناك هم الذين دفعوها إلى العمل تخلصاً منها وطمعاً في الانتفاع بتعبها فكانت النتيجة أن استدرجت إلى مواقف لم تأمن معها الذلل وفقدت بيتها   (90) " تراجم مصرية وغربية " للدكتور محمد حسين هيكل باشا ص (142) . (91) " قاسم أمين " تأليف د / ماهر حسن فهمي ص (160) ومما يلزم التنبيه إليه أن هذا الأسلوب المتضمن للهمز واللمز يأباه الإسلام الذي يعلو ولا يعلى والذي يعد النعرة القومية والعصبية الوطنية جاهلية خبيثة منتنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وفقدت أنوثتها وإذا كان التاريخ يستفظع وأد بعض رعاع العرب لبناتهم تخلصاً من العار فكم يكون استفظاعه لحياة كثير من الفتيات في هذه المدنية التي يود البعض أن نقتضي بها؟ ! وثار علماء الدين في الشام ثورة عنيفة ضد " قاسم أمين " فأعلنوا أن دعاة السفور هم دعاة فساد لأنه يخالف ما أمر به الدين ولأن السفور يقود الناس حتما إلى المجون وهدم القيم وبذلك تنحل كل الروابط الاجتماعية (92) الإنكليز يترجمون الكتاب وينشرونه: وقد كتب"مصطفى كامل" في " اللواء " بتاريخ (9 فبراير سنة 1901 م) يقول: (هذا وقد انتشر خبر كتاب "تحرير المرأة " في جهات الهند واهتم الإنكليز بترجمته وبث قضاياه وإذاعة مسائله لما وراء العمل به من فائدة لهم) اهـ من مواقف الشعراء: وكان للحركة صدى عميق في نفوس الأدباء والشعراء (93) وهذا " أحمد محرم " (94) الذي أعجب به " مصطفى كامل " وطالما أشاد به وبشعره على صفحات اللواء يقول مستنكراً دعوة " قاسم أمين ": أغرك يا أسماء ما ظن قاسم؟! أقيمي وراء الخدر (95) فالمرء واهم   (92) السابق ص (163 - 164) . (93) كان أكثر شعراء تلك الفترة من أهل الرأي والفكر ولم يكونوا مجرد نظاميين. (94) " أحمد محرم " (1871 - 1945) عده الأدباء في الطبقة الأولى من شعراء جيله وسلكوه في صف شوقي وحافظ وطبع شعره الإسلامي بعنوان (الإلياذة الإسلامية) سنة 1963. (95) الخدر: ستر يمد للجارية في ناحية البيت وجارية مخدرة ومخدورة إذا ألزمت الخدور وانظر " لسان العرب " (5 / 312 - 315) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 تضيقين ذرعاً بالحجاب وما به سوى ما جنت تلك الرؤى والمزاعم سلام على الأخلاق في الشرق كله إذا ما استبيحت في الخدور الكرائم أقاسم لا تقذف بجيشك تبتغي بقومك والإسلام ما الله عالم لنا من بناء الأولين بقية تلوذ بها أعراضنا والمحارم أسائل نفسي إذا دلفت (96) تريدها أأنت من البانين أم أنت هادم؟ ولولا اللواتي أنت تبكي مصابها لما قام للأخلاق في مصر قائم نبذت إلينا بالكتاب (97) كأنما صحائفه مما حملنا ملاحم (98) ففي كل سطر منه حتف مفاجئ وفي كل حرف منه جيش مهاجم إلى أن يقول: لنا في كتاب الله مجد موثل (99) وملك على الحدثان (100) والدهر دائم إذا نحن شئنا زلزل الأرض نابنا ودامت لنا أقطارها والعواصم ****** هممنا بربات الحجال (101) نريدها أقاطيع ترعى العيش وهي سوائم وإن امرءاً يلقى بليل نعاجه إلى حيث تستن الذئاب بظالم وكل حياة تثلم العرض سبة ولا كحياة جللتها المآثم أتأتي الثنايا الغر والطرر (102) العلى بما عجزت عنه اللحى والعمائم؟   (96) دلفت: أي تقدمت. (97) يشير إلى كتاب " تحرير المرأة ". (98) جمع ملحمة: وهي الوقعة العظيمة القتل. (99) أي الحسيب الأصيل العظيم الشريف. (100) الحدثان: النوب. (101) الحجل بفتح الراء وكسرها: الخلخال. (102) الطرر: جمع طرة: جانب الثوب الذي لا هدب له وطرف كل شيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 فلا ارتفعت سفن الجواء بصاعد إذا حلقت فوق النسور الحمائم عفى الله عن قوم تمادت ظنونهم فلا التهج مأمون ولا الرأي حازم ألا إن بالإسلام داءاً مخامراً وإن كتاب الله للداء حاسم (103) *********************** وهاجم الشاعر العراقي " البناء " السفوريين وخاطب المرأة قائلاً: وجوه الغانيات بلا نقاب تصيد الصيد في شرك العيون إذا برزت فتاة الخدر حسرى تقود ذوي العقول إلى الجنون وهذا الشاعر " جواد الشبيبي " يقول مستنكراً الدعوة الأثيمة: منع السفور كتابنا ونبينا فاستنطقي الآثار والآيات تلك الوجوه هي الرياض بها أزدهت للناظرين شقائق الوجنات كانت تكتم في البراقع خفية من أن تمس حصانة الخفرات (104) واليوم فتحها الصبا فتساقطت بعواطف الألحاظ والقبلات صوني جمالك بالبراقع إنها ستر الحسان ومظهر الحسنات وضعي الصدار على الترائب إنه حق عليكي فحق نهدك نات (*) وتماثلي في البيت صورة دمية مكنونة الأعضاء في الحبرات (105) وفي قصيدة للأزدي يعارض فيها "الرصافي"ويخاطب بنت بغداد " كريمة الزوراء " ويحذرها من ضلال السفوريين ويبصرها بعواقب مسلكهم الوخيم، يقول:   (103) ديوان محرم (2/63 - 65) الطبعة الأولى (1338 هـ - 1920 م) - مطبعة الفتوح بدمنهور. (104) امرأة خفرة: أي شديدة الحياء. (*) كذا بالأصل! (105) انظر " قاسم أمين " للدكتور " ماهر حسن فهمي " ص (173) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 أولم يرو أن الفتاة بطبعها كالماء لم يحفظ بغير إناء من يكفل الفتيات بعد ظهورها مما يجيش بخاطر السفهاء؟ ومن الذي ينهى الفتى بشبابه عن خدع كل خريدة حسناء؟ إلى أن يقول: نص الكتاب على الحجاب ولم يبح للمسلمين تبرج العذراء ماذا يريبك من حجاب ساتر جيد المهاة (106) وطلعة الذلفاء (107) ماذا يريبك من إزار مانع وزر الفؤاد وضلة الأهواء ما في الحجاب سوى الحياء فهل من التهذيب أن يهتكن ستر حياء هل في مجالسة الفتاة سوى الهوى لو أصدقتك ضمائر الجلساء شيد مدارسهن وارفع مستوى أخلاقهن لصالح الأبناء أسفينة الوطن العزيز تبصري بالقعر لا يغررك سطح الماء (108) وهذا " أديب التقى " يحذر من السفور كذريعة إلى الخلاعة والدمار الاجتماعي: كيف ترضى بأن ترى حاسرات يتملى وجوهها الفجار واتخذن الخلاعة اليوم خلقاً هو للشعب لو أفاق دمار (109) وفي السودان هاجم الشيخ " حسيب علي حسيب " يعنف دعاة السفور فقال: دعوا في خدرها ذات الدلال فقد أرهقتموها بالجدال رأيت شعورها الحساس مضنى على هذا الجمود عن المعالي تذوب وقد تناذرتم حياء بفحش اللفظ أو هجر المقال ويعلو خدها خفر ينادي ألا يا للنساء من الرجال   (106) الجيد - بالكسر: العنق أو مقدمه و (المهاة) : الشمس والبقرة الوحشية. (107) الذلف: صغر الأنف. (108) " الأدب العصري " (2 / 56) طبعة القاهرة (1923) . (109) " الاتجاهات الفكرية في بلاد الشام " ص (144) طبعة القاهرة (1958) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 زعمتم تعشقون لها صلاحاً فظني أن ذا عشق الجمال ومسألة (السفور) غدت قديماً لدى الكتاب مشكلة النضال وما أحد لها يدعوا فماذا يريد الناس من قيل وقال أحب في مناجاة الغواني ترى: أم ذاك زهداً في المعالي بلى فالعلم عندهم كريم ولكن المتيم غير سال دعوها فهي تؤلمها كثيراً سهام المصلحين بلا اعتدال عجبت لحلمهم في كل خطب وإن ذكر البنات دعوا نزال وقال آخر: زعموهن بالحجاب عن العلم ونور العرفان محتجبات بنت مصر كالشمس يحجبها الليل وراء الآفاق والظلمات وهي في أفقها ضياء ونور ساطع في جدورها النيرات أو هي المسك ينفذ العرف منه من وراء الأستار والحجرات انتهى من (التيار التراثي العربي الحديث) د/ سعد دعيبس ص (148) الخطوة الثالثة: كتاب (المرأة الجديدة) لم يلبث مؤلف (تحرير المرأة) حين واجه هذه المعارضة التي أحرجته كثيراً أن (أسفر) وجهه الحقيقي وخلع عنه ثوب الحياء وقناع التدين وكشف في جرأة وصراحة عن أهدافه المغرضة في كتاب ظهر في العام التالي وهو كتاب (المرأة الجديدة) الذي بدأ فيه أثر الحضارة الغربية واضحاً فالتزم فيه مناهج البحث الأوربية الحديثة التي ترفض كل المسلمات والعقائد السابقة سواء منها ما جاء من طريق الدين أو ما جاء من غير طريقه ولا تقبل إلا ما يقوم عليه دليل من التجربة أو الواقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 على حسب المنهج الذي يسلكه باحثو الاجتماع الأوربيين وهو ما يسمونه بـ (المنهج العلمي) (110) فتراه يعتمد على آراء مفكري الغرب ويصطنع أساليبهم في الإحصاء وفي الدراسات النفسية والاجتماعية والتجريبية. بينما كنت تراه هادئاً في كتابه الأول يحوم حول النصوص الإسلامية ويمتص من رحيقها لتعضيد مواقفه في المطالبة بحقوق المرأة انقلب في الكتاب الثاني يسلط حمم غضبه ويستعمل عبارات قاسية في التعبير عن رأيه عبارات لا تقرها المرأة ذاتها فهو لا يقبل - بزعمه - (حق ملكية الرجال للنساء) ويرى ترك حرية النساء للنساء حتى ولو أدى الأمر إلى (إلغاء نظام الزواج حتى تكون العلاقات بين الرجل والمرأة حرة لا تخضع لنظام ولا يحددها قانون) (111) .. و (المرأة الجديدة) التي قصدها " قاسم أمين " هي المرأة الأوربية التي أراد من المصرية أن تتحول إليها وتتخذها مثلاً أعلى. قال " قاسم ": (هذا التحول هو كل ما نقصد وغاية ما نسعى إليه هو أن تصل المرأة المصرية إلى هذا المقام الرفيع وأن تخطو هذه الخطوة إلى سلم الكمال وأن تكون مثلها تحرراً فالبنات في سن العشرين يتركن عائلاتهن ويسافرن من أمريكا إلى أبعد مكان في الأرض وحدهن ويقضين الشهور والأعوام متغيبات في السياحة متنقلات من بلد إلى أخرى ولم يخطر   (110) " المرأة الجديدة " ص (75) ومما ينبغي التنبه له أن هذا الذي يسميه علماً ليس علماً بالمعنى الصحيح للكلمة إلا فيما يتصل بالفروع التجريبية كالطبيعة والكيمياء والهندسة والطب أما ما يتصل منه بالنفس والاجتماع والأخلاق فإنه لا يزيد على أنه فروض لحل بعض المشكلات ونظريات لتعليل ما غاب عن الحس ولذلك فهو دائماً موضع أخذ ورد حتى بين دارسي الغرب ولا ننسى أن هذه الدراسات النفسية والاجتماعية قد أصبحت موجهة وتسخر لخدمة المذاهب والأحزاب السياسية المختلفة وأن بعضها يتذرع باسم (العلم) ليهدم الدين والخلق ويفرض السياسات الاستعمارية، انظر " الاتجاهات الوطنية " (1 / 283) . (111) " مبادئ السياسة والأدب والاجتماع " لأحمد لطفي السيد ص (173) - كتاب الهلال 1383 هـ - 1963 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 على بال أحد من أقاربهن أن وحدتهن تعرضهن إلى خطر ما وكان من تحررها أن يكون لها أصحاب غير أصحاب الزوج والرجل يرى أن زوجته لها أن تميل إلى ما يوافق ذوقها وعقلها وإحساسها وأن تعيش بالطريقة التي تراها مستحسنة في نظرها) (112) وطلب قاسم أمين من المصريين أن يتخلصوا مما وقر في أنفسهم من أن عاداتهم هي أحسن العادات وأن ما سواها لا يستحق الالتفات وقال: (إن طالب الحقيقة لا يجب أن يجري في إصدار أحكامه على هذا الضرب من التساهل بل يجب أن يعود نفسه على أن يجري نقده للحوادث الاجتماعية على أسلوب علمي) ص (75) ويقول في موضع آخر: (إن التشريح الفسيولوجي والتجربة في البلاد التي منحت المرأة حريتها قد أثبتت أن المرأة مساوية للرجل في الملكات) ويستشهد في معرض كلامه عن أثر حرارة الجو في إثارة الشهوة بكلام كاتب إيطالي يقول: (إن العفة تكتسب بمنح الحرية للمرأة وإن اختلاف الأجواء لا أثر له في ذلك) . ثم يقول في موضع آخر: (لما تخلصت المرأة المصرية من الاستعباد رأت نفسها في أول الأمر في حيرة لا تدري معها ماذا تصنع بحريتها الجديدة وهكذا يكون الحال بالنسبة لحرية النساء: أول جيل يظهر فيه حرية المرأة تكثر الشكوى منها ويظن الناس أن بلاء عظيما قد حل بهم لأن المرأة تكون في دور التمرين على الحرية ومع مرور الزمن تتعود المرأة على استعمال حريتها وتشعر بواجباتها شيئاً فشيئاً وترتقي ملكاتها العقلية والأدبية وكلما ظهر عيب في أخلاقها يداوى بالتربية حتى تصير إنساناً شاعراً بنفسه) (113) ويقول في موضع آخر: (إننا قد ورثنا الصورة التي كوناها عن المرأة من العرب الذين قامت حياتهم - حسب زعمه - على الغزو والنهب ومن ثم لم   (112) " آثار باحثة البادية " ص (274) . (113) " المرأة الجديدة " ص (70 - 71) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 يكن فيها للمرأة نصيب ثم لم يكن لها نصيب في تربية الولد لأن تربيته كانت مقصورة على تغذية جسمه ليشب مقاتلاً لا عالماً فاضلاً وصورة المرأة هذه التي ورثها المسلمون - حسب زعمه - عن العرب قد تكون صحيحة بالقياس إلى الماضي ولكنها مزورة إذا نظرنا إلى الحال والمستقبل) اهـ وكان معارضو "قاسم أمين " يرون أن نهضتنا يجب أن تعتمد على تراثنا القديم وعلى حضارتنا الإسلامية وحدها فقام هو بالرد على ذلك بأن (الحضارة الإسلامية قامت على دعامتين: الأساس الديني الذي كون من القبائل العربية أمة واحدة والأساس العلمي الذي ارتفعت به الأمة الإسلامية وآدابها) ثم يزعم أن العلم وقت ذاك كان ضعيفاً في أول نشأته وكانت أصوله ضرباً من الظنون التي لم تؤيدها التجربة ولذلك كانت قوة العلم ضعيفة بجانب قوة الدين فتغلب الفقهاء على رجال العلم ووضعوهم تحت رقابتهم وزجوا بأنفسهم في المسائل العلمية ينتقدونها ويفتون بمخالفتها لنصوص القرآن والحديث التي يؤولونها وبذلك حملوا الناس (حسب زعمه) على إساءة الظن بالعلم فنفروا منه وهجروه وانتهى بهم الأمر إلى الاعتقاد بأن العلوم جميعاً باطلة إلا العلوم الدينية نفسها: إنها يجب أن تقف عند حد لا يجوز لأحد أن يتجاوزه ثم تقدمت العلوم وظهرت المكتشفات الحديثة واستطاع العلم أن يشيد بناء لا يمكن لعاقل أن يفكر في هدمه وتغلب رجال العلم على رجال الدين) (114) وينتهي " قاسم أمين " من هذا العرض   (114) إن محاولة " قاسم أمين " إلقاء العداوة بين العلم والدين ما هي إلا مظهر من مظاهر التبعية العمياء للغرب حين سادت العداوة بين النصرانية وبين العلوم التجريبية وفي سحب هذا الحكم على الإسلام والمدنية الإسلامية مغالطة تكشف عن جهل بالواقع التاريخي من جهة وبحقائق الدين والعلم من جهة أخرى - راجع كتاب (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) للشيخ أبي الحسن الندوي وانظر أيضاً (أضواء البيان) للشنقيطي (3/ 396 - 400) وانظر بحث (فصل الدين عن السياسة ضلالة مستوردة) للأستاذ يوسف العظم وانظر " بيان الهدى من الضلال " للشيخ إبراهيم بن عبد العزيز السويح، ومما = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 إلى أن التمدن الإسلامي قد بدأ وانتهى قبل أن يكشف الغطاء عن أصول العلم فكيف يمكن أن نعتقد أن هذا التمدن كان نموذج الكمال البشري؟ .. ثم يبين أن كثيراً من ظواهر التمدن الإسلامي لا يمكن أن تدخل في نظام معيشتنا الاجتماعية الحالية ويضرب الأمثلة من نظم هذا التمدن في الحكم وهي في رأيه أقل من المستوى الذي بلغه اليونان والرومان في كفالة الحريات (115) كما يضرب أمثلة من نظام الأسرة ليبين أنه كان غاية في الانحلال وأن الفرق واسع بينه وبين النظم والقوانين التي وضعها الأوربيون لتأكيد روابط الأسرة) ويختم ذلك متسائلاً: (إذا كانت هذه حالهم فما الذي يطلب منا أن نستعيره منها؟ .. وأي شيء منها يصلح لتحسين حالنا اليوم؟) ثم يقول: (متى تقرر أن المدنية الإسلامية هي غير ما هو راسخ في مخيلة الكتاب الذين وصفوها بما يحبون أن تكون عليه لا بما كانت في الحقيقة عليه وثبت أنها كانت ناقصة من وجوه كثيرة فسيان عندنا بعد ذلك أن احتجاب المرأة كان من أصولها أو لم يكن وسواء صح أن النساء في أزمان خلافة بغداد والأندلس كن يحضرن مجالس الرجال أو لم يصح فقد صح أن الحجاب هو عادة لا يليق استعمالها في عصرنا) اهـ (116)   = يجدر التنبيه إليه أن مصطلح " رجل الدين " مصطلح دخيل على الفهم الإسلامي الصحيح بل كل مسلم ينبغي أن يكون رجل دين عليه واجبات تجاه دينه لابد من تأديتها حتى يستحق وصف المسلم. (115) هذه المقارنة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الرومانية وترجيح كفة الأخيرة تبين أن المعين الذي كان يستمد منه قاسم أمين وأضرابه هو كتابات (المتحررين) في أوربا الذين كانوا يحقرون الحضارة المسيحية ويمجدون الحضارة اليونانية واللاتينية الوثنية السابقة على المسيحية وما هذه المقارنة الغبية إلا صورة جديدة تدل على التخلف الفكري والتقليد الأعمى الذي كان يعاني منه ذلك المفتون بحضارة الغرب الذي نلاحظ من كتاباته كم كان شامخ الأنف متغطرساً مع مواطنيه متعالياً على أمته وفي الوقت ذاته مهدور الكرامة مطأطأ الرأس ذليلاً أمام أعداء دينه وأمته قد وقف حياته على أن يجذب بمنهاجه السقيم أعناقنا نحن المسلمين وجباهنا - نحن الموحدين - لتستقر أمام أقدام أعدائنا اليهود والصليبيين خاشعة خاضعة. (116) " المرأة الجديدة " ص (183) ويبدو أن الجذرية في كتابه الثاني هذا لم تكن رد فعل للهجوم القاسي من = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ثم يستطرد (عدو المرأة المسلمة) قائلاً: (نحن لا نستغرب أن المدنية الإسلامية أخطأت في فهم طبيعة المرأة وتقدير شأنها فليس خطؤها في ذلك أكبر من خطئها في كثير من الأمور الأخرى ... ) ويقول (.. والذي أراه أن تمسكنا بالماضي إلى هذا الحد هون من الأهواء التي يجب أن ننهض جميعاً لمحاربتها لأنه ميل إلى التدني والتقهقر..هذا هو الداء الذي يلزم أن نبادر إلى علاجه وليس له من دواء إلا أننا تربي أولادنا على أن يعرفوا شئون المدنية الغربية ويقفوا على أصولها وفروعها وآثارها إذا أتى هذا الحين - ونرجو أن لا يكون بعيداً - انجلت الحقيقة أمام عيوننا ساطعة سطوع الشمس وعرفنا قيمة التمدن الغربي وتيقنا أن من المستحيل أن يتم إصلاح ما في أحوالنا إذا لم يكن مؤسساً على العلوم العصرية الحديثة وإن أحوال الإنسان مهما اختلفت وسواء كانت مادية أو أدبية خاضعة لسلطان العلم لهذا نرى أن الأمم المتمدنة على اختلافها في الجنس واللغة والوطن والدين متشابهة تشابهاً عظيماً في شكل حكومتها وإدارتها ومحاكمها ونظام عائلتها وطرق تربيتها ولغاتها (117) وكتابتها ومبانيها   = أوساط العلماء الأزهريين وإنما كان قاسم أمين قد أعد أصول الكتابين في ذهنه قبل نشرهما وخطط لإخراجهما بهذه الصورة وقاسم أمين نفسه كان يؤمن بطريقة غرس الأفكار بالتدريج فقد قال في الصفحات الأولى من " تحرير المرأة " : (إني لست ممن يطمع في تحقيق آماله في وقت قريب لأن تحويل النفوس إلى وجهة الكمال في شئونها لا يسهل تحقيقه وإنما يظهر أثر العاملين فيه ببطء شديد في أثناء حركته الخفية وكل تغيير يحدث في أمة من الأمم وتبدو ثمراته في أحوالها فهو ليس بالأمر البسيط وإنما هو مركب من ضروب من التغيير كثيرة تحصل بالتدريج في نفس كل فرد شيئاً فشيئاً ثم تسري من الأفراد إلى مجموع الأمة فيحدث التغيير في حال ذلك المجموع نشأة أخرى للأمة) اهـ من " تحرير المرأة " ص (2، 3) . وهذا يوضح أن قاسماً كان يضمر في نفسه شيئاً لم يشأ أن يعلنه في هذا الكتاب حتى لا تسقط كل جهوده فأبرزه في كتابه الثاني " المرأة الجديدة " التي كانت - بالفعل - امرأة " جديدة " مغايرة تماماً لتلك التي رأيناها في كتابه الأول " تحرير المرأة ". فالحاصل أن كل ما يمكن تركه هجوم شيوخ الأزهر من أثر هو حدة الكلمات والعبارات لا جوهر الفكر ذاته - والله تعالى أعلم - انظر " المؤامرة على المرأة المسلمة " ص (65، 78) . (117) من المعروف أن قاسم أمين كان يدعو إلى ثورة في لغة الأدب وخطته في ذلك تشبه ثورته الاجتماعية، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وطرقها بل في كثير من العادات البسيطة كالملبس والتحية والأكل هذا هو الذي جعلنا نضرب الأمثال بالأوربيين ونشيد بتقليدهم وحملنا على أن نستلفت الأنظار إلى المرأة الأوربية) (118) بعض ردود فعل الكتاب: موقف مصطفى كامل: تصدى " مصطفى كامل" من جديد لقاسم أمين وكتب في اللواء بتاريخ 9 / 2 /1901 م معلقاً على كتاب " المرأة الجديدة ": (أخرجه أخيراً قاسم أمين ليدعم به أمر كتابه الأول ويفتح به آفاقاً جديدة تحلل المسلمين من دينهم وأخلاقهم) اهـ وحكى "مصطفى كامل " أن سلطان "ملديفي" لما بلغه خبر الكتاب وسئل عن رأيه في هذه الاتجاهات قال: (أما تعليم النساء المسلمات فقد أصبح من المسائل الحيوية للإسلام والمسلمين ولكنه لو مال عن طريق الشريعة الغراء إلى خطة مدنية الغرب الغبراء كان معولاً لهدم أركان الإسلام وفأساً لفتح القبور لأبنائه ودسهم فيها وهم أحياء أما رفع الحجاب فلا أرضاه لنسائي وبلادي وأما المرأة وحق طلاق زوجها فدعوة لا تصدر من معترف بقول الله في كتابه: (الرجال   = فننسلخ من لغة القرآن ونكتب آدابنا بلهجاتنا العامية على نحو ما انسلخت اللغات الأوربية الحديثة من أمها اللاتينية ونعبر في خطنا عن الحركات بحروف تدخل في بنية الكلمة على طريقة الكتابة بالحروف اللاتينية - (انظر " الأعمال الكاملة " 1/ 157 - 158) ولا يخفى ما في هذا " التكتيك الخبيث " من خدمة عظيمة لأعداء الإسلام تشير بإصبع الاتهام من جديد إلى " قاسم أمين ". (118) " المرأة الجديدة " ص (185 - 186) . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 قوامون على النساء) (النساء 34) فنسأل الله السلامة) اهـ (119) وأفسح " مصطفى كامل " لعلماء المسلمين المجال في جريدة اللواء ليتصدوا لهذه الدعوة الاستعمارية وليبينوا حكم الإسلام فيها وفي أصحابها (وكان من الكتاب الذين نشرت لهم " اللواء " مقالات تعيب على قاسم أمين وذيوله خصومة الحجاب وتجاوز ذلك إلى تحرر يسيء إلى حياة الأمة الأستاذ " محمود سلامة " الأديب المعروف) (120) ومن البحوث التاريخية التي نشرها " اللواء " أيضاً ذلك البحث الذي وضعه قاضي قضاة مصر (121) السيد " عبد الله جمال الدين أفندي " رحمه الله ونشرته له " اللواء " في عدديها رقم (456 و 457) بتاريخ (25 و 26 من ذي الحجة سنة 1318هـ أي في أواخر سنة 1900م) وقد استغرق هذا البحث من كل عدد الصفحة الأولى كاملة وثلث الصفحة الثانية (122) . وبما أن هذه الحركة كانت قد نشأت في بيئة وطيدة الصلة بالاحتلال البريطاني معادية في نفس الوقت لحاكم البلاد الرسمي (الخديوي) فكان من الطبيعي أن يقف منها الخديوي موقف العداء ... أولاً: لمنافاتها للإسلام في وقت كان الحكام والأمراء يفاخرون بالحرص عليه وثانياً: لصلتها بالاحتلال الذي يعمل على حشد القوى المناصرة له لمناهضة الخديوي والحد من سلطانه وقد أبرز (مصطفى كامل) موقف الخديوي " عباس حلمي " من هذه الحركة في اللواء بتاريخ (22 إبريل من سنة   (119) " الحركات النسائية في الشرق " ص (18) . (120) انظر " تطور النهضة النسائية " ص (58) . (121) كره بعض العلماء هذا اللقب لشبهه بلقب " شاهنشاه " أي ملك الأملاك المذموم في السنة الصحيحة وذلك قوله " (إن أخنع اسم عند الله تعالى رجل تسمى ملك الأملاك) متفق عليه. (122) وقد طبع حديثاً في كتيب بعنوان (حجاب المرأة العفة والأمانة والحياء) طبع مكتبة التراث الإسلامي (1402 هـ - 1982 م) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 1901 م) بعنوان: (رأي الجناب العالي في مسألة الحجاب) وقد جاء فيه ما نصه: (يرى الجناب العالي حفظه الله في مسألة الحجاب وإطلاق حرية النساء ما يراه الشرع الشريف ويأمر به وقد عرف رأي جنابه في هذا الشأن بأمرين: الأول: أنه أبى قبول كتاب " المرأة الجديدة " عندما ذهب " قاسم أمين " في الأيام الأخيرة إلى المعية السنية والتمس تقديمه إلى سموه. الثاني: أنه قبل كتاب " الاحتجاب " الذي رفعه إليه يوم الجمعة الماضي حضره الأستاذ الفاضل الشيخ عبد الله نقيب الأشراف برودس وقريب مؤلف الكتاب عبد الله جمال الدين أفندي رحمه الله وتقبله حفظه الله بكل ارتياح وانشراح وأعرب عن عظيم امتنانه من نشره حتى ينتفع به المسلمون ويرشدهم إلى الحق والصواب) اهـ هذا ولم يقف الأمر بالخديوي حيال " قاسم أمين " عند هذا الحد بل لقد أصدر أمراً بمنعه من دخول القصر في أي مناسبة مع أنه مستشار (123) في الدولة وذلك أنصع في الدلالة على استنكار الخديوي لهذه الحركة الأثيمة (124) .   (123) درس " قاسم أمين " الحقوق في فرنسا وعاد إلى مصر سنة 1885 م فتعين وكيلاً للنائب العمومي في محكمة مصر المختلطة وما زال يرتقي حتى صار مستشاراً في الاستئناف إلى أن مات بالسكتة في ليلة 23 أبريل 1908 م وهو في الثالثة والأربعين من عمره وقد زعم الصحافي " مصطفى أمين " أنه لم يمت موتاً طبيعياً ولكنه انتحر وذكر سبب ذلك في مقالة نشرت بجريدة المساء (الخميس 4 / 8 / 1983) بعنوان " هل انتحر محرر المرأة بسبب امرأة ". (124) ومن المواقف (الملكية) النادرة ما روته وصيفة " الملكة نازلي " عن شدة معاملة " الملك فؤاد " لها قالت: {وفي السبع عشرة سنة التي عاشها الملك مع الملكة لم يسمح لها بالسفر إلى أوربا سوى مرة واحدة عندما أجمع الأطباء على ضرورة سفرها إلى إحدى مدن المياه المعدنية بفرنسا لتعالج فيها وذلك عام 1927 م وكان الملك مسافراً لبعض دول أوربا زيارة رسمية ورفض أن يصحبها معه في هذه الزيارات واشترط أن تبقى في أوربا محجبة ورفض أن تكون معه على نفس الباخرة وأمر بأن تسافر باليخت (المحروسة) ليتفادى سفرها بالبواخر العادية حتى لا تختلط بالرجال وأمر الملك أن يكون هناك (ديدبان) طوال = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ........................   = الليل في الممشى أمام الجناح الخاص بالملكة في اليخت وعندما بدأت الرحلة وخيم الظلام في الليلة الأولى رأت الملكة الديدبان فغضبت وهاجت وماجت وأمرت قبطان اليخت المحروسة بسحب الديدبان فوراً وقال لها القبطان في احترام: " إنني أنفذ أوامر جلالة الملك شخصياً " وقالت الملكة: " ولكن وجوده هنا يضايقني وصوت حذائه يزعجني ويقلق نومي " ولم يستطع القبطان أن يقول إن صوت الحذاء لا يسمع مع وجود (البساط) المفروش على الأرض بل قال للملكة: إذا كان صوت حذاء الديدبان يزعج جلالتك فإنني سآمره أن يخلع حذائه وفعلاً كان الجنود الذين يتناوبون الحراسة ليلاً أمام جناح الملكة يخلعون أحذيتهم ويقفون حفاة تنفيذاً لأمر الملك من جهة وإرضاءً للملكة من جهة أخرى. وحدث في تلك الأيام أن نشرت مجلة (روز اليوسف) صورة للملكة نازلي ووجهها مكشوف فقامت قيامة الملك فؤاد وطلب من " توفيق نسيم " باشا رئيس الديوان الملكي أن يطلب من " عبد الخالق ثروت " باشا رئيس الوزراء إغلاق مجلة روز اليوسف بتهمة (العيب في الذات الملكية) .. وحقق مدير المطبوعات مع " روز اليوسف " فقالت: " إن الصورة منقولة عن جريدة فرنسية وزعت في مصر " واكتفى مدير المطبوعات بتوجيه توبيخ شديد اللهجة إلى " روز اليوسف ". وكان الملك فؤاد يحرص أن لا تظهر الملكة نازلي سافرة أمام رجل حتى أنها كانت لا تستطيع أن تتنزه في حدائق القصر الملكي إلا إذا حجبت نصف وجهها وبعدما يتحقق بوليس القصر من عدم وجود رجل في المنطقة التي ستتنزه فيها الملكة وفي الوقت الذي ستتنزه فيه الملكة وفي الوقت نفسه يصدر الأمر إلى جنود الحرس الملكي الذين يقفون فوق جدران القصر أن يديروا ظهورهم إلى حديقة القصر طول مدة سير الملكة في الحديقة! وحدث أن قرر الملك (أمان الله خان) ملك أفغانستان أن يزور مصر وهو في طريقه إلى أوربا فصحب الملكة (ثريا) زوجته ورحب الملك فؤاد بملك أفغانستان ثم سمع أن الملك (أمان الله) دعا نساء أفغانستان إلى نزع الحجاب إقتداء بالغازي (كمال أتاتورك) الذي ألغى الحجاب في تركيا وجاءت البرقيات تقول أن الملكة ثريا سترافق الملك " سافرة " في رحلته وعندئذ ألغى الملك فؤاد استضافته ملك أفغانستان في قصر عابدين بحجة أن التقاليد تحول دون اشتراك الملكة ثريا في الزيارة الرسمية وعُرف أن الملك فؤاد لا يريد أن تقيم ثريا في قصر عابدين حتى لا تسمم أفكار الملكة نازلي ووافق الملك أمان الله على أن تكون إقامة ثريا في مصر إقامة غير رسمية فلا تشترك في الحفلات والاستقبالات التي يدعى إليها ولم يكتفي الملك فؤاد بذلك بل أبلغ الملك أمان الله أنه يرجو ألا تظهر زوجته سافرة أثناء إقامتها في مصر مراعاة لتقاليدها وخضعت ثريا لرغبة الملك وأصدر الملك فؤاد أمره إلى وزارة الداخلية بعدم محاولة تصوير ملكة أفغانستان وفعلاً لم تظهر صورة واحدة للملكة ثريا في الصحف المصرية طوال مدة إقامتها. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 هل رجع " قاسم أمين " عن آرائه؟ زعم بعض الباحثين أن قاسم أمين (عدل عن رأيه في عام 1906 م بعد أن تبين له أنه ضل الطريق وذلك ضمن حديث له إلى صحيفة " الظاهر " التي كان يصدرها " محمد أبو شادي " المحامي أعلن فيه رجوعه عن رأيه كما أعلن فيه أنه كان مخطئاً في " توقيت " الدعوة إلى تحرير المرأة) (125) وقد استدل من ذهب إلى ذلك بحديثه المذكور آنفاً في صحيفة " الظاهر " وفي الاستدلال بهذا الحديث نظر لأن عبارته لم تكن صريحة في توبته عن ضلاله بالكلية ولكنه ادعى أن خطأه كان فقط في (توقيت) الدعوة إلى تحرير المرأة وليس في مضمون الدعوة ذاتها وإليك نص عبارته في ذلك: قال " قاسم أمين ": (لقد كنت أدعوا المصريين قبل الآن إلى اقتفاء أثر الترك بل الإفرنج في تحرير نسائهم وغاليت في هذا المعنى حتى دعوتهم إلى تمزيق ذلك الحجاب وإلى إشراك النساء في كل أعمالهم ومآدبهم وولائمهم.. ولكني أدركت الآن خطر هذه الدعوة بما اختبرته من أخلاق الناس فلقد تتبعت خطوات النساء في   وعندما انتهت الزيارة وصعدت ملكة أفغانستان إلى الباخرة الإيطالية التي أقلتها إلى أوربا أسرعت ونزعت الحجاب بحركة عصبية وقالت للصحافيين: " أظن أننا لم نعد مقيدين بأوامر الملك فؤاد " اهـ من مقالات بعنوان: (من عشرة لعشرين) للصحافي مصطفى أمين - أخبار اليوم 9 يناير 1982 م. (125) (الأخوات المسلمات) ص (252) ولعل مما يضعف احتمال رجوعه عن مذهبه ما قالته " هدى شعراوي " في حفل تكريم ذكرى رحيل " قاسم أمين " العشرين - والذي حضره صفية زغلول وطه حسين ولطفي السيد وواصف غالي وتوفيق دوس ومصطفى عبد الرزاق: (سادتي وسيداتي: اسمحوا لي أن أبدأ كلمتي بآخر كلمة نطق بها المرحوم قاسم أمين في حفلة نادي المدارس العليا وهو يحيي الطلبة الرومانيين ليلة وفاته إذ قال: " كم أكون سعيداً في اليوم الذي أرى فيه سيداتنا يزين مجالسنا كما تزين طاقات الزهور قاعات الجلوس " هذه هي آخر جملة نطق بها المرحوم قاسم قبل أن يلبي دعوة ربه ببرهة وجيزة وهي كما ترون تتضمن أمنية غالية لم يمهله الموت حتى يشاهد تحقيقها) اهـ من (حواء) العدد (1249) 30 أغسطس 1980 م ص (14 - 15) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 كثير من أحياء العاصمة والإسكندرية لأعرف درجة احترام الناس لهن وماذا يكون شأنهم معهن إذا خرجن حاسرات فرأيت من فساد أخلاق الرجال بكل أسف ما حمدت الله على ما خذل من دعوتي واستنفر الناس إلى معارضتي..رأيتهم ما مرت بهم امرأة أو فتاة إلا تتطاولوا إليها بألسنة البذاء ثم ما وجدت زحاماً في طريق فمرت به امرأة إلا تناولتها الأيدي والألسنة جميعاً.. أنني أرى أن الوقت ليس مناسباً للدعوة إلى تحرير المرأة بالمعنى الذي قصدته من قبل) (126) وقد كان نشر هذا الكلام قبل موته بعام ونصف فلعله رأى - بعد أن تغيرت الظروف بزوال " كرومر " وانطفاء نفوذ " نازلي فاضل " ربيبته - أن يتخفف من تبعه هذه الدعوة المدمرة بل ربما كان لبعض التجارب أثرها في نفسه فمما يروى (أن صديقاً عزيزاً " هو المؤرخ الإسلامي رفيق العظم " زاره ذات مرة فلما فتح له الباب قال: " جئت هذه المرة من أجل التحدث مع زوجك في بعض المسائل الاجتماعية! " فدهش قاسم أمين كيف يطلب مقابلة زوجته ومحادثتها؟ فقال له صديقه: " ألست تدعو إلى ذلك؟ إذاً لماذا لا تقبل التجربة مع نفسك؟ " فأطرق " قاسم أمين " صامتاً) (127) (وكلمته زوجة قاسم من وراء ستار وأفهمته أن قاسماً لم يدعو إلى السفور ولا إلى الخلوة بأجنبي) (128) .   (126) نقلاً عن كتاب (رجال اختلف فيهم الرأي) للأستاذ أنور الجندي ص (29) طبع دار الأنصار. (127) عن مجلة (الاعتصام) عدد رمضان سنة 1399 هـ. (128) " قاسم أمين " د / " ماهر حسن فهمي " ص (159) ، = ومن الجدير بالذكر أن زوجة (قاسم أمين) كانت محجبة حجاباً كاملاً وقد ذكرت في بعض تصريحاتها بعد وفاته: (أنه - أي قاسم - لم يرغمها على السفور عندما كان ينادي إليه) وتقول: (إنها ظلت ترتدي البرقع والحبرة) وإن قاسماً (كان يكتفي بالمناداة بفكرته ولكنه لم يطبقها في أسرته إلا على النشء الجديد، أعني بناته) ثم تحاول تبرئة قاسم من وزر الفساد الذي ترتب على دعوته فتقول: (إن بنات الجيل الحالي وشبابه قد أخطأوا فهم هذه الدعوة وتجاوزوا مداها فالمظهر الذي تظهر به فتيات هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 موت " قاسم أمين ": (ومات قاسم أمين ليلة الثالث والعشرين من إبريل سنة 1908م فأوحى الإنكليز إلى شيعته بإقامة ما يسمى " حفل تأبين " له فأقاموا هذا الحفل وأشادوا فيه بدعوته إلى السفور فقابل رجال الحزب الوطني هذه الحركة بإقامة احتفال كبير للدعوة إلى الحجاب ولإبراز أصابع الإنكليز في فتنة السفور) (129) من يحمل اللواء؟ وبموت " قاسم أمين " لم تهدأ هذه الدعوة إلى (تدمير) المرأة إلا قليلاً وكيف يهدأ للإنكليز بال والخطة لم تصل بعد إلى أهدافها؟ وإن مات قاسم أمين فهناك على الساحة السياسية من يستأنف الدور ويحمل اللواء هناك "حزب الأمة"وزعاماته المعروفة بعمالتها للإنكليز من أمثال (أحمد فتحي زغلول) (130) عضو محكمة دنشواي والهلباوي جلادها   = العصر ليس سفوراً بل بهرجة فظيعة لم يكن يخطر على بال قاسم أن ينادي بها أو يدعوا إليها وإنما كان قاسم ينادي بالسفور الشرعي (!) الذي لا يزيد عن إظهار الوجه واليدين والقدمين ولا يتجاوزه إلى إظهار العورات وإلى اختلاط المرأة بالرجل بالشكل الحاصل الآن وإني أعتقد أن قاسم بك لو كان حياً لما رضى عن هذه الحال بل لانبرى إلى محاربتها) اهـ وانظر " قاسم أمين " لأحمد خاكي ص (106 - 107) . (129) (الحركات النسائية في الشرق) ص (19) . (130) أحمد فتحي زغلول شقيق سعد زغلول اشترك في الحكم على المتهمين في حادثة دنشواي إذ كان أحد قضاة المحكمة المخصوصة، {وهي التي أصدر بطرس "باشا" غالي وزير الحقانية بالنيابة قراراً بتشكيلها لمحاكمة المتهمين برياسته هو نفسه - أي بطرس - وعضوية كل من (المستر) هيتر و (المستر) بوند والقائم مقام (لادلو) وأحمد فتحي (بك) زغلول رئيس محكمة مصر الابتدائية} اهـ من (مصطفى كامل باعث الحركة الوطنية) لعبد الرحمن الرافعي ص (203) وفيه أيضاً أن (أحمد زغلول هو الذي كتب الحكم بقلمه ورقي بعد الحكم وكيلاً لوزارة الحقانية وسماه مصطفى كامل قاضي دنشواي) اهـ ص (419) وهو المقصود بقول شوقي في " وداع كرومر ": أم من صيانتك القضاء بمصر أن تأتي بقاضي دنشواي وكيلاً؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وسفاحها وهناك وكلاء الغرب المنضوون تحت لواء هذا الحزب من أمثال " لطفي السيد " الذي حمل على عاتقه الدعوة إلى خروج النساء باسم التحرير وها هو ذا " أستاذ الجيل " أو " منشئ الوطنية المصرية " على حد تعبير " سلامة موسى " يتحدى المسلمين ويدخل الفتيات طالبات في الجامعة مختلطات بالطلاب سافرات الوجوه ولأول مرة في تاريخ الجامعة المصرية (131) وظل " أستاذ التضليل " يروج لحركة تحرير المرأة على صفحات " الجريدة " لسان حزب الأمة (132) .   (131) وكان عضده ونصيره في تلك الخطوة (طه حسين) و (كامل مرسي) من " المرأة المصرية " لدرية شفيق ص (153، 267) أما تفاصيل ذلك فقد حكاها (طه حسين) في الاحتفال بتكريم أولى خريجات الجامعة وأول طيارة مصرية في فبراير 1932 م حيث قال في كلمته: (أظن أن موقفي الآن - ولست من الرجال الرسميين - يسمح لي بأن أكشف لحضراتكم عن مؤامرة خطيرة جداً حدثت منذ أعوام وكان قوامها جماعة من الجامعيين فقد ائتمر الجامعيون وقرروا فيما بينهم أن يخدعوا الحكومة وأن يختلسوا منها حقاً اختلاساً لا ينبئونها به ولا يشاورونها فيه وهو الإذن للفتيات بالتعليم العالي في الجامعة المصرية وأؤكد لكم أيها السادة أنه لولا هذه المؤامرة التي اشترك فيها الجامعيون وبنوع خاص أحمد لطفي السيد باشا وعلي إبراهيم باشا وهذا الذي يتحدث إليكم لولا هذه المؤامرة التي دبرناها سراً في غرفة محكمة الإغلاق لما أتيح لنا ولا للإتحاد النسائي أن أقدم إليكم الآن محامية مصرية وأديبات مصريات اتفق هؤلاء الثلاثة فيما بينهم أن يضعوا وزارة المعارف أمام الأمر الواقع وكان القانون الأساسي في الجامعة يبيح دخول المصريين وهو وإن كان لفظاً مذكراً ينطبق على المصريين والمصريات وعلى ذلك ائتمرنا على أن تقبل الفتيات فقبلناهن ولم نحدث أحداً بذلك حتى إذا تم الأمر وأصبح لهن حق مكتسب في الجامعة علمت الوزارة أن الفتيات دخلن الجامعة) اهـ ص (23 - 24) من حواء العدد 1255 / 11 أكتوبر 1980 م. (132) ومن المعروف أنه كان من الداعين إلى "إصلاح الخط العربي " سنة 1899 وذلك بالدلالة بالحرف على الحركات فتكتب سعدٌ بالرفع هكذا (ساعدون) وبالنصب (ساعدان) والجر (ساعدين) وبفك الإدغام فتكتب محمد هكذا (موحاممادان) في الرفع و (موحاممادان) في النصب و (موحاممدين) في الجر وهو يوافق في ذلك القاضي الإنكليزي (ولمور) و " الأب " (أنستاس) في خططهما الخبيثة للقضاء على لغة القرآن المجيد ومحو الشخصية المسلمة من الوجود. {وقد كان (لطفي السيد) خصماً للعروبة والوحدة الإسلامية وكان يدعو إلى قصر التعليم على أبناء الأعيان وكان يدعو إلى اللهجة العامية على وفق ما دعا إليه المستشرقون والمبشرون مثل " مولار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 صدور مجلة " السفور ": ولما قامت الحرب العالمية الأولى وكانت الفرصة سانحة لإخفات صوت الإسلاميين وتشريد دعاتهم وكتم أنفاسهم - اعتقلت السلطات البريطانية رجال الحزب الوطني وانتهز أنصار الحركة النسائية الفرصة فأصدروا مجلتهم " السفور "   ، ويلكوكس " رافعاً شعار " تمصير العربية بإحياء العامية " وكان يقاوم التضامن العربي الإسلامي فقد عارض مساعدة المصريين لجيرانهم في طرابلس الغرب أثناء الغزو الإيطالي عام 1911 م ودعا إلى التزام الحياد المطلق في هذه الحرب الإيطالية "التركية" ومن مواقفه الشهيرة أنه مجّد اللورد كرومر ووصفه بأنه (من أعظم عظماء الرجال ويندر أن نجد في تاريخ عصرنا نداً له يضارعه في عظائم الأعمال) ونشر عنه هذا الكلام في نفس اليوم الذي ألقى فيه كرومر خطاب الوداع فسبّ المصريين جميعاً. وقد رسم (أستاذ الجيل) منهجاً للحياة الاجتماعية والسياسية والتربوية والاقتصادية في مصر يقوم على التبعية العامة للنفوذ الأجنبي والاحتلال البريطاني والفكر الغربي تحت اسم عبارة خادعة هي " مصر للمصريين ". وقد أسس هذا الأستاذ " حزب الأمة " الذي كان " صناعة بريطانية" بإجماع الآراء وكان هدف هذا الحزب تقنين الاستعمار والعمل على شرعية الاحتلال والدعوة إلى مهادنة الغاصب وتقبل ما يسمح به بدون مطالبته بشيء!.. أما موقفه من الدين فيلخصه قوله: (لست ممن يتشبثون بوجوب تعلم دين بعينه أو قاعدة أخلاقية بعينها ولكني أقول بأن التعليم العام يجب أن يكون له مبدأ من المبادئ يتمشى عليه المتعلم من صغره إلى كبره هذا المبدأ هو مبدأ الخير والشر) } انتهى ملخصاً من كتاب (رجال اختلف فيهم الرأي) للأستاذ أنور الجندي ص (4 - 11) وقال د / حسين فوزي: (والفكرة في عقيدة لطفي السيد هي الحرية، الحرية في كل صورها ومعانيها والعقيدة هي القومية والديموقراطية والتمدين) اهـ من " أحمد لطفي السيد " ص (287) . وقد كان الرباط وثيقاً جداً بين (طه حسين) و (لطفي السيد) وآية ذلك: - أول رسالة علمية في الجامعة منحت لطه حسين. - وحينما تحولت الجامعة الأهلية إلى حكومية اشترط لطفي السيد أن يكون طه حسين أستاذاً فيها. - وحينما أقيل طه حسين لعدوانه على الإسلام استقال لطفي السيد من الجامعة تضامناً معه. (انظر " لطفي السيد " للدكتور حسين فوزي ص (270 - 278) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 باسم " عبد الحميد حمدي " وقد أخذت على عاتقها نشر الدعوة ضد الحجاب وضد الآداب الإسلامية وممن كتب فيها داعياً إلى السفور مصطفى عبد الرازق وعلي عبد الرازق (133) وطه السباعي وصاحب " المجلة " وغيرهم (134) وإلى قيام ثورة 1919 كانت هذه الدعوة الآثمة محصورة في أضيق الحدود حتى إن المتظاهرات اللاتي أغراهن دعاة التحرير بالخروج في ذلك الحين كن محجبات يرتدين البراقع البيضاء ولا يخالطن الرجال (135)   (133) " علي عبد الرازق " صاحب كتاب (الإسلام وأصول الحكم) صدر كتابه سنة 1344هـ (1925 م) عقب إلغاء الكماليين الخلافة الإسلامية في تركيا ليسوغ صنيعهم زاعماً أن الخلافة نظام تعارف عليه المسلمون وليس في أصول الشريعة الإسلامية ما يلزم به والكتاب ملئ بالتهجم الظالم والمتهور على الخلافة والخلفاء ولم يستثن من ذلك الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وعلى رأسهم خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر - رضي الله عنه - وزعم عدو الله أن الدين لا يمنع من أن جهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين (حاشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم) وأنكر أن القضاء وظيفة شرعية ووصف حكومة الخلفاء الراشدين بأنها كانت (لا دينية) وهذه جرأة (لا دينية) من المؤلف وقد ذهب قبل تأليفه إلى بريطانيا وأقام فيها عامين ولقرائن عديدة ذهب فضيلة الشيخ (محمد بخيت) رحمه الله إلى أن الكتاب ليس من تأليف " على عبد الرازق " ورجح الدكتور " ضياء الدين الريس " بأن مؤلف الكتاب الحقيقي هو مستشرق إنجليزي يهودي الأصل وهو ( مرجليوث) ومن هنا أطلق عليه الأستاذ أنور الجندي (حاشية على عبد الرازق على بحث مرجليوث) ! وقد صدرت كتب عديدة ترد على الكتاب وتفضح مؤامراته وحوكم مؤلف الكتاب أمام هيئة كبار العلماء بالأزهر فأصدرت حكمها في 22 من المحرم سنة 1344 هـ الموافق 12 أغسطس 1925 م وهو يقضي (بإخراج الشيخ على عبد الرازق أحد علماء الأزهر والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية ومؤلف كتاب (الإسلام وأصول الحكم) من زمرة العلماء ومع أن حركة اليقظة الإسلامية واجهت الكتاب المنحول وفندت أباطيله إلا أن قوى التغريب ما تزال تعيد نشره وطبعه مع مقدمات إضافية يكتبها المضللون الشعوبيون ليخدعوا المسلمين بأسمائهم وألقابهم - انظر (الاتجاهات الوطنية) (2 / 85 - 95) ، (رجال اختلف فيهم الرأي) ص (61 - 72) . (134) (تطور النهضة المسائية) ص (14) . (135) من (خمسون عاماً على ثورة 1919) لأحمد عزت عبد الكريم أصدرته مؤسسة الأهرام مركز الوثائق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الطفرة: وقد كانت ثورة " 19 " أكبر طور طفر بحركة " تحرير المرأة " وقد تمثل ذلك في مشاركة المرأة في ثورة 1919 ومؤازرة " سعد زغلول " للحركة النسائية وكانت المشاركة الفعلية للمرأة بمظاهرة يوم 20مارس سنة 1919 وكانت هذه المشاركة في ذلك اليوم بمثابة جواز المرور الذي تجاوزت به المرأة الحائط القديم الذي قبعت طويلاً خلفه ولم تعد إليه أبداً بعد أن وضعت قدمها موضع قدم الرجل فعندما تشكل الوفد المصري من الرجال همت المرأة فشكلت لجنة الوفد من السيدات اللاتي اجتمعن برئاسة " هدى شعراوي " بالكنيسة المرقصية (يوم 8 يناير سنة 1920) ومنذ ذلك التاريخ انتقل التنظيم النسائي إلى مرحلة العمل المنظم على أساس أنه هيئة مستقلة حرة معترف بها لها الحق في أن تشارك في مجريات الأحداث التي تمر بها البلاد. وظلت الصحافة في هذه المرحلة تؤازر المرأة خاصة التي يحررها صحافيون سفوريون ممن كانوا يؤازرونها من قبل وممن انضم إليهم من أمثال الدكتور " محمد حسين هيكل " صاحب جريدة " السياسة " وبعض كتاب مجلة الهلال وغيرهم ورسمت الصحافة صورة المرأة المثالية التي يجب أن تتمثلها المرأة المصرية وهي نفسها صورة المرأة الأوربية في ذلك الوقت يقول أحد الكتاب: (المرأة الأوربية عندها واجبان مقدسان بيتها ووطنها وبين الواجبين تخص بساعة نفسها فتحضر حفل موسيقي أو تدعو أصحابها لليلة راقصة ولا تنسى أن تقف أمام المرآة لتزين حالها فتتذكر دائماً أنها امرأة إنها في نظري مثال المرأة الأعلى ويحسن بالمرأة الشرقية أن   والبحوث التاريخية لمصر المعاصرة (ص 193 - 197) وقد ضمن الكتاب صور المتظاهرات في وسط الطريق وهن يرتدين النقاب الأبيض والجلباب الأسود في حين وقف الرجال على جنبات الطريق ينظرون إليهن وقد مضين قدماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 تقتبس عنها كل شيء) (136) وربط كتاب هذه المرحلة صراحة بين تحرير المرأة وفكرة " المصرية " ونبذ فكرة " الإسلامية " يقول " محمود عزمي " - وكان من أبرز كتاب تلك المرحلة: (تأثرت بكتب " قاسم أمين " تأثراً عجيباً جعلني أمقت الحجاب مقتاً شديداً يرجع إلى اعتبار خاص هو اعتباره من أصل غير مصري ودخوله إلى العادات المصرية عن طريق تحكم بعض الفاتحين الأجانب فكان حنقي على أولئك الأجانب الفاتحين الإسلاميين يزيد) اهـ (137) . جريمة الزعيم: (صحبت " صفية زغلول " زوجها " سعد زغلول " في باريس لحضور مؤتمر الصلح سنة 1920لعرض القضية المصرية وقد مكثت صفية ترتدي الحجاب إلى أن عادت مع سعد زغلول إلى مصر بعد عودته من منفاه وعلى ظهر الباخرة التي نقلتهما إلى الإسكندرية وجد سعد البحر وقد امتلئ بألوف المخدوعين يستقبلونه بالقوارب وقال سعد لصفية " ارفعي الحجاب " وتدخل " علي الشمسي " و " واصف بطرس "! - من أعضاء الوفد - وعارضا في ذلك فقال سعد زغلول " المرأة خرجت إلى الثورة بالبرقع ومن حقها أن ترفع الحجاب اليوم " ورفعت صفية زغلول الحجاب (138) ثم وقفت إحدى صنائع   (136) انظر: (المؤامرة على المرأة المسلمة) ص (14) . (137) " الهلال " العدد الماسي - ص (132) . (138) ويبدو أن الأمر استقر أخيراً على أن لا تخلع صفية الحجاب نزولاً على رغبة (واصف بطرس غالي) !! ، فقد حكت هدى شعراوي في مذكراتها قصة عودتها على نفس الباخرة التي عاد عليها سعد فقالت: (وقد بدأ - أي سعد - يهنئ على توفيقي في الوصول إلى رفع الحجاب وكيفية عمل الحجاب الشرعي (!) الذي أرتديه وقال: " إنه قد سر عندما رأى صورتي بهذا الزي الجديد في منفاه " ثم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الاستعمار تخطب في القاهرة في احتفال الشعب المخدوع بقدوم " الزعيم " وطلب منها رفع الحجاب وعندئذ رفعت الحاضرات الحجاب) اهـ (139) وجاء في جريدة الجمهورية الصادرة في 20 / 4 / 1978 في الذكرى السبعين لموت قاسم أمين تحت عنوان: " تحليل شخصية قاسم أمين ": (ولما تولى سعد زغلول زعامة الشعب في عام 1919 اشترط على السيدات اللواتي يحضرن سماع خطبه أن يزحن النقاب عما سمح الله به من وجوههن وكانت هذه أول مرحلة عملية للسفور) اهـ وفي رواية: (نفت بريطانيا " صديقها " سعد زغلول وجماعته إلى جزيرة سيسل فترة ثم أعادته إلى مصر لتوليه رئاسة الوزارة وتوقع معه معاهدة فيكون احتلال بريطانيا لمصر شيئاً رسمياً متفقاً عليه! هيئ الجو في الإسكندرية لاستقبال سعد وأعد سرادق كبير للرجال وآخر للنساء المحجبات وأقيمت الزينات في كل مكان ونزل " سعد " من الباخرة وعلى استقبال حافل وهتافات أخذ طريقها إلى سرادق النساء - دون سرادق الرجال - فلما دخل على النساء المحجبات استقبلته " هدى شعراوي " بحجابها ... فمد يده - يا ويله - فنزع الحجاب عن وجهها تبعاً لخطة معينة وهو يضحك.. فصفقت هدى ....   = ثم طلب من السيدة حرمه أن تقلدني فوعدت بذلك.. صعدت إلى ظهر الباخرة للنزول وإذا بصفية هانم تقابلني ببرقعها وملاءتها فقلت لها " أين وعدك لسعد باشا بارتداء الإزار الشرعي؟ " فقالت:" أنا ليس لي زوج واحد.. واصف باشا غالي استحسن ألا أغير زيي حتى لا أحدث تأثيراً سيئاً في المستقبلين " فعجبت من ذلك وصافحتها ونزلت إلى اللنش الذي كان في انتظاري " اهـ من (حواء) العدد (1237) 7 يونيو 1980 م. (139) (الأخوات المسلمات) ص (255) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وصفقت النساء لهذا الهتك المشين ... ونزعن الحجاب ومن ذلك اليوم أسفرت المرأة المصرية استجابة لـ " رجل الوطنية " سعد وأصبح الحجاب نشازاً في حياة المسلمة المصرية ... لقد فعل " سعد " بيده ما دعا إليه اليهودي القديم بلسانه فكلفه دمه (140) أما سعد ..... ؟! (141) ويستنكر الشيخ " مصطفى صبري " رحمه الله هذه الجريمة التاريخية البشعة قائلاً: (وكأني بعلماء الدين سكتوا عند وقوع تلك الحادثة احتراماً لسعد أو انتقده عليه قليل منهم من غير تصريح باسمه كما هو المعتاد عند علماء مصر في النقد ولكن النهي عن المنكر ليس بجهاد مع الهواء وإن الحق وخاطر الإسلام أكبر من سعد وألف سعد وإني تذكرت هنا سعداً الصحابي رضي الله عنه وقول النبي " فيه (142) : أتعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه والله أغير مني) (143) اهـ   (140) لعله يشير إلى ما رواه بن هشام عن محمد بن إسحاق (وذكر عبد الله بن جعفر بن المسور بن مخرمة عن أبي عون، قال: كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته في سوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ بها فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وكان يهودياً وشدت اليهود على المسلم فقتلوه فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود فغضبت المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع) اهـ من " السيرة النبوية " لابن هشام مع " الروض الأنف " للسهيلي (3/ 137) .واسناده مرسل معلق، انظر: (دفاع عن الحديث النبوي والسيرة) للشيخ ناصر الدين الألباني ص (26 - 27) . (141) " المرأة المسلمة " للشيخ وهبي سليمان غوجي الألباني ص (188) . (142) متفق عليه من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال سعد بن عبادة - رضي الله عنه -: " لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح " فبلغ ذلك رسول الله " فقال: " تعجبون من غيرة سعد؟ والله لانا أغير منه والله أغير مني ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن " الحديث " جامع الأصول - في أحاديث الرسول " " بتحقيق الأرناؤوط (8 /432) . (143) " قولي في المرأة " للشيخ مصطفى صبري رحمه الله (ص 74 - 75) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 " سعد زغلول " المنفذ الفعلي لأفكار قاسم أمين: (في ثورة سنة 1919 استطاع المصريون بقيادة سعد زغلول أن يحققوا الاستقلال عن كل من تركيا وانجلترا وتحقق - وفي الوقت نفسه - بتعضيد من سعد زغلول ومعاونته استقلال المرأة وتحررها العملي وتحققت بذلك نبوءة " قاسم أمين " الذي كان يرى أن آراءه في المرأة لن تأخذ شكلها العملي إلا على يد سعد زغلول ومن ثم فقد أهداه كتاب " المرأة الجديدة " الذي يمثل الثورة الجذرية الفعلية للمرأة المصرية. والذي لا يعرفه الكثيرون أن " سعد زغلول " كان لا يقل تحمساً لتحرير المرأة عن شيخه الشيخ " محمد عبده " وصديقه " قاسم أمين " إن لم يكن أكثر حماساً وفاعلية منهما فهو الرجل الذي قدر له أن يقرر تاريخ مصر طوال العقد الثالث من هذا القرن. وكان سعد زغلول من الذين تخرجوا من الأزهر الشريف ودرسوا الحقوق واحترفوا المحاماة واتصل برجال تركيا الفتاة الذين قضوا على الخلافة الإسلامية في تركيا وكانت الأميرة " نازلي فاضل " تؤيد أفكارهم فالتقت فكرياً بسعد زغلول وعهدت إليه بالإشراف على ممتلكاتها وعن طريق منتداها بدأ نجمه يبزغ في ظل نجم الأميرة ونجم الشيخ " محمد عبده " ثم سطع نجمه عندما مثل أول أدواره السياسية بوصفه صهر " مصطفى فهمي " باشا رئيس الوزراء المصري وأحد المقربين إلى اللورد " كرومر " سنة 1907 ثم عندما أسس حزب الأمة الذي بارك اللورد كرومر تكوينه راجياً أن يحد به من نفوذ الحزب الوطني ذي النزعة الإسلامية بقيادة مصطفى كامل - ثم أسند اللورد لسعد زغلول نظارة المعارف مكافأة له على خدماته قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 أن تتغير الاتجاهات السياسية في مصر في نهاية الحرب العالمية الأولى وثورة سنة 1919) (144) (وفي هذه الفترة التي قدر لسعد زغلولا أن يقرر فيها تاريخ مصر قطعت مسألة تحرير المرأة شوطاً لم يكن يتحقق لها بدونه ومن ثم فقد بز دوره الشيخ محمد عبده وقاسم أمين معاً وذلك لأن سعد زغلول - كما يقول الشيخ محمد رشيد رضا - في مجلة المنار (28 / 711و 712) : (دخل في أطوار التفرنج في معيشته وأفكاره الاجتماعية وغلبت نزعة " المصرية " عنده على فكر " الجامعة الإسلامية " ولم يعد يذهب إلى المساجد " وهو خريج الأزهر الشريف " إلا في مناسبات الاحتفالات الرسمية وبعض صلوات الجمعة في زمن زعامته وأنكر عليه أهل الدين أموراً منها عمله في تجرئة النساء على (144) " المؤامرة على المرأة المسلمة " ص (19 - 20) . السفور المتجاوز للحد الشرعي حتى لقد بدا للعيان أنه لو كان الأمر بيد "سعد زغلول " لحول مصر إلى تركيا كمالية ولكن حال دون ذلك نزوع المصريين الفطري إلى التدين والتمسك بعرى الدين وخوف سعد - إذا تمادى في تحدي مشاعر الناس الدينية - من أن يفقد شعبيته واحترام البسطاء له) (145) اهـ.   (144) "تاريخ الشعوب الإسلامية" - كارل بروكلمان - ص (724) - ترجمة نبيه أمين فارس - ومنير البعلبكي - بيروت سنة (1968م) (145) انظر " المؤامرة على المرأة المسلمة " - د. السيد أحمد فرج / ص (20-21) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 " سعد زغلول ": أول وزير مصري في ظل الاحتلال: لقد بدأ "الزعيم" حياته السياسية صديقاً للإنكليز وختمها كذلك صديقاً للإنكليز (146) وبدأها بمصاهرة أشهر صديق للإنكليز عرفته مصر في تاريخ الاحتلال الإنكليزي من أوله إلى آخره وهو " مصطفى فهمي " باشا أول رئيس وزراء في مصر بعد الاحتلال (وقد اختار اللورد " كرومر " سعداً وزيراً للمعارف فحاول بمجرد تعيينه إحباط مشروع الجامعة المصرية وتصدى للجمعية العمومية حينما طالبت الحكومة في مارس 1907 بجعل التعليم في المدارس الأميرية باللغة العربية وكان وقتئذ بالإنكليزية وكان الاحتلال هو الذي أحل اللغة الإنكليزية محل العربية في التدريس) (147) (وبعد تعينه وزيراً أراد مجموعة من النساء المصريات في القاهرة أن يجتمعن به لأمر من الأمور فدخل عليهن وبهت إذ فوجئ بأنهن يسدلن الحجاب على وجوههن فرفض الدخول والاجتماع بهن إلا أن يكشفن وجوههن فأبين ذلك ولم يحصل الاجتماع) (148)   (146) بل إن مما يحتاج إلى الفحص والتدقيق ما جاء في كتاب (الأخوات المسلمات) نقلاً عن مجلة (المصور) في عددها الخاص الصادر في 23 ديسمبر 1927 بعد وفاة سعد زغلول فقد نشرت المصور صورة الجنازة تحت عنوان: (الأمة والحكومة تشيعان الفقيد العظيم) وتحت الصورة مباشرة كتبت العبارة التالية: (وفد البنائين الأحرار _ الماسون - في تشييع جنازة الزعيم الكبير وكان رحمه الله قطباً من أقطاب الماسونية) ومن قبل ذلك نشرت جريدة " المقطم " في عددها الصادر يوم الجمعة 26 أغسطس في الصفحة الأولى العبارة التالية: (حداد الماسونية على فقيد البلاد الأعظم.. فقدت الماسونية المصرية بفقد سعد العظيم الخالد عضداً كبيراً وفضلاً كثيراً وذخراً وفيراً كانت تعتز بفضله.. وستقام حفلة جناز ماسونية للفقيد الأعظم يعلن موعدها فيما بعد) اهـ. (147) (مصطفى كامل) للرافعي ص (239، 431) وانظر مواقفه (الوطنية) ! المماثلة في (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر) للدكتور " محمد محمد حسين " (2 /373 - 393) . (148) من مقالة بقلم " فاطمة عصمت زكريا " ملحقة بكتاب (المرأة ومكانتها في الإسلام) لأحمد الحصين ص (208) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 ومن هنا فلا تعجب إذا رأيت مصطفى كامل يعلق على تصرفات الوزير سعد زغلول قائلاً: (إن الناس قد فهموا الآن أوضح مما كانوا يفهمون من قبل لماذا اختار اللورد " كرومر " (149) لوزارة المعارف العمومية صهر رئيس الوزراء مصطفى فهمي باشا الأمين على وحيه الخادم لسياسته ........ ألا إن الذين كانوا يحترمون الوزير كقاض ليأسفون على حاضره كل الأسف وليخافون على مستقبله كل الخوف ويفضلون ماضيه كل التفضيل ذلك لأن الوزير قائم الآن على منحدر هائل مخيف) (150) اهـ ولنختم هذا الفصل بما كتبه سعد زغلول عن اللورد " كرومر " قال: (كان يجلس معي الساعة والساعتين ويحدثني في مسائل شتى كي أتنور منها في حياتي السياسية) ، (وكان يصفه بأن صفاته - أي كرومر- قد اتفق الكل على كمالها) ويحكي " سعد " في مذكراته وقع خبر استعفاء كرومر من منصبه (11/4/1907) عليه فيقول: (أما أنا فكنت كمن تقع ضربة شديدة على رأسه أو كمن وخز بآلة حادة فلم يشعر بألمها لشدة هولها ... لقد امتلأت رأسي أوهاماً وقلبي خفقاناً وصدري ضيقاً) . وكان سعد في مقدمة الداعين إلى إقامة حفل لتوديع اللورد كرومر الذي سب في   (149) ذكر كرومر في تقرير سنة 1906 م (أن في مصر جماعة صغيرة العدد آخذة في الازدياد هي الحزب الذي يمكن أن أسميه على سبيل الاختصار بأتباع المفتي الأخير " محمد عبده ") وذكر في خصائصهم أنهم (غير متأثرين بدعوة الجامعة الإسلامية ويتضمن برنامجهم - إن كنت قد فهمته حق الفهم - التعاون مع الأوربيين لا معارضتهم في إدخال الحضارة الغربية إلى بلادهم) ثم أشار كرومر إلى أنه (تشجيعاً لهذا الحزب - وعلى سبيل التجربة - قد اختار أحد رجاله وهو " سعد زغلول " وزيراً للمعارف) اهـ وانظر: " الإسلام والحضارة الغربية " للدكتور " محمد محمد حسين " ص (75) . (150) (مصطفى كامل) للرافعي ص (422) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 خطاب وداعه المصريين جميعاً ولم يمدح إلا رجلاً واحداً هو " سعد زغلول " وأعلن أنه يترك مصر مستريحاً لأنه أقام فعلاً القاعدة الأساسية لاستدامة الاحتلال وصدق فقد ألف في ذلك العام "حزب الأمة" (151) وأصبح " لطفي السيد " حامل لواء "الجريدة" (152) وعين سعد زغلول ناظراً للمعارف وقال كرومر في تعليل هذا التعيين: (إنه يرجع أساساً إلى الرغبة في ضم رجل قادر ومصري مستنير من تلك الطائفة الخاصة من المجتمع المعنية بالإصلاح في مصر) ، (كما أن سعداً من تلاميذ محمد عبده وأتباعه الذين أطلق عليهم " جيرونديي " (153) " الحركة الوطنية المصرية " والذي كان برنامجهم تشجيع التعاون مع الأجانب لإدخال الحضارة الغربية إلى مصر الأمر الذي جعل كرومر يحصر فيهم أمله الوحيد في قيام الوطنية المصرية) (154) اهـ   (151) تكون " حزب الأمة " - كما يقول الشيخ محمد رشيد رضا - " من أركان أصدقاء الشيخ محمد عبده من كبار رجال الحكومة ووجهاء القطر " اهـ من (تاريخ الإمام) (1 /591) - مطبعة المنار سنة 1935 م. قال الدكتور السيد أحمد فرج: (إن حزب الأمة أنهى علاقاته بالجذور القديمة الإسلامية وصفى آثارها تماماً ليهيئ الجو للفكر العلماني الذي أطبق على البلاد بلا شريك - لأول مرة - وفرض أسلوب الغرب في الحكم والتربية والتشريع والاقتصاد، يوضح ذلك بيان الحزب نفسه الذي صدر ليحذر بجلاء الذين يتهمون هذه الحركة الجديدة حركة حزب الأمة بأن لها مظهراً من مظاهر التعصب الديني أي الـ "pan Islamism " لأنهم يريدون بهذه التهمة أن يبعدوا بيننا وبين أحرار الأوربيين خاصة وأنهم يعلمون أن المصريين أبعد الناس عن هذه التهمة وأبرؤهم منها " اهـ " المؤامرة على المرأة المسلمة " ص (17) . وانظر: (قصة حياتي) أحمد لطفي السيد ص (44) . (152) (اتضح أن أهم أسباب إصدار " الجريدة " إظهار نوايا حزب الأمة في تطليق فكرة الإسلامية نهائياً والعمل على تغيير العادات والأفكار الاجتماعية في مصر) اهـ من " المؤامرة على المرأة المسلمة " ص (17) . (153) انظر " الموسوعة العربية الميسرة " ص (677) . (154) انظر (رجال اختلف فيهم الرأي) لأنور الجندي ص (16 - 18) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 تلميذ المدرسة الاستعمارية وبداية " تحرير المرأة " (*) لم يكن يتخيل أحد أن " يجاهر " أحد من القائمين على دعوة تحرير المرأة بأن هذا " التحرير " في مفهومه يرادف " الأسر " بل ويرادف " الانحلال " بكل ما تحتمله الكلمة من معان. ومع وضوح السلسلة التاريخية التي مرت بها حركة " تحرير المرأة " والتي سردنا بعضاً من حلقاتها فيما تقدم ومع إمكان الاختلاف في تحديد بدايتها على وجه الدقة إلا أنه لم يوجد " قلم " يحترم نفسه جرؤ على الزعم بأن عام 1800م هو عام تحرير المرأة المصرية! وأن " الحملة الفرنسية " كانت نقطة " الانطلاق " إلى " تحرير المرأة" من كل قيد وأول ذلك قيد الدين والخلق والحياء.. فماذا عن عام 1800؟ (عام 1800 عام هزيمة ثورة القاهرة الثانية عام سبي جنود الاحتلال الفرنسي لنساء مصر وبناتها وغلمانها ... هو عام تحرير المرأة المصرية) لقد أنفرد بهذا الكشف " لويس عوض "! يقول: (أما عام 1800م فهو عام تحرير المرأة ففي الجبرتي وصف لبدايات حركة السفور ووصف لبدايات حركة تحرير المرأة ووصف لما أصاب بعض نساء القاهرة من انطلاق نتيجة لمخالطة المصريين للفرنسيين ومحاكاتهم في الزي وفي   (*) بتصرف من " ودخلت الخيل الأزهر " ص (395 - 414) ط. أولى، (1391 هـ - 1972 م) - الدار العلمية - بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 السلوك) (155) ويستشهد " لويس عوض " على حركة " التحرير " هذه بقول الجبرتي: (ومنها تبرج النساء وخروج غالبهن عن الحشمة والحياء وهو أنه لما حضر الفرنسيس إلى مصر ومع البعض منهم نساؤهم كانوا يمشون في الشوارع مع نسائهم وهن حاسرات الوجوه لابسات الفستانات والمناديل الحرير الملونة ويسدلن على مناكبهن الطرح الكشميري والمزركشات المصبوغة ويركبن الخيول والحمير ويسوقنها سوقاً عنيفاً مع الضحك والقهقهة ومداعبة المكارية معهم وحرافيش العامة فمالت إليهم نفوس أهل الأهواء من النساء الأسافل والفواحش فتداخلن معهم لخضوعهم للنساء وبذل الأموال لهن وكان ذلك التداخل أولاً مع بعض احتشام وخشية عار ومبالغة في إخفائه فلما وقعت الفتنة الأخيرة بمصر وحاربت الفرنسيس بولاق وفتكوا في أهلها وغنموا أموالها وأخذوا ما استحسنوه من النساء والبنات وصرن مأسورات عندهم فزيوهن بزي نسائهم وأجروهن على طريقتهن في كامل الأحوال فخلع أكثرهن نقاب الحياء بالكلية وتداخل مع أولئك المأسورات غيرهن من النساء الفواجر ولما حل بأهل البلد من الذل والهوان وسلب الأموال واجتماع الخيرات في حوز الفرنسيين ومن والاهم وشدة رغبتهم في النساء وخضوعهم لهن وموافقة مرادهن وعدم مخالفة هواهن ولو شتمته أو ضربته بتاسومتها (156) فطرحن الحشمة والوقار والمبالاة والاعتبار واستملن نظراءهن واختلسن عقولهن لميل النفوس إلى الشهوات وخصوصاً عقول القاصرات   (155) " تاريخ الفكر " للويس عوض " ج 1 ". (156) أي حذاؤها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وخطب الكثير منهم بنات الأعيان وتزوجوهن رغبة في سلطانهم ونوالهم فيظهر حالة العقد الإسلام وينطق بالشهادتين لأنه ليس له عقيدة يخشى فسادها) (ومنها أنه أوفى النيل أذرعه ودخل الماء إلى الخليج وجرت فيه السفن ووقع عند ذلك من تبرج النساء واختلاطهن بالفرنسيين ومصاحبتهن لهم في المراكب والرقص والغناء والشرب بالنهار والليل في الفوانيس والشموع الموقدة عليهن الملابس الفاخرة والحلي والجواهر المرصعة وبصحبتهم آلات الطرب وملاحوا السفن يكثرون من الهزل والمجون ويتجاوبون برفع الصوت في تحريك المجاديف بسخف موضوعاتهم وكثائف مطبوعاتهم وخصوصاً إذا دبت الحشيشة في رؤوسهم وتحكمت في عقولهم فيصرخون ويطبلون ويرقصون ويزمرون ويتجاوبون بمحاكاة ألفاظ الفرنساوية في غنائهم وتقليد كلامهم شيء كثير) (وأما الجواري السود فإنهن لما علمن رغبة القوم في مطلق الأنثى ذهبن إليهم أفواجاً فرادى وأزواجاً فنططن الحيطان وتسلقن إليهم من الطيقان ودلوهم على مخبآت أسيادهن وخبايا أموالهم ومتاعهم وغير ذلك) اهـ هكذا يفهم " لويس عوض " من العبرات السابقة للجبرتي أنه كانت هناك"ثورة نسائية" أو " ثورة حريم " في مصر " أو على الأقل في القاهرة عام 1800" ومع أن الجبرتي لم يترك فرصة لسوء الفهم هذا فإن تلميذ المدرسة الاستعمارية يصر على أنها ظاهرة عامة نابعة عن " ثورة تحررية "! وليست حالة انهيار تحدث في جميع المجتمعات التي تتعرض للاحتلال والنهب والسلب والتجويع وأسر بنات الأسر كالجواري ووضعهن في معسكرات الجنود " مأسورات ". مؤرخ المدرسة الاستعمارية يجعل من انحطاط المرأة إلى حد التكسب " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 بالفاحشة " ثورة نساء وبداية تحرر المرأة! وهو بذلك يعكس احتقاراً عميقاً للمرأة كما يعكس مفهوماً وقحاً لمعنى تحرر المرأة ولكنه لا يكتفي بذلك بل يصر على أن يجعل هذا التحرر بعلم رجال مصر ورضاهم. والجبرتي دقيق وواضح حين يبين أن الفريق الأول أو " الرائدات " هن من النساء الأسافل والفواحش أما الفريق الثاني من الحرائر فهو يعتذر عنهن بالأسر ولكن " لويس عوض " يأبى إلا أن يلوي عنق النص ويدعي أن الجبرتي (يتحدث عن الحرائر من ربات البيوت وبناتها ... عن سيدات المجتمع وهؤلاء ما كان يمكن أن يخالطن الفرنسيات والفرنسيين إلا برضاء الأولياء عليهن) (157) اهـ وهكذا بزعم تلميذ المدرسة الاستعمارية أن المجتمع المصري " المتحرر" تحولت نساؤه إلى بغايا وتحول رجاله إلى قوم يرضون بذلك! ثم تأمل افتراءه - عامله الله بعدله - حينما يدعي أن طبقات النساء اللواتي حاكين المتفرنسات والعادات الفرنسية وطرحن الحشمة والوقار والمبالاة والاعتبار قد اتسعت (بتأثير سبايا الفرنسيين المتحررات من بنات بولاق) اهـ نعم في منطق " لويس عوض " وأمثاله لا تتعارض كلمة " سبايا " مع كلمة " متحررات " لأن الحرية التي هي مسار الجدل هنا هي " الحرية الشهوانية " بمعناها السوقي المبتذل ومن ثم يمكن أن تكون المرأة جارية سبية وفي نفس الوقت " متحررة " بل وطليعة ثورة تحررية لأنها تتبرج في ثيابها وتخرج سافرة الوجه متأبطة ذراع " محررها " و " مالكها " في نفس الوقت ومن ثم يمكن أيضاً - في منطق الرجل - الفصل بين (حرية المرأة المملوكة) وبين (حرية الوطن الأسير) .   (157) " تاريخ الفكر " لويس عوض (ج 1) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 إن ظاهرة " الاحتلال " ظاهرة عامة في المستعمرات ولا علاقة لها بمركز المرأة إذ إنها ظاهرة تنشأ عند قشرة المجتمع عند نقطة احتكاكه بالمحتل الأجنبي وهي حينئذ لن تتحول إلى ثورة نسائية ولا إلى حركة تحرير المرأة لأن المرأة لا تتحرر على يد جيش احتلال يهتك الأعراض ويدنس الحرمات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 الاستعمار الأوربي حملة صليبية جديدة (ولا يزالون يقاتلوكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) سورة البقرة آية (217) كان الجندي الإيطالي يرتدي لباس الحرب قادماً لاستعمار بلاد الإسلام وهو ينشد بأعلى صوته: (يا أماه ... أتمي صلاتك .... ولا تبكي بل اضحكي وتأملي ... ألا تعلمين أن إيطاليا تدعوني وأنا ذاهب إلى طرابلس فرحاً مسروراً ... لأبذل دمي في سبيل سحق الأمة الملعونة ... (*) ولأحارب الديانة الإسلامية ... سأقاتل بكل قوتي لمحو القرآن ... ) (158) . (والمتتبع لتاريخ العلاقات ما بين الغرب وشعوب الإسلام يلاحظ حقداً مريراً يملئ صدر الغرب حتى درجة الجنون يصاحب هذا الحقد خوف رهيب من الإسلام   (158) " قادة الغرب يقولون " نقلاً عن القومية والغزو الفكري " ص (208) وهذه الأنشودة المشهورة تسمى " أغنية الفاشيست " كانت جيوش الطليان الجرارة تترنم بها وهي تسير مدججة بالسلاح في طرقات طرابلس وبرقة بصوت واحد (انظر: الاتجاهات الوطنية 2 / 157) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 إلى أبعد نقطة في النفسية الأوربية. هذا الحقد وذلك الخوف لا شأن لنا بهما إذا كانا مجرد إحساس نفسي شخصي أما إذا كانا من أهم العوامل التي تبلور مواقف الحضارة الغربية من الشعوب الإسلامية سياسياً واقتصادياً وحتى هذه الساعة فإن موقفنا يتغير بشكل حاسم. سوف تشهد لنا أقوال قادتهم أن للغرب والحضارة الغربية بكل فروعها القومية وألوانها السياسية موقفاً تجاه الإسلام لا يتغير إنها تحاول تدمير الإسلام وإنهاء وجود شعوبه دون رحمة. (*) بل هي - ولله الحمد - أمة مرحومة كما قال نبيها نبي الرحمة: " أمتي أمة مرحومة " الحديث في الصحيحة رقم (959) . حاولوا تدمير الإسلام في الحروب الصليبية (159) ففشلت جيوشهم التي هاجمت بلاد الإسلام بالملايين فعادوا يخططون من جديد لينهضوا.. ثم ليعودوا إليهم بجيوش جديدة وفكر جديد وهدفهم تدمير الإسلام من جديد) (160) . ومهما حاولت هذه الحملات الاستتار تحت راية " نشر الحضارة والتقدم " في البلاد المستعمرة فإن الحقيقة التي لا تخفى على كل ذي لب أن الغرب بنى ولا يزال يبني علاقاته معنا على أساس أن الحروب الصليبية بيننا وبينهم لا تزال مستمرة وهاكم البراهين على ذلك: فسياسة أمريكا معنا تخطط على هذا الأساس: قال " أيوجين روستو " رئيس قسم التخطيط في وزارة الخارجية الأمريكية ومساعد وزير الخارجية الأمريكية ومستشار الرئيس " جونسون " لشئون الشرق الأوسط حتى عام 1967: (يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست   (159) (ويوم دخلوا بيت المقدس ذبحوا فيه سبعين ألفاً من المسلمين حتى غاصت الخيل إلى صدورها في دماء المسلمين) اهـ من (حاضر العالم الإسلامي) لستودارد ص (208) . (160) (قادة الغرب يقولون) للأستاذ جلال العالم ص (6 - 7) طبعة المختار الإسلامي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 خلافات بين دول أو شعوب بل هي خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية لقد كان الصراع محتدماً ما بين المسيحية والإسلام منذ القرون الوسطى وهو مستمر حتى هذه اللحظة بصور مختلفة ومنذ قرن ونصف خضع الإسلام لسيطرة الغرب وخضع التراث الإسلامي للتراث المسيحي. إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا أنما هي جزء مكمل للعالم الغربي فلسفته وعقيدته ونظامه وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقي الإسلامي بفلسفته وعقيدته المتمثلة بالدين الإسلامي ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام وإلى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها) (161) اهـ وبالأمس (وقف مندوب أمريكا في هيئة الأمم قائلاً: إن الصراع الحقيقي في الشرق ليس بين العرب واليهود إنما الصراع الحقيقي هو ما بين حضارة الإسلام وحضارة الغرب فإذا استطعنا أن نزيح حضارة الإسلام عن ميدان الصراع هان علينا تصفية القضية وسهل علينا الجمع ما بين العرب واليهود) (162) . والحرب الصليبية الثامنة قادها " أللنبي ": قال " باترسون سمث " في كتابه " حياة المسيح الشعبية ": (باءت الحروب الصليبية بالفشل لكن حادثاً خطيراً وقع بعد ذلك حينما بعثت إنكلترا بحملتها الصليبية الثامنة ففازت هذه المرة إن حملة " أللنبي " على القدس أثناء الحرب العالمية الأولى هي الحملة الصليبية الثامنة والأخيرة) (163) .   (161) المصدر السابق ص (25 - 26) نقلاً عن (معركة المصير) ص (87 - 94) . (162) " محاضرات الجامعة الإسلامية " موسم عام (1395 - 1396 هـ) هامش (124) . (163) عن مجلة الطليعة القاهرية - مقال وليم سليمان عدد ديسمبر 1966 - ص (84) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 ولذلك نشرت الصحف البريطانية صور أللنبي تحتها عبارته المشهورة التي قالها عندما فتح القدس: (اليوم انتهت الحروب الصليبية) ونشرت هذه الصحف خبراً آخر يبين أن هذا الموقف ليس موقف "أللنبي" وحده بل هو موقف السياسة الإنكليزية كلها قالت الصحف: (هنأ " لويد جورج " وزير الخارجية البريطاني الجنرال " أللنبي " في البرلمان البريطاني لإحرازه النصر في آخر حملة من الحروب الصليبية التي سماها " لويد جورج ": (الحرب الصليبية الثامنة) وقال " ألان مورهيد " مؤلف كتابي: (النيل الأبيض) و (النيل الأزرق) : (إن احتلال الإنكليز لمصر سنة 1881 كانت لمواجهة مؤامرة إسلامية خطيرة وتيار محمدي متعصب) (164) . والفرنسيون أيضاً صليبيون: فالجنرال " غورو " عندما تغلب على جيش " ميسلون " خارج دمشق توجه فوراً إلى قبر صلاح الدين الأيوبي عند الجامع الأموي وركله بقدمه قائلاً: (ها قد عدنا يا صلاح الدين) (165) وقد صرح القائد الفرنسي " بيبر كيلر " (166) : (إن مصالح فرنسا في الشرق الأوسط هي قبل كل شيء مصالح روحية وتعود هذه العلاقات إلى عهد الصليبيين حيث وقعت معاهدات لحفظ الأماكن المقدسة وجددت هذه المعاهدات على مر القرون وتحملت فيها فرنسا مهمة حماية نصارى الشرق) اهـ ويؤكد صليبية الفرنسيين ما قاله " بيدو " وزير خارجية فرنسا عندما زاره بعض   (164) " محاضرات الجامعة الإسلامية " عام (1395 - 1396 هـ) ص (31) . (165) " قادة الغرب يقولون " نقلاً عن (القومية والغزو الفكري) ص (84) . (166) ص (119) عن (الاتجاهات الوطنية) (2 / 20) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 البرلمانيين الفرنسيين وطلبوا منه وضع حد للمعركة الدائرة في " مراكش " فأجابهم: (إنها معركة بين الهلال والصليب) (167) وفي ذكرى مرور مائة سنة على استعمار الجزائر قال الحاكم الفرنسي في الجزائر: (إننا لن ننتصر على الجزائريين ما داموا يقرؤون القرآن ويتكلمون العربية فيجب أن نزيل القرآن العربي من جودهم ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم) (168) . وهذا هو الكاتب الفرنسي " فرنسيس جانسون " يعترف بـ (أن الاحتلال الفرنسي للجزائر كان منذ البدء يحمل طابع الحروب الصليبية: " التبشير والاستعمار") (169) . وبعد سقوط القدس عام (1967) قال " راندولف تشرشل ": (لقد كان إخراج القدس من سيطرة الإسلام حلم المسيحيين واليهود على السواء إن سرور المسيحيين لا يقل عن سرور اليهود إن القدس قد خرجت من أيدي المسلمين وقد أصدر الكنيست اليهودي ثلاثة قرارات بضمها إلى القدس اليهودية ولن تعود إلى المسلمين في أية مفاوضات مقبلة ما بين المسلمين واليهود) (170) وعندما دخلت قوات إسرائيل القدس عام 1967م تجمهر الجنود حول حائط المبكى وأخذوا يهتفون مع " موشى ديان ": {هذا يوم بيوم خيبر ... يا لثارات خيبر} وخرج أعوان إسرائيل بمظاهرات قبل حرب 1967 تحمل لافتات في باريس   (167) " قادة الغرب يقولون " ص (28) نقلاً عن (القومية والغزو الفكري) ص (84) . (168) السابق ص (33) نقلاً عن (المنار) عدد (9 / 11 / 1962 م) . (169) " محاضرات الجامعة الإسلامية " (1395 - 1396 هـ) ص (131) . (170) " قادة الغرب يقولون " عن (حرب الأيام الستة) لراندولف تشرشل ص (139) من الترجمة العربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 سار تحت هذه اللافتات اليهودي الوجودي " جان بول سارتر " وقد كتب عليها وعلى جميع صناديق التبرعات لإسرائيل جملة واحدة من كلمتين هما: (قاتلوا المسلمين) فالتهب الحماس الصليبي الغربي وتبرع الفرنسيون بألف مليون فرنك خلال أربعة أيام فقط كما طبعت إسرائيل بطاقات معايدة كتبت عليها: " هزيمة الهلال " بيعت بالملايين لتقوية الصهاينة الذين يواصلون رسالة الصليبية الأوربية في المنطقة وهي: (محاربة الإسلام وتدمير المسلمين) (171) . وهذا " لورنس براون " يقول: (إن الإسلام هو الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي) (172) . وهذا " جلاد ستون " رئيس وزراء إنكلترا (173) وقد وقف في أواخر القرن الماضي في مجلس العموم البريطاني وقد أمسك بيمينه القرآن المجيد وصاح في أعضاء البرلمان قائلاً: (إن العقبة الكئود أمام استقرارنا بمستعمراتنا في بلاد المسلمين هي شيئان ولابد من القضاء عليهما مهما كلفنا الأمر: أولهما هذا الكتاب وسكت قليلاً بينما أشار بيده اليسرى نحو الشرق وقال: (وهذه الكعبة) (174) وقال أيضاً: (ما دام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوربا السيطرة على الشرق ولا أن تكون هي نفسها في أمان) (175) .   (171) السابق ص (30 - 31) عن (طريق المسلمين إلى الثورة الصناعية ص 20 - 21) . (172) (التبشير والاستعمار) ص (184) طبعة المكتبة العصرية بيروت 1957 م. (173) كان (مصطفى كامل) قد راسل غلادستون هذا من باريس يسأله رأيه في مسألة مصر والاحتلال فأجابه (غلادستون) جواباً جاء في جملته: (إننا يجب أن نترك مصر بعد أن نتم فيها بكل شرف - وفي فائدة مصر نفسها - العمل الذي من أجله دخلناها) انتهى من (بناة النهضة العربية) ص (58) . (174) (الحركات النسائية في الشرق) ص (7) . (175) (الإسلام على مفترق الطرق) ص (39) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وهو القائل أيضاً: (لن تستقيم حالة الشرق ما لم يرفع الحجاب عن وجه المرأة ويغطى به القرآن) (176) . وهذا " كرومر" يقول: {جئت لأمحو ثلاثاً: القرآن والكعبة والأزهر} (177) وهذا القسيس " زويمر " يبشر المؤتمرين في " مؤتمر القاهرة التبشيري" (1906م) الذي ناقش خطة تنصير العالم الإسلامي ويوصيهم بجملة وصايا كان آخرها: (أن لا يقنطوا إذ من المحقق أن المسلمين قد نما في قلوبهم الميل الشديد إلى علوم الأوربيين وإلى تحرير نسائهم) (178) وهذا " جان بول رو" يقول في كتابه " الإسلام في الغرب " (179) : (إن التأثير الغربي الذي يظهر في كل المجالات ويقلب رأس على عقب المجتمع الإسلامي لا يبدو في جلاء أفضل مما يبدو في تحرير المرأة) اهـ وفي تصريح لـ " بن غوريون " في الكنيست قال: (اصبروا فلن يكون هناك سلام لإسرائيل ما دام العرب تحت قيادة الرجعيين إن الشرط الأساسي للسلام هو أن يقوم في البلدان العربية حكومات ديموقراطية تقدمية متحررة من " التقاليد " الإسلامية) (180) . وبالأمس القريب نشرت مجلة (الأمة) أن رئيس أمريكا (ريجان) وجه إليه أحد الصحافيين سؤالاً نصه: (متى تنتهي مهزلة ما يحدث في بيروت والدماء تنزف؟)   (176) (المرأة ومكانتها) للحصين ص (12) (177) " الخنجر المسموم " لأنور الجندي ص (29) . (178) " أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي " للدكتور علي جريشة ومحمد شريف الزيبق ص (34) . (179) انظر ص (178 - 189) والكتاب ترجمة: نجدة هاجر وزميله طبع في مصر 1960 م. (180) " محاضرات الجامعة الإسلامية " ص (131) عام (1395 - 1396 هـ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 فأجاب رئيس أمريكا في غرور واضح: (إننا لا نزال صليبيين! ولابد من إنهاء المناوشات بين المسلمين واليهود وحماية أتباع المسيح في لبنان من المسلمين الغرباء) (181) . (بل هذه قلعة " الشقيف " القائمة على تل في جنوب لبنان ويسميها الأوربيون قلعة " بوفور" نسبة إلى القائد الذي أقامها أيام الحروب الصليبية منذ قرون وقد كانت محل قصف دائم من إسرائيل طيلة سنوات وفي اكتساحها للجنوب لم تتمكن من إخراج المقاومة منها إلا بعد أن دمرتها تماماً واستدعى يومها الجنرال " إيتان " قائد الجيش الإسرائيلي " مناحم بيجن " إلى أطلال القلعة ليقدم له القلعة هدية وجاء بيجن ليرفع عليها العلم الإسرائيلي قائلاً: (ها قد عدنا) ناسياً بذلك غزوه إلى الغزوات الأوربية التي أقامت ممالكها في تلك المنطقة قروناً قبل أن يستردها العرب ومستخدماً عبارة الجنرال " غورو" القائد الفرنسي حين احتل دمشق سنة 1920، ووقف أمام قبر " صلاح الدين الأيوبي" وقال: (ها قد عدنا يا صلاح الدين)) (182) . ومن هنا: لم يكن عفواً أن يبدأ المبشرون الصليبيون بمصر قلعة الإسلام الصامدة ومركز ثقله وموطن الأزهر. ولم يكن عفواً أن يكون قادة الغزو الصليبي الجديد لمصر من القساوسة المعروفين بكيدهم للإسلام والمسلمين أمثال " دنلوب " كاهن السياسة التعليمية الفاسدة التي زرعها في مصر لقطع صلة الأجيال بالإسلام و " كرومر " الحاكم البريطاني الذي أذل   (181) " الأمة " العدد (31) السنة الثالثة. (182) (يوميات) الأهرام (12 / 8 / 1982 م) ص (18) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 المصريين لمدة ربع قرن من الزمان والذي حرص على صياغة جيل من المثقفين ثقافة أوربية يقبل التعاون مع الاستعمار ويخلفه في حمل راية التفرنج بعد رحيل جيوشه حتى يضمن قهر الإسلام ويأمن بعث المسلمين من جديد بعد رحيله، وكلا الرجلين " دنلوب" و " كرومر " قد تخرجا من أكبر المدارس اللاهوتية في أوربا ولم يكن من المستغرب أيضاً أن ينشط لدعوة الحرية عامة وتحرير المرأة خاصة النصارى والشاميون المقيمون في مصر (183) ، فهؤلاء كانوا يعملون لنصرة أبناء دينهم أمثال " كرومر وزويمر ودنلوب وغورو واللنبي "، (وتصورهم الديني غارق في التثليث والعشاء الرباني وصكوك الغفران ... لكن من المؤسف أن يصير في هذا الخط المدمر أناس من أبناء المسلمين أضلهم الشيطان على علم وعميت أبصارهم عن الحقيقة فكانوا خداماً لأسيادهم وأولياء نعمتهم من الفرنج) (184) . وكعناصر أي معركة: كانت (القيادة) صليبية و (القاعدة) أرض وطننا المسلم مصر و (الأسلحة) بسطاء المسلمين ومستضعفيهم و (العملاء) الهواة منهم والمحترفون الحكام والقادة الفكريون يمارسون بأيديهم إبادة مقومات القوة في أمتنا ليسهلوا على العدو الخبيث المتربص التهامها.. وما أفظعها من مهمة يمارسها العملاء حين يدمرون أممهم ثم يدفعونها في فم الغول الاستعماري البشع ليلتهمها.. لقمة سائغة!   (183) أمثال: مرقص فهمي وميخائيل عبد السيد وجرجي زيدان ولويس عوض وسلامة موسى وفرح أنطون وشبلي الشميل وقسطنطين رزق وميشيل عفلق وجورج حبش وأنطون سعادة وشاعر المجون والعربدة نزار قباني وغيرهم انظر (المرأة بين دعاة الإسلام وأدعياء التحرر) للدكتور " عمر الأشقر " ص (14) و (المرأة ومكانتها) للحصين ص (208) ، و (الاتجاهات الوطنية) (1 / 203) وما بعدها. (184) (المرأة ومكانتها في الإسلام) للحصين ص (219) بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 لقد استطاع أعداء الإسلام في تلك الحقبة أن يغرسوا في نفوس الكثير من المنهزمين أنهم ما أتوا إلا لتعمير بلادنا ونشر الحضارة والثقافة وجهل هؤلاء المنهزمون أن هؤلاء الأعداء الموتورين قد توارثوا الأحقاد على الإسلام وأنهم لا يألون جهداً حتى يردونا عن ديننا إن استطاعوا. كأن أنسالهم من بعدهم حلفوا أن يبعثوا الحقد نيراناً وينتقموا هذي حضارتهم والشر يملؤها ماتت على صرحها الأخلاق والشيم والآن.. وبعد أن انكشفت لنا الحقائق جلية عن نوايا أعدائنا بنا وخططهم لتدميرنا وعن حقيقة هؤلاء الذين قامت على أكتافهم دعوة " تحرير المرأة " وسنكشف فيما بعد إن شاء الله عن حقيقة هؤلاء اللاتي طفن بأوربا وحججن إلى حضارتها وشددن الرحال إلى مؤتمراتها و " مؤامراتها " ثم عدن نائبات عن (أسيادهن) في مهمة (تدمير المرأة المسلمة) وبذلن كل فروض الطاعة والولاء الصريح لأعداء الإسلام وبخلن في الوقت نفسه بإظهار أي صورة من صور الولاء الحقيقي لله ولرسوله وللمؤمنين وجهر بعضهن بعد ذلك بالطعن في الدين والتبري مكن شريعة سيد المرسلين " أفلا يحق لنا بعد هذا كله أن نتساءل: (ما سر العلاقة الودية الوثيقة التي تربط بين دعاة تحرير المرأة وبين القوى الاستعمارية والمعادية للإسلام وعلمائه ودعاته وأهله في كل مكان من العالم حولنا؟ إنه بالرغم من افتراض حسن النية أو الجهل عند من كان يظهر الإسلام من دعاة تحرير المرأة لكن هذا الافتراض لم يمنع بعض المحللين والباحثين حق الاجتهاد والبحث عن علاقة ما محتملة سرية أو علنية بين مخططات البهائية والصهيونية والماسونية ومسيرتها السرطانية الدؤوبة التي لا نشعر بها إلا بعد ظهور الأورام وتفشي الموت في الدم واللحم والعظم - وبين قيادات ودعاة السفور على مساحة ديار المسلمين الواسعة و " من أوقع نفسه في مواقع التهمة فلا يلومن من أساء الظن به ") الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 فلنستصحب هذه المعاني ونحن نجول بين أعلام نسائية بارزة كان لها دور ما في معركة " الحجاب والسفور " ولنتأمل جيداً دورهن " كتلميذات للاستعمار " ما منهن واحدة إلا ورحلت إلى " هناك " لتلقن أصول الدعوة المدمرة ثم عادت إلى " هنا " لنتبوأ مراكز التوجيه ... متجردة من الولاء للإسلام والاعتزاز بأحكامه ومخلصة في عبادتها لأوربا بل فخورة باستعباد أوربا لها رافضة بلسان حاله وسلوكها ولحن قولها أن تجعل الإسلام منظار على عينيها ترى الأشياء من خلاله وتحكمه فيما هي عليه من عقيدة ومنهاج. - - - - - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 خريجات البيوت العميلة في موكب الرذيلة ارتبطت الأحزاب النسائية في الشرق على اختلاف أسمائها بعجلة الاستعمار منذ أول يوم من نشأتها وقامت بتزعم هذه الأحزاب نسوة لا نستطيع تفسير نشاطهن ضد الآداب والأحكام الإسلامية إلا بإلقاء بعض الضوء حسبما تسمح هذه العجالة على الخلفيات والبيئات التي نشأن فيها وبالتالي خرجت منهن زعيمات مقلدات للغرب بل ومنفذات لخططه في تدمير الأسرة المسلمة وانخدع بهن كثير من المسلمات وانقدن وراء دعوتهن أعمى يقود بصيراً لا أبالكم قد ضل من كانت العميان تهديه 1- " صفية زغلول " (185) زوجة " الزعيم " " سعد زغلول " وابنة " مصطفى فهمي " رئيس الوزراء التركي الأصل الذي كانت سياسته تمثل الخضوع التام للاحتلال الإنكليزي وهو " أشهر صديق للإنكليز " عرفته مصر في تاريخ الاحتلال الإنكليزي من أوله إلى آخره (186) ، " ولم يكن من أنصار الاحتلال فحسب بل كان من المخلصين له العاملين على تحقيق مآربه مما دفع الخديوي " عباس " إلى إقصائه عن رئاسة الوزارة   (185) هي بنت (مصطفى فهمي) وقد تسمت باسم زوجها " سعد زغلول " تشبهاً بالإفرنج في نسبة المرأة إلى زوجها ولقبت بأم المصريين. (186) (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر) (2 / 386) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 سنة (1893م) فحدثت أزمة مع كرومر انتهت بتأليف " الوزارة الطويلة " برئاسة"مصطفى فهمي" ثانية والتي حكمت مصر بالحديد والنار لمدة ثلاثة عشر عاماً خضوعاً للاحتلال الإنكليزي " (187) ، (وقد حرصت أن تستأثر بالزعامة السياسية فأرادت أن تفتح مجالاً جديداً تنفرد فيه بالزعامة فكان ذلك هو مجال المرأة خاصة) (188) وقد ذكرنا آنفاً دورها في سن فتنة السفور إلى جانب أنها تزعمت مع " هدى شعراوي " أول مظاهرة نسائية سنة (1919 م) . 2- " هدى شعراوي " (ت 1947 م) : (هي نور الهدى بنت محمد سلطان باشا - التي تسمت فيما بعد على الطريقة الأوربية بهدى شعراوي إلحاقاً لها باسم زوجها " على باشا شعراوي " بواسطة حرم حسين باشا رشدي الفرنسية وقد اعترفت هدى شعراوي بنفسها في مواضع كثيرة من مذكراتها بفضل هذه السيدة عليها (189) وأبوها " محمد سلطان باشا " (190) الذي كان يرافق جيش الاحتلال الإنكليزي في زحفه على العاصمة والذي كان يدعو الأمة إلى استقباله وعدم مقاومته ويهيب بها علانية أن تقدم له كافة المعاونات والمساعدات وقد سجل التاريخ فوق هذه الصفحة السوداء صفحة أخرى أشد سواداً حينما تقدم هذا الخائن مع فريق من الكبراء بهدية من الأسلحة الفاخرة إلى   (187) (مصطفى كامل) للرافعي ص (416) . (188) (رجال اختلف فيهم الرأي) ص (34) . (189) " المؤامرة على المرأة المسلمة " ص (23) . (190) انظر تفاصيل خيانته للثورة العرابية في كتاب (محمد سلطان أمام التاريخ) للدكتور عبد العزيز رفاعي و (الأستاذ الإمام محمد عبده) لرشيد رضا (1 / 258 - 259) ، و (رجال اختلف فيهم الرأي) لأنور الجندي (31 - 33) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 قادة جيش الاحتلال شكراً لهم على " إنقاذ البلاد ".. وهكذا لم يكن عجباً أن يفرض الاحتلال على الخديوي أن يمنح أمثال هذا الخائن عشرة آلاف من الجنيهات الذهبية اعترافاً من بريطانيا له بالجميل.. ليس هذا فحسب بل لقد أنعمت عليه انجلترا بنيشان " سان ميشيل " و " سان جورج " الذي يلقب حامله بلقب " سير " (191) وهي زوجة " علي شعراوي " باشا ابن عمتها وتلميذ محمد عبده (*) ورفيق سعد زغلول وعبد العزيز فهمي أصدقاء الإنكليز والصديق الوفي للطفي السيد وأحد أعضاء " حزب الأمة " الذين أطلق عليهم " الإنكليز " اسم " الرجال المعتدلون " لأنهم حاربوا في سبيل بريطانيا " مصطفى كامل " وناوأوه ووصفوه بالرجل العنيف وقد كان هذا الحزب المشبوه ينكر الجامعة الإسلامية ويحاربها داعياً إلى وطنية تقوم على المصلحة المتبادلة والمنفعة المادية لا على الإسلام وهو الحزب الذي عرف فيما بعد باسم (حزب الوفد) (192) والذي كان (علي شعراوي) نفسه وكيلاً له (193) . وهي أيضاً رفيقة " صفية زغلول " ابنة " مصطفى فهمي " تلقفتها جماعات تحرير المرأة في روما وأمستردام ومرسيليا واستانبول وباريس وبرلين وبروكسل وبودابست وكوبنهاجن وجنيف وحيدر أباد ونيو دلهي لتقود حركة " تحطيم المرأة المسلمة " في مصر. وهي أيضاً تلميذة وفية لزوجة " حسين رشدي " باشا الفرنسية التي كانت " هدى " تكبرها وتفيض في ذكر مبررات إعجابها بها واتخاذها مثلها الأعلى   (191) (الحكات النسائية في الشرق) للأستاذ " محمد فهمي عبد الوهاب " ص (23 - 24) . (*) " المؤامرة على المرأة المسلمة " ص (64) . (192) (الاتجاهات الوطنية) (2/ 135) ، و " حواء " العدد (1231) (26 / 4 / 1980 م) . (193) (حواء) (1227) تاريخ (29 / 3 / 1980 م) ص (19) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 فقالت: (لم تكن تعني بظروفي وحالتي واسمي فقط وإنما كانت أيضاً تجتهد في تثقيفي في اللغة الفرنسية وكانت ترشدني إلى أثمن الكتب وأنفعها وكانت تناقشني فيما قرأت وتفسر لي ما يصعب عليّ فهمه وكانت تغذي عقلي وروحي بكل أنواع الجمال والكمال وتحتم عليّ حضور صالونها كل يوم سبت وتقول لي: أنت زهرة صالوني) (194) . وكانت هذه المرأة الفرنسية الأصل التي أعدت "هدى شعراوي" إعداداً خاصاً لمهمتها قد ألفت كتابين الأول بعنوان " حريم ومسلمات مصر " وكتاب " المطلقات " تعبر فيهما - على حد قولها - عن مدى الألم والتعاسة التي تعانيها من " أجل تعاسة المصرية وظلم الرجل لها " (195) . وكانت على صلة وثيقة بحركة تحرير المرأة المصرية كما كانت موضع إعجاب النابهين في مصر من رواد هذه الحركة وعلى رأسهم الشيخ محمد عبده وسعد زغلول وقاسم أمين الذي كانت تعجب به كثيراً وتأسف لعدم تقدير المصريين له التقدير اللائق برسالته " وكانت كثيراً ما تقص على صفيتها هدى شعراوي ما كان يدور بينها وبين هؤلاء الثلاثة الكبار من حديث " (196) تشعل به كيانها وتدفعها إلى التطلع إلى تحسين أحوال المرأة المصرية والسير بحركتها إلى الأمام. وكانت كثيراً ما تحدث هدى شعراوي " حول البحث عن الطريقة العملية المجدية للوصول إلى تحسين حال المرأة المصرية والترفيه عنها وكانت توجهها إلى أن تبدأ مشروعها بتوجيه المرأة المصرية إلى ممارسة الرياضة البدنية أولاً قبل تنبيهها إلى خوض الحياة الاجتماعية وترغيبها في دراسة الفنون والآداب وعقد اجتماعات تجمع بين   (194) (مذكرات هدى شعراوي) ص (96) - كتاب الهلال سبتمبر / 1981. (195) السابق ص (99) . (196) السابق ص (102) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 الرياضة الفكرية والرياضة البدنية وكذا إعداد ملعب " للتنس " في حديقة مصطفى رياض باشا) (197) . قالت (وداد السكاكيني) في ترجمة " هدى شعراوي ": (.. وقد توقد فيها الذكاء والإباء فتأبت على هذه التقاليد التي كانت تضطر نظائرها من بنات الصعيد إلى التزام الحجاب (198) والبعد عن السياسة ولو كانت تدار من بيوتهن) (199) . وقالت: (لما عادت هدى شعراوي للمرة الأولى من الغرب كانت تفكر في هذه التقاليد الموروثة التي لا تسمح لها بالظهور سافرة في بلادها فثارت عليها وما كادت تطل على الإسكندرية (200) حتى ألقت الحجاب جانباً ودخلت مصر مع صديقتها (سيزا نبراوي) بدون نقاب (201) فلقيتا من جراء هذا السبق بالسفور لغطاً وتعنتاً من المتزمتين ولم يكن هذا الأمر من رائدة النهضة النسوية بدعاً أو خروجاً على الحشمة والوقار بل كان منها سلوكاً مثالياً في السفور السليم "؟ ! " واستنكاراً للانحراف والتبرج "! ! " اللذين ظهرت فيهما بعض السافرات المتطرفات) (202) اهـ.   (197) السابق ص (99) . (198) ومن هذه الوجهة كانت تصف زوجها بأنه كان يسلبها كل حق في الحياة وذكرت من أمثلة ذلك ما نصه : (ولا أستطيع تدخين سيجارة لتهدئة أعصابي حتى لا يتسلل دخانها إلى حيث يجلس الرجال فيعرفوا أنه دخان سيجارة السيدة حرمه إلى هذا الحد كانت التقاليد تحكم بالسجن على المرأة وكنت لا أحتمل مثل هذا العذاب ولا أطيقه) اهـ من (المرأة المصرية) ص (139) . (199) (نساء شهيرات من الشرق والغرب) ص (5) . (200) كانت في هذه الرحلة تستقل الباخرة التي يعود عليها سعد زغلول من فرنسا بعد استشفائه (المرأة المصرية) ص (136) . (201) وقد ذكرت (صافي ناز كاظم) أن (هدى شعراوي وسيزا نبراوي ألقتا حجابهما وداستاه بأقدامهما فور وصولهما من مؤتمر النساء الدولي الذي عقد بروما صيف 1923 م) اهـ من (مسألة السفور والحجاب) ص (9) ، وانظر (المرأة المصرية) لدرية شفيق ص (134 - 135) . (202) (نساء شهيرات من الشرق والغرب) لوداد السكاكيني ص (5، 6) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 تقول " درية شفيق ": وقد شجعت (هدى) عدداً من الفتيات على السفر إلى أوربة (كي تعود الطالبات حاملات إلى الوطن عناصر الثقافية الغربية ومثلها العليا في الحياة الاجتماعية) (203) . (كانت " هدى " لا تزال تفكر في النظرة التي تقابل بها المصرية كلما سافرت إلى أوربا إن القوم هناك يسخرون من ذلك الحجاب الذي يغطي وجوه المصريات حتى إنهم كانوا - إذ يرون هدى شعراوي وزميلاتها بلا يشامك ولا براقع - يشككون في مصريتهن وفي ذلك المؤتمر الأخير بالذات كانت مندوبات الدول المختلفة ينكرن على "هدى" مصريتها ولا يكدن يعترفن إلا بمصرية واحدة كانت تصر على حضور تلك المؤتمرات محجبة لا تكشف شيئاً من وجهها وهي السيدة " نبوية موسى ") (204) اهـ تقول " هدى شعراوي " في حديث لها: و ".. ورفعنا النقاب أن وسكيرتيرتي " سيزا نبراوي " وقرأنا الفاتحة ثم خطونا على سلم الباخرة مكشوفتي الوجه وتلفتنا لنرى تأثير الوجه الذي يبدو سافراً لأول مرة بين الجموع فلم نجد له تأثيراً أبداً لأن كل الناس كانوا متوجهين نحو " سعد " متشوقين إلى طلعته " (205) اهـ. وقد دفعت بعد ذلك مباشرة ثمن جرأتها ورأت تأثير الوجه السافر حينما واجهتها هي وزميلاتها كثير من التعليقات الساخرة كلما سرن في الطريق وعرضن أنفسهن حتى للعبارات النابية والصفات المؤذية (206) . وهذه " الزعيمة " هي التي قادت مع زوجة " الزعيم " سعد المظاهرة النسائية المشهورة سنة 1919 تقول في مذكراتها:   (203) " تطور النهضة النسائية في مصر " ص (15) . (204) (المرأة المصرية) لدرية شفيق ص (136) . (205) المصدر السابق ص (137) . (206) انظر المصدر السابق ص (138) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 (وبينما كنت أتأهب لمغادرة منزلي في ذلك اليوم للاشتراك في المظاهرة بادرني زوجي بالسؤال: إلى أين تذهبين والرصاص يدوي ويتساقط في أنحاء المدينة؟ فأجبت: للقيام بالمظاهرة التي قررتها اللجنة!! فأراد أن يمنعني فقلت له: هل الوطنية مقصورة عليكم معشر الرجال فقط وليس للنساء نصيب فيها؟ فأجابني: هل يرضيك إذا تحرش بكن الإنجليز أن يفزع بعض النساء ويولولن " يا أمي ... يا لهوتي!! ". فقلت له إن النساء لسن أقل منكم شجاعة ولا غيرة قومية أيها الرجال وتركته وانصرفت لألحق بالسيدات اللاتي كن في انتظاري ... ) (207) . في ذمة الفضلى هدى جيل إلى هاد فقير أقبلن يسألن الحضارة ما يفيد وما يضير ما السبل بينه ولا كل الهداة بها بصير (208) وتقول وداد السكاكيني: (وكانت هدى اليد اليمنى لصفية زغلول والمفكرة المتحررة لنسوة الطليعة الواعية بمصر والبلاد العربية وقد استجابت لدعوة المؤتمرات النسوية في الشرق والغرب فلما عقد أول مؤتمر دولي للمرأة في روما عام 1923 م حضرته " هدى شعراوي " مع " نبوية موسى " و " سيزا نبراوي " صديقتها وأمينة سرها.. وقد توالت بعدئذ رحلات " هدى شعراوي " للشرق والغرب ممثلة نساء بلادها رافعة علمها بين أعلام   (207) (المرأة المصرية) لدرية شفيق ص (139) وانظر: (رجال اختلف فيهم الرأي) لأنور الجندي ص (34 - 35) . (208) (الشوقيات) (2 / 168) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 الدول الوافدات على المؤتمر) (209) اهـ. لقاء (هدى) و (موسوليني) : قالت (هدى) في (مذكراتها) : (كان من بين ما حققه مؤتمر روما الدولي أننا التقينا بالسنيور موسوليني ثلاث مرات وقد استقبلنا وصافح أعضاء المؤتمر واحدة واحدة وعندما جاء دوري وقدمت إليه كرئيسة وفد مصر عبر عن جميل عواطفه ومشاعره نحو مصر وقال إنه يراقب باهتمام حركات التحرير في مصر،.. ثم كررت رجائي الخاص بمنح المرأة الإيطالية حقوقها السياسية) (210) اهـ. ولما عادت هدى من مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي المذكور كونت الاتحاد النسائي المصري سنة 1923 ووضعت الحجر الأساسي له في إبريل 1942 م وبطبيعة الحال عمل ذلك الاتحاد بقيادتها لتحقيق الأهداف التي حرص الاستعمار على الوصول إليها وردد نفس المبادئ التي نادى بها من قبل (مرقص فهمي) ونقلها عنه (قاسم أمين) وفي مقدمتها تعديل قوانين الطلاق ومنع تعدد الزوجات علاوة على المطالبة للمرأة بالحقوق الاجتماعية والسياسية المزعومة التي وصلت أخيراً (211) إلى حد المطالبة   (209) (نساء شهيرات) ص (5) . (210) (حواء) العدد (1223) تاريخ (10 مايو 1980) . (211) {ومن الجدير بالذكر أن سلامة موسى النصراني كان قد خطب في جمعية (الشبان المسيحية) وتحدث في أمر لا يخصه وهو التعرض للمرأة المسلمة وحجابها وسفورها وما عينه لها القرآن من نصيب في الميراث وبعد هذه المحاضرة حاول - زيادة منه في الكفر - أن يحرض هدى شعراوي على مطالبة الحكومة المصرية بسن قانون يساوي بين الرجل والمرأة في الميراث وذلك ضمن رسالة شخصية بعث بها إليها لكنها أنكرت عليه ذلك وردت عليه في مقال بجريدة الأهرام} انظر (المرأة بين الفقه والقانون) للسباعي رحمه الله ص (219 - 220) (حواء) العدد (1252) تاريخ (20 سبتمبر 1980) ص (34 - 36) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 بالمساواة في الميراث) (212) . وقفة مع الاتحاد النسائي: وقد اهتمت الدوائر الأجنبية بأمر ذلك الاتحاد النسائي عند قيامه حتى أن الدكتورة (ريد) رئيسة الاتحاد النسائي الدولي حضرت بنفسها إلى مصر لتدرس عن كثب تطور الحركة النسائية ولتناصر الحركة بنفوذها في المحيط الأوربي وبتصريحاتها التي ترمي إلى المساعدة بإعطاء المرأة المصرية الحقوق السياسية المزعومة. وبعد عشرين عاماً من تكوين هذا الاتحاد استطاع بالنفوذ الأجنبي وأذناب الاستعمار أن يمهد لعقد ما سمي بالمؤتمر النسائي العربي سنة 1944 م وقد حضرت مندوبات عن الأقطار العربية المختلفة (213) واتخذت فيه القرارات "المعتادة " وفي مقدمتها بالطبع: - المطالبة بالمساواة في الحقوق السياسية مع الرجل وعلى الأخص الانتخاب. - تقييد حق الطلاق. - الحد من سلطة الولي أياً كان وجعلها مماثلة لسلطة الوصي. - تقييد تعدد الزوجات إلا بإذن من القضاء في حالة العقم أو المرض غير القابل للشفاء - الجمع بين الجنسين في مرحلتي الطفولة والتعليم الابتدائي. ثم في نهاية القرارات: (اقتراح: تقديم طلب بواسطة رئيسة المؤتمر إلى المجمع   (212) (الحركات النسائية في الشرق) ص (24) . (213) ولقد احتج علماء سوريا رسمياً على حكومتهم على تمثيل بعض النساء السوريات في ذلك المؤتمر كما أصدر الملك عبد الله ملك شرق الأردن حينذاك منشوراً إلى رئيس وزرائه يلفت فيه نظره إلى حركة التمرد على الآداب والتقاليد الإسلامية ووجوب التزام المرأة بالحجاب الذي كرمها الله به. (المصدر السابق ص (25)) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 اللغوي في القاهرة والمجامع العلمية العربية بأن تحذف نون النسوة من اللغة العربية) (214) . (هدى شعراوي) .. والأديان: {وطالبت هدى شعراوي في المؤتمر الثاني عشر للاتحاد النسائي الدولي في مدينة استانبول (18 إبريل 1935 م) بإزالة الفوارق الجنسية والدينية بين الشعوب} (215) . وتجلى موقفها في هذه القضية من قبل حينما صورت في (مذكراتها) العلاقة بين ممثلي الأديان خلال ثورة 19 فقالت: (.. وكان أن تآخى الجميع وصاروا يجتمعون في الكنائس والمساجد والمعابد وهم شيع مختلفة وكان الشيخ يتأبط ذراع القسيس أو الحاخام أمام عدسات المصورين ليظهروا للملأ اتحاد الجميع على الثورة ضد الإنجليز) (216) .   (214) المصدر السابق ص (25) وانظر: (تطور النهضة النسائية في مصر) (145 - 147) . (215) (حواء) : العدد (1227) تاريخ (29 مارس 1980) ص (15) . (216) السابق ص (18) ومن الجدير بالذكر أن ثورة 19 قد استغلت تحت ستار مقاومة الاحتلال في الترويج في مفاسد خطيرة ما كانت لتجد إلى قلوب الناس سبيلاً لولا جو الثورة الذي يلهي الناس عن تدبر ما يراد بهم ومن أخطر هذه المفاسد الترويج لتحرير المرأة وتمييع قضية مولاة المؤمنين ومعاداة الكافرين تحت ستار الأخوة الوطنية بهدف محو معالم الإسلام من ضمير الأمة شيئاً فشيئاً كما نرى ذلك جلياً في النص المنقول أعلى ومن المواقف المماثلة لذلك ما حكاه الشيخ العلامة محمد بخيت رحمه الله قال: (لما قامت الحركة الوطنية عقب الحرب العظمى السابقة واتحد هؤلاء المارقون مع الأقباط ليطالبوا بالاستقلال كان مقر اجتماعهم وقطبهم الجامع الأزهر ومنه كانت تنظم المظاهرات فكان يعمر بالأقباط والقسس منهم يصعدون إلى المنبر خطباء مناوبة مع المصريين قال: وذات يوم كان المسمى " مصطفى القاياتي " وهو من المدرسين في الأزهر والقائل بأن سعداً أفضل من النبي (وأنه جاء بما لم يأتي به النبي) وأنه رسول الوطنية كان هذا الرجل حاضراً معهم فأخذ الصليب ووضعه في محراب الأزهر وقام - لعنه الله - خطيباً فدعا إلى اتحاد الإسلام والنصرانية القبطية ودعا الحاضرين إلى صلاة ركعتين جميعاً مع وضع الصليب في المحراب وكبر وصلى ركعتين والصليب أمامه يصلي له ولله معاً في زعمه لعنه الله تعالى) اهـ انتهى بنصه من " مطابقة الاختراعات العصرية " لأبي الفيض أحمد بن الصديق ص (84) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وفي الخطبة التي ألقتها (هدى) بمناسبة الاحتفال بالعيد العشرين للاتحاد النسائي قالت: (.. ومنذ ذلك اليوم - أي يوم قبلت عضوية مصر في الاتحاد النسائي الدولي - قطعنا على أنفسنا عهداً أن نحذو حذو أخواتنا الغربيات في النهوض بجنسنا مهما كلفنا ذلك وأن نساهم بأمانة وإخلاص في تنفيذ برامج الاتحاد النسائي الدولي الذي يشمل أغراضنا المشتركة. وهنا يطيب لي أن أذكر حادثاً كان له تأثيره عند افتتاح ذلك المؤتمر وهو إننا لما دخلنا قاعة الاجتماع قبل انعقاده ووجدنا أعلام الدول المشتركة ترفرف على جدرانها ولم نكن قد أخذنا الأهبة لذلك لعدم معرفتنا بهذا التقليد كلفنا طلاب البعثة المصرية بتحضير علم مصري يتعانق فيه الهلال والصليب فصنعوه وإذا به أكبر الأعلام الموجودة حجماً.. ولما رأت رئيسة المؤتمر الصليب يعانق الهلال تأثرت تأثراً عظيماً وأمرت بوضعه على يسار المنصة معادلاً لعلم الدولة المنعقد المؤتمر بأرضها فشغل بذلك محلاً ممتازاً وقدمتنا الرئيسة عند الافتتاح بعبارات ملؤها التأثر والتقدير وكانت أكبر عامل في إزالة الفكرة الخاطئة التي شابت حركتنا الوطنية بوصفها بالتعصب الديني) (217) . ' لقاء (هدى) و (أتاتورك) : عقد المؤتمر النسائي الدولي الثاني عشر في استانبول في 18 إبريل 1935 م وتكون من هدى شعراوي رئيسة وعضوية اثنتي عشر سيدة - وقد انتخب المؤتمر   (217) " تطور النهضة النسائية في مصر " ص (124) . ومما ينبغي أن يعلم أن (الهلال) علامة مهنية ترمز في عرف الناس إلى مهنة الطب، أما (الصليب) فعلامة اعتقا دية تشير إلى ما يعتقده النصارى الكفرة في شأن عيسى عليه السلام فالمسلم الذي يتخذ هذه العلامة على خطر عظيم لأن في إقرارها تكذيباً صريحاً للقرآن الذي جاء فيه قوله تعالى: (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) النساء (157) ولهذا لم يكن يترك في بيته شيئاً فيه تصاليب إلا نقضه والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 " هدى " نائبة لرئيسة الاتحاد النسائي الدولي تقول (هدى) في مذكراتها: (وبعد انتهاء مؤتمر استانبول وصلتنا دعوة لحضور الاحتفال الذي أقامه " مصطفى كمال أتاتورك " محرر تركيا الحديثة.. وفي الصالون المجاور لمكتبه وقفت المندوبات المدعوات على شكل نصف دائرة وبعد لحظات قليلة فتح الباب ودخل " أتاتورك " تحيطه هالة من الجلال والعظمة وسادنا شعور بالهيبة والإجلال، ... وعندما جاء دوري تحدثت إليه مباشرة من غير ترجمان وكان المنظر فريداً أن تقف سيدة شرقية مسلمة وكيلة عن الهيئة النسائية الدولية وتلقي كلمة باللغة التركية تعبر فيها عن إعجاب وشكر سيدات مصر بحركة التحرير التي قادها في تركيا (*) ، وقلت: إن هذا المثل الأعلى من تركيا الشقيقة الكبرى للبلاد الإسلامية شجع كل بلاد الشرق على محاولة التحرر والمطالبة بحقوق المرأة، وقلت: إذا كان الأتراك قد اعتبروك عن جدارة أباهم وأسموك " أتاتورك " فأنا أقول إن هذا لا يكفي بل أنت بالنسبة لنا "أتاشرق" فتأثر كثيراً بهذا الكلام الذي تفردت به ولم يصدر معناه عن أي رئيسة وفد وشكرني كثيراً في تأثر بالغ ثم رجوته في إهدائنا صورة لفخامته لنشرها في مجلة " الإجيبسيان ". وذكرت هدى في حديث لها مع جريدة المقطم بعد عودتها إلى مصر ما معناه: (إن ما أحدثه الغازي العظيم بلا ريب من نعمة الأقدار على أخواتنا في استانبول) (218) .   (*) انظر ص (193: 202) من هذا القسم. (218) (حواء) العدد (1256) (18 أكتوبر 1980 م) ص (16) وأفعال " أتاتورك " وجرائمه في حق الإسلام أكثر من أن تحصى فليت شعري ما الذي يدعو (هدى) إلى هذا الانبهار به سوى وحدة الهدف والخطة بين أعداء الإسلام في مصر وفي تركيا؟ ولعله من أجل هذا علق الأستاذ " محمد أمين هلال " في مقال له في مجلة " الإسلام " الغراء بتاريخ الجمعة 16 أغسطس 1935 م بقوله: ( ... ولعل السبب في دفاعه عن الكماليين إنه رأى وليات نعمته من بعض النسوة الأرستقراطيات المدعيات كذباً تمثيل نساء مصر ولم يجتمعن في الغالب إلا للغناء والرقص وإمتاع النظارة بضروب من المغريات ولم يحاولن أن يلمسن جوانب الإصلاح الحق الذي يستدعي هجر الراحة والتضحية فليس = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 3- " سيزا نبراوي ": تقول في مذكراتها: (وعندما عدت من الخارج حيث عشت حتى بلغت الثامنة عشرة من عمري كنت متحررة متحمسة ولهذا رفضت لبس البرقع وأصررت على لبس القبعة وبحكم الصداقة التي كانت بين والدتي وبين هدى شعراوي أخذت تهدئ من ثورتي وتقنعني بأن الظروف غير مواتية للحصول على حقوق المرأة مرة واحدة وأن المطالبة بها في هدوء يجنبنا ثورة الرجال الذين كانوا كل شيء في ذلك الوقت) (219) (ولما تقدم الفنان مصطفى نجيب للزواج منها قالت: إنها لا تستطيع أن ترتبط بحياة يكون من حق أحد طرفيها فقط أن يتخلى عن التزامه فيها بالطلاق في أي وقت يشاء فتزوجها على أن تكون العصمة في يدها ولم يدم الزواج أكثر من أربع سنوات) (220) (وفي أثناء مرور " غاندي " بمصر عائداً إلى الهند بعد حضوره مؤتمر المائدة المستديرة بلندن في ديسمبر 1931 م فكرت الهيئات في إرسال وفود عنها لتحيته والتعبير عن مشاعر المصريين نحوه وقد سافر (محمود فهمي النقراشي) مندوباً عن " الوفد "،.. والآنسة " سيزا نبراوي " مندوبة عن " الاتحاد النسائي " وقد طلبت منه سيزا أن يوجه كلمة للسيدات المصريات فكتب بالإنكليزية ما ترجمته بالعربية : " أرجو أن تلعب الأخت المصرية نفس الدور الذي تلعبه أخواتها الهنديات في حركة تحرير أراضيهم المحترمة لأني أعتقد أن عدم القسوة هو امتياز المرأة " (221) اهـ.   = لهن سبيل إلى المعرفة بها وإن عرفنها فلا يصبرن عليها قد ذهب وفدهن إلى إسلام بول مدعياً بهتاناً وزوراً أن نساء مصر راضيات بما اختطه الكماليون للمرأة التركية وبكل ما فعله الكماليون!! مع أن كل المسلمين ومعظم الشرقيين لا يرضون مذاهب الكماليين ومذهبهم حيال الدين والمرأة ويستعيذون بالله من الشيطان ويلعنون الطغيان) انتهى ص (44) . (219) (مجلة حواء) العدد 21 / 12 / 1957 م. (220) (الأخوات المسلمات) ص (258 - 259) . (221) (مجلة حواء) العدد 4 أكتوبر 1980 م رقم (1254) ص (16 - 17) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 4- درية شفيق.. المرأة الغامضة (222) (وبعد ظهر يوم 20 سبتمبر 1975 م عدت إلى بيتي بعد أن تناولت الغداء في أحد الفنادق وفي ردهة العمارة رأيت جمعاً من الناس يلتف حول ملاءة بيضاء وسألت: ماذا حدث؟ قالوا:إن سيدة ألقت بنفسها من شرفة الطابق السادس ورفعت الملاءة البيضاء ووجدت جثة جارتي درية شفيق) " مصطفى أمين " الأخبار 12 / 4 / 86. تلميذة وفية من تلميذات (لطفي السيد) رحلت وحدها - بمجرد تخرجها - إلى فرنسا لتحصل على الدكتوراة ثم تعود لتشكل حزب (بنت النيل) ثم ترحل إلى إنكلترا حيث تقابل بحفاوة بالغة قيل أنه لم ينل مثلها كثير من رؤساء الدول وزعمائها ورحبت بها الصحف البريطانية بدون استثناء ونشرت عنها الأحاديث العديدة التي تصورها بصورة الداعية الكبرى إلى تحرير المرأة المصرية من أغلال الإسلام وتقاليده.. أغلال الحجاب والطلاق وتعدد الزوجات، ومن هذه الأحاديث ما كتبه مراسل جريدة الـ (سكتشمان) يقول: (إن الأهداف المباشرة لحزب بنت النيل هي كما أوضحتها الدكتورة " درية شفيق ": منح المرأة حق الاقتراع   = ومن الجدير بالذكر أن (غاندي) هذا كان هندوسياً وثنياً كارهاً للإسلام ومتعصباً ضد المسلمين وكان يخفي وثنيته البغيضة وراء المغزل والشاة وهو الذي سرق الحركة الإسلامية من الزعماء المسلمين بالخيانة والتآمر مع الاستعمار الإنكليزي فسيقوا إلى السجن وسحب غاندي الحركة الوطنية من أيديهم واستعان ببريطانيا من أجل تحويل المسلمين في الهند إلى أقلية وقد كان للمسلمين قوة بلغت حداً جعل الحكومة التي صارت تقبض على ألف مسلم في الصباح تطلقهم في المساء بسبب أن السجون لم تعد تسع المعتقلين وخطب الـ (لورد) ريدنج الحاكم العام في كلكتا فقال: (إنني شديد الحيرة من جراء هذه الحركة ولست أدري ماذا أصنع فيها؟) فلا تغتر أيها المسلم بهذا الوثني الذي يحرص أعداء الإسلام على أن يرسموا له صورة مزخرفة تخفي جرائمه في حق الإسلام والمسلمين وتنبه لخطر " القومية النسائية " التي تجعل المسلمة الموحدة أختاً للهندية المشركة. انظر ص (123 - 124) من هذا الكتاب، و (رجال اختلف فيهم الرأي) ص (104 - 114) . (222) (الحركات النسائية في الشرق) ص (29) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وحق دخول البرلمان والمطمع الثاني الذي تهدف الدكتورة لتحقيقه هو إلغاء تعدد الزوجات وإدخال قوانين الطلاق الأوربية في مصر) اهـ. ولما عادت إلى مصر عظم نشاطها وتوفرت لها أسباب الحماية والحرية وتهيأت لها عوامل النشر والإذاعة حتى لقد حيل بين أهل الرأي ودعاة الدين وحماته وبين الرد على دعوتها التي وصفتها هي نفسها بأنها تريد للمرأة (حقاً في الحرية الحرة المطلقة من كل قيد) (223) . وبلغ التوتر مبلغه ونهض علماء الدين ودعاة الفضيلة والأخلاق على قلب رجل واحد يجابهون الاستعمار في شخص هذه المرأة أمام أعظم حصن من حصون الإسلام وهو الأسرة المسلمة ووقف الاستعمار بأمواله ونفوذه ... وانكشف بعض المستور حين قدمت إحدى عضوات مجلس إدارة الحزب استقالة مسببة ما لبثت أن قبلتها الرئيسة دون عرضها على مجلس الإدارة وكم كانت الدهشة كبيرة حين علم انه قد حيل بين كثير من الصحف وبين نشر سبب الاستقالة حتى فوجئ الشعب بأن السبب هو أن السفارة الإنكليزية والسفارة الأمريكية تمدان الحزب بألفين من الجنيهات سنوياً (224) عدا الورق المصقول وغيره فضلاً عن تقديم المشورة والتوجيه وقد أشادت " درية شفيق " بجهود " طه حسين " بك ومدرسته من أصدقائه وتلامذته في القضاء على ما أسمته " التقاليد السخيفة " حتى أخذ الناس بفضلها   (223) " تطور النهضة النسائية " ص (60) . (224) وكانت (درية) قد أنشأت معهداً نسائياً لتدعيم نشاطها في حركة " تحرير المرأة " وقد عددت في كتابها (تطور النهضة النسائية في مصر من عهد محمد على إلى عهد الفاروق) أفضال بعض الشخصيات (الكريمة) التي مولت عملية إنشاء هذه الدار قالت: (وهنا لا يمكنني أن أجحد فضل المرحوم (! !) المستر هربرمان الأمريكي الذي تبرع بمبلغ مائتي جنيه أرسلها من أمريكا مساعدة في تأسيس هذه الدار) ، وقالت: (كما أخذ المسيو بيانكي المقاول الكبير على عاتقه بناء هذه الدار بقدر ما يمكن من العناية والاقتصاد) اهـ ص (131) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 يتسابقون في تحرير بناتهم ثم تقول: (وكان من نتيجة هذه الجهود مجتمعة أن تيسر تحقيق حلم الخديوي إسماعيل القديم وهو اعتبار مصر جزءاً من أوربا) (225) وهي تعتبر أن الخديوي إسماعيل كان (ضرورة) لمصر ليطفر بها من الخمول واليأس إلى النضوج والاستواء وتقيم أدلتها الدامغة (!) على ذلك فتقول: (ترقت الحياة في عهد إسماعيل فشهدت قصوره حياة اجتماعية لم تعرف في مصر الحديثة شهدت قصوره الحفلات الراقصة وشهد عصره أذواق الملابس الجديدة حتى ألوان الطعام تنوعت ودخل فيها جديد) ثم تتحدث عن " اكتشاف " تاريخي " خطير " قائلة: (وقد حدثتنا الوثائق المكتشفة أخيراً أنه اشترك لزوجاته وسيدات أسرته في سبع مجلات " للموضة " فكانت نماذج الأزياء في مصر والشرق العربي تخرج من قصوره) ، ثم تقول: (وهذه العناية بشئون النساء - وإن كانت خاصة - إلا أن ورائها قلباً كبيراً يعرف للمرأة حقها ونوايا طيبة بدأ أثرها في خلال عصره الزاهر) (226) . وهذه المرأة هي التي قادت مظاهرة الجامعة الأمريكية في إبريل سنة (1951 م) بتحريض من وزير الشئون الاجتماعية البريطانية " سمر سكيل " حين اجتمعت به في مصر (227) وقادت الإضراب عن الطعام والاعتصام بنقابة الصحافيين في (12 مارس 1954 م) - مطالبة بحقوق المرأة المزعومة. وفي إبريل سنة (1951 م) عقد مؤتمر نسائي دولي في أثينا حضرته هذه المرأة ممثلة المرأة المصرية زوراً وبهتاناً وقد كان المؤتمر مؤامرة استعمارية بعيدة المدى   (225) (تطور النهضة النسائية في مصر) ص (15) . (226) السابق ص (45 - 46) . (227) انظر تفاصيل تلك (المهزلة) في كتابها (المرأة المصرية) ص (201 - 208) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 كما يبدو من أحد قراراته التي أيدتها " درية شفيق " فيما يتعلق بإقرار " سياسة التسليح الدفاعي " مما كان من شأنه تأييد الاحتلال البريطاني لمصر ولذلك صفقت المندوبة البريطانية تصفيقاً حاراً لذلك القرار. وكانت تلك المرأة تصرخ مطالبة بحق المرأة في الانتخاب والترشيح وبضرورة إيجاد نص في القانون يجعل النساء سواسية مع الرجال إزاء هذا الحق المزعوم فقامت ضدها قومة علماء الدين " وعلى رأسهم فضيلة مفتي الديار المصرية آنذاك الشيخ محمد حسنين مخلوف حفظه الله " ودعاة الفضيلة والأخلاق بحملتهم الناجحة التي أحبطت كيد الاستعمار وأذنابه وأسندت ظهر الأمة أمام الخطر وإذا " بالزعيمة " تتصل بإنكلترا مستغيثة فلجأت على الفور إلى مندوب الإذاعة البريطانية في مصر " باتريك سميث " ليرفع إلى بلاده شكوى عميلتها من الحكومة المصرية! ولذلك لم يعجب هؤلاء الذين استمعوا إلى المذيع البريطاني المذكور حينما تكلم إلى بلاده حينذاك قائلاً ما ملخصه: (جاءتني الدكتورة " درية شفيق " زعيمة حزب بنت النيل وقد شكت إلىّ من أن الجهات المسئولة في مصر تعارض بشدة مطالبتها بحقوق المرأة السياسية وكفاحها من أجل تمثيل المرأة داخل البرلمان المصري وطلبت مني أن أناشد الصحف البريطانية كي تؤازرها بكل ما تستطيعه وأن تضغط على الدوائر المصرية حتى تكف عن معارضتها القائمة) ، ثم أوصى " حضرته " في رسالته (بضرورة مؤازرة هذه الزعيمة في دعوتها إلى تحرير المرأة المصرية عملاً بميثاق هيئة الأمم المتحدة الذي تحتكم إليه الزعيمة والذي ينص على تطبيق مبدأ المساواة في الحقوق السياسية والاجتماعية بين الرجال والنساء في الدول الأعضاء والتي من بينها مصر) اهـ، وفي عهد وزارة " على ماهر " إذا به يسمح لها بالسفر إلى لندن لحضور المؤتمر النسائي الدولي هناك ثم تنتقل بعد ذلك على الفور بصحبة مندوبة إنكلترا لحضور المؤتمر النسائي في نابلي وقد استقبلتها الصحف الإنجليزية جميعها على عادتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 استقبالاً حاراً علقت عليه بعض الصحف المصرية - في دهشة - بأنه استقبال لم يحدث له مثيل. ثم اتجهت " الزعيمة " إلى " روما " بصحبة مندوبة إنكلترا ومندوبة إسرائيل " تبيهلا مانمون " وأثناء انعقاد المؤتمر اتصلت بوفد إسرائيل ورئيسته المذكورة طوال الأيام التي مكثتها هناك ونشرت الصحف الأوربية وبعض المجلات النسوية المصرية الصور الكثيرة التي بدت فيها الدكتورة " درية شفيق " في أحاديث هامة وأوضاع شتى مع هذه الإسرائيلية الخطيرة.. وأعلنت المندوبة الإسرائيلية المذكورة ارتياحها بالمندوبة المصرية بلندن ومصاحبتها لها إلى نابلي حيث قالت فيما نشرته الصحف الإيطالية والفرنسية: (إنني أهنئ نفسي بهذا الاتصال الذي ربط بيني وبين السيدة " درية شفيق " وإنني أعلن لعضوات المؤتمر السادس عشر في نابلي أني عقدت أمالي على الزعيمة المصرية لحل جميع المشكلات بين البلدين: إسرائيل ومصر) . وقد نشرت مجلة نسوية مصرية الصور المختلفة لدرية شفيق مع رئيسة وفد إسرائيل نقلاً عن الصحف الإيطالية كما نشرت صورة زنكوغرافية لمقال نشرته بعض الصحف الإسرائيلية الصادرة في " تل أبيب " باللغة العبرية وكانت صورة " درية شفيق " وهي تحادث مندوبة إسرائيل تزين (!) المقال المذكور وقد جاء في هذا المقال بعد ترجمته: (إن تل أبيب تتوقع أن الحوادث المقبلة ستزيد مكانة"درية شفيق"شأناً ورفعة) (228) اهـ.   (228) نقلاً عن (الحركات النسائية في الشرق وصلتها بالاستعمار والصهيونية العالمية) تأليف محمد فهمي عبد الوهاب ص (28 - 50) باختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 " درية شفيق "، ومثلها الأعلى: وتجهر " درية شفيق " بالدعوة إلى التبعية المطلقة للغرب ولبريطانيا التي كانت تحتل مصر آنذاك على وجه الخصوص فتقول: (وبالرغم من أن ثقافة معظم المصريين المتعلمين متأثرة أشد التأثر بالثقافة الفرنسية وبالرغم من أن كثيراً من مظاهر حياتنا الاجتماعية منقولة عن مظاهر الحياة الفرنسية الاجتماعية فإنا لا نجد في ظروفنا الحاضرة مثلاً أرفع من مثل الإنجليزية المثالية التي نرجو أن نخطو في نشاطنا النسائي على نهجها وهداها. فالمرأة الإنجليزية سيدة عركها الزمن واستحقت مكانها في حياة بريطانيا " العظمى " بجدارة تحسدها عليها بنات جنسها جميعاً إنها سيدة بيت من الطراز الأول..، وهي أم مثالية بين الأمهات.. لأن وظيفة الأم عندها رعاية الابن الممثل فيه الجيل الجديد: جيل إنجلترا الذي ينبغي أن يحافظ على تقاليد تلك الأمة وفي مقدمتها تربية الطفل تربية تليق بـ " عظمة " بريطانيا،.. فيشب مواطناً يعرف مقامه في الدنيا وحسبه هذا المقام الذي يشغله الإنجليز منذ مئات السنين) (229) . وتقول: (وقد تأثرت المرأة الإنجليزية في ذلك كله بملكة إنجلترا..، ونحن بذلك نضرب المثل بخير مثل وهو جلالة ملكة بريطانيا.. فلنأخذ القدوة من أهل القدوة وليكن في السيدة الإنجليزية وعلى رأسها ملكة إنجلترا مثالاً لنا في كفاحنا من أجل السيدة المصرية ونصيبها في الحياة) (230) اهـ. " درية شفيق ".. و " الحملة الفرنسية ": وفيما رأى المسلمون الواعون أن الحملة الفرنسية بقيادة " نابليون بونابرت " سنة   (229) " تطور النهضة النسائية " ص (97) . (230) السابق ص (99) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 1798 م كانت حملة صليبية جديدة فاجتمعوا يواجهونها ويجاهدونها الجهاد المقدس في سبيل الله رأت " درية شفيق " أن اعتبار تاريخ مصر الحديثة يبدأ بنزول الفرنسيين إلى وادي النيل - مبدأ مقبول إلى حد بعيد، وتقول: (ذلك لأن مصر شهدت جديداً أثناء تلك الحملة وأنها منذ عرفت الفرنسيين عرفت التقدم في مراحله جميعاً وأنها مضت قدماً نحو أهداف سياسية واجتماعية ... ) (231) . لماذا فشلت " درية شفيق "؟ (كانت " درية شفيق " قلقة مضطربة كالعصر الذي ظهرت فيه فلم تكن في تعقل " هدى شعراوي " التي كانت تتحرك كجزء في الجهاز العام لحركة " التنوير " التي وضع أسسها الشيخ " محمد عبده " و " قاسم أمين " و " سعد زغلول " على اختلاف مواهبهم الدينية أو الفكرية أو السياسية. ولم تستطع " درية شفيق " أن تسوس الرجل فتملكه ثم تطلب ما تريد كما فعلت سابقاتها ولكنها أرادت أن تثور على الرجل فتأخذ حقها غلاباً بأسنانها وأنيابها فلم تستطع لأن أنياب الرجل وأظافره لا تزال أقوى وستظل كذلك. أما السبب الأكثر خطورة في فشل " درية شفيق " فيتمثل في أنها رأت أن من النساء من هن أحق من الرجال بحق التمثيل السياسي وأنه من العار بزعمها " أن يصوت الطاهي وتحرم من ذلك السيدة التي تستخدمه في منزلها " (232) فتجاوزت بذلك الحدود والأطوار الأمر الذي لم يقبله الرجل ولم يرض عنه) (233) .   (231) السابق ص (29) ومما يعكس بعضاً من تلك الأهداف الاجتماعية ما حكاه الجبرتي في " تاريخ عجائب الآثار والتراجم والأخبار " وقد تقدمت الإشارة إليه، فراجع ص (73 - 76) . (232) " الحركة النسائية " د / إجلال خليفة ص (174) . (233) " المؤامرة على المرأة المسلمة " ص (108 - 109) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 5- " ماري إلياس زيادة ": (الأديبة السورية الأصل التي اشتهرت فيما بعد " بالآنسة مي " وكان لها محفل يشبه محافل الباريسيات يجتمع فيه الرجال والنساء وكانت " مي " سافرة متحررة يجتمع في دارها في هذا المحفل الذي أسسته سنة 1913م (234) أهل الأدب والسياسة والفن ورجال الأعمال والصحافيون وكان المحفل يضم رجالاً ونساءاً من طرز مختلفة من الأوربيين والمصريين والعرب المقيمين بمصر خاصة النصارى منهم وكان يؤمه من الشيوخ الأزهريين الشيخ مصطفى عبد الرزاق وكان يضم طائفة من العلمانيين واللادينيين والليبراليين والماسونيين أمثال: يعقوب صروف وشبلي شميل وأنطوان فرح وإدريس راغب وغيرهم وكانت " مي " غالية في تحررها وقد انعكس تأثير محفلها على طبقة محصورة من الرجال والنساء الأوربيين والمصريين دون أن ينعكس انعكاساً مباشراً على أغلبية نساء المجتمع المصري وإن ظل يؤرخ له على أنه أحد العوامل المساعدة في سير الحركة النسائية نحو التحرر) (235) . 6- " أمينة السعيد ": تلميذة وفية لـ " طه حسين " ترأس تحرير مجلة (حواء) ، (ومن خلالها تحرض نساءنا على النشوز وفتياتنا على التهتك والانحلال) (236) وقد تواتر لدى الجميع أنها تهاجم الحجاب الإسلامي بكل جرأة وهي - وإن كانت تلقفت الراية من " الزعيمات " السابقات - إلا أنها تفوقت على كل اللائي سبقنها في باب التجرد من الآداب والأخلاق الأساسية، إذ إنها لا تألو جهداً في الصد عن سبيل الله   (234) وأسس هذا المحفل - فيما بعد - بصورة رسمية سنة 1914 وذلك بجهود البرنس " أولفادي لبيدف ". (235) انظر: " رجال عرفتهم " لعباس محمود العقاد (الهلال 1963) فصل: " رجال حول مي "، و" المؤامرة على المرأة المسلمة " للدكتور السيد أحمد فرج ص (21) . (236) (الأخوات المسلمات) ص (264) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 والاستهزاء من شرعه عز وجل حتى وصل بها الأمر إلى أن قالت: (كيف نخضع لفقهاء أربعة ولدوا في عصر الظلام ولدينا الميثاق؟) ، وقالت: (إنني لا أطمئن على حقوق المرأة إلا إذا تساوت مع الرجل في الميراث) (237) . وهي المرأة التي أزعجتها ظاهرة (عودة الحجاب) إلى المجتمع المصري فجردت قلمها المسموم لتواجه هذه الظاهرة (المقلقة) ووصفت الحجاب بأنه (كفن ككفن الموتى) فقد قالت في إحدى جولاتها ضد الحجاب: (إن هذه الثياب الممجوجة قشرة سطحية لا تكفي وحدها لفتح أبواب الجنة أو اكتساب رضا الله فتيات يخرجن إلى الشارع والجامعات بملابس قبيحة المنظر يزعمن أنها " زي إسلامي " لم أجد ما يعطيني مبرراً منطقياً معقولاً لالتجاء فتيات على قدر مذكور من التعليم إلى لف أجسادهن من الرأس إلى القدمين بزي هو والكفن سواء) (238) اهـ وقالت أيضاً مستنكرة: (هل من الإسلام أن ترتدي البنات في الجامعة ملابس تغطيهن تماماً وتجعلهن كالعفاريت.. وهل لابد من تكفين البنات بالملابس وهن على قيد الحياة حتى لا يرى منها شيء وهي تسير في الشارع؟) (239) اهـ. وقالت أيضاً: (عجبت لفتيات مثقفات! كيف يلبسن أكفان الموتى وهن على قيد الحياة؟!) (240) اهـ.   (237) السابق (ص 268 - 269) نقلاً عن (المصور) . (238) مجلة (حواء) تاريخ 18 نوفمبر 1972 م. (239) (المصور) 22 يناير 1982 م ص (75) . (240) نقلاً عن (الولاء والبراء في الإسلام) لمحمد بن سعيد بن سالم ص (404) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 بل إنها تعتبر ظاهرة (عودة الحجاب) مشكلة وترهق نفسها في البحث عن تبرير لهذه الظاهرة فيهديها شيطانها إلى تبرير يشابه إلى حد كبير موقف المنافقين الذين كانوا يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات الذين لا يستطيعون أن يتصوروا إخلاص المؤمنين في طاعتهم لربهم وصدقهم في الصبر على دينه وامتثال أمره لأنهم لم يألفوا الصدق ولم يذوقوا الإخلاص ومن هنا راحوا يطعنون في الغني المتصدق بأنه مراء وفي الفقير بأنه أحوج إلى صدقته قال تعالى: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم) التوبة (79) . تقول أمينة السعيد: (الانفتاح أباح لبعض الفتيات الفرصة في ارتداء الأزياء الغالية ومتابعة الموضات المختلفة مما تسبب عنه مشكلة اجتماعية ترتب عليها في نظري مشكلة الحجاب وارتداء الملابس الإسلامية.. وهو في معظم أوقاته ليس تديناً بل هرباً من مواجهة المقارنة الرهيبة في الجامعة بين الأزياء الباهظة الثمن المتنوعة وبين البنت غير القادرة وهي عندما تلبس ما يطلقون عليه الزي الإسلامي تنقذ روحها من محنة مالية هي غير قادرة عليها) (241) اهـ. وتفاخر (أمينة السعيد) بصفحات نضالها ضد الشريعة الإسلامية تحت ستار (تحرير المرأة) فتقول: (اقتراحي بإجراء تلقيح صناعي لزوجة عقيم من زوجها أقام الدنيا وأقعدها ومطالبتي بإلغاء المحاكم الشرعية كاد يدخلني السجن أما مهاجمتي لقانون الأحوال الشخصية فقد أثارت الدنيا من حولي وجاءت مظاهرة إلى "دار الهلال" تهتف بسقوطي) (242) اهـ.   (241) (المصور) العدد رقم (3139) 14 ربيع الأول 1405هـ، 7 ديسمبر 1984 م، ص (74) . (242) السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ولنعرض فيما يلي - إن شاء الله - أنموذجاً من جولاتها ضد الحجاب والآداب الإسلامية في ردها على بعض الشيوخ مستنكرة عليه آراءه التي (أثارت القلق والأسف) على حد تعبيرها ولن نتتبع شبهاتها بالرد والتعقيب لأن فسادها يغني عن إفسادها وصدق القائل: لو كل كلب عوى ألقمته حجراً لأصبح الصخر مثقالاً بدينار وهي تذكر أن أكث ما أثار القلق في أقوال الشيخ الفاضل نقطتان: أولاهما: الدعوة إلى إلزام الطالبات بما يسمونه " الزي الإسلامي " وهو ما تفضل سيادته بتسميته الحجاب بحجة أنه دليل إسلامي رائع على الإيمان العميق والبعد عن الفتنة والإغراء.. إلخ، ثم ترتدي هذه المرأة (الثعلب) ثياب (الناسكين) وتعظ الشيخ قائلة: (ما كان ينبغي على شيخ المفروض فيه - بحكم ثقافته ومكانته - أن يكون ضليعاً في الإسلام أن يصدر عنه مثل هذا الكلام ونحن نعرف جميعاً استناداً إلى ما ورد بالقرآن الكريم - وهو دستورنا الديني الأول- أن الإسلام لم يحدد على الإطلاق زياً معيناً للمرأة المسلمة ولم يقدم رسماً كامل الأوصاف لا من حيث الشكل أو النوع أو اللون) ثم تزعم أن (المعنى الواضح من هذا الكلام المقدس أن الدين الحنيف لا يستهدف من ملابس المرأة سوى الوقار والاحتشام والبعد عن التبرج والابتذال فكان أي ثوب تتوافر فيه هذه الاشتراطات هو زي إسلامي بمعنى الكلمة سواء كان مقتبساً من الغرب أو الشرق أو الشمال أو الجنوب أما ما نراه اليوم شائعاً بين الفتيات والسيدات مما يسمونه " الزي الإسلامي " فالإسلام منه براء لأنه تقليد حرفي لزي الراهبات المسيحيات والذي نعلمه جميعاً أن لا كهانة ولا رهبانية في الإسلام) ثم تستطرد تحت عنوان: (أزياء دخيلة) (243) فتقول: (والأدهى من   (243) تعني بتلك الأزياء الدخيلة الجلباب والنقاب وهي تعلم تماماً أن ما عدا هذه الأزياء هو الدخيل الطارئ وأن هذا الحجاب كان سائداً في كل المجتمع المصري قبل ظهور دعاة تحرير المرأة ولكنها = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 ذلك: " المقنعات " وهن قلة من المتطرفات في إعلان عن تدينهن فقد ذهبن في ثيابهن إلى تحريم ما أحله الله فغطين وجوههن بأنسجة كثيفة ليس بها سوى خرمين صغيرين للاستعانة بهما في النظر ولم يكتفين بذلك بل ذهبن في مبالغتهن إلى تغطية الخرمين الصغيرين بنظارات سوداء خوفاً من أن تتغلغل الأنظار من خلال الخرمين إلى حدقتي العينين وهو كل ما يحتمل أن يظهر من هذا القناع العجيب الدخيل هذا بالطبع غير جائز في الإسلام بدليل الفتوى الذي أصدرها سيد الأئمة كلهم الإمام الأكبر الشيخ " محمد عبده " وقد أورد فيها أن " المقنعات " لا ينبغي أن ترفع لهن قضية أو تسمع لهن شهادة في المحاكم ... ولو كنا نساير روح الإسلام الأصيل ما سمحنا لهن بدخول الامتحانات العامة لسهولة تزييف الشخصية تحت هذا القناع العجيب) . وتشتد " غيرة " " أمينة السعيد " على الإسلام و " يتدفق " حرصها على"مخالفة الكفار " فتقول: (وما يقال عن الحجاب يسري أيضاً على ملابس الرجال فمع عظيم إجلالي للعمامة والجبة والقفطان أعرف أنها ليست زياً إسلامياً أصيلاً وإنما هي اقتباس من ملابس الأحبار اليهود في قديم الزمان) وتختم مقالتها الطويلة مستنكرة على الشيخ تصريحاته قائلة: (إنها عملية هدم للإسلام من أساسه فاللهم ارحمنا وارحم ديننا من شر أنفسنا إنه السميع المجيب) (244) اهـ وصدقت فإن ما تفعله حقاً هو عملية هدم للإسلام من أساسه وهي أولى بهذه الكلمات من غيرها، وصدق الله العظيم: (ولتعرفنهم في لحن القول) الآية (245) .   = تستغل جهل الجيل الحاضر بالماضي الذي عاصرته هي وأمثالها من الطاعنات في السن وتتحدث عن الحجاب كأنه من اختراع " المتطرفات الجدد " على حد تعبيرها. (244) من مقالة بعنوان (هذه دعاوي غير إسلامية) مجلة حواء. (245) جزء من آية رقم (30) سورة محمد ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 لعبة العرائس المتحركة: وفي موكب الرذيلة صحافيات أخريات ومذيعات ومعلمات طبيبات وسياسيات قد تلونت تصوراتهن بألوان شتى وتفرقت مللهن أيما تفرق وبرغم انتساب بعضهن إلى الإسلام فقد جمعهن هدف واحد هو طعن الإسلام في الصميم وهؤلاء جميعاً وضعن أنفسهن بهذا المسلك الوخيم في صف المواجهة مع الإسلام يرمينه عن قوس واحدة شئن أم أبين رضين أم كرهن وتحصنّ في هذه الحرب في خندق واحد ضم إليهن اليهود والنصارى والملاحدة والمنافقين والفاسقين وكأني بهن يشرن إلى أوليائهن ورفاقهن قائلين: (هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً) الآية النساء (51) ، فما أجدر هؤلاء بقوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً) (246) . وغير هؤلاء صفوف وصفوف ممن رباهن الاستعمار الصليبي والصهيوني في محاضنه وأخريات ممن هن في دور الإعداد والتربية ليخلفهن في مهمة "تدمير المرأة " كل بأسلوبه وبقدر طاقته، (ولكل وجهة هو موليها) البقرة (148) ، لكن يجمعهن محور واحد يؤكد أن هذه الشخوص التي تبدو للناظر كأنها تتحرك بإرادتها لا تتحرك إلا حسب خطة واحدة قدّرها ورسم خطوطها الذين فضلوا أن يجذبوا الخيوط من خلف ستار كفانا الله والمسلمين شرورهم. من يحرر من؟ إن المرأة المسلمة الواعية البصيرة بحقوقها وواجبتها في ضوء كتاب الله وسنة رسوله " هي المرأة الجديرة بصفة الحرية أما المرأة الغير المسلمة أو المنحرفة في   (246) سورة النساء آية (115) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 فهمها للإسلام فهي الأسيرة التي تحتاج إلى تحرير سواء كان هذا التحرير من رق الشرك والوثنية وعبادة غير الله أو رق الرذيلة والتهتك أو رق العادات والأعراف والتقاليد المنافية لدين الإسلام. (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) آل عمران (85) " لا " للقومية النسائية: (كان دأب دعاة تحرير المرأة منذ البداية لجعل القضية: قضية " تحرير المرأة " فقط مع إسقاط التعيين " المسلمة " ومن ثم ربطها بقضية تحرير المرأة في العالم كأنما صارت هناك قومية خاصة اسمها " القومية النسائية " تربط المرأة المسلمة بالمرأة النصرانية بالمرأة اليهودية بالمرأة عابدة البقروالأوثان بالمشركة بالملحدة (247) ... إلخ.   (247) بل الأدهى من ذلك أن تتجاوز هذه (القومية النسائية) حدود الزمان لتجعل المسلمة الموحدة أختاً لنساء قدماء المصريين الوثنيات انظر ما كتبته (إحداهن) مفتخرة بالفراعنة: (كان الفراعنة هم أول من رفع المرأة إلى مقاعد الحكم وارتضى رجالهم في فخر واعتزاز أن تحكمهم ملكات كانت عهودهن رمز العدالة والتقدم والاستقرار.. ولقد وصلت المرأة الفرعونية إلى هذه المكانة العالية في قومها بغير معارك وبدون اعتراض.. وما كان ذلك إلا لأن المجتمع الفرعوني كان هو المجتمع المتحضر الذي رسم للبشرية بأجمعها طريق الحضارة والعلم والحكمة) اهـ من (المرأة المصرية) لدرية شفيق ص (7) ثم تفتخر ببعض مظاهر حرية المرأة عند الفراعنة مثل: (حق اقتسام الميراث في مساواة مع رجل أسرتها وكانت تملك حق تطليق زوجها بعد أن تدفع له تعويضاً وكانت تسمي أولادها باسمها) اهـ ص (15) وتنقل بإعجاب عن (هيرودوت) قوله: (إن المرأة في مصر القديمة أكثر نشاطاً من رجلها فالنساء يذهبن إلى السوق يبعن ويشترين في حين أن الرجال يلازمون بيوتهم حيث يقومون بنسج الأقمشة) اهـ ص (16) ثم تفتخر زعيمة حزب (بنت النيل) بنفرتيتي زوجة إخناتون {التي حملت لواء حركة الانقلاب الديني.. وهي الحركة التي قامت في عهد حكم زوجها واشتركت نفرتيتي معه في صنع أسس الدين الجديد الذي توحدت فيه لأول مرة في تاريخ الأديان (!!) جميع الآلهة في إله واحد هو (آتون) أي الشمس} اهـ ص (16) ، وليت شعري ما الذي يدعو إلى هذا الفخار وقد انتقلت نفرتيتي وقومها من شرك إلى شرك؟ وأي شيء يدعو للإعجاب والاعتزاز بفراعنة وحدوا آلهتهم المتعددة في (كومبانية) آلهة مشتركة هي (الشمس) تعالى الله عما يشركون! ، وهل خفى على هذه (المتحررة) أن عقيدة توحيد الله سبحانه وتعالى أول من نزل بها إلى الأرض من البشر آدم وحواء.. وأنهما كانا على دين الإسلام الذي أرسل الله به جميع رسله وأنزل به جميع كتبه؟ وأن التوحيد ليس إختراعاً = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 كأن قضيتهن واحدة ومطالبهن واحدة وأهدافهن واحدة ومعتقداتهن واحدة وكان السعي وكان السعي فعلاً حثيثاً لتأخذ المرأة المسلمة ملامح المرأة الغربية وكلما تطابقت صورتها مع الغربية كلما زاد الإعجاب بها وتقريظها بأنها لا تفترق عن الأجنبية! حتى سقطت بعض المسلمات فيما لم تسقط فيه عابدة البقر التي ظلت معتزة بزيها الخاص " الساري " وتميزها بالنقطة الحمراء بين عينيها) (248) . وقد قامت الدوائر الاستعمارية خاصة في أمريكا وإنكلترا بتغذية هذه"القومية النسائية " في البلاد الإسلامية خاصة مصر فحينما استطاع " الاتحاد النسائي المصري " أن يعقد ما سمي بـ " المؤتمر النسائي العربي " سنة 1944 م وسط استنكار الشعوب العربية والمسئولين فيها ووسط احتجاج العلماء وثورة الإسلاميين إذا بزوجة الرئيس الأمريكي " روزفلت " (249) تبرق إلى المؤتمر المذكور في 17 ديسمبر 1944 م البرقية الآتية: (يسرني أن تتاح لي فرصة إرسال تحيتي إلى مندوبات الاتحادات النسائية في مختلف بلاد الشرق العربي والواقع أن نفوذ السيدات ليتعاظم ويزداد قوة في مختلف أرجاء العالم وإني لواثقة من أن النساء العربيات سيقمن بدورهن إلى جانب " شقيقاتهن " في باقي بلدان العالم أملاً في نشر التفاهم والسلم العالمي في المستقبل) (250) ومن قبلها حضرت إلى مصر " الدكتورة ريد " رئيسة الاتحاد النسائي الدولي   = فرعونياً؟ وهل تتجاهل الكاتبة حقيقة تلك الوثنية الفرعونية البغيضة التي لا يصح إسلام أحد حتى يتبرأ منها ومن أصحابها؟ قال تعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده} الآية (4)) الممتحنة: 4) . (248) (في مسألة الحجاب والسفور) (لصافي ناز محمد كاظم) ص (26) بتصرف. (249) (ولسنا في حاجة إلى أن نذكر الدور الخطير الذي لعبته " مسز روزفلت " في تكوين الوطن القومي لليهود في فلسطين) من (الحركات النسائية) لمحمد فهمي عبد الوهاب ص (28) . (250) (الحركات النسائية في الشرق) ص (27) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 بنفسها لتدرس عن كثب تطور الحركة النسائية ولتناصر الحركة بنفوذها في المحيط الأوربي وبتصريحاتها التي ترمي إلى " المسارعة بإعطاء المرأة المصرية الحقوق السياسية " المزعومة! (ومن هنا أيضاً لم يدهش الشعب المصري لزيارة وزيرة الشئون الاجتماعية البريطانية " مسز سمر سكيل " لتتفقد الأحزاب النسائية في مصر وتجتمع بـ " درية شفيق " رئيسة حزب " بنت النيل " المشبوه وتحرضها على أن تترك المقالات والمناقشات والمجلات وتتجه إلى المظاهرات واقتحام أبواب البرلمان (251) . وتمتثل رئيسة " حزب بنت النيل " لتلك التوجيهات ففي إبريل سنة 1952 خرجت مظاهرة من قاعة "إيوارت" بالجامعة الأمريكية - ذات التاريخ الطويل في التبشير - قوامها بضع عشرات من الفتيات الكاسيات ... ، تتقدمهن زعيمة الحزب المذكور وبعض الشبان من أصدقاء حزبها وأنصاره إلى دار البرلمان هاتفات بالحقوق السياسية المزعومة! وفوراً أبرقت جمعية " سان جيمس " الإنكليزية إلى الزعيمة المذكورة بتهنئتها على نجاحها في اتجاهها الجديد نحو المظاهرات وتعلن تأييدها لها حتى تنال المرأة المصرية على يديها الحقوق السياسية تحت قبة البرلمان وفوق كرسي الوزارة) (252) اهـ. فهل أدركت يا أخت الإسلام: حقيقة " الحركات النسائية ".. وهدف " القومية النسائية العالمية "؟ (إن الكلام عن " العالمية " في هذا المجال ضار جداً وهادم لأسباب النهضة عند الأمم الضعيفة بنوع خاص لأنها إذا أرادت أن تنهض فلن تقوم لها نهضة إلا على   (251) وكان الهدف من ذلك كله إشغال الرأي العام بقضية المرأة عن التفرغ لقضية (الوطن الأسير) الذي كانت تحتله آنذاك الدولة التي تمثلها " مسز سمر سكيل " الغيورة على (حقوق المرأة المصرية) ! (252) (الحركات النسائية في الشرق) ص (37 - 39) بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 مغارسها وأصولها الأولى والنهضة على غير هذا الأساس فناء لذات العنصر الأضعف في العنصر الأقوى) (253) . حصاد المؤامرة: في نفس الوقت الذي ارتفعت فيه نعرة توحيد " القومية النسائية " كان دأب " دعاة تحرير المرأة " رجالاً ونساءً الأهم هو فصل قضية تحرير " المرأة " المسلمة عن قضية تحرير " الوطن " المسلم وفصل قضية الظلم الواقع عليها عن قضية الظلم الواقع على الرجل المسلم: تجزئة للقضية الواحدة من أجل أن تتفتت في مسارات متباينة متعارضة بل ومتصارعة إذ لم يقف الأمر عند هذه التجزئة بل تعداه إلى أن جُعلت المرأة المسلمة تقف خصماً أمام الرجل المسلم وأمام الوطن المسلم تقف خصماً ضد شريعتها تمتلئ رعباً وهلعاً كلما قيل لها: هناك من يطالب بتطبيق حكم شريعتك وتنفرج أساريرها فرحة كلما وجهت ضربة إلى الشرع الحنيف عن طريق سن المزيد من القوانين العلمانية المستمدة من قوانين الغرب. ذهب العصر الذي شيبنا وأتى عصر الشباب الملحدين عيرونا إن عبدنا ربنا وحفظنا عهده في الحافظين وعدوها لنا " رجعية " جعلوها سبة للمؤمنين للمصلين إذا ما سجدوا من حديث السوء ما للصائمين نسخ الأخلاق في شرعتهم أنها من ترهات الجامدين إن نقل"دين"يقولوا"فتنة" هاجها في مصر بعض المفسدين فسد الأمر فهل من مصلح أصلحوه يا شباب المسلمين (*)   (253) من مقالة للدكتور " محمد محمد حسين " رحمه الله بمجلة الأمة العدد (31) السنة الثالثة ص (26) . (*) " الاتجاهات الوطنية " (2 / 314) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الصحافة، والمرأة المسلمة (*) وصف "محمد التابعى"- الذى كانوا يعدونه أستاذ جيل الصحافيين الذين خرجتهم مجلة (روز اليوسف) - واقع الصحافة يوما، فقال ما نصه: {هذه الصحيفة صنيعة أمريكا، وهذه الصحيفة مأجورة للإنجليز، وهذه المجلة تصدر بأموال شيوعية، وهذا الصحفى يتلقى أوامره ومرتبه الشهرى من موسكو أو وارسو أو براج. وهكذا أصبحنا جميعا نحن الصحفيين بين فاسدين ومفسدين، ومنافقين وخونة، مأجورين للكتلة الغربية والكتلة الشرقية، وأصبح الشعب في حيرة من لسانه المسموم: الصحف التى أيدت الطغيان ودافعت عن الفساد، الصحفيون الذين مرغوا جباههم تحت أقدام الطغيان، بعد أن أسفر الطغيان} . انتهى من (الصحافة والأقلام المسمومة) للأستاذ " أنور الجندي " ص (68 - 69) نقلاً من: (أخبار اليوم) تاريخ (25 / 10 / 1952) . دور الصحافة فى حركة (تدمير) المرأة أولت الصحافة (اليومية والأسبوعية) اهتماما كبيراً للمرأة، وظهرت صحف متخصصة لقضايا المرأة، تحمل ذلك الفكر الذى يعتمد على مفاهيم مضللة عن حرية المرأة، وعمل المرأة من خلال مفهوم يقوم على الهجوم الدائم والمتصل على كل الدعوات التى تحمل لواء مسئولية المرأة فى المنزل، ورسالتها الحقيقية فى الأسرة والزواج وتربية الأبناء، وتركز على مجموعة من المفاهيم الخاطئة كالقول بأن عمل المرأة من شأنه أن   (*) مختصر - بتصرف - من: " الصحافة والأقلام المسمومة " للأستاذ أنور الجندي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 يزيد دخل الأسرة مادياً، وأن المرأة تعاون الزوج فى نفقات البيت، ثم تركز على مسائل الأزياء الجديدة، وكل ما يتصل بالزينة والملابس والإغواء، وهى تتمثل بأن هناك عداءً للمرأة يحمل لواءه الرجل، وأن نظم الزواج والطلاق لا تحقق للمرأة رغبتها فى التحرر وامتلاك الإرادة، والقضاء على ما يسمى بالقوامة، وتستمد هذه الكتابات مفاهيمها من دعوة منحرفة تقودها منظمات عالمية هي فى الأغلب على صلة بالصهيونية العالمية، وتعتمد على عبارات مسمومة مما يتردد فى كتابات بعض دعاة الهدم أمثال (سيمون دى بوفوار) و (فرانسوا ساجان) وكثيرات ممن يجرين في نفس الفلك. ولعل مجلتي (حواء) و (الشرقية) كانتا أشد المجلات عنفاً وجرأة فى هذا المجال، حيث تشن حملات مستمرة شديدة متصلة على كل قيم الإسلام، وقد حملتا حملات واسعة على حركة الدعوة إلى الله التى ظهرت فى مجال الطالبات الجامعيات والدعوة إلى الحجاب الإسلامي، ووصفتا هذه الحركة بكل تحقير، كما أعلنتا خصومتها لكل دعوة إلى الملابس المحتشمة أو أخلاقيات الملابس، وسخرتا من القائمين بها، كما حملتا على القائمين على حدود الله فى أمور الطلاق وتعدد الزوجات. وما تزال المجلات النسائية فى مصر والبلاد العربية تحتضن فى أعماقها خلفية من الكراهية للمفهوم الإسلامي، وتعليماً واضحاً لبث هذه السموم يوماً بعد يوم. لقد حرصت الصحافة العربية على أن تغير العرف الإسلامي العام فى مجال الاجتماع والمرأة والأسرة والعلاقة بين الرجل والمرأة، مستهدفة تحطيم ذلك الحاجز القوى الذى أقامه الإسلام على أساس المحافظة على العرض والشرف والخلق، وتنطلق النظرة الغربية الوافدة التى تحمل لواءها الصحافة العربية من خلفية آثمة تستهدف إخراج المرأة من دائرة حياتها الحقة، من موقعها الأصيل، لتكون أداة تسلية ولهو وإفساد كما تصور ذلك (بروتوكولات صهيون تحت اسم تحرير المرأة، وحقوق المرأة، وقد أكد كثير من الباحثين أن المرأة ما تزال سلعة يتلاعب بها يهود العالم، وأن الصحافة هي وسيلتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 الكبرى فى ترويج هذه السلعة. إن من أشد مقاتل الصحافة ومصادر اتهامها أنها لا تقدم الحقيقة للمرأة، وإنما تفضل أن تقدم لها الرأي المضل الخادع الغاش، أنها تخفى الحقائق الأصلية، وتحجبها لأنها تتعارض مع هدفها الأساسي من التدمير. مثال ذلك أنها تكثر من تقديم كتابات الغرب الداعية إلى الفساد، وتتجاهل عمدا عشرات الأبحاث الجادة التى تكشف الحقيقة، والتي كتبها غربيون منصفون، يحذرون من مخاطر المنزلق الذى هوت إليه المرأة. ففي قضية (عمل المرأة وحريتها) حذر الكثيرون من أمثال (ألكس كاريل) والكثيرات ومنهن (مارتن باولى) من أخطار انهيار الأسرة بسبب تمرد المرأة على التزاماتها التى توثقها بالأسرة، وبسبب اندراج عدد كبير من الزوجات في العمل خارج المنزل، مما يخضعن لسلطة أخرى هي سلطة المؤسسات وقوانينها، مما أدى إلى ارتفاع معدل الطلاق إلى ما يقارب الخمسين بالمائة من عدد الزيجات، وتغيرت صورة المنزل التقليدية وأصبحت مجرد خيال ... حتى العلاقة بين الآباء والأبناء، أصبحت تعصف بها الشكوك ... الخ. وفى مسألة " تحديد النسل ": كشفت دراسات غربية كثيرة عن فساد الدعوة إلى تحديد النسل، وكيف أن الغرب يدعو إلى ما يضادها من تشجيع النسل، وكيف أن قادة الدين النصراني رفضوا الموافقة على تحديد النسل. وكشفت الأبحاث عن أخطار طبية واجتماعية نتيجة حبوب منع الحمل، ولكن صحافتنا تحجب هذه الجوانب. وفى مجال قضايا الأسرة والشباب كشفت دراسات كثيرة فى مقدمتها كتابات (برتراند راسل) عن فساد الأسرة فى المجتمع الغربي الذى تصوره لنا الصحافة العربية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 على أنه المثل الأعلى. إن الصحافة العربية متهمة بأنها تخفى عن قومنا أن المرأة فى الغرب تجأر الآن بالشكوى، وتطلب العودة إلى البيت. ويمكن تلخيص عمل الصحافة فى سبيل إفساد المرأة المسلمة فى ميادين مختلفة: أولاً: فى مجال الدعوة إلى حريتها الزائفة، وغرس الشعور " بالقومية النسائية " عن طريق التهليل والتصفيق لكل امرأة وليت عملا من الأعمال: منادية فى البورصة، سائقة تاكسي، كناسة فى شوارع روسيا.. الخ. ثانياً: إشاعة جو من التبرج الصارخ، والتمرد على الفطرة من خلال قنوات الصحافة والإذاعة المسموعة والمرئية والسينما والمسرح والقصة، وغيرها، والإفاضة فى شأن الموديلات والسهرات ومسابقة الجمال وأخبار الفاسقات من الممثلات والراقصات، والإلحاح فى ذلك حتى يوجدوا لدى الجميع انطباعاً بأن هذه هي صورة المجتمع الطبيعية التى لا مناص من الإقرار بها ثم الاندماج فيها. وبينما يدعو الإسلام المرأة إلى إغماد سلاح الفتنة أمام الرجل، وتجنب مخالطتهم والاحتجاب عنهم، تدعو الصحافة إلى الملابس الضيقة والعرى وإيقاد الشهوات. ثالثاً: تعمل الصحافة جاهدة لتحقيق هدف خطير ألا وهو: دمج الرجولة فى الأنوثة، وتحويل الأنوثة إلى رجولة والعكس، وإلباس الرجل ثياب المرأة، والمرأة ثياب الرجل، وذلك معارضة لحكمة الإسلام فى حتمية الفصل الدقيق والعميق بين الرجل والمرأة. رابعاً: دعوة الصحافة إلى إغراء المرأة باتخاذ حبوب منع الحمل: تحمل فى طياتها خطراً شديداًً، فإن انتشار هذه الحبوب بلا رقابة من شأنه إشاعة الفاحشة، والترويج للحرام، وهدم الأسر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 خامساً: تستهدف الصحافة من وراء نشر عشرات الحوادث المخلة والإغراء بها، وكذا ما تنقله عن المجتمعات الغربية تستهدف بذلك أن تبدو العلاقة المحرمة فى نظر الناس سهلة يسيرة بل ومقبولة، ويحاول بعض الصحافيين الإيحاء بين الناس أن الشرف والفضيلة والعرض كلها مسائل تافهة لا يتمسك بها إلا السذج والبسطاء والرجعيون؛ تقول (أمينة السعيد) : (الحرية الجنسية فى البلاد الأخرى طاغية فى خطابات القراء عندهم، فإذا وجدوا بنتاً معقدة شجعوها أن تنطلق جنسياً، وتمارس حياتها بلا حدود، عندنا البنت عندما تخطيء تكاد تقتل نفسها، هناك يقولون: " إنها إحدى تجارب الحياة، ستتعلمين منها، واحترسي فى المرة القادمة "، إذا كانت حاملاً دون زواج، يقولون: " وماله؟! أعط الطفل أمومتك، وواجهي به المجتمع " يعنى شيء مختلف لا يمكن أن يسرى عندنا..) (254) . وجاء فى مجلة " صباح الخير ": (إن نظام الزواج فى وطننا العربي هو نظام مضحك يدعو إلى السخرية: مهر، وعقد.. مظاهر جوفاء تقتل فيها الإرادة، وتقتل المشاعر الإنسانية) (255) اهـ. وتقول (عايدة ثابت) في (أخبار اليوم) تاريخ (17 سبتمبر 1970) وهى تتحدث عن المجتمع الأوربي تحت عنوان: " حرية الفتاه بلا حدود ": (إن ما نسميه نحن انحلالاً يفعلونه كأي ظاهرة طبيعية أخرى، فلم يعد فى هذا المجتمع شيء غير مباح وغير مقبول، ولم يعد الشباب يواجه فى سلوكه وعلاقاته كلمة "ممنوع ") اهـ. ولقد عمدت الصحافة إلى الغش والتمويه وذلك فى طرق عرض الجرائم الخلقية، وهى تعرف أن أخبار الجرائم الأخلاقية تثير النفوس، فتعرضها على نحو تهون فيه من   (254) (المصور) العدد (3139) تاريخ 7 ديسمبر 1984 م - ص (74) . (255) نقلاً من: (مجلة الجامعة الإسلامية) (1395 - 1396 هـ) ص (128) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 شأنها، وتوحي من وراء التعدد والموالاة والتكرار أن الظاهرة عامة، وأنها طبيعية، وأنها لا تؤثر على المجتمع. وهى لا تحاول مطلقاً أن تقدم مع الحدث الوجهة الصحيحة أو الدرس المستفاد، أو الدعوة إلى الإصلاح، فذلك أمر تتجاهله تماماً، ولا ريب أن موالاة عرض الجرائم والأحداث أسبوعاً بعد أسبوع، ويوماً بعد يوم، وإعداد صفحات دائمة، وأبواب ثابتة لها هو من أخطر ما تقوم به الصحافة فى سبيل توهين روابط المجتمع، وليس عملها فى هذا المجال أقل من اهتمامها بنشر التفصيلات الوافية عن أفلام الجريمة والفحش. وهناك فى الصحافة النسوية اهتمام بالغ بالموضة (أي بالأساليب المتجددة للزى) وهناك إصرار بالغ واهتمام كبير بهذه التغييرات، وبالرغم من الأخطار التى يتحدث الباحثون عن آثارها فى المرأة فان موجة الاندفاع لا تتوقف، يقول واحد من هذه الأبحاث: إن المجتمع يدفع المرأة إلى الجنون، ففي كل دقيقة تظهر موضة جديدة، وفى كل لحظة هناك منتجات ظهرت خصيصاً للمرأة، وتجد المرأة نفسها منجذبة نحو هذا التيار الجارف من المعروضات لدرجة تكاد تدفعها إلى الجنون، إنها تريد أن تجرب كل شيء، وتشترى كل شيء، وعندما لا تستطيع تصاب بعقدة. ويقول علماء النفس: " إن المرأة التى ليس لها رصيد من القناعة، يصبح لها رصيد من العقد، فهناك آلاف من الأشياء التى تجذب المرأة إليها، والتي تجعلها تفقد الاهتمام بزوجها، والحل هو أن المرأة عليها أن تلزم التوازن، وأن تحدد باقتناع ما تريد، وتزن الأمور حتى لا تصبح فى النهاية فريسة للضياع فى بحر من العقد ". هذا ما قاله علماء النفس، لكن الصحافة العربية تقول غير هذا، تقول على لسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 " أنيس منصور " (256) . (سوف تكون خيوط الموضة هذا الشتاء حشمة جداً، وسخيفة جداً لأن الفساتين سوف تكون طويلة وواسعة، وسوف تبدو المرأة وكأنها شماعة تحمل هذه الفساتين، وأن ما بينها وبين هذه الفساتين خصام) ، ثم يصف فى عبارة بذيئة هذه الثياب إلى أن يقول: (ثم إن الفساتين تبدو وكأنها إهانة للمرأة، فلا الساقان ظاهرتان، ولا ... ولا ... ولا الذراعان، ولا العنق، كأنها أنواع مختلفة من الخيام، وإن المرأة قد ضربت حولها وأمامها ووراءها الخيام فلا يراها أحد) ثم يقول: (إن ملوك الأناقة عوضوا المرأة عن هذه الخيمة بأشكال جميلة من قمصان النوم، ومعنى ذلك أن الموضة ستعجل المرأة جميلة فى البيت، وغير ذلك فى الشارع، على الرغم من أن المرأة حريصة على أن تبدو جميلة لكل الناس، فإنها تفضل أن تكون جميلة لشخص واحد، والمرأة التى لا تسعد برجل واحد، فإنها تحاول أن تلفت عيون الآخرين، ولذلك فإن المرأة تسارع إلى الشارع، وتتمتع بنظرات الناس إليها، لأنها لا تجد هذه المتعة فى البيت) (257) . سادساً: ومن أخطر محاولات الصحافة بالنسبة لتغيير العرف الإسلامي للمرأة هي رفع قدر الممثلات والراقصات والمغنيات، وجعلهن مثلاً أعلى للفتاة فى أمور الملبس والمأكل والعادات والتقاليد.   (256) (محمد أنيس منصور) من أعداء المرأة المسلمة الكارهين لما أنزل الله الذين لم يدخروا وسعاً في بلبلة الأفكار وتشويه العقائد وصرف الشباب عن مفهوم الدين الحق وقد قام بدور ضالع في إحياء الأساطير الفرعونية والفكر الفلسفي عند الفراعنة وسوّد الصفحات بأفكار مسمومة عن سارتر والوجودية وفرنسوا ساجان الكاتبة الفرنسية الإباحية وهو لا يألو جهداً في الترويج للراقصات والفاجرات بطرق شتى تهدف في جملتها إلى إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا فراجع " الصحافة والأقلام المسمومة " للأستاذ أنور الجندي ص (107 - 111) ، (184) لتطالع دوره في الصد عن سبيل الله وتحطيم الشباب المسلم. (257) انظر (الصحافة والأقلام المسمومة) ص (42 - 43) ، (56) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 سابعاً: ومن ذلك الدعوة إلى إلغاء قوامة الزوج على زوجته تقول (أمينة السعيد) : (القوامة اليوم لا مبرر لها لأن هذه القوامة مبنية على المزايا التي كان الرجل يتمتع بها في الماضي في مجال الثقافة والمال وما دامت المرأة استطاعت اليوم أن تتساوى مع الرجل في كل المجالات فلا مبرر للقوامة) (258) اهـ. ولا ريب أن هذه الآراء المسمومة التي ترددها (أمينة السعيد) هي نفسها التي طرحتها (سيمون دي بوفوار) ، ومجمع المؤامرات المنعقد ضد المرأة المسلمة. ثامناً: فساد توجيه الصحافة لطالبات الإجابة عن المشاكل والقضايا وما يتخلل الردود من سخرية واضحة بالدين واستهانة بالخلق ودعوة إلى التخفف من العقوبات الشرعية واللامبالاة الاجتماعية بالآثام والميل إلى اعتبار الآثام الخلقية داخلة في إطار الحرية الشخصية. تاسعاً: حملت الصحافة حملات شعواء على العلماء على العلماء الذين قدموا حكم الإسلام في المرأة في مواجهة سمومهم وضلالاتهم وذلك كما فعل " أحمد بهاء الدين " و " موسى صبري " وغيرهما. عاشراً: حاولت الصحافة تصوير الدعاة إلى تحرير المرأة بأنهم أنصارها الذين يدفعونها إلى الحرية والعمل والواقع غير ذلك فإن هؤلاء هم أعداؤها الحقيقيون الذين يدعونها إلى النار ويقودونها إلى الهاوية وصدق الله العظيم: (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً) النساء (27 - 28) .   (258) السابق ص (48) - وانظر القسم الثاني من هذا الكتاب ص (93 - 99) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وقفة مع بعض دعاة " تحرير المرأة " 1- إحسان عبد القدوس: (وهو أحد المسئولين عن إفساد هذا الجيل بما كتبه من روايات تجر الشباب جراً إلى القاع وتقتل فيهم نوازع السمو والسعي نحو مستوى خلقي أفضل إنه يرضي مظاهر واتجاهات الانحراف فيشجعها ويمجدها ويفلسفها ويرصد اتجاهات الاستقامة والفضيلة فيخذلها ويصدر عنها ويحاربها) (259) . يقول " إحسان ": (إن إيماني بحرية المرأة ليس له حدود) . {وقد كتب في إحدى توجيهاته التي كان يبثها في المجلة التي تحمل اسم والدته اليهودية (روز اليوسف) : (إنني أطالب كل فتاة أن تأخذ صديقها في يدها وتذهب إلى أبيها وتقول له: " هذا صديقي "!) ، وقال في " أخبار اليوم ": إنه زار إحدى الجامعات الألمانية ورأى هناك من أوضاع الطلاب والطالبات كذا وكذا - مما يرفض جبين القلم من الخجالة بتسطيره - ثم قال: (فقلت في نفسي: متى أرى ذلك المنظر في جامعة أسيوط! لكي تراه عيون أهل الصعيد وتتعود عليه!) اهـ (*) . (وما زال " إحسان " يقف مع كوكبة من أمثال " لويس عوض " و " نجيب محفوظ " و " مصطفى أمين " و " يوسف إدريس " في إصرار عجيب على الترويج للفحشاء وتبريرها في نفس الوقت الذي أخذت فيه ظاهرة المرأة المسلمة المحتشمة تبدو واضحة في كل مكان على أنها واقع أصيل يصفع الداعين إلى الشهوات والآثام) (260) .   (259) مجلة (المجتمع) الكويتية العدد (18 / 1 / 1977 م) . (*) انظر: " واقعنا المعاصر " ص (294 - 295) . (260) انظر: " الصحافة والأقلام المسمومة " ص (205) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 2- (نجيب محفوظ: {الشاك في كل قيمة المتذبذب في كل فكره الضائع في كل واد المتحدي لعقيدة الأمة والمتجه ناحية المشارب الأخرى يعب منها حتى يطفح فيفيض ما عليه على غيره وينتكس بعد ذلك إلى غيره} (261) . {وقد اتضح في آثاره ظاهرتان خطيرتان أولاهما: إشاعة الفاحشة وتبريرها وثانيتهما: الإلحاد ولهذا يوليه الماركسيون اهتماماً خاصاً وقد استخدموه في دعوتهم إلى الإباحية وإلى المفاهيم الهدامة للأسرة والفتاة وعمل المرأة وعلاقتها بالرجل} (262) . 3- مصطفى أمين: خريج مدرسة " التابعي " والصحافي البارع في وضع السموم في علب ملونة حلوة المظهر تخدع القراء قال الأستاذ " أنور الجندي ": (كان " مصطفى أمين " يصنع الأصنام ويعبدها ويحاول أن يجر الشعب معه ليسجد لتلك الأصنام) ، ومن مواقفه إزاء حركة الإصلاح الإسلامي قوله: (حارب الأحرار في هذه البلد سنوات طويلة لتحصل المرأة على بعض حقها ويظهر أن بعض الناس يريدون العودة بنا إلى الوراء وقد يحدث هذا في أي مكان   (261) انظر: " الصحافة والأقلام المسمومة " ص (189 - 196) . وإذا عرفنا أنه صنيعة (طه حسين) و (سلامة موسى) لم نستغرب اجتهاده في تحطيم الشباب فإن أستاذيه كانا يعرفان أنهما يقدمان سماً من نوع خطير إلى الأجيال الجديدة فيخدمان به دعوتهما ويكونان جيلاً يحمل أفكارها انظر المرجع السابق ص (186) ، (189) . (262) السابق، هذا وقد كافأته الأيدي الملحدة القذرة بمنحه جائزة نوبل للآداب لعام 1988 لتأليفه رواية " أولاد حارتنا " وجاء في حيثيات الترشيح الرسمية أن الرواية تعني بالبحث الأزلي للإنسان عن القيم الروحية فآدم وحواء وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم من الأنبياء والرسل يظهرون في تخف طفيف) اهـ وقد نشر ملخص هذه الرواية بجريدة النور عدد (22 ربيع الأول 1409 هـ) فإذا بها تتضمن الإلحاد في ذات الله والتفريط في جنب الله والاستهزاء بكعبة الله والتطاول على مقامات أنبياء الله وتجريح رسل الله بما فيهم موسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين والاستخفاف بملائكة الله بحيث يتحقق في صاحب هذه الرواية قول القائل: وكنت امرءاً من جند إبليس فارتقى بي الحال حتى صار إبليس من جندي ولا نبالغ إذا قلنا في ضوء هذه الرواية التي رقعت بوثنيات اليونان وإباحيات الرومان وخبث الماسون وإلحاد الماركسيين لا نبالغ إذا قلنا عن انتساب " نجيب محفوظ " إلى البشرية عار على الجنس البشري وأولى به أن يرجم كرجم العرب قبر أبي رغال وإن الكفر البواح والشرك الأكبر الذين تلبس بهما ليجعلانه عدواً لدوداً لكل ذي دين ولو كان يهودياً أو نصرانياً بله المسلم الموحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 ولكن لا نفهم أن يحدث في الجامعة مهد التقدم والفكر الحر) (263) . ومع أنه قلما يفصح عن أهدافه إلا أنه كتب يوماً تحت عنوان: " الأهداف التي ستعمل لها مصر بعد الاستقلال " (264) وجعل من أهدافه التي سيعني بها ويقود لها الرأي العام: (أن يحارب التعصب الديني وأن يجدد الأزهر وأن ينادى بتحرير المرأة قلبياً لأن الحب الطاهر لا يزال جريمة يعاقب عليها المجتمع والمجتمع المصري إلى اليوم مجتمع لا روح فيه لأنه خال من المرأة والشباب المصري لا شخصية له لأنه ليس في حياته امرأة ... ومن أهدافه أن يشجع المرأة على المطالبة بحقوقها السياسية وتولي الوظائف وأن ترث كما يرث الرجل تماماً وأن يدعو إلى اتحاد شرقي لا اتحاد إسلامي (265) على نظام الولايات المتحدة الأمريكية) (266) ومع أن أسمى ما تطمح إليه الأمة في هذا العصر هو تطبيق الشريعة الإسلامية نجد " مصطفى أمين " يسفه هذا المطلب ويقول: (إن حضارة مصر عمرها سبعة آلاف سنة ولا يمكن أن تعود القهقري إلى الخلف) (267) . 4- نزار قباني (268) : وهو من عصابة المجان الكارهين لما أنزل الله المحرضين على الفساد والفاحشة يقول في بعض أحاديثه: (لو كنت حاكماً لألغيت مؤسسة الزواج وختمت أبوابها بالشمع الأحمر) ، ويقول مستهزئاً: (العري أكثر حشمة من التستر) ، وقد حمل لواء الرفض لكل ما يمت إلى الإسلام والعروبة بصلة ويعده المتحررون من أعمدة الدعوة   (263) (أخبار اليوم) (5 نوفمبر 1977 م (. (264) وتاريخ المقال (15 مارس 1943 م) بمجلة الاثنين. (265) بهذا النص! (266) انظر " الصحافة والأقلام المسمومة " ص (99 - 106) . (267) انظر " الصحافة والأقلام المسمومة " ص (99 - 106) . (268) " الصحافة والأقلام المسمومة " ص (167 - 168) بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 إلى تحرير المرأة، قال الأستاذ " أنور الجندي ": أما شعر " نزار قباني " الذي أوسعت له الصحافة العربية الصفحات فيكفيني في التعريف به ما كتبه " محمد سالم غيث " في كتاب له حول شعر " نزار " يقول: لقد خلع " نزار " ثياب الرجل كثيراً ولبس ثياب المرأة وتقمص شخصيتها وتحدث بلسانها وقال: إنه يفعل ذلك " دفاعاً عن المرأة التي حكم عليها هذا الشرق الغبي بالإعدام " حتى إنه ليقدم أحد كتبه الفاجرة إلى طالبات الجامعة الأمريكية ويقول: " إنه كتابكن كتاب كل امرأة حكم عليها هذا الشرق الغبي بالإعدام ونفذ حكمه فيها قبل أن تفتح فمها ولأن هذا الشرق غبي وجاهل ومعقد يضطر رجل مثلي أن يلبس ثياب امرأة ويستعير كحلها وأساورها ليكتب عنها من مفارقات القدر أن أصرخ أنا بلسان النساء ولا تستطيع النساء أن يصرخن بأصواتهن الطبيعية "؟ ولا نستطيع أن نعلق على هذا إلا بما كتبه " صالح جودت " قائلاً: (لا رحم الله نزار: لقد مات كسوري ومات كعربي ومات كشاعر ومات كإنسان) (269) اهـ. شعر: لا بوركت تلك الأكف فإنها ضربت على الألباب سداً عاتياً حجبت صديع (270) الرشد عنها فارتمت تجتاب ليل الغي أسفع داجياً بعثوا الصحائف يلتوين كأنما بعثوا بهن عقارباً وأفاعيا صحف يزل الصدق عن صفحاتها ويظل جد القول عنها نابيا ليت الزلازل والصواعق في يدي فأصبها للغافلين قوافيا فنيت براكين القريض ولا أرى ما شفني من جهل قومي فانيا فلئن صمتُّ لأصمتن تجلدا ولئن نطقت لأنطقن تشاكيا (271)   (269) " الصحافة والأقلام المسمومة "، ص (167 - 168) بتصرف. (270) الصديع: الصبح. (271) " الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر "، (1 / 220) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 موقف الإسلام من دعاة تحرير المراة إذا كان حال هؤلاء الدعاة والداعيات كما تقدم وولاؤهم لأعداء الإسلام كما وصفنا فهل يحتاج الأمر منا إلى كثير تدبر فيما ينبغي أن يكون عليه موقف كل مسلمة ومسلم من دعوتهم الأثيمة؟ أليس هؤلاء ممن قال تعالى فيهم: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة) النور (19) وإذا كان القوم أشربت قلوبهم حب الكافرين وأولعوا بما هم عليه من الضلال المبين فأين أنت أيتها المسلمة من قوله تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه) آل عمران (28) وقوله تعالى: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) المجادلة (22) وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين بل الله مولاكم وهو خير الناصرين) آل عمران (149) وقوله تعالى:) وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون (الأنعام (121) وقوله تعالى:) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم (المائدة (51) . قال حذيفة: " ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر لهذه الآية (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) ". وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) المائدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 (54) قال علي: " (أذلة على المؤمنين) أهل رقة على أهل دينهم (أعزة على الكافرين) أهل غلظة على من خالفهم في دينهم " وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء) المائدة (57) وقال تعالى: (ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون) المائدة (80) وقال تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) هود (113) قال بن عباس: " (ولا تركنوا) ولا تميلوا ". قال بعض المفسرين في الآية: (فالنهي متناول للانحطاط في هوتهم والانقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم وزياراتهم ومداهنتهم والرضي بأعمالهم والتشبه بهم والتزيي بزيهم ومد العين إلى زهرتهم وذكرهم بما فيه تعظيم لهم والركون هو الميل اليسير) اهـ وقال تعالى:) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة (الآية الممتحنة (1) قال بن عباس: " من أحب في الله وأبغض في الله وعادى في الله ووالى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك " وقال تعالى: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) الأنفال (73) . وعن ابن عباس قال: قال رسول الله " لأبي ذر: يا أبا ذر أي عرى الإيمان أوثق؟ قال: الله ورسوله أعلم قال: المولاة في الله والحب في الله والبغض في الله (272) وعن أبي أمامة عن النبي " قال: من أحب لله وأغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان (273) وقال ": المرء مع من أحب (274) وقال ": ولا يحب رجل قوماً إلا جاء   (272) حسن بشواهده أنظر تحقيق (شرح السنة) للبغوي (13 / 53 - 54) . (273) جزء من حديث أخرجه أبو داود وحسنه الأرناؤوط (شرح السنة 13 / 54) . (274) متفق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 معهم (275) وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد فرض علينا تلاوة سورة الفاتحة في اليوم والليلة سبع عشرة مرة في كل مرة ندعو الله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم) ثم يبين سبحانه صفة هذا الصراط بقوله (غير المغضوب عليهم) وهم اليهود (ولا الضالين) وهم النصارى (الفاتحة 7) فما ذاك إلا لأنه لا يمكن للمسلم أن يستقيم إلا إذا خالف أصحاب الجحيم وتميز عن هديهم وطريقهم (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) الأنعام (153) . كيف إذاً نصدق هؤلاء الأفاكين وننقاد لأولئك المغررين من أعداء ديننا وأمتنا الذين يخبرنا سبحانه عما في قلوبهم بقوله: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم (البقرة (120) وقوله:) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون (آل عمران (118) . فيا أيتها الأخت المسلمة: إن أيديهم الماكرة الخبيثة الخادعة قد امتدت إليك في هذه الفتنة لتنزلك من علياء كرامتك وتهبط بك من سماء مجدك وتخرجك من دار سعادتك فاقطعيها بسرعة وبقوة فإنها يد مجرمة ظالمة واهتفي بما هتفت به من قبل " عائشة التيمورية " (276) : بيد العفاف أصون عز حجابي وبعصمتي أعلو على أترابي وبفكرة وقادة وقريحة نقادة قد كملت آدابي ما ضرني أدبي وحسن تعلمي إلا بكوني زهرة الألباب ما عاقني خجلي عن العليا ولا سدل الخمار بلمتي ونقابي (277)   (275) قطعة من حديث أخرجه البغوي في " شرح السنة " (13 / 64) . (276) هي الأديبة الألمعية شقيقة أحمد تيمور باشا (ت 1902) . (277) (الدر المنثور في طبقات ربات الخدور) لزينب يوسف فواز العاملي ص (309) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 قولي كما قالت أختك من قبل: أيها القوم أصلحوا أنفسكم خاب من رام السفور اليوم خابا برقعي وسط محيطي شرفي لم أحد عنه ولو ذقت العذابا واحذري من الذين: قالوا ارفعي عنك الحجابا أو ما كفاك به احتجابا واستقبلي عهد السفور اليوم واطرحي النقابا عهد الحجاب لقد تباعد يومه عنا وغابا ألقميهم الحجارة وأخرسيهم قائلة: فأجبتهم والضحك ملء ... فمي ولم أعدم جوابا مهلا فما هذا الذي ... قد غركم إلا سرابا أو لا ترون الغرب كيـ ... ـف غدا الرجال به ذئابا أو لا ترون عري الأ ... خلاق تنشعب انشعابا كم نظرة للوجه تو ... رث في الحشا جمرا مذابا إن ترغبوا لنسائكم ... صونا وعيشا مستطابا فدعوا السفور لأهله ... وارخوا عليهن النقابا (278)   (278) (فقه النظر في الإسلام) لمحمد أديب كلكل ص (188) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 السفور مَطِيَّة الفجور عن النواس بن سمعان عن رسول الله " أنه قال: " ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تعوجوا وداع يدعو من فوق الصراط فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه فالصراط الإسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم " (281) . وعن حذيفة أنه قيل له: (في يوم واحد تركت بنو إسرائيل دينهم؟) قال: (لا ولكنهم كانوا إذا أمروا بشيء تركوه وإذا نهوا عن شيء ركبوه حتى انسلخوا من دينهم كما ينسلخ الرجل من قميصه) (282) . ومعلوم أن المعاصي تزرع أمثالها ويولد بعضها بعضاً حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها فكلما فرط من العبد معصية قالت أخرى إلى جانبها: (اعملني أيضاً) فإذا عملها قالت الثالثة كذلك وهلم جرا حتى تصير المعاصي هيئات راسخة وصفات لازمة وملكات ثابتة بحيث لو عطل المسيء سيئاته لضاقت عليه نفسه وضاقت عليه الأرض بما رحبت وأحس من نفسه أنه كالحوت إذا فارق الماء حتى يعاودها فتسكن نفسه وتقر عينه ولا يزال المسكين يألف المعاصي حتى ينسلخ من قلبه استقباحها فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له بل يحبها حتى يرسل الله عليه الشياطين تؤزه إليها أزاً فيكونون أعواناً عليه.   (281) رواه الإمام أحمد في مسنده عن النواس بن سمعان وأخرجه الترمذي والنسائي والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، قال الألباني " وهو كما قالا " (صحيح الجامع رقم 3782) . (282) رواه عن حذيفة أبو نعيم في الحلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وقال شيخ من أهل الشام:) من أعطى أسباب الفتنة من نفسه أولاً لم ينج آخراً وإن كان جاهداً) (283) وفي بعض الآثار: (إذا استشرفت للفتن استشرفت لك) ومن هنا قال أبو السعود في " مراقي السعود ": سد الذرائع إلى المحرم حتم كفتحها إلى المنحتم إن الذي يسمح لقدمه أن تنزلق خطوة واحدة في أول الطريق لا يدري إلى أين تسوقه قدماه وإلى أين ينتهي به المسير لذا كان علينا أن نضع للأشياء حدوداً لا نسمح لأنفسنا بتخطيها. سنة إبليسية: (لقد نهج دعاة التحرير نفس منهج إمامهم الأول إبليس لعنه الله إذا ما كان من إبليس إلا أن زيف للأبوين الحقيقة وألبس الحق لباس الباطل والباطل لباس الحق لم يأت الشيطان ليقول للإنسان: كل من الشجرة المحرمة كي يغضب الله عليك ويطردك من جنته وينزلك إلى دار الشقاء بل قال له: إن في الأكل من الشجرة سعادتك وهناءك وخيرك وقال له: إن أنت أكلت من الشجرة حصلت على الملك العظيم والحياة الخالدة وتحولت إلى ملك غير قابل للفناء. وزيادة في الإضلال وإمعاناً في التغرير بآدم أقسم له ولزوجه أنه صادق فيما يقول وأنه ناصح لهما يقدم لهما الخير ويدلهما على الطريق الحق (فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) طه (120) ، (وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما   (283) (ذم الهوى) لابن الجوزي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 إني لكما لمن الناصحين) وما النتيجة؟ (فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) الأعراف (20: 22) . (قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) (284) . وهكذا تذرع الشيطان إلى الفجور الذي نراه اليوم ونعاني ويلاته بالسفور كخطوة أولى يستنزل بها المرأة المسلمة من عليائها وعفتها وما كان للمسلمة أن تطيعه أبداً إذا دعاها صراحة وهي في قمة الاحتجاب والتعفف إلى ما نراه الآن مثلاً على شواطئ البحار وفي دور الخيالة لكن الخبيث تدرج معها ابتداءً بأن السفور (كشف الوجه) جائز شرعاً وانتهاءً بأن خير الهدي هدي أوربا وأمريكا. قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله في معرض كلامه عن أثر كشف المرأة وجهها في وقوع الافتتان بها: (.. ولهذا أمر النساء بستر وجوههن عن الرجال فإن ظهور الوجه يسفر عن كمال المحاسن فيقع الافتتان) (285) اهـ. جاء في ترجمة عبيد بن عمير المكي من " ثقات العجلي " قال: (كانت امرأة جميلة بمكة كان لها زوج فنظرت يوماً إلى وجهها في المرآة فقالت لزوجها: أترى أحداً يرى هذا الوجه ولا يفتن به؟ قال: نعم فقالت: من؟ قال: عبيد بن عمير قالت: فأذن لي فلأفتننه! قال: قد أذنت لك فأتته فاستفتته فخلا معها في ناحية من المسجد الحرام قالت: فأسفرت عن مثل فلقة القمر فقال لها:" يا أمة الله اتقي الله ") (286) . ومن قبل قال (بعض) أهل الأهواء في تصوير فتنة السفور أو الحجاب " النصفي ":   (284) (المرأة بين دعاة الإسلام وأدعياء التقدم) للدكتور عمر سليمان الأشقر ص (17 - 18) بتصرف. (285) (روضة المحبين ونزهة المشتاقين) ص (67) . (286) (حجاب المرأة المسلمة) للألباني هامش ص (53) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 قل للميلحة في الخمار المذهب أذهبت دين أخي التقى المتعبد نور الخمار ونور وجهك ساطع عجباً لوجهك كيف لم يتوقد تمسك المصريين بالحجاب: لقد بلغ تمسك المسلمين في مصر بالحجاب مبلغاً عظيماً إلى حد دفع الشاعر (حافظ إبراهيم) يعبر عن عجز المتفرنجين عن إزاحة النقاب عن وجه المرأة المسلمة ويأسه هو نفسه من استجابة الشعب لتلك النعرة بقوله (وبئس ما قال) : فلو خطرت في مصر حواء أمناً يلوح محياها لنا ونراقبه وفي يدها العذراء يسفر وجهها تصافح منا من ترى وتخاطبه وخلفها موسى وعيسى وأحمد وجيش من الأملاك ماجت مواكبه وقالوا لنا: رفع النقاب محلل لقلنا لهم: حق ولكن نجانبه (287) مع أن (حافظاً) هو نفسه القائل: الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق أنا لا أقول دعوا النساء سوافراً بين الرجال يجلن في الأسواق يدرجن حيث أردن لا من وازع يحذرن رقبته ولا من واقي يفعلن أفعال الرجال لواهياً عن واجبات نواعس الأحداق في دورهن شؤونهن كثيرة كشئون رب السيف والمرزاق (288) سياسة " تكسير الموجة " ولما كان تمسك المسلمين بالحجاب أصلاً من أصول نظامهم الاجتماعي نهج أعداء المرأة المسلمة سياسة تكسير الموجة شيئاً فشيئاً وهي سياسة استعمارية   (287) جريدة الأهرام (5 / 9 / 1982 م) . (288) المزراق: الرمح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 معروفة (289) فكانت الخطوة الأولى إبراز فكرة جديدة كنقطة انطلاق يتبعها ما وراءها وتضفي عليها الصبغة الدينية الشرعية حتى لا تصدم شعور العامة ويكون التذرع بالدين وفتح باب الاجتهاد سبيلاً إلى قبولها ولابد في ذلك من استدراج بعض الشيوخ والعلماء لكي يدلوا بدلوهم في القضية باعتبار أنها خلاف فقهي فيه راجح ومرجوح ومن هنا تبدأ القابلية للتردد وزلزلة الأفكار، أجل! لابد أن يبدأ الزحف بصحبة الشيوخ الذين تقدسهم العامة والذين يستغلون في البداية كأسلحة مؤقتة ولا بأس أيضاً بالتنقيب في الأسفار والبحث هنا وهناك عن عبارات وفتاوى مبتورة تبرر الانحراف عن الشريعة ثم بعد ذلك وبعد تمكن الفكرة الجديدة من القلوب وشن الحملات على ما يخالفها من الأوضاع الاجتماعية السائدة يبدأ الانخلاع من الدين شيئاً فشيئاً لتختفي النبرة الإسلامية حيناً ثم تأتي مرحلة الهدم والضرب العشوائي الذي يحطم كل شيء. لقد بدأت حركة (تحرير المرأة) على أيدي المتفرنجين فقلدهم بعض الخطباء الجهلة والكتاب الفسقة ونشبت المعركة أول ما نشبت حول (كشف وجه المرأة) أي السفور وأقام العلماء الناصحون الدنيا وأقعدوها ليحبطوا تلك الدعوة إلى السفور لا لأنه الحكم الراجح في المسألة فحسب ولكن لأنهم فطنوا لحقيقة الخطة المدمرة التي تستهدف القضاء على المرأة المسلمة وتحطيم كيانها لقد نادوا بتخليص المرأة من الحجاب ولزوم البيت والخضوع للآباء والخنوع للأزواج والبعد عن الحياة الاجتماعية والسياسية وواتت هذه الحركة فرصة وجود الأمة المسلمة مستعبدة للأجنبي الكافر مستعمرة له ترزح تحت نيرانه وتأن تحت كلكله تتوجب لما يصب عليها من جم غضبه وما يسومها من سوء عذابه فنسبوا - مكراً وخديعة - كل ما حل بالأمة   (289) انظر: (الاتجاهات الوطنية) (2 / 245 - 246) ، و (من أصداء الدين في الشعر المصري الحديث) للدكتور سعد الدين محمد الجيزاوي (1 / 322) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 المسلمة من تأخر وضعف وهون ودون إلى حجاب المرأة وعفتها وحيائها وبعدها عن التعليم العقيم والسياسة الفاجرة والحياة الاجتماعية الفاسدة. وانخدع كثير من النساء وأوليائهن بتلك الدعاوى المعسولة المسمومة وأخذت الفتاة المسلمة تتمرد على الحجاب وتحاول التخلص منه فبدأت لأول مرة بإلقاء البرقع الذي كان على وجهها ونزع النقاب من الوجه كذلك فظهرت الوجوه ما يحجبها برقع ولا يغطيها نقاب - وإنا لله وإنا إليه راجعون. لقد كانت خطوة جريئة من المرأة يومذاك صفق لها دعاة السفور وعباد الشهوات ورواد الفجور. سنة سيئة: ثم كان أن خطا الناس إلى أبعد مما نادى به " قاسم أمين " فقد زعم أنه إنما يدعو إلى الوقوف بالحجاب عندما أمر الله به ولم يدع قط إلى كشف العورات كالأذرع والسوق وغيرها ولم يدع صراحة إلى الاختلاط بالرجال ومراقصتهم كلا ولا دعا إلى شيء مما نراه الآن من انحطاط وتهتك ولكن قاسم أمين - وإن لم يدعو إلى شيء من ذلك صراحة - هو الذي فتح الباب لهذه الدعوات وهو الذي سن تلك السنة القبيحة سنة السفور لتكون ذريعة إلى ما تلاها من فساد وهو الذي خطا بالمرأة المسلمة في طريق يعلم كل عاقل أن الناس لابد أن يسيروا فيه من بعده خطوات وخطوات.. ويعلم كل مدرك واع أن الخلف بين المسلمين وبين الغربيين في هذه القضية خاصة مما لا يرجى معه اتفاق إلا بفناء أحد المذهبين في الآخر تماماً وبلا قيود وبلا حد وسط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 " ومعظم النار من مستصغر الشرر ": أخذت الأمور تتطور سريعاً حتى استنفدت " دعوة قاسم أمين " - في وقت وجيز - كل أغراضها وسارت الحال على سنة التدرج المعروفة واندفع الناس إلى ما وراء السفور في سرعة غير منتظرة فقد بدأت الفتنة العظمى بان خلعت المرأة النقاب وخلعت معه ما هو أغلى منه وأثمن ألا وهو ثوب الحياء الذي طالما صان وجهها أن يكون معروضاً ومبذولاً لكل من شاء أن يراه من أجنبي أو فاسق أو كافر ثم استبدلت المرأة المعطف الأسود بالحبرة (290) وما هي إلا فترة من الزمن حتى امتدت يد التحرر إلى الخمار الذي كان لا يزال يستر شعر الرأس وبدا - لأول مرة - شعر المسلمة مكشوفاً لا شيء عليه يستره عن أعين الناس من أجانب وأقارب وبذلك شل جسم الحياء في المرأة ولم يعد قادراً على منعها من أن تحدث وتجالس أو تصافح وتضاحك من شاءت من الرجال عامة وأصدقاء وأقارب الزوج خاصة وإن بعدوا أو سفلوا. وتأتي بعد ذلك الخطوة الأكثر جرأة إذ تعمد المرأة إلى ملاءتها أو عباءتها أو معطفها فتلفها كالثوب الخرق وترمي بها بعيداً عن ساحة الحياة وتخرج المرأة المسلمة لأول مرة في تاريخ إسلامها في درع سابغ مزين بالألوان المزخرفة تحته غلالة لطيفة وما فوقه شيء ... ثم إذا بالمقص يتحيف هذه الثياب في الذيول والأكمام وفي الجيوب (291) ولم يزل يجور عليها فضيقها على صاحبتها حتى أصبحت كبعض جلدها ثم أنها تجاوزت ذلك كله إلى الظهور على شواطئ البحر في المصايف بما لا يكاد يستر شيئاً ولم تعد   (290) الحبرة: بفتحتين - إزار كانت المرأة تلتحف به إذا برزت للطريق وقد كان يتخذ من قماش أسود ويتكون من قطعتين تدور إحداهما حول الخصر وتنسدل إلى أن تغطي الساقين وتنزل الأخرى من فوق الرأس فتغطي الصدر والكتفين وتنتهي إلى ما دون الخصر وقد اختفى هذا الزي الآن. (291) الجيب: فتحة إدخال الرأس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 عصمة النساء في أيدي أزواجهن ولكنها أصبحت في أيدي صانعي الأزياء في باريس وغيرها من اليهود ومشيعي الفجور. وقطعت المرأة مراحل التعليم المختلفة واقتحمت الجامعة مخالطة للرجال في الطرقات والمواصلات والمدرجات مزاحمة فيما يلائمها وفيما لا يلائمها من ثقافات وصناعات وشاركت في وظائف الحكومة ثم لم تقف مطالبها عند حد في الجري وراء ما سماه أنصارها " حقوق المرأة " أو " مساواتها بالرجل " وكأنما كان عبثاً خلق الله سبحانه وتعالى الذكر والأنثى وأقام كل منهما فيما أراد بحكمته جل وعلا، وامتلأت المصانع والمتاجر بالعاملات والبائعات وحطم النساء الحواجز التي كانت تقوم بينهن وبين الرجال في المسارح وفي الترام وفي كل مكان فاختفت المقاعد التي جرت العادة بتخصيصها للسيدات بعد أن أصبحن لا يستحيين من مشاركة الرجال. تتابعت هذه التطورات في سرعة مذهلة ولم تدع فرصة للمعارضة وأعان على اندفاعها جو الثورة التي تلت الحرب وما كان يوحي به من جرأة ومن تمرد على كل قديم وقد ظهرت طلائع ذلك في مظاهرة النساء المشهورة في مارس سنة 1919 التي طافت بشوراع القاهرة هاتفة بالحرية في طريقها إلى دار المعتمد البريطاني لتقدم إليه احتجاجا مكتوباً على تعسف سلطات الاحتلال وقد كان عدد المتظاهرات يربو على الثلاثمائة وعلى رأسهن " صفية زغلول " و " هدى شعراوي " (292) وهذه المظاهرة هي التي قال فيها " حافظ إبراهيم " يصف تعرض الجيش البريطاني لها متهكماً (293) :   (292) ومن النساء اللاتي اشتركن في تلك المظاهرة كزعيمات (حرم حنا مسيحة، حرم د. نجيب اسكندر، حرم اسكندر مسيحة، الآنسة جولييت صليب، رفائيل بغدادي، حرم ويصا واصف، الآنسة ماري ميرهم، حرم صليب منقريوس، حرم ميخائيل لبيب) ، وحرم قاسم أمين. (293) ديوان حافظ إبراهيم (2 / 87) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 خرج الغواني يحتججن ورحت أرقب جمعهنه فإذا بهن تخذن من سود الثياب شعارهنه وظللن مثل كواكب يسطعن في وسط الدجنه وأخذن يجتزن الطريق ودار سعد قصدهنه يمشين في كنف الوقار وقد أبن شعورهنه وإذا بجيش مقبل والخيل مطلقة الأعنه وإذا الجنود سيوفها قد صوبت لنحورهنه وإذا المدافع والبنادق والصوارم والأسنه والخيل والفرسان قد ضربت نطاقاً حولهنه والورد والريحان في ذاك النهار سلاحهنه فتطاحن الجيشان ساعات تشيب لها الأجنه فتضعضع النسوان والنسوان ليس لهن مُنَّه (*) ثم أنهزمن مشتتات الشمل نحو قصورهنه فليهنأ الجيش الفخور بنصره وبكسرهنه فكأنما الأ لمان قد لبسوا البراقع بينهنه وأتوا (بهندنبرج) (294) مختفياً بمصر يقودهنه فلذاك خافوا بأسهن وأشفقوا من كيدهنه وتجرأت المرأة منذ ذلك الوقت على المشاركة في القضايا الوطنية (295) وفي مختلف   (*) منة: أي قوة. (294) هو رئيس الجمهورية الألمانية وقائد جيشها، انظر الموسوعة العربية الميسرة ص (1905) . (295) من ذلك ما حدث يوم الجمعة 12 ديسمبر من نفس العام حيث (سبقت حفنة من سيدات مصر جمع الهيئات الوطنية إلى الاحتجاج - ضد لجنة ملنر - على شكل مؤتمر وطني في دار الكنيسة المرقسية بالقاهرة) اهـ عن (المرأة المصرية) لدرية شفيق ص (126) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الميادين الاجتماعية فتألفت لجنة مركزية للسيدات الوفديات شاركت مشاركة فعالة في حركة المقاطعة الاقتصادية سنة (1922) وتزعمت " صفية زغلول " حرم زعيم الثورة الأول وكريمة مصطفى فهمي باشا هذه الحركة الأولى التي طفرت بالمرأة إلى وضع لم يحلم به " قاسم أمين " أن تبلغه في مثل هذه المدة الوجيزة وبهذه السهولة وغفلت عين المعارضين من المحافظين عن هذه الخطوات الجريئة التي أضفى عليها جو الثورة لون من النبل حفظها من أن تهاجم أو تمس. ثم تنبه المعارضون فإذا المراة ماضية قدماً في استئناف الطريق التي وضعت قدمها على أوله باشتراكها في ثورة (1919) فأخذت تؤسس الجماعات وتقيم الحفلات وتعقد الندوات والمحاضرات وتزعمت هذه الحركة النسوية " هدى شعراوي " وتجرأت هذه المتزعمة على ما لم تتجرأ عليه امرأة مسلمة من قبل فسافرت إلى باريس وإلى أمريكا لدراسة شئون المرأة وأخذت تلقي بالتصريحات والأحاديث لمندوبي الصحف وجزع المحافظون لما صحب هذه الحركة من ميل إلى التبرج ومن نزوع إلى التحرر والانطلاق وأنكروا ما رأوا من تغير حال المراة ومن جرأتها على التقاليد وتمردها على سلطة الأب والزوج وراحوا يتابعون في ذهول تطور الزي وتقلص الثوب فوق جسدها في سرعة تجاوزت كل ما يتخيلون من حدود. يقول عبد المطلب ناعياً على النساء تقصير الثياب والتبرج (296) : ما في بنات النيل من أرب لذي غرض نبيل أصبحن عاباً في الزمان وسوأة في شر جيل ما هذه الحبرات تهفو في الخمائل والحقول   (296) {ديوان عبد المطلب (ص 184 - 188) وليت شعري ماذا كان عساه قائلاً لو رأى أزياء المرأة اليوم فقد يبدو أن أشد أنصار الحشمة تطرفاً لا يكاد يطمع في أن يعيد المرأة إلى مثل هذا الزي الذي يشكو منه الشاعر} من تعليق الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله (الاتجاهات الوطنية 2/240) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 نكر العفاف ذيولها ومن الخنى قصر الذيول إن ينتسبن إلى الحجاب فإنه نسب الدخيل يختلن أبناء الهوى بالدل والنظر الختول من كل خائنة الحليل تهيم في طلب الخليل ما لأبنة الخدر المصون وربة المجد الأثيل أودى شفيف نقابها بكرامة الأم البتول (297) وعلى رنين حجولها أسفاً على الذيل الطويل فإذا مشت النقاب محاسن الوجه الجميل ولقد ينم عبيرها فتحسه من نحو ميل ترتاد خائنة العيون بلحظ فاتنة قتول يا هل درى (ذاك) الغيور بما جرى!؟ ويح الجهول (298) أهي التي فرض الحجاب لصونها شرع الرسول؟ جعل الحجاب معاذها من ذلك الداء الوبيل يا منزل القرآن نوراً للبصائر والعقول! عميت بصائر أهل وادي النيل عن وضح السبيل ذهلوا عن الأعراض لو يدرون عاقبة الذهول! كان تيار السفور والتبرج جارفاً لم تستطع صيحات المحافظين أن تقف في وجهه بل لم تستطع أن تقلل من حدته أو تخفف من سرعته ولكن ذلك لم يكن ليثنيهم عن التنبيه والتحذير على كل حال ...   (297) الشاعر هنا لا يشكو من نزع النقاب ولكنه يشكو من رقته التي تشف عما تحته؟! . (298) لعله يُعَّرِض بـ " قاسم أمين ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 صيحة نذير: وهذا هو " شكيب أرسلان " (299) ينشر مقالاً عن (السفور والحجاب) (300) يحاول أن يقدم للناس درساً يستنبط فيه العظة من تطورات السفور في تركيا فيعرض للمراحل التي مر بها ليبين أن الدعوة إلى نزع الحجاب هي مرحلة تهيئ لما يليها من الدعوات التي ترمي إلى هدم أحكام الإسلام فيقول فيما يقول: (عند إعلان الدستور العثماني سنة 1908 قال " أحمد رضا " بك من زعماء أحرار الترك: " ما دام الرجل التركي لا يقدر أن يمشي علناً مع المرأة التركية على جسر غلطة (301) وهي سافرة الوجه فلا أعد في تركيا دستوراً ولا حرية " فكانت هذه المرحلة الأولى وفي هذه الأيام بلغني أن أحد مبعوثي مجلس أنقرة الكاتب "رفقي بك" الذي كان كاتباً عند " جمال باشا " في سورية كتب: " إنه ما دامت الفتاة التركية لا تقدر أن تتزوج بمن شاءت ولو كان من غير المسلمين (302) بل   (299) ولولد " شكيب أرسلان " في بلدة الشويفات من مقاطعة " الشوف " التي تبعد من بيروت قرابة عشرة أميال ومعنى " شكيب " بالفارسية: الصابر ومعنى " أرسلان " بالفارسية والتركية: الأسد، وهو من طائفة (الدروز) اللبنانية وهم (إسماعيلية فاطمية) وقد ذكر الشيخ الشرباصي أن الأمير شكيباً كان سنياً وإن انتسب سياسياً أو إدارياً إلى الدروز وأنه كان يتعبد على طريقة السنيين فهو يصلي ويصوم ويحج كما يفعل جمهور المسلمين قال: (وقد أكدت لي زوجته هذه الحقيقة وقالت أن الدروز يحرمون الزواج من سنية ولكن زوجي تزوجني وأنا سنية مسلمة وقد تسبب هذا الوضع في متاعب لشكيب فمن الدروز من لا يرونه درزياً كاملاً ومن السنيين من لا يرونه سنياً كاملاً فضاع جانب من حقه بين هؤلاء وهؤلاء) اهـ من (شكيب أرسلان) للشيخ أحمد الشرباصي، ص (51 - 52) ويعكر على هذا ما هو معلوم من زواج (كمال جنبلاط) زعيم الدروز من " مي " ابنة شكيب فالله أعلم بحقيقة أمره. (300) (المنار) عدد 29 ذي الحجة 1343 هـ - 21 يولية 1925 م ص (206 - 210) . (301) كوبري جلتا أو بلتا جسر شهير في مركز مدينة استانبول يربط بين قارتي أسية وأوربة ويصل بين شطري المدينة التي تمتد في القارتين. (302) وبالفعل نص القانون المدني التركي فيما بعد على إباحة زواج النصراني من المسلمة، انظر مجلة الرسالة العدد = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 ما دامت لا تعقد مقاولة مع رجل تعيش وإياه كما تريد مسلماً كان أو غير مسلم فإنه لا يعد تركيا قد بلغت رقياً " فهذه هي المرحلة الثانية) ثم يقول " شكيب أرسلان ": (فأنت ترى أن المسألة ليست منحصرة في السفور ولا هي بمجرد حرية المرأة المسلمة في الذهاب والمجئ كيفما تشاء بل هناك سلسلة طويلة حلقاتها متصل بعضها ببعض لابد من أن ينظر الإنسان إليها كلها من أولها إلى آخرها فإذا كان ممن يرى حرية المرأة المطلقة فعليه أن يقبلها بحذافيرها ... أما أن نجمع بين حرية المراة وعدم حريتها وأن نطلق لها الأمر تذهب حيث أرادت وتحادث من أرادت وتضاحك من أرادت وتغامز من أرادت ثم إذا صبا قلبها إلى رجل من غير جنسنا فذهبت وساكنته وكان بينها وبينه ما يكون بين الرجل وزوجته أقمن القيامة ودعونا بالمسدس وقلنا: يا للحمية يا للأنفة يا للغيرة على العرض! فهذا لا يكون! وليس من العدل ولا من المنطق أن يكون) . ثم يقول: (والنتيجة التي نريدها قد حصلت وهي أن سلوكنا مسلك الأوربيين حذو القذة (303) بالقذة في هذه المسألة هذا له توابع ولوازم لابد أن نقبلها ولا يبقى معها محل لكلمة: " أعوذ بالله " كلا! لا يوجد هناك " أعوذ بالله " بل تلك مدنية وهذه مدنية تلك نظرية وهذه نظرية وعلينا أن نختار إحدى المدنيتين أو إحدى النظريتين مهما استتبعت من الأمور التي كان يقال في مثلها عندنا: أعوذ بالله) اهـ. وقد كان الذي قاله " شكيب أرسلان " وتوقعه في سنة 1925 صحيحاً   = 80 تاريخ 9 شوال 1353 هـ 14 يناير 1935 م ص (45) . (303) القذة: ريش السهم، والحذو: القطع والتقدير على مثال أي كما تقدر كل واحدة منها على صاحبتها وتقطع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 تماماً فلم تمض عليه ثلاث عشرة سنة حتى ارتفع صوت يقول تحت عنوان: " بعد السفور " (304) : (إننا لم نخط بعد الخطوة الحاسمة في سبيل تطبيق روح الحضارة العصرية على عاداتنا وأخلاقنا وأساليب حياتنا إن نساءنا العصريات المتعلمات اللواتي يطالعن الصحف ويقرأن القصص ويغشين المسارح ودور السينما ما يزال يحال بينهن وبين الظهور في المجتمعات البيتية أمام رجل غريب فنحن قد سلمنا بمبدأ تعليم نسائنا ولكنا لم نسلم بعد بقدرة هؤلاء النساء على الانتظام في حفل كبير يضم عدداً من أفراد الجنسين ويتألف منه مجتمع مصري مختلط أشبه بالمجتمعات الأوربية التي نشهدها في مصر ونحسد الأجانب عليها) . ويزعم الكاتب الكاثوليكي أن ذلك راجع إلى أن (ثقة الرجل المصري بالرجل المصري لا تزال معدومة) ثم يقول: (وقد ترتب على ذلك أنك أصبحت ترى امرأة صديقك السافرة في الشارع وفي المحل التجاري وفي دار المسرح أو السينما ثم لا تستطيع أن تراها في بيتها لتتفهم حقيقة شخصيتها وتعرف كيف تعيش؟ وكيف تشعر؟ وكيف تفكر؟ أصبحت تبصرها في الحياة العامة وتعجب بها ولكنك متى أردت تهذيب عواطفك وصقل إحساساتك ومشاعرك بالجلوس إليها والتحدث معها وإشراكها في المسائل التي تشغل عقلك وعقل مواطنيك حيل بينك وبينها واتهمت بفساد النية وسوء القصد) . ثم يزعم الكاتب في مقاله أن (المجتمع المختلط هو الذي يقرر مسافة الخلف بين الجنسين ويقيم علاقات بين الرجل والمرأة على قاعدة التفاهم الفكري العاطفي) .   (304) مقال في (الهلال) بعدد أول يناير 1938 - 29 شوال 1356 هـ ص (268 - 272) للصحافي الكاثوليكي إبراهيم المصري - انظر جريدة " أخبار اليوم " تاريخ 30 / 10 / 1980 م ص (11) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 ثم يدعو الكاتب المصريين لأن يطردوا من عقولهم: (الاعتقاد الشرقي الشائع بأن الرجل والمرأة متى التقيا فلابد أن ينهض الشيطان بينهما وينفث في نفسيهما سموم الرذيلة والشر (305) هذا هو سر تأخرنا وهو بقايا عصور الجهل والخوف والظلام) أهـ كلامه. شعر: من عذيري من معشر هجروا العقل وحادوا عن طرقه المستقيمة لا يرون الإنسان قد نال حظاً من صلاح حتى يكون بهيمة (306) وإذا كانت هذه أدنى ثمرات السفور فلننظر إلى أقصى ثمراته المريرة لندرك الهدف الذي يدعو إليه (المتحررون) : جاء في مجلة " صباح الخير " ما نصه: (إن نظام الزواج في وطننا العربي هو نظام مضحك يدعو إلى السخرية: مهر وعقد.. مظاهر جوفاء تقتل فيها الإرادة وتقتل المشاعر الإنسانية) (307) اهـ والآن يا أختي المسلمة: هل أدركت مدى فطنة فقهائنا لما حرموا السفور سداً للذريعة؟ وهل لك أن تسمعي هذه النصيحة من شيخ ناصح أمين (308) : (إن بداية السفور والتبرج الجاهلي الذي عليه جل نساء المؤمنين اليوم في ديار المسلمين إنما بدأ من كشف الوجه بإزالة البرقع والنقاب عنه حتى بات وأصبح   (305) هذا من الكاتب النصراني زيادة في الكفر إذ إن الذي يشير إليه ليس اعتقاداً شرقياً ولكنه معنى حديث شريف عن سيد ولد آدم - صلى الله عليه وسلم -. (306) من شعر الإمام (ابن دقيق العيد) رحمه الله نقلاً عن " المجددون في الإسلام " ص (270) . (307) نقلاً من " محاضرات الجامعة الإسلامية " موسم عام (1395 - 1396 هـ) ص (128) . (308) هو فضيلة الداعية الإسلامي الكبير " أبو بكر جابر الجزائري " حفظه الله في رسالته: (إلى الفتاة السعودية والمسئولين عنها) ص (26) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وأضحى وظل وأمسى من المعلوم بالضرورة: أن من كشفت من الفتيات عن وجهها اليوم ستكشف غداً حتماً عن رأسها وصدرها وساقيها وحتى فخذيها ولا يجادل في هذا أو لا يسلمه إلا مغرور مخدوع أو مضلل مغرر مخادع يعمل لحساب الماسونية العالمية التي جعلت من أهدافها القضاء على الإسلام عقيدة وبيتاً ومجتمعاً ودولة.. وبناء على هذا فإن اليد التي تحاول أن تحسر الحجاب عن وجه فتياتنا اليوم ينبغي الضرب عليها وإن اللسان الذي يدعو فتاتنا إلى نزع الحجاب بإسقاط ملاءتها ينبغي أن يقطع) ويقول فضيلته محذراً من المغررين (309) : (إنهم اليوم لا يطلبون منك أكثر من كشف وجهك وبحجة أن كشف الوجه مختلف فيه بين أهل العلم في كونه الزينة التي يجب أن تخفيها المسلمة أو من غير الزينة مما لا يجب عليها إخفاؤها.. غير إنهم يعلمون علم اليقين - بحكم التجارب الطويلة العديدة - أنك يوم تكشفين عن وجهك ويذهب ماؤه وحياؤه ستكشفين لهم عما عدا ذلك) اهـ. وصدق الشيخ " سعيد الجابي " رحمه الله إذ قال: رفع النقاب وسيلة إن حبذت ضمت إليها للفجور وسائل فالاختلاط فمرقص فتواعد فالإجتماع فخلوة فتواصل (310) وصدق الشاعر " أحمد شوقي " حين قال: صداح يا ملك الكنار ويا أمير البلبل إن طرت عن كنفي وقعت على النسور الجهل حرصي عليك هوى ومن يحرز ثميناً يبخل (311)   (309) السابق ص (17 - 18) . (310) (فقه النظر في الإسلام) ص (74) . (311) (مهلاً يا صاحبة القوارير) ص (29) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وقال آخر: يا أخت سابغة البراقع في الأباطح والوعور قري فديتك حيث لا تؤذيك لا فحة الهجير ودعي الجنوح إلى السفور وخففي ألم العشير النمر لو لزم الشرى (312) من كان يطمع في النمور؟ والطير تأخذها شباك الصيد في ترك الوكور (313) عبرة والآن فلنتوقف - إلى حين - لنطالع هذه (العبرة) كما حكاها الكاتب الأديب " المنفلوطي " في مقال له في مسألة الحجاب (314) قال رحمه الله: {ذهب فلان إلى أوربا وما ننكر من أمره شيئاً فلبث فيها بضع سنين ثم عاد وما بقي مما كنا نعرف منه شيء: ذهب بوجه كوجه العذراء ليلة عرسها وعاد بوجه كوجه الصخرة الملساء تحت الليلة الماطرة وذهب بقلب نقي طاهر يأنس بالعفو ويستريح إلى العذر وعاد بقلب ملفف مدخول لا يفارقه السخط على الأرض وساكنها وعلى السماء وخالقها وذهب بنفس غضة خاشعة ترى كل نفس فوقها وعاد بنفس ذهابة نزاعة لا ترى شيئاً فوقها ولا تلقي نظرة واحدة على ما تحتها وذهب بنفس مملوءة حكمة ورأياً وعاد برأس كرأس التمثال المثقب لا يملأه إلا الهواء المتردد وذهب وما على الأرض أحب إليه من دينه ووطنه وعاد وما على وجهها أصغر في عينيه منهما وكنت أرى أن هذه الصور الغريبة التي يتراءى بها هؤلاء الضعفاء من الفتيان العائدين   (312) الشرى: كعلي، الجبل، وطريق في سلمى كثيرة الأسد، وجبيل بتهامة كثيرة السباع - انظر " القاموس المحيط " (4 / 350) . (313) (فقه النظر في الإسلام) ص (49) . (314) (العبرات) للمنفلوطي ص (49) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 من تلك الديار إلى أوطانهم إنما هي أصباغ مفرغة على أجسامهم إفراغاً لا تلبث أن تطلع عليها شمس المشرق حتى تنصل وتتطاير ذراتها في أجواء السماء وأن مكان المدنية من نفوسهم مكان الوجه من المرآة إذا انحرف عنها زال خياله منها فلم أشأ أن أفارق ذلك الصديق فلبسته على علاته وفاء بعهده السابق ورجاء لغده المنتظر متحملاً في سبيل ذلك من حمقه ووسواسه وفساد تصوراته وغرابة أطواره ما لا طاقة بمثلي باحتمال مثله حتى جاء في ذات ليلة بداهية الدواهي ومصيبة المصائب فكانت آخر عهدي به دخلت عليه فوجدته واجماً مكتئباً فحييته فأومأ إلي بالتحية إيماء فسألته ما باله؟ ... فقال: " ما زلت منذ الليلة من هذه المرأة في عناء لا أعرف السبيل إلى الخلاص منه ولا أدري مصير أمري فيه " قلت: " وأي امرأة تريد؟ " قال: " تلك التي يسميها الناس زوجتي وأنا أسميها الصخرة العاتية في طريق مطالبي وآمالي " قلت: " إنك كثير الآمال يا سيدي ففي أي آمالك تَحَدَّث؟ " قال: " ليس لي في الحياة إلا أمل واحد وهو أن أغمض عيني ثم أفتحها فلا أرى برقعاً على وجه امرأة في هذا البلد " قلت: " ذلك ما لا تملكه ولا أرى لك فيه " قال: " إن كثيراً من الناس يرون في الحجاب رأيي ويتمنون في أمره ما أتمنى ولا يحول بين نزعه عن وجوه نسائهم وإبرازهن إلى الرجال يجالسنهم كما يجلس بعضهم إلى بعض إلا العجز والضعف والهيبة التي لا تزال تلم بنفس الشرقي كلما حاول الإقدام على أمر جديد فرأيت أن أكون أول هادم لهذا البناء العادي (315) القديم الذي وقف سداً دون سعادة الأمة وارتقائها دهراً طويلاً وأن يتم على يدي ما لم يتم على يد أحد غيري من دعاة الحرية وأشياعها فعرضت الأمر على زوجتي فأكبرته وأعظمته وخيل إليها أنني جئتها بإحدى النكبات العظام والرزايا الجسام وزعمت إنها إن برزت للرجال فإنها لا تستطيع أن تبرز إلى النساء بعد ذلك حياءاً منهن وخجلاً ولا خجل   (315) أي القديم، نسبة إلى عاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 هناك ولا حياء ولكنه الموت والجمود والذل الذي ضربه الله على هؤلاء النساء في هذا البلد أن يعشن في قبور مظلمة من خدورهن وخمرهن حتى يأتيهن الموت فينقلهن من مقبرة الدنيا إلى مقبرة الآخرة فلابد لي أن أبلغ أمنيتي وأن أعالج هذا الرأس القاسي المتحجر علاجاً ينتهي بإحدى الحسنيين إما بكسره أو بشفائه " فورد علي من حديثه ما ملأ نفسي هماً وحزناً ونظرت إليه نظرة الراحم الرائي: " أعالم أنت أيها الصديق ما تقول؟ " قال: " نعم أقول الحقيقة التي أعتقدها وأدين نفسي بها واقعة من نفسك ونفوس الناس جميعاً حيث وقعت " قلت: " هل تأذن لي أن أقول لك أنك عشت فترة طويلة في ديار قوم لا حجاب بين رجالهن ونسائهن فهل تذكر أن نفسك حدثتك يوماً من الأيام وأنت فيهم بالطمع في شيء مما لا تملك يمينك من أعراض نسائهم فنلت ما تطمع فيه من حيث لا يشعر مالكه؟ " قال: " ربما وقع لي شيء من ذلك فماذا تريد؟ " قلت: " أريد أن أقول لك إني أخاف على عرضك أن يلم به من الناس ما ألم بأعراض الناس منك " قال: " إن المرأة الشريفة تستطيع أن تعيش بين الرجال وهي من شرفها وعفتها في حصن حصين لا تمتد إليه المطامع " فداخلني ما لم أملك نفسي منه وقلت له: " تلك هي الخدعة التي يخدعكم بها الشيطان أيها الضعفاء والثلمة التي يعثر بها في زوايا رؤوسكم فينحدر منها إلى عقولكم ومدارككم فيفسدها عليكم الشرف كلمة لا وجود لها إلا في قواميس اللغة ومعاجمها فإن أردنا أن نفتش عنها في قلوب الناس وأفئدتهم قلما نجدها والنفس الإنسانية كالغدير الراكد لا يزال صافياً رائقاً حتى يسقط فيه حجر فإذا هو مستنقع كدر والعفة لون من ألوان النفس لا جوهر من جواهرها وقلما تثبت الألوان على أشعة الشمس المتساقطة " قال: " أتنكر وجود العفة بين الناس؟ " قلت: " لا أنكرها لأني أعلم أنها موجودة بين البله والضعفاء والمتكلفين ولكنني أنكر وجودها عند الرجل القادر المختلب والمرأة الحاذقة المترفقة إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 سقط بينهما الحجاب وخلا وجه كل منهما لصاحبه في أي جو من أجواء هذا البلد تريدون أن تبرز نساؤكم لرجالكم: أفي جو المتعلمين وفيهم من سئل مرة: " لِمَ لم تتزوج؟ فأجاب: نساء البلد جميعاً نسائي " أم في جو الطلبة وفيهم من يتوارى عن أعين خلانه وأترابه حياءاً وخجلاً إن خلت محفظته يوماً من الأيام من صور عشيقاته وخليلاته وأقفرت من رسائل الحب والغرام أم في جو الرعاع والغوغاء وكثير منهم يدخل البيت خادماً ذليلاً ويخرج صهراً كريماً؟ وبعد فما هذا الولع بقصة المرأة والتمطق (316) بحديثها والقيام والقعود بأمرها وأمر حجابها وسفورها وحريتها وأسرها كأنما قمتم بكل واجب للأمة عليكم في أنفسكم فلم يبق إلا أن تفيضوا من تلك النعم على غيركم هذبوا رجالكم قبل أن تهذبوا نساءكم فإن عجزتم عن الرجال فأنتم عن النساء أعجز أبواب الفخر أمامكم كثيرة فاطرقوا أيها شئتم ودعوا هذا الباب موصداً فإنكم إن فتحتموه فتحتم على أنفسكم ويلاً عظيماً وشقاءاً أروني رجلاً واحداً منكم يستطيع أن يزعم في نفسه أنه يمتلك هواه بين يدي امرأة يرضاها فأصدق أن امرأة تستطيع أن تملك هواها بين يدي رجل ترضاه إنكم تكلفون المرأة ما تعلمون أنكم تعجزون عنه وتطلبون عندها ما لا تعفونه عند أنفسكم فأنتم تخاطرون بها في معركة الحياة مخاطرة لا تعلمون أتربحونها من بعدها أم تخسرونها وما أحسبكم إلا خاسرين ما شكت المرأة إليكم ظلماً ولا تقدمت إليكم في أن تحلوا قيدها وتطلقوها من أسرها فما دخولكم بينها وبين نفسها وما تمضغكم ليلكم ونهاركم بقصصها وأحاديثها؟ إنها لا تشكوا إلا فضولكم وإسفافكم ومضايقتكم لها ووقوفكم في وجهها حيث سارت وأينما حلت حتى ضاق بها وجه الفضاء فلم تجد لها سبيلاً إلا أن تسجن نفسها بنفسها في بيتها فوق ما سجنها أهلها فأوصدت من دونها بابها وأسبلت أستارها   (316) التمطق: التصويت باللسان عند استطابة الطعام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 تبرماً بكم وفراراً من فضولكم فواعجباً لكم تسجنونها بأيديكم ثم تقفون على باب سجنها تبكونها وتندبون شقاءها! إنكم لا ترثون لها بل ترثون لأنفسكم ولا تبكون عليها بل على أيام قضيتموها في ديار يسيل جوها تبرجاً وسفوراً ويتدفق خلاعة واستهتاراً وتودون بجدع الأنف لو ظفرتم هنا بذلك العيش الذي خلفتموه هناك لقد كنا وكانت العفة في سقاء من الحجاب موكوء فما زلتم به تثقبون في جوانبه كل يوم ثقباً والعفة تسيل منه قطرة قطرة حتى تقبض وتكرش ثم لم يكفكم ذلك منه حتى جئتم اليوم تريدون أن تحلوا وكاءه حتى لا تبقى فيه قطرة واحدة عاشت المرأة المصرية حقبة من دهرها هادئة مطمئنة في بيتها راضية عن نفسها وعن عيشها ترى السعادة كل السعادة في واجب تؤديه لنفسها أو وقفة تقفها بين يدي ربها أو عطفة تعطفها على ولدها أو جلسة تجلسها إلى جارتها تبثها ذات نفسها وتستبثها سريرة قلبها وترى الشرف كل الشرف في خضوعها لأبيها وائتمارها بأمر زوجها ونزولها عن رضاهما وكانت تفهم معنى الحب وتجهل معنى الغرام فتحب زوجها لأنه زوجها كما تحب ولدها لأنه ولدها فإن رأى غيرها من النساء أن الحب أساس الزواج رأت هي أن الزواج أساس الحب فقلتم لها: " إن هؤلاء الذين يستبدون بأمرك من أهلك ليسوا بأوفر منك عقلاً ولا أفضل رأياً ولا أقدر على النظر لك من النظر لنفسك فلا حق لهم في هذا السلطان الذي يزعمونه لأنفسهم عليك " فازدرت أباها وتمردت على زوجها وأصبح البيت الذي كان بالأمس عرساً من الأعراس الضاحكة مناحة قائمة لا تهدأ نارها ولا يخبو أوارها وقلتم لها: " لابد لك أن تختاري زوجك بنفسك حتى لا يخدعك أهلك عن سعادة مستقبلك " فاختارت لنفسها أسوأ مما اختار لها أهلها فلم يزد عمر سعادتها عن يوم وليلة ثم الشقاء الطويل بعد ذلك والعذاب الأليم وقلتم لها: " إن الحب أساس الزواج " فما زالت تقلب عينيها في وجوه الرجال مصعدة مصوبة حتى شغلها الحب عن الزواج فغنيت به عنه وقلتم لها: " أن سعادة المرأة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 حياتها أن يكون زوجها عشيقها " وما كانت تعرف إلا أن الزوج غير العشيق فأصبحت كل يوم تبغي زوجاً جديداً يحيي من لوعة الحب ما أمات الزوج القديم فلا قديماً استبقت ولا جديداً أفادت وقلتم لها: " لابد أن تتعلمي لتحسني تربية ولدك والقيام على شئون بيتك " فتعلمت كل شيء إلا تربية ولدها والقيام على شئون بيتها وقلتم لها: " نحن لا نتزوج من النساء إلا من نحبها ونرضاها ويلائم ذوقها ذوقنا وشعورها شعورنا " فرأت أن لابد لها أن تعرف مواقع أهوائكم ومباهج انظاركم لتتجمل لكم بما تحبون فراجعت فهرس حياتكم صفحة صفحة فلم تر فيه غير أسماء الخليعات المستهترات والضحكات اللاعبات والإعجاب بهن والثناء على ذكائهن وفطنتهن وتخلعت واستهترت لتبلغ رضاكم وتنزل عند محبتكم ثم مشت إليكم بهذا الثوب الرقيق الشفاف تعرض نفسها عليكم عرضاً كما تعرض الأمة نفسها في سوق الرقيق فأعرضتم عنها ونبوتم عنها وقلتم لها: " إنا لا نتزوج النساء العاهرات " لأنكم لا تبالون أن يكون نساء الأمة جميعاً ساقطات إذا سلمت لكم نساؤكم فرجعت أدراجها خائبة منكسرة وقد أباها الخليع وترفع عنها المحتشم فلم تجد بين يديها غير باب السقوط فسقطت كذلك انتشرت الريبة في نفوس الأمة جميعاً وتمشت الظنون بين رجالها ونسائها فتعاجز الفريقان وأظلم الفضاء بينهما وأصبحت البيوت كالأديرة (317) لا يرى فيها الرائي إلا رجالاً مترهبين ونساء عانسات. ذلك بكاؤكم على الرمأة أيها الراحمون وهذا رثاؤكم لها وعطفكم عليها نحن نعلم كما تعلمون أن المرأة في حاجة إلى العلم فليهذبها أبوها وأخوها أنفع لها من العلم (318) وإلى اختيار الزوج العادل الرحيم فليحسن الآباء اختيار الأزواج لبناتهم وليجمل الأزواج عشرة نسائهم وإلى النور والهواء تبرز إليهما وتتمتع فيهما برؤية الحياة   (217) الأديرة جمع دير. (218) يعني علم ما لم يكون ضرورياً كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 فيأذن لها أولياؤها بذلك وليرافقها رفيق منهم في غدواتها وروحاتها كما يرافق الشاه راعيها خوفاً عليها من الذئاب فإن عجزنا أن نأخذ الآباء والأزواج بذلك فلننفض أيدينا من الأمة جميعاً نسائها ورجالها فليست المرأة بأقدر على إصلاح نفسها من الرجل على إصلاحها. أعجب ما أعجب له من شئونكم أنكم تعلمتم كل شيء إلا شيئاً واحداً هو أدنى إلى مدارككم أن تعلموه قبل كل شيء وهو أن لكل تربة نباتاً ينبت فيها ولكل نبات زمن ينمو فيه رأيتم العلماء في أوربا يشتغلون بكماليات العلوم بين أمم قد فرغت من ضرورياتها فاشتغلتم بها مثلهم في أمة لا يزال سوادها الأعظم في حاجة إلى معرفة حروف الهجاء ... ورأيتم الرجل الأوربي حراً مطلقاً يفعل ما يشاء ويعيش كما يريد لأنه يستطيع أن يملك نفسه وخطواته في الساعة التي يعلم فيها أنه قد وصل إلى حدود الحرية التي رسمها لنفسه فلا يتخطاها فرأيتم أن تمنحوا هذه الحرية نفسها رجلاً ضعيف الإرادة والعزيمة يعيش في حياته الأدبية في رأس منحدر زلق إن زلت به قدمه مرة تدهور من حيث لا يستطيع أن يستمسك حتى يبلغ الهوة ويتردى في قرارتها ورأيتم الزوج الأوربي الذي أطفأت بيئته غيرته وزالت خشونة نفسه وحرشتها يستطيع أن يرى زوجته تخاصر من تشاء وتصاحب من تشاء وتخلو بمن تشاء فيقف أمام ذلك المشهد موقف الجامد المتبلد فأردتم من الرجل الشرقي الغيور المتلهب أن يقف موقفه ويستمسك استمساكه ورأيتم المرأة الأوربية الجريئة المتفتية تستطيع في كثير من مواقفها مع الرجال أن تحتفظ بنفسها وكرامتها (*) فأردتم من المرأة المصرية الضعيفة الساذجة أن تبرز للرجال بروزها وتحتفظ بنفسها احتفاظها وكل نبات يزرع في أرض   (*) في هذه العبارة نظر، إذ ليست علة منع الاختلاط سذاجة المرأة وعدم جرأتها بحيث يقال إذا زالت العلة زال المعلول فيباح الاختلاط للمرأة الجريئة المتفتية ويمنع للساذجة الضعيفة وهذا باطل لمخالفته نصوص الشريعة وقواعدها وقد فصَّلت ذلك في " القسم الثالث " من هذا الكتاب فانظره ص (51: 60) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 غير أرضه أو في ساعة غير ساعته إما أن تأباه الأرض فتلفظه وإما أن يستنبت فيها فيفسدها. إنا نذرع إليكم باسم ... الحرمة الدينية أن تتركوا تلك البقية من نساء الأمة آمنات مطمئنات في بيوتهن ولا تزعجوهن بأحلامكم وآمالكم كما أزعجتم من قبلهن فكل جرح من جروح الأمة له دواء إلا جرح الشرف فإن أبيتم إلا أن تفعلوا فانظروا بأنفسكم قليلاً ريثما تنتزع الأيام من صدوركم هذه الغيرة التي ورثتموها عن آبائكم وأجدادكم لتستطيعوا أن تعيشوا في حياتكم سعداء آمنين ". فما زاد الفتى أن ابتسم في وجهي ابتسامة الهزء والسخرية وقال: " تلك حماقات إلا لنعالجها فلنصطبر عليها حتى يقضي الله بيننا وبينها " وقلت له: " لك أمرك في نفسك وأهلك فاصنع بهما ما تشاء وائذن لي أن أقول لك إني لا أستطيع أن اختلف إلى بيتك بعد اليوم إبقاءً عليك وعلى نفسي لأن الساعة التي ينفرج لي فها جانب ستر من أستار بيتك عن وجه امرأة من أهلك تقتلني حياءً وخجلاً ثم انصرفت وكان هذا فراق ما بيني وبينه. وما هي إلا أيام قلائل حتى سمعت الناس يتحدثون أن فلاناً هتك الستر في منزله بين نسائه ورجاله وأن بيته أصبح مغشياً لا تزال النعال خافقة ببابه فذرفت عيني دمعة لا اعلم هل هي دمعة الغيرة على العرض المزال أو الحزن على الصديق المفقود. مرت على تلك الحادثة ثلاثة أعوام لا أزوره ولا يزورني ولا ألقاه في طريقه إلا قليلاً فأحييه تحية الغريب للغريب من حيث لا يجري لما كان بيننا ذكر ثم أنطلق في سبيلي. وإني لعائد إلى منزلي ليلة أمس - وقد مضى الشطر الأول من الليل - إذ رأيته خارجاً من منزله يمشي مشية الذاهل الحائر وبجانبه جندي من جنود الشرطة كأنما هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 يحرسه أو يقتاده فأهمني أمره ودنوت منه فسألته عن شأنه فقال: " لا علم لي بشيء سوى أن هذا الجندي قد طرق الساعة بابي يدعوني إلى مخفر الشرطة ولا أعلم لمثل هذه الدعوة في مثل هذه الساعة سبباً وما أنا بالرجل المذنب ولا المريب فهل أستطيع أن أرجوك يا صديقي بعد الذي كان بيني وبينك أن تصحبني الليلة في وجهي علني أحتاج بعض المعونة فيما قد يعرض لي هناك من الشئون؟ " قلت: " لا أحب إلي من ذلك " ومشيت معه صامتاً لا أحدثه ولا يقول لي شيئاً ثم شعرت كأنه يزور في نفسه كلاماً يريد أن يفضي به إلي فيمنعه الخجل والحياء ففاتحته الحديث وقلت له: " ألا تستطيع أن تذكر لهذه الدعوة سبباً؟ " فنظر إلي نظرة حائرة وقال: " إن أخوف ما أخافه أن يكون قد حدث لزوجتي الليلة حادث فقد رابني من أمرها أنها لم تعد إلى المنزل حتى الساعة وما كان ذلك شأنها من قبل " قلت: " أما كان يصحبها أحد؟ " قال: " لا " قلت: " ألا تعلم المكان الذي ذهبت إليه؟ " قال: " لا " قلت: " ومم تخاف عليها؟ " قال: " لا أخاف شيئاً سوى أني أعلم أنها امرأة غيور حمقاء فلعل بعض الناس حاول العبث في طريقها فشرست عليه فوقعت بينهما واقعة انتهى أمرها إلى مخفر الشرطة " وكنا وصلنا إلى المخفر فاقتادنا الجندي إلى قاعة المأمور فوقفنا بين يديه فأشار إلى جندي أمامه إشارة لم نفهمها ثم استدنى الفتى إليه وقال له: " يسوءني أن أقول لك يا سيدي إن رجال الشرطة قد عثروا الليلة في مكان من أمكنة الريبة برجل وامرأة في حال غير صالحة فاقتادوهما إلى المخفر فزعمت المرأة أن لها بك صلة فدعوناك لتكشف لنا الحقيقة في أمرها فإن كانت صادقة أذنا لها بالانصراف معك إكراماً لك وإبقاءً على شرفك وإلا فهي امرأة عاهرة لا نجاة لها من عقاب الفاجرات وها هما وراءك فانظرهما " وكان الجندي قد جاء بهما من غرفة أخرى فالتفت وراءه فإذا المرأة زوجته وإذا الرجل أحد أصدقائه فصرخ صرخة رجفت لها جوانب المخفر وملأت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 نوافذه وأبوابه عيوناً وآذاناً ثم سقط مكانه مغشياً عليه فأشرت على المأمور أن يرسل المرأة إلى منزل أبيها ففعل وأطلق سبيل صاحبها ثم حملنا الفتى في مركبة إلى منزله " ثم ذكر السيد المنفلوطي رحمه الله وحاصلها أن الفتى مات كمداً وحسرة من هذه الفضيحة التي اختتم بها حياته ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 " طه حسين " عميد التغريب في الفكر المعاصر دوره في " تحرير المرأة " وجرائمه في حق الإسلام (319) في يناير 1950 م: حمل " حسين سري " (رئيس الديوان) إلى الملك " فاروق " مشروع التشكيل الوزاري الذي سلمه إليه " مصطفى النحاس " رئيس حزب الوفد أخذ الملك في مراجعته ولما بلغ اسم " طه حسين " قال فاروق: (مستحيل مستحيل أنتم لا تعرفون خطورة هذا الرجل) وقال أيضاً: (من المحال أن أوافق على أن يكون وزيراً للمعارف بالذات مستحيل) وتدخل " كريم ثابت " الصليبي وأقنع الملك بالعدول عن موقفه. فمن هو ذلك الرجل الذي أشفق الطاغية " فاروق " من خطره؟ لعل أغلب أبناء هذا الجيل طرق أسماعهم اسم " طه حسين " الموصوف زوراً بأنه " عميد الأدب العربي " وتخيلوه - من جراء الدعاية المسلطة على عقولهم - الرجل المسلم الوقور تحيطه هالة من الشهرة المدوية والتاريخ الحافل بالأمجاد. إن من الواجب على أبناء اليقظة الإسلامية المعاصرة أن يمحصوا حقيقة ذلك   (319) استفدت فقرات هذا الفصل من (طه حسين: حياته وفكره في ميزان الإسلام) للأستاذ " أنور الجندي " بتصرف وانظر: (محاكمة فكر طه حسين) له أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 الرجل حتى لا ينخدعوا بالدعايات الكاذبة التي تملأ الآفاق مدحاً في " طه حسين " وتمجيداً له في حين أنه كان صنيعة لأعداء الإسلام وداعية للتبعية المطلقة للمدنية الغربية بكل مفاسدها وشرورها. إن " طه حسين " مسئول عن كثير من مظاهر الفساد والتحلل التي ينوء بها المجتمع اليوم ولقد خاض معركة بل معارك من أجل " تسميم " الآبار الإسلامية وتزييف مفهوم الإسلام والتاريخ الإسلامي معتمداً على سياسة المستشرقين في التحول من المهاجمة العلنية للإسلام إلى خداع المسلمين بتقديم طعم ناعم في أول الأبحاث ثم دس السم على مهل متستراً وراء دعوى " البحث العلمي " و " حرية الرأي "!! وليس المقام مقام (الترجمة) لطه حسين ولكنه مقام التنبيه إلى دوره الخطير في محاربة الإسلام وتهديد حصونه من داخلها ثم سرد مقتطفات من أقواله وأفعاله التي تبين مدى حقده على هذا الدين وعلى هذه الأمة ولا أجد أصدق في التعبير عن ذلك من حكم أستاذه " التلمودي " المستشرق " ما سينيون " عليه. فقد قال الدكتور زكي مبارك: (وقف المستشرق ماسنيون يوم أديت امتحان الدكتوراة وقال: إنني حين أقرأ بحثاً لطه حسين أقول: " هذه بضاعتنا ردت إلينا ") (320) اهـ وهاك أمثلة من أقواله الكفرية ومواقفه الإبليسية: 1 - فمن ذلك: تكذيبه القرآن المجيد وسائر الكتب السماوية في قوله: (للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي فضلاً عن إثبات هذه القضية التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب ونحن مضطرون أن نرى في هذه القصة نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة وبين الإسلام   (320) (زكي مبارك) للأستاذ " أنور الجندي " ص (132) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 واليهود والقرآن والتوراة من جهة أخرى) اهـ. 2 - ومن ذلك قوله: (أن القرآن المكي يمتاز بالهروب من المناقشة والخلو من المنطق) تعالى الله عما يقول الملحدون علواً كبيراً. 3 - ومن ذلك قوله: (إن الدين لم ينزل من السماء وإنما خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها) (إن الدين حين يقول بوجود الله ونبوة الأنبياء يثبت أمرين لا يعترف بهما العلم) اهـ. 4 - ومن ذلك قوله: (إن الفرعونية متأصلة في نفوس المصريين وستبقى كذلك بل يجب أن تبقى وتقوى والمصري فرعوني قبل أن يكون عربياً ولا يطلب من مصر أن تتخلى عن فرعونيتها وإلا كان معنى ذلك: إهدمي يا مصر أبا الهول والأهرام وانسي نفسك واتبعينا لا تطلبوا من مصر أكثر مما تستطيع أن تعطي مصر لن تدخل في وحدة عربية سواء كانت العاصمة القاهرة أم دمشق أم بغداد وأؤكد قول أحد الطلبة القائل: " لو وقف الدين الإسلامي حاجزاً بيننا وبين فرعونيتنا لنبذناه ") اهـ. 5 - ومنه قوله في مجلة " كوكب الشرق " (12 أغسطس 1933) : (لم أكن في اللجنة التي وضعت الدستور القديم ولم أكن بين الذين وضعوا الدستور الجديد ولم يستشرني أولئك وهؤلاء في هذا النص الذي اشتمل عليه الدستوران جميعاً والذي يعلن أن للدولة المصرية ديناً رسمياً هو الإسلام ولو قد استشارني أولئك وهؤلاء لطلبت إليهم أن يتدبروا وأن يتفكروا قبل أن يضعوا هذا النص في الدستور) اهـ. 6 - ومن ذلك أنه دعا طلاب كلية الآداب إلى اقتحام القرآن في جرأة ونقده بوصفه كتاباً أدبياً يقال فيه: هذا حسن وهذا (كذا) تعالى الله عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 زندقته علواً كبيراً فقد حكى عنه (عبد الحميد سعيد) قوله: (ليس القرآن إلا كتاباً ككل الكتب الخاضعة للنقد فيجب أن يجري عليه ما يجري عليها والعلم يحتم عليكم أن تصرفوا النظر نهائياً عن قداسته التي تتصورونها وأن تعتبروه كتاباً عادياً فتقولوا فيه كلمتكم ويجب أن يختص كل واحد منكم بنقد شيء من هذا الكتاب ويبين ما يأخذه عليه) (*) اهـ. 7 - ومن ذلك: حملته الشديدة على الأزهر الشريف وعلمائه الأفاضل ورميهم جميعاً بالجمود وحثه على: (استئصال هذا الجمود ووقاية الأجيال الحاضرة والمقبلة من شره) على حد تعبيره. 8 - ومن ذلك أيضاً تشجيعه لحملة (محمود أبو رية) على السنة الشريفة ومن ذلك أيضاً تأييده لـ (عبد الحميد بخيت) حين دعا إلى الإفطار في رمضان وثارت عليه ثائرة علماء المسلمين. 9 - ومنه: مطالبته بإلغاء التعليم الأزهري وتحويل الأزهر إلى جامعة أكاديمية للدراسات الإسلامية وقد أطلق عليها (الخطوة الثانية) وكانت " الخطوة الأولى " هي إلغاء المحاكم الشرعية التي هلل لها كثيراً. 10 - قوله: (خضع المصريون لضروب من البغي والعدوان جاءتهم من الفرس والرومان والعرب أيضاً) اهـ. 11 - ومن ذلك أنه أعاد خلط الإسرائيليات والأساطير إلى السيرة النبوية بعد أن نقاها العلماء المسلمون منها والتزيد في هذه الإسرائيليات والتوسع فيها. 12 - ومن ذلك: حملته على الصحابة رضي الله عنهم وعلى الرعيل الأول من الصفوة المسلمة وتشبيههم بالسياسيين المحترفين الطامعين في   (*) من " طه حسين " لأنور الجندي ص (229) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 السلطان - وحاشاهم رضي الله عنهم - وذلك في محاولة منه لإزالة ذلك التقدير الكريم الذي يكنه المؤرخون المسلمون لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم. 13 - ومن ذلك: عمله على إعادة طبع رسائل " إخوان الصفا " وتقديمها بمقدمة ضخمة في محاولة إحياء هذا الفكر الباطني المجوسي المدمر وإحياؤه شعر المجون والفسق والحديث عن شعرائهما بهالة من التكريم كأبي نواس وبشار وغيرهم وكذا ترجمة القصص الفرنسي الإباحي الماجن وطعنه في ابن خلدون والمتنبي وغيرهما. 14 - ومن ذلك قوله: (أريد أن أدرس الأدب العربي كما يدرس صاحب العلم الطبيعي علم الحيوان والنبات ومالي أدرس الأدب لأقصر حياتي على مدح أهل السنة وذم المعتزلة من الذي يكلفني أن أدرس الأدب لأكون مبشراً للإسلام أو هادماً للإلحاد) اهـ. 15 - ومنه قوله: (إن الإنسان يستطيع أن يكون مؤمناً وكافراً في وقت واحد مؤمناً بضميره كافراً بعقله فإن الضمير يسكن إلى الشيء ويطمئن إليه فيؤمن به أما العقل فينقض ويبدل ويفكر أو يعيد النظر من جديد فيهدم ويبني ويبني ويهدم) اهـ. 16 - ومن ذلك قوله: (علينا أن نسير سيرة الأوربيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً فنأخذ الحضارة خيرها وشرها وحلوها ومرها وما يحب منها وما يكره وما يحمد منها وما يعاب) اهـ. 17 - ومن ذلك قوله في تصوير سر إعجابه " بأندريه جيد ": (لأنه شخصية متمردة بأوسع معاني الكلمة وأدقها متمردة على العرف الأدبي وعلى القوانين الأخلاقية وعلى النظام الاجتماعي وعلى النظام السياسي وعلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 أصول الدين) وذكر أنه يحب " أندريه جيد " ويترسم خطاه ويصور نفسه من خلال شخصيته. 18 - ومن ذلك: وصفه لوحشية المستعمرين الفرنسيين وقسوتهم في معاملة المسلمين المغاربة: بأنها (معانة ومشقة في سبيل بسط الحضارة الفرنسية والمدنية على تلك الشعوب المتوحشة التي ترفض التقدم والاستنارة) . 19 - ومن ذلك: استقدامه لبعض المستشرقين المحاربين لله ورسوله الطاعنين في القرآن الكريم لإلقاء محاضرات حول الإسلام في الجامعة المصرية لتشكيك الطلاب في القرآن والإسلام. 20 - ومن ذلك: تشجيعه تيار التنصير في الجامعة وحينما اكتشف هذا المخطط التنصيري قال: (ما يضر الإسلام أن ينقص واحداً أو تزيد المسيحية واحداً) وعندما تكشف أن هناك كتباً مقررة في قسم اللغة الإنكليزية تتضمن هجوماً على الإسلام ورسوله " قال: (إن الإسلام قوي ولا يتأثر ببعض الآراء) واكتفى بهذا في حين ترك للأساتذة الإنكليز مطلق الحرية في هذا العمل. 21 - ثم عمد " طه حسين " إلى إخراج كل من له رأي أو أصالة من كلية الآداب واستبقى أعوانه الذين سار بهم إلى الطريق الذي رسمه وعانه على ذلك " لطفي السيد " الذي كان مديراً للجامعة وفي نفس الوقت تابعاً لخطط " طه حسين " وخاصة في خطة إنشاء معهد " التمثيل والرقص الإيقاعي " ودعوة الطالبات إلى الاختلاط وتحريضهن على ذلك ومعارضة الجبهة المسلمة التي حاولت أن تدعو إلى الدين والأخلاق وهكذا تحولت الجامعة إلى مجتمع متحلل من قيود الأخلاق الإسلامية فأقيمت حفلات رسمية في دار الأوبرا خليت لها الراقصات المحترفات ومن ثم عرفت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 حفلات الرقص والسمر في البيوت مما قصت أخباره بعض الخريجات وغيرها والرحلات المشتركة وما كان يجري في اتحاد الجامعة ورابطة الفكر العالمي من محاضرات مادية إلحادية ومقطوعات فرنسية على البيانو وروايات تمثيلية تقوم على الحب والغرام.. وقد وصل الأمر إلى حد أن أحد الأساتذة " الأجانب " ضاق ذرعاً بذلك الفساد فكتب يقول: (إنه خليق بالجامعة أن تمثل المثل الأعلى - " يعني للطلاب " - لا أن تمثل فيهم دور السكير) !. وكان " طه حسين " يرعى ذلك ويقول: (إن هذا النوع من الحياة الحديثة يمضي عليه وقت طويل في مصر حتى يغير العقلية المصرية تغييراً كبيراً) . 22 - وتتابعت خطوات " طه حسين " في كلية الآداب في سبيل خطته فأقام حفلاً لتكريم " رينان " الفيلسوف الفرنسي الذي هاجم الإسلام أعنف هجوم ورمى المسلمين والعرب بكل نقيصة في آدابهم وفكرهم وكذلك جعل " طه حسين " الشعار الفرعوني هو شعار الجامعة وقد لقي من ذلك كله معارضة شديدة وخصومة واسعة وصلت إلى كل مكان في البلاد العربية وأرسل إليه الأستاذ " توفيق الفكيكي " من العراق برقية قال فيها: " إن شعاركم الفرعوني سيكسبكم الشنار وستبقى أرض الكنانة وطن الإسلام والعروبة برغم الفرعونية المندحرة ". 23 - وذكرت مجلة " النهضة الفكرية " في عددها الصادر في 7 نوفمبر 1932 م: (أن الدكتور " طه " تعمد في إحدى كنائس فرنسا وانسلخ من الإسلام من سنين في سبيل شهوة ذاتية) (321) .   (321) انظر ما قيل حول تنصره في " طه حسين حياته وفكره في ميزان الإسلام " للأستاذ أنور الجندي ص (73 - 74) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 صراع حركة اليقظة مع "طه حسين" ولقد هوجم " طه حسين " منذ اليوم الأول إلى اليوم الأخير لم تتوقف حركة اليقظة عن متابعته وكشف شبهاته وتزييف آرائه ودحر مخططه ولكنه مع كل ذلك كان يقبض الثمن ويكافأ بكل إصرار على خدماته لأعداء الإسلام فلقد ظل يترقى في المناصب رغم الحملات التي شنها عليه علماء الإسلام في كافة البقاع الإسلامية ظل يترقى في مخطط مرسوم من أستاذ إلى عميد إلى مدير جامعة إلى مستشار فني إلى وزير وظل حتى اللحظات الأخيرة من حياته مشرفاً على اللجنة الثقافية في الجامعة العربية ورئيساً لمجمع اللغة العربية وله نفوذه الواسع في وزارة المعارف والجامعات وذلك مصداق قول " هاملتون جب " المستشرق: (سواء قوبلت آراء " طه حسين " بالموافقة أم لم تقابل فلابد أن يقضي نفوذه الواسع الذي يتمتع به إلى توطيد المبادئ التي يدعو إليها) اهـ. وقال المستشرق " كاممفاير ": (إن المحاولة الجريئة التي قام بها " طه حسين " ومن يشايعه في الرأي لتخليص دراسة العربية من شباك العلوم الدينية هي حركة لا يمكن تحديد آثارها على مستقبل الإسلام) اهـ بل قال هو عن نفسه: (إنني أفكر بالفرنسية وأكتب بالعربية) اهـ. وفي تقرير خطير يصف المكر اليهودي الأمريكي لإبادة الجيل المسلم وبصورة مكشوفة يطالب التقري بوجوب الإفادة من آراء " طه حسين " ومؤلفاته. {وقد دعا هذا التقرير إلى وجوب تأليف " لجنة مكافحة الإسلام " تنبع من وكالة الأمن القومي الأمريكي وقد استعانت هذه اللجنة بعدة شخصيات منها نائب ما يسمى بـ (البابا المسئول عن التبشير مع الجمعيات الدينية كما استعانت بتقرير الإدارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 البريطانية وغيرها من تقارير الدول الاستعمارية في الغرب والشرق. وقد جاء في توصيات اللجنة السابقة بالحرف الواحد: " وجوب تسليط الدعاية والإعلام على مجددي الدين المزعومين كطه حسين وأمثاله "} (322) اهـ. هذا وقال الأستاذ الشيخ " عبد ربه مفتاح " من علماء الأزهر في مقالة نشرها الكوكب مخاطباً " طه حسين ": (وكيف تزعم أيها الدكتور أن " بعض " العلماء أثار هذا الأمر- أمر كفرك - وهاأنا ذا أصرح لك - والتبعة في ذلك علي وحدي - بأن العلماء أجمعين وعلى بكرة أبيهم يحكمون عليك بالكفر وبالكفر الصريح الذي لا تأويل فيه ولا تجوز وأتحداك وأطلب منك بإلحاح أو رجاء أن تدلني على واحد منهم " وواحد فقط " يحكم عليك بالفسوق والعصيان دون الكفر أجل إني وأنا من بينهم أتهمك بالكفر وأتحمل تبعة هذا الاتهام وعليك تبرئة نفسك من هذا الاتهام الشائن والمطالبة بما لك من حقوق نحوي) (323) اهـ. وأخيراً: فهذه لمحة خاطفة عن " طه حسين " الرجل الذي تشهد كتبه بأنه لم يكن إلا بوقاً من أبواق الغرب وواحداً من عملائه الذين أقامهم على حراسة السجن الكبير يروج لثقافاته ويعظمها ويؤلف قلوب العبيد ليجمعهم على عبادة جلاديهم (ويوطد دعائم الود والتفاهم بين الحمار وراكبه وهي دعائم تفيد الراكب دائماً ولا تفيد الحمار!) (*) .   (322) (طه حسين في ميزان العلماء والأدباء) للأستاذ محمود مهدي الاستانبولي، نقلاً عن مجلة (حضارة الإسلام) ع: (4420) بين 1391 (1919) . (323) السابق - ص (552) . (*) انظر: (حصوننا مهددة من داخلها) ص (101) الطبعة السابعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 كيف واجه المسلمون مؤامرات " طه حسين "؟ أصر (طه حسين) على استبقاء كتب (برنارد شو) وغيره التي تهاجم الإسلام في كلية الآداب بحجة أن الإسلام قوي ولن يتأثر بهذا الرأي وذاك. سرت عند ذلك روح الغيرة الإسلامية عند الطلاب فقاومت مؤامرات (طه حسين) على الإسلام وحاصرته في مكتبه بكلية الآداب وكادت أن تفتك به لولا أن أنقذه بعض الخدم فهرب - واعتكف كمقدمة لخروجه من كلية الآداب. وأحرق الشباب العربي في الشام كتب (طه حسين) في ميدان عام في العاصمة دمشق ووصفه العلماء بالإلحاد والزندقة. وقام بعض تلامذته الذين استيقظ فيهم الشعور بالكرامة والعزة الإسلامية وكشفوا حقيقته بفضح أهدافه وكشف تزويره وسرقته من كتب المؤلفين الغربيين (324) . وتصدى له عشرات العلماء والدعاة والمفكرين لعدوانه المتكرر على حرمات الإسلام وفضحوا مؤامراته على الإسلام ومن ذلك المقالة التالية: بين " حسن البنا " و " طه حسين ": فقد عقد الأستاذ " حسن البنا " رحمه الله فصلاً في مجلة " التعارف " تحت عنوان: " إذا كان هذا (325) صحيحاً يا دكتور فقد أتفقنا " وكان مما جاء فيه بصدد قضية " الاختلاط ": (وهل من الدعوة الإسلامية يا دكتور أن تخلط بين الفتيان والفتيات هذا الخلط   (324) انظر " طه حسين " للأستاذ أنور الجندي ص (79) . (325) يقصد الشيخ حسن البنا رحمه الله بكلمة (هذا) الإشارة إلى قول " طه حسين " في حفل تكريم أقيم له: (وأتمني أن يقيض الله للإسلام من يدافع عنه كما أدافع أنا عنه وأن ينشره ويحببه للناس كما أبشر به أنا وكما أحبب مبادئه للناس) اهـ! وانظر " طه حسين " للأستاذ أنور الجندي ص (85 - 89) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 في كلية الآداب فتحذو حذوها غيرها من الكليات وتبوء أنت بإثم ذلك كله؟ وتريد للفتيات في صراحة هذا الاختلاط وتحثهن عليه وتدعوهن إليه ولا تقل إن هذا من عمل غيرك فيداك أوكتا وفوك نفخ وما تحمس لهذا ودعا إليه وحمل لواءه واستخدم نفوذه في تحقيقه أحد كما فعلت ذلك أنت ولعلك تعتبر هذا من مآثرك ومفاخرك ولكني أخالفك يا دكتور وأصارحك بأن هذا الاختلاط ليس من الإسلام وقد رأينا - وسترى - ما كان وما سيكون له من آثار) اهـ. وقالت (درية شفيق) : (وفي سنة 1932 ظهرت صورة للدكتور " طه حسين " بك في نادي الجامعة وعلى يمينه ويساره الطلبة والطالبات جلوساً يتناولون الشاي وقامت القيامة لهذه الصورة البريئة التي تضرب المثل للأبوة في وجود العميد و " الإخوة "! في جلسة الطلبة والطالبات واتخذت الصورة تكأة يتخلص بها الرجعيون من (طه حسين) و (لطفي السيد) ووقف الرجعيون في مجلس النواب يحملون على الجامعة ورجالها فكرة تعليم البنات فيها ويرون ذلك فضيحة من الفضائح يجب أن تحول دونها الحكومة) (326) اهـ. وفي غرة المحرم 1356 هـ (الموافق 14 مارس 1937 م) زحف موكب كبير من طلبة الجامعة المصرية والأزهر ودار العلوم يزيد على أربعة آلاف نسمة ومن خلفهم أضعافهم من ولاة أمور الطلاب واتجه الموكب إلى قصر الأمير (محمد علي) رئيس مجلس الوصايا مطالبين بتعميم التعليم الديني والتربية الإسلامية في جميع أدوار التعليم إلى نهاية درجته العليا وفصل الشابات عن الشبان في الجامعة المصرية كما هو الحال في أدوار التعليم التي قبل الجامعة والاهتمام بالتربية بقدر الاهتمام بالتعليم) (327) اهـ.   (326) من " تطور النهضة النسائية في مصر " ص (72) . (327) " إهابة " للكاتبة " عزيزة عباس عصفور " ص (128، 133) ، وقد كان لهذه المطالب صدى واسع لدى المؤيدين والمعارضين وفي هذا الكتاب " إهابة " جمعت الكاتبة النشرات والمقالات التي باركت تلك الحركات الإسلامية الطلابية فراجعه إن شئت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وانبرى الأديب الكبير (مصطفى صادق الرافعي) يبارك مطالب شباب الجامعة التي تجاوبت بها أصداء البلاد ويرد على " طه حسين " وأشياعه تحت عنوان: إلى شباب الجامعة (328) (حياكم الله يا شباب الجامعة المصرية لقد كتبتم الكلمات التي تصرخ منها الشياطين كلمات لو انتسبن لانتسبت كل واحدة منهن إلى آية مما أنزل به الوحي في كتاب الله. وطلب تعليم الدين لشباب الجامعة ينتمي إلى هذه الآية {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس} الأحزاب 33 وطلب الفصل بين الشباب والفتيات يرجع إلى هذه الآية: {ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن} الأحزاب 53 يريد الشباب مع حقيقة العلم حقيقة الدين فإن العلم لا يعلم الصبر ولا الصدق ولا الذمة يريدون قوة النفس مع قوة العقل فإن القانون الأدبي في الشعب لا يضعه العقل وحده ولا ينفذه وحده. يريدون قوة العقيدة حتى إذا لم ينفعهم في بعض شدائد الحياة ما تعلموه نفعهم ما اعتقدوه.. لا ... لا ... ، يا رجال الجامعة! إن كان هناك شيء اسمه حرية الفكر فليس هناك شيء اسمه حرية الأخلاق. وتقولون: أوربا وتقليد أوربا؟ ونحن نريد الشباب الذين يعملون لاستقلالنا لا   (328) " وحي القلم " (3 / 184 - 188) تحت عنوان (قنبلة بالبارود لا بالماء المقطر) ، وانظر " إهابة " لعزيزة عباس عصفور ص (78 - 80) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 لخضوعنا لأوربا. وتقولون: إن الجامعات ليست محل الدين ومن الذي يجهل أنها بهذا صارت محلاً لفوضى الأخلاق؟ وتزعمون أن الشباب تعلموا ما يكفي من الدين في المدارس الابتدائية والثانوية فلا حاجة إليه في الجامعة. أفترون الإسلام دروساً ابتدائية وثانوية فقط؟ أم تريدونه شجرة تغرس هناك لتقلع عندكم؟) اهـ. بين " الزهاوي" و " ابن الخطيب ": ومن فصول المعركة الهجمات التي شنها الشاعر العراقي الملحد المدعو " جميل صدقي الزهاوي " (329) حيث أكثر من الطعن في الدين والتنفير من شرائعه حتى قال في الحجاب: أخر المسلمين عن أمم الأرض حجاب تشقى به المسلمات فانبرى له الشيخ ابن الخطيب وعارضه قائلاً (330) : بئس ما يدعي فلاسفة العصر من أن السفور فيه الحياة   (329) والزهاوي هو القائل في حب الإنكليز أعداء الإسلام والتنفير من الترك المسلمين: تبصر أيها العربي واترك ولاء الترك من قوم لئام ووال الإنجليز رجال عدل وصدق في الفعال وفي الكلام أحب الإ نكليز وأصطفيهم لمرض الإخاء في الأنام جلوا في الملك ظلمة كل ظلم بعدل ضاء كالبدر التمام (من ديوان الزهاوي) ط دار الدعوة - بيروت وله أشعار كثيرة في ذم الحجاب والتنفير منه ضربنا عنها صفحاً - عليه من الله ما يستحقه. (330) (حقائق ثابتة في الإسلام) لابن الخطيب ص (81 - 86) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وهو حق إذ أن أسلافنا الأعراب من فرط ما يحبون ماتوا (331) يا خليلي حدث عن الشرق قدماً حين كانت تعظم المعجزات حين كان القرآن يرجى ويخشى والقوانين آية البينات حين كان الحديث يتلى ولا يرويه إلا ذوو العقول الثقات إننا في الزمان نلقى أناساً في التوضي علومهم قاصرات (332) وهموا بعد يدعون علوماً أنكرتها عصورنا الخاليات (333) ليت شعري ماذا يريدون منا وصنوف الأذى بنا محدقات بنت مصرهاتي سفورك واغشي كل ناد ولتمل منك الجهات (334) عرفي نفسك الغداة وطوفي لا تفتك الأسواق والحانات ثم أمي مجالس القوم وادعيهم إلى حيث لا تمل الدعاة علناً بالسفور نبني حصوناً شامخات بها ترد العداة وعسانا نرى البرايا سجوداً لابن مصر وقد علاه الثبات (335)   (331) تهكم بهذا الرأي الفاسد والقول المذموم فهو يصدقهم في ما زعموه من أن السفور سبب للحياة إشارة إلى أن من مات من أعفاء العرب حزناً وجوى لعجزهم عن رؤية من يحبون نظراً لأن الحجاب كان يحول دون ذلك فيموت العاشق أو يجن وفي هذا يقول قائلهم: ما كان أغناني عن حب من من دونه الأستار والحجب في حين أن السفور الممقوت قد خلط الحابل بالنابل وجعل العاشق متمكناً ومالكاً لمن يعشقها فانقشع (بفضل) السفور الأسى والجوى وحل محلهما القرب والنجوى فعم بذلك الشر والبلوى واستوجبوا به غضب الجبار ولا حول ولا قوة إلا بالله. (332) أي أنهم لا يتقنون الوضوء، أو: لا يتوضئون أصلاً لتركهم الصلاة. (333) وذلك لأنهم مع جهلهم حتى بفقه الوضوء يتقمصون صور العلماء والأحبار ويتشدقون بالنصوص الشرعية بعد تحريفها وتأويلها مدعين أن السفور لا ينافي الدين ويأتون بفهم للنصوص سقيم لم يسبقهم إليه سلف ولا خلف. (334) أمر قصد به التهكم والاستهزاء. (335) أي تركه النوم والخمول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 ولعمري قد بكى الدين حزناً حين قال الخطيب: يا سيدات (336) ومن قذائف الحق في هذه المعركة: ما قاله الأديب الشاعر "مصفى صادق الرافعي" رداً على دعاة "تحرير" المرأة: أراك ترجين الذي لست أهله وما كل علم إبرة وثياب كفى الزهر ما تندى به راحة الصبا وهل للندى بين السيول حساب وما أحمق الشاة استفرت بظلفها إذا حسبت أن الشياه ذئاب فحسبك نبلاً قالة الناس أنجبت وحسبك فخراً أن يصونك باب لك القلب من زوج وولد ووالد وملك جميع العالمين رقاب ولم تخلقي إلا نعيماً لبائس فمن ذا رأى أن النعيم عذاب دعي عنك قوماً زاحمتهم نساؤهم فكانوا كما حف الشراب ذباب تساووا فهذا بينهم مثل هذه وسيان معنى يافع وكعاب وما عجبي أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال عجاب (237) ومنها: ما كان من الشاعر الأستاذ (محمد حسن النجمي) وقد أطلع على رد   (336) أي عندما غشيت النساء المحافل والمنتديات مختلطات بالرجال وصار الخطباء يفتتحون كلامهم بقولهم (سيداتي سادتي) ، هذه العبارة كان (سعد) يحلم باليوم الذي تقال فيه إذ قال في حفل تكريم له أقامه تجار العاصمة على أثر عودته من منفاه: (سادتي.. كنت أود أن أقول: " سيداتي وسادتي "،.. وأتعشم أن يأتي يوم أرى فيه خطباءنا يبدأون بتلك البداية) اهـ من كتاب (المرأة المصرية) لدرية شفيق ص (133) (337) ديوان الرافعي (2/1321هـ) (ربة الحسن والقلم) وللرافعي قصيدة أنشأها ينقد فيها تبرج النساء لاقت في زمنه رواجاً عظيماً ووزع منها عشرة آلاف نسخة وذكر ذلك صديقه (أبورية) في كتابه (من رسائل الرافعي) قال في مطلعها: دلالك في التبرج من ضلالك وما عاب الدلال سوى دلالك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 فضيلة الشيخ (مصطفى صبري) رحمه الله على السفوريين (338) فأنشأ القصيدة الآتية: زعم السفور والاختلاط وسيلة للمجد قوم في المجانة أغرقوا كذبوا متى كان التعرض للخنا شيئاً تعز به الشعوب وتسبق أيكون كشف السوأتين فضيلة فيذيعها هذا الشباب الأحمق ما بالهم والبنت قد فتنت بما قالوا وحل بها الجنون المطبق وبدت مقاتل عرضها لرماته حتى لهم به الجبان الأخرق والقول أصبح في الخروج لها فلا كَفٌ تكُف ولا رتاج يغلق كرهوا الزواج بها وباتت سوقها بعد التبذل عندهم لا تنفق ما خطبهم كلفوا بنزع حجابها وتكلفوا فيها البيان ونمقوا وتناولوا بالضعف من حاجاتنا واللين ما هو بالصرامة أخلق أغدت مشاكلنا الكبيرة كلها ذيل يجرجره السفور المطلق أم أنهم ضلوا السبيل وغرهم ببريقه هذا الجديد المخلق *** أشبابنا المرجو صيحة جازع أغرى بها هذا البلاء المحدق ونصيحة يفدي برائع سرها لقوام نهضتنا محب مشفق لا ترهفوا سمع الحفي لقالة أبداً بها بوم البطالة تنعق لم يقصدوا خيراً بها لكنهم رأوا القوى يسيغها فتملقوا ولربما أجترح القوى خطيئة فمضى الضعيف بمدحها يتشدق قوا أهلكم ونفوسكم عاراً إذا لم تتقوه بغيركم لا يعلق   (338) في كتابه (قولي في المرأة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وتناولوا بالزجر حمراً كلما هيجت إلى متع الإباحة تنهق ليس التمدن أن نرى روح الحيا بيد الخلاعة كل يوم تزهق والبنت يدفعها براحته الهوى فتروح تهوى من تشاء وتعشق لكنه العلم اهتدى بضيائه غرب البسيطة حين ضل المشرق قال الشاعر " محمد إقبال " في قصيدته " جواب شكوى " (*) : لقد سئم الهوى في البيد قيس ومل من الشكاية والعذاب يحاول أن يباح العشق حتى يرى ليلاه وهي بلا احتجاب يريد سفور وجه الحسن لما رأى وجه الغرام بلا نقاب فهذا العهد أحرق كل غرس من الماضي وأغلق كل باب قد أفنت صواعقه المغاني وعاثت في الجبال وفي الهضاب *** هي النار الجديدة ليس يلقى لها حطب سوى المجد القديم خذوا إيمان إبراهيم ينبت لكم في النار روضات النعيم ويذكوا من دم الشهداء ورد سني العطر قدسي النسيم ولعل مما يصور واقع (المرأة الجديدة) التي أنتجتها دعوة التحرير أصدق تصوير هذه القصيدة لفضيلة الشيخ"عبد الفتاح عشماوي" كتبها جواباً لشاب مسلم حائر بعنوان:   (*) (تنزيه الشريعة عن إباحة الأغاني الخليعة) لأحمد بن يحيي النجمي ص (59) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 " حيرة " سأل الفتى هلا أزلت لحيرتي كيف السبيل وقد جعلتك قدوتي؟ فأجبت أفصح ما بذاتك علني أجد السبيل بقدر ما في طاقتي فأجاب أبغي أن أصون غريزتي بزواج من تدعى بحق زوجتي ليست مشاع للجميع يرونها تمشي لتعرض ما يذل رجولتي إن قلت صوني سمعتي وتستري ألفيتها عابت عليَّ (رجعيتي) أو قلت: قال الله كان جوابها ما قال (قاسم) أو (فرويد) غايتي وإذا خطبت وقلت: ما هو مهرها؟ لم يتركوا إلا الفراغ بجعبتي وإذا رأتني بالشعيرات التي في عارضي طلبت إزالة لحيتي أو لا زواج وقد أطاعوا أمرها وأنا الطريد أجر ذيل الخيبة فإذا رضخت وصار وجهي ناعماً وتزوجتني والمضيع سنتي ورأيتها يوماً تغادر بيتنا وسألتها قالت: أريد إدارتي لم يبق إلا أن أكون مكانها وهي التي تسعى لتجلب لقمتي وطعامها أطهو وأغسل ثوبها وكذاك أرضع طفلها يا بلوتي لم لا تكون وقد رأت حكامها أعطوا لها ما حرمته شريعتي من لي بذات الدين تحفظ غيبتي غابت فلم أر من أراها زوجتي فأجبته وأنا أغالب دمعتي أسمعتني ما زادني من حسرتي لكن أقول وقد وُهِبْتَ هداية لا تيأسن وأبحث عن المهدية فهناك من صن الحياء وإنما غيبن خلف الخدر خدر العفة قل للتي أخضرت ولكن من دمن (339) لا أشتريك لكي أبيع ديانتي   (339) مأخوذ من معنى حديث ضعيف جداً نصه: (إياكم وخضراء الدمن فقيل وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء) - أنظر سلسلة الأحاديث الضعيفة حديث رقم (14) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 لو عشت طول العمر غير مزوج فأنا حريص أن أبيض صفحتي ولدي وعد الله حق قاطع عندي عروسك والزفاف بجنتي (340) المصير الأسود وكنتيجة حتمية لذلك السفور وهذا التبرج الجاهلي الكبير ولنفس النظام التعليمي الفاسد الذي غايته المثلى وهدفه الأسمى الوظيفة الحكومية وغير الحكومية امتلأت دور الحكومة ومصالحها بالموظفات وازدحمت بهن المسارح ودور السينما وكذلك المسابح والمصطافات وضمت البلاد بالخبث وعمها الفساد وانمسخ المجتمع الإسلامي فأصبح غيره بالأمس في مظهره ومخبره وظاهره وباطنه. ثم جردت جيوش الشيطان ونفثت سمومها في كل مكان عبر السينما والتليفزيون والمسارح وإذا بنا أمام مخطط إلحادي يجوس خلال ديارنا وإذا بالزنا يحميه قانون وإذا بالفسقة والفاسقات من أهل " الفن " تقام لهم الأعياد وتضفى عليهم صفات البطولة وتهدى لهم الجوائز ليستعينوا بها على إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا. لقد كرم الإسلام المرأة كتاباً وسنة وحفلت شريعته برفع شأنها وصيانة حقوقها لكنها أذلت نفسها لما اتبعت الذين حرضوها ضد فطرتها ودينها وفسلخوها من دينها وأبعدوها عن ربها وألقوا بها في متاهات الحياة لتقاسي شظف العيش ومكاره المحن التي ناء بها كاهل الرجل بله المرأة لقد حملوها حملاً على أن تصطف في طابور المنقادين لحضارة الغرب لتدخل جنته المنشودة ولكن بعد أن تخلع على أعتابها إيمانها بالله واليوم الآخر.   (340) محاضرات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - الموسم الثقافي للعام الدراسي 1394 هـ - 1395 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 - ودفعت المرأة الثمن: لقد فقدت المرأة التي كان يلوح لها " أنصارها " بسعادة التحرر والتطور - ليس فقط سعادتها - بل فقدت وجودها كله ذات قيمة في المجتمع ووزن فيه لقد قبضت فيما مضى على دينها فقبض الله عنها السوء وبسط لها الحلال حتى لم تكد تينع الثمرة في بيت أبيها إلا وتمتد يد الحلال وتقطفها فلا تفتح عينها إلا على حليلها ولكنها قد ابتذلت وأهينت على يد أصدقائها وأنصارها كان أول من زهد فيها أنصارها المخادعون ولم تعد - كما كانت - تتمتع باحترام الآباء والأزواج ولم تعد تحاط بهالة التقدير والتعظيم وإنما أصبحت في نظر الجميع أشبه بمحترفة تطلب العيش وتقرع كل باب للعمل لعلها تحصل على وظيفة - أي كانت - تدر عليها دراهم معدودة تنفق أكثرها في المساحيق للتجميل وفي الثياب القصيرة للفتنة ولفت الأنظار. هذا هو المنحدر الفظيع والهاوية السحيقة والمصير الأسود القاتم الذي انتهت إليه المرأة في كثير من بلاد المسلمين. - والآن: وقد خلعت المرأة حجابها وغادرت حصنها وعصت ربها فهل جنينا حقاً التقدم والرخاء والحضارة؟ لقد خالطت الرجال واختلط الحابل بالنابل فهل زالت العقد النفسية؟ وهل استقرت دواخلهما؟ وهل جنينا سوى الثمار المريرة؟ لقد فتحنا بلادنا أمام الغزو الفكري اليهودي والصليبي والعلماني الذي سلط علينا سموم الشبهات وسهام الشهوات التي كانت أفتكها المرأة فهل وجدناهم أهدى من الذين آمنوا سبيلاً؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 - التجربة خير شاهد: إننا لن نطيل في وصف الهاوية التي تردت إليها المرأة " المتحررة " بفضل " أنصارها " و " أصدقائها " لأن الواقع حولنا يكفينا مؤنة هذه الإطالة إنه حقاً واقع مرير مرير تستطيع أن تدرك عواقبه وآثاره حيثما وقعت عينك في كل بيت في كل طريق في كل وظيفة. وربما إذا كنا نتكلم من خلال خيال حالم أو حتى منذ قرن واحد مضى لا تهمنا بالتحامل أو المبالغة.. ولكنه واقع أليم خير من ينبئك عنه: هذه المرأة الضحية ... وهؤلاء " الأ نصار " و " الأصدقاء " ... إن صدقوا! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 السياسة في المعركة - معركة سلاحها الأقلام: رأينا - فيما سبق - كيف تحولت قضية (تحرير) المرأة المسلمة إلى حملة (السفور) مسعورة ضد الحجاب وكيف أخذت كلمة (تحرير) مدلول (السفور) برغم أن التحرير في الإسلام يأخذ مدلول الحجاب فكانت المحجبة هي " الحرة " والسافرة - أي التي تكشف وجهها - هي " الأمة " فكان السفور عنوان العبودية أما في ظل دعاة التحرير فأن الحجاب عندهم هو عنوان العبودية. وتابعنا فيما مضى بعض فصول المعركة الفكرية التي انتصر فيها (السفور) على (الحجاب) وكانت ساحة هذه المعركة في الغالب صفحات الصحافة ثم الكتب والمطبوعات وقاعات الجامعة وسائر وسائل الإعلام.. وقد كانت هذه الوسائل متوافرة في أيدي دعاة السفور ومن ثم لم تكن المعركة متكافئة ولم تكن الحرب عادلة خاصة إذا انضم غلى ذلك ادعاء السفوريين أن السفور جاء نتيجة طبيعية للتطور الحضاري المرتقب وأن السفور هو اختيار المرأة ذاتها ورغبتها الفعلية الحرة من أجل خلاصها من العبودية. بل لم يبخل السفوريون بان يخدعوا أنفسهم أو يخادعوا الإسلاميين بقواعد شرعية صحيحة يحرفونها عن مواضعها ويستدلون بها لتسويغ باطلهم. وتطوع علماء السوء بالتزلف - تحت ضغط " سيف المعز " و " ذهب المعز " - وراحوا ينتزعون من النصوص الشرعية ما يمكن أن يبرروا به للحكام مخالفتهم للشرع هؤلاء الحكام الذين راحوا يتشدقون بأن (الدين في نظرهم ثقافة ليس إلا) وإنه (لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين) هم أنفسهم رحبوا بالدين طالما صلى لهم " رجال الدين " " صلاة الاستسقاء " إذا عطشوا و " صلاة النصر " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 إذا انتصروا و " صلاة الحاجة " إذا مرضوا ثم " صلاة الجنازة "إذا ماتوا. - معركة سلاحها البطش: إذا كانت دعوة " تحرير المرأة " أساساً دعوة استعمارية أسسها الاستعمار وربى دعاتها على موائده ومكن تلاميذه من نشرها.. وإذا كان هؤلاء السفوريون سلكوا تلك الأساليب الملتوية في عرض دعوتهم لتزييف الحقيقة والصد عن سبيل الله.. وإذا كانت إعراض التآمر واضحة في كل خطوة من خطوات حركة تحرير المرأة.. فهل يمكن بعد ذلك أن يزعم زاعم أن المعركة التي انتصر فيها السفور على الحجاب في بلاد المسلمين كانت معركة شريفة حقاً انتصر فيها (السفور) لأنه التطور الحضاري المرتقب كما يزعمون ولأنه الرغبة الفعلية للمرأة واختيارها الحر من أجل خلاصها؟ وإذا كانت فصول المعركة الفكرية بعد أن انتهت بهذا الانتصار الكاذب قد تحولت إلى معركة حقيقية تفرضها سياسة جائرة تحكم أمة مستضعفة مقهورة وجنود مسلحون أمام نساء عزل وقوانين إرهابية وإجراءات تعسفية ومشانق تعلق وسجون تعمر ونيران تضرم فهل يمكن بعد هذا كله القول بأنها كانت معركة شريفة انتصر فيها السفور على الحجاب طبقاً للاختيار الحر للمرأة وأنها ثمرة من ثمرات " الديموقراطية " المزعومة أو " الحرية " الأسيرة أو " التقدم " الرجعي الذي يعيدنا إلى الجاهلية الأولى؟ والآن - وقبل أن نستأنف عرض تفاصيل المعركة المسلحة ضد الحجاب - دعونا نطالع أولاً هذه السطور المضيئة للإمام المحقق ابن قيم الجوزية وهو يعدد واجبات أولي الأمر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 - مسؤولية الحاكم المسلم: قال رحمه الله (341) : (ومن ذلك: أن ولي الأمر يجب عليه أن يمنع من اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق والفرج ومجامع الرجال. قال مالك رحمه الله ورضي الله عنه: " أرى للإمام أن يتقدم إلى الصناع في قعود النساء إليهم وأرى أن لا يترك المرأة الشابة تجلس إلى الصناع فأما المرأة المتجالة والخادم الدون التي لا تتهم على القعود ولا يتهم من تقعد عنده: فإني لا أرى بذلك بأساً " انتهى. فالإمام مسؤول عن ذلك والفتنة به عظيمة قال ": " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء " (342) وفي حديث آخر أنه قال للنساء: " لكُن حافات الطرق " (343) ويجب عليه منع النساء من الخروج متزينات متجملات ومنعهن من الثياب التي يكن بها كاسيات عاريات كالثياب الواسعة والرقاق ومنعهن من حديث الرجال في الطرقات ومنع الرجال من ذلك وإن رأى ولي الأمر أن يفسد على المرأة - إذا تجملت وتزينت وخرجت - ثيابها بحبر ونحوه فقد رخص في ذلك بعض الفقهاء وأصاب وهذا من أدنى عقوبتهن المالية وله أن يحبس المرأة إذا أكثرت الخروج من منزلها - ولا سيما إذا خرجت متجملة - بل إقرار النساء على ذلك إعانة لهن على الإثم والمعصية والله سائل ولي الأمر عن ذلك وقد منع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه النساء من المشي   (341) " الطرق الحكمية في السياسة الشرعية " ص (280 - 281) . (342) رواه الشيخان وغيرهما عن أسامة رضي الله عنه. (343) أخرجه أبو داود عن أبي أسيد الأنصاري بلفظ: (ليس لكُن أن تحققن الطريق عليكن بحافات الطريق: وفي سنده مجهول لكن له شاهد حسن من حديث أبي هريرة بلفظ: (ليس للنساء وسط الطريق) رواه ابن حبان وغيره، فيتقوى به (صحيح الجامع 5 / 98) ، وتحقيق " شرح السنة " (12 / 322) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 في طريق الرجال والاختلاط بهن في الطريق (344) فعلى ولي الأمر أن يقتدي به في ذلك. وقال الخلال في جامعه: أخبرني محمد بن يحيي الكحال أنه قال لأبي عبد الله: أرى الرجل السوء مع المرأة؟ قال: صح به وقد أخبر النبي ": " أن المرأة إذا تطيبت وخرجت من بيتها فهي زانية " (345) ويمنع المرأة إذا أصابت بخوراً أن تشهد عشاء الآخرة في المسجد (346) فقد قال النبي ": " المرأة إذا خرجت استشرفها الشيطان " (347) . ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا وهو من أسباب الموت العام والطواعين المتصلة) اهـ. فهذه نبذة يسيرة مما ينبغي أن يكون عليه الحاكم المسلم وأن سلطته - بقوة الشرع الذي يجعل طاعته جزء من الدين - تمتد إلى هذه الحدود الواسعة ردعاً للفسقة ومشيعي الفاحشة ومراعاة لقوله ": " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته: الإمام راع وهو مسؤول عن رعيته " الحديث (348) .   (344) وقد روى أنه رأى رجلاً وامرأة يتكلمان في الطريق - وقد تكون زوجته أو من محارمه - فعلاهما بالدرة، وقال: (ما وجدتما مكاناً غير هذا تتكلمان فيه؟) فأين أنت يا عمر وأين درتك؟ ما أحوجنا إليكما الآن! . (345) أخرجه النسائي وأبو داود والترمذي والحاكم والإمام أحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما من حديث أبي موسى الأشعري بلفظ: (أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية) وقال الترمذي: حسن صحيح وقال الحاكم: صحيح الاسناد، ووافقه الذهبي. (346) لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ": (أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة) أخرجه مسلم وأبو عوانة في صحيحيهما وأصحاب السنن وغيرهم. (347) رواه البزار والترمذي والطبري في الكبير وصححه الألباني (إرواء الغليل 1 / 303) رقم (273) . (348) رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 قال الله تعالى: (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميه ليمكروا فيها) الآية الأنعام 123. وهذا ما جرى من " أكابر مجرميها " قرانا حيث تمكن منها تلامذة الاستعمار الأمناء على عهده الحافظون لمآربه وهم قوم صغار النفوس لا يقف استهتارهم وعنادهم للشرع عند حد والأمة إذا أسندت أمرها إلى صغار النفوس كبرت رذائلهم لا نفوسهم وإذا حكم الفاسق فقد حكم الفسق. وللخير أهل يعرفون بهديهم إذا اجتمعت عند الخطوب المجامع وللشر أهل يعرفون بشكلهم تشير إليهم بالفجور الأصابع وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله ": " صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات (349) مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا ". قال الأستاذ " محمد أديب كلكل " (350) مشيراً إلى فوائد هذا الحديث: (وفيه ربط بين الاستبداد السياسي " قوم معهم سياط " والانحلال الخلقي " ونساء كاسيات عاريات " وهذا ما يصدقه الواقع فإن المستبدين من الطغاة والمتسلطين من الفراعنة يشغلون الشعوب عادة بما يقوي الشهوات ويزينها ويلهي الناس بالمتاع الشخصي عن مراقبة القضايا العامة لكي يبقوا سادرين في غفلاتهم غارقين في شهواتهم لا يهتمون   (349) قال الإمام ابن الأثير الجزري رحمه الله: (" مائلات مميلات " مائلات: أي زائغات عن طاعة اللهو عما يلزمهن من حفظ الفروج ومميلات: يعلمن غيرهن الدخول في مثل فعلهن) اهـ محل الغرض منه (جامع الأصول 11 / 789) . وقال الشيخ إسماعيل حقي في تفسير قوله (مميلات) : (أي قلوب الرجال إلى الفساد بهن، أو مميلات أكتافهن وأكفالهن كما تفعل الراقصات أو مميلات مقانعهن عن رؤوسهن لتظهر وجوههن) اهـ من (روح البيان) (7 / 170) - وانظر هامش " المجموع " للنووي (4 / 307) . (350) في كتابه (حكم النظر في الإسلام) ص (134) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 بطغيان ولا يسألون عن انحراف ولا يقاومون ظلماً ولا عدوان) اهـ بمعناه. أجل! لقد تطرف هؤلاء " الأكابر " في انجذابهم إلى طريق الشيطان حتى خرجوا من الدائرة بالكلية وصاروا هم في الحقيقة الرجعيين المتطرفين الداعين إلى الرجعية الجاهلية المظلمة قبل بزوغ فجر الإسلام. ومن عجيب أمرهم أنه إذا أنكر عليه منكر فتحهم باب الطعن في أحكام الإسلام احتجوا بأن هذه أمور تخضع للحرية الشخصية وأن لابد من التزام مبدأ حرية الرأي والسلوك أفلا يحتجون بحرية الرأي والسلوك في حق من يكفر بنظمهم " الأساسية " ويطعن في مناهجهم العلمانية؟ أم أنهم يغارون على دنياهم ويستكثرون منا أن نغار على ديننا؟ يقاد للسجن من سب الزعيم ومن سب الإله فإن الناس أحرار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 عود على بدء الآن نعرض فصولاً من المعركة التي دارت بين الحجاب والسفور في بعض البقاع الإسلامية وقد تحولت من معركة فكرية سلاحها القلم والتضليل إلى معركة حقيقية سلاحها البطش والإرهاب والتنكيل. 1 - في تركيا: (شرع أتاتورك - عليه من الله ما يستحق - قانونه لنزع حجاب المرأة المسلمة وراقب تنفيذه وعاقب مخالفيه وشنق معارضيه) (351) . وقال في تسويغ حربه على الحجاب: " لقد رأيت كثيرات من أخواتنا يغطين وجوههن إذا ما رأين غريب يتقدم نحوهن ومن المؤكد أن هذا الغطاء يضايقهن كثيراً في الحر " (352) اهـ. وقام عام (1925) بإجبار تركيا بأكملها - وليس المرأة فقط - على هجر الإسلام كلية حتى الحرف الذي تكتب به اللغة التركية متشابهاً مع لغة القرآن أم نزع حجاب المرأة التركية فقد تم بالإرهاب والإهانة في الطرقات حين كان البوليس يقوم بنزع حجاب المرأة التركية بالقوة) (353) . وهكذا كان نزع الحجاب خطوة   (351) (المرأة المسلمة) لوهبي غاوجي الألباني ص (189) . (352) " مصطفى كمال أتاتورك " إعداد لجنة الرواد والمشاهير " بإشراف الدكتور رء وف سلامة موسى ص (96) . (353) (في مسألة السفور والحجاب) لصافي ناز كاظم ص (9) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 ضمن خطة علمانية شاملة لإزالة كل أثر للإسلام في تركيا مركز الخلافة العثمانية (354) ويصور الأستاذ " أحمد حسن الزيات " بعض ملامح هذه الخطة فيقول: (وألزموا التركي المسلم بلبس القبعة وأرغموه أن يكتب من الشمال وفصلوا الدين عن الدولة وانتزعوا العربية من التركية وألغوا العيدين واستبدلوا بعيد الجمعة عيد الأحد وعطلوا الصلاة بمسجد أيا صوفيا وأسكتوا المؤذنين وأبعدوا المصلين فلا يمرون عليه إلا باكين مستعبرين وحولوه إلى متحف وبيت للأوثان وطمست منه آيات القرآن وأظهرت فيه الصور والأوثان - وكأن أتاتورك وأشياعه قد نقلوا أمتهم المروعة المشدوهةعلى المدرعات إلى الشاطئ الأوربي ثم أحرقوامن ورائها سفائن طارق) (355) (أجل! لقد حولوا جامع " أيا صوفيا " وهو مسجد الأستانة الكبير كنيسة بمنع الصلاة فيه ومحو ما فيه من آيات قرآنية وأحاديث والكشف عما ستره المسلمون الفاتحون من الصور التي زعمها النصارى للملائكة ومن يسمونهم القديسين والصلبان ونحوها من نقوش نصرانية) (356) . وفي هذا قال حافظ: " أيا صوفيا " حان التفرق فاذكري عهود كرام فيك صلوا وسلموا إذا عدت يوماً للصليب وأهله وحلي نواحيك المسيح ومريم ودقت نواقيس وقام مزمر من الروم في محرابه يترنم فلا تنكري عهد المآذن إنه على الله من عهد النواقيس أكرم (357)   (354) ومن الجدير بالذكر أن زوجة أتاتورك رفضت الاستجابة لطلب زوجها حينما راودها على كشف وجهها ورأسها وأمرها بالتخلي عن الحجاب وأصرت على لزوم الحجاب حتى كان هذا الأمر أحد أسباب طلبها الطلاق منه. (355) مستفاد من (الرسالة) العدد 88 السنة الثالثة 6 ذي الحجة 1353 هـ، 11 مارس 1935 م. (356) مجلة " الإسلام " - 17 جماد الأولى 1354 هـ - 16 أغسطس 1935 م - ص (44) . (357) " الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر " (2 / 20 - 21) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 (ألغى مصطفى كمال أتاتورك الخلافة في 3 مارس عام 1924 من دون مناقشة للجمعية الوطنية وصدر قانون يحكم بالإعدام على من يتآمر على عودتها (358) .... وفي نفس العام (1924) صدر قانون بإلغاء التعليم الديني وجعل التعليم مدنياً فقط ثم ألغيت المحاكم الشرعية وأصبحت التركية هي لغة البلاد وأنقرة هي عاصمتها. وكان أتاتورك يجوب تركيا لابساً قبعة من القش وكان يثور كلما رأى رجلاً يلبس الطربوش وقد أثار أزمة مع سفير مصر في أنقرة إذ صرخ فيه في إحدى الحفلات: " قل للملك إني لا أحب هذا اللباس ". وفي عام (1926) ألغى الزواج الشرعي وجعله مدنياً وألزم توثيقه أمام موظفي الدولة وقد أمر أتاتورك الأتراك بالتوقف عن إلقاء السلام بالفم ونصحهم بأن تكون تحيتهم بالمصافحة باليد وحرم ارتداء الملابس الدينية لغير رجال الدين ثم ألغى الحريم وأصدر قانوناً بإلغاء الحجاب للمرأة وألغى تعدد الزوجات وأدخل التعليم المختلط ... واستبدل بالقانون المدني التركي القانون السويسري وأوقف التقويم الهجري وأمر باستخدام التقويم الميلادي وجعل العطلة الأسبوعية يوم الأحد من كل أسبوع) (359) . وهذه صحيفة " السياسة الأسبوعية " (360) تكتب مقالاً عن (فتاة تركيا 1926) تصف فيه باخرة اتخذتها وزارة التجارة التركية معرضاً عاماً في رحلة على   (358) (جاء في دائرة المعارف الماسونية ص (162) ما نصه: " إن الانقلاب الذي قام به الأخ " مصطفى كمال أتاتورك " أفاد الأمة الماسونية فقد أبطل السلطنة وألغى الخلافة الإسلامية وأبطل المحاكم الشرعية وأبعد دين الإسلام عن الحياة ") ، وانظر " محاضرات الجامعة الإسلامية " عام (1395 م - 1396 هـ) ص (132) . (359) انظر " مصطفى كمال اتاتورك " د. رؤف سلامة موسى ص (93: 96) . (360) " السياسة الأسبوعية " - عدد 17 يوليو 1926 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 نفقة الحكومة تنتقل فيها بين موانئ أوربا الشهيرة فتقول أن هذه الباخرة كانت تقل (خمساً وعشرين فتاة من فتيات تركيا الجديدة كلهن جميلات مقصوصات الشعور لا يكاد يميزهن الرائي من فتيات لندن وباريس) ويقول المراسل: " إن أكثر الفتيات يتكلمن الإنجليزية بإتقان يدعو إلى الدهشة وإن بعضهن قد تلقى العلم في الكلية الأمريكية في القسطنطينية " ويروي بعض ما صرحت به الفتيات من مثل قول إحداهن في بعض الموانئ الإنجليزية: (إن المرأة التركية اليوم حرة فلن تسير إلى الطرقات في ظلام وإننا نعيش اليوم مثل نسائكم الإنجليزيات نلبس أحدث الأزياء الأوربية والأمريكية ونرقص وندخن ونسافر وننتقل بغير أزواجنا) ومن مثل تصريح أخرى بأن (معيشتهن على ظهر الباخرة معيشة سرور وصفاء لا يوصف فكلهن يرقص وبعد العشاء يبدأ الرقص من " تانجو " و " فوكس تروت " وقد تعلمت ذلك في المدرسة) ويعلق مراسل الصحيفة على ذلك الوصف بقوله: (إن هذا من أظهر الآثار التي تدل على تقدم المرأة التركية ومجاراتها لأختها الغربية في ميدان العمل والجهاد الفكري والاقتصادي ولا يسع كل محب لتركيا إلا أن يغبطها على هذه الخطوات) اهـ. وهذه هي صحيفة (المقتطف) تكتب مقالاً عن (الأحوال في تركيا المعاصرة) (361) تشيد فيه بمصطفى كمال أتاتورك وتقرنه بواشنجتن زاعمة إنه أكبر زعيم معاصر وهي تثني على صنيعه في فصل الدولة عن الدين واعتباره الدين (أمراً شخصياً بين المرء وخالقه) ثم تشيد الصحيفة بالتطور الاجتماعي الذي طرأ على تركيا بسفور النساء واشتراكهن في المجتمعات مع الرجال ومشاركتهن الشبان في الدراسات الجامعية وإنشاء صحيفة تدافع عن حقوقهن ويشير الكاتب بإعجاب إلى ما أنشئ من الدور المختلطة التي تضم الشباب من الجنسين ليمارسوا الرياضة ويروي الكاتب   (361) المقتطف عدد إبريل (نيسان) 1926 (ص 410 - 413) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 بلهجة الاستحسان (طلب بعض النابغات منهن أن يسمح لهن بإلقاء خطب في الجوامع كل أسبوع في تدبير المنزل وما أشبهه من الموضوعات) اهـ. لقد كان أتاتورك يجعل من رذائل الأوربيين فضائل لهم على رغم أنفهم يتبرءون منها ويلحقها هو بقومه.. إنه لم يحكم على شبر من أوربا بجعله تركيا ولكنه جعل رذائل أوربة تتجنس بالجنسية التركية. المثل الأعلى للفراعنة: ولعل سيرة اتاتورك تفسر لنا لماذا يصر طواغيت اليوم على اتخاذه أسوة وقدوة حتى لقد افتخر " فرعون مصر " الملقب بـ " أنور اليهود " يوماً بأن مثله الأعلى هو"أتاتورك" وكأنه لم يكفه أن زعيم الترك بعد أن أرغم قومه على إلغاء الحروف العربية بغضاً في العرب ودينهم وحملهم على لبس القبعة فأحسوها ذلة تطأطأ لها الرءوس وعاراً تذل له النفوس وحاول بعض المتقين نبذها فقطعت رءوسهم وأراد بعض الغيورين استهجانها فشلت ألسنتهم ولم يكفه أن " أتاتورك " رمى بالمصحف ساخراً وقال لعنة الله عليه: " لا تفلحوا ما دام هذا الكتاب البالي أمامكم " وكان يأمر فيترجم له بعض آياته لنقدها والسخرية بها. وقال في حديث مع (المس جريس أليسون) : " إنك تتحدثين عن الدين ألا فاعلمي أني رجل لا دين له وكثيراً ما وددت لو كان في وسعي أن أقذف بجميع الأديان إلى البحر! إن الحاكم الذي يشعر بحاجته إلى الدين ليدعم به حكومته لهو أخرق الرأي ضعيف السلطان يحاول اصطياد الرعية بالحبال الواهية أما الشعب التركي فسيتعلم مبادئ الديموقراطية الصحيحة ويرضع لبان العلوم الحقة وسنضرب الخرافات بيد من حديد ثم ندع للناس حرية الاعتقاد ليعبدوا ما يشاءون ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وقرر أن لا يدرس الفقه الإسلامي في جامعة استمبول الجديدة لأنه يعتقد أن التخصص في العلوم الدينية لا يطابق حالة العصر (362) . (وتبنى القانون المدني السويسري وقانون الجرائم الإيطالي وأمر بتحريق مصادر الفقه الإسلامي ثم أضطهد علماء المسلمين أبشع الاضطهاد وقتل منهم العشرات وعلق جثثهم على أعواد الشجر بأقمشة عمائمهم. لقد أحياهم في التاريخ أم هم فقتلوه في التاريخ وجاءهم بالرحمة من جميع المسلمين أما هم فجاءوه باللعنة من المسلمين جميعاً) (363) . وجاء في جريدة "المسلمون " الدولية - العدد الثالث والثلاثون - السبت (7 - 13 المحرم 1406 هـ) الموافق (21 - 27 سبتمبر 1985م) تحت عنوان: (الدكتورة " نبهة " هل تخلع الحجاب بالقوة في تركيا؟) : (الدكتورة " نبهة كورو " اسم تردده وكالات الأنباء العالمية أستاذة مساعدة في جامعة إيجه في أزمير مشكلتها أنها تعرضت للاضطهاد بسبب ارتدائها الحجاب وإصرار السلطات على أن تخلعه. قصتها بدأت في منتصف العام الماضي عقب عودتها من الولايات المتحدة بعد حصولها على درجة الدكتوراة في الطاقة الشمسية وجدت أن الحكم العسكري الذي كان مسيطراً على مقاليد الحكم في تركيا في ذلك الوقت قد سيطر على الجامعات من خلال تنظيم مجلس التعليم العالي وأسند رئاسة المجلس إلى " إحسان دوجر ماس " وهو أستاذ تلقى تعليمه في الولايات المتحدة وقام بعد رئاسته للمجلس بشن حملة فصل تعسفي شملت أكثر من ألفي عضو هيئة تدريس بحجة مخالفة القوانين.   (362) مجلة " الإسلام " 17 جمادى الأولى 1354 هـ - ص (43 - 44) - ومما يذكر أن الطاغية " جمال عبد الناصر " كان هو أيضاً يفاخر في مناسبات عديدة بأن مثله الأعلى هو " أتاتورك ". (363) مجلة " الجامعة الإسلامية " عام 1395 - 1396 هـ ص (133) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 حرصت الدكتورة " نبهة " على ارتداء الحجاب أثناء إلقاء محاضراتها بجامعة أزمير وسرعان ما بدأ الصدام حيث بدأ الأستاذ دوجر ماس - مفوض الحاكم العسكري على الجامعات - حملة مضايقات ضدها وكان الإنذار الأول بأن لا ترتدي غطاء الرأس أثناء وجودها في الجامعة والإنذار الثاني من السلطات الرسمية يتضمن طلباً رسمياً بخلع الحجاب. ورفضت الدكتورة " نبهة " خلع الحجاب وكان ذلك بمثابة تحد وعصيان على سلطة " دوجر ماس " المطلقة على التعليم العالي في تركيا وأحيلت إلى المحاكمة ورفضت أن يدافع عنها أحد ووقفت لمدة ساعة تترافع عن نفسها ولم تستشهد إلا بنصوص القانون العلماني الذي يريدون أن يحاكموها طبقاً له واستحوذ أسلوبها على اهتمام الناس وهي تطالب بإلغاء الحكم الصادر ضدها بخلع الحجاب ولم تكتف بالدفاع عن الحجاب بل كشفت أيضاً تفاصيل المعاملة غير العادلة التي تقوم بها سلطات الجامعة. وقد أعلنت المحكمة تأجيل القضية للحكم وبعد شهرين من التأجيل أصدرت المحكمة العليا حكماً جاء في حيثياته: " رغم أن مواد الدستور تنص على حماية الحرية الدينية لكل مواطن إلا أن هناك مبادئ عليا في الدولة هي المبادئ الكمالية - نسبة إلى مصطفى كمال اتاتورك - وإن إصرار الدكتورة " نبهة " على ارتداء الحجاب ضد روح الدستور ". والدكتورة نبهة تقدمت بطعن إلى المحكمة العليا لم ينظر حتى الآن ومنعت من ممارسة التدريس وما زالت في الانتظار تبحث عن جواب ... من يملك الحق في تحريم الحجاب؟) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 دعاة " حقوق الإنسان " ضد الحجاب أعرب " معمر إكسوي " أحد الموقعين على التماس إلى الرئيس التركي لإعطاء مزيد من الحريات للشعب عن رأيه بضرورة صياغة قانون لمنع ارتداء الحجاب في المؤسسات والهيئات الحكومية. كما وجهت " توريكان أديكان " رئيسة منظمة الدفاع عن حقوق المرأة وعضو البرلمان اللوم إلى زوجات أعضاء البرلمان اللائي حضرن حفل افتتاح جلساته وهن يرتدين الحجاب وتقول: إنه لا يجب التسامح في ارتداء السيدات للحجاب وجدير بالذكر أن " معمر " و " توريكان " من كبار الدعاة لحقوق الإنسان (*) في تركيا. وطبقاً للقانون العلماني في تركيا يعاقب كل من يكتب في الصحف أو يشير في وسائل الإعلام الأخرى عن الشريعة الإسلامية أو الحجاب بالسجن لمدة تصل إلى سبع سنوات والتهديد بالإغلاق. ورغم ذلك هناك أصوات إسلامية قوية تقف ضد التيار العلماني الذي يطالب بمنع الحجاب فهناك الكاتبة الإسلامية " سولي يوكسل سينلر " التي تعرضت للسجن أكثر من مرة وتعيش في أحد الأحياء الفقيرة في أنقرة واكتسبت شهرة كبيرة بين أوساط النساء بدعوتها إلى الحجاب عندما ظهر أول مقال لها في صحيفة الاستقلال في عام 1967 تحت عنوان (خطاب إلى المرأة المسلمة) وبدأت تجذب انتباه عشرات الآلاف في تركيا تم القبض عليها وحكم عليها بالسجن عامين. وفي عام 1972 تأسس حزب " السلامة " الإسلامي بزعامة " نجم الدين أرباكان " وحاز على تأييد قوي في انتخابات عام 1973 بعد ستة أشهر فقط من   (*) إنما ذكرت هذا من باب إلزامهم بما ألزموا أنفسهم به ألا وهو احترام الحرية الشخصية والفكرية وهذا الإلزام هو من باب " ورهبانية ابتدعوها " الآية، وإلا فإن ما يسمى بـ " إعلان حقوق الإنسان " يتضمن مخالفات صريحة للشرع الإسلامي ومصادمات واضحة لمقاصده العليا مما لا يتسع المجال لبسطه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 تأسيسه وبدأ الحزب حملة نضال من أجل حقوق المرأة المحجبة ولكن رئيس الحزب فوجئ باتهام موجه له بأنه يعمل على محاولة إقامة دولة دينية ويواجه الآن حكماً بالسجن لمدة عامين. وقد وصل عدد الطالبات اللاتي تم فصلهن من جامعة أنقرة بسبب ارتدائهن الحجاب إلى مائة طالبة ومن بين حالات الطالبات اللاتي تم فصلهن الطالبة " أيس نورمان " التي كانت على أبواب التخرج من كلية الطب في جامعة أنقرة وكان تخرجها بعد خمسة أشهر إلا أن الجامعة خيرتها بين خلع الحجاب وبين الفصل من الجامعة و" هدم مستقبلها "! وفضلت الطالبة الفصل من الجامعة على أن لا تخلع الحجاب وقالت: " أنها لا تشعر بالأسف على هذا الاختيار وإنها لن تتخلى عن موقفها وتخلع الحجاب ". والطالبة " ربيعة ألماظ " من كلية الطب في اسطنبول كان مفروضاً أن تلقي خطاباً في حفل التخرج باعتبارها أولى الخريجات ولكن سلطات الجامعة منعتها من إلقاء الخطاب لأنها ترتدي الحجاب. ومن الحوادث المؤلمة في تاريخ جامعة لنقرة حادث " هايتس بابا كان " والمعروف باسم حادث جامعة أنقرة في أواخر الستينات كانت " هايتس " تدرس الأديان في جامعة أنقرة ورفضت خلع الحجاب وكانت حالة لم يسبق لها مثيل في كلية دراسة الأديان وفي محاضرة عن مقارنة الأديان قام الأستاذ " نيست كاجاتي " بطرد " هايتس " من قاعة المحاضرات بعد إهانتها بألفاظ غير لائقة لأنها ترتدي الحجاب وقام مجلس الكلية بفصلها وهنا وقع انقسام وتمرد بين الطلاب وقاطعوا الدراسة وأعلنوا الإضراب عن الطعام تضامن مع زميلتهم وتم إغلاق الكلية لمدة ستة أشهر وتقول " هايتس " وهي تتحدث اليوم عن هذه الذكريات: (إن عميد الكلية " حسين غازي " استدعاني إلى مكتبه وقال لي: " إنني اعلم أنك تغطين رأسك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وجسمك لأنك غير قادرة على التحكم في غريزتك الجنسية ولأنك شاذة جنسياً فيجب أن تخجلي من نفسك ". وتضيف " هايتس ": لقد كان يغشى علي عند سماعي هذا الكلام من أستاذ جامعي وبدءوا في محاصرتي وحاولوا إشاعة أنني مريضة نفسياً ونصحني البعض بالحصول على شهادة طبية تثبت صحة قواي العقلية للرد على هذه الشائعات) . وفي عام 1968 أصدرت حكومة " سليمان ديميريل " قانوناً يحظر على المدرسات المسلمات ارتداء الحجاب في العمل وتم فصل عدد كبير منهن واضطرت أعداد كبيرة إلى الاستقالة ولجأ بعضهن إلى القضاء ولكنه لم ينصفهن. - المحاميات ممنوعات من الحجاب: ولم تنج مهنة المحاماة من الاضطهاد فتم منع " أمينة إيكينار " - وهي محامية مسلمة - من المرافعة في المحكمة مرتدية الحجاب ورفعت المحامية قضية ضد الحكومة كانت نتيجتها الخسارة واضطرت إلى ترك المحاماة والتزام منزلها. يتغير الموقف تدريجياً الآن فهناك أربع مجلات إسلامية توزع نحو مائة ألف نسخة أسبوعياً والحكومة التركية بدأت تطالب بالتخفيف من القوانين العلمانية خاصة فيما يتعلق بحجاب المرأة المسلمة. أصدرت المحكمة العسكرية التركية حكماً على الكاتبة التركية المسلمة " أمينة سينليكو جلو " بالسجن ست سنوات والنفي داخل البلاد لمدة سنتين بحجة انتهاك قوانين الدولة العلمانية وكانت الكاتبة التركية قد وضعت كتاباً عن مستقبل الإسلام بين النشء في تركيا الحديثة وهي متزوجة وأم لطفل واحد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 2 - في إيران (364) : في عام 1926 عندما نصَّب الإنجليز الكلونيل " رضا بهلوي " شاه إيران مؤسساً للأسرة البهلوية ألغى من فوره الحجاب الشرعي وكانت زوجته أول من كشفت عن رأسها في احتفال رسمي ثم أصدر أوامره إلى الشرطة بمضايقة النساء اللواتي رفضن الاقتداء بملكتهن وخرجن محجبات فما كانت امرأة تخرج من بيتها محجبة إلا وعادت إليه سافرة فقد كانت الشرطة تنزع حجابها غصباً وتستولي على عباءتها وتهين صاحبتها ما استطاعت إلى الإهانة سبيلاً وحُظِرَ على الفتيات والمعلمات وضع الحجاب ودخول مدارسهن به ومنع أي ضابط من ضباط الجيش من الظهور في الأماكن العامة أو في الشوارع برفقة امرأة محجبة مهما كانت صلته وقرابتها به وقد كان " رضا خان " صديقاً حميماً لكمال أتاتورك وكان يحرص دوماً على تقليده واقتفاء خطاه وبالفعل كان " رضا بهلوي " في حربه للإسلام صورة طبق الأصل عن أتاتورك. وعندما سئل ذلك الشاه عن سبب ضغطه على النسوة في نزع الحجاب مع أن عجلة التاريخ قد تضمن له تحقيق أهدافه أجاب: (لقد نفد صبري إلى متى أرى بلادي وقد ملئت بالغربان السود؟!) اهـ. 3 - وفي أفغانستان: تولت السلطة نزع حجاب المرأة بقانون وذلك في عهد " محمد أمان ".   (364) انظر (وجاء دور المجوس) للدكتور محمد عبد الله الغريب ص (91 - 92) ، و (في مسألة السفور والحجاب) لصافي ناز كاظم ص (9) واعلم أن " إيران الشيعة " لا تدرج بالمقياس الإسلامي الصحيح ضمن البلاد الإسلامية إلا باعتبار وجود أقلية سنية فيها أو عوام جهلة لم تقم عليهم الحجة وإلا فإن شيعة إيران الروافض أبعد ما يكونون عن أصول وفروع الإسلام كما يعلمه من له مسكة من علم أو معاشرة لهم والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 4 - في ألبانيا: حارب " أحمد زوغو " الحجاب بقانون ثم عادت المرأة المسلمة الألبانية إلى الحجاب أيام الحرب العالمية الثانية ثم عاد " أنور خوجة " مرة ثانية وشن حرباً شعواء على الحجاب في ألبانيا. 5- في روسيا: حاربت روسيا الحجاب في تركستان والقوقاز والتشن والقرم وسائر ما تحتل من بلاد المسلمين وهم يبلغون ستين مليوناً. 6 - في يوغسلافيا: وكذلك فعل " تيتو " في يوغسلافيا (365) 7 - في الجزائر: سرق " أحمد بن بيلا " الثورة الإسلامية وحولها إلى ثورة اشتراكية بعيدة عن الإسلام مناوئة له ودعا المرأة الجزائرية إلى خلع الحجاب بحجة عجيبة حين قال: (إن المرأة الجزائرية قد امتنعت عن خلع الحجاب في الماضي لأن فرنسا هي التي كانت تدعوها إلى ذلك! أما اليوم فإني أطالب المرأة الجزائرية بخلع الحجاب من أجل الجزائر) (*)   (365) (المرأة المسلمة) لوهبي الألباني ص (189 - 190) . (*) (واقعنا المعاصر) للأستاذ محمد قطب ص (260) ويقال أن " بن بيلا " عاد إلى الإسلام بعد حبسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 8 - في سوريا: (طرح " حافظ الأسد " فكرة تعديل قانون الأحوال الشخصية وفكرة التجنيد الإجباري للمرأة كما مزق الحجاب في شوارع دمشق ومنع المحجبات من دخول المدارس بحجابهن) (**) اهـ 9 - في تونس: (نادى " بورقيبة " بتخليص المرأة من قيود الدين وجعلها رسولاً لمبادئه العلمانية) (366) (وفي حديث " للحبيب بو رقيبة " بأهرام 20 / 12 / 1975م صرح الرئيس التونسي بأنه أصدر في سنة 1956 م قانوناً بمنع تعدد الزوجات يعتبر التعدد جنحة يعاقب مرتكبها بالسجن لمدة سنة وغرامة مالية " 240 " ديناراً) (367) اهـ 10 - في الصومال: (شددت حكومة " سياد بري " حملتها ضد الإسلام في الصومال وقد طردت مؤخراً كل طالبة ترتدي الزي الإسلامي من المدارس كما ألغت تفسير القرآن الكريم من المناهج وتقوم بطرد الطلاب الذين يقبض عليهم وهم يؤدون الصلاة أو يقرؤون القرآن الكريم من المدارس) (368) 11 - في ماليزيا: جاء في (أخبار اليوم) تاريخ السبت (7محرم 1406 هـ) الموافق (21 / 9 / 1985 م) : (أصدرت الجامعة التكنولوجية في ماليزيا قراراً بإيقاف تسع طالبات عن الدراسة بحجة ارتدائهن الحجاب الذي تمنعه وزارة التعليم الماليزية وذكر مسؤول كبير في الجامعة أن قرار إيقاف الطالبات سيظل سارياً مادام هؤلاء الطالبات يرتدين الحجاب) اهـ   (**) " هذه تجربتي وهذه شهادتي " للأستاذ سعيد حوي رحمه الله وعفا عنه ص (105) . (366) (المرأة ومكانتها في الإسلام) لأحمد عبد العزيز الحصين ص (225) وانظر محاضرات الجامعة الإسلامية الموسم الثقافي (1395 - 1396هـ) ص (126) . (367) (أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي) هامش ص (89) وجاء فيه أيضاً: (وفي مقال شيخ الأزهر ذكر أن أحد التونسيين ضبط متلبساً بجريمة الزواج الثاني ولم يخل سبيله إلا بعد أن قرر أن هذه الثانية خليلة وليست زوجة) اهـ {ألا ساء ما يزرون} . (368) (المرأة ومكانتها في الإسلام) للحصين ص (62) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 11 - في مصر: وضع عبد الناصر وزبانيته كتاب " الميثاق " متأسياً في ذلك بإمامه الأول جنكيز خان حيث وضع الأخير كتابه (الياسق) (369) ليصد به الناس عن القرآن وكان مما جاء بصدد المرأة في (الميثاق) : (المرأة تتساوى بالرجل ولابد أن تسقط بقايا الأغلال التي تعوق حركتها الحرة حتى تستطيع أن تشارك الرجل بعمق وإيجابية في صنع الحياة) اهـ وبوحي من هذه الفلسفة العلمانية المادية اتخذت إجراءات وخطوات حاسمة في هذا الصدد وصدرت قوانين تقضي: - بفرض ثلاثين نائبة على الأقل في مجلس الشعب. - بفرض خمسة وعشرين بالمائة من النساء على الأقل في عضوية جميع المجالس الشعبية والمحلية. - بجعل الانتخاب والتصويت إجبارياً على كل أنثى تبلغ الثامنة عشرة من عمرها مع كونهما ليسا إجباريين على الرجل. وأخيراً صدر قانون تعديل أحكام قوانين الأحوال الشخصية الذي خططوا له طويلاً وتحقق أمل " مرقص فهمي " و " قاسم أمين ".   (369) انظر " عمدة التفسير عن الحافظ بن كثير " لمحدث الديار المصرية العلامة أحمد شاكر رحمه الله (4 / 171 - 174) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 الحركة النسائية في ظل النظام الجمهوري (*) {ظهرت الحركة النسائية في ظل الحكم الجمهوري بمظهر يغاير نظيره في العهد الملكي فبينما كانت المرأة تطالب أو تحرض على المطالبة بما أسمته " حقوقها " منذ بدأت حركتها في منتصف القرن العشرين سارعت حكومات العهد الجمهوري باستقطابها والاستفادة منها في حقل الإنتاج هذا من ناحية أما الجانب الآخر فقد بات واضحاً أن أهم المسائل التي تشغل الحكومة قبل المرأة تنحصر في شيئين هامين هما: حق العمل للمرأة وهذا الحق مؤدٍّ بالضرورة لحق آخر وهو التمثيل النيابي والمشاركة في حل القضايا الاجتماعية ومن ثم لم تعد المرأة هذا المخلوق الضعيف الذي يطالب بل صارت المخلوق القوي الذي يمنح ويعطي كل ما يمنحه ويعطيه الرجل تماماً. وهذا الرأي بالضرورة لا يتناقض مع فشل حركة المرأة عند قيامها بأعنف مظاهرة لها في تاريخها الحديث في 12 مارس 1954 م أي في بداية العهد الجمهوري لأن اللاتي قمن بهذه المظاهرة كن ينتمين للعهد السابق " الملكي " ويرتبطن به ثقافياً وسياسياً واجتماعياً ولا يرتبطن بأوهى رباط بالعهد الجديد وقيمه وإن بدا في الأفق - وقتها - أن الحكومة الجمهورية راضية عن هذا العمل رضاء تاماً حينما أعلن اللواء " محمد نجيب " رئيس الجمهورية الاستعداد للاستجابة لهن وأن حقوقهن في أيدي أمينة وأنه سيشكل لجنة مختصة للنظر في تكوين الجمعية التأسيسية للنظر في مطالبهن وكان ذلك في 21 مارس 1954 م. وبعد ذلك اختفت الحركة التي تزعمتها " درية شفيق " واختفت معها زعيمتها ولم تعد للظهور أبداً حتى فاجأ الطاغوت " جمال عبد الناصر " خلف محمد   (*) من " المؤامرة على المرأة المسلمة " للدكتور السيد أحمد فرج ص (115 - 122) بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 نجيب الناس في يوم (16 يناير 1957) بخطاب أعلن فيه منح المرأة لأول مرة حقوقها السياسية (لأن الحقوق التي اكتسبها الشعب بالثورة باشرتها المرأة أيضاً كما باشرها الرجل فقد وقفت المرأة مع الرجل جنباً إلى جنب طوال كفاحه المرير واستشهدت بعض نسائنا في سبيل الكفاح المشترك من أجل الحرية والحياة وكما كافحت المرأة من أجل الحصول على حق الشعب فمن حقها أن تسترد حقوقها كاملة) (370) وكان دستور (1956) قد نص على (أن الانتخاب حق للمصريين على الوجه المبين في القانون وأن مساهمتهم في الحياة العامة واجب وطني عليهم) (371) فجاء خطاب الطاغية بمثابة البيان لهذا النص الذي تأكد عملياً في العام نفسه في أول انتخابات تجرى في العهد الجمهوري عام (1957) إذ انتخبت سيدتان لمجلس الأمة هما: " أمينة شكري " في الإسكندرية و " راوية عطية " في حي الجيزة. ثم كان أكبر دفعة لتحرير المرأة ما جاء في " الميثاق الوطني " سنة 1962 لينص على أن (المرأة تتساوى بالرجل ولابد أن تسقط بقايا الأغلال التي تعوق حركتها الحرة حتى تستطيع أن تشارك بعمق وإيجابية في صنع الحياة) (372) ذلك أن الميثاق وهو دليل العمل في الستينات نظر للمرأة على إنها كم اقتصادي كالرجل سواء بسواء. وكان الطاغية عبد الناصر الموصوف بأنه صاحب الإرادة الوحيد في تلك الفترة قد مهد لهذا من قبل فقال وهو يخطب في معسكر للفتيات في رشيد في (28 يوليو 1959) : (كان لابد لنا بعد أن اكتشفنا أنفسنا أن نكتشف نصف شعبنا - المرأة - ونعطيها جميع حقوقها وقد وضعنا هذا موضع التنفيذ) (373) ثم   (370) من خطاب جمال عبد الناصر يوم 16 يناير 1957 بمناسبة تقديم الدستور (1956) . (371) دستور 1956 مادة: (16) . (372) " الميثاق الوطني الباب السابع: الإنتاج والمجتمع. (373) مجموعة خطب عبد الناصر وتصريحاته وبياناته القسم الثاني ص (571) - مصلحة الاستعلامات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 أكد ذلك في خطابه في معسكر الفتيات للتدريب العسكري بالورديان بالإسكندرية في (4 أغسطس 1959) معلناً شعوره بالفخر (لأن المرأة العربية اليوم نصف المجتمع وعليها مسئولية كبرى لتشارك الرجل في بناء هذا الوطن وفي بناء المصانع وفي التعليم الفني وفي التدريب العسكري (374) وفي اليوم نفسه زار معسكر فتيات المكس بالإسكندرية وطالب فيه بضرورة تضافر جهود كل فرد من المواطنين جميعاً من الرجال والنساء (375) كان عبد الناصر قادراً على أن يبرر للشعب أهمية مساواة المرأة بالرجل في كل المجالات: في الإنتاج وفي التدريب العسكري وغير ذلك لأن الوطن يحتاج إلى تضافر الجنسين معاً نساءً ورجالاً ومن ثم فقد نادى في جلسات المؤتمر الوطني للقوى الشعبية في شرح الميثاق: (بوجوب عمل المرأة لأن في عملها يمكنها أن تحافظ على نفسها إذا كانت غير متزوجة) (376) !! وفي المؤتمر نفسه أبدى عزمه على (تعيين المرأة في كل الأعمال ابتداء من الأعمال اليدوية حتى الوزارة) (377) وبعد ليلتين أي في مساء 28 / 5 / 1962 رأى عبد الناصر تحرير المرأة بدنياً ومعنوياً برفضه لطلب مواطن سأله بصفته رئيساً للجمهورية أن يوجه نظر الناس إلى أهمية الحجاب الشرعي للمرأة " الخاص بالملبس فقط " لأنه على حد تعبيره (لا يريد أن يدخل معركة كبيرة جداً مع 25 مليون من المواطنين " هم كل تعداد مصر في ذلك الوقت " أو مع نصفهم على الأقل) (378) وهكذا أعطى عبد الناصر المرأة ما طلبت وما لم تطلب وفوق ما كانت تطمع بل أعطاها تصريحاً بالإمعان في السفور   (374) السابق (2 / 603) . (375) السابق (2 / 605) . (376) السابق (4 / 69) . (377) السابق (4 / 70) . (378) السابق (4 / 81) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 واختفت القيادات النسائية القديمة لأنهن لا يستطعن التجاوب مع الفكر الجديد أو التفاعل معه وظهرت نجمات أخريات استقطبتهن القيادة السياسية الجديدة التي قادت البلاد تعتنق الفكر الجديد وهو ليس كفكر " درية شفيق " المتعالي " فكر المرأة سيدة الدار " المترفع على الرجل " طاهيها " (379) لأنه لا يتناسب مع روح الاشتراكية الجديدة هذا بالإضافة إلى أن القيادة الجديدة للحركة النسائية لم تكن في يد هذا الصنف من النساء اللاتي ينتمين لطبقة الأعيان التي كان منها الوزراء وأصحاب المراكز الهامة الحاكمة في الدولة وزعيمات الحركة النسائية في العهد الملكي ولكن الريادة في هذه المرة انتقلت إلى نوع آخر من المثقفات الجامعيات اللائى نشأن ودرجن في أحضان الطبقة الشعبية العاملة مثل الدكتورة " حكمت أبو زيد " التي بدأ ظهورها وبروزها في المجتمع في أكتوبر 1962 أي بعد إعلان الميثاق الوطني بثلاثة شهور وعينت وزيرة للشئون الاجتماعية في أول حكومة تتولى حكم البلاد بعد إعلان القوانين الاشتراكية سنة 1961 والميثاق الوطني سنة 1962 ومنذ ذلك التاريخ صارت وزارة الشئون الاجتماعية قصراً على النساء بحيث لم يعد يخطر على قلب رجل أن يفكر في ولوج بابها. وتحت رعاية الحكومة أو من استأمنتهم الحكومة على حراسة الفكر الجديد تحدد وضع المرأة في النظام الجديد كله على أنها أصبحت " كمًّاً إنتاجياً " في ميدان الاقتصاد دون النظر إلى التأثير السلبي الناتج عن ذلك والذي أثر تأثيراً سيئاً في وضع المرأة نفسها في مجالات أخرى أكثر أهمية لوجودها الاجتماعي نفسه كما ان المؤتمرات النسائية التي عقدت في تلك الفترة بدعوة من الحكومة نفسها أعطت إشارة البدء لإعلان أفكار جذرية تخص حركة المرأة نفسها نابعة من الفكر الاشتراكي الذي بينه الميثاق وبوحي من الفلسفة المادية العلمانية ومن هنا نظر الناظرون الجدد إلى   (379) راجع ص (124) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 الطريقة القديمة وأسلوب العمل الذي كانت تمارسه الحركة النسائية منذ ظهور " هدى شعراوي " وانتهاء بـ " درية شفيق " نظرة ازدراء وعدوها طريقة عفنة لمعالجة القضايا لا تليق بالمرحلة " الثورية " التي تعيشها البلاد ورأوا أن المرأة منذ ظهور " هدى شعراوي " حتى الآن لم تتمكن من تحقيق التحرر الفعلي لها وكل ما حققته لم يتجاوز الحقوق الشكلية لمقاصد المرأة المتعالية المرفهة. إن الذين يفكرون بالطريقة الجديدة يرفضون النظر إلى المرأة - بزعمهم - (من خلال مفاهيم رومانسية للأمومة والشرف وتربية الأجيال ومن خلال مفاهيم قبلية أو رعوية حول الشرف والعرض وإطاعة الزوج والسهر على راحته) (380) وهم يطالبون بالقضاء على النظام الاجتماعي الأبوي الذي يسيطر فيه الرجل - رب العائلة - والقضاء على سلطة الرجل في أي شكل كان (زوجاً أو أخاً أو رئيساً) على المرأة لأن هذا النظام يعطل تحرير المرأة وللقضاء على هذه السيطرة يجب السيطرة على النظام كله المتمثل في " سيطرة الأب والنظام الطبقي الرأسمالي " (381) ولهذا فإن هؤلاء ينظرون إلى المجتمع الذي يقوم على الأسرة المستقرة على أنه مجتمع تسلطي يجب أن يعاد النظر في بحث أهم قضاياه " وهي قضية سلطة الرجل على المرأة سلطة الذكر على الأنثى " (382) . ومن هنا فهم يحرضون المرأة (على أن لا يقتصر دورها على إنجاب الأبناء الذين يحملون عادة اسم الأب وأن لا يقتصر أيضاً على العمل المنزلي لأنه غير مقيم اقتصادياً وأيضاً الإشباع الجنسي والعاطفي للرجل وهذا الدور الأخير بالذات يناط بها من خلال عقد الزواج المكرس في قوانين واضحة) (383) وهو ما يجب أن ترفضه.   (380) مجلة الطليعة عدد نوفمبر 1968 ص (78) - د / إجلال خليفة. (381) مجلة " المستقبل العربي " ص (120) عدد يناير (1981) د / نوال السعداوي. (382) السابق - ص (122) - د / عباس مكي. (383) السابق نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 والخلاصة: أنهم يريدون أن يتحقق للمرأة الاستقلالية الكاملة وهي لا تتحقق إلا إذا تمسكت بالوسائل الآتية: 1 - أن تحصل المرأة على الأمن الاقتصادي والبدني (وإن فرضت عملية الزوجية - واللفظ لهم - طاعة الزوج تستطيع أن تتحول بشكل غير مباشر إلى باردة عاطفياً) (384) 2 - أن تحصل كذلك على الأمن الاجتماعي (المرأة غير آمنة كلية من الناحية الاجتماعية ويصل الأمر إلى أنها لا تستطيع أن ترتاد وحدها بعض الأماكن) (385) وتتصرف بحرية كاملة كالرجل. 3 - أن تخرج من استغلالية الرجل بتوفير العمل لها (في كل الميادين العملية مع ضمان أن لا يكون الرجل هو المتحكم في الدخل أو الأجر الذي تتقاضاه المرأة وبذلك تخرج من وضعها المقهور أو المكبوت) (386) 4- قيام حركة نسائية موجهة ضد الرجل ( {المطلق} ويكون هو المقصود بها فعلاً) (387) 5 - أن تحرير المرأة يحتاج إلى القضاء على النظام الطبقي كما يحتاج إلى تغيير النظام الأبوي في الأسرة ويحتاج إلى قوانين مدنية عادلة {لا شرعية} تسوي بين المواطنين {فالمرأة يجب أن تسمى مواطناً لا امرأة} وإلى قوانين علمانية لا دينية مدنية تطبق في الأسرة (388) . والأمر الذي يجدر ملاحظته ان حركة المرأة سارت منذ البداية مع حركة التغيير   (384) السابق نفسه. (385) السابق د / هدى بدران ص (126) . (386) السابق ص (128) د / إيليا حريق. (387) السابق نفسه ص (132) . (388) السابق نفسه ص (129) د / نوال السعداوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 الاجتماعي في ظروفه المختلفة سواء جنحت به هذه الظروف نحو الغرب أو نحو الشرق ففي حركة المرأة الأولى التي بدأت من " منتدى الأميرة نازلي فاضل " بريادة الشيخ محمد عبده وانتهاء بإضراب النساء عن تناول الطعام سنة 1954 كانت حركة المرأة تواكب حركة التغيير في كل الميادين في مصر في ميلها نحو الغرب وانجذابها له وعندما اتجهت وجهة المجتمع في بداية الستينات إلى اعتناق الاشتراكية اتجهت معها الحركة النسائية إلى وجهتها وبدأت تظهر قيادات نسائية تؤمن بالثقافة الاشتراكية وتعتنقها وتبرز دور المرأة المشارك لعملية الإنتاج وتقييم المرأة على أنها كم اقتصادي على أن المرأة في كل من المرحلتين كانت تابعة للرجل فهو الذي يحرضها على أن تطلب ثم يمنح فهو المانح دائماً بينما اقتصر دورها على قبول هذا المنح غير أن الرجل في الحالة الأولى - حالة الاتجاه التغريبي - حافظ للمرأة على شخصيتها الاعتبارية فبدت للعيان - على أقل تقدير - أنها هي التي كافحت من أجل ما تسميه حقوقها التي حصلت عليها بينما اختلفت الأمور في الحالة الثانية - حالة التطبيق الاشتراكي - فقد عمل الرجل على إذابتها في الجماعة فهو الذي أشار عليها أن تقبل منحه وأرغمها على ألا ترفضه فهو الذي فرض عليها ان تكون عضواً في المجالس النيابية والمحلية وهو الذي فرض عليها أن تكون وزيرة وسفيرة وشاغلة لمناصب الرجال دون أن يعطيها فرصة إبداء رأيها أو معرفة رأيها الحقيقي فيما آلت إليه حياتها) اهـ. تكلف ... واصطناع: ومن يتأمل حال القوم يدرك أن اعتراضاتهم على الشرائع الإسلامية تأتي لمجرد الاعتراض فهذه المطالب التي تلهث المتحررات وراءها لمجرد إسماع الناس أصواتهن وهذه المنازعات الوهمية بين الرجل والمرأة كل هذه مشاكل مصطنعة وأزمات مختلقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 فهم يخالفون لمجرد المخالفة لا لحاجة أوجبت هذا الاختلاف والمرأة لا توضع حيث تدعو الحاجة - صحيحة كانت أو مزعومة - إلى أن توضع ولكنها توضع لمجرد إثبات وجودها في كل مكان ولإقحامها على كل ما كان العقل والعرف ينادي بعدم صلاحيتها له فلم يكن المقصود بتوظيفها مثلاً في تلك الأيام سد حاجة موجودة ولكن كان المقصود هو مخالفة عرف راسخ وتحطيم قاعدة قائمة مقررة وإقامة عرف جديد في الدين وفي الأخلاق وفي الذوق وابتداع المبررات التي تجعل انسلاخنا من ديننا أمر واقع وتجعل دخولنا في دين الغرب ومذاهبه وفسقه أمر واقع كذلك. وقصة " دعاة التحرير " هنا في مصر وغيرها تشبه (قصة ذلك الرجل الذي قدم إلى أبرز ساحة في العاصمة فملأ وسطها بالأنقاض ثم جاء بسارية رفع عليها مصباح أحمر وجعل الناس ينظرون بدهشة إلى عمله ... وسأله بعضهم: ماذا تريد بهذا المصباح؟ فأجاب: تنبيه الناس إلى الخطر لكي لا يصطدموا بالأنقاض فلما سألوه: ولما جئت بهذه الأنقاض أجاب: لكي أرفع هذا المصباح) (389) . وإذا أردنا أن نشرح دور السياسة في معركة الحجاب في مصر فلا شك يقفز إلى أذهاننا الدور الذي لعبه " صديق إسرائيل " (390) و " خادم أمريكا " و" حليف الشيطان " الذي تهكم بالحجاب علناً ووصفه بأنه " خيمة " وجرائم   (389) (تأملات في المرأة والمجتمع) لمحمد مجذوب ص (33 - 34) . (390) وقد أقيمت الصلوات اليهودية في ميادين تل أبيب على ضوء الشموع حزناً على موته وحضر ثلاثة من رؤساء أمريكا قداساً جنائزياً بالكنيسة على روحه.. لقد كان مصراً على أن يدخل التاريخ وقد دخله.. ولكن من نفس الباب الذي دخل منه إبليس وفرعون وقارون ومضى إلى ربه بعد أن صفى كل عداواته إلا عداوته لأمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 هذا المخلوق في حق الإسلام ثم في حق وطنه كثيرة لا تكاد تخفى على أحد وقد ختم حياته " النضالية " ضد أمة محمد " بتلك الإجراءات التعسفية والحرب المسعورة ضد المحجبات عموماً والمنقبات خصوصاً فكان رجاله يتعرضون للمنقبات في الطرقات وكانت صحفه ناراً تصب حميمها على المنقبات وفرض عليهن الخيار بين السفور وبين الفصل من وظائفهن ولم تنج النساء من حملة الاعتقالات الواسعة التي عمت البلاد واصطف جنود الشرطة البواسل صامدين رابضين كالأسود على بوابات الجامعة ودور التعليم للتصدي لأي طالبة منقبة تسول لها نفسها دخول الجامعة بهذا النقاب الساتر وذلك الجلباب السابغ الذي وصفه بأنه خيمة: فرعون حقير يرقد الآن في مزبلة التاريخ وحسابه على الله. بل هذه زوجة هذا الفرعون تدلي قبل أن تدور عليها دائرة السوء وهي في قمة غرورها - ولا أقول مجدها - بحديث إلى مجلة " ماري كلير " الفرنسية المتخصصة في شئون المرأة حول ما يتعلق بالمرأة الشرقية من عرف وتقاليد متوارثة كالحجاب وختان الفتيات (391) وجريمة الزنا وذلك خلال أربعة أسئلة وجهتها الصحافية الفرنسية " كاتي برين " التي زارت مصر أخيراً لإجراء هذا الحوار وكان السؤال الأول: {انتشرت عادة الحجاب بين الفتيات في مصر فما رأي السيدة " جيهان السادات " في تلك الظاهرة؟ فأجابت: (أنني ضد الحجاب لأن البنات المحجبات يخفن الأطفال بمنظرهن الشاذ وقد قررت " بصفتي مدرسة بالجامعة " أن أطرد أي طالبة محجبة في محاضرتي فسوف آخذها من يدها وأقول لها: " مكانك الخارج " وفي نظري فإن المسئولية تقع على عاتق أساتذة الجامعات فهم سبب في انتشار هذه الظاهرة فإذا قام أستاذ بطرد فتاة واحدة من محاضراته مرة واثنين فسوف تقلع الفتيات عن ارتداء الحجاب.   (391) انظر " الصحافة والأقلام المسمومة " ص (72 - 73) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وتستطرد قائلة: إن التحجب ليس بالشكل وبارتداء الأقنعة فالإسلام لم يدع إلى ارتداء الحجاب إنما تلك مسائل تفصيلية بعيدة عن جوهر الإسلام وعن مبادئه الأساسية ثم تذكر في نهاية الحوار أنها تعمل ليل نهار حتى تحقق للمرأة المصرية بعض حقوقها وأن أبرز ما أنجزته هو صدور قانون الأحوال الشخصية الجديد ثم ذكرت أنها دائماً " تعاكس " زوجها في طلباتها للمرأة ولكنه يجيب بقوله: " إن هذه ليست هي اللحظة المناسبة " وتقول: " ولكنني أعاود وألح عليه في طلباتي من أجل المرأة " (392) ويتضح من هذا الحديث أن ظاهرة "عودة الحجاب " كانت قد أخذت في الانتشار السريع وكادت تفرض نفسها كواقع يكشف الحقيقة للمخدوعين والمخادعين على السواء لولا أن " الأكابر بدءوا يبيتون " وأد " هذه " العودة " قبل أن يفلت الزمام فبدأت الدوائر السياسية والصحافية تمهد للحملة المجنونة التي توجتها السلطة بمذبحة " سبتمبر 1981م " ومن هذه الإرهاصات المقالة التالية: " الغزالي حرب " وحربه ضد الحجاب: " الغزالي حرب " مفتش أول اللغة العربية بشمال القاهرة إنسان أقلقه كثيراً مظهر الحجاب الإسلامي وشيوعه وسط الفتيات يوماً بعد يوم فشهر قلمه ليدلي بدلوه مع إخوانه من دعاة السفور فنشر في الأهرام أكثر من مقال يهاجم فيه الحجاب ويحرض فيه " الأكابر " على تشريع جديد يصفه بأنه (قرار حاسم يحقق التوازن والاعتدال في أزياء الطالبات والمدرسات بين التفريط والإفراط وبين الانغلاق والانضباط) ويفتتح إحدى مقالاته بقوله: (منذ بضعة أيام اتصل بي تليفونياً الشيخ الدكتور عبد المنعم النمر ليحدثني عن بعض الطالبات في إحدى المدارس الأجنبية الثانوية ممن   (392) ملحق جريدة (القبس) العدد (2625) تاريخ الاثنين 6 تشرين الأول (أكتوبر) 1980. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 يحرصن على ارتداء ما يسمينه " الزي الإسلامي " أو " الزي الشرعي " ولقد اتفقنا في هذا الحوار التليفوني على أن تغطية الوجه بالنقاب أو البرقع للطالبات تطرف لا يقره الشرع الإسلامي ولا ترتاح إليه اللوائح والتعليمات المدرسية أو الجامعية وما هو إلا شذوذ مظهري مريب) ثم يقول: (فهذا الزي المبرقع أو المنقب ليس إلا زياً من صميم الأزياء الجاهلية البائدة التي عفى عليها الزمان ولم يعد لها اليوم مكان إلا في بعض البلاد المتخلفة أو النامية ولن يبقى فيها طويلاً أمام التطور الوثاب الذي يؤكد ما قاله داعية تحرير المرأة الأول في مصر والشرق العربي " قاسم أمين " من أن هذا الزي الشاذ يمثل دوراً من الأدوار التاريخية لحياة المرأة في العالم ومن العبث الذي لا طائل من ورائه أن تتشبث بعض المدرسات أو الطالبات متمسحات في ذلك بالإسلام الذي يدعو المرأة - ولا شك - إلى الاحتشام المنضبط الذي يقره العرف القويم والذوق السليم لا إلى الاحتشام " المنغلق " المثير للشبهات ولا سيما شبهة محاولة " إخفاء الشخصية (393) " ثم يستطرد قائلاً (ما أروع الحديث النبوي الشريف القائل: " ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ - طلب البراءة والسلامة - لدينه وعرضه) وخاصة في ظروفنا الحاضرة التي تمس فيها الحاجة دائماً إلى التحقق من كل طالب وطالبة حرصاً على استتباب الأمن والنظام وسيادة الأمن العام وحرام - والله - أن نضيع مثقال ذرة من الوقت الغالي الثمين بلابسات البراقع والجدل حولهن باسم الإسلام الذي يقول بلسان الرسول عليه الصلاة والسلام: " ما غضب الله على قوم إلا ابتلاهم بالجدل وصرفهم عن العمل " (394) ..... حرام والله - أن تشغلنا هذه " الظاهرة المرضية " عن النصح   (393) يأتي دفع هذه الشبهة الإبليسية إن شاء الله عند تفسير قوله تعالى {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين} الآية بالقسم الثالث من هذا الكتاب يسر الله تمامه. (394) روى الترمذي وبن ماجه والإمام أحمد في مسنده عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم تلا: {ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون} (الزخرف 58) وقال الترمذي حسن صحيح وصححه الحاكم ووافقه الذهبي= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 لكريماتنا وأخوتنا المنتقبات أن يكن في أزيائهن منضبطات متفتحات لا منغلقات أو مبرقعات وأن يذكرن - والذكرى تنفع المؤمنين والمؤمنات - أنه عندما نهض قاسم أمين بدعوته المتحررة باركها باسم الإسلام أستاذنا " الإمام محمد عبده " حاربه الجامدون والمتنطعون داعين النساء إلى ارتداء النقاب والبرقع اتقاء للفتنة فانتهزت ملاهي أوربا هذه الفرصة وأخذت تعرض رقصة أسمتها " رقصة برقع الإسلام " وهكذا التقى جد الرجعيين وهزل العابثين في اتهام الإسلام بأنه دين البراقع) . ثم يذكر معنى الحجاب في الإسلام في نظره فيقول: (وما هو إلا دين الاحتشام المعتدل المشرق بأنوار العفة والفضيلة والحياء وفي ضوئها وهداها التقى الجنسان على سواء معتصمين بحجاب الوازع الخلقي والضمير الحي) إلى أن يبتهل داعياً المولى عز وجل في نهاية مقاله قائلاً: (واللهم أبعد عن مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا وطرقاتنا وسائر مجالاتنا شبح الجمود والممات وشبح الظواهر المرضية المثيرة للفتن والخلافات والانقسامات) (395) انتهى ولا يقل عنه تحاملاً الصحافية " منى رمضان " التي كتبت مقالاً في مجلة " أكتوبر " تحت عنوان " طبيبات ولكن محجبات " تبدؤها بقولها: (عاد الحجاب مرة أخرى كظاهرة على وجوه الفتيات والسيدات في مصر وهذه ليست آخر صيحة في عالم الموضة كما قد يتبادر إلى الذهن ولكنه نوع من الحشمة وإحياء التقاليد (396)   = (جامع الأصول 2 / 749) والجدال والمراء: المخاصمة والمحاجة وطلب المغالبة ولا شك أن الحديث نفسه يدين الكاتب وهو حجة عليه لعدوانه على أهل الحق ومجادلته إياهم بالباطل كما سترى الحمد لله الذي أنطقه بالحجة لنا. (395) الأهرام - الاثنين 2 فبراير 1981 م مقالة بعنوان (أزياء الطالبات بين الانضباط والانغلاق) . (396) ينبغي التحفظ من مثل هذه العبارات فليس الإسلام " تقاليد " وما عرفناه إلا مناراً وتعاليم وشرائع ومعالم وردت في أكثر من حديث: منها قول رسول الله ": (ذاك جبريل أتاكم يعلمكم معالم - أي = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 الإسلامية التي تطلب من النساء أن " يدنين عليهن من جلابيبهن ") وتحت صورة التقطت لمحجبتين تكتب قائلة: (النقاب الذي ترتديه فتاة الجامعة يقربها إلى الرهبانية ولا رهبنة في الإسلام) لكنها حرصت على أن تنشر ثلاث صور إحداها على غلاف المجلة لفتاتين سافرتين ترتديان " الحجاب النصفي " أو " الحجاب العصري " الضيق المزين والثانية لثلاث فتيات سافرات ولكن في عرفهن   = دلائل ومسائل - دينكم) رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن عمر - رضي الله عنه - بهذا اللفظ ومنها قوله ": (إن الإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق منها أن تؤمن بالله ولا تشرك به شيئاً وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن تسلم على أهلك إذا دخلت عليهم وأن تسلم على القوم إذا مررت بهم فمن ترك من ذلك شيئاً فقد ترك سهماً من الإسلام ومن تركهن كلهن فقد ولى الإسلام ظهره) أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في " كتاب الإيمان " وغيره - أنظر " سلسلة الأحاديث الصحيحة " حديث رقم (333) ومعنى " صوى " جمع صوة: أعلام من حجارة منصوبة في الفيافي والمفازة المجهولة يستدل بها على الطريق وعلى طرفيها أراد أن للإسلام طرائق وأعلام يهتدي بها كذا في " لسان العرب ". عن أبي عمرو بن العلاء. وعن عبد الله بن يسر المازني - رضي الله عنه - عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت وأنا كبرت فأخبرني بشيء أتشبث به ولا تكثر علي فأنسى قال: (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله) رواه الترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. وفي بعض الآثار (أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم) ... فكم تفر أعين المتغربين والمتفرنجين والمجامحين الخارجين عن ربقة الإسلام بكلمة " التقاليد " الإسلامية؟! إنهم بذلك يحولون شرع الله ووحيه إلى أعراف وتقاليد تواضع الناس - في زمن من الأزمان - على احترامها وبناء على ذلك فما يصلح لجيل لا يصلح لآخر وما يناسب مجتمعاً لا يناسب المجتمعات الأخرى وما يتفق مع زمن فلا شأن له بباقي الأزمان! فالهدف إذاً من التعبير عن الأحكام الشرعية بـ (التقاليد) واضح وهو جعلها عرضة للتغيير والتبديل بحجة أن " تقاليد " عصر الصحراء لن تناسب عصر الفضاء {كبرت كلمة تخرج من أفواههم} الكهف 5! أنظر: " مهلاً يا صاحبة القوارير " ص (10 - 11) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 " محجبات " يرتدين ثياباً لا يقرهن عليها مسلم عالم وقد علقت مسرورة بثيابهن قائلة: (الحشمة الغير مبالغ فيها مطلوبة داخل الجامعات المصرية بدلاً من التقليعات الدخيلة علينا) والثالثة لفتاة متزينة بالحجاب العصري الفتان وقد علقت الصحافية تحتها: (هكذا تكون الفتاة الجامعية: علم وإيمان) . تقول الكاتبة الحائرة القلقة: (والحشمة هنا نابعة من داخل المرأة وعلى أساسها فصَّلت هذه الثياب وفضلت أن تخرج بها إلى الشارع وإلى الجامعة.. وقد تكون هذه الظاهرة عودة إلى عصر الحريم (*) لا ينقصها إلا " قاسم أمين " جديد ليطلق صرخته مرة أخرى.. وربما تكون نوعاً من الموضة تأخذ مداها ثم تتلاشى بعد فترة طالت أو قصرت وقد تكون حنيناً على العودة إلى رحاب الروحانيات بعد أن طغى سلطان المادة على نواح كثيرة في حياتنا إلى آخر هذه التساؤلات التي تتبادر إلى أذهاننا جميعاً) ثم تعبر عن حسرتها وقلقها قائلة: (إن هذه الظاهرة انتشرت وبصورة أكثر وأوسع داخل كليات الطب في الجامعات الثلاث) . ثم تنقل الكاتبة في حوارها كلمة " دكتور يوسف عبد الرحمن " رئيس قسم الفسيولوجيا بطب القاهرة: (باعتباري رجلاً مسلماً أفضل الزي الإسلامي فهو   (*) الصحافية هنا تنسج على منوال إخوانها في الضلال حيث أخذوا يسخرون ويتفكهون بعصر " الحريم " ثم ربطوا الدعوة إلى الحجاب بعصر الحريم تنفيراً منه تماماً كما يربط العلمانيون الملاحدة الدين بالرجعية ولكن ما هو (الحريم) ؟ جاء في مجلة (الأسبوع العربي) اللبنانية العدد (14153 أيار) : (كانت كلمة " حريم " تعني منذ الأزمان البعيدة الحرم المقدس أو المعبد المحرم الدخول إليه وقد أطلق هذا الاسم على القسم الخاص بالعائلة أي بالنساء والأطفال والذي كان محرماً على الغرباء ولوجه بينما سمح لهم بالدخول على باقي أقسام المنزل ولم يكن النساء ليبرحن " الحريم " إلا لزيارة صديقاتهن أو لحضور الاحتفالات العائلية أو الدينية فقد كان للنساء إذاً عالمهن الخاص المقتصر عليهن فقط إذ حرم عليهن تماماً الاختلاط بالرجال أو استقبالهم أو التحدث إليهم) اهـ. وجاء في جريدة (الأخبار) على لسان باحثة أمريكية مشهورة تدعى الدكتورة " إيدالين " ما نصه: (إن تدهور الأخلاق في أمريكا راجع إلى ترك المرأة بيتها واشتغالها بالحياة العامة وإن عودة المرأة إلى " نظام الحريم " هي الطريقة الوحيدة لإنقاذ الجيل الجديد من التدهور الخلقي الذي يسير فيه) اهـ. من (الحركات النسائية في الشرق) ص (35) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 " مستحب " لأنه حشمة ويخفي عورة المرأة وهذا الزي كما أعرف لا يعوق المرأة عن العمل أما النقاب الذي ظهر حالياً فهو غير مستحب ولا أفضله أبداً فهو يقترب بالمرأة من الرهبانية ولا رهبانية في الإسلام) ثم يقول: (وما دامت المرأة قد خرجت إلى الشارع والعمل فلابد أن يتعرف عليها المدرس وكمسري الأتوبيس وكل من يتعامل معها أما النقاب فهذا غريب وغير عملي في هذا العصر وأنا أعلم أن النقاب كان موجود في العصور المظلمة فقط) انتهى كلامه. وهذه (مها عثمان) تكتب في " آخر ساعة " مقالاً بعنوان (ظاهرة الحجاب: لماذا؟) وتقول: (ظاهرة الحجاب من الظواهر اللافتة للنظر الآن ليس فقط في الشارع المصري وإنما في الدواوين والمصالح الحكومية والكثير من مواقع العمل والظاهرة تتنامى ويأخذ معها الحجاب أشكالاً متعددة. والأسئلة التي تثيرها تلك الظاهرة عديدة وفي مقدمتها: لماذا الحجاب؟ وماذا وراء تلك الظاهرة؟ ثم ما هو الفرق بين الحجاب والنقاب؟ وتحاول الكاتبة الإيحاء بأن الحجاب تقليد مملوكي أو تركي. ثم تقول: (وظلت المرأة تحرص على وضع النقاب على فمها وأنفها عند ظهورها في المجتمعات الراقية واستمر حجاب المرأة بهذه الطريقة حتى دعا " قاسم أمين " إلى السفور عام "1912" (397) والتحرر من قيود هذه الأغطية وغيرها) . وتتسلل روح التغريب وكراهية الحضارة الإسلامية بين السطور فتقول الكاتبة: (ويمكننا فهم دعوة " قاسم أمين " للسفور وإلغاء الحجاب على إنها دعوة للإنسان للأخذ بقيم الحضارة الغربية على حساب حضارة أخرى وهي الحضارة التي تمثلها الدولة العثمانية) فما هي تلك الحضارة " الأخرى " التي تمثلها الدولة العثمانية إن لم   (397) كذا! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 تكن الحضارة الإسلامية؟ ثم تمضي الكاتبة قائلة: (وقد نجحت دعوة " قاسم أمين " حيث كان الجو العام مهيئاً.. وأصبح هذا النمط السائد في التعليم والملبس والمسكن و " القانون " و " السياسة " والفلسفة لكن إذا كان هذا هو ما حدث في فترة تاريخية معينة فما هو تحليل " عودة الحجاب " مرة أخرى؟) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 المركز القومي للبحوث الاجتماعية في حالة (طوارئ) بسبب عودة الحجاب تقول الدكتورة " زينب رضوان " رئيسة وحدة البحوث الدينية بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية: (إن هذه الظاهرة من أهم الظواهر التي اهتم المركز برصدها وتحليلها ولذلك فقد أجري بحثاً حول عوامل هذه الظاهرة وأسبابها والتفاعلات الاجتماعية المرتبطة بها والصلات التي تربط الحجاب بالعوامل الاقتصادية والثقافية والدينية وتلك التي تتعلق بالتنشئة الاجتماعية. وقد ضم هذا البحث تقريرين أحدهما يتعلق بالطالبات والثاني يهتم بالموظفات وقد تناول البحث حوالي 800 من الفتيات ما بين محجبات وغير محجبات.. واهتمت الأسئلة بالدوافع بالنسبة لكل من الطالبة والسيدة المتزوجة.. وهل هي واحدة أم أنها مختلفة؟ وهل هذه الدوافع دينية أم أنها لأسباب أخرى؟) وتضيف الدكتورة " زينب رضوان ": إنه ينبغي لنا أن نسجل ملاحظة هامة وهي: (أن الإنسان يتصرف وفق ما يعتقد أنه صحيح لا وفق ما هو صحيح بالفعل ولذلك فبعض المحجبات يرفضن المساواة بالرجل مستشهدات بالآية الكريمة {الرجال قوامون على النساء} وهذا تفسير نختلف عليه.. والحجاب ليس مجرد مظهر ولكنه سلوك إسلامي حضاري..) ثم تستطرد قائلة: (إنه إذا أردنا ان نضع هذه الظاهرة داخل إطار معين وأن نفسرها فسنجد أن هناك ثلاثة تفسيرات مختلفة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 التفسير الأول: يرى أن الحجاب في مصر يدخل ضمن مجموعة من الظواهر التي يمكن التأريخ لها عام (1967) وأنه دليل على اتجاه المجتمع للبحث عن " بديل " للفكر والقيم والسلوكيات العلمانية التي نقلها مجتمعنا عن الغرب ولهذا فإن هذه الظاهرة ما هي في الحقيقة إلا جزء من فكر " بديل " ألا وهو البديل الديني) اهـ. لا.. لا أيتها الباحثة! حاشا أن يكون دين الإسلام " بديلاً " فبئس ما قلت إنما العودة إلى الإسلام عودة إلى الله بعد أن طغى سلطان " اللادينية " في ظل " انقلاب يوليو 1952 " وليس الإسلام في ذلك بديلاً كأي بديل ولكنه سير على الطريق الوحيد الموصل إلى سعادتي الدنيا والآخرة فكل طريق إلى الجنة مسدود إلا طريقاً على رأسه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يجب ما كان قبله) (398) وليس الإسلام (بديلاً) ولكنه هو الأصل وما عداه طارئ بل ما عداه " زبد " حانت له الفرصة يوماً ما أن يطفو على السطح ثم لم يلبث أن تلاشى كأن لم يكن {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ينفع الناس فيمكث في الأرض} (الرعد 17) . قال فضيلة الأستاذ الدكتور " مصطفى حلمى " حفظه الله في تحليل ظاهرة عودة الشباب إلى الدين: (وكما يفيق المغمى عليه ويعود إلى نفسه كذلك أخذت الطلائع الشابة الواعية ترقب فشل الأنظمة المستوردة من الشرق أو الغرب التي أدى تطبيقها إلى المزيد من الفشل والهوان وأدركت أن هذا الفشل يرجع إلى بعد الأمة عن طريقها وانقطاع صلتها بالعقيدة والتراث وأخذ صوت الإسلام يدوي بين الصفوف لم الاستغراب إذن   (398) رواه الإمام أحمد في مسنده وصححه الألباني ولمسلم نحوه بلفظ: " يهدم ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 من عودة ظهور التدين بين شباب الإسلام؟ إن العقيدة لم تختف أصلاً بل ظلت باقية كل ما هنالك أنها اختفت وراء ستر رقيق ذلك أنه ينبغي التمييز بين العوامل الجوهرية للنهوض بالأمم واندثارها وبين مظاهر التدهور والضعف التي تنتابها بين حين وآخر كعوارض مرضية تظهر لتختفي) (399) اهـ. ثم تقول الكاتبة: (التفسير الثاني: يحاول أن يتجاوز الواقع المصري إلى الواقع الإسلامي بأكمله فهو يرى أن الحجاب ما هو إلا نوع من الإحياء للحضارة والثقافة الإسلامية في مواجهة الطابع الإنساني للعلاقات التي سقطت فيها الحضارة الغربية. أما التفسير الثالث والأخير: فهو يرى أن الحجاب شكل من أشكال الرفض التلقائي للظواهر الاستهلاكية التي بدأت تسود مجتمعنا والتي تحول هذه المجتمعات إلى أسواق استهلاكية تابعة للحضارة الرأسمالية الغربية المنتجة فهي صحوة تحاول الحفاظ على " طهارة " الذات القومية في مقابل الترف الاستهلاكي) اهـ. ولن نشغل أنفسنا بمناقشة هذه التفسيرات الهزيلة لأن هدفها واضح وهو إضعاف الصبغة الإسلامية لعودة الحجاب والتشويش على نوايا الفتيات المخلصات لربهن المعتزات بإسلامهن و " الانحراف " بهذه الظاهرة الإسلامية الواضحة إلى مفاهيم مائعة تفت في عضد الملتزمات وتوهن عزيمة الراغبات في التحجب وهيهات هيهات.   (399) " المخاطر التي تواجه الشباب المسلم وكيف نتوقاها؟ " ص (16 - 17) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 (ولتعرفنهم في لحن القول) سورة محمد (30) (ردة ونكسة ومأساة) زكي نجيب محمود (*) أعداء الإسلام من المنافقين المتمسلمين الكارهين لما أنزل الله الصادين عن سبيل الله الآمرين بالمنكر والناهين عن المعروف لا يملون ولا يكلون من ممارسة هوايتهم الرخيصة في إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا والترويج للذرائع المفضية إلى مزيد من الفساد والإفساد لهذه الأمة الغافلة عما يراد بها إنهم لا يألون جهداً في قطع صلتنا بأسلافنا ووصل الحبال مع أعداء ديننا الكارهين - أيضاً - لما أنزل الله. نشرت جريدة الأهرام في عددها الصادر بتاريخ 9 / 4 / 1984 م مقالاً بعنوان (ردة في عالم المرأة) للفيلسوف الهرم (الذي أفنى عمره داعية لثقافة الغرب وكارهاً للحياة في ظلال الإسلام إنه الرجل الذي رشح لاقتعاد محل الصنم الضال " طه حسين " بعد هلاكه الذي أنفق ردحاً من عمره في دراسة الفكر المادي الذي كانت قمته كتابه المعروف بـ (خرافة الميتافيزيقا) أي بمعنى آخر: اتهام مفهوم (الغيب) بأنه (خرافة) وإنكار كل ما سوى المحسوس تبعاً لمدرسة الفيلسوف الملحد " أوجست كنت " تلك المدرسة التي يفاخر فيلسوفنا الهرم بأنه يمثلها) (400) إنه الكاتب الذي (باع عقله للهوى وانضوى تحت لواء الأعداء فهو جندي من جنود الاستعمار الفكري والانحراف الخلقي) (401) إنه الرجل الذي لم يستح أن يجهر في " الأهرام " بقوله: (من الخطأ الظن بأن التشريع الإلهي قد غطى كل معضلات الحياة) (402)   (*) استفدت كثيراً من فقرات هذا الفصل من كتاب " صحوة في عالم المرأة " للدكتور عبد الحي الفرماوي حفظه الله. (400) انظر " رجال اختلف فيهم الرأي " ص (115 - 224) . (401) (الاعتصام) عدد رمضان 1404هـ / يونيو 1984 م - ص 10. (402) (الصحافة والأقلام المسمومة) ص (215) نقلاً عن الأهرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 لقد أثار الفيلسوف الهرم في مقاله " قضية المرأة " ومن خلال هذه القضية أثار قضية أخرى أخطر وأهم وهي قضية ارتباط جيلنا بدينه وأسلافه المسلمين أكثر من ارتباطه بجيل الآباء ورأى الكاتب في هذا الارتباط خطراً وبيلاً على الفكر والأمة والمستقبل. وأول ما يفجع القارئ أن يرى الكاتب يعنون مقالته بقوله " ردة في عالم المرأة " فلربما يستبشر القارئ ويخيل إليه من أول وهلة أن الكاتب يقصد استنكار الحال الذي وصلت إليه بعض النساء اللاتي ارتددن عن الإسلام بأن تكون منهن - مثلاً - من قد أنكرت ما هو معلوم من الدين بالضرورة أو استحلت شيئاً حرمه الله أو أنها اتهمت شرع الله بالنقص أو طعنت في حكمه سبحانه وتعالى أو اتهمت الإيمان بالغيب بأنه (خرافة) مثلاً ولكن القارئ لا يلبث أن يصدم شعوره حين يرى الكاتب منكوس القلب منكوس الرأي مطموس البصيرة مركوس السريرة قد رأى الأشياء على عكس حقائقها كالمريض الذي فسد مزاجه فإنه يحس بالأشياء على خلاف طبائعها: وما على العنبر الفواح من حرج أن مات من شمه الزبال والجعل فتراه كالجعل الذي اعتاد الخبائث فهو يندفع إليها ويسقط عليها وينفر غاية النفرة أو يموت من الروائح الطيبة. فالمرأة المسلمة عنده (مرتدة) لأنها كفرت بفكر (مرقص فهمي) و (قاسم أمين) و (سعد زغلول) وأمثالهم ورضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً. والمرأة المسلمة في نظره قد أصابتها (نكسة) لأنها كفرت بهدى شعراوي وصفية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 زغلول ودرية شفيق وأمينة السعيد ومن على شاكلتهن في حين أنها عادت تلتمس القدوة في أمهات المؤمنين ونساء وبنات المهاجرين والأنصار ومثيلاتهن من خيرات نساء العالمين الطاهرات المحصنات المؤمنات الخاشعات رضي الله عنهن. والمرأة المسلمة عنده (نكصت على عقبيها) لأنها سترت عورتها وحجبت بدنها وأطاعت زوجها ووقفت حياتها على أولادها ورفضت أن تقتدي بهدى شعراوي التي ألقت حجابها في البحر عند شواطئ الإسكندرية وأبت أن تتأسى برائدات (الفن) من الراقصات الفاسقات وداعيات (الموضة) من الصهيونيات والماسونيات. ويبدو أن الرجل لا يقصد بمقاله المرأة وحدها بل يقصد إدانة الاتجاه العام السائد بين الشباب والذي يرمي إلى استلهام التصور الإسلامي في بعث الأمة الإسلامية والوصول بها إلى واقع جديد يختلف عن واقع الهزيمة والتخلف والظلم وها هو يهاجمنا - نحن المسلمين - في أخص ما نملك وأعز وأغلى ما عندنا إلا وهو ديننا الحنيف ومن هنا وقبل أن نتتبع أقواله ينبغي: أولاً: أن نرفع اللبس والإبهام والتعتيم عن كلمة (المرأة المصرية) التي يتحدث عنها فنقول إنه يعني بالمرأة المصرية (المرتدة الناقصة على عقبها المنتكسة الرجعية التي تعيش مأساة ... إلخ) المرأة المسلمة.. فالمرأة المسلمة المصرية وحدها هي المقصودة وهي المستهدفة بسهامه المسمومة وأفكاره المحمومة وفتنته المضلة التي تطل برأسها بين الحين والحين والتي (زرعت في أرحام بلاد غير بلادنا وولدت في أكناف غير أكنافنا ولكنها زرعت خصيصاً للمسلمين وولدت خصيصاً للمسلمين وصدرت منهم خصيصاً للمسلمين) . (403)   (403) راجع ص (79 - 81) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 ثانياً: أن تحدد هدف هذا المقال وهو كما يمكن استخلاصه من عباراته: التصدي لظاهرة (عودة الحجاب) والدعوة صراحة إلى الخلع الحجاب وإلقائه في البحر وإغراقه في اليم ليصبح نسياً منسياً وبالتالي: محاكاة المرأة الغربية في كل ما تأتي وتذر بيد أن الهدف يتسلل بين السطور على استحياء ويدخل على الناس ممتطياً حلو الكلام ولين الحديث وبريق الخداع قال تعالى في وصف المنافقين: (وإن يقولوا تسمع لقولهم) المنافقون (4) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحراً) (404) . ولعل أبرز ما يتميز به الكاتب أنه يتقن الصنعة اليهودية القديمة وهي حرفة " التبديل " وعكس المعاني فإنك لو عكست أكثر كلامه لكان هذا الأكثر هو الحق فهو كمن " يمشي مكباً على وجهه " وهو كالذين (يحرفون الكلم عن مواضعه) المائدة (13) ¸في صده عن سبيل الله وتنفير المسلمات عن الحجاب وطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مثل الذي (ينهى عبداً إذا صلى) العلق (10) ومثل الذين وصفهم الله تعالى بقوله: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون) التوبة (67) وبقوله سبحانه: (قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر) آل عمران (118) وبقوله عز وجل: (ولتعرفنهم في لحن القول) محمد (30) . فالكاتب في الحقيقة هو المنتكس المرتد إلى الجاهلية حين يرى طاعة الله ورسوله ردة قال تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون) المائدة (50) وقال تعالى: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) الأحزاب (33) والكاتب الذي يصف عودة المرأة المسلمة إلى   (404) رواه مالك وأحمد والبخاري وأبو داود والترمذي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 الله وعودتها إلى الحجاب بأنها قد خرجت بذلك من ضوء النهار إلى غسق الظلام والله عز وجل يقول: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) البقرة (257) والله تعالى يقول: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون) الأعراف (3) هو الناكص على عقبيه. والكاتب الذي يدعو المرأة إلى دخول عصر النور الذي بدأ في زعمه بإلقاء الحجاب في البحر على شواطئ الإسكندرية وانتهى إلى ما نعلمه اليوم على شواطئ الإسكندرية هو شيطان الظلام وليس الدعاة إلى الإسلام الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر والمأساة التي يتصور الكاتب أن المراة المسلمة تعيشها اليوم لا وجود لها إلا في قوله الفاسد ورأيه الكاسد وإنما هي من صنع نفسه التي سولت له أن المجتمع يرفض دعوته ودعوة أمثاله من شياطين الإنس ولن يؤثر في عقل المراة اليوم وسوسة شيطان يدعي أنها بهذا الاختيار تكون " تابعة " أو " خاضعة " لأحد من البشر إنما هي متبعة لأوامر ربها وخاضعة لحكم الله رب العالمين تتحجب صيانة لنفسها واستجابة لشرع الله وترفض السفور لأنه دعوى الشياطين ووسوسة الذين في قلوبهم مرض. إن " المأساة حقاً " هي التي تعيشها المرأة في التعليم المختلط والنوادي المختلطة والشواطئ المتجردة من ثوب الحياء. إن (المأساة) حقاً هي واقع أمثاله من دعاة (تدمير المرأة) الذين وقفوا حياتهم على هدم حصون الإسلام وعرقلة مسيرة الصحوة الإسلامية أما أن تعيش المسلمة في مأساة لأنها تحجبت بمحض أختيارها فقد: (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً) الكهف (5) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 يقول صاحب (الردة) : (المرأة اليوم - بعد كل ما صنعته أخوات لها من بنات الجيل الماضي لترفع عنها نير الهوان - تتبرع سلفاً بحجاب نفسها قبل أن يأمرها بحجاب والد أو زوج فكأنها بذلك الحجاب الطوعي تقف على مئذنة لتصيح في الناس: ها هي ذي سلعة من عهود الحريم لمن يشتري) اهـ ويلك يا شيخ التغريب! لقد قلبت الأمور رأساً على عقب. ما مقصودك بهذا؟ أنت مطالب ببيان الفرق بين " الإنسان " وبين " السلعة " ثم إثبات ان المسلمين قد عاملوها معاملة السلعة ببراهين وأدلة صحيحة أما الكذب والفجور فكل خبيث ساقط منسلخ من الدين لا يعجز عنه ولايهابه لأنه غذاء قلبه وروحه: لي حيلة فيمن ينم وليس لي في الكذب حيلة من كان يخلق قوله فحيلتي فيه قليلة إن مجرد إحصان المرأة في البيت لا يقضي بكونها سلعة فإن السلعة لا تختص بالأحراز في البيوت بل أكثر السلع تعرض في الأسواق والمجامع وفي كل مكان بل السلع التي تحرز أنفس من السلع التي تعرض في كل محل وليس مجرد المعاوضة يوجب التشبيه بالسلع. ومن المسلم به في عالم التجارة وفي قانون العرض والطلب أن على أصحاب السلعة أن يحسنوا عرضها على الناس فيكشفوا عنها حتى يتعرف الراغبون في شرائها على مزاياها والأمر هنا مختلف جد الاختلاف إذ أن المرأة في حياتنا هذه تخفي مفاتنها وتحجب عن الناس رؤية وجهها وهو أمارة الجمال وعلامته فهي إذن لم تحاول عرض نفسها كسلعة تباع وتشترى ولم تناد من فوق مئذنة بصوت خفيض أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 جهوري لأنها أكرم على نفسها من هذا الوصف المهين الذي لا يليق بالمسلمة المحجبة ولكنه أليق بتلك التي خلعت حجابها على شواطئ الإسكندرية لتدخل " عصر النور " في زعمك فأنت في الحقيقة الذي جعلتها سلعة لأنك أعرضت عن كل ما شرعه لها ربه ورسولها صلى الله عليه وسلم من الحقوق التي هي في غاية العدل والإحسان من العفة والإحصان والصيانة والتكريم والتعليم الصحيح وأنت الذي سلكت فيها مسلك السلع المبتذلة وطلبت منها أن تخرج من بيتها لتخالط الرجال بادية عوراتها وأن تنطلق إلى عصر " النور " لتكون رائدة في " الفن والموسيقى والرقص " وأن تعمل " مضيفة في الطائرة وبائعة في المحلات وسكرتيرة في الإدارات وأن تمرح وتسرح وتذهب وتجئ كالسائمة المهملة كيف شاءت شهواتها.. أليس هذا هو شأن " بعض " السلع المبتذلة؟! كلا ليس التوبة ردة وليس النور ظلاماً وليست اليقظة مأساة بل هي " صحوة " مباركة أدركت المرأة بعد أن عثرت على ذاتها التي ضاعت في عصر " الثورة " فلما عاد إليها صوابها أدركت بعقلها وسليقتها وفطرتها حاجتها إلى أن تحتمي بنور الإيمان فأسبغت على نفسها ملابسها وغطت رأسها وبذلك عادت إليها روحها أصيلة وهي راضية حيث رجعت من تلقاء نفسها إلى طاعة ربها (قبل أن يأمرها بذلك والد أو زوج) كما يعترف الفيلسوف الهرم وهذا هو السمو الخلقي والروحي الذي لا سمو يعلو عليه. فما الذي رابك أيها العجوز من ستر الأجساد وصيانة الأعراض؟ وما الذي تعيبه على نساء مسلمات عرفن أن الله سبحانه وتعالى هو ربهم الواحد الجدير بأن يطاع لا شياطين الشرق والغرب من أعداء الله ورسوله والمؤمنين؟! فإن كنت ترثي للمحجبات لأنهن في زعمك (مرتدات) فأولى بك أن ترثي لنفسك وقد تماديت في غيك وضلالك وأنت ابن الثمانين ولم يزدك تطاول السنين إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 تهوراً واستكباراً عن الرجوع إلى الله والتكفير عن الصد عن سبيل الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة) رواه البخاري وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد أعذر الله إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة لقد أعذر الله إليه) رواه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه والمقصود أنه سبحانه لم يبق فيه موضعاً للاعتذار حيث أمهله طول هذه المدة. إن المسلمة المحجبة يهمها أولاً أن تنجو من عذاب النار وغضب الواحد القهار ولا يهمها بعد ذلك أن تنجو من اتهام الأقزام أمثالك بالردة او الرجعية أو النكسة أو النكوص على الأعقاب أو التزمت أو التطرف. فإن المؤمنين والمؤمنات تعودوا على هذا المسلك من أعداء الدين فيما مضى ولابد من أن يعيد التاريخ نفسه (ولكل قوم وارث) وقد سبق الكاتب من هم على شاكلته بهذه السخرية وذلك الاستهزاء كما قال تعالى: (وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) المائدة (58) وقال تعالى: (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون) الآيات (المطففين 29) فالمهم من يضحك أخيراً (إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم) هود (38) وقال عز وجل: (زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة) البقرة (212) . هذا وإن هذه الدعاوي التي رمى بها (الفيلسوف الهرم) والمهانة التي ألحقها بكرامة المرأة المسلمة لو أن أكفر يهودي أدعاها على شعب أو أمة لكان لابد أن تعامله معاملة أعدى عدو لها فكيف بأمة الإسلام وكيف بنساء المسلمين!. ويتمادى الكاتب في عدوانه ليصف ظاهرة عودة الحجاب بأنها (موجة رجعية عاتية نثرت رذاذها في كل اتجاه حتى أصاب المرأة ما أصابها) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 نقول: إن التقدم الفكري ليس له صلة بكشف العورات أو إلهاب الشهوات لأن الشهوة هي التي تطفئ العقل وتذهب باللب وإلا فأن الحيوانات العارية التي تقارف الشهوة في قارعة الطريق أدنى - في نظرك - وبهذا المنطق الممسوخ إلى التقدم الفكري وكأنك بهذا النهج الذي يدل على (التخلف الفكري) تصف النساء المسلمات منذ عصر النبوة حتى بدأ غزو الحضارة الغربية بالتخلف والجمود والانحطاط ولا يستبعد صدور هذا من أمثالك. ولعمر الحق.. إن أقل امرأة منهن - ولو كانت أمية جاهلة بفلسفتك - لهي أدنى إلى الحق والصواب والحكمة منك لأنها آمنت بدين الله والتزمت أوامر الله بفطرتها أما أنت فقد فسدت فطرتك حين ضيعت عمرك في فلسفة أكثرها سفه وأعرضت عن علم الوحي والحكمة واستبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير إن عودة المرأة إلى جادة الصواب ليس رجعية ولكنه تعبير فطري بجانب أنه تعبير عقائدي تسعى إليه الفطرة السليمة التي تأبى الفوضى الاجتماعية. وعقد الكاتب مقارنة هزيلة بين (الليلة) و (البارحة) في حياة (المرأة المصرية) فقال - عامله الله بعدله - (ألا ما أبعد الفرق في حياة المرأة المصرية بين الليلة والبارحة ففي بارحتها ألقت بحجابها في مياه البحر عند شواطئ الإسكندرية إيذاناً بدخولها عصر النور وأما في ليلتها هذه فباختيارها تطلب من شياطين الظلام أن ينسجوا لها حجاباً يرد عنها ضوء النهار) اهـ. نقول: نعم! (إن المرأة المصرية حين ألقت بحجابها في بداية القرن العشرين في مياه البحر عند الإسكندرية إنما ألقته عندما كان البحر الأبيض المتوسط في حالة الجزر فانحسرت الأمواج عن شواطئ الإسكندرية وهي تحمله فوق زبدها فلما أسبل الليل سدوله انتشر الظلام وهبت الريح العاتية وخضع البحر لعوامل المد فزحف الموج عائداً إلى الشاطئ حاملاً مع ما فوقه من الزبد الميني جيب فالتقطه قلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 من المصريات وفرحن به فارتدينه أسوة بأخوات لهن في أوربا وأمريكا فكشفت كل واحدة منهن عن ساقيها وسرن بهذا اللباس في الطرقات وذهبن به إلى بعض أماكن العمل ثم دار الزمان دورة أخرى وجاء ليل مظلم آخر وسيطر على البحر عامل المد مرة ثانية وزحف الموج كعادته عندما يعم الظلام قاصداً شواطئ الإسكندرية وحاملاً " ملابس البحر فوق زبد الموج الزاحف فهرعت إليه قلة قليلة من فتياتنا وأعجبن به كما أعجبت به من قبل أخوات لهن في أوربا وأمريكا فارتدينه وسرن به شبه عاريات على بعض شواطئ الإسكندرية واستمر سيرهن على هذا الحال..) (405) اهـ حتى شاء الله أن يعود لهؤلاء الفتيات أو لقسم كبير منهن (الوعي) بحقائق الإسلام التي جهدت مدرسة (السفور) أن تطمسها.. وعاد الوعي بأباطيل خصوم الإسلام ومؤامراتهم.. وعاد الوعي بحقيقة (الرائدات) والرواد الذين أضرموا فتنة ما يسمى بـ (تحرير المرأة) .. وكانت نتيجة ذلك كله ضرورة أن (عاد الحجاب) . إن الفرق بين نهار المرأة المسلمة المحجبة وليلتها البارحة هي أنها أدركت أنكم يا شياطين الظلام تعيشون في حالة (ردة) عن دين الله القويم إلى الجاهلية الأولى و (نكسة) إلى الفرعونية الوثنية و (مأساة) يرثى لكم من أجلها من أنعم الله عليهن بالهداية إلى الصراط المستقيم. ولعل من أغرب ما في كلام الفيلسوف الهرم أن أكثر ما يشعل النار نار الغيظ في قلبه هو أن الفتيات يرتدين الحجاب طوعاً لا كرهاً بمحض اختيارهن وقناعتهن الذاتية و (حريتهن الشخصية) فإذا كان هو أحد دعاة احترام (الحرية الشخصية) و (حرية الرأي) فما الذي يغيظه ويكيده سوى الحقد الأعمى على الإسلام والمسلمين   (405) من مجلة الأزهر عدد رمضان 1404 هـ يونيو 1984 م من مقالة الأستاذ عبد المنعم عمر بعنوان (حجاب المرأة عودة للتمسك بالدين والعفة والفضيلة) ص (1484) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 والكيد الرخيص لمعاندة شرع الله (قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور) ولما لم تصدر منه عبارة واحدة في استنكار صور الانحراف الأخلاقي في المجتمع وما أكثرها وإنما الذي استحق أن يلفت نظره هو فتيات آمنَّ بالله سبحانه وصدقن في اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم وحجبن عوراتهن عن نظر قوم فاسقين لا خلاق لهم ولا خلق لا تعني " حرية الرأي " عندهم إلا " حرية الفسق والفجور ". ثم عقد الفيلسوف الهرم مقارنة أخرى بين الشباب الثائر في العالم وبين الشباب المسلم في بلادنا فقال: (بينما الشباب الثائر في البلاد الأخرى كان يحتج على أوضاع الحياة الراهنة وبطء حركتها نحو المستقبل الجديد المأمول رأينا ثورة شبابنا تحتج هي الأخرى على أوضاع الحياة الراهنة وتدعو إلى عودة بها إلى نموذج السلف) (406) اهـ. هكذا يرتمي الكاتب ثانية في أحضان أوربا وأمريكا ويجتهد في التمسح بالغرب حتى في فساد عقول شبابه. إن الفرق جد واضح بين هذا وذاك. إن ثورات الشباب في أمريكا ظهرت بالانحلال وعدم المبالاة والجري اللاهث وراء " اللامعقول " بل محاولة كل ما ليس بمعقول فظهرت هناك - والكل يعلم ذلك - فرق الخنافس والهيبز وسائر الفرق الحشرية ... وانتشر بينها تعاطي الماريجوانا والحشيش وعقاقير الهلوسة وشاع بين أفرادها الفحش والانحراف والانتحار الجماعي..إلخ. ولسنا بصدد الحديث عن (مظاهر) تلك الفوضى تاريخاً وأسباباً ولكن نريد أن نثبت أن: التنطع على أبواب الغرب والتمسح بعتبات الغرب مرض استشرى في كثير من كتابنا.   (406) " بريد غاضب " الأهرام (7 / 5 / 84) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 فهل الذين يعبدون الله وحده لا شريك له ... متأثرون بثورات الشباب الغربي الماجن؟ وهل المسلمة التي تتحجب ابتغاء رضوان الله متأثرة بالفتيات الأوربيات التي لا يعلم كثيرات منهن أباً أو أماً أو بيتاً ويتسكعن على الأرصفة هنا وهناك في أزقة عالمهن المادي الكافر؟ وهل من يتأثر باطنه بظاهره فيصدق الحديث ويفي بالعهد ويؤدي الأمانة ويصبح - هو أو هي - عضواً نافعاً في الجماعة التي يحيا بينها ويشيع الطمأنينة والراحة النفسية بينه وبين كل من يتعامل معهم هل نقول عنه: إنه متأثر بثورات الشباب الذي يدفعه اليأس والضلال كل يوم إلى مزيد من العنف والجرائم الخلقية ومزيد - كذلك - من الانتحار؟!! أم كنت أيها الفيلسوف الهرم تحب أن يكون شبابنا وبناتنا كهؤلاء حتى لا يكون " الصدى جاء عندنا - كما تقول - ليعكس الترتيب الطبيعي للأوضاع "؟؟ ويثير صاحب " الردة " شبهة طالما يحلو لأمثاله أن يرددوها وهي أن هذا الحجاب (نموذج نقل إلينا عن آخرين فوجد ذلك النموذج ترحيباً من الشباب اليائس) اهـ. نقول: إن كان قصدك بالآخرين: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم ونساءهم رضي الله عنهن والتابعين لهم بإحسان من المؤمنين والمؤمنات الممتثلين والممتثلات لشرع الله سبحانه وتعالى في أي مكان وجدوا أو في أي زمان عاشوا منذ أن كان الصحابة وإلى زماننا هذا ... فنحن نوافقك في ذلك تمام الموافقة مع تصحيح بسيط جداً وهو أن الذين رحبوا بهذا (النموذج المبارك) ليسوا هم الشباب (اليائس) لكنهم الشاب (المؤمن) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 والمؤمن لا ييأس أبداً لقوله تعالى: (ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) يوسف (87) فمهما بلغ الأمر بالعاصين والمفرطين فهم لا يزالون يستمعون وينصتون إلى قول الله تبارك وتعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) الزمر (53) . وإن كان قصدك بالآخرين الذين نقل عنهم ذلك النموذج غير هؤلاء.. فخبرنا بربك عنهم.. لتزداد سعادتنا نحن المسلمين بهم ونزهو بكثرة أتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين تعرفهم أنت وحدك. ثم يؤرخ صاحب النكسة لبداية ظهور مأساة عودة الحجاب فيقول: (لقد بدأت هذه الموجة المتحفظة مع شبابنا - ذكوراً وإناثاً - بعد نكسة 1967 م ثم أخذت في التضخم والاتساع حين وجدت من ينفخ لها النار حتى أصبحت " ظاهرة " في حياتنا الاجتماعية) اهـ ثم يحاول صاحب (الردة) أن يعلل هذه الظاهرة الخطيرة التي أقضت مضجعه فيقول: (ماذا حدث فأحدث في حياتنا الاجتماعية تلك المفارقة؟ والذي حدث - أولاً - هو هزيمة 1967 م فنتج عن تلك الهزيمة - ثانياً - شعور قوي بالإحباط واليأس وانسداد الطريق أمام الشباب قبل سواهم) اهـ. والخطأ الأول الذي وقع فيه صاحب الردة هو في تحديد تاريخ امتثال المؤمنات لأوامر الله عز وجل ولا نقول تاريخ الظاهرة..فإنه لم يبدأ بعد النكسة ولكن قبلها ومنذ زمن بعيد بعيد جداً. ولكن صاحب الردة لا يعرف ذلك التاريخ وهو أمر سيئ. أو: يعرف ولكنه يغالط ويغش ويخدع.. وهو أمر أسوأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وعلى كلا الاحتمالين: فلقد بدأ الامتثال: 1 - يوم أنزل الله تعالى على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم في سورة الأحزاب: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً) الأحزاب (59) . 2 - يوم أن أمر الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فقال في سورة النور: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) النور (31) 3 - يوم أن قال تعالى آمراً أمهات المؤمنين: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) الأحزاب (23) ولسائر المؤمنات فيهن أسوة. 4 - ويوم أن أمر الله عز وجل المؤمنين بقوله في حق أمهات المؤمنين: (وإذا سألتموهن متاعاً فسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) الأحزاب (53) وغيرهن من المؤمنات أولى بذلك. 5 - ويوم أن أثنت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على الممتثلات لأمر الله سبحانه وتعالى في قولها: (يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) شققن أكف مروطهن فاختمرن بها) . ويوم ... ويوم ... ويوم ... فإن كنت تعرف تلك (الأيام الكثيرة الحافلة) خاصة وأنك تزعم أن القرآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 كتابك كما هو كتابنا.. فأنت تخدع نفسك وتكذب على ربك وتغش القارئين. وإن كنت لا تعرف: فأنت - بالتالي - لا تقدر ما تقول قدره. المهم: أن المسلمين حافظوا على هذا الامتثال - ذكوراً وإناثاً - غير من شذ منهم وعصى الله سبحانه وتعالى وخالف تعاليم النبي - صلى الله عليه وسلم -. وظل الأمر على ذلك: حتى كانت تلك الفترة التي تغدق عليها آيات التمجيد وتعطرها بالفخر والثناء وهي الخمسون سنة التي بدأت مع مطلع هذا القرن وهي التي أسميتها " بارحة المرأة المصرية ". وفيها.. وبعد التزام المرأة المسلمة المصرية لتشريع الله تعالى طيلة هذه القرون..رأينا: أول امرأة مصرية منتسبة إلى الإسلام.. تخلع الحجاب (407) ورأينا كذلك: أول زوجة زعيم سياسي عربي - تقريباً - تظهر معه سافرة الوجه في المحافل والصور (408) وتبعهما في ذلك من تبع.. ورأينا من ينفخ لهن النار..نار تلك الفتنة من أمثال صاحب (الردة) بيد أنه قد بقيت الكثرة الغالبة منهن: تؤمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن كتاباً وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً ورسولاً في كل ما تأتي وتذر وذلك قبل نكسة (67) وبعد نكسة (67) وستظل كذلك بإذن الله إلى ما شاء ربك..دون أن تحتاج إلى من ينفخ لها النار كما يدعي صاحب (الردة) . أما عن علاقة النكسة بـ (عودة الحجاب) ..   (407) وهي (هدى شعراوي) انظر (الأعلام) للزركلي (8 /87) . (408) وهي (صفية زغلول) انظر (سعد زغلول) ص (204) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 فلا ننكر أنها قد أثرت في تقوية هذا الاتجاه لدى كثرة كثيرة من الناس أيقنت بصدق شيئين وهما: أولاً: أن نكسة 67 واحدة من الآثار المشئومة والنتائج الحتمية لبارحة المرأة المصرية التي أخذت تتغشى المجتمع المصري كله بفسادها وضلالها وانحرافها تحت ستار " تحرير المرأة " وبعبارة أخرى: إن الحجاب لم يكن ثمرة النكسة بقدر ما كانت النكسة ثمرة التخلي عن الحجاب كمظهر من مظاهر التخلي عن الإسلام. ثانياً: أن الخلاص من تلك البارحة التي انساق المجتمع كله في تيارها وسرت فيه عدواها وأن التخلص من آثارها ونتائجها الوخيمة لا يكون ولن يكون - إلا بالعودة إلى الله تعالى والالتجاء إلى حماه والالتزام بشرعه والامتثال لمنهجه - توسلاً لمرضاته تعالى وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وبعبارة أخرى: أن التخلص من آثار (العدوان) اليهودي لن يتم إلا بالتخلص من آثار العدوان العلماني على شريعة الله عز وجل وأن الصوت الوحيد الذي ينبغي أن يعلو كل صوت هو الذي يدوى قائلاً: (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) يوسف (40) وقد ظهر ذلك كله في الجنود المسلمين يوم دكوا خط (بارليف) بصيحة " الله أكبر " قبل أن يدكوها بسلاحهم ويوم تجاوبت أصداء البلاد بالمطالبة بالحكم بما أنزل الله وتحرير البلاد من الاستعمار (التشريعي) ويوم كانت عودة المرأة إلى الحجاب (رمزاً صامتاً) يصفع أحلام الرائدات والرواد الأول ويتحدى مؤامرات اللاحقين من دعاة " النهضة " النسائية - استغفر الله -: بل (الكبوة) الشيطانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 صدق وهو كذوب: ومن عجيب أمر صاحب الردة أنه فهم من أمر الحجاب معنا زائداً على ما يفهمه كثير من بسطاء المسلمين في هذا الزمان وهم الذين يصفون كل ما يمت إلى المظهر الإسلامي بصلة كالحجاب واللحية ... إلخ بأنه (قشور وفرعيات) لا ينبغي أن تشغل حيزاً من اهتمام المسلمين. أما صاحب الردة فقد فطن إلى أن الحجاب (رمز له دلالته) في قوله: (ولم يكن أحد ليعلق بكلمة واحدة على قطعة من ثياب امرأة اختارتها كما يختار أي إنسان ثيابه التي تلائم ذوقه لكن الموقف يتغير إذا أريد بقطعة معينة من الثياب أن تكون رمزاً له دلالته) اهـ. وهذا حق.. فإن " الحجاب " عند نساء المسلمين و " اللحية " عند رجالهم وغيرهما من المظاهر الإسلامية المتميزة بجانب أنها طاعة لله سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم إلا أنها أيضاً " رمزاً لتحدي الواقع الجاهلي الحريص على طمس معالم الشخصية الإسلامية وهي " تعبير صامت " عن الحنين إلى جذورنا الأصيلة الضاربة في أعماق التاريخ والتي جعلت من سلفنا خير أمة أخرجت للناس وهي أخيراً (راية) على وجوه المسلمين رجالاً ونساءاً تؤكد استعلاءهم على مؤامرات أعداء الإسلام الذين يقف معهم صاحب الردة في خندق واحد حاملاً (قوسه المشدود إلى صدر الإسلام وقد شحن بالتحفز حتى إذا ما ارتخت عنها قبضة الرامي ارتدت إلى نحره وكان فيها حتفه بإذن الله) {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} الشعراء (227) ولما كان من المستحيل أن يجمع الإنسان بين إيمانه بالإسلام كما فهمه السلف الصالح وعملوا له وبين الإيمان بمبادئ " العلمانية " و " الليبرالية " (409) ولما كان   (409) تعني الليبرالية: (أي: التحررية) رفض الخضوع لسلطان الدين والتسليم بقضاياه والوقوف عند = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 الاقتداء بالسلف الصالح ينافي دعوة " المتغربين " إلى الاقتداء بفلاسفة الغرب ورجالاته.. ولما كانت قوة المسلمين منوطة بمدى انتهاجهم النهج السلفي القويم.. رأينا " شيخ التغريب " لا يفوته أن يربط (عودة الحجاب) بـ (سلفية الشباب والفتيات) على أن هذا الرباط من الأمور التي أزعجته وجعلته يجرد قلمه المسموم ليحذر من هذه (الموجة الرجعية العاتية) فيقول: (لقد أصبحت هذه الموجة المتحفظة ظاهرة في حياتنا الاجتماعية ولا أظن أن لها شبيهاً في بلدان أخرى كثيرة والظاهرة التي أعنيها هي أن يكون الجيل الأكبر في معظم الأسر أو قل في كثير منها أقل نزوعاً إلى تلك المحافظة من الجيل الأصغر ففي حالات كثيرة نرى الأم سافرة وابنتها محجبة ... وفي حالات كثيرة أيضاً ترى الوالد حليق اللحية وأبنه مرسلها على هذا النحو أو ذاك وإنها لمفارقة شديدة في أي مجتمع: أن ترى الجيل الأصغر سلفياً بدرجة تزيد على الحد المألوف وترى الجيل الأكبر منه أقل سلفية - في ظاهرة على الأقل - من أبنائه وبناته) اهـ. وقال في بريده الغاضب: (بينما الشباب الثائر في البلاد الأخرى كان يحتج على أوضاع الحياة الراهنة وبطء حركتها نحو المستقبل الجديد المأمول رأينا ثورة شبابنا تحتج هي الأخرى على أوضاع الحياة الراهنة وتدعو إلى عودة بها إلى نموذج السلف) اهـ لقد أتي الفيلسوف الهرم من عقدة الخضوع للمفاهيم الغربية الشائعة والانسياق ورائها ظناً منه أنها مطابقة للتصورات المماثلة في المجتمعات الإسلامية فمال هو وأمثاله إلى الغض من الاتجاه السلفي وأصحابه ونفروا الناس منه وقاموا بحملة تشهير ظالمة ضده   = حدوده والتزام أوامره ونواهيه في تنظيم المجتمع ورسم سياسته انظر (الإسلام والحضارة الغربية) للدكتور محمد محمد حسين رحمه الله ص (116 - 118) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 ولنقف هذه الوقفة مع هذا المصطلح الشريف: (السلفية) (410) . (فمن حيث المصطلح أصبحت السلفية علماً على أصحاب منهج الاقتداء بالسلف من الصحابة والتابعين من أهل القرون الثلاثة الأولى وكل من تبعهم من الأئمة كالأئمة الأربعة وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والليث بن سعد وعبد الله بن المبارك والبخاري ومسلم وسائر أصحاب السنن وشمل شيوخ الإسلام المحافظين على طريقة الأوائل مع تباين العصور وتفجر مشكلات وتحديات جديدة أمثال ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب وكذلك أصحاب أغلب الاتجاهات السلفية المعاصرة بالجزيرة العربية والقارة الهندية ومصر وشمال أفريقيا وسوريا وكانت ذات أثر واضح في تنقية مفاهيم الإسلام ودفعه إلى الأمام لمواجهة الحضارة والتطور وللكشف عن جوهر الثقافة العربية والإسلامية الأصيلة القادرة على الحياة في كل جيل وكل بيئة) . (ومن حيث المضمون تعني السلفية في الإسلام التعبير عن منهج المحافظين على مضمونه في ذروته الشامخة وقمته الحضارية كما توجهنا إلى النموذج المتحقق في القرون الأولى المفضلة وفيها تحقق الشكل العلمي والتنفيذ الفعلي ومنه استمدت حضارة المسلمين أصولها ومقوماتها ممثلة في العقيدة خضوعاً للتوحيد وبياناً لدور الإنسان في هذه الحياة وتنفيذاً لقواعد الشريعة الإلهية بجوانبها المتعددة في الاجتماع والاقتصاد والسياسة وروابط الأسرة وفضائل الأخلاق. والسلفية كمصطلح تعني أيضاً في مدلولها الخاص - الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم فإن أمتنا تنفرد بمزية لا تشاركها فيها أمة أخرى في الماضي أو الحاضر أو المستقبل تلك هي تحقق القدوة في شخصه صلى الله عليه وسلم - إذ حفظت سيرته كاملة محققة بكافة   (410) انظر (قواعد المنهج السلفي) و (السلفية بين العقيدة الإسلامية والفلسفة الغربية) للأستاذ الدكتور مصطفى حلمي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 تفاصيلها فنحن نعلم عنه كل شيء وفقاً لما نقل إلينا في كتب وعلوم مصطلح الحديث بأدق منهج تاريخي علمي عرفه المؤرخون. وهكذا فإن السيرة النبوية حية في كياننا ونحن نعيشها كل يوم وهي تمثل القمة للسلفيين وتطبيق الشريعة الإسلامية ممتد على طول الزمن لا يتعلق بعصر دون آخر بل إن كل جيل من المسلمين مطالب بتنفيذ أصولها النصية مع الاجتهاد فيما لم يرد فيه نص عند مواجهة أحوال الحياة المتغيرة كما هو معروف في أصول الفقه. وإزاء خطط الغزو الفكري ومظاهر الاشتباك العقلي مع خصوم الإسلام صمد السلفيون للمحافظة على جوهر الإسلام وأصوله إيماناً بأنه لم يظهر زيف هذه العقائد والنحل إلا بطريقة السلف أنفسهم مهما تغيرت الأزمنة والأعصار لأنها طريقة موضوعية ذات أسس عليمة منهجية تعتمد على النصوص الشرعية الموثقة فهناك مسائل ثابتة لا تتغير: كفطرة التوحيد ومخاطبة العقول البشرية للبرهنة على النبوات عامة ونبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة والرد على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في كل ما انحرفوا به عن الشرع المنزل مع دحض شبهات الملحدين والمشركين. هذا فضلاً عن ثبات الفضائل الأخلاقية وقواعد التحليل والتحريم في المأكل والمشرب والملبس وتنظيم العلاقات الاجتماعية في الأسرة والمجتمع وإقامة العلاقات الدولية مع سائر الأمم وفقاً لأصول الشرع ولقد أصبحت الحركة السلفية هي الحركة الكبرى التي جددت الدعوة الإسلامية ولولاها لهان على الغرب أن يستعبد الشرق روحياً وفكرياً إلى أمد بعيد. فإذا كان المسلمون يتلمسون اليوم طريقاً للنهوض فليس لهم من سبيل إلا وحدة جماعتهم ووحدة الجماعة ليس لها من سبيل إلا الإسلام الصحيح والإسلام الصحيح مصدره القرآن والسنة وهذه خلاصة الاتجاه السلفي: عودة بالإسلام إلى معينه الصافي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وفي العصر الحديث يعمل السلفيون على استئناف الحياة الإسلامية على أساس هذا الفهم وطبقاً للنظرة الرحبة الفسيحة لكل جوانب الإسلام كمنهج رباني شامل لا يعتوره نقص في أي من مجالات الحياة. وقد اتفق المسلمون السلفيون على قاعدة اضطراد العلاقة بين تقدم المسلمين واستمساكهم بالإسلام وعلى العكس تدهورهم وضعفهم عند الانسلاخ منه فالعلاقة بينهما علاقة المد والجذر مع الإسلام والإيمان. السلفية والتقدم: يزعم خصوم الإسلام بعامة والسلفية بخاصة أنها دعوة رجعية وهو زعم خاطئ من جذوره فلا تتعارض السلفية مع التقدم لأن التقدم في الإسلام تقدم أخلاقي يمضي قدماً في تحقيق الرسالة التي نيطت بهذه الأمة مع الأخذ بأسباب العمران المادي في نواحي الحياة كلها. والقديم في تاريخ أوربا تعبير يطلق على العصور المظلمة في القرون الوسطى السابقة لعصر النهضة ورفض أوربا لتاريخها القديم موقف عادي يتلاءم مع رغبتها في التقدم لأن الماضي يعد سبباً لتخلفها. " وإذا قارنا الإسلام بمختلف ديانات العالم عرفنا أن عقائدها منعت معتنقيها من التقدم الحضاري عندما استمسكوا بها ودارس التاريخ يلاحظ أن أهل أوربا والبوذيين في اليابان على سبيل المثال لما كانوا راسخين في معتقداتهم الدينية كانوا على أسوأ ما يكون من أدوار التخلف ولما أحرزوا لأنفسهم الرقي والتقدم في حياتهم العلمية والعقلية والمادية ما عادوا مؤمنين بمعتقداتهم المسيحية والبوذية إلا اسماً. أما المسلمون فعندما كانوا أقوياء في إيمانهم بمعتقداتهم صاروا أكثر أمم الأرض تقدماً وازدهاراً وقوة ومجداً وما أن دب دبيب الضعف في إيمانهم بها حتى تخلفوا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 ميادين العلم وضعفوا في صراعهم للرقي الدنيوي وتحكمت فيهم واستولت عليهم أمم أجنبية وهذا فرق عظيم بين معتقدات الإسلام ومعتقدات الديانات الأخرى في العالم " (411) . فالأمر عكسي بالنسبة لنا تماماً: فإن تاريخنا يعبر عن تقدم حضاري في كافة المجالات وإذا نحن طالبنا (بالترقي) إلى مستوى السلف فإننا نعني بذلك التمسك بالمفاهيم الإسلامية الشاملة للعقيدة والعبادة والشريعة وسائر الأنشطة الإنسانية التي منها - بلا شك - الحقل العلمي. ولكننا في الوقت نفسه لا نزعم - ولا نظن أن عاقلاً يخطر له على بال - أن نضع الأمة الإسلامية في متحف للتاريخ! بمعنى أن نطالب بإرجاعها للأخذ بوسائل العصور السابقة في الحياة العمرانية بأساليبها في الإنتاج والنقل والتعليم والتطبيب وتشييد المدن وتجهيز الجيوش وبناء المدارس والجامعات والمستشفيات .... إلخ. ويتضح لكل دارس للإسلام أن المفهوم الإسلامي للحضارة أرقى بكثير من التصور الغربي فلا نحن نرضى بتخلف المسلمين الحالي عن تحقيق النموذج الإسلامي ولا نرضى في الوقت نفسه بتقليد الغرب في فلسفته ومضامينه الفكرية الشاملة. أما نبذ السلفية بحجة التسابق مع الزمن واللحاق بكل ما هو جديد فمنهج خاطئ قائم على مفاهيم غربية متصلة بفلسفتها فإن ما نراه اليوم جديداً سيصبح غداً - وحتماً - قديماً فليست الموازنة إذن بين قديم وجديد موازنة صحيحة ولكن ينبغي أن تتم بالمقارنة بين الحق والباطل أياً كان العصر والزمان لأن القيم لا تتغير ولا تتبدل فليس الجديد مقدماً بالضرورة عن سلفه. ولعلنا نصدم أصحاب دعوى التجديد المتغربين النابذين للسلفية عندما نضع   (411) " المخاطر التي تواجه الشباب المسلم وكيف نتوقاها؟ " للأستاذ الدكتور مصطفى حلمي ص (48 - 49) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 أمامهم الحديث النبوي: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) (412) والتجديد إنما يكون بعد الدروس فالتجديد ارتقاء وتقدم بالأمة لتسلك طريقها مرة أخرى كلما بعدت عن الصحيح الأصيل المتوارث. ونحن نرفض تقليد الغرب ونبحث عن الأصالة ولا تأتي الأصالة بترقيع الشخصية بل بالارتباط بالعقيدة التي كانت حجر الزاوية في كيان هذه الأمة وينبغي هنا التمييز بين تقليد (مقومات الشخصية والعقائد والتصورات) وبين النتائج العلمية فلا وطن للعلم ولا جنسية للاكتشاف والأبحاث الإنسانية في الميادين المختلفة.. ولكن المشكلة هي اختلافنا الأساسي معهم على قواعد جوهرية تتناول عقيدة التوحيد والإيمان بالله سبحانه وتعالى وإفراده بالألوهية والربوبية وما هية الإنسان والغرض من خلقه وبيان مآله في اليوم الآخر وما هي وسائله لسلوك أحسن السبل الممكنة في الحياة والارتقاء بها؟ وتأتي آفة التقليد عندما ننسى أصالتنا ولذا ينبغي التنبيه إلى الحكمة النبوية في الحديث الذي رواه البخاري (لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون " الأمم " قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع فقيل: يا رسول الله! كفارس والروم؟ فقال: ومن الناس إلا أولئك؟) (413) . وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى ولو دخلوا جحر ضب خرب لتبعتموهم قلنا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن غيرهم!) (414) .   (412) رواه أبو داود والحاكم والبيهقي في " المعرفة " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وصححه الألباني. (413) رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه. (414) رواه الإمام أحمد والشيخان وابن ماجه عن أبي سعيد رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 إذا عرفنا كل هذا أصبح هدف السلفية واضحاً أمامنا كضوء الشمس وهو يتلخص في: تطهير العقيدة من شوائب البدع وتربية الشخصية الإسلامية وفتح الذهن البشري لقبول كل جديد في ميادين العلوم التجريبية وإحياء العقيدة من منابعها بعيداً عن المذهبية الضيقة بصورتها الأخيرة أو تطويع العقيدة والشريعة في الإسلام لدعاوي التطوير الخاطئة ورفض فكرة لا دينية الدولة. وأخيراً: أسعفت الفيلسوف الهرم ذاكرته فتذكر أن هناك قرآناً يستدل المسلمون بآياته على حتمية الحجاب فقال: (ثم وجدت هذه اللفتة السلفية من يربطها للشباب بالدين وهنا تأتي النقطة الرابعة التي سأجعلها الأخيرة) وهذه النقطة المؤخرة عنده - أخره الله وأخزاه - هي آيات القرآن المجيد الآمرة بالحجاب وكان ينبغي أن يبدأ بما انتهى به وأن يقدم ما أخره فإن حق كلام الله عز وجل أن يقدم على كل كلام لو كان صدقاً فكيف إذا كان لغواً وزوراً وافتراءً على الله كتلك المئات من السطور التي سودها ذلك المنافق يصد بها الناس عن القرآن؟! قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) الآية (الحجرات: 1) وقال عز وجل: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) الآية (الحشر: 7) وقال تبارك وتعالى: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون) (الأعراف: 3) ولقد ذم الله قوماً يعرضون عن آياته فقال عز وجل: (فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم) (النجم: 30) وقال سبحانه: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 يضلهم ضلالاً بعيداً وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً) إلى قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) النساء (60 - 65) . ثم إن الفيلسوف الهرم لم يكتف بذلك بل تجاهل آيات القرآن تماماً فضلاً عن مناقشة تفسيرها وترقى إلى ما هو أبعد من ذلك - رماه الله في المهالك - حين تقول على الله بغير علم وفكَّر وقدَّر فقتِل كيف قدَّر ثم قتل كيف قدر ثم حكم ببطلان أن الحجاب أمر تحتمه الشريعة الإسلامية فقال - قاتله الله - (أوردت الرسائل في سياقها آيات قرآنية كريمة يستشهد بها أصحاب الرسائل على أن فتور الهمة نحو العلم ونحو العمل في امرأة هذا الجيل وميلها نحو العودة إلى البيت ونحو أن تتحجب - أو على الأقل أن تضع فوق رأسها رمزاً يشير إلى معنى الحجاب - هو أمر تحتمه الشريعة الإسلامية وأقول إنه لو كان ذلك صحيحاً لكنت أول الداعين إليه ولكن هل هو صحيح؟) اهـ وهنا بدأت نبرة الكاتب تتحول إلى الإنسحاب الهادئ فبعد أن طعن الدين في الصميم وشعر أنه أسرف في الكذب والافتراء وجد نفسه مضطراً إلى ممارسة (فن التلون الحربائي) فإذا به يتوارى ويتحصن في الدين فيقول: (لو كان ذلك - يعني أن القرآن يحتم الحجاب - صحيحاً لكنت أول الداعين إليه) ونحن إذا أحْسَنَّا الظن به حملنا أمر الفيلسوف " الكبير "! على أنه لم يقرأ القرآن مرة واحدة أو أنه قرأه ثم نسيه لانشغاله عنه بفلسفة أكثرها سفه وإلا فهو عدو للإسلام والمسلمين متآمر ضد أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول) القتال (30) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 ثم يذكر الكاتب دليله على قطع الصلة بين القرآن والحجاب فيقول: (أكانت تلك الشريعة معطلة حتى جاء شباب هذا الجيل ليعيدها إلى الحياة؟) اهـ نقول: كلا بل ما زالت شريعة القرآن نافذة وسائدة طوال عصور الإسلام وما زالت قلوب المسلمين رجالاً ونساءً تخفق بالاعتزاز بها والإذعان لها إلى أن هجمت جيوش الغزو الفكري متترسة بالفلاسفة والعملاء والعميلات اللائى أسميتهن (رائدات الجيل الماضي) ليرفعوا الحجاب عن وجه المرأة ويعطلوا الشريعة الحنيفية شكلاً ثم موضوعاً وواقعاً فجاء شباب هذا الجيل ليصحح الأوضاع ويعود إلى حظيرة الإيمان ويجدد معالم دينه الذي ارتضاه الله له فما الذي يغيظك من ذلك كله؟ وإذا كنت محباً لهذه الأمة المحمدية ومخلصاً لهذه الملة الحنيفية فلماذا تنزعج هكذا من عودة الشباب على الإسلام وعودة المسلمات إلى الحجاب؟ ثم يمضي غمام الضلالة مدعياً مرتبة الاجتهاد المطلق بل ها هو ذا يقدم نفسه على كل أئمة الهدى في كافة عصور الإسلام ويبرهن على ذلك بقوله: (إنني مهما تواضعت في قدر نفسي فلا أظنني أصل بذلك التواضع درجة تحرمني من فهم الآيات الكريمة التي سيقت في الرسائل شواهد على ما أراده أصحابها فالقرآن الكريم كتابهم وكتابي) اهـ أقول: لو أن هذا المختال الفخور درس القضية في ضوء الكتاب العزيز والسنة المطهرة لوجد فيها من الشفاء والهدى والنور ما يغنيه عن ظلماته وضلالاته التي أوقعته في مهواة البلاء والعجب بنفسه وتكبره الذي دعاه إلى أن يضرب بسهم مع الأفاضل وأرباب التقوى مع أنه كما قال القائل: نزلوا بمكة في قبائل هاشم ونزلت بالبيداء أبعد منزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 وكما قال القائل: أيها المدعي لسلمى انتساباً لست منها ولا قلامة ظفر والفيلسوف الزائغ ليس من أهل الترجيح لأقوال أهل العلم بعضها على بعض بل لا يصلح أن يكون حكماً بين صبيين فضلاً عن أن يكون حكماً بين العلماء الربانيين: ما أنت بالحكم الترضي حكومته ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل فإن من شرط الحكم أن يكون عالماً بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة ومذاهب المجتهدين فمن أين لهذا الزائغ من هذه العلوم وهو بالنسبة إلى الأئمة الذين " قضوا بالحق وكانوا به يعدلون " طفل راقد في مهد طفوليته؟! بل أين المخلصون المجاهدون في سبيل الإسلام من الطاعنين فيه الصادين عن سبيله؟! قال تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً) النساء (115) وقال عز وجل: (ألم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) ص (28) أما قول صاحب (الردة) : (فالقرآن الكريم كتابهم وكتابي) فما أشبهه بقول من حكى الله عنهم: (ويحلفون بالله أنهم لمنكم وما هم منكم) التوبة (56) وقوله تعالى: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد أن المنافقين لكاذبون) المنافقون (1) فعادة المنافقين " الاستجنان " بالإيمان الكاذبة كما استجنوا بالشهادة الكاذبة (اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون) المنافقون (2) فيتخذون حلفهم بالله إنهم لمنكم جنة تحميهم مما يعامل به الكفار وأخبر سبحانه عن صفتهم وشأنهم فقال: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم) المنافقون (4) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم إلى أن قال عز وجل (هم العدو) أي هم الكاملون في العداوة والراسخون فيها فإن أعدى الأعادي العدو المداجى الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي (فاحذرهم) لكونهم أعدى الأعادي ولا تغترن بظاهرهم فلا تقنع بأول ما تراه فأول طالع فجر كذوب فمن هذا الباب قول الكاتب (فالقرآن الكريم كتابهم وكتابي) نقول: إن القرآن حق في نفس الأمر وليس هو محتاجاً لأن يحامي مثلك عنه والمحاماة عن القرآن تكون بإقامة البراهين ودفع الشبهات الباطلة أما تحريف معناه وتغييره أما تجاهله والإعراض عنه أما مراغمة نصوص القرآن ومعاكستها ووصف الممتثلين لها بوصف (الردة والنكسة والمأساة) وما إلى ذلك من العبارات الشنيعة فهذا كله إفساد للقرآن وصد عن سبيله واستحلال لحرماته واستهزاء بآياته: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون) الأنبياء (18) ولئن جاز أن يتسامح المسلمون مع الكاتب فيما كتب - وهذا بعيد جداً - فلا يمكن أن يتسامحوا معه بأي وجه من الوجوه حينما (أبى واستكبر وعاند) الآيات التي بلغها إليه القراء في رسائلهم الغاضبة ثم إذا به يضرب بها كلها عرض الحائط ويتبجح في عتو عناد بمقولة تعيد إلى أذهاننا عناد صناديد قريش: (إنني لم أجد في تلك الرسائل جميعاً ما يحملني على أن أغير حرفاً مما كتبته ولو أعدت الكتابة لكررت ما قلته كلمة كلمة) اهـ فإذ لم يرفع بآيات الله الآمرة بالحجاب رأساً فإنا نذكره بقول الله تبارك وتعالى: (ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين) الجاثية (7 - 9) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وقوله عز وجل: (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون) السجدة (22) . وقوله سبحانه وتعالى: (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً) سورة المدثر (16) . ثم نقول كون هذه الآراء صحيحة عندك وأنك مؤمن بها لن تتراجع عن كلمة منها لا يدل على صحتها في نفسها فكل حيوان يستطيب ريقه وإن كان خبيثاً وقد قال تعالى في إخوانك من قبل: (ويحسبون أنهم على شيء ألا انهم هم الكاذبون استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون) (المجادلة: 18 - 19) وما أحسن ما قيل في مثله: ولقد أقول لمن تحرش بالهدى عرضت نفسك للبلا فاستهدف آخر: يا ناطح الجبل العالي ليكلمه أرفق على الرأس لا ترفق على الجبل (*)   (*) وفي أحدث محاولات الفيلسوف الهرم لينطح الجبل العالي كتب مقالة مطولة في " آخر ساعة " يدافع فيها عن العلمانية ويهاجم الجماعات الإسلامية وفيها تطرق إلى الحجاب زاعماً أن علة انتشاره بين الفتيات هي : (انخفاض الدخل في كثير من الأسر مما جعل عدد من السيدات والفتيات يعجزن عن التنافس في دنيا الثياب - الموضات - فيجدن ملاذاً في الزي الديني) وادَّعى أن من الأسباب أيضاً: (ارتفاع أجور العناية بالشعر عند الكوافير فيحدث أن حجبه - حجب الشعر تحت الحجاب - أيسر وأقل تكلفة) ولما سئل عن رأيه في المنقبات قال في غرور: (المنقبات = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 فنسألك اللهم أن تخلع من أعداء الحق وثائق قلوبهم وأفئدتهم وأن تباعد بينهم وبين أزودتهم وأن تحيرهم في سبلهم وأن تضللهم عن وجههم وأن تقطع المدد عنهم وأن تنقص منهم العدد وأن تملأ أفئدتهم بالرعب وتقبض أيديهم عن البسط وتحرم ألسنتهم عن النطق وتشرد بهم من خلفهم وتنكل بهم من وراءهم وتقطع بحربهم أطماع من بعدهم اللهم عقم أرحام نسائهم ويَبِّس أصلاب رجالهم وعجل لهم الوبال والنكال وأخرس منهم عضو المقال وفرق جمعهم وشتت شملهم وأفسد رأيهم وأخمد أنفاسهم وهدِّم أساسهم إنك على ما تشاء قدير.   = لا يستأهلن الحديث مني عنهن ... ) ثم راح يتساءل (هل هو عدم جمال خلقة؟ .. ولكن أقول إن فيهن صاحبات وجوه مليحة ومقبولة! أيضاً أقول: هل هي حركة احتجاجية داخل الأسرة؟ هل هي حالة عدم رضاء كاملة عن النفس؟ هل النقاب هو الإسلام؟) اهـ من " آخر ساعة " ص (34) مايو 1986 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 حقاً.. إنها معركة مارق يتحدى مشاعر المسلمين ويستعدي " السلطة" على المحجبات إنه المدعو " حسين احمد أمين " (*) الذي فتحت له الصحافة أبوابها على مصراعيها فصال وجال داعياً إلى البهتان العظيم والعدول عن صراط الله المستقيم ومناقضة ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وصَدَحَ به كتاب الله المبين جاء هذا الغبي الجاهل المكابر فأعرض عن الحق الصريح الظاهر وكتب المقالات المطولة التي حشاها من الكذب والافتراء والظلم والعدوان وشتم أهل الحق وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات والصد عن سبيل الله عز وجل. ويبدو أن الدور الذي شاء له أسياده ووقع اختيارهم عليه لأجل إنجازه هو " محاربة الحجاب ".. ذلك الحجاب الذي أشعلت عودته نار الحقد والغيظ في قلبه فأنشأ يسوِّغ محاربته إياه قائلاً: (رأيت ظاهرة تنتشر في مجتمعنا انتشار النار في الهشيم هي ظاهرة الحجاب وسمعت أنصارها يربطون بينه وبين الإسلام فأحببت أن أتحقق بنفسي مما إذا كان القرآن قد أمر به وقد توصلت إلى أن حجاب المرأة ليس من الإسلام) اهـ وقال في موضع آخر (415) : (ليس للحجاب أي علاقة بالإسلام) ! ثم يزعم أن الحجاب إنما عرف عند   (415) من مقاله المنشور بمجلة " روز اليوسف " الاثنين 17 يونية 1985 م العدد (2975) بعنوان (المفكر الإسلامي " حسين أمين " يتحدى: ليس في القرآن آية واحدة تفرض الحجاب) وفي نفس المقالة استهزأ من حكم الإسلام بأن شهادة الرجل تعادل شهادة امرأتين قائلاً: (هل يمكن أن تكون شهادة بواب عمارتنا تعادل شهادة " أمينة السعيد " " سهير القلماوي " معاً هل نستطيع الآن أن نقول هذا..؟) اهـ ص (35) . (*) وانظر: " قصة الهجوم على السنة " للدكتور علي السالوس - حفظه الله - ص (54) لتقف على بعض افتراءاته على الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 الفرس ويقول: (ومن المعروف أن أول مفسرين للقرآن الكريم على الإطلاق كانوا من الفرس (*) ومن الطبيعي أن يتأثر المفسرون بالتقاليد والقيم التي نشأوا عليها. لقد درست الآيات القرآنية التي ورد ذكر الحجاب بها ووجدت أنه ليس هناك آية واحدة تفرض الحجاب على المسلمات) اهـ . ونراه يبين منهجه الذي انتهجه في هذا " التحقيق الفذ " فيقول: (إنني أعتمد على أمهات الكتب وأدرس ما اتفق عليه العلماء والأئمة الأربعة وغيرهم غير إني لا أعتبر نفسي ملزماً إلا بما انتهى إليه تفكيري ... ولا يضيرني أن أكون أول من قال بهذا الرأي أو ذاك دون أن أستند إلى مرجع) (416) والفقهاء كلهم - في نظره - (لا قولهم حجة ولا من الواجب الأخذ به) بل إنه يرد على مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف حمزة قائلاً: (نعم يا سيدي المفتي أنا زعيم لك بأني أهل لأن أنافس الأئمة المجتهدين وأن أدلي بدلوي كما أدلوا بدلائهم) اهـ (417) فانظروا أيها المسلمون ما يقول ذلك (الإمام المجدد) والعبقري الفذ والمجتهد المطلق! الذي نفتق عنه القرن الرابع عشر الهجري وحلَّق في آفاق الاجتهاد حتى أنه ليشهد لنفسه بملء فمه أنه أهل لأن " ينافس " أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وأحمد وسفياناً وسائر الأئمة وأن تتمخض عبقريته عن آراء واكتشافات كان هؤلاء جميعاً في غفلة عنها بل مخطئين فيها ومن أعظم هذه " الاكتشافات " أن حجاب المرأة ليس من الإسلام!! قال اخزاه الله (418) :   (*) راجع " التفسير والمفسرون " للدكتور محمد حسين الذهبي - رحمه الله - (1 / 32 - 142) حتى تقف على فساد هذا القول (416) ، (417) جريدة " الأهالي " الماركسية تاريخ (23 / 1 / 85) ص (10) . (418) مجلة أكتوبر العدد (351) تاريخ 17 يوليو 1983 م 7 شوال 1403 هـ ص (24 - 26) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 (متى نشأ في مجتمع معين وفي زمن محدود ما لا يمكن وصفه إلا بأنه ظاهرة متفشية تنطوي إلى حد ما على عنصر المفاجأة فلابد لنا من أن نلتمس التفسير أو بعضه على الأقل في أسباب خارج نطاق الموضوع محور الظاهرة فعودة الكثير من نسائنا (419) - بمحض إرادتهن - لا نتيجة ضغط من آبائهن أو أزواجهن " بل أحياناً ضد رغبة آبائهن وأزواجهن ورغم استهجان السلطة في بلدهن " يمكن أن نحدد لبدايتها تاريخاً لا يزيد على ستة عشر عاماً (420) ثم انتشرت منذ ذلك الحين وفي هذه الحقبة القصيرة انتشار النار في الهشيم مثل هذا الانتشار المفاجئ لظاهرة ما إن كان يمكن تفسيره في بعض الأحيان بظهور نبي جديد (421) أو قيام حكومة ثيوقراطية في بلد معين فليس بالوسع الاقتصار في تفسيره على الإشارة إلى رغبة عامة مفاجئة في التمسك بتعاليم الدين علماً بأن القرآن كان دائماً بين أيدينا وكانت تعاليم الدين دوماً في متناول الجميع (422) فلم ظهر الأمر فجأة إذن؟ ولم اتخذ صورة الظاهرة المتفشية خلال سنوات قلائل؟ لا مفر إذن من تفسير هذا النوع الذي ذكرناه في بداية المقال وإن كره الكارهون وغضب الغاضبون) اهـ. ولعمر الحق لو كان هذا مخلصاً للإسلام محباً لأهله لشغلته الفرحة والابتهاج بتوبة العاصيات وإنابتهن إلى ربهن عن البحث في أسباب الظاهرة التي إن بحث فيها المخلص إنما ليدعمها ويسعى في تمكينها وتدعيمها لا تهوينها والتنفير عنها كما يفعل الذين في قلوبهم مرض وحتى ندرك الفرق بين الفريقين نضرب المثال بقول أحد الدعاة   (419) كذا (!) ولعل تمام العبارة: (إلى الحجاب) . (420) قد بينا الخطأ الفادح في هذا التأريخ في الرد على مقالة " ردة في عالم المرأة " للدكتور زكي نجيب محمود في هذه الطبعة فراجعه ص (236 - 239) . (421) وهل ظهور نبي جديد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين أمر قابل للاحتمال في عقيدة الكاتب؟ . (422) ومن هنا فنحن نوجه للكاتب سؤالاً صريحاً: إن كنت تعلم أن الحجاب من تعاليم الدين ومن أوامر القرآن الذي بين أيدينا فما هو موقفك الصريح من هذه التعاليم وما هو الموقف الذي ترتضيه وترضاه من غيرك تجاه أوامر القرآن؟ التي هي حجة على من يخالفها أو حجة لمن يتبعها فأين أنت منهما؟ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 المسلمين في تحليل نفس الظاهرة (423) (أ) قال حفظه الله: (على الداعية الإمساك بهذه الظاهرة - ظاهرة تدين الشباب واستمساكه بالإسلام - وجعلها باعثاً لتحقيق الآمال في النفوس فما الشباب إلا تجسيد لآمال المستقبل وتعبير عن استعادة الأمة لحيويتها بسواعد أبنائها على أن الطريق لن يكون مفروشاً بالورود فما ظهور الشباب المتدين إلا بمثابة مولود جديد خرج إلى الحياة بعد آلام المخاض التي عانت منها الأمة الإسلامية ما عانت فإذا لم يحظ بالعناية الكافية ربما حدثت ردة لا يعلم إلا الله مدى آثارها) اهـ كلامه. ثم يستمر الكاتب - حسين أمين - في تحليل أسباب تمسك البعض بالحجاب فيقول: (إن ظاهرة عودة نسائنا إلى الحجاب لا يمكن وصفها بأنها شأن عادي ولا القول بأن العائدات إليه - في مجموعهن - وكطائفة نساء عاديات ولا عجب في هذا أن نجد من بينهن الكثيرات من الفتيات والنسوة العاديات اللواتي خضعن لتأثير أو ضغط أو دفعهن إلى التحجب نزوع إلى تقليد أو اتجهن إلى التدين ثم سألهن من يعتقدن أنهم أفقه منهن في أمور الدين فاخترن ما ذكر لهن أنها ثياب إسلامية يأمر الشرع بها فالمهم هنا ليس أن المتحولة إلى هذا النوع من الثياب امرأة عادية إنما المهم هو نوعية ممارسي الضغط والتأثير في المناخ العام الذي جعل هذا الضغط وهذا التأثير شائعين) اهـ. وكأن الكاتب الحاقد يشير بكلمات مسمومة هدفها الواضح: أن هذه الثياب لا علاقة لها بالإسلام وإنما هناك ضغوط خفية مؤثرة يجب البحث عنها والقضاء عليها. ثم يؤكد في مقاله على القيم التي يرى من وجهة نظره أن تكون أساساً لاختيار المرأة ثيابها فيعتبر جمال الوجه والقوام أساس اختيار الثوب أما اختيار الثوب طبقاً   (423) (أ) (المخاطر التي تواجه الشباب المسلم وكيف نتوقاها) للأستاذ الدكتورمصطفى حلمي-حفظه الله-ص (17) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 لأحكام الإسلام وأوامر القرآن فهذه عنده سلوك غير عادي ويجب محاربته يقول: (ولو أن امرأة اختارت ارتداء الثوب الإسلامي على أساس أنه أجمل أو أنسب لوجهها وقوامها ولا شيء غير ذلك لكان سلوكها عادياً ولما كان الأمر محل جدل ومثار مناقشات عنيفة وسبب احتكاك عائلي وشجارات وطلاق ومنع من دخول الجامعات إلى آخره غير أن الواقع أن تبنى الرجل أو المرأة للزي الإسلامي ليس نابعاً من مزاج إنما هو موقف ... يراه البعض شاذاً مستنكراً وجديراً بالمحاربة ويراه أصحابه الموقف السليم الوحيد الذي ينبغي محاربة غيره واستئصاله) اهـ. وكأن العبقري الفذ الذي يقول: (أهلاً وسهلاً ومرحباً بطاعة " بيوت الأزياء " الصهيونية الفاجرة ولا مرحباً بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم) يريد أن يذكرنا بمسلكه الوخيم هذا بمن قال فيه الله تبارك وتعالى: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) الفرقان (43، 44) وقوله عز وجل: (وإذا ذكر الله وحده أشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) الزمر (45) . ثم يحاول ذلك الشيطان الإنسي أن يبث بذور الفرقة والعداوة ويوطد دعائم " الحواجز النفسية " الحاقدة بين المحجبة وغير المحجبة حتى لا تتأثر الأخيرة بدعوة الأولى لها إلى الحجاب يوماً ما فيقول: (إنه يكاد يكون من المؤكد أنه ما من امرأة محجبة تجلس إلى غير محجبة إلا ونظرت كل منهما إلى الأخرى نظرة الارتياب هذه في استنكار وتحفز وتلك في حيرة وتساؤل كما أنه من الصعب أن نتخيل قيام علاقة عادية بين الاثنين) اهـ ثم يدعي أنه قابل منذ أيام عاملاً ميكانيكياً بسيطاً ومرت بهم امرأة محجبة وينسب إلى ذلك الميكانيكي " الملهم ... الأديب ... " تعليقه على منظرها قائلاً في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 امتعاض: (أنا لست ضد الدين وأنا وامرأتي نصلي ونصوم ولله الحمد ولكن هذا الشيء (423) (ب) من ديننا في شيء هؤلاء - لاحظ استخدامه لكلمة "هؤلاء" في معرض الحديث عن واحدة (424) - قوم يبغضوننا ويتربصون بنا وينتظرون أن تكون لهم الغلبة حتى يخسفوا بنا الأرض - أنا لست ضد الحجاب في حد ذاته.. فليتحجب من شاء.. ولكني ضد ما يخفيه هذا الحجاب من مشاعر سوداء .... تسألني ماذا لقيت منهن؟ لم ألق منهن شيئاً ولكني أحس إحساساً قوياً بما تشعر به نحوي وهي تنظر إليَّ وأعرف ما تهددني به " إننا " نتركهن يرتدين ما يردن ويتصرفن كما يحلو لهن ولكن أتظن متى وصلت جماعتهن إلى السلطة يتركننا نلبس ما نشاء ونتصرف كما نريد؟) ثم يمضي الكاتب ينفث سمومه السوداء وأحقاده الدفينة قائلاً: (وقد هالني أن أرى الشبه الشديد بين موقفه هذا من المرأة المحجبة وموقف الرومان خلال القرون الثلاثة الأولى بعد مولد المسيح من المسيحيين في الإمبراطورية لقد كان يسود الإمبراطورية خلال تلك القرون تسامح ديني نادراً ما عرف العالم نظيراً له غير أنهم استثنوا المسيحيين من هذا التسامح وكان هذا الاستثناء راجعاً إلى مخالفة المسيحيين لهم في العقيدة إنما إلى عداء المسيحية لكل من عاداها من عقائد مما دفع الرومان إلى تسمية أتباعهم بأعداء الجنس البشري، كانت روح المسيحية خطراً على تقاليد ......... ..... على تقاليد المجتمع الروماني وأسسه ومع ذلك فقد كانت كراهية عامة الشعب للمسيحيين أقوى منها عند الأباطرة والسلطات فالجمهور قد أزعجه أن يرى أتباع هذا الذين يكرهون آلهتهم ويصلون من أجل نهاية العالم ويفرحون متى لحقت الهزيمة بجيوش الإمبراطورية وكانت العامة تنسب الكوارث التي تحل بها كالفيضانات   (423) (ب) يقصد الميكانيكي الفذ بكلمة " هذا الشيء ": الحجاب. (424) هذا التعليق من ذلك الكاتب الحاقد على دين الله أو ممن وراءه من (الميكانيكية) - هدفه إقامة الحواجز النفسية بين أهل الطاعة وعموم الناس حتى يترسخ العداء بينهما ويحول دون استجابتهم لأحكام الشرع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 والمجاعات والحرائق إلى ما يمارسه المسيحيون من سحر أسود وكانت تدرك أن المسيحيين يبغضون كافة مظاهر الحضارة التي يعيشون في ظلها وأنهم إن تمت لهم الغلبة فسيسحقون أنظمة الدولة وآلهتها ولن يبدوا تجاه الأديان المخالفة ذلك التسامح الذي يطالبون به لأنفسهم فاستثناؤهم إذن من تطبيق مبدأ التسامح الديني إنما كان لحماية مبدأ التسامح الديني) (425) اهـ. يتضح من هذا أن الكاتب يحاول أن يقيم أدلة على أن " الشبه شديد " بين موقف " الميكانيكي " من " المحجبات " وبين موقف " الرومان " من   (425) {اعلم أخي المسلم أن بعض الناس يخلطون بين لفظة (التعصب) ولفظة (التسامح) خلطاً معيباً يؤدي إلى خلل في دينهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً فإذا سمعك أحدهم مثلاً تقول: " لا يجوز الترحم على اليهودي أو النصراني لأنه لا يدخل الجنة " اعتبر هذا تشدداً وتعصباً وتشدق بأن رحمة الله واسعة وعدَّ نفسه متمسكاً بسماحة الإسلام ولكشف النقاب عن هذا الخلط نقول: إن التعصب والتسامح لا يكونان إلا في المعاملة فالتعصب: أن تعامل الذمي اليهودي أو النصراني بحيف وتبخسه حقه والشرع يأبى ذلك ولا يرضاه والتسامح: أن تعامله بالعدل والإنصاف وتعاشره بالمجامة والألطاف وأن تحسن جيرته إن كان جاراً لك وأن تصله إن كان من قرابتك غير أنك لا تعطيه من زكاة مالك ولا من زكاة فطرك لأنهما خاصتان بفقراء المسلمين ولا بأس أيضاً بجريان بعض المعاملات الدنيوية بينك وبينه كقرض أو نحوه مما لا تعلق له بالدين وشرط هذا كله أن لا يكون محارباً ومع هذا يجب عليك أن تعتقد اعتقاداً جازماً لا تردد فيه أنه على باطل وإنه إن مات كافراً لا يجوز الترحم عليه ولا الدعاء له بالمغفرة قال تعالى: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل) من الخير كصدقة وصلة رحم وإغاثة ملهوف (فجعلناه هباءً منثوراً) الفرقان (23) لا ثواب له في الآخرة وهذه الآية تفيد أنه لا يوجد منهم ولي أو قديس كما يقولون لأن الولاية أو القداسة نتيجة العمل الصالح المقبول وعملهم غير مقبول لبطلان دينهم المخالف للإسلام (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) آل عمران (85) وقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمداً بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة لا يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) رواه الإمام أحمد ومسلم فمن جوز وجود ولي منهم أو تبرك بأحد قديسيهم فقد تخلى عن عقيدته ودينه إذ التساهل في شيء من العقيدة لا يكون تسامحاً كما ظن المخلطون الواهمون لكنه تنازل عنها يلزم منه الخروج من الدين لأنه مبني على العقيدة فإذا فقدت فقد، فينبغي عدم إقراره على كفره وعدم الرضا به وبغضه ببغض الله تعالى له وعدم موالاته وموادته قال تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) آل عمران (28) وعدم التشبه به وعدم إنكاحه المؤمنة وعدم بداءته بالسلام وأن يضطره إلى أضيق الطريق فهذا كله من التمسك بالدن وليس من التعصب في شيء والتفريط فيه ليس تسامحاً ولكنه تنازل عن حدود الله عز وجل والله سبحانه وتعالى أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 " المسيحيين " ويلزم من قياسه أن يرمي المسلمين في واقعنا زوراً بأنهم " أعداء الجنس البشري "وأنهم (يصلون من أجل نهاية العالم) وأنهم " يبغضون كافة مظاهر الحضارة التي يعيشون في ظلها ". وذلك كله كي يصل إلى نتيجة وهي: أنه يجب على الحكومات استثناء المسلمين من مبدأ " التسامح " تماماً كما فعل الرومان مع المسيحيين (*) وقياسه هذا باطل من أوجه عديدة لا تخفى على المخلصين لدينهم المؤمنين بأن الحق واحد لا يتعدد وبأن هؤلاء النصارى إن كانوا على دين الحق الذي بعث الله به عيسى عليه السلام وهو دين الإسلام الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه التي منها " الإنجيل " فإنما هم مسلمون موحدون مؤمنون يحررون ولائهم لله سبحانه وتعالى وحده ويتبعون رسولهم المسيح عليه السلام ويصبرون على أذى الرومان ابتغاء وجه الله ونصرة لدينه الحنيف فعداوة (الإسلام) لما عداه من العقائد الكفرية أمر لا ينكره إلا من لا حظ له في الإسلام قال تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم) البقرة (256) فالعروة الوثقى هي " كلمة لا إله إلا الله " المتضمنة لإفراد الله سبحانه وحده باستحقاق العبادة والكفر بكل طاغوت يعبد من دون الله عز وجل.. وهذا هو جوهر الإسلام ولبه، فأين أنت منه يا صاحب القياس؟ ثم يستطرد ذلك الشيطان قائلاً: (أعود فأقول إن ما يدفع البعض إلى اعتبار المرأة المحجبة امرأة غير عادية هو أن الزي الذي تبنته يفصح عن موقف عقلي غير عادي وعن مفاهيم وقيم يراها الآخرون غير عادية فخلاصة اعتقاد مثل هذه المرأة هي: أن النظر سهم من سهام إبليس مسموم ولا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة ولا المرأة إلى الرجل حيث إن قصدها منه كقصده منها،..فالمرأة كلها عورة إلا وجهها ويديها.. والكشف عن غير الوجه   (*) وتماماً كما قال: " مناحم بيجن " في إذاعة فلسطين المغتصبة: (لقد سمعت اعتراضات كثيرة في أمريكا ضد حملة السادات على المتعصبين المتطرفين " الذين يريدون العودة إلى تطبيق قوانين العصور الوسطى بل العصور الحجرية " وقد سمعت اعتراضات كثيرة هناك ضد هذه الحملة باعتبارها تتعارض مع التقاليد الديموقراطية ولكنني دافعت عن إجراءات السادات بحرارة وأقنعت المعترضين بأنه يجب عليهم أن يتناسوا التقاليد الديموقراطية حين يتعلق الأمر بالمسلمين) اهـ باختصار نقلاً عن صحيفة " القبس " الكويتية عدد رقم (3382) تاريخ (12 / 10 / 1981 م) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 والكفين مدعاة للافتتان فإن كانت المرأة جميلة الوجه وخيف من وجهها وكفيها الفتنة فعليها ستر ذلك.. إلى آخره مما نقلناه من تفسيرات القرطبي فالمرأة التي تعتقد مثل هذا في أيامنا هذه حين أصبح بالإمكان أن يجلس الرجل إلى المرأة دون أن تخطر ببال أيهما فكرة جنسية والتي ترفض أن تصافح الرجل بيد عارية خشية أن تثور لدى أيهما إحساسات جنسية محرمة والتي تشغل بالها مشكلة ما إذا كان ظاهر قدمها سيثير عند الرجل في الطريق رغبات حيوانية امرأة غير عادية) ثم ذكر فوق هذه التعبيرات الساخرة عبارات " فاحشة " ننزه قلمنا وأسماع إخواننا عن تسطيرها بل لم يكتف - أخزاه الله - بهذا بل ها هو يصف المحجبات " بالكبت بدل أن يصف فعلهن " بالتعفف " والامتثال لأوامر رب العالمين بل تصل الجرأة وسوء الأدب أقصاهما حين يصف معنى الحجاب الوارد في قوله تعالى: {وإذا سألتموهن متاعاً فسألوهن من وراء حجاب} الأحزاب (53) بأنه معنى " ضيق " ثم يمضي فيتهم المحجبات العفيفات المحصنات - بارك الله فيهن - بأنهن لا يفكرن إلا فيما سماه " الجنس " وأنها - أي المحجبة - ترتدي الحجاب (ليقيها من هذه المثيرات التي تسببت من قبل في إحداث تهيج شديد عندها لم يكن لها طاقة به.. بمعنى أنها قبل أن ترتدي الحجاب قد تأثرت بهذه المثيرات التي أحدثت لها هذا التهيج الجنسي الذي استجابت له ولم تستطع مقاومته ... ) اهـ إلى هذا الحد يطعن هذا الفاجر في سلوك المحجبات نسأل الله أن يجعله هو وأمثاله من أعداء الدين عبرة لمن يعتبر وأن يحبط كيدهم ويرده في نحورهم وأن يشغلهم بأنفسهم عن أهل محبته وطاعته وأن يجعل تدبيرهم في تدميرهم إنه سميع مجيب. ثم يتحدى مشاعر المسلمين جميعاً قبل المسلمات بقوله: (ولو كانت مرتديات الحجاب صريحات مع أنفسهن لاعترفن في النهاية بأن سبب ارتدائهن له هو تعرضهن لاختبار صعب أو موقف صعب لم تكن لهن به طاقة) اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 ثم يشير إلى أن هدف المتمردين على التقاليد هو (أن يشد بعضهم من أزر بعض حتى أصبح مجرد سيرهم في الطريق ورؤيتهم فيه لأمثالهم يشعرهم بأنهم ليسوا وحدهم في خضم الصراع فإذا بإرادتهم الاستمرار في المقاومة تثبت وإذا ثابتهم يدفع غيرهم إلى التشبه بهم فيكثرون وإذا الكثرة تبهجهم فيشجعون والحجاب في مجتمعنا يؤدي الغرض نفسه) اهـ. ثم يمضي الكاتب متحفزاً مستنفراً إخوانه من أعداء الإسلام مستعدياً إياهم على أولياء الله قائلاً: (فإذا كان منا من يعلم هذا كله ويرى مع ذلك ضرراً اجتماعياً خطيراً في العودة إلى الحجاب فعليه أن يضع في حسبانه - فوق كل اعتبار آخر - أن انتهاج سبيل العنف مع هؤلاء كوسيلة للحل ليس فقط من قبيل العبث إنما هو أمر يرحب به هؤلاء فما من سعادة يرونها أعظم من سعادة الاستشهاد في سبيل العقيدة) اهـ ويختتم مقاله مستنهضاً همم إخوانه من دعاة العري والانحلال قائلاً: (ليست الحكومة وحدها المطالبة بالتصدي لتصحيح الأوضاع التي دفعت هؤلاء إلى مثل هذا الموقف والمسلك.. فالأفراد والجماعات كافة - حتى ميكانيكي السيارات الذي تحدثت عنه - مطالبون هم أيضاً بالمساهمة وهي مساهمة نوجزها في جملة واحدة: كبح جماح النفس قبل أن يأتي اليوم الذي يذهب بنفوسهم) انتهى كلامه عليه من الله ما يستحقه ونحن لا نملك إلا أن نقول له: (اخسأ فلن تعدو قدرك) هذه نفثة مقهور وأنه معثور {موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور} آل عمران (119) . ولتكونن " عودة الحجاب " شجى في حلقك وقذى في عينك وريبة في قلبك إلى أن يقطع الله دابرك وصدق الله العظيم: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار} غافر (51 - 52) فاللهم وعدك الذي وعدت به عبادك المؤمنين (ولقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون} الصافات (171 - 173) {إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} المجادلة (20 - 21) . لقد هذا الموتور أنه بهذه الترهات والقحة الزائدة ينال من أهل الإسلام ويشفي غيظه.. وهيهات {وما كيد الكافرين إلا في ضلال} غافر (25) . وهل حط قدر البدر عند طلوعه إذا ما كلاب أنكرته فهرت وما إن يضر البحر إن قام أحمق على شطه يرمي إليه بصخرة (426) وما أحرى ذلك المأفون بقول الشاعر: ألا أيها الغمر (427) الذي غره الكبر ترديت من عال وناسبك القعر تفكر طويلاً يا جهولاً ترادفت عليه المخازي فهي في متنه أسر نبذت نفيس الدر واخترت ضده ومن يكره الياقوت يعجبه البعر فأصبحت مصبوباً عليك شتائم كما كان مشبوباً على قلبك الجمر ظننت خداع الله في الدين هيناً ولن يخرج الله الذي كنه الصدر؟ فجئت بأقوال النفاق مخادعاً فقد بان ما تخفيه وانهتك الستر تحارب دين الله يا شر ملحد وتلصق آراء به ما لها قدر وتسلك في أمر النسا شر مسلك إباحية صلعاء ليس لها ستر   (426) " بيان الهدي من الضلال " للشيخ إبراهيم بن عبد العزيز السويح (1 / 539) . (427) الغمر: بفتح الغين وضمها وتسكين الميم: من لم يجرب الأمور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 ألا يا نصير الكفر ويلك فاتئد ولا تنطح الصفوان يدمغك الصخر لقد ضل من أغراك بالسب والهجا كما زل من أغواك نيته المكر أتحسب أن الدين سهلاً أساسه ستنزله أقوالك الجور والفجر أتحسب أن الدين تخفى ضياءه عجاجتك (428) الهوجا وآثارها الكدر أتحسب أن الناس قد غاب عنهم مقاصدك السوءى وأفعالك المر فما أنت في دعواك إلا منافق كأصـ ـحابك النوكى (429) وهم في الورى كثر فأنتم فساد الناس في كل أمة وجرثومة يضنى بها الجسم والفكر لحي الله (430) قوماً صانعوك غباوة لأهواء نفس نالها الخوف والذعر فلا تجعل العدوان للدين راحة فبعداً وسحقاً عاقك العسر والخسر فإنك لن تشفى من الغيظ والبلا بلى إن هذا الوحر (431) يلهبه الوحر فمهلاً قليلاً إنك اليوم غافل ستندم في الدنيا ومن بعدها القبر (432) ومن بعد ذا يوم عسير حسابه به يعلم الإنسان ما أثمر العمر وكل بذي الأيام يلقى جزاءه فليس بها هضم لحق ولا جور (433)   (428) عجاجتك: العجاج: الغبار والدخان وعجعج: صاح ورفع صوته. (429) النوكي: جمع أنوك وهو الأحمق. (430) لحي الله قوماً: أي قبحهم ولعنهم. (431) الوحر: بفتحتين هو الحقد والغيظ. (432) القبر: مبتدأ مؤخر فهو ليس معطوفاً على الدنيا. (433) السابق (2 / 595) بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 اعرف عدوك يتحلى أغلب أعداء الحجاب بخاصية " الجهل المركب " فهم ليسوا فقط جُهالاً بل يجهلون أيضاً أنهم جُهال ... وقديماً قالوا " عدو عاقل خير من صديق جاهل " فإذا اجتمعت في شخص العداوة مع الجهل ترى كيف يكون حاله وماذا يكون مقاله؟ نورد فيما يلي ما كتبته الطبيبة النفسية والكاتبة (نوال السعداوي) تحت عنوان: " ليس هناك نص ... أتحدى " (434) : (إن ما هو طبيعي وما هو إنساني أن تعامل المرأة كعقل وجسد وتتعامل مع الآخرين من هذا المنطلق أنا ضد أن نحكم على المرأة بالزي فحجاب المرأة ونقابها ما هو إلا اختزال لإنسانيتها وأنا ضده بالذات حين يكون باسم الدين.. .. والذين ينادون بأن تتحجب المرأة لم يفهموا المرأة المسلمة ولم يدرسوا أحاديث الرسول ولم يقرأوا القرآن قراءة صحيحة ولم يطلعوا على التاريخ بل أخذوا أشياء دخيلة على الإسلام الحقيقي وعلى الحضارة المصرية والعربية الحقيقية، فأنا لي خمسة وعشرون عاماً أدرس الدين الإسلامي وأقارن.. ولا توجد آية قرآنية واحدة تنص على تحجيب المرأة.. زوجات سيدنا محمد لم يكن محجبات وأتحدى أي شخص يقول بأن السيدة خديجة مثلاً - كانت محجبة أو أن سيدنا محمد فرضه عليها ... والحجاب تاريخياً بدأ في الدين اليهودي الذي يرى أن حواء ترمز إلى الخطيئة الأولى وما هي إلا جسد فقط على عكس آدم الذي يرمز للعقل لذلك يجب أن تشعر بطبيعتها الناقصة وتغطي رأسها خجلاً وعاراً) اهـ.   (434) جريدة (الأهالي) الشيوعية عدد 5 / 10 / 83 الصفحة الثالثة ومن الجدير بالذكر أن هذه الكاتبة ممن يطالبون بما يسمى " التحرر الجنسي " ولها في هذا الشأن ومتعلقاته مؤلفات عديدة انظر (الصحافة والأقلام المسمومة) للأستاذ أنور الجندي ص (200) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 شيوخ في المعركة {إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية} عمر بن الخطاب رضي الله عنه طال الأمد على المسلمين وتم تحريف تصوراتهم بتأثير هذه الهجمات واعتادت قلوبهم وعيونهم رؤية المنكر فلا يحركون ساكناً ولا يتمعر لأكثرهم وجه غضباً الله تعالى وتضاعفت المحنة حينما وقع بعض الشيوخ أسرى للغزو الفكري المسموم فراحوا يرددون دعاوى انهزامية لا تليق أن تصدر من أفواه ورثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأدلوا بدلوهم في فتنة (تحرير المرأة) عن طريق السخرية والتهكم أحياناً وعن طريق دعاوى علمية زائفة أحياناً أخرى فمن الأول قول الكاتب محمد الغزالي: (إن المحجبة تظهر في سمت عفريت) وأن الدعاة إلى حجاب المرأة وقرارها في البيت (قوم غلبهم الهوى الجنسي وأنهم أصحاب عقد نفسية وأنهم يصدرون في غيرتهم عن ضعف جنسي أو شبق جنسي) ويتساءل: (لماذا تحترم الراهبات ولا تحترم المحجبات وزيهما واحد) (435) ومن الثاني قول بعضهم: (إن النقاب   (435) انظر " أضواء على تفكيرنا الديني " للشيخ محمد الغزالي ص (22 - 29) ومما يجدر ذكره أن لهذا الكاتب دوراً مؤسفاً في تغذية الاتجاه العقلاني المنحرف لا في قضية المرأة وحدها بل في كثير من القضايا العلمية وقد كانت آراءه المبتدعة متناثرة في ثنايا كتبه وكان العلماء يغضون الطرف عنها لضالتها وتفرقها إلى أن خرج على الأمة بكتابه الأبتر الذي لم يفتح بالحمد ولا بالبسملة والذي ضم محصلة طعونه في السنة المشرفة: (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث) وهنا توالت ردود حماة السنة وفرسان الحديث وجهابذة الفقه وجماهير الدعاة الغيورين وطلاب العلم المخلصين متعاقبة متناصرة ترد كيد المعتدي في نحره: جاءت تهادي مشرفاً ذراها تحن أولاها على أخراها فتتبعوا كلامه الساقط وشبهاته المتهافتة وبينوا أنه حاف في حكمه وجار في قضائه وانتصر لرأي نفسه وسفه علماء الأمة وبث الخلاف وشق الصف وحشر نفسه في خندق واحد مع خصوم سنة سيد الأنام عليه الصلاة والسلام. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 بدعة لا أصل لها في كتاب ولا سنة ولا مذهب إمام من   = وعلى الجانب الآخر احتفى بالكتاب المسموم كافة وسائل الإعلام المشبوهة واحتفل به العلمانيون واليساريون والأعداء التقليديون للصحوة الإسلامية من الساسة والصحافيين وضربوا الدفوف ابتهاجاً به وصرح أحدهم بأن هذا الكتاب هو " بيروسترويكا " في الإسلام! أما أهم ملامح منهج الكاتب فتتلخص في: 1 - العقلانية الاعتزالية المفرطة التي تهدر ميزان أهل السنة والجماعة في ضبط العلاقة بين العقل والنقل. 2 - تشوش مفهوم الاعتزاز بذاتية الإسلام والاستعلاء بأحكامه وشريعته على ما خالفها وكذا اضطرابه في قضية الولاء والبراء الذي يتجلى في موقفه الفظ الغليظ من شباب الصحوة الأمر الذي عمق الحواجز النفسية بينه وبين طلاب العلم سيما وأنهم رأوا الكاتب في غاية التلطف والرفق مع " القوانين العالمية " وبعض أهل الكتاب وأهل البدع كالرافضة وغيرهم. 3 - الانهزام النفسي بسبب " عقدة ضغط الواقع الغربي " والذي يتجلى في افتتانه البالغ ببعض ما تواضع عليه الغرب من قيم ومفاهيم واعتباره إياها نبراساً ييهتدى به ويخضع له بل أنه يجعل مراعاة خاطر الغرب مرجحاً في الخلافيات له حضور الحاكمية وله سلطة التأثير على مسار الفتيا سلباً وإيجاباً 4 - عدوانه على عشرات الأحاديث الصحيحة عن طريق إهدار اعتبار قواعد علم الحديث والقفز فوق الضوابط الفنية التي أحكمها العلماء خصوصاً في مجال التعارض والترجيح وفتح باب الطعن على السنة وأهلها من خلال بدعة " فتح باب نقد متن الحديث وإن صح سنده " لكل من هب ودب متأثراً في ذلك بالقرآنيين وربما بالمستشرقين. 5 - استخفافه بقضايا الهدي الظاهر وتناوله إياها بأسلوب ساخر مما يجرئ السفهاء على تنقص بعض الأحكام الشرعية والاستهانة بها تقليداً له. 6 - الاستبداد الفكري ومصادرة آراء الآخرين والفرار من الحوار العلمي المنضبط وتحت ستار من العاطفة والغيرة على الإسلام رفع الكاتب الأسنة على بعض أئمة أهل السنة بكل ما أمكنه من الهجاء اللاذع وأطلق في حقهم عبارات لا تليق مع الصبية الأحداث فضلاً عن قمم الإسلام ورموز نهضته من العلماء الربانيين والمجددين المجاهدين بل لم يسلم من تجاوزاته بعض الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين. إن خطورة منهج البيروسترويكا الغزالية الحقيقية سوف تظهر جلية صريحة عندما يمسك بتلابيب هذا المنهج المتربصون بالإسلام والصحوة الإسلامية الذين سيجدون في أيديهم آلة فعالة تتيح لهم هدم قواعد الدين وأركانه وخصوصياته التشريعية وذلك لأن كتابات الغزالي تتسق - رغماً عنه - مع خطط خبيثة ترمي لضرب شريعة الله في مقتل وإنهم يستغلون الغزالي - وإن لم يقصد - كمصدة ريح أو كاسحة ألغام تمهد الطريق أمام طروحات أكثر خطورة وتحدث الثغرة الأولى في التحصينات الفكرية الإسلامية لينفذ منها بعده من يبدأ من حيث انتهى الغزالي فيشتط في التطاول على أحكام الشريعة الغراء فبينما سمعنا الغزالي يقول: (المرأة الروسية غزت الفضاء ويراد أن تعجز المرأة المسلمة عن معرفة الطريق إلى المسجد) سمعنا من سماه أبوه " أحمد بهاء الدين " يوبخ المسلمين الذين (يبحثون حتى الآن في مسألة هل الربا حرام أم حلال وفوائد البنوك؟ بينما الأمريكيون يتابعون رحلات الفضاء الهائلة التي جاوزت كوكب نبتون) = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 الأئمة) (436) ومنهم من يحمل المنقبة على خلع النقاب وينفرها منه. وهؤلاء جميعاً يهرفون بما لا يعرفون يثبطون ولا يثبتون وكان الأحرى بهم -إذ قصرت هممهم عن همم هؤلاء الفتيات المؤمنات الصابرات على دينهن القابضات على الجمر - أن يتمثلوا ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكرة - رضي الله عنه -: " زادك الله حرصاً " (437) أي على الخير وقد مضت السنة أن من رأى شخصاً على عمل صالح فليثبته عليه فعن ابن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها فقال: (اعملوا فإنكم على عمل صالح) (438) وعنه رضي الله عنه قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفه أسامة فاستسقى فأتيناه بإناء من نبيذ (439) فشرب وسقى فضله أسامة وقال: (أحسنتم كذا فاصنعوا) (440) . نعم كان الأولى بهم أن يحفظوا قوله - صلى الله عليه وسلم - لجابر بن سليم الهجيمي - رضي الله عنه -: (اتق الله ولا تحقرن من المعروف شيئاً) (441) وليتهم قلدوا العلماء الذين يبيحون كشف الوجه ورغبوا في النقاب باعتباره فضلاً لا فرضاً ولكن هؤلاء   = وإنا لنسأل الله عز وجل أن يلهم الغزالي التوبة من هذا المنهج الخطير ليصون جهاده الطويل ومواقفه المجيدة في الانتصار للإسلام فيما مضى بأن يحسن عاقبته فيما بقى: فكم يوماً رأينا فيه صحواً فأسمعنا بآخره الرعودا وعاد الصحو بعد كما علمنا وأنت كذاك نرجوا أن تعودا (436) (الدعوة) عدد (59) جمادى الأولى 1401 هـ ص (12 - 13) . (437) رواه البخاري (كتاب الآذان - باب إذا ركع دون الصف) . (438) رواه البخاري في صحيحه (انظر فتح الباري 3 / 491) . (439) النبيذ: كل شارب نبذ سواء تعجلوا شربه وهو حلو قبل أن يختمر وهو الأكثر وهو المراد هنا أو تركوه حتى يختمر وكل ذلك يسمى عندهم نبيذاً. (440) رواه مسلم وانظر "الأذكار" للنووي ص (259) . (441) أخرجه جمع الأئمة منهم الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والبغوي وابن حبان وغيرهم (فيض القدير) (1 / 133) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 ادَّعوا أن الانتقاب بدعة لا فرض ولا فضل واستباحوا السخرية والتهكم من المنقبات وهذا ما لم يسبقهم إليه عالم. ومن تناقضاتهم أنهم يعيبون دعوة " قاسم أمين " وينددون بها وبالويلات التي جرتها على الأمة ثم هم يفكرون بعقلية " قاسم أمين ". ألا إن كل من يدعو المرأة إلى كشف وجهها وإلى الخروج للعمل والمشاركة في الحياة العامة مخالطة للرجال إنما هو " قاسم أمين " جديد مهما كان اسمه بلا فرق بين الأصل والصورة في هذه الدعوة الأثيمة فلا تحاربوا يا قوم " قاسم أمين " وأنتم من حيث لا تشعرون تدعون بدعوته. أخطاء ... أم خطايا؟ : هذا وإن الذي يدفعنا إلى التنبيه على دور هؤلاء الشيوخ في المعركة أنهم جهروا بهذه الآراء ونشرت لهم على نطاق واسع خلال الصحف التي حرصت - خلال المعركة - على أن تخلط دائماً ذهبنا بعملتها المزيفة لتتناولها الأيدي متسترة وراء هذه الأسماء. ومما يبعث على الأسف أن العديد ممن تصدروا وترأسوا في هذا الزمان يدعون احترام الأئمة والعلماء - وقد ذابوا في تعظيم الأجانب - ثم هم يخرجون على الأمة بآراء انهزامية أمام افتتانهم بالحضارة الغربية العاتية وكأنهم يحملون تحت العمائم أدمغة أصحاب القبعات .... ثم هم يفرضون هذا الفكر المنهزم على الدعوة الإسلامية الفتية الناهضة ويحكمون على مخالفيهم بما يحلو لهم من عقوبات ظالمة يستبيحون في سبيل تطبيقها حتى أساليب الأحزاب السياسية وبذلك يقفون غصة في حلق دعوة الحق ويقهرون العمل الإسلامي والإصلاح السلفي " وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 إن هذا الأمر دين فانظروا عَمَّن تأخذون دينكم قال البخاري رحمه الله في أول كتاب الفرائض من "صحيحه": قال عقبة بن عامر - رضي الله عنه -: " تعلموا قبل الظانين " قال البخاري: يعني الذين يتكلمون بالظن، وقال النووي رحمه الله تعالى: " ومعناه: تعلموا العلم من أهله المحققين الورعين قبل ذهابهم ومجيء قوم يتكلمون في العلم بمثل نفوسهم وظنونهم التي ليس لها مستند شرعي " (442) اهـ. وقال الإمام العلامة أبو شامة رحمه الله (443) : (وفي الحديث عن ثوبان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بموت العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ") (444) . قال الإمام الطرطوشي رحمه الله: (وقد صرَّف عمر - رضي الله عنه - هذا المعنى تصريفاً فقال: " ما خان أمين قط ولكن ائتمن غير أمين فخان " قال: ونحن نقول: " ما ابتدع عالم قط ولكنه استفتي من ليس بعالم فضل وأضل " وكذلك فعل ربيعة، قال مالك رحمه الله تعالى: بكى ربيعة يوماً بكاءاً شديداً فقيل له: أمصيبة نزلت بك؟ قال: لا ولكن استفتى من لا علم عنده وظهر في الإسلام أمر عظيم) اهـ.   (442) " المجموع شرح المهذب " (1 / 41) . (443) " الباعث على إنكار البدع والحوادث " للعلامة أبي شامة رحمه الله ص (56) - مطبعة السعادة. (444) أخرجه الشيخان وهو مسوق بالمعنى فإنه مغاير لسياقهما في بعض الألفاظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 شعر: وكنا نستطب إذا مرضنا فصار هلاكنا بيد الطبيب آخر: بالملح يصلح ما يخشى تغيره فكيف بالملح إن حلت به الغير آخر: إلى الماء يسعى من يغص بلقمة إلى أين يسعى من يغص بماء؟ آخر: فلو بغير الماء حلقي شرق كنت كالغصان بالماء اعتصاري ونحمد الله عز وجل أن تكفل ببقاء طائفة أهل الحق من العلماء الربانيين الذين أضطلعوا بواجبهم وأنكروا على الخالفين المخالفين وألفوا كتباً ورسائل وأصدروا فتاوى تفضح خطط المتآمرين على المرأة المسلمة وتدعوها إلى الحرية الحقيقية الممثلة في العبودية الكاملة لله رب العالمين وتوجب على المرأة قرارها في البيت ولزوم الانتقاب والحجاب الكامل عند خروجها للحاجة (*) .   (*) وسيأتي ذكر أسمائهم ومصنفاتهم حول هذه القضية في " القسم الثالث " إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 بشائر عودة الحجاب {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال} الرعد (17) أرأيت من ينطح برأسه الصخر ويشرب بفيه البحر؟ إنه هذا الذي يتنكر للإسلام ويسعى في إذابة أهله وصدَّهم عن دين ربهم.. إنه لا يحطم الصخر ولا يجفف البحر.. ولكنه يمشي على رأسه إلى القبر.. السيادة لقانون الله: علمنا - مما تقدم - أن السفور حالة طارئة بدأت على استحياء منذ ما يقرب من خمسين عاماً وبلغت أوجها منذ ثلاثين عاماً ثم بدأ صعودها البياني في التوقف ثم الهبوط ولا يزال آخذاً في الهبوط السريع منذ عشر سنوات تقريباً ويلاحظ الجميع أن المؤشرات كلها تؤكد أن السفور يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة وستبقى بإذن الله السيادة لقانون الله وأمره بالحجاب {وكلمة الله هي العليا} التوبة (40) . إن الشارع المصري يخبرنا أنه قد آن الأوان لهذا المرض الطارئ - السفور وملحقاته - أن ينقشع وتبرأ منه أمتنا ككل باطل مصيره الهزيمة والاندحار مهما طال الأمد. فطوبى لمن تنزع عنها غلالة الرجعية الجاهلية وتعود من غربتها واغترابها وتأتي اليوم وغداً بالحجاب ومعها العلم والوعي والبصيرة والحرية الحقة من عبودية العبيد، قائلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 لشياطين الإنس الذين يزينون لها معصية الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -: {إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} يونس (15) وجهة نظر صحافي ألماني: قال الكاتب الألماني هيلمنسدورفر في كتابه " العبور العظيم والروح الجديدة لمصر ": (لقد عشت في القاهرة كمراسل صحفي من عام 1956 م حتى عام 1961 م ومنذ هذا التاريخ كانت طبيعة عملي وراء حضوري إلى المنطقة بين الحين والحين وكنت أفضل دائماً الإقامة بجوار النيل إن التغيير الهائل الذي طرأ على القاهرة عاصمة الملايين معروف للجميع فقد انتقلت هذه المدينة الضخمة من الطابع الشرقي حيث كانت النساء يرتدين الأحجبة والرجال يرتدون الطربوش إلى عاصمة كبرى ولم تعد الفتيات اللواتي يرتدين البنطلونات والملابس العصرية يلفتن نظر أحد أو يقابلن بدهشة واستغراب وأصبحت العلاقات بين الجنسين علاقة سوية لا تتخللها رواسب الجاهلية التي استمرت فترات طويلة في الشرق ويكفي أن تعلم أنه منذ عشرين عام فقط كان (90) في المائة من الرجال في القاهرة يرتدون الجلباب وكانت كل النساء تقريباً يرتدين الحجاب أما اليوم فإن القاعدة العامة هي ارتداء البدل العصرية وعلى أحدث موضة في الغرب وبالنسبة للنساء فإنه حتى في أكثر المناطق شعبية لم نعد نرى الحجاب) (445) اهـ لقد فرح ذلك الصحافي الألماني.. ولم يكن يدري أنها فرحة.. لن تتم فتلك طبيعة هذه الدعوة وتلك سنة الله في خلقه.. أن دولة الباطل ساعة.. ودولة الحق إلى قيام الساعة بل لعله فرح لأنه لم يبلغه رأي أخيه (لاكوست) وزير المستعمرات الفرنسي منذ سنوات مضت:   (445) نقلاً عن ترجمة الكتاب المنشورة في جريدة الأهرام بتاريخ 1 / 10 / 1982. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 أقوى من فرنسا: ففي ذكرى مرور مائة عام على احتلال فرنسا للجزائر وقف الحاكم الفرنسي في الجزائر يقول: (يجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم ... ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم حتى ننتصر عليهم) (446) .. وبعد ذلك بسنوات قلائل: (قامت فرنسا - من أجل القضاء على القرآن في نفوس شباب الجزائر - بتجربة عملية فتم انتقاء عشر فتيات مسلمات جزائريات أدخلتهن الحكومة الفرنسية في المدارس الفرنسية ولقنتهن الثقافة الفرنسية وعلمتهن اللغة الفرنسية فأصبحن كالفرنسيات تماماً. وبعد أحد عشر عاماً من الجهود هيأت لهن حفلة تخرج رائعة دعي إليها الوزراء والمفكرون والصحافيون.. ولما ابتدأت الحفلة فوجئ الجميع بالفتيات الجزائريات يدخلن بلباسهن الإسلامي الجزائري.. فثارت ثائرة الصحف الفرنسية وتساءلت: " ماذا فعلت فرنسا في الجزائر إذن بعد مرور مائة وثمانية وعشرين عاماً؟! " أجاب (لاكوست) وزير المستعمرات الفرنسي: (وماذا أصنع إذا كان القرآن أقوى من فرنسا؟!) (447) .   (446) المنار عدد 9 / 11 / 1962. (447) جريدة الأيام عدد 7780 - بتاريخ 6 كانون الأول 1962. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 رجع الصدى.. وترديد الببغاوات: قالوا: إن العودة إلى الحجاب عودة إلى الجاهلية الأولى.. وقالوا: إن الحجاب لا يصلح إلا في مجتمع قبلي جاهلي.. وقالوا: إن الحجاب تقليد من التقاليد البالية العتيقة.. وقالوا: إن الحجاب تطرف وتنطع يأباه الإسلام.. وراحوا يبحثون عن علة هذه الظاهرة فمن قائل: إنه اكتئاب حط على القلوب الشابة حتى لجأن إلى الحجاب يتوارين فيه. ومن قائل: بل هو تطرف مفاجئ نتج عن الفراغ السياسي والعاطفي عقب النكسة. العودة إلى الحجاب.. عودة إلى الله لقد فعلوا - كما تقدم آنفاً - شتى الحيل ليصدوا المسلمة عن دينها ويوقعوها في شراكهم ويذبحوا على أعتاب جامعاتهم ومصانعهم ومتاجرهم حياءها قرباناً لأغراضهم وقد استجاب لهم كثيرات وكثيرات. ولكن لم تعدم أمتنا من يقمن الحجة على هؤلاء الكثيرات ويحيين السنة المطهرة فخرج من بينهن فتيات عفيفات طاهرات يهتفن من أعماق سويدائهن بنداء صارم بدد أطماع الأعداء فردهم خاسئين: (رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً ورسولاً) وبعائشة الصديقة بنت الصديق وفاطمة الزهراء وأسماء ذات النطاقين والخنساء أسوة وقدوة لعلنا نحشر في زمرتهن يوم القيامة قال - صلى الله عليه وسلم -: (المرء مع من أحب) (448) .   (448) متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وإذا بالفتيات المسلمات في كل مكان تهوى قلوبهن لهذا النداء العزيز وتنضم الواحدة تلو الأخرى إلى موكب العفاف والفضيلة بعد أن تهجر الفسق والرذيلة.. {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن البطل كان زهوقاً} الإسراء (81) . وأنى لباطل أعداء الإسلام أن يصبر أمام الحجة والبرهان؟ إن باطلهم ظلام وحجتنا نور وبرهان وأنى تصبر جيوش الظلام أمام جحافل الحق. {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} الأنبياء (18) . إن الرد على دعاوى المبطلين قريب وأقوى رد هو تخلى المرأة المسلمة عن هؤلاء بعد أن انخدعت بهم زمناً طويلاً وخلعت الحجاب وخالطت الرجال وذاقت ويلات جاهلية القرن العشرين وجرت في دروب التقدميين والاشتراكيين طويلاً فما وجدت عندهم إلا الشقاء والضنك فعادت المسلمات - زرافات ووحداناً - مستغفرات تائبات خاشعات قانتات ما لهن هجيرى سوى. {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} البقرة (285) . يا أعداء الإسلام! موتوا بغيظكم: لقد اغتاظ أدعياء التحرر وصارت (عودة الحجاب) غصة في حلوقهم فراحوا يتابعون هذه الظاهرة في حسرة وقلق (449) .   (449) حتى إنهم اعترفوا بهزيمتهم في " المعركة الحقيقية " وعللوا ذلك بأن الفتيات يتحجبن عن اقتناع كامل متحديات كل ما وضع في طريقهن من العراقيل والضغوط حتى صار الحجاب في عرف القوم حرياً بوصف " الظاهرة " ومن هنا كان هذا الإقرار الواضح والاعتراف الصريح وثيقة إدانة لكل الذين يصرون على فرض التبرج والسفور بالقهر زاعمين في الوقت نفسه احترام ما يسمى بـ " الحرية الشخصية " و " حرية الرأي ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 الصنم الذي تحطم: كتبت جريدة الأهرام بتاريخ (29 / 4 / 77) تقول: (أمس مر (71) عام على وفاة " قاسم أمين " محرر المرأة الذي دعا إلى تحرير المرأة ورفع الحجاب) ثم يقول الكاتب مغتاظاً متحسراً متأسفاً: (الغريب أنه بعد مرور (71) سنة على وفاته - وفي نفس الوقت الذي نحتفل فيه بذكراه - تقوم الدعوة إلى رجوع المرأة إلى البيت وحجبها عن المشاركة في الحياة العامة) اهـ الإسلام يعود من الجامعة: وهذا الصحافي (مصطفى أمين) يقلقه انتشار المد الإسلامي بين الفتيات في مصر خاصة في الجامعات وبين أعلى الطبقات ثقافة فيقول: (حارب الأحرار في هذا البلد سنوات طويلة لتحصل المرأة على بعض حقها ويظهر أن بعض الناس يريدون العودة بها إلى الوراء وقد يحدث هذا في أي مكان لكن لا نفهم أن يحدث في الجامعة مهد التقدم والفكر الحر) (450) اهـ. ذهب مع الريح: وقال أحدهم في " صباح الخير" وقد تلقى بعض الردود المفحمة من فتيات محجبات عن آرائهن في ما يسمى (الحب) فلم ترقه إجاباتهن: (أي جامعة هذه؟ وأي طالبات جامعيات هؤلاء في النصف الثاني من القرن العشرين!؟ حيث المرأة مساوية للرجل وتصعد إلى الفضاء إن كل ما يفعله المجتمع وكل ما تفعله الحكومة من تعليم البنت وتشغيلها وما تفعله زعيمات النشاط النسائي   (450) (أخبار اليوم) 5 نوفمبر 1977م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 في مصر لتأكيد هذه المساواة وتربية المرأة المصرية على الخروج على عقلية الحريم تهدمه مثل هذه الأساليب في التربية والرعاية في المدن الجامعية للطلاب) (451) اهـ. لا.. لجيل " هدى شعراوي ": وجاء في مجلة أكتوبر عدد (22) : نشرت صحيفة " كريستيان مونتيور " بحثاً عن الإنجازات التي حققتها المرأة المصرية في ميادين العلم والدراسات الاجتماعية وقالت الصحيفة: (شيء غريب في مصر لقد كانت الأمهات من جيل " هدى شعراوي " أكثر تحرراً وتقدماً من بعض الفتيات في مصر الآن.. الفتيات المحجبات والمتشددات! ومعنى ذلك أن هدى شعراوي وجيلها كن أكثر تحرراً وتطوراً من فتيات اليوم بنات وحفيدات هدى شعراوي) اهـ. وهذه جريدة " الأهالي " الشيوعية تتابع الظاهرة في قلق وغيظ وتفرد لها بحثاً جاء في أثنائه على لسان " د / زينب رضوان " قولها: (انتشر الحجاب بين الطبقة المثقفة قبل العوام وهذا على عكس ما هو متعارف عليه ونفس هذه الطبقة المثقفة هي التي رفضت الحجاب في زمن " هدى شعراوي " وخلعته وداسته (452) وهي ذاتها التي عادت تنادي به وبالعودة إلى الأصالة بالإضافة إلى أن الغالبية العظمى من المحجبات من الطبقة الوسطى وهي الطبقة التي تقود التغيير في أي مجتمع صحيح أنه انتشر أيضاً بين الطبقة الأرستقراطية ولكن بنسبة أقل) (453) اهـ. وهذه (أمينة السعيد) تصف الحجاب بأنه ثياب ممجوجة وتقول وقد ملأتها الحسرة: (فتيات يخرجن إلى الشارع والجامعات بملابس قبيحة المنظر يزعمن أنها زي   (451) (صباح الخير) 16 يناير 1975 م. (452) أقول: بل وأحرقته بأن سكبت عليه البترول وأشعلت فيه النار وذلك في ميدان الإسماعيلية (التحرير فيما بعد) - انظر " واقعنا المعاصر " للأستاذ " محمد قطب " ص (258) . (453) (الأهالي) تاريخ 5 / 10 / 1983 الصفحة الثالثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 إسلامي لم أجد ما يعطيني مبرراً منطقياً معقولاً لالتجاء فتيات على قدر مذكور من التعليم إلى لف أجسادهن من الرأس إلى القدمين بزي هو والكفن سواء) (454) . عاد الحجاب: وكتبت " منى رمضان " في (أكتوبر) : (عاد الحجاب مرة أخرى كظاهرة على وجوه الفتيات والسيدات في مصر وهذه ليست آخر صيحة في عالم الموضة كما قد يتبادر إلى الذهن ولكنه نوع من الحشمة و " إحياء " التقاليد الإسلامية التي تطلب من النساء أن " يدنين عليهن من جلابيبهن " والحشمة هنا نابعة من داخل المرأة وعلى أساسها فصلت هذه الثياب) اهـ. سلفيات.. لا مرتدات: حقاً إنهم حائرون.. وهذا فيلسوفهم الهرم " زكي نجيب محمود " يتباكى على تبرج الجاهلية الذي انقشع أمام الصحوة الإسلامية فيقول: (أصابت المرأة المصرية في أيامنا هذه نكسة ارتدت بها إلى ما قبل.. هناك اليوم عشرات الألوف من النساء المرتدات ينزلقن تطوعاً إلى هوة الماضي.. والمأساة أن المرأة اليوم تتبرع سلفاً بحجاب نفسها قبل أن يأمرها بالحجاب والد أو زوج. إن أبشع جوانب هذه الردة في حياة المرأة المصرية ليس أن أحداً يتدخل في شئون حياتها ليس هو أنها تريد أن تتعلم إلى آخر المدى فيمنعها أحد لأن أحداً لا يمنعها من ذلك وليس هو أنها تريد أن تعمل بما تعلمته فيمنعها أحد لأن أحداً لا يقفل في وجهها أبواب العمل وإنما الجانب البشع من تلك الردة هو أن المرأة اليوم تريد أن   (454) (حواء) (18 نوفمبر 1972 م) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 تجعل من نفسها - وبمحض اختيارها - حريماً يتحجب وراء الجدران أو يتستر وراء حجب وبراقع) (455) . ثم يصف زمن السفور متحسراً عليه قائلاً: (ذلك زمن أوشك على الذهاب مع رائدات الجيل الماضي) ، ويستطرد قائلاً: (إن في طائفة كبيرة من نساء هذا الجيل وبناته نكوصاً على الأعقاب بالقياس إلى الطموح الذي تميزت به أمهاتهن في الجيل الماضي وأنها لمفارقة شديدة في أي مجتمع أن ترى الجيل الأصغر منه سلفياً بدرجة تزيد على الحد المألوف وترى الجيل الأكبر منه أقل سلفية.. وبينما الشباب الثائر في البلاد الأخرى كان يحتج على أوضاع الحياة الراهنة رأينا ثورة شبابنا تحتج هي الأخرى على أوضاع الحياة الراهنة وتدعو إلى العودة بها إلى نموذج السلف) (456) . وفي فرنسا أيضاً قلقون: فقد كان أول سؤال وجهته الصحافية الفرنسية " كاتي برين " إلى " سيدة مصر الأولى والأخيرة ": (انتشرت عادة الحجاب بين الفتيات في مصر فما رأي السيدة " جيهان " في هذه الظاهرة؟) فتجيب - وكأنه أسقط في يدها أمام قوة انتشار هذه الظاهرة: (في نظري أن المسئولية تقع على عاتق أساتذة الجامعات فهم سبب في انتشار تلك الظاهرة فإذا قام أستاذ واحد بطرد فتاة واحدة من محاضراته مرة واثنتين فسوف تقلع الفتيات عن ارتداء الحجاب ... ) اهـ.   (455) (الأهرام) (9/ 4 / 84) ص (13) . (456) (الأهرام) (7 / 5 / 84) ص (13) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 أمريكا وإسرائيل تحذران الغرب: " الإسلام قادم ونحن على خطر عظيم ": في مقال عن قلق أمريكا وإسرائيل من الصحوة الإسلامية كتبت صحيفة " فورتشن " تقول: (إنه حتى في الجامعات العبرية في إسرائيل بدأ الطلاب العرب المسلمون يبدون اهتماماً متزايداً بالعودة إلى دينهم وبدءوا يمارسون ضغوطاً على السلطات اليهودية للسماح بفتح كليات للثقافة الإسلامية والشريعة الإسلامية في الجامعات اليهودية كما بدأ العديد منهم يطلقون لحاهم ويؤدون العبادات الإسلامية في الجامعات اليهودية في حين بدأت الفتيات المسلمات في ارتداء الزي الإسلامي الشرعي) (457) . " عسى أن يكون قريباً " وفي مقال آخر تقول الصحيفة نفسها: (إن الاتجاه الديني في مصر يرسخ أقدامه يوماً بعد يوم فالشباب المصري مفتون بالصحوة الإسلامية الثورية كما أن الفتيات المصريات يبدين اهتماماً متزايداً بالإسلام وفي جامعة القاهرة يزيد عدد الطالبات الملتزمات بالزي الشرعي وقد يأتي يوم لا تبقى فيه طالبة مصرية واحدة إلا وقد ارتدت الزي الشرعي الإسلامي) (458) اهـ. المعركة مستمرة: أعداء الحق في كل عصر على وتيرة واحدة وقلوبهم متشابهة فيما يرد عليها من الخواطر والشئون وعلى المسلمة الصادقة أن توقن أن المعركة بين الحجاب والسفور بين الحق والباطل بين الإيمان والكفر لا تنقطع فإن التاريخ يعيد نفسه وإن هذه سنة الله في خلقه {ولن تجد لسنة الله تحويلاً} فاطر (43) . ألا إنما الأيام أبناء واحد وهذي الليالي كلها أخوات فلا تبطلن من عند يوم ولا غد خلاف الذي مرت به السنوات   (457) نقلاً عن صحيفة " القبس " الكويتية عدد (30 / 6 / 86) . (458) المصدر السابق عدد (8 / 7 / 1979) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 قال تعالى: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير} (459) التوبة (73) . وعن كعب بن مالك مرفوعاً: " اهجوا بالشعر إن المؤمن يجاهد بنفسه وماله والذي نفس محمد بيده كأنما تنضحوهم بالنبل " (460) فيا كتائب الحق في كل مكان: جردوا أسنة العزائم والرد واستعينوا على رد الباطل بالواحد الفرد اكشفوا ما في مناهجهم من المؤاخذات وبينوا ما فيها من الخطأ والغلطات ليظهر جهل أعداء الحق وفساد أقوالهم للناظرين ولا عدوان إلا على الظالمين.. فتالله ما بارز جنود الحق قط قرن إلا كسروا قرنه فقرع من ندم سنه ولا ناحرهم خصم إلا بشروه بسوء منقلبه وسدوا عليه طريق مذهبه لمهربه. فاللهم من أراد الإسلام وأهله بسوء فاردد عليه دائرة السوء ورد كيده في نحره واجعل تدبيره في تدميره - اللهم اغفر لجامعه ولوالديه و {ارحمهما كما ربياني صغيراً} ولإخوانه في الله ولمن نظر فيه فدعا له بالعفو والعافية في الدنيا والآخرة ولجميع المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إنك مجيب الدعوات وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين. تم بحمد الله القسم التاريخي من " عودة الحجاب " ويليه بإذن الله القسم الخاص بمكانة المرأة وموضوعه: المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية الإسكندرية في السبت 12 من ربيع الثاني 1404 هـ الموافق 17 من ديسمبر 1983 م   (459) قال الزمخشري في تفسير هذه الآية: (جاهد الكفار) بالسيف (والمنافقين) بالحجة (واغلظ عليهم) في الجهادين جميعاً ولا تحابهم وكل من وقف منه على فساد في العقيدة فهذا الحكم ثابت فيه يجاهد بالحجة وتستعمل معه الغلظة ما أمكن) اهـ من الكشاف (1 / 516) . (460) رواه الإمام احمد في مسنده وحسنه الألباني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية تأليف محمد بن احمد إسماعيل المقدم عفا الله عنه دار ابن الجوزي القاهرة الجزء: 2 بسم الله الرحمن الرحيم حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1426 هـ/2005 م رقم الإيداع: 8713/2005 دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع جمهورية مصر العربية 22 درب الأتراك خلف الجامع الأزهر القاهرة ت: 002025143141 تليفاكس: 002025111750 الجزء: 2 أنت نصف الأمة. . ثم إنك. . تلدين لنا النصف الآخر. . فأنت أمة بأسرها. . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 مقدمة الطبعة الخامسة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على فضله ونعمائه، والصلاة والسلام على خير أصفيائه، وعلى آله وصحبه وأوليائه، وبعد: فهذه هي الطبعة الخامسة من "المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية" وقد أضيف إليها زيادات وتحقيقات نافعة إن شاء الله. وهذا الكتاب كان قد أدرِجَ ضمن مجموعة "عودة الحجاب" مع أن تعلقه به غير مباشر، وربما كان الدافع إلى ذلك درء ما يدعيه أعداء الإسلام وأدعياؤه من أن الحجاب بمعناه الشرعي الشامل يشل حركتها، ويعوق رسالتها، وهذا الزعم مبني على افتراض أن المرأة داخل بيتها خلية فارغة، وهذه الدراسة مما يؤكد بطلان هذه النظرة، ومناقضتها للحقيقة، فهي تبين للمنصف أن للمرأة في بيتها وظيفة مقدسة، ورسالة سامية، تجعل من هذا البيت قلعة من قلاع العقيدة، وحصنا من حصون الإسلام، وتبين أيضا مدى الجرم الذي ترتكبه الأمهات والزوجات "الهاربات" من ساحة "جهادهن المقدس" الذي هو "حسن التبعل" و "صناعة الأبطال" و "إعداد أمهات المستقبل". إن جوانب عظمة الإسلام لا حصر لها، وإذا ما جئته من أي النواحي متأمِّلا ما فيه من الحكمة والإبداع لازددت يقينَا بأن هذا دين الله عز وجل، ولا يمكن أن يكون غير ذلك، وهذا الكتاب محاولة لتوكيد هذه الحقيقة من خلال الأحكام التشريعية، ومن خلال النماذج التطبيقية الواقعية التي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 أثمرتها التربية الربانية لخير أمة أخرجت للناس. والله تبارك وتعالى هو المسئول المرجو الإجابة أن يتقبله بقبول حسن، وأن ينفع به النفع العميم، في الدنيا ويوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. الإسكندرية في الأحد 9/4/1411 هـ 28/10/1990 م الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 بسم الله الرحمن الرحيم * الباب الأول * تمهيد الحمد لله مستحق الحمد وأهلِه، ومبين الهدى بإيضاح سبله، أحمده حمدًا دائمًا بلا فترة، وأشكره على نعمه التي لا تحصى كثرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً أدخرها نجاة من عذاب الحفرة، وسلاماً من العدو في العسرة واليسرة. أحمده على نعماه، وأصلي على عبده ورسوله محمد الذي اختاره واجتباه، وأحبه وارتضاه، وعظَّمه وكرمه، ورفعه على من سواه.. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبع هداه. لا يخفى على أي مؤمن صادق ما آل إليه أمر الإسلام وحال المسلمين في زماننا هذا من الغربة، فالموافق المتابع فيه على وصفه الأول قليل، والمخالف هو الكثير، وقد اندرست رسوم كثير من الشرائع أو كادت، حتى مدت الفتن أعناقها، واستطار شررها، وعم ضررها، والتبست الأمور على الجمهور، فظهر مصداق قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يدرس الإسلام كما يدرس وَشْيُ الثوب، حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة (*) الحديث، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ،   (*) قطعة من حديث رواه ابن ماجه (4049) والحاكم في " المستدرك" (4/473) ، وقال: "صحيح على شرط مسلم،، وزاد في "الجامع الصغير، عزوه إلى البيهقي في "الشعب"، والضياء عن حذيفة - رضي الله عنه -، قال السندي: " وفي الزوائد: = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 فطوبى للغرباء" (1) . وفي رواية: " قيل: ومن الغرباء؟ قال: الذين يصلحون عند فساد الناس" (2) . وفي رواية للإمام أحمد: "الذين يصلحون إذا فسد الناس" (3) . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " طوبى للغرباء، قالوا: يا رسول الله من هم؟ قال: أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصهم أكثر ممن يطيعهم" (4) ، وفي رواية:   = إسناده صحيح، ورجاله ثقات" اهـ. من حاشيته على سنن ابن ماجه (2/498) ، و "درس الرسم دروسًا إذا عفا وهلك، و"درس الثوب درسا، إذا صار عتيقا، ويؤيد الثاني قوله " وشي الثوب" أي نقشه. (1) رواه مسلم رقم (145) في الإيمان: باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، " وطوبى": (فُعْلَى من الطيب: أي فرحة، وقرة عين، أو سرور وغبطة، أو الجنة، أو شجرة في الجنة) اهـ. من " فيض القدير" (2/321) . (2) أخرجه من حديث عبد الرحمن بن سنة رضي الله عنه عبد الله بن أحمد في زوائده، (4/73-74) ، وذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد" وقال: (رواه عبد الله، والطبراني، وفيه إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وهو متروك) اهـ. (7/278) ، وله شواهد عن عدة من الصحابة رضي الله عنهم، انظر: "الغرباء" للآجري تحقيق بدر البدر ص (15-26) . (3) أخرجه الإمام أحمد (3/71) ، وابن جرير (13/149) ، وابن حبان (2625- موارد) ، والخطيب في "تاريخه" (4 لم 91) ، والآجري في الغرباء! ص (16) وفيه ضعف، ورواه من طريق أخرى الترمذي (2/104) ، وقال: "حسن صحيح"، وانظر: "السلسلة الصحيحة" رقم (1273) . (4) أخرجه الإمام أحمد (2/177، 222) ، وابن المبارك في " الزهد" (775) ، والآجري في " الغرباء، ص (23) ، وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد": (وفيه ابن لهيعة، وفيه ضعف) اهـ. (7 /278) ورواه الطبراني بأسانيد قال الهيثمي: (رجال أحدها = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 "من يُبْغِضُهم أكثر ممن يحبهم". وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي على الناس زمان، الصابر فيه على دينه، كالقابض على الجمر" (5) . قال المناوي رحمه الله: "شبه المعقول بالمحسوس، أي الصابر على أحكام الكتاب والسنة يقاسي بما يناله من الشدة والمشقة من أهل البدع والضلال مثلَ ما يقاسيه من يأخذ النار بيده، ويقبض عليها، بل ربما كان أشد، وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم، فإنه إخبار عن غيب، وقد وقع (6) . وقال المباركفوري رحمه الله: (قال الطيبي: (المعنى: كا لا يقدر القابض على الجمر أن يصبر لإحراق يده، كذلك المتدين يومئذ لا يقدر على ثباته على دينه، لغلبة العصاة والمعاصي وانتشار الفسق وضعف الإيمان" انتهى، وقال القاري: (الظاهر أن معنى الحديث: كما لا يمكن القبض على الجمر إلا بصبر شديد وتحمل غلبة المشقة، كذلك في ذلك الزمان لا يُتَصَورُ حفظُ دينهِ ونورِ إيمانه إلا بصبر عظيم" انتهى) (7) اهـ. وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من ورائكم زمانَ صبر، للمتمسك فيه أجْرُ خمسين شهيدا منكم" (8) .   = رجال الصحيح) اهـ، وانظر: "فيض القدير" (4/274) . (5) رواه الترمذي رقم (2261) (2/42) في (الفتن،: باب رقم (73) ، وفي سنده عمر بن شاكر البصري، وهو ضعيف كما في "التقريب" (2/57) ، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه،، ورمز له السيوطي بالحسن، وصححه الألباني بشواهده كما في " السلسلة الصحيحة" رقم (957) ، وانظر: تحقيق "جامع الأصول" (10/5) ، و "الغرباء" للآجري ص (26) . (6) "فيض القدير" (2/456) . (7) "تحفة الأحوذي" (6/539) . (8) (أخرجه الطبراني في " المعجم الكبير" (1/76/3) ، وإسناده صحيح، رجاله = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 ويروَى عن أبي أمامة الشعباني قال: سألت أبا ثعلبة الخشَني رضي الله عنه قال: قلت: (يا أبا ثعلبة، كيف تقول في هذه الآية: (عليكم أنفسَكم) ؟ (المائدة 105) ، قال: أما والله لقد سألتَ عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ائتمروا بالمعروف، وانتهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتم شحًّا مطاعًا، وهوى متبعا ودُنيا مُؤثَرة، وإعجابَ كل ذى رأي برأيه، فعليك بنفسك، ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أيامَ الصبرِ، الصبر فيهن كالقبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم") (9) ، زاد أبو داود في حديثه: "قيل: يا رسول الله، أجر خمسين رجلًا منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين رجلًا منكم". وعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " العبادة في الهَرج كهجرة إليَّ" (10) ، قوله: "العبادة في الهرج" أي الفتنة واختلاط أمور الناس، "كهجرة إليَّ" قال النووي رحمه الله: "وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها، ويشتغلون عنها، ولا يتفرغ لها إلا الأفراد" (11) اهـ.   = كلهم ثقات رجال مسلم) اهـ من "السلسلة الصحيحة" رقم (494) . (9) أخرجه الترمذي رقم (3060) في التفسير: باب: (ومن سورة المائدة) ، وقال: (حسن غريب) ، وأبو داود رقم (4341) في الملاحم: باب الأمر والنهى، وابن ماجه رقم (4014) في "الفتن": باب قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) ، وابن حبان (1850- موارد) ، (وفيه عتبة بن أبي حكيم الهمداني الشامي، وثقه غير واحد، وتكلم فيه غير واحد، كذا في " تخريج السنن" (6/189) ، وانظر: "مجمع الزوائد" (7/282) . (10) أخرجه مسلم رقم (2948) في الفتن: باب فضل العبادة في الهرج، والترمذي رقم (2202) في الفتن: باب ما جاء في الهرج والعبادة فيه. (11) "شرح النووي لصحيح مسلم" (18/88) ، وانظر (تحفة الأحوذي) (6/443-445) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وجاء تفسير أيام الهرج فيما أخرجه أحمد والطبراني بسند حسن من حديث خالد بن الوليد أن رجلا قال له: يا أبا سليمان! اتق الله، فإن الفتن ظهرت، فقال: أما وابن الخطاب حيٌّ فلا، إنما تكون بعده، فينظر الرجل فيفكر هل يجد مكانا لم ينزل به مثل ما نزل بمكانه الذي هو به من الفتنة والشر فلا يجد، فتلك الأيام التي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الساعة أيام الهرج) (12) اهـ، وقال المناوي رحمه الله: ("كهجرة إليَّ " في كثرة الثواب، أو يقال: المهاجر في الأول كان قليلا لعدم تمكن أكثر الناس من ذلك، فهكذا العابد في الهرج قليل، قال ابن العرفط: وجه تمثيله بالهجرة أن الزمن الأول كان الناس يفرون فيه من دار الكفر وأهله إلى دار الإيمان وأهله، فإذا وقعت الفتن تعيَّن على المرء أن يفر بدينه من الفتنة إلى العبادة، ويهجر أولئك القوم وتلك الحالة، وهو أحد أقسام الهجرة) (13) اهـ.   (12) "فتح الباري" (13/15) . (13) "فيض القدير" (4/373) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 [فصل] المرأة سلاح ذو حدين أخذت الأرض زخرفها وازينت.. وظن أهلها أنهم قادرون عليها، وانصرف الناس عن دينهم إليها، وانقاد السواد الأعظم لغرورها، وافتتنوا بحضارة الغرب وزخارف الشرق، وصادف هذا كله غفلة دعاة الحق، وكتمان البعض- الا من رَحِمَ الله- ما أنزل الله من البينات والهدى، لكن أعداء الإسلام لم يغفلوا عنا، فحملوا بخيلهم ورجلهم، وجردوا الحملات المسلحة بسهام الشهوات وسموم الشبهات لتعيث في قلوب المسلمين فسادًا، وتجوس خلال ديارهم، لتسلخهم من دينهم الحق الذي ارتضى الله لهم ... وقد كان هؤلاء الأعداء خبثا ماكرين، في حربهم، إذ تفرسوا في أسباب قوة المسلمين وحدَّدوها، ثم اجتهدوا في توهينها وتحطيمها بكل ما أوتوا من مكر ودهاء.. علموا أن المرأة من أعظم أسباب القوة في المجتمع الإسلامي، وهم يعلمون أيضا أنها سلاح ذو حدين، وأنها قابلة لأن تكون أخطر أسلحة الفتنة والتدمير، ومن هنا كان النصيب أكبر من حجم المؤامرات التي بدأت بإسقاط الخلافة، وانتهت - حتى الآن - بأعلام تحمل "نجمة داود" ترفرف في عواصم إسلامية (14) .   (14) وهل أتاك نبأ ما وقع في عهد السلطان العثماني "عبد المجيد" الذي أمر بتعمير القدس سنة 1865م و (كان الوالي المعين من قبله على المدينة- أي القدس- واسمه = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 15 قال محمد طلعت حرب في كتابه "تربية المرأة والحجاب": (إنه لم يبق حائل يحول دون هدم المجتمع الإسلامي في الشرق - لا في مصر وحدها - إلا أن يطرأ على المرأة المسلمة التحويل. . بل الفساد الذي عم الرجال في الشرق) (15) اهـ. إن المرأة تملك مجموعة من المواهب الضخمة الجديرة بأن تبني أمة، وأن تهدم أمة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" (16) . وعن أسامة بن زيد وسعيد بن زيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما تركت بعدي في الناس فتنة أضر على الرجال من النساء" (17) . وروى أبو نعيم في "الحلية" بسنده عن حسان بن عطية قال: "ما أتيت   = "كامل باشا" قد أجاز أن ترفع بعض الدول الأجنبية أعلامها على قنصلياتها فيها، لأنها كانت قد حاربت في جانب تركيا ضد روسيا القيصرية، فثار الأهالي ضده وأجبروه على العدول عن هذا القرار فطويت الأعلام الأجنبية في "القدس" في الحال!) اهـ من "اليهود المغضوب عليهم"، ص (182) . (15) نقلا من "الحركات النسائية في الشرق" ص (11) . (16) رواه مسلم رقم (2742) في الذكر باب أكثر أهل الجنة الفقراء، والترمذي رقم (2192) في جملة حديث طويل في الفتن: باب ما جاء ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة، وابن ماجه (4000) في الفتن: باب فتنة النساء، وانظر: "شرح النووي" (17/55) . (17) رواه البخاري (9/118) في النكاح: باب ما يتقى من شؤم المرأة، ومسلم رقم (2740) في الذكر والدعاء: باب أكثر أهل الجنة الفقراء، والترمذي في الأدب رقم (2780) : باب ما جاء في التحذير من فتنة النساء، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وانظر: " فتح الباري ط. السلفية (9/138) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 16 أمة قط إلا من قبل نسائهم " (18) . وقد كان للمرأة المسلمة دور رائع في بناء الصرح الإسلامي نفرده بالبسط في فصول مقبلة إن شاء الله، وقد انتفعت الأمة بهذا الحد النافع من سلاح المرأة في قرونها الخيرية، ثم لم تلبث الحال أن تدهورت شيئا فشيئا وجرحت الأمة بالحد المهلك من "سلاح المرأة" (19) وهل ننسى أن المعز الفاطمي - بعد أن فتح ما يلي إفريقية من البحر المحيط أخذ يرنو إلى غزو مصر واجما متهيبا حتى جاءته الأنباء متواترة عن "استهتار" نساء الإخشيد، فتحرك للعمل وأرسل قائده جوهرا لفتح مصر وقال: "اليوم فتحت مصر، الآن لا يصدنا عنها شيء"، فكان الأمر وفق ما قال (20) . وكذلك لا ننسى أن انحراف المرأة أو الانحراف بالمرأة كان السبب الأول في أن حضارات عتيقة انهارت وتمزقت كل ممزق ونزل بأهلها العقاب الإلهي، والأوجاع والأمراض الفتاكة كما وقع قديما لليونان والرومان والفرس والهنود وبابل وغيرها من الممالك (21) ، أما في عصرنا الحاضر فقد ذخر التاريخ الحديث بعبر وَمَثُلات تزيد يقين المؤمن بشؤم هاتيك المعاصي والشهوات التي غرق فيها الغربيون، وتبعهم عليها كثير من الأمم، الأمر الذي ينذر بسوء العاقبة، ويحق لنا معه أن نتساءل: (أليس حسبنا أن نرى - مثلا - حاملة لواء هذه الفوضى اللاأخلاقية "فرنسا" تركع أمام خصومها وتحت أقدام أعدائها مستسلمة في سرعة   (18) "حلية الأولياء" (6/76) . (19) انظر: "المرأة العربية في جاهليتها وإسلامها" الجزء الثالث. (20) "المرأة العربية" (3/63) ، و"تأملات في المرأة والمجتمع" لمحمد المجذوب (ص 79) . (21) انظر: الحجاب" للمودودي ص (8-36) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 17 عجيبة (22) ، حتى قال لهم قائد حربهم الماريشال "بيتان" يقرعهم، ويوبخهم: " زنوا خطاياكم بني قومي - إن خطاياكم ثقيلة، إنكم لم تريدوا أطفالا، وهجرتم حياة الأسرة، ونبذتم الفضيلة، وكل المثل الروحية، وانطلقتم إلى الشهوات تطلبونها في كل مكان، فانظروا إلى أي مصير قادتكم الشهوات؟ ") (23) . ويحق لنا أيضا أن نتعجب ونتساءل: (ألم يكن جديرا بهذا الغرب أن يلحظ العبرة في مصاير تلك الأمم التي سبقته إلى عبادة الجسد؟ . . ألم يسمع بمصير اليونان والرومان وهما أقرب السابقين إليه؟! وصح عن التابعي الجليل جبير بن نفير - رحمه الله - أنه قال: (لما فتحت قبرص فرق بين أهلها فبكى بعضهم إلى بعض، ورأيت أبا الدرداء رضي الله عنه جالسا وحده يبكي، فقلت: "يا أبا الدرداء! ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟! "، قال: "ويحك يا جبير! ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره، بينا هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر الله عز وجل فصاروا إلى ما ترى! ") (24) . عبرة من "بومبي": ولعمري إن في "بومبي" (25) وحدها ما يكفي لإيقاظ ضميره لو أن   (22) وكان ذلك عندما هزمت فرنسا أمام الألمان في الحرب العالمية الثانية. (23) "ماذا عن المرأة" للدكتور نور الدين عتر (ص 41) . (24) أخرجه الإمام أحمد في الزهد ص (142) ، وأبو نعيم في "الحلية" (1/216 - 217) (25) ("بومبي" - يطلق هذا الاسم على هضبة صغيرة قريبة من بركان "فيزوف" من = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 18 في ضميره بقية من حياة. لقد أخبرنا التاريخ بهلاك هذه البلدة في غمرة مفاجئة من حمم "فيزوف" طمستها في دقائق معدودة، ولكنه لم يعرفنا شيئا عن هذه المدينة سوى أنها بلد الفن الإيطالي حتى إذا شاء الله أن يكشف عبرتها، هدى الإنسان إلى إبرازها من تحت الركام، فإذا هناك عجب.. شعب بأكمله استحال إلى محنطات لم يبل منها شيء، ولم يتغير وضع، حتى الخباز لترى في يديه لوحا مستخرجا به الخبز.. وحتى السكارى ليمسكون بكؤوس الخمر على شفاههم ... وحتى الفاسقون في أشنع حالات الفحشاء. وكان من بالغ عبر بومبي ما يراه السائحون هناك فوق مداخل بعض القصور: رسوم موازين منحوتة في الصخر في إحدى كفتي الواحد منها أكداس من الجواهر، يقابلها في الأخرى "رمز اتخذوه للفاحشة"، راجحا على تلك الأكداس، إشارة إلى أن الشهوة عندهم هي غاية الحياة. إن مَثُلات القدر لم تنته من الأرض، فلئن هلك بعض الأمم الظالمة بالخسف أو النسف أو الجوع أو المسخ ... إن ذلك لمستمر لم ينقطع بعد ولن ينقطع (26) .. وإلا فما هذه الزلازل تقرع البشر هنا وهناك؟ ... وما هذه السيول تجرف المدن والقرى في الشرق والغرب؟ ... وما هذه الأمراض الفتاكة تجتاح الإنسان في كل مكان؟ وقد عجز العلم عن استئصالها، فما يكاد أن يستريح من غارة حتى يستأنف التعبئة لدفع غارة!   = مقاطعة نابولي، وهي في الأصل مدينة بلغ سكانها مائة ألف، وكانت المحلة التي يقضي فيها أغنياء الرومان أوقات الاستمتاع بملذاتهم وشهواتهم.. وقد غطيت بحمم "فيزوف" منذ سنة 79 بعد الميلاد، واستمرت محجوبة حتى سنة 1748م حيث عثر أحد الفلاحين على بعض آثارها، فبدأت الحفريات حتى أمكن إظهار أكثرها - عن لاروس) اهـ من "تأملات في المرأة والمجتمع" لمحمد المجذوب هامش (ص 74) ، وانظر: "جنود الرحمن" للأستاذ سعيد أحمد الأصبحي ص (20 - 25) . (26) انظر "فتح الباري" (2/184) ، (8/ 292 - 293) ، (10/56) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 أما المسخ فما أكثره في هذا العصر ... الذي مُسِخَ فيه معظم البشر آلاتٍ تحرك آلات.. فلا وفاء ولا حنان ولا عدالة ولا أمان ... فكأن الأرض كلها على فُوَّهة بركان! من "أوربة" تأتي الفتن: وليس الغرب وحده هو المسئول عن شيوع الفاحشة في قديم العالم وحديثه ... فكثير من الأم مشتركة في تبعة هذا الاتجاه الرهيب.. ولكنْ لا مراء أن الغرب مسئول إلى حدّ كبير عن انتصار الرذيلة، وامتداد ظلماتها على أنحاء العالم في عصرنا الراهن، وذلك بما سخر من علومه، ومواهبه للدعاية إلى هذه الفاحشة، وتزيينها في أعين المغفلين.. وبخاصة من هذا الشرق. ولعل سرور الغرب بنجاحه في إفساد أخلاقنا أعظم بكثير من سروره باستنزاف أموالنا في منتجاته الصناعية الكمالية وغيرها، كما يشهد بذلك المنصر الأمريكي "بيارد دودج" حين يقول في محاضرة له عن الإسلام: ".. ويلوح في أن هوليود قد أثرت في الجيل الحاضر من المسلمين أكثر من تأثير مدارسهم الدينية " (27) . ونحن العربَ- مع الخجل الكبير- لم نقصر في الترويج لهذه المفاسد قديما وحديثًا، ولكن الرذيلة هي الرذيلة سواء انتسبت إلى الشرق أو إلى الغرب، وعندما تهاجم النار دارا لا يسأل أهلها: " من أين جاءت؟ "، قبل أن يبذلوا وسعهم في إخمادها، ونحن عندما نشير إلى الغرب في كلامنا عن أخطار التحلل الأخلاقي المشهود، فلكي ندل على المنفذ الكبير الذي يجب إغلاقه لنتمكن من حصر الخطر، وقد كان لنا عبرة في ماضينا الوجيع   (27) "تأملات" للمجذوب، نقلًا عن "الإسلام في نظر الغرب" (ص 2) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 يوم أهمل الناس أمثال هذه المقاصد، فتركوها تستشري ثم تتجمع، فتتحول إلى سيول ما لبثت أن نسفت سدودنا، فأسلمت مواريثنا الضخمة في الشرق والغرب لقمة سائغة إلى متوحشة التتار، وإلى متعصبة الأسبان والصليبيين. وليس من الإخلاص لديننا وأمتنا أن ندع العابثين يبثون ألغامهم في "تحصيناتنا الأخلاقية" لِيُحَوِّلوا الملايين من أبنائنا وشبابنا إلى "عناصر هزيمة " تخدم أهداف أعدائنا في تقويض صرح الأمة، بتحطيم شبابها، وشحن أعصابهم بالمواد الناسفة. وقد أدرك أحفاد التتار والصليبيين والرومان أن من اكبر ما لقيه آباؤنا الأولون من العون في فتوحهم لفارس والروم - بعد الإيمان- إنما جاء من انحلال الأخلاق في هاتين الدولتين، فكان الدم الجديد ممثلًا في تلاميذ مدرسة النبوة، ينازل الدم الفاسد المهترئ، ممثلا في جنود الإمبراطوريتين، فلم يكن عجيبًا أن يقهر الإيمان الكفر، وأن تغلب القوة الضعف، وأن تهزم الصلابة الميوعة ... ثم لقد علم هؤلاء الموتورون أننا لم نخسر أمجادنا العظيمة إلا عندما فتحنا قلوبنا وعقولنا وبيوتنا لسموم هذه الأمم، تكتسح بميوعتها صلابتنا، وتذيب برذائلها رجولتنا، فكانت هزيمتنا يوم ذاك هزيمة الخلائق قبل أن تكون هزيمة المعارك) (28) . ومن هنا: كانت المخططات التي رسمها الأعداء ترمي إلى شل المرأة المسلمة عن وظيفتها البناءة سلبًا، ثم الزج بها إلى مواقع الفتنة وتدمير الأخلاق إيجابًا،   (28) "تأملات في المرأة والمجتمع" لمحمد المجذوب (ص 73-79) بتصرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 تحت ستار خداع من المصطلحات البراقة كالتحرير والتجديد والتقدم. وهذا أحد أقطاب المستعمرين يقول: "كأس وغانية تفعلان في تحطيم الأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع، فأغرِقوها في حب المادة والشهوات) . وقال أحد كبراء الماسونية: (يجب علينا أن نكسب المرأة، فأي يوم مدت إِلينا يدها فزْنا بالحرام، وتَبدَّد جيش المنتصرين للدين) . وجاء في " بروتوكولات حكماء صِهْيُون": (يجب أن نعمل لتنهار الأخلاق في كل مكان، فتسهل سيطرتنا، إن "فرويد" منا، وسيظل يعرض العلاقات الجنسية في ضوء الشمس لكي لا يبقى في نظر الشباب شيء مقدس، ويصبح همه الأكبر هو إرواء غريزته الجنسية، وعندئذ تنهار أخلاقه) (29) اهـ. وتقول المنصرة " آن ميليجان": (لقد استطعنا أن نجمح في صفوف كلية البنات في القاهرة بنات آباؤهن باشوات وبكوات، ولا يوجد مكان آخر يمكن أن يجتمع فيه مثل هذا العدد من البنات المسلمات تحت النفوذ المسيحي، وبالتالي ليس هنالك من طريق أقربَ إلى تقويض حصن الإسلام من هذه المدرسة) (30) اهـ. لقد عز عليهم أن تجود المرأة المسلمة على أمتها كما جادت من قبل بالعلماء العاملين والمجاهدين الصادقين، فصار همهم أن يعقموها أن تلد مثل عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي، وعائشة بنت الصديق، وسمية بنت خُبَّاط، وأسماء ذات النطاقين، والخنساء.   (29) " تربية الأولاد في الإسلام" لعبد الله ناصح علوان (1/ 286-287) . (30) "قادة الغرب يقولون" للأستاذ جلال العالم ص (83) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 لقد ظلت المرأة المسلمة طيلة القرون الخالية مصونة متربعة على عرشها قارةً داخل مصنع رهبان الليل، وفرسان النهار"، تهز المهد بيمينها، وتزلزل عروش الكفر بشمالها، فراح أعداؤها الموتورون يحيكون المؤامرة تلو المؤامرة، وينصبون لها الشباك، ويحتالون بشتى الحيل، إلى أن تم لهم - في زمن قياسي - ما أرادوا، ولم يرفعوا أيديهم عن أمتنا، ويسحبوا جيوشهم من بلادنا إلا وقد اطمأنوا أنهم خلفوا وراءهم جيشًا أمينا على مآربهم، حفيظًا لعهودهم، ممثلًا في قادة الفكر والأدب و "الفن" من المغررين المبددين الذين أطلق عليهم - زورا - المحررين المجددين، فتراهم يستخفون تحت العمائم، وتارة يلبسون مسوح العلماء والناسكين، وتارة يسفرون عن وجوههم الحقيقية ليجهروا بالعداوة والبطش بالذين يأمرون بالقسط من الناس، وهم أنفسهم الذين ادَّعَوْا يوما أنهم حماة الدين، ورافعو لواء العلم، ودعاة الإيمان. أرى الإيمان دعوى يعجب الناسَ حسنها ... ويخدعُهم عنها الحديث الملفق أكاذيب يزجيها الفتى وهو عالم ... إذا ما ادعاها أنه ليس يصدق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 [فصل] القضية الأم القرآن والسلطان اعلم أن الشريعة أصل، والملك حارس، وما لا أصل له ... فمهدوم، وما لا حارس له ... فضائع. الأمام أبو حامد الغزالي إن الإسلام كل لا يتجزأ، وليست مظاهر الانحراف عن هذا الدين في معظم المجالات إلا نتيجة ضياع "السلطان" الذي جاء فيه عن عثمان بن عفان رضي عنه قوله: "ما يزعُ الناسَ السلطانُ أكثرُ مما يزعهم القرآن " (31) . ونظًرا لما يمنحه الإسلام للسلطان من صلاحيات يحرس بها الدين، ويذود عن حماه، ويسوس الدنيا بالدين، فيؤتمن على مصاير البلاد، ومصالح العباد، فطن أعداء الإسلام أيضًا لهذا المصدر العظيم من مصادر قوة الأمة، فحرصوا على نقض هذه العروة الوثقى من عرى الإسلام، وقد تم لهم ما أرادوا حين أفلحوا في الإجهاز على آخر شكل صوري للخلافة العثمانية، فتحقق مصداق قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: " لتنْقَضَن عُرَى الإسلام   (31) رواه عنه يحيى بن سعيد وأخرجه رزين، وإسناده منقطع، وهو مشهور من كلام عثمان رضي الله عنه " جامع الأصول" (4/83-84) ، وَزَعَ يزعُ: إذا كف، وردع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 عُرْوَة عروةً، فكلما انتقضت عروة تشبث الناسُ بالتي تليها، فأوَّلهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة" (32) فكان سقوط الخلافة أول دركة انحطت بعدها الأمة إلى ما يليها من دركات سلخهَا من خصائصها المتميزة التي طالما احتفظ بها المسلمون رغم تقلبات القرون والمحن، تلك الخصائص التي أورثتهم عبر الأجيال عزة ومنعة أذلوا بها رؤوس الجبابرة، وكسروا ظهور الأكاسرة، وقصموا رقاب القياصرة.. وهذا شوقي يصرخ عقب انهيار الخلافة متوقعا ما يمكن أن تتمخض عنه تلك الفتنة (33) : فَلَتَسمَعُن بكلِّ أرض داعيًا ... يدعو إلى "الكذاب" أو لِسَجَاحِ (34) وَلَيُشْهَدَنَّ بكل أرض فِتْنةٌ ... فيها يبَاعُ الدينُ بيع سَمَاحِ ورحم الله الإمام عبد الله بن المبارك إذ قال: (35) إن الجماعة حبل الله فاعتصموا ... منه بعروته الوثقى لمن دانا كم يدفع الله بالسلطان معضلة ... في ديننا رحمة منه ودنيانا لولا الخلافة لم تأمن لنا سبل ... وكان أضعفنا نهبًا لأقوانا   (32) أخرجه من حديث أبي أمامة رضي الله عنه الإمام أحمد (5/251) ، وابن حبان (257- موارد) ، والحاكم (4/92) وقال: "صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، وصححه الألباني في "صحيح الجامع الصغير" (5/15) ، رقم (4951) . (33) "الشوقيات (1/ 109) . (34) المراد بالكذاب "مسيلمة" الذي ادعى النبوة، وادعى أنه أشْرِكَ مع النبي صلى الله عليه وسلم في النبوة، ثم جاء بقرآن يضحك الناس، وتزوج "سجاح" التي ادعت هي الأخرى النبوة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا لمسيلمة حين تزوجها: لابد لها من مهر، فقال: مهرها أني أسقطت عنكم صلاتي الفجر والعتمة، ثم إنها رجعت عن غيها وأسلمت، وما زالت تبين فضائح مسيلمة حتى قتل - انظر "صيد الخاطر" لابن الجوزي (ص 501-503) ، "البداية والنهاية" (5/ 51، 52) ، (6/326) . (35) "غذاء الألباب" للسفاريني (1/198) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 لقد غدت عودة الحكم الإسلامي والسلطان المسلم أملًا يراود المسلمين في شتى بقاع الأرض، وتوحدت عليه قلوبهم، ولكنهم اختلفوا أيما اختلاف في كيفية هذه العودة المرتقبة، التي وعد الله عز وجل بها في قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسولَه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) (36) ، ووعد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث" (37) . ومع تباين السبل المقترحة للوصول إلى هذا الهدف واختلاف أصحابها إِلا أنه يكاد يتفق الجميع على أن الخطوة الأولى هي أن نصلح أنفسنا فإن الهداية فرع الاهتداء، والإصلاح فرع الصلاح، "ولا يستقيم الظل والعود أعوج"، فمن هنا كان لزامًا علينا أن نصحح فهمنا للإسلام الذي نجاهد لتمكينه، والذي تأثر كثيرا بحملات الغزو الفكري في كثير من المجالات، ثم نلتزم بما يمليه علينا هذا التصحيح. ومن هذه المجالات الخطيرة وضع المرأة ... إنها قضية لا تحتمل التأجيل إلى ما بعد تحقيق الأمل المنشود بإذن الله سبحانه وتعالى، لسبب رئيسي ألا وهو أن قيام الدولة الإسلامية وبعث الأمة المسلمة منوطان بوضع المرأة المسلمة في كثير من الجوانب. . . فالمرأة هي أم المجاهدين، وبنت المجاهدين، وزوج المجاهدين، وأخت المجاهدين، وبدون "المرأة المسلمة" و "البيت المسلم" لا يمكن أن تقوم "الدولة المسلمة"، وعودة الإسلام لن تكون إلا على أيدي وأكتاف أولي عزم يقيمون الإسلام في أنفسهم وبيوتهم، ويحكمون بما أنزل الله في خاصة أنفسهم وأهليهم أولًا، حتى يستحقوا تنزل النصر عليهم، وحتى يأمنوا أن   (36) التوبة (33) . (37) انظر تفسير "محاسن التأويل" للقاسمي (8/3129-3132) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 يخذلهم الله في مواطن اللقاء مع الأعداء (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (الرعد: 11) . ونحن - المسلمين - مكلفون بتطبيق "ما أنزل الله" متعلقا بنظم الحياة الإسلامية الشاملة في مجتمعاتنا، فإذا تنَحلْنا المعاذير لتقصيرنا في هذه الفريضة، فماذا عسى أن يكون عذرنا إذا لم نحكم "بما أنزل الله" في بيوتنا؟ وماذا يكون عذرنا ونحن قادرون بعون الله على أن نستقي فهمنا للإسلام، ولقضية المرأة - على وجه الخصوص - من منابع الإسلام الصافية؟ إنه لا يسوغ لنا، ولا يليق بنا أن نتلفت حيارى بحثًا عن الطريق، وبين أيدينا المعين الذي لا ينضب في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فنكون: كالعِيس (38) في البيداء يقتلها الظَّما ... والماء فوق ظهورها محمولُ   (38) العيس: بكسر العين: الإبل البيض يخالط بياضها شُقْرة - من " القاموس المحيط" (2/242) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 [فصل] بين الترقيع ... والأصالة إن "الترقيع" و "التقليد" مرفوضان في طريق الإصلاح الإسلامي، فوضع المرأة الحالي الذي يحاول أن يسَوغَهُ بعضُ المنهزمين بنصوص إسلامية، إنما هو "ترقيع" في أحكام الإسلام التي لا تحتاج إلى عملية "تجميل" ليقبل عليها الناس، لأن هذه الأحكام الربانية السامية تحمل في طياتها جاذبية كامنة تهوى إليها أفئدة المؤمنين والمؤمنات الذين رَضوْا بالله ربُّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولًا. إن تقليد أغلب المسلمين والمسلمات لغيرهم إنما هو أمارة الانهزام الداخلي الذي ينعكس في هذه التبعية العمياء التي أودت بأصالتهم، وأفقدتهم " العزة الإسلامية"، وجعلتهم يهونون على ربهم، ويهونون على أنفسهم. " ويل للمغلوب من الغالب": ولله دَر العلامة ابن خلدون رحمه الله إذ عقد فصلًا خاصا في "مقدمته" (39) جعله بعنوان: "المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده"، وبين فيه أن الذي يقلد غيره إنما هو الضعيف والناقص والمغلوب والجاهل، فقال:   (39) "مقدمة ابن خلدون"، الفصل الثالث والعشرون (ص 147) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 " ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبدًا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله، وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائما، وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمالَ فيهم، حتى إنه إذا كانت أمة تجاور أخرى، ولها الغلب عليها، فيسرى إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير، كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة أي (الأسبان) ، فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحْوالهم حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت، حتى لقد يَسْتَشْعِر من ذلك الناظرُ بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء، فالأمر لله" اهـ. وصدق ابن خلدون رحمه الله، فلقد توقع استيلاء الإفرنج على الأندلس الإسلامية، وخروج المسلمين منها قبل أن يقع ذلك بنحو مئتي سنة، ولم يكن له دليل على ذلك إِلا مشاهدته تشبه المسلمين بالأعداء في ملابسهم وشاراتهم وعاداتهم وأحوالهم. إن الاعتزاز بالإسلام، والفخر بأحكامه الإلهية، والاستعلاء بها على كل ما خالفها من نظم ومناهج، هو مفتاح عودتنا إلى الإسلام، وعودة الإسلام إلى حياتنا. "الإسلام يَعلُو، ولَا يُعلى" (40) : وتأمل مَعي هذه القصة التي رواها الحاكم من طريق ابن شهاب قال:   (40) أخرجه الدارقطني في " سننه" (395) ، والبيهقي (6/205) ، عن حشرج بن عبد الله بن حشرج حدثني أبي عن جدي عن عائذ بن عمرو المزني أنه جاء يوم الفتح مع أبي سفيان بن حرب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حوله أصحابه، فقالوا: "هذا أبو سفيان، وعائذ بن عمرو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا عائذ بن عمرو، وأبو سفيان، الإسلام أعز من ذلك، الإسلام يعلو، ولا يعلَى"، وحسنه الحافظ في "الفتح" (3/220) ط. السلفية، وقال: (وفي هذه القصة أن للمبدأ به في الذكر تأثيرًا في الفضل، لما يفيده من الاهتمام) اهـ، وقد أراد صلى الله عليه وسلم هنا أن يعلمهم البداءة بذكر المسلم، وانظر: "إرواء الغليل" (5/106 - 109) ، "جامع الأصول" (9/ 604) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 أخرج عمر بن الخطاب إلى الشام، ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فأتوا على مخاضة، وعمر على ناقة، فنزل عنها، وخلع خفيه، فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، أأنت تفعل هذا؟! تخلع نعليك، وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخاضة؟ ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك! فقال عمر: أوَّه لو يقل ذا غيرُك أبا عبيدة جعلتهُ نكالًا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، إنا كنا أذلَّ قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله" (41) ، وفي رواية: (يا أمير المؤمنين، تلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على حالك هذه؟ فقال عمر: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فلن نبتغي العز بغيره) . وهذا ربعي بن عامر يرسله سعد رضي الله عنه قبل القادسية رسولا إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي الحرير، وأظهر اليواقيت واللآلي الثمينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب صفيقة وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه، فقالوا له: ضع سلاحك، فقال: إني لم آتكم وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت، فقال رستم: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها، فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال: (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى   (41) رواه الحاكم (1/61-62) ، وقال: "صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي، قال الألباني- حفظه الله -: "وهو كما قالا" اهـ. من "الصحيحة" رقم (51) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام) (42) . (وحينما كانت البعثات الطلابية النصرانية تفد إلى ديار الإسلام وحواضره لتلقي العلم رغما عن رجال الكنيسة كان ذوو هؤلاء الطلاب ورجال الكنائس التي يتبعونها يبذلون كل جهدهم لوضع حواجز نفسية في نفوس هؤلاء الطلاب وعقولهم تحول دون تأثرهم بالفكر الإسلامي وبحياة المسلمين، ولقد بلغ من حرص الكنيسة على هذا أنها أصدرت قرارَا كنسيا تقول فيه: " إن هؤلاء الشبان الرقعاء الذين ييدأون كلامهم بلغات بلادهم، ثم يكملون كلامهم باللغة العربية لنعلم أنهم تعلموا في مدارس المسلمين، هؤلاء إن لم يكفوا عن ذلك فستصدر الكنيسة ضدهم قرارات حرمان. ." وأما اليهود فتلمودهم وشروحه وتعاليم أحبارهم حافلة بكل ما من شأنه إيجاد الحواجز المادية والنفسية بينهم وبين سواهم، ولولا هذه الحواجز- بغض النظر عن خطئهم أو إصابتهم فيها- لذاب اليهود منذ قرون في سواهم من الأمم، ولانتهى وجودهم) (43) . "موشى ديان".. واعظًا: (لقى وزير الدفاع الإسرائيلي في إحدى جولاته شابا مؤمنًا في مجموعة من الشباب في حي من أحياء قرية عربية باسلة، فصافحهم بخبث يهودي غادر، غير أن الشاب المؤمن أبى أن يصافحه، وقال له: "أنتم أعداء أمتنا، تحتلون أرضنا، وتسلبون حريتنا، ولكن يوم الخلاص منكم لابد آتٍ   (42) "البداية والنهاية " (7/39) . (43) "النهي عن الاستعانة والاستنصار في أمور المسلمين بأهل الذمة والكفار" المقدمة (ص 11) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 بإذن الله، لتتحقق نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم: " لتقاتلن اليهود أنتم شَرْقِي النهر، وهم غَرْبِيه"، فابتسم ديان الماكر، وقال: "حقا! سيأتي يوم نخرج فيه من هذه الأرض، وهذه نبوءة نجد لها في كتبنا أصلا. . . ولكن متى؟ " واستطرد اليهودي الخبيث يقول: "إذا قام فيكم شعب يعتز بتراثه، ويحترم دينه، ويقدر قيمه الحضارية، وإذا قام فينا شعب يرفض تراثه، ويتنكر لتاريخه.. عندها تقوم لكم قائمة، وينتهي حكم إسرائيل ") (44) .   (44) "فصل الدين عن الدولة ضلالة مستوردة، للأستاذ يوسف العظم (ص 70- 71) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 [فصل] وضع المرأة ومسئولية الولاة "عندما تميد الأرض تحت أقدام الناس لا تجد بينهم من يستطيع تحديد موقفه ولا مصيره، إذ يكون الجميع مأخوذين بدهشة المفاجأة، - فليس لدى أحدهم فرصة لسؤال غيره، بل لا يخطر في بال أحد أن يسأل غيره. والعين التي تستطيع تسجيل هذه الحركة العامة يجب أن تكون خارج المجال، وفِى وضع معزول تماما عن تأثيره. ويبدو أن العقل الذي صنع قصة جحا وهو يقطع الغصن في وضع معكوس إنما يريد إعطاء هذه الصورة.. صورة فقدان الوعي الذي يصاحب مثل هذه الحركة في مجالها العين، فجحا يقف على طرف غصن يعمل هو في قطعه من ناحية الجذع، دون أن ينتبه إلى حتمية السقوط الذي سيصير إليه، فإذا مر به من ينبهه إلى هذا المصير، الذي انتهى إليه فعلًا بعد قليل، نهض يعدو خلفه ليقول له: لقد عرفت أمر سقوطي قبل حصوله ... فلن أدعك حتى تنبئني بنهايتي متى تحين! هذه الصورة تمثل واقع المرأة المسلمة اليوم، في اندفاعها المحموم وراء المجهول، الذي لم تجرب قط أن تسأل نفسها عن غايته ومحتواه.. وهو واقع لا يتاح التخلص من ضغطه إلا للإنسان الذي استطاع أن يعزل نفسه عن مؤثراته، ضمن حصانة من الفكر الحر المزود بمقاييس الطوارئ " (45) .   (45) "تأملات في المرأة والمجتمع" لمحمد المجذوب ص (7-8) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 والمؤلم في هذا الواقع المرير أن المرأة قد رضيت أن تُؤلفَ نقطة الضعف، فهى ملقية بزمامها إِلى التيار يقذف بها حيث اتجه وسار، دون أن تفكر بالمقاومة، وأصبحت كل طاقاتها موجهة للاندفاع وراء هذا التيار فأصبحت كحجرة الانفجار في محرك السيارة، لا عمل لها الا الدفع، ولكنه الدفع الذي يسوق إلى الهاوية. بل بلغ الاستخفاف بها مداه حين صوروا لها أنها بهذا المسلك ترتفع إلى أعلى وأعلى، ولم تفطن إلى أنها في حقيقة الأمر قد صارت كالكرة الطائرة، تتقاذفها أيدي اللاعبين فتتهادى في كل اتجاه.. ولعلها مع ذلك لو نطقت لفاخرت بأنها ترفع على أكف المعجبين إلى عليين! لقد جاهرت المرأة الجديدة بالإعراض عن دينها، وقد يلتمس المتكلفون لها عذرًا لنقص عقلها ودينها، ولكن ما هو العذر الذي قد يلتمس للرجال الذين استغلوا نقصها، فنقصوا عنها عقلًا ودينًا أيضًا، وراحوا يدفعونها بإصرار إلى هلاكها بما يخالف العقل والنقل والفطرة. لقد جاء اليوم الذي يدفع فيه الرجال زوجاتهم وبناتهم دفعًا إلى مخالطة الرجال والعمل في محافلهم، فما أجدرهم بقول الشاعر: جرد السيفَ لرأس ... طارت النَّخوةُ منه إن الحديث عن المرأة لا ينتهَي، لأنها نصف البشرية، والذي يهمنا أن نؤكده هو أن كل ما نسطره في حق المرأة إنما هو من منطلق غيرتنا بصفتنا مسلمين على أخواتنا في الإسلام، وحرصنا على صيانتهن وحمايتهن، وليس انطلاقًا من "عداوة" للمرأة، فإنه لا يتصور رجل سَوِيٌّ يكون عدوُّا للمرأة، أليست المرأة هي أمه أو زوجه أو ابنته أو أخته أو قريبته، فكيف يكون عدوا لهؤلاء؟! وكذا ينبغي ألا ننخدع بأكاذيب من يَدَّعون "صداقة المرأة"، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 ويقومون على دعوة تحريرها، ويقودون تجمعاتها، وهم في الحقيقة ألدُ أعدائها، يتاجرون بقضيتها، وينتفعون بانحلالها، مموِّهين على ضحاياهم ببريق المصطلحات الخداعة، وما هي في الحقيقة إلا كساتر الدخان الذي يطلقه المحاربون لتغطية الزحف، ثم لا تلبث النفوس الضعيفة أن تخر صريعة تحت مطارق أوهام "الحرية والتحرير"، وقد تبلورت على أيدى هؤلاء الأنصار والأصدقاء، في معانٍ طريفة من الفوضى المنظمة. فتش عن اليهود: [لقد ترقت المفاهيم السياسية في هذا العالم الفسيح حتى أصبح كل ذى بصيرة يملك من قوة الحَدس ما يكشف له اليد الصهيونية (46) وراء انهيار صرح الأخلاق في كثير من الأمم والشعوب، فما بالنا نغفل عن تدبير هذه اليد المختفية وراء قضايانا الاجتماعية عامة، وقضية المرأة المسلمة خاصة،   (46) ونظرة إلى كتاب (أوقفوا هذا السرطان) للدكتور سيف الدين البستاني الذي حلل فيه بروتوكولات اليهود ومساعيهم في إفساد المرأة (وتحريرها" تبين حقيقة هذه اليد الصهيونية وراء إفساد المرأة المسلمة، وقد اتفق مخطط الدولة الصهيونية العالمية التي تريد اًن تسيطر على العالم وتتسلط على كافة الأمم بعد أن تقيم "ملك داود" على أن من السبل التي يجب اتباعها لإخضاع من يسمونهم (الجوييم) أو (الأمميين) حرب الأخلاق وتقويض نظام الأسرة بشتى الوسائل الممكنة: فالأفلام الماجنة توزعها في العالم "دور صهيونية"، والأزياء الفاحشة تتميز بها دور الأزياء الصهيونية، والمجلات الخليعة والقصص الفاجرة تصدرها دور طبع يهودية، وكثير من " أبطال" "الفن" الذين أسسوا ألوانه المتعددة ونشروها في ديار المسلمين هم من اليهود. وصدق الله العظيم: (ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين) (المائدة 64) - انظر "المرأة المسلمة" لوهبي غاوجي (ص 252) ، "ماذا عن المرأة" للدكتور نور الدين عتر (ص 41) ، و "خطر التبرج والاختلاط" لعبد الباقي رمضون (ص 196) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 إن المشكلة في حقيقتها صارت تخضع من جراء التكتيك الصهيوني الصليبي لإيحاءات تسلطها على مشاعرنا المختبرات والأجهزة المختصة، حتى لا نستطيع أن نوجه سلوكنا الفكري طبقًا للمقاييس التي تحددها عقولنا وتعيها ضمائرنا، وهذا أمر من حقه أن يستوقف أولي البقية من الإيمان والحياء ليثير تفكيرهم فيما وراءه من جوائح لا تبقِي ولا تَذَر. إن ثمة توجيهًا خفيا يستهدف وضع المرأة المسلمة في ظروف مقصودة تسلبها الثقة بنفسها ومقوماتها، ولا جَرَمَ أن الهدف من وراء ذلك خطير رهيب، إنه تحطيم السدود الروحية التي حفظت لهذه الأمة حتى الآن مشاعر العزة والحرية الدافعة إلى الجهاد والبذل في سبيل الله، ثم اجتثاث الجذور التي تربطنا في أعماق التاريخ برسالة المجد الإلهي، التي جعلت من أمتنا خير أمة أخرجت للناس. لقد بات وضع المرأة المسلمة في مهب الأعاصير، فليس من الحكمة أن يترك زمامه للأمواج تقذف به حيث يشاء أولو الأهواء، ولا ريب أن الواجب يضع على كل عاتق نصيبه من المسئولية، لا يُستَثنى من ذلك صغير ولا كبير، ولا حاكم ولا محكوم. على أن الخطر بات من " الإحكام" بحيث لا يصلح لدرئه عمليا سوى " الكبار" الذين وضع الله في أيديهم مصاير البلاد، ومصالح العباد، فرب حكمة من مسئول تكون كالسد في طريق السيول. ولا نريد أن نكذب على الحقيقة فنقول: "إن الأمة تريد"، فالأمة غافلة عما يراد بها من كيدٍ بهذه الانحرافات الاجتماعية المُبَيَّتة، وما دامت في غمرة الرجفة، فعسير عليها- إن لم نقل: مستحيل- أن تدرك واقعها.. وإنما نقول: إن واجب الديانة ثم مصلحة الأمة يهيبان بالمسئولين أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 يضغطوا على كابح القاطرة، قبل أن تصير إلى حافة الهاوية، وأين موضع هذا الكابح إن لم يكن في التشريع الذي يفرض على المرأة أن تكف عن السباق المجنون الذي تمارسه في حلبة التقليد الأعمى.. التشريع الذي يقول لمعاول الهدم من أصحاب الفنون الهابطة: "ارتفعوا عن هذه الأوحال، فليس في حياة الأمم الجادة مجال لرقاعات السفهاء وثرثرات السخفاء"، التشريع الذي يقول للمرأة: "مهلا، لقد ملأتِ بتهتككِ دروبَ الناس ألغاما، فاقني حياءك، والزمي حدود الحشمة التي حتمتها تعاليم السماء على لسان جميع الأنبياء، فإن لم تفعلي ذلك مختارة فعلتِهِ مكرهة". فليست أمريكا وهي مزرعة الرذائل اليهودية بأغير على الآداب من أمة المسلمين (47) ، وليس " بيتان " ابن باريس أم الفسوق والفجور بأحرص على هذه الآداب من أمة القرآن] (48) .   (47) سُن في بعض الولايات المتحدة قانون يفرض على المرأة ألا يزيد كعب حذائها عن مقياس معين، وقد زُود رجال الشرطة هناك بمنشار يقطع كل زائد عن المباح، وقال جورج بالوشي في كتابه "الثورة الجنسية": (في سنة 1962 صرح كنيدي بأن مستقبل أمريكا في خطر لأن شبابها مائع منحل غارق في الشهوات، لا يُقَدِّر المسؤولية الملقاة على عاتقه، وأنه من بين كل سبعة شبان يتقدمون للتجنيد يوجد ستة غير صالحين، لأن الشهوات التي أغرقوا فيها أفسدت لياقتهم الطبية والنفسية، وفي سنة 1962 صرح خروشوف بأن مستقبل روسيا في خطر، وأن شباب روسيا لا يؤتمن على مستقبلها لأنه مائع منحل غارق في الشهوات. وفي شهر أبريل سنة 1964 أثيرت في السويد ضجة كبرى عندما وجه (140) طبيبا من الأطباء المرموقين مذكرة إلى الملك والبرلمان يطلبون فيها اتخاذ إجراءات للحد من الفوضى الجنسية التي تهدد حقا حيوية الأمة وصحتها، وطالب الأطباء بسن قوانين ضد الانحلال الجنسي) اهـ. من " تربية الأولاد في الإسلام" (1/ 278، 280) . (48) في فرنسا أعلن المريشال (بيتان) عقب هزيمة بلاده أمام الألمان في الحرب العالمية = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 اهـ (49) [لقد فقدنا شخصيتنا المميزة، فبات كل ما نستطيعه هو تقليد هذا الغرب الذي آمنا بتفوقه، وأقبلنا نعدو وراءه دون وعي، فإذا نحن أسرع منه هبوطًا إلى أسفل، وإذا نحن نتلقى كل أخطائه الاجتماعية بالقبول والتطبيق، لا نشك في أنها خير ما أبدعه التقدم البشري، حتى إذا وجد من كبار رجال الغرب من يكشف فضائح هذه الأخطاء أغلقنا أسماعنا دون صوته! .. ولا عجب في ذلك، فالانحدار أيسر من الصعود، وليس من السهل أن تكلف من يهوي في السفح أن يتماسك فجأة عند نقطة الخطر، فضلًا عن أن تأمره بالصعود، وقديما صور الشاعر هذا المعنى بقوله: سُبُل الغَي سهلة واسعات ... وطريق الهدى كَسَمِّ الخِياط مصعد شَق لا تُكَلفه الضُّمَّرُ ... إلا مضروبةً بالسياط ومن هنا كان إصلاح الأمم المتخلفة موقوفًا بالدرجة الأولى على قادتها السياسيين، الذين بيدهم مقاليد الإصلاح. وحق ما قاله حكيم العرب (أكثم) قديمًا من أن (إصلاح فساد الرعية خير من إصلاح فساد الراعي) .. ولكن صحة هذا الرأي مقيدة بنسبة الأوضاع؛ فالشعوب الواعية هي التي تملي خطط الحكام، ومن وعيها السياسي يستمد هؤلاء اتجاهاتهم، ولكن الجماعات التي لم تستكمل نضجها السياسي، ولم تستبن لها الأهداف في وضوح، وبخاصة إذا كانت حديثة   = الثانية: أن سر الكارثة يعود إلى الفجور، وأصدر تشريعا يحدد للمرأة قياس ثوبها وأكمامها بشكل يستأصل دابر الفتنة، وها هو ذا القسيس (نيريرى) ديكتاتور تنزانيا يفعل بالأمس القريب قريبا من ذلك، وكانت قوات الشرطة في العراق (سنة 1968) تتتبع النساء اللاتي ترتفع ثيابهن فوق الركبة، وتطاردهن، فإن لاذت المرأة بالفرار، وإلا قام البوليس بطلاء ساقها وقدمها بدهان أزرق عقوبة لها على ذلك. (49) "تأملات" للمجذوب ص (13-16) بتصرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 النهوض من عثرات قرون وقرون.. هذه الجماعات لا تقبل الإصلاح إلا بقوانين، وكل دعوة فيها إلى الخير ينبغي أن تسبق بالأسوة الصالحة أولًا في شخص الحكام ومَن حولهم (50) ثم بالمؤيدات القانونية التي تحسن التأديب لمن يند عن طريق الجماعة ... ولقد كان من سنة الفاروق رضي الله عنه كلما أراد أن يشيع في الناس أمرًا، أن يجمع أهل بيته ويقول لهم: " إني آمرٌ الناسَ بكَذا، وإنهم لينظرون إليكم؟ تنظر الطير إلى اللحم، فوالله لا أعلم بمخالفة أحدكم لهذا الأمر إِلا أضعفت له العقوبة"] (51) .   (50) انظر تفصيل ذلك في "الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة " للأستاذ عبد الله ابن عمر الدميجي طبعة دار طيبة ص (371-374) . (51) (تأملات في المرأة والمجتمع) لمحمد المجذوب (ص 96-97) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 [فصل] موقف دعاة الإسلام من قضية المرأة (52) (والله يقول الحق وهو يهدى السبيل) : إن دعاة الإسلام يدعون أولًا إلى الرجوع إلى حقيقة الإسلام ثم إلى صورة الإسلام، ثم إنهم يعتقدون أنهم يخاطبون أحد رجلين: إما كافر مكذب، فمهمتهم الأولى إزاءه دعوته إلى التصديق والإقرار بحقيقة التوحيد والرسالة، وإما مؤمن مصدق فواجبهم نحوه إقامة الدليل على حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب المجيد والسنة المطهرة، وعليه أن يقول حينئذ (سمعنا وأطعنا) ، إنهم لا يحَكمون آراءهم في " قضية المرأة"، ولا في أي قضية قال الله سبحانه فيها قولا، وحكم فيها حكمًا، شعارهم الذي يرفعونه دائمًا قول الله عز وجل: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) وقوله سبحانه: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا) وقوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) الآية. ولذلك تراهم لا يُحَكّمون أهواءهم بل كلام الحكيم الخبير العليم،   (52) استفدت كثيرا من فقراته من كتيب " المرأة بين دعاة الإسلام وأدعياء التحرر، للأشقر، بتصرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 ولا يَحكُمون لصالح الرجل ضد مصلحة المرأة، ولا لمصلحة المرأة ضد مصلحة الرجل، ذلك بأن الله يقول الحق وهو يهدي السبيل، إنه ليس في صالح المرأة ولا في صالح المجتمع أن تحيا مع الرجل حياة مواجهة وصراع، كذلك الذي وقع في أوربا وأمريكا إلى حد أن قامت هناك منظمات رجالية تدافع عن حقوق الرجال ضد تسلط المرأة، إن المرأة إذا سارت في الطريق الذي يريده لها أعداء دينها فلن تكسب شيئًا وستخسر كل شيء، إن الله تبارك وتعالى خلق المرأة للمهمة ذاتها التي خلق من أجلها الرجل، قال تعالى: (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون) ، وأناط جل جلاله السعادة بتحقيق كل منهما لهذه المهمة، والشقاء بالإعراض عنها، قال جل وعلا: (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى) الآيات. عبودية هي أعلى مراتب الحرية: لقد ألزم الإسلام الرجل والمرأة بالعبودية لله وحده في صورة الخضوع لمهجه ودينه، وهذه العبودية هي أرقى مراتب الحرية، فالإنسان من خلال توجهه إلى الله وحده يتحرر من كل سلطان فلا يوجه قلبه، ولا يطأطئ رأسه إلا لخالق السموات والأرض (53) . والمسلم بالإسلام يتحرر من سيطرة الهوى والشهوة، والسلطان الذي يسيطر عليه إنما هو سلطان الشرع الحنيف، قال تعالى: (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) . إذن هي حرية في صورة العبودية، ولا يمكن للبشرية أن تتحرر حقُّا إلا بتحقيق هذه العبودية.   (53) انظر " مجموع الفتاوى " لشيخ الإسلام ابن تيمية (10/593، 598) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 إن الحرية في غير الإسلام تصبح حرية جوفاء لا معنى لها، بل هي العبودية المذلة المهينة، وإن بدت في صورة الحرية، إن الخضوع للطواغيت من الزعماء والرؤساء والمناهج والقوانين والنظم وما تهواه الأنفس بعيدًا عن تشريع الخالق إنما هو عبودية لغير الله وأي عبودية: هَرَبوا من الرق الذي خلِقُوا له ... فَبُلُوا بِرِق الكفرِ والشيطانِ كلانا مظلوم: إن التشريعات الإسلامية منزهة عن الظلم والإجحاف: (إن الله لا يظلم الناس شيئا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون) ، ولئن ساء وضع المرأة المسلمة في بعض الظروف، فإن السبب الحقيقي لهذا لم يكن التزامها بأحكام الإسلام- حاشا وكلا- بل هو في المقام الأول انحرافها عن الإسلام. وإن الظلم الواقع على المرأة في ديارنا كالظلم الواقع على الرجل سواءً بسواء، ليس سببه الإسلام الذي ندين به، بل سببه البعد عن الإسلام، وفصل الدين الحنيف عن واقع الحياة ونظمها. لا نسَوغُ الأخطاء: نحن أيضا لا نسوغ ما حاق فعلًا بالمرأة من ظلم وأوضاع فاسدة، فهناك من يكلفها فوق طاقتها، ولا يرحم ضعفها، هناك الآباء القساة، والأزواج الجهلة الذين يضربون بناتهم وأزواجهم ضرب غرائب الإبل، هناك من يهملون المرأة إهمالًا تامَا، ويهدرون حقوقها، ونحن لا نتعامى عن ذلك، ولكننا نعلم أيضًا أنه مرض من أمراض كثيرة تحيط بالأمة في رجالها ونسائها وأطفالها، ونحمد كل مسعى لإصلاح الفاسد، وتقويم المعوج، ولكن لا نريد علاج الخطأ بخطأ آخر، ولا نريد أن ننتقل من إفراط إلى تفريط، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 ومن ضلال إلى ضلال، ورحم الله الإمامَ مالكًا القائل: " لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها". ونحن أيضا حريصون على أن لا نشارك في هذا الظلم فنلقي اللوم كله على المرأة المظلومة أو الجاهلة.. فما أكثر هؤلاء النساء اللائي صُوِّر لهن أن خروجهن للتعليم - بوضعه الجاهلي - والعمل أيا كان نوعه، وأن خروجهن للمحافل والمجتمعات المختلطة واجب شرعي أو مستحب وأنه حق ينبغي لها أن لا تفرط فيه بحال، وأن قرارها في بيتها سجن وقيد وأغلال، وأنه شلل لطاقاتها العظيمة، وأن وظيفتها في هذا العصر صارت خارج البيت لا داخله، وما أكثر دعاوى علماء السوء الذين ضللوا الكثيرات بفتاواهم، وما أكثر النساء الصادقات النية في الالتزام بما يمليه عليهن دينهن لولا تشويش علماء السوء، ولولا قهر الآباء " التقدميين " والأزواج "العصريين"! ما أكثر المسلمات اللائي أطعن الله ورسوله، وأرضين الله ورسوله فسخط عليهن الآباء أو الأزواج وراحوا يذيقونهن صنوف الأذى والعذاب، فاضطررن اضطرارًا للخضوع لقهرهم وإكراههم، وعسى أن يعذرهن الله عز وجل: ومن يَأت الأمور على اضطرار ... فليس كمثل آتيها اختيارا (54) والحق أن الخطاب ينبغي أن يتوجه في المقام الأول إلى الرجال آباء أو أزواجا، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارَا وقودها الناس والحجارة) الآية. (سورة التحريم: 6) . وقال صلى الله عليه وسلم: " كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع، وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله، وهو مسئول عن   (54) انظر "القسم الثالث" ص (174-178) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها" (55) الحديث. شرع الله فوق الأمر الواقع: [ونحن لا ننكر أن الهوة فسيحة بين ما نحن عليه، وبين ما ينبغي أن نكون عليه، ويخطئ من يعتذر عن هذا بأن خروج المرأة إلى ميادين العمل ومغادرتها حصنها الحصين مخالطةً للرجال قد أصبح أمرًا واقعا وقاعدة مقررة، فلا نملك إلا الخضوع لها، والجريان وراء التيار. ولكننا نقولها لكل مسلمة ترجو الله واليوم الآخر، وتعلم أنها مسئولة غدَا بين يدي ربها عز وجل: إن هذا الذي يسمى (بالأمر الواقع، سوف يظل في ميزان إسلامنا الحنيف باطلًا منقوضًا مهما طال العهد عليه لأنها سنن الله الكبرى التي لا تتبدل ولا تتحول، والمعاند لها هالك لا محالة، فالحق واحد لا يتغير، ومهما يتقادم العهد على الباطل فسيظل باطلًا، ومهما يجر العمل على غير الحق فسيظل الحق هو هو وإن حاد عنه كل الناس، ثم إنه لا يبقى على توالي الأزمان إلا الحق، لأن الباطل زهوق لا تدوم له دولة، والحق هو الناموس، هو قانون الله الذي لا يتبدل، هو فطرة الله التي فطر عليها الخلق، هو ما ركبه الله سبحانه في طبائع الأشياء حين أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، (ولن تجد لسنة الله تبديلًا) ، ولكن الذي يحول ويزول هو المعاند لسنة الله وفطرته، والذي يعارض الناموس ويخرج   (55) رواه البخاري (13/100) في الأحكام: في فاتحته، وفي الجمعة: باب في القرى والمدن، وفي الاستقراض، والعتق والوصايا، والنكاح، ومسلم رقم (1829) في الإمارة: باب فضيلة الإمام العادل، والترمذي رقم (1705) في الجهاد: باب ما جاء في الإمام، وأبو داود رقم (2928) في الإمارة: باب ما يلزم الإمام من حق الرعية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 على الفطرة كالوعل الأحمق الذي وصفه الأعشى قديمًا حين قال: كناطِح صخرةً يومًا ليُوهِنَها ... فلم يَضِرْها وَأوهَى قَرْنَه الوَعْلُ] (56)   (56) حصوننا مهددة من داخلها " للدكتور محمد محمد حسين رحمه الله (ص 132) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 الباب الثاني إهانة الجاهلية للمرأة (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أوءَاذان يسمعون بها فإنها لا تعمَى الأبصارُ ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) الحج (46) " بالضد تتبين الأشياء": يجدر بنا إذا أردنا أن نبحث عن علاج لتقويم الوضع الذي وصلت إليه المرأة المسلمة في هذا الزمان وقد سقطت صريعةَ التبرج الجاهلي المعاصر: أن نعود إلى الماضي البعيد لنتتبع وضع المرأة في " الجاهلية الأولى " عند عرب الجاهلية، بل عند الأمم الأخرى التي انفصلت عن هدي الرسالات الإلهية، لندرك أن هناك " إجماعا عالميا " قد تجاوز حدود الزمان والمكان على ظلم المرأة وتجريدها من كافة حقوقها الإنسانية. ثم إذا نحن تأملنا كيف حرر الإسلام المرأة ورفع شأنها، وكرمها قرآنا وسنة، وقلبنا صفحات التاريخ لِنَدْرُسَ" سيرة المرأة المسلمة" وكيف تأثرت بالإسلام مؤمنةً عابدة، وانفعلت به مجاهدةً صابرةً، ثم كيف أثرت في الإسلام أمُّا وبنتا وزوجة وعالمة. عند ذلك نستطيع أن ندرك: - زيف الدعاوى التي يروجها أعداء المرأة المسلمة حول "وضع المرأة في الإسلام". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 - وحقيقة المهانة التي تعرضت لها المرأة عند غير المسلمين، وتتعرض لها الآن مما لا يحس به إلا سليم الحس والبصيرة والذوق. وعند ذلك أيضًا نستطيع أن نستشعر ويستشعر معنا أمهاتنا ونساؤنا وبناتنا نعمة الإسلام العظيمة ورحمته التي لا حد لها، وتكريمه للمرأة المسلمة، فنرفع عقيرتنا نهتف بها قائلين: "أيتها المسلمة لا تبدلي نعمة الله كفرًا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 [الفصل الأول] المرأة عند الآخرين (57) لا جرم أن الباحث في وضع المرأة قبل الإسلام لن يجد ما يسره، إذ يرى نفسه أمام إجماع عالمي على تجريد هذه المخلوقة من جميع الحقوق الإنسانية: (1) المرأة عند الإغريق: كانت محتقرة مهينة، حتى سموها رجسًا من عمل الشيطان، وكانت عندهم كسَقَطِ المتاع، تباع وتشترى في الأسواق، مسلوبة الحقوق، محرومة من حق الميراث وحق التصرف في المال، ومما يذكر عن فيلسوفهم (سقراط) قوله: (إن وجود المرأة هو أكبر منشأ ومصدر للأزمة والانهيار في العالم، إن المرأة تشبه شجرة مسمومة حيث يكون ظاهرها جميلَا، ولكن عندما تأكل منها العصافير تموت حالًا) . ويحدثنا التاريخ عن اليونان في إدبار دولتهم كيف فشت فيم الفواحش والفجور، وعُدَّ من الحرية أن تكون المرأة عاهرًا، وأن يكون لها عشاق، ونصبوا التماثيل للغواني والفاجرات، وقد أفرغوا على الفاحشة ألوان القداسة بإدخالها المعابد حيث اتخذ البغاء صفة التقرب إلى آلهتهم، ومن ذلك أنهم   (57) مستفاد من "المرأة بين الفقه والقانون" للدكتور السباعي رحمه الله (13 -22) ، "ماذا عن المرأة؟ " للدكتور نور الدين عتر (13-16) ، "المرأة المسلمة، لوهبي غاوجي (25-27) ، "المرأة ومكانتها، للحصين (11-17) و"المرأة العربية" لعبد الله عفيفي، و (الحجاب) للمودودي (12-25) وغيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 اتخذوا إلها أسموه (كيوبيد) أي (ابن الحب) ، واعتقدوا أن هذا الإله المزعوم ثمرة خيانة إحدى آلهتهم (58) (أفروديت) زوجها مع رجل من البشر. وتحكى بعض المصادر أنه كان للمرأة الإسبرطية الحق في أن تتزوج بأكثر من رجل واحد. (2) المرأة عند الرومان: كان شعارهم فيما يتعلق بالمرأة: " إن قيدها لا ينزع، ونيرها لا يخُلع " (59) ، وكان الأب غير ملزم بقبول ضم ولده منه إلى أسرته ذكرًا كان أم أنثى، بل كان يوضع الطفل بعد ولادته عند قدميه، فإذا رفعه وأخذه بين يديه كان ذلك دليلًا على أنه قبل ضمه إلى أسرته، وإلا فإنه يعني رفضه لذلك، وحينئذ يؤخذ الوليد إلى الساحات العامة، أو باحات هياكل العبادة فيطرح هناك، فمن شاء أخذه إذا كان ذكرًا، وإلا فإن الوليد يموت جوعا وعطشًا وتأثرا من حرارة الشمس أو برودة الشتاء، وكان لرب الأسرة أن يدخل في أسرته من الأجانب من يشاء، ويخرج منها من أبنائه من يشاء عن طريق البيع، ثم قيد قانون الاثني عشر لوحًا حق البيع بثلاث مرات، فإذا باع الأب ابنه ثلاث مرات متوالية كان له الحق في التحرر من سلطة رئيس الأسرة، أما البنت فكانت تظل خاضعة له ما دام حيًّا، وكانت قوانين الاثني عشر لوحًا تعد الأنوثة من أسباب حرمان الأهلية، ومن عجيب ما ذكرته بعض المصادر- وهو مما لا يكاد يصدق- أن (مما لاقته المرأة في العصور الرومانية تحت شعارهم المعروف "ليس للمرأة روح " تعذيبها بسكب الزيت الحار على بدنها، وربطها بالأعمدة، بل كانوا يربطون البريئات بذيول الخيول، ويسرعون بها إلى أقصى سرعة حتى تموت) (60) .   (58) كان يبلغ عدد الآلهة التي عبدوها من دون الله "ألف إله"! (59) "المرأة في القرآن" للعقاد ص (54) . (60) "المرأة في الإسلام" لسكينة زيتون (ص 11) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 (3) المرأة عند الصينيين القدماء: شبهت المرأة عندهم بالمياه المؤلمة التي تغسل السعادة والمال، وللصيني الحق في أن يبيع زوجته كالجارية، وإذا ترملت المرأة الصينية أصبح لأهل الزوج الحق فيها كثروة، وتورث، وللصيني الحق في أن يدفن زوجته حية! (4) المرأة في قانون حمورابي: كانت المرأة تحسب في عداد الماشية المملوكة، ومن قتل بنتًا لرجل كان عليه أن يسلم بنته ليقتلها أو يتملكها. (5) المرأة عند الهنود: في شرائع الهندوس أنه: " ليس الصبر المقدر، والريح، والموت، والجحيم، والسم، والأفاعي، والنار، أسوأ من المرأة) . ويقول الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله: (ولم يكن للمرأة في شريعة "مانو" حق في الاستقلال عن أبيها أو زوجها أو ولدها، فإذا مات هؤلاء جميعا وجب أن تنتمي إلى رجل من أقارب زوجها، وهى قاصرة طيلة حياتها، ولم يكن لها حق في الحياة بعد وفاة زوجها بل يجب أن تموت يوم موت زوجها، وأن تحرق معه وهي حية على موقد واحد، واستمرت هذه العادة حتى القرن السابع عشر حيث أبطلت على كرهٍ من رجال الدين الهنود، وكانت تقدم قربانا للآلهة لترضى، أو تأمر بالمطر أو الرزق، وفي بعض مناطق الهند القديمة شجرة يجب أن يقدم لها أهل المنطقة فتاة تأكلها كل سنة "؟! ") (61) .   (61) "المرأة بين الفقه والقانون" (ص 18) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 ويذكر " جوستاف لوبون " أن المرأة في الهند (تعد بعلها ممثلًا للآلهة في الأرض، وتُعَدُ المرأة العَزَبُ (62) ، والمرأة الأيم (63) على الخصوص من المنبوذين من المجتمع الهندوسي، والمنبوذ عندهم في رتبة الحيوانات، ومن الأيامى الفتاة التي تفقد زوجها في أوائل عمرها، فموت الرجل الهندوسي قاصم لظهر زوجته فلا قيام لها بعده، فالمرأة الهندوسية إذا آمت- أي فقدت زوجها- ظلت في الحداد بقية حياتها، وعادت لا تعاملٍ كإنسان، وعُدَّ نظرها مصدرًا لكل شؤم على ما تنظر إليه، وعدت مُدَنسَة لكل شيء تمسه، وأفضل شيء لها أن تقذف نفسها في النار التي يحرق بها جثمان زوجها، وإلا لقيت الهوان الذي يفوق عذاب النار) (64) .   (6) المرأة عند الفرس: "أبيح الزواج بالأمهات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، وكانت تنفي الأنثى في فترة الطمث إلى مكان بعيد خارح المدينة، ولا يجوز لأحد مخالطتها إلا الخدام الذين يقدمون لها الطعام، وفضلا عن هذا كله فقد كانت المرأة الفارسية تحت سلطة الرجل المطلقة، يحق له أن يحكم عليها بالموت، أو ينعم عليها بالحياة" (65) . (7) المرأة عند اليهود: كانت بعض طوائف اليهود تعتبر البنت في مرتبة الخادم، وكان لأبيها   (62) العزب يطلق على الذكر والأنثى. (63) الأيم من الرجال من فقد زوجته، ومن النساء من فقدت زوجها. (64) "حضارات الهند " لغوستاف لوبون (ص 644-646) وما دفع هذا الحيف عن المرأة الهندية التي يموت زوجها، إلا بحكم الإسلام فيهم الذي كاد يحكم عموم الهند، خاصة في أيام الملك الصالح أورنك زيب رحمه الله، حتى احتل الإنكليز الهند، وفعلوا ما فعلوا خاصة بالمسلمين من أهلها. (65) "حقوق المرأة في الإسلام" لمحمد رشيد رضا (ص 27-28) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 الحق في أن يبيعها قاصرة، وما كانت ترث إلا إذا لم يكن لأبيها ذرية من البنين وإلا ما كان يتبرع لها به أبوها في حياته، وحين تحرم البنت من الميراث لوجود أخ لها ذكر يثبت لها على أخيها النفقة والمهر عند الزواج، وإذا كان الأب قد ترك عقاراً فيعطيها من العقار، أما إذا ترك مالًا منقولًا فلا شيء لها من النفقة والمهر ولو ترك القناطير المقنطرة. وإذا آل الميراث إلى البنت لعدم وجود أخ لها لم يجز لها أن تتزوج من سبط آخر، ولا يحق لها أن تنقل ميراثها إلى غير سبطها، واليهود يعتبرون المرأة لعنة لأنها أغوت آدم، وعندما يصيبها الحيض لا يجالسونها ولا يؤاكلونها (66) ولا تلمس وعاء حتى لا يتنجس، وكان بعضهم ينصب للحائض خيمة، ويضع أمامها خبزًا وماء، ويجعلها في هذه الخيمة حتى تطهر. (8) المرأة عند الأمم النصرانية: هال رجال النصرانية الأوائل ما رأوا في المجتمع الروماني من انتشار الفواحش والمنكرات وما آل إليه المجتمع من انحلال أخلاقي شنيع، فاعتبروا المرأة مسئولة عن هذا كله، لأنها كانت تخرج إلى المجتمعات، وتتمتع بما   (66) وقد قال أنس بن مالك رضي الله عنه: " إِن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأنزل الله عز وجل: (ويسألونك عن المحيض قل هو أذًى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) (البقرة: 222) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اصنعوا كُل شيء إلا النكاحَ "، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: " ما يريد هذا الرجل أن يَدَعَ من أمرنا شيئا إلا خالفَنا فيه") الحديث رواه مسلم رقم (302) في الحيض: باب جواز غسل الحائض رأس زوجها، وأبو داود رقم (2165) في النكاح: باب في إتيان الحائض ومباشرتها، والترمذي رقم (2981) في التفسير، والنسائي (1/152) في الطهارة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 تشاء من اللهو، وتختلط بمن تشاء من الرجال كما تشاء، فقرروا أن الزواج دنس يجب الابتعاد عنه وأن العزب أكرم عند الله من المتزوج، وأعلنوا أنها باب الشيطان، وأن العلاقة بالمرأة رجس في ذاتها، وأن السمو لا يتحقق إلا بالبعد عن الزواج، قال (ترتوليانا الملقب بالقديس (67) : (إنها مدخل الشيطان إلى نفس الإنسان، ناقضة لنواميس الله، مشوهة للرجل) . وقال: " سوستام" الملقب بالقديس: (إنها شر لابد منه، وآفة مرغوب فيها، وخطر على الأسرة والبيت، ومحبوبة فتاكة، ومصيبة مطلية مموهة) . وفي القرن الخامس اجتمع بعض اللاهوتيين ليبحثوا ويتساءلوا في "مجمع ماكون": (هل المرأة جثمان بحت أم هي جسد ذو روح يناط به الخلاص والهلاك؟) وغلب على آرائهم أنها خِلْو من الروح الناجيهّ، وليس هناك استثناء بين جميع بنات حواء من هذه الوصمة إلا مريم (68) عليها السلام أم المسيح " عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ". وعقد الفرنسيون في عام 586 م- أي في زمان شباب رسول الله صلى الله عليه وسلم - مؤتمرًا للبحث: هل تعد المرأة إنسانا أم غير إنسان؟ وهل لها روح أم ليس لها روح؟ وإذا كانت لها روح فهل هي روح حيوانية أم روح إنسانية؟ وإذا كانت روحًا إنسانية فهل هي على مستوى روح الرجل أم أدنى منها؟ وأخيرًا: قرروا أنها إنسان، ولكنها خُلقت لخدمة الرجل فحسب.   (67) راجع " القسم الأول " هامش ص (234) طبعة القاهرة أو طبعة " طيبة" ص (274) . (68) "المرأة في القرآن" ص (54) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 فالدين النصراني المحرف الذي ينتمي إليه العالم الغربي اليوم يرى أن المرأة ينبوع المعاصي، وأصل السيئة والفجور، ويرى أن المرأة للرجل باب من أبواب جهنم من حيث هي مصدر تَحَرُّكه وحمله على الآثام، ومنها انبجست عيون المصائب على الإنسانية جمعاء، يقول الدكتور " سفر الحوالي" حفظه الله: [ولما كانت المرأة- حسب رواية سفر التكوين- هي التي أغرت الرجل بالأكل من الشجرة، فإن النصرانية المحرفة ناصبت المرأة العداء، باعتبارها أصل الشر، ومنبع الخطيئة في العالم، لذلك فإن عملية الخلاص من الخطيئة لا تتم إلا بإنكار الذات، وقتل كل الميول الفطرية، والرغبات الطبيعية، والاحتقار البالغ للجسد وشهواته " اهـ (69) . ومن أساسيات النصرانية المحرفة التنفير من المرأة وإن كانت زوجة، واحتقار وترذيل الصلة الزوجية وإن كانت حلالًا، حتى بالنسبة لغير الرهبان، يقول أحد رجاك الكنيسة: " بونا فنتور" الملقب بالقديس: (إذا رأيتم امرأة، فلا تحسبوا أنكم ترون كائنًا بشريا، بل ولا كائنًا وحشيًّا، وإنما الذي ترون هو الشيطان بذاته، والذي تسمعون به هو صفير الثعبان) (70) اهـ. (إن القس يجب أن يكرس حياته لله وبني الإنسان، وإن مستواه الأخلاقي يجب أن يعلو على مستوى أخلاق الشعب، وأن يضفي على مستواه هذه المكانة التي لابد منها لاكتساب ثقة الناس، وإجلالهم إياه (71)) اهـ. ويقول صاحب كتاب " المشكلة الأخلاقية والفلاسفة" معلقًا على هذه التعاليم الكنسية التي تدعو إلى أن نقتل فينا كل ميل دنيوي:   (69) "العلمانية: نشأتها، وتطورها، وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة" ص (86) . (70) "السابق" نقلا من: "أشعة خاصة بنور الإسلام" ص (29) . (71) "السابق" نقلًا من: "قصة الحضارة" (14/382) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 "عظمة وعلاء، ولكنه قضاء قاس على الإنسانية، وإن التطبيق الكامل لمثل تلك المبادئ ليمكن أن يملأ الأرض بأديرة فيها الرجال من جهة، والنساء من جهة أخرى، ينتظرون في طهارة وتأمل الزوال النهالى للنوع الإنساني] (72) اهـ. (وأصدر البرلمان الإنكليزى قرارا في عصر هنري الثامن ملك انكلترا، يحظر على المرأة أن تقرأ كتاب (العهد الجديد) أي الإنجيل، لأنها تعتبر نجسة) . وتذكر بعض المصادر أنه قد شكل مجلس اجتماعي في بريطانيا خصيصًا لتعذيب النساء، وذلك سنة 1500 م، وكان من ضمن مواده تعذيب النساء، - وهن أحياء بالنار (!) . ونص القانون المدني الفرنسي (بعد الثورة الفرنسية) على أن القاصرين هم الصبي والمجنون والمرأة، حتى عدل عام 1938، ولا تزال فيه بعض القيود على تصرفات المرأة المتزوجة. وظلت النساء طبقا للقانون الإنكليزي العام- حتى منتصف القرن الماضي تقريبا- غير معدودات من "الأشخاص" أو " المواطنين" (73) الذين اصطلح القانون على تسميتهم بهذا الاسم، لذلك لم يكن لهن حقوق شخصية، ولا حق في الأموال التي يكتسبنها، ولا حق في ملكية شيء حتى الملابس التي كن يلبسنها. بل إن القانون الإنكليزى حتى عام 1805م كان يبيح للرجل أن يبيع زوجته، وقد حدد ثمن الزوجة بستة بنسات (نصف شلن) ، وقد حدث أن باع إنكليزى زوجته عام 1931م بخمسمائة جنيه، وقال محاميه   (72) "السابق، ص (91) . (73) وفي عام 1567، صدر قرار من البرلمان الاسكوتلاندي بأن المرأة لا يجوز أن تمنح أية سلطة على أي شيء من الأشياء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 في الدفاع عنه: " إن القانون الإنكليزي عام 1801م يحدد ثمن الزوجة بستة بنسات بشرط أن يتم البيع بموافقة الزوجة"، فأجابت المحكمة بأن هذا القانون قد ألغى عام 1855م بقانون يمنع بيع الزوجات أو التنازل عنهن، وبعد المداولة حكمت المحكمة على بائع زوجته بالسجن عشرة أشهر. وجاء في مجلة "حضارة الإسلام" السنة الثانية (ص 1078) : (حدث في العام الماضي أن باع إيطالي زوجته لآخر على أقساط، فلما امتنع المشتري عن سداد الأقساط الأخيرة قتله الزوج البائع) اهـ. وقال الأستاذ "محمد رشيد رضا" رحمه الله: "من الغرائب التي نقلت عن بعض صحف إنكلترا في هذه الأيام (74) أنه لا يزال يوجد في بلاد الأرياف الإنكليزية رجال يبيعون نساءهم بثمن بخس جدا كثلاثين شلنا، وقد ذكرت- أي الصحف الإنكليزية- أسماء بعضهم" (57) اهـ. أما وضع المرأة اليوم في ديار الكفار، فَحَدث ولا حرج عن الإذلال، والمهانة، والمجون، والخلاعة، والابتذال، والاستغلال، في أقسى صورها، وأبشع مظاهرها، التي لا يسيغها إلا ممسوخ الفطرة، منتكس السريرة، خبيث الطوية، وحسبك أن تنتقي أمة تتربع على قمة العالم الغربي الكافر كأمريكا، وترصد ما وصلت إليه المرأة من انحطاط أخلاقي، وانهيار اجتماعي، وتفكك أسري، يقول الدكتور "مصطفى السباعي " رحمه الله في وصف شيء من أحوال المرأة في الغرب: (وأما المرأة فقد دفع بها الوضع الاجتماعي الذي لا يرحم إلى أن   (74) وتاريخ طبع الكتاب 12 ربيع الأول سنة 1351 هـ، أي أن آثار الماضي كانت لا تزال باقية في إنكلترا إلى ما قبل حوالي ستين سنة فقط! (75) حقوق النساء في الإسلام" الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 أصبحت تطرد من المنزل بعد سن الثامنة عشرة لكى تبدأ في الكدح لنيل لقمة العيش، وإذا ما رغبت- أو أجبرتها الظروف- في البقاء في المنزل مع أسرتها بعد هذه السن، فإنها تدفع لوالديها إِيجار غرفتها، وثمن طعامها، وغسيل ملابسها، بل تدفع رسمًا معينا مقابل اتصالاتها الهاتفية) (76) اهـ. وحَدث- ولا حرج- عن ندرة الزواج، وشيوع البغاء، وتفشي الزنا واللواط، وكثرة اللقطاء، وارتفاع نسبة الطلاقَ، وتغلغل الأمراض التناسلية الفتاكة، وانتشار نكاح المحارم بصورة مفزعة، بل لقد وصلت المرأة إلى دركة من المهانة والانحلال لا يتخيلها عاقل: يقول الدكتور " نور الدين عتر": " حدثني صديق أنهى تخصصه العالي في أمريكا حديثا أن في الأمريكيين أقوامًا يتبادلون زوجاتهم لمدة معلومة، ثم يسترجع كل واحد زوجته المعارة، تماما كما يعير القروي دابته، أو الحضري في بلادنا شيئا من متاع بيته " (77) اهـ. فهذه لمحة خاطفة عن حال المرأة في عصر الحضارة المسماة حضارة القرن العشرين، وما هي بحضارة، وإنما هي قذارة وفجارة، عصرِ المساواة، وما هي بمساواة المرأة بالرجل، وإنما هي مساواة الإنسان بأخيه الحيوان: إيهِ عصرَ العشرين ظنوك عصرًا ... نيِّرَ الوجه مُسْعِدَ الإنسان لست (نورًا) بل أنت (نار) وظلم ... مذ جعلت الإنسان كالحيوانِ   (76) "المرأة بين الفقه والقانون" ص (300) . (77) " ماذا عن المرأة؟ " ص (15-16) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 [الفصل الثاني] المرأة عند العرب في الجاهلية والله إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرا، حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم) (78) . عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يكن لها حق الإرث، وكانوا يقولون في ذلك: " لا يرثنا إلا من يحمل السيف، ويحمي البيضة) ، فإذا مات الرجل ورثه ابنه، فإن لم يكن فأقرب من وجد من أوليائه أبا كان أو أخا أو عمُّا، على حين يضم بناته ونساؤه إلى بنات الوارث ونسائه، فيكون لهن ما لهن، وعليهن ما عليهن. ولم يكن لها على زوجها أي حق، وليس للطلاق عدد محدود، ولا لتعدد الزوجات عدد معين، وكانوا إذا مات الرجل وله زوجة وأولاد من غيرها، كان الولد الأكبر أحق بزوجة أبيه من غيره، فهو يعتبرها إرثا كبقيهَ أموال أبيه، فإن أراد أن يعلن عن رغبته في الزواج منها طرح عليها ثوبًا، وإلا كان لها أن تتزوج بمن تشاء، وفي هذا يقول ناظم عمود النسب- وهو يعدد مختلقات الجاهلية: (وأن من ألقى على زوج أبيه ... ونحوه بعد التوى (79) ثوبًا يريه أولى بها من نفسها إن شاء ... نكح أو أنكح أو أساء بالعضل كي يرثها أو تفتدي ... ومهرها في النكحتين للردي) (80)   (78) انظر: " فتح الباري، (10/301) ط: السلفية. (79) تَوِيَ تَوًى - كَرَضِيَ - هَلَكَ. "مختار القاموس" ص (80) . (80) "أضواء البيان" للشنقيطي (1/279) ، وانظر: " الكشاف، للزمخشري (1/513) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " كان الرجل إذا مات أبوه أو حموه فهو أحق بامرأته، إن شاء أمسكها أو يحبسها حتى تفتدى بصداقها، أو تموت فيذهب بمالها". وعن عطاء بن أبي رباح قال: " إن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجل فترك امرأة حبسها أهله على الصبي يكون فيهم"، وحكى ابن جرير رحمه الله: " أن الرجل في الجاهلية كان يموت أبوه أو أخوه أو ابنه، فإذا مات وترك امرأته، فإن سبق وارث الميت فألقى عليها ثوبه، فهو أحق بها أن ينكحها بمهر صاحبه أو ينكحها فيأخذ مهرها، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها فهى أحق بنفسها" (81) . وقد كان نكاح زوجات الآباء معروفًا في الجاهلية، فعله كثير من العرب (82) ، وهذا الذي نهى الله عنه بقوله جل وعلا: (ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتَا وساء سبيلًا) (النساء: 22) . وكانت المرأة تُمسَك ضرارًا للاعتداء، وتلاقي مِن بعلها نشوزًا أو إعراضا، وتُترك أحيانا كالمعلقة. وكان أحدهم إذا أراد نجابة الولد حمل امرأته - بعد طهرها من   (81) " تفسير الطبري" (4/307) . (82) وقد ذكر أسماء بعض منهم العلامة القرطبي في تفسيره (5/104) ، وكان بعض ذوى المروءات منهم يمقتون هذا النكاح، ويسمونه نكاح المقت، وكانوا يسمون الرجل الذي يزاحم أباه في امرأته غير أمه: " الضيزن"، وكانوا يسمون المولود من هذا النكاح: المتقْتِي، وأصل المقت: البغض. [انظر: "الجامع لأحكام القرآن" (5/104-105) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 الحيض- إلى الرجل النجيب كالشاعر والفارس، وتركها عنده حتى يستبين حملها منه، ثم عاد بها إلى بيته، وقد حملت بنجيب! وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " كانوا في الجاهلية يُكْرِهون إماءهم على الزنا، ويأخذون أجورهم ". وقال قتادة: "كان الرجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله، فيقعد حزينا سليبًا ينظر إلى ماله في يد غيره، فكانت تورث بينهم عداوة وبغضًا" (83) اهـ. وكان من المأكولات ما هو خالص للذكور ومحرم على الإناث، كما يأتي بيانه إِن شاء الله. وكان عند العرب في الجاهلية أنواع من الزواج الفاسد الذي كان يوجد عند كثير من الشعوب، ولا يزال بعضه إلى اليوم في البلاد الهمجية: - فمنها اشتراك الرهط من الرجال في الدخول على امرأة واحدة، وإعطائها الحق في الولد أن تلحقه بمن شاءت منهم. - ومنها نكاح الاستبضاع، وهو أن يأخذ الرجل لزوجه أن تمكن من نفسها رجلًا معينا من الرؤساء والكبراء المتصفين بالشجاعة أو الكرم ليكون لها منه ولد مثله، وقد مر ذكره آنفا (84) . - ومنها السفاح بالبغاء العلني، وكان عند العرب خاصا بالإماء دون   (83) ذكره الطبراني عند تفسير قوله تعالى: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون) المائدة آية (91) . (84) وهذان النوعان لا يزالان موجودان بصفة مطلقة دائمة عند بعض الأمم كالتبت وغيرها، وكان عند العرب مؤقتا ومقيدًا بما ذكرنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 الحرائر، "وكانوا لا يتحرجون من الزنا، وهم يتحرجون من ولاية اليتامى" (58) . - ومنها اتخاذ الأخدان أي الصواحب والعشيقات، وكانوا يستترون به، ويعدونه لؤما وخِسة (86) . - ومنها نكاح المتعة وهو المؤقت، وقد استقر أمر الشريعة على تحريمه، وتبيحه فرقة الشيعة الإمامية (87) . - ومنها نكاح البدل والمبادلة، وهو أن ينزل كل من الرجلين للآخر عن زوجته (88) . - ومنها نكاح الشغار، وهو أن يُزَوِّج الرجلَ امرأة بنته أو أخته أو من هي تحت ولايته على أن يزوجَه أخرى بغير مهر، صداقُ كُل واحدة بُضْعُ الأخرى. - وهذان النوعان مبنيان على قاعدة اعتبار المرأة ملكًا للرجل يتصرف فيها كما يتصرف في بهائمه وأمواله (89) . وأما المرتقون من العرب كقريش فكان نكاحهم هو الذي عليه المسلمون في الإسلام، من الخطبة والمهر والعقد، وهو الذي أقره الإسلام (90) ، مع إبطال بعض العادات الظالمة للنساء فيه، من استبدادٍ فى   (85) "الكشاف" للزمخشري (1/496) . (86) وهذان النوعان شائعان اليوم في أوربا كلها جهرا، وسرى منها إلى كثير من البلاد الشرقية. (87) وهو شائع بمعناه اليوم عند الإفرنج ويسمونه: نكاح التجربة. (88) "نيل الأوطار" (5/2) ط. دار التراث. (89) ولا يزالان، موجودين في الشعوب الهمجية كالغجر. (90) انظر: "فتح الباري" (9/150-152) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 تزويجهن كرهًا أو عضلهن -أي منعهن من الزواج- أو أكل مهورهن إلى غير ذلك. من عادات الجاهلية في الطلاق: (وكانت النساء أو بعضهن يطلقن الرجال في الجاهلية) (91) . (ولم يكن النساء يومذاك بحاجة إلى المصارحة بالطلاق، بل كان حسب البدويات منهن أن يحولن أبواب أخبيتهن إن كانت إلى الشرق فإلى الغرب، أو كانت إلى الجنوب فإلى الشمال) (92) . (وكان لهن- إذا لم يَكُن ذوات أخبية- أساليب يدللن بها الرجال على الطلاق، فليس لهم عليهن من سبيل، فكان بعضهن إذا تزوجت رجلًا، وأصبحت عنده كان أمرها إليها، وتكون علامة ارتضائها للزوج أن تعالج له طعامًا إذا أصبح) (93) . من عادات الجاهلية في الحداد: وكانت المرأة في الجاهلية إذا ذهب الموت بعزيز من آلها وعشيرتها فهناك يجتمع نساء الحي للمأتم، حواسر الرؤوس، سوافر الوجوه، يشققن الجيوب، ويلطمن الوجوه، ويهجن الباكيات، بما يثير الحزن الرابض، والشجو المميت، وعادة المَنَاحَةِ على السيد الشريف أن تظل سنة كاملة: *ومن يبكِ حولا كاملًا فقد اعتذر* وقد كانت العدة في الجاهلية حولًا كاملًا، وكانت المرأة تحد على   (91) "الأغاني" لأبي الفرج (16/102) . (92) السابق. (93) (المرأة العربية) (1/57-58) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 زوجها شر حداد وأقبحه، فتلبس شر ملابسها، وتسكن شر الغرف وهو (الحِفْش) (94) ، وتترك الزينة والتطيب والطهارة، فلا تمس ماءً، ولا تقلم ظفرًا، ولا تزيل شعرًا، ولا تبدو للناس في مجتمعهم، فإذا انتهى العام خرجت بأقبح منظر، وأنتن رائحة، فتنتظر مرور كلب لترمي عليه بعرة احتقارًا لهذه المدة التي قفتها، وتعظيمًا لحق زوجها عليها. وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: " يا رسول الله إن ابنتى توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها أفنكحُلها؟ " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا"، مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: "لا"، ثم قال صلى الله عليه وسلم: إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول" فقالت زينب: (كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حِفشا، ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيبًا ولا شيئًا حتى تمر عليها سنة، ثم تؤتى بدابة حمارٍ أو طير أو شاةٍ فتفتض به، فقلما تفتض بشيء إلا مات (59) ، ثم تخرج فتُعطى بعرة فترمي بها، ثم تراجع بعدُ ما شاءت من طيب أو غيره) (96) . وكان من عوائد النساء في الجاهلية بدعة " الإسعاد"، ومعناه إِعانة   (94) الحفش: البيت الصغير المظلم داخل البيت. (95) قال ابن قتيبة: (سألت الحجازيين عن الافتضاض، فذكروا أن المعتدة كانت لاتمس ماء، ولا تقلم ظفزا، ولا تزيل شعرًا، ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر ثم تفتض بطائر أي تمسح قُبُلَهَا به، فلا يكاد يعيش ما تفتض به) والمراد أنه يموت من نتنها- وانظر " فتح الباري" (9/484 - 490) ، و "روائع البيان" للصابوني (1/365 -367) . (96) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/596 -598) في الطلاق: باب ما جاء في الإحداد، والبخاري (427/9) في الطلاق: باب تحد المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا، ومسلم رقم (1486: 1489) في الطلاق: باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة، وغيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 النساء بعضهن بعضا في النياحة بموت الميت، فكان النساء يسرعن لمساعدة صاحبة الميت في النوح والبكاء، وتصير المساعدة دَيْنًا في ذمة المرأة المصابة ترى وجوب تأديته لكل من ساعدها (97) . وأد البنات في الجاهلية (من العرب من كان يرى البنت حملَا فادحًا يضعف دونه احتماله، وتتخاذل قواه لفرط ما يُشفق من وصمة الذل، ووصم العار، إذا وهنت نفسها، أو ذهب السباء بها، فكان بين أن يستبقيها على كره لها، ومضض منها، وترقب لموتها، أو يفزع إلى الحُفَر فيقذفها في جوفها، ويهيل التراب على غَضَارة عودها، ونضارة وجهها، وبدل أن يدعها تستقبل الوجود، وتستنشي نسيم الحياة، يدعها في غمرة الموت بين طباق الأرض!! ولو أننا افترضنا تلك الجريمة الموبقة بين جمهور العرب لما آمنا بتلك الجيوش الخضارم (98) التي وطئت نواصي الأرض، وطوقت أعناق الأمم، وهم أبناؤهم وحفدتهم، فالحق أن الوأد لم يكن معروفَا إلا في فرائق من ربيعة (99) وكِنْدة وتميم وطيء، وأفذاذ مغمورين لا يُعَدُّون قلةً من مختلف القبائل، وهم بين رجلين: رجل أملق من عقل ومال، فهو يخشى أن   (97) انظر "الإبداع في مضار الابتداع للشيخ على محفوظ رحمه الله (ص 224- 225) . (98) الخضارم: جمع خِضْرم بكسر الخاء والراء - الكثير الوفير من كل شيء. (99) قال الألوسي رحمه الله تعالى: (ورأيت إذ أنا يافع في بعض الكتب أن أول قبيلة وأدت من العرب ربيعة، وذلك أنهم أغير عليهم، فنهبت بنت لأمير لهم، فاستردها بعد الصلح، فخيرت برضى منه بين أبيها ومن هي عنده، فاختارت من هي عنده، وآثرته على أبيها، فغضب، وسن لقومه الوأد ففعلوه غيرة منهم، ومخافة أن يقع لهم بَعْدُ مثل ما وقع، وشاع في العرب غيرهم، والله تعالى أعلم بصحة ذلك) اهـ من " روح المعاني " (30/67) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 يسيء الفقر إلى أدب ابنته، ويهتك من سترها، ويبذل من عرضها، وآخر من سراة القوم ذهبت بعقله الغيرة، وهوى بنفسه الإشفاق من تبدل الحوادث، وتداول المَثُلات، وما عسى أن يصيبها من ذل أو سباء) (100) . وقد كانت بعض القبائل تئد البنات والأولاد أيضاً خشية الفقر (101) . وكانت بعض القبائل تقول: " الملائكة بنات الله "، فيفتلون بناتهم، ويقولون: " نلحقهن ببنات الله" - تعالى الله عن ذلك علوُّا كبيرًا. وقال قتادة: " كان مُضَرُ وخُزاعة يدفنون البنات أحياءً، وأشدهم في هذا تميم، زعموا خوف القهر عليهم، وطمع غير الأكفاء فيهن" (102) . وعنه أيضًا قال: (كان أحدهم يغذو كلبه، ويئد ابنته) اهـ (103) . (وكان بعضهم يغرقها، وبعضهم يذبحها) (104) . (وكان الرجل يشترط على امرأته: أنكِ تئدين جارية، وتستحيين أخرى، فإذا كانت الجارية التي توأد، غَدَا مِن عند أهله أو راح، وقال: أنت علىَّ كأمي إن رجعت إليك ولم تئديها، فترسل إلى نسوتها، فيحفرن   (100) "المرأة العربية" (1/44) . (101) وقد رَدَّ عليهم القرآن ذلك في قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئًا كبيرا) وقوله سبحانه: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم) فأبطل بالآية الأولى تخوفهم من الإملاق المتوقع، وفي الثانية من الإملاق الحاضر. (102) "الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي (10/117) . (103) "تفسير الطبري" (76/14) . (104) "روح المعاني" للألوسي (14/169) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 لها حفرة، فيتداولنها بينهن، فإذا بصرن به مقبلا دسسنها في حفرتها، وسوَّين عليها التراب) (105) . وكانوا في بعض الأحيان يئدون البنات بقسوة نادرة، فقد يتأخر وأد الموءودة (106) لسفر الوالد وشُغله، فلا يئدها إلا وقد كبرت، وصارت تعقل، وقد كان بعضهم يلقى الأنثى من شاهق (107) ، وقد حَكَوا في ذلك عن أنفسهم مبكيات: منها: ما رُوِىَ أن عمر رضي الله عنه قال: " أمران في الجاهلية، أحدهما يبكيني، والآخر يضحكني؛ أما الذي يبكيني: فقد ذهبت بابنة لي لوأدها، فكنت أحفر لها الحفرة، وتنفض التراب عن لحيتي، وهى لا تدرى ماذا أريد لها، فإذا تذكرتُ ذلك بكيت، والأخرى: كنت أصنع إلهَا من التمر، وأضعه عند رأسي يحرسني ليلًا، فإذا أصبحت معافى أكلته، فإذا تذكرت ذلك ضحكت من نفسي" (108) . وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول، وسئل عن هذه الآية: (وإذا الموءُودةُ سُئلت بأي ذنب قتلت) (109) ، فقال: (جاء قيس بن عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني وأدت ثماني بنات لي في الجاهلية" (110) ، فقال: "أعتق عن كل   (105) "الدر المنثور، للسيوطي (8/48) . (106) الموءودة: هي البنت التي تدفن حية، من الوأد وهو الثقل، كأنها سُميت بذلك لأنها تئقل بالتراب حتى تموت. (107) "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ " ص (68-70) والشاهق: المرتفع من الجبال والأبنية وغيرها. (108) "تتمة أضواء البيان" (9/63) . (109) التكوير (8، 9) . (110) في " بلوغ الأرب" (3/42 -43) أنه اعترف بوأد بضعة عشر بنتا من بناته في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 واحدة منهن رقبة"، قال: "إِني صاحب إبل"، قال: "اهْدِ إن شئت عن كل واحدة منهن بَدَنة" (111) . (وكان للعرب تفنن في الوأد، فمنهم من إذا صارت بنته سداسية يقول لأمها: "طيبيها، وزيِّنيها حتى أذهب بها إلى أحمائها"، وقد حفر لها بئرًا في الصحراء، فيبلغ بها البئر، فيقول لها: "انظري فيها"، ثم يدفعها من خلفها، ويهيل عليها التراب، حتى تستوي البئر بالأرض، ومنهم من كان إذا قربت امرأته من الوضع حفر حفرةً لتتمخض على رأس البئر، فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة، وإن ولدت ابنًا حبسته) (112) . وقد شنع القرآن المجيد على أهل الجاهلية بسبب وأدهم البنات، ومهانتها عندهم، وَصَوَّرَ ذلك أدق تصوير، فقال سبحانه وتعالى: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم لِيُرْدُوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون) الأنعام (137) . (وقالوا هذه أنعام وحَرث حِجر لا يطعمها إلا من نشاء) أي لا يأكلها إلا الرجال دون النساء، وقيل: خدام الأصنام، ثم بين سبحانه أن هذا تحكملم يرد به شرع، ولهذا قال: (بزعمهم) (وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراءً عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون. وقالوا ما في بطون هذه الأنعام) قال السيوطي (113) : وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما   = الجاهلية، وقال السيوطي: "أخرجه البزار، والحاكم في الكنى، والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنحوه، وفيه أنهن كن ثمان بنات" (الدر المنثور) (6/320) . (111) "الإصابة في تمييز الصحابة، (5/485) . (112) "تفسير القاسمي " (17/6072) . (113) "الدر المنثور" (3/48) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 قال: (اللبن، كانوا يحرمونه على إناثهم، ويشربونه ذكرانهم، وكانت الشاة إذا ولدت ذكرًا ذبحوه، فكان للرجال دون النساء، وإن كانت أنثى تُرِكَت فلم تُذْبَحْ، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء) (خالصة لذكورنا) أي حلال لهم خاصة، لا يشركهم فيه أحد من الإناث (ومحرم على أزواجنا) أي على جنس أزواجنا وهن الإناث، فيدخل في ذلك البنات والأخوات ونحوهن، (وإن يكن ميتة) أي ذلك حلال للذكور محرم على الإناث إن ولد حيُّا، وإن ولد ميتة (فهم) أي الذكور والإناث (فيه) أي فيما في بطون الأنعام (شركاء) يأكلون منه جميعاً (سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم) (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهًا بغير علم) أي لخفة عقولهم وجهلهم بصفات ربهم سبحانه (وحَرَّموا ما رزقهم الله افتراءً على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين) قال القرطبي: (أخبر بخسرانهم لوأدهم البنات وتحريمهم البحِيرة وغيرها بعقولهم، فقتلوا أولادهم سفها خوف الإملاق، وحجروا على أنفسهم في أموالهم، ولم يخشوا الإملاق) (114) اهـ، وقال قتادة: "هذا صنع أهل الجاهلية: كان أحدهم يقتل ابنته، مخافة السباء والفاقة، ويغذو كلبه" (115) ، ومن هنا قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام (قد خسر الذين قتلوا أولادهم) إلى قوله: (وما كانوا مهتدين) (116) . وقال عز وجل: (ويجعلون لله البناتِ سبحانه ولهم ما يشتهون، وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودًّا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هُون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون) (117) .   (114) "القرطبي" (7/96) . (115) ، (116) "الدر المنثور" (3/48) . (117) "النحل" (58-59) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 قوله سبحانه: (ويجعلون) أي يعتقدون أن (لله البناتِ) الإناث، وذلك أن خزاعة وكنانة كانوا يقولون: الملائكة بنات الله؟ بينه تعالى بقوله: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا) الآية، مع أن الإناث التي جعلوها لله يكرهونها لأنفسهم، ويأنفون منها كما قال تعالى: (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مُسْوَدًّا) أي لأن شدة الحزن والكآبة تُسَوِّدُ لون الوجه (وهو كظيم) أي: ممتلئ حزنا وهو ساكت، وقيل: ممتلئ غيطا على امرأته التي ولدت له الأنثى (118) (يتوارى من القوم من سوء ما بشر به) أي يختفي من أصحابه من أجل سوء ما بشر به لئلا يروا ما هو فيه من الحزن والكآبة، أو: لئلا يشمتوا به ويعيروه، ويحدث نفسه، وينظر: (أيمسكه) أي ما بشر به وهو الأنثى (على هُون) أي هوان وذل (أم يدسه في التراب) أي يدفن المذكور الذي هو الأنثى حيا في التراب، وهو ما كانوا يفعلون بالبنات من الوأد. قال العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى: (وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من بغضهم للبنات مشهور معروف في أشعارهم، ولما خطبت إلى عقيل بن علفة المرى ابنته " الجرباء" قال: وإني وإن سيق إلى المهرُ ... ألف وعُبدان وذَوْدٌ (119) عَشْرُ أحب أصهاري إلي القبرُ ويروى لعبد الله بن طاهر قوله: لِكُل أبي بِنْتٍ يُراعِى شئونَها ... ثلاثةُ أصهارٍ إذا حُمِدَ الصِّهْرُ فَبَعْلٌ يُراعِيها، وخِدْر يُكِنها ... وقبر يُوارِيها، وخيرُهم القبرُ   (118) وانظر: " الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (16/ 70- 71) . (119) "في القرطبي": (وخُورٌ عشر) اهـ. (10/118) ، جمع خوارة- على غير قياس، وهو الناقة الغزيرة اللبن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 وقال بعض الشعراء في هذا المعنى نفسه: جُعِلْتُ فِداكَ من النائبات ... ومُتعْتَ ما عِشْتَ في الطيبات سُرورانِ ما لَهُما ثالث ... حياةُ البنين وموتُ البنات وأصدقُ منْ ذَينِ قولُ الحكيـ ... ـم دَفْنُ البناتِ مِنَ المَكْرُمات (120) ومن مأثور قولهم لمن "رُزِئ" بأنثى - على حد تعبيرهم -: (آمنكم الله عارها، وكفاكم مؤنتهَا، وصاهرتم (121) القبر) ، وهم يزعمون أن موجب رغبتهم في موتهن، وشدة كراهيتهم لولادتهن: الخوف من العار، وتزوج غير الأكفاء، وأن تهان بناتهم بعد موتهم، كما قال الشاعر في ابنة له تسمى " مودة": "مودة تهوى عمر شيخ يسره ... لها الموت قبل الليل لو أنها تدرى يخاف عليها جفوة الناس بعده ... ولا ختن يرجى أود من القبر (122) ] وقال إسحاق بن خلف البهراني في نفس المعنى: لولا أمَيْمةُ لم أجزع من العدمِ ... ولم أجُب في الليالي جِنْدِس (123) الظلَمِ وزادني رغبة في العيش معرفتي ... ذُلَّ اليتيمةِ يجفوها ذوو الرَّحِم تهوى بقائي وأهوى موتها شفقا ... والموتُ أكرم نزَّالٍ على الحُرَم أحاذر الفقر يومَا أن يُلِمَّ بها ... فيكشف الستر عن لَحم على وَضَمِ (124) إذا تذكرتُ بنتي حين تندبني ... فاضت لرحمةِ بنتي عَبرتي بِدَمِ   (120) "مرآة النساء" ص (60) . (121) "تراجم سيدات بيت النبوة، ص (434) . (122) انظر: " أضواء البيان، للشنقيطي (3/261-262) . (123) شدة الظلام. (124) الوضم: الخوان يوضع عليه اللحم ليشوى، و "لحم على وضم" مثل يضرب لكل ذليل لا يعتصم من مكروه، وانظر: " القسم الثالث" ص (49) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 أخشى إضاعةَ عَم أو جفاءَ أخ ... وكنت أحنو عليها من أذى الكَلِمِ ما أنسَ لا أنسَ منها إذ تُوَدعُني ... والدَّمعُ يَجْري على الخدين ذا سَجَم لا تبرحن فإن مت فإن لنا ... ربا تكفلَ بالأرزاقِ والقَسمِ (125) ومن طرائف ما يُروى في ذلك: أنه كان لأبي حمزة الأعرابي زوجتان، فولدت إحداهما ابنة، فعز عليه ذلك، واجتنبها، وصار في بيت ضَرتِها، فأحسَّت به يومًا في بيت صاحبتها، فجعلت تُرَقِّصُ ابنتها الصغيرة، وتقول: ما لأبي حمزة لا يأتينا ... يظل في البيت الذي يلينا غضبان أن لا نَلِدَ البنينا ... تالله ما ذلك في أيدينا بل نحن كالأرض لزارعينا ... يَلبثُ ما قد زرعوه فينا وإنما نأخذ ما أعطينا فعرف أبو حمزة قُبْحَ ما فعل، وراجع امرأته (126) . موقف بعض سادات العرب من الوأد ذلك وقد نهض من سادات العرب مَن حال دون الوأد بما بذل من مال جم، وسعي وفير، ومن بين هؤلاء صَعْصَعَةُ بن ناجية التميمي، فقد كان يتلمس مَن مسها المخاض، فيغدو إليها، ويستوهب الرجل حياة مولوده إن كانت بنتا على أن يبذل له في سبيل ذلك بعيرًا وناقتين عُشَرَاوِيَيْن (127) ، فجاء الإسلام وقد افتدى أربعمائة وليدة (128) .   (125) " صون المكرمات برعاية البنات" ص (27-28) . (126) "صون المكرمات برعاية البنات" ص (25) . (127) الناقة العشراء: التي أتى عليها من وقت حملها، عشرة أشهر. (128) "الأغاني" (99/3) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 ومنهم زيد بن عمرو بن نُفَيل القرشي، كان يضرب بين مضارب القوم فإذا بَصُرَ بِرَجُل يَهُمُّ بوأد ابنته قال له: لا تقتلها، أنا أكفيك مؤونتها، فيأخذها، ويلي أمرها حتى تشب عن الطوق، فيقول لأبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤونتها (129) . وصعصعة بن ناجية بن عقال هو جد الفرزدق بن غالب، قال السيوطي: (وأخرج الطبراني عن صعصعة بن ناجية المجاشعي- وهو جد الفرزدق- قال: قلت: يا رسول الله إني عملت أعمالا في الجاهلية، فهل لي فيها مِنْ أجر؟ قال: وما عملت؟ قال: أحييت ثلاثمائة وستين موءودة أشترى كل واحدة منهن بناقتين عشراويين وجمل، فهل لي في ذلك من أجر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لك أجره إذا مَنَّ الله عليك بالإسلام) (130) . وروى أبو عبيدة أن صعصعة هذا وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد بني تميم، قال: وكان صعصعة منع الوأد في الجاهلية، فلم يدع تميما تئد وهو يقدر على ذلك، فجاء الإسلام وقد فدى في بعض الروايات أربعمائة موءودة، وفي أخرى ثلاثمائة، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (بأبي أنت وأمي أوصِني" فقال صلى الله عليه وسلم: "أوصيك بأمك وأبيك وأختك وأخيك وأدانيك أدانيك "، فقال: " زدني"، فقال صلى الله عليه وسلم: (احفظ ما بين لحييك ورجليك "، ثم قال صلى الله عليه وسلم: " ما من شيء بلغني عنك فعلتَهُ؟ " فقال " يا رسول الله! رَأيتُ الناس يموجون على غير وجه، ولم أدر أين الصواب، غير أني علمت أنهم ليسوا عليه، فرأيتهم يئدون بناتهم، فعرفت أن ربهم   (129) رواه البخاري تعليقا (7/110) في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: باب حديث زيد ابن عمرو بن نفيل. (130) " الدر المنثور" للسيوطي (6/320) ، وعزاه الحافظ في "الإصابة" (3/ 430) إلى ابن أبي عاصم، وابن السكن، والطبراني، وقال الهيثمي: (وفيه الطفيل بن عمرو التميمي، قال البخاري: " لا يصح حديثه"، وقال العقيلي: " لا يتابع عليه") اهـ. (1/95) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 عز وجل لم يأمرهم بذلك، فلم أتركهم، ففديت ما قدرت عليه) (131) . وقد افتخر الفرزدق بهذا في قوله: ومنا الذي منع الوائداتِ ... وأحيا الوئيد فلم يوأدِ وفي قوله أيضا (132) : أنا ابن عِقال وابن ليلى وغالب ... وفكّاكُ أغلال الأسير المُكَفرِ (133) وكان لنا شيخان ذو القبر (134) منهما ... وشيْخ أجار الناس من كل مَقبرِ على حِينِ لا تُحْيىَ البناتُ وإذ هُم ... عُكُوف على الأصنام حول المُدَورِ أنا ابن الذي رد المنيةَ فضلُه ... وما حَسَب دافعتُ عنه بِمُعْوِرِ أبي أحد الغيثين صعصعةُ الذي ... متى تُخلِفُ الجوزاءُ والنجمُ يُمطِرِ أجار بناتِ الوائدين ومن يُجرْ ... على القبر، يعلم أنه غيرُ مُخْفِرِ وفارق (135) ليل من نساءٍ أتت أَبي ... تعالج ريحا ليلُها غيرُ مُقْمِر فقالت: أجر لى ما ولدتُ فإنني ... أتيتك من هَزْلَي الحمولةِ مُقْتِر رأي الأرضَ منها راحة فرمى بها ... إلى خُدَدٍ منها وفي شر مَخْفَر فقال لها: نامى فأنتِ بذمتي ... لبنتكِ جار من أبيها القَنَوَّر (136)   (131) انظر: " الإصابة" (3/430- 431) ، و"كشف الخفا" (1/58) رقم (144) . (132) من قصيدته التي مطلعها: بني نهشل أبقوا عليكم ولم تروا ... سوابقه حام للذمار مُشَهر (الديوان 2/ 474) (133) المكفر: هو الذي كُفر، وكُبلَ بالحديد. (134) ذو القبر: غالب، كان يستجار بقبره والعياذ بالله، والذي أجار الناس من القبر، وأحيا الوئيدة: صعصعة. (135) فارق: يعني امرأة ماخضًا، شبهها بالفارق من الإبل، وهي الناقة التي يضربها المخاض فتفارق الإبل، وتمضى على وجهها حتى تضع. (136) القنور: السيء الخلق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 ويقال: (إنه اجتمع جرير والفرزدق يومًا عند سليمان بن عبد الملك، فافتخرا، فقال الفرزدق: أنا ابن محيي الموتى، فقال له سليمان: أنت ابن محيي الموتى؟ فقال: إن جدي أحيا الموءودة، وقد قال تعالى: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا) (137) وقد أحيا جدي اثنتين وتسعين موءودة، فتبسم سليمان، وقال: " إنك مع شعرك لَفَقِيه"، نقله المرتضي في " أماليه") (138) اهـ. وبالجملة فكان الوأد عادة من أشنع العوائد في الجاهلية مما يدل على نهاية القسوة، وتمام الجفاء والغلظة.   (137) المائدة (32) . (138) "محاسن التأويل" للقاسمي (17/6074) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 الباب الثالث شمس الإسلام تشرق على المرأة [الفصل الأول] "إنما النساء شقائق الرجال" (139) حديث شريف (أسفر نور الإسلام، فافترَّ ثغر الدهر لنساء العرب عن جو مشرق، وأمل بعيد، وأسلوب من الحياة جديد. رسخت أصول الإسلام، وورفت ظلاله، وخفقت على الخافقين أعلامه، ونعمت المرأة تحت ظله بوثوق الإيمان، ونهلت من معين العلم، وضربت بسهم في الاجتهاد، وشُرع لها من الحقوق ما لم يُشْرَع لأمة من الأمم في عصر من العصور، فقد أمعنت في سبيل الكمال طلقة العِنان، حتى أخملت مَنْ بين يديها، وأعجزت من خلفها، فلم تشبهها امرأة من نساء العالمين في جلال حياتها وسناء منزلتها.   (139) قال الخطابي في " المعالم": (أي نظائرهم وأمثالهم في الخلق والطباع، فكأنهن شُققن من الرجال) اهـ (1/79) - والحديث رواه عن عائشة رضي الله عنها الإمام أحمد في " المسند" (6/256) ، وأبو داود رقم (236) في الطهارة: باب في الرجل يجد البلة في منامه، والترمذي رقم (113) في الطهارة: باب ما جاء فيمن يستيقظ فيرى بللًا، ولا يذكر احتلاما، والدارمي في "سننه" (ا/ 195-196) ، وابن ماجه (1/110) وصححه الشيخان: أحمد شاكر في "تحقيق الترمذي" (1/190 -192) ، والألباني في " صحيح الجامع، (2/281) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 تلك هي المرأة التي وثب بها الإسلام، ووثبت به، وكان أثرها في تكوين رجاله، وتصريف حوادثه أشبه ما يكون بأثر الغدير الهادئ الفياض في زَهْر الرياض) (14) . مظاهر تكريم الإسلام للمرأة لم يعتبر الإسلام المرأة جرثومة خبيثة كما اعتبرها الآخرون، ولكنه قرر حقيقة تزيل هذا الهوان عنها، وهي أن المرأة بين يدي الإسلام قسيمة الرجل، لها ما لها من الحقوق، وعليها أيضا من الواجبات ما يلائم تكوينها وفطرتها، وعلى الرجل بما اخْتُص بهِ من شرف الرجولة، وقوة الجَلَدِ، وبسطة اليد، واتساع الحيلة، أن يلي رياستها، فهو بذلك وليُّها؛ يحوطُها بقوته، ويذود عنها بدمه، وينفق عليها من كسب يده. ذلك ما أجمله الله، وضم أطرافه، وجمع حواشيه، بقوله تباركت آياته: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة) البقرة (228) . تلك هي درجة الرعاية والحياطة، لا يتجاوزها إلى قهر النفس، وجحود الحق. وكما قرن الله سبحانه بينهما في شئون الحياة، كذلك ساوى بينهما في الإنسانية، والموالاة، وتكاليف الإيمان، وحسن المثوبة، وادخار الأجر، وارتقاء الدرجات العلى في الجنة.   (140) "المرأة العربية، (2/14) بتصرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 المساواة في الإنسانية فالنساء والرجال في الإنسانية سواء، قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) الحجرات (13) . وهي قد خلقت من الرجل، قال سبحانه: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالًا كثيرًا ونساءً) الآية النساء (1) . وخلق المرأة نعمة عظيمة ينبغي أن يحمد الرجال ربهم عليها، قال تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمهَ) الروم (21) ، وقال عز وجل: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها) الآية، الأعراف (189) . وقال جَلَّ وعلا: (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجًا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة) النحل (72) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما النساء شقائق الرجال" (141) . المساواة في أغلب تكاليف الإيمان إذا كان مناط التكليف هو الأهلية، فلكل من الرجل والمرأة أهلية الوجوب، وأهلية الأداء، ما دام قد تقرر في ذمة كل منهما الواجبات الشرعية، فلا تبرأ ذمة كل منهما حتى يؤدي ما عليه من واجبات،؟ يكون له بمقتضى تلك الأهلية حقوق قِبَلَ غيره.   (141) تقدم تخريجه بهاش رقم (139) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 وقد وضع القرآن الكريم الرجل والمرأة على قدم المساواة في الالتزامات الأخلاقية، والتكاليف الدينية إلا في حالات مخصوصة خفَّف اللَه فيها عن المرأة رحمةً بها، ومراعاةً لفطرتها وتكوينها؟ سيأتي إن شاء الله. وإيمان النساء كإيمان الرجال: قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار) الآية، الممتحنة (10) . وقال تعالى: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احملوا بهتانا وإثما مبينًا) الأحزاب (58) . وقال سبحانه: (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق) البروج (10) . وأمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات جميعا فقال عَز وجل: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم) القنال (19) . وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من استغفر للمؤمنين وللمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة" (142) . ومن المجمع عليه المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن على النساء ما على الرجال من أركان الإسلام، إلا أن الصلاة تسقط عن المرأة في زمن الحيض والنفاس مطلقًا فتتركها، ولا تعيدها لكثرتها، وأما الصيام فيسقط   (142) قال في " مجمع الزوائد": (رواه الطبراني، وإسناده جيد) اهـ (10/ 210) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 عنها في زمنهما، وتقضي ما أفطرته من أيام رمضان لقلتها، وأما حجها فيصح في كل حال، ولكنها لا تطوف بالبيت الحرام إلا وهي طاهرة. المساواة في المسئولية المدنية في الحقوق المادية الخاصة (143) أكد الإسلام احترام شخصية المرأة المعنوية، وَسَواها بالرجل في أهلية الوجوب والأداء، وأثبت لها حقها في التصرف، ومباشرة جميع العقود: كحق البيع، وحق الشراء، وحق الدائن، وحق المدين، وحق الراهن، وحق المرتهن، كذلك حق الوكالة، والإجارة، والاتجار في المال الخاص، وما إلى ذلك، وكل هذه الحقوق المدنية واجبة النفاذ. ولقد أطلق الإسلام للمرأة حرية التصرف في هذه الأمور بالشكل الذي تريده، دون أية قيود تقيد حريتها في التصرف، سوى القيد الذي يقيد الرجل نفسه فيها، ألا وهو قيد المبدأ العام: أن لا تصدم الحرية بالحق أو الخير. قال تبارك وتعالى: (للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن) (النساء: 32) ، وجعل لها حق الميراث، فقال تعالى: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبًا مفروضًا) (النساء: 37) ، كما جعل صداقها ملكًا خالصا لها، لا يشاركها فيه أحد، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض   (143) من "الأسرة في ضوء الكتاب والسنة " للدكتور السيد أحمد فرج ص (29-32) بتصرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 ما آتيتموهن) الآيتان (النساء: 19- 20) . والمرأة في تملك هذه الحقوق شأنها أمام الشرع، شأن الرجل تمامًا إذا أحسنت أو أساءت، قال جل وعلا: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالًا من الله والله عزيز حكيم) (المائدة:38) . وقال عز وجل: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) (النور:2) . كذلك ساوت الشريعة بينهما في الدماء، وقررت أن يقتل الرجل بالمرأة، قال جل وعلا: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) (البقرة: 179) . وقال عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى) الآية (البقرة:178) . وهذه الآية تبين حكم النوع إذا قتل نوعه، ولم تتعرض لأحد النوعين إذا قتل الآخر، فهي محكمة، وفيها إجمال، يبينه قوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) الآية (المائدة: 45) . المساواة في جزاء الآخرة وقال تعالى: (من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) النحل (97) . وقَال عز وجل: (من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب) غافر (40) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 وقال سبحانه: (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا) النساء (124) . وقال عز وجل في أولي الألباب الذين يذكرون الله كثيرا، ويتفكرون في خلق السموات والأرض، وَيَدْعُونه: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) (144) آل عمران (195) وتأمل كيف أكد القرآن هذا المبدأ في قوله تعالى: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرًا والذاكرات أعَدَّ الله لهم مغفرة وأجرًا عظيمًا) (145) الأحزاب (35)   (144) وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله عز وجل: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض - إلى - والله عنده حسن الثواب) . رواه الترمذي رقم (3026) في التفسير، والطبري رقم (8368) وفي سنده رجل من بني سلمة، رواه الحاكم (2/300) ، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه"، وبينَ الحاكم أن الرجل هو سلمة بن أبي سلمة، لم يخرج له سوى الترمذي، ولم يوثقه غير ابن حبان، وقال الحافظ: " مقبول" - انظر " التقريب " (1/317) . وقد قال الزمخشري في تفسير هذه الآية: (أي بجميع ذكوركم وإناثكم أصل واحد، فكل واحد منكم من الآخر أي من أصله، أو كأنه منه لفرط اتصالكم واتحادكم) اهـ. (145) وعن أم عمارة الأنصارية رضي الله عنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ما أرى كل شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء، فنزلت: (إن المسلمين والمسلمات - إلى قوله: أعد الله لهم مغفرة وأجرًا عظيما) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 فسوى سبحانه بين الزوج والزوجة والابن والبنت والعبد والأمة في هذه الصفات الجميلة، وما زال السلف رضوان الله عليهم على هذا المنهاج تجد أولادهم ونساءهم وعبيدهم وإماءهم في غالب أمرهم مشتركين في هذه الفضائل كلها. وقال سبحانه: (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله اكبر ذلك هو الفوز العظيم) التوبة (72) . وقال عز وجل: (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها، وَيُكَفًرَ عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما) الفتح (5) . وقال تبارك وتعالى: (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم   = أخرجه الترمذي رقم (3209) في التفسير: باب: ومن سورة الأحزاب، وقال: "هذا حديث حسن غريب" اهـ. وعن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها قالت: (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: " ما لنا لا نُذْكَرُ في القرآن كما يُذْكَرُ الرجال؟ "، قالت: فلم يَرُعْني منه - أي يفزعني ويفاجئني- يومئذ إلا ونداؤه على المنبر: قالت: وأنا أسرح شعري، فلففت شعري، ثم خرجت إلى حجرة من حجَر بيتي، فجعلت سمعي عند الجريد- معناه أنها رفعت رأسها إلى جهة الجريد الذي هو سقف المسجد إذا ذاك لقرب النبي صلى الله عليه وسلم منه وهو على المنبر، لكونه غير مرتفع عن المنبر كثيرا- فإذا هو يقول عند المنبر: يا أيها الناس إن الله يقول في كتابه: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات- إلى آخر الآية: أعد الله لهم مغفرة وأجرًا عظيما)) رواه الإمام أحمد في " المسند، (6 /301) ، والنسائي في "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف" (13/5824) ، والحاكم مختصرا، وصححه على شرط الشيخين، وأقره الذهبي (2/416) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم) الحديد (12) . وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت" (146) . فإذا احتمل الرجل نار الهجير، واصطلى جمرة الحرب، وتناثرت أوصاله تحت ظلال السيوف، فليس ذلك بزائده مثقالَ حبة عن المرأة إذا وفت لبيتها، وأخلصت لزوجها، وأحسنت القيام على بنيها. وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد عبد الله بن رواحة، قال: فما تحوز (147) له عن فراشه، فقال: أتدري من شهداء أمتي؟ قالوا: قتل المسلم شهادة، قال: إن شهداء أمتي إذا لقليل قتل المسلم شهادة، والطاعون شهادة، والمرأة يقتلها ولدُها جمعاء (148) شهادة، يجرها ولدها بسرره (149) إِلى الجنة، (150) .   (146) رواه من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الإمام أحمد رقم (1661) (3/128) ، وقال الشيخ أحمد شاكر: "إسناده منقطع"، وعزاه الألباني في (آداب الزفاف" ص (286) إلى الطبراني في " الأوسط"، وابن حبان في" صحيحه" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأبي نعيم (6/308) ، والجرجاني عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وقال الألباني) (حديث حسن أو صحيح له طرق) اهـ. (147) تحوز: أي تنحى. (148) جمعاء: هي التي تموت وفي بطنها ولد. (149) السرة: ما يبقى بعد القطع مما تقطعه القابلة، والسرر ما تقطعه. (150) أخرجه الإمام أحمد، والدارمي، والطيالسي، وصحح الألباني إسناده في "أحكام الجنائز، ص (39) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 المساواة في الموالاة والتناصر قال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم) التوبة (72) . المساواة بين المؤمنات إزالة الفوارق ين النساء: مزق الإسلام حجب الفوارق بينَ النساء كما مزقها بين الرجال، فتطامنت الرؤوس، وتساوت النفوس، فلم يكن بين المرأة والمرأة إلا الخير تتقدم به، أو العمل الصالح تسبق إليه، فأما أن تُدِلَّ بعَرَض طارف، أو تعتز بحسب قديم فذلك ما لا يقدمها أنملة، ولا يغنى عنها من الله شيئا. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عز وجل: (وأنذر عشيرتك الأقربين) قال: يا معشر قريش" - أو كلمة نحوها - " اشتروا أنفسكم، لا أغنى عنكم من الله شيئَا، يابنى عبد مناف، لا أغني عنكم من الله شيئَا، يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا صفيةُ عمةَ رسول الله، لا أغني عنكِ من الله شيئًا، ويا فاطمةُ بنت محمد، سليني ما شئتِ من مالي، لا أغني عنكِ من الله شيئا") (151) .   (151) رواه البخاري (8/386) في تفسير سورة الشعراء: باب (وأنذر عشيرتك = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 لقد شرع الله للمؤمنين شِرعة الإخاء بقوله جل شأنه: (إنما المؤمنون إخوة) الحجرات (10) فلم يكن يفرق بين المسلمة والمسلم، ولا بين المسلم والمسلمة، إلا شريف الخلق وخسيسه، فذلك حيث يقول الله تباركت حكمته في كتابه الكريم: (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات، والطيبات للطيبين، والطيبون للطيبات) النور (26) ، وكذلك استن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة المساواة بقوله: "المسلم أخو المسلم" (152) ، وهو الذي يقول صلى الله عليه وسلم: (كل نسب وصِهْرٍ ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري" (153) ، ولا أدل على ما نقول من: [حديث فاطمة بنت الأسود المخزومية - وهي امرأة من ذوات الشرف والحسب في قريش - وَهَنت نفسها فسرقت، فقامت عليها البينة، فوجب عليها الحد فأَهَمَّ ذلك قريشًا، فقالوا: من يكلِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ   = الأقربين) ، وفي الوصايا، والأنبياء، ومسلم رقم (206) في الإيمان: باب قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) ، والترمذي رقم (3184) في التفسير: باب ومن سورة الشعراء، والنسائي (6/248) في الوصايا: إذا أوصى لعشيرته الأقربين. (152) طرف حديث أخرجه البخاري (5/70) في المظالم: باب لا يظلم المسلم المسلم، ولا يسلمه، وفي الإكراه، ومسلم رقم (2580) في البر والصلة ة باب تحريم الظلم، والترمذي رقم (1426) في الحدود: باب ما جاء في الستر على المسلم، كلهم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ورواه الترمذي رقم (1928) في البر والصلة: باب ما جاء في شفقة المسلم على المسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وزاد: " لا يخذله، ولا يكذبه، ولا يظلمه، وإن أحدكم مرآة أخيه، فإن رأى به أذى فليُمِطه عنه". (153) عزاه السيوطي إلى ابن عساكر عن ابن عمر رضي الله عنهما، ورمز له بالصحة، وقال المناوي: (قال الذهبي: فيه ابن وكيع لا يعتمد، لكن ورد فيه مرسل حسن" اهـ) من فيض القدير" (5/36) ، وصححه الألباني في " صحيح الجامع" (4/ 182) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلَّم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فتلوَن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " أتشفع في حَدّ من حدود الله؟ "، فقال أسامة: " استغفر لي يا رسول الله "، فلما كان بالعشي، قام فاختطب، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: " أما بعد، فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"، ثم أمر صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة التي سرقت، فقُطِعَتْ يَدُها"، قالت عائشة رضي الله عنها: فحسنت توبتها بعدُ وتزوجت، وكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها. إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (154) . ومن ذلك أن الله تعالى ذم سخرية بعض النساء من بعض، فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا) يسخر (نساء من نساء عسى أن يكن) المسخور بهن (خيرا منهن) يعني من الساخرات بهن، قيل: إنها نزلت لما أتت صفية بنت حيي بن أخطب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم (155) ، قال الحافظ الذهبي رحمه الله: (وفي جامع أبي عيسى، من طريق هاشم بن سعيد الكوفي: حدثنا كنانة: حدثتنا صفية بنت حُيي، قالت: دخل عَلَيَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بلغني عن عائشة وحفصة كلام، فذكرتُ له ذلك، فقال: "ألا قلتِ: وكيف   (154) أخرجه البخاري (12/76) في الحدود: باب إقامة الحدود على الشريف والوضيع، وفي الشهادات، وفي الأنبياء، وفي فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي المغازي، ومسلم رقم (1688) في الحدود: باب قطع السارق الشريف وغيره، والترمذي رقم (1430) في الحدود: باب ما جاء في كراهية أن يشفع في الحدود، وأبو داود رقم (4373) و (4374) في الحدود: باب في الحد يشفع فيه، والنسائي (8/74- 75) في السارق: باب ما يكون حرزا، وما لا يكون. (155) انظر: " زاد المسير في علم التفسير" (7/466) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 تكونان خيرا مني، وزوجي محمد، وأبي هارون، وعمي موسى" (156) ، وكان بلغها أنهما قالتا: نحن أكرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، نحن أزواجه، وبناتُ عمه) (157) . من مظاهر رحمة الإسلام بالمرأة أرأيت لو ذَهَبَتْ صبية جارية بقطيع من الغنم، فعدا الذئب على واحدة فأكلها، فنهض مولى الصبية إليها يضربها، أكان ذلك غريبا على الناس، بعيدَا عن مواقع أسماعهم وأبصارهم؟ لقد حدث ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وغدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بما أصاب به جاريته، واشتد غضب النبي صلى الله عليه وسلم، وشق عليه ما كان من ضرب الجارية، وَلنَدَعْ صاحبَ الواقعة معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه يحكيها لنا:   (156) وذلك لأنها رضي الله عنها بنت حيي بن أخطب بن سَعية، من سبط اللاوي ابن نبي الله إسرائيل بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، ثم من ذريته رسول الله هارون عليه السلام. (157) نقلًا من "سير أعلام النبلاء" (2/233) ، وقال محققه الشيخ شعيب الأرنؤوط: [أخرجه الترمذي (3892) في المناقب، والحاكم (4/29) ، وإسناده ضعيف لضعف هاشم بن سعيد الكوفي، وباقي رجاله ثقات، لكن يشهد له حديث أنس رضي الله عنه عند أحمد (3/135، 136) ، والترمذي (3894) من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن ثابت، عن أنس قال: (بلغ صفية أن حفصة قالت: "بنت يهودي"، فبكت، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تبكي، فقال: "ما يبكيك"؟ فقالت: "قالت لي حفصة: إني بنت يهودي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك لابنة نبي، وإن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي، ففيم تفخر عليك؟ "، ثم قال: " اتقي الله يا حفصة"، وإسناده صحيح] اهـ من هامش " سير أعلام النبلاء، (2/233) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 قال: رضي الله عنه: (كانت لي جارية ترعى غنمًا لي في قِبَل أُحُد والجوانية، فاطلعتها ذات يوم، فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم، آسَفُ كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فَعَظَّمَ ذلك عَلَيَّ، قلت: " يا رسول الله أفلا أعتقها؟ " قال: "ائتني بها"، فأتيته بها، فقال لها: " أين الله؟ "، فقالت: "في السماء"، قال: " من أنا؟ "، قالت: " أنت رسول الله"، قال: " أعتقها، فإنها مؤمنة") (158) ، وقال مرة: "هي مؤمنة فأعتقها". وعن هلال بن يساف قال: (كنا نبيع البُر في دار سويد بن مُقَرن أخي النعمان بن مقرن، فخرجت جارية، فقالت لرجل مِنا كلمةً فلطمها، فغضب سويد- وفي رواية: فما رأيت سويدا أشد غضبًا منه ذلك اليوم، وقال له: عجز عليك إلا حُرُّ وجهها؟ لقد رأيتني سابع سبعة من بني مُقَرِّن، ما لنا خادم إلا واحدة، فلطمها أصغرنا، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نُعتقها) (159) . وكان من أشد ما يؤلم نفسه الكريمة صلى الله عليه وسلم أن يسمع الرجل يُعَير الرجل   (158) أخرجه مسلم (537) في المساجد وموضع الصلاة فيها: باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته، وأبو داود (930) في الصلاة: باب تشميت العاطس في الصلاة، والنسائي (3/ 14-19) في الصلاة: باب الكلام في الصلاة، والإمام أحمد (5/447، 448) ، وابن أبي شيبة (11/19 - 20) ، الطيالسي (1105) ، وابن أبي عاصم في "السنة" (1/215) رقم (489) ، والبيهقي في " الأسماء والصفات" ص (422) ، وفي "سننه" (7/387) ، والدارمي في " الرد على الجهمية" ص (21-22) ، والطبراني في " الكبير" (19/937، 938) من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه. (159) رواه مسلم رقم (1658) في الإيمان: باب صحبة المماليك، وأبو داود رقم (5166) ، (5167) في الأدب: باب في حق المملوك، والترمذي رقم (1542) في النذور: باب ما جاء في الرجل يلطم خادمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 بأمه، وآية ذلك ما حَدَّثَ المعرور بن سويد قال: (لقِيتُ أبا ذَر بالربَذَةِ (160) ، وعليه حُلًةٌ، وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك، فقال: إني ساببتُ رجلًا، فَعَيرتُه بأمه (161) ، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذَر، أعيرتَه بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خَوَلُكم (162) ، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليُلْبسهُ مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم") (163) . ومن مظاهر رفقه صلى الله عليه وسلم ورحمته بالنساء: ما رواه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (استأذن عمرُ على النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده نسوة من قريش يُكَلِّمنَهُ - وفي رواية: يسألنه، ويستكثِرنَه- عاليةً أصواتُهنَّ على صوتِهِ، فلما استأذن عُمَرُ قُمْنَ يبتدِرْنَ الحجابَ، فأذِن له النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل عُمَرُ والنبي يضحك، فقال عمر: (أضحَكَ الله سِنَّكَ (164) ، بأبي وأمي، قال: "عجبت من هؤلاء اللاتي كُن عندي، فلما سَمِعْنَ صوتَك ابتدرْنَ الحجابَ، قال عمر:   (160) الربَذَة: موضع بالبادية، بينه وبين المدينة ثلاث مراحل. (161) زاد البخاري في "الأدب": (وكانت أمه أعجمية فنلت منها"، وفى رواية: "قلت له: يا ابن السوداء". (162) الخوَلُ: حشمُ الرجل وأتباعه، واحدهم خائل، وهو مأخوذ من التخويل: التمليك، وقيل: من الرعاية. (163) رواه البخاري (1/ 80، 81) في الإيمان: باب المعاصي من أمر الجاهلية، وفي العتق: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " العبيد إخوانكم فأطعموهم مما تأكلون"، وفي الأدب: باب ما ينهى من السباب واللعن، ومسلم رقم (1661) في الإيمان: باب إطعام المملوك مما يأكل، وأبو داود، أرقام (5157) ، (5158) ، (5161) في الأدب: باب حق المملوك. (164) قال الحافظ في "الفتح": (لم يرد به الدعاء بكثرة الضحك، بل لازمه وهو = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 " فأنت يا رسولَ الله لَأحَقُّ أن يَهَبْنَ"، ثم قال عمر: (أي عَدُوَّاتِ أنفسِهن، أتهَبْنَنِي ولا تَهَبْنَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم؟!، قلن: "نعم، أنت أفَظُّ وأغلَظُ من (165) النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إيهِ (166) يا ابنَ الخطاب، والذي نفسي بيده، ما لَقِيَكَ الشيطان سالكًا فَجا إلا سَلَكَ فَجُّا غير فجًك " (167) . ومن مظاهر رفق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنساء: أنه صلى الله عليه وسلم وقف يبايعهن على أن يأتمرن بأوامر الله، ويجتنبن نواهيه، فقال صلى الله عليه وسلم: "فيما استطعتن، وأطقتن"، فقلت: " الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، (168) .   = السرور أو نفي ضد لازمه، وهو الحزن) اهـ. (165) نفى القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون الفظاظة والغلظة خلقًا لازما له صلى الله عليه وسلم فقد قال تعالى: (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) ، غير أنه صلى الله عليه وسلم قد يغضب لله في بعض الأحوال كإنكار المنكر مثلا، وكان صلى الله عليه وسلم لا يواجه أحدا بما يكره إلا في حق من حقوق الله تعالى، وكان عمر رضي الله عنه يبالغ في الزجر عن المكروهات مطلقا، وطلب المندوبات، فلهذا قال له النسوة ذلك - انظر "فتح الباري" (6/47) . (166) بالكسر والتنوين، ومعناها: حدثنا ما شئت، وبغير التنوين: زدنا مما حدثتنا. (167) رواه البخاري رقم (3683) (7/41) ط. السلفية، في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باب مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي بدء الخلق: باب صفة إبليس وجنوده، وفي الأدب: باب التبسم والضحك، ومسلم رقم (2396) في فضائل الصحابة: باب من فضائل عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (168) وأصل الحديث عن أميمة بنت رقيقة رضي الله عنها قالت: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة من المسلمين لنبايعه، فقلنا: يا رسول الله، جئنا لنبايعك على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيك في معروف"، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فيما = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 تحريم كل النساء في الحروب: حَرم الشرع الشريف قتل النساء والأطفال والشيوخ في الجهاد، إلا أن يقاتلوا، فيدْفعوا بالقتل: فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيشا قال: (انطلقوا باسم الله، لا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلَا صغيرًا، ولا امرأة، ولا تغُلُّوا، وضُمُّوا غنائمكم، وأصلحوا، وأحسنوا، إن الله يحب المحسنين" (169) . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (وُجدَت امرأة مقتولةً في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان) (170) ، وفي رواية: (فأنكر) .   = استطعتن، وأطقتن قالت: قلنا: " الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، بايعنا يا رسول الله، قال: " اذهبن فقد بايعتكن، إنما قولي لمائة امرأة، كقولي لامرأة واحدة، قالت: ولم يصافح رسول الله صلى الله عليه وسلم منا امرأة" رواه الإمام أحمد (6/353، 365) ، والإمام مالك في " الموطأ، (2/982) في البيعة: باب ما جاء في البيعة، والترمذي رقم (1597) : باب 7 في السير، والنسائي (7/149) في البيعة: باب بيعة النساء، وأخرجه ابن ماجه رقم (2874) في الجهاد: باب البيعة. (169) رواه أبو داود رقم (2614) في الجهاد: باب دعاء المشركين، وفي سنده خالد بن الفزر الراوي عن أنس، لم يوثقه غير ابن حبان، وبقية رجاله ثقات، وله شواهد تتقوى بها، أفاده الشيخ عبد القادر الأرناؤوط في " تحقيق جامع الأصول" (2/596) (170) رواه البخاري (6/104) في الجهاد: باب قتل الصبيان في الحرب، وباب قتل النساء في الحرب، ومسلم رقم (1744) في الجهاد: باب تحريم قتل النساء والصبيان، والموطأ (2/447) في الجهاد، والترمذي رقم (1569) في الجهاد، وأبو داود رقم (1668) في الجهاد، والدارمي في "سننه" (2/223) في السير، وابن ماجه رقم (2841) في الجهاد: باب الغارة والبيات وقتل النساء، والإمام أحمد (2/22، 23) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 وعن رباح بن الربيع رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فرأى الناس مجتمعين على شيء، فبعث رجلًا، فقال: " انظر علام اجتمع هؤلاء؟! "، فجاء، فقال: "على امرأةٍ قتيل، فقال: ما كانت هذه لِتُقاتِلَ" قال: وعلي المقدمة خالد بن الوليد، قال: فبعث رجلًا، فقال: "قل لخالد: لا تَقتُلَن امرأةً ولا عسيفًا (171) ") (172) . ورُوي عن عبد الرحمن بن كعب أنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين قتلوا ابن أبي الحُقَيق عن قتل النساء والولدان، قال: فكان رجل منهم يقول: " بَرحَتْ بنا امرأةُ ابنِ أبي الحُقَيقِ بالصياح، فأرفع السيفَ عليها، ثم أذكر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأكُف، ولولا ذلك لاسترحنا منها ") (173) . معاملة الحائض في السنة الشريفة: عن عائشة رضي الله عنها قالت: " كنت أشرب من الإناء وأنا حائض، ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم، فيضع فاه على موضع فِي " وفي رواية أبي داود والنسائي قالت: " كنت أتعرقُ العَرْقَ (174) وأنا حائض، فأعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيضع فَمَهُ في الموضع الذي وضعت فمي فيه، وكنت   (171) العسيف: الأجير. (172) أخرجه أبو داود رقم (2669) في الجهاد: باب في قتل النساء، والطحاوي 2/127) ، والحاكم (2/ 122) ، والإمام أحمد (3/488) ، وقال الحاكم: " صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في " الإرواء، (5/35) . (173) رواه الإمام مالك في "الموطأ" ص (277) في الجهاد: باب النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو، وقال الحافظ ابن عبد البر: " اتفق رواة الموطأ على إرساله" اهـ، وانظر " فتح الباري" (7/344) ط. السلفية. (174) العَرْق: العظم عليه بقية اللحم، وتعرقَه: إذا أكل ذلك اللحم الباقي عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 أشرب من القَدَح فأناوله إياه، فيضع فَمه في الموضع الذي كنت أشرب ". وفي رواية للنسائي عن شُريح بن هانئ أنه سألها: " هل تأكل المرأة مع زوجها وهي طامث؟ " (175) ، قالت: " نعم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوني، فآكل معه، وأنا عارِك (176) ، وكان يأخذُ العَرْقَ، فَيُقْسِمُ عَلَي فيه، فآخذُه فأتعَرَّقُ منه، ويضع فمَه حيث وضعت فمي من العَرْق، ويدعو بالشراب، فيقسم عَلَيَّ فيه، قبل أن يشرب منه، فآخذه فأشرب منه، ثم أضعه، فيأخذه فيشرب منه، ويضع فمه حيث وضعت فمي من القَدَح " (177) . وعن عبد الله بن سعد الأنصاري رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن مؤاكلة الحائض؟ فقال: "واكِلْها " (178) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخْرِجُ إليَّ رأسَه من المسجد، وهو مجاور- أي معتكف- فأغسله وأنا حائض" (179) . وعنها رضي الله عنها قالت: " إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتكئ في حَجْرِي   (175) طامث: حائض. (176) عارك: عَرَكَت المرأة تَعْرُك فهي عارِك: إذا حاضت. (177) رواه مسلم رقم (300) في الحيض: باب جواز غسل الحائض رأس زوجها، وأبو داود رقم (259) في الطهارة: باب في مؤاكلة الحائض ومجامعتها، والنسائي (1/148) في الطهارة: باب مؤاكلة الحائض والشرب من سؤرها. (178) أخرجه الترمذي رقم (133) في الطهارة: باب ما جاء في مؤاكلة الحائض وسؤرها، وفي الباب عن عائشة رضي الله عنها، وأنس رضي الله عنه، وقال الترمذي " حديث عبد الله بن سعد حديث حسن غريب، وهو قول عامة أهل العلم، لم يروا بمؤاكلة الحائض بأساً ". (179) رواه بهذا اللفظ مسلم رقم (297) في الحيض: باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 وأنا حائض، فيقرأ القرآن " (180) . وعنها رضي الله عنها قالت: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ناوليني الخُمرة (181) من المسجد، (182) ، قالت: قلت: (إني حائض"، قال: "إن حِيْضَتَك ليست في يدك") . كرامة المرأة المسلمة لئن قرن الإسلام بين الرجل والمرأة في عامة المواطن، لقد عرف لها نصيبها من رقة القلب، ودقة الوجدان، وأنها مناط شرف الرجل، وموطن عرضه، فاختصها بنصيب وافر من الحرمة والكرامة. إن كرامة المرأة في الإسلام تتناول شخصها وسيرتها، وتشمل مشهدها ومغيبها، فمن حقها أن تكون هي في موطن الرعاية والعناية، وأن   (180) رواه البخاري (1/342، 343) في الحيض: باب قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض، وفي التوحيد، ومسلم (3/211- نووي) في الحيض: باب جواز قراءة القرآن في حَجر الحائض، وأبو داود رقم (260) في الطهارة: باب في مؤاكلة الحائض ومجامعتها، والنسائي (1/191) في الحيض: باب الرجل يقرأ القرآن، ورأسه في حجر امرأته وهي حائض. (181) الخمرة: حصير صغير مضفور من ليف أو غيره بقدر الكف. (182) (قال القاضي عياض رضي الله عنه: معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها ذلك من المسجد، أي وهو في المسجد، لتناوله إياها من خارج المسجد، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تخرجها له من المسجد لأنه صلى الله عليه وسلم كان في المسجد معتكفا، وكانت عائشة رضي الله عنها في حجرتها وهي حائض لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن حيضتك ليست في يدك"، فإنما خافت من إدخال يدها المسجد، ولو كان أمرها بدخول المسجد لم يكن لتخصيص اليد معنى والله أعلم) اهـ نقلا من " شرح النووي، (3/210) ، والحديث رواه مسلم رقم (298) ، وأبو داود رقم (261) ، والترمذي رقم (134) ، والنسائي (1/192) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 يكون اسمها بمنجاة من لغو القول، ومنال اللسان. لقد كانت المرأة المسلمة تجير الخائف، وتفك العاني، وذلك كله إلى تجلة واحترام، بلغت منهما غايتهما. فقد أجارت أم هانئ بنت أبي طالب رجلين من أحمائها كتب عليهما القتل، وذلك مجمل حديثها في سبيل ذلك، قالت رضي الله عنها: (ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فوجدته يغتسل، وفاطمة ابنته تستره بثوبه، فسلمت عليه، فقال: " من هذه؟ "، فقلت: "أنا أم هانئ بنت أبي طالب "، فقال: "مرحبا بأم هانئ"، فلما فرغ من غسله، قام فصلى ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد، فلما انصرف قلت: " يا رسول الله، زعم ابنُ أمي عَلي: أنه قاتل رجلًا فد أجَرْتُه (183) - فلان بن هُبيرة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ"، قالت أم هانئ: " وذلك ضحى") . وفي رواية الترمذي: (أن أم هانئ قالت: أجرتُ رجلين من أحمائي (184) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد آمنا من آمنت") . وفي رواية أبي داود: (أنها أجارت رجلًا من المشركين يومَ الفتح، فأتتِ النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال: (قد أجرنا من أجرت، وآمنا من آمنت") (185) .   (183) أجَرتُ الرجل: منعت من يريده بسوء، وآمنته شره وأذاه. (184) حمو المرأة، وحموها، وحماها: أبو زوجها، ومن كان من قِبلِه. (185) رواه البخاري (1/331) في الغسل: باب التستر في الغسل عند الناس، وفي الصلاة، وفي الجهاد: باب أمان النساء وجوارهن، وفي الأدب، ومسلم رقم (336) في الحيض: باب تستر المغتسل بثوب ونحوه، وفي صلاة المسافرين وقصرها، و"الموطأ" (1/152) في قصر الصلاة: باب صلاة الضحى، والترمذي رقم (2735) في الاستئذان، وأبو داود رقم (1290) في الصلاة: باب صلاة = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (إن كانت المرأة لتجِيرُ على المسلمين، فيجوز" (186) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن المرأة لتأخذ على القوم، يعنى تُجِير على المسلمين " (187) . وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويُجير عليهم أقصاهم (188) ، وهم يد على مَن سواهم، (189) الحديث. ولما أسر المسلمون أبا العاص بن الربيع، وغنموا ماله فيما أسروا وغنموا وكان زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن الإسلام فرق بينهما، استجار أبو العاص بزينب رضي الله عنها فوعدته خيرًا، وانتظرت حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر بالمسلمين، ثم وقفت على بابها- في المسجد - فنادت بأعلى صوتها: "إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس هل سمعتم ما سمعت"؟ قالوا: "نعم"، قال: "فوالذي نفسي بيده ما علمت بشيء مما كان حتى سمعت الذي   = الضحى ورقم (2763) في الجهاد: باب في أمان المرأة، والنسائي (1/126) في الطهارة: باب ذكر الاستتار عند الاغتسال، وأخرجه الدارمي في "سننه" (1/339) في الصلاة: باب الضحى، والإمام أحمد (6/343، 423، 425) . (186) رواه أبو داود رقم (2764) في الجهاد: باب في أمان المرأة. (187) أخرجه الترمذي رقم (1579) في السير: باب ما جاء في أمان العبد والمرأة، وقال الترمذي: " حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في "المشكاة، رقم (3978) . (188) "يجير عليهم أقصاهم" يعني أن أبعد المسلمين دارًا يجير عليهم، ويمنعهم ممن يريدونه إِذا كان قد أعطاه بذلك عهدا، وقيل: هو إذا وَجه الإمام سرية فأجازوا أحدًا أمضاه. (189) رواه أبو داود رقم (4531) في الديات: باب إيقاد المسلم بالكافر، وابن ماجه رقم (2683) ، وصححه الألباني في" صحيح ابن ماجه" رقم (2172) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 سمعتم، المؤمنون يَد على من سواهم، يجير علَيهم أدناهم، وقد أجرنا من أجارت " (190) ، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزله دخلت عليه زينب فسألته أن يرد على أبي العاص ما أخِذَ منه ففعل (191) . أما كرامة سيرتها، وصيانة اسمها، فذلك ما لا نحسب شريعة من الشرائع حاطتهما بمثل حياطة الإسلام لهما، وحسبك أن الله سبحانه وتعالى اشتد في كتابه الكريم على قاذفي النساء في أعراضهن بأشد مما اشتد على القتلة وقطاع الطريق، فقد قال الله سبحانه في سورة النور: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون) النور (4) . فجعل سبحانه للقاذف عقوبة ثمانين جلدة، ثم دعم هذه العقوبة بأخرى أشد وأخزى وهي اتهامه أبد الدهر في ذمته، واطراح شهادته، فلا تقبل له شهادة أبدا، ثم وَسَمه بعد ذلك بسمة هي شر الثلاثة جميعا، وهي سمة الفسق، ووصمة الفجور. لم يكن كل ذلك عقاب أولئك الأثمة الجناة، فقد عاود الله أمرهم بعد ذلك بما هو أشد وأهول من تمزيق ألسنتهم فقال: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لُعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين) النور (23) وإن في حديث الإفك، وما أفاض الله في شأنه لموعظة وذكرى لقوم يعقلون.   (190) "السيرة" لابن هشام (1/653 - 659) ، والحاكم (3/236 - 237) . (191) وقد عاد أبو العاص بحد ذلك إلى مكة، فأدى الحقوق إلى أهلها، ثم آب إلى المدينة مسلما، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجه رضي الله عنها، وانظر: " سير أعلام النبلاء" (1/ 332 - 334) ، "الإصابة" (7/248) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 الوحي ينتصر للمرأة كان الوحي ربما ينزل إنصافًا للمرأة، وانتصارًا لحقها، يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (كنا في الجاهلية لا نعدُّ النساء شيئًا، فلما جاء الإسلام وذكَرَهُن الله رأينا لهن- بذلك- علينا حَقا) (192) إلخ. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا نتقي الكلام والانبساط إِلى نسائنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هيبةَ أن ينزل فينا شيء، فلما تُوُفّيَ تكلمنا، وانبسطنا) (193) . وتأمل كيف انتصر الوحي لتلك المرأة التي جاءت تجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحفلت كتب السنة بالروايات التي تفصل قصتها مع زوجها أوس ابن الصامت رضي الله عنه، تقول خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها: (فِيَّ والله، وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة) ، قالت: (كنت عنده، وكان شيخا كبيرًا قد ساء خُلُقه، قالت: فدخل عليَّ يومًا فراجعته بشيء، فغضب، فقال: "أنت عَلَي كظهر أمي"، فقالت: "والذي نفس خويلة بيده لا تخلص إليَّ، وقد قلتَ ما قلتَ، حتى يحكم فينا الله ورسولُه بحكمه"، فشكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل صدر السورة، ثم بين لها النبي صلى الله عليه وسلم حكم الظهار، وهو: عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينًا (194) .   (192) رواه البخاري (10/301- فتح) ط. السلفية. (193) رواه البخاري (9/253- فتح) ط. السلفية، والذي كانوا يتركونه كان من المباح، لكن الذي دخل تحت البراءة الأصلية، فكانوا يخافون أن ينزل في ذلك منع أو تحريم، وبعد الوفاة النبوية أمنوا ذلك، ففعلوه تمسكا بالبراءة الأصلية. (194) عزاه في " الدر المنثور، إلى الإمام أحمد (6/ 410) وأبي داود، وابن المنذر، = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 وفي رواية ابن أبي حاتم عن الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: " تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى علىَّ بعضُه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول: (يا رسول الله، أكل مالي، وأفنى شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني، وانقطع ولدي ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك "، قالت: فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير) (المجادلة: 1) (519) لقد نزل الوحي مؤيداً تلك المرأة الصالحة، وأعلى ذكرها حتى صار قرآنا يتلى في المحاريب. (عن ابن زيد قال: لقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأة يقال لها " خولة" وهو يسير مع الناس، فاستوقفته، فوقف لها، ودنا منها، وأصغى إليها رأسه، ووضع يديه على منكبيها حتى قضت حاجتها، وانصرفت، فقال له رجل: "يا أمير المؤمنين حبستَ رجالَ قريش على هذه العجوز؟ "، قال: "ويحك! وتدري من هذه؟ " قال: "لا"، قال: "هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سموات، هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل، ما انصرفت حتى تقضي حاجتها ") (196) .   = والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي من طريق يوسف بن عبد الله بن سلام (6/179) . (195) رواه البخاري (13/316) في التوحيد: باب قول الله تعالى: (وكان الله سميعا بصيرا) تعليقًا، ووصله النسائي (6/168) في النكاح: باب الظهار، وأخرجه الإمام أحمد في "المسند" (6/46) وصححه الحاكم في "المستدرك" (2/ 481) ، ووافقه الذهبي، وأخرجه ابن ماجه رقم (2063) من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها. (196) عزاه في " الدر المنثور، إلى ابن أبي حاتم، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (6/179) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 (وعن ثمامة بن حزن قال: بينما عمر بن الخطاب يسير على حماره، لقيته امرأة، فقالت: " قف يا عمر"، فوقف، فأغلظت له القول، فقال رجل: " يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم"، فقال: "وما يمنعني أن أستمع إليها، وهي التي استمع الله لها، وأنزل فيها ما أنزل: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها) الآية (197) . وفي بعض الروايات أنه رضي الله عنه مر بها في خلافته، والناس معه، على حمار، فاستوقفته طويلًا، ووعظته، وقالت: " يا عمر: قد كنت تدعى عميرا، ثم قيل لك: عمر، ثم قيل لك: أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر، فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب"، وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: " يا أمير المؤمنين"، أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف؟ ! ، قال: (والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لازلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هي خولة بنت ثعلبة، سمع الله قولها من فوق سبع سموات، أيسمع رب العالمين قولها، ولا يسمعه عمر؟!) . وصية النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء وكانت في رجال قريش صرامة على نسائهم، ومنهم من كان يعمد إليهن بالأذى، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ضرب في حياته امرأة ولا خادمَا- وهو الذي يقول: (اتقوا الله في النساء) (198) و (استوصوا بالنساء خيرًا) (199) ويقول: "إني أحَرِّج عليكم حَق الضعيفين: اليتيم، والمرأة " (200) ، وكان   (197) عزاه في " الدر المنثور " إلى البخاري في " تاريخه"، وابن مردويه (6/179) . (198) انظر تخريجه بهامش رقم (240) . (199) انظر تخريجه بهامش رقم (243) . (200) انظر تخريجه بهامش رقم (938) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 كأغضب ما يكون إذا سمع بامرأة يضربها زوجها: فعن عبد الله بن زمعة قال: وعظ النبي صلى الله عليه وسلم في النساء فقال: "يضربُ أحدكم امرأته ضرب العبدِ، ثم يعانقها آخر النهار؟ " (201) . وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: " ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده، ولا امرأة، ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن يُنْتَهَكَ شيء من محارم الله، فينتقم " (202) . وعن إياس بن عبد الله بن أبي ذُباب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تضربوا إماء الله"، فجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ذَئِرْنَ (203) النساء على أزواجهن"، فرخص في ضربهن،   (201) أخرجه البخاري (8/542) في تفسير سورة الشمس، وفي الأنبياء، وفي النكاح: باب ما يكره من ضرب النساء، وفي الأدب، ومسلم رقم (2855) في الجنة وصفة نعيمها، والترمذي رقم (3340) في التفسير: باب "ومن سورة الشمس، والدارمي (2/147) . رواه مسلم رقم (2327) في الفضائل: باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، وأبو داود رقم (4786) في الأدب: باب التجاوز في الأمر، والدارمي (2/147) بنحوه مختصرا. ذئرن النساء: من باب: " أكلوني البراغيث" على لغة بني الحارث، ومن باب قوله تعالى: (وأسروا النجوى الذين ظلموا) ، اجترأن ونشزن، ويقال الذائر: المغتاظ على خصمه، المستعد للشر، قال محيي السنة البغوي عليه الرحمة: (وفي الحديث دليل على أن ضرب النساء في منع حقوق النكاح مباح، ثم وجه ترتيب السنة على الكتاب في الضرب يحتمل أن يكون نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ضربهن قبل نزول الآية، ثم لما ذئر النساء، أذن في ضربهن، ونزل القرآن موافقا له، ثم لما بالغوا في الضرب، أخبر أن الضرب- وإن كان مباحًا على شكاسة أخلاقهن- فالتحمل والصبر على سوء أخلاقهن وترك الضرب أفضل وأجمل، ويُحكى عن الشافعي هذا المعنى) اهـ من " شرح السنة" (9/187) ، وانظر " فضل الله الصمد (1/81 - 83) ، = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير، يشكون أزواجهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن، ليس أولئك بخياركم) (204) ، وعن بهز بن حكيم حدثني أبي عن جدي قال: (قلت يا رسول الله نساؤنا ما نأتي منهن وما نذر؟ قال: ائت حرثك أنى شئت (205) ، وأطعمها إذا طعمت، واكسها إذا اكتسيت، ولا تُقَبح الوجه، ولا تضرب) (206) وفي رواية بزيادة: " ولا تهجر إلا في البيت". ولم يقف الإسلام من كرامة المرأة ورعايتها موقف المكتفي بكف الأذى عنها فحسب، بل كان مما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ترفيهها والحرص على سرورها، واجتلاب ما يفرحها، ويشرح صدرها في حدود ما أباحه الله وفي غير معصية فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت ألعب بالبنات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يأتيني صواحبي، قالت: فكن ينقمعن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،   = وانظر ص (454 -470) من هذا القسم. (204) رواه الإمام الشافعي (2/ 361، 362) ، وأبو داود رقم (2146) في النكاح: باب في ضرب النساء، وابن ماجه رقم (1985) في النكاح: باب ضرب النساء، والدارمي (2/147) في النكاح: باب في النهي عن ضرب النساء، وابن حبان رقم (1316) في النكاح: باب ضرب النساء (319 - 320) موارد، والحاكم في "المستدرك" (2/188) ، وقال: " هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه" وأقره الذهبي، وإياس مختلف في صحبته، انظر: " الإصابة" (1/165) ، وللحديث شاهد عند ابن حبان (1315 - موارد) من حديث ابن عباس، وآخر مرسل عند البيهقي (7/304) من حديث أم كلثوم بنت أبي بكر، والحديث صححه الألباني في " صحيح الجامع" رقم (7237) . (205) انظر آداب الزفاف للألباني ص (99 - 106) ، و" أضواء البيان، للشنقيطي (1/124-128) . (206) انظر تخريجه هامش رقم (737) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 قال أنس: ينقمعن (207) يفرِرْنَ، قالت: فكان النبي صلى الله عليه وسلم يُسَربُهُنَّ إليَّ، فيلعبن معي) (208) . (وعنها رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم من غزوة تبوك أو خيبر، وفي سَهْوَتها (209) سِتر، فهبت ريح، فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لُعَب، فقال: " ما هذا يا عائشة؟ "، قالت: " بناتي"، ورأى بينهن فرسا له جناحان من رقاع، فقال: " ما هذا الذي أرى وسطهن؟ " قالت: " فرس"، قال: (وما هذا الذي عليه؟ " قالت: " جناحان"، قال: " فرس له جناحان؟!) قالت: " أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة؟ " قالت: " فضحك حتى رأيت نواجذه" (210) . وعنها رضي الله عنها قالت: "والله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقُوم على باب حجرتي والحبشة يلعبون بالحراب في المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه لأنظر إلى لعبهم، بين أذنه وعاتقه، ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن (211) ، الحريصة   (207) أي يتغيبن، والانقماع: الدخول في بيت أو ستر، والمراد: يستترن حياء منه صلى الله عليه وسلم. (208) رواه البخاري (10/437) في الأدب: باب الانبساط إلى الناس، ومسلم رقم (2440) في فضائل الصحابة: باب في فضل عائشة رضي الله عنها، وأبو داود رقم (4931) بلفظ: (كنت ألعب بالبنات، فربما دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي الجواري، فإذا دخل خرجن، وإذا خرج دخلن) . (209) السهوة: صُفة صغيرة قدام البيت كالمخدع، وقيل: بيت صغير منحدر قليلا إلى الأرض. (210) رواه أبو داود رقم (4932) في الأدب: باب في اللعب بالبنات، وزاد الألباني عزوه إلى (النسائي في " عشرة النساء، (75/1) ، بسند صحيح، وابن عدى (182/1) مختصرا) اهـ. من " آداب الزفاف" ص (276) . (211) أي قيسوا قياس أمرها، وأنها مع حداثتها، وشهوتها النظر وحرصها عليه، كيف مسها التعب والإعياء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمسه شيء من ذلك حفظا لقلبها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 على اللهو" (212) . وقد دخل صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها يوم عيد فوجد عندها فتاتين تنشدان أشعارًا حربية، ولما لم يكن إلا بيت واحد فقد استلقى على فراشه، وولى ظهره إليهن، ولما دخل أبو بكر رضي الله عنه وسمع الصوت بالشعر عَنف ابنته فقال له صلى الله عليه وسلم: " دعهن يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا " (213) . اللهو المباح في العرس وعن عائشة رضي الله عنها: أنها زَفت امرأةً إلى رجل من الأنصار، فقال نبى الله صلى الله عليه وسلم: " يا عائشة، ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو " (214) . وعن محمد بن حاطب الجمَحي رضي الله عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فصل ما بين الحلال والحرام: الصوت بالدف " (215)   (212) انظر تخريجه برقم (1024) . (213) أصل الحديث رواه البخاري (2/366-370) في العيدين، والجهاد، وفضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي النكاح: باب حسن المعاشرة مع الأهل، ومسلم رقم (892) في العيدين: باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه، والنسائي (3/ 195-197) في العيدين، وباب الرخصة في الاستماع إلى الغناء وضرب الدف يوم العيد. (214) رواه البخاري (9/ 225) ط. السلفية في النكاح: باب النسوة اللاتي يهدين المرأة إلى زوجها، والحاكم (2/184) ، وعنه البيهقي (7/288) . (215) رواه الترمذي رقم (1088) في النكاح: باب ما جاء في إعلان النكاح، وحسنه، والنسائي (6/128، 127) في النكاح: باب إعلان النكاح بالصوت وضرب الدف، وابن ماجه (1896) ، والحاكم (2/184) وصححه، ووافقه الذهبي، والبيهقي (7/289) ، والإمام أحمد (3/418) ، (4/259) ، وقد حسنه الألباني في تحقيق = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 وفي: رواية: " الدف، والصوت ". وذلك لأن به يتم إعلان النكاح. ويروَى عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا: " أعلنوا هذا النكاح، واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه بالدفوف (216) . وعن عامر بن سعد رضي الله عنهما قال: (دخلت على قَرَظَة بن كعب واًبي مسعود الأنصاري في عُرْس، وإذا جوالي يغنين، فقلت: " أيْ صاحِبَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهلَ بدر، يُفعَل هذا عندكم؟ "، فقالا: " اجلس إن شئت فاسمع معنا، وإن شئت فاذهب، فإنه قد رُخصَ لنا في اللهو عند العرس ") (217) .   = المشكاة، (2/943) . (216) رواه الترمذي رقم (1089) في النكاح: باب ما جاء في إعلان النكاح، والبيهقي (7/290) ، وقال الترمذي: (حديث غريب حسن، وعيسى بن ميمون الأنصاري يضعف في الحديث) اهـ. وقال الحافظ في " الفتح": " وسنده ضعيف"، ثم قال رحمه الله: (واستدِل بقوله: "اضربوا" على أن ذلك لا يختص بالنساء، لكنه ضعيف، والأحاديث القوية فيها الإذن في ذلك للنساء، فلا يلتحق بهن الرجال لعموم النهى عن التشبه بهن) اهـ. من "فتح الباري" ط. السلفية (9/226) ، وتقدمه إليه الحليمي حيث خص حله بالنساء والحديث ضعفه أيضًا: ابن الجوزي، والزيلعي؟ في فيض القدير (2/ 11) . وقال الألباني: (وأما تحسين الترمذي للحديث فإنما هو باعتبار الفقرة الأولى منه، فإن له شاهدًا من حديث عبد الله بن الزبير مرفوعا، والترمذي إنما أورده في باب " ما جاء في إعلان النكاح" وأما الجملة التي بعدها فإني لم أجد لها شاهدا فهي لذلك منكرة) اهـ من: " سلسلة الأحاديث الضعيفة" (2/410) حديث رقم (978) . واعلم أنه بفرض صحة الحديث فإنه ينبغي أن يصان المسجد عن أن يضرب فيه بالدف، لكن يكون ذلك خارجه ويكون المأمور بجعله فيه هو مجرد العقد فحسب- أفاده بمعناه المناوي في " الفيض، (2/11) . (217) رواه النسائي (6/ 135) في النكاح: باب اللهو والغناء عند العرس، وسكت عليه = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 تنبيه: مما ينبغي أن يعلم أن هذا اللهو المباح إنما هو صوت الدف - وهو ما لا جلاجل له -، أو إِنشاد الجواري الصغار بأشعار مباحة، بخلاف الكلام المحظور، وغناء الفاجرات، والمعازف الإبليسية التي فتن بها أهل زماننا، نسأل الله العافية. حياته صلى الله عليه وسلم مع نسائه، وإحسانه إليهن أما حياته صلى الله عليه وسلم في بيته بين نسائه فقَد كانت المثل الأعلى في الموادة، والموادعة، والمواتاة، وترك الكلفة، وبذل المعونة، واجتناب هُجْر الكلام ومُرِّه، وهو الذي يقول: " خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي " (218) . عن الأسود قال: سألت عائشة رضي الله عنها: "ما كان يصنع النبي صلى الله عليه وسلم في أهله؟ "، فقالت: " كان يكون في مهنة (219) أهله، فإذا   = الحافظ في "الفتح" (9/226) ط. السلفية ورواه الحاكم (2/184) ، وزاد: " وفي البكاء عند المصيبة " قال شريك: أراه قال: " في غير نوح"، وفي رواية عن ثابت بن وديعة، وقرظة بن كعب: " إنه رخص في الغناء في العرس، والبكاء على الميت من غير نياحة، قال الحاكم: (صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي (184/2) . (218) رواه الطحاوي في "مشكل الآثار" (3/211) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وروى الشطر الأول منه الحاكم (4/173) ، وصححه، ووافقه الذهبي، وله شاهد من حديث عائشة رضي الله عنها أخرجه أبو نعيم في (الحلية، (7/138) ، والترمذي رقم (3892) في المناقب: باب في فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح"، وزاد في روايته: " وإذا مات صاحبكم فدعوه" أي: اتركوا ذكر مساوئه، ورواه بهذه الزيادة الدارمي (2/159) بدون قوله: " وأنا خيركم لأهلي"، وانظر: " المسند، للإمام أحمد (2/250، 472) . (219) المِهنَة: بكسر الميم وفتحها الخدمة، والمراد أنه كان يعاونهن، ويعمل معهن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 حضرت الصلاة قام إلى الصلاة" (220) . وعن عروة قال: سألت عائشة رضي الله عنها: " ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعمل في بيته؟ "، قالت: " يخصف (221) نعله، ويعمل ما يعمل الرجل في بيته " (222) . وعنه أيضا أنها قالت: " ما يصنع أحدكم في بيته: يخصف النعل، ويرقع الثوب، ويخيط) (223) . وعن عمرة قالت: (قيل لعائشة: " ماذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته؟، قالت: " كان بَشَرا من البَشَر؟ يفْلِي ثوبه، ويَحلُبُ شاتَه، ويَخدِم نفسه") (224) . وعنها رضي الله عنها أنها سئلت: " ما كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته؟ "، قالت: " كما يصنع أحدكم؛ يشيل هذا، ويحط هذا،   (220) أخرجه البخاري في " صحيحه، في صلاة الجماعة، والنفقات، والأدب (10/461) ، ط. السلفية، وفي " الأدب المفرد، رقم (538) بلفظ "خرج"، بدل: " قام، والترمذي في " الزهد". (221) يخصف نعله: يخرزها. (222) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، رقم (539) ، والإمام أحمد (6/121) بنحوه. (223) رواه البخاري في الأدب المفرد، رقم (540) ، وصححه ابن حبان، والإمام أحمد بنحوه (6/ 260) . (رواه البخاري في الأدب المفرد، رقم (541) بدون قولها (ويخدم نفسه، وعنه بهذه الزيادة الترمذي في " الشمائل، رقم (293) ، والبغوي في " شرح السنة" (3676) ، ورواه عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها الإمام أحمد (6/256) ، وابن حبان في صحيحه، (2136) ، وأبو نعيم في (الحلية، (1/331) ، وصححه الألباني في " الصحيحة" رقم (671) ، وروى ابن سعد عنها رضي الله عنها: " كان ألين الناس، وأكرم الناس، وكان رجلًا من رجالكم، إلا أنه كان بساما، كذا في (فتح الباري " (10/461) ط. السلفية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 ويخدم في مهنة أهله "، وفي رواية: " كان صلى الله عليه وسلم يخدم في مهنة أهله، ويقطع لهم اللحم، ويقمُّ البيت، ويعين الخادم في خدمته، (225) . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي: أف قط (226) ، وما قال لي لشيء صنعته: " لم صنعته؟ "، ولا لشيء تركته: " لم تركته؟ "؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خُلُقاً (227) الحديث. وكان صلى الله عليه وسلم من التبسط ورفع الكلفة إلى حَدِّ أن يستبق هو وامرأته كما جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وهي جارية، قالت: " لم أحمل اللحم، ولم أبدِن (228) ، فقال لأصحابه: "تقدموا"، فتقدموا، ثم قال: " تعالي أسابقك"، فسابقته، فسبقته على رجلي، فلما كان بعدُ، خرجت معه في سفر، فقال لأصحابه: "تقدموا"، ثم قال " تعالي أسابقك"، ونسيت الذي كان، وقد حَمَلْتُ اللحم، وبدنت، فقلت: " كيف أسابقك يا رسول الله وأنا على هذه   (225) " السمط الثمين، ص (12) . (226) أف: اسم فعل مضارع بمعنى: أتضجر، وأتوجع، وهي كلمة تبرم وملال، تقال لكل ما يتضجر منه. (227) رواه البخاري في " الأدب" والوصايا، و"الديات" وسلم رقم (4774) ، والترمذي رقم (2016) ، وفي "الشمائل " رقم (296) ، وأبو داود والدارمي (1/ 31) ، والبغوي رقم (2664) . واعلم أن هذا التسامح منه صلى الله عليه وسلم إنما فيما يتعلق بحظ الإنسان، وأما الأمور اللازمة شرعا فلا يتسامح فيها، لأنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. (228) بَدُنَ وبَدَّن: بالتشديد بمعنى كبر وأسن، وبالتخفيف من البدانة، وهي كثرة اللحم والسمنة، وهذا المعنى هو الأليق بالسياق، انظر النهاية (1/107) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 الحال؟ "، فقال: " لتفعلن"، فسابقته، فسبقني، فجعل يضحك، وقال: " هذه بتلك السبقة ") (229) . وعن عمر رضي الله عنه قال: (تغضبت يومًا على امرأتي، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك، فو الله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل؟، قال: فانطلقت، فدخلت على حفصة، فقلت: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم، قلت: وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم، قلت: " قد خاب من فعل ذلك منكن وخسرت (230) الحديث. وقال أنس رضي الله عنه في حديثه- عن صفية رضي الله عنها: (.. فكان صلى الله عليه وسلم يحوى لها وراءها بعباءة، ثم يجلس عند بعيره، فيضع ركبته، فتضع صفية رضي الله عنها رجلها على ركبته حتى تركب) (231) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بخزيرة قد طبختُها له، فقلت لسودة رضي الله عنها والنبي بيني وبينها: " كلي"،   (229) أخرجه أبو داود (403) ، والإمام أحمد (6/ 264) ، وابن ماجه (1/ 610) مختصرا، وغيرهم، وصححه الحافظ العراقي في " تخريج الإحياء، (2/40) ، وعزاه الألباني أيضا إلى النسائي في (عشرة النساء) (74/2) وصححه، كما في آداب الزفاف" ص (276) ط 1409 هـ. (230) قطعة من حديث طويل رواه عن ابن عباس رضي الله عنهما البخاري (8/503) ، في تفسير سورة التحريم: وفي كتاب المظالم: باب الغرفة والعلية، وفي النكاح، واللباس ومسلم رقم (1479) في الطلاق: باب الإيلاء واعتزال النساء، والترمذي رقم (3315) في التفسير: باب ومن سورة التحريم، والنسائي (4/ 137-138) في الصوم: باب كم الشهر؟ (231) رواه البخاري (1/404، 405) في الصلاة: باب ما يذكر في الفخذ، وفي الأذان، وَفي صلاة الخوف، وفي الجهاد، والأنبياء، والمغازي: باب غزوة خيبر، ومسلم رقم (1365) في النكاح: باب فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها، وفي المغازي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 فأبت، فقلت: " لتأكلين أو لألطِّخنَّ وجهَك"، فأبت، فوضعتُ يدي في الخزيرة فطليت وجهها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم فوضع بيده لها: وقال لها: الطخي وجهها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم) ، وفي رواية: (فخفض لها ركبته لتستقيد مني، فتناولَت من الصحفَةِ شيئًا، فَمَسَحَتْ به وجهي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك) (232) . وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: (جاء أبو بكر يستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فسمع عائشة رضي الله عنها وهي رافعة صوتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن له، فدخل، فقال: (يا ابنة أم رومان أترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ، وتناولها أبوها رضي الله عنه (233) (أترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ "، قال: فحال النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينها، فلما خرج أبو بكر رضي الله عنه جعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها يترضاها (234) : " ألا تَرَينَ أني قد حُلْتُ بين الرجل وبينك؟ "، قال: ثم جاء أبو بكر (235) رضي الله عنه فاستأذن عليه، فوجده يضاحكها، قال: فأذن له، فدخل، فقال أبو بكر: " يا رسول الله أشركاني في سِلمِكُما (236) كما أشركتماني   (232) رواه أبو يعلى الموصلي، "ورجاله رجال الصحيح خلا محمد بن عمرو بن علقمة، وحديثه حسن" كذا في " مجمع الزوائد، (4/316) ، وقال الحافظ العراقي في " تخريج الإحياء" (رواه الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة والمزاح، وأبو يعلى، بإسناد جيد) ، والخزير والخزيرة: لحم تقطع، ويصب عليه ماء كثير، فإذا نضج ذر عليه الدقيق. (233) وفي رواية أبي داود: " تناولها ليلطمها" وهو ضرب الخد، وهو منهي عنه، ولعله كان قبل النهي، أو وقع ذلك من أبي بكر رضي الله عنه لغلبة الغضب، أو أراد، ولم يلطم. (234) أي يلاطفها، ويمازحها، وهذا من كرم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وحسن معاشرته لأزواجه. (235) وجاء عند أبي داود: (قال: فمكث أبو بكر أياما) . (236) أي صلحكما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 في (237) حربكما) (238) . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم) (239) الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: " فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، (240) وفي رواية: (ألا واستوصوا بالنساء خيرَا، فإنهن عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة" (241) الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم: " إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائكم) (242) .   (237) زاد أبو داود: (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، قد فعلنا، قد فعلنا) . أخرجه الإمام أحمد (4/272) ، وأبو داود رقم (4978) (13/344) من " عون المعبود" في الأدب: باب ما جاء في المزاح، والنسائي في "عشرة النساء" كما في "تحفة الأشراف، (9/28) ، وسكت عنه أبو داود، والمنذري، " ورجاله كلهم ثقات، كما في " بلوغ الأماني، (16/234) . (239) رواه مسلم رقم (2316) في الفضائل: باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال. (240) رواه مسلم في الحج: باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، انظر: (شرح النووي" (8/183) . (241) رواه الترمذي رقم (3087) في تفسير سورة التوبة، وقال الترمذي: " هذا حديث حسن صحيح"، وفي الفتن: باب تحريم الدماء رقم (2610) ، وابن ماجه رقم (1873) من حديث عمرو بن الأحوص رضي الله عنه، وصححه الإمام ابن القيم في " زاد المعاد، (4/46) . و"عوانٍ، جمع عانية، وهى مؤنثة العاني، وهو الأسير، شبه النساء بالأسرى عند الرجال، لتحكمهم فيهن، واستيلائهم عليهن، وانظر: (آداب الزفاف" ص (270) . انظر تخريجه بهامش رقم (300) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 وقال صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالنساء خيرا، فإن المرأة خلقت من ضِلَع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء، (243) . وصدق الله العظيم: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) التوبة (128) . إبطال عادات الجاهلية في الجنائز لقد تأثرت المرأة بأدب الإسلام، وخرجت عما احتكم بها في الجاهلية من عادة نافرة، وتقليد ذميم، وكان أول ما لُقنت المرأة من أدب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الاعتصام بالصبر، إذا دجا الخطب، وجل المصاب، فحال الإسلام بينها وبين ما كانت تعتاده في الجاهلية إذا ذهب الموت بعزيز لها أو كريم من آلها من شق الجيوب، ولطم الوجوه، إلى غير ما ذكرناه سابقَا. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع النساء في المدينة: " على ألا يَنُحْنَ، ولا يخمشن وجهًا، ولا يشققن جيبًا، ولا يدعين ويلًا، ولا ينشرن شعرا، ولا يقلن هجرا " (244) . طوقت تلك البيعة أعناق المؤمنات جميعا، فأصبحت من أركان دينهن، وعمد إيمانهن، ثم أصغين إلى ما كتب الله للصابرين والصابرات من   (243) رواه البخاري (9/218) في النكاح: باب المداراة مع النساء، وفي الأنبياء، والأدب، والرقاق، ومسلم رقم (1468) في الرضاع: باب الوصية بالنساء، والترمذي رقم (1188) في الطلاق: باب ما جاء في مداراة النساء - من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وانظر: " زاد المسلم" (2/140) ، (3/263) . (244) انظر تخريجه هامش رقم (257) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 جليل الأجر وجميل المثوبة، ورأينه خَلة (245) الأنبياء وسنة الصديقين، وآية المقربين، وقرأن قول الله تباركت حكمته: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) وقوله جلت آياته في الصابرين: (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) البقرة (157) ، وسمعن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيما يرويه عن ربه عز وجل: (يقول الله: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صَفِيه (246) من أهل الدنيا ثم احتسبه (247) إلا الجنة (248) . وقوله صلى الله عليه وسلم للنساء: "ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجابا من النار " فقالت امرأة: " واثنين؟ " قال صلى الله عليه وسلم: " واثنين " (249) . كل ذلك وأشباهه - سمعنه ووعينه، فكان مسلاة نفوسهن، وراحة قلوبهن، وبرد أكبادهن (250) ، ثم جاءت السنة الشريفة بزواجر ومواعظ تبطل ما كان من عادات الجاهلية، وتنقضها من أصلها:   (245) الخلًة: بفتح الخاء، الخصلة، وجمعها: خِلالً. (246) صفي الإنسان: خليله، وخاصته الذي يصطفيه، ويختاره دون الناس. (247) احتسبه: أي ادخر أجره عند الله تعالى. (248) أخرجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه البخاري (11/207) في الرقاق: باب العمل الذي يبتغى به وجه الله. (249) رواه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه البخاري (1/175) في العلم: باب هل يجعل للنساء يوما على حدة في العلم، وفي الجنائز: باب فضل من مات له ولد فاحتسب، وفي الاعتصام: باب تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الرجال والنساء مما علمه الله ليس برأي ولا تمثيل، ومسلم رقم (2633) في البر والصلة: باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه. (250) وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر نماذج عملية لامتثال المؤمنات هذه التعاليم في الفصل الخامس من الباب الثالث: " المرأة مؤمنة مجاهدة صابرة،. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربع في أمتي من الجاهلية، لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعنُ في الأنساب، والاستسقاءُ بالنجوم، والنياحة"، وقال: " النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سِربال من قَطِرانٍ، ودِرْع من جَرَب (251) . والنوح: أمر زائد على البكاء، قال ابن العربي " النوح ما كانت الجاهلية تفعل، كان النساء يقفن متقابلات يصحن، ويحثين التراب على رؤوسهن، ويضربن وجوههن" اهـ نقله الأبي (252) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت " (253) . وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: " أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع البيعة ألا ننوح (254) . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعى بدعوى الجاهلية (255) .   (251) رواه مسلم رقم (934) في الجنائز: باب التشديد في النياحة. (252) " إكمال إكمال المعلم " (3/73) . (253) رواه مسلم رقم (67) في الإيمان: باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة. (254) رواه البخاري (3/141) في الجنائز: باب ما ينهى من النوح والبكاء والزجر من ذلك، وفي تفسير سورة الممتحنة، وفي الأحكام، ومسلم رقم (936) في الجنائز: باب التشديد في النياحة، والنسائي (7/148، 149) في البيعة: بيعة النساء، وأبو داود رقم (3127) في الجنائز: باب في النوح، والبيهقي (4/62) . (255) انظر تخريجه بهامش رقم (274) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 وعن أبي بردة بن أبي موسى رضي الله عنهما قال: " وَجِعَ أبو موسى وجعًا، فَغشِيَ عليه، ورأسه في حَجْر امرأةٍ من أهله، فصاحت امرأة من أهله، فلم يستطع أن يَرُدَّ عليها شيئًا، فلما أفاق قال: (أنا بريء ممن برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالِقة، والحالِقة، والشاقة ") (256) . وعن امرأة من المبايعات قالت: (كان فيما أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعروف الذي أخذ علينا أن لا نَعْصِيَه فيه: أن لا نُخَمّش وجهًا، ولا ندعُوَ ويلًا، ولا نشُق جيبًا، وأن لا ننشر شعرًا " (257) . (وحكى الأوزاعي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع صوت بكاء فدخل ومعه غيره، فمال عليهم ضربًا حتى بلغ النائحة، فضربها حتى سقط خمارها، فقال: " اضرب فإنها نائحة ولا حرمة لها، إنها لا تبكي لشجوكم، إنها تهريق دموعها على أخذ دراهمكم، وإنها تؤذى موتاكم في قبورهم، وأحياكم في دورهم، إنها تنهى عن الصبر، وقد أمر الله به، وتأمر   (256) رواه البخاري تعليقًا (3/132) في الجنائز: باب ما ينهى عن الحلق عند المصيبة، وقد وصله مسلم رقم (104) في الإيمان: باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب، والدعاء بدعوى الجاهلية، وأبو داود رقم (3130) في الجنائز: باب في النوح، والنسائي (4/20) في الجنائز: باب السلق، وباب الحلق. والصالقة: التي ترفع صوتها، وتصرخ عند المصيبة وَتضج. والحالقة: التي تحلق شعرها عند المصيبة. والشاقة: التي تَشُق ثيابها. (257) رواه أبو داود رقم (3131) في الجنائز: باب في النوح، ومن طريقه البيهقي (4/64) ، وصححه الألباني في أحكام الجنائز، ص (30) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 بالجزع، وقد نهى الله عنه) (258) اهـ. وعن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ على النساء - حين بايعهنَّ- ألا يَنُحْنَ، فقلن: " يا رسول الله، إن نساء أسْعَدْتَنا في الجاهلية: أفَنُسْعِدُهُن؟ "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا إسعادَ في الإسلام " (259) . والإسعاد: إعانة النساء بعضهن بعضا في النياحة بموت الميت. وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: " لما مات أبو سلمة قلت: غريب وفي أرض غُرْبة، لأبكينه بكاءً يُتَحَدثُ عنه، فكنتُ قد تهيأتُ للبكاء عليه، إذ أقبلت امرأة من الصعيد تريد أن تُسْعِدَني، فاستقبلَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أتريدين أن تُدْخلي الشيطان بيتًا أخرجه الله منه؟ "مرتين "، فكففتُ عن البكاء، فلم أبكِ) (260) . قولها: " غريب وفي أرض غربة ": معناه أنه كان من أهل مكة، ومات بالمدينة. والمراد بالصعيد هنا: عوالي المدينة، وأصل الصعيد في اللغة وجه الأرض سواء كان عليه تراب أوْ لا. كراهة الاجتماع للتعزية: وكان من هدي الإسلام في الجنائز أن كره الاجتماع للتعزية في مكان   (258)) الزواجر، للهيثمي (1/160) ، وانظر " الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (18/75) . (259) رواه النسائي (4/16) في الجنائز: باب النياحة على الميت، والإمام أحمد في "المسند" (3/197) ، وصححه ابن حبان رقم (738 - موارد) . (260) رواه مسلم رقم (922) في الجنائز: باب البكاء على الميت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 خاص كالدار أو المقبرة أو المسجد، وذلك لحديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: " كنا نعد - وفي رواية: نرى - الاجتماع إلى أهل الميت، وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة" (261) ، قال النووي رحمه الله: " وأما الجلوس للتعزية فنص الشافعي والمصنف (262) وسائر الأصحاب على كراهته، قالوا: يعني بالجلوس لها أن يجتمع أهل الميت في بيت فيقصدهم من أراد التعزية، قالوا: بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم، فمن صادفهم عزاهم، ولا فرق بين الرجال والنساء في كراهة الجلوس لها " (263) . الترخيص في البكاء بغير نوح: على أن الإسلام قد أباح للناس أن يشتفوا بالدمع، ويستريحوا إلى البكاء، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل ابنًا لابنته زينب قد حُضر، ونفسه تقعقع في صدره، ففاضت عيناه، فقال له سعد بن عبادة رضي الله عنه: " ما هذا يا رسول الله وقد نهيت عن البكاء؟ "، قال: "إنما هذه رحمة يضعها الله في قلوب من يشاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء ") (264) .   (261) أخرجه الإمام أحمد رقم (6905) ، وابن ماجه (1/252) ، وصححه النووي في "المجموع" (5/320) ، والبوصيري في "الزوائد" (1/535) ، والشوكاني في " نيل الأوطار، (4/148) ، والشيخ أحمد شاكر في تحقيق المسند " (11/125) . (262) يعني الإمام أبا إسحاق الشيرازي صاحب " المهذب، رحمه الله. (263) "المجموع" (5/306) . (264) رواه البخاري (3/124 -126) في الجنائز: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه "، وفي المرضى: باب عادة الصبيان، وفي القدر، وفي الإيمان والنذور، وفي التوحيد، ومسلم رقم (923) في الجنائز: باب البكاء على الميت، والنسائي (4/22) في الجنائز: باب الأمر بالاحتساب والصبر عند نزول المصيبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 وعن أنس رضي الله عنه قال: (دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أي سيف القَيْن - وكان ظِئرًا (265) لإبراهيم عليه السلام - فأخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم، فقبَّله وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك، وإبراهيمُ يجودُ بنفسه، فَجَعَلَتْ عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تَذْرِفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: " وأنتَ يا رسول الله؟ "، فقالَ: (يا ابنَ عوني، إنها رحمة"، ثم أتبعها بأخرى، فقال: " إنَّ العين تدمع، والقلب يخشع، ولا نقول إلا ما يرضِي رَبنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم محزونون) (266) . وعن عائشة رضي الله عنها: " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عثمان بن مظعون وهو ميت، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه فقبله، وبكى حتى رأيت الدموع تسيل على وجنتيه" (267) . هدي الإسلام في الحداد على الميت: ولا ينافي الصبر أن تمتنع المرأة من الزينة كلها حدادا على وفاة ولدها أو غيره إذا لم تزد على ثلاثة أيام، إلا على زوجها فتحد أربعة أشهر وعشرا لغير الحامل،: عن حميد بن نافع قال: " أخبرتني زينب بنت أبي سلمة قالت: دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أبوها أبو سفيان ابن حرب، فدعت أم حبيبة بطيب فيه صُفرَة خَلوق أو غيره، فدهنت منه جارية، ثم مَست بعارضَيها، ثم قالت: (والله ما لى بالطيب من   (265) أي زوج مرضعة إبراهيم عليه السلام. (266) رواه البخاري (3/139) في الجنائز: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنا بك لمحزونون، ومسلم رقم (2315) في الفضائل: باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال وتواضعه، وأبو داود رقم (3126) في الجنائز: باب في البكاء على الميت. (267) أخرجه أبو داود رقم (3163) في الجنائز: باب في تقبيل الميت، والترمذي رقم (989) في الجنائز: باب ما جاء في تقبيل الميت، وقال الترمذي: "حديث عائشة حديث حسن صحيح"، وقال: " وفي الباب عن ابن عباس وجابر وعائشة قالوا: = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 حاجة، غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدَّ على مَيّتٍ فوقَ ثلاثِ ليالٍ، إلا على زوجٍ: أربعةَ أشهر وعشرا ") ، قالت زينب: ثم دخلتُ على زينبَ بنتِ جحش حين توفي أخوها، فدعت بطيب فمسحت منه، ثم قالت: (أما والله، ما لي بالطيب من حاجة، غير أني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، الحديث) (268) . وإظهارًا لعدم التعرض للزواج، ومراعاة لحق الزوج في الوفاء له أوجب الشرع على الحادة أن تجتنب ما يدعو إلى نكاحها، ويرغب في النظر إليها، ويحسنها، وذلك أربعة أشياء: أحدها: الطيب (269) ، والثاني: اجتناب الزينة في نفسها كالخضاب والتحمير والحف وما أشبهه مما يُحَسنها كالاكتحال بالإثمد (270) واجتناب زينة الثياب المصبغة للتحسين، وكذا اجتناب الحلي، فيحرم عليها لبس الحلي كله حتى الخاتم في قول عامة أهل العلم.   = إن أبا بكر قبل النبي صلى الله عليه وسلم وهو ميت" (3/ 315) ، وأخرجه ابن ماجه رقم (1456) في الجنائز: باب ما جاء في تقبيل الميت. (268) رواه البخاري (9/427) في الطلاق: باب تحد المتوفى عنها أربعة أشهر وعشرا، وفي الجنائز، ومسلم رقم (1486) حتى (1489) في الطلاق: باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة، و" الموطأ" (2/596-598) في الطلاق: باب ما جاء في الإحداد، وأبو داود رقم (2299) في الطلاق: باب إحداد المتوفى عنها زوجها، والترمذي رقم (1195) ، (1196) ، (1197) في الطلاق: باب ما جاء في عدة المتوفى عنها زوجها، والنسائي (6/201) في الطلاق: باب ترك الزينة للحادة المسلمة دون النصرانية. (269) إلا عند أدنى طهرها إذا طهرت من حيضها بنبذة أو أظفار. (270) ولا تمنع من التنظيف بتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق الشعر المندوب إلى حلقه، ولا من الاغتسال بالسدر والامتشاط به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 والثالث: مما تجتنبه الحادة النقاب (271) ، وما في معناه مثل البرقع ونحوه، وإذا احتاجت إلى ستر وجهها أسدلت عليه كما تفعل المحرمة. والرابع: المبيت في غير منزلها- فيجب على الحادة أن تعتد في المنزل الذي مات زوجها وهي ساكنة به، سواء كان مملوكًا لزوجها أو بإجارة أو عارية إِلا لعذر (272) . تهذيب الإسلام لمشاعر المرأة (273) عمد الإسلام إلى قلب المرأة، فاستل سخيمته، وأخرج ضغينته، وطهره من غِل الثائر، نزعة الانتقام، وقد كان ذلك من أشد ما يجيش به صدرها، وتهتف به نفسها، ويقذف حممه فمها ولسانها، فاليوم وقد شرع الله القصاص في الدنيا والآخرة، واستنقذ العرب من مفارق الفُرق، ومنازع الفِتن، وألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانَا، فقد تبدل الحقد وُدُّا، واستحالت البغضاء ولاء. وأنى يكون لسخائم النفوس، وتطلب الأوتار، من أثر في صدر المرأة المؤمنة، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الداعين بدعوة الجاهلية، وقال: " ليس منا.. من دعا بدعوى الجاهلية " (274) ، وما دعوة الجاهلية إلا أن يقول   (271) انظر: " الإمداد بأحكام الحداد" للدكتور فيحان بن شالي المطيري ص (96) . (272) "المغني لابن قدامة (7/518-522) . (273) مستفاد من "المرأة العربية" (2/82-85) بتصرف يسير. (274) جزء من حديث أخرجه من حديث عبد الله بن مسعود: " البخاري (3/ 133) في الجنائز باب ليس منا من ضرب الحدود، وفي الأنبياء: باب ما ينهى من دعوى الجاهلية ومسلم رقم (103) في الإيمان: باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية، والترمذي رقم (999) في الجنائز باب ما = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 الرجل أو المرأة، " يا لَفلان"، فتعقد الألوية، وتجاش الجيوش، وتنتضي السيوف، وتخاض الدماء، إن ظالمًا وإن مظلومًا. وهل طوى قلب على أشد وأهول مما طوى عليه قلب هند ابنة عتبة، من سموم الموجدة، ونيران العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وآل بيته؟ فهم الذين قتلوا آلها يوم بدر، واستقادوا زوجها يوم زحفهم على مكة، وهي التي أهدر نبي الله صلى الله عليه وسلم دمها يوم فتح مكة جزاء تمثيلها بجثمان عمه حمزة يوم أحد، وكانت بقرت بطنه بعد مصرعه، وأخرجت كبده، فلاكتها، ثم لفظتها، وتلك شر نزعات الجاهلية، رُوي أن هندًا جاءت تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهى مقنعة، فقالت: "يا رسول الله الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه، لتنفعني رَحِمُك، يا محمد أني امرأة مؤمنة بالله، مصدقة برسوله " (527) ، ثم كشفت عن نقابها، فقالت: " أنا هند بنت عتبة"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مرحبًا بك"، فقالت: "والله ما كان على الأرض أهل خباء أحب إليَّ من أن يذلوا من خبائك، ولقد أصبحت وما على الأرض أهل خباء أحب إليَّ من أن يعزوا من خبائك) (276) . ففي سبيل الله، وفي سبيل دينه، ما غسل الدم، وزالت الوحشة، وأتلفت نوافر القلوب. وكما أن الله طهَّر نفس المرأة من الحقد، وأبرأ قلبها من قرحة الغل، كذلك حسر عن عقلها حجاب الجهل، ونزع عن إدراكها غشاء الأباطيل، فلم تخضع لعقيدة فاسدة، ولم ترضخ لوهم مُمَوَّه، وعلمت أن الله قد أسدل   = جاء في النهي عن ضرب الخدود، وشق الجيوب عند المصيبة، والنسائي (4/20) في الجنائز: باب ضرب الخدود. (275) وروي أنها لما أسلمت، جعلت تضرب صنمًا لها في بيتها بالقدوم حتى فَلَذَتهُ فلذة فلذة، وتقول: " كنا معك في غرور، من "الإصابة" (8/156) . (276) "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 171-172) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 حجب الغيب دون أوليائه وأصفيائه، فلم تطلبه، أو تحاول كشفه، فطويت بذلك صحف الكهان والعرافين، وزواجر الطير، وطوارق الحصى، وأمثال كل أولائك من كل ذي لغو مموه، وظن مُرَجم، وضلالة باطلة (277) ، وتبينت أن الأمر كله بيد الله، وأنه وحده مقلب القلوب، ومُحَول الحالات، فلم تحتل على الحب واللقاء، والبرء والشفاء، ومدِّ حبل العُمُر، ورد سهم القدر بتعليق الخرزات والاستقاء بمائها، ولا بقول الرُّقى الشركية وعقد التمائم فلم يكن مفزعها في الأمر كله إلا رجاء طيب في الله وحده، ودعاءٌ صالح يزلفها لديه سبحانه، وبطل ما كانت تعتقد في المعاني التى ألبسها الخيال لَبوسًا من الأشباح المترائية، والخيالات الخرافية، كل كل أولائك محاه الدين، ومحقه العلم الصحيح، وبدد ظلماتِه نُور التوحيد، وهاك طائفة من الآثار في ذلك: عن قيس بن السكن الأسدي قال: دخل عبد الله بن مسعود رضى الله عنه على امرأته، فرأى عليها حرزًا من الحُمرَةِ، فقطعة قطعا عنيفا، ثم قال: " إن آل عبد الله عن الشرك أغنياء"، وقال: كان مما حفظنا عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إِن الرقى، والتمائم، والتولة شرك " (278) .   (277) انظر: " معارج القبول" (1/338-343) ، (1/375 - 385) . (278) أخرجه الحاكم (4/217) ، وقال: " صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي، ثم الألباني في "الصحيحة" رقم (331) ، وروى المرفوع منه أبو داود رقم (3883) ، وابن ماجه رقم (3530) ، وابن حبان (1412) ، والإمام أحمد (1/381) ، والرقى: هنا غير الشرعية، وهى ما كان فيه الاستعاذة بالجن، أو كانت مما لا يفهم معناها، والتمائم: جمع تميمة، أصلها خرزات تعلقها العرب على رأس الولد لدفع العين، ثم توسعوا فيها، فسموا بها كل عوذة، ومثله: تعليق نعل الفرس على باب الدار، أو في صدر المكان، أو تعليق بعض السائقين نعلًا في مقدمة السيارة أو مؤخرتها، أو الخزر الأزرق على مرآة السيارة لدفع العين زعموا. والتولة: بكسر التاء وفتح الواو: ما يحبب المرأة إلى زوجها من السحر وغيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 وعن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إليه رهط، فبايع تسعة، وأمسك عن واحد، فقالوا: " يا رسول الله بايعت تسعة، وتركت هذا؟ "، قال: (إن عليه تميمة "، فأدخل يده، فقطعها، فبايعه، وقال: " من علَّق تميمة فقد أشرك) (279) . ويروى عنه رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من تعلق تميمة، فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة، فلا ودع (528) الله له " (281) . وعن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسولا: " أن لا تبقين في رقبة بعير قلادة من وتر، أو قلادة إلا قطعت" (282) . وعن رويفع رضي الله عنه قال: قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا رويفع، لعل الحياة تطول بك، فأخبر الناس أن من عقد لحيته، أو تقلد وترًا، أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدًا بريء منه) (283) .   (279) أخرجه الإمام أحمد (4/156) ، ومن طريق آخر الحاكم (4/219) ، وصححه الألباني في " الصحيحة" رقم (492) . (280) أي: لا جعله في دعة وسكون، ولا خفف الله عنه ما يخافه، وهذا دعاء أو خبر. (281) أخرجه الحاكم (4/417، 216) ، وصححه، ووافقه الذهبي، وفيه جهالة خالد بن عبيد المَعَافري، وقال المنذري (4/157) : " رواه أحمد وأبو يعلى بإسناد جيد، والحاكم، وقال: (صحيح الإسناد" اهـ.، وضعفه الألباني في (الضعيفة، رقم (1266) . (282) رواه البخاري (6/98، 99) الجهاد: باب ما قيل في الجرس، ومسلم رقم (2115) في اللباس: باب كراهة قلادة الوتر في رقبة البعير، والموطأ في صفة النبي صلى الله عليه وسلم: باب ما جاء في نزع المعاليق، وأبو داود رقم (2252) في الجهاد: باب في تقليد الخيل بالأوتار. (283) رواه أبو داود رقم (36) في الطهارة: باب ما ينهى عنه أن يستنجى به، والنسائي (8/135) في الزينة: باب عقد اللحية، والإمام أحمد (4/108، 109) ، وصححه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: "من أتى عرافًا أو كاهنًا، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد" (384) صلى الله عليه وسلم. وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما مرفوعًا: "ليس منا من تطيَّر أو تطير له، أو تكهن أو تُكُهنَ له، أو سحر أو سُحِر له، ومن أتى كاهنًا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد" (285) صلى الله عليه وسلم. وعن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أتى عرافا، فسأله عن شيء، فصدقه، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة " (286) .   = الألباني في " المشكاة" رقم (351) . (284) رواه الإمام أحمد (2/408، 429) ، والحاكم (1/8) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال الحاكم، " على شرطهما". (وقال الحافظ العراقي في أماليه: " حديث صحيح، ورواه عنه البيهقي في السنن، وقال الذهبي: "إسناده قوي") اهـ. من " فيض القدير، (6/23) . (285) (رواه الطبراني، وكذا البزار، قال المنذري: " إسناد الطبراني حسن وإسناد البزار جيد، وقال الهيثمي: " فيه إسحاق بن ربيع العطار، وثقه أبو حاتم، وضعفه غيره، وبقية رجاله ثقات، ورواه في الأوسط عن ابن عباس، ورمز السيوطي لحسنه) اهـ. " فيض القدير " (5/385) . (286) رواه مسلم رقم (2230) في السلام: باب تحريم الكهانة، وإتيان الكهان، والإمام أحمد (4/68) ، (5/0 38) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 [فصل] دحض بدعة المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة (وليس الذكر كالأنثى) (آل عمران: 36) بعد أن أعلن الإسلام موقفه الصريح من إنسانية المرأة وأهليتها وكرامتها، نظر إلى طبيعتها وما تصلح له من أعمال الحياة، فأبعدها عن كل ما يناقض تلك الطبيعة، أو يحول دون أداء رسالتها كاملة في المجتمع، ولهذا خصها ببعض الأحكام عن الرجل زيادة أو نقصانا، كما أسقط عنها- لذات الغرض، بعض الواجبات الدينية والاجتماعية كصلاة الجمعة، وهيئة الإحرام في الحج، والجهاد في غير أوقات النفير العام، وغير ذلك مما يأتي إن شاء الله مما ينسجم مع فطرتها وطبيعتها، ولا يرهقها من أمرها عسرا. [قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) الآية الحجرات (13) ] . وبيَّن ذلك في قوله تعالى: (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها) الزمر (6) . وبهذا دلت آيات القرآن على أن المرأة الأولى كان وجودها الأول مستندَا إلى وجود الرجل وفرعا منه، وهذا أمر كوني قدري من الله، أنشأ المرأة في إيجادها الأول عليه، وجاء الشرع الكريم المنزل من عند الله ليعمل به في أرضه، بمراعاة هذا الأمر الكوني القدري في حياة المرأة في جميع النواحي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 فجعل الرجل قائما عليها وجعلها مستندة إليه في جميع شئونها كما قال تعالى: (الرجال قوامون على النساء) الآية- النساء (34) ، فمحاولة استواء المرأة مع الرجل في جميع نواحي الحياة لا يمكن أن تتحقق لأن الفوارق بين النوعين كونا وقدرًا أولًا، وشرعا مُنَزلا ثانيا، تمنع من ذلك منعًا باتا. ولقوة الفوارق الكونية القدرية والشرعية بين الذكر والأنثى، صح صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن المتشبه من النوعين بالآخر، ولا شك أن سبب هذا اللعن هو محاولة من أراد التشبه منهم بالآخر لتحطيم هذه الفوارق التي لا يمكن أن تتحطم. وقد قال تعالى: (ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزَى) النجم (21) أي غير عادلة لعدم استواء النصيبين لفضل الذكر على الأنثى. ولذلك وقعت امرأة عمران في مشكلة لما ولدت مريم، قال تعالى عنا: (فلما وَضَعَتها قالت رب إني وضعتُها أنثى والله أعلم بما وَضَعَتْ وليس الذكر كالأنثى) الآية آل عمران (36) . فامرأة عمران تقول: (وليس الذكر كالأنثى) وهي صادقة في ذلك بلا شك. والكفرة وأتباعهم يقولون: " إن الذكر والأنثى سواء". ولا شك عند كل عاقل في صدق هذه السالبة، وكذب هذه الموجبة] (287) . مقتضى الفطرة في أعمال الزوجين: الإسلام دين الفطرة، وما قررته الشريعة من اقتسام أعمال الزوجية بين الرجل والمرأة هو مقتضى هذه الفطرة، فقد فضل الله الرجل في خلقته بقوة في الجسم والعقل كان بها أقدر على الكسب والحماية والدفاع الخاص   (287) من "أضواء البيان" للشنقيطي (7/630-633) باختصار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 بالأسرة والعام للأمة والدولة ومن ثم فرض عليه النفقة، وبهذا كان الرجال قوامين على النساء يتولون الرياسة العامة والخاصة، التي لا يقوم النظام العام ولا الخاص بدونها، فعليه جميع الأعمال الخارجية في أصل الفطرة، ومن مقتضى الفطرة أيضًا اختصاص المرأة بالحمل والرضاع وحضانة الأطفال وتربيتهم وتدبير المنزل بجميع شئونه، قال صلى الله عليه وسلم: " كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله، وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، وهى مسئولة عن رعيتها (288) الحديث، فتأمل كيف حصر صلى الله عليه وسلم وظيفتها في بيت زوجها. ولا ينازع في تفضيل الله الرجل على المرأة في نظام الفطرة إلا جاهل أو كافر، بل إن من استقرأ طباع النساء السليمات الفطرة من جناية سوء التربية وفساد النظام يرى أن هذه الأفضلية ثابتة عندهن، ولا أدل على ذلك من أن السواد الأعظم منهن يفضلن أن يكون مولودهن ذكرَا، ويتفاخرن بذلك، أما الأدلة (289) على هذه الأفضلية: فقوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم) وهو الر جال (على بعض) النساء (34) ، وهو النساء، وقوله عز وجل: (وللرجال عليهن درجة) (290) البقرة (228) وذلك لأن الذكورة كمال خلقي، وقوة   (288) تقدم تخريجه بهامش رقم (55) . (289) مستفاد من " أضواء البيان" (3/381-386) باختصار. (290) (وعلى الجملة فـ "درجة" تقتضي التفضيل، وتشعر بأن حق الزوج عليها أوجب من حقها عليه، ولهذا قال عليه السلام: "لو أمرت أحدا بالسجود لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"، وقال ابن عباس: " الدرجة إشارة إلى حَض الرجال على حسن العشرة، والتوسع للنساء في المال والخلق، أي أن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه" قال ابن عطية: (وهذا قول حسن بارع" اهـ. من "الجامع لأحكام القرآن" (3/125) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 طبيعية، وشرف وجمال، فالأنوثة نقص خلقي، وضعف طبيعي، كما هو محسوس مشاهد لجميع العقلاء، ولا يكاد ينكره إلا مكابر في المحسوس. وقد أشار إلى ذلك جل وعلا بقوله: (أو من يُنَشَّأُ في الحِلية وهو في الخصام غير مبين) الزخرف (19) لأن الله أنكر عليهم في هذه الآية الكريمة أنهم نسبوا إليه ما لا يليق به من الولد، ومع ذلك نسبوا له أخس الولدين وأنقصهما وأضعفهما، ولذلك " ينشأ في الحلية، أي الزينة من أنواع الحلي والحلل، ليجبر نقصه الخلقي الطبيعي بالتجميل بالحلي والحلل وهو الأنثى بخلاف الرجل، فإن كماله وقوته يكفيه عن الحلي، قال الألوسي رحمه الله: (والآية ظاهرة في أن النشوء في الزينة والنعومة من المعايب والمذام، وأنه من صفات ربات الحجال، فعلى الرجل أن يجتنب ذلك، ويأنف منه، ويربأ بنفسه عنه، ويعيش كما قال عمر رضي الله تعالى عنه: (اخشوشنوا في اللباس، واخشوشنوا في الطعام، وتمعددوا"، وإن أراد أن يزين نفسه زينها من باطن بلباس التقوى) (291) اهـ. وقال تعالى: (ألكم الذكر وله الأنثى، تلك إذا قسمة ضيزى) النجم (21) ، وإنما كانت هذه القسمة ضيزى- أي غير عادلة-، لأن الأنثى أنقص من الذكر خِلقة وطبيعة، فجعلوا هذا النصيب الناقص لله جل وعلا سبحانه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا، وجعلوا الكامل لأنفسهم؟ قال: (ويجعلون لله ما يكرهون) النحل (62) أي: وهو البنات. وقال: (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلًا) أي وهو الأنثى (ظل وجهه مسودُّا وهو كظيم) الزخرف (17) . وكل هذه الآيات القرآنية تدل على أن الأنثى ناقصة بمقتضى الخلقة   (291) "روح المعاني" (25/ 71) ، وتمعْدَدَ: تزيا بزي مَعَد، وكانوا أهل قشَب وغِلَظ في المعاش. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 والطبيعة، وأن الذكر أفضل منها وأكمل (أصطفى البنات على البنين، ما لكم كيف تحكمون) الصافات (153 - 154) ، (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثًا) الآية، الإسراء (40) . ومن الأدلة على أن الأنوثة ضعف طبيعي ونقص خلقي أن المرأة الأولى خُلِقَتْ من ضِلَع الرجل الأول، فأصلها جزء منه. قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى (292) : (أوَ مَنْ ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين) الزخرف (19) : (أي المرأة ناقصة يكمل نقصها بلبس الحلي منذ تكون طفلة، وإذا خاصمت فلا عبارة لها، بل هي عاجزة عَيِية، أوَ من يكون هكذا ينسب إلى جناب الله عز وجل؟! فالأنثى ناقصة الظاهر والباطن، في الصورة والمعنى، فيكمل نقص ظاهرها وصورتها بلبس الحَلْي وما في معناه، ليجبر ما فيها من نقص، كما قال بعض شعراء العرب: وما الحَلْيُ إلا زِينَة منْ نَقيصةٍ ... يُتَممُ مِنْ حُسْن إذا الحُسْنُ قَصَّرا وأما إذا كان الجمال مُوَفرًا ... كحُسْنِكِ، لم يحتجْ إلى أن يُزَوَّرَا وأما نقص معناها، فإنها ضعيفة عاجزة عن الانتصار عند الانتصار، لا عبارة لها ولا همة) انتهى (293) محل الغرض منه، ولا عبرة بنوادر النساء لأن النادر لا حكم له. وقال الشنقيطي (294) رحمه الله: (ألا ترى أن الضعف الخِلقي والعجز عن الإبانة في الخصام عيب ناقص في الرجال، مع أنه يعد من جملة   (292) " تفسير القرآن العظيم" (المجلد السابع ص 210) . (293) انظر " الإنصاف في مسائل الخلاف، لابن الأنباري (1/99) . (294) "أضواء البيان" (3/383 - 384) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 محاسن النساء التي تجذب إليها القلوب، قال جرير: إن العيونَ التي في طَرفِها حَوَرٌ ... قَتَلْنَنَا ثم لم يُحْيِينَ قَتْلانا يَصرعْنَ ذا الُّلب حتى لا حِراكَ بِهِ ... وَهُنَّ أضعفُ خَلْقِ الله أركانا وقال ابن الدمينة: بنفسي وأهلي مَنْ إذا عَرَضُوا له ... ببعض الأذى لم يَدْرِ كيف يجيب فلم يعتذِرْ عُذْرَ البَرِيء ولم تزل ... به سَكْتَة حتى يُقالَ مُرِيب فالأول: تشبيب بهن بضعف أركانهن، والثاني: بعجزهن عن الإبانة في الخصام، كما قال تعالى: (وهو في الخصام غير مبين) ولهذا التباين في الكمال والقوة بين النوعين، صح عن النبي صلى الله عليه وسلم اللعن على من تشبه منهما بالآخر) اهـ. وقد روى البخاري بسنده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب لِلُبِّ الرجل الحازم من إحداكن" الحديث (295) ، قال الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله: " فهذا نص صريح في نقصان المرأة في عقلها ودينها عن الرجل، لضرورة أنه لا يتساوى من يصلي بعض حياته بمن يصلي كل حياته، ولا من يصوم شهر رمضان من أوله إلى آخره بمن لا يصوم إلا البعض، كما لا تتساوى شهادة الرجل لِكمال عقله وقوة ضبطه بمن شهادتها نصف شهادته لضعف عقلها وعدم كمال حفظها، فمن ساوى بين الرجل والمرأة   (295) رواه البخاري (3/257-258) في الزكاة: باب الزكاة على الأقارب، وفي الحيض، والعيدين، والصوم، والشهادات وتتمته: (قلن: " وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله؟، قال: " أليس شهادةُ المرأة منكن مثلَ نصف شهادة الرجل؟ "، قلن: " بلى"، قال: " أليس إذا حاضت لم تصَل، ولم تصم؟ "، قلن: " بلى"، قال: " وذلك من نقصان دينها ") . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 فقد جنى على الإسلام، وسلك سبيل الاعوجاج" (296) اهـ. قوامة الرجل تنظيمية لا استبدادية: وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كل نفس من بني آدم سيد، فالرجل سيد أهله، والمرأة سيدة بيتها" (297) . إن قوامة الرجل على المرأة قاعدة تنظيمية تستلزمها هندسة المجتمع واستقرار الأوضاع في الحياة الدنيا، ولا تسلم الحياة في مجموعها إلا بالتزامها، فهي تشبه قوامة الرؤساء وأولي الأمر، فإنها ضرورة يستلزمها المجتمع الإسلامي والبشري، ويأثم المسلم بالخروج عليها مهما يكن من فضله على الخليفة المسلم في العلم أو في الدين، إلا أن طبيعة الرجل تؤهله لأن يكون هو القيم، فالرجل أقوى من المرأة وأجلد منها في خوض معركة الحياة وتحمل مسئولياتها، فالمشاريع الكبيرة يديرها الرجال، والمعارك الحربية يقودها الرجال، ورئاسة الدولة العليا يضطلع بها الرجال، وهكذا ترى الأمور الكبرى والمصالح العامة يوفق فيها الرجال غالبا، ويندر أن تفلح فيها امرأة إلا أن يكون من ورائها رجل. هذا وإن النطاق الذي تشمله قوامة الرجل، لا يمس حرمة كيان المرأة ولا كرامتها، وهذا هو السر العظيم في أن القرآن الكريم لم يقل: (الرجال سادة على النساء) (298) ، وإنما اختار هذا اللفظ الدقيق "قوامون" ليفيد   (296) "نقد مساواة المرأة بالرجل في الأعمال" ملحق " بهداية الناسك" ص (158) . (297) رواه ابن السني في " عمل اليوم والليلة" رقم (390) ص (117) باب إباحة المخاطبة بالسؤدد على الإضافة، وصححه الألباني - انظر " صحيح الجامع الصغير" (4/183) ، و "فتح الباري" (5/80) ، " معجم المناهي اللفظية" ص (190 -191) . (298) وقد يطلق لفظ " السيد" على الزوج مضافًا، كما في قصة يوسف عليه السلام: (وألفيا سيدها لدى الباب) ، وكما في الحديث المتقدم آنفا، وقد قالت = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 معنى ساميًا بناءً، يفيد أنهم يقومون بالنفقة عليهن، والذبِّ عنهن، و "قَوَّام" فعَّال للمبالغة، من القيام على الشيء، والاستبداد بالنظر فيه، وحفظه بالاجتهاد، فقيام الرجال على النساء هو على هذا الحد، وهو أن يقوم بتدبيرها، وتأديبها، وإمساكها في بيتها، ومنعها من البروز، وأن عليها طاعته، وقبولَ أمره، ما لم تكن معصية، وتعليل ذلك بالفضيلة، والنفقة، والعقل، والقوة في أمر الجهاد، والميراث، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر (299) ، وشأن القوامين أنهم يصلحون ويعدلون، لا أنهم يستبدون ويتسلطون، فنطاق القوامة محصور إذن في مصلحة البيت، والاستقامة على أمر الله، وحقوق الزوج، أما ما وراء ذلك فليس للرجل حق التدخل فيه كمصلحة الزوجة المالية، فلا يتدخل الزوج فيها بغير رضاها، وليس عليها طاعته إلا في حدود ما أحله الله، فإن أمرها بمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وما لم تُخِل المرأة بحق الله تعالى، أو بحق الزوج فليس له عليها سبيل إلا سبيل التكريم والاحترام. بل إن حُسن معاشرةِ الرجلِ زوجتَه وحسنَ خُلُقِهِ معها من أعظم مقاييس كمال الإيمان وسلامة الدين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقًا، وخياركم خياركم لنسائهم خُلُقًا" (300) .   أم الدرداء رضي الله عنها وهى تحدث عن زوجها أبي الدرداء رضي الله عنه: (حدثنى سيدي" - انظر: " شرح النووي لصحيح مسلم" (17/50) . (299) انظر: (الجامع لأحكام القرآن) للقرطبي (5/169) . (300) أخرجه الترمذي رقم (1162) في الرضاع: باب ما جاء في حق المرأة على زوجها، وأبو داود رقم (4682) في السنة: باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وابن حبان بنحوه (1926 - موارد) ، وأبو نعيم في " الحلية" (9/248) ، والحاكم في "المستدرك" (1/3) ، وصححه على شرط = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 شاهد من الغرب: قال الدكتور " أوجست فوريل" تحت عنوان: " سيادة المرأة " (301) : (يؤثر شعور المرأة بأنها في حاجة إلى حماية زوجها على العواطف المشعة من الحب فيها تأثيرَا كبيرًا، ولا يمكن للمرأة أن تعرف السعادة إلا إذا شعرت باحترام زوجها، وإلا إذا عاملته بشيء من التمجيد والإكرام، ويجب أيضًا أن ترى فيه مثلها الأعلى في ناحية من النواحي، إما في القوة البدنية، أو في الشجاعة، أو في التضحية وإنكار الذات، أو في التفوق الذهني، أو في أي صفة طيبة أخرى، وإلا فإنه سرعان ما يسقط تحت حكمها وسيطرتها، أو يفصل بينهما شعور من النفور والبرود وعدم الاكتراث، ما لم يُصَب الزوجُ بسوء أو مرض يثير عطفها، ويجعل منها ممرضة تقوم على تمريضه والعناية به، ولا يمكن أن تؤدي سيادة المرأة إلى السعادة المنزلية لأن في ذلك مخالفة للحالة الطبيعية التي تقضي بأن يسود الرجل المرأة بعقله وذكائه وإرادته، لتسوده هي بقلبها وعاطفتها) اهـ.   = مسلم، ووافقه الذهبي، والإمام أحمد (2/250، 472) ، وحسنه الألباني في (الصحيحة، حديث رقم (284) . (301) "ماذا عن المرأة؟ " للدكتور نور الدين عتر، ص (136) ، نقلا عن " الزواج عاطفة وغريزة" (2/32 - 33) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 [فصل] الفروق بين الرجل والمرأة منها: تخصيص النبوة والرسالة بالرجل: الرسالة دعوة إلى الله تعالى قولًا وفعلا، وهي تلقى عادة أعداء ومخالفين يدفعهم إلى معاداتها مصالح دنيوية، أو تقليد للأسلاف على غير عقل ولا بصيرة، وقد تلقى من المخالفين ملاحقة وأذى وضربا وقتلَا، وقد تلقى منهم طردًا وتشريدًا، وسجنًا وتعذيبا. ثم إن الرسالة تقوم على قوة العارضة، وصدق الحجة، وعلى الحِلم والجَلَد في المجادلة، وقطع الطريق على الباطل بالدليل الحاضر، ودفع الشبهة بالحقيقة، وإضاءة الظلمة بالنور القاهر، ولعمر الله إن الرجل هو الذي يقدر على ذلك لأنه خُلِقَ لذلك، وما تقدر المرأة على ذلك، لأنها لم تخلق له، ولعله لهذه الحكم وغيرها اصطفى الله تبارك وتعالى من الرجال خيرهم وأفضلهم وهم الأنبياء (302) عليهم السلام (وربك يخلق ما يشاء ويختار) القصص (68) ، وقال عز وجل: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالًا نوحي إليهم) يوسف (109) . ومنها: تخصيص فرضية الجهاد الشرعي بالرجل: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: (يا رسول الله ألا نغزو، ونجاهد معكم؟ "، فقال: " لَكنَّ أحسن الجهاد وأجمله: الحج، حج مبرور"، فقالت عائشة رضي الله عنها: " فلا أدعُ الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم (303) .   (302) انظر: " الفِصَل" (5/12 - 14) ، و " الرسل والرسالات، للدكتور عمر الأشقر ص (14-15) . (303) رواه البخاري (1/465) ، والبيهقي (4/326) ، والإمام أحمد (6/79) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 ومنها: تخصيص القوامة الأدبية والتعليمية والتربوية بالرجل في المقام الأول: لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة) الآية التحريم (6) . ومنها: جعل شهادتها على النصف من شهادة الرجل أمام القضاء: فقد جعل الإسلام نصاب الشهادة التي تثبت الحقوق لأصحابها شهادة رجلين عدلين، أو رجلًا وامرأتين، قال عز وجل: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضَونَ من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) البقرة (282) . وهذا مظهر تشريعي لتطبيق قاعدة صلاحية الرجل للعمل خارج البيت دون المرأة، فإن الآية الكريمة تشير بذلك الحكم إلى أن وظيفة المرأة الأولى القرار في البيت، والقيام على تربية الأولاد، ومراعاة شئون بيتها، وهى إن اضطرت تحت بعض الظروف إلى مخالطة الرجال في شئون العمل والحياة، فإنها تتحفظ في هذا الاختلاط أشد التحفظ إِن دعتها إليه حاجة، أو ساقتها إليه المقادير، مما يقتضيها عدم مخالطة الرجال غالبًا، وعدم حضور العقود المالية، وحالات البيع والشراء إلا نادرًا، فالمرأة وإِن حضرت شيئا من ذلك فإن قلة ممارستها له قد يفقدها الاستيعاب الكامل لجوانب الموضوع، وبالتالي قد تنقص شيئًا من الحق فيما تشهد به، فكان لابد من إضافة امرأة مثلها إليها، لاستدراك ذلك النقص أو توهمه، قال تعالى: (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) (304) والحقوق لابد فيها من التثبت والتحقيق. ولهذا المعنى نفسِه ذهب كثير من الفقهاء إلى أن شهادة النساء لا تقبل في الجنايات، وليس ذلك إلا لأنها غالبًا ما تكون قائمة بشئون بيتها، ولا يتيسر لها أن تحضر مجالس الخصومات التي تنتهي بجرائم القتل وما أشبهها،   (304) البقرة (282) ، وانظر ص (208) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 وإذا حضرتها فقلَّ أن تستطيع البقاء إلى أن تشهد جريمة القتل بعينيها، وتظل رابطة الجأش، بل الغالب أنها إذا لم تستطع الفرار تلك الساعة فما يكون منها إلا أن تُغمض عينيها، وتولول، وتصرخ، وقد يغمي عليها، فكيف يمكن بعد ذلك أن تتمكن من أداء الشهادة، فتصف الجريمة والمجرمين وأداة الجريمة وكيفية وقوعها، قال الحافظ العراقي رحمه الله: (إن الرجال هم الذين يُبتلون بالشدائد والمحن، ويظهر فيهم ثمرة الفتن، بخلاف النساء فإنهن محجوبات في الأغلب، لا يصلين نار الفتن، قال الشاعر: كُتِبَ القتلُ والقتالُ علينا ... وعلى الغانيات جَرُّ الذيولِ) (305) ومن المسلَّم به أن الحدود تُدْرَأ بالشبهات، وشهادتها في القتل وأشباهه تحيط بها الشبهة: شبهة عدم إمكان تثبتها من وصف الجريمة لحالتها النفسية عند وقوعها. ويؤكد مراعاة هذا المعنى في الاحتياط لشهادتها فيما ليس من شأنها أن تحضره غالبًا: أن الشريعة قبلت شهادتها وحدها فيما لا يقَع عليه غيرها، أو ما تطلع عليه دون الرجال غالبًا، فقد قرروا أن شهادتها وحدها تقبل في إِثبات الولادة، وفي الثيوبة والبكارة، وفي العيوب الجسدية لدى المرأة (306) ، وكذا في الإرضاع، قال عقبة بن الحارث: (تزوجت امرأة، فجاءتني امرأة سوداء، فقالت: "أرضعتكما"، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: "تزوجتُ فلانة بنت فلان، فجاءتنا امرأة سوداء، فقالت لي: "أرضعتُكما"، وهي كاذبة، فأعرض، فأتيت من قِبَلِ وجهه، فقلت: " إنها كاذبة"، قال: " كيف وقد زَعَمَتْ أنها أرضعتكما؟ "، ففارقها   (305) "طرح التثريب" (3/260) . (306) وهذا الحكم أيضا يعكس ما كان عليه الأوائل من تولي النساء توليد النساء وعلاجهن وتطبيبهن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 عقبة، ونكحت زوجًا غيره) (307) . ومنها: أن ميراث المرأة أقل من ميراث الرجل في الغالب: فقد جاء الإسلام يقرر للمرأة نصيبا مفروضًا من الميراث لا يصح الانحراف عنه بحال، قال تعالى: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر، نصيبًا مفروضًا) النساء (7) ، والرجل هو أصل عمود النسب، وهذا النصيب يختلف في أحكام الإرث بين حالات: (أ) بين أن يكون نصيبها مثل الذكر؟ في الأخوات لأم، فإن الواحدة منهن إذا انفردت تأخذ سدس الميراث، كما يأخذ الأخ لأم كذلك إذا انفرد، وإذا كانوا ذكورا وإناثًا اثنين فأكثر فإنهم يشتركون جميعًا في الثلث، للذكر مثل حظ الأنثى، قال الله تعالى: (وإن كان رجل يُورَثُ كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحدٍ منهما السدس، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث، النساء (12) . (ب) وبين أن يكون نصيبها مثله أو أقل منه، كما في الأم مع الأب إذا مات ولدهما، فإن ترك الولدَ أولادًا ذكورا وإناثا، أو ذكورًا ولو واحدَا فللأب السدس وللأم كذلك، وإذا ترك بنتًا أو بنتين فأكثر فللأم السدس، وللأب السدس فرضًا وما يبقى تعصيبًا، وإن ترك الولد أبوين، ولم يترك أولادًا فللأم الثلث، وللأب الثلثان، قال الله تعالى: (ولأبويه لكل واحد   (307) رواه البخاري (5/184) في الشهادات: باب إذا شهد شاهد أو شهود بشيء، وباب شهادة الإماء والعبيد، وباب شهادة المرضعة، وفى العلم، والبيوع، والنكاح، والترمذي رقم (1151) في الرضاع: باب ما جاء في شهادة المرأة الواحدة في الرضاع، وأبو داود رقم (3603) و (3604) في الأقضية: باب الشهادة في الرضاع، والنسائي (6/109) في النكاح: باب الشهادة في الرضاع، وانظر: (رد المحتار على الدر المختار" (4/514) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 منهما السدس مما ترك إن كان له ولد، فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث) . (ج) وبين أن تأخذ نصف ما يأخذه الذكر، وهذا هو الأعم الأغلب (308) ، كما إذا مات رجل، وترك ابنًا وبنتًا مثلًا، فللذكر مثل حَظَّيْ أخته الأنثى، قال الله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) النساء (11) ، وقال عز وجل: (وإن كانوا إخوة رجالا ونساءً فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم) النساء (176) . والله سبحانه وتعالى صرح في هذه الآية الكريمة أنه يبين لخلقه هذا البيان الذي من جملته تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث لئلا يضلوا، فمن سوى بينهما فيه فهو ضال قطعًا، ثم بين أنه سبحانه أعلم بالحكم والمصالح وبكل شيء من خلقه بقوله تعالى: (والله بكل شيء عليم) والحكمة في هذا التفضيل ظاهرة إذ إن الأمر يتعلق بالعدالة في توزيع الأعباء والواجبات على قاعدة " الغُرم بالغُنْم". والحكمة البالغة تقتضي أن يكون الضعيف الناقص مقومًا عليه من قِبَلِ القوى الكامل، واقتضى ذلك أيضًا أن يكون الرجل مُلْزَمًا بالإنفاق على نسائه، والقيام بجميع لوازمهن في الحياة، كما قال تعالى: (وبما أنفقوا من أموالهم) ، ومال الميراث لم يتسبب فيه أحدهما ألبتة، وما سعيا في تحصيله عرفًا، وإنما هو تمليك من الله مَلَكَهُما إياه تمليكًا جبريا، فاقتضت حكمة الحكيم الخبير أن يؤثر الرجل على المرأة في الميراث، وإن أدليا بسبب واحد،   (308) تأمل رحمك الله الربط بين الشرائع وبين الواقع في هذا الحكم، فإنه لما كان الرجل قواما على المرأة مكلفا بالإنفاق على أسرته، جاء هذا التشريع مظهرًا من المظاهر التشريعية لتطبيق هذا الأصل، وهو تكليف الرجل بالإنفاق على أسرته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 لأن الرجل مترقب للنقَص دائمًا بالإنفاق على نسائه وأولاده، وبذل المهور لهن، والبذل في نوائب الدهر، والنفقة على أقاربه الفقراء الذين يرثونه، وهو أصل عمود النسب، ومنزله مقصد للزائرين، أما المرأة فإنها مترقبة للزيادة، إذ يأتي يوم يضمها إليه رجل يتزوجها، يبذل لها مهرها نحلة، ويقوم هو بالإنفاق عليها، والقيام بشئونها، ولا يجب عليها أن تسهم بشيء من نفقات البيت على نفسها وعلى أولادها ولو كانت غنية، كما أن مالها يزيد ربحه إذا نَمَّته بالتجارة، أو بأية وسيلة من وسائل الاستثمار المشروعة. والحاصل أن إيثار مترقب النقص دائمًا على مترقب الزيادة دائمًا لجبر بعض نقصه المترقب حكمة ظاهرة واضحة، لا ينكرها إلا من أعمى الله بصيرته بالكفر والمعاصي عصمنا الله منهما، فلا عبرة بما يردده الملاحدة الذين فسقوا عن أمر ربهم من شبهات حول هذا الحكم الرباني وأمثاله (309) . قال تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم بعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون، أفحكم   (309) وأول من أحدث ضلالة التسوية بين الذكور والإناث في الميراث تركيا في ظل مصطفى كمال أتاتورك، حيث استبدلت الأحكام الشرعية بالقانون السويسري، ثم انتقلت عدوى هذه الضلالة إلى تونس على يد "البغيض " بورقيبة ثم إلى الصومال حيث استحل طاغوتاهما تبديل شرع الله، وقد حصل في إثر ذلك في الصومال ما حصل من قتل وإحراق العلماء المسلمين الذين فضلوا المنية على الدنية، وآثروا الفضيلة والنعش على الرذيلة والعيش، رحمهم الله تعالى، وأخزى أعداءهم. وقد صرح المدعو زياد برى طاغوت الصومال في 21 أكتوبر 1970م بواسطة الإذاعة باعتناق حكومته المبدأ الماركسي اللينيني، وجاء - بعد ذلك- على لسانه في الجريدة الرسمية قوله: " كنا نسمع عن أقوال تقول الربع والثلث والخمس والسدس، فإنا نقول: إن ذلك لا وجود له بعد اليوم، وإن الولد والبنت متساويان في الميراث " اهـ من جريدة " نجمة أكتوبر " الصومالية بتاريخ (31/1/1974) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون) المائدة (49 - 50) ، وقال عز وجل: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بض للرجال نصيب مما كسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن وَسئَلُوا الله من فضله) النساء (32) . وقد أجمع العلماء على كفر من استباح المساواة في الميراث بين الذكور والإناث فيما ورد فيه التفاضل في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كفر بالكتاب، وبما أرسل الله به رسله، وخروج عن شريعة الله إلى حكم الطاغوت، قال تعالى: (إنما كان قول المؤمنين إذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) النور (51) ، وقال جل وعلا: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيتَ ويسلموا تسليمًا) النساء (65) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 مسألة: هل يجب تسوية الوالدين بين أولادهم الذكور والإناث في الهبة؟ " سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلًا أحدًا لفضلت النساء " (310) حديث شريف اتفق الفقهاء على جواز هبة الوالدين لأولادهم، لكنهم اختلفوا في تفضيل بعضهم على بعض في أصل الإعطاء، ثم اختلفوا في صفة الإعطاء، وفيما يلى نجمل إن شاء الله ما يناسب ذكره في هذا المقام متعلقًا بالأمرين. أولًا: حكم العدل بين الأولاد في الهبة روى البخاري بسنده إلى النعمان بن بشير رضي الله عنهما: (أن أباه أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " إني نحلت ابنى هذا غلامًا "، فقال: " أكُل ولدِك نحلتَ مِثْلَه؟ "، قال: " لا "، قال: " فأرجعه ") . وروى أيضًا بسنده عن حُصين بن عامر قال: (سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر، يقول: " أعطاني أبي عطيةً، فقالت عَمرة بنتُ رَواحة: " لا أرضى حتى تُشهِدَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم "، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم"، فقال: " إني أعطيتُ ابني من عمرة بنت رواحة عطيةً، فأمرتني أن أشْهِدَكَ يا رسول الله "، قال: " أعطيتَ سائر ولدِك مِثْلَ   (310) يأتي تخريجه بهامش رقم (322) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 هذا؟ "، قال: " لا "، قال: " فاتقوا الله، وَاعْدِلوا بين أولادكم "، قال: " فرجع، فَرَد عَطِيتهُ " (311) . (ومسلم من طريق إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب، قال: "فاردده"، وفي رواية الشعبي: قال: " فرجع، فرد عطيته"، ولمسلم: "فرد تلك الصدقة"، وزاد في رواية أبي حيان في "الشهادات": " قال: لا تشهدني على جَوْر"، ولمسلم في رواية أبي حيان أيضا: " فقال: فلا تشهدني إذًا، فإني لا أشهد على جَوْر) ، وله في رواية داود بن أبي هند (فأشهد على هذا غيري"، وفي حديث جابر: (فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلا على حق "، وفي رواية عروة عند النسائي: " فكره أن يشهد له "، وفي رواية المغيرة عن الشعبي عند مسلم: " اعدلوا بين أولادكم في النُّحْل، كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر "، وفي رواية مجالد عن الشعبي عند أحمد: (إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم، فلا تشهدني على جور، أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ " قال: " بلى "، قال: " فلا إذاً "، ولأبي داود من هذا الوجه: " ان لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم، كما أن لك عليهم من الحق أن يبروك "، وللنسائي من طريق (312)   (311) رواه البخاري (5/210 - 211) ط. السلفية، في الهبة: باب الهبة للولد، وباب الإشهاد في الهبة، وهذا لفظه، وفي الشهادات: باب لا يشهد عل شهادة جَوْر إذا شهد، ومسلم رقم (1623) في الهبات: باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة، و " الموطأ " (2/751، 752) في الأقضية: باب ما لا يجوز من النٌّحْل، وأبو داود أرقام (3542) إلى (3545) في البيوع: باب في الرجل يفضل بعض ولده في النحل، والترمذي رقم (1367) في الأحكام: باب ما جاء في النحل والتسوية بين الولد، والنسائي (6/258-261) في النحل: في فاتحته. (312) جمع هذه الروايات الحافظ ابن حجر رحمه الله في " الفتح" (5/213-214) = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 أبي الضحى: " ألا سَوَّيتَ بينهم؟ "، وله ولابن حبان من هذا الوجه: "سَو بينهم ") . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: (واختلاف الألفاظ في هذه القصة الواحدة يرجع إلى معنى واحد، وقد تمسك به من أوجب التسوية في عطية الأولاد (313) ، وبه صرح البخاري (314) ، وهو قول طاوس (315) ، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وقال به بعض المالكية، ثم المشهور عن هؤلاء أنها باطلة (316) ، وعن أحمد: تصح، ويجب أن يرجع، وعنه: يجوز التفاضل إن كان له سبب (317) ،   = وقد نقلناها بتصرف يسير. (313) (ومن حجة من أوجبه أنه مقدمة الواجب، لان قطع الرحم، والعقوق محرمان، فما يؤدى إليهما يكون محرمًا، والتفضيل مما يؤدي إليهما) اهـ من "الفتح" (5/214) . حيث قال في " صحيحه،: (باب الهبة للولد، وإذا أعطى بعض ولده شيئا، لم يجُز حتى يعدل بينهم، ويعطي الآخر مثله، ولا يشهد عليه) اهـ من (فتح الباري، (5/210) . قال القرطبي رحمه الله: (روى سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن طاوس قال: " كان إذا سألوه عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض يقرأ هذه الآية: (أفحكم الجاهلية يبغون) ، فكان طاوس يقول: " ليس لأحد أن يفضل بعض ولده على بعض، فإن فعل لم ينفذ، وفُسِخ، وبه قال أهل الظاهر) اهـ (6/214) ، وعن طاوس أيضا قال: " لا يجوز ذلك، ولو برغيف محترق"، وبه قال ابن المبارك، وروى معناه عن مجاهد، وعروة. (316) قال القرطبي رحمه الله: (قوله: " فارجعه " محمول على معنى: فاردده، والرد ظاهر في الفسخ، كما قال عليه السلام: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا، فهو رد، أي مردود مفسوخ، وهذا كله ظاهر قوى، وترجيح جلي في المنع) اهـ (6/215) . (317) قال في " المغني ": (فإن خص بعضهم لمعنى يقضي تخصيصه، مثل اختصاصه بحاجة، أو زمانة، أو عمى، أو كثرة عائلة، أو اشتغاله بالعلم، أو نحوه من الفضائل أو صرف عطيته عن بعض ولده لفسقه أو بدعته أو لكونه يستعين = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 كأن يحتاج الولد لزمانته ودينه، أو نحو ذلك دون الباقين، قال أبو يوسف: تجب التسوية إن قصد بالتفضيل الإضرار) (318) اهـ. وذهب الجمهور إلى أن التسوية مستحبة، فإن فَضل بعضًا صَح، وكُرِه، واستُحِبت المبادرةُ إلى التسوية أو الرجوع، فحملوا الأمر على الندب، والنهي على التنزيه (319) . ثانيًا: صفة التسوية بين الذكور والإناث تقدم الكلام في حكم أصل التسوية، بقي أن نبين أن العلماء اختلفوا في صفة التسوية، فقال محمد بن الحسن، وأحمد، وإسحق، وبعض الشافعية والمالكية: العدل: أن يعطي الذكر حظين كالميراث، وذهبوا إلى أن التسوية التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم تحمل على القسمة موافقة لقول الله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) (النساء: 11) ، والله عز وجل لم يترك توزيع المال لأحد سواه، بل ذكر تفصيل ذلك، ثم قال: (فريضة من الله) (النساء: 11) ، فيجب اتباع ما أمر الله به.   = بما يأخذه على معصية الله، أو ينفقه فيها، فقد روى عن أحمد ما يدل على جواز ذلك، لقوله في تخصيص بعضهم بالوقف: " لا بأس به إذا كان لحاجة، وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة "، والعطية في معناه " اهـ. من (المغني، (5/665) . (318) "فتح الباري" (5/214) . (319) وقد استدلوا بأدلة كثيرة، لكنها لا تنهض أمام أدلة الوجوب، كما بين ذلك الحافظ ابن حجر من خلال تتبعه ألفاظ الروايات المختلفة لحديث النعمان رضي الله عنه، فانظر: " فتح الباري" (5/214 - 215) ، وانظر أيضًا البحث الملحق بآخر كتاب " تحقيق القضية في الفرق بين الرشوة والهدية " للنابلسي - للشيخ محمد عمر بيوند ص (220: 217) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 ولا يلزم من إطلاق التسوية أن تكون من كافة الوجوه، بل يحتمل أن يكون المقصود التسوية في أصل العطاء، لا في صفته (320) . واستدلوا بأن العطية حال الحياة تكون استعجالًا لما يكون بعد الموت، فيجب أن يكون بحسبه، فلو أبقى الواهب ذلك المال في يده حتى مات، لكان حظها منه نصف حظ الذكر. واستدلوا بأن الذكر تقع عليه أعباء أكثر من الأنثى، فمثلًا يكلف الرجل في الزواج بالمهر، والنفقة، ونفقة الأولاد، بخلاف الأنثى، لذا دعت الحاجة إلى تفضيله، وقد رُوعي هذا كله عندما قسم الله الميراث، فينبغي مراعاته كذلك عند الهبة للأولاد. (وقال شريح لرجل قسم ماله بين ولده: " ارددهم إلى سهام الله تعالى وفرائضه "، وقال عطاء: " ما كانوا يقسمون إلا على كتاب الله تعالى ") (321) اهـ. وذهب الجمهور إلى أنه لا فرق بين الذكر والأنثى، قال الحافظ ابن حجر: (وظاهر الأمر بالتسوية يشهد لهم، واستأنسوا بحديث ابن عباس رفعه: (سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مُفَضِّلاً أحدا لفضَّلْتُ النساء" أخرجه سعيد بن منصور، والبيهقي من طريقه، وإسناده حسن) (322) اهـ.   (320) انظر: (عقد الهبة) للدكتور جمال الدين العاقل ص (209) . (321) "المغني، (5/666) . (322) "فتح الباري" (5/214) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 وعن مالك بن أبي معشر عن إبراهيم قال: " كانوا يحبون أن يُساووا بين أولادهم حتى في القُبَل (323) ، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعًا: (إن المقْسطين عند الله على منابِرَ من نور على يمين الرحمن - وكلتا يديه يمين - الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم، وما وَلُوا) (324) . تنبيهان: الأول: اعلم - رحمك الله - أن الأم في المنع من المفاضلة بين الأولاد كالأب، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم "، ولأنها أحد الوالدين فمنعت من التفضيل كالأب، ولأن ما يحصل بتخصيص الأب بعض ولده من الحقد، وزرع العداوة بين الأولاد، وقطع الصلات التي أمر الله بها أن توصل، يوجد مثله في تخصيص الأم بعض ولدها، فثبت لها نفس الحكم في ذلك. الثاني: أن الواجب على من خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعدل بين أولاده في العطية أن يبادر بالتوبة من هذا الجور والباطل، بطاعة الله عز وجل، وطاعة رسول الله بفعل واحدٍ من أمرين: (أ) إما رد ما فَضل به البعض. (ب) وإما إتمام نصيب الآخر. عود على بدء ومن الفروق بين الرجل والمرأة: جعل الطلاق بيد الرجل ونسبته إليه، كما قال تعالى: (يا أيها النبي   (323) "أحكام النساء" لابن الجوزي ص (96) . (324) أخرجه مسلم رقم (1827) في الإمارة: باب فضيلة الإمام العادل، والنسائي (8/221) في آداب القضاة: باب فضل الحاكم العادل، والإمام أحمد في " المسند" (2/ 160) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 إذا طلقتم النساء) الآية الطلاق (1) . وقيل المراد بقوله تعالى: (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) يعني الزوج، وقال تعالى: (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) البقرة (237) ، وقال عز وجل: (والمطلَّقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) البقرة (288) - إلى قوله سبحانه: (فإن طلقها فلا تحل " من بعد حتى تنكح زوجًا غيره) البقرة (230) ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما الطلاق لمن أخذ بالساق" (532) . والمسلمون مجمعون على أن الطلاق بيد الرجل، وهو الذي يوقعه إذا شاء. والحكمة في تخصيص الرجل بنقض الزوجية واضحة: - فالنساء مزارع وحقول، تبذر فيها النطف كما يبذر الحب في الأرض، كما قال تعالى: (نساؤكم حرث لكم) ، ولا شك أن الطريق القويم أن الزارع لا يرغم على الازدراع في حقل لا يرغب الزراعة فيه، لأنه يراه غير صالح له، والرجل هو الذي يملك أمر الازدراع، ولهذا أجمع العقلاء على نسبة الولد له لا للمرأة، قال تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) البقرة (223) . - والرجل هو الذي يطلب الزواج عادة، ويبذل المهر، ويعد سكن الزوجية. - والرجل هو الذي يملك القوامة والمسئولية الكبرى في الأسرة، فمن حقه أن يملك تنظيم شئون الأسرة. - والزوج هو الذي ينفق على الزوجة المطلقة أثناء عدتها حتى تنقضي،   (325) أخرجه ابن ماجه (2081) ، وقال في " الزوائد": " هذا إسناد ضعيف، لضعف ابن لهيعة، اهـ من " حاشية السندي" (1/641) ، وحسًنه الألباني بطرقه في " إرواء الغليل" (7/108 -110) رقم (2041) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 وقد تطول العدة إلى تسعة أشهر، وذلك فيما إذا طلقها وهي حامل، فتنتهي عدتها بوضع الحمل. - والزوج هو الذي ينفق على أولاده في فترة حضانة الزوجة لهم، فهو ينفق على إرضاع الصغير رضاعًا وخدمة، وينفق على سائر أولاده فترة حضانة أمهم لهم، وهى فترة تطول إلى سبع سنوات أو أكثر. - والرجل أقوى إرادة وأكثر تعقلًا وأبصر بالعواقب من المرأة عادة، ولا يعتوره ما يعتور المرأة من الحالات التي تؤثر في مزاجها وتفكيرها. تنبيه: جعل الطلاق بيد القاضي ذريعة إلى الفاحشة: أما الخروج على نظام الإسلام في أمر الطلاق، وجعله بيد القاضي فهو مخالفة صريحة لحكم الإسلام (326) ، وذريعة إلى مفاسد عظيمة، بجانب أنه لا يحد من الطلاق. أما مخالفة ذلك للإسلام فلما سبق من الأدلة على أن الطلاق بيد الرجل، ونبذ هذه النصوص نبذ لحكم الإسلام وتعطيل له. وأما كونه يؤدي إلى مفاسد اجتماعية عظيمة، فإن الزوج قد يطلق زوجته طلاقًا بائنا، ولا يوقعه القاضي، ويمضي زمن يتصالحان فيه، فيعاشرها معاشرة الأزواج، بحجة أن القاضي لم يقض بالطلاق، وذلك الزنى بعينه معاذ الله. ولربما طلق الزوج زوجته، وعرض الأمر على القاضي، فلابد من ذكر أمور لا تذكر للناس مما يكون بين الزوجين، وربما وقع في ذلك الكذب والغش والإفك من أجل أن يقتنع القاضي فيقضي بالطلاق، والقاضي ليس   (326) انظر الفتوى الملحقة بكتاب (حقوق الزوجين) للشيخ أبي الأعلى المودودي رحمه الله (ص 114 - 122) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 معصومًا عن الميل مع الهوى، ولا عن الغرض. وإذا لم يقتنع القاضي أخيرا بالأسباب الداعية إلى الطلاق فماذا يصبح حال الزوجين، هل يبقيان زوجين؟ يبقيان معلقين؟ ولك أن تقدر أضرار كلا الاحتمالين، وأما كونه لا يحد من الطلاق، فهذه أمريكا وألمانيا تجعلان الطلاق بيد القاضي، ومع ذلك فقد كانت نسبة الطلاق في أمريكا منذ سنوات 48% من الزيجات، وكان نسبة الطلاق في ألمانيا منذ سنوات 35% من الزيجات. تنبيه: لا يعترض ما تقدم آنفا بأن من الرجال من يتعسف، ويتعنت، ويظلم امرأته مستغلا هذا الحق أسوأ استغلال، وذلك لأن كل نظام في الدنيا قابل لأن يساء استعماله، وكل صاحب سلطة عرضة لأن يتجاوزها إذا كان سيء الأخلاق، ضعيف الإيمان، ومع ذلك فلا يخطر في البال أن تلغي الأنظمة الصالحة لأن بعض الناس يسيئون استعمالها، أو أن لا تعطي لأحد من الأمة أية صلاحية لأن بعض أصحاب الصلاحيات تجاوزوا حدودها. إن الإسلام أقام دعامته الأولى في أنظمته على يقظة الضمير المسلم، واستقامته، ومراقبته لربه، وسلك في سبيل تحقيق ذلك أقوم السبل، وإذا رجعنا إلى قاعدة الترجيح بين المصالح والمفاسد، لرأينا أننا لو قارنا بين حسنات إعطاء الرجل حق إيقاع الطلاق بسيئات نزع هذا الحق منه، أو إشراك غيره معه فيه، رجحت كفة الحسنات على السيئات كثيرَا، وهذا كافٍ في الترجيح. (327) ومنها: أن دية المرأة التي قتلت خطأ أو التي لم يستوجب قتلها عقوبة   (327) راجع تفصيل القضية في (المرأة بين الفقه والقانون) للدكتور "مصطفى السباعي" رحمه الله ص (122 -147) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 القصاص لعدم استيفاء شروطه، بما يعادل نصف دية الرجل، والقتل العمد يوجب القصاص من القاتل سواء كان المقتول رجلا أو امرأة، وسواء كان القاتل رجلا أو امرأة، وهذا لأننا في القصاص نريد أن نقتص من إنسان لإنسان، والرجل والمرأة متساويان في الإنسانية، قال تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) المائدة (45) . أما في القتل الخطأ وما أشبهه، فليس هناك إلا التعويض المالي الذي يجب أن تراعى فيه الخسارة المالية الناجمة عن القتل قلة وكثرة، فهل خسارة الأسرة بالرجل كخسارتها بالمرأة؟ إن الأولاد الذين قتل أبوهم خطأ، والزوجة التي قتل زوجها خطأ، قد فقدوا معيلهم الذي كان يقوم بالإنفاق عليهم، والسعي في سبيل إعاشتهم. أما الأولاد الذين قتلت أمهم خطأ، والزوج الذي قتلت زوجته خطأ، فهم لم يفقدوا إلا ناحية معنوية لا يمكن أن يكون المال تعويضًا عنها. إن الدية ليست تقديرا لقيمة الإنسانية في القتيل، وإنما هي تقدير لقيمة الخسارة المادية التي لحقت أسرته بفقده، وهذا هو الأساس القويم الذي، لا يماري فيه أحد. إن هذا التشريع الحكيم مرتبط مثل سابقَيْه بنظام الإسلام في عدم تكليف المرأة بالكسب للإنفاق على نفسها وعلى أولادها رعاية لمصلحة الأسرة والمجتمع. ومنها: اشتراط أن يكون الخليفة رجلَا: فقد ثبت في حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن فارسا ملكوا عليهم ابنة كسرى قال: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " (328) ،   (328) رواه البخاري (3 / 45، 46) في الفتن: باب الفتنة التي تموج كموج البحر، = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 فهذا نص على أنه لا يجوز عليهم أن تكون المرأة في منصب الخلافة، وأن الفلاح منفي عمن تولت رئاستَهم امرأة، ومتى تخلف الفلاح عنهم، قارنهم الخذلان والخيبة. وهذا الحكم مخصوص بالولاية العامة (رئاسة الدولة) ، ويلتحق بها ما كان في خطورتها، واتفق العلماء قاطبة على جواز أن تكون المرأة وصية على الصغار وناقصي الأهلية، وأن تكون وكيلة لأية جماعة من الناس في تصريف أموالهم وإدارة مزارعهم، وأن تكون شاهدة في غير الدماء على أن يكون معها رجل، والشهادة نوع ولاية، وهذا أيضًا مما لا علاقة له بموقف الإسلام من إنسانية المرأة وكرامتها وأهليتها، وإنما هو وثيق الصلة بمصلحة الأمة، وبطبيعة المرأة النفسية، ورسالتها الاجتماعية. إن رئيس الدولة في الإسلام ليس صورة رمزية للزينة والتوقيع، وإنما هر قائد المجتمع المسلم، ورأسه المفكر، ووجهه البارز، ولسانه الناطق، وله صلاحيات واسعة خطيرة الآثار والنتائج: - فهو الذي يعلن الحرب على الأعداء، ويقود جيش الأمة في ميادين الكفاح، ويقرر السلم والمهادنة إن كانت مصلحة الإسلام فيهما، أو الحرب، والاستمرار فيها إن كانت المصلحة تقتضيها، بعد مشورة أهل الحل والعقد لقوله تعالى: (وشاورهم في الأمر) آل عمران (159) . - وهو الذي يتولى خطابة الجمعة في المسجد الجامع، وإمامة الناس في الصلوات، والقضاء بين الناس في الخصومات، إذا اتسع وقته لذلك.   = وفي المغازي: باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر، والترمذي رقم (2263) في الفتن: باب لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة، والنسائي (8/227) في القضاة: باب النهي عن استعمال النساء في الحكم، وأخرجه أيضا الإمام أحمد في "المسند" (5/38، 43، 47، 51) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 ومما لا ينكر أن هذه الوظائف الخطيرة لا تتفق مع تكوين المرأة النفسي والعاطفي، ولأن وظيفة المرأة الأصلية القرار في البيت، والتفرغ الكامل من أجل تربية رجال المستقبل، وخدمة الزوج، ولأنها لا تخالط الرجال، ولا تخلو بأجنبي أيا كانت الأسباب. ولأنها قوية العاطفة سريعة التأثر، وذلك يعوقها عن تغليب العقل والحزم والقوة على مظاهر الحنو والرحمة. وكيف تخطب في الناس، وتصلي بهم، وهي ليست ملزمة بصلاة الجمعة، ولا تتولى إمامة الرجال في الصلاة، وكيف تقوم العبادة على الخشوع وخلو الذهن مما يشغله إذا قامت المرأة واعظة أو إمامة؟ ومنها: أن الله سبحانه وتعالى أباح للرجل أن يجمع بين أربع نسوة إذا عرف من نفسه العدل بينهن في الحقوق، قال تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) الآية النساء (3) . في حين أنه لا يجوز للمرأة أن يتزوجها أكثر من واحد لما في ذلك من منافاة الفطرة السوية واختلاط الأنساب والفساد العريض، إلى غير ذلك مما لا تستقيم معه الحياة. وقد فصَّل الردَّ على من يقول: " لماذا لا يباح للمرأة تعدد الأزواج؟ " الدكتور عبد الله ناصح علوان، فقال: " إن المساواة بين الرجل والمرأة في أمر التعدد مستحيلة طبيعةً وخِلْقَةً وواقعًا، ذلك لأن المرأة في طبيعتها لا تحمل إلا في وقت واحد، ومرة واحدة في السنة كلها، وأما الرجل فغير ذلك، فمن الممكن أن يكون للرجل أولاد متعددون من نساء متعددات، ولكن المرأة لا يمكن أن يكون لها مولود واحد من أكثر من رجل واحد، وأيضا تعدد الأزواج بالنسبة إلى المرأة يُضَيع نسبة ولدها إلى شخص معين، وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى الرجل في تعدد زوجاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 وشيء آخر: وهو أن للرجل حق رئاسة الأسرة في جميع شرائع العالم، فإذا أبحنا للزوجة تعدد الأزواج فلمن تكون رئاسة الأسرة؟ أتخضع لهم جميعًا؟ وهذا غير ممكن لتفاوت رغباتهم، أم تخص واحدًا دون الآخرين؟ وهذا ما يسخط الآخرين. وهناك أمور تتعلق بنسبة الولد إلى أحد الأزواج، وأمور تتعلق بالعلاقة الزوجية، لا تخفى على من كان عنده أدنى إدراك وبصيرة: من إرهاق للمرأة، وإضرار بها، ومن وقوع في المشاكل العائلية، والأمراض الجسمية والنفسية ... إلى غير ذلك من الأضرار البالغة، والعواقب الوخيمة. إذن فتعدد الأزواج بالنسبة للمرأة مستقبح عقلًا، وحرام شرعًا، ومستحيل طبيعة وواقعًا، فلا يقول به إلا مَنْ كان إباحي النزعة، مدنَّس السُّمْعَة، فاسد الخلق، عديم الغيرة، ملوث الشرف) (329) اهـ. جملة أخرى من الأحكام تخالف المرأة فيها الرجل عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: " لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم (330) ، وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهَما الشيطان) (331) .   (329) " تعدد الزوجات في الإسلام" ص (29-30) . (330) رواه البخاري (4/64 - 65) في الحج: باب حج النساء، وفي الجهاد: باب كتابة الإمام الناس، وفي النكاح: باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، ومسلم رقم (1341) في الحج: باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره. (331) رواه عنه الإمام أحمد (3/446) ، ورواه عن عمر رضي الله عنه الترمذي رقم (2165) في الفتن: باب ما جاء في لزوم الجماعة، والحاكم (1/114 -115) ، = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تَصُم المرأة وبَعْلُها شاهد الا بإذنه " (332) يعني تطوعا. وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء" (333) يعني في الصلاة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس على النساء الحلقُ، وإنما على النساء التقصير " (334) ، أي عند التحلل من الإحرام. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحدٍ لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها " (335) .   = وقال: " صحيح على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في "تحقيق المشكاة" رقم (3118) . (332) رواه البخاري وهذا لفظه، (9/257) في النكاح: باب صوم المرأة بإذن زوجها تطوعًا، وباب ألا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه، ومسلم رقم (1026) في الزكاة: باب ما أنفق العبد من مال مولاه، وأبو داود رقم (2485) في الصوم: باب المرأة تصوم بغير إذن زوجها، والترمذي رقم (782) في الصوم: باب ما جاء في كراهية صوم المرأة إلا بإذن زوجها. (333) رواه البخاري (3/62) في العمل في الصلاة: باب التصفيق للنساء، وفي السهو وفي الصلح، وفي الأحكام، ومسلم رقم (421) في الصلاة: باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام. (334) رواه أبو داود رقم (1985) في المناسك: باب الحلق والتقصير، وقال الشوكاني في "نيل الأوطار": (وأخرجه أيضاً الطبراني، وقد قوى إسناده البخاري في " التاريخ"، وأبو حاتم في " العلل"، وحسنه الحافظ، وأعله ابن القطان، ورد عليه ابن المواق، فأصاب) اهـ (5/80) . (335) رواه الترمذي رقم (1159) في الرضاع: باب ما جاء في حق الزوج على المرأة، = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخِرها، وشَرها أولها" (336) . وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خير مساجد النساء بيوتُهن" (337) . وعن طارق بن شهاب مرفوعًا: " الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة، إلا على أربعة: عبدٍ مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض" (338) . وعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:   = وقال: (حسن غريب) ، وصححه الألباني في (صحيح الجامع) (5/68) . (336) رواه مسلم رقم (440) في الصلاة: باب تسوية الصفوف وإقامتها، وأبو داود رقم (678) في الصلاة: باب صف النساء، وكراهية التأخر عن الصف الأول، والترمذي رقم (224) في الصلاة: باب ما جاء في فضل الصف الأول، والنسائي (2/93) في الإمامة: باب ذكر خير صفوف النساء، وشر صفوف الرجال. (337) رواه الإمام أحمد (6/ 301) ، وابن خزيمة رقم (1684) ، والحاكم (1/209) ، وصححه الألباني بشاهده في " السلسلة الصحيحة، حديث رقم (1396) . (338) رواه من حديث طارق بن شهاب أبو داود رقم (1067) في الصلاة: باب الجمعة للمملوك والمرأة، وقال: (طارق بن شهاب قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه شيئا) اهـ، وقال النووي رحمه الله: (هذا الذي قاله أبو داود لا يقدح في صحة الحديث، لأنه إن ثبت عدم سماعه يكون مرسل صحابي، ومرسل الصحابي حجة عند أصحابنا، وجميع العلماء، إلا أبا إسحاق الإسفراييني) اهـ من " شرح المهذب" (4/483) ، وقال في "بغية الألمعي": (هذا خلاف ما قاله الحافظ في "الفتح" (7/2) : إن الخلاف بين الجمهور، وبين أي إسحق في قبول مرسل الصحابي الذي سمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، وأما الصاحب الذي لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، فمرسله كمراسيل سائر التابعين: يقبله من يقبل مراسيلهم، ويرده من يرد مراسيلهم، والله أعلم) اهـ (2/199) ، وقال الحافظ في " تلخيص الحبير": (وصححه غير واحد) اهـ (2/69) ، وقد وصله الحاكم في " المستدرك " = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 "العقيقة حق عن الغلام شاتان متكافئتان، وعن الجارية شاة" (339) ، إلى غير ذلك من النصوص. وأخيرًا: فلا ريب أن هذه الجملة من الفروق بين الرجل والمرأة تبين لنا مدى ترابط النظام الإسلامي مع الواقع، وأن من يرفض هذه الأصول الاجتماعية الحكيمة، لابد وأن يخلع رِبقَةَ الإسلام من عنقه، ليعبد الهوى والطاغوت، وإن هذه الشرائع الإلهية، ما وضعت لتكون طريحة المكاتب والأوراق، ولا هي قابلة لأن تُعرض على العباد المربوبين ليبحثوا إمكانية تطبيقها، أو ليدرسوا مدى صلاحيتها، ولكنها شرعت لتعمل عملها في واقع ينفعل بها، وأي خلل في الانقياد لها، أو الإيمان ببعضها مع الكفر بالبعض الآخر، يحَوّل الحياة إلي شقاء وضنك دائمين (340) : (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رَبّ لم حشرتني أعمى وقد كنتُ بصيرًا قال كذلك أتتك آياتنا فنَسِيتَها وكذلك اليومَ تُنْسَى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآياتِ ربه ولعذابُ الآخرةِ أشد وأبقى) طه (123-127) .   = (1/288) ، وقال: " صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي، والحديث أخرجه الدارقطني (164) ، والبيهقي (3/183) ، وقال: (هذا الحديث- وإن كان فيه إرسال - فهو مرسل جيد، وطارق من كبار التابعين، وممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يسمع منه، ولحديثه شواهد) اهـ، وقد ذكر هذه الشواهد العلامة الألباني، وصححه بها في (إرواء الغليل" (3/55-58) . (339) رواه الإمام أحمد (6/456) ، وأورده الهيثمي في " مجمع الزوائد"، وقال: (رواه أحمد والطبراني في " الكبير"، ورجاله محتج بهم) اهـ. (4/57) ، وصححه الألباني في "الإرواء) (4/392) . (340) ومن أجمع ما كتب في توضيح قضية إفراد الله عز وجل بالحاكمية والتشريع كتاب "الشريعة الإلهية لا القوانين الوضعية" لفضيلة الدكتور عمر سلمان الأشقر حفظه الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 [الفصل الثاني] المرأة أُمًّا أوصى الله تعالى في مواضع من كتابه بالإحسان إلى الوالدين، وقرنه بالأمر بعبادته والنهي عن الشرك به، وأمر بالشكر لهما متصلًا بالشكر له، وَخَص الأم بالذكر في بعض هذه الوصايا للتذكير بزيادة حقها على حق الأب. قال تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وبالوالدَينِ إحسانا) النساء (36) . قال ابن عباس رضي الله عنهما: " يريد البر بهما مع اللطف، ولين الجانب، فلا يغلظ لهما في الجواب، ولا يحد النظر إليهما، ولا يرفع صوته عليهما، بل يكون بين يديهما مثل العبد بين يدي السيد تذللا لهما " (*) . وقال تعالى: (وقضى (341) ربك ألَّا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولًا كريمًا واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا) الإسراء (23-24) . قوله تعالى: (فلا تقل لهما أف) قال البغوي رحمه الله: [يريد: لا تقل لهما ما فيه أدنى تبرم، والأُفُّ والتُّفُّ: وَسَخُ   (*) الزواجر عن اقتراف الكبائر" (2/66) . (341) قضى هنا بمعنى: أمر، وألزم، وأوجب، قال ابن عباس والحسن وقتادة: " ليس هذا قضاء حكم، بل هو قضاء أمر" اهـ. من "الجامع لأحكام القرآن " (10/237) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 الأظفار، ويقال لكل ما يُستثقل ويُضْجَرُ منه: أفّ له، قال مجاهد: " لا تَقْذَرْهُما كما كانا لا يَقْذَرانِكَ " (342) . وقال الهيثمي رحمه الله: [ (وقل لهما قولا كريمَا) ثم أمر بأن يقال لهما القول الكريم: أي اللين اللطيف المشتمل على العطف والاستمالة وموافقة مرادهما وميلهما ومطلوبهما ما أمكن سيما عند الكبر، فإن الكبر يصير كحال الطفل وأرذل، لما يغلب عليه من الخرف وفساد التصور، فيرى القبيح حسنًا، والحسن قبيحا، فإذا طُلِبَتْ رعايته وغايةُ التلطف به في هذه الحالة، وأن يُتَقَربَ إليه بما يناسب عقله إلى أن يرضى؛ ففي غير هذه الحالة أولى] (343) . قال أبو البداح التجِيبيُّ: (قلت لسعيد بن المسيب: " كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته، إلا قوله: (وقل لهما قولًا كريمًا) ما هذا القول الكريم؟ "، قال ابن المسيب: " قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ ") (344) . وقال معاوية بن إسحاق عن عروة، قال: (ما بَرَّ والدَه، مَن شَدَّ الطَّرفَ إليه " (*) . [وقوله عز وجل: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) قال عطاء: " لا ينبغي لك أن ترفع يديك على والديك، ولا إليهما تعظيما لهما "، وقال عروة: " لا تمتنع من شيء أحَبَّاه "] (345) .   (342) ، (345) "شرح السنة " (13/15) ، وانظر: " فضل الله الصمد، (1/60- 61) . (343) " الزواجر عن اقتراف الكبائر " (2/66) . (344) " الجامع لأحكام القرآن " (10/243) . (*) " سير أعلام النبلاء " (4/433) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 وينبغي للإنسان- بحكم هذه الآية- أن يتذلل لوالديه تذلل الرعية للأمير، والعبيد للسادة، وقد ضرب خفض الجناح ونصبه مثلًا لجناح الطائر حين ينتصب بجناحه لولده. [ثم أمر تعالى بعد القول الكريم بأن يخفض لهما جناح الذل من القول بأن لا يُكَلَّما إلا مع الاستكانة والذل والخضوع، وإظهار ذلك لهما، واحتمال ما يصدر منهما، ويريهما أنه في غاية التقصير في حقهما وبرهما، وأنه من أجل ذلك ذليل حقير، ولا يزال على نحو ذلك إلى أن ينثلج خاطرهما، ويرد قلبهما عليه، فينعطفا عليه بالرضا والدعاء، ومنْ ثم طلب منه بعد ذلك أن يدعو لهما، لأن ما سبق يقتضي دعاءهما له كما تقرر، فليكافئهما إن فُرِضَتْ مساواة، وإلا فشتان ما بين المرتبتين (346) ، وكيف تُتَوَهَّمُ المساواة، وقد كانا يحملان أذَاكَ وَكَلَّكَ، وعظيم المشقة في تربيتك، وغاية الإحسان إليك، راجين حياتك، مؤملين سعادتك، وأنت إن حملت شيئًا من أذاهما رجوت موتهما، وسئمت من مصاحبتهما، ولكون الأم أحمل لذلك وأصبر عليه مع أن عناءها أكثر وشفقتها أعظم بما قاسته من حمل وطلق وولادة ورضاع وسهر ليل، وتلطخ بالقذر والنجس، وتجنُّبٍ للنظافة والترفه، حَض النبي صلى الله عليه وسلم على برها ثلاث مرات، وعلى بر الأب مرة واحدة كما في الحديث الصحيح] (347) . تنبيه: لا يختص بر الوالدين بكونهما مسلِمَيْن، بل يبرهما وإن كانا كافرين، ويحسن إليهما إذا كان لهما عهد، قال تعالى: (لا ينهكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دِياركُم أن تبروهم)   (346) انظر: " فضل الله الصمد " (1/41) . (347) "الزواجر" (2/66) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 الآية (الممتحنة: 8) . وعن أسماء رضي الله عنها قالت: (قَدِمت عَلي أمي وهي مشركة - في عهد قريش إذ عاهدهم -، فاستفتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: " يا رسول الله إن أمي قدمت عليّ، - وهي راغبة - (348) أفأصلها؟ قال: " نعم، صلي أمك ") (349) . وقال سبحانه: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وَهنًا على وهن (350) وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير) لقمان (14) ، وقال عز وجل: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون) لقمان (15) . فإذا أمر الله تعالى بمصاحبة هذين بالمعروف مع هذا القبح العظيم الذي يأمران ولدهما به، وهو الإشراك بالله تعالى، فما الظن بالوالدين المسلمَين سيما إن كانا صالِحَينِ، تالله إن حقهما لمن أشد الحقوق وآكدها، وإن القيام به على وجهه أصعب الأمور وأعظمها، فالموفَّق من هُدِي إليها،   (348) أي في برى وصلتي، وقيل: راغبة عن الإسلام كارهة له، قال ابن عطية: (والظاهر عندي أنها راغبة في الصلة، وما كانت لتقدم على أسماء لولا حاجتها) اهـ. من (الجامع لأحكام القرآن) (14/65) ، وأم أسماء هي قُتيلة بنت عبد العزى بن عبد أسد، وأم عائشة وعبد الرحمن هي أم رومان قديمة الإسلام. (349) رواه البخاري (13/ 17-18) في الأدب: باب صلة الوالد المشرك، وفي الهبة، والجهاد، ومسلم رقم (1003) واللفظ له، في الزكاة: باب فضل الصدقة على الأقربين، ولو كانوا مشركين، وأبو داود رقم (1668) في الزكاة: باب الصدقة على أهل الذمة، والإمام أحمد (6/ 344، 347، 355) . (350) أي حملته في بطنها، وهي تزداد كل يوم ضعفًا على ضعف، وقيل: المرأة ضعيفة الخِلقة، ثم يضعفها الحمل، ثم تعاني الوضع، ثم الرضاعة والتربية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 والمحروم كل المحروم من صرف عنها وقد جاء في السنة من التأكيد في ذلك ما لا تحصى كثرته ولا تحد غايته، فمن ذلك: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ "، قال: " أمك "، قال: " ثم من؟ "، قال: " أمك "، قال: " ثم من؟ "، قال: " أمك "، قال: " ثم من؟ "، قال: " ثم أبوك ") (351) . وعن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بآبائكم، ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب " (352) وعن أبي رمثة رضي الله عنه قال: " انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: " بر أمك وأباك، وأختك وأخاك ن ثم أدناك أدناك ") (353) . وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: " أي الأعمال أحب إلى الله؟ "، قال: الصلاة على وقتها، قلت: " ثم أي؟ "، قال: " ثم بر الوالدين "، قلت: " ثم أي؟ "، قال: " ثم الجهاد في سبيل الله " قال: " حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو استزدته،   (351) أخرجه البخاري (13/4-6) في الأدب: باب من أحق الناس بحسن الصحبة، ومسلم رقم (2548) في البر: باب بر الوالدين. (352) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (60) واللفظ له، وابن ماجه (3661) ، والحاكم (4/151) ، والإمام أحمد (4/131، 132) ، وصححه الألباني في الصحيحة رقم (1666) (353) أخرجه الحاكم (4/151) واللفظ له، والإمام أحمد (2/226) ، وصححه الألباني في " إرواء الغليل " (3/322) ، وتأمل كيف قدم الأم على الأب، وكذا قدم الأخت على الأخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 لزادني ") (354) فاخبر صلى الله عليه وسلم أن بر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي أعظم دعائم الإسلام ورتب ذلك بـ "ثم" التي تقتضي الترتيب والمهلة. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل استأذنه في الجهاد: " أَحَيًّ والداك؟ "، قال: " نعم " قال: " ففيهما فجاهد " (355) ، وفي رواية لمسلم قال: " (أقبل رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله قال فهل من والديك أحد حيُّ؟ " قال: " نعم بل كلاهما حي " قال فتبتغي الأجر من الله؟ قال نعم! قال فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما "، وفي رواية أخرى لأبي داود والنسائي عنه رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " جئت أبايعك على الهجرة ن وتركت أبويَّ يبكيان "، قال: " فارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما ") ، وعنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال رضا الرب في رضا الوالد وسخط الرب في سخط الوالد " (356) .   (354) رواه البخاري في مواقيت الصلاة وفضلها: باب فضل الصلاة لوقتها، وفي الجهاد والسير وفي الأدب، وخرجه مسلم واللفظ له في الإيمان رقم (139) (355) رواه البخاري (6/97 - 98) في الجهاد: باب الجهاد بإذن الأبوين، وفي الأدب، ومسلم رقم (2549) في البر والصلة: باب بر الوالدين، وأبو داود رقم (253) في الجهاد باب في الرجل يغزو، وأبواه كارهان، والترمذي رقم (1671) في الجهاد: باب فيمن خرج في الغزو وترك أبويه، والنسائي (6/10) في الجهاد: باب الرخصة في التخلف لمن له والدان، (7/143) في البيعة: باب البيعة على الهجرة وهذا محمول على ما لم يتعين الجهاد كأن يقع النفير، فإذا وقع وجب الخروج على الجميع. (356) رواه الترمذي رقم (1900) في البر والصلة: باب ما جاء في بر الوالدين، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (1/42) ، وصححه ابن حبان (2026 - موارد) ، = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 تنبيه: قال الغزالي (من يخدم أبويه ينبغي ألا يطلب بخدمته منزلة عندهما إلا من حيث أن رضا الله في رضا الوالدين، فإن ذلك معصية في الحال، وسيكشف الله عن ريائه، فتسقط منزلته من قبلهما أيضا) (357) اهـ. وعن معاوية بن جاهمة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله! أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك؟ " فقال هل لك أم؟ قال نعم قال فالزمها فإن الجنة تحت رجليها (358) وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فرأى أصحابه من جلده ونشاطه ما أعجبهم، فقالوا يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان خرج يسعى على أولاده صغارا فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان ") (359) .   = الحاكم (4/152) وصححه على شرط مسلم وأقره الذهبي وفيه نظر لأن عطاء العامري مجهول العين كما ذكره الذهبي رحمه الله (357) نقلا عن فضل الله الصمد (1/111) (358) رواه النسائي (6/11) في الجهاد باب الرخصة في التخلف لمن له والدة وابن ماجه رقم (2781) والحاكم (4/151) وصححه ووافقه الذهبي والإمام أحمد (3/429) وعبد الرزاق في المصنف (5/176) وذكره الهيثمي في المجمع (8/138) وقال (رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات اهـ، وانظر الترغيب والترهيب (3/316) (359) أخرجه الطبراني في معاجمه الثلاثة ورجال الكبير رجال الصحيح اهـ، كذا قال الهيثمي في المجمع والمنذري في الترغيب والترهيب (3/63) ورمز له = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " يا رسول الله، إني أصبتُ ذنبًا عظيمًا، فهل لي من توبة؟ " فقال: "هل لك من أم؟ " قال: " لا"، قال: (فهل لك من خالة؟ " قال: " نعم "، قال؟ " فَبِرَّها ") (360) . قال البغوي: " وقد صح عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الخالة بمنزلة الأم) (361) . وقال مكحول: "بر الوالدين كفارة للكبائر، ولا يزال الرجل قادرًا على البر ما دام في فصيلته مَنْ هو أكبر منه "] (362) . وعن عطاء بن يسار عن ابن عباس (أنه أتاه رجل فقال: " إني خطبت امرأة، فأبت أن تنكحني، وخطبها غيري فَأحَبَّتْ أن تنكحه، فَغِرْتُ عليها، فقتلتها، فهل لي من توبة؟ "، قال: "أمُك حية؟ "، قال: " لا "، قال: " تُب إلى الله عز وجل، وتقرب إليه ما استطعت "، فذهبت، فسألت ابن عباس: " لم سألتَه عن حياة أمه؟ "، فقال:   = السيوطي في " الجامع الصغير" بالصحة " فيض القدير" (3/31) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع" (2/8) . (360) رواه الترمذي رقم (1905) في البر والصلة. باب بر الخالة، مرسلا ومسندا، وقال: " إن المرسل أصح"، وأما المتصل فصححه ابن حبان (2022- موارد) ، والحاكم (4/ 155) بلفظ: " والدان "، وصححه على شرط الشيخين، وأقره الذهبي، ورواه الإمام احمد (2/14) ، واللالكائي رقم (1968) . (361) رواه الترمذي رقم (1905) في البر والصلة: باب بر الخالة، وقال: " هذا حديث صحيح ". والحديث رواه في قصة طويلة البخاري (7/ 385 - 391) في المغازي: باب عمرة القضاء، وفي الحج، والصلح، والجهاد، ومسلم رقم (1783) في الجهاد: باب صلح الحديبية في الحديبية. (362) "شرح السنة" (13/13) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 " إني لا أعلم عملًا أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة ") (363) . وعن طيسلة بن مَياس قال: (كنت مع النجدات (364) فأصبت ذنوبا لا أراها إلا من الكبائر، فذكرت ذلك لابن عمر، قال: ما هي؟ قلت: كذا وكذا، قال: ليست هذه من الكبائر) إلى أن قال: (قال لي ابن عمر: أتفْرَق من النار، وتحب أن تدخل الجنة؟ قلت: إي والله!، قال: أحَي والداك؟ قلت: عندي أمي، قال: فوالله لو ألنت لها الكلام، وأطعمتها الطعام، لتدخلن الجنة، ما اجتنبت الكبائر) (365) . وعن أبي هريرة مرفوعًا: " رَغِمَ أنفُهُ (366) ، رغم أنفه، رغم أنفه "، قيل: (من يا رسول الله؟، قال؟ (من أدرك أبويه عنده الكبرُ: أحدهما أو كليهما، ثم لم يدخل الجنة " (367) وعد النبي صلى الله عليه وسلم عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، وخص الأمهات بالذكر، فقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنعًا   (363) رواه البخاري في " الأدب المفرد" رقم (4) ، والبيهقي، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة " رقم (1957) . (364) فرقة من الخوارج، تنسب إلى نجدة بن عامر الحنفي، انظر: " الملل والنحل للشهرستاني (1/122- 125) . (365) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، رقم (8) ، والطبري في " التفسير" وعبد الرزاق الخرائطي في مساوئ الأخلاق، كما في حاشية (فضل الله الصمد" (1/59) . (366) رغم أنفه: الرغام: التراب، ورغم أنفه: أي لصق بالتراب، والمعنى: ذل وخزي من قصر في برهما عند ذلك، وفاته دخول الجنة. (367) رواه مسلم رقم (2551) في الأدب: باب رغم أنف من أدرك أبويه، فلم يدخل الجنة، والبخاري في " الأدب المفرد" (1/86) ، والترمذي رقم (3539) في " الدعوات": باب رقم (110) ، وحسنه والإمام أحمد (2/346) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 وهات، ووأد البنات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال " (368) . وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: " كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ " - ثلثا -، قلنا: " بلى يا رسول الله "، قال: " الإشراك بالله، وعقوق الوالدين "، وكان متكئًا فجلس، فقال: " ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور "، فما زال يقولها حتى قلنا: " لا يسكت " (369) ، وفي رواية: " حتى قلنا: ليته سكت "، يعني: قلناها إشفاقًا عليه، لما رأوا من انزعاجه صلى الله عليه وسلم. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن من الكبائر شتم الرجل والديه "، قالوا: (يا رسول الله! وهل يشتم الرجل والديه؟ "، قال: " نعم يسُب أبا الرجل فيسب أباه، ويسُب أمَّه، فيسب أمه " (370) .   (368) رواه من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه البخاري (3/270) في الزكاة ة باب قول الله تعالى: (لا يسألون الناس إلحافا) ، وفي الأدب: باب عقوق الوالدين من الكبائر، ومسلم واللفظ له، رقم (953) في الأقضية: باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة. (369) رواه البخاري (5/193) في الشهادات: باب ما قيل في شهادة الزور، وفي الأدب: باب عقوق الوالدين من الكبائر، وفي الاستئذان، وفي استتابة المرتدين، ومسلم رقم (87) في الإيمان: باب بيان الكبائر وأكبرها، والترمذي رقم (2302) في الشهادات: باب ما جاء في شهادة الزور. (370) رواه البخاري (10/338) في الأدب: باب لا يسب الرجل والديه، ومسلم رقم (90) في الإيمان: باب بيان الكبائر وأكبرها، والترمذي رقم (1903) في البر: باب ما جاء في عقوق الوالدين، وأبو داود رقم (5141) في الأدب: في بر الوالدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 وقد تقدم أنه كان من أشد ما يؤلم نفسه الكريمة صلى الله عليه وسلم: أن يسمع الرجل يعير الرجل بأمه، وآية ذلك ما حدَث المعرور بن سويد، قال: (رأيت أبا ذر الغفاري، وعليه حُلة، وعلى غلامه حلة، فسألناه عن ذلك، فقال: إني ساببت رجلا، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أعيرَته بأمه! إنك امرؤ فيك جاهلية "، ثم قال: " إن خدمكم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليُلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يَغْلِبُهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم " (371) . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: " من الكبائر عند الله تعالى أن يستسب الرجل لوالده " (372) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " لا تمشين أمام أبيك، ولا تجلس قبله، ولا تَدعُه باسمه، ولا تستسب له) (373) .   (371) تقدم تخريجه برقم (163) . (372) رواه البخاري في " الأدب المفرد، رقم (28) ، والمعنى: أن يكون سببا لسب الأبوين سواء سب أحدًا أو آذى أحدًا. (373) رواه البخاري في " الأدب المفرد " رقم (44) ، وعبد الرزاق في " مصنفه "، والبيهقي، وابن السني مرفوعا رقم (397) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 [فصل] بر الوالدين بعد موتهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا مات الإنسان (374) انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جاريهَ، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له " (375) . وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير ما يخلف الرجل من بعده ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقة تجرى يبلغه أجرها، وعلم يُعْمَلُ به من بعده) (376) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " ترْفَع للميت بعد موته درجة، فيقول: أي رب! أي شيء هذه؟ فيقال: ولدك استغفر لك " (377) .   (374) أي المؤمن، فقد بينت السنة اشتراط كون الأب مؤمنًا موحدا كما يأتي إن شاء الله. (375) رواه مسلم رقم (1631) في الوصية: باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، وأبو داود رقم (2880) في الوصايا: باب ما جاء في الصدقة عن الميت، والترمذي رقم (1376) في الأحكام: باب في الوقف، والنسائي (6/251) في الوصايا: باب فضل الصدقة عن الميت، والطحاوي في مشكل الآثار (1/85) والبيهقي (6/278) ، والإمام أحمد (2/372) . (376) أخرجه ابن ماجه (1/106) ، وابن حبان في صحيحه رقما (84، 85) والطبراني في المعجم الصغير ص (79) وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/15) ، وصحح إسناده الحافظ المنذري في "الترغيب" (1/58) . (377) أخرجه ابن ماجه (3660) ، والإمام أحمد (2/509) والبخاري في " الأدب المفرد" (1/36) ، وقال البوصيري في "الزوائد": " إسناده صحيح، رجاله = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 ومن البر بهما بعد موتهما: قضاء صوم النذر أو الكفارة عنهما: فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من مات وعليه صيام، صام عنه وَلِيُّه " (378) . ومن البر بهما بعد موتهما: التصدق عنهما: فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمى تُوُفيَتْ، أينفعها إن تصدَّقتُ عنها؟ "، قال: " نعم "، قال: " فإن لي مَخْرَفا، فأنا أشهدك أني قد تصدقت به عنها " (379) . وعن عائشة رضي الله عنها: (أن رجلًا قال: "إن أمي افْتُلِتت (380) نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها ولي أجر؟ " قال: " نعم، فتصدق عنها ") (381) . "وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن   = ثقات" (3/159) وحسنه الألباني في "الصحيحة" رقم (1598) (4/129) . (378) أخرجه البخاري (4/168) في الصوم: باب من مات وعليه صوم، ومسلم رقم (1147) في الصوم: باب قضاء الصيام عن الميت، وأبو داود رقم (2400) في الصوم: باب فيمن مات وعليه صيام. (379) أخرجه البخاري (5/289) في الوصايا: باب إذا قال: أرضي أو بستاني صدقة عن أمي فهر جائز، وباب الإشهاد في الوقف والصدقة: وباب إذا وقف أرضا، ولم يبين الحدود فهو جائز، وأبو داود رقم (2882) في الوصايا، والترمذي رقم (669) في الزكاة، والنسائي (6/252، 253) ، والمَخْرَفُ: النخل، لأنها تخترف ثمارها، أي: تجتني. (380) افْتُلِتَتْ: افتلتت نفس فلان، أي: مات فجأة، كأن نفسه أخذَتْ فَلْتَةً. (381) رواه البخاري (5/291) في الوصايا: باب ما يستحب لمن توفي فجأة أن يتصدقوا عنه، وفي الجنائز، ومسلم رقم (1004) في الزكاة، وأبو داود رقم (2881) في الوصايا، والنسائي (6/250) في الوصايا، وابن ماجه (2/ 160) ، والإمام أحمد (6/51) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 أبي مات وترك مالا ولم يوص، فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟ "، قال: " نعم ") (382) . وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة، وأن هشام بن العاص نحر حصته خمسين بدنة، وأن عَمْرًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: " أما أبوك فلو كان أقر بالتوحيد، فصمتَ، وتصدقتَ عنه، نفعه ذلك ") (383) .   (382) أخرجه مسلم (5/73) ، والنسائي (2/129) ، وابن ماجه (2/160) ، والبيهقي (6/278) ، والإمام أحمد (2/371) . (383) أخرجه الإمام أحمد (2/182) ، وقال الألباني في الصحيحة، رقم (484) : (وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات، على الخلاف المعروف في عمرر بن شعيب عن أبيه عن جده) إلى أن قال حفظه الله: (والحديث دليل واضح على أن الصدقة والصوم تلحق الوالد، ومثله الوالدة بعد موتهما إذا كانا مسلمين، ويصل إليهما ثوابهما، بدون وصية منهما، ولما كان الولد من سعى الوالدين، فهو داخل في عموم قوله تعالى: (وَأن ليس للإنسان إلا ما سعى فلا داعي لتخصيص هذا العموم بالحديث وما ورد في معناه في الباب، مما أورده المجد ابن تيمية في " المنتقى" كما فعل البعض. واعلم أن كل الأحاديث التي ساقها في الباب هي خاصة بالأب أو الأم من الولد، فالاستدلال بها على وصول ثواب القرَب إلى جميع الموتى كما ترجم لها المجد ابن تيمية بقوله: " باب وصول ثواب القرب المهداة إلى الموتى) غير صحيح، لأن الدعوى أعم من الدليل، ولم يأت دليل يدل دلالة عامة على انتفاع عموم الموتى من عموم أعمال الخير التي تهدى إليهم من الأحياء، اللهم إلا في أمور خاصة ذكرها الشوكاني في " نيل الأوطار" (4/78-80) ، ثم الكاتب في كتابه (أحكام الجنائز وبدعها) ، من ذلك: الدعاء للموتى، فإنه ينفعهم إذا استجابه الله تبارك وتعالى، فاحفظ هذا تنج من الإفراط والتفريط في هذه المسألة، وخلاصة ذلك أن للولد أن يتصدق، ويصوم، ويحج، ويعتمر، ويقرأ القرآن عن والديه لأنه من سعيهما، وليس له ذلك عن غيرهما، إلا ما خصه الدليل مما سبقت الإشارة إليه، والله أعلم) اهـ = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 ويُروى عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوسٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه رجل من بني سَلِمة، فقال: " يا رسول الله: هل بقي مِنْ بِر أبَوَي شيء أبَرهما بعد موتهما؟ "، فقال: (نعم، الصلاةُ عليهما (384) ، والاستغفارُ لهما، وإنفاذ عهدهما مِن بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصَلُ إلا بهما، وإكرام صديقهما ") (538) . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا خرج إلى مكة، كان له حمار يتروَّحُ عليه إذا ملَّ ركوب الراحلة، وعمامة يشد بها رأسه، فبينما هو يومًا على ذلك الحمار، إذ مَرَّ به أعرابي، فقال: " ألست ابنَ فلان؟! "، قال: " بلى"، فأعطاه الحمار، فقال: " اركب هذا "، والعمامةَ، وقال: " اشدُد بها رأسك"، فقال له بعض أصحابه: " غفر الله لك، أعطيتَ هذا الأعرابيَّ حمارًا كنت تَرَوحُ عليه، وعمامة كنت تَشُدُّ بها رأسك؟ ! "، فقال: (إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من أبَر البر صلة الرجل أهلَ وُد أبيه بعد أن يُوَلّي، وإن أباه كان وُدُّا لعمر ") ] (386) .   = من سلسلة الأحاديث الصحيحة" رقم (484) . (384) أي الدعاء لهما بالرحمة، وإن لم يكن بلفظ الصلاة، فإن الله تعالى لم يجعل الدنيا عوضًا عن بر الوالدين، بل قال: (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا) أي: سل الله لهما الفوز في الآخرة. (385) رواه أبو داود رقم (5142) في الأدب: باب بر الوالدين، وابن ماجه رقم (3664) في الأدب: باب صل من كان أبوك يصل، وابن حبان رقم (2030) ، وفي سنده على بن عبيد الساعدي، الراوي عن أبي أسيد لم يوثقه غير ابن حبان، وباقي رجال السند ثقات، والحديث ضَعفَ الألباني إسناده في " تحقيق المشكاة، رقم (4936) ، و "ضعيف ابن ماجه " ص (296) رقم (800) . (386) رواه مسلم رقم (2552) في البر والصلة: باب فضل صلة أصدقاء الوالد، = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 وفي رواية البخاري في "الأدب المفرد"، وكذلك الترمذي مختصرا: "إن أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه ". ويروى عن عبد الله بن دينار بلفظ: (مر أعرابي في سفر، فكان أبو الأعرابِي صديقًا لعمر رضي الله عنه، فقال للأعرابي: " ألستَ ابن فلان؟ "، قال: " بلى، فأمر له ابن عمر بحِمار كان يستعقب (387) ، ونزع عمامته عن رأسه فأعطاه، فقال بعض من معه: (أما يكفيه درهمان؟ " (388) ، فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " احفظ وُدً أبيك، لا تقطعه فيطفئ الله نورَك ") (389) . وعن ثابت البُناني عن أبي بردة قال: (قدمت المدينة، فأتاني عبد الله بن عمر، فقال:، أتدرى لم أتيتُك؟ " قال: قلت: لا، قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " مَنْ أحَب أن يَصِلَ أباه في قبره، فَلْيَصِل إخوانَ أبيه مِن بعده "، وإنه كان بين أبي: عمرَ، وبين أبيك إخاء وود، فأحببت اًن أصِلَ ذلك) (390) .   = وأبو داود رقم (5143) في الأدب: باب بر الوالدين، والترمذي رقم (1904) في البر والصلة: باب ما جاء في إكرام صديق الوالد، ومعنى (أبر البر، أفضله بالنسبة إلى والده، وكذا والدته، وذلك باْن يحفظ الابن أهل ود أبيه وأمه إذا ماتا أو غابا، فيحسن إلى قرابتهما وأحبائهما، فإن هذا من تمام الإحسان إلى الأب، وإنما عُد هذا من أبر البر، لأنه إذا حفظ غيبه فهو بحفظ حضوره أولى وأحرى. (387) أي يستريح عليه إذا ضجر من ركوب البعير كما في الرواية السابقة. (388) ولفظ مسلم: (قال ابن دينار: " قلنا له: إنهم الأعراب، وهم يرضَوْن باليسير ") . ورواه بهذا اللفظ البخاري في " الأدب المفرد" رقم (40) ، وعزاه في الجامع الصغير) إلى الطبراني في " الأوسط" والبيهقي في " شعب الإيمان"، وقال الحافظ العراقي: " إسناده جيد"، وحسنه الهيثمي، والسيوطي كما في: "فيض القدير" (1/196) ، وضعفه الألباني في (ضعيف الجامع" (1/106) رقم (210) . (390) أخرجه ابن حبان (2031) ، وصححه الألباني على شرط البخاري، وعزاه = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 عاقبة البر، ومواقف سلفية في بر الوالدين وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (" دخلت الجنة، فسمعت قراءة، فقلت: "من هذا؟ " فقيل: " حارثة بن النعمان "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كذلكم البر، كذلكم البر ") وزاد عبد الرزاق في روايته: (وكان أبر الناس بأمه " (391) . وقال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن لي أمُّا بلغ منها الكِبَرُ أنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري لها مطية - يعني: أحملها إلى مكان قضاء الحاجة - فهل أدَّيت حقها؟) ، فقال عمر: " لا، لأنها كانت تصنع بك ذلك، وهي تتمنى بقاءك، وأنت تصنعه، وتتمنى فراقها) (*) . وقد رأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلًا يطوف بالكعبة حاملًا أمه على رقبتَه، فقال: يا ابن عمر أترى أني جزيتها؟ قال: " لا، ولا بطلقة واحدة، ولكنك أحسنت، والله يثيبك على القليل كثيرًا ". وفي رواية البخاري في " الأدب المفرد": (أن أبا بردة بن أبي موسى الأشعري حدث أنه شهد ابنُ عمر رجلًا يمانيا يطوف بالبيت، حمل أمه وراء ظهره يقول: إنى لها بعيرُها المذلَّلْ ... إن أذعِرت ركابُهَا لم أذعَرْ الله ربي ذو الجلال الأكبر   = إلى أبي يعلى، و " السلسلة الصحيحة، رقم (1432) (3/417 - 418) . (391) رواه الإمام أحمد (6/36، 151 - 152، 166 -167) ، والبغوي في " شرح السنة، (13/71) ، وعبد الرزاق في المصنف" (20119) ، والحاكم (3/208) ، وصححه، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة، (1/618) : "إسناده صحيح " اهـ. (*) نقلًا من " المرأة وحقوقها في الإسلام" للشيخ مبشر الطرازي ص (62-63) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 حملتُها أكثر مما حملت ... فهل ترى جازيتها يا ابن عمر؟ ثم قال: يا ابن عمر! أتراني جزيتها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة) (392) . وعنه أيضًا رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بينما ثلاثةُ نَفَرٍ يتماشَون، أخذهم المطر، فمالوا إلى غارٍ في الجبل، فانحطَّت على فم غارهم صخرة من الجبل، فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالًا عملتموها لله صالحة، فادعوا الله بها لعله يُفَرِّجُها، فقال أحدهم: " اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار، كنت أرعى عليهم، فإذا رجعت عليهم، فحلبت، بدأتُ بوالديَّ أسقيهما قبل ولدي، وإنه قد نأى بي الشجَرُ (393) ، فما أتيتُ حتى أمسيتُ، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحْلُب، فجئت بالحِلَاب، فقمتُ عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يتضاغَوْنَ (394) عند قدمي، فلم يزل ذلك دَأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج لنا فُرْجة نرى منها السماء، ففرَّج الله لهم حتى يرون السماء" الحديث (539) . (وكان الفضل بن يحيى أبر الناس بأبيه، بلغ من بِره إياه أنهما كانا في السجن، وكان يحيى لا يتوضأ إلا بماء سخن، فمنعهما السجان من   (392) رواه البخاري في " الأدب المفرد " رقم (11) ، وابن المبارك في البر والصلة، والبيهقي في شعب الإيمان في الخامس والخمسين، والزفرة: المرة من الزفير، وهو تردد النفس حتى تختلف الأضلاع، وهذا يعرض للمرأة عند الوضع. (393) نأى بي الشجر: بَعُدَ المرعى والرجوع عنه. (394) يتضاغون: يُصَوِّتون باكين. (395) رواه البخاري (8/3) ط. الشعب، ومسلم (8/89) في الرقاق، وابن حبان (497- موارد) ، وانظر: " مجمع الزوائد " (8/140) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 إدخال الحطب في ليلة باردة، فلما نام يحيى، قام الفضل إلى قُمْقُمَةٍ، وملأها ماءً، ثم أدناه من المصباح، ولم يزل قائمًا - وهو في يده - حتى أصبح) (396) . قال ابن المنكدر: " بِتُّ أكبس رِجْلَ أبى، وبات آخر يصلي - يعنى التهجد- ولا يسرني ليلته بليلتي " (*) . وعن أبي عبد الرحمن قال: " كان رجل منا بَرُّا بوالديه، فأمراه أو أمره أحدهما أن يتزوج، فتزوج، فوقع بين أمه وبين امرأته شر، ووافقه أهله، فقالت له أمه: طلقْها، قال: فاشتد عليه أن يطلق امرأته، واشتد عليه أن يعق أمه، قال: فرحل إلى أبي الدرداء رضي الله عنه فقص عليه قصته، فقال: ما كنت آمرك أن تطلق امرأتك، ولا أن تَعُق أمك، ولكن إن شئت حَدَثتُك حديثًا سمعتهُ من النبي صلى الله عليه وسلم: " الوالد (397) أوسط (398) أبواب الجنة، فإن شئت فحافظ على الباب، أو ضَيعْ "، قال فأنا أشهدكم أنها طالق، فرجع وقد طلق امرأته " (399) . وعن أبي كثير السُّحَيمي قال: حدثني أبو هريرة رضي الله عنه، قال: " والله، ما خلق الله مؤمنًا يسمع إلا أحبني "، قلت: " وما علمك بذلك؟ ! "، قال: (إن أمي كانت مشركة، وكنت أدعوها إلى   (396) " بر الوالدين، للطرشوشي ص (78) . (*) من " المرأة وحقوقها، للشيخ مبشر الطرازي ص (62) . (397) الوالد: أي الشخص الوالد، فيشمل الأم والأب. (398) أوسط أبواب الجنة: أي خير أبواب الجنة، والمقصود أن طاعته تؤدي إلى دخول الجنة من أوسط أبوابها. (399) الترمذي (1901) في البر والصلة، وقال: " هذا حديث صحيح، وصححه ابن حبان (2023) ، وانظر " شرح السنة) للبغوي (13/10-11) ، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية فيمن تأمره أمه بطلاق امرأته: " لا يحل له أن يطلقها، بل = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 الإسلام، وكانت تأبى عَلَي، فدعوتها يومًا، فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أبكى، فأخبرتُهُ، وسألتهُ أن يدعو لها، فقال: " اللهم اهْدِ أمً أبي هريرة "، فخرجْت أعدو أبشرها، فأتيت، فإذا الباب مُجَاف، وسمعتُ خضخضةَ الماء، وسَمِعَتْ حِسِّي، فقالت: "كما أنت"، ثم فتحتْ، وقد لبِست درعها، وعَجِلت عن خمارها، فقالت: " أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله "، قال: فرجعت إلى رسول الله، أبكي من الفرح كما بكيت من الحزن؛ فأخبرته، وقلت: " ادعُ الله أن يحببني وأمي إلى عباده المؤمنين "، فقال: " اللهم، حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحببهم إليهما " (400) . وها هو رضي الله عنه يحكى أنه كان يشتد به الألم من الجوع، فيخرج من بيته إلى المسجد، لا يخرجه إلا الجوع، فيجد نفرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: " يا أبا هريرة ما أخرجك هذه الساعة؟ "، فيقول: " ما أخرجني إلا الجوع) ، يقول أبو هريرة: (فقمنا، فدخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: " ما جاء بكم هذه الساعة؟ "، فقلنا: " يا رسول الله جاء بنا الجوع"، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بطبق فيه تمر، فأعطى كل رجل منا تمرتين، فقال: " كلوا هاتين التمرتين، واشربوا عليهما الماء، فإنهما ستجزيانكم يومكم هذا "، قال أبو هريرة: فأكلت تمرة، وخبأت الأخرى؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا هريرة لم رفعت هذه التمرة؟ "، فقلت: " رفعتها لأمي "، فقال: " كُلْها، فإنا سنعطيك لها تمرتين، فأكلتها، فأعطاني لها تمرتين ") (401) .   عليه أن يبرها، وليس تطليق امرأته من برها) اهـ. نقله عنه السفاريني في " غذاء الألباب " (2/331) ، وانظر أيضا: " الآداب الشرعية، لابن مفلح (1/503) . (400) أخرجه الإمام أحمد (2/219، 220) ، مسلم (2491) في فضائل الصحابة، وحسنه الحافظ الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (2/593) . (401) " سير أعلام النبلاء" (2/592 - 593) ، "طبقات ابن سعد " (4/328 - 329) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 وعن أبي مُرَّة: (أن أبا هريرة كان يستخلفه مروان، وكان يكون بذي الحُلَيْفَة، فكانت أمه في بيت، وهو في آخر، قال: فإذا أراد أن يخرج وقف على بابها، فقال: " السلام عليكِ - يا أمتاه - ورحمة الله وبركاته "، فتقول: " وعليك يا بني ورحمة الله وبركاته "، فيقول: " رحمكِ الله كما ربَّيْتِني صغيرا "، فتقول: " رحمك الله كما بررتني كبيرًا "، ثم إذا أراد أن يدخل صنع مثله) (402) ، (ولازم أبو هريرة أمه، ولم يحج حتى ماتت لصحبتها) (403) . وهل أتاك نبأ أويس بن عامر القرني؟ ذاك رجل أنبأ النبي صلى الله عليه وسلم بظهوره، وكشف عن سناء منزلته عند الله ورسوله، وأخذ البررة الأخيار من آله وصحابته بالتماس دعوته وابتغاء القربى إلى الله بها، وما كانت آيته إلا بره بأمه، وذلك الحديث الذي أخرجه مسلم عنه: (كان عمر رضى الله عنه إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: " أفيكم أويس بن عامر؟ "، حتى أتى عَلَى أويس بن عامر، فقال: " أنت أويس بن عامر؟ " قال: " نعم "، قال: (مِن مراد؟ " قال: " نعم "، قال: " كان بك بَرَصٌ فبرأتَ منه إلا موضع درهم؟ " قال: " نعم "، قال: " لك والدة؟ " قال: " نعم "، قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد ثم من قَرَن، كان به أثر برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بار بها، لو أقسمِ على الله لأبَرَّه، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل "، فاستغفِرْ لي، فاستغَفر له،   (402) رواه البخاري في الأدب المفرد، رقم (12) ، وروى بعضه الإمام أحمد في (المسند" (4/409، 429، 430، 527) . (403) رواه ابن عساكر في " تاريخه " (47/516 - 517) ، كذا عزاه د. محمد عجاج الخطيب في " أبو هريرة راوية الإسلام " ص (120) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 فقال له عمر: " أين تريد؟ قال: " الكوفة"، قال: " ألا اكتب لك إلى عاملها؟ "، قال: " أكون في غبراء الناس أحب إلي ") (404) . وعن أصبغ بن زيد، قال: " إنما منع أويسًا أن يَقْدَم على النبي صلى الله عليه وسلم بِره بأمه " (*) . (وعن أبي عبد الرحمن الحنفي قال: رأى كَهْمَس بن الحسن عقربا في البيت، فأراد أن يقتلها، أو يأخذها، فسبقته إلى جُحْرها، فأدخل يده في الجحر يأخذها، وجعلت تضربه، فقيل له: " ما أردت إلى هذا؟، لِمَ أدخلتَ يدك في جحرها تخرجها؟ " قال: " إني أحمد؟ خفت أن تخرج من الجحر فتجيء إلى أمي فتلدغها "، وكان يمينه الذي يحلف به: إني أحمد، وأحمد) (405) اهـ. وعن الحسن بن نوح قال: (كان كَهمَس يعمل في الجص كل يوم بدانقين، فإذا أمسى اشترى به فاكهة فأتى بها إلى أمه) (406) اهـ. (وكان كهمس الدَّعَّاءُ يكسح البيت، ويخدم أمه، فأرسل إليه سليمان بن علي الهاشمي بصُرة، وقال: (اشتر بها خادمًا لأمك "، لأنه كان مشغولًا بخدمتها، وكان أبر شيء بأمه، وأراده على أن يقبلها فأبى، فألقاها في البيت، ومضى، فأخذها كَهمَس، وخرج يتبعه حتى دفعها إليه) (407) اهـ. وكان عمرو بن عبيد يأتي كهمسًا يسلم عليه، ويجلس عنده هو   (404) رواه مسلم في " صحيحه " - انظر: شرح النووي" (5/223) . (*) " سير أعلام النبلاء" (6/211) . (405) " حلية الأولياء " (6/211) . (406) ، (407) " السابق " (6/212) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 وأصحابه، فقالت له أمه: " إني أرى هذا وأصحابه، وأكرههم، وما يعجبوني، فلا تجالسهم "، قال: " فجاء إليه عمرو وأصحابه، فأشرف عليهم، فقال: "إن أمي قد كرهتك وأصحابك، فلا تأتوني " (408) اهـ. وقيل: " إن محمد بن سيرين كان يكلم أمه كما يُكَلَّمُ الأمير الذي لا يُنْتَصَف منه " (*) . وعن بعض آل سيرين قال: " ما رأيت محمد بن سيرين يكلم أمه قط إلا وهو يتضرع "، وعن ابن عون قال: (دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه، فقال: " ما شأن محمد أيشتكي شيئا؟ " قالوا: " لا، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه ") (409) . وهذا أبو الحسن علي بن الحسين بن علي بن أبى طالب رضي الله عنهما وهو المسمى زين العابدين كان من سادات التابعين، وكان كثير البر بأمه، حتى قيل له: " إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة "، فقال: " أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عَيْنها، فأكون قد عققتها " (410) اهـ. وهذا عبد الله بن عون (نادته أمه فأجابها، فعلا صوته صوتها، فأعتق رقبتين) (411) . (وكان طلق بن حبيب من العباد والعلماء، وكان يُقَبلُ رأسَ أمه،   (408) "السابق" (6/212) . (*) "المرأة وحقوقها" للشيخ مبشر الطرازي ص (62) . (409) " السابق " (2/273) . (410) " عيون االأخبار " (3/97) . (411) " حلية الأولياء " (3/39) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 وكان لا يمشى فوق ظهر بيت هي تحته - إجلالا لها -) (412) . (وحُكي عن ابن القاسم: أنه كان يًقرأ عليه " الموطأ "- إذ قام قياما طويلًا ثم جلس، فقيل له في ذلك، فقال: " نَزَلَت أمي فسألتني حاجة فقامت، فقمتُ لقيامها، فلما صَعِدَتْ جَلَسْتُ ") (413) . (وكان حَيْوَةُ بنُ شُرَيح - وهو أحد أئمة المسلمين - يقعد في حلقته يعلم الناس، فتقول له أمه: " قم يا حيوةُ، فألقِ الشعير للدَجاج "، فيقوم ويترك التعليم) (414) . وعن هشام بن حسان قال: (كان الهُذَيلُ بن حفصة يجمع الحطب في الصيف، فَيَقْشرُه، يأخذ القصب، فيفلِقه، قالت حفصة: وكنت أجد قِرةً (*) ، فكان إذا جاء الشتاء جاء بالكانون فيضعه خلفي، وأنا في مُصَلَّاي، ثم يقعد فيوقَد بذلك الحطب المقشر، وذاك القصب المفلق وَقودًا لا يؤذي دخانه ويدفئني، نمكث بذلك ما شاء الله، قالت: وعنده من يكفيه لو أراد ذلك. قالت: وربما أردت أنصرف إليه، فأقول: يا بني ارجع إلى أهلك، ثم أذكر ما يريد فأدعه (415) . قال هشام: وكانت له لِقْحة - أي ناقة حلوب غزيرة اللبن - قالت حفصة: كان يبعث إلى بحَلْبَةٍ بالغداة، فأقول: " يا بنى إنك لتعلم أني لا أشربه، أنا صائمة "، فيقول: " يا أم الهذيل إن أطيب اللبن ما بات   (412) ، (413) " بر الوالدين" للطرطوشي ص (78) . (414) "السابق" (79) . (*) القِرةُ: بكسر القاف، ما أصابك من القُر - بالضم - أي البرد. (415) "صفة الصفوة" (4/25) ، وفيه إعانة الوالد ولده على بره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 في ضروع الإبل، اسقِيه من شئتِ ") (416) . (قال محمد بن سعد: كانت لمسعر بن كدام أم عابدة، فكان يحمل لها لِبدا، ويمشى معها حتى يدخلها المسجد، فيبسط لها اللبد، فتقوم، فتصلي، ويتقدم هو إلى مقدم المسجد، فيصلى، ثم يقعد، ويجتمع إليه من يريد، فيحدثهم، ثم ينصرف إليها، فيحمل لبدها، وينصرف معها) (417) . (ولى ممات ذَر - وكان من الأولياء - قال أبوه عمر بن ذَر: " اللهم إني قد غفرت له ما قصر فيه من واجب حقي، فاغفر له ما قصر فيه من واجب حقك "، فقيل له: " كيف كانت عشرته معك؟ "، قال: " ما مشى معى قط في ليل إلا كان أمامي، ولا مشى معي في نهار إلا كان ورائي، ولا ارتقى قط سقفا كنت تحته ") (418) . وقال عامر بن عبد الله بن الزبير: " مات أبي، فما سألت الله - حَوْلا - إلا العفوَ عنه " (499) . وكان عروة بن الزبير يقول في صلاته - وهو ساجد -: " اللهم اغفر للزبير بن العوام، وأسماء بنت أبي بكر " يعنى والديه رضي الله عنهما (420) . وكان أبو يوسف الفقيه يقول عقيب صلاته: " اللهم اغفر لأبَوَيَّ، ولأبي حنيفة " (421) .   (416) " السابق" (4/25 - 26) . (417) " السابق " (3/188-189) . (418) " بر الوالدين " للطرطوشى ص (76) ، وانظر سير أعلام النبلاء" (6/388) . (419) " عيون الأخبار" (3/98) . (420) " بر الوالدين للطرطوشي ص (77) . (421) السابق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 (وكان الإمام أبو حنيفة رحمه الله بَرا بوالديه، وكان يدعو لهما، ويستغفر لهما مع شيخه حماد، وكان يتصدق كل شهر بعشرين دينارًا عن والديه (أ) . و (قال أبو يوسف: كان أبو حنيفة يحمل والدته على حماره إلى مجلس عمر بن ذرّ كراهيةَ أن يرد قولها، وقال أبو حنيفة: ربما ذهبتُ بها إلى مجلسه، وربما أمرتني أن أذهب إليه، وأسأله عن مسألة، فآتيه، وأذكرها له، وأقول له: (إن أمي أمرتني أن أسألك عنها "، فيقول: " وأنت تسألني عن هذا؟ "، فأقول: " هي أمرتني"، فيقول: " قل لي: كيف هو - يعني الجواب - حتى أخبرك؟ "، فأخبره بالجواب، ثم يخبرني به، فآتيها، وأخبرها عنه بما قال، ونظير ذلك أنها استفتت عن شيء، فأفتيتها، فلم تقبله، وقالت: " لا أقبل إلا بقول زُرعة القاص "، - أي الواعظ - فجاء بها إليه، وقال له: " إن أمي تستفتيك في كذا "، فقال: " أنت أعلم وأفقه، فَأفتِها " قال: " أفتيتها بكذا "، فقال زرعة: " القول ما قال أبو حنيفة " فرضيت، وانصرفت (ب) . وعن يحيى بن عبد الحميد قال: (كان الإمام يُخْرَجُ كل يوم من السجن، فيضْرَب ليدخل القضاء فيأبى فلما ضُرِب رأسُه، وأثًرَ ذلك في وجهه بكى، فقيل له في ذلك، فقال: " إذا رأته أمي بكت، واغتمت، وما علىٌ شيء أشد من غَم أمي) (ج) اهـ. وقال محمد بن شجاع الثلجي حدثني حبان - رجل من أصحاب أبي حنيفة- قال:   (أ) " أبو حنيفة النعمان " للشيخ: وهبى غاوجي الألباني ص (102) . (ب) " أخلاق العلماء " للشيخ محمد سليمان ص (79) . (ج) " أبو حنيفة النعمان ص (102) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 (قال أبو حنيفة حين ضُرِب لِيَليَ القضاء: " ما أصابني في ضربي شيء أشدُّ عَلَيَّ من غَم والدتي "، وكان بها بارُّا) . وعن يحيى الحماني عن أبيه قال: (كان أبو حنيفة يُضْرَبُ على أن يلى القضاء، فيأبى، ولقد سمعته يبكي، وقال: " أبكي غَما على والدتي "!) (د) .   (د) مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه " للحافظ الذهبي ص (15 - 16) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 [فصل] التحذير من عقوق الوالدين والأم وما أحسن قول بعضهم، إغراءً على البر، وتحذيرًا عن العقوق ووباله، وإعلامَا بما يدحض العاق إلى حضيض سفاله، ويحطه عن كماله: (أيها المضيع لأوكد الحقوق، المعتاض عن البر بالعقوق، الناسي لما يجب عليه، الغافل عما بين يديه، بر الوالدين عليك دَين، وأنت تتعاطاه باتباع الشين، تطلب الجنة بزعمك، وهى تحت أقدام أمك، حملتك في بطنها تسعة أشهر كأنها تسع حجج، وكابدت عند وضعك ما يذيب المهج، وأرضعتك من ثديها لبنًا، وأطارت لأجلك وَسَنًا، وغسلت بيمينها عنك الأذى، وآثرتك على نفسها بالغِذا، وصيَّرت حِجرها لك مهدا، وأنالتك إحسانا ورفدا، فإن أصابك مرض أو شكاية، أظهرت من الأسف فوق النهاية، وأطالت الحزن والنحيب، وبذلت مالها للطبيب، ولو خُيِّرت بين حياتك وموتها، لآثرت حياتك بأعلى صوتها، هذا وكم عاملتها بسوء الخلق مرارًا، فدعت لك بالتوفيق سرا وجهارا، فلما احتاجت عند الكبر إليك، جعلتها من أهون الأشياء عليك، فشبعتَ وهى جائعة، ورويت وهي ضائعة، وقدمت عليها أهلك وأولادك في الإحسان، وقابلت أياديها بالنسيان، وصعب لديك أمرها وهو يسير، وطال عليك عمرها وهو قصير، وهجرتها وما لها سواك نصير، هذا، ومولاك قد نهاك عن التأفيف، وعاتبك في حقها بعتاب لطيف، ستعاقب في دنياك بعقوق البنين، وفي أخراك بالبعد من رب العالمين، يناديك بلسان التوبيخ والتهديد (ذلك بما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد) الحج (10) . لأمك حَقٌّ لو علمتَ كبير ... كثيرُك يا هذا لديه يسير فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي ... لها من جواها أنَّةٌ وزفير وفي الوضع لو تدري عليها مشقة ... فمن غُصَص منها الفؤاد يطير وكم غَسَلَتْ عنك الأذى بيمينها ... وما حَجْرها إلا لديك سرير وتفديك مما تشتكيه بنفسِها ... ومن ثديها شُرب لديك نمير (422) وكم مرة جاعت وأعطتك قُوتَها ... حُنُوًّا وإشفاقًا وأنت صغير فآهًا لذي عقل ويتبع الهوى ... وآها لأعمى القلب وهو بصير فدونَكَ فارغب في عميم دعائها ... فأنت لما تدعو إليه فقير (423)   (422) النمير لغة: الزاكي من الماء. (423) "الزواجر عن اقتراف الكبائر " (2/71-72) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 [فصل] وفاؤها لأولادها رغم أن الإسلام لم يحمد من المرأة كرهَها للزواج بعد زوجها (*) ، لقد شكر ذلك لها، وأجزل عليه مثوبتها، إن اعتزمته، وأقدمت عليه، وفاءً لأبنائها، ورعيا لهم، وضَنَا بهم أن يضيعوا عند غير أبيهم: من سهل بن سعد مرفوعًا: " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا: وأشار بالسبابة والوسطى، وفَرَّج بينهما شيئًا " (424) . ويُروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا أول من يفتح باب الجنة، إلا أني أرى امرأة تبادرني، فأقول لها: " مالك؟ ومن أنت؟ "، فتقول: " أنا أمرأة قعدتُ على أيتام لي) (425) . ويروى عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: قال   (*) انظر: " سير أعلام النبلاء " (2/203) ، " سلسلة الأحاديث الصحيحة " رقم (1281) ، رقم (608) . (424) رواه مسلم رقم (2983) في الزهد والرقائق: باب الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم، و " الموطأ " (2/948) في الشعر: باب السنة في الشعر. (425) ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (8/162) وقال: (رواه أبو يعلى، وفيه عبد السلام بن عجلان، وثقه أبو حاتم، وابن حبان، وقال: " يخطئ، ويخالف " وبقية رجاله ثقات) اهـ، وقال أبو الفضل عبد الله بن الصديق الغماري: (رواه أبو يعلى في مسنده بإسناد حسن، ومعنى " قعدت على أيتام أي مات زوجها، وترك لها أيتاما، فلم تتزوج، وقعدت على أيتامها تربيهم) اهـ من " تمام المنة ببيان الخصال الموجبة للجنة " ص (178) - الحديث العشرون والمائة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة - وأومأ يزيد بن زريع الراوي بالوسطى والسبابة -، امرأة آمت من زوجها ذات منصب وجمال حبست نفسها على يتاماها حتى بانوا أو ماتوا (426) . وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (دخلت علي امرأة ومعها ابنتان لها تسأل فلم تجد عندي شيئا غير تمرة واحدة فأعطيتها أياها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها ثم قامت فخرجت فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار ") (427) وفي رواية لمسلم: (جائتني مسكينة تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل واحدة منهما تمرة ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما فأعجبني شأنها فذكرت الذي صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم فقال إن الله عز وجل قد أوجب لها بها الجنة وأعتقها بها من النار) . وهذه أم هانئ فاختة بنت أبي طالب رضي الله عنها أخت أمير المؤمنين   (426) أخرجه الإمام أحمد (6/29) وأبو داود رقم (5149) في الأدب: باب فضل من عال يتيما وفي سنده النهاس بن قهم بن الخطاب البصري القاضي قال الحافظ في التقريب: ضعيف والسفعة نوع من السواد ليس بكثير وأراد أنها بذلت نفسها ليتاماها وتركت الزينة والترفه حتى شحب لونها واسود وآمت - بالمد - أقامت بلا زوج ومعنى بانوا انفصلوا واستغنوا وانظر: عون المعبود (14/58) . (427) رواه البخاري (4/26) في الزكاة: باب اتقوا النار ولو بشق تمرة وفي الأدب باب رحمة الولد وتقبيله ومسلم رقم (2629) في البر والصلة باب فضل الإحسان إلى البنات والترمذي رقم (1916) في البر والصلة: باب ما جاء في النفقة على البنات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 علي رضي الله عنه، وبنت عم رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وراوية حديث الإسراء، فَرق الإسلام بينها وبين زوجها (هبيرة) (428) ، وكانت قد انكشفت منه عن أربعة بنين، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت أم هانئ: " يا رسول الله، لأن أحب إليَّ من سمعي ومن بصري، وحق الزوج عظيم، فأخشى إن أقبلت على زوجي - تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن أضيعَ بعض شأني وولدي، وإن أقبلت على ولدي أن أضَيِّعَ حق زوجي "، وهنا امتدحها النبي صلى الله عليه وسلم، وشكر لها ذلك، فقال: " إن خير نساءٍ ركبن الإبل نساءُ قريش، أحْناه على ولدٍ في صِغَرِه، وأرْعاهُ على بَعلٍ - أي زوج - في ذات يده " (429) . وانصرفت أم هانئ إلى الاهتمام بأمور أبنائها وتربيتهم تربية صالحة، فنشأوا عالمين عاملين، وروى بعضهم عنها ما حدثت به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث أمثال ابن ابنها جَعْدة المخزومي، وابن ابنها يحيى بن جعفر، وابن ابنها هارون، وعاشت حتى خلافة أخيها علي رضي الله عنه. وكان ذلك بعض عذر أم سلمة حين خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلت تقول له: " إني مُصبْية " (430) ، فأرسل إليها: " أما ما ذكرتِ من أيتامك   (428) انظر: " سير أعلام النبلاء " (2/312 - 313) . (429) رواه البخاري (9/107) في النكاح: باب إلى من ينكح؟ وأي النساء خير؟ وفي النفقات: باب حفظ المرأة زوجها في ذات يده، والنفقة، ومسلم (2527) في فضائل الصحابة: باب خيار الناس، والإمام أحمد (2/269) ، 275، 393، 449، 502) ، وفي رواية " المستدرك " (4/53) : (لكني امرأة مُصبِية، فأكره أن يؤذوك) . (وقوله: " أحناه على ولد ": أشفقه، والحانية التي تقوم بولدها بعد موت الأب، وحنت المرأة على ولدها: لم تتزوج بعد موت الأب، قال ابن التين: فإن تزوجت فليست بحانية، قال الحسن في الحانية: التي لها ولد، ولا تتزوج) اهـ. من " فتح الباري " (6/473) . (430) أي ذات صبية، والصبي من لم يفطم بعد، وقد كان لها ثلاثة أولاد: سلمة أكبرهم، وعمر وزينب أصغرهم، وربوا في حجر النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 فعلى الله وعلى رسوله "، فقالت عند ذلك: مرحبًا برسول الله صلى الله عليه وسلم " (431) وتلك أم سُليم الغُمَيْصاء رضي الله عنها إحدى السابقات إلى الإسلام، أسلمت ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وبايعته حين مقدمه إلى المدينة، وكان إسلامها مراغمة لزوجها مالك بن النضر، وكان ولدها أنس بن مالك يومئذ طفلًا رضيعًا، فكانت تقول له: قل: " لا إله إلا الله "، قل: " أشهد أن محمدَا رسول الله " فجعل ينطق بذلك أولَ ما ينطق، فكان مما يثير الغضب في نفس مالك، فيقول لها: " لا تفسدي علي ولدى " فتقول: " إني لا أفسده "! ، ثم أيأسه أمرها فخرج عنها إلى الشام، وهنالك لقي عدوا له، فقتله، فلما بلغها قتله - وكانت شابة حَدَثَة، وكثر خُطَابُها - قالت: " لا جَرَمَ، لا أفطم أنسًا حتى يدع الثدي، ولا أتزوج حتى يجلس في المجالس ويأمرني " فوفت بعهدها وَبَرَّتْ، وكان أنس رضي الله عنه يعرف لها تلك المنة، ويقول: " جزى الله أمي عني خيرًا، لقد أحسنت ولايتي ". حتى إذا شب أنس تقدم لخِطتها أبو طلحة زيد - وكان مشركًا - فأبت، ثم قالت له يومًا فيما تقول: " أرأيت حجرًا تعبده لا يضرك ولا ينفعك، أو خشبة تأتي بها النجار، فينجرها لك: هل يضرك؟ هل ينفعك؟ "، وأكثرت من أشباه ذلك الكلام، فوقع في قلبه الذي قالت، فأتاها فقال: " لقد وقع في قلبي الذي قلتِ "، وآمن بين يديها، قالت: " فإني أتزوجك، ولا أريد منكَ صَداقًا غير الإسلام " (432) ، قال ثابت:   (431) انظر روايات الحديث في " الطبقات " لابن سعد (8/90) ، و " المسند " للإمام أحمد (6/313، 314، 317) ، وسنن النسائي (6/81، 82) في النكاح: باب إنكاح الابن لأمه، وقال الحافظ في " الإصابة " (13/223) : (إسناده صحيح) اهـ. وصححه ابن حبان (1282) ، والحاكم (4/17) ، ووافقه الذهبي. (432) أخرجه ابن سعد في " الطبقات " (8/426) ، والنسائي (6/114) في النكاح: = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 (فما سمعت بامرأة قط كانت أكرم مهرًا من أم سليم الإسلام) (433) اهـ. وقالت امرأة من نساء اليمامة تدعى (أم أثال) - وكانت كأحسن النساء وجها-، فلما مات زوجها، تدافع الخُطَابُ على بابها، فردَّت كل خاطب، وفاءً لابنها أثال: لعمر أثال لا أفدي بعيشه ... وإن كان في بعض المعاش جفاءُ إذا استجمعت أم الفتى غَص طَرفَه ... وشاعَرَهُ دون الدِّثار بلاءُ (434) ذلك بعض حديث المرأة المسلمة في الوفاء لخير ما وُكلَتْ به، وخُلِقَتْ له، بعد العبودية لرب العالمين. الأمومة والتضحية: تنتقل المرأة بعد ذلك إلى طور آخر تبلغه، فتبلغ به غاية ما أعدَّت له من كمال النفس، وشرف العاطفة، ذلك طور التضحية، فهناك تنزل المرأة عن حقها من الوجود لمن فُصِل عن لحمها ودمها، تسهر لينام، وتظمأ لِيروى، وتحتمل الألم المُمِضَّ- راضية مغتبطة - لتذيقه طعم الدعة، وتُنْشِيَهُ نسيم النعيم. تلك هي التضحية بالنفس بلغت بها الأمومة غايتها: * والجودُ بالنفسِ أقصى غايةِ الجودِ " وهاك هذه القصة الشعرية الرمزية، والتي يُظهر فيها الشاعر حقيقة قلب الأم، وما يكنه من مشاعر وعواطف، ورأفة وحنان:   = باب التزوج على الإسلام، ورجاله ثقات خلا خالد بن مخلد، وهو القَطَواني، قال الحافظ في " التقريب " (1/218) : (صدوق يتشيع، وله أفراد) اهـ. (433) رواه النسائي (6/114) ، وانظر: " المحلى" (9/499 - 500) . (434) " بلاغات النساء " ص (132 - 133) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 أغرى امرؤ يوما غلاما جاهلا ... بنقوده كيما ينال به الوطر قال ائتني بفؤاد أمك يا فتى ... ولك الجواهر والدراهم والدرر فمضى وَأغرزَ خِنجرًا في صدرها ... والقلبَ أخرجهُ وعاد على الأثر لكنه من فرطِ سرعتهِ هوى ... فتدحرجَ القلبُ المقطعُ إذ عَثَر ناداه قلبُ الأم وَهْوَ مُعَفرٌ ... ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر؟ *** فكأنَّ هذا الصوتَ رغم حُنُوهِ ... غضبُ السماءِ على الغلامِ قد انهمر فدرى فظيع جناية لم يَجْنِها ... ولد سِواه منذ تاريخِ البشر فارْتَد نحو القلب يغسِلُه بما ... فاضت به عيناهُ من سيلِ العِبَر ويقولُ يا قلبُ انتقم مني ولا ... تغفرْ فإنَّ جريمتي لا تُغتَفَر واسْتَل خِنجرَهُ ليطعنَ قلبَهُ ... طعنًا فيبقى عِبْرة لمن اعتبر ناداه قلب الأم كُفَّ يدًا، ولا ... تطعنْ فؤادي مرتين على الأثر (435)   (435) نقلًا من " خطر التبرج والاختلاط " لعبد الباقي رمضون " ص (134 - 135) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 [فصل] من مواقف الأم المسلمة [في قرن وبعض قرن وثب المسلمون وثبة ملأوا بها الأرض قوة وبأسا وحكمة وعلما فراضوا الأمم وهاضوا الممالك وركزوا ألويتهم في قلب آسيا وهامات إفريقية وأطراف أوروبة وتركوا دينهم وشرعهم ولغتهم وعلمهم وأدبهم تدين لها القلوب وتنقلب بها الألسنة بعد أن كانوا فرائق بددا لا نظام ولا قوام ولا علم ولا شريعة. ففي أي المدارس درجوا ومن أي المعاهد خرجوا؟ لقد قطع المسلمون تلك المرحلة التي سهم لها الدهر ووجم لروعتها التاريخ ولم يقيموا معهدا أو ينشئوا جامعة ... استغفر الله! بل لقد كانت خصاصهم وخيامهم ودورهم وقصورهم معاهد ومدارس وما شئت من مغارس حكمة ومغاوص آداب ولي أمرها أمهات صدق أقامهن الله على نشئه واستخلفهن على صنائعه وَائْتَمَنَهُنَّ على دعاة حقه ورعاة خلقه فكن أقوم خلفائه بواجبه وأثبتهن على عهده وأنهضهن بالفادح الشديد من أمره لقد كان الله سبحانه وتعالى أبر بهؤلاء القوم من أن يخرجهم مخرجا سيئا أو ينبتهم منبتا فاسدا أو يضمهم إلى صدور واهية وقلوب سقيمة ثم يسومهم أشرف مطالب الحياة ويوردهم أسمى مقاصدها.. لأن الأم من الأمة بمثابة القلب من الجسد فهي غذاء أرواحهم ومران أعوادهم ومفيض مداركهم ومبعث عواطفهم فإن وهنت كان كل أولائك ضعيفا لقد كانت نهضة المسلمين غريبة فريدة لأن المرأة كذلك كانت غريبة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 فريدة.. وإذا كانت المرأة الحديثة قد أنصتت لـ " لنكولن " زعيم الجمهورية الأمريكية، وهو يقول لمهنئيه بمنصب من مناصب الدنيا: " لا تهنئوني، وهنئوا أمي فهي التي رفعتني إلى مقامي هذا "، فإن المرأة المسلمة كانت تستمع لأشباه هذا الكلام من أشباه " لنكولن "، فلا ينثني جيدها، ولا يهتز عِطفها لطول ما سمعته وألفته] (436) . ودونك هذه المواقف للأم المسلمة لترى مصداق هذا الحديث: بطل قريش يرتجف أمام أمه: (لما كانت موقعة أحد أغرت هند بنت عتبة بحمزة بن عبد المطلب من خالسه فصرعه - وكان قد قتل آلها يوم بدر - ثم نفذت إليه فبقرت بطنه، ونزعت كبده، وجدعت أنفه، وصلمت أذنيه، وجاء بعدها أبو سفيان، فأخذ يطعنه بالرمح في فمه حتى مزقه ... انقضت الموقعة، وجثمان حمزة تكاد تَحيل معالمه لفرط ما مُثلَ به، فلما وقف به رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتد حزنه لما أصاب عمه البطل الكريم، ووقف بنجوة منه، ثم أبصر فوجد عمته صفية بنت عبد المطلب مقبلة لتنظر ما فعل القوم بأخيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام: " دونَك أمَّك فامنعْها "، وأكبر همه ألا يَجِدَّ بها الجزع لما ترى، فلما وقف ابنها يعترضها قالت: " دونك، لا أرض لك، لا أمَ لك! " وهنالك رجفت أحناء بطل قريش، وزلزلت قدماه، واعتقل لسانه، وكَر راجعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه حديث أمه، فقال: " خَل سبيلها ". كذلك انفرجت صفوف الناس لعمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسارت حَتى أتت أخاها فنظرت إليه، فصلت عليه، واسترجعت، واستغفرت له، وقالت لابنها: " قل لرسول الله: ما أرضانا بما كان في سبيل الله!   (436) انظر: " المرأة المسلمة " لعبد الله عفيفي (2/125 - 126) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 لأحتسبنَ، ولأصبرن إن شاء الله ") (437) . فانظر إلى موقف البطل المسلم حيال أمه، وقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقف دونها فيعترضها! ولو سامه النبي صلى الله عليه وسلم لا أن يعترض الجيش اللهام لوقف في سبيله غير هائب ولا مدفوع.. وماله لا يعنو وجهه، ولا ترتجف أضالعه لعظمة الأمومة وعظمة الخُلُق؟! (لبث عبد الله بن الزبير (438) على إمرة المؤمنين، ودانت له العراق والحجاز واليمن ثماني سنين، ثم أخذ عبد الملك بن مروان يقارعه، فانتقص منه العراق، ورماه بعد ذلك بالحجاج بن يوسف، فأخذ يطوي بلاده عنه حتى أتى إلى مكة فطوقها، ونصب المجانيق على الكعبة، وأهوى بالحجارة عليها، وفي الكعبة يومئذ أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما. وكان عبد الله يقَاتل جند الحجاج مسندا ظهره إلى الكعبة، فيعيث فيهم، ويروعُ أبطالهم، وليس حوله إلا القوم الأقلون عددًا، والحجاج بين ذلك كله يرسل إليه يمنيه الخير، ويعده بالإمارة في ظل بني أميَّة لو أغمد سيفه، وبسط للبيعة يده. دخل عبد الله على أثر ذلك على أمه، فقال: " يا أُمَّه! خذلني الناس حتى أهلي وولدي، ولم يبق معي إلا اليسير، ومن لا دفع له أكثر من صبر ساعة من النهار، وقد أعطاني القوم ما أردت من الدنيا فما رأيك؟ "، فقالت: " الله الله يا بني! إن كنت تعلم أنك على حق تدعو إليه، فامض عليه، ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية فيلعبوا بك، وإن كنت أردت   (437) السابق (2/129 - 130) ، وانظر " الروض الأنف " للسهيلي (3/172) . (438) ابن الزبير رضي الله عنهما أبوه حواري رسول الله، وأمه بنت الصديق، وخالته عائشة حبيبة حبيب الله، وجدته صفية عمة رسول الله، وعمة أبيه خديجة بنت خويلد رضي الله عنهن، انظر " البداية والنهاية " (8/334) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن معك، وإن قلت إني كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت نيتي، فليس هذا فعل الأحرار ولا مَن فيه خير، كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن ما يقع بك يا ابن الزبير، والله لضربة بالسيف في عِز أحب إلي من ضربة بالسوط في ذل "، فقال: " يا أماه، أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني "، قالت: " يا بني إن الشاة لا يضرها السلخ بعد الذبح، فامض على بصيرتك، واستعن بالله "، فقبل رأسها، وقال لها: " هذا والله رأيي، والذي قمت به داعيا إلى الله، والله ما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله عز وجل أن تُهتَك محارمه، ولكني أحببت أن أطلع على رأيك فيزيدني قوة وبصيرة مع قوتي وبصيرتي، والله ما تعمدت إتيان منكر، ولا عملًا بفاحشة، ولم أجُر في حكم، ولم أغدِر في أمان، ولم يبلغني عن عمالي حيف فرضيت به، بل أنكرت ذلك، ولم يكن شيء عندي آثر من رضاء ربي، اللهم إني لا أقول ذلك تزكية لنفسي، ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلوَ عَني "، فقالت: " والله إني لأرجو أن يكون عزائي فيك جميلا، إن تقدمتني احتسبتك، وإن ظفرت سررت بظفرك، اخرج حتى أنظر إلام يصير أمرك "، ثم قالت: " اللهم ارحم طول ذلك القيام بالليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر مكة والمدينة، وبره بأمه، اللهم إني قد سلمت فيه لأمرك، ورضيت فيه بقضائك، فأثبني في عبد الله ثواب الشاكرين "، قال: " يا أُمَّه لا تدَعي الدعاء لي قبل قتلي ولا بعده "، فقالت: " لن أدعه، فمن قتِلَ على باطل، فقد قُتِلْتَ على حق "، فتناول يدها ليقبلها، فقالت: " هذا وداع فلا تبعد "، فقال لها: " جئت مودعًا لأني أرى هذا آخر أيامي من الدنيا "، قالت: " امض على بصيرتك، وادن مني حتى أودعك "، فدنا منها فعانقته، وقبلته، فوقعت يدها على الدرع، فقالت: " ما هذا صنيع من يريد ما تريد "! فقال: " ما لبستها إلا لأشد متنكِ "، قالت: " إنها لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 تشد متني "، فنزعها، ثم درج لِمته، وشد قميصه وجبته، وخرج وهو يقول: أبي لابن سلمى أن يُعير خالدا ... ملاقي المنايا أي صرف تيمما فلست بمبتاع الحياة بسُبَّةٍ ... ولا مرتقٍ من خشية الموت سُلَّما وقال لأصحابه: " احملوا على بركة الله، وليشغل كل منكم رجلًا، ولا يلهينَّكم السؤال عني، فإني على الرعيل الأول "، ثم حمل عليهم حتى بلغ بهم الحجون، وهنالك رماه رجل من أهل الشام بحجر فأصاب وجهه، فأخذته منه رعدة، فدخل شعبًا من شعاب مكة يستدمي، فبصُرت به مولاة له، فقالت: " وا أمير المؤمنينا! "، فتكاثر عليه أعداؤه عند ذلك فقتلوه، وصلبه الحجاج، فأقام جثمانه على الجذع، حتى إذا أمر عبد الملك بإنزاله، أخذته أمه فغسلته بعد أن ذهبوا برأسه، وذهب البلى بأوصاله، ثم كفنته، وصلت عليه، ودفنته) (439) . وروى ابن حزم بسنده عن صفية بنت شيبة قالت: (دخل ابن عمر المسجد فأبصر ابن الزبير مطروحا قبل أن يصلب، فقيل له: " هذه أسماء "، فمال إليها وعزاها، وقال: " إن هذه الجثث ليست بشيء، وإن الأرواح عند الله عز وجل "، فقالت له أسماء: " وما يمنعني، وقد أهدى رأس يحيى إِلى بغي من بغايا بني إسرائيل ") (440) . قال عروة: (دخلت أنا وأخي قبل أن يُقتل، على أمنا بعشر ليال، وهى وَجِعَة، فقال عبد الله: " كيف تجدينك؟ "، قالت: " وَجِعة "،   (439) السابق (2/130- 132) بتصرف، وانظر " البداية والنهاية، (8/329 - 345) . (440) المحلى (2/22) ، وانظر: " سير أعلام النبلاء " (2/294 - 295) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 قال: " إن في الموت لعافية!، قالت: " لعلك تشتهي موتي؛ فلا تفعل "، وضَحِكَتْ، وقالت: " والله، ما أشتهي أن أموت، حتى تأتي على أحد طرفَيْك: إما أن تُقْتَلَ فأحتسبك، وإما أن تظفر فتقر عيني، إياك أن تُعرض على خُطة فلا توافق، فتقبلها كراهية الموت ") ، قال: " وإنما عَنى أخي أن يُقتل، فيَحزنها ذلك " (أ) . وعن ابن عيينة: حدثنا أبو المُحيَّاة، عن أمه، قال: لما قَتل الحجاج ابن الزبير، دخل على أسماء، وقال لها: " يا أمه، إن أمير المؤمنين وصاني بك، فهل لكِ من حاجة؟ "، قالت: " لست لك بأم، ولكني أم المصلوب على رأس الثَّنية، وما لي من حاجة؛ ولكن أحدثك: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يخرج في ثقيف كذاب، ومُبير "، فأما الكذاب، فقد رأيناه - تعنى المختار - وأما المُبِيرُ، فأنت "، فقال لها: " مبير المنافقين " (ب) . وعن يَعْلي التيمي قال: (دخلتُ مكة بعد قتل ابن الزبير بثلاث - وهو مصلوب- فجاءت أمُّهُ عجوز طويلة عمياء، فقالت للحجاج: " أما آن للراكب اًن ينزل؟ "، فقال: " المنافق؟ "، قالت: " والله ما كان منافقَا، كان صَواما قَوامًا بَرُّا "، قال: " انصرفي يا عجوز، فقد خَرِفْتِ "، قالت: لا والله ما خرفت منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: في ثقيف كذاب، ومبير ... " الحديث (ج) . هكذا كان أول ما لُقنَت المرأة من أدب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، الاعتصام بالصبر، إذا دجا الخطب، وجل المصاب.   (أ) " سير أعلام النبلاء " (2/293) . (ب) " السابق " (2/294) . (ج) " السابق ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 أوَ لَم تر إلى الخنساء، وما ذهب به الدهر من حديث جزعها، وتصدع قلبها، واضطرام حشاها على أخيها، لقد استحال كل ذلك إلى صبر أساغه الإيمان، وجمله التقى، فلم تأس على فائت من متاع الحياة الدنيا. أولئك أبناؤها، وهم أشطار كبدها، ونياط قلبها، خرجوا إلى القادسية وكانوا أربعة، فكان مما أوصتهم به قولها: " يا بَني إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتمَ مختارين، والله الذي لا إله إلا هو، إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما هجنْتُ حَسبَكم، وما غيرت نسبكم، واعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية. اصبروا، وصابروا، ورابطوا، واتقوا الله لعلكم تفلحون، فإذا رأيتمَ الحرب قد شمرت عن ساقها، وجللت نارًا على أرواقها، فَيَمِّمُوا وَطِيسها (د) ، وجالدوا رَسيسها (هـ) ، تظفروا بالغنم والكرامة، في دار الخلد والمقامة ". فلما كَشَّرَت الحرب عن نابها، تدافعوا إليها، وتواقعوا عليها، وكانوا عند ظن أمهم بهم، حتى قُتِلوا واحدا في أثر واحد. ولما وافتها النُّعاةُ بخبرهم، لم تزد على أن قالت: " الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من الله أن يجمعني بهم في مستقر الرحمة " (و) . ذلك أبعد مدى تبلغه المرأة من جلال الصبر وقوة الإيمان! [وعن جويرية بن أسماء عن عمه أن إخوة ثلاثةً شهدوا يوم تُسْتَر،   (د) الوطيس: المعركة أو الضرب. (هـ) الرسيس: الأصل. (و) "الإصابة" (8/66-67) ، وانظر رقم (1316) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 فاستشهدوا، فخرجت أمهم يومًا إلى السوق لبعض شأنها، فتلقاها رجل حضر " تُستر" فعرفته، فسألته عن أمور بنيها، فقال: " استشهدوا "، فقالت: " مقبلين أو مدبرين؟ " قال: " مقبلين "، قالت: " الحمد لله نالوا الفوز، وحاطوا الذمار، بنفسي هم وأبي وأمي ") اهـ من جمهرة الخطباء] (441) اهـ. كل ذلك وأشباهه مما جعل للأم المقام الأوفى، والمنزلة الأسمى، وهذا هو سر عظمة القوم، وسبيل نهضتهم، ومُنبعَثُ قوتهم، وإليه مرجع استبسالهم واستماتتهم: خَلفْتِ جيلًا من الأبطال سيرتهم ... تضوع بين الورى رَوْحًا وريحانا كانت فتوحهموا بِرًّا ومرحمة ... كانت سياستهم عدلًا وإحسانا لم يعرفوا الدين أورادًا ومِسْبحة ... بل أشْبِعوا الدينَ محرابًا وَميْدانا (442)   (441) "المنحة المحمدية في بيان العقائد السلفية، للشيخ محمد بن أحمد بن عبد السلام خضر ص (211) . (442) انظر " تربية الأولاد في الإسلام " (1/298) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 [فصل] الأم المسلمة وراء هؤلاء العظماء إذا قلبت صفحات تاريخنا الإسلامي، فلا تكاد تقف على عظيم ممن ذَلتْ لهم نواصي الأمم، ودانت لهم الممالك، وطبق ذكرهم الخافقين، إلا وهو ينزع بِعِرْقِهِ وخُلُقِهِ إلى أم عظيمة، وكيف لا يكون ذلك والأم المسلمة قد اجتمع لها من وسائل التربية ما لم يجتمع لأخرى ممن سواها؟ مما جعلها أعرف خلق الله بتكوين الرجال، والتأثير فيهم، والنفاذ إلى قلوبهم، وتثبيت دعائم الخلق العظيم بين جوانحهم، وفي مسارب دمائهم: فالزبير بن العوام: فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي بلغ من بسالته وبطولته، أن عدل به الفاروق رضي الله عنه، ألفًا من الرجال، حين أمد به جيش المسلمين في مصر، وكتب إلى قائدهم عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول: " أما بعد: فإني أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألفٍ: رجل منهم مقام الألف: الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن خالد ". وقد صدقت فِراسة الفاروق رضي الله عنه، وسجل التاريخ في صفحاته أن الزبير لا يعدل ألفًا فحسب، بل يعدل أمة بأسرها، فقد تسلل إلى الحصن الذي كان يعترض طريق المسلمين، وصعد فوق أسواره، وألقى بنفسه بين جنود العدو، وهو يصيح صيحة الإيمان: " الله اكبر ".. ثم اندفع إلى باب الحصن، ففتحه على مصراعيه، واندفع المسلمون، فاقتحموا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 الحصن، وقضوا على العدو قبل أن يفيق من ذهوله. (هذا البطل العظيم إنما قامت بأمره أمه صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وأخت حمزة أسد الله، فقد شب في كنفها، ونشأ على طبعها، وتخلق بسجاياها. والكَمَلَة العظماء: عبد الله، والمنذر، وعروة أبناء الزبير: كانوا ثمرات أمهم أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، وما منهم إلا له الأثر الخالد، والمقام المحمود. وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: تنقل في تربيته بين صدرين من أملأ صدور العالمين حكمة وأحفلها بجلال الخلال، فكان مغداه على أمه فاطمة بنت أسد، ومراحه على خديجة بنت خويلد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعبد الله بن جعفر: سيد أجواد العرب وأنبل فتيانهم، تركه أبوه صغيرًا، فتعاهدته أمه أسماء بنتُ عُمَيس، ولها من الفضل والنبل ما لها. وأمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: أريب العرب وألمعيُّها، ورث عن هند بنت عتبة همة تجاوز الثريا، وهي القائلة - وقد قيل لها ومعاوية وليد بين يديها: " إن عاش معاوية ساد قومه " - " ثكِلْتُهُ إن لم يَسُد إلا قومه "، ولما نعي إليها ولدها يزيد بن أبي سفيان قال لها بعض المعزين: (إنا لنرجو أن يكون في معاوية خلف منه "، فقالت: " أوَ مِثْلُ معاوية يكون خَلَفا من أحد؟ والله لو جمعت العرب من أقطارها، ثم رُمِيَ به فيها، لخرج مِن أيها شاء ". وكان معاوية رضي الله عنه إذا نوزع الفخر بالمقدرة، وجوذب بالمباهاة بالرأي، انتسب إلى أمه فصدع أسماع خصمه بقوله: " أنا ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 هند ") (443) . وعبد الله بن زيد المازني: الذي حكى وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي قتَل مسيلمة الكذاب بسيفه (444) ، وقتل هو يوم الحرة. وأخوه حبيب بن زيد بن عاصم المازني: الذي أخذه مسيلمة فقطَّعَه، قطعة قطعة. كلاهما كان ثمرة أم فاضلة مجاهدة هي أم عُمارة نسيبة بنت كعب الأنصارية رضي الله عنها، كان أخوها عبد الله بن كعب المازني من البدريين، وكان أخوها عبد الرحمن من البكَّائين، شهدت ليلة العقبة، وشهدت أحدًا، والحديبية، ويوم حُنين، ويوم اليمامة، وجاهدت، وفعلت الأفاعيل) (445) . وعبد الملك بن مروان: أمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية، وكان لها من مضاء العزم، وذكاء القلب، ونفاذ الرأي - ما لم يكن بعض الرجال في شيء منه، وهي التي يعنيها ابن قيس الرقيات في قوله لعبد الملك: أنتَ ابن عائشة التي ... فضلت أُرُومَ (446) نسائها   (443) "المرأة العربية" (133/133-134) بتصرف، وانظر: " معاوية بن أبي سفيان " لمنير الغضبان ص (31) . (444) هكذا ذكره الحافظ الذهبي رحمه الله في (سير أعلام النبلاء) (2/281 - 282) ، وهو يخالف ما ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله في قصة مقتل مسيلمة الكذاب في " البداية والنهاية " (6/341) ، (6/268) من أن الكذاب قتله وحشي بن حرب، وأبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري. (445) انظر: " سير أعلام النبلاء " (2/278 - 282) ، وسيأتي مزيد من فضائلها ومناقبها في الفصل الخامس " ص (552) إن شاء الله. (446) الأروم: جمع الأرومة: الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 لم تلتفت لِلِداتِها (447) ... ومَشت على غُلَوائها (448) وَلَدَت أغَرَّ مباركًا ... كالشمس وَسطَ سمائها (449) وأبو حفص عمر بن عبد العزيز: أورع الملوك وأعدلهم وأجلهم، أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، أكمل أهل دهرها كمالا، وأكرمهن خلالًا، وأمها تلك التي اتخذها عمر لابنه عاصم، وليس لها ما تعتز به من نشب ونسب، إلا ما جرى على لسانها قول الصدق في نصيحتها لأمها (450) ، وهي التي نزعت به إلى خلائق جده الفاروق رضي الله عنه. وأمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر: الذي ولي الأندلس وهو ولاية تميد بالفتن، وتَشْرَقُ بالدماء، فما لبثت أن قرت له، وسكنت لخشيته، ثم خرج في طليعة جنده، فافتتح سبعين حصنا في غزوة واحدة، ثم أمعن بعد ذلك في قلب فرنسا، وتغلغل في أحشاء سويسرا، وضم أطراف إيطاليا، حتى ريض كل أولئك له، ورجف لبأسه، فكان أعظم أمراء بني أمية في الأندلس، حكم مدة خمسين سنة وستة أشهر، وبعد ما كانت قرطبة إمارة، أصبحت مقر خلافة يحتكم إليها عواهل أوربة وملوكها، ويختلف إلى معاهدها علماء الأمم وفلاسفتها. أتدري ما سر هذه الهمة، وما مهبط وحيها؟ إنها المرأة وحدها! فقد نشأ عبد الرحمن يتيمًا قتل عمُّه أباه وعمره واحد وعشرون يوما،   (447) لدات: جمع لِدة، واللًدَةُ: التربُ، من وُلِد معك. (448) الغُلَواء: الغُلو، وأول الشباب وسرعته. (449) " العقد الفريد " (2/216) ط. بولاق، وانظر " السير" للذهبي (4/249) . (450) حكى الميداني أن عمر رضي الله عنه مر بسوق الليل - وهي من أسواق المدينة - فرأى امرأة معها لبن تبيعه، ومعها بنت لها شابة، وقد همت العجوز أن تَمْذِقَ لبنها - أي تخلطه بالماء - فجعلت الشابة تقول: يا أمه لا تمذقيه، ولا تغُشيه، فوقف علبها عمر فقال: مَنْ هذه منك؟ قالت: ابنتي، فأمر عاصمًا فتزوجها، وهى جدة عمر بن عبد العزيز لأمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 فتفردت أمه بتربيته وإيداع سر الكمال وروح السمو في ذات نفسه، فكان من أمره ما علمت) (451) . وسفيان الثوري: وما أدراك ما سفيان الثوري (452) ؟!. إنه فقيه العرب ومحدثهم، وأحد أصحاب المذاهب الستة المتبوعة، إنه أمير المؤمنين في الحديث الذي قال فيه زائدة: (الثوري سيد المسلمين) ، وقال الأوزاعي: (ولم يبق من تجتمع عليه الأمة بالرضا إلا سفيان) ، وما كان ذلك الإمام الجليل، والعَلَم الشامخ، إلا ثمرة أم صالحة، حفظ التاريخ لنا مآثرها، وفضائلها، ومكانتها، وإن كان ضَن علينا باسمها. روى الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله بسنده عن وكيع قال: (قالت أم سفيان لسفيان: " يا بني! اطلب العلم، وأنا أكفيك بمغزلي (453) ، فكانت - رحمها الله - تعمل، وتقدم له، ليتفرغ للعلم، وكانت تتخوله بالموعظة والنصيحة، قالت له ذات مرة- فيما يرويه الإمام أحمد أيضا -: " يا بني إذا كتبت عشرة أحرف، فانظر: هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم تر ذلك، فاعلم أنها تضرك، ولا تنفعك " (454) . فهل من غرابة بعد هذا أن نرى سفيان يتبوأ منصب الإمامة في الدين، كيف وهو قد ترعرع في كنف مثل هذه الأم الرحيمة، وتغذي بلبان تلك الأم الناصحة التقية؟!   (451) " المرأة العربية " (2/136) بتصرف، وانظر: " الأعلام " للزركلي (3/324) . (452) انظر: " الإمام سفيان الثوري " للدكتور محمد أبو الفتح البيانوني ص (36-37) . (453) ، (454) " صفة الصفوة " (3/189) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 والإمام الثقة الثبت إمام أهل الشام وفقيههم، أبو عمرو الأوزاعي: يقول فيه أبو إسحاق الفزاري: (ما رأيت مثل رجلين: الأوزاعي، والثوري، فأما الأوزاعي فكان رجل عامة، والثوري كان رجل خاصة، ولو خُيرتُ لهذه الأمة، لاخترت لها الأوزاعي، لأنه كان أكثر توسعًا، وكان والله إمامًا، إذ لا نصيبُ اليوم إمامًا، ولو أن الأمة أصابتها شدة، والأوزاعي فيهم لرأيت لهم أن يفزعوا إليه) (455) ، وقال الخريبي: (كان الأوزاعي أفضل أهل زمانه) . وقال بقية بن الوليد: (إنا لنمتحن الناس بالأوزاعي، فمن ذكره بخير، عرفنا أنه صاحب سنة) وقال العجلي: (شامي ثقة من خيار المسلمين) . وقال الشافعي: (ما رأيت أحداً أشبه فقهه بحديثه من الأوزاعي (456) . قال النووي رحمه الله: (وقد أجمع العلماء على إمامة الأوزاعي، وجلالته، وعلو مرتبته، وكمال فضله، وأقاويل السلف رحمهم الله كثيرة مشهورة مصرحة بورعه وزهده وعبادته وقيامه بالحق وكثرة حديثه وغزارة فقهه، وشدة تمسكه بالسنة، وبراعته في الفصاحة، وإجلال أعيان أئمة عصره من الأقطار له، واعترافهم بمرتبته) (457) . وعن سفيان الثوري: (أنه لما بلغه مقدم الأوزاعي، خرج حتى لقيه بذِي طوى، فحل سفيان رأس البعير عن القطار، ووضعه على رقبته، وكان   (455) يعنى كي يفيدوا من علمه وقضائه وورعه. (456) انظر: " تهذيب التهذيب " (6/238-242) . (457) " تهذيب الأسماء واللغات " (1/229) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 إذا مر بجماعة قال: الطريق للشيخ) (458) . (وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في الطبقات أن الأوزاعي سئل عن الفقه- يعني استُفْتي - وله ثلاثَ عشرةَ سنة) (459) . ذلك الحَبر البحر كان أيضًا ثمرة أم عظيمة: قال الذهبي رحمه الله: (قال العباس بن الوليد: فما رأيت أبي يتعجب من شيء في الدنيا تعجبه من الأوزاعي، فكان يقول: " سبحانك تفعل ما تشاء " كان الأوزاعي يتيمًا فقيرًا في حَجْر أمه، تنقلُهُ من بلدٍ إلى بلد، وقد جرى حكمك فيه أن بلغتَه حيث رأيتُه، يا بني " عجزت الملوك أن تؤدب أنفسها وأولادها أدب الأوزاعي في نفسه، ما سمعتُ منه كلمةً قطُّ فاضلةً إلا احتاج مستمعها إلى إثباتها عنه، ولا رأيته ضاحكًا قط حتى يُقهقِه، ولقد كان إذا أخذ في ذكر المعاد، أقول في نفسي: أتُرى في المجلس قلبٌ لم يبك؟) (460) . قال أبو مسهر: وكان الأوزاعي رحمه الله يحيي الليل صلاةً وقرآنًا وبكاءً، وأخبرني بعض إخواني من أهل بيروت، أن أمه كانت تدخل منزل الأوزاعي، وتتفقد موضع مُصَلَاه، فتجده رطْبًا من دموعه في الليل) (461) اهـ. [وهذه أم " ربيعة الرأي " شيخ الإمام مالك: أنفقت على تعليم ولدها ثلاثين ألف دينار خَلًفها زوجها عندها، وخرج إلى الغزو، ولم يعد لها إلا بعد أن استكمل ولده الرجولة والمشيخة، وكانت أمه قد اشترتهما   (458) ، (459) " السابق " (1/300) . (460) " سير أعلام النبلاء " (7/110) . (461) " سير أعلام النبلاء " (7/120) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 له بمال الرجل، فأحمد الرجل صنيعها، وأربح تجارتها في قصة طلية ساقها ابن خلكان، قال: (وكان فرُّوخ أبو ربيعة خرج في البعوث إلى خراسان أيام بنى أمية، وربيعة حمل في بطن أمه، وَخَلَّفَ عند زوجته أم ربيعة ثلاثين ألف دينار، فقدم المدينة بعد سبع وعشرين سنة وهو راكب فرسا، وفي يده رمح، فنزل، ودفع الباب برمحه، فخرج ربيعة، وقال: " يا عدو الله أتهجم على منزلي؟ "، فقال فروخ: (يا عدو الله أنت دخلت على حرمي؟ "، فتواثبا حتى اجتمع الجيران، وبلغ مالكَ بن أنس، فأتوا يعينون ربيعة، وكثر الضجيج، وكل منهما يقول: " لا فارقتك"، فلما بصروا بمالك سكتوا، فقال مالك: (أيها الشيخ لك سَعَة في غير هذه الدار "، فقال الشيخ: " هي داري، وأنا فروخ "، فسمعت امرأته كلامه، فخرجت، وقالت: " هذا زوجي، وهذا ابنى الذي خَلَّفه، وأنا حامل به "، فاعتنقا جميعا وبكيا، ودخل فروخ المنزل، وقال: " هذا ابني؟ "، فقالت: " نعم "، قال: " أخرجي المال الذي عندك "، قالت- تُعَرضُ -: " قد دفنته، وأنا أخرجه "، ثم خرج ربيعة إلى المسجد، وجلس في حِلْقته، فأتاه مالك والحسن وأشراف أهل المدينة، وأحدق الناس به، فقالت أمُه لزوجها فروخ: (اخرج فصل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم "، فخرج فنظر إلى حلقة وافرة، فأتاها، فوقف عليها، فنكس ربيعة رأسه يوهمه أنه لم يره، وعليه قلنسوة طويلة، فشك أبوه فيه، فقال: " من هذا الرجل؟ "، فقيل: " هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن "، فقال: " لقد رفع الله ابني "، ورجع إلى منزله، قال لوالدته: " لقد رأيت ولدك في حالة ما رأيت أحدًا من أهل العلم والفقه عليها "، فقالت أمه: " فأيما أحب إليك: ثلاثون ألف دينار أو هذا الذي هو فيه؟ "، فقال: " لا والله، بل هذا "، فقالت: " أنفقت المال كله عليه "، قال: " فوالله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 ما ضَيَّعْتِهِ ") ] اهـ (462) . إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله: قال مطرف: قال مالك: (قلت لأمي: " أذهب، فأكتب العلم؟ "، فقالت: " تعال، فالبس ثياب العلم "، فألبستني مسمرة، ووضعت الطويلة على رأسي، وعممتني فوقها، ثم قالت: " اذهب، فاكتب الآن "، وكانت تقول: " اذهب إلى ربيعة، فتعلًّمْ من أدبه قبل علمه ") (*) اهـ. ثم إذا نشرنا صفحة العهد العباسي، بل صفحة العهد الإسلامي لا نجد في تضاعيفها امْرَءَا دنت له قطوف العلم والحكمة، ودانت له نواصي البلاغة والفصاحة كمحمد بن إدريس الشافعي فهو الشهاب الثاقب الذي انتظم حواشي الأرض، فملأ أقطارها علما وفقهًا، ذلك أيضًا ثمرة الأم العظيمة. فقد مات أبوه وهو جنين أو رضيع، فتولته أمه بعنايتها، وأشرقت عليه بحكمتها، وكانت امرأة من فضليات عقائل الأزد (463) ، وهي التي تنقلت به من " غزة " مهبطه إلى " مكة " مستقر أخواله، فربته بينهم هنالك. (وكانت أم الشافعي رحمها الله - باتفاق النقلة- من العابدات القانتات، ومن أزكى الخلق فطرة (464) ، ومن طريف ما يحكى عنها من   (462) "من أخلاق العلماء " للشيخ محمد بن سليمان ص (153-154) . (*) نقله عن (مقدمة كتاب " الديباج المذهب " لابن فرحون) الأستاذ محمد نور سويد في كتابه " منهج التربية النبوية للطفل " ص (235) . (463) " طبقات الأدباء " (6/368) ، " المجموع " للنووي (1/14) . (464) " طبقات الشافعية الكبرى " لابن السبكي (2/179) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 الحذق والذكاء: أنها شهدت عند قاضي مكة هي وأخرى (465) مع رجل، فأراد أن يفرق بين المرأتين، فقالت له أم الشافعي: " ليس لك ذلك، لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) (466) ، فرجع القاضي لها في ذلك) (467) . قال الحافظ ابن حجر: " وهذا فرع غريب، واستنباط قوي " (468) . وعن وكيع قال: " كان الحسن بن صالح وأخوه وأمهما قد جَزَءوا الليل ثلاثة أجزاء، فكل واحد يقوم ثلثًا، فماتت أمهما، فاقتسما الليل، ثم مات علي، فقام الحسن الليل كله " (*) . وكان جعفر بن يحيى وزير الرشد أرفق الناس برياضة القول، وأعرفهم بفنون الكلام، وكان إذا عقب رسالة، أو وقَع تحت كتاب فإليه مباءة البلاغة، ونهاية الإيجاز، حتى لقد يتدافع الكُتَّابُ على بابه فيشترون من حُجابه كل توقيع بدينار. " كل ذلك ورثه جعفر عن أمه لا عن أبيه " (469) . وعن سفيان بن عيينة قال: (قالت أم طَلْقٍ لطَلْقٍ: " ما أحسنَ صوتَك بالقرآن" فليته لا يكون عليك وَبالا يوم القيامة "، فبكى حتى غشي عليه) (470) .   (465) هي أم بشر المريسي كما في " السابق " (2/179) . (466) من الآية (282) من سورة البقرة. (467) ، (468) " توالي التأسيس" لابن حجر ص (46) . (*) " حلية الأولياء " (7/328) ، وانظر: " سير أعلام النبلاء " (7/361) وما بعدها. (469) " البيان والتبيين" (1/59) . (470) " صفة الصفوة " (3/37) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 أم إبراهيم البصرية العابدة: حُكي أنه كان بالبصرة نساء عابدات، وكان منهن أم إبراهيم الهاشمية، فأغار العدو على ثَغْر من ثغور الإسلام، فانْتُدِبَ الناسُ للجهاد، فقام عبد الواحد بن زيد البصري في الناس خطيبًا، فَحَضهم على الجهاد، وكانت أم إبراهيم هذه حاضرةً مجلسَه، وتمادي عبد الواحد على كلامه، ثم وصف الحور العين، وذَكَر ما قيل فيهن، وأنشد في وصف حَوْراء: غادة ذاتُ دَلال وَمَرَحْ ... يَجدُ النًاعِتُ فيها ما اقترحْ خُلِقَتْ مِن كل شيء حَسَن ... طيب فاللَّيْثُ فيها مُطَّرَحْ زَانَها الله بوجهٍ جُمِعَت ... فيه أوصافُ غَريباتِ المُلَح (أ) وبعين كُحلُها من غُنْجِها (ب) ... وبِخَدٍّ مِسكُهُ فيه رَشح ناعم يجري على صفحتِهِ ... نَضرةُ المُلْكِ ولألاءُ الفرح أتَرى خاطبَها يسمعُها ... إذ تُدِيرُ الكأسَ طَوْرًا والقَدَح في رياض مونق نَرْجَسُها ... كلما هبَّتْ له الريحُ نَفَح وهي تدعوه بِوُد صادق ... مُلئ القلبُ به حتى طَفَح يا حبيبًا لستُ أهوى غيرَه ... بالخواتيمِ يتِم المُفْتَتَح لا تكونن كمن جَدَّ إلي ... مُنْتَهى حاجَتِهِ ثم جَمَح لا، فما يَخْطُبُ مثلي مَنْ سَها ... إنما يخطب مِثلي مَنْ ألح قال: فماج الناسُ بعضُهم في بعض، واضطرب المجلس، فوثبت أم إبراهيم من وسط الناس، وقالت لعبد الواحد: " يا أبا عبيد، ألستَ تعرف ولدي إبراهيم، ورؤساءُ أهل البصرة يخطبونه على بناتهم، وأنا أضربه عليهم، فمَد والله أعجبتني هذه الجاريةُ، وأنا أرضاها عروساً لولدي، فَكَررْ ما   (أ) المُلحَة: واحدة المُلَح من الأحاديث. (ب) الغُنْج: بالضم، وبضمتين، والغُنَاج: الشكْل: الدلال، يقال: غنَجت الجارية، وهي غنِجة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 ذكرتَ من حُسْنِها وجمالها، فأخذ عبد الواحد في وصف حوراء، ثم أنشد: تَوَلًدَ نورُ النورِ مِن نورِ وجهِها ... فمازج طيبَ الطيبِ من خالص العِطْرِ فلو وَطئَتْ بالنعِل منها على الحصى ... لأعْشَبَتِ الأقطارُ من غير ما قَطْر ولو شِئتَ عَقدَ الخَصْرُ منها عُقْدَتَه ... كغصن من الريحان ذي ورق خُضْرِ ولو تَفَلَتْ في البحر شَهْدَ رُضابها (ج) ... لطابَ لأهل البَر شرب مِنَ البحر يكادُ اختلاسُ اللحظِ يجرح خَدَّها ... بجارحِ وَهْمِ القلبِ من خارجِ السترِ فاضطرب الناسُ أكثر، فوثبت أم إبراهيم، وقالت لعبد الواحد: " يا أبا عبيد، قد والله أعجبتْني هذه الجاريةُ، وأنا أرضاها عروسا لولدي، فهل لك أن تزوِّجَهُ منها هذه الساعة، وتأخذَ مني مهرها عشرة آلاف دينار، ويخرج معك في هذه الغزوة، فلعل الله يرزقه الشهادة، فيكون شفيعا لي ولأبيه في القيامة؟ "، فقال لها عبد الواحد: " لئن فعلتِ لتفوزَن أنتِ وولدك وأبو ولدِكِ فوزا عظيمًا "، ثم نادت ولدها: " يا إبراهيم "، فوثب من وسط الناس، وقال لها: " لبيك يا أماه "، قالت: " أي بُنَي، أرَضِيت بهذه الجارية زوجةً ببذل مهجتك في سبيله، وتركِ العَوْدِ فِي الذنوب؟ "، فقال الفتى: " إي والله يا أماه، رَضِيتُ أي رضًا "، فقالت: " اللهم إني أشهِدك أني زَوَّجت ولدي هذا من هذه الجارية، ببذل مهجته في سبيلك، وترك العود في الذنوب، فتقبلْه مني يا أرحم الراحمين"، قال: ثم انصرَفَتْ، فجاءت بعشرة آلاف دينار، وقالت: " يا أبا عبيد، هذا مهر الجارية تَجَهَزْ به، وجَهِّز الغزاةَ في سبيل الله تعالى "، وانصرفت، فابتاعت لولدها فرسا جيدًا، واستجادت له سلاحا، فلما خرج عبد الواحد خرج إبراهيمُ يعدو، والقراءُ حولَه يقرءون: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، قال: فلما أرادت فِراق ولدها، دفعت إليه   (ج) الرضاب: الريق المرشوف، وفُتات المسك، وقطع السكر، والبرد، ولعاب العسل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 كفنًا وحَنُوطًا، وقالت له: " يا بُنَيَّ، إذا أردتَ لقاء العدو فتكفنْ بهذا الكفن، وتحنط بهذا الحَنُوطِ، وإياك أن يراك الله مُقَصرا في سبيله "، ثم ضَمَّتهُ إلى صدرِها، وَقَبلَتْهُ بين عينيه، وقالت له: " يا بني لا جمع الله بيني وبينك إلا بين يديه في عَرَصات القيامة ". قال عبد الواحد: فلما بَلَغْنَا بلادَ العدو، ونُودِي في النفير، وبرز الناس للقتال، برز إبراهيمُ في المقدمة، فقتل من العدو خَلْقًا كثيرَا، ثم اجتمعوا عليه فقُتِل. قال عبد الواحد: فلما أردنا الرجوعَ إلى البصرة قلت لأصحابي: " لا تُخبروا أمَّ إبراهيم بخبر ولدها، حتى ألقاها بحسن العزاء، لئلا تجزعَ فيذهبَ أجرُها "، قال: فلما وصلنا البصرة خرج الناسُ يَتَلَقوْنَنَا، وخرجت أم إبراهيم فيمن خرج، قال عبد الواحد: فلما نَظَرَتْ إليَّ قالت: " يا أبا عبيد، هل قُبِلتْ منى هَدِيتي فَأهنأ، أم رُدتْ عَلى فَأعزى؟ "، فقلت لها: (قد قُبِلَتْ هديتُكِ، إن إبراهيمَ حَي مع الأحياء يرزَق " (د) ، قال: فخرت ساجدةَ لله شكَرا، وقالت: " الحمد لله الذي لم يخيب ظني، وتقبل نسكي مني "، وانصرفت، فلما كان من الغد أتت إلى مسجد عبد الواحد، فنادت: (السلام عليك يا أبا عبيدٍ بُشْراك "، فقال: " لا زلتِ مُبَشرةً بالخير "، فقالت له: (رأيت البارحةَ ولدي إبراهيم، في روضة حسناء، وعليه قبة خضراء، وهو على سرير من اللؤلؤ، وعلى رأسه تاجٌ وإكليل، وهو يقول: (يا أماه أبشري، فقد قُبِلَ المهرُ، وزُفت العروس ") (هـ) .   (د) الصحيح أن يدعو له بالشهادة، أو يستثني فيقول: " إن شاء الله "، انظر: " فتح الباري، (6/ 89) . (هـ) ذكر هذه القصة الشيخ محمود العالم رحمه الله في مختصره: (فكاهة الأذواق من = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 كذلك كانت النساء في ذلك العهد الكريم مبعث كل شيء في نفوس أبنائهن، والأمر في ذلك ما قال رافع بن هُريم: فلو كنتم لِمُكْيِسَة لكاست ... وكَيس الأم يُعْرَفُ في البنينا أما بعد: فأولئك هن الأمهات اللواتي انبلج عنهن فجر الإسلام، وسمت بهن عظمته، وصدعت بقوتهن قوته، وعنهن ذاعت مكارمه، ورسخت قوائمه، وهكذا كانت الأم في عصور الإسلام الزاهية، وأيامه الخالية: مهبط الشرف الحر، والعز المؤثل، والمجد المكين، وصدق الشاعر: الأم مدرسة إذا أعددتها ... أعددت شعبا طيب الأعراقِ الأم روض إن تعهده الحيا ... بالري أورق أيما إيراقِ الأم أستاذ الأساتذة الألى ... شَغلَتْ مآثرهم مدى الآفاق   = مشارع الأشواق، إلى مصارع العشاق، ومثير الغرام إلى دار السلام) ص (26-29) ، للعلامة المجاهد أحمد بن إبراهيم النحاس رحمه الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 [الفصل الثالث] المرأة بنتًا إن الإسلام لم يفرق في المعاملة الرحيمة والعطف الأبوي بين رجل وامرأة، وذكر وأنثى، وإنما دعا إلى المساواة والعدل الشامل بينهما في هذا الباب، قال الله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) الآية (النحل: 90) ، وقال عز وجل من قائل: (اعدوا هو أقرب التقوى) (المائدة: 8) وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اعدِلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائًكم" (471) ، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيمن أراد أن يفضل بعضَ ولده على بعض في الهبة: " أعْطَيتَ سائرَ ولدِك مثل هذا؟ " قال: " لا "، قال: " فاتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم " (472) ، وفي رواية أخرى أنه لما جاء يشهده صلى الله عليه وسلم قال له: " فلا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور "، وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا: " سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلًا أحدًا لفضَّلتُ النساء " (473) . قال الألوسي رحمه الله: " المعهود من ذوي المروءة جبر قلوب النساء لضعفهن، ولذا يندب للرجل إذا أعطى شيئًا لولده أن يبدأ   (471) تقدم تخريجه رقم (311) . (472) تقدم تخريجه رقم (311) . (473) تقدم تخريجه رقم (322) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 بأنثاهم " (474) اهـ. وقال أيضًا في تفسير قوله تعالى: (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا) الآية الأنعام (139) . (واسْتُدِلَّ بالآية على أنه لا يجوز الوقف على أولاده الذكور دون الإناث، وأن ذلك الوقف يفسخ ولو بعد موت الواقف، لأن ذلك من فعل الجاهلية، واستدل بذلك بعض المالكية على مثل ذلك في الهبة، وأخرج البخاري في " التاريخ " عن عائشة رضي الله عنها قالت: " يعمد أحدكم إلى المال فيجعله للذكور من ولده؟! إن هذا إلا كما قال الله تعالى: (خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا) (475) ") اهـ. حرم الإسلام الوأد، وشنع على فاعليه بالخسران والسفه، قال تعالى: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهًا بغير علم) الآية الأنعام (140) ، وقال عز وجل: (وإذا المَوءُودَة سُئِلَت بأي ذنب قُتلَت) التكوير (9، 8) . وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنعا وهات، ووأد البنات " (476) . وَبَيَّنَ الإسلام أن كراهية البنات، والتشاؤم بهن، والحزن لولادتهن جاهلية بغيضة إلى الله تعالى، قال سبحانه ناعيا على أهلها: (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مُسْوَدًّا وهو كظيم (477) ، يتوارى من القوم من   (474) " روح المعاني " (8/36) . (475) "السابق " (8/37) . (476) تقدم تخريجه رقم (368) . (477) (وهو كظيم) أي مشتد الغيظ على امرأته، لأنه- بزعمه- حصل له منها ما يوجب أشد الحياء. (القاسمي 10/3819) ، (والكظيم: المغموم الذي يُطبق فاه فلا يتكلم من الغم، مأخوذ من الكظامة، وهو شَدُّ فم القِربة) اهـ. من " الجامع لأحكام القرآن " (10/116) ، وقال أبو حيان: (أخبر عمَّا يظهر في وجهه، وعن ما يُجِنه في قلبه) اهـ. من" البحر المحيط " (5/504) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 سوء ما بشر به (278) أيمسكه على هون أم يدسه في التراب، ألا ساء ما يحكمون) (479) (النحل: 58 - 59) بل إن هذا من ضعف الإيمان وزعزعة اليقين لكونهم لم يرضوا بما قسم الله لهم من إناث فهذا أمره الغالب ومشيئته المطلقة وإرادته النافذة لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه قال عز وجل: (لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير) (الشورى: 49 - 50) [وما سماه الله تعالى (هبة) فهو بالشكر أولى وبحسن التقبل أحرى] . قال واثلة بن الأسقع: [إن من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر وذلك أن الله تعالى قال (يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور) فبدأ   (478) (ويروى أن بعض الجاهلية كان يتوارى في حال الطلق فإن أخبر بذكر ابتهج أو بأنثى حزن وبقي متواريا أياما يدبر ما يصنع: أيمسكه أيتركه ويربيه على هون أي ذل وهوان لا يورثه ولا يعتني به ويفضل ولده الذكور عليه؟ فهي مهانة عنده وعبر عنها بـ "ما" عرفا لإسقاطها في زعمهم عن درجة العقلاء) اهـ من روح المعاني (14/168) . (479) قال الألوسي رحمه الله في تفسير هذه الآية: (والآية ظاهرة في ذم من يحزن إذا بشر بالأنثى حيث أخبرت أن ذلك فعل الكفرة وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أنه قال في قوله سبحانه: (وإذا بشر ... ) الآية هذا صنيع مشركي العرب أخبركم الله تعالى بخبثه فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم الله تعالى له وقضاء الله تعالى خير من قضاء المرء لنفسه ولعمري ما ندري أي خير؟ لرب جارية خير لأهلها من غلام وإنما أخبركم الله عز وجل بصنيعهم لتجتنبوه ولتنتهوا عنه وكان أحدهم يغذو كلبه ويئد ابنته " اهـ من "روح المعاني" (14/169) وما كل مئناث سيشقى ببنته ... وما كل مذكار بنوه سرور والمئناث: الذي لم ينجب إلا بنات. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلا كان عنده وله بنات فتمنى = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 بالإناث] (480) . قال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله: (فقسم سبحانه حال الزوجين إلى أربعة أقسام اشتمل عليها الوجود، وأخبر أن ما قدَّره بينهما من الولد فقد وهبهما إياه، وكفى بالعبد تَعرُّضًا لمقته أن يتسخط ما وهبه. وبدأ سبحانه بذكر الإناث، فقيل: جبرَا لهنَّ لأجل استثقال الوالدين لمكانهن، وقيل - وهو أحسن -: إنما قدَّمهن لأن سياق الكلام أنه فاعلَ ما يشاء، لا ما يشاء الأبوان، فإن الأبوين لا يُريدان إلا الذكور غالبا، وهو سبحانه قد أخبر أنه يخلق ما يشاء، فبدأ بذكر النصف الذي يشاء، ولا يريده الأبوان. وعندي وجه آخر: وهو أنه سبحانه قدَّم ما كانت تؤخره الجاهلية من أمر البنات حتى كانوا يئدونهن، أي: هذا النوع المؤخر عندكم مقدُّم عندي على الذكَر، وتأمل كيف نكر سبحانه الإناث، وعَرف الذكور، فجبر نقص الأنوثة بالتقديم، وجبر نقص التأخير بالتعريف) (481) اهـ. وقال ابن القيم رحمه الله: (وقد قال الله تعالى في حق النساء: (فإن   = موتهن، فغضب ابن عمر، فقال: (أنت ترزقهن؟ " رواه البخاري في "الأدب المفرد" (83) . والله سبحانه وتعالى قد تكفل برزق خلقه كافة، فقال عز وجل: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) (هود: 6) ، وقال جل وعلا: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم) (الأنعام: 151) ، فالضجر من البنات من جهة الرزق لا مسوغ له، ولا داعي، وهو لا يصدر في الحقيقة إلا عمن ساء ظنه بربه، وضعُف يقينه به، فالمؤمن يثق بما في يد الله أكثر من ثقته بما في يده. (480) " الجامع لأحكام القرآن " (16/48) . (481) " تحفة المودود بأحكام المولود " ص (20- 21) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعلَ الله فيه خيرًا كثيرا) (النساء: 19) ، وهكذا البنات أيضًا قد يكون للعبد فيهن خير في الدنيا والآخرة، ويكفي في قبح كراهتهن أن يكره ما رضيه الله، وأعطاه عبده (482) . وقال صالح بن أحمد: كان أبي إذا وُلد له ابنة يقول: " الأنبياء كانوا آباء بنات "، ويقول: (قد جاء في البنات ما قد علمت "، وقال يعقوب ابن بختان: وُلِد لي سبع بنات، فكنت كلما وُلِد لي ابنة دخلت على أحمد ابن حنبل، فيقول لي: " يا أبا يوسف! الأنبياء آباء بنات "، فكان يُذْهِبُ قولُه هَمِّي) (483) اهـ. وقد اقتلع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض النفوس الضعيفة جذور الجاهلية فخص البنات بالذكر، أمر الآباء المربين يحسن صحبتهن، والعناية بهن، والقيام على أمورهن، وحض على رحمتهن، والشفقة عليهن. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسنَ   (482) ولعله لأجل هذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تهنئة المتزوج بعبارة: " بالرفاء والبنين " لأن فيها الدعاء له بالبنين دون البنات، فعن الحسن أن عقيل بن أبي طالب تزوج امرأة من جشم، عليه القوم، فقالوا: " بالرفاء والبنين"، فقال: " لا تفعلوا ذلك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك"، قالوا: " فما نقول يا أبا زيد؟ "، قال: قولوا: " بارك الله لكم، وبارك عليكم، إنا كذلك كنا نؤمر" رواه ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق في "مصنفه" والنسائي (2/91) ، وابن ماجه (1/589) ، والدارمي (2/ 134) ، والإمام أحمد (3/451) ، وقال الألباني: (.. هذا في حكم المنقطع لكن رواه أحمد من طريق أخرى عن عقيل، فهو قوي بمجموع الطريقين، والله أعلم) اهـ من " آداب الزفاف " ص (176) ، وانظر: " أركان النكاح وشروطه، للشيخ عبد العزيز بن محمد بن داود ص (90) الفصل الثالث من الباب الثاني. (483) " تحفة المودود " ص (26) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 ابنَ علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي، فقال الأقرع: " إن لي عَشرةَ من الولد ما قبَّلْتُ منهم أحدًا "، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " من لَا يَرحَم لا يرحَم " (484) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " أتقَبلون صبيانكم؟ فما نقبلهم "، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أوَ أمْلِكُ لك أن نزع الله من قلبك الرحمة (485) ؟ ") . ويروَى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من كان له أنثى فلم يئدْها، ولم يُهِنْهَا، ولم يؤثر وَلَده - يعني الذكور - عليها، أدخله الله تعالى الجنة " (486) أي: مع السابقين. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله: " أي الذنب عند الله أعظم؟ "، قال: " أن تجعلَ لله ندا وهو خَلَقَكَ "، قال: قلت: " إن ذلك لعظيم؛ ثم أي؟ " قال: " أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك ") (487) الحديث.   (484) رواه البخاري (10/ 359، 360) في " الأدب ": باب رحمة الولد وتقبيله، ومسلم رقم (2318) في الفضائل: باب رحمته صلى الله عليه وسلم بالصبيان والعيال، والترمذي رقم (1912) في البر: باب في رحمة الولد، وأبو داود رقم (5218) في الأدب: باب في قبلة الرجل ولده، وقال السيوطي رحمه الله: " هذا حديث متواتر" اهـ. من " فيض القدير " (6/239) . (485) رواه البخاري (10/360) في الأدب: باب رحمة الولد وتقبيله، ومسلم رقم (2317) في الفضائل: باب رحمته صلى الله عليه وسلم بالصبيان والعيال. (486) رواه أبو داود (5146) في الأدب: باب فضل من عال يتيما، والحاكم (4/177) ، وصححه، ووافقه الذهبي،: في سنده زياد بن حدير، وهو لا يعرف، وباقي رجال السند ثقات، ولذا ضعفه الألباني في " تحقيق المشكاة " (3/1389) رقم (4979) . (487) أخرجه البخاري (8/378) في تفسير سورة الفرقان: باب قوله: (والذين = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من عال جاريتين حتى تبلغا (488) جاء يوم القيامة أنا وهو - وضم أصابعه - " (489) ، أى: معا. وعن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن من جِدَته - يعني ماله -، كنَّ له حجابا من النار " (490) . ويروَى عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كان له ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات، أو بنتان، أو أختان، فأحسن صحبتهن، واتقى الله فيهن، فله الجنة ط (491) وفي رواية أبي داود: (من   = لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس) الآية، وفي تفسير سورة البقرة: باب قوله تعالى: (فلا تجعلوا لله أندادَا) ، وفي الأدب، والمحاربين، والتوحيد، ومسلم رقم (86) في الإيمان: باب كون الشرك أقبح الذنوب، وأبو داود رقم (2310) في الطلاق: باب تعظيم الزنا، والترمذي رقم (3183) من طريقين قال في أحدهما: " حسن غريب "، وفي الآخر: " حسن صحيح " (5/336 - 337) . حنى تبلغا: " أي حتى تتزوجا، قال القرطبي: (أي: إلى أن تستقلا بأنفسهما، وذلك أن يُدخَل بهن، ولا يعني بلوغ المحيض، (إذ قد تتزوج قبل ذلك، وقد تبلغ غير مستقلة بحال نفسها، ولو تركت لضاعت، ولذا لا تسقط نفقتها عن الأب بالبلوغ بل بالدخول بها) اهـ - انظر: " شرح الأبي " (7/66) ، و " فتح القدير " لابن الهمام (3/322) . (489) أخرجه مسلم رقم (2631) في البر والصلة: باب فضل الإحسان إلى البنات، واللفظ له، والترمذي رقم (1917) في البر والصلة: باب في النفقة على البنات، ولفظه: " من عال جاريتين دخلت أنا وهو الجنة كهاتين، وأشار بأصبعه ". (490) رواه الإمام أحمد في " مسنده " (4/154) ، والبخاري في الأدب المفرد " (76) ، وابن ماجه (3669) ، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (5/34) . (491) رواه أبو داود رقم (5147) في الأدب: باب في فضل من عال يتيما، والترمذي = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 عال ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات، أو أختين، أو ابنتين، فَأدبَهُنَ، وأحسن إليهن، وزوَجهن، فله الجنة) . ويروَى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من مسلم تدرك له ابنتان، فيحسن إليهما ما صحبتاه أو صحبهما، إلا أدخلتاه الجنة " (492) . وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان له ثلاثُ بنات يُؤويهُن، ويرحمهُنَّ، ويكفلُهُنَّ وجبت له الجنة البتة) ، قيل: يا رسول الله! فإن كانتا اثنتين؟ قال: (وإن كانتا اثنتين) ، قال: فرأى بعض القوم أن لو قالوا له: واحدة؟ ، لقال: (واحدةً) (493) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخلت علي امرأة ومعها ابنتان تسأل، فلم تجد عندي شيئا، غير تمرة واحدة، فأعطيتُها إياها، فَقَسَمَتْها بين ابنتيها ولم تأكل منها، ثم قامت فَخَرَجَت، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا، فأخبرتُه، فقال: " من ابتلي (494) من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن،   رقم (1913) في البر والصلة: باب ما جاء في النفقة على البنات، وأخرجه بنحوه البخاري في "الأدب المفرد" (1/162) ، وفي سنده سعيد بن عبد الرحمن بن مكمل الأعشى، لم يوثقه غير ابن حبان، وأخرج حديثه في " صحيحه رقم (2044) ، والحديث ضعفه الألباني في ضعيف الجامع، (5/243) . (492) رواه الإمام أحمد (1/362) ، والبخاري في " الأدب المفرد" (1/77) ، وابن حبان (2043) ، والحاكم (4/178) ، وصححه، وصحح المنذري إسناده، وقال الحافظ الذهبي: " شرحبيل بن سعد واهٍ " وقال الحافظ الناجي تلميذ الحافظ ابن حجر: " وفيه شرحبيل اختلط بأخَرة " اهـ. (493) أخرجه الإمام أحمد (3/303) ، والبخاري في " الأدب " (78) ، وغيرهما، وهو حديث حسن بشواهده، انظر: " الترغيب والترهيب" (3/67 - 68) ، و" تحفة المودود " ص (23 - 25) . (494) وفي لفظ: " من ابتلي بشيء من البنات، فصبر عليهن، كُنَّ له حجابًا من النار " = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 كن له سترًا من النار " (495) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: " بشيء" يصدق على البنت الواحدة. قال محمد بن سليمان: (البنون نِعَم، والبناتُ حسنات، والله - عز وجل - يحاسب على النِّعم، ويجازي على الحسنات" (496) . وعنها أيضا رضي الله عنها قالت: (جاءت مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطَت كُل واحدة تمرة، وَرَفَعَت إلى فيها تمرة لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها، فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله قد أوجب لها بها الجنة، أو أعتقها بها من النار " (497)) . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء " (498) الحديث. لقد كان العرب في الجاهلية يأنفون أن يداعب الرجل وليدته، أو يسمح لها أن تمرح بين يديه، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد نقض تلك السنة   = والابتلاء: الاختبار بما يظهر به التزام الحق والشرع أو عدمه، قال شيخ الإسلام النووي رحمه الله: (إنما سماه ابتلاء لأن الناس يكرهونهن في العادة) اهـ. من " شرح النووي لصحيح مسلم " (16/179) . (495) تقدم تخريجه برقم (427) . (496) " صون المكرمات برعاية البنات " ص (28) . (497) تقدم تخريجه برقم (427) . (498) رواه أبو داود رقم (4941) في الأدب: باب في الرحمة، والترمذي رقم (1925) ، وصححه، ووافقه الذهبي، وانظر: " مجمع الزوائد" (8/187) ، وقال الترمذي: " حسن صحيح "، وصححه الحافظ العراقي، وغيره، وانظر: " السلسلة الصحيحة " رقم (925) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 السيئة، ولم يكن يضن بوقته الأعز أن يداعب فيه الولائد من بناته أو بنات صحابته: عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: (خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم وأمامة بنت أبي العاص (499) على عاتقه، فصلى، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع رفعها، حتى قضى صلاته يفعل ذلك بها " (500) . وحدثت أم خالد بنت خالد بن سعيد قالت: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي وعَلي قميص أصفر، قال رسول الله: " سَنَهْ سَنَهْ - وهي بالحبشية حسنة -، قالت: فذهبت ألعب بخاتم النبوة، فانتهرني أبي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعها" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أبلي وأخلِقي، ثم أبلي وَأخْلِقي " فعُمّرَتْ بعد ذلك ما شاء الله أن تُعَمَّرَ) (501) . أما حبه صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة، وشغفه بها، وحنانه عليها، وإكرامه إياها، فمما لا يحيط به وصف، ولا يناله بيان، وهي التي يقول فيها: " فاطمة بَضعة مني، يريبني ما رَابها، ويؤذيني ما آذاها " (502) ، وقالت   (499) وأمها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت أمامة من أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد زُوجَتْ من علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد موت خالتها فاطمة رضى الله عنها. (500) أخرجه البخاري (1/487، 488) في سترة المصلي: باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة، ومسلم (543) في المساجد: باب جواز حمل الصبيان، و"الموطأ" (1/170) في قصر الصلاة في السفر: باب جامع الصلاة. (501) رواه البخاري في اللباس: باب ما يُدعَى لمن لبس ثوبا جديدا، وفي الجهاد، والأدب، ومناقب الأنصار. (502) أخرجه البخاري (7/67 - 68) في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: باب أصهار النبي صلى الله عليه وسلم، وباب مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي النكاح، ومسلم (2449) في فضائل الصحابة: باب فضائل فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو داود (2069) في النكاح: باب ما يكره أن يجمع بينهن من النساء، والترمذي (3866) في المناقب: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (جاءت فاطمة تمشي، ما تُخطِئ مِشيَتُها. مِشيئةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام إليها، وقال: " مرحبًا بابنتي " (503) . أبصر المسلمون كل ذلك، ورأوا أن الله تعالى لم يختص فاطمة رضي الله عنها بذريته صلى الله عليه وسلم ليُشيد بالمرأة، وينهض بأمرها، ويرفع من شأنها، ويأخذ العرب بحبها، والابتهاج بها، فغدا مَنْ بعده يحبون بناتهم، ويكرمونهن، ويرون الخير كله معقودا بنواصيهن. وعن البراء قال: (أتى أبو بكر رضي الله عنه ابنته عائشة رضي الله عنها وقد أصابتها الحمى، فقال: " كيف أنتِ يابنية؟ "، وقبل خدَّها) (504) . لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم بالبنت من أبيها، وَإن فيما روى البخاري عن سعد بن أبي وقاص لبلاغًا لقوم يعقلون: قال سعد رضي الله عنه: (مرضت بمكة مرضا أشفيت منه على الموت، فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني، فقلت: " يا رسول الله إن لي مالًا كثيرًا، وليس يرثني إلا ابنتي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ " قال: " لا"، قلت: " فالشطر؟ " قال: " لا"،   = باب مناقب فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم من حديث المسور بن مخرمة. (503) قطعة من حديث رواه البخاري (6/462) في الأنبياء: باب علامات النبوة في الإسلام، وفي فضائل الصحابة، والمغازي، والاستئذان، ومسلم (2450) في فضائل الصحابة: باب فضائل فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم بدون قولها: " فقام إليها " فقد رواه أبو داود (5217) ، والترمذي (3872) ، والحاكم (3/154) ، وصححه، ووافقه الذهبي، ولفظ الشيخين: " فلما رآها رحب بها، وقال: مرحبا بابنتي، وأجلسها عن يمينه". (504) رواه أبو داود رقم (5222) في الأدب: باب في قبلة الخد، والحديث سكت عنه المنذري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 قلت: " الثلث؟ " قال: " الثلث كبير، إنك إن تركت ولدك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقهّ إلا أجرْتَ عليها، حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك ") (505) الحديث. وقد تأثر المسلمون بهذا التكريم والتشريف للمرأة، فصار أدباء الصدر الأول يصوغون في مدحهن ما هو أبهى من عقود الجمان: فمن ذلك ما قاله منصور الفقيه: أحِبُّ البناتِ فَحُبُّ البنا ... تِ فرضٌ على كُل نفس كرِيمَهْ لأن شعيبًا لأجل البنا ... تِ أخدمه الله موسى كليمَه (505) وقال حِطان بن المعلي: لولا بُنَيات كزُغُبِ القَطا (507) ... رُدِدن من بعض إلى بعض إن هَبت الريحُ على بعضهم ... لم تطعَمِ العينُ من الغَمْض لكان لي مضطَرَبٌ واسع ... في الأرض ذات الطول والعرض   (505) رواه البخاري (3/132) في الجنائز: باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة، وفي الإيمان، والوصايا، وفي فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي المغازي، والنفقات، والمرضى، والدعوات، والفرائض، ومسلم رقم (1628) في الوصية: باب الوصية بالثلث، و "الموطأ" (2/763) في الوصية: باب الوصية في الثلث لا تتعدى، والترمذي رقم (975) في الجنائز: باب ما جاء في الوصية بالثلث والربع، وفي الوصايا، وأبو داود رقم (2864) في الوصايا: باب ما جاء فيما لا يجوز للوصي في ماله، والنسائي (6/241-243) في الوصايا: باب الوصية بالثلث، والإمام أحمد (1/172) . (506) " صون المكرمات برعاية البنات" ص (26) ، وقد حقق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن شيخ مدين لم يكن شعيبًا، تحقيقا جيدًا، فانظره في (جامع الرسائل " المجموعة الأولى تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم رحمه الله ص (59-66) . (507) هي فراخ القطا التي ليس عليهن إلا شَعر لين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 وإنما أولادُنا بيننا ... أكبادنا تمشي على الأرض (508) وكان لمعن بن أوس ثمان بنات، وكان يقول: (ما أحب أن يكون لي بهن رجال "، وفيهن قال: رأيتُ رجالَا يكرهون بناتهم ... وفيهن - لا نُكْذَبُ - نساء صوالحُ وفيهن والأيام يعثرن بالفتى ... عوائد لا يمللنه ونوائحُ (509) وقال العلوي الجمانيُّ في صديق له وُلِدَتْ له بنت فسخطها: قالوا له: ماذا رُزِقتا ... فأصاخ ثُمَّتَ قال: بنتا وأجل من ولد النساء ... أبو البناتِ، فَلِم جزعتا إن الذين تَوَدُّ مِنْ ... بين الخلائق ما استطعتا نالوا بفضل البنت ما ... كَبَتُوا به الأعداءَ كبتا (510) وقال أبو محمد الحسن بن عبيدة الريحاني: حبذا من نعمة الله ... البناتُ الصالحات هن للنسل وللأنس ... وهن الشجرات وبإحسانٍ إليهن ... تكونُ البركات إنما الأهلون أرضو ... ن لنا محترثات فعلينا الزرع فيها ... وعلى الله النبات (511) ومما يُحكى عن معاوية رضي الله عنه قوله في شأن البنت: " والله   (508) " شرح الحماسة " (1/287) . (509) " المرأة العربية " لعبد الله عفيفي (8/18 - 19) . (510) " محاسن التأويل " للقاسمي (17/6074 - 6075) . (511) " صون المكرمات برعاية البنات " لجاسم الدوسري ص (27) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 ما مرض المرضى، ولا ندب الموتى، ولا أعان على الزمان، ولا أذهب جيشَ الأحزان مِثْلُهُنَّ، وإنك لواجِدٌ خالًا قد نفعه بنو أخته، وأبا قد رفعه نسلُ بنته) (512) . وفي رواية عنه: (والله ما مَرَّضَ المرضى، ولا ندب الموتى، ولا أعان على الأحزان مِثْلُهن، وَرُب ابن أخت قد نفع خاله) (513) . وفي رقعة للصاحب بالتهنئة بالبنت: (أهلًا وسهلا بعقيلة النساء، وأم الأبناء، وجالبة الأصهار، والأولاد الأطهار، والمبشرة بإخوة يتناسقون، ونجباء يتلاحقون: فلو كان النساء كمن ذكرنا ... لفُضِّلت النساءُ على الرجالِ وما التأنيثُ لاسم الشمس عَيْب ... وما التذكيرُ فَخْر للهلال والله تعالى يعرفك البركة في مطلعها، والسعادة بموقعها، فادَّرع اغتباطَا، واستأنف نشاطَا، فالدنيا مؤنثة، والرجال يخدمونها، والذكور يعبدونها (*) والأرض مؤنثة، ومنها خلقت البرية، وفيها كثرت الذرية، والسماء مؤنثة، وقد زينت بالكواكب، وَحُليَتْ بالنجم الثاقب، والنفس مؤنثة، وهي قوام الأبدان، وملاك الحيوان، والحياة مؤنثة، ولولاها لم تتصرف الأجسام، ولا عرف الأنام، والجنة مؤنثة، وبها وعد المتقون، وفيها ينعم المرسلون، فهنيئًا لك هنيئاً بما أوتيت، وأوزعك الله شكر ما أعطيت) (514) . والأخبار والنوادر في هذا لا تُحصى، وكلها من بركة الإسلام وفضله.   (512) "محاسن التأويل" (17/6075) . (513) " صون المكرمات " ص (26-27) . (*) هذا التعبير في هذا السياق لا يجوز، فتنبه! (514) " محاسن التأويل " (17/6075) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 [الفصل الرابع] المرأة زوجة من فضل الله تعالى وتكريمه لبني آدم أن شرع لهم الزواج، وجعل طريقة تناسلهم بهذه الطريقة الشريفة المنظمة المحفوظة المصونة لئلا تختلط المياه، وتشتبه الأنساب بخلاف ما عليه طريقة تناسل الحيوانات والبهائم. ولم تعد المرأة في ظل الإسلام كما كانت عند الآخرين دنسًا يجب التنَزه عنه، ولكن تسامى الإسلام بالمرأة إلى علياء السمو، وجعل الزواج من نعمه سبحانه على عباده. قال سبحانه في وصف الرسل ومدحهم: (ولقد أرسلنا من قبلك رسلا وجعلنا لهم أزواجًا وذرية) الرعد (38) ، فذكر ذلك في معرض الامتنان، وإظهار فضله سبحانه عليهم، والمعنى: وجعلناهم بشرا يقضون ما أحل الله من شهوات الدنيا، وإنما التخصيص في الوحي، فهذه سنة المرسلين كما نصت عليه هذه الآية، والسنة واردة بمعناها. ومدح عز وجل أولياءه بأنهم يسألونه ذلك في دعائهم، فقال عز من قائل: (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتِنا قرة أعين) الفرقان (74) ، وقال سبحانه وتعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الروم (21) . ولا تستعمل لفظة "آية" في القرآن المجيد إلا في الأمور الجليلة العظيمة، ليدل على قوة وقدرة الخالق تبارك وتعالى، وقد قرن الله تبارك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 وتعالى آية تكوين الأسرة، بآية تكوين العالم أجمع، فعقب هذه الآية بقوله جل وعلا: (ومن آياته خلْقُ السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالِمين) (الروم: 22) بل إن الزوجة نعمة من نعم الله على عبده حقيق به أن يشكرها ولا يكفرها، وهو مسئول عن هذه النعمة بين يدي ربه يوم الحساب، كما يسْأل عن سائر النعم: ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: (.. فيلقى العبدُ رَبه، فيقول الله: " ألم أكْرِمْكَ، وأُسَوِّدْكَ، وَأزَوِّجْكَ، وَأُسَخرْ لك الخيلَ والإبلَ، وَأذَرْكَ ترْأسُ وَترْبَعْ؟ "، فيقول: " بلى أي رَبِّ "، فيقول: " أفظننتَ أنك مُلاقِيَّ؟ "، فيقول: " لا "، فيقال: " إني أنساك كما نسيتني ") (515) الحديث. وعلم بالضرورة من دين الإسلام الترغيب في الزواج والحث عليه (516) . عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا تزوج العبدُ، فقد استكمل نِصْفَ الدين، فليتق الله فيما بَقِي " (517) . قال القرطبي: (ومعنى ذلك أن النكاح يعف عن الزنى، والعفاف أحد الخصلتين اللتين ضَمِن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما الجنة، فقال: " من وقاه الله شر اثنتين وَلَجَ الجنة: ما بين لَحْيَيهِ، وما بين رجليه " (518) خرجه   (515) رواه مسلم في " صحيحه " (4/2280) رقم (2969) في الزهد، واللفظ له، والترمذي في " صفة القيامة " رقم (2428) ، والإمام أحمد (2/492) ، (4/378، 379) . (516) انظر: " القسم الثالث" ص (61-65) ، و " بدائع الفوائد" (3/191 -192) ، وحسبك أن عامة كتب السنة تستفتح كتاب النكاح بالترغيب فيه، والحث عليه. (517) أخرجه الطبراني في " الأوسط "، وحسنه الألباني في " الصحيحة " رقم (625) ، وانظر الحاشية رقم (534) . (518) أخرجه الترمذي (2/66) رقم (2411) في الزهد: باب ما جاء في حفظ = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 الموطأ وغيره) (519) اهـ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحض أصحابه على الزواج، وكان يقرأ لمن يطلب إباحة التبتل قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) (520) المائدة (87) . وعن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعًا: " تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة، ولا تكونوا كرهبانية النصارى" (521) . وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان بن مظعون رضي الله عنه لما أراد أن يتبتل: (يا عثمان إن الرهبانية لم تكتب علينا،   اللسان، وقال: " هذا حديث حسن غريب"، والحاكم (4/357) بنحوه، وقال: "صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي، وله شاهد أخرجه الإمام أحمد (5/362) وابن حبان في " الثقات، (1/5) ، وانظر: " السلسلة الصحيحة" رقم (510) ، والحديث أخرجه في "الموطأ" (2/987، 988) عن عطاء بن يسار مرسلا، في الكلام: باب ما جاء فيما يخاف من اللسان. (519) " الجامع لأحكام القرآن" (9/327) . (520) انظر: صحيح البخاري (7/5) ط. الشعب، ومما يجدر ذكره أن القرآن أمر بالتبتل في قوله تعالى: (واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا) المزمل (8) ، ومعنى الآية الأمر بالانقطاع إلى الله عز وجل بإخلاص العبادة، كما قال تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) البينة (5) ، وقد ورد النهي عن التبتل في السنة، والمقصود به الانقطاع عن الناس والجماعات وسلوك سبيل الرهبانية في ترك النكاح، والترهب في الصوامع، فصار التبتل مأمورا به في القرآن، منهيا عنه في السنة، ومتعلق الأمر غير متعلق النهي، فلا يتناقضان، وإنما بعث صلى الله عليه وسلم ليبين للناس ما نُزل إليهم، انظر: " الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي (19/ 44-45) ، (6/261) ، " الفتح الرباني" (16/142) . (521) أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى، (7/78) ، وساقه الحافظ في " الفتح" (9/111) ، وسكت عليه، وقواه الألباني لشواهده في " الصحيحة" رقم (1782) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 أفما لك فِي أسوة؟ فوالله إني أخشاكم لله، وأحفظكم لحدوده " (522) . هكذا أبطل صلى الله عليه وسلم تنطع المتنطعين المعاندين لسنة الله في التعبد بترك النكاح، ولم تعد الرابطة الزوجية دناءة بهيمية، فإن إشعاع الإسلام بَددَ تلك الظلماتِ في العالمين، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تسامى الإسلام بتلك الرابطة حتى جعل منها ذريعة لواجبات كثيرة رفع الإسلام قدرها: وتأمل هذه العبارة الجامعة للفقيه الحنفي كمال الدين بن الهمام - رحمه الله- حيث يقول: (ومن تأمل ما يشتمل عليه النكاح من تهذيب للأخلاق، وتوسعة للباطن بالتحمل في معاشرة أبناء النوع، وتربية الولد (523) ، والقيام بمصالح المسلم العاجز عن القيام بها، والنفقة على   (522) أخرجه ابن حبان (1288) ، والإمام أحمد (6/226) ، والطبراني في " الكبير "، وقال الألباني: " سنده صحيح على شرطهما" - انظر: " إرواء الغليل" (7/79) ، " السلسلة الصحيحة" رقم (394) ، والأحاديث الواردة في مدح العزوبة كلها باطلة، كما في (الأسرار المرفوعة، للقاري ص (483) . (523) ومن مقاصد النكاح في الإسلام تكثير عدد المسلمين، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " إني أصبت امرأة ذات حُسن وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها؟ فقال: لا، ثم أتاه الثانية، فنهاه، ثم أتاه الثالثة، فقال: " تزوجوا الودود الولود، فإني مُكاِثر بكم الأمم، رواه أبو داود (1/320) ، والنسائي (2/71) ، وقال القرطبي في " تفسيره": (صححه أبو محمد عبد الحق، وحسبك اهـ (9/328) ، ورواه من حديث أنس رضي الله عنه الحاكم وصححه (2/162) ، ووافقه الذهبي، ورواه من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ فإني مكاثر بكم الأنبياء": الحاكم (2/162) ، وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان (1228 - موارد) ، وكذا الإمام أحمد (3/158) ، وقال الهيثمي: " إسناده حسن " مجمع الزوائد " (4/258) . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث رجلا على بعض السقاية، فتزوج امرأة، وكان عقيما، فقال له عمر: (أعلمنَها أنك = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 الأقارب، والمستضعفين، وإعفاف الحرم (524) ، ونفسه، ودفع الفتن عنه وعنهن، ودفع التقتير عنهن بحبسهن، لكفايتهن مؤنة سبب الخروج - يعني الخروج لطلب الرزق - ثم الاشتغال بتأديب نفسه، وتأهله للعبودية، ولتكون أيضًا سببا لتأهيل غيره، وأمرها بالصلاة، فإن هذه الفرائض كثيرة، لم يكد يقف عن الجزم بأنه - أي الزواج - أفضل من التخلي) (525) أي للعبادات النافلة، وعن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مِنْ أماثِلِ أعمالِكم إتيانُ الحلال " يعني النساء (526) .   = عقيم؟ "، قال: " لا "، قال: " فانطلق، فأعلِمها، ثم خَيرها، انظر: " المحلى" للإمام ابن حزم (10/61) ، و " الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (4/72 -73) . قال فضيلة الدكتور محمد الصباغ حفظه الله: (إن غريزة الامتداد في الذراري والأحفاد لا يستطيع المرء السَّوِيُّ أن ينعم بها إلا عن طريق الزواج. فكما أحسن إليك والدك فكان سببَ وجودِك في هذه الدنيا، فكذلك ينبغي بالنسبة إليك أن تقابل هذا الإحسانَ بالبر إليه، والوفاء له، فتنجب للدنيا نبتة كريمة تتعهدها بالتربية والتهذيب، تحيي اسم والدك، ويكون عملها الطيب في سجلك. ويكفى الممتنع عن الإنجاب عقوقَا أن يكون هو الشخص الأول الذي يقطع هذه السلسلة التي تبدأ بآدم، وتنتهي به) اهـ. من "نظرات في الأسرة المسلمة" ص (27) . (524) الحُرَم: الزوجات. (525) "فتح القدير" (3/189) . (526) أخرجه الإمام أحمد (4/231) ، وأبو نعيم في " الحلية" (2/20) من طريق الطبراني عن معاوية بن صالح عن أزهر بن سعيد الحرازي قال: سمعت أبا كبشة الأنماري رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في أصحابه، فدخل، ثم خرج وقد اغتسل، فقلنا يا رسول الله، قد كان شيء؟ "، قال: " أجل، مرت بي فلانة، = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 وقد يتعجب القارئ كما تعجب الصحابة رضي الله عنهم من قبل عندما قال ناس منهم للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: " أو ليس قد جعل الله لكم ما تَصَدقُون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرةٍ صدقةً، وبكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بُضْع أحدكم صدقة! قالوا: " يا رسول الله أيأتي أحدُنا شهوتَه، ويكونُ له فيها أجر؟ ! "، قال: " أرأيتم لو وضعها في حرام أكان فيها ورز؟ "، قالوا: " بلى "، قال: " فكذلك إذا وضعها في الحلال، كان له فيها أجر " (527) الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه ضمن وصية جامعة له: (.. " ولك في جِماعِكَ زوجتَك أجر "، قال أبو ذر: " كيف يكون لي أجْر في شهوتي؟ "، فقال صلى الله عليه وسلم: " أرأيت لو كان لك ولد، فأدرك، ورجوتَ خيره، فمات، أكنت تحتسبه؟ "، قلت: " نعم"، قال: " فأنت خلقتَه؟ "، قال: " بل الله خلقه "، قال: " فأنت هديتَه؟ "، قال: " بل الله هداه، قال: " فأنت ترزقه؟ "، قال: " بل الله كان يرزقه "، قال: " كذلك فَضَعهُ في حلاله، وجَنبهُ حرامَهُ،   = فوقع في قلبي شهوة النساء، فأتيت بعض أزواجي، فأصبتُها، فكذلك فافعلوا، فإنه من أماثل أعمالكم إتيان الحلال ") ، قال الألباني في " الصحيحة" رقم (442) : " إسناده صحيح، رجاله كلهم ثقات " اهـ. (527) رواه مسلم (2/697) ، والسياق له، والنسائي في " عشرة النساء"، والإمام أحمد (5/167) ، 168، 178) ، قال السيوطي رحمه الله: (وظاهر الحديث أن الوطء صدقة، وإن لم ينو شيئًا) اهـ، كما نقله الألباني عن " إذكار الأذكار، له، وانظر: " آداب الزفاف" ص (138) ط 1409 هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 فإن شاء الله أحياه، وإن شاء أماته، ولك أجر" (528)) . ولتحقيق التسامي بتلك الرابطة فوق طابع الشهوة إلى ممارسة سامية عالية أرشد النبي صلى الله عليه وسلم الزوج إلى استصحاب نية طلب الأولاد (529) ، والتسمية،   (528) أخرجه الإمام أحمد (5/168) ، وابن حبان (1298- موارد) ، وقال الألباني: " سنده صحيح، رجاله كلهم ثقات، رجال مسلم " اهـ من الصحيحة، رقم (575) . (529) يستحب أن ينوي عند الجماع طلب الولد الصالح، قال تعالى: (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم) (البقرة: 187) ، أي: " لا تباشروهن لقضاء الشهوة وحدها، ولكن لابتغاء ما وضع الله في النكاح من التناسل) "الكشاف" للزمخشري (1/257) ، وبه قال جمع من السلف منهم أبو هريرة، وابن عباس، وأنس رضي الله عنهم: " أي من أجل طلب الولد"، وانظر: " تحفة المودود، لابن القيم ص (9) ، وقال صلى الله عليه وسلم لجابر رضي الله عنه: (إذا قدمت فالكيسَ الكيسَ) رواه البخاري، ومسلم، والدارمي، يعنى بالكيس: الولد، وهو لا يأتي إلا بالنكاح، فجعل طلبَ الولد عقلا، انظر " النهاية" لابن الأثير (4/217) ، وروى البخاري في صحيحه، باب من طلب الولد للجهاد من حديث أي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال سليمان بن داود عليهما السلام: " لأطوفن الليلةَ على مائة امرأة، أو تسع وتسعين، كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله "، فقال له صاحبه: (قل: إن شاء الله "، فلم يقل: " إن شاء الله "، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة، جاءت بشق رجل؛ والذي نفس محمد بيده، لو قال: " إن شاء الله" لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون"، قال الحافظ ابن حجر: (قوله: باب من طلب الولد للجهاد - أي ينوي عند المجامعة حصولَ الولد ليجاهد في سبيل الله، فيحصل له بذلك أجر، وإن لم يقع له ذلك) اهـ. من " الفتح" (7/272) ، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (إني لأكرِهُ نفسي على الجماع رجاء أن يُخْرِجَ الله مني نسمةً تسبح الله تعالى) " موسوعة فقه عمر بن الخطاب، ص (660) ، وحكى عنه الشيخ كمال الدين بن العديم الحلبي قوله رضي الله عنه: (تكثروا من العيال، فإنكم لا تدرون ممن ترزقون) اهـ. من " الدراري في ذكر الذراري " ص (15) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 وحَضَّ على ذلك لما فيها من الخير الكثير. فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: "بسم الله، اللهم جَنبّنا الشيطان، وَجَنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك اليوم لم يَضُرَّه الشيطان أبدَا) (530) . وعنه رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: (نساؤكم حَرْث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وَقَدِّمُوا لأنفسكم) البقرة (223) قال: (وقدموا لأنفسكم) يقول: " بسم الله "، التسمية عند الجماع (531) . الزواج ميثاق غليظ: [الزواج أغلظ المواثيق وأكرمها على الله، لأنه عقد متعلق بذات   وقال العلامة أبو الحسن الماوردي: (وأن ينوي في ذلك كله نية الولد، وأن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وينوي في الولد أن الله لعله يرزقه مَنْ يعبد الله، ويوحدُه، ويجري على يديه صلاح الخلق، وإقامة الحق، وتأييد الصدق، ومنفعة العباد، وعمارة البلاد) اهـ. من " نصيحة الملوك" ص (166) . (530) رواه الإمام أحمد في" المسند " (1/217، 220، 243، 283، 286) ، والبخاري (6/240) في بدء الخلق: باب صفة إبليس وجنوده، وفي الوضوء، والنكاح، والتوحيد، ومسلم رقم (1434) في النكاح: باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع، وأبو داود رقم (2161) في النكاح: باب في جامع النكاح، والترمذي رقم (1692) في النكاح: باب ما يقول إذا دخل على أهله، وهذا الذكر مستحب عند إرادة الجماع، أما عند الفعل نفسه فيستحب الذكر بالقلب فقط، انظر: " الوابل الصيب" ص (147) تحقيق الشيخ الأنصاري. (531) " تفسير الطبري" بتحقيق الشيخ أحمد شاكر رحمه الله (4/417) ، وقال ابن نصر الله من الحنابلة: (الأظهر عدم اختصاص الرجل، بل تقوله المرأة) اهـ. من " السلسبيل" (2/745) ، والظاهر من لفظ الحديث السابق أنه ينصرف إلى الرجل وحده، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 الإنسان، ونَسَبه، وشرط هذا العقد رضا المتعاقدين كسائر العقود الصحيحة، ولكنه يسمو عليها جميعًا بما أفرغه الله عليه من صبغة" الميثاق الغليظ"، ويكفي في الدلالة على ذلك التكريم أن كلمة " الميثاق، لم ترد في القرآن الكريم إلا تعبيرا عن المعاهدة بين الله وعباده، قال تعالى: (واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به) الآية (المائدة: 7) في موجبات التوحيد. ولم يرد وصف الميثاق، بالغليظ إلا في عقد الزواج (وأخذن منكم ميثاقا غليظًا) (النساء: 29) ، وفيما أخذه الله على أنبيائه من مواثيق، قال تعالى: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) ] (532) اهـ. فضل الزوجة الصالحة بناء الأسرة هو أخطر بناء في كيان المجتمع، بل في كيان الأمة بأسرها، فإذا كان الناس يعنون عند إقامة أبنيتهم من الأحجار، باختيار الموقع المناسب، وتحري الخامات الجيدة، التي تكفل سلامة البناء، وتضمن بقاءه إلى حين، إذا كان هذا هو شأن الناس في إقامة الأبنية المكونة من الأحجار والطين، فإن بناء الأسر المكونة من الرجال والنساء والبنين أولى بالدقة عند الاختيار، وأجدر بالتقصي والاستفسار، لأن بناء الأحجار يتعلق بشئون الدنيا وهي فانية، وبناء الأسرة يتعلق بسعادة الدنيا، ويمتد أثره إلى الآخرة، وهي دار القرار. (إن البيت قلعة من قلاع هذه العقيدة، ولابد أن تكون القلعة   (532) من "تفسير القرآن الكريم" للشيخ محمود شلتوت، ص (173 -174) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 متماسكة من داخلها، حصينة في ذاتها، وكل فرد من أفراده يقف على ثغرة كيلا ينفذ منها العدو، أو يقتحمها العسكر، وواجب المسلم أن يؤمن هذه القلعة من داخلها، واجبه أن يسد الثغرات فيها قبل أن يذهب عنها بدعوته بعيدا. والأب المسلم لا يكفي وحده لتأمين القلعة، فلابد أيضًا من الأم المسلمة، ليقوما معًا على تربية الأبناء والبنات) اهـ (533) . (هذا أمر ينبغي أن يدركه الدعاة إلى الإسلام، وأن يعوه جيدًا: إن أول الجهد ينبغي أن يوجه إلى البيت، إلى الزوجة، إلى الأم، ثم إلى الأولاد، وإلى الأهل بعامة؛ يجب الاهتمام البالغ بتكوين المسلمة لتنشئ البيت المسلم، وينبغي لمن يريد بناء بيت مسلم أن يبحث له أولا عن الزوجة المسلمة، وإلا فسيتأخر بناء الجماعة الإسلامية، وسيظل البنيان متخاذلا كثير الثغرات) (534) اهـ. والإسلام في هذه الناحية - شأنه في كل شيء - لا يقيم وزنًا للمظاهر، وإنما يعني دائما بالجوهر الأصيل، لأن الله تعالى لا ينظر إلى الصور والأموال، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال، فالعبرة في الخصال لا الأشكال، وفي الخلال لا الأموال: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رُبَّ أشعثَ أغبرَ ذي طِمْرَينِ، تنبو عنه أعينُ الناس، لو أقسم على الله لأبرهُ " (535) .   (533) من" منهج التربية النبوية للطفل" لمحمد نور سويد ص (29) . (534) السابق، نقلا من " دستور الأسرة في ظلال القرآن" ص (112) . (535) رواه مسلم رقم (2622) في البر والصلة: باب فضل الضعفاء والخاملين، وفي صفة الجنة، ونعيم أهلها، ورواه الحاكم في " المستدرك" واللفظ له (4/328) : وقال: " هذا حديث صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي، والطمرُ: الثوب الخلَق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 من أجل ذلك رغب الإسلام الرجل في تحري أن تكون زوجته صالحة ذات دين، وجعل ذلك هو الأصل الذي ينبغي الاعتناء به ضمن الخصال المرغوبة فيها، فإنها إن كانت ضعيفة الدين في صيانة نفسها، أزرت بزوجها، وسودت بين الناس وجهه، وشوهت بالغيرة قلبه، وتنغص بذلك عيشه. لقد بالغ الرسول صلى الله عليه وسلم في الحث على ذات الدين لأن مثل هذه المرأة تكون عونًا على أعظم أمر يهم المسلم، ألا وهو الدين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شَطْر دينه، فليتق الله في الشطر الثاني " (536) . وعن ثوبان رضي الله عنه قال: " لما نزلت (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) التوبة (34) ، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فقال بعض أصحابه: " أنزِلَت في الذهب والفضة، لو علمنا أي المال خير فنتخذه؟ "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفضله لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة مؤمنة تُعِينُهُ على إيمانه " (537)) . وقال بعضهم في نظم هذا المعنى:   (536) رواه الحاكم في "المستدرك" (2/161) ، وقال: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي، وعزاه الهيثمي في " المجمع " إلى الطبراني في " الأوسط" (4/272) ، وانظر: " كشف الخفاء" للعجلوني (2/239) ، وراجع حاشية رقم (517) . (537) أخرجه الإمام أحمد (5/278) ، والترمذي (3093) في التفسير: سورة التوبة، وصححه الألباني في " صحيح الجامع" رقم (5231) ، وزاد عزوه إلى ابن حبان عن علي رضي الله عنه، وأبي نعيم في الحلية"، والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 من خير ما يتخذ الإنسان في ... دنياه كيما يستقيمَ دينُهْ قلب شكور ولسان ذاكر ... وزوجة صالحة تُعِينُه وعن سعد رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة من السعادة، وثلاثة من الشقاء، فمن السعادة: المرأة الصالحة؛ تراها فَتُعجِبُكَ، وتغيب عنها فتأمنُها على نفسِها ومالك) (538) الحديث. وعنه رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، وأربع من الشقاء: الجار السوء، والمرأة السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيق" (539) . وعن محمد بن واسع قال مسلم بن يسار: (ما غبطت رجلًا بشيء ما غبطته بثلاث: زوجة صالحة، وبجار صالح، وبمسكن واسع " (540) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " أي النساء خير؟ "، قال: " التي تسُره إذا نظر، وتُطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في   (538) وتتمته: (والدابة تكون وطيئة؛ فتُلحِقك بأصحابِك، والدار تكون واسعة كثيرةَ المرافق، ومن الشقاء: المرأة، تراها فتسوؤك، وتحمل لسانها عليك، وإن غِبْتَ عنا لم تأمنْها على نفسِها ومالِك، والدابة تكون قطوفٍا، فإن ضربتها أتعبتك، وإن تركتها لم تُلْحِقك بأصحابك، والدار تكون ضيقة قليلةَ المرافق) رواه الحاكم في " المستدرك" (2/162) ، وصححه، وحسنه الألباني في " صحيح الجامع" (3/70) رقم (3051) ، والقطوف: الضيقة المشي. (539) رواه ابن حبان (1232) ، وصححه الألباني على شرط الشيخين كما في " الصحيحة" رقم (282) ، وبنحوه الإمام أحمد (1/168) ، وفيه محمد بن أبي حميد، قال الحافظ في " التقريب": (ضعيف) . (540) ذكره ابن الجوزي في "أحكام النساء" ص (116) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 نفسِها ولا مالِها بما يكره " (541) . وعنه رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تُنكَح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تَرِبَتْ يداك " (542) . قال في " عون المعبود": (يؤخذ من الأحاديث استحبابُ تزوج الجميلة، إلا إذا كانت الجميلة غيرَ دَيّنة، والتي أدنى منها جمالًا متدَينة، فتُقدم ذاتُ الدين، أمَّا إذا تساوتا في الدين، فالجميلة أولى) (543) اهـ.   (541) رواه النسائي (2/72) ، والحاكم (2/161) ، والإمام أحمد (2/251، 432، 438) ، وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ العراقي: " سنده صحيح" اهـ من" المغني عن حمل الأسفار" (4/715) ، وقال: " ولأبي داود نحوه من حديث ابن عباس بسند صحيح " اهـ.، وحسنه الألباني في " الصحيحة" رقم (1838) . (542) رواه البخاري (9/115) في النكاح: باب الأكفاء في الدين، ومسلم رقم (1466) في الرضاع: باب استحباب نكاح ذات الدين، وأبو داود رقم (2047) في النكاح: باب ما يؤمر به من تزويج ذات الدين، والنسائي (6/68) في النكاح: باب كراهية تزويج الزناة، وقوله صلى الله عليه وسلم: " تربت يداك " يعني: (التصقت بالتراب، من الدعاء، وهذا الدعاء وأمثاله كان يرد من العرب، ولا يريدون به الدعاء على الإنسان، إنما يقولونه في معرض المبالغة في التحريض على الشيء، والتعجب منه، ونحو ذلك) كذا قال ابن الأثير في " جامع الأصول" (11/430) ، وانظر: " عون المعبود" (6/40) . (543) " عون المعبود" (6/42) ، وانظر: " فتح الباري" (9/135) ، ومما ينبغي التنبيه إليه أن: (هناك فكرة مغلوطة يُلبس إبليس بها على بعض الشباب، فقد يرى الواحد منهم فتاة يروقه جمالُها، ولكنها ليست ذات دين، فيدعي أنه يريد من وراء الزواج منها أن يصلحها، وهذه الفكرة خطرة، وغير مأمونة ولا مضمونة، فقد رأينا في الحياة الواقعية أن بعض الشباب كانوا يريدون الإصلاح، فأفسدتهم تلك = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 وعلق القاضي ناصر الدين البيضاوي رحمه الله تعالى على قوله صلى الله عليه وسلم: " فاظفر بذات الدين" قائلًا: " إن اللائق بذوي المروءات، وأرباب الديانات، أن يكون الدين مطمح نظرهم في كل شيء، لا سيما فيما يدوم أمره، ويعظم خطره، فلذا اختاره النبي صلى الله عليه وسلم، وأبلغه، فأمر بالظفر به، الذي هو في غاية البغية، ومنتهى الاختيار والطلب، الدال على تضمن المطلوب لنعمة عظيمة، وفائدة جليلة " (544) اهـ. ويؤكد صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله فيما رواه عنه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: " الدنيا كلها متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة" (545) ، أي أن الدنيا متاع زائل، وخير ما فيها من هذا المتاع: المرأة الصالحة، لأنها تُسْعِد صاحبها في الدنيا، وتعينه على أمر الآخرة، وهي خير وأبقى. وقد روي أن أبا الأسود الدؤلي قال لبنيه: " يا بنيَّ: قد أحسنت إليكم صغارًا، وكبارًا، وقبل أن تُولدوا! "، قالوا: " كيف أحسنتَ إلينا قبل أن نولد؟ "، قال: (اخترت لكم من الأمهاتِ من لا تُسَبُّونَ بها " (546)) . وشكا رجل لصديقه عقوق ولده له، وسوء معاملته، ودناءة طبعه، فقال: " لا تَلم أحدًا، ولكن توجه باللوم إلى نفسك، لأنك لم تتخير أمه "، وقديمًا قال الناس: " كادت المرأة أن تلد أخاها " (*) .   = الزوجة) اهـ. من (نظرات في الأسرة المسلمة) لفضيلة الدكتور محمد الصباغ حفظه الله ص (36) . (544) " إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" (8/22) . (545) أخرجه الإمام أحمد (2/268) ، ومسلم رقم (1467) في الرضاع، والنسائي (6/69) في النكاح، وابن ماجه رقم (1855) ، والبيهقي (7/80) في النكاح. (546) " أدب الدنيا والدين" ص (82) . (*) نظرات في الأسرة المسلمة" ص (143) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 (وقال الأصمعي: " ما رفع أحد نفسه - بعد الإيمان بالله تعالى - بمثل مَنكح صِدْقٍ، ولا وضع نفسه بعد الكفر بالله تعالى - بمثل منكح سوء ") (547) . وقال الشاعر: وليس النبتُ يَنْبُتُ في جِنانٍ ... كمثل النبت ينبت في الفلاة وهل يرجَى لأطفالٍ كمال ... إذا ارتضعوا ثُدِي الناقصات (548) وقال الإمام ابن عبد القوى في " منظومة الآداب": وخير النسا من سَرَّتِ الزوجَ منظرا ... ومن حفِظته في مغيب وَمشهَدِ قصيرةُ ألفاظ قصيرةُ بيتها ... قصيرةُ طرفِ العين عن كُلِّ أبعَدِ عليك بذاتِ الدين تظفر بالمنى الـ ... وَدُودِ الوَلودِ الأصلِ ذاتِ التعبد (549) ولله دَر من قال: سعادةُ المرءِ في خمس إذا اجتمعت ... صلاح جيرانه والبر في ولده وزوجة حسنت أخلاقها، وكذا ... خل وفي، ورزق المرء في بلده (550)   (547) " مرآة النساء فيما حسن منهن وساء " ص (160) . (548) "أستاذ المرأة " ص (132) بتصرف. (549) انظر: " غذاء الألباب بشرح منظومة الآداب" (2/342-350) . (550) " مرآة النساء" ص (21) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 [فصل] الكفاءة في الزواج الكفاءة: هي المساواة، والمماثلة، والكفء والكفاء: المثيل والنظير، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " المسلمون تتكافأ دماؤهم " (551) ، أي تتساوى، فيكون دم الوضيع منهم كدم الرفيع. والمقصود بالكفاءة في الزواج: " المماثلة بين الزوجين، دفعا للعار في أمور مخصوصة، هي عند المالكية: الدين، والحال (552) ، وعند الجمهور: " الدين، والنسب، والحرية، والحرفة (أو الصناعة) ، وزاد الحنفية والحنابلة: اليسار (أو المال) . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (واعتبار الكفاءة في الدين متفق عليه، فلا تحل المسلمة لكافر أصلًا) (553) اهـ. وأهل الكفر بعضهم أكفاء لبعض، لأن اعتبار الكفاءة لدفع النقيصة، ولا نقيصة أعظم من الكفر. وقد اختلف العلماء فيما تعتبر الكفاءة فيه: فقد ذهب الجمهور إلى أن الكفاءة معتبرة في الاستقامة والصلاح (554) ،   (551) صدر حديث رواه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أبو داود رقم (4531) في الديات: باب إيقاد المسلم بالكافر؟ ، وغيره، وصححه الألباني في " إرواء الغليل " (7/265) . (552) ومقصودهم بالحال: السلامة من العيوب التي توجب لها الخيار. (553) " فتح الباري" (9/132) . (554) فالفاسق ليس بكفء للعفيفة، لأن التعيير بالفسق أشد وجوه التعيير، ولأن = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 والنسب، والحرية، والحرفة، والمال، وإنما كان مقصودهم بهذا توفير دواعي الاستقرار والانسجام في الأسرة، وتجنب دواعي الشقاق والضرر والتنغيص، (ولأن النكاح يعقد للعمر، ويشتمل على أغراض ومقاصد: كالازدواج، والصحبة، والألفة، وتأسيس القرابات، ولا ينتظم ذلك عادة إلا بين الأكفاء) (555) . وقد جزم بأن اعتبار الكفاءة مختص بالدين مالك، ونقل عن ابن عمر وابن مسعود، ومن التابعين عن محمد بن سيرين، وعمر بن عبد العزيز. فقد ذهب هؤلاء العلماء، ومن وافقهم إلى أن الكفاءة معتبرة بالاستقامة والخلق فقط، ولا اعتبار لنسب (556) ، ولا لصناعة، ولا لغنى، ولا لشيء آخر ... فيجوز للرجل الصالح الذي لا نسب له، أن يتزوج المرأة النسيبة، ولصاحب الحرفة الدنيئة أن يتزوج المرأة الرفيعة القدر، ولمن لا جاه له أن يتزوج صاحبة الجاه والشهرة، وللفقير أن يتزوج المثرية الغنية- ما دام مسلمًا عفيفًا -، وأنه ليس لأحد من الأولياء الاعتراضُ، ولا طلب   = الفاسق مردود الشهادة والرواية، وغير مأمون الجانب على النفس والمال، ناقص عند الله وعند خلقه، فلا يجوز أن يكون كفئا ولا مساويًا للصالحة، خلافا لما ذهب اليه ابن حزم رحمه الله حيث قال: " والفاسق الذي بلغ الغاية من الفسق المسلم- ما لم يكن زانيا- كفء للمسلمة الفاضلة، وكذلك الفاضل المسلم كفء للمسلمة الفاسقة ما لم تكن زانية" اهـ. من " المحلى" (10/24) ، وخلافًا أيضًا لمحمد بن الحسن رحمه الله حيث قال: " إن الفسق لا يمنع الكفاءة، إلا إذا كان صاحبه متهتكا يصْفَع، ويُسْخَر منه، أو يخرج إلى الأسواق سكران؛ لأن الفسق من أحكام الآخرة، فلا تبتني عليه أحكام الدنيا" اهـ. نقلًا من: " الفقه الإسلامي وأدلته، (7/241) . (555) انظر: " إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري " للقسطلاني (8/19) . وقد مَال الحافظ في "الفتح": (ولم يثبت في اعتبار الكفاءة بالنسب حديث) اهـ. (9/133) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 التفريق، وإن كان غير مستوٍ في الدرجة مع الولي الذي تولى العقد، ما دام الزواج كان عن رضي منها، فإذا لم يتوفر شرط الاستقامة عند الرجل، فلا يكون كفؤا للمرأة الصالحة..، ولها الحق في طلب فسخ العقد، إذا كانت بكرا، وأجبرها أبوها على الزواج من الفاسق. قال في " بداية المجتهد ": (ولم يختلف المذهب- أي المالكي- أن البكر إذا زوجها الأب من شارب الخمر، وبالجملة من فاسق، أن لها أن تمنع نفسها من النكاح، وينظر الحاكم في ذلك، فيفرق بينهما، وكذلك إذا زوَّجها مِمَّن ماله حرام، أو ممن هو كثير الحلف بالطلاق) (557) اهـ. واستدل أصحاب هذا المذهب بأدلة: منها: قوله عز وجل: (والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات) النور (26) . ومنها قوله جل وعلا: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) التوبة (71) . ومنها: قوله تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات: (13) قالوا: فالمسلمون جميعا أكفاء للمسلمات. ومنها: قول الله عز وجل: (إنما المؤمنون إخوة) الحجرات (10) ، فأهل الإسلام إخوة. ومنها: قوله سبحانه بعد ما ذكر ما حرم علينا من النساء: (وأحل لكم ما وراء ذلك) النساء (241) . وقوله تعالى: مخاطباً جميع المسلمين: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) النساء (3) .   (557) " بداية المجتهد" (2/16) ، وانظر: " الفتاوى الخانية " (1/443) ، "فتح القدير (2/442) ، " الشرح الكبير" (2/345) ، "الروضة" (7/370) ، " المجموع" (15/326) ، " كشاف القناع، (5/148) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 ومنها: قوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخِيَرةُ من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينًا) الأحزاب (36) . قال القرطبي رحمه الله: (في هذه الآية دليل بل نص في أن الكفاءة لا تعتبر في الأحساب، وإنما تعتبر في الأديان، خلافًا لمالك والشافعي والمغيرة وسحْنون، وذلك أن الموالي تزوجت في قريش، تزوج زيد زينب بنت جحش، وتزوج المقداد بن الأسود ضباعة بنت الزبير، وزوج أبو حذيفة سالمًا من فاطمة بنت الوليد بن عتبة، وتزوج بلال أخت عبد الرحمن بن عوف) (558) اهـ. فهكذا كان شأن التزوج في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يعرج أحد منهم على الكفاءة في النسب، بل هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما استشارته فاطمة بنت قيس في معاوية وأبي الجهم أمرها أن تنكح أسامة (559) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خطب إليكم مَنْ ترضَوْنَ دينه وخلقه، فزوجوه، إن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض) (560) . وقال القرطبي رحمه الله: (الكفاءة في النكاح معتبرة؟ واختلف العلماء هل في الدين والمال والحسب، أو في بعض ذلك؟ والصحيح جواز نكاح الموالي للعربيات والقرشيات؛ لقوله تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) .   (558) " الجامع لأحكام القرآن " (14/187) ، وانظر الحاشية رقم (858) . (559) كما رواه مسلم (4/195) في الطلاق. (560) أخرجه الترمذي" (1/201) ، وابن ماجه (1967) ، والحاكم (2/164-165) ، وحسنه الألباني لشواهده كما في" الإرواء" (6/266) رقم (1868) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 وقد جاء موسى إلى صالحِ مدين غريبًا طريدا خائفًا وحيدًا جائعًا عريانًا فأنكحه ابنته لما تحقق من دينه، ورأى من حاله، أعرض عما سوى ذلك) (561) اهـ. قال ابن القيم رحمه الله: (والذي يقتضيه الحكم اعتبار الدين في الكفاءة أصلًا وكمالا، فلا تزوج عفيفة لفاجر، ولم يعتد القرآن والسنة في الكفاءة أمرا وراء ذلك) (562) اهـ. فليتق الله أناس هان عليهم دينهم، فلا يبالون بتزوج بناتهم الصالحات ممن هم عن الدين معرضون، وللصلاة مضيعون، وبالمنكر آمرون، وعن المعروف ناهون، إيثارًا لأعراض الدنيا ومتاعها الزائل، وليعلموا أنهم بين يدى ربهم موقوفون، وعن فتنتهم بناتهم مسئولون (وسيعلمُ الذين ظلموا أي منقلب يقلبون) . عن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه، أحفِظ ذلك أم ضيعه؟ حتى يسألَ الرجل عن أهل بيته " (563) . وعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من عبد يسترعيه الله رعية، فلم يحطها بنصحه، إلا لم يجد رائحة الجنة " (564) .   (561) " الجامع لأحكام القرآن " (13/278) . (562) " زاد المعاد" (5/159) . (563) انظر الحاشية رقم (741) . (564) رواه البخاري (13/112) في الأحكام: باب من استرعى رعية فلم ينصح، ومسلم رقم (142) في الإيمان، وفي الإمارة، والإمام أحمد في " المسند " (5/25، 27) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 وعن الشعبي قال: "من زَوَّج كريمته من فاجر، فقد قطع رحمها " (565) . ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته الجامعة بمنى في أوسط أيام التشريق: " يا أيها الناس: ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى " (566) . وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أيها الناس: إن الله قد أذهب عنكم عُبيةَ الجاهلية، وتعاظمها بآبائها؛ فالناس رجلان: بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله، والناس بنو آدم، وخلق الله آدمَ من تراب " الحديث (567) . وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ عليه رجل، فقال: " ما تقولون في هذا؟ "، قالوا: (حَري إن خطب أن يُنْكَح، وإن شفع أن يُشَفع، وإن قال أن يُسْتَمَعَ "، ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال صلى الله عليه وسلم: " ما تقولون في هذا؟ "، قالوا: " حَرِيُّ إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يستمع "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا خير من ملء الأرض مثلَ هذا " (568) . وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم   (565) ذكره شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى، (32/120) . (566) رواه عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الإمام أحمد في " مسنده" (5/411) ، وصححه محققا " زاد المعاد" (5/158) . (567) رواه الترمذي رقم (3270) ، كتاب تفسير القرآن: باب " ومن سورة الحجرات "، وقال: " هذا حديث غريب"، وحسنه الألباني في " صحيح الجامع" (6/271) ، وعُبية الجاهلية: هي الكبر، وتضم عينها وتكسر. (568) رواه البخاري رقم (5091) في النكاح: باب الأكفاء في الدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 جهارا غير سِر يقول: " إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالحو المؤمنين " (569) ، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: (إن أوليائي يوم القيامة المتقون، وإن كان نسب أقرب من نسب " (570) الحديث. والإسلام إذ يقيم الوزن الأرجح للكفاءة في الدين، لا يحول - إذا أمكن - دون ابتغاء ما دونها من كفاءات أخرى، معنوية كانت أم مادية، أما إذا فقدت الكفاءة في الدين، فلن تعوضها أي كفاءة أخرى، في حين أن الدين عِوَض عن كل ما عداه. عليك بتقوى الله في كل حالة ... ولا تترك التقوى اتكالًا على النسب فقد رفع الإسلام سلمان فارس ... وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب ومن ثم: فإنه يجوز للفقير اًن يتزوج الغنية، وللمولى أن يتزوج الشريفة القرشية، وللرجل الكبير أن يتزوج الصغيرة الصبية، لكن لا يجوز للفاسق ومفقود العدالة أن يتزوج الصالحة التقية، مهما توفرت له مقومات الكفاءة في الحسب والنسب والجاه والمال، لأنه يُؤثر عليها في دينها وخلقها (571) . * * * فصل نص القرآن الكريم على تحريم نكاح الزانية، فقال تبارك وتعالى:   (569) أخرجه البخاري (10/351، 352) في الأدب: باب تبل الرحم ببلالها، ومسلم رقم (215) في الإيمان: باب موالاة المؤمنين، وأحمد (4/203) . (570) أخرجه البخاري في (الأدب المفرد" رقم (897) ، وحسنه محققا "زاد المعاد" (5/158) . (571) وانظر: " الفقه الإسلامي وأدلته" (7/247 - 248) ، و " سلسلة الأحاديث الصحيحة ط حديث رقم (1067) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك وحُرم ذلك على المؤمنين) النور (3) . ومما يدل على تحريم مناكحة الزانيات أن الله تعالى أحل نكاح النساء بشرط الإحصان، فقال عز وجل: (اليومَ أحِلَّ لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حِل لكم وطعامكم حِل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) المائدة: (5) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (" والمحصنات " قد قال أهل التفسير: هن العفائف، هكذا قال الشعبي، والحسن، والنخعي، والضحاك، والسدي) (572) اهـ، وقال الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله: (إنما أباح نكاح الحرائر والإماء بشرط الإحصان، وهو العفة، فقال: (فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان) فإنما أباح نكاحها في هذه الحالة دون غيرها، وليس هذا من باب دلالة المفهوم، فإن الأبضاع في الأصل على التحريم، فيقتصر في إباحتها على ما ورد به الشرع، وما عداه، فعلى أصل التحريم) (573) اهـ. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه: (أن مَرْثَد ابن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكة، وكان بمكة بَغيٌّ يقال لها: " عَنَاق " وكانت صديقته، قال: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: " يا رسول الله، أنكح عناق؟ "، قال: فسكت عني، فنزلت: (والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك) (النور: 3) فدعاني، فقرأها عَلَيَّ، وقال: " لا تنكحها " (574) .   (572) "مجموع الفتاوى " (32/121) . (573) " زاد المعاد " (4/7) . (574) رواه أبو داود رقم (2051) في النكاح: باب قوله تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية) ، واللفظ له، والترمذي رقم (3176) في التفسير: باب ومن سورة = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ينكح الزاني المجلودُ إلا مثلَه " (575) . قال الحافظ ابن القيم رحمه الله: (أما نكاح الزانية فقد صرح الله بتحريمه في سورة النور، وأخبر أن من ينكحها فهو زانٍ أو مشرك، فإنه إما أن يلتزم حكمه سبحانه، ويعتقد وجوبه، أوْ: لا، فإن لم يلتزمه، ولم يعتقده، فهو مشرك، وان التزمه، واعتقد وجوبه، وخالفه، فهو زان، وأيضا فإنه سبحانه قال: (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات) النور (26) ، والخبيثات: الزواني، وهذا يقتضي أن من تزوجهن خبيث مثلُهن) (576) اهـ. * * *   = النور، وقال: " حسن غريب "، والنسائي (6/66) في النكاح: باب تزويج الزانية، والحاكم (2/ 396) ، وصححه، والبيهقي (7/153) ، وصححه الألباني في " الإرواء " رقم (1886) . (575) رواه أبو داود رقم (2052) في النكاح، والإمام أحمد (2/324) ، وقال الحافظ في " بلوغ المرام " رقم (1029) : " إسناده حسن"، وانظر: " نيل الأوطار" (6/145) ، وقال الشنقيطي رحمه الله: (إن أظهر قولي العلماء عندي أن الزانية والزاني إن تابا من الزنا، وندما على ما كان منهما، ونويا ألا يعودا إلى الذنب، فإن نكاحهما جائز، فيجوز له أن ينكحها بعد التوبة، ويجوز نكاح غيرهما لهما، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، لقوله تعالى: (إلا من تاب وءامن وعمل عملًا صالحًا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما) (الفرقان: 70) ، فالتوبة من الذنب تُذْهِبُ أثره، أما من قال: إن مَن زنى بامرأة لا تحل له مطلقا ولو تاب، فقولهم خلافُ التحقيق) اهـ من (أضواء البيان" (6/83) ، وانظر: "المغني" (6/601 - 603) ، " مجموع الفتاوى" (32/110) ، (32/145) . (576) " زاد المعاد" (5/114) ، وانظر: " التدابير الواقية من الزنا) للدكتور فضل إلهي ص (196: 192) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 فصل وأما الأدلة على عدم اعتبار المال في الكفاءة: فمنها: قوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) النور (32) فهذه الآية دليل على تزويج الفقير الصالح التقي دون مبالاة بفقره، على وعد من الله عز وجل بأنه سيغنيهم من فضله، قال صلى الله عليه وسلم: " حق على الله عون من نكح التماس العفاف عما حَرم الله ط (577) . قال القسطلاني رحمه الله: (فالمعسر كفء للموسرة، لأن المال غادٍ ورائح، ولا يفتخر به أهل المروءات والبصائر) (578) . فالمال ظل زائل، وحال حائل، ومال مائل، وقد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة التي جاءت لتهب نفسها له، من رجل ليس له سوى إزار واحد (579) ، وزوَّج صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة عليها السلام إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو أشد ما يكون فقرا، وآثره بها على غيره من أشراف قريش (580) . و (حجم أبو هند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " يا بني بَياضة أنكحوا أبا هند، وأنكحوا إليه) (581) . ألا إنما التقوى هي العز والكرمْ ... وحبك الدنيا هو الذل والسقم وليس على عبد تقي نقيصة ... إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم   (577) انظر تخريجه في: " القسم الثالث" ص (64) . (578) "إرشاد الساري" (8/24) . (579) انظر " فتح الباري" (9/131) . (580) " البداية والنهاية" (3/346) ، و" ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، للمحب الطبري ص (27) . (581) أخرجه أبو داود رقم (2102) ، وصححه الحاكم (2/164) ، ووافقه الذهبي، = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 أما أهل الدنيا فإنهم يجعلون المال حسبهم الذي يسعون إليه، فصاحب المال فيهم عزيز كيفما كان، والمقل عندهم وضيع، ولو كان ذا نسب رفيع، فعن أبي بريدة عن أبيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أحساب أهل الدنيا الذي يذهبون إليه المالُ " (582) . وقال الشاعر: غنينا (835) زمانا بالتصعلك والفقر ... وكُلا سقاناه بكأسَيْهِما الدَّهْرُ فما زادنا بَغْيًا على ذِي قَرابَةٍ ... غِنانا، ولا أزْرَى بأحسابِنا الفقرُ آخَر: ما يصنع العبدُ بعِز الغني ... والعِزُّ كُلُّ العِز للمُتقي من عرف الله فلم تُغْنِهِ ... معرفةُ الله فذاك الشقي   = وحسنه الحافظ في " تلخيص الحبير" (3/188) . (582) رواه النسائي (6/64) في النكاح، وابن حبان رقم (1233) - موارد، والدارقطني (3/304) ، والحاكم (2/163) ، والبيهقي (7/135) ، والإمام أحمد (5/361) ، وصححه الألباني في " الإرواء" رقم (1870) ، وقال الحافظ في "الفتح": (والحسب هو الشرف بالآباء والأقارب، مأخوذ من الحساب، لأنهم كانوا إذا تفاخروا، عددوا مناقبهم، ومآثر آبائهم وقومهم، وحسبوها، فيُحكم لمن زاد عدده على غيره. ويؤخذ من الأحاديث في ذلك أن الشريف النسيب يشحب له أن يتزوج بذات حسب ونسب مثله، إلا إن تعارض نسيبة غير دينة، وغير نسيبة دينة، فتُقَدم ذات الدين، وهكذا في سائر الصفات) اهـ. (9/ 135) ، وانظر: " الفقه الإسلامي وأدلته، ص (243) . (583) غنينا: أقمنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 فوائد الأولى: اعلم أن الفقهاء الذين تشددوا في اشتراط الكفاءة، وتوسعوا فيه، قالوا: " الرجل العالم هو كفء لكل امرأة، مهما كان نسبها، وإن لم يكن له نسب معروف، وذلك لأن شرف العلم دونه كل نسب، وكل شرف: قال الله تعالى: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) الزمر (10) ، وقال جل وعلا: (يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) المجادلة (11) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: " من أكرم الناس؟ "، فقال: " يوسف بنُ يعقوب بن إسحاق بنِ إبراهيم "، قالوا: " ليس عن هذا نسألك "، قال: " فأكرمهم عند الله أتقاهم "، فقالوا: " ليس عن هذا نسألك "، فقال: " عن معادن العرب؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا " (584) . وبعد ما ذكر بعض الفقهاء جملة من المهن الدنيئة المعتبرة عندهم في الكفاءة، قال- لله دَره -: (وأما أتباع الظلمة: فَأخسُّ من الكل) اهـ (585) . الثانية: اعلم أن الكفاءة في الزواج - عند من اشترطها - معتبرة في الزوج دون الزوجة، أي أن الرجل هو الذي يشترط فيه أن يكون كفؤًا للمرأة، ولا يشترط أن تكون المرأة كفؤا للرجل (586) ، ودليل ذلك:   (584) رواه البخاري (6/298) في الأنبياء، وفي تفسير سورة يوسف، ومسلم رقم (2526) في فضائل الصحابة: باب خيار الناس. (585) " الفقه الإسلامي وأدلته" (7/247) . (586) انظر: " حقوق المرأة في الزواج " للشيخ محمد بن عمر الغروي ص (329) وما = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 أولا: ما رواه أبو بردة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وآمن بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، والعبد المملوك إذا أدَّى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة فأدبها، فأحسن تأديبها، وعلمها، فأحسن تعليمها، ثم أعتقها، فتزوجها، فله أجران " (587) . ثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا مكافئ له في منزلته، وقد تزوج من أحياء العرب، وتزوج من صفية بنت حُيي، وكانت يهودية، وأسلمت رضي الله عنها. ثالثاً: أن الزوجة الرفيعة المنزلة، هي التي تُعَير هي وأولياؤها عادة، إذا تزوجت من غير الكفء، بخلاف الزوج الشريف، فلا يعيَّر إذا كانت زوجته دونه في المنزلة. الثالثة: اعلم أن مذهب الجمهور أن وجود الكفاءة إنما يعتبر عند إنشاء العقد ولا يضر زوالُها بعدَه، فإذا تخلف وصف من أوصافها بعد العقد، فإن ذلك لا يضر، ولا يغير من الواقع شيئًا، ولا يؤثر في عقد الزواج، لأن شروط عقد الزواج إنما تعتبر عند العقد، فإن كان عند الزواج صاحبَ حرفة شريفة، أو كان قادرًا على الإنفاق، أو كان صالحا، ثم تغيرت الأحوال،   = بعدها، و " الفقه الإسلامي وأدلته" (7/233، 239) . (587) رواه البخاري (5/126، 127) في العتق: باب العبد إذا أحسن عبادة ربه، ونصح سيده، وفي العلم، والجهاد، والأنبياء، والنكاح، ومسلم رقم (154) في الإيمان: باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته، والترمذي رقم (1116) في النكاح: باب ما جاء في فضل من يعتق أمَته ثم يتزوجها، والنسائي (6/115) واللفظ له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 فاحترف مهنة دنيئة، أو عجز عن الإنفاق، أو فسق عن أمر ربه بعد الزواج، فإن العقد باقٍ على ما هو عليه، فإن الإنسان قد لا يدوم على حال واحدة، وعلى المرأة أن تصبر، وتتقي، فإن ذلك من عزم الأمور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 [فصل] الزوجية بين الحقوق والواجبات والآداب الزواج كغيره من العقود، ينشئ بين العاقدين الزوجين حقوقا وواجبات متبادلة، عملًا بمبدأ التوازن، والتكافؤ، وتساوي أطراف العقد الذي يقوم عليه كل عقد. والحقوق الزوجية التي نتكلم عنها ليست مجرد وصايا ينفذها الزوجان بدافع الوجدان المحض كالصدق، والاحترام وغيرهما، أو السلوك الذي يعتمد على المميزات الشخصية، وإنما نريد بالحقوق الزوجية ما يلزم به كل من الزوجين تجاه الآخر من حقوق يحميها القانون الإسلامي، وتتدخل السلطة لإجبار من أخل بشيء منها على أدائه كاملًا لشريكه في الحياة الزوجية، ذلك لأن النفوس جبلت على الشح في المسائل المادية، وما يتصل بها، فنصت الشريعة على هذه الحقوق، وجعلتها لازمة بحكم القضاء دعمًا للاستقرار العائلي، فإن الدافع الأول لأداء الحقوق هو تلك المزايا الشخصية التي يتحلى بها الزوجان من سعة الصدر والأناة والمداراة والتلطف تحركها عوامل المودة والرحمة (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآياتٍ لقوم يتفكرون) الروم (21) . وفي الحقيقة أنا "المَوَدَّة" بما تدل عليه من تقرب كلٍّ إلى الآخر، والتلطف معه، و " الرحمة" بما تشعر من حرص كل من الزوجين على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 مصلحة صاحبه، والرفق به، والإشفاق عليه من كل سوء ومكروه، هما عماد البيت الذي يبقي على سكينة النفس، ويجعلها حقيقة مُدْرَكة في الحياة، وهما دستور المعاشرة بين الزوجين التي تجعل كلا منهما يشعر أنه متمم للآخر، وأنه هو مُتَمَّم به أيضا، فإذا بالرجل والمرأة الغريبين عن بعضهما المتباعدين من قبل، يتقاربان هذا التقارب، ويتحابان محبة تجعل كلا منهما أقرب إلى الآخر من أبيه وأمه! فإذا وجد مع ذلك كله القضاء الشرعي الملزم، كان أدعى لسكون النفس، ومنعها أن تنزع إلى التمرد، أو التخفف من بعض المسئوليات، فإن نزعت، لجأ الطرف الآخر لقوة القضاء يلزمه بالتنفيذ وأداء الحق كاملا.. ولقد قرر القرآن الكريم هذه الحقوق في قاعدة تشريعية دقيقة هي قوله تعالى: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة) . حقوق الزوجين متبادلة: فالآية نصت على أن الحقوق بين الزوجين متبادلة، طبقا لمبدأ: " كل حق يقابله واجب"، فكل حق لأحد الزوجين على زوجه يقابله واجب يؤديه إليه، وبهذا التوزيع تكفلت هذه القاعدة أن تحقق التوازن بين الزوجين من كافة النواحي، مما يدعم استقرار حياة الأسرة، واستقامة أمورها. (قال ابن عباس رضي الله عنهما: " أني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي، وما أحب أن أستنظف (588) كل حقي الذي لي عليها فتستوجب حقها الذي لها عَلي؛ لأن الله تعالى قال:   (588) استنظفت الشيء: إذا أخذته كله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) أي زينة من غير مأثم "، وعنه أيضًا: " أي لهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن مثل الذي عليهن من الطاعة فيما أوجبه عليهن لأزواجهن "، وقال ابن زيد: " تتقون الله فيهن كما عليهن أن يتقين الله عز وجل فيكم". قال القرطبي: " الآية تعم جميع ذلك من حقوق الزوجية ") (589)) .   (589) انظر: " الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي (3/123 - 124) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 أولا: الحقوق والآداب المشتركة بين الزوجين الحق الأول: غض الطرف عن الهفوات والأخطاء، وخاصة غير المقصود منها السوء في الأقوال والأفعال، وقد روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كُل بَني آدَمَ خَطَّاء، وخير الخطائين التوابون " (590) . فعلى كل من الزوج والزوجة أن يحتمل صاحبه، فلكل جواد كبوة، ولكل امرئ هفوة، ولكل إنسان زلة، وأحق الناس بالاحتمال من كان كثير الاحتكاك بمن يعاشر. قال الشاعر: إذا كنتَ في كُل الأمور مُعاتِبًا ... صديقَكَ، لم تَلْقَ الذي لا تُعَاتِبُه فَعِشْ واحدًا أوْ صِلْ أخاكَ فإنه ... مُقارفُ ذَنب مرةً ومجَانِبُهْ إذا أنتَ لم تشربْ مِرارًا على القَذَى ... ظمِئتَ، وَأي الناس تَصْفُو مَشَارِبُهْ؟ مَنْ ذَا الذي ترضَى سجاياه كُلها؟ ... كفى المرءَ نُبْلا أن تُعَد مَعَايِبُهْ وقال آخر: مَنْ ذا الذي ما ساءَ قط ... ومَن لَه الحسنى فقط؟! وقال آخر:   (590) أخرجه الترمذي رقم (2501) في صفة القيامة: باب المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه، وابن ماجه رقم (4251) في الزهد: باب ذكر التوبة، والدارمي (2/303) في الرقاق: باب في التوبة، وأحمد (3/198) ، وحسنه الألباني في " صحيح الجامع" (4/171) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 أرى كُل إنسان يرى عيبَ غيرِه ... ويعمَى عن العيب الذي هو فيه إن أحدنا لتمر عليه فترات لا يرضى فيها عن نفسه، فهو لا يرضى لها الضعف في مجال القوة، أو الغضب في مقام الحلم، والسكوت في معرض بيان الحق.. ولكنه يتحمل نفسه، ويتعلل بما يحضره من المعاذير، فليكن هذا هو الشأن بين الزوجين يلتمس كلاهما لقرينه المعاذير، "فإن المؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب الزلات "، وحين تحسن النوايا، وتتواد القلوب، ويكون التعقل هو مدار المعيشة، يتوفر هذا الجانب الكريم في حياة الأسرة. وعلى كل طرف ألا يقابل انفعال الآخر بمثله، فإذا رأى أحد الزوجين صاحبه منفعلًا بحدة، فعليه أن يكظم غيظه، ولا يرد على الانفعال مباشرة، وهذه النصيحة يجب أن تعمل بها المرأة أكثر من الرجل رعايةً لحق الزوج، وما أجمل قول أبي الدرداء رضي الله عنه لزوجته: " إذا رأيتني غَضِبت، فَرَضِّني، وإذا رأيتُكِ غَضبتي رَضيتكِ، وإلا لم نصطحب ". وعن محمد بن إبراهيم الأنطاكي قال: حدثنا محمد بن عيسى قال: (أراد شعيب بن حرب أن يتزوج امرأة، فقال لها: " إني سيء الخلق"، فقالت: " أسوأ منك خُلُقًا من أحوجك أن تكون سيء الخلق "، فقال: " إذا أنت امرأتي ") (591) . وتزوج الإمام أحمد رحمه الله عباسة بنت المفضل، أم ولده صالح، وكان الإمام أحمد يثني عليها، ويقول في حقها: " أقامت أم صالح معي عشرين سنة، فما اختلفت أنا وهي في كلمة " (592) .   (591) "أحكام النساء" ص (82) . (592) "طبقات الحنابلة" (1/429) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 الحق الثاني: المشاركة الوجدانية في الأفراح والأحزان: في الهموم والمطالب، وما أصدق كلام عمر رضي الله عنه وقد دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه يبكي هو وأبو بكر رضي الله عنه، بعد قبوله الفداء في أسرى بدر ونزول العتاب: قال: (قلت: يا نبى الله! أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإلا تباكيت لبكائكما) (593) الحديث. إن المودة لا تهبط علينا هبوطَا، ولا تنبع من تحت أرجلنا نبعَا، إننا إن لم نسع إليها ونأخذ بأسبابها الموصلة إليها لم نبلغها، ومن أعظم هذه الأسباب المشاركة العاطفية والوجدانية، التي إن لم يتشبع بها الجو الأسري، فقد المحبة والتعاون، وحل محلهما الكراهية والتواكل، وهذا هو الخراب الحقيقي للبيت، فإن بيتًا يقوم على الكراهية، والنزاع، والخصام بيت خرب، أشبه ما يكون بأتون يحرق كل من يقترب منه بَلْهَ من يسكنه. إن المشاركة في الأفراح تجعلها مضاعفة، والمواساة في المصائب تكسر حدتها، والمصيبة إذا عمت خفت. فليتعاون الزوجان في السراء والضراء، على جلب السرور ودفع الحزن، في قضاء الحاجات وتفريج الكربات، " والله في عون العبد، ما دام العبد في عون أخيه ". الحق الثالث: أن ينصح كل منهما قرينه في طاعة الله تعالى، ويتطاوعا في ذلك: وقد تقدم في الحديث الصحيح بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن من أفضل   (593) قطعة من حديث رواه مسلم رقم (1763) في الجهاد: باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، وإباحة الغنائم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 ما يتخذه الإنسان: " زوجةً مؤمنة تعينه على إيمانه " (594) . قال المباركفوري رحمه الله: (أي على دينه بأن تذكِّرَه الصلاة والصوم، وغيرهما من العبادات، وتمنعه من الزنا، وسائر المحرمات) (595) اهـ. إِن التعاون على طاعة الله تعالى يتوج التفاهم بين الزوجين، ويبلغ به القمة، والتعاون شعار المجتمع الإسلامي: (وتعاونوا على البر والتقوى) فكيف بالزوجين؟ وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهيب بالزوجين أن يجتهد كل منهما في إعانة الآخر على بلوغ الكمال الديني، فيحثه على أخلص العبادة لله، وهى " قيام الليل " فيروي عنه أبو هريرة رضي الله عنه قوله: " رحم الله رجلًا قام من الليل، فصلى، وأيقظ امرأته، فَصَلَّتْ، فإن أبت نضح في وجهها الماء (596) ، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها فصلى، فإن أبي نضحت في وجهه الماء " (597) .   (594) تقدم تخريجه برقم (537) . (595) (تحفة الأحوذي (4/165) . (596) نضح: رش، (في وجهها الماء) قال المناوي: (نبه به على ما في معناه نحو ماء ورد أو زهر) اهـ من " فيض القدير " (4/25) ، وقال الدكتور نور الدين عتر: (ومعنى النضح الرش الذي لا يؤذي ولا يؤدي إلى استفزاز، ويمكن استعمال شيء آخر كماء الزهر، أو مسح الوجه بشيء من الطيب) اهـ. من " ماذا عن المرأة؟ ". (597) رواه أبو داود رقم (1308) في الصلاة: باب قيام الليل، والنسائي (3/205) في قيام الليل: باب الترغيب في قيام الليل، وابن ماجه (1336) ، وابن حبان (646- موارد) ، والحاكم (1/309) ، وصححه على شرط مسلم، والإمام أحمد (2/ 250، 436) ، ونقل في " فيض القدير" قول النووي رحمه الله: " إسناده صحيح، اهـ (4/26) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 ويمتثل أبو هريرة رضي الله عنه- راوي هذا الحديث- ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم:، فيطبقه على نفسه وأهله، فكان هذا ديدنه يصوم النهار، ويقوم الليل: يقوم ثلث الليل، ثم يوقظ امرأته، فتقوم ثلثه، ثم توقظ هذه ابنته، لتقوم ثلثه (598) ، وقال أبو عثمان النهدي: (تضيفت أبا هريرة سبع ليال، فكان هو وخادمه وامرأته يعتقبون الليل أثلاًثا " (599) . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أيقظ الرجل أهله من الليل، فصليا - أو صلى- ركعتين جميعًا، كُتِبا في الذاكرين الله كثيرا والذاكرات " (600) .   (598) " البداية والنهاية" (8/ 110) . (599) "حلية الأولياء" (1/383) . (600) رواه أبو داود رقم (1309) في الصلاة: باب قيام الليل، ورقم (1451) باب الحث على قيام الليل، والطبراني في " الصغير" (1/81) ، والحاكم (2/416) ، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وقال الألباني: (وإسناده صحيح، وصححه الحاكم، والذهبي، والنووي، والعراقي) اهـ من " المشكاة" (1/390) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 تعاون الزوجين على البر والتقوى وأثره عليهما وعلى ذريتهما ولا شك أن لتعاون الزوجين على البر والتقوى آثارًا عظيمة عليهما وعلى ذريتهما في الحاضر والمستقبل. أما في الحاضر: فإن شيوع هذه الروح في البيت وتشبع الطفل بها، يؤدى إلى حبه لطاعة الله، وتعظيمه لشعائر الإسلام، وسهولة انقياده لأمر الله، اقتداءً بأبويه كما قال تعالى: (ذرية بعضها من بعض) آل عمران (34) ، وأما في المستقبل القريب في الدنيا: فقد بين القرآن الكريم أن صلاح الآباء ينفع الأبناء، وهذا الخضِر عليه السلام وقد بنى الجدار متبرعَا، فيقول له موسى عليه السلام: (لو شئت لتخذت عليه أجرا) الكهف (77) ، فيبين له سبب عدم أخذه على ذلك أجرًا، فيقول: (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحَا) الآية الكهف (82) ، وإذا ما نشأث الذرية على طاعة الله عز وجل، وتعظيم دينه، سهل عليهم أمر التكاليف الشرعية حين يبلغون، فيستحقون بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم الواردة في قوله: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" وذكر منهم: " شابا نشأ في عبادة الله عز وجل " (601) ، ثم إذا فارق الأبوان الدنيا نفعهما دعاء الولد   (601) جزء من حديث رواه البخاري (2/119) ، في الجماعة، ومسلم رقم (2031) في الزكاة، والترمذي رقم (2392) في الزهد، والنسائي (8/222) في القضاة، وغيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 الصالح كما في الحديث. وإذا استقامت الذرية بعد فراق الأبوين على هذا العهد، كان اللقاء بينهم من جديد في جنة الخلد، ودار الكرامة: قال سبحانه: (والذين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين) الطور (21) . لهذا قال أحد الصالحين: " يا بني إني لأستكثر من الصلاة لأجلك"، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما نزل (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى أنزل الله تعالى بعد هذا: (ألحقنا بهم ذريتهم) يعني بإيمان، فأدخل الله عز وجل الأبناء بصلاح الآباء الجنة (602) . وفي رواية: (ألحقنا بهم ذريتهم) قال ابن عباس: (إن الله عز وجل ليرفع ذرية المؤمن معه في الجنة، وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه، ثم قرأ: (والذين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء) الطور (21) ، يقول: وما نقصناهم " (603) . وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: " إني لأصلي، فأذكر ولدي، فأزيد في صلاتي " (604) . إن تقوى الله تبارك وتعالى، والعمل الصالح الذي يتعاون عليه الزوجان أعظم ذخيرة يدخرها الأبوان لحماية أولادهما، وأوثق تأمين على مستقبل ذريتهما، وأقوى ضمان لسلامتهم، ورعاية الله لهم في حياتهما، وبعد رحيلهما، خاصة إذا تركاهم ضعافًا يتامى، لا راحم لهم ولا عاصم   (602) " الاعتقاد، للبيهقي ص (74- 75) . (603) "الدر المنثور" للسيوطي (6/119) . (604) عزاه إلى " حسن الأسوة " صاحب " منهج التربية النبوية للطفل " ص (45) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 من البشر، قال جل وعلا: (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا) النساء (9) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 من مواقف الزوجة المسلمة روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: [لما نزلت هذه الآية: (من ذا الذي يُقْرِضُ الله قرضًا حَسَنا فيضاعفَه له) قال أبو الدحداح الأنصاري: " يا رسول الله، وإن الله ليريد منا القرض؟ "، قال: " نعم يا أبا الدحداح "، قال: (أرني يدك يا رسولَ الله "، قال: فناوله يده، قال: (فإني قد أقرضت ربي حائطي "، وله حائط فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها، قال: فجاء أبو الدحداح، فناداها: " يا أم الدحداح "، قالت: " لبيك "، قال: " اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل "، وفي رواية أنها قالت له: (رَبِح بيعُك يا أبا الدحداح "، ونقلت منه متاعها وصبيانها، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح "، وفي لفظ: " رُبَّ نخلة مُدَلَّاة عروقها دُر وياقوت لأبي الدحداح في الجنة " (605) ] والعذق: بفتح العين النخلة، وبكسرها: عرجونها، والرداح: الثقيل. وعن محمد بن الحسين السلمي قال: (قال أبو محمد الحريري: كنت عند بدر المغازلي، وكانت امرأته باعت دُرًّا بثلاثين دينارًا، فقال لها بدر: " نفرق هذه الدنانير في إخواننا، ونأكل رزق يوم بيوم "، فأجابته إلى ذلك، وقالت: " تزهد أنت، ونرغب نحن؟ هذا ما لا يكون " (606)) .   (605) قال في " مجمع الزوائد ": (رواه البزار، ورجاله ثقات) اهـ (6/320) ، وقال في موضع آخر: (رواه أبو يعلى: والطبراني ورجالهما ثقات، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح) اهـ (9/324) ، وللقصة أصل صحيح كما حققه الشيخ أحمد شاكر في " تفسير الطبري" (5/283 -286) ، وانظر: " الإصابة" (7/120) . (606) " أحكام النساء " ص (147) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 وقال أبو يوسف البزار: (تزوج رياح القيسي امرأة، فبنى بها، فلما أصبح قامت إلى عجينها، فقال: " لو نظرتِ إلى امرأةٍ تكفيكِ هذا "، فقالت: " إنما تزوجت رياحا القيسي، ولم أرني تزوجت جبارًا عنيدا "، فلما كان الليل نام ليختبرها، فقامت ربع الليل، ثم نادته: "قم يا رياح "، فقال: "أقوم"، فقامت الربع الآخر، ثم نادته، فقالت: " قم يا رياحا، فقال: " أقوم "، فلم يقم، فقامت الربع الآخر، ثم نادته، فقالت: " قم يا رياح"، فقال: " أقوم "، فقالت: " مضى الليل، وعَسكَرَ المحسنون، وأنت نائم، ليت شِعري من غَرَّني بك يا رياح؟ ، قال: " وقامت الربع الباقي ") (607) اهـ. وقال رياح: (اغتممتُ مرة في شيء من أمر الدنيا، فقالت: " أراك تغتم لأمر الدنيا، غرَّني منكم شُميط (608) ، ثم أخذت هُدْبَةً من مِقْنَعَتِها (609) ، فقالت: " الدنيا أهون عَلى من هذه ") (610) اهـ. وقال الحسين بن عبد الرحمن: حدثني بعض أصحابنا قال: (قالت امرأة حبيب أي محمد، وانتبهت ليلة، وهو نائم، فأنبهته في السحر، وقالت: " قم يا رجل فقد ذهب الليل، وجاء النهار، وبين يديك طريق بعيد، وزاد قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قُدامنا، ونحن قد بقينا ") (611) .   (607) "صفة الصفوة " (4/43 - 44) . (608) وهو " شُمَيط بن العجلان " الذي زَوَّجَها من " رياح القيسي". (609) المقنَعَة: ما تغطي به المرأة رأسها، وهو أصغر من القناع، والهدبة: الخيط الصغير، وما يشبهه. (610) "صفة الصفوة " (4/44) . (611) "السابق" (4/33) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 و (أجمع المؤرخون على أن جميع الأعمال الطيبة، والأفعال الحسنة التي قام بها المهدي (612) ، فأكسبته الشهرة الفائقة، إنما كانت بتأثير زوجته " الخيزران ") (613) . وفي العصر المتأخر كان للزوجة العاقلة أكبر الأثر في نصرة أعظم حركة تجديدية شهدتها الأمة منذ أوائل القرن الثاني عشر الهجري حتى يومنا هذا: إذ لما قدم شيخ الإسلام " محمد بن عبد الوهاب " رحمه الله إلى " الدرعية " ليعرض دعوته على أميرها " محمد بن سعود " لعله ينصره بسيفه، ويحمى الدعوة التجديدية الوليدة، أوعز تلميذ شيخ الإسلام الشيخ " أحمد بن سويلم العريني " إلى " ثنيان " و " مشاري " أخوي الأمير " محمد بن سعود"، وكانا من أنصار الشيخ وأتباعه، أوعز إليهما أن يستكشفا رأي أخيهما الأمير محمد في شأن الشيخ، ويقفا على مدى استعداده لمناصرة دعوته، فلم يترددا في قبول طلبه، وخَفا مسرِعَيْن إلى دار أخيهما الأمير محمد، وشرعا أولا بمفاوضة زوجته المسماة " موضى بنت أبي وهطان " من آل كثير، وكانت امرأة مشهورة بوفرة الذكاء والنباهة وسعة الإدراك، وقد تحدث الأخَوان إلى زوجة أخيهما طويلًا في المهمة التي جاءا من أجلها، وعن الدعوة التي يدعو إليها الشيخ، ومدى فائدتها في محاربة البدع والخرافات، ومكانة الشيخ، وما هو عليه من علم ومعرفة، وصفة ما يأمر به وينهى عنه، وأخيرًا طلبا إليها أن تفاوض زوجها لمناصرة   (612) هو الخليفة محمد بن عبد الله المنصور. (613) " مرآة النساء " ص (86) ، وهي أم الهادي، وهارون الرشيد، ملكة حازمة، عاقلة، لبيبة، دينة، خيرة، متفقهة، أخذت الفقه عن الإمام الأوزاعي، كما في " الأعلام " (2/375) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 الشيخ، وشَد أُزرِه، وإشهار السيف من غِمده في سبيل نصرة الدعوة التي يدعو إليها، فَوَعَدَتهما خيرًا، وتم الاتفاق على ذلك، ونقلت السيدة " موضى" إلى زوجها ما دار بينها وبين أخويه من الحديث، وَدَعَتْهُ إلى تأييد الشيخ، ونصرة دعوته، وقالت له: إن هذا الرجل قدم إلى بلدك، وهو غنيمة ساقها الله تعالى إليك، فأكرِمْه، وعظمْه، واغتنم نُصرتَه "، ثم رَغبَتْهُ، وحسنت إليه القيام بزيارة خاصة إلى دار الشيخ " أحمد بن سويلم" لمقابلة الشيخ، لتكون إعلانا جهارًا للملأ بأنه على نصرته، وتحت حمايته، لكي يعظمه الناس، ويكرموه، فوافق الأمير محمد على نصيحة زوجته) ، وتم اللقاء بينهما حيث أفاض الشيخ في شرح دعوته إلى التوحيد، ومحاربة الشرك والبدع، وتمت البيعة بينهما، وعقد التحالف على قيام الأمير " محمد بن سعود " بشد أزر الشيخ ونصرة دعوته، ودخل الشيخ البلد تلبية لدعوة الأمير، واتخذ له منزلا بالقرب من دار الأمير " محمد بن سعود " (614) اهـ. وقد كان لهذه المرأة الصالحة الصادقة أكبر الأثر في مؤازرة زوجها وتشجيعه، وحثه على الصبر والسلوان حينما اندحر الجيش الذي قاده ولده عبد العزيز وهزم هزيمة نكراء في " حائر " (615) .   (614) انظر: " تاريخ الجزيرة العربية في عصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب " لحسين خلف الشيخ خزعل ص (159 - 161) ، وكذا " السعوديون والحل الإسلامي" ص (112) ، " مجلة البحوث الإسلامية " العدد السابع عشر ص (360) عام 1406 - 1407 هـ. (615) " السابق " ص (252) ، ومن فضائل هذه المرأة العاقلة أن في كتفها وتحت عينها نشأ ابنها الإمام المجاهد، والبطل المجالد، أمير المسلمين في زمانه، العلامة الزاهد العابد، بقية السلف الصالح، تلميذُ إمام الدعوة السلفية: عبد العزيز بن محمد ابن سعود، الملقب بـ " مهدي زمانه "، المقتول غدرًا بيد رافِضي خبيث في صلاة العصر وهو ساجد سنة 1218 هـ، رحمه الله، وعفا عنه، وتقبله في الشهداء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 الحق الرابع: حفظ السر: فلا يذكر أحدهما قرينه بسوء بين الناس، ولا يفشي سره، ولا يخبر بما يعرفه عنه من العيوب الخفية، قال تعالى: (فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله. قال البغوي رحمه الله: " أي: قيمات بحقوق أزواجهن، والقنوت: القيام، والقنوت: الدعاء، وقيل: قانتات: أي: مُصَلِّيات، ومنه قوله عز وجل: (أمن هو قانت آناء الليل) (616) الآية الزمر (9) .   (616) " شرح السنة " (9/157) . وقال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: (قال الثوري وقتادة: " حافظات للغيب ": يحفظن في غيبة الأزواج ما يجب حفظه في النفس والمال، وروى ابن جرير والبيهقي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتهما أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها " وقرأ صلى الله عليه وسلم هذه الآية) وقال: (أقول: ويدخل في قوله هذا وجوب كتمان كل ما يكون بينهن وبين أزواجهن في الخلوة، ولا سيما حديث الرفث، فما بالك بحفظ العرض؟ ! وعندي أن هذه العبارة أبلغ ما في القرآن من دقائق كنايات النزاهة، تقرؤها خرائد العذارى جهرا، ويفهمن ما تومئ إليه مما يكون سرا، وهن على بعد من خطرات الخجل أن تمس وجدانهن الرقيق بأطراف أناملها، فلقلوبهن الأمان من تلك الخلجات، التي تدفع الدم إلى الوجنات، ناهيك بوصل حفظ الغيب (بما حفظ الله) فالانتقال السريع من ذكر ذلك الغيب الخفي، إلى ذكر الله الجلي، يصرف النفس عن التمادي في التفكير فيما يكون وراء الأستار، من تلك الخفايا والأسرار، وتشغلها بمراقبة الله عز وجل. وفسروا قوله تعالى: (بما حفظ الله) بما حفظه لهن في مهورهن، وإيجاب النفقة لهن - يريدون أنهن يحفظن حق الرجال في غيبهم جزاء على المهر ووجوب النفقة المحفوظين لهن في حكم الله تعالى، وما أراك الا ذاهبا معى إلى وهَن هذا القول وهزاله، وتكريم أولئك الصالحات بشهادة الله تعالى أن يكون حفظهن لذلك الغيب من يد تلمس، أو عين تبصر، أو أذن تسترق السمع، معللا بدراهم قبضن، = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 فالصالحة عابدة لله تعالى تعين زوجها على تطبيق الإسلام على نفسه وعلى أسرته، وأما حفظ الغيب فهو واجب على كلا الزوجين، لكنه في حق المرأة آكد وأقوى، لأن الخطر في تساهلها عظيم جدا، يهدد بأفظع النتائج الدينية والدنيوية، ويدمر الأسرة، فالمرأة الصالحة حافظة لزوجها في غيابه: من عِرض فلا تزني، ومن سر فلا تفشي، ومن سمعة فلا تجعلها مضغة في الأفواه. ومن حفظ السر: عدم نشر ما يكون بين الزوجين متعلقًا بالوقاع ونحوه، وقد ثبتت أحاديث في تحريم ذلك: منها: ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي (617) إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر (618) ...................................   = ولقيمات يرتقبن، ولعلك بعد أن تمج هذا القول يقبل ذوقك ما قبله ذوقي، وهو أن الباء في قوله: (بما حفظ الله) هي صِنْوُ باء: " لا حول ولا قوة إلا بالله" وأن المعنى: حافظات للغيب بحفظ الله، أى: بالحفظ الذي يؤتيهن الله إياهن بصلاحهن، فإن الصالحة يكون لها من مراقبة الله تعالى وتقواه ما يجعلها محفوظة من الخيانة، قوية على حفظ الأمانة، أو حافظات له يسبب أمر الله بحفظه، فهن يطعنه، ويعصين الهوى) اهـ من " حقوق النساء في الإسلام" ص (48- 50) .. (617) أي: يصل إليها بالمباشرة والمجامعة ومنه قوله تعالى: (وقد أفضى بعضكم إلى بعض ". (618) وقد أضاف الحديث الشر إلى الرجل وحده، لأنه أجرأ في الكشف عن مثله، وليس معنى ذلك أن ذكر الإفضاء حرام على الرجل مباح للمرأة، فالتحريم يشملهما معا، قال النووي رحمه الله: (ومجرد ذكر الجماع - إن لم تكن فيه فائدة، ولا حاجة إليه - فمكروه، لأنه خلاف المروءة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا، أو ليصمت" اهـ من " شرح النووي لصحيح مسلم" (10/9) ، ولهذا فإن التشريع الحكيم لا يبيح ذكره تعريضا إلا إذا كان لتعليم درس، أو طلب إعلام فقهي، أو مقاضاة بين زوجين، ويترتب على ذكره فائدة، وهكذا كان أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال لأبي طلحة رضي الله عنه: " أأعرستم الليلة؟ "، وقال لجابر رضي الله عنه: " الكيسَ، الكيسَ، يعني الولد، وهو لا يأتي إلا بالنكاح، وعن مجاهد في تفسير قوله تعالى: (وإذا مروا باللغو مروا كراما قال: (إذا أتوا عل ذكر النكاح كنوا عنه) رواه ابن أبي شيبة (4/391) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 سرها " (619) ، ومنها ما روته أسماء بنت يزيد - رضي الله عنها- أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرجال والنساء قعود، فقال: " لعل رجلا يقول ما يفعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها؟ ! "، فأرَمَّ (620) القوم، فقلت: " أي والله يا رسول الله! إنهن ليفعلن، وإنهم ليفعلون "، قال: " فلا تفعلوا، فإنما ذلك مثل الشيطان لقي شيطانة في طريق، فغشيها والناس ينظرون " (621) . الحق الخامس: المبيت في الفراش، والإعفاف: فلا يجوز لأحد الزوجين أن يغمطه صاحبه مع القدرة عليه: فالمرأة يجب عليها أن تلبي زوجها كلما أرادها على ذلك، وإن لم يكن لديها ميل إليه، إلا لعذر مانع، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا دعا الرجل امرأته إلى فِراشه (622) ، فأبت أن تجيء، فبات غضبانَ، لعنتها الملائكة حتى تصبح "، وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده، ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه، فتأبى   (619) رواه ابن أبي شيبة (4/391) ، ومن طريقه مسلم رقم (1437) (10/8) - نووي، والإمام أحمد (3/69) بلفظ: (إن من أعظم الأمانة عند الله) ، وأبو نعيم (10/236 - 237) ، وابن السني رقم (608) ، والبيهقي (7/193 - 194) ، وفيه عمر بن حمزة العمري، قال ابن القطان: (وعمر ضعفه ابن معين، وقال أحمد: أحاديثه مناكير، فالحديث به حسن لا صحيح) اهـ. كذا نقله عنه المناوي في " فيض القدير" (2/539) . (620) أي: سكتوا، ولم يجيبوا. (621) أخرجه الإمام أحمد (6/456) ، وله شواهد يرتقي بها إلى الصحة أو الحسن، ذكرها الألباني في " آداب الزفاف" ص (144) . (622) (الظاهر أن الفراش كناية عن الجماع، ويقويه قوله صلى الله عليه وسلم: " الولد للفراش"، أي لمن يطأ في الفراش، والكناية عن الأشياء التي يُستحيى منها كثيرة في القرآن والسنة) اهـ نقله الحافظ عن " ابن أبي جمرة" فانظر "فتح الباري" (9/294) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها " (623) ، وفي رواية أخرى قال: " إذا باتت المرأة مُهاجِرةً فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح"، وفي أخرى: " حتى ترجع" (624) . وعن طلق بن على رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا الرجل دعا زوجته لحاجته، فلتأته وإن كانت على التنور " (625) . وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قَتَب (626) ، لم تمنعه ........................   (623) وفي هذا الحديث أًن سخط الزوج يوجب سخط الرب، وهذا في قضاء الشهوة، فكيف إذا كان في أمر الدين؟! (624) رواه البخاري (9/258) في النكاح: باب إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها، وفي بدء الخلق: باب ذكر الملائكة، ومسلم رقم (1436) في النكاح: باب تحريم امتناعها من فراش زوجها، وأبو داود - ولفظ الأولى له - رقم (2141) في النكاح: باب حق الزوج على المرأة، والدارمي (2/149 - 150) ، والإمام أحمد (2/ 255، 348، 386، 439، 468، 480، 519، 538) . (625) أخرجه الترمذي رقم (1160) في الرضاع: باب ما جاء في حق الزوج على المرأة، وقال: " حسن غريب "، وصححه الألباني في " الصحيحة " رقم (1202) ، وابن حبان (1295- موارد) ص (315) ، والإمام أحمد (4/ 22 -23) ، والبيهقي (7/292) ، وقوله: " وان كانت على التنور، (معناه: فلتجب دعوته وإن كانت تخبز على التنور، مع أنه شغل شاغل لا يتفرغ منه إلى غيره إلا بعد انقضائه، قال ابن الملك: " وهذا بشرط أن يكون الخبز للزوج، لأنه دعاها في هذه الحالة، فقد رضى بإتلاف مال نفسه، وتلف المال أسهل من وقوع الزوج في الزنا) اهـ. من " مرقاة المفاتيح" (3/467) . (626) أي: رَحْل - وفي " النهاية ": (القَتَب للجمل كالإعلاف لغيره، ومعناه الحث لهن على مطاوعة أزواجهن، وأنه لايسعهن الامتناع في هذه الحال، فكيف في غيرها؟) اهـ. (4/11) (وقيل: إن نساء العرب كن إذا أردن الولادة جلسن على قتب، ويقال إنه أسهل لخروج الولد، فأراد تلك الحالة، قال أبو عبيد: كنا = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 نفسها (627) . وعن معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تُؤذي امرأة زوجها في الدنيا، إلا قالت زوجتهُ من الحور العين: " لا تؤذيه قاتلكِ الله، فإنما هو عندكِ دخيل (628) ، يوشك أن يفارقكِ إلينا " (629)) . وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون " (630) .   = نرى أن المعنى: وهي تسير على ظهر البعير فجاء التفسير بغير ذلك) اهـ من " حاشية السندي على ابن ماجه " (1/570) . (627) قطعة من حديث رواه ابن ماجه (1/570) ، والإمام أحمد (4/381) ، وابن حبان ص (314) ، رقم (1290- موارد) ؛ والبيهقي (7/292) ، وله شاهد من حديث زيد بن أرقم ذكره المنذري في " الترغيب" وقال: (رواه الطبراني بإسناد جيد) اهـ (3/58) ، وانظر " السلسلة الصحيحة " رقم (1203) . (628) الدخيل: الضيف والنزيل، يعني: هو كالضيف عليك، وأنت لست بأهل له حقيقة، وإنما نحن أهله، فيفارقك قريبا، ويلحق بنا. (629) رواه الترمذي رقم (1174) في الرضاع: باب رقم (19) ، وابن ماجه رقم (2014) ، والإمام أحمد (5/242) ، وصححه الألباني في الصحيحة، رقم (173) . (630) رواه الترمذي رقم (360) ، وقال: " حسن غريب "، وحسنه الألباني في " المشكاة " رقم (1122) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 تنبيهات الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: " فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح " قال الإمام ابن أبي جمرة رحمه الله: (ظاهره اختصاص اللعن بما إذا وقع منها ذلك ليلًا لقوله: " حتى تصبح "، وكأن السر تأكد ذلك الشأن في الليل، وقوة الباعث عليه، ولا يلزم من ذلك أنه يجوز لها الامتناع في النهار، وإنما خص الليل بالذكر لأنه المظنة لذلك) (631) اهـ، وإطلاقات حديث ابن أبي أوفى وأبي هريرة رضي الله عنهما تتناول الليل والنهار، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لا تقبل لهم صلاة، ولا تصعد لهم إلى السماء حسنة: العبد الآبق حتى يرجع، والسكران حتى يصحو، والمرأة الساخط عليها زوجها حتى ترضى " (632) . الثاني: قوله: " فبات غضبان عليها " به يتجه وقوع اللعن، لأنها حينئذ يتحقق ثبوت معصيتها، بخلاف ما إذا لم يغضب من ذلك فإنه يكون: إما لأنه عذرها، وإما لأنه ترك حقه من ذلك، واعلم أنه لا يتجه عليها اللوم إلا إذا بدأت هي بالهجر، فغضب هو لذلك، أو هجرها وهى ظالمة، فلم تستنصل من ذنبها، وهجرته، أما لو بدأ هو بهجرها ظالما لها فلا (633) . الثالث: في هذه الأحاديث (الإرشاد إلى مساعدة الزوج وطلب   (631) " فتح الباري" (9/294) . (632) عزاه الحافظ في " الفتح " (9/294) إلى ابن خزيمة، وابن حبان، وانظر " موارد الظمآن" ص (315 - 316) . (633) " فتح الباري" (9/294) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 مرضاته، وأن صبر الرجل على ترك الجماع أضعف من صبر المرأة، وأن أقوى التشويشات على الرجل داعية النكاح، ولذلك حَض الشارع النساء على مساعدة الرجال في ذلك، أو السبب فيه الحض على التناسل، وفيه إشارة إلى ملازمة طاعة الله والصبر على عبادته، جزاء على مراعاته لعبده، حيث لم يترك شيئًا من حقوقه إلا جعل له من يقوم به، حتى جعل ملائكته تلعن من أغضب عبده بمنع شهوة من شهواته، فعلى العبد أن يوفي حقوق ربه التي طلبها منه، وإلا فما أقبح الجفاء من الفقير المحتاج إلى الغني الكثير الإحسان) (634) اهـ. الرابع: لا يجوز للمرأة أن تطيع زوجها فيما لا يحل له، بل يجب عليها مخالفته حينئذ، وذلك مثل أن يطلب منها الوطء في زمان الحيض (635) والنفاس (636) ، أو في غير محل الحرث (637) ، أو وهي صائمة صيام فريضة   (634) " السابق " (9/295) . (635) لكن ليس الحيض عذرا لها في أن لا تجيبه مطلقًا، قال النووي رحمه الله: (يحرم امتناعها من فراشه لغير عذر شرعي، ولى الحيض بعذر في الامتناع، لأن له حقا في الاستمتاع بها فوق الإزار) اهـ. بنحوه من " شرحه لصحيح مسلم " (10/7-8) . (636) ثبت تحريم إتيان المرأة في النفاس بالإجماع، وقد قاس الفقهاء النفاس على الحيض لاشتراكهما في العلة والسبب. (637) وذلك لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ينظر الله إلى رجل يأتي امرأته في دبرها " أخرجه الترمذي وحسنه (1/218) ، وابن حبان (1302) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أتى حائضا، أو امرأة في دبرها، أو كاهنًا فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " أخرجه أبو داود رقم (3904) ، والترمذي رقم (135) ، وابن ماجه رقم (639) ، والدارمي (1/259) ، والإمام أحمد (2/408، 476) واللفظ له، وصححه الألباني في " آداب الزفاف" ص (106) ، وعن طاوس قال: (سئل ابن عباس عن الذي يأتي امرأته في دبرها؟ فقال: " هذا يسألني عن الكفر؟ ") = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 كرمضان، وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا طاعة لبشر في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف) (638) . كذلك يحرم على الرجل أن يتعمد هجر زوجته، فهو مأمور بأداء حقها بقدر حاجتها وقدرته: فإن الشريعة السمحة لم تقتصر على مطالبة المرأة بأن تستجيب لزوجها، بل طالبت الرجل أيضا أن يؤدي إليها حقها، ويعفها، ويغنيها، وذلك لقوله تعالى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة) (النساء: 129) ، قال الإمام أبو بكر الجصاص رحمه الله: (ويدل عليه أن عليه وطأها لقوله تعالى: (فتذروها كالمعلقة) يعني: لا فارغة فتتزوج، ولا ذات زوج إذا لم يوفها حقها من الوطء) (639) اهـ. ويدل عليه أيضًا مفهوم قوله عز وجل: (واهجروهن في المضاجع) (النساء: 34) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يهْجَر إلا في المضجع " (640) . وكما قرر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس للمرأة أن تشتغل بالعبادات غير الفريضة إذا كانت تفوت حق زوجها، كذلك قرر صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز للرجل أن يشتغل بالعبادات النوافل حتى يغفل أو يعجز عن أداء حق زوجته: فعن عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:   = وصححه أيضا الألباني في المرجع السابق. (638) أخرجه البخاري (13/203) ، ومسلم (6/15) ، وأبو داود (2625) ، والنسائي (2/187) ، وأحمد (1/94) عن علي رضي الله عنه. (639) " أحكام القرآن " (1/274) . (640) رواه من حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه الإمام أحمد (4/447) ، (5/5، 3) ، وأبو داود رقم (2142) ، وابن ماجه (1850) ، وصححه الألباني في " الإرواء" (7/98) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 " يا عبدَ الله ألم أخْبَرْ أنك تصوم النهار، وتقوم الليل؟ "، قلت: " بلى يا رسول الله "، قال: " فلا تفعل، صُمْ وأفطِر، ونم وقم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينيك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لِزَوْرِك (641) عليك حقًا، وإن بحَسْبِك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عَشر أمثالِها، فإذا (642) ذلك صيامُ الدهر " (643) الحديث، وفي رواية للبخاري قال: " أنكحني أو امرأة ذاتَ حسب، وكان يتعاهد كَنتهُ (644) ، فيسألها عن بعلها (645) ، فتقول له: " نعم الرجل من رجل لم يَطَأ لنا فراشًا، ولم يفتش لنا كَنَفا (646) مُذ أتيناه "، فلما طال ذلك عليه، ذكَر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ألقِني به"، فلقِيتُه بَعْدُ، فقال: " كيف تصوم؟ "، قلت: " كل يوم "، قال: " وكيف تختم؟ "، قلت: " كل ليلة ") الحديث بنحوه. وفي رواية النسائي، قال: (زوَّجني أبي امرأة، فجاء يزورنا، فقال: " كيف ترين بعلك؟ "، قالت: " نعم الرجل، لا ينام الليلَ، ولا يفطر النهار "، فوقع بي (647) ، وقال: " زَوجتُك امرأة من المسلمين،   (641) الزور: الزائرون، يقال: رجل زائر، وقوم زور، وزوار. (642) " فإذًا ذلك " روى " إذا " بالتنوين، وبلفظ، " إذا " التي للمفاجأة. (643) رواه البخاري (5/123) في الصوم: باب صوم الدهر، وأبواب حق الضيف، والجسم، والأهل في الصوم، وفي التهجد، والأنبياء، وفضائل القرآن، والنكاح: باب لزوجك عليك حق، والأدب، وأخرجه مسلم رقم (1159) في الصيام: باب إلى عن صوم الدهر. (644) الكَنة: امرأة الابن أو الأخ. (645) بعل المرأة: زوجها. (646) الكَنَف: الجانب، أرادت: أنه لم يقربها، ولم يستعلم لها حالا خَفِيَتْ عنه. (647) وقع بي فلان: إذا لامك، وَعَنَفَكَ، وأما وقعتَ فيه، فهو من الوقيعة، وهي الغِيبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 فَعَضَلْتَها؟! " (648) ، قال: فجعلت لا ألتفت إلى قوله مما عندي من القوة والاجتهاد، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " لكني أنا أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، فقم ونم، وصم وأفطر " (649) الحديث. وفي حديث الرهط الثلاثة أن أحدهم قال: " أما أنا فأصلي الليل أبدا "، وقال الآخر: " وأنا أصوم الدهر أبدًا، ولا أفطِر "، وقال الآخر: " وأنا أعتزل النساء، فلا أتزوج أبدًا "، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: " أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوَّجُ النساء، فمن رغب عن سنتي (650) ، فليس مني " (651) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخلت على خويلة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السلمية، وكانت عند عثمان بن مظعون، قالت: فرأى رسول الله أي بذاذة هيئتها، فقال لي: " يا عائشة ما أبذ هيئة خويلة! "، قالت: فقلت: " يا رسول الله امرأة لها زوج يصوم النهار، ويقوم الليل، فهي كمن لا زوج لها، فتركت نفسها، وأضاعتها "، قالت: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إلى عثمان بن مظعون، فجاءه، فقال: " يا عثمان أرغبة عن سنتي؟ ! " قال: فقال: " لا والله يا رسول الله، ولكن سُنَتكَ أطلبُ "، قال: " فإني أنام، وأصلي، وأصوم،   (648) العَضل: المنع، والمراد: أنك لم تعاملها معاملة الأزواج لنسائهم، ولا تركتها بنفسها لتتزوج، وتتصرف في نفسها كما تريد. (649) هذه رواية النسائي للحديث، في كتاب الصيام: باب صوم يوم وإفطار يوم (4/209 - 215) . (650) انظر تخريجه في " القسم الثالث" ص (61) . (651) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (المراد بالسنة الطريقة، التي لا تقابل الفرض) اهـ من " الفتح " (9/105) ، وانظر: " نيل الأوطار" (6/117) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 وأفطر، وأنكح النساء، فاتق الله يا عثمان، فإن لأهلك عليك حقا، وإن لضيفك عليك حقًا، وإن لنفسك عليك حقا، فصم وأفطر، وصل ونم " (652) . وروى الشَّعبِيُّ أن كعب بن سُوْر كان جالسًا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فجاءت امرأة فقالت: " يا أمير المؤمنين ما رأيت رجلًا قط أفضل من زوجي، والله إنه ليبيت ليله قائمًا، ويظل نهاره صائمًا"، فاستغفر لها، وأثنى عليها، واستحيت المرأة، وقامت راجعة، فقال كعب: " يا أمير المؤمنين هلا أعديت المرأة على زوجها فلقد أبلغت إليك في الشكوى "، فقال لكعب: " اقض بينهما، فإنك فهمت من أمرها ما لم أفهم "، قال: (فإني أرى كأنها امرأة عليها ثلاث نسوة (653) هي   (652) أخرجه الإمام أحمد، والسياق له (6/268) ، وأبو داود رقم (1369) في أبواب قيام الليل: باب ما يؤمر به من القصد بالصلاة، وفيه عنعنة ابن إسحق، لكن يشهد له أحاديث صحاح، فها حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وزاد في آخره: (قال: فأتتهم المرأة بعد ذلك كأنها عروس، فقيل لها: " مه؟ "، قالت: " أصابنا ما أصاب الناس" أخرجه ابن حبان (1287- موارد) ، وقد روى البخاري (4/170- 171) ، والترمذي (3/290) ، والبيهقي (4/276) ، وغيرهما نحو هذا من قصة أو الدرداء وسلمان عن أبي جحيفة رضي الله عنه، وفيها قوله صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء: " يا أبا الدرداء إن لجسدك عليك حقا، ولربك عليك حقا، ولضيفك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، صم، وأفطر، وصل، وأتِ أهلك، وأعط كل ذي حق حقه) الحديث. (653) فتأمل كيف رأى ذلك القاضي المسلم أنه لا فرق بين التشدد في العبادة الذي يضر بالزوجة، وبين الضرائر، فأوجب لها حقا، ولو لم يكن لها فيه حق لم يقض فقهاء المسلمين بفسخ النكاح لتعذره، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فإن للمرأة على الرجل حقا في ماله، وهو الصداق، والنفقة بالمعروف، وحقا في بدنه، وهو العشرة والمتعة، بحيث لو آلى منها استحقت الفرقة بإجماع المسلمين، وكذلك لو كان مجبوبا أو عِنينًا لا يمكنه جماعُها فلها الفرقة، ووطؤها واجب، عليه أكثر = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 رابعتهن، فأقضي بثلاثة أيام ولياليهن يتعبد فيهن، ولها يوم وليلة "، فقال عمر: (والله ما رأيك الأول بأعجب من الآخر، اذهب فأنت قاض على البصرة، نعم القاضي أنت " (654) . (وسئل أحمد: " يؤجر الرجل أن يأتي أهله، وليس له شهوة؟ " فقال: أي والله، يحتسب الولد، وإن لم يرد الولد يقول: " هذه امرأة شابة "، لم لا يؤجر؟!) (655) اهـ. وهذه الشريعة الحنيفية تقرر أن الزوج لو آلى (أي حلف) ألا يقرب زوجته، يلزمه أن يحنث في يمينه، قال تعالى: (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم) البقرة (226) ، فقد نص على أن الذين يؤلون - أي يحلفون - على ألا يقربوا زوجاتهم يُمهلون أربعة أشهر، فإن عاد أحدهم إلى الإنصاف وأداء الحق فيها، وعليه كفارة يمين، وإلا كان إصراره إضرارًا موجبا للفراق، قال صلى الله عليه وسلم: " لا ضرر، ولا ضرار " (656) .   = العلماء، وقد قيل: " إنه لا يجب اكتفاء بالباعث الطبيعي"، والصواب: أنه واجب كما دل عليه الكتاب، والسنة، والأصول) اهـ. من " السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ص (162 - 163) . (654) أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه " (7/12587) ، وأورده الحافظ في " الإصابة " (5/646) في ترجمة كعب بن سور، وصححه الألباني في" الإرواء " (7/80) ، وانظرا تفسير القرطبي (5/19) ، (3/124) ، (المغني، (7/30) ، " مجموع الفتاوى، (34/85) . (655) المغني، (7/31) . (656) رواه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما الإمام أحمد (1/313) ، وابن ماجه (2/57) ، وفيه جابر الجعفي قال ابن رجب: (ضعفه الأكثرون " اهـ. من " جامع العلوم والحكم " ص (286) ، وللحديث - على ضعفه- طرق كثيرة أشار إليها النووي رحمه الله في " أربعينه"، ثم قال: " يقوى بعضها بعضًا "، وقال = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 وقال صلى الله عليه وسلم: " من ضارَّ ضاره الله، ومن شاقَّ شق الله عليه " (657) . ويروى أن (عمر رضي الله عنه كان يطوف في المدينة، فسمع امرأة وهي مغلقة عليها بابها، تقول: تطاول هذا الليلُ تسرِى كواكبه ... وأرَّقني أن لا ضجيعَ ألاعبُهْ ألاعبه طورًا وطورًا كأنما ... بدا قمرًا في ظلمةِ الليل حاجبُه يسر به من كان يلهو بقربه ... لطيف الحشى لا يحتويه أقاربه فو الله لولا الله لا شيء غيره ... لَنُقِّضَ من هذا السرير جوانبه ولكنني أخشى رقيبا موكلًا ... بأنفسنا لا يَفْتُرُ الدهرَ كاتبُه ثم تنفست الصعداء، وقالت: " لهان على عمر بن الخطاب وحشتي، وغيبة زوجي عني"، وعمر واقف يسمع قولها، فقال لها عمر: " يرحمك الله"، ثم وجه إليها بكسوة ونفقة، وكتب لها أن يقدم عليها زوجها) (658) . وقيل: إن عمر رضي الله عنه أوَّه، ثم خرج، حتى دخل على   = ابن الصلاح رحمه الله: (مجموعها يقوي الحديث، ويحسنه، وقد تقبله جماهير أهل العلم، واحتجوا به، وقول أبي داود: " إنه من الأحاديث التي يدور الفقه عليها"، يشعر بكونه غير ضعيف) اهـ. نقلا من " جامع العلوم والحكم " ص (287) ، وانظر: " السلسلة الصحيحة" رقم (250) ، و " جامع الأصول " (6/64) . (657) أخرجه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الحاكم (2/57-58) ، والبيهقي (6/69- 70) ، وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي، وكذا أخرجه من حديث أبي صرمة بن قيس الأنصاري المازني الإمام أحمد (3/453) ، وأبو داود رقم (3635) في الأقضية: باب أبواب من القضاء، والترمذي رقم (1941) في البر والصلة: باب ما جاء في الخيانة والغش، وابن ماجه (2342) في الأحكام: باب من بنى في حقه ما يضر بجاره، وقال الترمذي: " حسن غريب"، ويشهد له معنى الحديث السابق، وانظر: " فيض القدير" (6/173) . (658) " مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب " لابن الجوزي ص (83-84) ، " تفسير القرآن العظيم" لابن كثير (1/394) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 على حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، فقالت: " يا أمير المؤمنين، ما جاء بك في هذا الوقت؟ "، قال: " أي بنية كم تحتاج المرأة إلى زوجها؟ "، فقالت: "في ستة أشهر "، فكان لا يغزي جيشًا له أكثر من ستة أشهر) (659) ، وفي بعض الروايات تحديد المدة بأربعة أشهر، وقيل: (إن عمر كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم من أهل المدينة، فأمرهم إما أن يرجعوا إلى نسائهم، وإما أن يفارقوا، فمن فارق منهم فليبعث بنفقة ما ترك، وأن تكون النفقة على قدر السعة) (660) . ولهذا كان عمر رضي الله عنه يرى فسخ النكاح إذا فات حق الوطء، ورآه الفقهاء أيضًا، فرأوا أن من حق أحد الزوجين أن يفسخ النكاح لترك الوطء، وهو ما يسمى بالفسخ للعيب، أي لعيب خِلقي كالمرض الذي يستحيل معه الوطء، أو خُلقي للإضرار أو إهمالاً، لأن ذلك ترك لحق من الحقوق، قال الإمام ابن حزم - رحمه الله -: " ويجبر على ذلك من أبى بالأدب، لأنه أتى منكرًا من العمل " (661) اهـ. و (قيل للإمام أحمد: " كم يغيب الرجل عن زوجته "؟ قال: " ستة أشهر، يكتب إليه، فإن أبى أن يرجع فرق الحاكم بينهما " (662) اهـ. يعني بذلك: إذا تضررت الزوجة، وطلبت التفريق، والله أعلم. الحق السادس: تزين الزوجين: امتن الله سبحانه على عباده بما أنزل إليهم من الزينة التي تحسِّن هيآتهم،   (659) " السابق"، وانظر: " المصنف " للإمام عبد الرزاق (7/12594) ، و " المغني " (7/29) ، " موسوعة فقه عمر بن الخطاب، ص (659) ، " روضة المحبين ونزهة المشتاقين، لابن القيم ص (226-227) . (660) "المغني" (7/573) ، " موسوعة فقه عمر بن الخطاب " ص (489) . (661) " المحلى " (10/40) . (662) "المغني " (7/31) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 ومنازلهم، فقال عز وجل: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير) الأعراف (26) . وقال سبحانه يندد بالذين يحرمون ما أحل الله لعباده من هذه الزينة والطيبات المباحة: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [الأعراف: 32] . وجاءت السنة النبوية تحض المسلمين رجالا ونساءً على حسن الهيئة والنظافة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان له شعر فليكرمه) (663) . وعن أبي قتادة قال: (قلت: " يا رسول الله إن لي جُمَّةً، أفأرَجلُها؟ " (664) قال: " نعم، وأكرمها " (665)) . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حَبة من كِبرٍ "، فقال رجل: " إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعلُه حسنةً؟، فقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله جميل يحب الجمال " (666) الحديث، وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه ثوب دُون، فقال له:   (663) أخرجه أبو داود رقم (4163) في الترجل: باب في إصلاح الشعر، والطحاوي في "مشكل الآثار" (4/321) ، وحسنه الحافظ في " الفتح" (10/310) . (664) الجُمة: الشعر المسترسل حتى يبلغ تحت الأذن، وقوله: " أرجلها ": يعني أسرحها بالمشط. (665) رواه النسائي (8/183) في الزينة: باب اتخاذ الجمة، وقال في " تحقيق جامع الأصول ": (وإسناده عنده - أي النسائي - صحيح، ووصله أيضًا البزار بإسناد صحيح " اهـ (4/750) . (666) رواه مسلم رقم (91) في الإيمان: باب تحريم الكبر وبيانه، وأبو داود رقم (4091) في الأدب: ما جاء في الكبر، والترمذي (1999) في البر والصلة: باب ما جاء في الكبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 " ألك مال؟ "، قال: " نعم "، قال: " من أي المال؟ "، قال: " من كل المال قد أعطاني الله تعالى! "، قال: " فإذا آتاك الله مالًا فَلْيُرَ أثرُ نعمة الله عليك وكرامته " (667) . وقال صلى الله عليه وسلم: " من كان له مال، فَلْيُرَ عليه أثرُه " (668) . وتزين المرأة لزوجها، وكذا الرجل لزوجته ينبغي أن يتخذ منه الزوجان الحظ المناسب، لأنه من أسباب الألفة والمودة، ولهذا جعل الشارع الزينة حقا مشروعًا لكل منهما على صاحبه. ومراعاةً لهذه الفطرة التي فطر الله عليها النساء من حب الزينة، والتي يشر إليها قوله تعالى: (أوَمن يُنَشَّأ في الحِلْيَةِ وَهُوَ في الخِصامِ غيرُ مُبِين) الزخرف (18) ، (أباح الله تعالى من التحلي واللباس للنساء ما حَرمه على الرجال، لحاجتهن إلى التزين للأزواج، وأسقط الزكاة عن حليهن (669) معونةً لهن على اقتنائه) (670) اهـ.   (667) أخرجه النسائي (2/ 291، 296) ، وأبو داود رقم (4063) ، والحاكم (4/ 181) ، وأحمد (3/473) من حديث أبي الأحوص عن أبيه رضي الله عنه، وقال الحاكم: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي: (رواه الطبراني في الصغير، ورجاله رجال الصحيح) اهـ (5/133) ، والحديث صححه الألباني في (غاية المرام، رقم (75) . (668) رواه الطبراني في " الكبير" (8/31) ، وقال الهيثمي: (وفيه يحيى بن يزيد بن أبي بردة، وهو ضعيف) اهـ. من " المجمع" (5/133) ، والحديث صححه الألباني في" صحيح الجامع" (5/345) رقم (6370) . (669) وهذا مذهب الجمهور، إذا كان يتخذ زينة ومتاعا،. أما ما اتخذ مادة للكنز والادخار، أو اتخذ حُلِيا فرارا من الزكاة، فتجب فيه الزكاة، واستدل من يقول بوجوب الزكاة في الحلي المتخذ للزينة بعموم الأدلة في الذهب والفضة، وكذا أحاديث وردت في زكاة الحلي خاصة، صححها بعض الأئمة، والله أعلم. (670) " المغني " (5/546) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 فعلى المرأة أن تتزين لزوجها، ومن حقه عليها أن تفعل (671) ، وإن تجاوزت الشطر الأعظم من عمرها، فذلك من أسباب الألفة والتودد، لكن لا تبالغ في ذلك حتى يضيع وقتها الثمين أمام المرآة، فهذا من ضعف العقل، وخلل التصور. ومن الإشارات النبوية إلى أهمية التزين للأزواج وأثره في التواد والتحاب بين الزوجين: ما جاء في حديث جابر رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، فلما قدمنا المدينة ذهبنا لندخل، فقال: (أمهلوا حتى تدخلوا ليلًا يعنى عشاء - لكي تمتشط الشعِثة، وتستحِد المُغِيبةُ " (672)) ، وفي رواية للبخاري: " إذا أطال أحدكم الغيبة، فلا يطرق أهله ليلا ". وفي هذا دليل على أنه يستحب التأني للقادم على أهله حتى يشعروا بقدومه قبل وصوله بزمان يتسع لما ذُكر من تحسين هيئات من غاب عنهن أزواجهن، وذلك لئلا يهجم على أهله وهم في هيئة غير مناسبة، فيقع النفور عنهن، وفي هذا الحديث بيان أن المرأة مادام زوجها حاضرا مقيمًا فهي دائمة التزين، ولا تهجر هذه الخصلة إلا في غياب زوجها.   (671) وشرط تزين المرأة أن لا تظهر. لأجنبي، وأن لا تكون الزينة محرمة كوصل الشعر، والنمص، والوشم، وتفليج الأسنان، وغيره مما نهى عنه الشارع، فلا يحل التزين به، ولو أمر به الزوج، قال صلى الله عليه وسلم: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ". (672) رواه البخاري (9/296-297) في النكاح: باب لا يطرق أهله ليلا إذا أطال الغيبة، وفي الحج، ومسلم رقم (715) في الإمارة: باب كراهة الطروق وهو الدخول ليلا، وأبو داود رقم (2776: 2778) في الجهاد: باب في الطروق، والترمذي رقم (1172) في الرضاع: باب رقم (17) ، وفي الاستئذان رقم (2713) ، والشعِثة: البعيدة العهد بالغسل وتسريح الشعر والنظافة، والمغيبة: التي غاب عنها زوجها، وعن زينب امرأة عبد الله قالت: (كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح، وبزق كراهية أن يهجم منا على شيء يكرهه) الحديث رواه الإمام أحمد (1/381) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 ومما يعكس رسوخ هذا المفهوم عند الرعيل الأول، ذلك السؤال الذي وجهته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى امرأة عثمان بن مظعون رضي الله عنه لما رأتها هجرت الزينة، فقد قالت رضي الله عنها: (كانت امرأة عثمان بن مظعون تخضب- أي بالحناء- وتتطيب، فتركته، فدخلت عَلَي، فقلت: " أمَشْهَدٌ أم مَغِيب؟ " (673) ، فقالت: " مشهد " (674) ، قالت: " عثمان لا يريد الدنيا، ولا يريد النساء "، قالت عائشة: " فدخل عَلىَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بذلك، فلقي عثمانَ، فقال: (يا عثمان تُؤمنُ بما نؤمنُ به؟ " قال: " نعم يا رسول الله "، قال: " فَأسْوَة ما لَكَ بنا ") (567) . (وكانت علية بنت المهدي كثيرِة الصلاة، ملازمة للمحراب، وقراءة القرآن، وكانت تتزين، وتقول: " ما حَرم الله شيئًا إلا وقد جعل فيما أحل عِوَضًا منه، فبماذا يحتج العاصي؟) (676) اهـ. (وقال الأصمعي: رأيت في البادية امرأة عليها قميص أحمر، وهي مختضبة، وبيدها سبحة، فقلت: " ما أبعد هذا من هذا"، فقالت: ولله مني جانب لا أضيِّعُه ... وللهو مني والبطالة جانب   (673) فتأمل كيف ربطت عائشة رضي الله عنها فورا بين هجرانها الزينة وبين غياب زوجها، تدرك أن الأصل الذي كان متقررا عند نساء السلف أن المرأة تداوم على الزينة ما دام زوجها مقيما. وفي رواية أنها قالت: "مشهد كمغيب" تعني أن زوجها لا حاجة له بالنساء، فهى في حكم من لا زوج لها. (675) أخرجه الإمام أحمد في " المسند " (6/106) من طرق مختلفة، انظر: (6/268) ، (6/226) ، وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد،: (وأسانيد أحمد رجالها ثقات) اهـ. (4/30) ، وانظر " السلسلة الصحيحة" رقما (394) ، (1782) . " أحكام النساء، ص (138) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 فعلمت أنها امرأة صالحة لها زوج تتزين له) (677) اهـ. وقد راج بين العرب قديما مثل يقول: (أطيب الطيب الماء) ، لأن زينة المرأة عندهم هي النظافة في الدرجة الأولى، ومن هنا فإن من واجب الزوجة أن تسعى إلى إرضاء زوجها، وإدخال السرور على قلبه إذا جاء بيته، فتستقبله متزينة متنظفة، لا تبدي تعبَا من عمل، ولا نفورَا من أمر، متحرية إدخال السرور على قلبه؛ فتحمل متاعه، وتعينه على نزع ثيابه، وتقدم إليه ما يلبس في بيته، وذلك مدعاة لسروره وسعادته بامرأته. وقد سئل إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله " عن المرأة تبالغ في إكرام زوجها، فتتلقاه، وتنزع ثيابه، وتقف حتى يجلس؟، ففال: أما التلقي فلا بأس به، وأما القيام حتى يجلس، فلا، فإن هذا فعل الجبابرة، وقد أنكره عمر بن عبد العزيز " (678) اهـ. ولكن أكثر الزوجات الآن تلقى زوجها مشغولة بطبخها الذي تأخرت فيه، بذلة الثياب، تعبة، ضيقة الصدر، كثيرة الشكوى والضجر، ولا تلبث إحداهن بعد الأشهر الأولى من الزواج أن تنهمك في مراعاة المطبخ والأثاث، وتبذل في ذلك غاية وسعها، حتى تنصرف من حيث لا تشعر عن الاحتفاء بزوجها في الملبس أو الزينة، وإن كانت لا تغفل عن هذا الاحتفاء وتلك الزينة، لاستقبال أترابها وزيارة جاراتها، مما يكون عاملا أساسيا في نفرة الزوج وسخطه، فيدخل البيت مستعيذًا من شرها، ويفر منه مستجيرَا من ضرها، إذ يجد زوجه قد تحولت عنه، وتقمصت شخصية الخادم التي تحس أن واجبها منحصر في خدمة البيت، دون العناية   (677) " إحياء علوم الدين " (4/750 -751) . (678) "فتح الباري" (11/50 - 51) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 بصاحب ذلك البيت أعني الزوج (679) . أوصت أم ابنتها عند زواجها، فقالت لها: (أي بنية! لا تغفلي عن نظافة بدنك، فإن نظافته تضيء وجهك، وتحبب فيك زوجك، وتبعد عنك الأمراض والعلل، وتقوى جسمك على العمل، فالمرأة التفلة تمجها الطباع، وتنبو عنها العيون والأسماع، وإذا قابلت زوجك فقابليه فَرِحة مستبشرة، فإن المودة جسم رُوحه بشاشة الوجه) (568) . كذلك ينبغي للرجل أن يتزين لزوجه بما يناسب رجولته (681) ، كما يحب أن يرى امرأته تزدان له أيضَا، فإنها يعجبها منه ما يعجبه منها، وقد فهم السلف ذلك من قوله تعالى: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) البقرة (228) . قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي، وما أحب أن أستنظف كل حقي الذي لي عليها، فتستوجب حقها الذي لها عَلي؛ لأن الله تعالى قال: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) أى   (679) انظر " نظرات في الأسرة المسلمة، للدكتور محمد الصباغ حفظه الله ص (70- 71) . (680) " رحمة الإسلام للنساء " للشيخ محمد الحامد رحمه الله ص (75) ، وقد قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: (ومن آداب المرأة ملازمة الصلاح والانقباض في غيبة زوجها، والرجوع إلى اللعب والانبساط وأسباب اللذة في حضور زوجها) اهـ (الإحياء 4/751) . (681) ومن الزينة المباحة للرجل: خاتم الفضة، وأن يعفي شعره حتى يبلغ منكبيه، وفرقه وهو قسمته في مفرق وسط الرأس، وترجيله وإكرامه، على ألا يكون له مشغلة، وتغيير الشيب بالصفرة والحمرة، والطيب، والسواك، والكحل إذا كان يليق به، ومما يحرم عليه التزين به: حلق لحيته، أو لبس خاتم الذهب، والحرير، وجر الثياب أسفل الكعبين، انظر: " الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي (3/124) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 زينة من غير مأثم) (682) . وقد سرى هذا الفهم إلى التابعين، فهذا يحيى بن عبد الرحمن الحنظلي يقول: أتيت محمد بن الحنفية فخرج إليَّ في مِلْحَفَةٍ حمراء، ولحيته تقطر من الغالية (683) ، فقلت: " ما هذا؟ "، قال: " إن هذه المِلْحَفَةَ ألقتها علي امرأتي، ودهنتني بالطيب، وإنهن يشتهين مِنا ما نشتهي منهن " (684) . (قال العلماء: أما زينة الرجال فعلى تفاوت أحوالهم؛ فإنهم يعملون ذلك على اللبَق (685) والوفاق، فربما كانت زينة تليق في وقت، ولا تليق في وقت، وزينة تليق بالشباب، وزينة تليق بالشيوخ، ولا تليق بالشباب،.. والمقصود أنه يكون عند امرأته في زينة تسرها، وتُعِفها عن غيره من الرجال) (686) اهـ. وقد وسعت شريعة الله الإباحة فيما يتزين به الإنسان، ولم تقيده إلا تقييدًا يسيرَا، لكي لا تخرج الزينة إلى المفسدة المضرة، قال تعالى: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) الأعراف (31) . وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قال صلى الله عليه وسلم: " كلوا، وتصدقوا، والتبسوا في غير إسراف ولا مخيلة " (687) .   (682) تقدم برقم (589) . (683) الغالية: طيب معروف. (684) " التبيان فيما يحتاج إليه الزوجان " ص (34) ، ولم يعزه. (685) اللبق: بالفتح، اللباقة والحذق. (686) "الجامع لأحكام القرآن" (3/124) . (687) أخرجه النسائي (5/79) في الزكاة: باب الاختيال في الصدقة، وكذا البخاري تعليقا (10/215) في اللباس: في فاتحته، وابن ماجه (3605) ، والإمام أحمد (2/181) ، والحاكم (4/135) ، وصححه، ووافقه الذهبي، وابن أبي شيبة في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: قال صلى الله عليه وسلم: " كُلْ ما شئتَ، والبَسْ ما شئتَ، ما أخطأتك اثنتان: سَرَف، ومَخِيلة " (688) . فالإسلام يأمرنا بالاعتدال في اللباس والزينة، ويكره للرجل كما يكره للمرأة أن يباهي بثيابه أو يتعاظم بها، لأنه اشتغال بالقشور، وإعراض عن اللباب.   = " المصنف" (8/217) رقم (4929) ، وحسنه الألباني في (المشكاة) رقم (4381) . (688) أخرجه البخاري تعليقا (10/216) في اللباس: في فاتحته، ووصله ابن أبي شيبة في " المصنف" (8/217) رقم (4930) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 ثانيا: حقوق الزوجة على زوجها (أ) الحقوق المادية (1) هدية التكريم للمرأة "المهر" " خير النكاح أيسره " (689) حديث شريف المهر: هو ما تُعطاه الزوجة من مالٍ (690) ومنفعة بسبب النكاح. حكمه: الوجوب، فقد أوجب الشرع الإسلامي على الرجل أن يبذل الصداق للمرأة إذا أراد أن يتزوجها. أما أدلة الوجوب: - فمن القرآن الكريم قوله تعالى: (وءَاتوا النساء صَدُقاتهن نِحْلَة) (النساء: 4) ، أي: عطية من الله مبتدَأة، والمخاطب بذلك الأزواج عند الأكثرين، وقيل: الأولياء.   (689) انظر رقم (696) . (690) بشرط أن يكون المال متقومًا، معلوما، مقدورا على تسليمه، وأن تكون المنفعة منفعة شخص أو عين يستحق في مقابلها المال، وانظر: " البدائع" (2/277-287) ، و" الشرح الكبير" (2/294) ، " كشاف القناع" (5/147) ، (مغني المحتاج " (3/220) ، ولم يدل نص صريح ولا قياس صحيح عل تحديد المهر قلة أو كثرة، فالصداق جائز بما قل أو كثر من المال، إذا حصل عليه التراضي، لعموم الأدلة في ذلك، وهذا مذهب الجمهور، انظر: "الجامع لأحكام القرآن" (5/128) ، " المغني، (6/680) ، " المحلى" (9/603) ، " مغني" المحتاج" (3/220) ، " فتح القدير " (2/436) ، " زاد المعاد" (4/29) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 وقوله جل وعلا: (فانكحوهن بإذن أهلهن وءاتوهن أجورهن بالمعروف) (النساء: 25) . وقوله سبحانه: (فآتوهن أجورهن فريضة) (النساء: 24) . وقال عز وجل: (وأحِل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين) (النساء: 24) . وقال جل وعلا: (ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن) (الممتحنة: 10) . - ومن السنة: ما رواه أنس رضي الله عنه أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " تزوجتُ امرأة "، فقال: " ما أصدقتَها؟ " قال: " وزنَ ئواة من ذهب" (691) ، فقال: " بارك الله لك، أولم، ولو بشاة " (692) . وعنه رضي الله عنه: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وجعل عِتقها صَداقها " (693) .   النواة: اسم لما وزنه خمسة دراهم. (692) رواه البخاري (9/ 101) في النكاح، وغيره، ومسلم رقم (1427) في النكاح: باب الصداق، وأبو داود رقم (2109) في النكاح: باب قلة المهر، والترمذي رقم (1094) في النكاح: باب ما جاء في الوليمة، والنسائي (6/119، 120) في النكاح: باب التزويج على نواة من ذهب، والبيهقي (7/227) . (693) طرف من حديث طويل أخرجه البخاري (9/111) في النكاح: باب من جعل عتق الأمة صداقها، وفي البيوع، والجهاد، ومسلم رقم (1365) في النكاح: باب فضيلة إعتاق أمة ثم يتزوجها، ورواه بلفظه المذكور أبو داود رقم (2054) في النكاح، والترمذي رقم (115) فيه، وكذا النسائي (6/114) : باب التزويج على العتق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه في قصة الواهبة نفسها أن رجلًا من أصحابه صلى الله عليه وسلم قام، فقال: " يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة، فزوجنيها "، فقال: " فهل عندك من شيء؟ "، فقال: " لا، والله يا رسول الله، فقال: " اذهب إلى أهلك، فانظر هل تجد شيئاً؟ " فذهب، ثم رجع، فقال: " لا، والله ما وجدت شيئًا "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " انظر، ولو خاتمًا من حديد "، فذهب، ثم رجع، فقال: " لا، والله يا رسول الله، ولا خاتما من حديد، ولكن هذا إزاري "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " ما تصنع بإزارك؟ إن لبِسَتْهُ لم يكن عليك منه شيء، وإن لَبِسْتَهُ لم يكن عليها منه شيء "، فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسُه قام، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مُوَليا، فأمر به فَدُعِي، فلما جاء قال: " ماذا معك من القرآن؟ "، قال: " معي سورة كذا، وسورة كذا: عَدَّدَها "، فقال: (تقرؤهن عن ظهر قلب؟ "، قال: " نعم "، قال: " اذهب فقد مَلكْتُكَها بما معك من القرآن " (694) .   (694) رواه البخاري (9/113) في النكاح: باب تزويج المعسر، وثمانية أبواب أخرى، وفي الوكالة، وفضائل القرآن، واللباس، والتوحيد، ومسلم رقم (1425) في النكاح: باب الصداق، وأبو داود رقم (2111) في النكاح، والترمذي رقم (1114) فيه: باب رقم (23) ، والنسائي (6/113) في النكاح: باب التزويج على سور من القرآن، وابن ماجه رقم (1889) ، والبيهقي (7/85) ، والدارقطني (3/248) ، وأحمد (5/330) ، والدارمي (2/142) . وفي هذا الحديث الرخصة في تعليم القرآن صداقا للزوجة، إذا عدم الرجل المال، ولم يجد شيئا يقدمه، وهذا الحديث يخصص عموم قوله تعالى: (أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين) (النساء: 24) ، وكذا قوله عز وجل: (فنصف ما فرضتم) (البقرة: 237) ، والذي يحتمل التنصيف هو المال، فالنص القرآني عام في التزويج بالمال لمن وجد المال، وأما من لم يجد المال، فقد دلت السنة الصحيحة على الرخصة له في أن يتزوج بتعليم القرآن الكريم، وهذه رخصة مشروطة، فلتؤخذ بقدرها، ولا يتوسع فيها، والله أعلم، وانظر: " فتح الباري" (9/205) ، " شرح النووي، (9/214) ، " أحكام القرآن " لابن العربي (3/1459) ، " المغني" (7/214) ، "المحلى" (9/305) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 وفي رواية للبخاري: " ولو خاتمًا من حديد". فلو كان لأحد أن يتزوج بدون صداق، لكان التسامح مع الفقير الذي لم يجد ولا خاتمًا من حديد، ليتزوج المرأة، مما اضطره الحال إلى أن يدفع صداقًا إزارَهُ، ولم يكن له رداء كما قال سهل رضي الله عنه. وأما الإجماع: فقد ثبتث مشروعية الصداق في النكاح بالإجماع، ولم يخالف فيها أحد من المسلمين، كما ذكره ابن قدامة في "المغني" (695) . ويستحب أن لا يعري النكاح عن تسمية الصداق، لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج أحدًا من نسائه رضي الله عنهن، ولا زوج أحدَا من بناته رضي الله عنهن إلا بِصَداقٍ سماه في العقد، ولأن تسمية المهر في العقد أدفع للخصومة، وأبعد عن النزاع. عر أن ذكر المهر ليس شرطا ولا ركنا في العقد، وإنما هو أثر من آثاره المترتبة عليه، ولذا اغتفر فيه الجهل اليسير، والغرر الذي يرجَى زَوالُه، فإن لم يُسَمَّ المهر في العقد صح بالإجماع - مع الكراهة - على أن يسمي لها مهر بعد العقد، أو يكون لها مهر المثل في ذمة الزوج، ودليل صحة العقد قوله تعالى: (لا جناح عليكم إذا طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة) (البقرة: 236) ، فرفَعَ الله الجناح عمن طَلق في نكاح لا تسمية فيه، والطلاق لا يكون إلا بعد النكاح الصحيح، فدل على جواز النكاح بلا تسمية مهر. وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: " أترضى أن أزوجك من فلانة؟ "، قال: " نعم "، وقال للمرأة: " أترضَيْنَ أن أزوجك فلانا؟ " قالت: " نعم"، فزوج أحدَهما صاحبَه،   (695) "المغني" (6/679) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 فدخل بها الرجل، ولم يفرض لها صداقا، ولم يعطها شيئًا، وكان ممن شهد الحديبية، وكان من شهد الحديبية له سهم بخيبر، فلما حضرته الوفاة قال: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجني فلانة، ولم أفرض لها صداقًا، ولم أعطها شيئا، وإني أشهدكم أني قد أعطيتها صداقًا سهمي بخيبر "، فأخذته، فباعته بعد موته بمائة ألف، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير النكاح أيسره "، وفي رواية: " خير الصداق أيسره " (696) . وعن علقمة قال: (أتي عبد الله - أي ابن مسعود - رضي الله عنه في امرأة تزوجها رجل، ثم مات عنها، ولم يفرض لها صداقَا، ولم يكن دخل بها، قال: فاختلفوا إليه، فقال: " أرى لها مِثل مهر نسائها، ولها الميراث، وعليها العِدة "، فشهد مَعقلُ بن سنان الأشجعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بَرْوَع ابنة واشق بمثل ما قضى) (697) . ومع أن الإسلام قد جعل المهر - نقدًا أو عينا - حقا للمرأة، وألزم الزوج الوفاء به، إلا أنه حرره من عنصر " الثمنية" المادية، فلم يحدده بقدر محدد أصلا، ولم ينظر إليه بذاته، ولقد كان عرب الجاهلية يرونه ثمنًا للمرأة عند زواجها، ويطلقون عليه " النافجة"، أي الزيادة والكثرة، وكان من حق الأب، لا الابنة المخطوبة، ولذا كانت العرب في الجاهلية   (696) رواه أبو داود رقم (2117) في النكاح: باب فيمن تزوج ولم يسم صداقا حتى مات، وابن حبان (1257) ، (1262) ، (1281) ورواه الحاكم (2/182) ، والبيهقي (7/232) ، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، قال الألباني: (إنما هو على شرط مسلم وحده) اهـ. من " إرواء الغليل" (6/345) ، وانظر: " سلسلة الأحاديث الصحيحة" رقم (1842) . (697) رواه أبو داود رقم (2114: 2116) ، والترمذي رقم (1145) وقال: " حسن صحيح "، والنسائي (6/121 - 123) كلهم في النكاح، ورواه الحاكم (2/180) ، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، والبيهقي (7/245) ، وقال: " إسناده صحيح"، وغيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 تقول للرجل إذا وُلدت له بنت: " هنيئا لك النافجة"، أي المعظِّمة لمالك، وذلك أنه يزوجها، فيأخذ مهرها من الإبل، فيضمها إلى إبله، فينفجها، أي يرفعها، ويكثِّرها (698) . والمهر عطية فرضها الله للمرأة: ليست مقابل شيء يجب عليها بذله إلا الوفاء بحقوق الزوجية، كما أنها لا تقبل الإسقاط - ولو رضيت المرأة - إلا بعد العقد، وهذه الآية تعلن على الملأ: (وآتوا النساء صدقاتهن (699) نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا) . وقيل في قوله تعالى: (نِحلة) : فريضة، أي أعطوهن مهورهن حال كونها فريضةً من الله تعالى لهن، وقيل: هبة وعطية، قال ابن   (698) " لسان العرب" لابن منظور (6/4492) مادة " نفج". (699) قوله تعالى: (صَدُقاتهن) أضاف " صدقات " إليهن إضافة تمليك، وهذا يدل على أن المهر ملك للمرأة، ولا يجوز لأحد سواها، سواء كان أباها أو غيره أن يتصرف فيه أو يأخذه، قال علامة القصيم عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تفسير الآية: (وفيه أن المهر يدفع إلى المرأة إذا كانت مكلفة، وأنها تملكه بالعقد لأنه أضافه إليها، والإضافة تقتضي التمليك، وأنه ليس لوليها من الصداق شيء غير ما طابت به) اهـ. من " تيسير الكريم الرحمن" (2/9) ، وانظر: " نيل الأوطار" (6/258) ، أما قول الرجل الصالح لموسى عليه السلام: (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج) (القصص: 27) ففيه مواعدة، ومواصفة أمر قد عُزِم عليه، وهو إنكاحه إحدى ابنتيه مقابل مهر معلوم، هو أجر عمل ثماني حجج، على أن يكون المهر حقا خالصا للزوجة لا لأبيها، ومن ثم قال الزمخشري في تفسير هذه الآية: (ويجوز أن يستأجره لرعيه ثماني سنين بمبلغ معلوم، ويوفيه إياه، ثم ينكحه ابنته) ، وربما كان هذا من باب اختلاف الشرائع في مواجب النكاح، كما في " روح المعاني " (20/69) ، ولهذا قال الصنعاني في " سبل السلام": (وكان الصداق في شرع من قبلنا للأولياء) اهـ. (3/193) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 الأنباري: " كانت العرب في الجاهلية لا تعطي النساء شيئًا من مهورهن، فلما فرض الله لهن المهر كان نحلة من الله، أي هبة للنساء، فرضًا على الرجال " (700) . وقال القاضي أبو يعلى: (وقيل: إنما سمى المهر نحلة لأن الزوج لا يملك بدله شيئًا، لأن البضع بعد النكاح في مِلك المرأة، ألا ترى أنها لو وطئت بشبهة كان المهر لها دون الزوج، وإنما الذي يستحقه الزوج الاستباحة، لا الملك) (701) . قال الألوسي: (فإن قلت: " إن النحلة أخذت في مفهومها أيضا عدم العوض، فكيف يكون المهر بلا عوض وهو في مقابلة البضع والتمتع به؟ "، أجيب: " بأنه لما كان للزوجة في الجماع مثل ما للزوج أو أزيد، وتزيد عليه بوجوب النفقة والكسوة كان المهر مجانا لمقابلة التمتع بأكثر منه " (702) اهـ. وقيل: النحلة: العطية بطيب نفس، أي: " لا تعطونهن مهورهن وأنتم كارهون "، وقيل: النحلة: الديانة، أي: آتوهن صدقاتهن ديانةً. والحاصل أن المهر حق مفروض للمرأة، فرضته لها الشريعة ليكون تعبيرًا عن رغبة الرجل فيها، ورمزَا لتكريمها وإعزازها، وقد صرح الفقهاء بقولهم: (المهر فُرضَ شرعَا لإظهار خطَرِ المحل) ولقد حرست الشريعة هذا الحق للمرأة، فَحَرمَت على أي إنسان أكلَه أو التصرفَ فيه بغير إذنها الكامل ورضاها الحقيقي، قال تعالى: (فإن   (700) ، (701) " زاد المسير" (2/11) . (702) " روح المعاني" (4/198) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 طِبنَ لكم عن شيء منه نفسًا) أي من غير إكراه ولا إلجاء بسبب سوء العشرة ولا إخجال بالخلابة والخديعة (فكلوه هنيئًا مريئا) أي سائغا لا غصص فيه ولا تنغيص، فإذا طلب منها شيئًا فحملها الخجل أو الخوف على إعطائه ما طلب فلا يحل له، وعلامات الرضا وطيب النفس لا تخفى، وقد روى جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيب نفس منه " (703) . قال الألوسي: (والمعنى: فإن وهبن لكم شيئا من الصداق متجافيًا عن نفوسهن طيبات غير مخبثات بما يضطرهن إلى البذل من شكاسة أخلاقكم وسوء معاملتكم، وإنما أوثر ما في النظم الكريم دون " فإن وهبن لكم شيئا منه عن طيب نفس" إيذانًا بأن العمدة في الأمر طيب النفس وتجافيها عن الموهوب بالمرة، حيث جعل ذلك مبتدأ، وركنا من الكلام لا فضلة، كما في التركيب المفروض) (704) . (وأخرج ابن جرير عن حضرمي أن ناسا كانوا يتأثمون أن يرجع أحدهم في شيء مما ساقه إلى امرأته فنزلت هذه الآية، وفيها دليل على ضيق المسلك في ذلك، ووجوب الاحتياط حيث بنى الشرط على طيب النفس، وقلما يتحقق) (705) اهـ. إن المهر - قلَّ أو كثر - حق للمرأة، في مقابل الميثاق الغليظ،   (703) رواه من حديث عم أبي حرة الرقاشي الدارقطني (3/26) ، وأحمد (5/72) ، والبيهقي (6/100) ، ومن حديث أبي حميد الساعدي الإمام أحمد (5/425) ، وابن حبان (1166) ، ومن حديث عمرو بن يثربي الدارقطني (3/26) ، والبيهقي (6/97) والإمام أحمد (3/423، 5/113) ، ومن حديث ابن عباس: البيهقي، والحديث صححه الألباني في " إرواء الغليل" (5/279) . (704) "روح المعاني" (4/199) . (705) " السابق" (4/200) ، وانظر: " الكشاف " للزمخشري (1/377) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 قال تعالى: (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظًا) (النساء: 21) ، والميثاق الغليظ: هو حق الصحبة والمعاشرة، والإمساك بمعروف، أو التسريح بإحسان. ولقد حرص التشريع الحكيم على حماية حق المرأة في تملكها للمهر، وتوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من يضيع هذا الحق بأشد الوعيد: فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن أعظم الذنوب عند الله رجل تزوجَ امرأة؛ فلما قضى حاجتَهُ منها طلقَها، وذهب بمهرها، ورجل استعمل رجلًا فذهبَ بأجرته، وآخَرُ يقتل دابَّة عَبَثَا " (706) . والمرأة لا تفقد مهرها الا في حالة واحدة فقط، هي حالة الخُلْع، وهو طلبها مفارقة الزوج مقابل مال تبذله له، وذلك جائز إذا تم مخافة أن تقيم حدود الله في زوجها بسبب كراهية تؤدي إلى تضييع حقوق الزوج، وحُسْن معاشرته (707) ، وإذا كان عارض الكراهية من قبل الرجل، بغير ذنب منها، وخشي ألا يعاملها بما يجب بالمعروف، فله أن يُسَرحَها بإحسان، لأن عقدة الزوجية بيده، وليس له في هذه الحالة أن يأخذ مما أعطاها شيئا، بل يعطيها حقوقها كاملة لقول الله عز وجل: (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارَا فلا تأخذوا منه شيئا)   (706) رواه الحاكم (2/182) ، وقال: " صحيح على شرط البخاري"، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في " الصحيحة" رقم (999) . (707) وأول خلع وقع في الإسلام حين جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: " يا رسول الله إني لا أعتب على ثابت بن قيس في دين ولا خلق، ولكني لا أطبقه "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتردين عليه حديقته؟ "، قالت: " نعم "، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة "، رواه البخاري، وانظر: " فتح الباري" (9/325) ط. السلفية، باب الخلع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 الآية (النساء: 21) . ومن يُسْرِ الإسلام وسماحته، وتشجيعه على الزواج، ورفعه الحرجَ عن الأمة أنه شرع لمن لم يجد مالًا حالا أن يتزوج بمهر مؤجل، قال الفقهاء رحمهم الله: " يصح كونُ المهر مُعَجَّلا أو مُؤجَّلاً، كله أو بعضه، إلى أجل قرِيب أو بعيد، أو أقرب الأجلين (708) : الطلاق، أو الوفاة " (709) . والأوْلى الموافق لفعل السلف الصالح رضي الله عنهم تعجيل المهر كله بعد تيسيره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " التمس ولو خاتمًا من حديد "، ولم يُزَوجْه بمؤخر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (ويكره للرجل أن يصدق المرأة صداقا يَضُرُّ به إن نقَدَه، ويعجز عن وَفائه إن كان دَينًا ... ، وإذا أصدقها دينًا كثيرًا في ذمته، وهو ينوي أن لا يعطيها إياه كان ذلك حرامًا عليه.. وما يفعله أهل الجفاء والخيلاء والرياء من تكثير المهر للرياء   (708) وعلى ذلك جرى العرف في بلاد المسلمين، وكل ما سبق الاستدلال به على صحة العقد بدون تسمية مهر يصح الاستدلال به على تأجيله، بل أوْلى، لأن زواج المرأة بمهر معلوم مؤجل خير لها من أن تتزوج بدون تسمية صداق، وكلا الأمرين جائز، وربما كان لها في التأجيل مصلحة، فإنه في حالة الفراق قد تكون في حاجة إلى المبلغ المؤجل، لتستعين به على نوائب الدهر. (709) فإذا طلقها وجب عليه أن يدفع مَا لَها بذمته من المهر المؤجل، ونفقة عدة الطلاق، وإذا مات عنها كان مهرها المؤجل دينًا في التركة، يبدأ بأدائه بعد تجهيزه ودفنه، وقبل تنفيذ وصيته، لأنه حق ثابت في ذمة المتوفي كالديون الأخرى، فإذا ماتت قبله فهو ميراث متروك عنها لمن يرثها، وزَوْجُها من جملتهم، وله النصف إذا لم يكن لها ولد مطلقًا منه أو من زوج آخر قبله، والربع إذا كان لها ولد منه أو من زوج آخر قبله، والباقي لبقية الورثة الأقرب فالأقرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 والفخر (710) ، وهم لا يقصدون أخذه من الزوج، وهو ينوي أن لا يعطيهم إياه: فهذا منكر قبيح، مخالف للسنة، خارج عن الشريعة (711) . وإذا قصد الزوج أن يؤديه، وهو في الغالب لا يطيقه، فقد حمل نفسه، وشغل ذمته، وتعرض لنقص حسناته، وارتهانه بالدين، وأهل المرأة قد آذَوْا صِهرَهم، وضَرُّوه) (712) اهـ. قال الشيخ محمد كمال الدين الأدهمي: (وللزوج أن يخلص من التبعة، فيعطيها - وهو في حياته، وهي تحت   (710) ويظهرون مهرا في العلانية يقل عن مهر السر لأجل السمعة والتباري والمباهاة. (711) "مجموع الفتاوى" (32/193-194) بتصرف، والناظر إلى العقود التي يكون فيها مهور مؤجلة يدرك أن القصد منها ليس المهر بقدر ما هو التضييق على الزوج، وتقييده إذا فكر في الطلاق، ولذا يكون المؤجل أضعاف المعجل، ويتساهلون في المعجل ظنا منهم أنه إذا أقدم على طلاقها، تذكر إغرامه بالمؤخر عند حلوله، فيمتنع عن التسرع في طلاقها، وفي ذلك قول شاعرهم: مَهْر الفتاةِ إذا غلا صَوْن لها ... عن أن يبت عَشِيرُها تطليقَها يهْوى الفِراقَ، وخَافَ مِنْ إغرامِهِ ... فأدامَ في أسبابه تعْلِيقَها ولربما ؤرِثَتْهُ أو سبقَتْ بها ... أقدارُ مَيتتها فكان طَليقَها ان المغالاة في المهر تثير الحقد والغضب والعداوة في نفس الخاطب، كما بين ذلك أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وإن من أراد أن يكون نكاح ابنته ميمونا عظيم البركة، فعليه أن يسعى إلى ذلك بتيسير المهر وتقليله، تصديقا لقول الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم: " إن أعظم النكاح بركة: أيسره مؤنة "، وليعلم الآباء "التجار" الذين ينظرون إلى بناتهم نظرتهم إلى السلع المبيعة، والذين يتوهمون أن في رفع مهور بناتهم ضمانا لمستقبلهن، ليعلم هؤلاء أن الذي يكره زوجنه، ويريد طلاقها لا يمكن أن تقف في وجهه مشكلة المال، إذا كان ميسور الحال، وإلا فربما زين الشيطان له عَضلها والإضرار بها حتى تفتدي نفسها منه، أو خداعها بالمكر والخلابة، فيعود الحال إلى نقيض ما قصده أبوها، بشؤم المغالاة في المهور! (712) " مجموع الفتاوى" (32/192-194) بتصرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 عصمته - مؤجل صداقها الذي تستحقه بطلاقها أو بموته تخلصا من تبعة الدينِ الثقيلة الوطأة على المَدِين - المديون- ولها أن تسقط عنه مهرها المؤجل كله أو بعضه، في حياته وبعد موته، وعليه أن يوصي به- أي بلزوم دفع مؤجل مهرها - وليست هذه وصية صدقة، بل وصية تأدية حق كالديون الأخرى، يسْأل عنها في قبره، ويعذب على سكوته عليها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يُقادَ للشاةِ الجَلْحَاء من الشاة القرناء تنطحها، رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة، وقال في حديث آخر: (نفس المؤمن معلقة بدَينه حتى يُقضَى عنه، رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم عن أبي هريرة) (713) اهـ.   (713) "مرآة النساء" ص (167) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 كراهة المغالاة في المهور لقد فرض الشرع الشريف المهر للزوجة منحة تقدير تحفظ عليها حياءها وخَفرَها، وتعبر عن تكريم الزوج لها ورغبته فيها، إلا أنه مِن جانب آخر- حَث على يُسْرِه وخِفتِهِ. - فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خير النكاح أيسره " (714) . وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من يُمْنِ المرأة: تيسيرَ خِطبتها، وتيسير صداقها، وتيسيرَ رحِمها " (715) ، قال عروة: " يعني تيسير رحمها للولادة. وأتبع النبي صلى الله عليه وسلم السنة القولية بالسنة العملية موضحا معنى هذا التيسير، فلم يزد في مهور بناته ولا نسائه أكثر من اثنتي عشرة أوقِيَّةً ونَشًّا: - فعن أبي العجفاء السلمي قال: خطبنا عمر يومًا، فقال: " ألا لا تُغَالوا في صدُقاتِ النساء، فإن ذلك لو كان مَكْرُمَة (716) في الدنيا، وتقوى   (714) تقدم برقم (696) . (715) رواه الإمام أحمد (6/77، 91) ، والبيهقي (7/235) ، وابن حبان (1256) ، والحاكم (2/181) ، وقال: " صحيح على شرط البخاري ومسلم، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (2/251) ، إن كان أسامة ابن زيد- أحد الرواة- هو الليثي، وإن كان العدوى فضعيف، وقال عروة الراوي عن عائشة رضي الله عنها: (وأنا أقول من عندي: " من أول شؤمها أن يكثر صداقها ") . (716) وفي هذا النص من أمير المؤمنين رضي الله عنه إبطال صريح لما يتوهمه الذين = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 عند الله، كان أوْلاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أصدقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم امرأةً من نسائه، ولا أصْدِقَتْ امرأة من بناته، أكثر من ثنتي عَشرةَ أوقية " (717) .   = لا يفقهون من أن غلاء مهر المرأة مكرمة لها في الدنيا، إذ لو كان كذلك لكان أحق الناس بهذه المكرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تزوج، وزوج بمهر لا يتجاوز اثنتي عشرة أوقية، ومن الأمور المسلمة أن الشرف والمكرمة إنما يكون في البذل والعطاء والمسامحة والتيسير على الآخرين، وليس في الأخذ والطلب منهم، والتشديد عليهم، وهذا هو شأن الفضلاء والكرماء لا يرون كثرة الصداق في نفوسهم شيئًا، وإنما جل هم الكريم اختيار الكفؤ لموليته، الذي يتقي الله فيها، وهذا هو النكاح الجدير باليمن والبركة. (717) رواه أبو داود رقم (2106) في النكاح: باب الصداق، والترمذي رقم (1114) في النكاح: باب رقم (23) وصححه، والنسائي (6/117-118) في النكاح: باب القسط في الأصدقة، وابن ماجه (1887) ، والبيهقي (7/234) ، والحاكم (2/175) وصححه، ووافقه الذهبي، وابن حبان (1259) ، والدارمي (2/141) ، وأحمد (1/40، 48) ، وصححه الألباني في "الإرواء" (6/347) . فائدتان: الأولى: في قيمة الأوقِية، والنش، والنواة، وهى من مضاعفات الدرهم. وزن الدرهم الشرعي = 2. 97 جراما من الفضة. الأوقية =40 درهمًا =40 * 2. 97 = 118. 8 جراما. النش = 20 درهمًا =20 * 2. 97 = 59. 4 جراما. النواة = 5 دراهم = 5 * 2. 97 = 14. 95 جراما، وانظر " المقادير الشرعية" للكردي ص (147) . الثانية: شاع على الألسنة قصة اعتراض المرأة على عمر، قائلة له: " نهيتَ الناسَ آنفا أن يغالوا في صداق النساء، والله تعالى يقول في كتابه: (وءاتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) ؟! ، فقال عمر رضي الله عنه: " كل أحد أفقه من عمر " مرتين أو ثلاًثا، ثم رجع إلى المنبر، فقال للناس: " إني كنت نهيتكم أن تُغالُوا في صَداق النساء، ألا فليفعل رجل في ماله ما بدا له"، أخرجه البيهقي (7/233) ، وقال: " هذا منقطع"، وقال الألباني في الإرواء،: (ضعيف منكر) اهـ. (6/348) ، وحتى لو كان في الآية دليل على إباحة المغالاة في المهور = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 - وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت عائشة رضي الله عنها: كم كان صَداق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان صداقُه لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشا، قالت: " أتدري ما النشُّ؟ "، قلت: " لا"، قالت: " نصف أوقية، فذلك خمسمائة درهم ") (718) . - وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: " لما تزوج عليّ بفاطمة رضي الله عنهما، وأراد أن يدخل بها، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أعطها شيئا "، قال: " ما عندي شيء "، قال " أين دِرْعكَ الحطَمِية "؟ ، فأعطاها درعه) (719) . - وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على عبد الرحمن ابن عوف أثر صُفرة، فقال: " ما هذا؟ " قال: " يا رسول الله إني تزوجت امرأة من الأنصار "، قال: " كم سُقْتَ إليها؟ "، قال: " زِنةَ   = كما قال القرطبي رحمه الله، لأن الله لا يمثل إلا بمباح، لكن ليس كل جائز مستحسنا، ولا كل مباح مُرَغبا فيه، بل لقد نهى عمر عنه لما تحول إلى وضع ضار، كما في رواية أبي العجفاء السلمي، وفي رواية النسائي زيادة تجَسدُ خطر المغالاة في المهور ولفظه: " وإن الرجلَ ليعلِى بصَدُقة المرأة، حتى يكون لها عداوة في نفسه، وحتى يقول: " كَلِفتُ لكم عَلَقَ القِربَة"، وعَلَق القربة: يقال: جَشِمتُ إليك علق القربة وعرَقَ القِربة، أي تكلفت إليك، وتعبت، حتى عرَقتُ كعَرَقِ القِربة، يعنى بذلك: الشدة، وأصله: أن القِرَب إنما كان يحملها الإماء ومَن لا مُعين له، وربما افتقر الرجل الكريم، واحتاج إلى حملها، فيعرق، لما يلحقه من المشقة والحياء من الناس، وهذا إنما يقال في الأمر يجد فه الإنسان كُلْفَة وشدة. (718) رواه مسلم رقم (1426) في النكاح: باب الصداق، وأبو داود رقم (2105) في النكاح: باب الصداق، والنسائي (6/116، 117) في النكاح: باب القسط في الأصدقة، وابن ماجه رقم (1886) . (719) رواه أبو داود أرقام (2125، 2126، 2127) في النكاح: باب في الرجل يدخل بامرأته قبل أن ينقدها شيئا، والنسائي (6/129، 130) في النكاح: باب تحلة الخلوة، والبيهقي (7/252) ، (10/269) ، والطبراني في " الكبير" (11/355) ، وابن أبي شيبة في " المصنف " (4/199) ، وقال في تحقيق " جامع الأصول": " إسناده صحيح، اهـ. (7/21) ، والحطمِية: درع تكسر السيوف، وقيل: العريضة الثقيلة، وقيل: إنها منسوبة إلى بطن من عبد القيس يقال له: حُطَمة بن محارب، كانوا يعملون الدروع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 نواة من ذهب "، قال: " بارك الله لك، أولم ولو بشاة "، وفي رواية البيهقي: " على وزن نواة من ذهب، قُومَت خمسة دراهم) (720) . وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثرة المهر، فقد جاءه رجل من الصحابة يستعينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " على كم تزوجتها؟ "، قال: " على أربع أواقٍ "، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " على أربع أواقٍ؟ كأنما تنحتون الفضة من عُرْض هذا الجبل ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسى أن نبعثَك في بَعْثٍ تُصِيبُ منه " (721) الحديث. قال الإمام الشافعي رحمه الله: (والقصد في المهر أحب إلينا، وأستحب أن لا يزيد في المهر على ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه وبناته، وذلك خَمسمائة درهم) (722) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [ (والمستحب في الصداق - مع القدرة واليسار- أن يكون جميع عاجله وآجله لا يزيد على مهر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولا بناته، وكان ما بين أربعمائة إلى خمسمائة بالدراهم الخالصة، نحوا من تسعة عشر دينارا، فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من فعل ذلك فقد استن بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصداق، قال أبو هريرة رضي الله عنه: " كان صداقنا إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر أواق، وطبق بيديه، وذلك أربعمائة درهم " (723) إلى أن قال رحمه الله:   (720) تقدم برقم (692) . (721) أخرجه مسلم رقم (1424) في النكاح: باب ندب النظر إلى وجه المرأة وكفيها لمن يريد تزوجها، و " غُرْض" الشيء جانبه، وانظر: " المصنف" لابن أبي شيبة (4/190) . (722) "الأم" (5/143) . (723) رواه بنحوه النسائي (6/117) في النكاح: باب القسط في الأصدقة، والدارقطني (3/222) في النكاح، والإمام أحمد (2/367) ، واللفظ له، ورجال إسناده ثقات = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 (.. فمن دعته نفسه إلى أن يزيد صداق ابنته على صداق بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواتي هن خير خلق الله في كل فضيلة، وهن أفضل نساء العالمين في كل صفة، فهو جاهل أحمق، وكذلك صداق أمهات المؤمنين، وهذا مع القدرة واليسار، فأما الفقير ونحوه فلا ينبغي له أن يصدق المرأة إلا ما يقدر على وفائه من غير مشقة) اهـ. ثم قال رحمه الله تعالى: (.. وقد كان السلف الصالح الطيب يرخصون الصداق، فتزوج عبد الرحمن بن عوف في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على وزن نواة من ذهب، قالوا: وزنها ثلاثة دراهم وثلث، وزوج سعيد بن المسيب بنته على درهمين، وهي من أفضل أيم من قريش، بعد أن خطبها الخليفة لابنه، فأبى أن يزوجها به) (724) ] اهـ. هكذا كانت سيرة السلف الصالح رضي الله عنهم في شأن المهر، ثم خَلَفَ من بعدهم خَلف سيطر على أفكارهم النظرة التجارية، فتراهم يُغالون في المهور، حتى إنه لا يكاد يخرج بعضهم من عقد زواج إلا وهم يتحدثون عن المهر، وكم بلغ من الأرقام القياسية..! ؟ كأنما خرجوا من حلبة سباق، أو مزايدة! وترى بعضهم إذا خطب إليه الرجل ابنته أو موليته أخذ يُحِدُّ شفرته ليفصل ما بين لحمه وعظمه، فإذا قطع منه اللحم، وهشم العظم، وأخذ منه كل ما يملك، سلمَها له، وهو في حالة بؤس وفقر شديدين، مُثْقَلا بأوزار الديون، والتي من لوازمها الهموم والغموم التي تكدر عليه صفوه، فتذله بالنهار، وتقض مضجعه بالليل، ويغلي بنارها قلبه، ولا تزال به حتى تجعل القوي ضعيفًا، والسمين نحيفًا، كما قيل:   = كما في " نيل الأوطار" (6/190) ، و "الفتح الرباني" (16/168) . (724) " مجموع الفتاوى" (32/194 - 195) بتصرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 والهم يخترم الجسيم نحافة ... ويشيب ناصية الصبي ويهرم إن المغالاة في المهور، وعدم تيسيرها أنتجت أسوأ العواقب، فتركت البنات العذارى عوانس وأيامى في بيوت آبائهن، يأكلن شبابهن، وتنطوي أعمارهن سنة بعد سنة (725) ، وتعذَّر النكاح على جمهور الشباب بل تعسر، فعزفوا عنه، رغم رغبتهم فيه، بل حاجتهم إليه، وفي هذا مضادة لمقاصد الشريعة التي رغبت في النكاح والتناسل، وبهذا يعلم مدى شؤم مخالفةَ مَنْ هَدْيُه خير الهدي صلى الله عليه وسلم في الآخرة والأولى.   (725) ولا شك أن الولي الذي يمتنع من تزويج موليته بالكفء الصالح لظنه أنه لا يدفع له صداقَا كثيرا، لا شك أنه غاش لرعيته، لا ينظر في مصلحتها، بل في هوى نفسه، وهو مع ذلك مرتكب للعضل الذي يعتبر من تكرر منه فاسقًا، ناقص الدين، ساقط العدالة حتى يتوب، انظر: مجموعة ثلاث رسائل للشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، ص (100) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 ليس من الإسلام ليس من الإسلام: ما نراه اليوم من استبداد بعض الآباء بمهور بناتهم والإجحاف بها، أو استيلاء بعض الأشقاء على مهور أخواتهن. وليس من الإسلام: ما يرتكب في بعض البيئات الجاهلية حيث يعمد بعض الناس إلى المقايضة بين النساء في سبيل توفير المهر، وهو المسمى " نكاح الشغار " يزوج الرجل ابنته أو أخته مقابل أن يزوجه ذلك الشخص ابنته أو أخته، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا شِغار في الإسلام " (726) . وذلك لأن كل واحد منهما جعل بُضْعَ كل واحدة منهما مهرًا للأخرى، والبُضع ليس بمال، فلا يصلح مهرا. وليس من الإسلام: " ما يحاوله بعض الذين استعبدتهم أوربة أن يغضوا من شأن المهر، والإفاضة في ذكر مساوئ المغالاة فيه بهدف التوصل إلى غاية خطيرة ألا وهي: إلغاء المهر، كلا.. فليس من المنطق الصحيح في شيء أن نعالج تعسف الناس في استعمال القانون بأن نلغي القانون، لأنا بهذا لن نبقي في الدنيا قانونا، إنما نكون كالذي آلمته عينه فعمد إليها وقلعها، كي لا تؤلمه من بعد. . . وقد أدى هذا المسلك الوخيم بالأوربيين إلى أن تُقَدمَ المرأة هناك بعض المال للرجل، وتكلف هي بإعداد المنزل من مالها.. نعم من مال المرأة..! ! . وهذا معناه أنه لا تزوج المرأة إلا إذا كانت ذات مال، أو تضطر لمعاناة مشقات الحياة ونكد الدنيا لتحصيل نفقات الزواج، ومعناه أيضًا   (726) رواه مسلم في النكاح، الباب رقم (7) ص (035 1) ، والترمذي رقم (1123) ، وابن ماجه رقم (1885) ، وأحمد (3/162) ، وابن حبان رقم (738، 1269، 1270) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 أن نغض من كرامة المرأة، ونضطرها أن تسعى إلى الرجل تطلب يده، فنفرض عليها أن تمزق حجب الحياء والخفر الذي هو زينة أخلاق المرأة، وميزان أصالتها ... إننا نرفض الدعوة إلى إلغاء المهر، لأننا لا نقبل التفريط فيما شرع الله من تكريم المرأة وإعزازها، كما أننا في نفس الوقت نرفض الاعتبارات التجارية التي تسيطر على أفكار طائفة من الناس وطائفة من السيدات، إذ يؤدي إلى التغالي في المهور الذي يئن منه المجتمع، ويرزح تحت أعبائه شبابنا وفتياتنا على حد سواء. إن المهر هدية تعطى للمرأة، فهل يقتنع العقل قط أن المُهدَى إليه يشارط فيها، ويكلف صاحبه من أمره شططا؟!) (727) اهـ. (2) النفقة ومن حقوق الزوجة المادية وجوب نفقتها على زوجها، وهي تشمل الطعام، والشراب، والملبس، والمسكن (728) ، وسائر ما تحتاج إليه الزوجة (729) لإقامة مهجتها، وقوام بدنها.   (727) " ماذا عن المرأة؟ " للدكتور نور الدين عتر ص (68) . (728) وهي التي أشار إليها قوله تعالى: (إن لك أن لا تجوع فيها ولاتعرَى * وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحَى) طه (118-119) ، وقد خصَّ الله آدم بذكر الشقاء فقال: (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) (طه: 117) ، و"لم يقل: " فتشقيان" يعلمنا أن نففة الزوجة على الزوج، انظر: " الجامع لأحكام القرآن" (11/253) . (729) وقال الفقهاء: " إنه يلزم للزوجة نفقة الخادم إذا كان الزوج موسرا، وكانت المرأة ممن تُخدم في بيت أبيها مثلا، ولا تخدم نفسها لكونها من ذوي الأقدار، أو مريضة؛ لأنه من المعاشرة بالمعروف، والخادم هو من يحل له النظر إلى المرأة، بأن يكون امرأة أو ذا رحم محرم؛ لأن الخادم يلزم المخدوم في أغلب أحواله، فلا يسلم من = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 وقد أخبر عز وجل أن الرجال هم المنفقون على النساء، ولذلك كانت لهم القوامة والفضل عليهن بسبب الإنفاق عليهن بالمهر والنفقة، فقال تبارك وتعالى: (الرجال قوامُون على النساء بما فضلَ الله بعضهم على بعض وبما أنففوا من أموالِهم) (النساء: 34) . وقد دل على وجوب هذه النفقة؟ الكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول. أما أدلة الكتاب الكريم: - فمنها قوله تعالى: (لينفق ذو سعَةِ من سعته. ومن قُدِرَ عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله. لا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها. سيجعل الله بعد عُسْر يُسْرًا) (الطلاق: 7) . - ومنها قوله جل وعلا: (وعلى المولود له رزقُهن وكِسوَتهن بالمعروف لا تكَلَّفُ نفس إلا وُسعَها) (البقرة: 233) . - ومنها قوله سبحانه: (وإن كُن أولاتِ حَمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حَملَهن) (الطلاق: 6) . فدلت الآية على وجوب النفقة على المطلقة الحامل، فكانت النفقة للزوجة من باب أولى. وأما أدلة السنة الشريفة: فعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع: " اتقوا الله في النساء فإنهن عوانٍ عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن، وكسوتهن بالمعروف " (730) .   = النظر " انظر: " بدائع الصنائع" (5/2215) ، " فتح القدير"، (3/327 - 329) ، " بداية المجتهد " (2/54) ، " شرح منح الجليل" (2/434) ، " تكملة المجموع" (17/140) ، " كشاف القناع" (5/378) ، "المحلى" (10/111) . (730) تقدم تخريجه رقم (240) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 وعن عمرو بن الأحوص رضي الله عنه أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قي حجة الوداع: ".. ألا إن لكم على نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا، فأما حَقُّكم على نسائكم: فلا يوطئن فُرُشَكم مَنْ تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحَقُّهُنَّ عليكم أن تحسنوا إليهن في كِسوَتهن وطعامهن " (731) . وعن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: قلت: " يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ "، قال: " أن تُطعمها إذا طعِمتَ (732) ، وتكسوَها إذا اكتسيت، ولا تُقَبح الوجه (733) ، ولا تضرب " (734) ، وفي رواية للإمام أحمد بزيادة: " ولا تهجر إلا في البيت (735) ، كيف وقد   (731) انظر تخريجه برقم (1135) . (732) وما أقبح أن يتعاطى الرجل أطايب الطعام، ويلتذ بأشهى الشراب في المطاعم والنوادي والرحلات، ثم يبخل بشيء منه على زوجته وأولاده، كما يصدر ممن لا مروءة له، (حدَّث القالي قال: كان رجل من أهل الشام مع الحجاج يحضر طعامه، فكتب إلى امرأته يعلمها بذلك، فكتبت إليه: أيهْدى إلي القِرطاس والخبز حاجتي ... وأنت على باب الأميرِ بطين إذا غبت لم تذكر صديقا ولم تُقِمْ ... فأنت على ما في يديك ضنين فأنت ككلب السوء ضيع أهله ... فيُهزل أهل البيت وهو سمين) انتهى من " المرأة العربية " لعبد اللَه عفيفي (2/192) . (733) أي: لا يُسمعها المكروه، ولا يشتمها بأن يقول: " قبح الله وجهك، وما أشبهه من الكلام. (734) أي: لا تضرب الوجه، أو لا تضرب إلا بما حل عليهن من الضرب والهجر بسبب نشوزهن، كما في قوله تعالى: (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلًا. إن الله كان عليا كبيرا) (النساء: 34) ، وانظر ص (454 - 470) من هذا الكتاب. (735) أي لا يهجرها إلا في المضجع، ولا يتحول عنها، أو يحولِها إلى دار أخرى، وقد ورد ما يدل على جواز هجرة النساء في غير بيوتهن في البخاري في كتاب النكاح = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 أفضى بعضكم إلى بعض (736) ، إلا بما حل عليهن " (737) . قال البغوي: (قال أبو سليمان الخطابي: في هذا إيجاب النفقة والكسوة لها، وهو على قدر وُسع الزوج (738) ، وإذا جعله النبي صلى الله عليه وسلم حقا لها، فهو لازم حضر، أو غاب، فإن لم يجد في وقته، كان دينًا عليه كسائر الحقوق الواجبة، سواء فرض لها القاضي عليه أيام غيبته، أو لم يفرض) (739) اهـ.   = باب (هجرة النبي صلى الله عليه وسلم نساءه في غير بيوتهن) ، والجمع بينهما أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال، انظر " فتح الباري " (9/300 - 302) . (736) يعنى الجماع. (737) رواه أبو داود (2/244) رقم (2142) ، في النكاح: باب في حق المرأة على زوجها، وابن ماجه (1850) ، والحاكم (2/187 - 188) ، وصححه، وأقره الذهبي، وابن حبان (1286) ، والبغوي في " شرح السنة " (9/160) ، والإمام أحمد (4/446، 447) ، (5/5، 3) ، والبيهقي (7/295) ، وصححه الألباني في " الإرواء" (7/98) . (738) وهذا هو التحقيق؛ أن النفقة تقدر بحسب حال الزوج - لا الزوجة - يسارًا وإعسارا، لقول الله تعالى: (لينفق ذو سعة من سعته ومن قُدِر عليه رزقه فينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) (الطلاق: 7) ، وقال تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) ، والمعروف أن النفقة تكون على قدر حال الزوج من اليسار والإعسار، ويؤيده قوله سبحانه: (أسكنوهن من حيث سكنتم من وُجدِكم) (الطلاق: 6) قال ابن عباس: " أسكنوهن من سعتكم"، فدل على أن الإنفاق مخصوص بحال الزوج جِدَة وفقرا، انظر: " بدائع الصنائع" (5/2216) . ويدل لهذا أيضًا قوله عز وجل: (وبما أنفقوا من أموالهم) (النساء: 34) ، فالرجل صاحب القوامة عليها بالفضل والإنفاق فكان الاعتبار بحاله. ويدل لهذا أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: " أطعموهن مما تأكلون، واكسوهن مما تكتسون" الحديث رواه أبو داود (2/245) رقم (2144) من حديث معاوية القشَيري، وانظر رقم: (737) . (739) "شرح السنة" (9/160) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 وقد رُوي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت " (740) . وعن أنس رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله سائل كل راع عما استرعاه، أحفِظَ ذلك أم ضَيع، حتى يَسألَ الرجلَ عن أهل بيته) (741) . وعن قيس بن حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " والله لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره، فيبيعه، ويستغني به، ويتصدق منه، خير له من أن يأتي رجلا فيسأله، يؤتيه أو يمنعه، وذلك أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول) (742) ، وفي رواية: (فقيل: " مَنْ أعول يا رسول الله؟ " قال: " امرأتك ممن تعول " (743) ،   (740) رواه أبو داود رقم (1692) في الزكاة: باب في صلة الرحم، وأحمد (2/160، 194، 195) ، والبيهقي (7/467) ، (9/25) ، والطبراني في " الكبير" (12/382) ، قال الألباني حفظه الله: (ضعيف بهذا اللفظ، وأخرجه مسلم بلفظ: " كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتَه ") اهـ. من " غاية المرام" رقم (245) ، وقال في " إرواء الغليل " رقم (894) : (وفي رواية لأحمد عن وهب قال: إن مولى لعبد الله بن عمرو قال له: (إني أريد أن أقيم هذا الشهر ههنا ببيت المقدس، فقال له: (تركت لأهلك ما يقوتهم هذا الشهر؟ "، قال: "لا"، قال: فارجع إلى أهلك، فاترك لهم ما يقوتهم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت ") ، ثم حسنه الألباني بعد أن ذكر له شاهدًا، فانظر: " الإرواء" (3/407) . (741) رواه ابن حبان رقم (1562) ، وابن عدي في " الكامل، (1/307) ، وأبو نعيم في " الحلية" (6/281) ، وصححه الحافظ في " الفتح" (13/113) ط. السلفية، وانظر: " سلسلة الأحاديث الصحيحة" حديث رقم (1636) . (742) أخرجه مسلم في الزكاة (106) (3/96) ، وأحمد (2/475) ، والترمذي (1/132) ، وقال: " حديث حسن صحيح". (743) رواه الدارقطني: (3/296) ، والإمام أحمد (2/524، 527) ، وقال العلامة أبو الطيب محمد شمس الحق آبادي في " التعليق المغني": (رواه أحمد أيضا بإسناد صحيح مثله) اهـ (3/296) ، وجوَّد الألباني إسنادها في " الإرواء" (3/317) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 تقول (744) : " أطعمني، وإلا فارقني، وجاريتك تقول: (أطعمني، واستعملني "، وولدك يقول: " إلى مَن تتركني؟ ". وجاء في تفسير قوله تعالى: (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) أن العفو: الزائد على قدر الحاجة التي لابد منها على أصح (745) التفسيرات، وهو مذهب الجمهور، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " وابدأ بمن تعول" (746) ، وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: " ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلِذي قرابتك، فإن فضل عن ذى قرابتك شيء فهكذا وهكذا، يقول: " فبين يديك، وعن يمينك، وعن شمالك، (747) ، وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أعطى الله أحدكم خيرا فليبدأ بنفسه وأهل بيته " (748) .   (744) وفي البخاري: (فقالوا: " يا أبا هريرة، سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ "، قال: " لا، هذا من كيس أبي هريرة ") اهـ. وقوله: " من كِيسي، بكسر الكاف، أي من حاصله، إشارة إلى أنه من استنباطه مما فهمه من الحديث المرفوع مع الواقع، وفي رواية الأصيلي: بفتح الكاف، أي من فطنته رضي الله عنه - وانظر: " فتح الباري" (9/ 500 - 501) ط. السلفية. (745) انظر: (أضواء البيان" (1/38 -40) . تقدم تخريجه برقم (742) ، ومعنى " مَن تعول" من تجب عليك نفقته. (747) أخرجه مسلم (2/692) رقم (997) في الزكاة: باب الابتداء في النفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة، والنسائي (5/69 -70) ، (7/304) ، البيهقي (4/178) ، وسبب ورود الحديث أن رجلا من بني عُذرَة أعتق عبدًا له عن دُبُر (أي علق عتقه بموته، فقال: أنت حر يوم أموت) ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " ألك مال غيره؟ "، فقال: " لا"، فقال: " من يشتريه مني؟ "، فاشتراه نعيم بن عبد الله العدوى بثمانمائة درهم، فجاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعها إليه، ثم قال: " فذكره. (748) رواه مسلم (1454) ، وأحمد (5/86، 89) ، والطبراني (2/217) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن هند بنت عُتْبة قالت: " يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يُعطيني ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه، وهو لا يعلم"، فقال: (خذي ما يكفيك وولدَك بالمعروف" (749)) . قال ابن قدامة رحمه الله: (وفيه دلالة على وجوب النفقة لها على زوجها (750) ، وأن ذلك مقدر بكفايتها، وأن نفقة ولده عليه دونها بقدر كفايتهم، وأن ذلك بالمعروف، وأن لها أن تأخذ ذلك بنفسها، من غير   (749) رواه البخاري (5/107) ط. السلفية، في المظالم: باب قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه، وفي النفقات، والإيمان، والأحكام، ومسلم رقم (1714) في الأقضية: باب قضية هند، والنسائي (8/246 - 247) ، وابن ماجه (2293) ، والإمام أحمد (6/39، 50، 206) ، والدارمي (2/159) ، والبيهقي (7/466) ، والبغوي (8/206 -207) . طريفة: من طرائف ما يروى في بخل الرجل وشدة محاسبة أهله ما حكاه ابن الجوزي رحمه الله في كتابه (الأذكياء) من (أن المغيرة بن شعبة وفتى من العرب خطبا امرأة، وكان الفتى جميلا، فأرسلت إليهما المرأة، فقالت: " إنكما قد خطبتماني، ولست أجيب أحدا منكما، دون أن أراه، وأسمع كلامه، فاحضرا إن شئتما "، فحضرا، فأجلستهما بحيث تراهما، وتسمع كلامهما، فلما رأى المغيرة الفتى وحسن هيئته يئس منها وعلم أنها لن تؤثره عليه، فأقبل على الفتى - وقد فكر في مخرج - فقال له: " لقد أوتيت جمالًا وحسنا وبيانا، فهل عندك سوى ذلك "؟ قال: " نعم"، فعدد محاسنه، ثم سكت، فقال له المغيرة؟ " كيف حسابك؟ " فال: " ما يسقط علي منه شي، وإني لأستدرك منه أدق من الخردلة! "، فقال له المغيرة: " لكنني أضع البدرة- والبدرة كيس يكون فيه ألف، أو عشرة آلاف درهم، أو سبعة آلاف دينار- في زاوية البيت، فينفقها أهلي على ما يريدون، فما أعلم بنفادها، حتى يسألوني غيرها "، فقالت المرأة في نفسها: " والله لهذا الشيخ الذي لا يحاسبني أحب إلي من هذا الذي يحصي علي مثل صغير الخردلة "، فتزوجت المغيرة) اهـ. (750) ووجهه أنه لو لم تكن النفقة واجبة، لم يحتمل أن يأذن لها بالأخذ من غير إذنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 علمه إذا لم يعطها إياه " (751) . وأما دليل الإجماع على وجوب النفقة: فقد نقله كثير من العلماء منهم ابن المنذر، والمهلب، وابن قدامة، والنووي، وابن حجر رحمهم الله أجمعين. قال ابن قدامة رحمه الله: (وأما الإجماع فاتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين إلا الناشز منهن، ذكره ابن المنذر وغيره) (752) اهـ وأما دليل العقل (753) : فهو أن المرأة محبوسة على الزوج بمقتضى عقد الزواج، ممنوعة من التصرف والاكتساب لتفرغها لحقه، فكان نفع حبسها عائذا عليه، فكان عليه أن ينفق عليها، وعليه كفايتها وإلا هلكت، لأن الغنم بالغرم، والخراج بالضمان، فالنفقة جزاء الاحتباس، فمن احتبس لمنفعة غيره وجبت نفقته في مال الغير كالقاضي والولي والموظف والجندي جعل رزقهم في بيت المال لأن كلا منهم محبوس لحق المسلمين، ممنوع من التكسب لتفرغه لمصالحهم. من أجل هذا تجب نفقة الزوجة على الزوج حتى ولو كانت الزوجة موسرة (754) ، لأن نفقتها لم تجب للحاجة، وإنما بسبب احتباسها لحق الزوج.   (751) "المغني" (7/563) . (752) " المغني" (7/564) ، وانظر: " المبسوط" (5/181) ، " فتح القدير" (3/231) ، " بدائع الصنائع" (5/2197) ، " فتح الباري" (7/498، 500، 509) ط. السلفية. (753) انظر: " المغني" (7/564) ، " المبسوط" (5/181) ، " شرح النووي" (8/184) . (754) بل لا تكلف المرأة بشيء من الإنفاق عموما: أما كانت أو أختا، بنتًا كانت = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 ......................   = أو زوجة، قادرة على العمل أو عاجزة عنه، غنية كانت الزوجة أو ففيرة، كان زوجها قادرا على العمل أو عاجزًا عنه، غنيا كان أو فقيرا، فالرجل هو المسئول عن النفقة البيتية، وليس من حقه أن يلزمها بها إلا إذا تبرعت مساهمة في تحمل بعض العبء. والمرأة قبل البلوغ تحت وصاية أوليائها، وهي ولاية رعاية وتأديب وعناية بشأنها، وتنمية لأموالها، وليست ولاية تملك واستبداد، ثم هي بعد البلوغ كاملة الأهلية للالتزامات المالية سواء بسواء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 [فصل] استحباب تصدق المرأة على زوجها وولدها عن زينب - امرأة عبد الله بن مسعود - رضي الله عنهما قالت: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تَصَدقْنَ يا معشر النساء، ولو من حُلِيكُن "، قالت: " فرجعتُ إلى عبد الله، فقلت: إنك رجل خفيف اليد، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالصدقة، فَائْتِهِ "، فاسْألهُ، فإن كان ذلك يجزى عني، وإلا صرفتُها إلى غيركم؟ "، فقال في عبد الله: " بل ائتيه أنت "، قالت: فانطلقتُ، فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حاجتي حاجتُها، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألقِيَتْ عليه المهابةُ، قالت: فخرج علينا بلال، فقلنا له: " ائتِ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَأخْبِرْهُ: أن امرأتين بالباب، يسألانك: أتجْزئُ الصدقة عنهما على أزواجهما، وعلى أيتام في حجورهما؟ ولا تخبره من نحن "، قالت: فدخل بلال على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من هما؟ " قال: " امرأة من الأنصار وزينب "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أي الزيانب؟ "، قال: " امرأةُ عبدِ الله "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لهما أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة " (755) ، وفي رواية للبخاري: أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم:   (755) رواه البخاري (3/328) ط. السلفية في الزكاة: باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر، ومسلم- واللفظ له- رقم (1000) في الزكاة: باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج، والنسائي (5/92، 93) في الزكاة: باب الصدقة على الأقارب، وأما رواية البخاري فقد أخرجها من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (3/325) في الزكاة: باب الزكاة عل الأقارب، وفي الحيض، والعيدين، = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 " يا نبي الله، انك أمرت اليوم بالصدقة، وكان عندي حُلِيّ لي، فأردتُ أن أتصدق به، فزعم ابن مسعود: أنه وولدَ أحقُّ من تُصُدقَ به عليهم "، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " صدق ابنُ مسعود، زوجُكِ وولدُك أحقُّ من تصدقتِ به عليهم "، وفي رواية ابن خزيمة: " تصدقي به عليه وعلى بنيه، فإنهم له موضع ". فضل الإنفاق على الأهل والأولاد ثبت في فضل النفقة على الأهل أحاديث كثيرة: منها: ما رواه أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أنفق المسلم نفقة على أهله، وهو يحتسبها، كانت له صدقة " (756) . ومنها: ما رواه سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " إنك مهما أنفقت على أهلك من نفقة فإنك تؤجر، حتى اللقمة ترفعها   = والصوم، والشهادات، وابن خزيمة (4/ 106-107) رقم: (2461) . (756) قوله: " وهو يحتسبها " يفيد منطوقه أن الأجر في الإنفاق إنما يحصل بقيد قصد القربة، سواء كانت واجبة أو مباحة، أفاده القرطبي، كما نقله عنه في " فتح الباري " (1/136) ، والحديث أخرجه البخاري (1/136) ، (9/497) فتح - ط. السلفية، رقم (55) في الإيمان: باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، والنسائي (5/69) ، والطيالسي رقم (615) ص (86) ، والطبراني في "الكبير" (17/196) . فائدة: قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (النفقة على الأهل واجبة بالإجماع، وإنما سماها الشارع صدقة خشية أن يظنوا أن قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه، وقد عرفوا ما في الصدقة من الأجر، فعرفهم أنها لهم صدقة حتى لا يخرجوها إلى غير الأهل إلا بعد أن يكفوهم، ترغيبا لهم في تقديم الصدقة الواجبة قبل صدقة التطوع) اهـ. من " الفتح" (9/498) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 إلى في امرأتك " (757) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: " دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة (758) ، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرَا الذي أنفقته على أهلك " (759) . وعن المقدام بن معديكرب رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أطعمتَ نفسك فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة) (760) . وعن كعب بن عُجرَة رضي الله عنه قال: (مرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فرأى أصحابه من جَلَده ونشاطه ما أعجبهم، فقالوا: " يا رسول الله! لو كان هذا في سبيل الله؟ "، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن كان خرج يسعى على أولاده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يُعِفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو   (757) قطعة من حديث رواه البخاري (3/164) ط. السلفية في الجنائز: باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة، ومسلم رقم (1628) في الوصية، والترمذي رقم (2116) في الوصايا: باب ما جاء في الوصية بالثلث، وأبو داود رقم (2864) (3/112) في الوصايا، وأحمد (1/172) ، وفي أفراد مسلم: " وإن نفقتك على عيالك صدقة، وإن ما تأكل امرأتك من مالك صدقة ". (758) أى: في إعتاقها. (759) رواه مسلم رقم (995) (2/692) في الزكاة: باب فضل النفقة على العيال والمملوك، والإمام أحمد (2/473) ، والبيهقي (7/467) . (760) رواه الإمام أحمد (4/ 131، 132) ، والبيهقي (4/179) ، وقال المنذري: " بإسناد جيد " (3/62) ، وانظر: " صحيح ابن ماجه " (2/5) رقم (1739) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 في سبيل الشيطان ") (761) . وعن عبد الله بن المبارك رحمه الله قال: " لا يقع موقع الكسب على العيال شيء، ولا الجهاد في سبيل الله " (762) . وقال رحمه الله وهو مع إخوانه في الغزو: " تعلمون عملًا أفضل مما نحن فيه؟ "، قالوا: " ما نعلم ذلك"، قال: " أنا أعلم "، قالوا: " فما هو؟ "، قال: " رجل متعفف ذو عائلة، قام من الليل، فنظر إلى صبيانه نيامًا متكشفين، فسترهم، وغطاهم بثوبه، فعمله أفضل مما نحن فيه " (763) . وينبغي على الرجل أن يطعمها وأولادها حلالا لا إثم فيه، ولا شبهة، فإن طلب الحلال فرض عين عند أهل الكمال. عن كعب بن عُجْرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا كعبُ ابن عجرة" إنه لا يدخل الجنة لحمٌ ودم نَبَتا على سحْت؛ النار أولى به " (764) الحديث. ولهذا كانت الزوجة من السلف الصالح تقول لزوجها إذا خرج إلى عمله: " اتق الله، وإياك والكسبَ الحرام، فإنا نصبر على الجوع والضر، ولا نصبر على النار " (765) .   (761) تقدم برقم (359) . (762) " سير أعلام النبلاء، (8/399) . (763) " الإحياء" (4/701) . (764) رواه ابن حبان (261) ، (1569) ، والإمام أحمد (3/399) ، والدارمي (2/ 318) ، والطبراني (19/ 106، 141، 145) ، والحاكم (4/422) ، وصححه، ووافقه الذهبي، وابن عبد البر في " التمهيد" (2/303) ، والحديث صححه الألباني في " صحيح الترغيب والترهيب" رقم (861) . (765) " الإحياء " (1/748) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 ومن النفقة الواجبة: (3) المسكن قال الإمام ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالي: (ويجب لها مسكن (766) بدليل قوله سبحانه وتعالى: (أسكنوهن من حيث سكنتم من وُجدكم) فإذا وجبت السكنى للمطلقة، فَلِلتي في صلب النكاح أوْلى، قال الله تعالى: (وعاشروهن بالمعروف) ، ومن المعروف أن يسكنها في مسكن (767) ، ولأنها لا تستغني عن المسكن للاستتار عن العيون، وفي التصرف والاستمتاع، وحفظ المتاع، ويكون المسكن على قدر يسارهما وإعسارهما لقول الله تعالى: (من وُجْدِكم) (768) ولأنه واجب لها لمصلحتها في الدوام فجرى مجرى النفقة والكسوة) (769) اهـ.   (766) إما بملك، أو إجارة، أو إعارة، أو وقف. (767) أي: مستقل لدفع الحرج، وللأمن على الأمتعة والحوائج، ولأنه أكثر سلامة، وأحسن للعشرة حيث يضيق نطاق النزاع، ويسهل التسامح في حال وقوع خلاف بينهما، بعكس ما لو اطلع عليه أحماؤها كأمه وأخواته، فقد تأخذه العزة أن يتنازل ويصفع، والاستقلال بالمسكن يقلل حوافز الغيرة التي تحصل بالاجتماع معهن، وفوق كل ذلك قول الله تعالى في آية الطلاق: (واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن) الآية (الطلاق: 1) ، فدل القرآن على أن لهن الحق في البيوت، حق تمتع لا حق تمليك، قبل أن يطلقن، فمن كانت في صلب النكاح وعصمته أولى بهذا الحق، ولا تسلم من تنغيص الحياة، وشدة الخصومات والشكاوى إلا بسكن مستقل في الغالب، والله تعالى أعلم. (768) الوُجد: السعة والمقدرة. (769) " المغني (7/569) ، وقد سبق بيان أن التحقيق تقدير النفقة بحسب حال = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 والسُّكْنَى من كفايتها، فتجب لها كالنفقة، وقد أوجبه الله عز وجل مقرونا بالنفقة، وإذا وجب حقا لها، فليس له أن يشرك غيرها فيه، إلا أن ترضى بذلك، فإن تضررت من السكنى مع ضرتها أو أحمائها، أو كانوا يؤذونها، فعليه أن يُسكِنَها في منزل منفرد ملائم لحاله يسارا وإعسارا، والله تعالى أعلم.   = الزوج - لا الزوجة - يسارا وإعسارًا، راجع هامش رقم (738) ، وعلى هذا فإن المسكن يكون على حسب حاله هو، وإن تضررت، لأنها تزوجته وهي تعرف حاله، فلم يكن لها إلا أن تسكن معه على قدر حاله، لأنه هو الذي آتاه الله، قال عز وجل: (لينفق ذو سعَةٍ منْ سعته ومن قدِرَ عليه رزقُه فلينفق مما آتاه الله لا يكلفُ الله نفسا إلا ما آتاها) الآية (الطلاق: 7) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 (ب) الحقوق الأدبية (4) حرية المرأة في اختيار الزوج لقد حفظ لها الإسلام حقها في اختيار الزوج، واحترم إرادتها فيه، إذ إن هذا الموقف هو أدق المواقف في حياتها، وأمسها بمستقبلها، وهل هناك ما هو أدل على احترام الإسلام رَأي المرأة في هذا الموطن من حديث أم هانئ بنت أبي طالب وقد خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: " يا رسول الله لأنت أحب إلي من سمعي ومن بصرى، وإني امرأة مُؤتمة، وبني صغار، وحق الزوج عظيم، فأخشى إن أقبلتُ على زوجي أن أضيعَ بعض شأني وولدي، وإن أقبلت على ولدي أن أضيع حق زوجي "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على ولَدٍ في صِغره، وأرعاه على بَعْل في ذات يده " (770) . تلك امرأة أبدت صفحة العذر عن بلوغ أقدس منزلة تبلغها المرأة المسلمة، وهى منزلة أمومة المؤمنين، فأكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيها إكبارًا قلَّد قريشا بأسرها تلك الشهادة العالية الكريمة. وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجارية يُنْكحُها أهلُها، أتستأمَرُ أم لا؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم تُستأمر "، فقالت: فقلت له: إنها تستحيي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فذلك إذنُها إذا هي سكتت " (771) ، وفي لفظ النسائي وأحمد: " استأمروا   (770) تقدم برقم (429) . (771) أخرجه البخاري رقم (5137) في النكاح، ومسلم- واللفظ له- رقم (1420) (2/1037) ، والنسائي (6/ 85 - 86) ، والبيهقي (7/123) ، وأحمد (6/ 45، 165، 203) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 النساء في أبضاعهن "، قيل: " فإن البكر تستحيي أن تكلم؟ " قال: " سكوتها إذنها ") . غير أن في المسألة تفصيلا نذكره فيما يلي: أولًا: البكر الصغيرة: يجوز للأب تزويج البكر الصغيرة قبل البلوغ بدون إذنها، لأنها لا إذن لها، قال الحافظ ابن حجر: (إذ لا معنى لاستئذان من لا تدري ما الإذن، ومن يستوي سكوتها وسخطها) (772) ، وقد دل على ذلك القرآن، والسنة، والإجماع: - أما القرآن الكريم: فقول الله تعالى: (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يَحضنَ) (الطلاق: 4) ، (فجعل لِلَّائي لم يحضن عدة ثلاثة أشهر، ولا تكون العدة ثلاثة أشهر إلا من الطلاق في نكاح أو فسخ، فدل ذلك على أنها تُزَوج، وتطلق، ولا إذن لها فيعتبر) (773) . وقال عز وجل: (وأنكحوا الأيامى منكم) (النور: 32) ، والأيم: الأنثى التي لا زوج لها، صغيرة كانت أو كبيرة. - وأما السنة: فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه زوج ابنته عائشة رضي الله عنها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهى بنتُ سِتِّ سنين، وبنى بها وهي بنت تسع   (772) " فتح الباري" (9/193) ط. السلفية. (773) " المغني" (6/487) ، وانظر: " الجوهر النقي" (7/114-115) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 سنين (774) وعنها رضي الله عنها: " أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت سبع سنين، وَزُفَّت إِليه وهي بنت تسع سنين، ولُعَبُها معها " (775) الحديث. وعنها رضي الله عنها قالت: " تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم لِسِتّ سنين، وبنى بي وأنا بنت تسع سنين، قالت: فقدمنا المدينة، فَوُعِكتُ شهرًا، فَوَفَى شعري جُمَيْمَةً، فأتتني أم رومان وأنا على أرجوحة، ومعي صواحبي، فصرخَتْ بي، فأتيتها، وما أدرى ما تريد بي، فأخذَتْ بيدي، فأوقفتني على الباب، فقلت: هَهْ هَهْ حتى ذهب نفَسِي، فأدخلتني بيتًا، فإذا نسوة من الأنصار، فقلن: " على الخير والبركة، وعلى خير طائر"، فأسلمتني إليهن، فغسلن رأسي، وأصلحْنَنِي، فلم يَرُعْنِي إلا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم ضُخى، فأسلمنني إليه " (776) ، ومعلوم أنها لم تكن في تلك الحال ممن يعتبر إذنها. وقد زَوجَ عَلِىُّ رضي الله عنه ابنته أم كلثوم وهي صغيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه (777) . - وأما الإجماع: فقال ابن المنذر: " أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن نكاح الأب ابنته البكر الصغيرة جائز إذا زوَّجها من كفء) (778) اهـ.   (774) كما رواه عنها البخاري (9/190) ط. السلفية، ومسلم (2/1039) وغيرهما. (775) رواه مسلم (2/1039) . (776) رواه مسلم رقم (1422) ، (2/1038) ، وانظر: " شرح الأبي" (4/35 - 37) . (777) انظر: " سنن البيهقي" (7/114) ، " المستدرك" (3/142) ، " المعجم الكبير" للطبراني (3/36، 37) ، (11/243) . (778) " المغني" (6/487) ، وانظر: " نيل الأوطار" (6/136) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 تنبيهان: الأول: اعلم- رحمك الله- أن الحكمة من جواز تزوج الصغيرة قد تكمن في ظهور مصلحة لها في ذلك، ويكون الأب قد وجد الكفء، فلا يُفَوته إلى وقت البلوغ، ومع هذا الجواز فالأفضل أن يتريث حتى تكبر، قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في القديم: " أستحب للأب أن لا يزوجها حتى تبلغ، لتكون من أهل الإذن، لأنه يلزمها بالنكاح حقوق " (779) اهـ. الثاني: أنه - وإن جاز العقد عليها وهي صغيرة - إلا أنه لا يمكن منها حتى تصلحَ للوطء (780) . ثانيَا: البالغ الثيب: (781) وهذه لا يجوز تزويجها بغير إذنها، وإذنها الكلام بخلاف البكر فإذنها الصمات، ولا يجوز لأحد من الأولياء إجبارها على النكاح، سواء كان الولي أبا أو جدُّا أو غيرهما، وهذا قول عامة أهل العلم. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وَرَدُّ النكاح إذا كانت ثيبا فَزُوجَتْ بغير رضاها: إجماع، إلا ما نقل عن الحسن أنه أجاز إجبار الأب للثيب ولو كرهت) (782) اهـ. (وقال إسماعيل بن إسحاق: " لا أعلم أحدًا قال في البنت بقول الحسن "، وهو قول شاذ خالف فيه أهل العلم والسنة) (783) اهـ.   (779) " المجموع شرح المهذب " (15/58) . (780) انظر: " نيل الأوطار" (6/137) . (781) الثيب: المرأة فارقت زوجها، أو دُخِل بها، وأصل الثوب: رجوع الشيء إلى حالته الأولى التي كان عليها، سميت به لأنها تثوب عن الزوج، وقد يطلق على المرأة البالغة وإن كانت بكرًا مجازا واتساعا. (782) " فتح الباري " ط. السلفية (9/194) . (783) " المغني" (6/492) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الأيم أحق (784) بنفسها من وليها، والبكر تُستأذن في نفسها، وإذنها صُمَاتُها " (785) . وروى البخاري من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُنكح الأيم حتى تُستأمر"، ووقع عند ابن المنذر والدارمي والدارقطني بلفظ: " لا تُنكح الثيب"، وعند ابن المنذر أيضًا: " الثيب تُشاوَر" (786) . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وظاهر هذا الحديث أن الأيم هي الثيب التي فارقت زوجها بموت أو طلاق لمقابلتها بالبكر، وهذا هو الأصل في "الأيم"، ومنه قولهم: " الغزو مأيمة" أي: يقتل الرجال فتصير النساء أيامى) (787) اهـ. وقال أيضًا: (قوله " حتى تستأمر" أصل الاستثمار طلب الأمر، فالمعنى: لا يعقد عليها حتى يطلب الأمر منها، ويؤخذ من قوله "تستأمر" أنه لا يعقد عليها إلا بعد أن تأمر بذلك، وليس فيه دلالة على عدم اشتراط الولي، بل فيه إشعار باشتراطه) (788) اهـ. فأمر الثيب إلى نفسها، ويحتاج الولي إلى صريح إذنها في العقد،   (784) قال شيخ الإسلام النووي رحمه الله: (واعلم أن لفظة " أحق" هنا للمشاركة، معناه: أن لها في نفسها في النكاح حقا، ولوليا حقا، وحقها أوكد من حقه، فإنه لو أراد تزويجها كفؤًا، وامتنعت: لم تجبر، ولو أرادت أن تتزوج كفؤا فامتنع الولي: أجبر، فإن أصَر زَوجَها القاضي، فدل على تأكيد حقها ورجحانه) اهـ. من "شرح النووي" (9/204) ، ونقل في " عون المعبود" عن ابن الجوزي قوله: (إنه أثبت لها حقا، وجعلها أحق، لأنه لا يجوز للولي أن يزوجها إلا بإذنها) اهـ. (6/101) ، وقال الصنعاني في "سبل السلام": (أحقيته الوِلاية، وأحقيتها رضاها، فَحقها آكد من حقه، لتوقف حقه على إذنها) اهـ (3/119) . (785) رواه مسلم رقم: (1412) (2/1037) . (786) " فتح الباري" (9/192) ، وانظر رقم (792) . (787) ، (788) "فتح الباري" (9/192) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 لأن " الأمر " صريح في القول والنطق باللسان، فإذا صرحت بمنعه امتنع اتفاقًا، قال البغوي: (فإن زوجها وليها بغير إذنها، فالنكاح مردود) (789) . وعن خنساء بنت خِدام الأنصارية رضي الله عنها: (أن أباها زوجها وهي ثيب، فكرهت ذلك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فَرَدَّ نكاحَها) (790) . ثالثًا: البكر البالغة: وهذه فيها قولان مشهوران: أحدهما: أن البكر تُستأذنَ تطييبًا لنفسها، لا أن إذنها شرط في صحة العقد كما في الثيب. وهذا مذهب مالك، والشافعي، والليث، وابن أبي ليلى، وإسحاق، وهو رواية عن أحمد، واختاره الخرقي، والقاضي، وأصحابه. والثاني: أنه يُشترَطُ إذنُها كما يُشترط إذن الثيب، فلا يجوز إجبارها على النكاح، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي وأبي عبيد وأبي ثور وأصحاب الرأي وابن المنذر، وهو الرواية الثانية عن أحمد واختاره أبو بكر عبد العزيز، وصوَّبه شيخ الإسلام ابن تيمية فقد قال رحمه الله: (وهذا القول هو الصواب، والناس متنازعون في " مناط الإجبار" هل هو البكارة؟ أو الصغر؟ أو مجموعها؟ (791) ؟ أو كل منهما؟ على أربعة أقوال   (789) " شرح السنة " (9/31) . (790) أخرجه البخاري رقم (5138) في " النكاح": باب إذا زَوج الرجل ابنته وهي كارهة، فنكاحه مردود، وأبو داود (2101) ، والنسائي (6/86) ، والدارمي (2/139) ، وابن ماجه (1873) ، والبيهقي (7/119) ، وأحمد (6/328) ، وقال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: " وهو حديث مجمع على صحته" اهـ. (791) كذا بالأصل، ولعلها: " مجموعهما"، وانظر: "زاد المعاد" (5/99) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 في مذهب أحمد وغيره، والصحيح أن مناط الإجبار هو الصغر، وأن البكر البالغ لا يجبرها أحد على النكاح فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تستأمر (792) فقيل له: "إن البكر تستحيي" فقال: " إذنها صماتها"، وفي لفظ في الصحيح: " البكر يستأذنها أبوها". فهذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تنكح البكر حتى تُستأذن "، وهذا يتناول الأب وغيره، وقد صرح بذلك في الرواية الأخرى الصحيحة، وأن الأب نفسه يستأذنها. وأيضًا: فإن الأب ليس له أن يتصرف في مالها إذا كانت رشيدة إلا بإذنها، وبضعُها أعظم من مالها (793) ، فكيف يجوز أن يتصرف في بُضْعِها مع كراهتها ورشدها؟!   (792) رواه البخاري رقم (5136) ، ومسلم رقم (1419) ، والترمذي (1107) و (1109) ، وأبو داود (2092) ، (2093) ، والنسائي (6/85) ، واعلم أن الاستئمار لا يكون جوابه إلا بالنطق، لأنه طلب الأمر، والأمر لا يكون إلا بالنطق، أما الاستئذان فهو طلب الإذن، وهو يصح بالسكوت، انظر: " فتح الباري" (9/191 - 193) ط. السلفية، و"موسوعة الفقه الإسلامي" (5/132) . فائدة: (قال ابن المنذر: يستحب إعلام البكر أن سكوتها إذن) اهـ (فتح الباري 9/193) ، وقال الأبي: (استحباب إعلامها بذلك هو المشهور، ونقل ابن رشد عن ابن مسلمة أن إعلامها بذلك واجب، وعلى القولين يكفي إعلامها مرة واحدة، وقال ابن شعبان: يقال ذلك لها ثلاًثا: " إن رضيت فاسكتي، وإن كرهت فانطقي، واستحب ابن الماجشون الوقوف عندها قليلًا) اهـ من " إكمال إكمال المعلم" للأبي (4/30) . قال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله: (ومعلوم أن إخراج مالها كُله بغير رضاها، أسهلُ عليها من تزويجها بمن لا تختاره بغير رضاها) اهـ. من " زاد المعاد" (5/97) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 وأيضا: فإن الصغر سبب الحجر بالنص والإجماع، وأما جعل البكارة موجبة للحجر فهذا مخالف لأصول الإسلام؛ فإن الشارع لم يجعل البكارة سببا للحجر في موضع من المواضع المجمع عليها، فتعليل الحجر بذلك تعليل بوصف لا تأثير له في الشرع. وأيضًا فإن الذين قالوا بالإجبار اضطربوا فيما إذا عينت كفوًا، وعين الأب كفوًا آخر: هل يؤخذ بتعيينها؟ أو بتعيين الأب؟ على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد، فمن جعل العبرة بتعيينها نقض أصله، ومن جعل العبرة بتعيين الأب، كان في قوله من الفساد والضرر والشر ما لا يخفى؛ فإنه قد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " الأيم أحق بنفسها من وليها؛ والبكر تستأذن، وإذنها صماتها " وفي رواية: " الثيب أحق بنفسها من وليها "، فلما (794) جعل الثيب أحق بنفسها، دل على أن البكر ليست أحق بنفسها؛ بل الولي أحق (795) ، وليس ذلك إلا للأب والجد، هذه عمدة المجبرين، وهم تركَوا العمل بنص الحديث، وظاهره؛ وتمسكوا بدليل خطابه؛ ولم يعلموا مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك أن قوله: " الأيم أحق بنفسها من وليها " يعم كل ولي، وهم يخصونه بالأب والجد (796) ، و"الثاني"   (794) كذا كالأصل (32/24) ، ومقتضى السياق: (قالوا: فلما جعل) .. إلخ وتنتهي حكاية كلامهم عند قوله: (إلا للأب والجد) فتأمل. (795) راجع الحاشية رقم (784) ، والجواب عما ذكروه أن المفهوم الذي يستدلون به هنا لا ينتهض للتمسك به في مقابلة المنطوق كما سيأتي في كلام شيخ الإسلام، وفي حديث ابن عباس عند أحمد ومسلم وأبي داود والنسائي: " والبكر يستأمرها أبوها"، وهذه زيادة زادها ابن عيينة في حديثه، وزيادة الثقة الحافظ مقبولة. (796) قال ابن قدامة رحمه الله: (أما البكر فإذنها صماتها في قول أهل العلم منهم شريح والشعبي وإسحاق والنخعي والثوري والأوزاعي وابن شبرمة وأبو حنيفة، ولا فرق بين كون الولي أبا أو غيره، وقال أصحاب الشافعي: "في صمتها في حق غير الأب وجهان: = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 قوله: " والبكر تستأذن"، وهم لا يوجبون استئذانها؛ بل قالوا: هو مستحب (797) ، حتى طرد بعضهم قياسه؛ وقالوا: " لما كان مستحبا اكتفي فيه بالسكوت"، وادعي أنه حيث يجب استئذان البكر، فلابد من النطق، وهذا قاله بعض أصحاب الشافعي وأحمد. وهذا مخالف لإجماع المسلمين قبلهم؟ ولنصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قد ثبت بالسنة الصحيحة المستفيضة؛ واتفاق الأئمة قبل هؤلاء أنه إذا زوج البكر أخوها أو عمها فإنه يستأذنها، وإذنها صماتها.   = أحدهما: لا يكون إذنا لأن الصمات عدم الإذن، فلا يكون إذنا، ولأنه محتمل للرضى والحياء وغيرهما، فلا يكون إذنا كما في حق الثيب، وإنما اكتفي به في حق الأب لأن رضاءها غير معتبر "، وهذا شذوذ عن أهل العلم وترك للسنة الصحيحة الصريحة، يصان الشافعي عن إضافته إليه، وجعله مذهبا له مع كونه من أتبع الناس لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعرج منصف على هذا القول) اهـ من " المغني" (6/493) ، وقال الحافظ ابن حجر: (وخص بعض الشافعية الاكتفاء بسكوت البكر البالغ بالنسبة إلى الأب والجد دون غيرهما، لأنها تستحيي منهما أكثر من غيرهما، والصحيح الذي عليه الجمهور استعمال الحديث في جميع الأبكار لجميع الأولياء) اهـ من " الفتح" (9/193) ، وانظر: " المجموع شرح المهذب" (15/55، 58) ، " بداية المجتهد" (2/5) . (797) قال ابن قدامة رحمه الله: " لا نعلم خلافا في استحباب استئذانها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر به، ونهى عن النكاح بدونه، وأقل أحوال ذلك: الاستحباب، ولأن فيه تطييب قلبها، وخروجا من الخلاف، وقالت عائشة رضي الله عنها: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجارية ينكحها أهلها أتستأمر أم لا؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم تستأمر"، وقال: " استأمروا النساء في أبضاعهن، فإن البكر تستحيي فتسكت، فهو إذنها" متفق عليهما، ورُوي عن عطاء قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستأمر بناته إذا أنكحهن، قال: كان يجلس عند خدر المخطوبة، فيقول: " إن فلانا يذكر فلانة" فإن حركت الخدر لم يزوجها، وإن سكتت زوجها) اهـ من " المغني" (6/ 491) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 وأما المفهوم: فالنبي صلى الله عليه وسلم فرَّق بين البكر والثيب؛ كما قال في الحديث الآخر: " لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تستأمر "، فذكر في هذه لفظ " الإذن" وفي هذه لفظ " الأمر"، وجعل إذن هذه الصمات، كما أن إذن تلك النطق، فهذان هما الفرقان اللذان فرق بهما النبي صلى الله عليه وسلم بين البكر والثيب، لم يفرق بينهما في الإجبار وعدم الإجبار؛ وذلك لأن "البكر" لما كانت تستحيي أن تتكلم في أمر نكاحها لم تخطب إلى نفسها؛ بل تخطب إلى وليّها، ووليُّها يستأذنها، فتأذن له؛ لا تأمره ابتداءً، بل تأذن له إذا استأذنها، وإذنها صماتها، وأما الثيب لقد زال عنها حياء البكر، فتتكلم بالنكاح، فتخطب إلى نفسها، وتأمر الولي أن يزوجها، فهي آمرة له، وعليه أن يعطيها (798) فيزوجها من الكفؤ إذا أمرته بذلك، فالولي مأمور من جهة الثيب، ومستأذَن للبكر، فهذا هو الذي دل عليه كلام النبي صلى الله عليه وسلم. وأما تزويجها مع كراهتها للنكاح: فهذا مخالف للأصول والعقول، والله لم يسوغ لوليها أن يكرهها على بيع أو إجارة إلا بإذنها، ولا على طعام أو شراب أو لباس لا تريده، فكيف يكرهها على مباضعة من تكره مباضعته ومعاشرة من تكره معاشرته؟! والله قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة، فإذا كان لا يحصل إلا مع بغضها له، ونفورها عنه، فأي مودة ورحمة في ذلك؟) إلى أن قال رحمه الله: (والشارع لا يكره المرأة على النكاح إذا لم ترده، بل إذا كرهت الزوج، وحصل بينهما شقاق، فإنه يُجعل أمرها إلى غير الزوج لمن ينظر في المصلحة من أهلها، مع من ينظر في المصلحة من أهله، فيخلصها من الزوج بدون أمره؛ فكيْفَ تؤسر معه أبدًا بدون أمرها؟ والمرأة أسيرة مع الزوج؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (799) :   (798) كذا بالأصل، ولعل الصواب: " يطيعها". (799) " مجموع الفتاوى" (32/22-28) مع اختصار يسير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 " اتقوا الله في النساء؛ فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله " (800)) اهـ. ومما يدل لهذا المذهب إضافة إلى ما تقدم: - ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما: (أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت له أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيَّرها النبي صلى الله عليه وسلم) (801) . ويروَى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه (قال لأبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " اخطب عَلي ابنة صالح "، فقال: " إن له يتامى، ولم يكن ليؤثرنا عليهم "، فانطلق عبد الله إلى عمه زيد بن الخطاب ليخطب، فانطلق زيد إلى صالح، فقال: " إن عبد الله بن عمر أرسلني إليك يخطب ابنتك"، فقال: " لي يتامى، ولم أكن لأترب لحمي - أي أهين قرابتي -، وأرفع لحمكم، أشهدكم أني أنكحتها فلانا " - وكان هوى أمها إلى عبد الله ابن عمر -، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: " يا نبي الله، خطب عبد الله بن عمر ابنتي، فأنكحها أبوها يتيما في حَجْرِه، ولم يؤامرها"، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صالح فقال: " أنكحت ابنتك، ولم تؤامرها؟ "،   (800) تقدم تخريجه برقم (240) . (801) أخرجه أبو داود رقم (2096) في النكاح: باب في البكر يزوجها أبوها ولا يستأمرها، وابن ماجه رقم (1875) في النكاح: باب من زوج ابنته وهي كارهة، والإمام أحمد في " المسند" (1/273) ، من حديث جرير بن حازم عن أيوب عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهذا الحديث (صححه ابن القطان، وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح": " ولا معنى للطعن في الحديث، فإن طرقه تقوى بعضها بعضا ") اهـ نقلاً من " تحفة الأحوذي" (2/180) ط. الهند، وانتصر لتصحيحه الإمام المحقق ابن القيم في " زاد المعاد" (5/96 -97) ، وفي " تهذيب السنن " (6/120-122) ، وذكره الألباني في " صحيح ابن ماجه" برقم (1520) (1/315) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 فقال: " نعم"، فقال: " أشيروا على النساء في أنفسهن " (802) ، وهي بِكر، فقال صالح: " فإنما فَعَلْتُ هذا لما يُصْدِقُها ابن عمر، فإن له في مالي مثلَ ما أعطاها " (803) . وقد وقعت لابن عمر قصة أخرى خلاف هذه: قال رضي الله عنهما: (توفي عثمان بن مظعون، وترك ابنة له من خويلة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص، قال وأوصى إلى أخيه قدامة بن مظعون - قال عبد الله: وهما خالاي - قال: فخطبت إلى قدامة بن مظعون ابنة عثمان بن مظعون فزوَّجَنيها، ودخل المغيرة بن شعبة - يعني إلى أمها - فأرْغَبَها في المال، فحطَّت إليه، وحطت الجارية إلى هوى أمها، فأبيا، حتى ارتفع أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال قدامة بن مظعون: " يا رسول الله، ابنة أخي أوصى بها إلي، فزوجتُها ابنَ عمتها عبد الله بن عمر فلم أقصر بها في الصلاح ولا في الكفاءة، ولكنها امرأة، وإنما حطت إلى هوى أمها! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هي يتيمة، ولا تنكح إلا بإذنها "، قال: فانتُزِعَتْ والله مني بعد أن ملكتُها، فزوجوها المغيرة بن شعبة (804) .   (802) أخرجه الإمام أحمد (2/97) ، (4/192) ، والطحاوي في " شرح معاني الآثار، (4/369) ، وأورده الهيثمي وقال: " رواه أحمد، وهو مرسل، ورجاله ثقات "، قال في " الفتح الرباني": " وفي سنده اضطراب وانقطاع" اهـ (17/161) ، وانظر: " السلسلة الصحيحة" (3/442 - 443) . (803) (معناه: أني ما زوجتها لليتيم إلا لأن ابن عمر سمَّى لها من الصداق شيئا لا يزيد عما يستحقه اليتيم في مال، فاليتيم أولى، والله أعلم) اهـ. من " الفتح الرباني" (17/161) . (804) أخرجه الإمام أحمد (2/130) ، والدارقطني (3/230) ، وقال الألباني في إسناده: (وهذا إسناد جيد، رجاله رجال الشيخين غير ابن إسحق، وقد صرح بالتحدث، وقد توبع، فرواه الدارقطني، والحاكم (2/167) عن ابن أبي ذئب = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 والحاصل (805) : أنه لا يجوز أن تجبر البكر البالغ على النكاح، ولا تُزوج إلا برضاها، فإن وقع لم يصح العقد، وهذا مذهب الأوزاعي، والثوري، والحنفية، وغيرهم، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم. وهذا هو المذهب الحق الذي يجب أن ندين الله به، ولا نعتقد سواه، للأسباب الآتية: أولاً: أنه موافق لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه حكم بتخيير البكر الكارهة، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما. ثانيا: أنه موافق لأمره صلى الله عليه وسلم، فإنه قال: " والبكر تستأذن"، وهذا أمر مؤكد، لأنه ورد بصيغة الخبر الدال على تحقق المخبر به وثبوتهِ ولزومه، والأصل في أوامره صلى الله عليه وسلم أن تكون للوجوب، ما لم يقم إجماع على خلافه. ثالثا: أنه موافق لنهيه صلى الله عليه وسلم، وهو الوارد في قوله: " لا تنكح البكر حتى تُستأذن " فَأمَرَ، ونهى، وحكم بالتخيير، وهذا إِثبات للحكم بأبلغ الطرق. رابعا: أنه موافق لقواعد شرعه صلى الله عليه وسلم، فإن البكر البالغة العاقلة الرشيدة لا يتصرف أبوها في أقل شيء من مالها إلا برضاها، فكيف يجوز أن يُرِقها، ويخرج بضعها منها بغير رضاها إلى من يريده هو، وهي من أكره الناس فيه، وهو مِن أبغض شيء إليها؟   = عن عمر بن حسين به نحوه مختصرا، وفيه عند الحاكم: " لا تنكحوا النساء حتى تستأمروهن، فإذا سكتن فهو إذنهن"، وقال صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا) اهـ. "السلسلة الصحيحة" (3/444) . (805) ملخصًا من " زاد المعاد" (5/95 -99) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " ليس لأحد الأبوين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد، وإنه إذا امتنع لا يكون عاقا، وإذا لم يكن لأحد أن يلزمه بأكل ما ينفر عنه مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه كان النكاح كذلك، وأولى، فإن أكل المكروه مرارة ساعة، وعشرة المكروه من الزوجين على طول يؤذي صاحبه كذلك، ولا يمكن فراقه) (806) اهـ. خامسا: أنه موافق لمصالح الأمة، ولا يخفى مصلحةُ البنت في تزويجها بمن تختاره وترضاه، وحصولُ مقاصد النكاح لها به، وحصول ضد ذلك ممن تُبغِضه وتنفر عنه، قال الشاه ولي الله الدهلوي رحمه الله: " لا يجوز أن يحكم الأولياء فقط لأنهم لا يعرفون ما تعرف المرأة من نفسها، ولأن حار العقد وقاره (807) راجعان إليها " (807) اهـ. وقد ثبتت أحاديث تدل على أن المرأة إذا أبغضت الزوج لم يكن لوليها إكراهها على عشرته، وإذا أحبته لم يكن لوليها التفريق بينهما (809) : فمن ذلك: ما ثبت من أن بَرِيرة - وهى جارية حبشية - ملكها عتبة بن أبي لهب وزوجها عبدا من عبيد المغيرة ما كانت لترضاه لو كان لها أمرها، فأشفقت عليها عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، فاشترتها، وأعتقتها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ملكتِ نفسك، فاختاري "، وكان زوجها مغيث يطوف خلفها في سكك المدينة، يبكي عليها، وهي تأباه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " ألا تعجبون من شدة حبه لها، وبغضها له؟ "، ثم قال صلى الله عليه وسلم لها: " لو راجعتِهِ، فإنه أبو ولدكِ "، قالت: " يا رسول الله،   (806) " مجموع الفتاوى" (32/30) . (807) أي: ضرر العقد ونفعه. (808) " حجة الله البالغة" (2/127) . (809) انظر: " فتح الباري" (9/415) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 أتأمرني؟ " وفي رواية: " أشيء واجب علي؟ "، فقال صلى الله عليه وسلم: " لا، إنما أنا شافع "، قالت: " فلا حاجة لي فيه، لو أعطاني كذا وكذا ما كنت عنده " (810) . ومما يقوى اعتبارَ الإسلام لوجود الألفة والمحبة والمودة ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل تزوَّج (811) امرأة: " أنظرتَ إليها؟ " قال: "لا"، قال: " اذهب فانظر إليها" (812) . وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه خطب امرأة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما " (813) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن عندنا يتيمة، وقد خطبها رجل مُعْدِم، ورجل موسر، وهي تهوى المعدم، ونحن نهوى الموسر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لَم ير للمتحابين مِثْلُ النكاح " (814) . فلينظر الآباءُ كيـ ... ـف يكونُ تزويج البنات   (810) رواه البخاري (9/358) في الطلاق، باب خيار الأمة تحت العبد، وباب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في زوج بريرة، وأبو داود رقم (2231) ، (2232) في الطلاق، والترمذي رقم (1156) في الرضاع، والنسائي (8/245) في القضاة. (811) أي: أراد ذلك. (812) رواه مسلم رقم (1424) في النكاح: باب ندب النظر إلى وجه المرأة وكفيها لمن يريد تزوجها. (813) انظر تخريجه في " القسم الثالث" ص (321) . (814) أخرجه ابن ماجه (1847) ، والحاكم (2/160) ، وقال: " صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي والبيهقي (7/78) ، والطبراني في " الكبير" (11/17) ، وانظر: " البيان والتعريف" لابن حمزة الحسيني (3/126) ، والحديث صححه الألباني في " الصحيحة" رقم (624) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 يستأذنونَ البكر في التز ... ويجِ مثلَ الثيبات حتى يَعِشْنَ مَعَ الرجا ... لِ مُنَعماتٍ راضِيات طَعمُ الحياةِ مَعَ السُّجو ... نِ أمَرُّ مِنْ طَعمِ الممات (815) وقد حكى العرب عن آباء تعسفوا مع بناتِهم، وتأذى بناتُهم بذلك العَسف حتى صدر منهن ما لا يحمد من البنت في حق أبيها، فمن ذلك: - أن إحداهن زوجها أبوها، وهي حَدَثة بغير إذنها، فقالت: أيا أبتا عَنَّيتني وابتليتني ... وصيَّرتَ نفسي في يَدَيْ من يُهِينُها أيا أبتا لولا التحرجُ قد دعا ... عليك مجابًا دعوة يستدينها (816) (ومما يروَى: أن عبد الله بن جعفر (817) قد زوَّج ابنته من الحجاج   (815) " أستاذ المرأة" ص (214) . (816) " المرأة العربية" (2/53) . (817) عبد الله بن جعفر " قطب السخاء" أبو محمد عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وأمه أسماء بنت عميس أخت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث لأمها، هاجر أبواه إلى الحبشة، وهنالك كان مولده قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، ووافي أبواه المدينة وله سبع سنين، وفي هذه السن بايع عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي أبوه في غزوة مؤتة، وكان أمير القوم فيها، فكفله صلى الله عليه وسلم ودعا له بقوله: (اللهم اخلف جعفرًا في ولده) ، ثم انتقل إلى كفالة أبي بكر، ثم إلى كفالة عمه علي رضى الله عنه، وكان أحد أمراء جنده في يوم صفين، وزوجه علي رضي الله عنه بابنته رضي الله عنها فولدت له عليا وعونا وعباسا ومحمدَا وأم كلثوم، وكان عبد الله علماً من أعلام الجود حتى لقب بقطب السخاء، ومما قالوه أن امرأة سألته فأعطاها مالا عظيمًا، فقيل له: " إنها لا تعرفك، وكان يرضيها اليسير"، فقال: " إن كان يرضيها اليسير، فأنا لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني، فأنا أعرف نفسي"، وسأله سائل بينا يهم بركوب ناقته، فنزل له عنها، وعما فوقها، وكان عليها أربعة آلاف درهم، وسيف من سيوف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وفيه يقول القائل: وما كنت إلا كالأغر بن حاتم ... رأى المال لا يبقى فأبقى له ذكرا = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 ابن يوسف على كره منها، لأنه ليس في شيء من سَنَاء نسبها، ولا كرم سجاياها، وما حمله على ذلك إلا ضيق ذات يده، وألف ألف درهم حُمِلَتْ مهرا إليه، فلما زُفت نظر الحجاج إلى عَبْرتها تجول في عينيها، فقال: " بأبي أنتِ وأمي مِم تبكين؟ " فقالت: " أبكي من شرف اتضع، ومن ضَعة شُرفت "، حتى إذا علم عبد الملك ين مروان بأمرها، كتب إلى الحجاج بطلاقها، فقال لها: " إن أمير المؤمنين كتب إلي بطلاقك" فقالت: " هو أبرُّ بي ممن زوجَنيك " (818) .   = وفي سبيل جوده احتمل الدين والمتربة، حتى رضي أن يزوج ابنته من الحجاج بن يوسف لأنه وَفي عنه دينه، وأعطاه ألف ألف درهم، أما ابنته هذه فاسمها " أم أبيها "، وكانت كأوضأ النساء وجها وأبينهن بيانا، وأسمحهن يدا، وهي صغرى بناته، ولم تنكشف عن عقب رحمها الله) اهـ. من "المرأة العربية" (2/ هـ 53-54) بتصرف. (818) "المرأة العربية" (2/53) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 [فصل] لا نكاح إلا بولي ربما يتوهم البعض أن للمرأة أن تزوج نفسها، وأن ذلك حق من حقوقها مادام أن الشارع اعتبر رضاها كما بيناه آنفا، لكن مما ينبغي أن يعلم: أنه مع ثبوت حق المرأة في قبول من ترضاه من الأزواج - فإن هذا الحق مقيد بإذن وليها، فإن النكاح لا يصح الا بولي (819) ، ولا تملك المرأة تزويج نفسها، ولا غيرها، ولا توكيل غير وليها في تزويجها (820) ، فإن فعلت لم يصح النكاح، وهاك أدلة هذا الحكم: (819) والمراد بالولي هو الأقرب من العَصبَة من النسب ثم من السبب ثم من عَصبته، وليس لذوي السهام ولا لذوي الأرحام ولاية، وهذا مذهب الجمهور، فأحق الناس بنكاح المرأة الحرة أبوها ثم أبوه وإن علا، ثم ابنها وابنه وإن سفل، ثم أخوها لأبيها وأمها ثم أخوها لأبيها. واعلم أن الولاية بعد من ذكرنا تترتب على ترتيب الإرث بالتعصيب، فأحقهم بالميراث أحقهم بالولاية فأولاهم بعد الآباء ينو المرأة ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم بنو أبيها وهم الإخوة ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم بنو جدها، وهم الأعمام ثمْ بنوهم وإن سفلوا، ثم بنو جد الأب، وهم أعمام الأب، ثم بنوهم وإن سفلوا ثم بنو الجد ثم بنوهم. ولا ولاية لغير العصبات من الأقارب كالأخ من الأم والخال وعم الأم والجد أب الأم ونحوهم، وانظر " المغني" لابن قدامة (6/456 - 467) . (820) واشتراط الولي هو مذهب جمهور أهل العلم، منهم: عمر، وعلى، وابن مسعود، وابن عمر، وابن أبي ليلى، وأحمد، وإسحق، والشافعي، ونقِلَ عن ابن المنذر أنه لا يعرفُ عن أحد من الصحابة خلاف ذلك، وانظر: " فتح الباري" (9/187) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 الأول: قوله تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون) البقرة (232) . (ومعنى العَضل: منع المرأة من التزويج بكفئها إذا طلبت ذلك، ورغب كل واحدٍ منهما في صاحبه) (821) . وعن مَعقِل بن يَسار رضي الله عنه قال: (كانت لى أخت تخطَبُ إلي، وأمْنَعُها من الناس، فأتاني ابن عَم لي، فأنكحتُها إياه، فاصطحبا ما شاء الله، ثم طَلقَها طلاقًا له رجعة، ثم تركها حتى انقضت عِدَّتُها، فلما خُطِبت إلي أتاني يخطبها مع الخُطاب، فقلتُ له: خُطِبَتْ إلي فمنعتُها الناسَ، وآثرتُك بها، فَزَوجتُكَها، ثم طَلقْتَها طلاقًا لك رجعة، ثم تركتها حتى انقضت عدتها، فلما خُطِبت إلي أتيتني تخطبها مع الخطاب؟! والله لا أنكحتكها أبدا، قال: فَفِي نزلت هذه الآية: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهُن أن ينكحن أزواجهن) الآية، فكفرتُ (822) عن يميني، وأنكَحتُها إياه) (823) .   (821) "المغني" (6/477) . (822) تكفير اليمين: إخراج الكفارة التي تلزم الحالف إذا حنث، كأنها تغطي الذنب الذي يوجبه الحنْثُ، والتكفير: التغطية. (823) رواه بنحوه البخاري (8/143) فتح - ط. السلفية، في التفسير: باب (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن) ، وفي النكاح: باب من قال: لا نكاح إلا بولي، وفي الطلاق: باب (وبعولتهن أحق بردهن) ، وأبو داود رقم (2087) في النكاح: باب في العضل، والترمذي رقم (2985) في التفسير: باب: ومن سورة البقرة، ولفظه: عن الحسن عن معقل بن يسار (أنه زوج أخته رجلا من المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت عنده ما كانت، ثم طلَّقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة، فهويها وهويته، ثم خطبها مع الخطاب، فقال له: يا لكع، = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 وفي رواية أخرى للبخاري: (فحَمِيَ (824) معقل من ذلك أنفا (825) ، وقال: خلا عنها، وهو يقدر عليها، ثم يخطبها؟ فحال بينه وبينها، فأنزل الله هذه الآية، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه، فترك الحَمِيةَ، واستقاد لأمر الله عز وجل) (826) . قال الشافعي رحمه الله تعالى: (وهذا أبين ما في القرآن من أن للولي مع المرأة في نفسها حقًّا، وأن على الولي أن لا يعضلها إذا رَضِيَتْ أن   أكرمتُك بها وزوجتكها، فطلقتها! والله لا ترجع إليك أبدا آخر ما عليك، قال: فعلم الله حاجته إليها، وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله تبارك وتعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن - إلى قوله - وأنتم لا تعلمون) ، فلما سمعها معقل قال: سمع لربي وطاعة، ثم دعاه، فقال: " أزوجُك وَأكرمُك") قال الترمذي: (هذا حديث صحيح، وقد روي من غير وجه عن الحسن، ثم قال: وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا يجوز النكاح بغير ولي، لأن أخت معقل بن يسار كانت ثيبا، فلو كان الأمر إليها دون وليها لزوجت نفسها، ولم تحتج إلى وليها معقل ابن يسار، وإنما خاطب الله في هذه الآية الأولياء، فقال: (ولا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) ففي هذه الآية دلالة على أن الأمر إلى الأولياء في التزويج مع رضاهن) اهـ. (824) حَمِيَ: أي أخذته الحمية، وهي الأنفَة والغيرة. (825) بفتح الهمزة والنون منون، أي ترك الفعل غيظا وترفعا. (826) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وفي حديث معقل أن الولي إذا عضل لا يزوج السلطان إلا بعد أن يأمره بالرجوع عن العضل، فإن أجاب فذاك، وإن أصر زوج عليه الحاكم، والله أعلم) اهـ. من " الفتح" (9/188) ، وقد ذكر سماحة العلامة عبد العزيز بن باز حفظه الله صورة من صور العضل المبنية على الحمية، حيث قال رحمه الله: (ومن المسائل المنكرة في هذا ما يتعاطاه الكثير من البادية وبعض الحاضرة من حجر ابنة العم ومنعها من التزويج من غيره، وهذا منكر عظيم، وسنة جاهلية، وظلم للنساء، وقد وقع بسببه فتن كثيرة، وشرور عظيمة من شحناء، وقطيعة رحم، وسفك دماء، وغير ذلك) اهـ. من رسالة بعنوان: " نصيحة وتنبيه على مسائل في النكاح مخالفة للشرع". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 تُنكَحَ بالمعروف) (827) اهـ. وقال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى عند تفسير هذه الآية: (.. وهذا دليل قاطع على أن المرأة لا حق لها في مباشرة النكاح، إِنما هو حق الولي، ولولا ذلك لما نهاه الله سبحانه وتعالى عن منعها) ، ثم ذكر سبب نزول الآية، وقال: " لو لم يكن لمعقل حق لقال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: لا كلام لمعقل) (828) اهـ. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وقد اختلف العلماء في اشتراط الولي في النكاح، فذهب الجمهور إلى ذلك، وقالوا: لا تزوج المرأة نفسها أصلًا، واحتجوا بالأحاديث المذكورة، ومن أقواها هذا السبب المذكور في نزول الآية المذكورة، وهي أصرح دليل على اعتبار الولي، وإلا لما كان لعضله معنى، ولأنها لو كان لها أن تزوج نفسها لم تحتج إلى أخيها، ومن كان أمره إليه لا يقال إن غيره منعه منه، وذكر ابن المنذر أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك) (829) اهـ. الثاني: قوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) الآية البقرة (221) . قال القرطبي رحمه الله: (في هذه الآية دليل بالنص على أن لا نكاح إلا بولي، قال محمد بن على بن الحسين: النكاح بولي في كتاب الله؛ ثم قرأ (ولا تنكحوا المشركين) (830) اهـ.   (827) " تكملة المجموع شرح المهذب" (15/41) . (828) " أحكام القرآن" (1/201) ، وانظر " الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (3/158) . (829) "فتح الباري" (9/187) . (830) "تفسير القرطبي" (3/72) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وجه الاحتجاج بالآية والتي بعدها أنه خاطب بإنكاح الرجال، ولم يخاطب به النساء، فكأنه قال: لا تنكحوا أيها الأولياء مولياتكم للمشركين) (831) اهـ. قال القرطبي رحمه الله: (ومما يدل على هذا أيضًا من الكتاب: الثالث: قوله تعالى: (فانكحوهن بإذن أهلهن) النساء (25) . الرابع: وقوله: (وأنكحوا الأيامى منكم) النور (32) . فلم يخاطب تعالى بالنكاح غير الرجال، ولو كان إلى النساء لذكرهن) (832) اهـ. الخامس: قوله تعالى حكاية عن صالح مدين: (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتيْ هاتين) الآية القصص (27) ، فقد تولى هو النكاح، فدل على أن لا حظ للمرأة فيه، وهذا مقتضى قوله عز وجل: (الرجال قوامون على النساء) الآية النساء (34) . السادس: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا نكاح إلا بولي" (833) وفي لفظ: " لا نكاح إلا بولي، والسلطان ولي من لا ولي له" (834) وفي   (831) "فتح الباري" (9/184) . (832) "تفسير القرطبي " (3/73) . (833) رواه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أبو داود رقم (2085) في النكاح: باب في الولي، والترمذي رقم (1101) في النكاح: باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، والدارمي (2/137) ، وابن حبان (1243) ، وصححه، والحاكم (1/170) ، وصححه، وأحمد (4/394) ، والحديث صححه الألباني في "الإرواء" (6/ 235) . (834) رواه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وابن عباس رضي الله عنهما الإمام أحمد (6/260) ، (1/250) ، وابن ماجه رقم (1880) ، وصححه الألباني في "صحيح الجامع " (6/203) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 لفظ: " لا نكاح إلا بولي، وشاهدي عدل " (835) . قال الصنعاني رحمه الله: " والحديث دَل على أنه لا يصح النكاح إلا بولي، لأن الأصل في النفي، نفي الصحة لا الكمال" (836) اهـ. السابع: قوله صلى الله عليه وسلم: " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، وإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي لها" (837) . ففي هذا الحديث نص صريح لا يحتمل التأويل على أن المقصود من قوله صلى الله عليه وسلم: " لا نكاح إلا بولي" محمول على نفي الصحة والحقيقة الشرعية، ولا يصح بحال حمله على نفي الكمال. الثامن: قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها " (838) .   (835) رواه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ابن حبان (1247 - موارد) ، والدارقطني (383- 384) ، والبيهقي (7/125) ، وصححه الألباني في "الإرواء" رقم (1858) . (836) "سبل السلام" (3/117) . (837) رواه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أبو داود رقم (2083) ، والترمذي رقم (1102) ، وابن ماجه (1879) ، وصححه ابن حبان (1248) ، والحاكم (2/168) ، ووافقه الذهبي، وأبو عوانة، وابن خزيمة وغيرهم، انظر: " تلخيص الحبير" (3/179) ، و " إرواء الغليل" (1840) . (838) رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ابن ماجه رقم (1882) ، والدارقطني (384) ، والبيهقي (7/110) ، وقال الحافظ في " بلوغ المرام" ص (225) : " رجاله ثقات"، وصححه الألباني في " الإرواء" (1841) دون الجملة الأخيرة، وصحح وقفها على أبي هريرة رضي الله عنه. وهذا الحديث يدل على أن المرأة ليس لها ولاية في الإنكاح لنفسها ولا لغيرها، فلا عبارة لها في النكاح إيجابا ولا قبولا، فلا تزوج نفسها بإذن الولي ولا = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 التاسع: عن ابن عمر رضي الله عنهما: " أن عمر حين تأيمت حفصة بنت عمر من ابن حُذافة السهمي - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أهْل بدر - توفي بالمدينة، فقال عمر: لقيت عثمان بن عفان فعرضتُ عليه، فقلت: إن شئتَ أنكحتُك حفصةَ، قال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي، ثم لقيني، فقال: بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيتُ أبا بكر فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة فصمت أبو بكر، فلم يرجع إلي شيئَا، وكنت أوجد عليه مني على عثمان، فلبثت ليالي، ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكحتها إياه " (839) الحديث. ووجه الدلالة منه اعتبار الولي في الجملة، لقول عمر: "أنكحتُك". [قال الطبري: (في حديث حفصة حين تأيمت، وعقد عمر عليها النكاح، ولم تعقده هي، إبطال قول من قال: " إن للمرأة البالغة المالكة لنفسها تزويج نفسها، وعقد النكاح دون وليها، ولو كان ذلك لها لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع خطبة حفصة لنفسها إذا كانت أولى بنفسها من أبيها، وخطبها إلى من لا يملك أمرها ولا العقد عليها، وفيه بيان قوله صلى الله عليه وسلم: " الأيم أحق بنفسها من وَليها" أن معنى ذلك أحق بنفسها في أنه لا يعقد عليها إلا برضاها، لا أنها أحق بنفسها في أن تعقد النكاح على نفسها دون وليها) ] (840) اهـ. العاشر: عن عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته:   = غيرها، ولا تزوج غيرها بولاية ولا وكالة، ولا تقبل النكاح بولاية ولا وكالة، والله أعلم. (839) رواه البخاري (9/183) في النكاح: باب من قال: لا نكاح إلا بولي. (840) نقله عنه القرطبي في الجامع لأحكام القرآن " (3/73) ، وانظر: "الفتح" (9/186، 175-176) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 " أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاحُ الناس اليوم، يخطُبُ الرجل إلى الرجلِ وَليته أو ابنته فيُصْدِقُها، ثم يَنْكِحُها " الحديث، إلى أن قالت رضي الله عنها: " ... فلما بُعِثَ محمد صلى الله عليه وسلم بالحق هَدَمَ نكاحَ الجاهلية كله، إلا نكاحَ الناس اليوم " (841) ، وفيه حجة على اشتراط الولي.   (841) رواه البخاري (9/182-183) في النكاح: باب من قال: لا نكاح إلا بولي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 [فصل] ذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أنه لا يُشترط الولي أصلًا، ويجوز للمرأة أن تزوِّج نفسها ولو بغير إذن وَلِيها إذا تزوجت كفؤَا، واحتج بما يأتي: أولًا: قوله تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) فذهب إلى اًن الخطاب للأزواج لا للأولياء كما قال الجمهور، وقد أسند إليها النكاح فدل على أنه يصدر عنها، قالوا: " والمقصود نهى الأزواج عن أن يكون الارتجاع مضارةً وعضلا عن نكاح الغير بتطويل، لعدة عليها". وجوابه: - أن سبب نزول الآية يدل على أن الخطاب للأولياء لا للأزواج، كما قدمنا بيانه، قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: في باب (لا نكاح إلا بولي) من " الأم " [ (إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن) يعني فانقضى أجلهن يعني عدتهن (فلا تعضلوهن) يعني أولياءهن (أن ينكحن أزواجهن) إن طلقوهن ولم يبتوا طلاقهن.. قال: ولا أعلم الآية تحتمل غيره لأنه إنما يؤمر بأن لا يعضل المرأة مَن له سبب إلى العضل بأن يكون يتم به نكاحها من الأولياء، والزوج إذا طلقها، فانقضت عدتها فليس منها بسبيل فيعضلها (842) ، وإن لم تنقض عدتها، فقد يحرم عليها أن تنكح غيره، وهو لا يعضلها عن نفسه، وهذا أبين ما في القرآن من أن للولي   (842) انظر: " الجامع لأحكام القرآن" (3/159) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 مع المرأة في نفسها حقًا، وأن على الولي أن لا يعضلها إذا رضيت أن تنكح بالمعروف] (843) . ثانيا: قوله صلى الله عليه وسلم: " الثيب أحق بنفسها من وليها "، والجواب: أن سبب النزول كان في ثيب، وقد تقدم بيان معنى الحديث بما يغني عن إعادته (844) . ثالثا: احتج بالقياس على البيع، فإنها تستقل به، وجواب: أن هذا من أفسد أنواع الأقيسة، لأنه قياس مع وجود النص الصحيح الصريح، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (حديث معقل المذكور رفع هذا القياس، ويدل على اشتراط الولي في النكاح دون غيره، ليندفع عن موليته العار باختيار الكفء) (845) اهـ. رابعا: وقد يُحتج لهذا المذهب بما رواه عبد الله بن بريدة عن عائشة رضي الله عنها: (أن فتاة دخلت عليها، فقالت: إن أبي زوجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته، وأنا كارهة، قالت: اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخْبرَته، فأرسل إلى أبيها، فدعاه، فجعل الأمر إليها، فقالت: يا رسول الله، قد أجزتُ ما صنع أبي، ولكن أردتُ أن أعْلِمَ الناس: أن ليس للآباء من الأمر شيء) (846) . والجواب عنه من وجوه:   (843) نقلا من " تكملة المجموع شرح المهذب" (15/41) . (844) راجع الحاشيتين رقمي (784) ، (823) . (845) "فتح الباري" (9/187) . (846) رواه النسائي (6/87) ، والإمام أحمد (6/136) ، والدارقطني (3/232) ، وابن ماجه (1874) إلا أنه جعله من حديث بريدة رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 أحدها: أن هذا الحديث ضعيف، لأنه من رواية كهس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن عائشة رضي الله عنها، قال الدارقطني عقبه: (وهذا مرسل، لأن ابن بريدة لم يسمع من عائشة شيئًا) اهـ. وكل الرواة عن كهمس قالوا: عن عبد الله بن بريدة عن عائشة سوى وكيع، فقال: عن ابن بريدة عن أبيه، قال: فذكر الحديث، وهذه رواية ابن ماجه، قال الألباني حفظه الله: (وهذا خطأ من هناد، فقد قال أحمد: ثنا وكيع ثنا كهمس عن عبد الله بن بريدة عن عائشة، وهذا هو الصواب أن الحديث عن عائشة لموافقة هذه الرواية عن وكيع لرواية الجماعة عن كهس) اهـ. من: " نقد الكتاني ص 46 "، ولهذا قال الألباني في رواية ابن ماجه: (ضعيف شاذ) . ثانيا: أنه لو صح فإنما جعل الأمر إليها لوضعها في غير كفء، قاله شمس الحق في " التعليق المغني " (847) وكأنه أخذه من قولها: " ليرفع بي خسيسته " وفيه نظر، (لأن أباها زوجها، من ابن أخيه، وهو كفؤ لها، وإنما جعله إليها لعدم الرضا منها، ولهذا نفذ العقد بإجازتها) ، قاله الشوكاني رحمه الله في " السيل الجرار" (848) ، وقال فيه أيضا: (إنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأمر إليها لكون رضاها معتبرًا، فإذا لم ترض، لم يصح النكاح، سواء كان المعقود له كفؤَا أو غير كفء) (849) اهـ. وقد تواردت عبارات العلماء على إنكار مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله:   (847) "التعليق المغني على الدارقطني" (3/232) . (848) "السيل الجرار" (2/274) . (849) "السابق" (2/292) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 فقال الإمام ابن المنذر رحمه الله: (وأما ما قاله النعمان فمخالف للسنة، خارج عن قولِ أكثر أهل العلم) (850) اهـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (جمهور العلماء يقولون: النكاح بغير ولي باطل، يُعَزرون من يفعل ذلك اقتداءً بعمر بن الخطاب رضى الله عنه، وهذا مذهب الشافعي، بل طائفة منهم يُقيمون الحدَّ في ذلك بالرجم وغيره) (851) . وقال- رحمه الله- في موضع آخر: (دَلَّ القرآن في غير موضع، والسنة في غير موضع، وهو عادة الصحابة، إنما كان يُزَوِّجُ النساءَ الرجالُ، لا يُعرفُ عن امرأة تزوج نفسها، وهذا مما يُفَرَّقُ فيه بين النكاح ومتخذات أخدان، ولهذا قالت عائشة: " لا تزوج المرأة نفسها، فإن البغي هي التي تزوج نفسها ") (852) اهـ. تنبيهات متفرقة الأول: الحكمة من اشتراط الولي في النكاح: - إن من مقاصد هذا التشريع الحكيم صيانة المرأة عن أن تباشر بنفسها ما يشعر بوقاحتها، ورعونتها، وميلها إلى الرجال، مما ينافي حال أرباب الصيانة والمروءة، قال الشيخ ولي الله الدهلوي رحمه الله: (وفي اشتراط الولي في النكاح تنويه أمرهم، واستبدادُ النساء بالنكاح وقاحة منهن، منشؤها قلة الحياء، واقتضاب على الأولياء، وعدم اكتراث   (850) "الجامع لأحكام القرآن" (3/74) ، وانظر: " المحلى" (9/456) (851) "مجموع الفتاوى" (32/21) (852) " السابق" (32/131) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 لهم، وأيضًا يجب أن يميز النكاح من السفاح بالتشهير، وأحق التشهير أن يحضره أولياؤها) (853) اهـ. - كما أن المرأة - لقلة تجربتها في المجتمع، وعدم معرفتها شئون الرجال وخفايا أمورهم - غير مأمونة حين تستبد بالأمر لسرعة انخداعها، وسهولة اغترارها بالمظاهر البراقة دون ترو وتفكير في العواقب، وقد اشترط إذن الولي مراعاة لمصالحها لأنه أبعد نظرا، وأوسع خبرة، وأسلم تقديرًا، وحكمه موضوعي لا دخل فيه للعاطفة أو الهوى، بل يبنيه على اختيار مَنْ يكون أدومَ نكاحا، وأحسن عشرة. - وكيف لا يكون لوليها سلطان في زواجها وهو الذي سيكون - شاءت أم أبت، بل شاء هو أو أبى - المرجع في حالة الاختلاف، وفي حالة فشل الزواج يبوء هو بآثار هذا الفشل، ويجني ثمرات خطأ فتاته التي تمردت عليه، وانفردت بتزويج نفسها؟ ! إن الهدف من رقابة الولي على اختيار الزوج ليس فقط تسهيل الزواج، وإنما أيضا تأمينه وتوفير عوامل الاستقرار له، ورعاية مصالح الفتاة التى ائتمنه الله عليها، وإن قصر نظرها عن إدراكها، ومن هنا كان مبنى الولاية على حسن النظر، والشفقة، وذلك معتبر بمظنته، وهي القرابة، فأقربهم منها أشفقهم عليها، وهذا أغلب ما يكون في العَصَبَة (854) .   (853) "حجة الله البالغة " (2/127) . (854) وعَصبَة الرجل لغة: بنوه وقرابته لأبيه، أو أولياؤه الذكور من ورثته، وسموا عصبة لأنهم عصبوا بنسبه - أى: استكفوا به، وأحاطوا به لحمايته، ودفع العدوان عنه، مِنْ " عَصبَ القوم بفلان" إذا استكفوا حوله، ومفردها عاصب، وجمع العصبة عصبات، فهي جمع الجمع، وهي في اصطلاح الفرضيين: القرابة الذكور من جهة الأب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 الثاني: واجب الولي: يجب على ولي المرأة أن يتقي الله فيمن يزوجها به، وأن يراعي خصال الزوج، فلا يزوجها ممن ساء خَلْقُه أو خُلُقُه، أو ضعف دينه، أو قصر عن القيام بحقها، فإن النكاح يشبه الرق، والاحتياط في حقها أهم، لأنها رقيقة بالنكاح لا مخلص لها، والزوج قادر على الطلاق بكل حال، [ (وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " استوصوا بالنساء خيرًا، فإنما هن عندكم عوان، فالمرأة عند زوجها تشبه الرقيق والأسير، فليس لها أن تخرج من منزله الا بإذنه، سواء أمرها أبوها أو أمها أو غير أبويها باتفاق الأئمة. قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: (الزوج سيد في كتاب الله، وقرأ قوله تعالى: (وألفيا سيدها لدى الباب)) ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (النكاح رق، فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته (855) ، وقال يعض السلف: (من زوج كريمته من فاجر فقد قطع (856) رحمها) ] (857) . وقال رجل للحسن: (" قد خطب ابنتي جماعة، فمِمن أزوجها؟ "   (855) قال الحافظ العراقي رحمه الله: (حديث " النكاح رق، فلينظر أحدكم أين يضع كريمته، رواه أبو عمر التوقاني في " معاشرة الأهلين" موقوفا على عائشة وأسماء ابنتي أبي بكر، قال البيهقي: وروى ذلك مرفوعاً والموقوف أصح) اهـ من " تحقيق أحاديث الإحياء " (4/719) ، وانظر الحاشية رقم (241) . (856) قال الحافظ العراقي رحمه الله: (رواه ابن حبان في " الضعفاء" من حديث أنس، ورواه في " الثقات" من قول الشعبي بإسناد صحيح) اهـ، وزاد الزبيدي رحمه الله: (وروى الديلمي من حديث ابن عباس: " من زوج ابنته أو واحدة ممن يشرب الخمر فكأنما قادها إلى النار) اهـ. (857) "مجموع الفتاوى" (32/263) بتصرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 قال: (مِمَّن يتقي الله، فإن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها ") (858) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وإذا رضيت رجلًا، وكان كفؤًا لها، وجب على وليها - كالأخ ثم العم - أن يزوجها به، فإن عَضَلَها أو امتنع عن تزويجها زَوَّجَها الولي الأبعد منه أو الحاكم بغير إذنه باتفاق العلماء، فليس للولي أن يجبرها على نكاح من لا ترضاه؛ ولا يعضلها عن نكاح من ترضاه إذا كان كفؤًا باتفاق الأئمة؟ وإنما يجبرها ويعضلها أهل الجاهلية والظلمة الذين يزوجون نساءهم   (858) "عيون الأخبار، لابن قتيبة (4/17) ، ومما يجمل ذكره هنا قصة زواج مبارك أبي الإمام العظيم عبد الله بن المبارك رحمه الله، وكان رجلا تركيا، وكان عبدا لرجل خوارزمي من التجار من همذان من بني حنظلة، وكان رجلا تقيا صالحا، كثير الانقطاع للعبادة، محبا للخلوة، شديد التورع، ومن حديثه: " أنه كان يعمل في بستان لمولاه، وأقام فيه زمانا، ثم إن مولاه صاحبَ البستان جاءه يوما، وقال له: "أريد رمانا حلوا"، فمضى إلى بعض الشجر، وأحضر منها رمانا، فكسره فوجده حامضا، فَحَرَد - أي غضب - عليه، وقال: " أطلب الحلو فتحضر لي الحامض؟ هاتِ حُلْوا "، فمضى، وقطع من شجرة أخرى، فلما كسرها وجده أيضا حامضا، فاشتد حرده عليه، وفعل ذلك مرة ثالثة، فذاقه، فوجده أيضًا حامضًا، فقال له بعد ذلك: " أنت ما تعرف الحلو من الحامض؟ "، ففال: " لا "، فقال: " وكيف ذلك؟ "، فقال: " لأني ما أكلت منه شيئا حتى أعرفه "، فقال: " ولِمَ لم تأكُلْ؟ "، قال: " لأنك ما أذنت لي بالأكل منه "، فعجب من ذلك صاحب البستان، وكشف عن ذلك فوجده حقا، فعظم في عينيه، وزاد قدره عنده، وكانت له بنت خُطِبَتْ كثيرًا؛ فقال له: " يا مبارك، مَنْ ترى تزوجُ هذه البنت؟ "، فقال: " أهل الجاهلية كانوا يزوجون للحسب، واليهود للمال، والنصارى للجمال، وهذه الأمة للدين "، فأعجبه عقله، وذهب فأخبر به أمها، وقال لها: " ما أرى لهذه البنت زوجا غير مبارك"، فتزوجها، فجاءت بعبد الله بن المبارك"، فتمت عليه بركة أبيه، وأنبته الله نباتا صالحًا، وربَّاه على عينه، انظر: " وفيات الأعيان" لابن خلكان (2/237) ، و" شذرات الذهب" لابن العماد (1/296) ، و" مرآة الجنان" لليافعي (1/379) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 لمن يختارونه لغرض؛ لا لمصلحة المرأة، ويكرهونها على ذلك، أو يُخْجِلونها حتى تفعل، ويعضلونها عن نكاح من يكون كفؤًا لها لعداوة أو غرض، وهذا كله من عمل الجاهلية، والظلم والعدوان، وهو مما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، واتفق المسلمون على تحريمه، وأوجب الله على أولياء النساء أن ينظروا في مصلحة المرأة؛ لا في أهوائهم كسائر الأولياء والوكلاء ممن تصرف لغيره، فإنه يقصد مصلحة من تصرف له، لا يقصد هواه، فإن هذا من الأمانة التي أمر الله أن تؤدى إلى أهلها فقال: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) النساء (58) وهذا من النصيحة الواجبة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة " قالوا: " لمن يا رسول الله؟ " قال: " لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " والله أعلم) (859) . الثالث: حكم عدم وجود الأولياء حقيقة: في حالة عدم وجود الولي أصلا، بَيَّنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم فيما رواه ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا نكاح إلا بولي، والسلطان وَلِي مَنْ لا ولي له " (860) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وأما من لا ولي لها، فإن كان في القرية أو المحلة نائب حاكم زوجها هو، وأمير الأعراب، ورئيس القرية، وإذا كان فيهم إمام مطاع زَوَّجها أيضًا بإذنها، والله أعلم) (861) .   (859) "مجموع الفتاوى" (32/52-53) ، وانظره: (32/39 - 40) ، و " المغني " (6/460) ، و"المنهاج مع شرح مغني المحتاج" (3/153) . (860) رواه الإمام أحمد (1/250) ، والطبراني في " الكبير" (11/142) ، وابن عدي في " الكامل" (6/2448) ، وانظر: " مجمع الزوائد" (4/286) . (861) " مجموع الفتاوى" (32/35) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 الرابع: عدم وجود الأولياء حكما: وذلك بأن يكونوا أحياء في الوقت الذي يحتاج إليهم لتدبير أمور عقد النكاح، ولكن لا يمكن الرجوع إليهم، وذلك في حالات: (1) إما لأجل سفر الولي الأقرب، وغيبته غيبة بعيدة، بحيث يكون في موضع لا يصل إليه الكتاب، أو يصل فلا يجيب عنه، وفي هذه الحالة يتولى تزويجها الولي الأبعد من عَصَبَتها، فإن لم يكن فالسلطان، وهذا مذهب الإمام أبي القاسم الخرقي رحمه الله (862) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (.. فأما إن غاب - أي الولي - غيبة بعيدة، انتقلت الولاية إلى الأبعد أو الحاكم) (863) اهـ. الخامس: عدم اتفاق الأولياء عل اختيار الخاطب: وضع رسول الله حَلا لهذه المشكلة في قوله صلى الله عليه وسلم: " فإن اشتجروا - أي الأولياء - فالسلطان ولي من لا ولي له " (864) . قال حافظ المغرب أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: (فإن كان الأولياء في التعدد سواء، كان أولاهم بذلك أفضلهم، فإن استووا في الدرجة والفضل وتشاحوا، نظر الحاكم في ذلك، فما رآه   (862) "المغني" (6/478) ، وانظر: " مغني المحتاج" للشربيني (3/157) . (863) "مجموع الفتاوى" (32/31) ، وأما تحديد مقدار الغيبة أو المسافة التي تعطي الحق للولي الأبعد أو السلطان فهذا بابه التوقيف، ولا توقيف في هذه المسألة، فترد إلى ما يتعارفه الناس بينهم مما لم تجر العادة بالانتظار فيه، ويلحق المرأة الضرر بمنعها من التزويج في مثله، كما أفاده ابن قدامة في المغني (6/479) . (864) رواه أبو داود (2083) ، والترمذي (1/204) ، وحسنه، وابن ماجه (1879) ، وأحمد (6/47، 66، 166) ، والدارمي (2/137) ، وصححه الألباني في " الإرواء" (6/243) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 سدادًا ونظرًا أنفذه، وعقده، أو رَدَّه إلى من يعقده منهم) (865) . السادس: وجوب التحري الدقيق عن صفات الزوج: عن معقل بن يسار رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من عبد يسترعيه الله رعية، فلم يُحِطْها بنصحه، إلا حَرَّم الله عليه الجنة " (866) . ومن هذه النصيحة الواجبة أن يجتهد ولي المرأة في تحري الصفات الطيبة فيمن يزوجه موليته، وذلك بأن يستشير أولي العلم، وذوي الصلاح والتقوى ممن يوثق بأمانتهم ومعرفتهم حَقَّ الشهادة لله عز وجل، ممن لا تحمله البغضاء على الحسد وكتمان الجميل، ولا يحمله الود على المجاملة وستر العيوب، ويجب ألا يكتفي بالمعرفة السطحية، والشهادة العابرة (867) ، لأن في ذلك خضرًا على النساء، وتقصيرًا من الأولياء الذين هم رعاة مسئولون أمام الله عز وجل عن رعيتهم. وما أدق ذلك الميزان الذي وضعه الفاروق - رضي الله عنه - لمعرفة قيم الرجال، فقد [جاء رجل يطلب منه أن يوليه عملًا، فقال: " ائتني بمن يعرفك "، وعاد الرجل وبصحبته آخر، فسأله عمر: " أتعرف هذا الرجل؟ "، قال: " نعم "، قال: " هل أنت جاره الذي يعرف مداخله ومخارجه؟ "، قال: " لا "، فقال عمر: " هل صاحبته في السفر، الذي   (865) "الكافي في فقه أهل المدينة" (2/525) . (866) رواه البخاري (13/112) في الأحكام: باب من استرعى رعية فلم ينصح، ومسلم رقم (142) في الإيمان: باب استحقاق الولي الغاش لرعيته النار، وفي الإمارة: باب فضيلة الإمام العادل، والإمام أحمد في " المسند" (5/25، 27) . (867) وكذا لا يعتمد على المحترفات الخاطبات، اللائي لا هَم لهن غالبا إلا ترويج السلعة، حرصًا على الأجر المنشود، والثمن الموعود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 تعرف به مكارم الأخلاق؟ "، فأجاب الرجل: " لا "، فاستطرد أمير المؤمنين رضي الله عنه قائلًا: " هل عاملته بالدرهم والدينار الذي يُعرف به ورع الرجل؟ "، قال الرجل: " لا "، فقال الفاروق متعجبًا: " لعلك رأيته قائمًا قاعدا يصلي بالمسجد؟ "، فرد الرجل بالإيجاب، فقال له أمير المؤمنين: " اذهب فإنك لا تعرفه! "، والتفت إلى الرجل الأول، فقال له: " ائتني بمن يعرفك ". وفي رواية أخرى: أن رجلا قال لعمر رضي الله عنه: " إن فلانا رجل صِدْق"، قال: " هل سافرت معه؟ "، قال: " لا"، قال: "فكانت بينك وبينه خصومة؟ "، قال: " لا"، قال: " فهل ائتمنته على شيء؟ "، قال: " لا "، قال له عمر: " فأنت الذي لا علم لك به، أراك رأيته يرفع رأسه ويخفضه في المسجد"] (868) . من أجل ذلك فإنه لا يكفي للتحري عن الزوج أقوال الناس عنه، فإن موازينهم تختلف باختلاف أمزجتهم، وصلابة دينهم، وقوة ورعهم، فما قد يراه البعض فضيلة، قد يراه البعض الآخر من أقبح المنكرات، لا سيما في هذا الزمان، الذي أعرض فيه الكثيرون عن موازين الإسلام المحكمة، ومعاييره الصادقة. السابع: جواز عرض الرجل موليته على أهل الخير والصلاح: جرت عادة الناس بأن يبحث الرجل عن المرأة التي يرغب الزواج بها، ويخطبها من وليها، فإذا اتفقا، وكتب لهما الوفاق والوئام تزوجها على عادة الناس، وفقًا للشريعة الغراء. وقد يقع من بعض العقلاء والحكماء خلاف هذه العادة، فيبحث   (868) " عيون الأخبار" (3/158) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 الرجل عن الزوج الصالح لابنته من أهل الكفاءة والديانة والأمانة، فيعرضها عليه، ويحصل هذا غالبًا ممن لديهم بُعْد نظر، وحسن تفكير، وليس أدل على ذلك من فعل أمير المؤمنين عمر الفاروق رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخليفته الثاني، ومن نزل القرآن موافقا رأيه، فعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: (إن عمر بن الخطاب حين تأيمت (869) حفصة بنت عمر من خنيس ابن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوفي بالمدينة، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة، فقال: " سأنظر في أمري"، فلبثت ليالي، ثم لقيني فقال: " قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا"، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: " إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر "، فصمت أبو بكر فلم يرجع في شيئًا، وكنت أوجدَ عليه مني على عثمان (870) ، فلبثت ليالي، ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر، فقال: " لعلك وجدت عَلَي حين عرضت عَلي حفصة فلم أرجع عليك؟ "، قال: قلت: " نعم "، قال أبو بكر: " فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني كنت علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سِرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها النبي صلى الله عليه وسلم لقبلتُها ") (871) . وعرضت أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها أختها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:   (869) أي صارت أيمًا، وهي التي يموت زوجها، أو تبين منه، وتنقضي عدتها، وأكثر ما تطلق على من مات زوجها، وانظر " القسم الثالث " ص (64) . (870) أي كان أشد غضبا عليه منه على عثمان رضي الله عنهم أجمعين، لقوة المودة بينه وبين أبي بكر، ولأن عثمان أجابه أولًا ثم اعتذر، أما أبو بكر فإنه لم يجبه بشيء. (871) تقدم تخريجه برقم (839) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 " إن هذا لا يحل لي " (872) ، وعرض أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ابنة عمه عمارة بنت حمزة رضي الله عنهما، فاعتذر صلى الله عليه وسلم بأنها ابنة أخيه من الرضاعة (873) ، وقال صالح مدين لموسى عليه السلام: (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين) الآية (القصص: 27) قال القرطبي: (فيه عرض الولي بنته على الرجل؛ وهذه سنة قائمة؛ عرض صالح مدين ابنته كل صالح بني إسرائيل) (874) إلخ. (هكذا كان شأن الرعيل الأول من أصحاب سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم في فهمهم للإسلام، وأخذهم بآدابه، واجتهادهم في تحري الصالحين لبناتهم أو أخواتهم، وصراحتهم في العرض، وعدم تحرجهم في القبول أو الرفض، إذ كان هدف الجميع دائمًا القيام بحق الله تعالى، سواء بالنسبة لبناتهم وأخواتهم، باعتبارهن أولى الناس ببرهم واجتهادهم، أو بالنسبة لإخوانهم في الله: باعتبارهم أحق الناس بمصاهرتهم وإكرامهم، ولكن غفلة كثير من الناس في هذا الزمان عن هذه الآداب السامية، قلب الأوضاع في نظرهم، وأصبح التأسي بمثل هؤلاء الكرام البررة محل غرابة واستنكار، وظنه البعض محاولة لترويج بضاعة كاسدة، فأحجم ذوو النفوس العالية عن عرض بناتهم وأخواتهم   (872) رواه البخاري (9/121) في النكاح: باب (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) ، وباب (وأن تجمعوا بين الأختين) وغيرهما، ومسلم رقم (1449) في الرضاع، وأبو داود رقم (2056) ، والنسائي (6/96) كلاهما في النكاح. (873) رواه مسلم رقم (1446) في الرضاع: باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة، والنسائي (6/99) في النكاح: باب تحريم بت الأخ من الرضاعة. (874) " الجامع لأحكام القرآن " (13/271) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 على أقرب الناس إليهم، ضَنُّا بكرامتهم أن تمتهن) (875) . ونقول لهؤلاء: إنكم لستم بأفضل من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد عرض ابنته حفصة على عثمان وأبي بكر رضي الله عنهما، ولا من سعيد بن المسيب، وقد زوَّج ابنته على أحد طلبته دون طلب من التلميذ (876) ، وكان يخطبها ولد أمير المؤمنين، وأمهرها زوجها درهمين فقط، لأنه ربما كان لا يجد سواهما. بل لقد بلغ من سماحة الإسلام وواقعيته، أنه - من ناحية أخرى - أباح للمرأة أن تعرض نفسها على الرجل الصالح، وأن تقترح زواجها منه رغبة في صلاحه، واطمئنانًا إلى تقواه (877) ، لا سيما إذا لم يكن لها ولي ينوب عنها في التعبير عن ذلك، فعن أنس رضي الله عنه قال: (جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعرض عليه نفسها- أي: ليتزوجها- قالت: " يا رسول الله: ألك بي حاجة؟، فقالت بنت أنس - وكانت حاضرة: " ما أقل حياءها! واسوأتاه ... واسوأتاه! "، فقال أنس رضي الله عنه- أي لابنته: " هي خير منكِ، رغبت في النبي صلى الله عليه وسلم، فعرضت نفسها عليه ") (878) ، فلا حرج على الفتاة إذا بلغت مبلغ الزواج، وتقدم لها خاطب كفؤ دَين على خلق، أن تطالب وليها بالزواج الحلال تعف نفسها بالطريقة المشروعة، وعلى الأب أن يلبي رغبتها، وييادر بتزويجه،   (875) "اختيار الزوجين في الإسلام" ص (92) . (876) انظر الحاشية رقم (1405) . (877) وقد خطبت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة لنفسها، فكانت خير زوجة له صلى الله عليه وسلم، ناصرته وآوته وأعانته بمالها ونفسها، ولم يعب أحد ذلك، وكان يخطبها كبار قريش وأشرافهم، وكانت تسمى في الجاهلية: "الطاهرة" رضي الله عنها. (878) انظر: " فتح الباري" (9/178) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما النساء شقائق الرجال " (879) . الثامن: استحباب مشاورة المرأة في تزويج بنتها: عن أنس رضي الله عنه قال: (خطب النبي صلى الله عليه وسلم على جلَيْبِيب (880) امرأة من الأنصار إلى أبيها، فقال: " حتى أستأمر أمها "، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فنعم إذا "، فانطلق الرجل إلى امرأته، فذكر ذلك لها، فقالت: " لاها الله (881) ، إذا ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جليبيبًا وقد منعناها من فلان وفلان"، قال: والجارية في سترها تستمع، فال: فانطلق الرجل يريد أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقالت الجارية: " أتريدون أن تردُّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟ إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه "، فكأنها جلت (882) عن أبويها، وقالا: " صدقت "، فذهب أبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " إن كنت قد رضيته فقد رضينا"، قال: " فإني قد رضيته "، فزوَّجَها، ثم فزع (883) أهل المدينة، فركب جليبيب فوجدوه قد قتل وحوله ناس من المشركين قد قتلهم (884) ، قال أنس: فلقد رأيتها وإنها لمن   (879) تقدم برقم (139) . (880) قال الحافظ في " الإصابة": (غير منسوب، وهو تصغير جلباب) اهـ (1/495) . (881) أي: هذا يمين، و " لا " لنفي كلام الرجل، و " ها " بالمد والقصر، ولفظ الجلالة مجرور بها لأنها بمعنى واو القسم، وجملة " إذا ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. إلخ "، جواب القسم، وإنما قالت ذلك المرأة لأن جليبيبا كان في وجهه دمامة كما في رواية أبي يعلى، وفي حديث أبي برزة رضي الله عنه أن المرأة قالت: " لا لعمر الله لا تزوجه"، وهي مؤيدة لرواية أنس مفسرة لها. (882) بفتح اللام: أي كشفت، وأوضحت أمرا خفي عليهما. (882) الفزع: الخوف، أي أخافهم العدو، وفي حديث أبي برزة: " فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة " يعني: ومعه جليبيب رضي الله عنه. (884) وفي رواية أبي برزة عند مسلم والإمام أحمد: (فوجده إلى جنب سبعة قد قتلهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 أنفق (885) بيت في المدينة ") (886) . والشاهد قوله صلى الله عليه وسلم: " فنعم إذا ". ورُويَ عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " آمروا النساء في بناتهن " (887) قال ابن الأثير: (" آمروا النساء" أي استأذنوهن وشاوروهن، قال الخطابي: " وهو أمر استحباب من جهة استطابة أنفسهن، وحسن العشرة معهن، لأن في ذلك بقاء الصحبة بين البنت وزوجها، إذا كان برضى الأم، خوفًا من وقوع الوحشة بينهما إذا لم يكن برضاها، إذ البنات إلى الأمهات أمْيَلُ، وفي سماع قولهن أرغبُ، ولأن المرأة ربما علمت من حال بنتها - الخافي عن أبيها - أمرًا لا يصلح معه النكاح، من علة تكون بها؛ أو آفة تمنع من وفاء حقوق النكاح، وعلى نحو هذا يُتأول قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تزوج البكر إلا بإذنها، وإذنها سكوتها " وذلك أنها قد تستحيي أن تُفْصح بالإذن، وأن تظهر الرغبة في النكاح، فيستدل   = ثم قتلوه، فقالوا: " يا رسولَ الله، ها هو ذا إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عليه، فقال: " قتل سبعة وقتلوه؟ هذا مني، وأنا منه، مرتين أو ثلاثا، ثم وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ساعديه، وحُفِر له، ما له سرير إلا ساعدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وضعه في قبره، ولم يذكر أنه غسله) . (885) بفتح الفاء من النفاق بفتح النون مشددة، وهو ضد الكساد، والمعنى أنها كانت أعظم امرأة أيم في بيوت المدينة، يتسابق إليها الخطاب بعد موت جليبيب، وذلك ببركة كونها رضيت بنكاح جليبيب الذي كان ينفر منه الناس، وببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها إذ رُوي أنه دعا لها فقال: " اللهم صبَّ عليها الخير صبا، ولا تجعل عيشها كَدا كدا ". (886) (رواه الإمام أحمد، ورجاله رجال الصحيحين، وأخرجه أبو يعلى مختصرًا، ويشهد له حديث أبي برزة عند مسلم والإمام أحمد) ، كما في " الفتح الرباني " (6/148) . (887) أخرجه الإمام أحمد (2/34) ، وأبو داود رقم (2095) في النكاح: باب فى الاستئمار، والبيهقي (7/115) ، والبغوي في " شرح السنة" (9/32) ، وقال محققه: (وإسناده ضعيف لجهالة أحد رواته) ، وانظر الحاشية رقم (802) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 بسكوتها على سلامتها من آفة تمنع الجماع، أو سبب لا يصلح معه النكاح) (888) اهـ. التاسع: الكفاءة في السن: عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: (خطب أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فاطمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنها صغيرة"، فخطبها علي فزوَّجها منه) (889) . قال السندي في حاشيته على النسائي: (قوله: (فخطبها عليّ، أي عقب ذلك بلا مهلة، كما تدل عليه الفاء، فعلم أنه لاحظ الصغر بالنظر إليهما، وما بقي ذاك بالنظر إلى علي، فزوجها منه، ففيه أن الموافقة في السن أو المقاربة مرعية لكونها أقرب إلى المؤالفة، نعم قد يُترَكُ ذاك لما هو أعلى منه، كما في تزويج عائشة رضي الله تعالى عنها، والله أعلم) (890) اهـ. والتكافؤ بين الزوجين في السن هو القاعدة، وإن أجاز الشرع غيره ما دام الرجل قادرَا على أعباء الزوجية، وتحققت فيه كفاءة الدين والخُلُق، وارتضته الفتاة زوجا لها، وقد تزوج صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها وكان يكبرها بخمس وأربعين سنة، ومن قبل تزوج صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها، وكانت تكبره بخمس عشرة سنة، وتزوج عمر رضي الله عنه أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكانت تصغره بسنين كثيرة. وإنما العمدة في تحقيق السعادة الزوجية التوافق الروحي بين الزوجين،   (888) "جامع الأصول" (11/465) . (889) رواه النسائي (6/62) باب: تزويج المرأة مثلها في السن، والحاكم (2/168) ، وصححه على شرطهما، ووافقه الذهبي، ورواه ابن حبان (2224) ، وقال الألباني في " تحقيق المشكاة" رقم (6095) : (وإسناده جيد) اهـ. (3/1723) . (890) " حاشية السندي على النسائي " (6/62) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 فعن أم المؤمنين عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف " (891)   (891) رواه البخاري (4/162) ، ومسلم (159، 160) ، وأبو داود (4834) ، والإمام أحمد (2/ 295، 527، 539) ، وغيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 عود على بدء من حقوق المرأة على زوجها (5) وقايتها من النار بتعليمها وتأديبها وذلك بأن يعلمها أصول دينها: كيف تؤمن بالله تعالى الإيمان الحق، وتوحده التوحيد الخالص، وتؤمن بأسمائه وصفاته على الوجه اللائق بجلاله سبحانه وتعالى. وتعرف ما يجب لله تعالى، وما يجوز له سبحانه، وما يستحيل عليه تبارك وتعالى، ونؤمن بما جاء من عند الله تعالى من أركان الإيمان، وسائر أحكام الإسلام الواجبة عليها، وأصول معرفة الحلال والحرام. وأن يعلمها أحكام العبادات، ويحضها على القيام بها، خاصة الصلاة في أول الوقت وشروطها وأركانها ومفسداتها ومكروهاتها، وسائر العبادات، وحقوق الله تعالى عليها، وحقوق الزوجية. وأن يعلمها مكارم الأخلاق من وقاية القلب من أمراض الحسد والبغضاء، ووقاية اللسان من الغيبة والنميمة والسب والكذب. ويراقبها في ذلك كله ما استطاع إلى المراقبة سبيلًا. قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) التحريم (6) . قال علي رضي الله عنه في قوله تعالى: (قوا أنفسكم وأهليكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 نارا) : " علموا أنفسكم وأهليكم الخير، وأدبوهم " (892) . وقال قتادة: " أن يأمرهم بطاعة الله تعالى، وينهاهم عن معصيته، واًن يقوم عليهم بأمر الله تعالى، يأمرهم به، ويُساعدهم عليه، فإذا رأيت لله معصية ردعتهم عنها، وزجرتهم عنها " (893) . قال الألوسي رحمه الله: (واستُدل بها على أنه يجب على الرجل تعلم ما يجب من الفرائض، وتعليمه لهؤلاء، وأدخل بعضهم الأولاد في الأنفس، لأن الولد بعض من أبيه) (894) اهـ. وقال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: (فعلى الرجل أن يصلح نفسه بالطاعة، ويصلح أهله إصلاح الراعي للرعية، ففي صحيح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته: فالإمام الذي على الناس راعٍ، وهو مسئول عنهم، والرجل راعٍ على أهل بيته، وهو مسئول عنهم " (895) ، وعن هذا عبَّر الحسن في هذه الآية بقوله: " يأمرهم وينهاهم "، وقال بعض العلماء: لما قال: (قوا أنفسكم) دخل فيه الأولاد؛ لأن الولد بعض منه، كما دخل في قوله تعالى: (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم) (896) ، فلم يُفْرَدُوا بالذكر إفراد سائر القرابات، فيعلمه الحلال والحرام، ويجنبه المعاصي والآثام، إلى غير ذلك من الأحكام.   (892) عزاه في " الدر المنثور" (6/244) إلى عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في " المدخل". (893) " تفسير الطبري" (28/166) . (894) " روح المعاني" (28/156) . (895) تقدم تخريجه برقم (55) . (896) انظر: " الجامع لأحكام القرآن" (12/314) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 .. وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم: " مُرُوا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع" (897) خرجه جماعة من أهل الحديث، وهذا لفظ أبي داود، وخرج أيضًا عن سَمُرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، فإذا بلغ عشر سنين، فاضربوه عليها " (898) . وكذلك يخبر أهله بوقت الصلاة، ووجوب الصيام، ووجوب الفطر إذا وجب؛ مستندًا في ذلك إلى رؤية الهلال، وقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوتَرَ يقول: " قومي فأوتِري يا عائشة"، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رحم الله امرأ قام من الليل، فصلَّى، فأيقظ أهله، فإن لم تقم رَشَّ وجهها بالماء، رحم الله امرأة قامت من الليل تصلي، وأيقظت زوجها، فإذا لم يقم رشَّت على وجهه من الماء " (899) ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " أيقظوا صواحب الحُجَر " (900) ، ويدخل هذا في عموم قوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى) الآية. ... قال إلكيا: " فعلينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير، وما لا يُستغنى عنه من الأدب " (901) اهـ.   (897) رواه الإمام أحمد (2/187) ، وابن أبي شيبة (1/347) ، وأبو داود (495، 496) ، والدارقطني (1/230) ، والحاكم (1/197) ، والبيهقي (7/94) وغيرهم، وصححه الألباني في "الإرواء" (1/266) . (898) رواه أبو داود رقم (494) في الصلاة: باب (26) ، والبيهقي (2/11) عن عبد الملك بن الربيع بن سبرة، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه. (899) تقدم تخريجه برقم (597) . (900) رواه بنحوه في حديث أطول منه البخاري (3/8) في التهجد، والعلم، واللباس، والأدب، والفتن، والترمذي رقم (2197) في الفتن. (901) " الجامع لأحكام القرآن" (18/195-196) بتصرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيما رَجل كانت عنده وليدة، فعلمها، فأحسن تعليمها، وأدَّبها، فأحسن تأديبها، ثم أعتقها، وتزوجها، فله أجران " (902) أي أجر العتق، وأجر التعليم. وترجم البخاري لهذا الحديث: باب تعليم الرجل أمته وأهله، وقال الحافظ ابن حجر في شرحه: (مطابقة الحديث للترجمة في الأمة بالنص، وفي الأهل بالقياس، إذ الاعتناء بالأهل الحرائر في تعليم فرائض الله، وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم آكد من الاعتناء بالإماء) (903) اهـ. وعن أبي سليمان مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: (أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شَبَبة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أنا اشتهينا أهلينا، فسألنا عمن تركنا في أهلينا، فأخبرناه، وكان رفيقًا رحيما، فقال: " ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ومروهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي " (904) الحديث، وقد بلغ من اعتناء السلف بهذه التربية أنهم كانوا حريصين على متانة الروابط بينهم وبين من يؤدبون أولادهم، فكانوا يحزنون إذا غابوا عن الأولاد فترة لسبب من الأسباب، لخوفهم على أولادهم أن لا يؤدبوا على ما يريدون ويشتهون، وذكر الراغب الأصفهاني أن المنصور بعث إلى مَنْ في الحبس من بني أمية يقول لهم: " ما أشد ما مَرَّ بكم في هذا الحبس؟ " فقالوا: " ما فقدنا من تربية أولادنا " (905) .   (902) رواه البخاري (1/190) في العلم، والعتق، والجهاد، والأنبياء، والنكاح، ومسلم رقم (154) في الإيمان، وأحمد (4/395، 414) ، والبغوي في" شرح السنة " (1/53، 55) . (903) " فتح الباري" (1/190) . (904) رواه البخاري (1/183) ، (9/107) ، ومسلم في المساجد (292) ، والنسائي (2/9) ، والدارمي (1/286) ، وأحمد (3/436) ، وغيرهم. (905) " تربية الأولاد في الإسلام" (1/152) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 وقد أثنى الله على نبيه إسماعيل عليه السلام فيما أثنى بقوله: (وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا) مريم (55) . وقال تعالى: (وَأمُرْ أهلك بالصلاة واصطبر عليها) الآية طه (132) . أمر الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن يأمر أهله بالصلاة، ويمتثلها معهم، ويصطبر عليها ويلازمها، والظاهر أن المراد بالصلاة الصلوات المفروضة، ويدخل في عموم هذا الأمر جميع أمته صلى الله عليه وسلم وأهل بيته على التخصيص (906) . ويُروى عن ثابت قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابه خصاصة نادى أهله: " يا أهلاه! صَلوا، صلوا "، قال ثابت: " وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر، فزعوا إلى الصلاة ") (907) ، وكان عروة بن الزبير رضي الله عنه   (906) سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (عمن له زوجة لا تصلي: هل يجب عليه أن يأمرها بالصلاة؟ وإذا لم تفعل: هل يجب عليه أن يفارقها، أم لا؟ فأجاب: نعم، عليه أن يأمرها بالصلاة، ويجب عليه ذلك؛ بل يجب عليه أن يأمر بذلك كل من يقدر على أمره به إذا لم يقم غيره بذلك، وقد قال تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) الآية، وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة) الآية، وقال عليه الصلاة والسلام: " علموهم، وأدبوهم ". وينبغي مع ذلك الأمر أن يحضها على ذلك بالرغبة، كما يحضها على ما يحتاج إليها، فإن أصرت على ترك الصلاة فعليه أن يطلقها، وذلك واجب في الصحيح، وتارك الصلاة مستحق للعقوبة حتى يصلي باتفاق المسلمين؛ بل إذا لم يُصَل قتِل، وهل يقتل كافرا مرتدا؟ على قولين مشهورين، والله أعلم) اهـ. من " مجموع الفتاوى" (32/276 - 277) ، والحديث المذكور موقوف، راجع الحاشية رقم (892) . (907) رواه الإمام أحمد في " الزهد " ص (10) ، وابن أبي حاتم، والبيهقي في " شعب الإيمان " كما في " الدر المنثور " (4/313) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 إذا دخل على أهل الدنيا، فرأى من دنياهم طرفًا، فإذا رجع إلى أهله، فدخل الدار، قرأ: (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى) ثم يقول: " الصلاةَ الصلاة، رحمكم الله " (908) ، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يصلي من الليل ما شاء الله تعالى أن يصلي، حتى إذا كان آخر الليل أيقظ أهله للصلاة، ويقول لهم: " الصلاةَ، الصلاةَ " ويتلو هذه الآية: (وأمر أهلك) الآية (909) . [ (وعن القاسم بن راشد الشيباني قال: كان زمعة نازلًا عندنا بالمحصب، وكان له أهل وبنات، وكان يقوم فيصلي ليلًا طويلًا، فإذا كان السحر نادى بأعلى صوته: (أيها الركب المعرسون، أكُلَّ هذا الليل ترقدون! أفلا تقومون فترحلون؟ " فيتواثبون، فَيُسمع من ههنا باك، ومن ههنا داع، ومن ههنا قارئ، ومن ههنا متوضئ، فإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته: " عند الصباح يحمد القوم السرى " (910) ] . فائدة جليلة: (قوله تعالى في هذه الآية: (لا نسألك رزقًا نحن نرزقك) فيه دفع لما عسى أن يخطر ببال أحد من أن المداومة على الصلاة ربما تضر بأمر المعاش، فكأنه قيل: داوموا على الصلاة غير مشتغلين بأمر المعاش عنها، إذ لا نكلفكم رزق أنفسكم، إذ نحن نرزقكم، وتقديم المسند إليه للاختصاص أو لإفادة التقوى، وقد قال تعالى: (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون، إن الله   (908) أخرجه الطبري (16/170) ، وعزاه السيوطي في " الدر المنثور" (4/313) لابن المنذر، وابن أبي حاتم. (909) أخرجه الإمام مالك في " الموطأ " (1/119) في صلاة الليل: باب ما جاء في صلاة الليل، وقال في " تحقيق جامع الأصول " (6/69) : " إسناده صحيح ". (910) "الإحياء" (15/2772) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 هو الرزاق) الآيات الذاريات (56-58) ، ومعلوم أن ترك الاكتساب للصلاة المفروضة فرض، وليس المراد بالمداومة عليها إلا أداؤها دائمًا في أوقاتها المعينة لا استغراق الليل والنهار بها، ويستشعر من الآية أن الصلاة مطلقًا تكون سببًا لإدرار الرزق، وكشف الهم، وعن عبد الله بن سلام قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة، وتلا: (وأمر أهلك بالصلاة) (911) ، وأخرج أحمد في الزهد وغيره عن ثابت قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابت أهلَه خصاصة نادى أهله بالصلاة: صلوا صلوا، قال ثابت: وكانت الأنبياء عليهم السلام إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة ") أفاده الألوسي (912) . إذا فسد القوام عَم الفساد جمع الأقوام: والرجل قدوة أهل بيته، والقدوة من أخطر وسائل التربية: عن فضيل بن عياض قال: (رأى مالك بن دينار رجلا يسيء صلاته، فقال: " ما أرحمني بعياله! "، فقيل له: " يا أبا يحيى يسيء هذا صلاته، وترحم عياله! " قال: " إنه كبيرهم، ومنه يتعلمون " (913)) . قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله ضمن آداب الزوج: (أن يتعلم المتزوج من علم الحيض وأحكامه ما يحترز به الاحتراز الواجب، ويُعَلم زوجته أحكام الصلاة، وما يقضى منها في الحيض، وما   (911) عزاه في " الدر المنثور " إلى: (أبي عبيد، وسعيد بن منصور، وابن المنذر، والطبراني في " الأوسط"، وأبو نعيم في " الحلية "، والبيهقي في " شعب الإيمان" بسند صحيح) اهـ (4/313) . (912) " روح المعاني" (16/ 285) . (913) "حلية الأولياء" (2/384) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 لا يقضى، فإنه أمر بأن يقيها النار بقوله تعالى: (قوا أنفسكم وأهليكم نارًا) فعليه أن يلقنها اعتقاد أهل السنة، ويزيل عن قلبها كل بدعة إن استمعت إليها، ويخوفها في الله إن تساهلت في أمر الدين، ويعلمها من أحكام الحيض والاستحاضة ما تحتاج إليه. وعلم الاستحاضة يطول، فأما الذي لابد من إرشاد النساء إليه في أمر الحيض بيان الصلوات التي تقضيها، فإنها مهما انقطع دمها قبيل المغرب بمقدار ركعة، فعليها قضاء الظهر والعصر، وإذا انقطع قبل الصبح بمقدار ركعة، فعليها قضاء المغرب والعشاء، وهذا أقل ما يراعيه النساء. فإن كان الرجل قائما بتعليمها، فليس لها الخروج لسؤال العلماء، وإن قصر علم الرجل، ولكن ناب عنها في السؤال، فأخبرها بجواب المفتي فليس لها الخروج، فإن لم يكن ذلك، فلها الخروج للسؤال، بل عليها ذلك، ويعصي الرجل بمنعها، ومهما تعلمت ما هو من الفرائض عليها، فليس لها أن تخرج إلى مجلس الذكر، ولا إلى تعلم فضل إلا برضاه، ومهما أهملت المرأة حكمًا من أحكام الحيض والاستحاضة، ولم يعلمها الرجل، خرج الرجل معها، وشاركها في الإثم) (914) اهـ.   (914) "الإحياء " (4/730) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 [فصل] مسئولية الرجل عن حماية الأسرة (915) [قرر الإسلام مكانة عظيمة للأسرة، تتجلى من الاهتمام بشؤونها في كتاب الله زواجًا ورضاعًا وطلاقًا وإرثًا، واستطاعت الأجيال المتعاقبة أن ترسخ معاني إسلامية عميقة في الأسرة في مجتمعاتنا، وقد أحسَّ أعداؤنا - وهم يحاولون هدم هذه الأمة - صلابة هذه اللبنة، وقوة هذا الحصن.. ومن أجل ذلك كان في الحقبة الأخيرة هجوم مركز على الأسرة، استخدموا له كل القوى التي يمكن أن تصل إلى أيديهم، وما أكثرها! ! (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) لقد استخدموا سن القوانين التي تفتت الأسرة في كثير من بلاد المسلمين، وشنوا حملات عليها من طريق الفنّ بواسطة وسائل النشر والإعلام من قصص وصحف ومجلات وإذاعة وتلفزيون ومسرح وسينما، ومازالوا في طريقهم ماضين. ويساعد هذه الحملاتِ المسعورة - في أحيان كثيرة - سيطرةُ النزعة المادية على سواد الناس. ومما يؤسف له أنّ هذه الأسرة المستهدفة من قبل الأعداء مهددة أيضًا من قبل أصحابها المسؤولين عنها ... وإن المسؤولية في الأسرة يتحملها الرجل في قطاع كبير قال صلى الله عليه وسلم: " كلكم راع ومسؤول عن رعيته.. والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته " كما أن المرأة أيضا تتحمل مسؤولية قررها   (915) اختصرت هذا الفصل من كتاب " نظرات في الأسرة المسلمة " لفضيلة الدكتور محمد الصباغ حفظه الله، بتصرف من ص (28- 31) ، (90-93) ، (142-147) ، (160) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: " والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها "، إن على كل أب وكل أم أن يستشعر هذه المسؤولية نحو الأسرة.. فهناك خطر داهم ماحق خطير، والأسرة هي القلعة الأخيرة التي إن خسرناها نكون قد أضعنا كرامتنا وديننا ومجتمعاتنا، ذلك لأن أكثر شعوب العالم الإسلامي غزيت بما يهدد عقيدتها في عدة مجالات: في المدرسة.. ومناهج التعليم.. في السوق والمتجر والمصنع.. في وسائل الإعلام وأدوات تكوين الرأي العام. وقد حيل - في كثير من بلاد المسلمين - بين الدعاة العاملين والناس، ولم يبق لهذه العناصر المسلمة الخيرة من مجال إلا الأسرة، نعم بقيت المنطلق الوحيد لهؤلاء الدعاة.. ونحن لا نودُّ أن نلقي اللوم على الأعداء ونبرئ أنفسنا.. إن كثيرا منا يتحمل في هذا الأمر أكبر نصيب في المسؤولية، ويحسن بنا أن نذكر أهم الأمور التي تعرض الأسرة للخطر الماحق، والتي تعود إلينا نحن، إن الأمور الخمسة الآتية أهم ما يرد في هذا المجال وهي: 1- عدم تقدير المستقبل: كثيرًا ما يتصرف المرء بعض التصرفات، ولا يقدر أثرها في المستقبل، فقد يتصور أن سكوته على أمر ما هين يسير، ولكن ذلك يهدم الأسرة هدمًا تاما، وقد يتصور أن أولاده صغار لا يستحقون أن يخصهم بجزء من ورقته الثمين فهو يضحك منهم، ويسخر منهم، ولا يأمر واحدا منهم بخير، ولا ينهاه أو يحذره من منكر.. ولا يقدر المستقبل؛ ولا يدري أن هذا الطفل الصغير سيكون بعد مدة وجيزة رجلًا كبيرًا، قد يكون له شأنه في البيت، بل في المجتمع كله. 2- روح اللامبالاة: وقد سرت هذه الروح في عدد من أبناء أمتنا المجيدة، مع أن الإسلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 يربي في أبنائه الشعور بالمسئولية، وينمي فيهم الاهتمام بشؤون المسلمين، فليس هناك أمر يحدث في المجتمع ولا تأثير فيه، وما أروع حديث السفينة الذي يجعل أي عمل من أي فرد له تأثير على المجتمع كله؛ إن هذا الحديث يبين لنا أن روح اللامبالاة تقضي على الأمة؛ إذ لو أن ذاك الرجل الذي أراد أن يخرق في موضعه من السفينة خرقًا وترك وشأنه انطلاقًا من روح اللامبالاة لهلك وهلك ركاب السفينة جميعا. 3- سيطرة التقاليد الاجتماعية المتعفنة وقلة العلم بالدين: وهذا أمر في غاية الأهمية؛ إذ نرى أن كثيرا من هذه التقاليد التي لم يشرعها الله تحل محلّ الدين في كثير من بلاد المسلمين، ومكن لها من السيطرة الجهل بدين الله وتخلف الوعي الإسلامي، وهي تختلف من بلد إلى بلد، ولكنها في هذه البلاد جميعا تسيء في عملية بناء الأسرة بناء متينًا أو في محاولة الإبقاء عليها أمام هذه الأعاصير. 4- تسلط المرأة على التوجيه وإدارة البيت: إن من النقص أن يُنزل الرجل نفسه في غير منزلتها اللائقة بها، فإن الله تعالى جعل الرجال قوامين على النساء، ومن هو قائم على شيء فهو أفضل منه، ومن شأنه أن يكون مُطاعًا لا مطيعًا، ومتبوعا لا تابعا: وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ... فإن شاء أعلاها وإن شاء سَفَّلا وقد استشرى داء تسلط المرأة وطغيانها في أوساطنا بسبب التقليد، وهو من أخطر الأمور وأكثرها إيذاءً، فقد تقترح المرأة أن تلبس البنات لباسًا لا يقره الإسلام بحجة أنهنّ صغيرات، وأن الناس هكذا يعملون وأن المصلحة في مسايرة الزمان، ويضعف الرجل ويوافق. وقد ترى المرأة أن تقوم بألوان من الاستقبالات التي لا يقرها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 الإسلام، يضعف الرجل ويوافق، وفي هذا ما فيه من الهدم للأسرة. وإنه انتكاس للأمور يمكن أن يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم عندما ذكر أمارات الساعة فقال: " أن تلد الأمة ربتها "، وليس معنى هذا أن نلغي شخصية المرأة ... لا.. ولكنها القوامة.. التي جعلها الله للرجل في حدود شرعه، ومهما يكن من أمر فإن إلغاء شخصية الرجل أكبر خطرًا وأعظم أثرًا) . وقد تطغي مشاعر الأمومة الحانية، والأبوة المشفقة، وتتعدى حدودها، و (إزاء هذا الفيض من العاطفة، والسيل المتدفق من الحنان، والميل الشديد لاسترضاء الأولاد، وإدخال السرور عليهم، وقف الإسلام وقفة المذكر المنبه الكابح.. إذ إن هذا الحنان وهاتيك العاطفة قد تنسيان الأب مهمته في التوجيه والتربية، فينقلب عندئذ إلى منفذ لأوامر أطفال صغار، ومسارع في تحقيق رغبات هؤلاء الذين لا يعرفون من الحياة شيئًا، ولا يدرون ما ينفعهم ولا ما يضرهم. وإن كثيرا من أجيال المسلمين اليوم في عدد من بلاد الإسلام لم يجدوا في والديهم إلا الحنان المحض أو الإهمال اللامبالي.. ومن أجل ذلك تجد في صفات كثير من مسلمي اليوم الميوعة والضعف والانهزامية واللامبالاة (917) .   (917) يقول الدكتور الصباغ حفظه الله: (سمعتُ من الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله أن رجلًا جاء يسترشده لتربية ابن له أو بنت ولدت حديثا، فسأله كم عمرها؟ قال: شهر. قال: فاتك القطار، وقال: كنت أظن في بادئ الأمر أني مبالغ، ثم عندما نظرت وجدت أن ما قلته الحق، وذلك أن الولد يبكي فتعطيه أمه الثدي، فينطبع في نفسه أن الصراخ هو الوسيلة إلى ما يريد، ويكبر على هذا.. فإذا ضربه اليهود بكى في مجلس الأمن.. يظن أن البكاء والصراخ يوصله إلى حقه) اهـ هامش ص (146-147) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 وعندما كان الرجل في سابق الأيام مسيطرًا على البيت، كانت شدته وصلابته تخففان من لين الوالدة، وتكفكفان من تدليلها الأولاد.. أما بعد أن استنوق الجمل في كثير من الأوساط، وأصبح الرجل في بيوت هذه الأوساط لا مهمة له إلا القيام بالخدمات، وجلب الأغراض والحاجيات، ودفع الفلوس والنفقات، ولم يعد يملك من أمر بيته إلا اليسير التافه، كان هذا الجيل المائع المنهار. 5- الشغل المتواصل: أصبح ربُّ الأسرة - في معظم الأحيان - عاجزًا عن أن يجد الوقت الذي يجتمع فيه بنفسه أو بأفراد أسرته يوجههم ويحدثهم ويستمع إليهم، حتى إن زوجته لا يتاح لها أن تجلس معه وتتفاهم معه على الخطة الرشيدة التي يجب أن يسير بموجبها أفراد الأسرة، ففي الصباح يسارع إلى عمله الدنيوي، ولا يعود إلا لتناول طعام الغداء وأخذ قسط من الراحة تمنع خلاله الحركات والهمسات ولا يعود في المساء إلا في ساعة متأخرة من الليل ليجد أهل البيت نيامًا، وإذا كان هذا الوضع مستنكرًا صدوره من عامة الناس فإنه من المتدينين أشد، واللوم لهم أكثر؛ ذلك لأن هذا الأخ المتدين سيجد نفسه - بعد مدة - في واد، وزوجته وأولاده في وادٍ آخر، وسيندم ولات ساعة مَنْدم، ومن المؤسف أن هذا الشغل لم يقتصر على الرجل بل شمل في بعض الأسر المرأة التي تترك بيتها سحابة النهار وتكل تربية أبنائها وإعداد بيتها للخادمة.. فيكون من ذلك الضياع التام. والشغل متنوع، وأكثره في الدنيا والكسب، غير أن هناك نوعًا غريبًا جدا من أنواع الشغل، وهو ما يكون للدعوة وإصلاح الناس ... وذلك خطأ في تصور الدعوة والعمل فيها، والمرء مطالب بأن يصلح أهله أشد المطالبة؛ يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) (التحريم: 6) ، (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) (طه:132) ، وهذا الإهمال لأهله سيوقعهم في الانحراف والمخالفة، وعندئذ لا يقوى على الاستمرار في الدعوة إلى الله.. إذ سرعان ما تلوكه الألسنة، ويقال له:" إن كنت صادقا فأصلح بيتك "، ويكون هذا الوضع الخاص مضعفًا لتأثيره في الناس لأن معنى القدوة يفوت بوجود مثل هذا الوضع، ويكون ذلك سببا في أن يتعكر صفوه، وتتنغص عليه لذاته، وفي أن تتولد فيه عقد، وتواجهه مشكلات، قد تحول بينه وبين الاستمرار في الدعوة. أيها الزوج العروس: - لا تنشغل طويلًا عن أهلك، واعلم يا أخي أن الجلوس إلى عروسك ومحادثتها ليس وقتا ضائعًا، لا سيما إن كانت المحادثة تسير في طريق هادف وتسعى نحو قصد محدود، إنّك بذلك تفهم زوجك، وتتيح لها أيضًا أن تفهمك، وهذا الفهم هو الخطوة الأولى للمعاشرة الحسنة، وكم رأينا في واقع الناس أزواجًا يقضون العشر والعشرين من السنين ولا يفهم أحدهما الآخر .... وكان ذلك سببًا من أسباب النكد والشقاق، إنك يا أخي بجلوسك إلى أهلك ومحادثتك إياها تفسح المجال لك لتقنعها بكثير من آرائك التي تبدو غريبة عليها بادئ الأمر، والكلام أول مرة لا يترك الأثر المطلوب، ولا يلمس الإنسان نتيجته، ولكن التكرار وحسن اختيار الوقت المناسب، والأسلوب المناسب في عرض الفكرة وضرب الأمثلة الكثيرة لابدَّ من أن يترك أثرا كبيرا في الإنسان. واعلم يا أخي أن الحديث الطويل الهادف غير الممل، والمؤانسة المهذبة الممتعة يُمدان الحياة الزوجية بالقوة والنماء وأفضل الغذاء، وَلتَضَعْ نُصب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 عينيك ما رواه عقبة بن عامر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس من اللهو إلا ثلاث: تأديب الرجل فرسه، ورميه بقوسه ونبله، ومداعبة أهله " (918) ، وفي رواية: " كل شيء يلهو به الرجل باطل، إلا تأديبه فرسه، ورميه عن قوسه، ومداعبته أهله ". وعن عطاء بن أبي رباح قال: " رأيت جابر بن عبد الله وجابر بن عمير الأنصاريين يرتميان، فمل أحدهما فجلس، فقال له الآخر: كسلت؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كل شيء ليس من ذكر الله عز وجل فهو لغو ولهو أو سهو إلا أربع خصال: مشي الرجل بين الغرضين، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، وتعلم السباحة " (919) . واذكر يا أخي قصة أبي الدرداء مع سلمان رضي الله عنهما، روى البخاري رحمه الله عن وهب بن عبد الله رضي الله عنه قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمانُ أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة (أي لابسة ثياب المهنة تاركة ثياب الزينة) فقال: ما شأنُك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، [أي في النساء، وجاء في رواية الدارقطني: (في نساء الدنيا) وزاد في رواية ابن خزيمة: (يصوم النهار ويقوم الليل) ] . فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما.   (918) أخرجه الإمام أحمد (4/148) ، وأبو داود رقم (2513) في الجهاد: باب في الرمي، والترمذي رقم (1637) في فضائل الجهاد، وقال: " حسن صحيح"، وابن ماجه رقم (2811) ، والدارمي (2/205) ، والطحاوي في " المشكل" (1/119) ، وانظر: " الصحيحة" رقم (315) . (919) أخرجه النسائي في "عشرة النساء" رقم (52) ، والطبراني في الكبير"، والبزار، وقال المنذري في " الترغيب" (2/170) : " بإسناد جيد"، وانظر: " السلسلة الصحيحة" رقم (315) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 فقال له: كُلْ؛ فإني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم. فقال له سلمان: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال له: " نم"، فلما كان آخرُ الليل قال سلمان: (قم الآن) ، فصليا جميعًا، فقال له سلمان: " إن لربِّك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه ". فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " صدق سلمان" (920) . نعم إن لأهلك عليك حقا، فللأهل حق، ولله حق، وللنفس حق، والمسلم مطالب أن يعطي كل ذي حق حقه، إنّ الموازنة بين هذه الحقوق أمر مطلوب، ولا يقوى عليه إلا الواعون، والتفريط في هذه الموازنة تفريط في الحياة المتكاملة. أيها السادة: هناك ناس يشغلون عن زوجاتهم بكسب المال، فترى الواحد منهم يكدح طوال النهار وطرفًا من الليل، ولا يعود إلى داره إلا مكدود الجسم، مهدود القوى، قد استنفد طاقته حتى لم يعد لديه استعداد لحديث ولا مؤانسة.. فيخلد إلى الفراش منهارًا مضعضعًا.. وقد يأتي فيجد أهله في نوم عميق بعد أن طال عليها الانتظار. قد يكسب من وراء هذا السلوك المال.. ولكنه يعرض نفسه لخسران الحياة الزوجية.   (920) تقدم تخريجه برقم (652) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 وهناك ناس يشغلون عن زوجاتهم بمعاشرة الأصدقاء، وحضور الحفلات والسهرات، والاشتراك في الرحلات، فترى الواحد منهم بعيدًا عن بيته وأهله في معظم الأوقات.. وإن لم يذهب من الدار جاء هؤلاء الأصدقاء إليه وكان مكلفًا بقِراهم وخدمتهم، وهو بطبيعة الحال سيدعو زوجته إلى إعداد ما سيقدم إلى ضيوفه من أنواع الطعام والشراب. إن هذا الإنسان قد يكسب ودّ عدد من الأصدقاء، وقد يكسب سمعة اجتماعية جيدة ولكنه يعرض نفسه إلى خسران السعادة البيتية. وهناك ناس يشغلون عن زوجاتهم بأمور محمودة كما شغل أبو الدرداء عن زوجته، فتراهم في ذكر وعبادة، ونصح للناس ودعوة، وقراءة وكتابة. إن هؤلاء فقدوا القدرة على الموازنة بين الحقوق المتعددة، وفقدان القدرة على هذه الموازنة يورث خللا واضطرابا في الحياة الداخلية للفرد منهم. في حياته مع زوجه وأولاده، إن الأهل والذرية من أحق الناس بالعناية وبأن توجه الدعوة إليهم، إن الواحد من هؤلاء الذين فقدوا القدرة على تلك الموازنة لا يلبث أن يستيقظ من غفلته، فإذا هو في واد، وزوجته وأولاده في واد آخر، أفكاره غير أفكارهم، ومواقفه تختلف عن مواقفهم، وسلوكه في الحياة بعيد عن سلوكهم وذلك لأنه ترك أهله خاضعين لمؤثرات أخرى من وسائل الإعلام والصحافة ومن البيئة التي قد يسود فيها الانحراف، والعلاقات والقرابات، وربما كان كثير منها لا يتفق مع اتجاهه في الحياة، ومن أصعب الأمور على النفس أن يرى المرء زوجه وأولاده يسيرون في طريق الزيغ والانحراف والضلال. إن هؤلاء الذين يشغلون عن أهليهم يجنون بعد حين الصاب والعلقم، ويتجرعون غصص العناء والشقاء، والحياة اليوم معقدة الجوانب، مترعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 بأسباب التأثير، أعرف رجلًا متدينًا انصرف في أول حياته الزوجية إلى عمله فجد واجتهد، وكان لا يأتي إلى داره إلا للطعام والنوم، ثم يخرج ولا يعود إلا بعد منتصف الليل، فإذا جاءت الإجازة ترك زوجته مع أهلها وسافر إلى البلاد الأجنبية في تحقيق أمور تتصل بعمله ... فكان من جراء ذلك تدمير الأسرة وتشرد الأولاد وعانى هو من وراء ذلك أعظم الصعوبات. إنَ الانشغال عن الأهل تفريط في حق الرجل والأسرة، وظلم بين، إذ كيف يسوغ للإنسان أن يحبس زوجه وينطلق هو في عمله وزياراته وقراءته وكتابته وعبادته، ويترك شريكة حياته نهبا للوساوس والخطرات، والوحشة والأزمات، أو يتركها للانغماس في المجتمع الذي يسير في طريق آخر. فاتق الله يا أخي ووازن بين الحقوق، ومنها حق الأهل، وليكن لك مع أهلك وقت تملؤه بالمؤانسِة العذبة الهادفة والحديث المؤثر الجذاب، وفقك الله ورعاك] اهـ. وقال فضيلته في موضع آخر: [إن كثيرًا من الصالحين يشغلون عن أولادهم بأمور عامة تتصل بالدعوة، ويحسبون أنهم بذلك يقومون بخدمة جليلة، وذلك لعمر الله تقصير كبير، إن أحق الناس بتوجيهك أولادك وزوجك الذين معهم تعيش، وبهم تعرف، وشرهم وخيرهم مقرون بك، وقد تضطرك الأيام إلى أن تكون بحاجة برهم: ورعايتهم، وقد يفيدك أن تحظى بدعوة من أحدهم تخفف عنك ما أنت فيه من الضيق والكرب بعد موتك، أو تزيدك من الخير في آخرتك، من أجل ذلك أود أن أقترح ما يلي: 1- لابد من أن تخصهم بجلسة أسبوعية على أقل تقدير، وإن استطعت أن تكون في مدة أقل كان أحسن. 2- إقامة حلقات للأولاد يتولاها ناس ظلهم خفيف ودينهم جيد وبيانهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 مشرق وإن كانت مستوياتها مختلفة للابتدائي والمتوسط والثانوي والجامعي فهو أفضل (فالمرء على دين خليله) . هذه أمور بأيدينا نحن فلنتق الله فيها.. ولنصلح الفاسد.. ولنحذر غرق سفينة المجتمع. إن الأسرة هي القلعة الأخيرة التي ينبغي أن نقف حياتنا وإمكانياتنا لحمايتها وحفظها وإنا لمسؤولون] اهـ. (6) ومن حقها عليه: أن يغار عليها ويصونها إن من حب الرجل لزوجته أن يغار عليها، ويحفظها من كل ما يلم بها من أذى في نظرة أو كلمة، والزوجة أعظم ما يكنزه المرء، فلا يليق به أن يجعلها مضغة في الأفواه، تلوكها الألسنة، وتتقحمها الأعين، وتجرحها الأفكار والخواطر. كلا! إن الغيرة أخص صفات الرجل الشهم الكريم، وإن تمكنها منه يدل دلالة فعلية على رسوخه في مقام الرجولة الحقة الشريفة، ومن هنا كان كرام الرجال وأفذاذ الشجعان يمتدَحون بالغيرة على نسائهم، والمحافظة عليهن، وإن من شر صفات السوء ضعف الغيرة وموت النخوة، ولا يركن إلى ذلك إلا الأرذلون. وليست الغيرة تعني سوء الظن بالمرأة، والتفتيش عنها وراء كل جريمة دون ريبة، ومتى ما تحين الرجل الفرص ليأخذ امرأته على غرة، التماسا لعثرة منها بدون أي ريبة كانت هذه غيرة مذمومة، فعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن من الغيرة غيرة يبغضها الله، وهي غيرة الرجل على أهله من غير ريبة " (921) .   (921) رواه من حديث جابر بن عتيك رضي الله عنه مرفوعا: الإمام أحمد (5/ 445، 446) ، = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 إن الرجل هو صاحب القوامة، والمسؤول الأول في الأسرة، والمحافظ على أفرادها، وهو أبعد أهله نظرًا وتبصرًا في العواقب، فمن حقها عليه أن يغار عليها. وقد نظم الإسلام هذا الأمر فيما نجمله بما يلي: أولًا: أن لا تأذن لأحد بدخول بيته من رجل قريب أو امرأة قريبة أو أجنبية الا بإذنه، فهو أدرى بمصلحة الأسرة لأنه القيم عليها، فقد يكون في دخول أبيها أو أخيها أو أمها مفسدة عليه في أسرته. أما الأجنبي فلا تأذن له بدخوله عليها، ولو أذن بذلك الزوج، لأنه إثم ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ولا يُدخِل هو عليها من لا يخاف الله تعالى، فقد يخون بنظرة أو كلمة، ويشعل في البيت شرارة فتنة: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من خَبَّب (922) خادمًا على أهلها، فليس منا (923) ، ومن أفسد امرأة على زوجها فليس منا " (924) .   = وأبو داود (2659) ، والدارمي (2/149) ، وابن حبان (1313) ، والبيهقي (7/308) (وحسنه الألباني في " الإرواء " رقم (1999) (7/58) . (922) خَببَ: بفتح الخاء المعجمة وتشديد الباء الموحدة الأولى، معناه: خدع وأفسد، لأن يحبب إليها كراهية الزوج. (923) أي ليس على طريقتنا، ولا من العاملين بقوانين أحكام شريعتنا، وانظر: " فيض القدير " (6/123) . (924) أخرجه الإمام أحمد (2/397) ، والبيهقي (8/13) ، وبنحوه أبو داود (5170) ، (2175) ، والحاكم (2/196) ، وصححه على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، وابن حبان (1319) ، وقال الألباني في إسناده: " هذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال مسلم " اهـ. من " الصحيحة" رقم (324) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 وعن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس منا من حلف بالأمانة، ومن خَبَّبَ على امرئ زوجته أو مملوكته، فليس منا " (925) . عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إياكم والدخول على النساء"، قالوا: " يا رسول الله أرأيت الحمو؟ "، قال: " الحمو الموت " (926) . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا " تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي " (927)) .   (925) أخرجه الإمام أحمد (5/ 352) ، والحاكم (4/298) ، وصححه، ووافقه الذهبي، والبزار (1500- زوائد) ، وابن حبان (1318) ، وصححه المنذري في " الترغيب" (3/82) . فائدة: تتعلق بحكم إفساد المرأة على زوجها: قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (وهذا من أكبر الكبائر فإنه إذا كان الشارع نهى أن يخطب على خطبة أخيه، فكيف بمن يفسد امرأته أو أمته أو عبده، ويسعى في التفريق بينه وبينها حتى يتصل بها، وفي ذلك من الإثم ما لعله لا يقصر عن إثم الفاحشة إن لم يزد عليها، ولا يسقط حق الغير بالتوبة من الفاحشة، فإن التوبة - وإن أسقطت حق الله - فحق العبد باق، فإن ظلم الزوج بإفساد حليلته، والجناية على فراشه أعظم من ظلم أخذ ماله، بل لا يعدل عنده إلا سفك دمه) اهـ. كما نقله عنه المناوي في " الفيض" (5/385) . ويكفى في التنفير عن هذا الجرم العظيم أن صاحبه يتلبس بفعل هو من أحب الأشياء إلى إبليس، فعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم، فيقول: " فعلت كذا وكذا "، فيقول: " ما صنعتَ شيئًا "، ثم يجيء أحدهم، فيقول: " ما تركتُه حتى فرقت بينه وبين امرأته "، فيُدنيه منه، ويقول: " نِعْمَ أنت، فيلتزمه " رواه مسلم وغيره. (926) انظر تخريجه في " القسم الثالث " ص (47) . (927) رواه الإمام أحمد (3/38) ، وأبو داود (4832) ، والترمذي (2397) ، والدارمي = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 ثانيًا: أن لا تخرج من بيته إلى مجتمعات الرجال، فتخالطهم في الحفلات أو السهرات العائلية، وغير العائلية، وفي الأسواق، ووسائل المواصلات، والمحلات التجارية، عن علي رضي الله عنه قال: " بلغني أن نساءكم يزاحمن العلوج في الأسواق، ألا تستحيون؟ ألا تغارون؟ يترك أحدكم امرأته تخرج بين الرجال! " (928) . ثالثا: أن لا يعرضها للعنت فيطيل غيابه عنها، ولا يدفعها إلى الفسوق بمطالعة القصص الفاجرة والمجلات الخليعة، ولا يصطحبها إلى دور الملاهي والخيالة، ولا يسمعها أغاني الفحش والخنا، ولا يودع بيته جهاز " التلفاز " أو ما يسمى بـ " الفيديو " لترى مشاهدهما الآثمة، فإنهما من أعظم أسباب الفساد وتحطيم الأخلاق في هذا العصر، والناس عنهما في غفلة، بل هم فيهما على رغبة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " عن رجل له زوجة أسكنها بين ناس مناجيس، وهو يخرج بها إلى الفرج، وإلى أماكن الفساد، ويعاشر المفسدين، فإذا قيل له: " انتقل من هذا المسكن السوء "، فيقول: " أنا زوجها، ولي الحكم في امرأتي، ولى السكن، فهل له ذلك؟ ". فأجاب: الحمد الله رب العالمين، ليس له أن يسكنها حيث شاء، ولا يخرجها إلى حيث شاء؛ بل يسكن بها في مسكن يصلح لمثلها، ولا يخرج بها عند أهل الفجور، بل ليس له أن يعاشر الفجار على فجورهم، ومتى فعل ذلك وجب أن يعاقب عقوبتين: عقوبة على فجوره، بحسب ما فعل، وعقوبة على ترك صيانة زوجته   = (2/103) والبغوي (13/ 69) ، والحاكم (4/128) ، وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان (2049) ، وحسنه الألباني في " تحقيق المشكاة " (3/1397) . (928) "المغني " (7/27) ، " الزواجر عن اقتراف الكبائر " (2/46) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 وإخراجها إلى أماكن الفجور، فيعاقب على ذلك عقوبة تردعه وأمثاله عن مثل ذلك، والله أعلم) (929) . (7) ومن حقها عليه أن لا يَتَخوّنها، ولا يتلمس عثراتها وذلك بأن يترك التعرض لما يوجب سوء الظن بها، وقد دل على ذلك أحاديث: منها: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن يأتي الرجلُ أهلَه طُروقًا (930) ، وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أطال أحدكم الغيبة، فلا يطرقَنَّ أهله ليلًا، (931) وعن أنس رضي الله عنه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يطرق أهله ليلًا، وكان يأتيهم غدوة أو عشية " (932) . وعن جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلا يتخونهم، أو يطلب عثراتهم " (933) ، وعنه أيضًا بلفظ: " لا   (929) "مجموع الفتاوى" (32/264 - 265) . (930) رواه البخاري رقم (5243) في النكاح: باب لا يطرق أهله ليلا إذا أطال الغيبة، ومسلم رقم (715) في الإمارة، وأبو داود رقم (2776) ، والطروق: المجيء بالليل من سفر أو من غيره على غفلة، ويقال لكل آت بالليل: طارق، وأصل الطروق: الدفع والضرب، وبذلك سميت الطريق لأن المارة تدقها بأرجلها، وسمي الآتي بالليل طارقا لأنه يحتاج غالبا إلى دْق الباب، وقيل: بل هو من السكون، فلما كان الليل يسكَن فيه سمى الآتي فيه طارقًا. (931) رواه البخاري (9/296، 297) في النكاح، والحج، والإمام أحمد (3/396) ، وأبو نعيم في " الحلية " (8/262) . (932) رواه البخاري (3/493) في العمرة: باب الدخول بالعشي، ومسلم في الإمارة باب (56) رقم (180) - واللفظ له -، وأحمد (3/125، 204، 240) . (933) رواه الإمام أحمد (1/175) ، (3/302) ، وابن أبي شيبة (12/523) ، وأبو نعيم في " الحلية " (8/315) ، (9/26) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 تلجوا على المغيبات، فإن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم " (934) . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (قوله في طريق عاصم عن الشعبي عن جابر: " إذا أطال أحدكم الغيبة، فلا يطرق أهله ليلًا، التقييد فيه بطول الغيبة يشير إلى أن علة النهي إنما توجه حينئذ، فالحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فلما كان الذي يخرج لحاجته مثلا نهارا، ويرجع ليلًا، لا يتأتى له ما يحذر من الذي يطيل الغيبة، كان طول الغيبة مظنة الأمن من الهجوم، فيقع للذي يهجم بعد طول الغيبة غالبا ما يكره: إما أن يجد أهله على غير أهبَة من التنظيف والتزين المطلوب من المرأة، فيكون ذلك سبب النفرة بينهما، وقد أشار إلى ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم لجابر حين قدم معه من سفر: " إذا دخلت ليلًا (935) ، فلا تدخل على أهلك حتى تستحد المغِيبة، وتمتشطَ الشعِثة "، ويؤخذ منه كراهة مباشرة المرأة في الحالة التي تكون فيها غير متنظفة، لئلا يطلع منها على ما يكون سببا لنفرته منها، وإما أن يجدها على حالة غير مرضية، والشرع محرِّض على الستر، وقد أشار إلى ذلك بقوله: " أن يتخونهم، ويتطلب عثراتهم " (936) .   (934) أخرجه الإمام أحمد (9/309) ، والترمذي رقم (1172) في الرضاع، (2713) في الاستئذان. (935) وفي رواية أنه قال: " أمهلوا حتى تدخلوا ليلًا - أي عشاء - حتى تستحد المغيبة، الحديث رواه البخاري رقما (5245) ، (5246) في النكاح، ففي هذا: الأمر بالدخول ليلا، وقد ورد النهي عن الدخول ليلا، ويُجْمَعُ بينهما - كما قال الحافظ ابن حجر: (بأن المراد بالأمر بالدخول: في أول الليل، وبالنهي: الدخول في أثنائه، أو الأمر بالدخول ليلا لمن علم أهله بقدومه، فاستعدوا له، والنهي عمن لم يفعل ذلك) اهـ. انظر " فتح الباري" (9/342) ، وفي سنن أبي داود رقم (2777) بلفظ: " إن أحسن ما دخل الرجل على أهله إذا قدم من سفر أولَ الليل ". (936) وفي معناه ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (إنك إن تتبعت عورات المسلمين = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 فعلى هذا من علم أهله بوصوله، وأنه يقدم في وقت كذا مثلًا، لا يتناوله هذا النهى، وقد صرح بذلك ابن خزيمة في صحيحه، ثم ساق من حديث ابن عمر قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة، فقال: " لا تطرقوا النساء "، وأرسل من يؤذن الناس أنهم قادمون) ، قال ابن أبي جمرة - نفع الله به -: " فيه النهي عن طروق المسافر أهله على غرة من غير تقدم إعلام منه لهم بقدومه، والسبب في ذلك ما وقعت إليه الإشارة في الحديث، قال: وقد خالف بعضهم فرأى عند أهله رجلًا، فعوقب بذلك على مخالفته " اهـ، وأشار بذلك إلى حديث أخرجه ابن خزيمة عن ابن عمر قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطرق النساء ليلًا، فطرق رجلان كلاهما وجد مع امرأته ما يكره "، وأخرجه من حديث ابن عباس نحوه، وقال فيه: " فكلاهما وجد مع امرأته رجلًا "، ووقع في حديث محارب عن جابر: " أن عبد الله بن رواحة أتى امرأته ليلًا، وعندها امرأة تمشطها، فظنها رجلًا، فأشار إليها بالسيف، فلما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يطرق الرجل أهله ليلًا " أخرجه أبو عوانة في صحيحه. وفي الحديث الحث على التواد والتحاب خصوصًا بين الزوجين، لأن الشارع راعى ذلك بين الزوجين مع اطلاع كل منهما على ما جرت العادة بستره، حتى إن كل واحد منهما لا يخفي عنه من عيوب الآخر شيء في الغالب، ومع ذلك نهى عن الطروق لئلا يطلع على ما تنفر نفسه عنه، فيكون مراعاة ذلك في غير الزوجين بطريق الأولى) (937) اهـ.   = أفسدتهم أو كدتَ أن تفسدهم) رواه أبو داود، وصححه النووي، والمناوي كما في " فيض القدير" (1/559) . (937) "فتح الباري" (9/340 - 341) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 (8) ومن أعظم حقوقها المعاشرة بالمعروف " إني أحَرجُ عليكم حَق الضعيفين: اليتيم والمرأة " (938) (حديث شريف) توارد القول الكريم من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في محاسنة الزوجات وموادعتهن، ولبُسهن على بعض ما فيهن، مما يفيض رفقًا ورحمة، ورعاية وعناية، وحسبك أن الله عز وجل جعل المرأة من آيات الله ومنته على الرجل، وجعل المودة والرحمة والألفة عقدة الصلة بينهما، فذلك حيث يقول جل وعلا: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجَا لتسكنوا إليها وجل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) ولقد كفى وشفى في الأمر بحسن المعاشرة آية جليلة جامعة، بها تنزل الوحي الإلهي يتلى في المحاريب، ويتقرب به المتعبدون إلى الله سبحانه، فمن ذا الذي يستمع قوله تعالى: (وعاشروهن بالمعروف، فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرا) (النساء: 19) ثم يجفو امرأته، أو يتسخطها بعد ذلك؟ قلب بين أعطاف هذه الآية بصرك، واملأ منها يدك، ورَو من معينها قلبك، ثم انظر هل تقيم على وجدانك، أو تقر على عاطفتك، فيما تكره من امرأتك؟ وما ظنك بأمر تكرهه ثم تظل على لجاجك فيه بعد أن مناك الله بالخير الكثير من ورائه؟ وأين ذلك من حسن الثقة وتمام الإيمان بالله؟   (938) أخرجه ابن ماجه (3678) ، وابن حبان (1266) ، والحاكم (1/63) ، (4/128) ، وأحمد (2/439) ، وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في " الصحيحة" رقم (1015) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 ولقد شَبه الله تعالى حسن القيام على الزوجة بحسن القيام على الوالدين، فقال تعالى في حق الوالدين: (وصاحبهما في الدنيا معروفًا) ، وقال تعالى في حق الزوجات: (وعاشروهن بالمعروف) . وقوله تعالى: (وعاشروهن) قال السدي: " وخالطوهن "، وقال ابن جرير: (كذا قال محمد بن الحسين، وإنما هو " خالقوهن ") (939) ، (بالمعروف) وهو ما لا ينكره الشرع والمروءة، والمراد هنا النصفة في القسم والنفقة، والإجمال في القول والفعل. قوله تعالى: (وعاشروهن بالمعروف) : قال القرطبي: (أي على ما أمر الله به من حسن المعاشرة، والخطاب للجميع، إذ لكل أحد عِشْرة، زوجًا كان أو وليًّا، ولكن المراد بهذا الأمر في الأغلب الأزواج، وهو مثل قوله تعالى: (فإمساك بمعروف) ، وذلك توفية حقها من المهر والنفقة، وألا يعبِس في وجهها بغير ذنب، وأن يكون مُنطَلِقًا في القول لا فَظا ولا غليظًا ولا مُظهرًا ميلًا إلى غيرها) (940) اهـ. وقيل: هو أن يتصنع لها كما تتصنع له، واستدل بعمومه من أوجب لهن الخدمة إذا كُنَّ ممن لا يخدمن أنفسهن، قال ابن كثير: ((وعاشروهن بالمعروف) أي طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم وهيآتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها، فافعل أنت بها مثله، كما قال تعالى: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) الآية) - البقرة (228) . قوله تعالى: (فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعلَ الله فيه خيرًا كثيرًا) (النساء: 19) قال القرطبي رحمه الله: ((فإن كرهتموهن) أي لدمامة أو سوء خلق من غير ارتكاب فاحشة أو نشوز؛   (939) " تفسير الطبري" (4/313) . (940) " الجامع لأحكام القرآن " (5/97) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 فهذا يُنْدَبُ فيه إلى الاحتمال، فعسى أن يؤول الأمر إلى أن يرزق الله منها أولادا صالحين ... قلت: ومن هذا المعنى ما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يَفْرَك مؤمن مؤمنةً إن كرِه منها خُلقًا رضي منها آخر " أو قال: " غيره"، المعنى: أي لا يُيْغِضها بغضًا كُليا يحمله على فراقها، أي لا ينبغي ذلك بل يغفر سيئتها لحسنتها، ويتغاضى عما يكره لما يحب. وقال مكحول: سمعت ابن عمر يقول: " إن الرجل ليستخير الله تعالى فَيُخار له، فيسخط على ربه عز وجل، فلا يلبث أن ينظر في العاقبة، فإذا هو قد خِيرَ له. وذكر ابن العربي بسنده عن أبي بكر بن عبد الرحمن: كان الشيخ أبو محمد بن أبي زيد من العلم والدين في المنزلة والمعرفة، وكانت له زوجة سيئة العشرة، وكانت تُقَصر في حقوقه، وتؤذيه بلسانها؛ فيقال له في أمرها ويُعذَلُ بالصبر عليها، فكان يقول: " أنا رجل قد أكمل الله علي النعمة في صحة بدني ومعرفتي وما ملكت يميني، فلعلها بُعثت عقوبة على ذنبي، فأخاف إن فارقتها أن تنزل بي عقوبة هي أشد منها " قال علماؤنا: في هذا - أي ما تقدم من الآية والحديث - دليل على كراهة الطلاق مع الإباحة) (941) اهـ. (قوله تعالى: (فإن كرهتموهن) أي إن كرهتم صحبتهن وإمساكهن بمقتضى الطبيعة من غير أن يكون من قِبَلهن ما يوجب ذلك (فعسى أن تكرهوا شيئا) كالصحبة والإمساك (ويجعل الله فيه خيرًا كثيراً) كالولد والألفة التي تكون بعد الكراهة، والمعنى: فإن كرهتموهن   (941) "الجامع لأحكام القرآن" (5/98) بتصرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 فاصبروا عليهن، ولا تفارقوهن لكراهة الأنفس وحدها، فلعل (لكم) فيما تكرهونه (خيرًا كثيرًا) فإن النفس ربما تكره ما يحمد، وتحب ما هو بخلافه، فليكن مطمع النظر ما فيه خير وصلاح، دون ما تهوى الأنفس، ونكر" شيئًا " و " خيرًا " ووصفه بما وصفه مبالغة في الحمل على ترك المفارقة، وتعميمًا للإرشاد، ولذا استدل بالآية على أن الطلاق مكروه) (942) اهـ. [ (وعن ابن عباس في قوله تعالى: (ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا) قال: " الخير الكثير أن يعطف عليها فيُرزق الرجلُ ولدها، ويجعل الله في ولدها خيرًا كثيرًا "] . (وأخرج ابن المنذر عن الضحاك قال: فإذا وقع بين الرجل وبين امرأته كلام، فلا يعجل بطلاقها وليتأن بها، وليصبر، فلعل الله سيريه منها ما يحب، وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية قال: عسى أن يمسكها وهو لها كاره، فيجعل الله فيها خيرا كثيرًا) ] (943) . وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: [وقد ندبت الآية إلى إمساك المرأة مع الكراهة لها، ونبهت على معنيين: أحدهما: أن الإنسان لا يعلم وجوه الصلاح، فرب مكروه عاد محمودًا، ومحمودٍ عاد مذموما، والثاني: أن الإنسان لا يكاد يجد محبوبًا ليس فيه ما يكره، فليصبر على ما يكره لما يُحب، وأنشدوا في هذا المعنى: ومن لم يُغْمِضْ عينه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يَمُتْ وهو عاتِبُ ومن يتتبع جاهدًا كل عَثرَة ... يَجِدْها، ولا يسلمُ له الدَّهرَ صاحبُ] (944)   (942) "روح المعاني" (4/243) . (943) "الدر المنثور" (2/133) . (944) "زاد المسير" (2/42) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 ومما يرمي إلى ذلك الغرض الجليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يَفْرَكُ مؤمن مؤمنةً، إن كره منها خلقًا، رضي منها آخر - أو قال: غيره " (945) . والفِرك: هو بغض أحد الزوجين الآخر، (والفارك هو المبغض لزوجته، ومن هذا المعنى قول الرضى: رمت المعالي فامتنعن ولم يزل ... أبدًا، يمانع عاشقًا معشوق فصبرت حتى نلتهن ولم أقل ... ضجرًا دواء الفارك التطليق) (946) فلا ينبغي للرجل أن يبغضها إذا رأى منها ما يكره، لأنه إن كره منها خلقا رضي منها آخر، فيقابل هذا بذاك (947) ، وقد رُوي أن عمر رضي الله عنه قال لرجل طلق امرأته: " لم طلقتها؟ "، قال: " لا أحبها "، فقال: " أوَ كل البيوت بني على الحب؟ فأين الرعاية والتذمم؟ ". وعن سمرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المرأة خُلِقت من ضلع، وإنك إن تُرِد إقامة الضلع تكسرها، فدارِها، تَعِشْ بها " (948) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المرأة   (945) رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مسلم رقم (63) في الرضاع: باب الوصية بالنساء. (946) "فتح المنعم" (3/264) . (947) "شرح الأبي لصحيح مسلم" (4/100) ، وقيل: (الحديث خبر لا نهي، أي: لا يبغض الرجل بغضًا تاما، ويعني أن بغض الرجال للنساء بخلاف بغض النساء للرجال اللاتي يكفرن العشير، فإنها إذا رأت منه ما تكره قالت: " ما رأيت منك خيرًا قط"، ألا تراه كيف قال: " إن كره منها خلقًا رضي منها آخر؟ ". (948) رواه الإمام أحمد (5/8) ، وابن حبان (1308) ، والحاكم (4/174) ، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في " صحيح الجامع" (2/163) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 خلقت من ضِلَع، لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها، استمتعت بها وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها " (949) ، وعنه أيضًا بلفظ: " واستوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، إن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج (950) ، استوصوا بالنساء خيرًا (951) ، ومعنى " خلقت" أي أخرجت كما تخرج النخلة من النواة " من ضِلَع " واحد الأضلاع، فالمراد أن أول النساء خلقت من ضلع، أو المراد التمثيل، قال القاضي: " استعير الضلع للمعوج صورةً ومعنى "، فيكون المراد: إنها مثل الضلع، ويشهد له قوله: " لن تستقيم لك على طريقة". والعَوج: بفتح العين في الأجسام، وبكسرها في المعاني، قوله: " إن ذهبت تقيمها كسرتها " (أي إن أردت منها تسوية اعوجاجها أدى إلى فراقها، فهو ضرب مثل للطلاق، قوله: " وإن تركته" أي لم تقمه " لم يزل أعوج " فلا تطمع في استقامتهن، قوله: " وإن أعوج شيء في الضلع   (949) رواه مسلم في " الرضاع" رقم (61) ، والحميدي (1168) . (950) فيه إشارة إلى الصبر على اعوجاجهن لأنه في الغالب طبع فيهن، ولا يردن به شرا، ومن أراد تقويم المرأة تقويمًا تاما فقد طلب المحال، والعشرة كلها تحتاج إلى صبر وعفو وحلم سواء أكانت مع الرجال أم مع النساء. (951) رواه البخاري (9/206) ط. السلفية، ومسلم في " الرضاع" رقم (62) . فائدة: قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في بيان مقصود قوله صلى الله عليه وسلم: " استوصوا بالنساء خيرا " الحديث: (يؤخذ منه أن لا يتركها على الاعوجاج إذا تعدت ما طبِعَت عليه من النقص إلى تعاطي المعصية بمباشرتها، أو ترك الواجب، وإنما يتركها على اعوجاجها في الأمور المباحة) اهـ " فتح الباري" (9/207) . وقال رحمه الله أيضا: (وفيه رمز إلى التقويم برفق، بحيث لا يبالغ فيه فيكسر، ولا يتركه فيستمر على عوجه، وإلى هذا أشار البخاري في الباب) اهـ. (9/206) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 أعلاه " ذكر تأكيد لمعنى الكسر، وإشارة إلى أنها خلقت من أعوج آخر الضلع، مبالغة في إثبات هذه الصفة لهن، أو ضربه مثلًا لأعلى المرأة، لأن أعلاها رأسها، وفيه لسانها، وهو الذي يحصل به الأذى، وقوله: " استوصوا بالنساء خيرًا " الاستيصاء قبول الوصية، فالمعنى: أوصيكم بهن خيرًا، فاقبلوا وصيتي فيهن، فإنهن خلقن من ضِلَع أعوج، فلا يتأتى الانتفاع بهن إلا بأن يداريها، ويلاطفها، ويوفيها حقوقها، أو تكون السين للطلب مبالغة، أي اطلبوا الوصية من أنفسكم في حقهن، أو اطلبوا الوصية والنصيحة من غيركم بهن، وقد نظم بعضهم معنى هذا الحديث فقال: هي الضلع العوجاء لست تقيمها ... ألا إن تقويم الضلوع انكسارها تجمع ضعفًا واقتدارا على الفتى ... أليس عجيبا ضعفها واقتدارها؟ ! (952) رَأي أفِينٌ (953) حكى منشيء المنار الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله أنه بقي يدرس مسألة النساء والحياة الزوجية بعمق وتدبر للواقع في بلاد المسلمين والإفرنج مدة ثلث قرن ونيف، وأنه كتب فيها، وناظر المشتغلين بها، والداعين إلى المساواة بين النساء والرجال في الجامعة المصرية فحكمت له الأكثرية الساحقة منهم بالفلج وإصابة صميم الحق، ثم قال رحمه الله تعالى: (وإنني أعتقد بعد هذا الدرس الطويل العريض العميق، وما اقترن به من الاختبار الدقيق، أن ما يراه الكثيرون من أهل الغرب والشرق من   (952) انظر: " فيض القدير" (1/503) ، و"شرح الأبي" (4/99 - 100) . (953) الأفين والمأفون: الضعيف الرأي والعقل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 نوط السعادة الزوجية بتعارف الزوجين قبل الزواج، وعشق كل منهما للآخر، هو رأي أفين، أثبت الاختبار (954) بطلانه، وأن تحاب الشبيبة لا ثبات له بعد الزواج غالبًا، بل كانت العرب تقول: " إن الزواج يفسد الحب". وإنما القاعدة الصحيحة لهناء الزوجية ما قاله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لامرأة خاصمت زوجها إليه، وصرحت له بأنها لا تحبه، فقال لها: " إذا كانت إحداكن لا تحب الرجل منا، فلا تخبره بذلك، فإن أقل البيوت ما بني على المحبة، وإنما يتعاشر الناس بالحسب والإسلام "، يعني أن التزام كل من الزوجين لحفظ شرف الآخر والعمل بما يرشد إليه الإسلام من الواجبات والآداب الزوجية هو الذي تنتظم به الحياة الزوجية، ويعيش الناس به العيشة الهنية. وينبغي لكل من الزوجين أن يتكلف التحبب إلى الآخر بأكثر مما يجده له في قلبه، فإن التطبع يصير طبعًا، ورحم الله عُليَّة بنت المهدي أخت هارون الرشيد حيث قالت: * تَحَببْ فإن الحبَّ داعيةُ الحب * فإنه في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم ") (955) انتهى كلامه رحمه الله، وما أشار إليه من قول عمر رضي الله عنه للمرأة التي خاصمت زوجها، جاء مفصلًا في الخبر التالي:   (954) يعني بعد ثبوت حكم الشرع بمنع الاختلاط مع الأجنبي ولو كان خاطبا، مع حرص الشرع على حصول المودة بينهما قبل الشروع في الزواج بإباحته النظر للمخطوبة وتعليل ذلك بأنه " أحرى أن يؤدم بينهما "، وانظر: " القسم الثالث" ص (51-60) . (955) "حقوق النساء في الإسلام" ص (187 - 188) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 (رُوي أن ابن أبي عُذرة الدؤلي - أيام خلافة عمر رضي الله عنه - كان يخلع النساء اللائي يتزوج بهن، فطارت له في النساء من ذلك أحدوثة يكرهها، فلما علم بذلك أخذ بيد عبد الله بن الأرقم حتى أتى به إلى منزله، ثم قال لامرأته: - أنشدك بالله هل تبغضينني؟ قالت: لا تنشدني بالله. قال: فإني أنشدك بالله. قالت: نعم. فقال لابن الأرقم: أتسمع؟ ثم انطلقا حتى أتيا عمر رضي الله عنه، فقال: (إنكم لَتَحَدَّثُونَ أني أظلم النساء، وأخلعهن، فاسأل ابن الأرقم، فسأله فأخبره، فأرسل إلى امرأة ابن أبي عذرة، فجاءت هي وعمها، فقال: أنت التي تحدثين لزوجك أنك تبغضينه؟ "، فقالت: إني أول من تاب، وراجع أمر الله تعالى، إنه ناشدني فتحرجت أن أكذب، أفأكذب يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم فاكذبي، فإن كانت إحداكن لا تحب أحدنا فلا تحدثه بذلك، فإن أقل البيوت الذي يبنى على الحب، ولكن الناس يتعاشرون بالإسلام والأحساب) (956) . فمع غلظ تحريم الكذب، وتشديد الشرع فيه، غير أنه أباح طرفًا منه ليستصلح الرجل زوجته، ويستطيب نفسها: فعن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا، أو يقول خيرا "، قالت: " ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث: يعني الحرب، والإصلاح بين الناس،   (956) انظر: " شرح السنة" (13/120) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 وحديث الرجل امرأته، والمرأة زوجَها " (957) .   (957) رواه البخاري (5/220) في الصلح: باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس، ومسلم (2605) في البر والصلة: باب تحريم الكذب وبيان المباح منه واللفظ له، والإمام أحمد (6/404) من وجه آخر، والبغوي في " شرح السنة" (13/117) وقال رحمه الله: (وأما كذب الرجل زوجته فهو أن يعددَها ويمنيها، ويظهر لها من المحبة أكثر مما في نفسه، يستديم بذلك صحبتها، ويستصلح به خلُقها، والله أعلم) اهـ. (13/119) ، وفي حديث أسماء بنت في يزيد رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يصلح الكذب إلا في ثلاث" الحديث، وفيه: " والرجل يكذب للمرأة ليرضيها بذلك" رواه الترمذي (1940) ، وحسنه، وأحمد (6/454، 459، 460) وفيه شهر بن حوشب، وانظر " سلسلة الأحاديث الصحيحة" رقم (545) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 [فصل] أصفى السرور: اجتماع المودة والرحمة (قد يجعل الله سبحانه المودة في الرجل ولا يجعل فيه الرحمة، كما يوجد من أخلاق الجفاة الأراذل، يحب أحدهم زوجته لكنه يعاملها معاملة المبغض من الضرب واللعن وشتم الآباء والأمهات، وقد يكلفها أعمالًا شاقة، ويُضَيِّقُ عليها في النفقة الواجبة، وقد يتزوج عليها فيقطع صلته بها ونفقته عليها وعلى عياله منها، حتى يجعلها معلقة لا هي ذات زوج ولا مُطَلقة. وقد يجعل الله الرحمة في الشخص ولا يجعل فيه المودة، كما يوجد من أخلاق بعض الفضلاء، يقع في نفس أحدهم عدم المودة الصافية منه لزوجته، لكنه يعاشرها بكرم الأخلاق، وجميل الوفاق، وبالعطف واللطف والإنفاق، إن الناس متفاوتون في الأخلاق، كما أنهم متفاوتون في الأرزاق، وان الكمال التام متعذر من رجل وامرأة، فما من أحد إلا وفيه شيء من النقص بحسبه، غير أن الناس يتعاشرون بالشرف، وتندر البيوت المبنية على المحبة، والرجل الكريم صاحب الخلق القويم يغض عن الشيء اليسير، فما استقصى كريم قط، فكم من رجل كره امرأة فأنجبت له أولادا كرامًا قاموا بنفعه، ونشروا فخر ذكره، (وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرَا) ، وكم من رجل فُتِن بمحبة امرأة فأفسدت عليه دينه ودنياه وأهله وخلقه (وعسى أن تحبوا شيئَا وهو شر لكم)) (958) . ولقد رفع الإسلام حسن الخلق إلى أعلى المقامات، وكان صلى الله عليه وسلم نهاية   (958) "قضية تحديد الصداق" ص (23-24) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 العالَم في حسن الخلق، ولذا قال الله تعالى في حقه: (وإنك لعلى خلق عظيم) فما بالك بما يستعظمه الحق جل شأنه؟ بل جعل الله عز وجل تتميم صالح الأخلاق أحد المقاصد الرئيسية لبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما بُعِثْتُ لأتمم صالح الأخلاق " (959) وفي رواية: " مكارم الأخلاق". وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن " (960) . وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن معاذ بن جبل رضي الله عنه أراد سفرا، فقال: " يا رسول الله، أوصني"، فكان من وصيته صلى الله عليه وسلم: " استقم، وليحسن خُلُقُكَ للناس" (961) . وعن أسامة بن شريك رضي الله عنه مرفوعًا: " أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقا " (962) .   (959) رواه البخاري في "الأدب المفرد" رقم (273) ، وابن سعد في " الطبقات، (1/192) ، والحاكم (2/613) ، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، والإمام أحمد (2/318) ، ورواه الإمام مالك في " الموطأ " بلاغا (2/904) في حسن الخلق، وقال الحافظ ابن عبد البر: (وهو حديث مدني صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره) اهـ، وانظر " السلسلة الصحيحة" رقم (45) (960) رواه الترمذي رقم (1988) في البر: باب ما جاء في معاشرة الناس، وحسنه. (961) عجز حديث أخرجه ابن حبان (1922) ، والحاكم (4/244) ، وصححه، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في " الصحيحة، رقم (1228) . (962) رواه الطبراني كما في " الترغيب، (3/259) ، و " المجمع" (8/24) ، وقالا: (ورواته محتج بهم في الصحيح) اهـ، وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (433) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أحبكم إلى وأقربكم منى في الآخرة مجالسَ أحاسنُكم أخلافا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الآخرة أسوؤكم أخلاقا، الثرثارون، المتفيهقون المتشدقون " (963) . وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة" (964) . ولم يكتف الشرع بعموم النصوص التي تحض على حسن الخلق مع الخلق كافة، بل خص النساء بذلك، وجعل حسن الخلق معهن معيار الخيرية والفضل. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أكمل المؤمنين إيمانا: أحسنهم خلقًا، وخياركم: خياركم لنسائهم، (965) . إن الزوجة أمانة ووديعة يسلمها وليُّها لمن يحافظ عليها، ويتقي الله فيها، ويحسن صحبتها، عن حجر بن قيس قال: (خطب علي رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة رضي الله عنها، فقال: " هي لك على أن تحسن   (963) أخرجه الترمذي رقم (2019) في البر والصلة: باب ما جاء في معالي الأخلاق، وقال: " حسن غريب من هذا الوجه " وفي سنده مبارك بن فضالة صدوق يدلس ويُسوي، وله شواهد كما في " الترغيب والترهيب" (3/261) . (964) أخرجه الترمذي رقم (2003) ، (2004) ، في البر والصلة: باب ما جاء في حسن الخلق، وأبو داود رقم (4799) في الأدب، و " البزار بإسناد جيد " كما في " الترغيب والترهيب" (3/256) . (965) أخرجه الترمذي (1/217 - 218) ، وقال: "حسن صحيح"، والإمام أحمد (2/250، 472) ، ومن طريق أخرى أخرجه ابن حبان (1311) ، وصححه الألباني في " الصحيحة " رقم (284) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 صحبتها " (966)) . وإن مما يعين المؤمن على الصبر على أهله، وكف الأذى عنهم، وحسن الخلق معهم، تذكر ساعة فراق الأحباب، التي قد تأتيه بغتة، ولابد أن تأتيه وإن طال العمر، كما رَوى سهل بن سعد رضي الله عنه مرفوعًا: (أتاني جبريل عليه السلام فقال: " يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به " (967)) . أيا فرقة الأحباب لا بُد لىِ منكِ ... ويا دارُ دُنيا إني راحل عنكِ وقال الحسن: " ابدأ أهلك بمكارم الأخلاق، فإن الثواء (968) فيهم قليل) (969) . وقال أيضًا وهو في جنازة: " ابن آدم لئن رجعت إلى أهل ومال، فإن الثوى فيهم قليل) ، وعن هشام قال: (كان الحسن إذا أصبح وإذا أمسى قال لأهله ثلاث مرات: (يا أهلاه! الثوى فيكم قليل " (970)) . وقال الحسن رحمه الله: " البَرُّ: الذي لا يؤدي الذَرَّ " (971) . ولا أوذي الأنام وكيف يوذي ... عبادَ الله منتظر الرحيل؟   (966) رواه الطبراني في " الكبير" (4/40) ، وصححه الألباني في " الصحيحة" رقم (166) . (967) (أخرجه الطبراني في " الأوسط" بإسناد حسن) كما في " المجمع" (10/219) ، و "الترغيب" (2/11) ، وحسنه العراقي كما نقله عنه في "فيض القدير" (1/103) ، وحسنه الألباني بطرقه في " الصحيحة" رقم (831) . (968) الثواء: " الإقامة. (969) "بر الوالدين" للطرطوشي ص (178) . (970) رواه الإمام أحمد في " الزهد" ص (272) . (971) "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (19/125) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يُيْغِضُ كل جعظرِي جَوَّاظ، سَخاب في الأسواق جيفةٍ بالليل، حِمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا، جاهل بأمر الآخرة " (972) . وقد جاء في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يبغض كل جعظري جواظ" الحديث قيل: هو الشديد على أهله، المتكبر في نفسه، وهو أحد ما قيل في معنى قوله تعالى: (عُتُلّ) قيل: العتل هو الفظ اللسان الغليظ القلب على أهله، وقال صلى الله عليه وسلم لجابر حين تزوج ثيبًا: " هلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك " (973) . لقد تأثر المسلمون الأوائل بهذه التوجهات الإلهية، والإرشادات النبوية إلى حسن الخلق مع أهليهم، وانفعلوا بها أصدق الانفعال، فحفل تاريخهم بمواقف مشرقة يضرب بها المثل، في الفتوة والصبر والتجمل مع وجود داعي النفرة، وهاك بعض حديثهم في ذلك: قال أحمد بن عنبر: (لما ماتت أم صالح بن أحمد بن حنبل قال أحمد لامرأة تكون عندهم: " اذهبي إلى فلانة بنت عمها، فاخطبيها لي من نفسها، فأتتها، فأجابته، فلما رجعت إليه قال: " أختها كانت تسمع كلامكِ؟ "، قال: وكانت بعين واحدة، فقالت له: " نعم"، قال: " فاذهبي فاخطبي تِيكَ التي بفرد عين"، فأتتها، فأجابته، وهي أم عبد الله ابنه، فأقام معها سبعا، ثم قالت له: " كيف رأيت يا ابن عمي؟ أنكرتَ شيئًا؟ " قال: " لا، إلا نعلك هذه تصِر ".   (972) رواه ابن حبان (1957) ، والبيهقي متابعة (10/194) ، وصححه الألباني في " الصحيحة " رقم (195) ، وفسر الجعظري بالفظ الغليظ المتكبر، والجواظ: الجموع المنوع، والسخاب كالصخاب كثير الضجيج والخصام. (973) انظر تخريجه برقم (1250) ، (1251) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 وقال خطاب بن بشر: قالت امرأة أحمد بن حنبل لأحمد، بعد ما دخلت عليه بأيام: " هل تنكر مني شيئًا؟ "، فقال: " لا، إلا هذا النعل الذي تلبسينه، لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فباعته واشترت مقطوعًا فكانت تلبسه) ، وهى ريحانة بنت عمر عَم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (974) . (قيل: تزوج رجل بامرأة، فلما دخلت عليه رأى بها الجدري، فقال: " اشتكيت عيني "، ثم قال: " عميت"، فبعد عشرين سنة ماتت، ولم تعلم أنه بصير، فقيل له في ذلك، فقال: " كرهت أن يحزنها رؤيتي لما بها "، فقيل له: " سبقت الفتيان " (975)) . (وعن محمد بن نعيم الضبي قال: سمعت أمي تقول: سمعت مريم امرأة أبي عثمان تقول: صادفت من أبي عثمان خلوة فاغتنمتها، فقلت: " يا أبا عثمان أي عملك أرجى عندك؟ " فقال: يا مريم لما ترعرعت وأنا بالري، وكانوا يريدونني على الزواج فأمتنع، جاءتني امرأة فقالت: " يا أبا عثمان قد أحببتك حُبا أذهب نومي وقراري، وأنا أسألك بمقلب القلوب وأتوسل إليك أن تتزوج بي "! فقلت: " ألكِ والد؟ " قالت: " نعم، فلان الخياط في موضع كذا وكذا "، فراسلتُ أباها أن يزوجها مني، ففرح بذلك، وأحضرت   (974) " طبقات الحنابلة " (1/429) . (975) " مدارج السالكين " (2/342) ، وقريب من هذه الصورة من الفتوة ما حكاه الحافظ ابن القيم رحمه الله عن أبي علي الدقاق قال: [ (جاءت امرأة، فسألت حاتمًا عن مسألة، فاتفق أنه خرج منها صوت في تلك الحالة، فخجلت، فقال حاتم: " ارفعي صوتك "، فأوهمها أنه أصم، فَسُرت المرأة بذلك، وقالت: إنه لم يسمع الصوت، فلقب بحاتم الأصم) وهذا التغافل هو نصف الفتوة] اهـ. من " مدارج السالكين" (2/344) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 الشهود، فتزوجت بها، فلما دخلت وجدتها عوراء عرجاء مشوهة الخَلْق، فقلت: " اللهم لك الحمد على ما قدَّرته لي! ". وكان أهل بيتي يلومونني على ذلك فأزيدها بِرا وإكراما، إلى أن صارت بحيث لا تدعني أخرج من عندها فتركت حضور المجالس إيثارًا لرضاها، وحفظًا لقلبها، ثم بقيت معها على هذه الحال خمس عشرة سنة، وكأني في بعض أوقاتي على الجمر، وأنا لا أبدى لها شيئًا من ذلك إلى أن ماتت! فما شيء أرجى عندي من حفظي عليها ما كان في قلبها من جهتي) (976) اهـ. ومن المعاشرة بالمعروف: التغاضي وعدم تعقب الأمور صغيرها وكبيرها، وعدم التوبيخ والتعنيف في كل شيء، إلا في حقوق الله عز وجل، وذلك ما يرشدنا إليه فولُه تعالى: (وإذ أسَرَّ النبي إلى بعض أزواجه حديثا. فلما نبأت به وأظهره الله عليه عَرَّف بعضه وأعرض عن بعض. فلما نبأها به قالت: من أنبأك هذا؟ قال: نبأني العليم الخبير) (التحريم: 3) . وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلُقَا) (977) ، وقال: (ولقد خدمت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي قط: أفّ، ولا قال لشيء فعلتُه، لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا؟) (978) .   (976) " المنتظم" (6/107) . (977) صدر حديث رواه البخاري (10/436) في الأدب: باب الانبساط إلى الناس، ومسلم رقم (2150) في الأدب، وأبو داود رقم (4969) ، والترمذي رقم (333) . (978) رواه البخاري (10/383، 384) في الأدب: باب حسن الخلق والسخاء، ومسلم = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط بيده، ولا امرأة، ولا خادما، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نِيلَ منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن يُنتهك شيء من محارم الله فينتقم) (979) . وعنها رضي الله عنها قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصرًا من مظلمة ظُلِمها قط ما لم يُنتهك من محارم الله شيء، فإذا انتُهِك من محارم الله شيء كان من أشَدِّهم في ذلك غَضَبا، وما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن مأثمًا) (980) . ووصفت أعرابية زوجها وقد مات فقالت: " والله لقد كان ضحوكا إذا ولج، سكوتا إذا خرج، آكلًا ما وجد، غير سائل عما فقد " (981) . ومن المعاشرة بالمعروف: طلاقة الوجه، والبشاشة: فقد بين صلى الله عليه وسلم أن ذلك من المعروف: فعن جابر بن سليم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " ولا تحقرن شيئا من المعروف، وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه بوجهك، فإن ذلك من المعروف) (982) ، وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: " اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن   = رقم (2309) في الفضائل، وأبو داود رقم (4774) في الأدب: باب في الحلم. (979) رواه مسلم رقم (2327) في الفضائل: باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، وأبو داود رقم (4786) في الأدب: باب التجاوز في الأمر. (980) رواه البخاري (6/419) في الأنبياء، والأدب، والحدود، والمحاربين، وأبو داود رقم (4785) . (981) " الإحياء" (4/724) . (982) قطعة من حديث أخرجه أبو داود رقم (4084) في اللباس، وصححه ابن حبان (1221) ، (1451) " موارد". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 لم يجد فبكلمة طيبة " (983) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والكلمة الطيبة صدقة " (984) . ومن أحق من الزوجَة بهذا المعروف، وهذه الصدقة؟ (نعم.. ما أجدرنا أن نعود ألسنتنا على الكلام الطيب في أول حياتنا الزوجية، ومما يتصل بالكلمة الطيبة طريقة إلقائها، فقد تزيد هذه الطريقة - إن كانت حلوة عذبة - من تأثيرها، وما أجدرنا أن نعوّد عضلات وجوهنا الابتسامة التي تبسط أكثر المسائل تركيبا وتعقيدًا، وتمنحنا قوة في التغلب على كل المصاعب. وقد أعجبني كلام سمعته من أستاذ من أساتذتي قاله لشاب يعظه، ولم أنسه أبدًا، قال له: " إذا أردت أن تعرف ما يفعله العبوس فانظر وجهك في المرأة عندما تكون غضبان عابسا.. انظر وجهك كم هو منفر وقبيح!! وانظر كم يجلب مثل هذا الوجه على صاحبِه من السخط والأذى " (985)) اهـ.   (983) قطعة من حديث طويل رواه البخاري (6/450، 451) في الأنبياء: باب علامات النبوة في الإسلام. (984) قطعة من حديث رواه البخاري (5/226) في الصلح: باب فضل الإصلاح بين الناس، وفي الجهاد، ومسلم رقم (1009) في الزكاة: باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف. (985) " نظرات في الأسرة المسلمة " للدكتور محمد الصباغ حفظه الله ص (90) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 [فصل] (986) تأملات في قوله تعالى: (وَقُولوا لِلنَّاس حُسنًا) قال الله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى وقولوا للناس حسنًا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون) (البقرة 83) . لقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل على أمور أساسية في العقيدة والعبادة والسلوك والحياة، من توحيد الله، وإفراده بالعبادة، وبرّ الوالدين، والإحسان إلى ذي القربى واليتامى، ومساعدة المساكين، والقول الحسن للناس، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولكنهم تولوا إلّا قليلا منهم، فكان عاقبة ذلك أن حاقت بهم لعنة الله وصاروا إلى ما صاروا إليه. جاء في القرطبي: [.. وهذا كله حض على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينًا، ووجهه منبسطًا طلقًا مع البرّ والفاجر والسني والمبتدع من غير مداهنة ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضى مذهبه، لأن الله تعالى قال لموسى وهارون: (فقولا له قولًا لينًا) فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون وقد   (986) هذا الفصل مختصر بتصرف من " نظرات في الأسرة المسلمة" لفضيلة الدكتور محمد الصباغ حفظه الله من ص (115-132) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 أمرهما الله تعالى باللين معه. وقال طلحة بن عمر: قلت لعطاء: إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة وأنا رجل في حدة فأقول لهم بعض القول الغليظ فقال لا تفعل. يقول الله تعالى وقولوا للناس حسنا فدخل في الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي؟] (987) إننا لنقرأ في كتاب الله عز وجل خطابه حبيبه وخيرته من خلقه محمدا صلى الله عليه وسلم (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) .. فلو كان رسول الله المؤيد بالعصمة والحكمة، والمعزز بالتسديد والتأييد، لو كان صلى الله عليه وسلم فظا غليظ القلب لانفض أصحابه من حوله وبقي وحيدا فإذا كان هذا بالنسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فما القول بالناس الآخرين الذين لم يؤيدوا بما أيد به، ولم يؤتوا ما أوتيه من الخلق العظيم الذي أثنى به عليه ربه تبارك وتعالى فقال: (وإنك لعلى خلق عظيم) إن لين الجانب ورقة المعاملة أساس لاجتماع القلوب، وليس هناك وسيلة تحقق ذلك اللين وتلك الرقة أهم من الكلمة الحسنة.. وهي ترضي الله وتدخل صاحبها الجنة. وعن أنس قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: علمني عملا يدخلني الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: " أطعم الطعام، وأفش السلام، وأطب الكلام، وصل بالليل والناس نيام " (988) . وعن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها " فقال أبو مالك الأشعري: لمن هي يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: " لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وبات قائما   (987) " الجامع لأحكام القرآن" (2/16) . (988) رواه البيهقي (10/158) ، وابن حبان (642) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 والناس نيام (989) . الكلمة الطيبة غذاء للروح.. وشفاء لأمراض النفس، والكلمة الحلوة لها تأثير قد يغير حياة إنسان أو أمة!! من أجل ذلك كان قرن القول الحسن مع هذه الأمور الأساسية في العقيدة والعبادة والسلوك.. فتوحيد الله وإقامة الصلاة وبرّ الوالدين من أهم ما دعت الشريعة إلى تحقيقه وإقامته، وها نحن أولاءِ نجد في الآية قرنًا للقول الحسن بهذه الأمور، ونودّ أن نعيش لحظات في ظلال قوله تعالى: (وقولوا للناس حسنَا) نطل من خلالها على حياتنا الاجتماعية والأسرية (العائلية) . كم تضيع علينا في حياتنا (العائلية) والاجتماعية فرص سعادة وغنى وأنس كنا على مقربة منها لو قلنا كلمة حلوة.. ولكنَّا أضعناها عندما لم نلق بالكلمهَ الطيبة. إن كلمة واحدة تستطيع أن تفعل شيئًا كبيرًا ... فبسبب كلمة قامت حروب، وبسبب كلمة تآلفت قلوب. إن الكلمة الطيبة أساس متين تبنى عليه علاقات الحب والمودة والرحمة والانتاج والتربية، إن الكلمة الطيبة تهيئ المناخ المناسب لنمو هذه العلاقات ولتثمر الثمرة المرجوة سعادة وفرحًا وابتهاجًا وانطلاقًا وتحقيقًا لكثير من معاني الخير. وإن الكلمة الطيبة أغلى عند الزوجة في كثير من الأحيان من الحلي الثمين، والثوب الفاخر الجديد، ذلك لأنّ العاطفة المحببة التي تبثها الكلمة   (989) أخرجه الإمام أحمد (5/ 343) ، والحاكم في " المستدرك" (1/80) ، (1/321) ، وصححه عل شرطهما، ووافقه الذهبي، وكذا رواه التزمذي رقم (1985) من حديث علي رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 الطيبة غذاء الروح، فكما أنه لا حياة للبدن بلا طعام، فكذلك لا حياة للروح بلا كلام حلو لطيف. لماذا نهمل الكلمة الطيبة في نطاق الأسرة وهي لا تكلفنا شيئًا؟ إن السعادة كلها ربما كانت كامنة في كلمة فيها مجاملة ومؤانسة يقولها أحد الزوجين لصاحبه أو الوالد لابنه. أجل ... إن علينا أن تكون ألسنتنا رطبة بذكر الله وبالكلام المعسول الجميل لا سيما عندما نخاطب أزواجنا.. إن المرأة الشرقية عاطفية إلى أبعد الحدود. إن الخطأ الذى يقوم في حياتنا الزوجية مبني على فهم خاطئ لفكرة رفع الكلفة.. حتى إن كثيرًا من الناس ليقع في الأغلاط المدمرة لحياته الأسرية بحجة رفع الكلفة، يقول أحدهم: إن زوجتي ولدت ولدين أو ثلاثة أو أربعة.. فلم نعد عروسين نحتاج إلى الملاطفة والمجاملة أو الكلمة المأنوسة.. قد مضى وقت ذلك، إن هذا خطأ قادح يجرّ ذيول التعاسة والشقاء على عش الزوجية، وقد يدمر بناء الأسرة ويقضي على نفسية الأولاد. لماذا لا تكون الملاطفة مع من نعايش؟ لماذا لا تكون الكلمة الطيبة مع الأزواج والأولاد؟ ألسنا بشرًا سواء أكنا عرسانًا أم كنا قد تقدت بنا الأيام والسنون، وسواء أأنجبنا أم لم ننجب؟ ولو أننا نظرنا إلى حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أزواجه لرأينا أنها مثال الملاطفهَ والمؤانسة، فلقد كان يؤانسهن ويمازحهن ويعمر نفوسهن بالكلمة الحلوة، والنظرة الحانية، والتصرف الودود، ويحتمل منهن أخطاءهن. إن تجاهل حاجة الزوجة إِلى العاطفة العذبة التي تفيض بها الكلمة الطيبة، يجعلها تحمل بين جوانبها حجرًا مكان القلب ... مما يعكر على الزوج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 حياته.. لأننا نعيش بالمعاني لا بالأجساد فقط.. وليس في الحجارة من المعاني شيء إن رتبة كتف حانية من الزوج مع ابتسامة مشرقة مقرونة بكلمة طيبة تذيب تعب الزوجة، وتنعش فؤادها المشرئب للعطف والحنان، فهل لك يا أخي أن تنتبه إلى نفسك وتتأسى بسيدنا رسول - صلى الله عليه وسلم - الذي يقول الله تبارك وتعالى فيه: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) . اشكر زوجتك على صحن الطعام اللذيذ الذي قد أعدته لك بيديها.. اشكرها بابتسامة ونظرة عطف وحنان.. أثن عليها وتحدث عن محاسنها وجمالها، والنساء يعجبهن الثناء ويوثر فيهنّ.. وإذا كان الكذب محظورًا فقد أباح لك الإسلام طرفا منه في علاقتك الزوجية عندما يكون ذلك سببًا لتعميق المودة وتحقيق التفاهم (990) . اذكر لها يا أخي امتنانك لرعايتها وخدمتها لك ولبيتك وأولادك، وإن كان هذا من اختصاصاتها، وإن كانت لا تقدم إلا ما تقدمه النساء عادة.. لكن ذلك من قبيل الكلمة الطيبة التى تؤكد أسباب المودة والرحمة ... قل لها الكلمة الطيبة ولو نقصتها شيئًا من الطعام والمال والكساء.. إنها حينئذ ستسعد وستحس بدفء الحنان والعطف والمودة في أعماق قلبها.. وإذا أصبح قلبها مترعًا بهذه المعاني دفع دماءها حارة مغرّدة في عروقها.. وستندفع في خدمتك وتعيش معك العمر آمنة مطمئنة، وسوف ترى أنت بريقا يتراقص في عينيها، وابتسامة مشرقة على شفتيها، وسينطلق لسانها بالحديث عنك وإليك بالكلمة الطيبة. وربما قالت بعض الزوجات: وماذا يريد الزوج مني؟ ألا يجد طعامه   (990) راجع ص (403-404) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 مطيها، وثوبه مكويا، وبيته نظيفًا، وأولاده لابسين آكلين، وحاجاته مهيأة؟ إنه لا يطلب منى طلبًا إلا حققته، ولا يريد حاجة إلا سارعت في تنفيذها. ماذا يريد الزوج مني أكثر من ذلك؟ كلا يا سيدتي: إنه بحاجة إلى العاطفة التي أنت مصدرها.. إنه بحاجة إلى الابتسامة المشرقة من فيك التي تبدد ظلمات الكآبة التي تعترضه في الحياة. إنه يريد أن يرى الإنسانة التي تعني به وتظهر له الاهتمام الكبير، وتشعرهُ أنه - بالنسبة إليها - قطب الرحى، وأساس السعادة. إنه يريد أن يسمع باللحن المريح كلمة الشوق والشكر والحب والرغبة في الأنس به واللقاء. إن ذلك كله مفتاح باب السعادة التي يحويها معنى الزواج. إن كلمة شكر وامتنان من الزوجة مع ابتسامة عذبة تسديها إلى الزوج بمناسبة شرائه متاعا إلى البيت، أو ثوبًا لها، تدخل عليه من السرور الشيء الكثير، قولي له الكلمة الطيبة ولو كان نصيب المجاملة فيها كبيرًا، لتجدي منه الود والرحمة والتفاهم، مما يحقق لك الجو المنعش الجميل. رددي بين الفينة والفينة عبارات الإعجاب بمزاياه، واذكري له اعتزازك بالزواج منه وأنك ذات حظ عظيم.. فإن ذلك يرضي رجولته ويزيد تعلقه بك. قابليه ساعة دخوله بالكلمة الحلوة العذبة، وتناولي منه ما يحمل بيديه وأنت تلهجين بذكره وانتظارك إياه. فذلك كله من الكلمة الطيبة التي تأتي بالسعادة، ولا تكلفك شيئًا وتعود عليك بالنفع العظيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 .. وإن مما يتصل بالقول الحسن والكلمة الطيبة أن نعرف آداب إلقاء هاتيك الكلمة الطيبة، والحق أنّ هناك أمورًا كثيرة وهي يسيرة علينا نتجاهلها في حياتنا الزوجية، فنضيّع على أنفسنا سعادة كبيرة، ونَصْلَى من وراء ذلك نار الخلاف والشجار والشحناء والبغضاء مدة العيش المشترك بين الزوجين طالت هذه المدة أم قصرت. أجل.. هنالك أمور يسيرة على من ينتبه إليها، عظيمة الجدوى والنفع على من يأخذ بها ويحققها، وهي واردة بالنسبة إلى الزوجين، وإن كانت ظروف حياتنا تجعل هذه الأمور مطلوبة من الزوجة بصورة آكد. وأعظم الناس حماقة من يفوت على نفسه السعادة من تجاهله أمرا لا يكلفه شيئًا وإهماله أدبا نصحه الناصحون به. ومن هذه الأمور الهينة الميسورة أدب الحديث.. أيها السادة: إن للحديث آدابا تتصل بإلقائه، وآدابًا تتصل بسماعه إن روعيت عادت على أصحابها بالنفع الجليل وحققت أطيب الثمرات المرجُوة. وإن مما يؤسف له حقًا أن كثيرًا من الأزواج والزوجات يخالفونها معتذرين بأعذار واهية عدة، كدعوى زوال الكلفة، أو دعوى الرغبة في البساطة، أو دعوى الميل إلى المرح، وكل أولئك أعذار باطلة مردودة لا تصح ولا تصدق. وهذه المخالفة - كما رأينا في الحياة الواقعية - تؤدي في كثير من الأحيان إلى مشكلات اجتماعية يستصرخ منها الأزواج والزوجات ويوسطون الناس لحلها، وقد ييأسون من العلاج فينتهي الأمر في بعض الحالات إلى الفراق والطلاق، ولقد كانوا قادرين على تلافي تلك المشكلات لو أنهم انتبهوا إلى هذه الأمور اليسيرة الهينة، بل لقد كانوا قادرين على إحلال السعادة والتفاهم والرضى والسرور محلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 آداب إلقاء الحديث إن من رعاية القول الحسن الاهتمام بآدابه، لاسيما عندما يكون الحديث بين الزوجين: فمن أهم هذه الآداب أن يراعي المتحدّث حالة المخاطب، فلا يحدثه بقصد التودد وهو يراه متوجعًا متألما، أو مشغولَا بكتابة أو محادثة هاتفية، أو منتظرا أمرَا ذا بال وهو يفكر فيه، أو نعسان يغالبه النوم، أو متضايقا يدافع الأخبثين ويريد دخول الخلاء، أو مستعجلًا يريد الخروج وإدراك موعد له أو ما إلى ذلك من الحالات. ومن آداب إلقاء الحديث أن يراعي المتحدِّث ألا ينفرد بالحديث وألا يكون آخذًا دائمَا صفة الذي يلقي ويطلب من سامعه دائمًا أن يكون مصغيا لا يفتح فمه. ومن هذه الآداب في إلقاء الحديث أن يجتنب المتحدث إعادة الحديث وتكراره فليس أثقل على النفس من الحديث المعاد. ومن هذه الآداب أن يحرص المتحدث على الإيجاز وأن يحذر الإطالة والثرثرة، فحمل السامع على متابعتك لمدة طويلة مرهق ومنفر. ومن آداب إلقاء الحديث أن يتنبه المتحدث إلى صفة التواضع، فليس حسنًا أن يفرط في الفخر بمزاياه العظيمة، وليعلم أن هذا ثقيل على السامع حتى ولو كان زوجَا أو إنسانا من أقرب الناس إليه. ومن هذه الآداب أن يحرص المتحدث على أن يلقي حديثه بتقدير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 عميق لمن يكلمه لا سيما إن كان زوجة، فهي قرينته في حياته وشريكته في عمره وهى أم أولاده. ومن آداب إلقاء الحديث أن يتخيّر المتحدث من الأحاديث ما يعلم اهتمام المخاطب به، وعليه أن يجتنب ما يعلم يقينًا أن سامعه يضيق صدره منه، ومعرفة هذا ميسورة للزوجين بحكم الخلطة المستمرة، واللقاء الدائم والحياة المشتركة. فإذا كان الزوج في أزمة مالية فمن الغلط أن تحدثه زوجته بحاجة البيت أو أفراد الأسرة إلى بعض المطالب التي لا يقوى على تحقيقها، وكذلك من الخطأ أن يحدث الرجل زوجته عن مزايا في غيرها لا توجد فيها: من نحو كون المرأة على مستوى جيد من المعرفة، أو الذكاء؛ فليس كل كلام صحيح صالحًا لأن يلقى على الناس. وعليه أن يجتنب الإكثار من الوعظ والعتاب والتوجيهات والتقريعات، فهذه الأمور يجب أن تكون بقدر محدود، وفي ظرف يساعد على قبولها، وأنا أعلم أنه لابد من بعضها، ولكنها إذا كثرت أضحت معولًا يهدم كيان السعادة الزوجية، فهناك أزواج لا يكون كلامهم إلا لومًا أو عتابا أو توجيهًا أو موعظة، ولله درّ القائل: إذا كنت في كل الأمور معاتبا ... صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه فعش واحدًا أو صل أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرة ومجانبه إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه ومن ذا الذي ترضَى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلًا أن تعدّ معايبه ومن آداب إلقاء الحديث أن يفرق الإنسان بين الحديث الخاص بين الزوجين وفي خلوتهما وبين حديثهما أمام أهليهما أو الأولاد أو الضيوف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 ومن أهم هذه الآداب أن يراعى أحكام الشرع: فلا يكذب ولا يغتاب ولا يرمي أحدا بما ليس فيه، فاحرص يا أخي على أن يكون كلامك مع أهلك ومع الناس نظيفًا خيرا، وتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت " (991) . وأود أن أذكر أدبًا مهمُّا يتصل بالعناية بمخارج الحروف وإبلاغ السامع أو السامعين الصوت جليا: فهناك أفراد لا يهتمّون بهذه الناحية حتى تتشابه الكلمات في حديثهم، وربما وصلت الكلمة إلى أذن السامع على نحو يناقض قصد المتكلم، من هنا كان الوضوح في الكلام أدبًا مطلوبًا، ويعين على ذلك أن يتكلم المرء بفمه كله، وأن يتعوّد على هذا، وأن يراعي ما يألف السامعون من الحروف، وأن يمرن لسانه على المخارج الصحيحة. وكذلك فإنّ عليه أن يسمع المخاطبين، فقد يحمل تكلفُ اللطف وتصنع الرزانة إنسانا على أن يتكلم بصوت منخفض جدا، حتى إن السامع لا يستطع أن يدرك مقصوده، وقد يريد الإسماع فيرفع صوته حتى يصدع رؤوس الناس، والتوسط في هذا هو المطلوب، وما بين ذلك قوام إن شاء الله. أما أدب الاستماع فهو من الأهمية بمكان لا يقل عن الإلقاء بل يزيد عليه، لأنّ الانتباه إليه أمر مضيَّع قل من يراعيه من الناس. وحسن الاستماع يزيد في حب الإنسان لصاحبه، ويجعله أكثر إقبالًا على الحديث، والانسجام مع قرينه، فمن هذا المنطلق ينبغي أن يحرص المرء على أن يثبت لمحدثه أنه يحبه لا سيما إن كان زوجًا، ففي ذلك توكيد لأسباب المودة والرحمة، وتوثيق لعرى الزوجية السعيدة، إنَّ عليه اًن يقبل   (991) أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي شريح الخزاعي، ومن حديث أبي هريرة: البخاري والترمذي رقم (2502) ، وصححه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 على سماع حديث صاحبه، وأن يلتمس النواحي المشرقة في حديثه، ويقنع نفسه بضرورة الإصغاء له بعناية تامة. إن الإقبال على المتحدث والإصغاء له دليل على تقديره واحترامه والاهتمام به ورعاية كرامته، وهذا مطلوب من الإنسان المسلم نحو أي مسلم آخر، ولو كان لا يجمع بينه وبينه إلا المرافقة في طريق.. فما بالك بشريكة العمر؟ هذه أهمية حسن الاستماع فما آدابه؟ 1- من آدابه ألّا يتشاغل السامع عن الإصغاء بقراءة أو خياطة أو كنس أو مداعبة لولد أو نحو ذلك. إن تخصيص جزء من الوقت للحديث المشترك بين الزوجين يقبل فيه كل منهما على صاحبه كفيل بأن يزيل كثيرًا من أسباب الخلاف، ويحُل محلها أسس الود والرحمة. 2- ومن آدابه ألا يقاطع السامع صاحبه، بل ينتظره حتى يتم حديثه، لأن مخالفة هذا الأدب سبب لكثير من المشكلات الزوجية، وكثيرا ما تكون المقاطعة نتيجة لخوف من أحد الزوجين أن يخسر موضوع الحديث، وهذا خطأ فادح، لماذا لا نسمع ونناقش بهدوء؟ وإذا كنا على خطأ لماذا لا يكون عندنا الاستعداد للتراجع عن الخطأ؟ 3- ومن آداب حسن الاستماع أن يبدي المرء استحسانه لما يسمع، وأن يكون هذا الاستحسان في حدود المعروف المقبول لا يبالغ فيه، إذ إن المبالغة قد تعني التهكم والمداراة، وكل ذلك مسيء للمتحدّث، وقد قيل: إذا زاد الأمر عن حده انقلب إلى ضده. 4- ومن آدابه ألا ينتقل في تعقيبه على حديث المتكلم إلى موضوع آخر حتى يشعر بأن المتكلم قال كل ما يريد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 5- ومن آداب حسن الاستماع أن يقبل السامع على الإصغاء لحديث صاحبه حتى ولو كان في أمر يعرفه أدق المعرفة، قال ابن المقفع: [إذا رأيت الرجل يحدث حديثا قد علمته، ويخبر خبرا قد سمعته، فلا تشاركه فيه، ولا تفتح عليه، حرصًا على أن تُعلم الناس أنك قد علمته، فإن ذلك خفة وسوء أدب] ولله درّ أبي تمام: مَنْ لي بإنسان إذا أغضبتُه ... وجهلتُ كان الحلم رد جوابه وتراه يصغي للحديث بقلبه ... وبسمعه ولعله أدرى به 6- ومن آداب حسن الاستماع أن ينصت سواء أكان الحديث دسما عميقًا أم كان تافها غثا، وألا يظهر لصاحبه ضيقه من ذلك، لأن أي إنسان مهما أوتي من الموهبة لن يستطيع أن يجعل حديث التسلية دائمًا حديثًا عميقَا دسما، وقد قيل: إذا جالست الجهال فأنصت لهم، وإذا جالست العلماء فأنصت لهم؟ فإن في إنصاتك للجهال زيادة في الحلم، وفي إنصاتك للعلماء زيادة في العلم. 7- وإذا كان الحديث بين زوجين فمن آداب حسن الاستماع ألا يسارع أحدهما إلى الردّ على صاحبه فيما إذا قرر أمرَا لا يراه، ما لم يكن إثمًا أو زيغًا.. إن عليه ما دام الأمر لم يصل إلى دائرة المنكر أن يلوذ بالصمت الملاطف الرفيق، ولا بأس بأن يثني على جانب من الكلام تمهيدا للتعقيب المناسب في الوقت المناسب، ذلك لأنَ المبادرة إلى إبطال قوله قد تترك أثرًا سيئًا في نفس صاحبه، ولايزهدن أحد في المجاملة، فما أكثر ما تكون المجاملة نافعة في الدنيا!!! وليس يعني هذا أن ينسلخ المرء عن رأيه ولا أن يتخلى عن فكره.. لا.. ولكن يسعه الصمت في بادئ الأمر ثم يتخير الوقت المناسب ليقول فيه ما يرى. 8- ومن آدابه أن يجاري أحد الزوجين صاحبه فيما يسمع.. فإن كان الحديث نكتة صادقة ضحك، وإن كان خبرًا يثير التعجب تعجب.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 إن مثل هذه المجاراة والتجاوب يجعل المرء يحس بلذة الحديث، وأنه يتحدث مع حيّ يشاركه الرأي لا مع جماد ميت، ولا مع مشاكس معاند، وليحاول أن يجعل ذلك كله طبيعيًّا لا أثر للتكلف فيه] اهـ. عود على بدء ومن المعاشرة بالمعروف: أن يستمع إلى حديثها، ويحترَم رأيها، ويأخذ بشوراها، إذا أشارت عليه برأي صواب، فقد أخذ صلى الله عليه وسلم برأي أم سلمة يوم الحديبية، فكان في ذلك سلامةُ المسلمين من الإثم، ونجاتهم من عاقبة المخالفة، كما جاء في بعض الروايات: " فجلى الله عنهم يومئذ بأم سلمة "، وذلك حين امتنع الصحابة رضي الله عنهم من أن ينحروا هديهم، فأشارت عليه أم سلمة رضي الله عنها أن يخرج، ولا يكلم أحدًا منهم كلمة حتى ينحر بُدْنه، ويحلق، ففعل صلى الله عليه وسلم، فلما رأى أصحابه ذلك قاموا فنحروا، ففي هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قبل مشورة أم سلمة رضي الله عنها (992) ، وكذا قبل صالح مدين مشورة ابنته في استئجار موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. ومن المعاشرة بالمعروف: أن يسلم على أهله إذا دخل عليهم، فعن أنس رضي الله عنه قال:   (992) رواه البخاري (5/332) ط. السلفية، واعلم - رحمك الله - أنه لا معنى لرفض رأي المرأة العاقلة الفاضلة واطراح مشورتها لمجرد كونها امرأة، كما يفعل البعض اعتمادا على أحاديث ضعيفة مثل: " شاوروهن، وخالفوهن " قال الألباني: " لا أصل له مرفوعا "، وحديث: (طاعة المرأة ندامة"، قال الألباني: " موضوع"، وحديث: " هلكت الرجال حين أطاعت النساء " قال الألباني: " ضعيف "، وانظر: " سلسلة الأحاديث الضعيفة" أرقام (430) ، (435) ، (436) ، و"فتح الباري" (5/347) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا بني إذا دخلت على أهلك فسلم، يكن سلامُك بركةً عليك، وعلى أهل بيتك) (993) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن للإسلام صُوى ومنارا كمنارات الطريق " الحديث بطوله، وفيه: " وأن تسلم على أهلك إذا دخلت عليهم، وأن تسلم على القوم إذا مررت بهم، فمن ترك من ذلك شيئًا، فقد ترك سهما من الإسلام، ومن تركهن كلهن، فقد ولي الإسلام ظهره) (994) . وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة كلهم ضامن علي الله، الحديث، وفيه: " ورجل دخل بيته بسلام، فهو ضامن على الله " (995) . والمعنى: أنه إذا دخل بيته سلم على أهله ائتمارًا بقوله سبحانه:   (993) رواه الترمذي رقم (2698) في الاستئذان، وقال: " حديث حسن صحيح"، وفيه علي بن زيد بن جدعان، لكن قال الألباني: (هو كما قال - أي الترمذي - فإن له طرقًا كثيرة يتقوى الحديث بها، وقد جمعها الحافظ ابن حجر في جزء صغير، انتهى فيه إلى تقوية الحديث) اهـ. من " تحقيق الكلم الطيب" رقم (62) . (994) أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في " كتاب الإيمان" رقم (3) ، وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (333) ، والصوى: جمع "صوة"، وهى أعلام من حجارة منصوبة في الفيافي والمفاوز المجهولة، يستدل بها على الطريق، وعلى طرفيها. (995) رواه أبو داود رقم (2494) ، وابن حبان رقم (416) ولفظه: (ثلاثة كلهم ضامن على الله، إن عاش رُزق وكفي، وإن مات أدخله الله الجنة: من دخل بيته فسلم فهو ضامن على الله) الحديث، والحاكم (2/73) ، وصححه، وأقره الذهبي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (3/69) ، ومعنى ضامن: صاحب الضمان، وهو الرعاية للشيء كما يقال: " تامر" و "لابن" لصاحب التمر واللبن، ومعنى الحديث أنه في رعاية الله، وضمنه بعلى تضمينًا لمعنى الوجوب، والمحافظة على سبيل الوعد بأن يكلأه الله من الضرر في الدنيا والدين، وانظر: " فيض القدير" (3/319 - 320) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم) (النور: 61) . ومن المعاشرة بالمعروف: أن يكرمها بما يرضيها، ومن ذلك أن يكرمها في أهلها عن طريق الثناء عليهم بحق أمامها، ومبادلتهم الزيارات، ودعوتهم في المناسبات، وبذل الإحسان لهم. فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أيما امرأةٍ نَكَحَتْ على صَداقٍ أو حِباء (996) ، أو عِدة قبل عصمة (997) النكاح، فهو لها، وما كان بعد عصمة النكاح، فهو لِمَنْ أعطِيَه، وأحَقُّ ما أكرِمَ عليه الرجل ابنتُه وأختُه (998) ". ومن المعاشرة بالمعروف: معالجتها ومداواتها إذا مرضت، وإن طال المرض، وحال دون انتفاعه   (996) الحباء: العَطية والهبة للغير أو للزوج زائدا على مهرها. (997) (عصمة النكاح: عقدته، يقال: عصمة المرأة بيد الرجل أي عقدة نكاحها، ومنه قوله تعالى: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) أي بعقد نكاحهن، والله أعلم) اهـ. من " جامع الأصول ": (7/ 22 - 23) . (998) رواه أبو داود رقم (2129) في النكاح: باب في الرجل يدخل بامرأته قبل أن ينقدها شيئا، والنسائي (6/120) في النكاح: باب التزويج على نواة من ذهب، وابن ماجه (1/308) ، والإمام أحمد رقم (6709) ، والبيهقي (7/248) ، وصححه الشيخ أحمد شاكر في " المسند" (10/178) ، (وفي الحديث دليل على أن المرأة تستحق جميع ما يذكر قبل العقد من صداق أو حِباء أو عدة، ولو كان ذلك الشيء مذكورا لغيرها، وما يذكر بعد عقد النكاح فهو لمن جُعِل له سواء كان وليا، أو غير ولي، أو المرأة نفسها) اهـ. من " عون المعبود" (6/165) ، وانظر: " السلسلة الضعيفة " حديث رقم (1007) ، و " نيل الأوطار" (6/197) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 بها، فذلك من الوفاء وحسن العشرة، والمعروف الذي أمر الله به. بل من حسن المعاشرة أن يباشر بنفسه رعايتها، ويلزمها إذا مرضت، فقد تغيب ذو النورين عثمان بن عفان عن غزوة بدر لأن زوجه رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مريضة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أقم معها، ولك أجر من شهد بدرًا وسهمه " (999) . ومن المعاشرة بالمعروف: العدل بين الزوجات في القَسم والنفقة: قال الله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) الآية (النحل: 90) ، وقال جل وعلا: (قل أمر ربي بالقسط) (الأعراف: 29) ، وقال سبحانه: (إن الله يحب المقسطين) (المائدة: 42) ، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعا: " المقسطون عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، هم الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا " (1000) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كانت عند الرجل امرأتان، فلم يعدل بينهما، جاء يومَ القيامة وشِقُّه ساقط " (1001) وعن عروة قال: قالت عائشة رضي الله عنها: (يا ابن أختي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القَسم من مُكثه عندنا، وكان   (999) رواه البخاري (7/48) في مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه. (1000) أخرجه مسلم رقم (1827) في الإمارة، والنسائي (8/221) ، والبغوي (10/63) ، والإمام أحمد (2/160) . (1001) رواه أبو داود رقم (2133) ، والترمذي رقم (1141) ، والنسائي (7/63) ، وغيرهم، وصححه الألباني في " تحقيق المشكاة" (2/965) ، و"الإرواء" (7/80) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 قَلَّ يوم إلا وهو يطوف علينا جميعًا، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ التي هو يومُها فيبيت عندها) (1002) الحديث. قال الإمام القرطبي رحمه الله مبينًا العدل الواجب بين الزوجات: (على الرجل أن يعدل بين نسائه لكل واحدة منهن يوما وليلة؛ هذا قول عامة العلماء، وذهب بعضهم إلى وجوب ذلك في الليل دون النهار، ولا يُسقِطُ حقَّ الزوجة مرضُها ولا حَيضها، ويلزمه المقام عندها في يومها وليلتها، وعليه أن يعدِل بينهن في مرضه كما يفعل في صحته، إلا أن يعجِز عن الحركة فيقيم حيث يغلب عليه المرض، فإذا صَح استأنف القَسمَ، والإماء والحرائر والكتابيات والمسلمات في ذلك سواء ... ولا يجمع بينهن في منزل واحد إلا برضاهن، ولا يدخل لإحداهن في يوم الأخرى وليلتها لغير حاجة ... وروى ابن بكير عن مالك عن يحيى بن سعيد أن معاذ بن جبل كانت له امرأتان، فإذا كان يوم هذه لم يشرب من بيت الأخرى الماء، قال ابن بكير: وحدثنا مالك عن يحيى بن سعيد أن معاذ بن جبل كانت له امرأتان ماتتا في الطاعون، فأسهم بينهما أيهما تدلى أوَّل) (1003) اهـ. تنبيه: ما هو العدل غير المستطاع؟ قوله تعالى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) الآية، (النساء: 129) .   (1002) رواه أبو داود رقم (2135) في النكاح: باب في القسمة بين النساء، وقال محقق " جامع الأصول": " حديث صحيح " (11/514) . (1003) " الجامع لأحكام القرآن" (14/217) بتصرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 قال القرطبي رحمه الله: (أخبر تعالى بنفي الاستطاعة في العدل بين النساء، وذلك في ميل الطبع بالمحبة والجماع والحظ من القلب، فوصف الله تعالى حالة البشر، وأنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض دون بعض؛ ولهذا كان عليه السلام يقول: " اللهم إن هذه قسمتي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " (1004) ، ثم نهى فقال: (فلا تميلوا كل الميل) قال مجاهد: " فلا تتعمدوا الإساءة بل الزموا التسوية في القسْم والنفقة؛ لأن هذا مما يُستطاع " ... وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشِقه مائل " (1005) . قوله تعالى: (فتذروها كالمعلقة) أي لا هي مطلقة، ولا ذات زوج؛ قاله الحسن) (1006) اهـ. ومن المعاشرة بالمعروف: أن يشاركها في خدمة البيت إن وجد فراغا: عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: " كان صلى الله عليه وسلم يكون في مهنة أهله - يعنى خدمة أهله - فإذا حضرت الصلاة، خرج إلى الصلاة " (1007) . وعنها رضي الله عنها قالت: " كان بَشَرَا من البشر: يَفْلِي ثوبه،   (1004) رواه أبو داود رقم (2134) ، والترمذي رقم (1140) ، والنسائي (7/64) ، والحاكم (2/187) ، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، بلفظ: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل، وبقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك - يعني القلب) ، والحديث أعله جمع من المحققين كما فصل العلامة الألباني في " الإرواء" (7/82) ، وضعفه. (1005) تقدم آنفا برقم (1001) . (1006) "الجامع لأحكام القرآن" (5/407) بتصرف. (1007) رواه البخاري (2/162) ، (9/507) ، (10/461) ، والترمذي رقم (2489) ، والإمام أحمد (6/126، 206) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 ويَحلُبُ شاته، ويخدِم نفسه " (1008) . * * * قال الشافعي رضي الله عنه: (وجماع المعروف بين الزوجين كف المكروه، وإعفاء صاحب الحق من المؤنة في طلبه، لا بإظهار الكراهية في تأديته، فأيهما مطل بتأخيره فمطل الواجد القادر على الأداء ظلم بتأخيره) اهـ (1009) . وقال بعض الشافعية: (كف المكروه: هو أن لا يؤذي أحدهما الآخر بقول أو فعل، ولا يأكل أحدهما، ولا يشرب، ولا يلبس ما يؤذي الآخر) (1010) اهـ. وبالجملة فكل أمر يتصور في الدين والعرف أنه حسن فهو من المعاشرة بالمعروف التي أمر الله بها، قال صلى الله عليه وسلم: " خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي " (1011) . وفيما يلي نعرض لقبس من الهدي النبوي في حسن المعَاشرة ليكون نبراسَا لمن أراد أن يمتثل قوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) . قال ابن كثير رحمه الله تعالى: (وكان من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم أنه   (1008) رواه البخاري في " الأدب المفرد" (541) ، والبغوي في " شرح السنة" (3676) ، والإمام أحمد (6/256) ، وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (671) على شرط مسلم. (1009) "تكملة المجموع" (15/289) . (1010) " السابق" (15/290) . (1011) تقدم تخريجه برقم (218) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقته، ويضاحك نساءه، حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، يتودد إليها بذلك، قالت: " سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته، وذلك قبل أن أحمل اللحم، ثم سابقته بعد ما حملت اللحم، فسبقني، فقال: " هذه بتلك "، وكان صلى الله عليه وسلم يجمع نساءه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها، وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد، يضع عن كتفيه الرداء، وينام بالإزار، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلًا قبل أن ينام، يؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) (1012) اهـ. وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر، فإن كنت مستيقظة حَدَّثني، وإلا اضطجع حتى يُؤذَّنَ بالصلاة " (1013) . وكانا يتبادلان السمر بالأحاديث الخفيفة، والقصص ذات الموعظة الحسنة، كما في حديث أبي زرع وأم زرع، حيث قال لها: " كنت لك كأبي زرع لأم زرع " (1014) ، فأظهر استعداده لتحمل النفقة، والعطف والمودة والإحسان، وحسن المعاشرة، وفي رواية بزيادة: (" إلا أنه طلقها، وأنا لا أطلق "، فقالت عائشة رضي الله عنها: " يا رسول الله   (1012) " تفسير القرآن العظيم " (1/477) . (1013) رواه البخاري (3/36) في التطوع، ومسلم رقم (743) في صلاة المسافرين، وأبو داود رقم (1262) ، (1263) في الصلاة، والترمذي رقم (418) في الصلاة. (1014) أصل الحديث رواه البخاري (9/220 - 241) في النكاح: باب حسن المعاشرة مع الأهل، ومسلم رقم (2448) في فضائل الصحابة: باب ذكر حديث أم زرع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 بل أنت خير من أبي زرع " (1015)) . وعنها أيضًا رضي الله عنها قالت: " إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليؤتى بالإناء فأشرب منه وأنا حائض، ثم يأخذه، فيضع فاه على موضع في، وإن كنت لآخذ العَرق فآكل منه، ثم يأخذه، فيضع فاه على موضع فِي " (1016) . وقال الغزالي رحمه الله تعالى في (الإحياء) في " آداب المعاشرة وما يجري في دوام النكاح ". (الأدب الثاني: حسن الخلق معهن، واحتمال الأذى منهن، ترحمًا عليهن، لقصور عقلهن، قال الله تعالى: (وعاشروهن بالمعروف) ، وقال في تعظيم حقهن: (وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا) (1017) ، وقال تعالى: (والصاحب بالجنب) قيل هي: المرأة) . ثم قال: " واعلم أنه ليس حسن الخلق معها كف الأذى عنها، بل احتمال الأذى منها، والحلم عند طيشها وغضبها، اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانت أزواجه تراجعنه الكلام، وتهجره الواحدة منهن يومًا إلى الليل،   (1015) هذه الزيادة أخرجها النسائي في " عشرة النساء" رقم (256) ، وانظر: " بغية الرائد " للقاضي عياض، " مختصر الشمائل المحمدية " للألباني هامش ص (134) . (1016) تقدم تخريجه برقم (177) . (1017) قال الزمخشري: (الميثاق الغليظ حق الصحبة والمضاجعة، ووصفه بالغلظة لقوته وعظمه، فقد قالوا: صحبة عشرين يوما قرابة، فكيف بما جرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟) اهـ. (قال الشهاب الخفاجي: قلت بل قالوا: صحبة يوم نسب قريب ... وذمة يعرفها اللبيب) انظر " محاسن التأويل " (5/ 1165) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 وراجعت امرأةُ عمر عمر رضي الله عنه في الكلام، فقال: " أتراجعيني يالكعاء؟ "، فقالت: إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجعنه، وهو خير منك " (1018) ] (1019) اهـ. ومع انشغاله صلى الله عليه وسلم بتبعات الدعوة الجسام، وبناء الأمة المسلمة كان لا يألو جهدًا عن مطايبة أزواجه صلى الله عليه وسلم: فكان صلى الله عليه وسلم يرخم اسم عائشة رضي الله عنها، وربما خاطبها: " يا عائش"، و" يا عويش"، و " يا حميراء"، ليدخل السرور على قلبها. وكان صلى الله عليه وسلم يقول لها رضي الله عنها: " إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غَضْبَى "، قالت: فقلت: " من أين تعرف ذلك؟ "، فقال: (أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: " لا، ورب محمد "، وإذا كنت غضبى قلت: " لا، ورب إبراهيم "!) قالت: " أجل والله يا رسول الله! ما أهجر إلا اسمك " (1020) . وعنها رضي الله عنها قالت: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر، وفي سهوتها ستر، فهبت ريح، فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لُعَب، فقال: " ما هذا يا عائشة؟ " قالت: " بناتي"، ورأى بينهن فرسا له جناحان من رقاع، فقال: " ما هذا الذي أرى وسطهن؟ "، قالت: " فرس "، قال: " وما هذا الذي عليه؟ " قالت: " جناحان "، قال: " فرس له جناحان؟ " قالت: " أما سمعت أن لسليمان خيلًا لها أجنحة؟ " قالت: فضحك حتى   (1018) قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري رقم (2468) في المظالم: باب الغرفة والعلية (5/114- 116) ط. السلفية. (1019) " الإحياء" (4/ 720 - 722) . (1020) رواه البخاري (9/285) في النكاح: باب غيرة النساء ووجدهن، وفي الأدب، ومسلم رقم (2439) في فضائل الصحابة: باب في فضل عائشة رضي الله عنها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 رأيت نواجذه) (1021) . وعنها رضي الله عنها قالت: (دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحبشة يلعبون بحرابهم في المسجد في يوم عيد، فقال لي: " يا حُمَيراء (1022) ! أتحبين أن تنظري إليهم؟ "، فقلت: (نعم) ، فأقامني وراءه، فطأطأ لي منكبيه لأنظر إليهم، فوضعت ذقني على عاتقه، وأسندت وجهي إلى خده، فنظرت من فوق منكبيه - وفي رواية: من بين أذنه وعاتقه - وهو يقول: " دونكم يا بني أرفدة "، فجعل يقول: " يا عائشة، ما شبعتِ؟ "، فأقول: " لا "، لأنظر منزلتي عنده، حتى شبعت، قالت: ومن قولهم يومئذ: أبا القاسم طيبا) ، وفي رواية: (حتى إذا مللت، قال: (حسبك؟) ، قلت: " نعم "، قال: "فاذهبي") ، وفي أخرى: (قلت: " لا تعجل"، فقام لي، ثم قال: " حسبك؟ "، قلت: " لا تعجل "، ولقد رأيته يراوح بين قدميه، قالت: " وما بي حب النظر إليهم، ولكن أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي ومكاني منه، وأنا جارية، فاقدروا قدر الجارية العَرِبة الحديثة السن الحريصة على اللهو " (1023) ، قالت: " فطلع عمر، فتفرق الناس عنها، والصبيان "، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " رأيت شياطين الإنس والجن فروا من عمر "، قالت عائشة رضي الله عنها: قال صلى الله عليه وسلم يومئذ: " لتعلم يهود أن في ديننا فسحة " (1024)) .   (1021) رواه أبو داود رقم (4932) في الأدب: باب في اللعب بالبنات، والنسائي " عشرة النساء " رقم (64) ص (94 - 95) ، وقد تقدم برقم (210) . (1022) تصغير الحمراء، يريد البيضاء، كذا في " النهاية " (1/438) . (1023) راجع الحاشية رقم (211) . (1024) رواه البخاري (1/457) في المساجد، والعيدين، وغيرهما، ومسلم رقم (892) في العيدين، والنسائي (3/ 195 - 196) ، وفي هذه الرواية زيادات جمعها العلامة الألباني، وحققها في " آداب الزفاف " طبعة 1405 هـ ص (272 - 275) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 وتقدم عنها رضي الله عنها: (أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وهي جارية، قالت: " ولم أحمل اللحم، ولم أبدِّن (1025) ، فقال لأصحابه: تقدموا "، فتقدموا، ثم قال: " تعالي أسابقك "، فسابقته، فسبقته على رجلي، فلما كان بعد، خرجت معه في سفر، فقال لأصحابه: " تقدموا"، ثم قال: " تعالي أسابقك "، ونسيت الذي كان، وقد حملت اللحم، وبدنت، فقالت: " كيف أسابقك يا رسول الله وأنا على هذه الحال؟ "، فقال: " لتفعلن"، فسابقته، فسبقني، فجعل يضحك، وقال: " هذه بتلك السبقة " (1026) . ويُروى عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: قالت عائشة رضي الله عنها: (كان عندي رسولُ الله وسَوْدَةُ، فصنعتُ خَزِيرا (1027) ، فجئت به، فقلت لسودة: " كُلِي "، فقالت: " لا أحبه "، فقلت: " والله لَتأكلين أو لألطخَنَّ وجهك "، فقالت: " ما أنا بباغية "، فأخذت شيئًا من الصحفَة فلطختُ به وجهها ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما بيني وبينها، فخفض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبتيه لتستقيد مني، فتناوَلَت من الصحفة شيئا، فَمَسَحَت به وجهي، وجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يضحك) (1028) .   (1025) أي: لم أضعف، ولم أكبر، وفي " القاموس": " وبَدن تبدينا: - بشديد الدال - أسن وضعف"، و " بَدُن، بتخفيف الدال من البدانة، وهى كثرة اللحم والسمنة، انظر: " النهاية" (1/107) . (1026) تقدم تخريجه برقم (229) . (1027) الخزير والحزيرة: لحم يقطع ويصب عليه ماء كثير، فإذا نضج ذُر عليه الدقيق. (1028) رواه النسائي في " عشرة النساء" رقم (31) ، وقال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء": (رواه الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة والمزاح، وأبو يعلى بإسناد جيد) اهـ. وانظر: " تخريج أحاديث الإحياء" (4/1681 - 1682) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 وعن الشفاء بنت عبد الله قالت: (دَخَلَ عَلَيَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة، فقال لي: (ألا تعلمين هذه رُقيَةَ النَّمِلَة (1029) كما عَلًمتِيها الكتابة " (1030) . وهذا من لغز الكلام ومزاحه، وذلك أن رقية النملة التي كانت تُعرف بين العرب، هي كلام كانت تستعمله نساؤهم يعلم كل من سمعه أنه كلام لا يضر ولا ينفع، وهي أن يقال: " العروس تحتفل، وتختضب وتكتحل، وكل شيء تفتعل غير أن لا تعصي الرجل "، فأراد صلى الله عليه وسلم بهذا المقال تأنيب حفصة والتأديب لها تعريضا، لأنه ألقى إليها سِرًّا فأفشته (1031) . الوفاء للزوجة بعد مماتها لقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في الوفاء للزوجة حتى بعد موتها، بعد أن ضرب هذا المثل الأكمل في المعاشرة بالمعروف حال حياتها. ومن خبر ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يُثني على أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، ويفضلها على سائر أمهات المؤمنين، ويبالغ في تعظيمها، بحيث أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول: "ما غِرْتُ من امرأة ما غِرْتُ من خديجة (1032) ،   (1029) النمِلَة: بفتح النون وكسر الميم، قروح تخرج في الجنب. (1030) رواه أبو داود رقم (3887) في الطب: باب ما جاء في الرقى، والحاكم (4/414) ، وصححه، ووافقه الذهبي، والإمام أحمد (6/286) ، وابن سعد (8/59) ، والطحاوي في " شرح معاني الآثار" (4/327) ، وابن أبي شيبة في "المصنف" (1/395) ، وسكت عنه أبو داود، والمنذري، وابن القيم في "تهذيب السنن"، وقال الهيثمي في " الزوائد" (ورجاله رجال الصحيح) اهـ (5/112) ، إلا إبراهيم بن مهدى البغدادي المصيصي، وهو ثقة. (1031) انظر: "عون المعبود" (10/ 373 - 374) . (1032) قال الذهبي رحمه الله: (وهذا من أعجب شيء! أن تغار رضي الله عنها من = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 من كثرة ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها " (1033) ، وفي رواية بزيادة: " وما رأيتها قط، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة " (1034) ، وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة لم يكد يسأم من ثناء عليها، واستغفار لها، فذكرها يومَا، فحملتني الغيرة، فقلت: " لقد عَوضَك الله من كبيرة السن! " قالت: فرأيته غضب غضبا أسقِطْتُ في خَلَدي (1035) ، وقلت في نفسي: " اللهم إن أذهبتَ غضبَ رسولك عني لم أعُد أذكرها بسوء "، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما لقيتُ، قال: " كيف قلتِ؟ والله لقد آمنت بي إذ كذبني الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، ورزِقْتُ منها الولد وحرمتموه مني " قالت: " فغدا وراح عَلي بها شهرا " (1036) . وعنها أيضاً رضي الله عنها قالت: (جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو عندي، فقال لها رسول الله   = امرأة عجوز توفيت قبل تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة بمُديدة، ثم يحميها الله من الغيرة من عدة نسوة يشاركنها النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا من ألطاف الله بها وبالنبي صلى الله عليه وسلم لئلا يتكدر عيشُهما، ولعله إنما خفف أمر الغيرة عليها حُبُّ النبي صلى الله عليه وسلم لها، وميلُه إليها، فرضي الله عنها، وأرضاها) اهـ "السير" (2/ 165) . (1033) أخرجه البخاري (7/102) في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها، ومسلم (2435) ، والترمذي (3875) . (1034) رواه البخاري (7/107 - 108) باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها. (1035) الخلد: بالتحريك: البال والقلب والنفس. (1036) نسبه الحافظ في " الإصابة" (12/217 - 218) إلى كتاب " الذرية الطاهرة" للدولابي، وقال محقق "سير أعلام النبلاء": (إسناده حسن) اهـ. (2/112) ، ورواه بنحوه الإمام أحمد (6/117، 118) (وفيها مجالد وهو ضعيف، وبقية رجاله ثقات) كذا في " تحقيق السير"، (2/117) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 صلى الله عليه وسلم: " من أنت؟ "، قالت: " أنا جثامة المزنية "، فقال: " بل أنت حُسَّانة المزنية، كيف أنتم كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟ " قالت: " بخير، بأبي أنت وأمي يا رسول الله "، فلما خرجت، قلت: " يا رسول الله صلى الله عليه وسلم تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ " قال: " إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان " (1037) . وعنها رضي الله عنها قالت: (لما بعث أهل مكة في فداء أساراهم، بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص بقلادة، وكانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى بها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رَق لها رقة شديدة، قال: " إذا رأيتم أن تُطْلِقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها ") (1038) .   (1037) أخرجه الحاكم (1/15-16) ، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، مع أن صالح بن رستم لم يخرج له البخاري إلا تعليقا، قال فيه أحمد: " صالح الحديث " كما نقله الذهبي في " الميزان" (2/294) ، وقال: " وهو كما قال أحمد "، وعزاه الحافظ إلى البيهقي في " الشعب" كما في " الفتح" (10/436) ط. السلفية، وانظر: " إتحاف السادة المتقين" (6/235- 236) . (1038) أخرجه الحاكم (4/44 - 45) من طريق ابن إسحاق حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله ابن الزبير عن أبيه، عنها رضي الله عنها، وصححه، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، فإن ابن إسحاق صرح بالتحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 ثالثًا: حقوق الزوج على زوجته " كن نساء المدينة إذا أردن أن يبنين بامرأة على زوجها، بدأن بعائشة، فأدخلنها عليها، فتضع يدها على رأسها، تدعو لها، وتأمرها بتقوى الله، وحق الزوج " (1039) أم حُمَيد أوجب الله سبحانه وتعالى على الزوجة حقوقًا تجاه زوجها، وألزمها بواجبات إزاء بيتها وأولادها، لكي تستقيم الحياة، وتسعد الأسرة نفصلُها فيما يلي: 1- وجوب طاعة المرأة زوجها في المعروف: على المرأة خاصة أن تطيع زوجها فيما يأمرها به في حدود استطاعتها، وهذه الطاعة أمر طبيعي تقتضيه الحياة المشتركة بين الزوج والزوجة، ولا شك أن طاعة المرأة لزوجها يحفظ كيان الأسرة من التصدع والانهيار، وتبعث إلى محبة الزوج القلبية لزوجته، وتعمق رابطة التآلف والمودة بين أعضاء الأسرة، وتقضي على آفة الجدل والعناد التي تؤدى في الغالب إلى المنازعة، وتعطي الرجل أحقية القِوامة، ورعاية الأسرة بما وهبه الله من خصائص القوة والتعقل، وبما كلفه به من مسؤولية الإنفاق، فإن هذا مما فضل الله به الرجال على النساء، كما في قوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات) أي مطيعات لأزواجهن (حافظات للغيب بما حفظ الله) (النساء: 34) .   (1039) رواه ابن أبي شيبة في " المصنف" (4/305 - 306) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 وقد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة مؤكدة لهذا المعنى، ومبينة بوضوح ما للمرأة وما عليها إذا هي أطاعت زوجها أو عصته: منها: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: (قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " أي النساء خير؟ "، قال: " التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره ") (1040) . ومنها: ما رواه حصين بن مُحصِن قال: (حدثتني عمتي قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الحاجة، فقال: " أي هذه! أذات بعل؟ " قلت: " نعم "، قال: " كيف أنتِ له؟ ". قالت: " ما آلوه (1041) ؛ إلا ما عجزتُ عنه "، قال: " فانظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك " (1042) ، فالزوج هو باب للمرأة إما إلى الجنة في حالة رضاه عنها، أو للنار عند سخطه عليها بالحق، والطاعة لا تكون إلا بالمعروف، أما إذا أمرها بمعصية فلا سمع حينذاك ولا طاعة، لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " (1043) . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: " ولو دعاها الزوج إلى معصية، فعليها أن تمتنع، فإن أدبها على   (1040) رواه النسائي، والحاكم (2/161) ، والإمام أحمد (2/251، 432، 438) ، والبيهقي (7/82) ، وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ العراقي: " سنده صحيح " (1/715) ، وحسنه الألباني في "الصحيحة" رقم (1838) ، وانظر: "عشرة النساء" للنسائي ص (106) . (1041) ما آلوه: أي لا أقصر في طاعته وخدمته. (1042) رواه ابن أبي شيبة (4/304) ، وابن سعد (8/459) ، والإمام أحمد (4/341) ، (6/419) ، والحاكم (2/189) ، والبيهقي (7/291) ، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال المنذري: "رواه أحمد والنسائي بإسنادين جيدين" (3/74) . (1043) تقدم تخريجه برقم (638) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 ذلك، كان الإثم عليه " (1044) اهـ. وفي الحديث التالي - إن صح - جَعَل رسول الله صلى الله عليه وسلم طاعة المرأة زوجها أولى الخصال التي تستحق بها المرأة أن توصف بالصلاح: فمما يُروى عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: " ما استفاد المؤمن - بعد تقوى الله عز وجل - خيرًا له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإِن أقسم عليها أبرَّته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله " (1045) . ولعظم حق الزوج أضاف صلى الله عليه وسلم طاعة الزوج إلى مباني الإسلام كما في الحديث التالي: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا صلت المرأة خَمْسَها، وصامت شهرها، وحصَّنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئتِ) (1046) . فالزوج أولى الناس بالمرأة، ومكانته بالنسبة إليها عالية مقدسة لا يبلغها أحد من أقاربها أبدًا.   (1044) " فتح الباري" (9/304) . (1045) رواه ابن ماجه رقم (1857) في النكاح: باب أفضل النساء، وضعفه الألباني في " المشكاة" رقم (3095) ، وانظرا " الصحيحة" المجلد الثالث ص (455) ، وانظر: " فيض القدير" (5/419) . (1046) رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ابن حبان رقم (1296 - موارد) ، وأحمد رقم (1661) عن عبد الرحمن بن عوف، وأبو نعيم (6/308) عن أنس بن مالك، وقال الألباني: (حديث حسن أو صحيح، له طرق) انظر: " آداب الزفاف " ص (286) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 ولما كانت الصلاة أسمى أنواع العبادات، والسجود فيها ذروتها، فقد اعتبر الشرع مكانة الزوج بالنسبة لزوجته أنها بمستوى سجودها له، وكاد أن يأمرها بالسجود له لولا أنه لا ينبغي السجود لغير الله سبحانه وتعالى. (وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل حائطًا من حوائط الأنصار، فإذا فيه جملان يضربان ويرعدان، فاقترب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما، فوضعا جرَانهما (1047) بالأرض، فقال من معه: " نسجد لك؟ " فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما ينبغي لأحد أن يسجد لأحد، ولو كان أحد ينبغي له أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، لما عظم الله عليها من حقه " (1048) ، وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " قال: " لو كنت آمِرًا أحدا أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمد بيده، لا تؤدي المرأة حق ربها، حتى تؤدي حق زوجها كلَّه، حتى لو سألها نفسها وهي على قَتَب لم تمنعه " (1049) .   (1047) الجرَان: باطن العتق، أي أنهما بركا ومدا عنقهما على الأرض. " النهاية" (1/263) . (1048) أخرجه الترمذي (1/217) ، وابن حبان (1291 - موارد) - واللفظ له - والبيهقي (7/ 291) ، وقال الترمذي: " حسن غريب "، وقال الألباني: " وهو كما قال "، انظر: " الإرواء " (7/54) . (1049) وسبب ورود هذا الحديث أن (معاذًا رضي الله عنه لما قدم من الشام، سجد للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: " ما هذا يا معاذ؟ ! " قال: " أتيت الشام فوافيتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فلا تفعلوا، فإني لو كنت آمرًا.. " فذكر الحديث، أخرجه الإمام أحمد (4/381) ، وابن ماجه (1853) (1/570) ، وابن حبان (1290 - موارد) ، والبيهقي (7/292) ، وحسنه الألباني في " صحيح الجامع" (5/69) ، وراجع الحاشية رقم (627) . وقال ابن الأثير في " النهاية": (القَتَب للجمل كالإكاف لغيره، ومعناه - أي الحديث - الحث لهن على مطاوعة أزواجهن، وأنه لا يَسَعُهُن الامتناع في هذه = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 وعن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يصلح لبشرٍ أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها " (1050) . إن المرأة المسلمة حين تطيع زوجها تكون في طاعة لله، وهي بذلك مأجورة، ولا سيما عندما تكون الطاعة فيما لا توافق عليه، بل إن الطاعة لتتجلى في طاعته فيما تكره، أكثر مما تتجلى في طاعته فيما تحب، إن طاعته في قبول الجواهر النفيسة ليست كطاعته في تنفيذ أمر لا تريده، وكمال الطاعة يتحقق في أن تؤدي الأمر بكل سرور ورضى، أما إذا أذا أدته متبرمة متأففة، يعلو وجهَها العبوسُ وأماراتُ الكراهية والضيق، فإن هذه الطاعة كعدمها، إن إظهارها الرضى والسرور، وإشعار نفسها وزوجها بالقناعة مما يخفف عليها تنفيذ ما تكره (1051) . وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب المرأة في طاعة زوجها، حتى فيما لم يتبين لها فيه المنفعة، أو ما قد تخالف فيه رأي زوجها تقربًا إلى الله ببره ومرضاته:   = الحال، فكيف في غيرها؟ وقيل: إن نساء العرب كُن إذا أردن الولادة جلسن على قتب، ويقال: إنه أسلس لخروج الولد، فأرادت تلك الحالة. قال أبو عبيد: كنا نرى أن المعنى: وهي تسير على ظهر البعير، فجاء التفسير بغير ذلك) اهـ (4/11) . (1050) أخرجه الإمام أحمد (3/158) ، وكذا البزار كما في " مجمع الزوائد" (9/4) وقال: " ورجاله رجال الصحيح غير حفص بن أخي أنس، وهو ثقة " اهـ، وقال المنذري: " رواه أحمد بإسناد جيد، رواته ثقات مشهورون، والبزار بنحوه "، وانظر: " الإرواء" (7/55) . (1051) انظر: " نظرات في الأسرة المسلمة" ص (96) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 فقد رُوي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولو أن رجلا أمر امرأته أن تنقل من جبل أحمر إلى جبل أسود، أو من جبل أسود إلى جبل أحمر لكان نَوْلها (1052) أن تفعل " (1053) . وعن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (أتى رجل بابنته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " إن ابنتي هذه أبت أن تتزوج "، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أطيعي أباك "، فقالت: " والذي بعثك بالحق، لا أتزوج حتى تخبرني ما حق الزوج على زوجته؟ "، قال: " حق الزوج على زوجته أن لو كانت به قَرْحَة فَلَحَسَتْها، أو انتثر مِنْخَراه صديدًا أو دما، ثم ابتلعته، ما أدَت حقه "، قالت: " والذي بعثك بالحق لا أتزوج أبدا " فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تنكحوهن إلا بإذنهن " (1054) .   (1052) نوْلَها: أي حقها، والذي ينبغي لها، وقوله: (من جبل أحمر إلى جبل أسود) الحديث، يعني أحجارَ هذا إلى ذلك، مع أنه أمر شاق، وقد يكون عبثا، وتخصيص اللونين تتميم للمبالغة، لأنه لا يكاد يوجد أحدهما بقرب الآخر، وانظر " المرقاة " (3/471) . (1053) أخرجه ابن ماجه رقم (1852) ، وابن أبي شيبة (4/306) ، والإمام أحمد (6/76) ، من طريق علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، كما في "التقريب" (2/37) وقال البوصيري في " زوائده ": (هذا إسناد ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان،.. وله شاهد من حديث طلق بن علي رواه الترمذي والنسائي، ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث أم سلمة) اهـ. (2/67) ، والحديث ضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" (5/40) . (1054) رواه الحاكم (2/189) مختصرا ولفظه: " حق الزوج على زوجته أن لو كانت به قُرحْة، فلحستها ما أدت حقه "، وصححه، وقال الذهبي في " التلخيص": " بل منكر"، ابن حبان (1289 - موارد) - واللفظ له - وابن أبي شيبة (4/303) ، والدارقطني (3/237) ، والبيهقي (7/291) ، وقال العلامة أبو الطيب شمس الحق في " التعليق المغني": (رواه البزار بإسناد جيد، ورواته = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 وعن معاذ رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو تعلم المرأة حق الزوج، لم تقعُد ما حضر غداؤه وعشاؤه؛ حتى يفرغ منه " (1055) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (يا معشر النساء! لو تعلمن حق أزواجكن عليكن لجعلت المرأة منكن تمسح الغبار عن وجه زوجها بنَحر وجهها) (1056) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرًا: رجل أمَّ قومًا وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأخوان متصارمان) (1057) . وعن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: (اثنان لا تجاوز صلاتهما رءوسهما: عبد أبق من مواليه حتى يرجع إليهم، وامرأة عصت زوجها حتى ترجع) (1058) .   = ثقات مشهورون) اهـ. (3/237) ، وصحح الألباني لفظ الحاكم في "صحيح الجامع" (3/92) . (1055) عزاه الهيثمي في " المجمع" إلى الطبراني في "الكبير"، وقال: " وفيه عبيدة بن سليمان الأغر، لم أعرف لأبيه من معاذ سماعًا، وبقية رجاله ثقات" اهـ. (4/309) ، والحديث صححه الألباني في " صحيح الجامع" (5/61) . (1056) رواه ابن أبي شيبة (4/305) ، والنحر هنا بمعنى القطعة، وقد ذكره ابن الجوزي في " أحكام النساء" ص (72) بلفظ: (عن قدمي زوجها بحر وجهها) . (1057) رواه ابن ماجه رقم (971) ، واللفظ له، وابن حبان (377) ، وقال البوصيرى في " الزوائد" (1/330) : " هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات "، ويشهد له حديث أبي أمامة الذي أخرجه بنحوه الترمذي (2/193) حديث رقم (360) ، وقال: (حسن غريب) . (1058) أخرجه الحاكم (4/173) وسكت عنه هو والذهبي، والطبراني في "الصغير" (1/172) ، وقال المنذري: " إسناده جيد" (3/79) ، وقال الهيثمي: (رواه الطبراني في " الصغير" و " الأوسط "، ورجاله ثقات) "المجمع" (4/313) ، = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 فلتحذر المسلمة المؤمنة أن تكون من أولئك النساء المولعات بمخالفة أزواجهن، فلا تؤمر الواحدة منهن بشيء إلا سارعت إلى مخالفته حتى ولو كان فيه مصلحتها، إن هؤلاء يقعن في سخط الله، ويعرضن حياتهن للدمار، وتدعو عليهن الحور العين: فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه مرفوعًا: (لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلكِ الله، فإنما هو عندك دخيل (1059) يوشك أن يفارقك إلينا) (1060) . وإن الإصرار على مخالفة الزوج يوغر صدره، ويجرح كرامته، ويسيء إلى قوامته، فيبادلها ذلك ممانعة لما تحب، ومخالفة لما ترغب. قال الشنفري الشاعر الجاهلي الصعلوك مخاطبا زوجته: إذا ما جئتِ ما أنهاكِ عنه ... ولم أنكر عليكِ فَطَلقيني فأنت البعلُ يومئذ فقومي ... بسوطك - لا أبا لَكِ - فاضربيني ومن أخلاق المرأة الصالحة أنها تبادر إلى إرضاء زوجها إذا غضب، ولا تنتظر أن يبدأ هو بذلك: ومنها: عن ابن عباس مرفوعًا: (ألا أخبركم برجالكم من أهل الجنة؟ النبي في الجنة، والصِّدِّيق في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والرجل يزور أخاه في ناحية المصر، لا يزوره إلا لله عز وجل، ونساؤكم من أهل الجنة الودود (1061) ........................................   = والحديث حسنه الألباني في " الصحيحة" رقم (288) . (1059) الدخيل: الضيف، والنزيل. (1060) تقدم تخريجه برقم (629) . (1061) الودود: التي تتودد إلى زوجها، وقد وصف تعالى الحور العين في سورة الواقعة بأنهن " عُرُب" جمع "عَرُوب" وهي المرأة المتحببة إلى زوجها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 الولود (1062) العؤود على زوجها (1063) ، التي إذا غضب جاءت حتى تضع يدها في يد زوجها وتقول: لا أذوق غُمْضًا حتى ترضى ") (1064) . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ألا أخبركم بنسائكم في الجنة "؟ قلنا: " بلى يا رسول الله "، قال: " ودود ولود، إذا غضبت أو أسيء إليها، أو غضب زوجها قالت: هذه يدي في يدك، لا أكتحلُ بغُمْض - أي لا أنام - حتى ترضى ") (1065) . أما الفتاة الدَّيِّنة ذات الزوج المتدين القابض على دينه فهي أولى وأولى بأن ترفق بزوجها، ولا تجمع عليه النكد والشقاء في البيت، مع ما يلقى من أعداء الله، وخصوم الدعوة في خارج البيت، وهناك حديث غير قوي وإن كان معناه صحيحًا (1066) يبشرها إن هي أحسنت قيامها بحقوق زوجها بثواب يعدل ثواب الجهاد والفوز بالشهادة في سبيل الله بالنسبة للرجال: وهو ما رُوِى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة إلى   = الولود: ليست بعقيم بل هي كثيرة الولادة، ويعرف في البكر بأقاربها. (1063) وفي لفظ: (قالت: هذه يدي في يدك) أمدها لمصالحتك (لا أكتحل بغمض) أي لا أنام حتى يذهب ما بيننا من خصام، ومعنى هذا أنها سهلة الخلق، لينة العريكة، إذا غضبت لم يطل غضبها، بل تسرع بالرجوع إلى مألوف عادتها - انظر" تمام المنة " لعبد الله بن محمد بن الصديق ص (171-173) . (1064) رواه بنحوه النسائي في "عشرة النساء" رقم (257) ، وذكر الألباني له شواهد يتقوى بها، فانظر: "الصحيحة" رقم (287) ، و "مجمع الزوائد " (8/174) ، و "المعجم الكبير" للطبراني (19/140) ، و "الصغير" (1/47) . (1065) أخرجه الطبراني في "الصغير "، و " الأوسط "، وقال المنذري في الترغيب ": " ورواته محتج بهم في الصحيح إلا إبراهيم بن زياد القرشي، فإني لم أقف له على جرح ولا تعديل، وقد روى هذا المتن من حديث ابن عباس وكعب بن عجرة وغيرهما) اهـ. (3/77) ، وقال " الألباني في "الصحيحة " تحقيق رقم (287) : " لا بأس به في الشواهد، والله أعلم) اهـ. (1066) انظر: " نظرات في الأسرة المسلمة " للدكتور محمد الصباغ حفظه الله ص (97) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: " يا رسول الله، أنا وافدة النساء إليك، هذا الجهاد كتبه الله على الرجال، فإن أصيبوا أجروا، وإن قُتلوا كانوا أحياءً عند ربهم يرزقون، ونحن معشر النساء نقوم عليهم، فما لنا من ذلك؟ "، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أبلغي من لَقِيتِ من النساء أن طاعة الزوج واعترافًا بحقه يعدل ذلك، وقليل منكن من يفعله) (1067) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معلقًا على هذا الحديث: (أي أن المرأة إذا أحسنت معاشرة بعلها كان ذلك موجبًا لرضاء الله وإكرامه لها، من غير أن تعمل ما يختص بالرجال، والله أعلم) (1068) اهـ. قال فضيلة الدكتور محمد بن لطفي الصباغ حفظه الله معلقًا على مبدأ طاعة الزوج فيما لا معصية فيه: (وهذا أمر طبيعي، فإن كان الزواج شركة، وكان الرجل هو صاحب القوامة، فلابد من طاعته فيما يأمر وينهى في حدود الشرع، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ... قد شاعت بين عدد من المثقفات فكرة خاطئة، وهي أن مساواة الرجل بالمرأة تقتضي تحررها نهائيا من طاعته، وهي غلط في مقدمتها ونتيجتها، فمساواة المرأة بالرجل خديعة أطلقها ناس وهم لا يصدقونها، لأن الواقع لا يصدقها، ولو كان ذلك صحيحا، فليس من الضروري أن يترتب عليها عدم الطاعة، لأن طاعة الرئيس لا تعني عدم المساواة بينه وبين مرؤوسيه، وهذه الفكرة هي السبب في هدم بنيان كثير من الأسر اليوم. إن الحياة المشتركة ينبغي أن تكون مبنية على التفاهم والتحاور   (1067) رواه البزار (1474 - كشف الأستار) ، وزاد في " الترغيب " عزوه إلى الطبراني (3/53) ، وزاد في " الدر المنثور" عزوه إلى عبد الرزاق (2/152) ، وقال في " مجمع الزوائد" (4/308) : (فيه رشدين بن كريب، وهو ضعيف) اهـ. (1068) "مجموع الفتاوى" (32/275) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 والتشاور، ولكن القوامة ينبغي أن تكون للرجل كما قال ربنا تبارك وتعالى: (الرجال قوامون على النساء) . وهناك حقيقة لابد أن تعلمها الزوجة المثقفة، وأن تتذكرها دائمًا، وهي أن الرجل السوي لا يحب المرأة المسترجلة التي ترفع صوتها فوق صوته، والتي تشاجره في كل أمر، وتخالفه في كل رغبة، وتسارع إلى رَد رأيه أو ما يقول، إن هذا الرجل - إن لم يطلقها- عاش معها كئيبًا عابسًا كارها، فتكون بذلك قد حرمت نفسها رؤية البهجة المرحة في وجه زوجها ومعاملته، وحرمت بيتها التمتع بالحنان الدافئ.. وهى الخاسرة سواء شُرِّدَ أولادها بالطلاق، وتحطمت نفسيتها بالترمُّل، أم بقيت في بيتٍ تعلوه سحب المصادمات اليومية، والحرائق النزاعية. إن الزوجة الذكية هي التي لا تتخلى عن طبيعتها الرقيقة الهادئة الطيبة، إنها كما صورها الحديث الشريف راعية في بيت زوجها، تصونه، وترعاه، إذا نظر إليها زوجها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته فِى نفسها وماله) (1069) اهـ. تنبيه: حق الزوج عل المرأة أعظم من حق والديها: يروَى عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أي الناس أعظم حقا على المرأة؟ " قال: " زوجها"، قلت: " فأي الناس أعظم حقا على الرجل؟ " قال: " أمه ") (1070) .   (1069) "نظرات في الأسرة المسلمة" ص (71-72) . (1070) رواه الحاكم (4/150) ، (4/175) ، وقال: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه "، وقال المنذري في "الترغيب": (رواه البزار والحاكم، وإسناد البزار حسن) اهـ. (3/53) ، والحديث ضعفه الألباني في " ضعيف الجامع" (1/304) ، وانظر: " مجمع الزوائد" (4/308) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 وقد تقدم خبر (1071) الثلاثة الذين (آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدَت عليهم الغار، فقالوا: " إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله تعالى بصالح أعمالكم، قال رجل منهم: " اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبِقُ (1072) قبلهما أهلًا ولا مالًا، فنأى بي طلب الشجر يومًا) الحديث، والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك في مقام الثناء على هذا الرجل ببر والديه، وتقديم حقهما والإحسان إليهما على الزوجة والأبناء لا سيما عند التعارض، والله أعلم. وقد تقدم من بيان أدلة عظم حق الوالدين ما فيه كفاية، أما عظم حق الزوج على زوجته، وأولويته على حق والديها لا سيما إذا وقع بينهما تعارض، فقد بينه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فقال: (قوله: (فالصالحات قانتات، حافظات للغيب بما حفظ الله) يقتضي وجوب طاعتها لزوجها مطلقًا: من خدمة، وسفر معه، وتمكين له، وغير ذلك كما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث " الجبل الأحمر " وفي " السجود" وغير ذلك؛ تجب طاعة الأبوين؛ فإن كل طاعة كانت للوالدين انتقلت إلى الزوج؛ ولم يبق للأبوين عليها طاعة: تلك وجبت بالأرحام، وهذه وجبت بالعهود) (1073) اهـ. وقال شيخ الإسلام أيضًا: (وليس على المرأة بعد حق الله ورسوله أوجب من حق الزوج) (1074) اهـ. وقال رحمه الله في موضع آخر: ( ... فالمرأة عند زوجها تشبه الرقيق   (1071) تقدم تخريجه برقم (395) . (1072) أي لا أقدم في الشرب قبلهما أهلا، ولا مالا من رقيق وخادم، و"الغبوق" شرب العشي. (1073) "مجموع الفتاوى" (32/260-261) . (1074) "السابق" (32/275) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 والأسير، فليس لها أن تخرج من منزله إلا بإذنه، سواء أمرها أبوها أو أمها أو غير أبويها باتفاق الأئمة. وإذا أراد الرجل أن ينتقل بها إلى مكان آخر مع قيامه بما يجب عليه وحفظ حدود الله فيها، ونهاها أبوها عن طاعته في ذلك: فعليها أن تطيع زوجها دون أبويها؛ فإن الأبوين هما ظالمان؛ ليس لهما أن ينهياها عن طاعة مثل هذا الزوج، وليس لها أن تطيع أمها فيما تأمرها به من الاختلاع منه أو مضاجرته حتى يطلقها: مثل أن تطالبه من النفقة والكسوة والصداق بما تطلبه ليطلقها، فلا يحل لها أن تطيع واحدا من أبويها في طلاقه إذا كان متقيًا لله فيها، ففي السنن الأربعة، وصحيح ابن أبي حاتم عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس (1075) فحرام عليها رائحة الجنة " (1076) ، وفي حديث آخر: " المختلعات والمنتزعات هن المنافقات " (1077) ، وأما إذا أمرها أبواها أو أحدهما بما فيه   (1075) أي من غير حالة شدة تدعوها، وتلجئها إلى المفارقة، كأن تخاف أن لا تقيم حدود الله فيما يجب عليها من حسن الصحبة، وجميل العشرة، لكراهتها له، أو بأن يضارها لتختلع منه- انظر: " فيض القدير " (3/138) . (1076) رواه الترمذي رقم (1186) ، (1187) ، في الطلاق: باب ما جاء في المختلعات، وقال الترمذي: " هذا حديث حسن"، وأبو داود رقم (2226) في الطلاق: باب في الخلع، وابن ماجه رقم (2055) ، والإمام أحمد (5/277) ، والدارمي (2/ 162) ، وابن حبان (1320) ، والبيهقي (7/316) ، وابن أبي شيبة (5/271) ، والحاكم (2/200) ، وقال: " صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حجر، وابن خزيمة كما في " فيض القدير" (3/138) ، وصححه الألباني في " الإرواء" (7/100) . (1077) رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه النسائي (6/186) في الطلاق: باب ما جاء في الخلع، والإمام أحمد (2/414) ، وهو من القليل الذي سمعه الحسن من أبي هريرة رضي الله عنه، وقد صححه الألباني في " الصحيحة" رقم (632) وذكر له شواهد، و" المنتزعات" اللاتي ينتزعن أنفسهن بمالِهن من كنف = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 طاعة الله: مثل المحافظة على الصلوات، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، ونهياها عن تبذير مالها وإضاعته، ونحو ذلك مما أمر الله ورسوله أو نهاها الله ورسوله عنه: فعليها أن تطيعهما في ذلك، ولو كان الأمر من غير أبويها، فكيف إذا كان من أبويها؟ ! وإذا نهاها الزوج عما أمر الله، أو أمرها بما نهى الله عنه: لم يكن لها أن تطيعه في ذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " (1078) ، بل المالك لو أمر مملوكه بما فيه معصية لله لم يجز له أن يطيعه في معصيته، فكيف يجوز أن تطيع المرأة زوجها أو أحد أبويها في معصية؟ ! فإن الخير كله في طاعة الله ورسوله، والشر كله في معصية الله ورسوله) (1079) اهـ. 2- ومن حق الزوج: أن يلي تأديبها- بشروطه- إذا كانت ناشزًا: قال الله تعالى: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلًا إن الله كان عليًّا كبيرًا) (النساء: 34) . ومن هذه الآية الكريمة تستنبط فوائد عظيمة: الأولى: بدأ تبارك وتعالى هذه الآية بقوله عز وجل: (الرجال   = أزواجهن عن غير رضى منهم، وقوله: " هن المنافقات": أي أنها كالمنافقات في أنها لا تستحق دخول الجنة مع من يدخلها أولا، والله تعالى أعلم. (1078) تقدم تخريجه برقم (638) . (1079) " مجموع الفتاوى" (32/263 -264) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 قوَّامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) الآية. فأفادت أن للزوج الحقَّ في تأديب زوجته عند عصيانها أمره، ونشوزها عليه، تأديبًا يراعى فيه التدرج، الذي قد يصل إلى الضرب بشروطه، قال القرطبي رحمه الله في " تفسيره": "اعلم أن الله عز وجل لم يأمر في شيء من كتابه بالضرب صُراحًا إلا هنا وفي الحدود العظام؛ فساوى معصيتهن أزواجهن بمعصية الكبائر، وولى الأزواج ذلك دون الأئمة، وجعله لهم دون القُضاة بغير شهود ولا بينات ائتمانًا من الله تعالى للأزواج على النساء.. " (1080) اهـ. الثانية: ثم ثنى تبارك وتعالى بذكر حال النساء الصالحات، فقال عز من قائل: (فالصالحات قانتات) أي مطيعات لله ثم لأزواجهن (حافظات للغيب بما حفظ الله) فالمرأة الصالحة تؤدى حقوق زوجها التي أعلاها طاعته في المعروف، ولذا فهي لا تحتاج إلى تأديب (1081) ، وأما غير الصالحة التي تخل بحقوق الزوجية، وتعصي زوجها فهي التي تحتاج إلى تأديب. الثالثة: ثم ثلث سبحانه بذكر علاج المرأة الناشز العاصية المتمردة المترفعة على زوجها فقال تعالى: (واللاتي تخافون نشوزهن) قال ابن عباس: تخافون بمعنى تعلمون وتتيقنون، وقيل: هو على بابه، فعليه يُشرع في التأديب إذا ظهرت أمارات النشوز بالفعل أو القول. والنشوز: العصيان؛ مأخوذ من النَّشز، وهو ما ارتفع من الأرض، فالمعنى: أي تخافون عصيانهن وتعاليهن عما أوجب الله عليهن من طاعة   (1080) "الجامع لأحكام القرآن" (5/173) . (1081) وفي مثلها يقال: رأيت رجالًا يضربون نساءهم ... فشُلت يميني حين أضرب زينبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 الأزواج، وقال ابن فارس: ونشزت المرأة استصعبت على بعلها (1082) . ومن أمثلة النشوز: امتناعها منه لغير عذر شرعي، أو خروجها من المنزل بغير إذنه، لا إلى القاضي لطلب الحق منه، أو أن تدخل بيته من يكره دخوله (1083) . الرابعة: اختلف أهل العلم في العقوبات الواردة في هذه الآية الكريمة: هل هي مشروعة على الترتيب أم لا؟ ومنشأ الخلاف اختلافهم في " الواو " العاطفة هل هي لمطلق الجمع وعليه فللزوج أن يقتصر على إحدى العقوبات أيا كانت، وله أن يجمع بينهما- أم أنها تقتضي وجوب الترتيب الذي ورد في الآية؟ وتوسط قوم فقالوا: إنه وإن كان ظاهر العطف في الواو يدل على مطلق الجمع، لكن المراد منه الجمع على سبيل الترتيب لظاهر اللفظ، وذلك أن سياق الآية فيه الترقي والتدرج في التأديب: قال الإمام القاضي أبو بكر ابن العربي رحمه الله تعالى: (من أحسن ما سمعت في تفسير هذه الآية قول سعيد بن جبير، فقد قال: " يعظها، فإن هي قبلت وإلَّا هجرها، فإن هي قبلت وإلا ضربها، فإن هي قبلت وإلا بعث حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، فينظران ممن الضرر، وعند ذلك يكون الخلع " (1084) اهـ.   (1082) انظر: " السابق" (5/170- 171) . (1083) " السابق" (5/172-173) ، ومن صور النشوز ما ذكره شيخ الإسلام النووي رحمه الله حيث قال في: " روضة الطالبين": (فمنه الخروج من المسكن، والامتناع من مساكنته، ومنع الاستمتاع بحيث يحتاج في ردها إلى الطاعة إلى تعب، ولا أثر لامتناع الدلال) اهـ. (7/369) . (1084) " أحكام القرآن" (1/420) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 الخامسة: مراتب التأديب: إذا ظهرت أمارات النشوز، فليبدأ الزوج بالتأديب على النحو التالي: المرتبة الأولى: الوعظ بلا هجر ولا ضرب، لقوله تعالى: (فعظوهن) : أي بكتاب الله؛ فذكروهن ما أوجب الله عيهن من حسن الصحبة، وجميل العشرة للزوج، والاعتراف بالدرجة التي له عليها، وبأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعظيم حق الزوج على زوجته، ووجوب طاعته في المعروف (1085) ، ويقول لها برفق ولين: " كوني من الصالحات القانتات الحافظات للغيب، ولا تكوني من كذا وكذا "، ويذكرها بالموت، والقبر، والدار الآخرة، ويوم الحساب، ويبين لها أن النشوز يستوجب الترقي إلى عقوبة أعلى، ويسقط النفقة، والقَسْمَ مع ضرائرها، فلعلها بعد ذلك أن تبدي عذرًا، أو تتوب عما وقع منها بغير عذر. فإن لم ينفع الوعظ والتذكير بالرفق واللين، فلينتقل إلى: المرتبة الثانية: وهي الهجر في المضجع، لقوله تعالى: (واهجروهن في المضاجع) وذلك بأن يوليها ظهره في المضجع، أو ينفرد عنها بالفراش، ويجوز أيضًا أن يهجرها خارج البيت، وقوله تعالى هنا: (واهجروهن في المضاجع) مطلق، ولم يثبت دليل في تقييده، لكن صَح أن النبي صلى الله عليه وسلم هجر نساءه، واعتزلهن شهرًا (1086) .   (1085) وقد قدمنا جملة صالحة منها في الأرقام من (1040) إلى (1067) . (1086) وذلك فيما أخرجه البخاري في كتاب النكاح: باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم نساءه في غير بيوتهن، (9/300) ، وقد تقدم حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: " أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، لا تقبح الوجه، ولا تضرب - أي الوجه -، ولا تهجر إلا في البيت "، وهذا الحصر في حديث معاوية غير معمول به كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (والجمع بينهما أن ذلك يختلف باختلاف = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 لكن ينبغي ألا يبلغ بالهجر في المضجع أربعة أشهر وهي المدة التي ضرب الله أجلًا عُذْرًا للمُولِي (1087) ، وينبغي أن يقصد من الهجر التأديب والاستصلاح لا التشفي والانتقام والمضارة لذاتها، ولا يهجرها في الكلام أكثر من ثلاثة أيام لقَول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث " (1088) الحديث، إلا لعذر شرعي (1089) . المرتبة الثالثة: وهي الضرب غير المخوف، لقوله تعالى: (واضربوهن) (أ) متى يجوز الضرب؟ (قال ابن عباس رضي الله عنهما: " اهجرها في المضجع، فإن أقبلت، وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضربًا غير مبرَح ". وقال جماعة من أهل العلم: " الآية على الترتيب: فالوعظ عند خوف النشوز، والهجر عند ظهور النشوز، الضرب عند تكرره، واللجاج فيه، ولا يجوز الضرب عند ابتداء النشوز. قال القاضي أبو يعلى: وعلى هذا مذهب أحمد، وقال الشافعي: يجوز ضربها في ابتداء النشوز (1090) ، قال ابن مفلح رحمه الله: (ظاهر المذهب: لا يجوز ضربها عند ابتداء النشوز، لأن المقصود بهذه العقوبات زجرها عن المعصية في المستقبل، فيبدأ بالأسهل فالأسهل) (1091) اهـ.   = الأحوال) ، وانظر: " فتح الباري " (9/300 - 302) . (1087) راجع ص (282) . (1088) رواه البخاري في " الأدب" (10/492) ، ومسلم رقم (2560) وغيرهما. (1089) انظر: " معالم السنن" للخطابي (4/122) ، و"روضه الطالبين" (7/367 -368) . (1090) " زاد المسير" (2/76) . (1091) " المبدع " (7/215) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 (ب) اعلم أن جواز الضرب مقيد بشروط: منها: أن تصر على النشوز والعصيان حتى بعد تدرجه معها في التأديب على النحو الذي سبق ذكره. ومنها: أن يتناسب العقاب مع نوع التقصير، فلا يبادر إلى الهجر في المضجع في أمر لا يستحق إلا الوعظ والإرشاد، ولا يبادر إلى الضرب وهو لم يجرب الهجرة في المضجع، وذلك لأن العقاب بأكثر من حجم الذنب والتقصير ظلم. ومنها: أن يراعي أن المقصود من الضرب العلاج، والتأديب والزجر لا غير، فيراعي التخفيف فيه على أبلغ الوجوه، وهو يتحقق باللكزة ونحوها، أو بالسواك ونحوه، وفي الحديث الذي وصَّى فيه النبي صلى الله عليه وسلم أمته في حجة الوداع، قال: ( ... اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربًا غير مُبَرِّح) (1092) . قال عطاء: قلت لابن عباس: ما الضرب غير المبرح؟ قال: السواك ونحوه (1093) . ويشترط أن يتجنب المواضع المخوفة (1094) كالرأس والبطن، وكذا الوجه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ضرب الوجه نهيا عامُّا، لا يضرب آدميا ولا بهيمة على الوجه، وفي حديث حكيم بن معاوية عن أبيه مرفوعًا:   (1092) تقدم تخريجه برقم (240) . (1093) انظر " الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (5/172) ، " السلسبيل، (2/749) . (1094) قال الإمام النووي رحمه الله: (فإن أفضى إلى تلف، وجب الغرم، لأنه تبين أنه إتلاف لا إصلاح) اهـ. من " روضة الطالبين" (7/368) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 " ولا تضرب" أي الوجه كما تقدم (1095) ، كذلك لا يكسر عظما، ولا يشين عضوًا، ولا يدميها، ولا يكرر الضربة في الموضع الواحد. ومنها: أنها إن ارتدعت، وتركت النشوز، فلا يجوز له بحال أن يتمادى في عقوبتها، أو يتجنى عليها بقول أو فعل، لقوله تعالى: (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلًا) . قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله: (فإن راجعن طاعتكم عند ذلك، وفئن إلى الواجب عليهن، فلا تطلبوا طريقًا إلى أذاهن ومكروههن، ولا تلتمسوا سبيلًا إلى ما لا يحل لكم من أبدانهن وأموالهن بالعلل، وذلك بأن يقول أحدكم لإحداهن، وهي له مطيعة: " إنكِ لست تحبيني "، فيضربها على ذلك أو يؤذيها " (1096) اهـ. وقال سفيان بن عيينة في تفسير قوله تعالى: (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلًا) : "لا تكلفها الحب، لأن قلبها ليس في يدها " (1097) . فإن فعل شيئًا من ذلك وخاصم ففجر، وتعدى حدود الله فيها فهو من الظالمين، قال عز وجل: (تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) ، ولهذا ختم الله عز وجل الآية بقوله: (إن الله كان عليا كبيرًا) وهو كما قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى:   (1095) تقدم برقم (737) . (1096) " تفسير الطبري" (5/69) . (1097) " زاد المسير" (2/76) ، لكن يجتهد في تكلف أسباب المحبة بالتحبب والتودد، قال صلى الله عليه وسلم: " إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه ". ومن هذه الأسباب التهادي قال صلى الله عليه وسلم: " تهادوا تحابوا"، ومنها: إفشاء السلام، قال صلى الله عليه وسلم: " ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم "، ولله در القائل: قد يمكث الناس دهرا ليس بينهُم ... وُد فيزرعه التسليم واللطفُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 " تهديد للرجال إذا بَغوا على النساء من غير سبب، فإن الله العلي الكبير وَلِيُّهن، وهو منتقم ممن ظلمهن، وبغى عليهن " (1098) . الطريقة الفضلى عدم ضرب النساء البتة (ج) اعلم - أصلحك الله - أن الأوْلى والأفضل تركُ الضرب مع بقاء الرخصة فيه بشرطه: فقد اتفق العلماء على أن ترك الضرب، والاكتفاء بالتهديد أفضل، وذلك: - لما رواه إياس بن عبد الله بن أبي ذُباب (1099) ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تضربوا إماء الله "، فأتاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: " يا رسول الله، ذَئِر (1100) النساءُ على أزواجهن، فأذِنَ في ضربهن، فأطاف بآل محمدٍ نساءٌ كثير، كُلهن يشكون أزواجهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد أطاف بآل محمد سبعون امرأةً، كلهن يشتكين أزواجهن، ولا تجدون أولئك خياركم " (1101) ، ورُوِي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ضرب النساء، فقيل: (يا رسول إنهن قد فسدن "، فقال صلى الله عليه وسلم: " اضربوهن، ولا يضرب إلا شراركم " (*) .   (1098) " تفسير القرآن العظيم" (2/259) . (1099) جزء أحمد بن حنبل، والبخاري وابن حبان بأن لا صحبة له، وخالفهم أبو حاتم وأبو زرعة، ورجح قولهما الحافظ ابن حجر كما في " تهذيب التهذيب" (1/389) . (1100) أي: اجترأن ونشزن، والذائر: النًفور، المغتاظ على خصمه، والمستعد للشر. (1101) أخرجه ابن ماجه رقم (1985) ، والدارمي (2/147) ، وأبو داود (2146) ، وصححه ابن حبان (1316) ، والحاكم (2/188، 191) وصححه، ووافقه الذهبي، والبيهقي (7/304، 305) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع " (5/30) . (*) " الطبقات الكبرى" (8/147) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 قال محيي السنة البغوي رحمه الله: (وفي الحديث دليل على أن ضرب النساء في منع حقوق النكاح مباح، ثم وجه ترتيب السنة على الكتاب في الضرب يحتمل أن يكون نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ضربهن قبل نزول الآية، ثم لما ذئر النساء، أذن في ضربهن، ونزل القرآن موافقا له، ثم لما بالغوا في الضرب، أخبر أن الضرب - وإن كان مباحًا على شكاسة أخلاقهن - فالتجمل والصبر على سوء أخلاقهن، وترك الضرب أفضلَ وأجمل، ويُحكى عن الشافعي هذا المعنى) (1102) اهـ. - وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: " ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة قط، ولا خادما، ولا ضرب شيئًا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله) (1103) ، " وقد أمِرَ نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس " (1104) . - وعن لقيط بن صَبِرَةَ أنه وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: " يا رسول الله، إن لي امرأة في لسانها شيء، يعنى البذاء "؟، قال: " طلقها "، قلت: (إن لي منها ولدًا، ولها صُحْبَة "؟، قال: " فَمُرْها (1105) ، يقول: عِظْها، فإن يَكُ فيها خير، فستقبل، فلا تضربنُّ ظعينتك (1106)   (1102) "شرح السنة" (9/187) . (1103) رواه مسلم في " النكاح " (79) ، وابن ماجه (1984) ، والدارمي (2/147) ، وأحمد (6/32، 206، 229، 232، 281) . (1104) رواه البخاري (8/229) في تفسير سورة الأعراف، وأبو داود رقم (4787) . (1105) أي عظها كما في رواية أبي داود. (1106) الظعينة في الأصل الراحلة، وقيل للمرأة ظعينة لأنها تظعن مع الزوج حيثما ظعن، ولأنها تحمل على الراحلة إذا ظعنت، وهو وصف للمرأة في هودجها، ثم سميت بهذا الاسم وإن كانت في بيتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 ضربَكَ أميتكَ " (1107) الحديث، (وفيه إيماء لطيف إلى إباحة الضرب بعد عدم قبول الوعظ، لكن يكون ضربًا غير مبرح كما تقدم) (1108) . وقد قال بعض الفقهاء: إن على الزوج أن يُقَدر أن ينفع الضرب في الإصلاح، وأنه لا يترتب عليه مفسدة أعظم، وفتنة أشد، وإِن عليه أن يراعي أن يكون التأديب فيما بينه وبينها فقط (1109) . وقال ابن الجوزي رحمه الله: (وليعلم الإنسان أن من لا ينفع فيه الوعيد والتهديد لا يردعه السوط، وربما كان اللطف أنجح من الضرب، فإن الضرب يزيد قلب المعرض إعراضا، وفي الحديث: " ألا يستحيي أحدكم أن يجلد امرأته جلد العبد، ثم يضاجعها " (1110) ، فاللطف أولى إذا نفع) (1111) اهـ. وقال فضيلة الدكتور محمد تقي الدين الهلالي رحمه الله تعالى: (أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المرأة ما دامت لم تُدخل بيت زوجها أحدًا يكرهه، ولم تفر منه، ولم تخرج من بيته بغير إذنه، فليس له عليها من الحق أكثر من ذلك، ونفهم من ذلك أنها إن فعلت شيئَا من هذه الأمور، ورأى الرجل أن في إصلاحها أملا، وأنه إذا ضربها ضربًا غير مبرِّح تصلح   (1107) رواه أبو داود (142) ، وصححه ابن حبان (159) ، والحاكم) (4/110، 160) ، ووافقه الذهبي، ورواه الإمام أحمد (4/23، 211) . (1108) "الفتح الرباني" (16/232) . (1109) "آداب الخطبة والزفاف" للدكتور عبد الله ناصح علوان رحمه الله ص (144) . (1110) وذلك لأن المجامعة إنما تستحسن مع ميل النفس، والرغبة في العشرة، والضرب عادة يورث النفرة، والحديث يشير إلى ذمه، فإن كان ولابد فاعلا لنشوزها، فليعاملها معاملة الحرائر، وليكن بالضرب اليسير غير المبرح - أفاد معناه الحافظ في " الفتح " (9/303) . (1111) "أحكام النساء" ص (82) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 حالها، وتعود إلى الاستقامة، جاز له ضربُها بقصد الإصلاح، لا بقصد الانتقام، وأما إذا رأى بخبرته أن الضرب لا يُصْلِحُها، بل يزيدها عنادًا ويفسدها، ويئس من حسن العشرة معها، لم يجز له أن يضربها، وله أن يطلب رد المهر، ويطلقها. ومن المعلوم أن طباع النساء ليست سواء، فبعضهن يصلحها الضرب، وبعضهن يفسدها الضرب، ومقصود الشارع الإصلاح لا الفساد، فقد تكون الزوجة حديثة السن، تحتاج إلى تأديب أبويها، فيتزوج بها رجل عاقل، يقوم مقام والديها في تأديبها إلى أن تكبر، ويكمل عقلها، فهذا هو وجه الضرب المباح، على أن الشارع الحكيم- مع وجود السبب - لم يبح الضرب إلا بعد ألا ينفع الوعظ والهجر، ويؤيد هذا ما جاء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما بال أحدكم يضرب امرأته ضرب الفحل، ولعله يضاجعها من ليلته؟ ! "، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذ كيف يعقل أن يضرب الرجل امرأته، ثم يعانقها، ويقبلها؟ ! ففي ذلك تناقض عظيم، لما يقع من النفور والقضاء على المحبة التي هي روح العشرة الحسنة..) ، ثم قال رحمه الله: ( ... وحسب علمنا وتجاربنا، لا يُصلح الضربُ الممتنعة من فراش زوجها إلا إذا كانت صغيرة أو سفيهة، وأكثر النساء لا يزيدهن الضرب إلا نفورًا، فيأتي بعكس المطلوب، وبدلَ أن يقربها يبعدها، ويزداد الخرق اتساعًا، كما هو مشاهد، وفي حديث أبي داود نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضرب النساء، فذئرت النساء على أزواجهن، قال صاحب اللسان: قال الأصمعي: أي نفرن، ونشزن، واجترأن، فأنت ترى أن هذا الحديث موافق للأحاديث المتقدمة في أن الضرب لا يجوز إلا عند النشوز، ومع ذلك: بعدما جاءت النساء إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم، واشتكين أزواجهن؛ قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 في الذين يضربونهن: " ليس أولئك بخياركم "، وفي الحديث الصحيح: " خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي "، ولذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضرب الناشز، وهى ابنة الجون التي تزوج بها، فلما دنا منها قالت: " أعوذ بالله منك"، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد عذت بمعاذ، الحقي بأهلك " رواه البخاري. فسنته الفعلية عدم ضرب النساء - وإن جاز ضربُهن - والقولية تقدمت في قوله عليه الصلاة والسلام: " ليس أولئك بخياركم "، فالطريقة الفضلى هي عدم ضرب النساء البتة) (1112) اهـ. ولما خطب معاوية بن أبي سفيان وأبو جَهْم رضي الله عنهم فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، ذَكَرَتْ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما أبو جَهْم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فَصُعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد " (1113) الحديث. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يضع عصاه عن عاتقه " قيل: إنه كثير الأسفار، وقيل - وهو أصح- إنه كثير الضرب للنساء، بدليل الرواية الأخرى عند مسلم بلفظ: (وأما أبو جهم فرجل ضَراب للنساء" الحديث، وعليه يحمل وصفه صلى الله عليه وسلم إياه في رواية النسائي: " إنه صاحب شر لا خير فيه "، ورواية الترمذي: " فرجل شديد على النساء ". فتأمل كيف ذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الصفة. (د) ليس من الرجولة: ومما يجدر التنبيه إليه ما شاع من تعسف بعض أهل الجفاء ممن قسا   (1112) " أحكام الخلع في الإسلام" ص (32-36) بتصرف. (1113) رواه مسلم رقم (1480) في الطلاق، وأبو داود رقم (2284) ، والترمذي رقم (1135) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 قلبه، وغلظ طبعه، وساء فهمه من ظلم النساء، وضربهن ضربَ غرائب الإبل وذلك لأتفه الأسباب، وربما تستروا وراء هذا الإذن القرآني بالضرب، ويظن بعضهم أن الرجولة هي الظلم والقهر والاستعلاء، وأن القوامة طوق في عنق المرأة لإذلالها وتسخيرها، إن الزوجة ليست كالبقرة ولا السلعة، متى اشتراها ربها صنع بها ما يشاء كما يتوهم أولئك الظالمون البغاة، إن للمرأة في هذه الحال الحق الكامل في أن تشكوه إلى أوليائها، أو ترفع أمرها إلى الحاكم، لأنها إنسان مكرم داخل في قوله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلًا) الإسراء (70) . وليس حسن معاشرة المرأة أمرا اختياريًّا متروكًا للزوج يفعله أو لا يفعله، بل هو تكليف وواجب. وليس الرفق بها من باب الرفق بالحيوان الأعجم، ولكنه حق لها وواجب على الرجل لأنها مكرمة مثله بالخلق السوي، والصورة الحسنة، والعقل والنطق والتفكير، وحمل الأمانة، فهذه المزايا كلها مشاعة بين الرجل والمرأة، فمن أراد أن يعامل الزوجة معاملة الدابة والسلعة، فقد كفر نعمة الله، واستحق أن يسلط الله عليه من المستعمرين وغيرهم من يعامله بمثل ذلك " كما تدينوا تدانوا" إنها جديرة بالحياة الطيبة التي وعد الله في قوله: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة) أي في الدنيا (ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) أي في الآخرة. فإذا أساء الرجل عشرتها وقهرها وهي مقيمة على طاعته مؤدية لحقوقه فأي حياة طيبة تكون لها؟ وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في كمال الرجولة، وصلابة العزيمة، وقوة الشكيمة، وقد أخذت نفسُه من الحزم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 أوفر نصيب يؤتاه بَشَر، ومع ذلك كان لا يترفع على أهله، ولا يرهبهم من شخصه، شأنه مع أصحابه في خفض الجناح، ولين الجانب، وإكرام الصحبة، وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم ما ضرب بيده امرأة، ولا خادمًا قط (1114) ، وقد قال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) ، وقال تعالى: (واتبعوه لعلكم تهتدون) ، وهو هو القائل صلى الله عليه وسلم: " خير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم. فأين أولئك القساة الغلاظ من قوله تعالى: (إن ربك لبالمرصاد) (الفجر: 14) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: " إني أحرِّجُ عليكم حق الضعيفين: اليتيم والمرأة " (1115) . وقوله صلى الله عليه وسلم: " النساء شقائق الرجال" (1116) . (هـ) آخر الدواء الكَيُّ. يطعن أعداء الإسلام ومطاياهم من المنتسبين إليه، الذين يتظاهرون بتقديس النساء، ويصرحون بعبادتهن؛ ليخدعوهن عن أعراضهن، ويوردوهن موارد الهلكة - يطعنون في هذا الحكم ويتأففون منه، ويعدونه إهانة للمرأة، والجواب: أن القوم يستكبرون مشروعية تأديب الناشز، ولا يستكبرون أن تنشز هي وتترفع على زوجها، فتجعله - وهو رئيس البيت - مرءوسا بل محتقرا، وتصر على نشوزها، وتمشي على غُلَوائها، حتى إنها لا تلين لوعظه، ولا تستجيب لنصحه، ولا تبالي بإعراضه وهجره، ترى كيف يعالجون هذا النشوز؟ وبم يشيرون على أزواجهن أن يعاملوهن به؟   (1114) تقدم برقم (1103) . (1115) تقدم برقم (938) . (1116) تقدم برقم (139) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 لعل الجواب تضمنه قول الشنفري الشاعر الجاهلي المعروف مخاطبًا زوجته: إذا ما جئتِ ما أنهاك عنه ... ولم أنكر عليك فطلقيني فأنت البعل يومئذ فقومي ... بسوطك - لا أبالك - فاضربيني نعم، أذن الإسلام في ذلك بشروط سبق ذكرها، وبينا متى يكون الضرب؟ ولمن يكون؟ إن هذا الإذن علاج ودواء فينبغي مراعاة وقته ونوعه وكيفيته ومقداره، وقابلية المحل، وهو إنما يُلجأ إليه عند الضرورة، لكن أعداء الله يموهون على الناس، ويلبسون الحق بالباطل، إذ ليس التأديب المادي هو كل ما شرعه الإسلام في العلاج، وإنما هو آخر أنواع ثلاثة، مع ما فيه من الكراهة الشرعية التي ثبتت عنه صلى الله عليه وسلم، ومع أنه موجه لنوعية خاصة من النساء أشار إليها القرآن الكريم، فإذا وجدت امرأة ناشز أساءت عشرة زوجها، وركبت رأسها، اتبعت خطوات الشيطان، لا تكف ولا ترعوي عن غَيها واستهتارها بحقوق زوجها، ولم ينجع معها وعظ، ولا هجران، فماذا يصنع الرجل في هذه الحالة؟ هل من كرامة الرجل أن يُهرع إلى طلب محاكمة زوجته كلما نشزت؟ وهل تقبل المرأة أن يهرع زوجها كلما وقعت في عصيان زوجها إلى أبيها أو إلى المحكمة ينشر خبرها على الملأ؟ لقد أمر القرآن الكريم بالصبر والأناة، وبالوعظ والِإرشاد، ثم بالهجر في المضاجع، فإذا لم تنجع كل هذه الوسائل، فآخر الدواء الكي. إن الضرب بالسواك وما أشبهه أقل ضررًا على المرأة نفسها من تطليقها الذي هو ثمرة غالبة لاسترسالها في نشوزها إلى أن يتصدع بنيان الأسرة، ويتمزق شملها، ويتشرد أطفالها، وإذا قيس الضرر الأخف بالضرر الأعظم، كان ارتكاب الأخف حسنًا وجميلًا، وكما قيل: " وعند ذكر العمى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 يُستَحْسَنُ العَوَرُ ". فالضرب طريق من طرق العلاج، ينفع في بعض الحالات مع بعض النفوس الشاذة المتمردة، التي لا تفهم الحسنى، ولا ينفع معها الجميل. العبد يُقْرَعُ بالعَصا ... والحُرُّ تَكْفِيه الإشارة وقال بشار: * الحُرُّ يُلْحَى (1117) والعصا للعبد* وقال ابن دُرَيد: واللوم للحر مقيم رادع والعبد لا يردعه إلا العصا (1118) [إن من النساء، بل من الرجال من لا يقيمه إلا التأديب، ومن أجل ذلك وُضِعت العقوبات، وفتحت السجون. إن مشروعية هذا التأديب لا يستنكرها عقل ولا فطرة حتى نحتاج إلى تأويلها، إنما هي مجرد أمر يُحتاج إِليه في حالة " فساد البيئة "، وغلبة الأخلاق الفاسدة، إذا رأى الرجل أن رجوع المرأة عن نشوزها يتوقف عليه، فإذا صلحت البيئة، وصار النساء يعقلن النصيحة، ويستجبن للوعظ، أو يزدجرن بالهجر فيجب الاستغناء عن الضرب، فلكل حال حكم يناسبها في الشرع، مع أن الأصل هو الرفق بالنساء على كل حال، وتحمل الأذى منهن، والله أعلم. أما هؤلاء الذين يتأففون من حكم الله عز وجل، وشريعته، فهؤلاء قوم لم يعرفوا حياة " الأسرة "، ولم يخبروا واقعها، وما يصادفها في بعض الأحيان من المشكلات، إنما هم قوم متملقون لعواطف بيئة خاصة من النساء يعرفونها هم، ويعرفها الناس جميعًا، يتظاهرون أمام هذه الفئة بالحرص على   (1117) يُلْحَى: أي يُلام، وانظر: " الجامع لأحكام القرآن" (5/174) . (1118) بتصرف من " ماذا عن المرأة؟ " ص (137- 139) ، و" روائع البيان" (1/474 - 476) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 كرامتها وعزتها] ، وقانا الله والمسلمين شرهم. 3- ومن حقه عليها: المتابعة في المسكن: (وكما فرض الله سبحانه وتعالى على الزوج سكنى الزوجة، أوجب عليها بالمقابل " متابعة زوجها في السكن " في الِإقامة معه في المنزل الذي يسكنه، ويُعدُّه من أجلها، وألا تخالف في ذلك، إلى غير مسكن الزوج، وفي هذا يقول تعالى: (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم) (1119) الطلاق (6) ، وهذا الواجب على الزوجة أمر طبيعي، لا غنى عنه لاستقامة الحياة الزوجية، سيما وأن الزوج مكلف بالإنفاق على الأسرة، وأن الزواج يقوم على ركن السكينة النفسية بين كل زوج وزوجته. ومن هنا نجد أن الشريعة تحكم على الزوجة التي لا تتابع زوجها في السكن بأنها ناشزة، وتلزمها بالعودة إلى المتابعة بسلطة القضاء الشرعي. إلا أننا - للأسف - نجد بعض الكاتبين في شئون المرأة يفتعلون النقد لهذا الحكم، ويتنطعون في الطعن فيه، بأن إرغام الزوجة على الرجوع إلى بيت زوجها فيه مساس بكرامتها أو تحقير لشخصيتها، وإجبار لها على غير   (1119) قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله) : قوله تعالى: (وسار بأهله) قيل: فيه دليل على أن الرجل يذهب بأهله حيث شاء، لما له عليها من فضل القوَّامية وزيادة الدرجة إلا أن يلتزم لها أمرًا، فالمؤمنون عند شروطهم، وأحق الشروط أن يُوَفى به ما استحللتم به الفروج) اهـ (13/281) ، وذكر بعض الفقهاء أن للزوج بعد أداء كل المهر المعجل أن يسافر بزوجته إذا كان مأمونا عليها، كما في " الفقه الإسلامي وأدلته " (7/342) ، وانظر " جامع الأصول" (11/532) ، و " فتح الباري" (9/188- 190) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 ما تريد..! هكذا نصب هؤلاء المصلحون- بزعمهم- نصبوا أنفسهم للدفاع عن المرأة، ولكن أية امرأة هذه التي يدافعون عنها؟ هل هي الصالحة المخلصة لواجباتها الزوجية؟ كلا! إنهم يدافعون عن الزوجة الناشزة المتمردة على واجباتها، كأنهم نسوا أن التمرد والنشوز لا يخلو عند الضرورة من قسوة الزجر والردع. على أننا يجب أن نتذكر أن الزوج لو قصر في النفقة أو إعداد السكن، فإن الشارع يعامله بأشد مما يعامل به الزوجة حتى إن من الفقهاء من قال: " إنه يحبس في نفقة زوجه ... ". ئم إن الشريعة لم تلزمها بالمتابعة استبدادًا وإخضاعًا مطلقًا..؟ ! كلا، وإنما تلزم المرأة بالعودة إلى بيت زوجها بعد معاينة السلطة القضائية الشرعية لهذا البيت، والتأكد من أنه مستكمل المرافق، متوفرة فيه وسائل الراحة، مناسب لمركز المرأة الاجتماعي، ولحالة الرجل المادية. فما الذي تريد المرأة بعد هذا، وماذا يبتغي أعداء المتابعة الزوجية؟ هل نجعل للمرأة الحرية المطلقة في أن تسكن مع الزوج أو لا تسكن؟ وهل تبقى بعدئذٍ مرحلة من الفوضى في حياة المجتمع وفي أوضاعه التنظيمية؟ بل هل تجد في طبيعة الحياة على أي مستوى مثل هذا التفلت؟ كلا! ، إن هذا الوضع لفي الغاية القصوى من الفوضى، وضع شاذ لا تقره طبيعة الحياة، في أي مستوى حتى عند الحيوانات بأنواعها السائحة والمتوحشة، وعند الطيور الأهلية والبرية، التي تعيش زوجين زوجين، فإنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 نجد التزام المتابعة أمرًا متقررًا لا لشيء إلا لأنه ضرورة الحياة (1120) . أم يريد هؤلاء أن يلحق الرجل إلى منزل زوجته الناشزة، ويحكم عليه بالمتابعة! وماذا نفعل إذا أصرت الزوجة على استبعاده أيضا؟) (1121) . 4- ومن حقه عليها: أن لا تصوم نفلًا بدون إذنه: إذا كان مقيمًا في البلد غير مسافر، فقد يعرض له فيها ما يتعارض مع صيامها من خدمة وعمل، وإعداد طعام لضيوف، أو حاجة تتنافى مع الصيام. قال النووي رحمه الله: (وسبب هذا التحريم أن للزوج حق الاستمتاع بها في كل وقت، وحقه واجب على الفور فلا يفوته بالتطوع، ولا بواجب على التراخي، وإنما لم يجز لها الصوم بغير إذنه، وإذا أراد الاستمتاع بها جاز ويفسد صومها لأن العادة أن المسلم يهاب انتهاك الصوم بالإفساد، ولا شك أن الأولى له خلاف ذلك إن لم يثبت دليل كراهته،   (1120) ولهذا كانت فرضية المتابعة على الزوجة حكمًا مقررا في كافة القوانين الوضعية، وهذا القانون الفرنسي يقرر (أن الزوج يجب عليه صيانة زوجته، وأن يقدم لها كل ما هو ضروري لحاجات الحياة، في حدود مقدرته وحالته، وأن المرأة في مقابل ذلك ملزمة بطاعة زوجها، وأن تسكن معه في أي مكان يرى صلاحيته لإقامتها) اهـ. وأين هذا من قوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء بما فضل اللَه بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) وقوله عز وجل: (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن) وقوله جل وعلا: (لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها) . (1121) انتهى بتصرف يسير من كتاب (ماذا عن المرأة؟) للدكتور نور الدين عتر ص (125- 127) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 نعم لو كان مسافرًا، فمفهوم الحديث في تقييده بالشاهد يقتضي جواز التطوع لها إذا كان زوجها مسافرًا، فلو صامت وقدم في أثناء الصيام فله إفساد صومها ذلك من غير كراهة، وفي معنى الغيبة أن يكون مريضًا بحيث لا يستطيع الجماع) اهـ. نقله عنه الحافظ في الفتح (1122) . وقال القاري في " المرقاة": (وإنما لم يلحق بالصوم في ذلك صلاة التطوع لقصر زمنها، وفي معنى الصوم الاعتكاف لا سيما على القول بأن الاعتكاف لا يصح بدون الصوم) (1123) اهـ. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه " (1124) . ولما جاءت امرأة صفوان بن المعطل تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمورا ذكرت منها أنه: " يُفَطّرها إذا صامت" فسأله صلى الله عليه وسلم عما قالت، فقال فيما قال: ( ... وأما قولها " يفطرني إذا صمت، فإنها تنطلق فتصوم، وأنا رجل شاب، فلا أصبر) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: " لا تصوم المرأة إلا بإذن زوجها " (1125) الحديث. قال الإمام البغوي رحمه الله تعالى: (قوله: " لا تصوم المرأة، وبعلها شاهد " أي حاضر" إلا بإذنه " وأراد به صيام التطوع، فأما قضاء   (1122) "فتح الباري" (9/296) . (1123) المرقاة (2/533) . (1124) رواه البخاري (9/295) ، والترمذي (1/150) ، والدارمي (2/12) ، وزاد في روايته: (يوما تطوعًا في غير رمضان) ، وابن ماجه (1761) ، والإمام أحمد (2/464) . (1125) أخرجه أبو داود (2459) ، وابن حبان (956) ، والحاكم (1/436) ، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وأقرهما الألباني في " الإرواء" (7/65) ، وأخرجه الإمام أحمد (3/80) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 رمضان، فتستأذنه ما بين شوال إلى شعبان، قالت عائشة: " إن كان ليكون علىَّ صيام من رمضان فلا أستطيع أن أقضيه حتى يأتي شعبان " (1126) ، وهذا يدل على أن حق الزوج محصور بالوقت، وإذا اجتمع مع الحقوق التي يدخلها المهلة، كالحج (1127) ونحوه، قُدم عليها) (1128) اهـ، قال الحافظ: (وفي الحديث أن حق الزوج آكد على المرأة من التطوع بالخير، لأن حقه واجب، والقيام بالواجب مقدم على القيام بالتطوع) (1129) . وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (عن رجل له زوجة تصوم النهار، وتقوم الليل، وكلما دعاها الرجل إلى فراشه تأبى عليه، وتقدم صلاة الليل، وصيام النهار على طاعة الزوج، فهل يجوز ذلك؟) . فأجاب رحمه الله: (لا يحل لها ذلك باتفاق المسلمين، بل يجب عليها أن تطيعه إذا طلبها إلى الفراش، وذلك فرض واجب عليها، وأما قيام الليل، وصيام النهار، فتطوع، فكيف تقدم مؤمنة النافلة على الفريضة؟) (1130) اهـ.   (1126) أخرجه البخاري (4/166) في الصوم، وزاد يحيى بن سعيد في آخره: (تعني الشغل من النبي صلى الله عليه وسلم، أو الشغل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وانظر: " مرقاة المفاتيح " (2/532 - 533) . (1127) وهذا بناء على أن وجوب الحج على التراخي، خلافًا لما عليه فريق من العلماء من أنه على الفور، فانظر تحقيق ذلك في " أضواء البيان" للشنقيطي (5/108 - 126) . (1128) " شرح السنة " (6/203) . (1129) "فتح الباري" (9/296) . (1130) " مجموع الفتاوى" (32/274) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 5- ومن حقه عليها: أن لا تأذنَ لِأحد في بيته إلا بإذنه: عن تميم بن سلمة، قال: (أقبل عمرو بن العاص إلى بيت علي بن أبي طالب في حاجة، فلم يجد عليُّا، فرجع ثم عاد فلم يجده، مرتين أو ثلاًثا، فجاء علي فقال له: أما استطعت إذ كانت حاجتك إليها أن تدخل؟ قال: " نهينا أن ندخل عليهن إلا بإذن أزواجهن ") (1131) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه " (1132) . قال القاري: (" ولا تأذنَ " بالنصب في النسخ المصححة عطفًا على " تصوم"، أي: ولا يحل لها أن تأذن أحدًا من الأجانب أو الأقارب حتى النساء، و " لا " مزيدة للتأكيد، وقال ابن حجر: " يصح رفعه خبرا يراد به النهي، وجزمه على النهي " في بيته" أي في دخول بيته " إلا بإذنه" وفي معناه العلم برضاه) اهـ (1133) . وقال الحافظ في " الفتح": (قوله: " باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه " المراد ببيت زوجها سكنه سواء كان ملكه أو لا) وقال أيضًا: (قوله " ولا تأذن في بيته " زاد مسلم من طريق همام عن أبي هريرة: " وهو شاهد إلا بإذنه " وهذا القيد لا مفهوم له، بل خرج مخرج الغالب، وإلا فغيبة الزوج لا تقتضي الإباحة للمرأة أن تأذن لمن يدخل   (1131) عزاه الألباني للخرائطي في " مكارم الأخلاق "، وقال: " وإسناده صحيح، وقد عزاه السيوطي في " الجامع" للطبراني في " الكبير" من حديث عمرو بلفظ: (نهى عن أن تكلم النساء إلا بإذن أزواجهن) ، انظر " السلسلة الصحيحة " رقم (652) . (1132) تقدم آنفا برقم (1124) . (1133) " مرقاة المفاتيح" (2/533) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 بيته، بل يتأكد حينئذ عليها المنع لثبوت الأحاديث الواردة في النهي عن الدخول على المغيبات أي من غاب عنها زوجها، ويحتمل أن يكون له مفهوم، وذلك أنه إذا حضر تيسر استئذانه، وإذا غاب تعذر، فلو دعت الضرورة إلى الدخول عليها لم تفتقر إلى استئذانه لتعذره، ثم هذا كله فيما يتعلق بالدخول عليها، أما مطلق دخول البيت بأن تأذن لشخص في دخول موضع من حقوق الدار التي هي فيها، أو إلى دار منفردة عن سكنها، فالذي يظهر أنه ملتحق بالأول، وقال النووي: (في هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يفتات على الزوج بالإذن في بيته إلا بإذنه، وهو محمول على ما لا تعلم رضا الزوج به، أما لو علمت رضا الزوج بذلك فلا حرج عليها، كمن جرت عادته بإدخال الضيفان موضعا معدًّا لهم سواء كان حاضرًا أم غائبًا، فلا يفتقر إدخالهم إلى إذن خاص لذلك، وحاصله أنه لابد من اعتبار إذنه تفصيلَا أو إجمالًا - قوله: " إلا بإذنه أي الصريح، وهل يقوم ما يقترن به علامة رضاه مقام التصريح بالرضا؟ فيه نظر) (1134) اهـ. وعن عمرو بن الأحوص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع: " ... ألا وإن لكم على نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا، فحقكم عليهن: أن لا يوطئن فُرُشَكم من تكرهون، ولا يأذَنَّ في بيوتكم لمن تكرهون " (1135) الحديث قال المباركفوري رحمه الله: (" فرشَكم " بالنصب مفعول أول، " من تكرهون " مفعول ثان، أي: من تكرهونه رجلًا كان أو امرأة، قال النووي: " والمختار (1134) "فتح الباري" (9/295 - 296) . (1135) جزء من حديث رواه الترمذي رقم (1163) وقال: " حسن صحيح"، وابن ماجه رقم (1851) ، وفي سنده سليمان بن عمرو بن الأحوص، لم يوثقه غير ابن حبان، وباقي رجاله ثقات، وللحديث شواهد في الصحيحين منها حديث جابر الطويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم وغيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 أن معناه أن لا يَأذنَّ لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم والجلوس في منازلكم، سواء كان المأذون له رجلًا أجنبيا أو امرأة، أو أحدا من محارم الزوجة، فالنهي يتناول جميع ذلك " (1136) ، " ولا يأذَنَّ في بيوتكم لمن تكرهون " هذا كالتفسير لما قبله، وهو عام) (1137) اهـ. وقال السندي في حاشيته على ابن ماجه: ( ... وقال الخطابي: " معناه أن لا يؤذن لأحد من الرجال يدخل، فيحدث إليهن، وكان الحديث من الرجال إلى النساء من عادات العرب، لا يرون ذلك عيبا، ولا يعدونه ريبة، فلما نزلت آية الحجاب، وصارت النساء مقصورات نهي عن محادثتهن والقعود إليهن "، وقوله: " من تكرهون " أي تكرهون دخوله سواء كرهتموه في نفسه أم لا، قيل: المختار منعهن عن إذن أحد في الدخول والجلوس في المنازل سواء كان محرمًا أو امرأة إلا برضاه، والله أعلم) (1138) .   (1136) وباقي عبارة النووي رحمه الله: (وهذا حكم المسألة عند الفقهاء: أنها لا يحل لها أن تأذن لرجل أو امرأة، ولا محرم، ولا غيره في دخول منزل الزوج إلا من علمت أو ظنت أن الزوج لا يكرهه، لأن الأصل تحريم دخول منزل الإنسان حتى يوجد الإذن في ذلك منه، أو ممن أذن له في الإذن في ذلك، أو عرِف رضاه باطراد العرف بذلك ونحوه، ومتى حصل الشك في الرضا، ولم يترجح شيء، ولا وُجِدت قرينة، لا يحل الدخول، ولا الإذن، والله أعلم) اهـ من " شرح النووي لصحيح مسلم " (8/184) . (1137) " تحفة الأحوذي" (8/483 - 484) . (1138) " حاشية السندي على ابن ماجه " (1/569) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 هكذا فلتكن النساء قال الحافظ الذهبي رحمه الله: [روى إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، قال: " لما مرضت فاطمة، أتى أبو بكر فاستأذن، فقال علىُّ: " يا فاطمة، هذا أبو بكر يستأذن عليكِ "، فقالت: " أتحب أن آذن له؟ " قال: " نعم ") . قلت: عملت السنة رضي الله عنها، فلم تأذن في بيت زوجها إلا بأمره. قال: فأذنتْ له، فدخل عليها يترضاها.. حتى رضيت] (1139) اهـ. ورُوِي (أن شريحًا القاضي قابل الشعبي يومًا، فسأله الشعبي عن حاله في بيته، فقال له: " من عشرين عامًا لم أر ما يغضبني من أهلي "، قال له: " وكيف ذلك؟ " قال شريح: " من أول ليلة دخلت على امرأتي، رأيت فها حسنَا فاتنًا، وجالًا نادرًا، قلت في نفسي: فَلْأطَّهَّر وأصلي ركعتين شكرا لله، فلما سلمت وجدت زوجتي تصلي بصلاتي، وتسلم بسلامي، فلما خلا البيت من الأصحاب والأصدقاء، قمت إليها، فمددتُ يدي نحوها "، فقالت: " على رِسلك يا أبا أمية، كما أنت "، ثم قالت: " الحمد لله أحمده وأستعينه، وأصلى على محمد وآله، إني امرأة غريبة لا علم لي بأخلاقك، فبين لي ما تحب فآتيه، وما تكره فأتركه "، وقالت: " إنه كان في قومك من تتزوجه من نسائكم، وفي قومي من الرجال من هو   (1139) " سير أعلام النبلاء " (2/121) ، ورواه ابن سعد في " الطبقات " (8/27) ، وقال الحافظ في " الفتح " (6/139) : (وهو - وإن كان مرسلا - فإسناده إلى الشعبي صحيح) اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 كفء لي، ولكن إذا قضى الله أمرًا كان مفعولًا، وقد ملكت فاصنع ما أمرك به الله، إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، أقول قولي هذا، وأستغفر الله في ولك..! ". قال شريح: (فأحوجتني - والله يا شعبي - إلى الخطبة في ذلك الموضع، فقلت: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأصلي على النبي وآله وأسلم، وبعد: فإنكِ قلت كلامَا إن ثَبَتِّ عليه يكن ذلك حظك، وإن تَدَعِيه يكن حجة عليكِ، أحب كذا وكذا، وأكره كذا وكذا، وما رأيتِ من حسنة فانشريها، وما رأيت من سيئة فاستريها! ". فقالت: " كيف محبتك لزيارة أهلي؟ " قلت: (ما أحب أن يُمِلَّني أصهاري "، فقالت: " فمن تحب من جيرانك أن يدخل دارك فآذن له، ومن تكره فأكره؟ "، قلت: " بنو فلان قوم صالحون، وبنو فلان قوم سوء) ، قال شريح: " فبت معها بأنعم ليلة، وعشت معها حَوْلًا لا أرى إلا ما أحب، فلما كأن رأس الحول جئت من مجلس القضاء، فإذا بفلانة في البيت، قلت: " من هي؟ " قالوا: " ختنك " - أي أم زوجك -، فالتفتت إلي، وسألتني: (كيف رأيت زوجتك؟ " قلت: " خير زوجة "، قالت: " يا أبا أمية إن المرأة لا تكون أسوأ حالَا منها في حالين: إذا ولدت غلامًا، أو حظيت عند زوجها، فوالله ما حاز الرجال في بيوتهم شرا من المرأة المدللة، فأدب ما شئت أن تؤدب، وهذب ما شئت أن تهذب " فمكثت معي عشرين عاما لم أعقب عليها في شيء إلا مرة، وكنت لها ظالما) (1140) .   (1140) انظر: " أحكام النساء " لابن الجوزي ص (134 - 135) ، و " أحكام القرآن " لابن العربي (1/417) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 6- ومن حقه عليها: أن لا تكلم - وهي في بيتها - أحدًا من غير محارمها إلا بإذنه: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (نَهَى عن أن تُكَلَم النساء - يعنى في بيوتهن - إلا بإذن أزواجهن) (1141) ، قال المناوي: " لأنه مظنة وقوع الفاحشة بتسويل الشيطان، ومفهومه الجواز بإذنه، وحمله الولي العراقي على ما إذا انتفت مع ذلك الخلوة المحرمة، والكلام في رجال غير محارم) (1143) اهـ. 7- ومن حقه عليها: أن لا تخرج من بيته بغير إذنه: قال ابن قدامة رحمه الله: (وللزوج منعها من الخروج من منزله إلى ما لها منه بد، سواء أرادت زيارة والديها أو عيادتهما أو حضور جنازة أحدهما، قال أحمد في امرأة لها زوج وأم مريضة: " طاعة زوجها أوجب عليها من أمها إلا أن يأذن لها "، وقد روى ابن بطة في " أحكام النساء " عن أنس أن رجلًا سافر، ومنع زوجته من الخروج، فمرض أبوها، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادة أبيها، فقال لها: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتقي الله، ولا تخالفي زوجك"، فمات أبوها، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حضور جنازته، فقال ها: " اتقي الله، ولا تخالفي زوجك "، فأوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم: " إني قد غفرت لها بطاعة زوجها " (1143)   (1141) عزاه الألباني للخرائطي في " مكارم الأخلاق "، وقال: " إسناده ضعيف"، ويشهد له حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه المتقدم آنفًا برقم (1131) ، وانظر " السلسلة الصحيحة" رقم (652) . (1142) " فيض القدير " (6/349) . (1143) قال الهيثمي في " المجمع" (4/313) : (رواه الطبراني في " الأوسط "، وفيه = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 ولأن طاعة الزوج واجبة، والعيادة غير واجبة، فلا يجوز ترك الواجب لما ليس بواجب، ولا يجوز لها الخروج إلا بإذنه، ولكن لا ينبغي للزوج منعها من عيادة والديها وزيارتهما لأن في ذلك قطيعة لهما، وحملًا لزوجته على مخالفته، وقد أمر الله تعالى بالمعاشرة بالمعروف، وليس هذا من المعاشرة بالمعروف، وإن كانت زوجته ذمية فله منعها من الخروج إلى الكنيسة لأن ذلك ليس بطاعة، ولا نفع، وإن كانت مسلمة، فقال القاضي: له منعها من الخروج إلى المساجد، وهو مذهب الشافعي، وظاهر الحديث يمنعه من منعها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" (1144) ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كانت امرأة لعمر تشهد صلاة الصبح والعِشاء فى الجماعة في المسجد، فقيل لها - أي قال عمر -: " لم تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويَغار؟ "، قالت: " وما يمنعه أن ينهاني؟ "، قال: يمنعه قول رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " (1145)) .   = عصمة بن المتوكل، وهو ضعيف) اهـ. وقال الألباني حفظه الله: (أخرجه الطبراني في الأوسط " (1/169/2) من طريق عصمة بن المتوكل نا زافر عن سليمان عن ثابت البُناني عن أنس بن مالك به، وقال: " لم يروه عن زافر إلا عصمة"، قلت: وهو ضعيف، قال العقيلي في " الضعفاء" ص (325) : " قليل الضبط للحديث، يهم وهما"، وقال أبو عبد الله - يعني البخاري -: " لا أعرفه "، ثم ساق له حديثا مما أخطأ في متنه، وقال الذهبي: " هذا كذب على شعبة"، وشيخه - زافر- وهو ابن سليمان القهستاني- ضعيف أيضًا، قال الحافظ في " التقريب": " صدوق كثير الأوهام") اهـ من " إرواء الغليل " (7/76-77) رقم (2014) . (1144) رواه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما البخاري في " الجمعة "، و " صفة الصلاة"، والنكاح، ومسلم رقم (442) ، في الصلاة، وأبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه رقم (765) في الصلاة، والبغوي في " شرح السنة " (3/438) ، وصححه. رواه البخاري (2/382) فتح - ط. السلفية في الجمعة: باب هل على من لم = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 وروي أن الزبير تزوج عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وكانت تخرج إلى المساجد، وكان غيورًا، فيقول لها: " لو صليت في بيتك؟ " فتقول: " لا أزال أخرج أو تمنعني "، فكره منعها لهذا الخبر (1146) ..) اهـ (1147) . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها) (1148) . وعنه رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنكم " (1149) وفي رواية: " إذا استأذنوكم" (1150) .   = يشهد الجمعة غسل؟ [والمرأة المذكورة هي عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل أخت سعيد بن زيد أحد العشرة، سماها الزهري فيما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عنه قال: (كانت عاتكة بنت زيد عند عمر بن الخطاب، وكانت تشهد الصلاة في المسجد، وكان عمر يقول لها: (والله إنك لتعلمين أني ما أحب هذا"، قالت: " والله لا أنتهي حتى تنهاني"، قال: " فلقد طُعِن عمر وإنها لفي المسجد ") كذا ذكره مرسلا] اهـ. من " فتح الباري " (2/383) . (1146) انظر " الإصابة " (8/12-13) وفيه أن الذي كره منعها عمر رضي الله عنه كما في الأثر السابق، وأن الزبير كان يمنعها، (وقد ذكر أبو عمر في التمهيد أن عمر لما خطبها شرطت عليه أن لا يضربها ولا يمنعها من الحق ولا من الصلاة في المسجد النبوي، ثم شرطت ذلك على الزبير، فتحيل عليها أن كمن لها لما خرجت إلى صلاة العشاء، فلما مرت به ضرب على عَجيزتها، فلما رجعت قالت: إنا لله! فسد الناس! فلم تخرج بعد) اهـ نقلًا من " الإصابة" (8/12) . (1147) "المغني" (7/20-21) . (1148) أخرجه الشيخان كما تقدم آنفا برقم (1144) ، والنسائي - واللفظ له - (2/42) في المساجد. (1149) رواه مسلم في الموضع المتقدم برقم (1144) . (1150) قال النووي: (هكذا وقع في أكثر الأصول "استاذنوكم"، وفي بعضها = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 وذكر بعض أهل العلم أن أمر الأزواج بالإذن لهن في الأحاديث الواردة في ذلك ليس للايجاب، وإنما هو للندب، وكذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن منعهن، قالوا: هو لكراهة التنزيه لا للتحريم، قال ابن حجر: في فتح الباري": (وفيه إشارة إلى أن الإذن المذكور لغير الوجوب، لأنه لو كان واجبا، لانتفى معنى الاستئذان، لأن ذلك إنما يتحقق إذا كان المستأذَن مخيرا في الإجابة أو الرد) (1151) اهـ. وقال النووي في " شرح المهذب ": (فإن منعها لم يحرم عليه، هذا مذهبنا، قال البيهقي: وبه قال عامة العلماء، ويجاب عن حديث: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، بأنه نهي تنزيه، لأن حق الزوج في ملازمة المسكن واجب، فلا تتركه لفضيلة) (1152) اهـ. وقال الإمام أبو إسحاق الشيرازي في " المهذب": (وللزوج منع الزوجة من الخروج إلى المساجد وغيرها، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: " رأيت امرأة أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: يا رسول الله! ما حق الزوج على زوجته؟ قال: حقه عليها أن لا تخرج من بيتها إلا بإذنه، فإن فعلت: لعنها الله، وملائكة الرحمة، وملائكة الغضب، حتى تتوب أو ترجع، قالت: يا رسول الله! وإِن كان لها ظالما؟ قال: وإن كان لها ظالما " (1153) ، ولأن حق الزوج واجب، فلا يجوز تركه لما ليس بواجب،   = " أستاذنكم"، وهذا ظاهر، والأول صحيح أيضا، وعوملن معاملة الذكور لطلبهن الخروج إلى مجلس الذكور، والله أعلم) اهـ من " شرح النووي" (4/162) . واعلم أن في هذه المسألة ومتعلقاتها بحثا طويل الذيل نورده إن شاء الله في القسم الرابع، من هذا الكتاب في باب " أحكام القرار في البيوت" يسر الله إتمامه. (1151) " فتح الباري" (2/348) . (1152) "المجموع شرح المهذب" (4/95) ط. الشيخ زكريا علي يوسف رحمه الله تعالى. (1153) رواه أبو داود الطيالسي بهذا اللفظ، والبيهقي، وقال العراقي في " المغني": = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 ويكره منعها من عيادة أبيها إذا أثقل، وحضور مواراته إذا مات (1154) ، لأن منعها من ذلك يؤدي إلى النفور، ويغريها بالعقوق) اهـ (1155) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إن المرأة (إذا خرجت من داره بغير إذنه فلا نفقة لها ولا كسوة) (1156) ، وقال أيضا رحمه الله:   = (وفيه ضعف) اهـ. ورواه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما البزار (2/178) ، والطيالسي، وابن عساكر (7/368) ، وفيه حسين بن قيس المعروف بحنش، وهو ضعيف، وقد وثقه حصين بن نمير، وبقية رجاله ثقات، كما في " المجمع" (4/307) ، وعزاه المنذري إلى الطبراني في " الترغيب" (3/57-58) ، ولفظه: (أن امرأة من خثعم أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: " يا رسول الله! أخبرني ما حق الزوج على الزوجة؟ فإني امرأة أيم، فإن استطعت، وإلا جلستُ أَيِّمًا "، قال: " فإن حق الزوج على زوجته إن سألها نفسها وهي على ظهر قتب لا تمنعه، وأن لا تصوم تطوعًا إلا بإذنه، فإن فعلت جاعت وعطشت، ولا يقبل منها، ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه، فإن فعلت لعنتها ملائكة السماء، وملائكة الرحمة، وملائكة العذاب "، قالت: " لا جرم لا أتزوج أبدا ") ، وانظر " ضعيف الجامع " (3/100) ، (تخريج أحاديث الأحياء " رقم (1442) . (1154) لكن قال صاحب المهذب في موضع آخر: (ولا يجوز للنساء زيارة القبور لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زُوارتِ القبور) اهـ " المجموع شرح المهذب" (5/280) ، وقد روى ابن ماجه، والبيهقي عن علي رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا نسوة جلوس، فقال: " ما يجلِسُكن؟ "، قلن: " ننتظر الجنازة "، قال: " هل تغسلن؟ " قلن: " لا"، قال: " هل تدلين فيمن يدلي؟، قلن: " لا "، قال: " فارجعن مأزورات غير مأجورات ") ، وروى الشيخان عن أم عطية رضي الله عنها قالت: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت) ، وفيه: (ونهانا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا) ، وذلك لأن خروجهن للمقابر مظنة وسبب لأمور محرمة من الجزع ونحوه، والله تعالى أعلم. (1155) " المجموع شرح المهذب" (15/567- 570) . (1156) " مجموع الفتاوى" (32/281) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 (لا يحل للزوجة أن تخرج من بيتها إلا بإذنه، ولا يحل لأحد أن يأخذها إليه، ويحبسها عن زوجها، سواء كان ذلك لكونها مرضعا، أو لكونها قابلة، أو غير ذلك من الصناعات، وإذا خرجت من بيت زوجها بغير إذنه كانت ناشزة عاصية لله ورسوله؛ ومستحقة للعقوبة) (1157) . 8- ومن حقه عليها: أن تحفظ ماله: المرأة أمينة على مال زوجها، وما يودعه في البيت من نقد أو مؤنة أو غير ذلك، فلا يجوز لها أن تتصرف فيه بغير رضاه، وفي الحديث الشريف: " ... والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسئولة عن رعيتها " (1158) . وقد أشاد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمرأة التي تحنو على زوجها وتشفق عليه وترعى ماله، فقال صلى الله عليه وسلم: " خير نساء ركبن الإبل صالحُ نساء قريش، أحناه على ولد في صِغره، وأرعاه على زوج في ذات يده " (1159) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيُّ النساء خير؟ "، قال: " التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره " (1160) . وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل لها أن تُطْعِمَ من بيته إِلا بإذنه إلا الرطب من الطعام " الحديث، وفيه: " ولا تعطي من بيته شيئا إلا بإذنه، فإن فعلت ذلك كان له الأجر، وعليها   (1157) " السابق". (1158) تقدم تَخريجه برقم (55) . (1159) تقدم تخريجه برقم (429) . (1160) عزاه في " مشكاة المصابيح" إلى النسائي، والبيهقي في " شعب الإيمان"، وقال الألباني في " تحقيق المشكاة": (وإسناده حسن) اهـ. (2/276) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 الوزر" (1161) . وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: " لا تنفق امرأة شيئا من بيت زوجها إلا بإذن زوجها " قيل: " يا رسول الله! ولا الطعام؟ "، قال: " ذاك أفضل أموالنا ") (1162) . وعن سعد قال: " لما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء، قامت امرأة جليلة كأنها من نساء مُضَر، قالت: (يا رسول الله إنا كَلُّ على آبائنا وأبنائنا وأزواجنا، فما يحل لنا من أموالهم؟ "، قال: (الرَّطْبُ تأكلنه وتُهْدِينه " (1163)) . قال البغوي رحمه الله: (" امرأة جليلة" قد يريد به الجسم، وقد يريد به كبير السن، وخص الطعام الرطب بالأكل لما جرت العادة بين الجيرة والأقارب أن يتهادوا بالرطب من الفواكه والبقول لسرعة الفساد إليها دون اليابس الذي يبقى على الادخار.   (1161) رواه أبو داود الطيالسي، والبيهقي، قال الحافظ العراقي: " وفيه ضعف"، انظر: " تخريج أحاديث الإحياء " رقم (1442) ، (1447) ، و " إتحاف السادة المتقين" (5/405) . (1162) أخرجه الترمذي رقم (670) في الزكاة: باب ما جاء في نفقة المرأة من بيت زوجها، وحسنه، وابن ماجه رقم (2295) ، وابن أبي شيبة (6/585) ، والبغوي في " شرح السنة" (6/204) ، والبيهقي (4/193) ، والإمام أحمد (5/267) ، وغيرهم، وحسنه الألباني في " صحيح الترغيب" رقم (935) ، و " صحيح ابن ماجه" (2/31) . (1163) أخرجه أبو داود رقم (1686) في الزكاة: باب المرأة تتصدق من بيت زوجها، والبغوي في " شرح السنة " (6/206) ، وقال محققه: (إسناده جيد) اهـ، وابن أبي شيبة (6/585) ، والحاكم (4/134) ، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 قال رحمه الله: وفي الجملة ليس لأحدهما أن يتناول من مال الآخر، ما يقع به الضنة دون إذنه) (1164) اهـ. وقال الحافظ ابن حجر: (المراد بالرطب: ما يتسارع إليه الفساد، فأذن فيه بخلاف غيره، ولو كان طعامًا، والله أعلم) (1165) اهـ. وفي " شرح السنة ": (وقد روى عَن عطاء، عن أبي هريرة في المرأة تصدق من بيت زوجها، قال: " لا، إلا من قوتها والأجر بينهما، ولا يحل لها أن تصدق من مال زوجها إلا بإذنه (1166) ، والعمل على هذا عند عامة أهل العلم أن المرأة ليس لها أن تتصدق بشيء من مال الزوج دون إِذنه، وكذلك الخادمُ، ويأثمان إن فعلا ذلك) (1167) اهـ. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غيْر مفْسِدَة، كان لها أجرُها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك، لا يُنقِصُ بعضُهم أجر بعض شيئًا " (1168)) . قال البغوي رحمه الله: (وحديث عائشة خارج على عادة أهل الحجاز أنهم يطلقون الأمر للأهل والخادم في الإنفاق والتصدق مما يكون في البيت إذا حضرهم السائل، أو نزل بهم الضيف، فحضهم على لزوم تلك العادة،   (1164) "شرح السنة" (6/206) . (1165) "فتح الباري" (9/297) ط. السلفية. (1166) رواه أبو داود رقم (1688) في الزكاة، وفيه عنعنة ابن جريج، وباقي رجاله ثقات. (1167) "شرح السنة" (6/205) . (1168) رواه البخاري (3/240) في الزكاة: باب أجر المرأة إذا تصدقت..، وفي البيوع، ومسلم رقم (1024) في الزكاة: باب أجر الخازن الأمين..، وأبو داود رقم (1685) ، والترمذي رقم (671) ، (672) ، والنسائي (5/65) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 كما قال لأسماء: " لا توعي فيوعى عليك " وعلى هذا يخرج ما روي عن عمير مولى آبي اللحم قال: كنت مملوكًا، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتصدق من مال مَوالِي بشيء؟ قال: " نعم، والأجر بينكما نصفان " (1169) اهـ. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها من غير أمره فله نصف الأجر " (1170) . وتقييده بقوله: " من غير أمره " قال النووي رحمه الله: (معناه من غير أمره الصريح في ذلك القدر المعين، ويكون معها إذن عام سابق متناول لهذا القدر وغيره، وذلك الإذن الذي قد " ... " (*) سابقًا إما بالصريح وإما بالعرف، ولابد من هذا التأويل لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الأجر مناصفة، وفي رواية أبي داود: " فلها نصف أجره، ومعلوم أنها إذا أنفقت من غير إذن صريح ولا معروف من العرف فلا أجر لها بل عليها وزر، فتعين تأويله) ، ثم قال: (واعلم أن هذا كله مفروض في قدر يسير يعلَم رضا المالك به في العادة، فإن زاد على المتعارف لم يجز، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة " فأشار إلى أنه قدر يعلم رضا الزوج به في العادة) قال: (ونبه بالطعام أيضا على ذلك لأنه يسْمَحُ به في العادة، بخلاف الدراهم والدنانير في حق أكثر الناس، وفي كثير من الأحوال) (1171) اهـ. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: (ويحتمل أن يكون المراد بالتصنيف في حديث الباب الحمل على المال الذي يعطيه الرجل في نفقة   (1169) رواه مسلم رقم (1025) في الزكاة: باب ما أنفق العبد من مال مولاه. (1170) رواه البخاري (4/255) في البيوع: باب قوله تعالى: (أنفقوا من طيبات ما كسبتم) وفي النفقات، ومسلم رقم (1026) في الزكاة: باب أجر الخازن الأمين، وأبو داود رقم (1687) ، في الزكاة. (*) بياض بالأصل. (1171) " شرح النووي" (7/112 - 113) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 المرأة، فإذا أنفقت منه بغير علمه كان الأجر بينهما: للرجل لكونه الأصل في اكتسابه، ولكونه يؤجر على ما ينفقه على أهله كما ثبت من حديث سعد ابن أبي وقاص وغيره، وللمرأة لكونه من النفقة التي تختص بها، ويؤيد هذا الحمل ما أخرجه أبو داود عقب حديث أبي هريرة هذا قال في المرأة تصدق من بيت زوجها؟ قال: " لا، إلا من قُوتِها، والأجر بينهما "، ولا يحل لها أن تصدق من مال زوجها إلا بإذنه) (1172) اهـ. هل للمرأة حرية التصرف في مالها بدون إذن زوجها؟ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو مرفوعا: " لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها " (1173) ، وقد ورد الحديث نفسه بلفظ: " لا يجوز لامرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عِصمتها " (1174) . وعن عبد الله بن يحيى الأنصاري - رجل من ولد كعب بن مالك - عن أبيه عن جده: (أن جدته خيرة امرأة كعب بن مالك أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلي لها، فقالت: " إني تصدقت بهذا"، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها، فهل استأذنتِ كعبًا؟ "، قالت: " نعم"، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كعب بن مالك، فقال: " هل أذنت   (1172) " فتح الباري" (9/297) ط. السلفية. (1173) رواه الإمام أحمد رقم (6681) ، والطيالسي (2267) ، وأبو داود رقم (3547) في البيوع، والنسائي (5/65، 66) في الزكاة، (6/278) في العمرى، والبيهقي (6/278) ، وصححه العلامة أحمد شاكر في " تحقيق المسند" (11/17) . (1174) رواه الإمام أحمد رقم (7058) ، وأبو داود رقم (3546) في البيوع، النسائي (6/278) بلفظ " هبة " بدل " أمر "، والحاكم (2/47) ، وصححه، ووافقه الذهبي، والبيهقي (6/60) ، وصححه العلامة أحمد شاكر رحمه الله في "تحقيق المسند" (12/17-18) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 لخيرة أن تتصدق بحُلِيها؟ " فقال: " نعم "، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها) (1175) . قال الخطابي في قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها ": (عند أكثر الفقهاء هذا على معنى حسن العشرة، واستطابة نفس الزوج بذلك، إلا أن مالك بن أنس قال: " تَرُدُ ما فعلت من ذلك حتى يأذن الزوج "، وقد يحتمل أن يكون ذلك في غير الرشيدة، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للنساء: " تصدقن "، فجعلت المرأة تلقى القرط والخاتم، وبلال يتلقاها بكسائه (1176) ، وهذه عطية بغير إذن أزواجهن) (1177) انتهى. وقال السندي رحمه الله: (ونقل عن الشافعي أن الحديث ليس بثابت، وكيف نقول به والقرآن يدل على خلافه ثم السنة ثم الأثر ثم المعقول؟ ويمكن أن يكون هذا في موضع الاختيار مثل: " ليس لها أن تصوم وزوجها حاضر إلا بإذنه " فإن فعلت جاز صومها، وإن خرجت بغير إذنه فباعت، جاز بيعها، وقد أعتقت ميمونة قبل أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعب ذلك عليها، فدل هذا مع غيره على أن هذا الحديث إن ثبت فهو محمول على الأدب والاختيار. وقال البيهقي: إسناد هذا الحديث إلى عمرو بن شعيب صحيح، فمن   (1175) رواه ابن ماجه رقم (2389) ، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " (2/403) ، قال الطحاوي: "حديث شاذ لا يثبت"، وقال ابن عبد البر: (إسناده ضعيف لا تقوم به الحجة "، وصححه الألباني في " صحيح ابن ماجه" رقم (1935) . (1176) انظر تخريجه في " القسم الثالث " ص (356) . (1177) نقله عنه في " عون المعبود " (9/463) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 أثبت عمرو بن شعيب لزمه إثبات هذا إلا أن الأحاديث المعارضة له أصح إسنادًا، وفيها وفي الآيات التي احتج بها الشافعي دلالة على نفوذ تصرفها في مالها دون الزوج، فيكون حديث عمرو بن شعيب محمولا على الأدب والاختيار، كما أشار إليه الشافعي، والله تعالى أعلم) (1178) اهـ. وقال الشوكاني رحمه الله معلقًا على نفس الحديث: (وقد استدل بهذا الحديث على أنه لا يجوز للمرأة أن تعطي عطية من مالها بغير إذن زوجها ولو كانت رشيدة، وقد اختُلِفَ في ذلك: - فقال الليث: لا يجوز لها ذلك مطلقًا لا في الثلث، ولا فيما دونه إلا في الشيء التافه. - وقال طاوس ومالك: إنه يجوز لها أن تعطي مالها بغير إذنه في الثلث لا فيما فوقه، فلا يجوز إلا بإذنه. - وذهب الجمهور إلى أنه يجوز لها مطلقا من غير إذن من الزوج إِذا لم تكن سفيهة، فإن كانت سفيهة لم يجز، قال في " الفتح ": " وأدلة الجمهور من الكتاب والسنة كثيرة " انتهى. وقد استدل البخاري في صحيحه على جواز ذلك بأحاديث ذكرها في باب هبة المرأة لغير زوجها من كتاب الهبة، ومن جملة أدلة الجمهور حديث جابر (1179) المذكور قبل هذا، وحملوا حديث الباب على ما إذا كانت سفيهة غير رشيدة، وحمل مالك أدلة الجمهور على الشيء اليسير، وجعل حَده الثلثَ فما دونه. ومن جملة أدلة الجمهور الأحاديث المتقدمة في أول الباب (1180)   (1178) "حاشية السندي على سنن النسائي" (6/279) . (1179) تقدمت الإشارة إليه آنفا برقم (1176) . (1180) الإشارة هنا إلى نفس الأحاديث المتقدمة بالأرقام (1163) ، (1168) ، = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 القاضية بأنه يجوز لها التصدق من مال زوجها بغير إذنه، وإذا جاز لها ذلك في ماله بغير إذنه، فبالأولى الجواز في مالها؛ والأولى أن يقال: " يتعين الأخذ بعموم حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وما ورد من الواقعات المخالفة له تكون مقصورة على مواردها، أو مخصصة لمثل من وقعت له من هذا العموم، وأما مجرد الاحتمالات فليست مما تقوم به حجة " (1181) اهـ. وبنحو هذا الذي رجحه الشوكاني رحمه الله قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في" سلسلة الأحاديث الصحيحة" معلقًا على حديث وائلة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس للمرأة أن تنتهك شيئًا من مالها إلا بإذن زوجها " (1182) : (وهذا الحديث رقم (775) ، وما أشرنا إليه مما في معناه يدل على أن المرأة لا يجوز لها أن تتصرف بمالها الخاص بها إِلا بإذن زوجها، وذلك من تمام القوامة التي جعلها ربنا تبارك وتعالى له عليها، ولكن لا ينبغي للزوج - إذا كان مسلمًا صادقًا - أن يستغل هذا الحكم، فيتجبر على زوجته، ويمنعها من التصرف في مالها فيما لا ضير عليهما منه، وما أشبه هذا الحق بحق ولي البنت التي لا يجوز لها أن تزوج نفسها بدون إذن وليها، فإذا أعضلها رفعت الأمر إلى القاضي الشرعي لينصفها، وكذلك الحكم في مال المرأة إذا جار عليها زوجها، فمنعها من التصرف الشروع في مالها، فالقاضي ينصفها أيضًا، فلا إشكال على الحكم نفسه، وإنما الإشكال في سوء التصرف به، فتأمل) (1183) اهـ.   = (1169) ، (1170) . (1181) "نيل الأوطار" (6/22) (1182) عزاه الألباني في " الصحيحة " رقم (775) إلى تمام في" الفوائد "، وعزاه السيوطي للطبراني في " الكبير"، وقال المناوي: (قال الهيثمي: وفيه جماعة لم أعرفهم) اهـ، وصححه الألباني لشواهده. (1183) " سلسلة الأحاديث الصحيحة " (2/338) حديث رقم (775) ، وانظر: = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 9- ومن حقه عليها أن لا تطالبه مما وراء الحاجة، وما هو فوق طاقته، فترهقه من أمره عسرًا، بل عليها أن تتحلى بالقناعة، والرضى بما قسم الله لها من الخير. فيجب على الزوجة أن تقدر طاقة زوجها المالية، وتقتصد في ماله، فلا تهدره بطرًا وبغير حق، ولا ترهقه بطلباتها غير الضرورية من متاع الدنيا خصوصا إذا فاقت إمكاناته، فذلك يزعجه ويؤلمه، لأنه لا يستطيع تحقيق هذه المطالب، ويعز عليه أن يظهر أمام زوجته بمظهر العاجز الذي لا يملك تنفيذ ما تطلب. وعليها أذ تصحب زوجها بالقناعة، فلا تتطلع إلى ما عند الغير، ولا تحاكي أترابها من نساء الأقارب والجيران والمعارف في اقتناء الكماليات، بل عليها أن توجه مال الله للبذل في سبيل الله عز وجل ليكون رصيدًا لهما يوم القيامة. وعليها أن تتأسى بأمهات المؤمنين رضي الله عنهن، فقد كانت حياتهن كفافًا، وربما خلت بيوتهن من الطعام، ولقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا من الضوابط ما يأخذ نفوسنا بالقناعة، حين أمرنا أن ننظر إلى من هو أقل منا عيشا، وأضيق رزقا، لأن ذلك يبعثنا على شكر النعمة التي غمرنا الله بها، ويُقَوي فينا الشعور بالرضا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم " (1184) ، وهذا في حظوظ الدنيا، أما في الدين فإن المسلمة مأمورة بعلو الهمة، والتنافس في الخيرات، والاجتهاد في الصعود إلى مستوى من هو أرقى وأرفع منزلة، وهل في عالم   = " فيض القدير " (5/378) . (1184) انظر تخريجه في " القسم الثالث " ص (173-174) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 النساء منذ خلقه الله إلى اليوم مَن تُسامي أمهات المؤمنين وبنات رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساء المهاجرين والأنصار، هيهات هيهات، ومع ذلك كانت حياتهن كفافًا، وربما خلت بيوتهن من الطعام. فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: " ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين متتابعين حتى قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم (1185) . وعن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: "والله يا ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار "، قلت: يا خالة، فما كان يُعيشُكم؟ قالت: " الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، وكانت لهم منائح (1186) ، فكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقيناه " (1187) . قال فضيلة الدكتور محمد الصباغ حفظه الله: (إن القناعة سبب السعادة.. فالغنى غنى النفس.. وإذا ترك المرء نفسه على سجيتها لا يشبعها شيء، كما قال الهذلي: والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع وكما قال البوصيري: والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أن لابن آدم واديًا من ذهب لتمنى أن يكون له اثنان ولن يملأ   (1185) رواه البخاري (9/549) ط. السلفية في الأطعمة، والرقاق (11/282) ، ومسلم واللفظ له رقم (2970) في الزهد. (1186) منايح: جمع منيحة: وهى الشاة والناقة يعطيها صاحبها، يُشرَب لبنُها، ثم يردها. (1187) رواه البخاري (11/283) في الرقاق، ومسلم رقم (2972) في الزهد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 عينه إلا التراب ويتوب الله على من تاب " (1188) . ومن هنا أشار رسول الله إلى أن الإنسان الذي ينظر إلى من كان فوقه في الدنيا يزدرى نعمة الله عليه. وقال بعض الصالحين: " يا ابن آدم إذا سلكت سبيل القناعة فأقل شيء يكفيك، وإلّا فإن الدنيا وما فيها لا تكفيك ". إن القناعة تضفي على النفس الرضى والسعادة والطمأنينة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ارض بما قسم الله لك تكن أسعدَ الناس (1189) . ولقد قال الله تبارك وتعالى مخاطبًا نبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم: (ولا تمدّن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى) (طه: 131) . وقال تعالى: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض، للرجال نصيب ممّا اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله، إن الله كان بكل شيء عليمًا (النساء: 32) في هذه الآية نهي عن التمني، وتبيان للنهج السليم، وهو أن يسأل الله من فضله، فخزائنه لا تنفد، وعطاؤه لا حد له. وقد قصَّ علينا القرآن الكريم قصة قارون، وهي قصة مليئة بالمواعظ   (1188) رواه بنحوه البخاري (6439) في الرقاق: باب ما يتقى من فتنة المال، ومسلم رقم (1048) في الزكاة من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (1189) رواه بنحوه الترمذي رقم (2305) وقال: (حديث غريب، والحسن لم يسمع من أبي هريرة شيئا) ، والطبراني في " الصغير" (2/104) ، والإمام أحمد (2/310) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وضعفه الألباني في " تخريج أحاديث مشكلة الفقر" رقم (17) ص (20) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 والدروس النافعات: (فخرج على قومه في زينته. قال الذين يريدون الحياة الدنيا: يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون، إنه لذو حظ عظيم. وقال الذين أوتوا العلم: ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحًا، ولا يلقاها إلا الصابرون. فخسفنا به وبداره الأرض، فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون: ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، لولا أن منِّ الله علينا لخسف بنا، ويكأنه لا يفلح الكافرون) (القصص: 79 - 82) . فلندع المقارنات والموازنات الفارغة، ولنرض بما قسم الله لنا بعد أن نستفرغ الجهد ونبذل الطاقة في تحصيل ما كتب الله لنا من الرزق الحلال، ففي ذلك سعادتنا في الدنيا ونجاتنا في الآخرة يوم يقوم الناس لرب العالمين) (1190) اهـ. إن المرأة في هذا العصر - إلا من رحم الله - قد راحت تعبد المظاهر، وتستهويها الزخارف، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن تعلق النساء بالمظاهر والزينة من حرير وحُلي سبب للهلاك في الدنيا والآخرة: أما في الدنيا: فعن أبي سعيد رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم خطب خطبة فأطالها، وذكر فيها أمر الدنيا والآخرة، فذكر أن أول ما هلك بنو إسرائيل أن امرأة الفقير كانت تكلفه من الثياب أو الصيغ - أو قال: من الصِّيغة - ما تُكلِّف امرأة الغني) (1191) الحديث. وأما في الآخرة: فإن انشغال المرأة بالحرير والذهب عن طاعة ربها   (1190) " نظرات في الأسرة المسلمة" بتصرف ص (112-114) . (1191) رواه ابن خزيمة في " التوحيد" ص (208) ، وقال الألباني: " إسناده صحيح على شرط مسلم " في السلسلة الصحيحة " رقم (591) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 يعوقها عن السمو إلى المنازل العليا في الجنة. يروى عن أبي أمامة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أريتُ أني دخلت الجنة فإذا أعالي أهل الجنة فقراء المهاجرين وذراري المؤمنين، وإذا ليس فيها أحد أقل من الأغنياء والنساء، فقيل لي: أما الأغنياء فإنهم على الباب يحاسبون ويمحصون، وأما النساء فألهاهن الأحمران: الذهب والحرير " (1192) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ويل للنساء من الأحمرين: الذهب والمعصفر " (1193) ، ومع أنه صلى الله عليه وسلم أباح الذهب والحرير للنساء غير أنه صلى الله عليه وسلم: " كان يمنع أهله الحلية، والحرير، ويقول: " إن كنتم تحبون حلية الجنة وحريرها، فلا تلبسوها في الدنيا " (1194) ، ولعل ذلك مخصوص بهن ليؤثروا الآخرة على الدنيا. 10- ومن حقه عليها أن تشكر له ما يجلب لها من طعام وشراب وثياب وغير ذلك مما هو في قدرته، وتدعو له بالعِوض والإخلاف، ولا تكفر نعمته عليها: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:   (1192) عزاه في " الترغيب والترهيب" إلى أبي الشيخ ابن حبان وغيره من طريق عبيد الله بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه (3/101) . (1193) أخرجه ابن حبان (1464) ، والديلمي في " الفردوس " (5/115) ، وقال الألباني في " الصحيحة" رقم (339) : (وهذا إسناد جيد) اهـ. ونقل المناوي في " الفيض" عن "مسند الفردوس": (يعني يتحلين بحلي الذهب، ويلبسن الثياب المزعفرة، ويتبرجن متعطرات متبخترات كأكثر نساء زماننا، فيفتن بهن) اهـ (6/368) . (1194) أخرجه النسائي (8/156) ، وابن حبان (1463) ، والحاكم (4/191) ، والإمام أحمد (4/145) ، وصححه الألباني في " الصحيحة" رقم (338) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 " لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها، وهي لا تستغني عنه " (1195) . إن مجرد تناسي الزوجة فضل زوجها وجحوده، قد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كفرَا، وجعله الله سببا لدخول فاعلته نار جهنم: فعن أسماء ابنة زيد الأنصارية رضي الله عنها قالت: (مرَّ بي النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا في جوار أتراب لي، فسلم علينا، وقال: " إياكُن وكُفْرَ المنعمين "، فقلت: يا رسول الله وما كفر المنعَّمين؟ " قال: " لعل إحداكن تطولُ أيمَتُها من أبويها، ثم يرزقها الله زوجًا، ويرزقها منه ولدا، فتغضب الغضبة فتكفر، فتقول: مارأيت منكَ خيرًا قط " (1196) . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للنساء: " يا معشر النساء تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار "، فقلن: " وبم ذلك يا رسول الله؟ "، قال: " تكثرن اللعن، وتكفرن العشير " (1197) الحديث. 11- ومن حقه عليها: خدمته، وتدبير المنزل، وتهيئة أسباب المعيشة به: من طبخ وكنس وفرش وتنظيف للأواني، وذلك لتدع للرجل فرصة   (1195) قال المنذرى: (رواه النسائي والبزار بإسنادين رواة أحدهما رواة الصحيح، وقال الحاكم: " صحيح الإسناد" اهـ (3/78) ، وقال الهيثمي: (رواه البزار بإسنادين والطبراني وأحد إسنادي البزار رجاله رجال الصحيح) اهـ (4/309) ، وقد صححه الإمام عبد الحق الأشبيلي بسكوته عليه في " الأحكام الكبرى" وإيراده إياه في " الأحكام الصغرى" التي خصها بالحديث الصحيح - وصححه الألباني في " السلسلة الصحيحة، رقم (289) . (1196) أخرجه البخاري في " الأدب المفرد" (1048) ، وقال الألباني: " إسناده جيد" كما في " الصحيحة" رقم (823) . (1197) أخرجه البخاري (3/325) ط. السلفية في الزكاة: باب الزكاة على الأقارب، والعشير: الزوج المعاشر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 للعلم والعمل، فإن المرأة الصالحة عون على الدين بهذه الطريق، ولذلك قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: " الزوجة الصالحة ليست من الدنيا، فإنها تفرغك للآخرة " (1198) . وعن حصين بن محصن قال: (حدثتني عمتي قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الحاجة، فقال: " أي هذه! أذاتُ بعل "؟ قلت: " نعم"، قال: " كيف أنت له؟ " قلت: " ما آلوه (1999) إلا ما عجزت عنه "، قال: " فانظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك " (1200) . قال محدث الشام ناصر الدين الألباني: (قلت، والحديث ظاهر الدلالة على وجوب طاعة الزوجة لزوجها، وخدمتها إياه في حدود استطاعتها، ومما لا شك فيه أن من أول ما يدخل في ذلك الخدمة في منزله، وما يتعلق به من تربية أولاده ونحو ذلك) (1201) اهـ. وعن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: (دخلت أيم العرب على سيد المسلمين صلى الله عليه وسلم أول العشاء عَروسا، وقامت آخِرَ الليل تطحن - يعنى: أم سلمة) (1202) . وعن أنس رضي الله عنه قال: " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زفوا امرأة إلى زوجها يأمرونها بخدمة الزوج ورعاية حقه " (1203) .   (1198) "الإحياء" (4/699) . (1199) ما آلوه: أي لا أقصر في طاعته وخدمنه. (1200) تقدم برقم (1042) . (1201) انظر: "آداب الزفاف" ص (286) . (1202) " سير أعلام النبلاء" (2/205) (1203) راجع رقم (1039) ، وانظر: "المرأة المسلمة" لوهبي غاوجي ص (150) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 (قال عَلىُّ عليه السلام: لقد تزوجت فاطمة وما لي ولها فراش غير جلد كبش ننام عليه بالليل، ونضعه على الناضح بالنهار، وما لي ولها خادم غيرها، ولما زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل بي معها بخميلة ووسادة آدم حشوها ليف، ورحاءين وسقاء وجرتين، فَجَرت بالرحاء حتى أثرت في يدها، واستقت بالقِربة حتى أثرت القربة بنحرها، وَقَمَّت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القِدر حتى دنست ثيابها (1204) . وعن أبي البَختَرِي قال علي رضي الله عنه لأمه: " اكفى فاطمة الخدمة خارجًا، وتكفيكِ هي العملَ في البيت، والعَجْن والخبز والطحن " (1205) . وعن علي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما زوَّج فاطمة بعث معها بخميلة ووسادة أدم حشوها ليف، ورحاءين، وسقاءين، قال: فقال علي لفاطمة يومَا: " لقد سنوت (1206) حتى اشتكيت صدري، وقد جاء الله بسبي، فاذهبي، فاستخدمي"، فقالت: " وأنا والله، قد طحنت حتى مجلت (1207) يداي "، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما جاء بك أي بنية،؟ فقالت: " جئت لأسَلمَ عليك"، واستحيت أن تسأله، ورجعت، فأتياه جميعًا فذكر له عليٌّ حالهما، قال: " لا والله، لا أعطيكما، وأدعُ أهل الصفة تتلوى بطونهم، لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيع وأنفق عليهم أثمانهم "، فرجعا، فأتاهما وقد دخلا قطيفتهما، إذا غطيا رؤوسهما بدت "أقدامهما، وإذا غطيا أقدامهما انكشفت رؤوسهما، فثارا،   (1204) "أحكام النساء" لابن الجوزي ص (124) . (1205) " سير أعلام النبلاء" (2/125) . (1206) سنوت الدلو: إذا جررتها من البئر. (1207) مجلت يدها: ثخن جلدها، وظهر فيها ما يشبه البثر من العمل بالأشياء الصلبة الخشنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 فقال: " مكانكما ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟ " فقالا: " بلى"، فقال: " كلمات علمنيهن جبريل: تسبحان في دبر كل صلاة عشرًا، وتحمدان عشرا، وتكبران عشرا، وإذا أويتما إلى فراشكما فَسَبِّحا ثلاًثا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وكبرا أربعًا وثلاثين "، قال علي: " فوالله ما تركتهن منذ علمنيهن "، وقال له ابن الكواء: " ولا ليلة صفين؟ " فقال: " قاتلكم الله يا أهل الطروق، ولا ليلة صفين " (1208) . قال ابن حبيب في" الواضحة": (حكم النبي صلى الله عليه وسلم بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبين زوجته فاطمة رضي الله عنها حين اشتكيا إليه الخدمة، فحكم عَلَى فاطمة بالخدمة الباطنة خدمة البيت، وحكم على عَلِيٍّ بالخدمة الظاهرة، ثم قال ابن حبيب: والخدمة الباطنة: العجين، والطبخ، والفرش، وكنس البيت، واستقاء الماء، وعمل البيت كله) (1209) . وقال ابن حجر: قال الطبري: (يؤخذ من حديث عليّ رضي الله عنه في شكوى فاطمه أن كل من كانت لها طاقة من النساء على خدمة بيتها من خبز وطحن وغير ذلك أن ذلك لا يلزم الزوج إذا كان معروفا أن مِثلها يلي ذلك بنفسه، ووجه الأخذ أن فاطمة لما سألت أباها الخادم فلم يأمر زوجها أن يكفيها ذلك إما بإخدامها بخادم أو باستئجار من يقوم بذلك، أو يتعاطى ذلك بنفسه، ولو كانت على الزوج لأمره به، كما أمره أن يسوق الصداق قبل الدخول) (1210) اهـ.   (1208) أخرجه البخاري (7/71) في فضائل الصحابة: باب مناقب علي بن أبي طالب، وفي فرض الخمس (6/215) ، والنفقات (9/506) ، والدعوات (11/119) ، ومسلم (2727) في الذكر والدعاء: باب التسبيح أول النهار وعند النوم، وانظر: " الإصابة " (8/58-59) . (1209) نقله عنه في " زاد المعاد" (5/186) . (1210) "فتح الباري" (9/506 - 507) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 وعن أسماء رضيِ الله عنها أنها قالت: (كنت أخدم الزبير خدمة البيت كُله، وكان له فرَس، وكنت أسُوسُه، وكنت أحتَش له، وأقوم عليه) (1211) . وعنها رضي الله عنها: (أنها كانت تعلف فرسه، وتسقي الماء، وتَخْرِز الدلوَ، وتَعجِن، وتنقُل النوى على رأسها من أرض له على ثلثي فرسخ) (1212) . وقالت رضي الله عنها: (تزوجني الزبير وماله في الأرض من مال ولا شيء غير فرسه وناضحه (1213) ، فكنت أعلف فرسه، - زاد مسلم: وأسوسه - وأدق النوى لناضحه، وأستقي الماء وأخرز غربه (1214) ، وأعجن، وكنت أنقل النوى على رأسي من ثلثي فرسخ (1215) ، حتى أرسل إلي أبو بكر بجارية، فكفتني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني، فجئت يومًا والنوى على رأسي، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إخ، إخ، يستنيخ ناقته ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته، - وكان أغير الناس- فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد استحييت، فجئت الزبير فحكيت له ما جرى، فقال: والله لحملك النوى على رأسك أشد علي من ركوبك معه صلى الله عليه وسلم) (1216) .   (1211) أخرجه الإمام أحمد في " المسند" (6/352) ، وصححه ابن القيم في " الزاد" (5/187) . (1212) أخرجه الإمام أحمد في " المسند" (6/347) ، وصححه ابن القيم في " الزاد " (5/187) . (1213) أي بعيره الذي يستقي عليه. (1214) أي: أخيط دلوه بالخرز. (1215) والفرسخ: ثلاثة أميال، وثلثاه: 36 و 3 كم. (1216) رواه البخاري (9/ 281، 282) ، ومسلم (2182) ، وابن سعد في "الطبقات" (8/250) ، والإمام أحمد (6/347، 352) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 وقد اختلف العلماء في حكم خدمة المرأة زوجها، وحقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " الفتاوى" فقال: (وتنازع العلماء: هل عليها أن تخدمه في مثل فراش المنزل، ومناولة الطعام والشراب، والخبز والطحن لمماليكه وبهائمه مثل علف دابته ونحو ذلك؟ فمنهم من قال: لا تجب الخدمة، وهذا ضعيف كضعف قول من قال: لا تجب عليه العشرة والوطء! فإن هذا ليس معاشرة له بالمعروف، بل الصاحب في السفر الذي هو نظير الإنسان وصاحبه في المسكن، إن لم يعاونه على مصلحته لم يكن قد عاشره بالمعروف، وقيل- وهو الصواب - وجوب الخدمة، فإن الزوج سيدها في كتاب الله - وهي عانية عنده بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى العاني والعبد الخدمة، لأن ذلك هو المعروف. ثم من هؤلاء من قال: تجب الخدمة اليسيرة، ومنهم من قال: تجب الخدمة بالمعروف، وهذا هو الصواب، فعليها أن تخدمه الخدمة المعروفة من مثلها لمثله، ويتنوع ذلك بتنوع الأحوال، فخدمة البدوية ليست كخدمة القروية، وخدمة القوية ليست كخدمة الضعيفة) (1217) اهـ. قال الألباني حفظه الله معقبًا على كلام شيخ الإسلام رحمه الله: قلت: (وهذا هو الحق إن شاء الله تعالى أنه يجب على المرأة خدمة البيت، وهو قول مالك وأصبغ، كما في " الفتح" (9/418) ، وأبي بكر ابن أبي شيبة، وكذا الجوزجاني من الحنابلة كما في " الاختيارات" ص (145) ، وطائفة من السلف والخلف كما في " الزاد" (4/46) ، ولم نجد لمن قال بعدم الوجوب دليلا صالحًا، وقول بعضهم: "إن عقد النكاح   (1217) انظر " الفتاوى الكبرى" (34/90) ، (32/260) ، (28/384) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 إنما اقتضى الاستمتاع لا الاستخدام " مردود بأن الاستمتاع حاصل للمرأة أيضًا بزوجها فهما متساويان في هذه الناحية، ومن المعلوم أن الله تبارك وتعالى قد أوجب على الزوج شيئا آخر لزوجته ألا وهو نفقتها وكسوتها ومسكنها، فالعدل يقتضي أن يجب عليها مقابل ذلك شيء آخر أيضا لزوجها، وما هو إلا خدمتها إياه، سيما وهو القوام عليها بنص القرآن الكريم كما سبق، وإذا لم تقم هي بالخدمة فسيضطر هو إلى خدمتها في بيتها، وهذا يجعلها هي القوامة عليه، وهو عكس للآية القرآنية كما لا يخفى، فثبت أنه لابد لها من خدمته، وهذا هو المراد، وأيضًا: فإن قيام الرجل بالخدمة يؤدي إلى أمرين متباينين تمام التباين: أن ينشغل الرجل بالخدمة عن السعي وراء الرزق وغير ذلك من المصالح، وتبقى المرأة في بيتها عطًلا عن أي عمل يجب عليها القيام به، ولا يخفى فساد هذا في الشريعة، التي سوت بين الزوجين في الحقوق، بل وفضلت الرجل عليها درجة، ولهذا لم يُزِل رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوى ابنته فاطمة علبها السلام) (1218) اهـ. وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى مؤيدًا القول بالوجوب: (وأيضا فإن العقود المطلقة إنما تنزَل على العرف، والعُرف خدمة المرأة، وقيامها بمصالح البيت الداخلة، وقولهم: " إن خدمة فاطمة وأسماء كانت تبرعًا وإحسانًا "، يردُّه أن فاطمة كانت تشتكي ما تلقى مِن الخدمة، فلم يقل لعلي: " لا خدمة عليها، وإنما هي عليك "، وهو صلى الله عليه وسلم لا يحابي في الحكم أحدًا، ولما رأى أسماء والعلفُ على رأسها، والزبيرُ معه، لم يقل له: لا خدمةَ عليها، وأن هذا ظلمٌ لها، بل أقرَّه على استخدامها، وأقَرَّ سائر أصحابه على استخدام أزواجهم مع علمه بأن منهن الكارهة والراضية،   (1218) "آداب الزفاف" ص (288-289) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 هذا أمر لا ريب فيه. ولا يصح التفريق بين شريفة ودنيئة، وفقيرة وغنية، فهذه أشرف نساء العالمين كانت تخدِم زوجها، وجاءته صلى الله عليه وسلم تشكو إليه الخدمة، فلم يُشكِها، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المرأة عانيةً، فقال: " اتقوا الله في النساء، فإنهن عَوان عندكم "، والعاني: الأسير، ومرتبة الأسير خدمة من هو تحت يده، ولا ريب أن النكاح نوع من الرق، كما قال بعض السلف: النكاح رِق، فلينظر أحدكم عند مَن يُرِق كريمته، ولا يخفى على المنصف الراجحُ من المذهبين، والأقوى من الدليلين) (1219) اهـ.   (1219) " زاد المعاد" (5/188 - 189) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 [فصل] (1220) في علاقة الابن بوالديه بعد الزواج وعلاقة الحماة بالكَنَّة (1221) (وما يذكره بعضهم من الخلاف اللازم بين الحماة والكَنة فأمر مبالغ فيه، وما يقع في تلك الأسرة من بعض خلاف فشيء طبيعي بين عاطفتين، وبين كبير وصغير، وبين تعجل وحلم، ولكن حين يتوفر أدب الإسلام في أفراد الأسرة، ويعرف كل فرد في الأسرة حقه وواجبه، فإن الحياة تسير رضية سعيدة في أغلب الأحيان، والله أعلم) (1222) . 1- من حق الزوج على زوجه: أن تبر أهلَه مِنْ والِدين وأخوات: - إن من أدب الإسلام أن تؤثر الزوجة رضى زوجها على رضي نفسها، وأن تكرم قرابته خصوصا والديه، ويتأكد هذا إذا كانت تقيم معهما، وفي إكرامهم إكرام لزوجها، ووفاء له، وإحسان إليه، لأنه مما يفرحه، ويؤنسه، ويقوي رابطة الزوجية، وآصرة الرحمة والمودة بينهما.   (1220) استفدت كثيرا من فقرات هذا الفصل من " نظرات في الأسرة المسلمة" للدكتور محمد الصباغ، بتصرف. (1221) الكَنة: امرأة الابن. (1222) " المرأة المسلمة" للشيخ وهبي غاوجي ص (153) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 - وإذا كان الزوج أعظم حقا على المرأة من والديها، وإذا كان الابن مأمورا شرعًا بأن يحفظ وُد أبيه (1223) تقوية للرابطة الاجتماعية في الأمة، فإن الزوجة مأمورة شرعًا بأن تحفظ ود أهلِ زوجها من باب أولى لتقوية رابطة الزوجية في الأسرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أبر البر أن يحفظ الرجل أهل ود أبيه " (1224) فلأن تحفظ المرأة أهل ود زوجها من باب أولى. - كما أن إكرام الزوجة إياهما وهما في سن والديها خلق إسلامي أصيل: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحمْ صغيرنا، ويعرف لعالمِنا حَقَّه " (1225) ، وعن ابن عمرو رضي الله عنهما مرفوعا: " ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا " (1226) ، وعن أنس وأسامة والأشعث رضي الله عنهم مرفوعًا: " ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا " (1227) . - وفي إحسانها لوالديه شكر لهما على ما أنعم الله عليها من ولدهما الذي تسببا في وجوده من العدم، وربياه، فأصبح زوجا لها، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لا يشكر الناس لا   (1223) راجع ص (170 - 171) . (1224) تقدم برقم (386) . (1225) رواه الإمام أحمد (5/323) ، والحاكم (1/122) ، وحسنه الألباني في " صحيح الترغيب" (96) . (1226) رواه البخاري في "الأدب المفرد" رقم (354) ، والترمذي رقم (1920) ، وقال: " حسن صحيح"، والحاكم (1/62) ، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، والإمام أحمد (2/185، 207، 222) ، وصححه الألباني في " صحيح الجامع" (5/103) . (1227) رواه الترمذي رقم (1919) ، وقال: " غريب"، وصححه الألباني في " صحيح الجامع" (5/103) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 يشكر الله " (1228) الحديث، وعن ابن مسعود وغيره رضي الله عنهم مرفوعَا: " أشكرُ الناس لله أشكرهم للناس " (1229) . يقول الدكتور محمد الصباغ حفظه الله: (إن على الزوجة الفاضلة أن لا تنسى منذ البداية أن هذه المرأة التي قد تشعر أنها منافسة لها في زوجها، هي أم هذا الزوج، وأنه لا يستطيع مهما تبلَّد فيه إحساس البر أن يقبل إهانة توجه إليها، فإنها أمه التي حملته في بطنها تسعة أشهر، وأمدته بالغذاء من لبنها، ووقفت على الاهتمام به حياتها حتى أصبح رجلًا سويا. - واعلمي أيتها الزوجة أن زوجك يحب أهله أكثر من أهلك، كما أنك أنت أيضًا تحبين أهلك أكثر من أهله، فاحذري أن تطعنيه بازدراء أهله أو انتقاصهم أو أذيته فيهم، فإن ذلك يدعوه إلى النفرة منك. إن تفريط الزوجة في احترام أهل زوجها تفريط في احترامه، وإن لم يقابل الزوج ذلك بادئ الأمر بشيء، فلن يسلم حبه إياها من الخدش والنقص والتكدير. إِن الرجل الذي يحب أهله ويبر والديه إنسان صالح فاضل جدير بأن تحترمه زوجته، وترجو فيه الخير) (1230) .   (1228) رواه الإمام أحمد (3/73 - 74) ، والترمذي رقم (1954) ، (1955) ، وقال: " حسن صحيح"، وصححه الألباني في " تحقيق المشكاة" حديث رقم (3025) (2/911) . (1229) رواه الإمام أحمد (3/32) ، (5/211) ، وابن عدي في " الكامل" (5/794) ، والبيهقي (6/182) ، والطبراني (1/135) ، (1/207) ، والحديث صححه الألباني في " صحيح الجامع" (1/337) . (1230) " نظرات في الأسرة المسلمة" ص (87 - 88) بتصرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 ثم يقول في موضع آخر مخاطبا الزوج: (إن ما تقدم من والديك من إكرام وعناية وإحسان إليك، يجب أن يقابل منك بالعرفان والمكافأة، لقد تعهداك بالرعاية والخدمة وأنت ضعيف لا تملك من أمر نفسك شيئًا، وأنفقا عليك، وَحَرَما أنفسهما من أجلك، وسهرا على شئونك، وتعبا من أجل راحتك، أفلا يجدر بك إن كنت من أهل الخير والمروءة أن تقابل ذلك بعرفان وإحسان؟ و (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) ؟ والأم ينبغي أن تُقَدَّمَ في البر لضعفها، ولذلك وصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرات قبل الأب، ثم وصى بالأب، ومما يعينك على تحقيق البر في حياتك أن تضع نفسك في محل أبيك وأمك ... فهل يَسُرُّك غدًا عندما يصيبك الكبر، ويهن العظم منك، ويشتعل رأسك شيبا أن تلقى من ابنك المعاملة السيئة والإهمال القاسي والإهانة الجارحة؟ أو ما علمت يا أخي أن الأيام دُوَل وأن الزمان لا يبقى على حالة واحدة (وتلك الأيام نداولها بين الناس) فلا تغتر بشبابك وقوتك ومالك، فسرعان ما يلقاك المشيب، ويعتريك الضعف، ويزول عنك المال، وقد يكون مقدرًا للإنسان أن يكون في آخر عمره مُقْعَدًا، فليتصور هذا الإنسان أنه - وهو في هذه الحالة من العجز - قوبل بالعقوق والجفوة من ابنه بسبب إيثاره زوجته ماذا يكون شعوره في ذاك الوقت وهو على ما ذكرنا؟ تصور هذا يا أخي وأنت تعامل والديك فهذا مما يعينك على تحقيق البر في حياتك) (1231) اهـ. (إن عقوق الرجل والديه دمار عليه وعلى زوجته وأولاده، لأن   (1231) " نظرات في الأسرة المسلمة" ص (102 - 103) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 العقوق من المعاصي التي تعجل عقوبتها في الدنيا: فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اثنان يعجلهما الله في الدنيا: البغي، وعقوق الوالدين " (1232) ، وعن أنس رضي الله عنه مرفوعًا: " بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا: البغي، والعقوق) (1233) ، وما يشير إليه الحديث أمر مشاهد ينطق به الواقع العملي، وإن من عدل الله تبارك وتعالى وسننه الماضية أن العقوبة عنده تكون من جنس العمل المستوجب لها، فإن أساءت المرأة معاملة والدي زوجها فقد تعاقب- حين تهرم وتشيخ- بأن يقيض الله لها من كَناتها- أي زوجات أولادها- من يسيء معاملتها جزاءً وفاقًا) (1234) اهـ. وليس من شك في أن الزوجة الصالحة العاقلة، الخيرة الطيبة تكون عونا لزوجها على الخير، وتوصيه بالتزام حكم الشرع وآدابه، وتحرضه على زيادة بر والديه وإكرامهما: حكى الإمام أبو الفرج بن الجوزي عن عابدة: كانت تصلي بالليل لا تستريح، وكانت تقول لزوجها: " قمْ ويحك! إلى متى تنام؟ قم يا غافل قم يا بطَّال، إِلى متى أنت في غفلتك؟ أقسمت عليك ألا تكسب معيشتك إلا من حلال، أقسمت عليك أن لا تدخل النار من أجلي، بِر أمكَ، صل رحمك، لا تقطعهم، فيقطع الله بك " (1235) .   (1232) عزاه في " الجامع الصغير" إلى البخاري في " التاريخ"، والطبراني في الكبير، كما في "فيض القدير" (1/151) ، وصححه الألباني في " صحيح الجامع" (1/99) . (1233) أخرجه الحاكم (4/177) ، وصححه، ووافقه الذهبي، وأحمد (5/36) ، وصححه الألباني على شرط مسلم، كما في " الصحيحة" رقم (1120) . (1234) " نظرات في الأسرة المسلمة" ص (88) بتصرف. (1235) "صفة الصفوة" (4/437) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 (إن الرجل الذي لا خير فيه لأبويه لا يمكن أن يكون فيه خير لزوجة ولا ولد ولا لأحد من الناس في هذا الوجود، إن موقف الزوجة الصالحة في إعانته على البر كفيل في كثير من الأحيان في حل المشكلة وتسوية الأزمة، لأن الوالدين عندما يشهدان الحب الصادق والاحترام والحنان من زوجة ابنهما يعطفان عليها وعليه، ويسود الود والتفاهم والصفاء جو الأسرة كلها. .. واعلم أيها الأخ الفاضل أن تصرفات الوالدين وتصرفاتك أنت أيضا تتغير بعد الزواج.. إنهما في الغالب يصبحان شديدي الحساسية.. والأم أكثر حساسية من الأب، فلتكن في منتهى الحذر ... واعمل ما وسعك العمل على ألا يتغير قلبها نحوك. ويساعدك في تحقيق ما تريد من المراعاة للوالدين والزوجة أمور أهمها: 1- أن تلجأ إلى الله، وتحسن صلتك به عبادة ودعاء والتزامًا لما شرع. 2- وأن تسكن منفردًا مستقلا عن أهلك وأهل زوجك، وأن لا تدخلا أحدا من أهليكما في مشكلاتكما الخاصة، وأن تتوليا حلها بينكما بروح المودة والرحمة. 3- وأن تصارح والديك مع الاحترام البالغ بما تنكره من أوضاع جديدة، وتبين لهم الواقع البعيد عن التأويلات، التي قد يوسوس الشيطان بها للإنسان للايقاع بين الأهل والأحباب. 4- وأن تزيد من برهما المادي والمعنوي، كالهدايا والزيارات والاتصال الدائم، والتكريم الكبير، وإشعار والدتك بأنها ما تزال عندك الأم التي لها حق عظيم. 5- والتفاهم مع زوجتك على السلوك الذي يحقق إرضاء الوالدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 6- هذا، وأنصح الأخ الزوج ألا يلزم نفسه في أول الأمر بما لا يستطع أن يستمر عليه، لأنه إذا بدأ به ثم قطعه فُسر تفسيرا ليس في مصلحته، وجَر عليه أسوأ العواقب ... واحذر يا أخي أن تعطي والدتك- في تصرفاتك التي قد لا تنتبه إليها- الأدلة التي تشعرها بأن فلذة كبدها قد صارت لغيرها وقد تحولت عنها، إنها عندئذ ستكون شديدة التأثر واللوم ... وكلما كانت أكثر تعلقا بك وحبا لك كان تأثرها ولومها أكبر وأضخم. وأنا أعلم أن كثيرا من الأمهات الجاهلات بسبب ما تقدم يحرجن أبناءهن، ويحرمنهم من السعادة، فإذا ابتلي إنسان بأم من هذا النوع كان عليه أن يقابل ذلك بالصبر والاسترضاء.. وهنا تظهر حقيقة البر وقوة الشخصية التي تقوى على الموازنة بين أصحاب الحقوق) (1236) اهـ. ويقول الدكتور السيد محمد علي نمر حفظه الله مشيرا إلى أن الأمومة صنو التضحية، ونادبَا الأمهات إلى العدل في معاملة الكَنات: (كثيرًا ما تسوء معاملة الأم لزوجة ابنها، ذلك أن الأم قد سهرت، وتعبت في سبيل أبنائها، وحين ينمو الابن، ويستوي على سوقه، ويصير رجلًا ويتزوج، تظن الأم أن ابنها لم يعد بعد في حوزتها وتحت قبضتها، وقد آلت ملكيته إلى امرأة أخرى، كما أن زوجة الابن تعتقد بدورها أن زوجها لا يشاركها فيه أحد، فتنشب الكراهية بين الأم وزوجة الابن، والأم الصالحة هي التي تعمل لإسعاد أولادها، وكما ضَحت بعمرها، وبذلت كل غال ورخيص ليخرج ولدها إلى الحياة شابًّا صالحا، فعليها أن تضحي حين تسلمه إلى امرأة أخرى، كما عليها أن تعلم أن هذه هي سنة الحياة، ولن   (1236) "نظرات في الأسرة المسلمة" ص (103 - 105) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 تجد لسنة الله تبديلًا. إن الإسلام يطالبها أن تعتدل في نظرها إلى ولدها، حتى لا يكون منه عقوق لها) (1237) اهـ. (ويطيب لي أن أهمس في آذان الأمهات أن ينتبهن لأنفسهن، وأن يكنَّ عونا لأولادهن على البر، وأن يعملن على تحقيق السعادة لهم. ويبقى الحنان مفتاحًا في يد الولد العاقل، يجعل أمه سهلة الانقياد، سريعة التأثر، والأمهات أنواع، فقد ترضى الأم بكلمة حلوة، أو هدية متواضعة، أو استرضاء مبلل بالعاطفة الوافرة. إن قلب الأم - إن لم يتحول بسبب العقوق- قريب المأخذ، يا أخي إن ارتباطك بوالديك أمر محتوم لا خيار لك فيه، ولا فكاك لك منه بحال من الأحوال، وليس في يديك ... فلا تنس هذه الحقيقة. ولقد جاء الشرع فقرر لهما من الحقوق ما لم يقرره لمخلوق من الناس إذ أوجب أن تصاحبهما في الدنيا معروفًا ولو كانا كافرين يدعوانِك للكفر، يا أخي إن أعظم ما يميز مجتمعنا الإسلامي هو هذا الترابط العظيم في علاقاته الأسرية، فلا تتهاون فيه، فإن في بقاء هذا الترابط خيرًا للناس الذين يعيشون معك) (1238) اهـ. (إن قوة شخصية الإنسان تبدو في القدرة على أن يوازن بين الحق والواجبات التي قد تتعارض أمام بعض الناس، وأحيانًا يكونون سطحيين تافهين ضعفاء، إن قوة الشخصية تظهر في القدرة على أداء حق كُلّ من أصحاب الحقوق، دون أن يلحق جورًا بواحد من الآخرين.   (1237) " إعداد المرأة المسلمة" ص (140) . (1238) " نظرات في الأسرة المسلمة" ص (103 - 105) بتصرف، وانظر ص (88) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 ومن عظمة هذه الشريعة أنها جاءت بأحكام توازن بين عوامل ودوافع وحوافز متعددة، فللوالدين حقوق، وللزوج حقوق، ولا تعارض بينهما في حقيقة الأمر، والمسلم الواعي قوى الشخصية يستطع أن يعطي كل ذي حق حقه. ويبدو أن الناس فيما مضى - ولعوامل متعددة - كانوا يراعون حق والدي الزوج رعاية مبالغًا فيها، قد تدخل الجور على الزوجة في كثير من الأحيان عدوانا وظلما، ولكن الأمر - بعد اختلاطنا بالكفرة، وتأثرنا بحضارتهم التي حطمت فيها الأسرة- اختلف حتى أصبح الظلم يصيب الوالدين، وهو إن وجد ينصبُّ أكثر ما ينصب على الأم، لئن كنا في الماضي بحاجة إلى تذكير الزوج بحقوق الزوجة مع مراعاة بر الوالدين، إننا اليوم بحاجة إلى تذكير شبابنا برعاية الموازنة بين حقوق الوالدين وحقوق الزوج، وإلى تحذيرهم من العقوق. إن كثيرًا من المآسي الاجتماعية والعائلية تقع بسبب الإخلال بهذا التوازن المطلوب، والخسارة الكبرى والإثم العظيم يقع على الزوج أولًا عندما يقع في غضب الجبار، ويدخل النار. ... أيها الزوج العروس: أنا لا أدعوك إلى ظلم زوجتك، فالظلم حرام بكل أنواعه ومظاهره، ولكنني أذكرك بأن ظلم والديك وعقوقهما من أعظم الذنوب.. واحرص في الوقت ذاته على إنصاف زوجك، والإحسان إليها ما استطعت إلى ذلك سبيلا) (1239) اهـ. 13- ومن حقه عليها: إرضاع الأطفال وحضانتهم: الطفل جزء من أمه، وقطعة من كيانها، فهي تحنو له، وتحدب   (1239) "السابق" ص (101: 102) بتصرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 عليه، وتعكف على راحته، وهذه الصلة الوثيقة التي تربط الأم بطفلها تبلغ ذروتها وأوج قوتها في الأسابيع ثم الأشهر الأولى من ولادته، إذ يبلغ بها الأمر أن تعكف عليه عكوفًا يشبه عبادة العابد، ونسك الناسك، بل تستطيع الأم أن تجعل عملية الإرضاع عبادة سامية إذا استحضرت النية الصالحة من ورائها، لتجني ثمارها كل حين بإذن ربها: روى أن عمرو بن عبد الله قال لامرأة ترضع ابنًا لها: " لا يكونن رضاعك لولدك كرضاع البهيمة ولدَها قد عطفت عليه من الرحمة بالرحم، ولكن أرضعيه تتوخين ابتناء ثواب الله، وأن يحيا برضاعك خَلْق عسى أن يوحِّد الله ويعبده " (1240) . إن للطفل حقا ثابتًا على أبويه في الرعاية والعطف والتربية، ومن هنا توجه الخطاب القرآني إلى كل والدة سواء كانت مزوجة أو مطلقة يستحثها ويندبها إلى الاهتمام برضاعة طفلها، فقال جل وعلا: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) الآية البقرة (233) . ويثني الله تعالت أسماؤه على الأم إذ تتحلى بهذه السجية الإنسانية، ويعلن ما تستوجبه بهذه العاطفة من التكريم فيقول: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفِصاله في عامين أن اشكر لى ولوالديك إلي المصير) لقمان (14) . والواقع أن هذا الوضع التشريعي الذي أمر به القرآن هو تحديد وفرض للوضع الطبيعي الذي بنيت عليه غريزة الأم، وانبنى عليها كيان الطفل، إن إرضاع الأم طفلها واجب عليها ديانة باتفاق الفقهاء، تُسأل عنه أمام الله تعالى حفظا على حياة الولد، سواء كانت متزوجة بأبي الرضيع،   (1240) عزاه في " منهج التربية النبوية للطفل" ص (72) إلى " نصيحة الملوك" للماوردي ص (166) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 أم مطلقة منه وانتهت عدتها. واختلفوا في وجوبه عليها قضاء: أيستطيع القاضي إجبارها عليه أم لا (1241) ؟ وقد ذهب جهور الفقهاء إلى أن الأمر بالإرضاع للندب، وأنه لا يجب على الوالدة إرضاع ولدها- أي قضاءً - إلا إذا تعينت مرضعًا بأن كان لا يقبل غير ثديها، أو كان الوالد عاجزًا عن استئجار ظئر (مرضعة) ، أو قدر ولكنه لم يجد الظئر، واستدلوا على الاستحباب بقوله تعالى: (وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى) . ومذهب مالك أن الرضاع واجب على الأم في حال الزوجية، فهو حق عليها إذا كانت زوجة، أو إذا لم يقبل الصبي ثدي غيرها، أو إذا عُدم الأب، واستثنوا من ذلك الشريفة بالعُرف، وأما المطلقة طلاق بينونة فلا رضاع علها، والرضاع على الزوج إلا أن تشاء هي إرضاعه فهي أحق، ولها أجرة المثل، هكذا كفل الإسلام للطفل حقه في الرضاع حتى بعد طلاق أمه، ولم يكتف بذلك بل تجاوزه إلى تعطيل إقامة الحد على الأم الزانية إلى حين انتهاء فترة رضاعه منها. ففي قصة الغامدية التي حملت من الزنا، وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقيم عليها الحد، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا، فاذهبي حتى تلدي، فلما ولدته أتته بالصبي في خرقة، قالت: " هذا قد ولدته"، قال: " اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه "، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، قالت: " هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام"، فدفع بالصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس   (1241) انظر: " الفقه الإسلامي وأدلته " (7/698-704) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 فرجموها) الحديث (1242) . وتأمل ما رواه أبو أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينا أنا نائم إذ أتاني رجلان، فأخذا بضبعي) الحديث، وفيه: (ثم انطلق بي، فإذا أنا بنساء تنهش ثديهن الحيات، قلت: ما بال هؤلاء؟ قال: هؤلاء يمنعن أولادهن ألبانهن (*) . وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان لا يفرض لمولود حتى يفطم، فتراجع عن ذلك، وفرض له من حين ولادته حتى تطول فترة الإرضاع، فبينما هو يطوف ذات ليلة بالمصلى، بكى صبي، فقال لأمه: " أرضعيه"، فقالت: " إن أمير المؤمنين لا يفرض لمولود حتى يُفطم، وإني فطمته"، فقال عمر: " إن كدت لأن أقتله أرضعيه، فإن أمير المؤمنين سوف يفرض له"، ثم فرض بعد ذلك للمولود حين يولد (1243) . إن الحكمة الإلهية جعلت هذه العاطفة السامية عاطفة الأمومة متجاوبة مع قوة اتصال الوليد بأمه، ومع حاجته الماسة إليها ماديا وعاطفيا، فالطفل يحتاج إلى أمه حاجة تتصل بكيانه كله، وتشمل مشاعره وأحاسيسه. ومن قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أنت أحق به ما لم تنكِحي" (1244) ، قالها   (1242) رواه مسلم ص (1322) ، والبيهقي (6/83) ، والدارقطني (3/ 92) ، والإمام أحمد (5/ 348) ، وغيرهم. (*) أخرجه النسائي في " السنن الكبرى " كما في " تحفة الأشراف" (4871) ، وابن خزيمة في " صحيحه " (1986) وعنه ابن حبان (1800 - موارد) ، والحاكم في " المستدرك " (1/430) مختصرًا، وقال: (صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي، وعزاه الحافظ في "الفتح" إلى الطبراني، وقال: " بسند جيد" اهـ. (12/441) ، وصححه الألباني في " صحيح الترغيب والترهيب" (1/420) . (1243) " المصنف " لعبد الرزاق (5/311) . (1244) رواه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أبو داود رقم (2276) في = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 لمن شكت إليه زوجها، ندرك مدى اهتمام الإسلام بالطفل، حيث انتزع الرسول الله صلى الله عليه وسلم طفلًا من أبيه- وهو أقرب الناس إليه- ليكون في رعاية أمه، لأنها أشفق وأقدر على تربيته في هذا السن، كذلك ندرك أمرا آخر وهو أن الأم إذا شُغلت بزواج أو غيره، فهي ليست أهلَا للحضانة، لأن الطفل يجب أن ينشأ في جوٍّ تملؤه المودة والمحبة والعطف والحنان. نسوق هذا الكلام إلى الذين ينادون بتخلي المرأة عن مهمتها وترك هؤلاء الأطفال إلى دور الحضانة حيث يحرم الطفل من حقه في رعاية أمه وحنانها، أمه التي لا يعوضه عنها أرقى وأعظم دور الحضانة. إن مما يصادم الفطرة والشرع ما يتصوره بعض الناس من أن حاجة الطفل إلى أمه قاصرة على تغذيته باللبن خلال فترات منتظمة، وهو أمر يمكن استبداله بأي لبن كان، ثم تغيير ثيابه وتنظيفه بين الفينة والأخرى، وهو عمل تستطيعه أي حاضنة أمينة، وإذا تصور هذا أي رجل لم يذق إنسانية الحياة العائلية، فلا يتصوره من النساء إلا امرأة مُسِختْ حقيقتها، وانطوى صدرها على قلب قاس جامد، قد نُحِتَ من صُم الجلاميد الصلاب، ولله دَر من قال: ليس اليتيم من انتهى أبواه من ... هَمِّ الحياة وخلَّفاه ذليلا إن اليتيم هو الذي تلقى له ... أما تخلَّت أو أبا مشغولا ألا فلترجع الأم " الهاربة" من ميدان كفاحها إلى بيتها، ولتعد " الأم" المتمردة على فطرتها إلى حجابها الأول: " وقرن في بيوتكن"،   = الطلاق: من أحق بالولد؟، والدارقطني (3/305) ، والحاكم (2/207) ، وصححه، ووافقه الذهبي، والبيهقي (8/4- 5) ، والإمام أحمد (2/182) ، وحسنه الألباني في " الإرواء" (7/244) . وسبب وروده (أن امرأة قالت: يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني، وأراد أن ينتزعه مني "، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم) فذكره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 ولتؤب إلي " المصنع" الذي رشحها الله لتمارس فيه أشرف وظائف المرأة بعد عبادة الله " والمرأة راعية في بيت زوجها " إنه مصنع الأبطال والمجاهدين والعباد، والدعاة، مصنع العفيفات العابدات العالمات المؤمنات الصابرات. فإن كانت ممن لا يكتفي بالنصيحة إلا إذا دُعمت بإحصاءات العلم الحديث، ونتائجه المنسوبة إِلى أهله، فلترع سمعها ما يلي: أولًا: ما قالته مؤلفة كتاب " أطفال بلا أسر": (وقد أثبتت الدراسات العلمية أن الولد في ظل أبويه ينشأ ذكيا، وتنخفض نسبة ذكائه كلما ابتعد عن أمه وأبيه، ففي دور المياتم والحضانة التي تشرف على كل عشرة أطفال فيها فقط مربية واحدة تنخفض نسبة الذكاء 40% عن الطفل الذي ينشأ مع أمه أو إحدى قريباته ... وقد قام البروفيسور " وين دنيس" الحائز على شهادة الدكتوراة من جامعة كلارك، والذي يعتبر من ألمع أساتذة علم النفس في الولايات المتحدة بجولة علمية زار خلالها لبنان، والولايات المتحدة، وانكلترا، وهولندا، وألمانيا، واليونان، وإيطاليا، والمجر، وتبين له مدى الفروق الهائلة في مستوى الذكاء لدى الأطفال من بيئة إِلى أخرى، وأثبتت دراساته أن الذكاء ينخفض لدى الطفل إن كان يعيش مع عشرة أطفال وتشرف على تربيتهم مربية واحدة إلى ما يزيد عن 40% من نسبة الذكاء لدى غيره من الأطفال الذين ينشأون في جو عائلي) (1245) اهـ. ثانيَا: درج بعض الأطباء الأمريكيين الذين أجروا دراسات على الأطفال على أن يكتب في " الوصفة " لكل أم تذهب إليه بطفلها المريض العبارة التالية: " العلاج: هو العودة إلى الأم الحقيقية" (1246) .   (1245) انظر: " نظام الأسرة وحل مشكلاتها في ضوء الإسلام" ص (218) . (1246) "الأخت المسلمة" للجوهري ص (118) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 14- ومن حقه عليها: أن تحسن القيام عل تربية أولادها منه في صبر وحلم ورحمة: فلا تغضب على أولادها أمامه، ولا ترفع صوتها عاليًا في مخاطبة أولادها أو زجرهم حتى يسمع خارج المنزل، ولا تدعو عليهم، ولا تسبهم، أو تضربهم، فإن ذلك قد يؤذيه منها، ولربما استجاب الله تعالى دعاءها عليهم، فيكون مصابهما بذلك عظيما. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على خدمكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعةَ نَيل، فيها عطاءٌ، فيستجيب لكم) (1247) . وقد تفننت نساء بعض البلاد في اللعن تفننَا غريبَا، فتسمع الدعاء الفظيع ينهال على الولد البريء الذي تصرف تصرفًا صبيانيًّا لم يوافق هوى أمه ورضاها، إنها تدعو عليه أحيانًا بأن يرسل الله عليه الحمّى والأوجاع المتعددة، وتدعو عليه أحيانًا أن يقتل بالرصاص، أو أن تذهب به داهية الدهس، أو أن يصيبه العمى، تدعو عليه بذلك وغيره، وهو ابنها وفلذة كبدها، وهي لا تدري أنه قد توافق دعواتُها ساعة الإجابة، فتندم ولات ساعة مندم، وقد قيل إن الدعوات كالحجارة التي يرمى بها هدف، فمنها ما يصيب ومنها ما يخطئ (1248) . وعليها أن تربي أولادها على الطهارة والنظافة والعفة والشجاعة،   (1247) رواه أبو داود رقم (1532) في الصلاة، وهو قطعة من حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر عند مسلم رقم (3006) ، وكذا ابن حبان (2411) . (1248) انظر: " أضواء البيان" (3/417) ، " نظرات في الأسرة المسلمة" ص (161- 162) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 والزهد في سفاسف الأشياء، وملاهي الحياة، كي ينشأوا مسلمين، يعيشون بالإسلام وللإسلام، يكَثر الله تعالى بهم الخير في المجتمع، ويتباهى بهم وبأمثالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم غدا (1249) . وعليها أن تراعي الأمور الآتية حتى تنجح العملية التربوية: أولًا: أن لا تتصرف أمام أبنائها بصورة توحي بأن سياستها التربوية تخالف سياسة الأب. ثانيا: أن لا تعترض المرأة على زوجها أثناء تأديبه أولاده وبحضرتهم، فإن كان ولابد، فلها أن تبدي رأيها في أمور التربية على انفراد به، وعليهما الخروج بسياسة تربوية محددة. ثالثا: أن تحرص على الصدق مع زوجها، وتصارحه بالحقيقة في أمورها كلها، وأن تعلمه بالأحداث التي تتم في غيبته، ولا تتستر على أخطاء أولادها الجسيمة، والتي يجب معرفة الأب بها. رابعًا: أن لا تأذن ولا تعطي ولدها عند غياب أبيه ما منعه منه. خامسًا: أن لا تبدي الزوجة أمام أبنائها أي إشارة رفض أو ضجر من بعض عادات الأب أو تصرفاته، وأن تحذر أن تُخَطِّئ أقواله وأفعاله، أو أن تنتقص منه، أو أن تتظلم لأولادها منه قبالتهم.   (1249) ومن خير ما يسترشد به الأبوان في هذه التربية كتاب " منهج التربية النبوية للطفل " لمؤلفه محمد نور سويد جزاه الله خيرا، فإنه في جملته من خير ما يسد هذه الثغرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 [فصل] من آداب المرأة المسلمة أن تحسن القيام على أولاد زوجها من امرأة أخرى، كأنهم أولادها، فإن الزوجة الصالحة عون لزوجها على مصاعب الحياة، وأعباء المعيشة، وتأمل ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (تزوجت امرأة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " يا جابر، تزوجت؟ " قلت: " نعم"، قال: " بكرًا، أم ثيبا؟ " قلت: " ثيبا"، قال: " فهلا بكرًا تلاعبها؟ " قال: قلت: " يا رسول الله، إن لي أخوات، فخشيت أن تُدْخِلَ بيني وبينهن"، فقال: " ذاك إذا، إن المرأة تنكَح على دينها ومالها وجمالها، فعليك بذات الدين ترِبَتْ يداك " (1250)) . وفي رواية للبخاري: (" فهلا جارية تلاعبك؟ قلت: يا رسول الله، إن أبي قُتِل يوم أحد، وترك تسع بنات، كُنَّ لي تسع أخوات، فكرهت أن أجمع إليهن جاريةً خرقاءَ مثلهن، ولكن امرأة تمشطُهن، وتقوم عليهن "، قال: " أصبت " (1251) . وفي رواية الترمذي: (فقلت: " يا رسول الله، إن عبد الله مات، وترك سبع بنات أو تسعًا، فجئت بمن تقوم عليهن، فدعا لي " (1252) .   (1250) رواه مسلم رقم (715) في الرضاع: باب استحباب نكاح ذات الدين، وباب استحباب نكاح البكر. (1251) رواه البخاري (9/122) ، (6/121) ، (11/ 190) ط. السلفية. (1252) رواه الترمذي رقم (1086، 1100) في النكاح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 فتأمل كيف أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم جابرا رضي الله عنه على نظرته التربوية في اختياره زوجة تنجز بعض المهام التربوية لأخواته الصغار، أليس بالأحرى أن تعين زوجها على بر والديه، والإحسان إلى أبنائه من غيرها؟ قال ابن بطال: (وعون المرأة زوجها في ولده ليس بواجب عليها، وإنما هو من جميل العشرة، ومن شيمة صالحات النساء) (1253) اهـ. 15- ومن حقه عليها: أن تتجنب الغيرة المذمومة: توجد الغيرة في غالب النساء، غير أن منها ما هو مذموم، ومنها ما هو محمود: [فالمذموم منها تلك التي تتأجَّجُ في صدر صاحبتها نارا تُشعِلُ جيوش الظنون والشكوك كلُّ آن، فتحيلَ حياة الأسرة جحيمَا لا يطاق: - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قالوا: (يا رسول الله، الا تتزوج من نساء الأنصار؟ " قال: " إن فيهن لغيرةً شديدة " (1254) . - ولذلك لم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سَلَمة رضي الله عنها، إلا بعد أن دعا أن يذهِبَ الله غيرتها، عن أمَ سلمة قالت: لمّا توفيَ أبو سلمة، استرجعتُ، وقلت: اللهم أجرني في مصيبتي، واخلفني خيرا منه، ثم رجعت إلى نفسي، قلت: من أين لي خير من أبي سلمة؟ فلما انقضت عِدتي استأذن علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أدبغُ إهابَا لي، فغلست يدي من القَرَظِ (ما يُدبَغ به) وأذِنتُ له، فوضعت له وسادة أدم حشوها ليف، فقعد عليها، فخطبني إلى نفسي، فلما فرغ من مقالته، قلت: يا رسول الله، ما بي أن لا تكون بك الرغبة فِي، ولكني امرأة في غَيْرة شديدة، فأخاف أن ترى مني شيئًا يُعذِّبني الله به، وأنا امرأة قد دخلت في السنُّ، وأنا   (1253) "فتح الباري" (9/513) : باب عون المرأة زوجها في ولده. (1254) رواه النسائي (6/69) في النكاح، وقال الأرناؤوط في " تحقيق جامع الأصول" (إسناده صحيح) اهـ. (11/534) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 ذات عيال، فقال: " أما ما ذكرتِ من غَيرتك فسوف يُذهبها الله عزَّ وجلَّ عنك (وفي رواية النسائي، فأدعو الله عز وجل فيُذهِبَ غيرتك) ، وأما ما ذكرتِ مِن السنّ فقد أصابني مثل الذي أصابك، وأما ما ذكرتِ من العيال فإنما عيالك عيالي ": قالت: فقد سلمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتزوجها، قالت أمّ سلمة: فقد أبدلني الله بأبي سلمة خيرا منه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم) (1255) . - أمّا الغيرة المعتدلة التي لا تتسلط على صاحبتها، فهي مقبولة بل وقد تُستملَح أحيانًا: فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه (وفي رواية عائشة) ، فأرسلت إليه إحدى أمهات المؤمنين (في رواية أم سلمة، وفي أخرى صفية) بصَحفة فيها طعام، فضربت التي هو في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفةُ، فانفلقتْ، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فِلَقَ الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: " غارتْ أمُّكم، غارتْ أمكم " ثم حبس الخادم، حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفعها إلى التي كُسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرتها) (1256) . - أما الغيرة المحمودة، فهي التي تكون إذا ما انتهِكَت محارم الله: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وإن غَيرة الله أن يأتي المؤمنُ ما حَرَّم الله   (1255) رواه أحمد (4/28) واللفظ له، والنسائي (6/ 81) في النكاح، وقال الأرناؤوط في " جامع الأصول": (إسناده صحيح) اهـ (11/410) . (1256) البخاري (9/283) في النكاح، وأبو داود (3567) في البيوع، والترمذي (1359) في الأحكام، والنسائي (7/70) عشرة النساء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 عليه " (1257) ] (1258) . 16- ومن حقه عليها: حفظه في دينه وعرضه: وذلك ببعدها عن التبرج والتعرض للأجانب في البيت وخارجه، في الشرفة أو على الباب، أو في الطريق والمحلات التجارية، وقد سبق أن ذلك من حق المرأة على زوجها أن يحفظها من ذلك، لذا فهي لا تبدي زينتها، إلا لزوجها ولذوي محارمها على التأبيد مع أمن الفتنة، ولا تخلو بأجنبي، ولو كان شقيق زوجها، ولا تأذن لمن لا يرضى الزوج دخوله عليها، وهي حافظة لزوجها في غيابه من عرض فلا تزني، ومن سر فلا تفشي، ومن سمعة فلا تجعلها مضغة في الأفواه. وعن أبي أذينة الصدفي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال: " خير نسائكم الودود الولود، المواتية المواسية، إذا اتقين الله، وشرُّ نسائكم المتبرجات المتخيلات، وهن المنافقات، لا يدخل الجنة منهن إلا مثلُ الغراب الأعصم " (1259) . وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أيما امرأة نزعت ثيابها في غير بيتها، خرق الله عز وجل عنها ستره " (1260) . وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها، فقد هتكت ستر ما بينها وبين الله عز وجل " (1261) .   (1257) انظر تخريجه في " القسم الثالث" ص (115) . (1258) "أسس اختيار الزوجة " للشيخ محمد عيد الصياصنة، " مجلة البحوث الإسلامية " عدد (24) ص (262-264) . (1259) انظر تخريجه في " القسم الثالث" ص (130) . (1260) " السابق، ص (101) ، وانظر " صحيح الجامع" (2/392) . (1261) " السابق" ص (131) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 وعن فضالة بن عبيد مرفوعًا: " ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل فارق الجماعة، وعصى إمامه، ومات عاصيا، وأمة أو عبد أبق فمات، وامرأة غاب عنها زوجُها قد كفاها مُؤنة الدنيا فتبرجت بعده، فلا تسأل عنهم " (1262) " الحديث. 17- ومن حقه عليها: أن تحفظ حواسه وشعوره، وتتحرى ما يرضيه فتأتيه، وما يؤذيه فتجتنبه: وينبغي لأبوي المرأة خصوصًا الأم أن تعرفها حق الزوج، وتبالغ في وصيتها، رُوي أن أسماء بن خارجة الفَزَاري (1263) قال لابنته عند التزوج: (إنك خرجت من العش الذي فيه درجت، فصرت إلى فراش لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فكوني له أرضًا، يكن لك سماءً، وكوني له مهادًا، يكن لك عمادًا، وكوني له أمة، يكن لك عبدًا، لا تلحفي به فيقلاك (1264) ، ولا تباعدي عنه فينساك، إن دنا منكِ فاقربي منه، وإن نأى عنك فابعدي عنه، واحفظي أنفه وسمعه وعينه، فلا يشمن منك إلا طيبا، ولا يسمع منكِ إلا حسنًا، ولا ينظر إلا جميلًا) (1265) . وأوصى عبد الله بن جعفر بن أي طالب ابنته فقال: (إياك والغيرة فإنها مفتاح الطلاق، وإياك وكثرة العتب فإنه يورث البغضاء، وعليك بالكحل فإنه أزين الزينة، وأطيب الطيب الماء "، وقال رجل لزوجته: خذي العفو مني تستديمي مودتي ... ولا تنطقي في سَوْرتي حين أغضبُ ولا تنقريني نقرك الدفَّ مرةً ... فإنك لا تدرين كيف المُغيبُ   (1262) " السابق" ص (131) . (1263) انظر ترجمته في " الإصابة" (1/195 - 196) . (1264) أي: لا تلحي عليه فيكرهك. (1265) انظر: " أحكام النساء" لابن الجوزي ص (73) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 ولاتكثري الشكوى فتذهب بالهوى ... ويأباكِ قلبي والقلوبُ تقلب فإني رأيت الحب في القلب والأذى ... إذا اجتمعا لم يلبث الحبُّ يذهب (وقال بعض العرب: " لا تنكحوا من النساء ستة: لا أنانة، ولا منانة، ولا حنانة، ولا تنكحوا حداقة، ولا براقة، ولا شداقة"، أما الأنانة، فهي التي تكثر الأنين والتشكي، وتعصب رأسها كل ساعة، فنكاح الممراضة، أو نكاح المتمارضة لا خير فيه، والمنانة التي تمن على زوجها فتقول: " فعلت لأجلك كذا وكذا"، والحنانة التي تحن إلى زوج آخر، أو ولدِها من زوج آخر، وهذا أيضًا مما يجب اجتنابه، والحداقة التي ترمي إلى كل شيء بحدقتها فتشتهيه، وتكلف الزوج شراءه، والبراقة تحتمل معنيين: أحدهما: أن تكون طول النهار في تصقيل وجهها وتزيينه، ليكون لوجهها بريق محصل بالصنع، والثاني: أن تغضب على الطعام، فلا تأكل إلا وحدها، وتستقل نصيبها من كل شيء، وهذه لغة يمانية، يقولون: برقت المرأة، وبرق الصبي الطعام، إذا غضب عنده، والشداقة المتشدقة الكثيرة الكلام) (1266) . وأوصت أمامة بنت الحارث ابنتها حين زفت إلى زوجها، فقالت: (أي بنية: إن الوصية لو كانت تترك لفضل أدب، أو لتقدم حسب، لزويت ذلك عنك، ولأبعدته منك، ولكنها تذكرة للغافل، ومعونة للعاقل. أي بنية: لو أن امرأة استغنت عن زوج لغنى أبويها وشدة حاجتهما إليها، كنت أغنى الناس عن ذلك، ولكن النساء للرجال خلقن، ولهن خلق الرجال.   (1266) "الإحياء" (4/712-713) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 أي بنية: إنك قد فارقت الحمى الذي منه خرجت، وخلفت العش الذي فيه درجت، إلى وكر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فأصبح بملكه عليك مليكًا فكوني له أمة يكن لك عبدًا وشيكا، واحفظي له خصالا عشرا، تكن لك ذخرًا: أما الأولى والثانية: فالصحبة بالقناعة، والمعاشرة بحسن السمع والطاعة، فإن في القناعة راحة القلب، وفٍى حسن المعاشرة مرضاة للرب. وأما الثالثة والرابعة: فالمعاهدة لموضع عينيه، والتفقد لموضع أنفه، فلا تقع عيناه منك على قبيح، ولا يشم منكِ إلا أطيب ريح. وأما الخامسة والسادسة: فالتعاهد لوقت طعامه، والتفقد لحين منامه، فإن حرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة" وأما السابعة والثامنة: فالاحتراس بماله، والإرعاء على حشمه وعياله، وملاك الأمر في المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير. وأما التاسعة والعاشرة: فلا تفشين له سرًّا، ولا تعصين له أمرا، فإنك إن أفشيت سره لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره، واتقي مع ذلك كله الفرح إذا كان ترحا، والاكتئاب إذا كان فرحًا، فإن الأولى من التقصير، والثانية من التكدير، وأشد ما تكونين له إعظاما أشد ما يكون لك إكراما، وأشد ما تكونين له موافقة أطول ما يكون لك مرافقة، واعلمي يا بنية أنك لا تقدرين على ذلك حتى تؤثري رضاه على رضاك، وتقدمي هواه على هواك فيما أحببت أو كرهت، والله يضع لك الخير، وأستودعك الله) (1267) اهـ. إن الزوجة التي يندب إليها هي الهينة، اللينة، العفيفة، التي " تعين   (1267) انظر: " أحكام النساء" لابن الجوزي ص (74-78) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 أهلها على العيش، ولا تعين العيش عليهم، لا تؤهل دارا (1268) ، ولا تؤنس جارًا (1269) ، ولا تنفث (1270) نارًا " (1271) . وقال الإمام أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله تعالى: (وينبغي للمرأة أن تعرف أنها كالمملوك للزوج، فلا تتصرف في نفسها ولا في ماله إلا بإذنه، وتقدم حقه على حق نفسها وحقوق أقاربها، وتكون مستعدة لتمتعه بها بجميع أسباب النظافة، ولا تفتخر عليه بجمالها، ولا تعيبه بقبيح إن كان فيه ... ) (1272) . (وينبغي للمرأة العاقلة إذا وجدت زوجًا صالحًا يلائمها أن تجتهد في مرضاته، وتجتنب كل ما يؤذيه، فإنها متى آذته أو تعرضت لما يكرهه أوجب ذلك ملالته وبقى ذلك في نفسه، فربما وجد فرصته فتركها أو آثر غيرها، فإنه قد يجد وقد لا تجد هي، ومعلوم أن الملل للمستحسَن قد يقع، فكيف للمكروه؟) (1373) اهـ. [والقول الجامع في آداب المرأة: أن تكون قاعدة في قعر بيتها، لازمة لمنزلها، لا يكثر صعودها واطلاعها، قليلة الكلام لجيرانها، لا تدخل عليهم إلا في حال يوجب الدخول، تحفظ بعلها في غيبته، وتطلب مسرته في جميع أمورها، ولا تخونه في نفسها وماله، ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه، فإن   (1268) لا تؤهل دارا: أي لا تجعل دارها آهلة بدخول الناس عليها. (1269) لا تؤنس جارًا: أي لا تؤنس الجيران بدخولها عليهم. (1270) لا تنفث نارا: أي لا تنم، ولا تغري بين الناس. (1271) " عيون الأخبار " لابن قتيبة (4/4- 5) . (1272) " أحكام النساء" ص (72-73) . (1273) " السابق" ص (78) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 خرجت بإذنه فمختفية في هيئة رثة، تطلب المواضع الخالية دون الشوارع والأسواق، محترزة من أن يسمع غريب صوتها، أو يعرفها بشخصها، لا تتعرف إلى صديق بعلها في حاجاتها، بل تتنكر على من تظن أنه يعرفها أو: تعرفه، همها صلاح شأنها، وتدبير بيتها، مقبلة على صلاتها وصيامها، وإذا استأذن صديق لبعلها على الباب وليس البعل حاضرا لم تستفهم، ولم تعاوده في الكلام، غيرة على نفسها وبعلها، وتكون قانعة من زوجها بما رزق الله، وتقدم حقه على حق نفسها، وحق سائر أقاربها، متنظفة في نفسها، مستعدة في الأحوال كلها للتمتع بها إن شاء، مشفقة على أولادها، حافظة للستر عليهم، قصيرة اللسان عن سب الأولاد ومراجعة الزوج..] (1274) اهـ.   (1274) " الإحياء" (4/749 - 750) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 [فصل] وفاؤها لزوجها إن الثبات على صدق الوفاء من أفضل ما تتحلى به النساء، ولهذا (درجت المرأة المسلمة على مواتاة زوجها ومصافاته، واستخلاص نفسها له، واحتمال نبوة الطبع منه، وأكثر ما كان صفاء نفسها، وسماح خلقها وعذوبة طبعها، إذا استحال الدهر بالرجل فرزأهُ في ماله، أو نَكَبَهُ في قُوَّته، أو بدَّله بكرم المنصب، وروعة السلطان، أعرافًا من السجن، وأصفادًا من الحديد. بل لقد كان وفاؤها له بعد عفاء أثره، وامِّحاء خبره، عديل وفائها له وهي بين أفياء نعمته، وأكناف داره، وكان إيثار الإسلام له بمَدِّ حدادها عليه أربعة أشهر وعشرة أيام، لا تتجمل في أثنائها، ولا تزدان، ولا تفارق داره إلى دار أبيها - سُنَّةً من سنن هذا الرفاء، وآية من آياته. لذلك كانت المرأة المسلمة ترى الوفاء لزوجها بعد الموت، آثر مما تراه لأبيها وأمها وذوي قرابتها، فكانت تؤثر فضائله، وتذكر شمائله في كل موطن ومقام، بل ربما عرض ذكره وهي بين خليفته من بعده، فلا تتحرج في ذكر فضائله وتفضيله إن كانت ترى الفضل له) (1275) . ومن حديث ذلك أن أسماء بنت عُميس كانت لجعفر بن أبي طالب، ثم لأبي بكر من بعده، ثم خلفهما علي رضي الله عنه، فتفاخر مرة ولداها   (1275) انظر: " المرأة العربية" (2/89) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 محمد بن جعفر ومحمد بن أبي بكر، كل يقول: " أنا أكرم منك، وأبي خير من أبيك "، فقال لها علي: " اقضي بينهما يا أسماء"، قالت: " ما رأيت شاًّبا من العرب خيرا من جعفر، ولا رأيت كهلا خيرًا من أبي بكر "، فقال علي: "ما تركتِ لنا شيئًا، ولو قلتِ غير الذي قلت لمَقتُّكِ! " (1276) فقالت أسماء: " إن ثلاثا أنت أقَلهم لخيار " (1277) . وأوصى أبو بكر رضي الله عنه أن تُغَسلَه أسماء بنت عميس رضي الله عنها، ففعلت، وكانت صائمة، فسألت من حضر من المهاجرين: وقالت: " إني صائمة، وهذا يوم شديد البرد، فهل عَلَي من غُسل؟ "، فقالوا: " لا "، وكان أبو بكر رضي الله عنه قد عزم عليها (1278) لما أفطرت، وقال: " هو أقوى لك"، فذكرت يمينه في آخر النهار، فدعت بماء، فشربت، وقالت: " والله لا أتْبِعُهُ اليومَ حِنْثًا " (1279) . ومن ذلك أيضًا ما رُوِي من أن النساء قمْنَ (حين رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحُد يسألن الناس عن أهلهن، فلم يُخْبَرن حتى أتين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا قال واحدة إلا أخبرها، فجاءته حَمْنَة بنت جحش، فقال: " يا حَمْنَةُ، احتسبي أخاك عبد الله بن جحش، قالت: " إنا لله وإنا إليه راجعون، رحمه الله، وغفر له "، ثم قال: " يا حمنة، احتسبي خالك حمزة بن عبد المطلب " قالت: " إنا لله، وإنا إليه راجعون، رحمه الله،   (1276) وقيل: لعلها: (لومقتك) أي: أحببتك! (1277) رواه ابن سعد في " الطبقات " (8/208 - 209) ، وأبو نعيم في " الحلية " (2/76) ، وانظر: " سير أعلام النبلاء " (2/286 - 287) ، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (أخرجه ابن السكن بسند صحيح عن الشعبي) اهـ. من "الإصابة " (7/ 491) . (1278) أي: أقسم عليها. (1279) رواه ابن سعد في " الطبقات " (8/208) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 وغفر له"، ثم قال: يا حمنة احتسبي زوجك مُصعب بن عمير "، فقالت: "يا حَرَباه، (1280) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن للمرأة لشُعبة من الرجل ما هى له في شيء " (1281) ، ولعمرك إن في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلاغا لما أوثرت المرأة به، وَأبَرَّت فيه من فرط الحنو على زوجها، وفضل الوفاء له بعد موته (1282) . ولما تسور المجرمون الفَسَقَةُ على أمير البررة، وقتيل الفجرة، عثمان رضي الله عنه، وتبادروه بالسيوف، ألقت زوجته " نائلة بنت الفُرافِصة " بنفسها عليه حتى تكون له وِقاء من الموت، فلم يَرعَ القتلةُ الأثمةُ حرمتها، وضربوه بالسيف ضربة انتظمت أصابعها، ففصلتهن عن يدها، ونفذت إليه، فجندلته، ثم ذبحوه رضي الله تعالى عنه (1283) ، ولما خطبها أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه أبت، وقالت: " والله لا قَعَدَ أحد مني مقعدَ عثمان أبدًا " (1284) . * * *   (1280) الحَرَبُ: السلَب، وفي لفظ ابن ماجه: " قالت: " واحزناه ") . (1281) رواه ابن ماجه في سننه رقم (1590) بلفظ: (إن للزوج من المرأة لشعبَة، ما هي لشيء) ، وكذا ابن سعد في " الطبقات" (8/175) ، وابن إسحق في السيرة بلفظ: (إن زوج المرأة منها لبمكان) ، وضعفه الألباني في " ضعيف ابن ماجه" رقم (347) ص (120) ، وكذا في " ضيف الجامع" رقم (1960) . (1282) ومن ثم قال الإمام أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله تعالى: " ولا ينبغي لوالدي المرأة، ولا لجميع أهلها أن يطلبوا منها الميل إلى إيثارهم أكثر من ميلها إلى زوجها، فإنها تميل إلى زوجها بالطبع، وقد أخبر عنها الشارع بذلك، فلتعذر في ذلك" اهـ. من " أحكام النساء" ص (70) . (1283) " الدر المنثور في طبقات ربات الخدور" ص (517) ، " المرأة العربية" (2/117) . (1284) " العقد الفريد، لابن عبد ربه، كتاب المرجانة الثانية في النساء وصفاتهن (ج 3) ، و " الأعلام " (7/343) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 ومع أن رغبة الأيم عن الزواج، وكراهيتها له، واعتكافها دونه، لم يكن من مبادئ الإسلام في شيء، فقد قال تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم) الآية، النور (32) . وعن جابر عن أم مبشر الأنصارية: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب أم مبشر بنت البراء بن معرور (1285) فقالت: " إني اشترطت لزوجي ألا أتزوج بعده "، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن هذا لا يصلح " (1286) . ومع الرخصة لهن في النكاح والتوسعة عليهن في أمره - فإن كثيرًا من الأيامى أنفن أن يتبدلن ببعولتهن زوجا آخر، وفاءً لهم، وبقيًا على ذكراهم، بل أملا أن تمتد الزوجية بينهم في الدار الآخرة: فقد كان مما بشر به الإسلام المرأة الصالحة، أن المؤمن إذا دخل الجنة، ألحق به أزواجه: قال تعالى: (جَنات عدن يدخلونها ومن صَلَح من ءابائهم وأزواجهم وذُرياتهم) (الرعد: 23) ، فيجمعهم الله في الجنات منعمِين، يتكئون في ظلالها مسرورين فرحين: (هم وأزواجهم في ظلال على الأرائِك متكون) (يس: 56) ، (ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحْبَرُون) (الزخرف: 70) . وكان من آيات وفاء كثير من الصالحات لأزواجهن بعد موتهن إمساكُهن عن الزواج، لا لغرض إلا ليكن زوجات لهن في الجنة. فعن ميمون بن مهران قال: خطب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه   (1285) أي خطبها لزيد بن حارثة بعد أن مات أهله، كما في رواية البخاري في " التاريخ الكبير ". (1286) رواه الطبراني في " المعجم الكبير " (2/14) ، و " الصغير " (2/138) ، والحديث حسنه الحافظ في " الفتح" (9/219) ، وكذا حسنه الألباني بشاهده عند البخاري في" التاريخ الكبير"، انظر: " الصحيحة" حديث رقم (608) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 أم الدرداء، فأبت أن تَزَوَّجَهُ، وقالت: سمعت أبا الدرداء يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المرأة في آخر أزواجها، أو قال: لآخر لآخر أزواجها " (1287) . وعن عكرمة: (أن أسماء بنت أبي بكر كانت تحت الزبير بن العوام، وكان شديدًا عليها، فأتت أباها، فشكت ذلك إليه، فقال: " يا بنية اصبري، فإن المرأة إذا كان لها زوج صالح، ثم مات عنها، فلم تَزَوجْ بعده جُمع بينهما في الجنة) (1288) . وكل حذيفة رضي الله عنه أنه قال لزوجته: " إن شئتِ أن تكوني زوجتي في الجنة، فلا تزوجي بعدي، فإن المرأة في الجنة لآخر أزواجها في الدنيا " (1289) . وعن جبير بن نفير، عن أم الدرداء، أنها قالت لأبي الدرداء: " إنك خَطَبتَنِي إلى أبَوَي في الدنيا، فأنكحوك، وأنا أخطبك إلى نفسك في الآخرة"، قال: " فلا تنكحين بعدي"، فخطبها معاوية، فأخبرته بالذي كان، فقال: " عليكِ بالصيام " (1290) . وقال الأصمعي: (خرج سليمان بن عبد الملك ومعه سليمان بن المهلب بن أبي صفرة من دمشق متنزهين، فمرا بالجبانة، وإذا امرأة جالسة   (1287) انظر: " المطالب العالية" (1673) ، و" كنز العمال" (45557) ، (45580) ، " تاريخ بغداد " (9/228) ، " الفقيه والمتفقه" (48) ، والحديث صححه الألباني في " الصحيحة" رقم (1281) بشواهده. (1288) انظر: " الصحيحة" للألباني (3/276) ، و "التذكرة" للقرطبي ص (576) . (1289) أخرجه البيهقي في "سننه" (7/69- 70) وتتمته: " فلذلك حرم الله على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكحن بعده، لأنهن أزواجه في الجنة "، وفيه أبو إسحق السبيعي. (1290) "سير أعلام النبلاء" (4/278) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 على قبر تبكي، فهبت الريح، فرفعت البرقع عن وجهها، فكأنها غمامة جَلَت شمسا، فوقفنا متعجبين، ننظر إليها، فقال لها ابن المهلب: " يا أمة الله، هل لك في أمير المؤمنين بعلا؟ "، فنظرت إليهما، ثم نظرت إِلى القبر، وقالت: فإن تسألاني عن هواي، فإنه ... بملحود هذا القبر يا فتيانِ وإني لأستحييه والتربُ بيننا ... كما كنت أستحييه وهو يراني فانصرفنا ونحن متعجبون) (1291) . وأخيرًا: هذا مثل للزوجة المسلمة الفاضلة ينبغي لكل مسلمة أن تجعله نصب عينيها: (إن فاطمة بنت أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان كان لأبيها - يوم تزوجت- السلطان الأعظم على الشام والعراق والحجاز واليمن وإيران والسند وقفقاسيا والقريم وما وراء النهر إلى نجارا وجنوة شرقَا، وعلى مصر والسودان وليبيا وتونس والجزائر والمغرب الأقصى وإسبانيا غربا، ولم تكن فاطمة هذه بنت الخليفة الأعظم وحسب، بل كانت كذلك أخت أربعة من فحول خلفاء الإسلام وهم: الوليد بن عبد الملك، وسليمان بن عبد الملك، ويزيد ابن عبد الملك، وهشام بن عبد الملك، وكانت فيما بين ذلك زوجة أعظم خليفة عرفه الإسلام بعد خلفاء الصدر الأول، وهو أمير المؤمنين " عمر ابن عبد العزيز ". بنت الخليفة، والخليفة جَدُّها ... أخت الخلائف، والخليفة زوجها " (1292)   (1291) " الدر المنثور" ص (465-466) ، و" أخبار النساء " ص (138) ، وهذا الأخير منسوب خطأ لابن قيم الجوزية، كما حققه العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد في " ابن قيم الجوزية: حياته، وآثاره" ص (121-126) . (1292) " البداية والنهاية، (9/193) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 وهذه السيدة التي كانت بنت خليفة، وزوجة خليفة، وأخت أربعة من الخلفاء، خرجت من بيت أبيها إلى بيت زوجها يوم زفت إليه وهى مثقلة بأثمن ما تملكه امرأة على وجه الأرض من الحلي والمجوهرات، ويقال إن من هذه الحلي قرطي (1293) مارية اللذين اشتهرا في التاريخ، وتغني بهما الشعراء، وكانا وحدهما يساويان كنزا. ومن فضول القول أن أشير إلى أن عروس عمر بن عبد العزيز كانت في بيت أبيها تعيش في نعمة لا تعلو عليها عيشة امرأة أخرى في الدنيا لذلك العهد، ولو أنها استمرت في بيت زوجها تعيش كما كانت تعيش قبل ذلك لتملأ كرشها في كل يوم، وفي كل ساعة بأدسم المأكولات وأندرها وأغلاها، وتنعم نفسها بكل أنواع النعيم الذي عرفه البشر، لاستطاعت ذلك،.. إِلا أن الخليفة الأعظم عمر بن عبد العزيز اختار- في الوقت الذي كان فيه أعظم ملوك الأرض- أن تكون نفقة بيته بضعة دراهم في اليوم (1294) ، ورضيت بذلك زوجة الخليفة التي كانت بنت خليفة وأخت أربعة من الخلفاء فكانت مغتبطة بذلك لأنها تذوقت لذة القناعة، وتمتعت بحلاوة الاعتدال، فصارت هذه اللذة وهذه الحلاوة أطيب لها وأرضى لنفسها من كل ما كانت تعرفه قبل ذلك من صنوف البذخ وألوان الترف، بل اقترح   (1293) (وكان أبوها عبد الملك بن مروان رحمه الله قد أعطاها قرطي مارية، والدرةَ اليتيمة، وكانت أحب أخواتها إليه، وكان قد دعا لها قائلا: " اللهم احفطني فيها" فتزوجها ابن عمها عمر بن عبد العزيز) اهـ من " البداية والنهاية" (9/67) . (1294) (وقد خيرها عقب توليه الخلافة بين أن تقيم معه على أنه لا فراغ له إليها، وبين أن تلحق بأهلها، فبكت، وبكى جواريها لبكائها، فسمِعَت ضجة في داره، ثم اختارت مقامها معه على كل حال رحمها الله) اهـ من " البداية والنهاية" (9/198) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 عليها زوجها أن تترفع عن عقلية الطفولة، فتخرج عن هذه الألاعيب والسفاسف التي كانت تبهرج بها أذنيها وعنقها وشعرها ومعصميها، مما لا يسمن، ولا يغني من جوع، ولو بيع لأشبع ثمنه بطون شعب برجاله ونسائه وأطفاله، فاستجابت له، واستراحت من أثقال الحلي والمجوهرات واللآلئ والدرر التي حملتها معها من بيت أبيها، فبعثت بذلك كله إلى بيت مال المسلمين. وتوفي عقب ذلك أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، ولم يخلف لزوجته وأولاده شيئًا، فجاءها أمين بيت المال، وقال لها: " إن مجوهراتك يا سيدتي لا تزال كما هي، وإني اعتبرتها أمانة لك، وحفظتها لذلك اليوم، وقد جئت أستأذنك في إحضارها ". فأجابته بأنها وهبتها لبيت مال المسلمين طاعة لأمير المؤمنين، ثم قالت: " وما كنت لأطيعه حيُّا، وأعصيه ميتًا ". وأبت أن تسترد من مالها الحلال الموروث ما يساوى الملايين الكثيرة، في الوقت الذي كانت محتاجة فيه إلى دريهمات، وبذلك كتب الله لها الخلود، وها نحن نتحدث عن شرف معدنها ورفيع منزلتها بعد عصور وعصور، رحمها الله، وأعلى مقامها في جنات النعيم) (1295) .   (1295) (مقدمة " آداب الزفاف في السنة المطهرة ") للألباني ص (84-88) بقلم الشيخ محب الدين الخطيب رحمه الله تعالى) طبعة سنة (1409 هـ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 [الفصل الخامس] المرأة مؤمنةً مجاهدةً صابرةً لقد رفع الإسلام المرأة إلى أبعد مما يطمح خيالها، ويصبو أملها،: ساق لها من آي الذكر الحكيم، ما بهر سناه بصرها، وملكت محجته نفسها، واستقادت بلاغته وحسن مساقه قلبها، وأنصتت لما وصف به الله رحمته وعزته، وناره وجنته، وما أعد للصابرات والمحسنات من جزيل الأجر، وسَنِي المنزلة، فأثار ذلك عاطفتها، وأفاض وجدانها، وأنار بصيرتها، فكان حقا لذلك أن يصيب حبة قلبها، ويجُول في مجال دمها، ويتأشب بين أحناء ضلوعها. كذلك كان أمر نساء العرب، فإن أول قلب خفق بالإسلام، وتألق بنوره قلب امرأة منهن، هي سيدة نساء العالمين في زمانها: أم القاسم خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، قال الإمام عز الدين بن الأثير رحمه الله تعالى: " خديجة أولُ خَلقِ الله أسلَمَ، بإجماع المسلمين " (1296) . وما كانت تلك المرأة في سواء النساء، بل لقد هيئ لها من جلال الحكمة، وبعد الرأي، إلى زكاء الحسب، وذكاء القلب، ما عَزَّ على الأكثرين من الرجال، فلم تأخذ الدين مشايعة، ولم تتلقه مجاملة، بل أخذته عن تأثر به، وظمأ إليه. ومناقبها جَمة، وهى مِمَّن كمُلَ من النساء، كانت عاقلة دَيِّنة   (1296) " أسد الغابة " (7/78) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 مَصُونةً كريمة، من أهل الجنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُثني عليها، ويُفَضلُها على سائر أمهات المؤمنين، ويبالغ في تعظيمها، بحيث إن عائشة رضي الله عنها كانت تقول: " ما غِرْتُ من امرأة ما غِرت من خديجة، من كثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها " (1397) . ومن كرامتها عليه صلى الله عليه وسلم أنها لم يتزوج امرأة قبلها، وجاءه منها عدةُ أولاد، ولم يتزوج عليها قط، ولا تَسرَّي إلى أن قضت نَحْبَها، فَوَجَدَ لفقدها، فإنها كانت نِعم القرين، وكانت تنفق عليه من مالها، ويَتَّجِرُ هو صلى الله عليه وسلم لها. " وقد أمره الله أن يبشرها ببيت في الجنة من قَصَب، لا صخَبَ فيه ولا نَصَب " (1298)) (1299) اهـ. وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة لم يكد يسأم من ثناء عليها واستغفار لها، فذكرها يومًا، فحملتني الغيرة، فقلت: " لقد عَوَّضك الله من كبيرة السن! "، قالت: فرأيتُه غضب غضبًا أسْقِطْتُ في خَلَدي (1300) ، وقلت في نفسي: " اللهم إن أذهبتَ غضبَ رسولك عني لم أعُدْ أذكرها بسوء "، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما لقيتُ، قال: " كيف قلتِ؟ والله لقد آمنت بي إذ كَذَّبني الناسُ، وآوتني إذ رفضني الناس، وَرُزِقْتُ منها الولد وحرمتموه مني "، قالت:   (1297) تقدم برقم (1033) . (1298) أخرجه البخاري (7/105) ، ومسلم (2432) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وكذا أخرجه البخاري (7/104) ، ومسلم (2433) من حديث عبد الله ابن أبي أوفى رضي الله عنه. وأراد بالبيت: القصر، والقصب هنا: لؤلؤ مجوف واسع كالقصر المنيف، والصخب: اختلاط الأصوات، والنصب: التعب. (1299) "سير أعلام النبلاء " (2/110) . (1300) الخلَد: بالتحريك، البال والقلب والنفس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 " فغدا وراح عَلَىّ بها شهرًا " (1301) . أجل، لقد تأثرت خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين - رضي الله عنها- بهذا الدين تأثرا نفذ إلى قلبه صلى الله عليه وسلم، فكان مبعث الغبطة والسكينة عند تدافع النوب، واشتداد الخطوب، ثم أعقبها جمهور النساء فتأثرن بهذا الدين تأثرًا هان وراءه كل شيء. وأول من سبق إليه فريق الضعاف اللواتي فقدن النصَفَة، وَاسْتَهَنَّ بما أصابهن في سبيل الله، من ظلم وذل وآلام. وكانت لقريش صولة وانبساط بالأذى على من آمن من أولئك الضعاف حتى لقد تجاوزوا به حد التعذيب والإيلام، إلى الافتنان في التمثيل، والتأنق في التنكيل، ومن أولئك اللواتي استعذبن العذاب: سمية بنت خُبَّاط أم عمار بن ياسر كانت سابعة سبعة في الإسلام، وكان بنو مخزوم إذا اشتدت الظهيرة، والتهبت الرمضاء، خرجوا بها هي وابنها وزوجها إلى الصحراء، وألبسوهم دروع الحديد، وأهالوا عليهم الرمال المتقدة، وأخذوا يرضخونهم بالحجارة، (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بعمار وأمه وأبيه وهم يعذبون بالأبطح في رَمْضاء مكة فيقول: " صبرا آل ياسر، موعدكم الجنة " (1302) حتى تفادى الرجلان ذلك العذاب المر بظاهرة من الكفر أجرياها على لسانهما، وقلباهما مطمئنان بالإيمان، وقد عذر الله أمثالهما بقوله تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) فأما المرأة فاعتصمت بالصبر، وقرت على العذاب، وأبت أن تعطي القوم ما سألوا من الكفر بعد الإيمان، فذهبوا بروحها، وأفظعوا قِتلتها، فقد أنفذ الشريف النذل أبو جهل بن هشام حربته فيها، فماتت رضي الله عنها، وكانت أول شهيدة في الإسلام.   (1301) تقدم برقم (1036) . (1302) "الإصابة" (7/713) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 قال ابن حجر: (وأخرج ابن سعد بسند صحيح عن مجاهد قال: أول شهيد في الإسلام سمية والدة عمار بن ياسر، وكانت عجوزًا كبيرة، ضعيفة،. ولما قُتل أبو جهل يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار: " قَتَل الله قاتِلَ أمك " (1303) اهـ. وغير سمية كثيرات احتملن فوق ما احتملت: فمنهن من كانوا يلقونها، ويحملون لها مكاوي الحديد، ثم يضعونها بين أعطاف جلدها، ويدعون الأطفال يعبثون بعينها حتى يذهب بصرها، وممن عُذب بهذا العذاب زنيرة جارية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان هو وجماعة من قريش يتولون تعذيبها، ولما ذهب بصرها قال المشركون: " ما أصاب بصرها إلا اللات والعزى "، فقالت لهم: " والله ما هو كذلك، وما تدري اللات والعزى من يعبدهما، ولكن هذا أمر من السماء والله قادر على أن يرد عليَّ بصري "، قيل: " فرد عليها بصرها"، فقالت قريش: " هذا من سحر محمد صلى الله عليه وسلم "، وقد اشتراها أبو بكر وأعتقها رضي الله عنه " (1304) . ومنهن من كانوا يسقونها العسل، ويوثقونها بالأغلال، ثم يلقونها بين الرمال، ولها حرٌّ يذيب اللحم، ويصهر العظم، حتى يقتلها الظمأ " (1305) ، وممن فعلوا بهن ذلك أم شريك غزيَّة بنت جابر بن حكيم- قال ابن عباس رضي الله عنهما: (وقع في قلب أم شريك الإسلام وهي بمكة، فأسلمت،   (1303) " الإصابة " (7/713) . (1304) " سيرة ابن هشام " (1/126) وقد أعتق أبو بكر الصديق رضي الله عنه ممن كان يعذب في الله سبعة، وهم: بلال، وعامر بن فهيرة، وزنيرة، وجارية بني المؤمل، والنهدية، وابنتها، وأم عُبَيس. (الإصابة 8/257) . (1305) " المرأة العربية" (2/73) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 ثم جعلت تدخل على نساء قريش سرًّا، فتدعوهن، وترغبهن في الإسلام، حتى ظهر أمرها لأهل مكة، فأخذوها، وقالوا لها: " لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا، ولكنا سنردك إليهم "، قالت: فحملوني على بعير ليس تحتي شيء موطأ ولا غيره، ثم تركوني ثلاثًا لا يطعموني، ولا يسقوني، فنزلوا منزلا، وكانوا إذا نزلوا وقفوني في الشمس واستظلوا، وحبسوا عني الطعام والشراب حتى يرتحلوا، فبينما أنا كذلك إذا بأثر شيء بارد وقع علي منه ثم عاد، فتناولته، فإذا هو دلو ماء، فشربت منه قليلا ثم نزع مني، ثم عاد فتناولته، فشربت منه قليلا، ثم رفع، ثم عاد أيضا، فصنع ذلك مرارا حتى رويت، ثم أفضت سائره على جسدي وثيابي، فلما استيقظو " إذا هم بأثر الماء، ورأوني حسنة الهيئة، فقالوا لي: " انحللت فأخذتِ سقاءنا فشربت منه؟ " فقلت: " لا والله ما فعلت ذلك، كان من الأمر كذا وكذا"، فقالوا: " لئن كنت صادقة، فدينك خير من ديننا "، فنظروا إِلى الأسقية فوجدوها كما تركوها، فأسلموا لساعتهم) (1306) . وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه- قبل أن يسلم- يتولى تعذيب جارية مسلمة لبني المؤمل، فلا يزال يضربها بالسياط، حتى إذا مَل قال لها: " إني أعتذر إليك أني لم أتركك إلا ملالة "، فتقول له: " كذلك فعل الله بك " (1307) . وقالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: (لما توجه النبي صلى الله عليه وسلم من مكة حمل أبو بكر معه جميع ماله- خمسة آلاف، أو ستة آلاف- فأتاني جدي أبو قحافة وقد عمي، فقال: " إن هذا قد فجعكم بماله   (1306) "الإصابة" (8/248) ، " حلية الأولياء" (2/66) ، " الطبقات" لابن سعد (8/110-111) . (1307) " الطبقات" لابن سعد (2/187) ، وانظر: " المرأة العربية" (2/73-74) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 ونفسه "، فقلت: " كلا، قد ترك لنا خيرًا كثيرًا "، فعمدتُ إلى أحجار، فجعلتهن في كوة البيت، وغطيت عليها بثوب، ثم أخذتُ بيده، ووضعتُها على الثوب، فقلت: هذا تركه لنا "، فقال: " أما إذ ترك لكم هذا، فنعم ". وعن ابن إسحق قال: حُدِّثْتُ عن أسماء، قالت: أتى أبو جهل في نفر، فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك؟ قلت: لا أدري- والله أين هو؟، فرفع أبو جهل يَدَه، ولطم خدي لطمة خرَّ منها قُرطي، ثم انصرفوا) (1308) اهـ. وخرجت أم أيمن مهاجرة، وليس معها زاد ولا ماء، فكادت تموت من العطش، فلما كان وقت الفطر، وكانت صائمة سمعت حسًّا على رأسها، فرفعته، فإذا دلو معلق، فشربت منه حتى رويت، وما عطشت بقية عمرها " (1309) . آمنت أم كلثوم بنت عقبة- وهو سيد من سادات قريش- دون رجال بيتها، وفارقت خدرها، ومستقر أمنها ودعتها، تحت جنح الليل، فريدة شريدة، تطوي بها قدماها ثنايا الجبال، وأغوار التهائم بين مكة والمدينة، إلى مفزع دينها، ودار هجرتها، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أعقبتها بعد ذلك أمها، فاتخذت سنتها، وهاجرت هجرتها، وتركت شباب أهل بيتها وكهولهم، وهم في ضلال يعمهون (1310) . ذلك قليل من كثير مما يشهد للمرأة المسلمة باحتكام الدين في ذات نفسها، واستهانتها بالدم والروح في سبيله.   (1308) " سير أعلام النبلاء " (2/290) . (1309) انظر: " حلية الأولياء" (2/67) ، "الطبقات " (8/162) . (1310) انظر: " الطبقات" (8/167) ، " المرأة العربية " (2/75) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 ومن هذا القبيل مواقف تكشف وضوح قضية " الولاء والبراء " في حس المرأة المسلمة وضوحًا لا يخالطه شائبة ضعف، أو انهزام، أو هوادة مع مَنْ حادَّ الله عز وجل ورسولَه صلى الله عليه وسلم. فهذه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، وقد جاءتها أمها " قُتَيْلَة " راغبة في صلتها، فتوقفت حتى سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: " يا رسول الله، إن أمي قدمت، وهى راغبة، أفأصلها "، قال: " نعم، صِلِي أمك " (1311) ، وفيها نزل قوله تبارك وتعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) (الممتحنة: 8) . وعن يزيد بن الأصم قال: تلقيتُ عائشة، وهي مقبلة من مكة، أنا وابنُ أختها ولدٌ لطلحة، وقد كنا وقعنا في حائط بالمدينة، فأصبنا منه، فَبَلَغَها ذلك؛ فأقبلت على ابن أختها تلومه؛ ثم وَعَظَتنِي موعظةً بليغةً، ثم قالت: أما عَلِمتَ أن الله ساقك حتى جعلك في بيت نبيه، ذهبتْ والله ميمونة، ورُمِي بحبلك على غاربك! أما إنها كانت من أتقانا لله، وأوصلِنا للرحم (1312) وعن يزيد: أن ذا قرابة لميمونة دخل عليها، فوجدتْ منه ريح شراب، فقالت: " لئن لم تخرج إلى المسلمين، فيجلدوك، لا تدخلْ عليَّ أبدا " (1313) . كذلك تأثرت المرأة بأدب الإسلام، وخرجت به عما احتكم بها في الجاهلية من عادة نافرة، وتقليد ذميم.   (1311) تقدم برقم (349) . (1312) أخرجه ابن سعد (8/99) ، والحاكم (4/32) . (1313) أخرجه ابن سعد (8/99) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 وكان مِن أول ما لقنت المرأة من أدب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، الاعتصامُ بالصبر، إذا دجا الخطب، وجل المصاب. وقد تقدم ذكر خبر الخنساء، وما ذهب به الدهر من حديث جزعها، وتصدع قلبها، واضطرام حشاها على أخيها، لقد استحال كل ذلك إلى صبرٍ أساغه الإيمان، وجمله التقى، فلم تأس على فائت من متاع الحياة الدنيا. أولئك أبناؤها، وهم أشطار كبدها، ونياط قلبها، خرجوا إلى القادسية وكانوا أربعة، فكان مما أوصتهم به قولها: " يا بَني إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو، إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما هجَّنْت حَسبَكم، وما غيرت نسبكم، واعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية. اصبروا، وصابروا، ورابطوا، واتقوا الله لعلكم تفلحون، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، وجللت نارا على أرواقها، فيمموا وطيسها (1314) ، وجالدوا رسيسها (1315) ، تظفروا بالغنم والكرامة، في دار الخلد والمقامة ". فلما كشرت الحرب عن نابها، تدافعوا إليها، وتواقعوا عليها، وكانوا عند ظن أمهم بهم، حتى قتلوا واحدا في أثر واحد. ولما وافتها النعاة بخبرهم، لم تزد على أن قالت: " الحمد لله الذي شرفني بقتلهم وأرجو من الله أن يجمعني بهم في مستقر الرحمة " (1316) .   (1314) الوطيس: المعركة، أو الضرب فيها. (1315) الرسيس: الأصل. (1316) انظر: " الاستيعاب " لابن عبد البر (4/297) ، و "الإصابة" (7/615-616) ، و " المرأة العربية" (2/79 - 80) ، وقد تقدم برقم (و) ص (197) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 ذلك أبعد مدى تبلغه المرأة من جلال الصبر وقوة الإيمان، ولعل أبعد منه: ما حدَّث أنس بن مالك عن أمه أم سُليم بنت مَلْحان الأنصارية زوج أبي طلحة زيد بن سهل قال: (مرض أخ لي من أبي طلحة يدعى أبا عمير، فبينما أبو طلحة في المسجد مات الصبي، فهيأت أم سليم أمره، وقالت: " لا تخبروا أبا طلحة بموت ابنه "، فرجع من المسجد، وقد تطيبت له وتصنعت، فقال: " ما فعل ابني "؟ قالت: " هو أسكن مما كان "، وقدمت له عشاءه، فتعشى هو وأصحابه الذين قدموا معه، ثم قامت إلى ما تقوم له المرأة، فأصاب من أهله، فلما كان آخر الليل قالت: " يا أبا طلحة، ألم تر إلى آل فلان، استعاروا عارية (1317) ، فتمتعوا بها، فلما طُلِبَتْ إليهم شق عليهم؟ " قال: " ما أنصفوا"، قالت: " فإن ابنك فلانا كان عارية من الله فقبضه إليه ".. فاسترجع، وحمد الله، وقال: " والله لا أدعك تغلبينني على الصبر "، حتى إذا أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: " بارك الله لكما في ليلتكما"، فاشتملت منذ تلك الليلة على عبد الله بن أبي طلحة، ولم يكن في الأنصار شاب أفضل منه، وخرج منه رجل كثير، ولم يمت عبد الله حتى رزق عشر بنين كلهم حفظ القرآن، وأبلى في سبيل الله) (1318) . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: شهدت أم سُلَيم " حنينًا " مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها خنجر قد حزمته على وسطها، وإنها يومئذ حامل بعبد الله بن أبي طلحة، فقال أبو طلحة: " يا رسول الله إن أم سليم معها   (1317) العارية: إباحة الانتفاع بعين من أعيان المال، مع بقاء عينها. (1318) " الإصابة" (8/229) ، (الطبقات الكبرى) (8/316) ، وقد استشهد عبد الله بفارس، وأصل الحديث في الصحيحين وغيرهما، وله عدة روايات جمعها العلامة الألباني في " أحكام الجنائز وبدعها" ص (24-26) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 خنجر " فقالت: " يا رسول الله أتخذه إن دنا مني أحد من المشركين بقرت بطنه، أقتل به الطلقاء، وأضرب أعناقهم إن انهزموا بك "، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " يا أم سليمِ، إن الله قد كفى وأحسن " (1319) . وعن عبد المؤمن بن عبد الله القيسي قال: ضَرَبَتْ أم إبراهيم العابدة دابة فكسرت رجلها، فأتاها قوم يُعَزُّونها، فقالت: " لولا مصائب الدنيا لوردنا الآخرة مفاليس " (1320) . [وقال أبو الفرج بن الجوزي في " عيون الحكايات ": (قال الأصمعي: خرجت أنا وصديق لي البادية، فضللنا الطريق، فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق فقصدناها، فسلمنا فإذا امرأة ترد علينا السلام، قالت: " ما أنتم؟ " قلنا: " قوم ضالون عن الطريق أتيناكم فأنسنا بكم "، فقالت: " يا هؤلاء ولوا وجوهكم عني حتى أقضي من حقكم ما أنتم له أهل "، ففعلنا فألقت لنا مِسْحا (1321) فقالت: " اجلسوا عليه إلى أن يأتي ابني "، ثم جعلت ترفع طرف الخيمة وترده " (1322) إلى أن رفعتها، فقالت: " أسأل الله بركة المقبل أما البعير فبعير ابني، وأما الراكب فليس بابني " (1323) ، فوقف الراكب عليها، فقال: " يا أم عقيل، أعظم الله أجرك في عقيل "، قالت: " ويحك مات ابني؟ " قال: " نعم "، قالت: " وما سبب موته؟ " قال: " ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر "، فقالت: " انزل فاقض ذمام (1324) القوم، ودفعت إليه كبشا، فذبحه   (1319) " الطبقات " (8/311) ، وصححه الحافظ في " الإصابة" (8/229) . (1320) " صفة الصفوة" (3/190) . (1321) المسحُ: الفراش. (1322) يعني ترتقب قدوم ولدها. (1323) يعني أنها تفرست وحدثت نفسها بوقوع مكروه لولدها لما رأت غيره راكبا بعيره. (1324) الذمام: الحرمة، والحرمة ما لا يحل انتهاكه، والمقصود هنا أنها قالت له في أشد = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 وأصلحه، وقرب إلينا الطعام فجعلنا نأكل ونتعجب من صبرها، فلما فرغنا خرجت إلينا وقد تكورت، فقالت: " يا هؤلاء هل فيكم من يحسن من كتاب الله شيئًا؟ " قلت: " نعم "، قالت: " اقرأ علي من كتاب الله آيات أتعزى بها "، قلت: " يقول الله عز وجل في كتابه: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) قالت: " آلله إنها لفي كتاب الله هكذا؟ " قلت: " آلله إنها لفي كتاب الله هكذا "، قالت: " السلام عليكم "، ثم صفت قدميها وصلت ركعات، ثم قالت: " إنا لله وإنا إليه راجعون، عند الله أحتسب عقيلًا "، تقول ذلك ثلاثا، " اللهم إني فعلت ما أمرتني به فأنجز لي ما وعدتني "] (1325) . ولما مات عبد الله بن الفرج لم تُعْلِم زوجته لإخوانه بموته، وهم جلوس بالباب ينتظرون الدخول عليه في علته، فغسلته، وكفنته في كساء كان له، فأخذت فرد باب من أبواب بيته، وجعلته فوقه، وشدته بشريط، ثم قالت لإخوانه: " قد مات، وقد فرغت من جهازه "، فدخلوا، فاحتملوه إلى قبره، وأغلقت الباب خلفهم (1326) . وقد مر بك نبأ صفية بنت عبد المطلب الهاشمية رضي الله عنها، وهي عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وشقيقة أسد الله حمزة، وأم حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام، والعوام زوجها هو أخو سيدة النساء خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وأمها من بني زُهرة وهي هالة بنت وهب خالةُ رسول الله   = وقت وأصعبه عليها: اقض حق ضيافة القوم. (1325) " المنحة المحمدية " للشيخ محمد عبد السلام الشقيري رحمه الله ص (208-209) . (1326) " الغرباء " للآجري ص (67) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 صلى الله عليه وسلم، وهي من المهاجرات الأوَل، وكانت قد خرجت يوم أحد في طليعة النسوة اللواتي خرجن لخدمة المجاهدين، ومداواة الجرحى. صلى الله عليه وسلم ولما انهزم المسلمون بعد أن خالف الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثبات سواء كان النصرُ أم كانت الأخرى، وانفض أكثر الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق حوله سوى القلائل من أصحابه، قامت " صفية " رضي الله عنها وبيدها رمح تضرب به في وجوه الناس الفارين المنهزمين، والأعداء المشركين، وتقول لهم: " انهزمتم عن رسول الله!! "، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم أشفق عليها فقال لابنها " الزبير بن العوام ": " القَها فَأرجِعْها، لا ترى ما بشقيقها " أي حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه فلقيها " الزبير " فقال: - " يا أمَّه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمرك أن ترجعي ... ". فقالت صفية: " ولم؟ فقد بلغني أنه مُثِّل بأخي، وذلك في الله عز وجل قليل، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله تعالى ". وعاد الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: " خل سبيلها "، فأتت " صفية " " الحمزة " فنظرت إليه، وصلت عليه، واسترجعت، واستغفرت، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فدُفِن (1327) . ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق جعل نساءه في أطُم (1328) يقال له فارع، ويُروى عن أبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج لقتال عَدُوه رفع نساءه في أطم حَسان رضي الله عنه لأنه كان من أحصن الآطام) إلى أن قال: (فجاء يهودي فلصق   (1327) تقدم برقم (437) . (1328) الأطم: كل حصن مبني بحجارة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 بالأطم ليسمع، قالت صفية: " فأخذت عمودًا فنزلت إليه حتى فتحت الباب قليلًا قليلًا، فحملت عليه فضربته بالعمود فقتلته " (1329) . وفي رواية ابن إسحاق زيادة: (وهي أول امرأة قتلت رجلًا من المشركين) . وفي رواية: ( ... فجاء إنسان من اليهود فرقي في الحصن، حتى أطل عليهن، قالت صفية بنت عبد المطلب: " فقمت إليه، فضربتُه حتى قطعتُ رأسه، فأخذتُ رأسه فرميتُ به عليهم " (1330)) . في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة أحد إلى المدينة خرج الناس من المدينة للاستفسار عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وذويهم المشتركين في المعركة، ويُروى أنه كانت من بينهم امرأة من بني دينار قتل يوم أحُد أبوها وزوجها وأخوها وابنها، فلما نُعوا لها لم تكترث كثيرا، فقد أنساها قلقها على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كل أحد، ولهذا فإنها قالت بعد أن نُعِي لها أبوها وابنها وأخوها وزوجها: " ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " قالوا: " خيرًا يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين "، قالت: " أرونيه حتى أنظر إليه "، فلما رأته سالمًا قالت- مشيرة إلى مصيبتها بفقد أبيها وزوجها وابنها وأخيها-: " كل مصيبة بعدك جلل " (1331) . وفي رواية أن الدينارية هذه جاءت إلى مصارع القوم في المعركة فمرت   (1329) رواه بنحوه ابن سعد في "الطبقات" (8/27) ، والحاكم (4/51) ، وصححه، وتعقبه الذهبي بقوله: (عروة لم يدرك صفية) ، وأورده الهيثمي في " المجمع" (6/134) ، وقال: رواه الطبراني ورجاله إلى عروة رجال الصحيح، ولكنه مرسل. (1330) انظر: " الإصابة" (7/744) . (1331) تريد صغيرة، قال ابن هشام: (الجلل يكون من القليل ومن الكثير) اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 بأبيها وابنها وأخيها وزوجها صرعى، وكلما سألت عن واحد وقالت: " من هذا؟ "، قيل لها: " هذا أبوك، وابنك، وزوجك، وأخوك "، فلم تكترث، بل صارت تقول: " ما فعل رسول الله؟ "، فيقولون: " أمامك "، حتى جاءته وأخذت بناحية ثوبه ثم جعلت تقول: " بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذا سلمت من عطب " (1332) . وقبل أن يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة جاءت أم سعد بن معاذ سيد الأنصار رضي الله عنه تعدو نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على فرسه وسعد آخذ بلجامها، فقال سعد: " يا رسول الله.. أمي "، فقال: " مرحبًا بها "، فوقف لها، فلما دنت من رسول الله صلى الله عليه وسلم عزَّاها بابنها عمرو بن معاذ - وقد اسشهد في غزوة أحد وله اثنتان وثلاثون سنة- فقالت: " أما إذا رأيتك سالمًا، فقد اشتويْت المصيبة " - أي استقللتها -، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل من قتل بأحد، وقال لأم سعد: " يا أم سعد أبشري، وبشري أهلهم أن قتلاهها ترافقوا في الجنة جميعا، وقد شفعوا في أهلهم جميعًا "، قالت: " رضينا يا رسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟ ثم قالت: يا رسول الله ادع لمن خلفوا منهم "، فقال صلى الله عليه وسلم: " اللهم أذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم، وأحسن الخلف على من خلفوا " (1333) . وهذه أم عُمَارة نَسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف الصحابية (الفاضلة المجاهدة الأنصارية الخزرجية، كان أخوها عبد الله بن كعب المازني من البدريين، وكان أخوها عبد الرحمن من البكَائين. شهدت أم عُمارة ليلة العقبة، وشهدت احُدًا، والحديبية، ويوم حُنين، ويوم اليمامة، وجاهدت، وفعلت الأفاعيل، وقُطِعت يدُها في الجهاد.   (1332) " السيرة الحلبية " (2/44) . (1333) " السابق" (2/47) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 قال الواقدي: شهدت أحدا، مع زوجها غَزِيَّة بن عَمرو، ومع وَلَدَيها. وكانت قد خرجت في جيش المسلمين تسقي الظماء، وتأسو الجرحى، وقاتلت، وأبلت بلاءً حسنًا. وكان ضَمْرَةُ بن سعيد المازني يحدث عن جَدته، وكانت قد شهدت أحُدًا، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لَمُقَامُ نسيبة بنت كعب اليوم خير من مُقام فلان وفلان " (1334) . وكانت غرة الحرب وطلعتها للمسلمين، ثم أشاحت بوجهها عنهم، فتناولتهم سيوف المشركين، تنهل من نحورهم، وتطعن في ظهورهم، فانكشفوا وولوا مدبرين، إلا عشرة أو نحوهم، وقفوا يدرأون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحولون دون الوصول إليه. هنالك جاء دور نسيبة، فانتضت سيفها، واحتملت قوسها، وذهبت تصول وتجول بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: تنزع عن القوس، وتضرب بالسيف، وحولها من الغر المذاويد علي وأبو بكر وعمر وسعد وطلحة والزبير والعباس، وولداها وزوجها، فكانت من أظهر القوم أثرا وأعظمهم موقفا. وكانت لا ترى الخطر يدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تكون سداده وملء لهوته حتى قال صلى الله عليه وسلم: " ما التفت يمينًا ولا شمالًا إلا وأنا أراها تقاتل دوني " (1335) . وعن عمارة بن غزية قال: قالت أم عُمارة: (رأيتُني، وانكشف   (1334) " الطبقات" (8/302) ، و " سير أعلام النبلاء" (2/278 -279) . (1335) " الطبقات" (8/303) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما بقى إلا في نُفَيْر ما يُتِمُّون عشرة؛ وأنا وابناي وزوجي بين يديه نَدب عنه، والناس يمرون به منهزمين، ورآني ولا ترسَ معي، فرأى رجلًا موليًا ومعه ترس، فقال: ألقِ ترسك إلى من يقاتل، فألقاه، فأخذته، فجعلت أترس به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما فعل بنا الأفاعيلَ أصحاب الخيل؛ لو كانوا رَجالةً مثلَنا أصبناهم، إن شاء الله. فيُقبل رجل على فرس، فيضربني، وترستُ له، فلم يصنع شيئًا، وولَّى؛ فأضرب عُرقوب فرسه، فوقع على ظهره، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصيح: " يا ابن أم عمارة، أمَكَ! أمك! قالت: فعاونني عليه، حتى أوردتُه شَعوب) (1336) . ومما حدث ابنها عمارة قال: (جُرحْتُ يومئذ جرحًا في عضدي اليسرى، ضربني رجل كأنه الرَّقل (1337) ، ومضى عني، ولم يُعَرّج علىَّ، وجعل الدم لا يرقأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اعصب جرحك "، فأقبلت أمي إلي، ومعها عصائب في حَقْوَيْها، قد أعدَّتها للجراح، فربطت جرحي، والنبي واقف ينظر إليَّ، قالت: " انهض بُنَيَّ فضارِب القوم "، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟ " قالت: وأقبل الرجل الذي ضرب ابني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ضارب ابنك "، قالت: " فاعترضتُ له فضربتُ ساقه، فبرك"، قالت: " فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسمُ حتى رأيت نواجذه "، وقال: " استقدتِ يا أم عمارة "، ثم أقبلنا نَعُلَّه (1338) بالسلاح حتى أتينا على نفسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " الحمد لله الذي ظفَّرك،   (1336) " الطبقات " (8/302) ، وشَعوب: من أسماء المنية. (1337) الرقل: جمع رقلة، وهي النخلة العالية. (1338) عَلَّ الضاربُ المضروبَ: تابع عليه الضرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 وأقرَّ عينك من عدوك، وأراك ثأرك بعينك ". وأصيبت نسيبة في هذا اليوم بثلانة عشر جرحًا، واحد منها غار في عاتقها فنزف الدم منه (1339) ، وهي رغم ذلك كالصاعقة الساحقة، تضرب في نحور العدو، وترتمي بين صفوفهم، غير آبهة ولا دارية بالدم الناعر من جسمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمّك أمك، اعصب جرحها، بارك الله عليكم من أهل بيت، مقام أمك خير من مقام فلان وفلان "، فلما سَمِعَتْ أمُه قالت: " ادع الله أن نرافقك في الجنة"، فقال: " اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة "، فقالت: " ما أبالي ما أصابني في الدنيا " (1340)) . وولدها حبيب بن زيد بن عاصم هو الذي أخذه مسيلمة الكذاب، فقطًّع أعضاءه عضوًا عضوًا ليرتد عن دينه، حتى مات تحت العذاب، وهو ثابت على دينه (1341) .. وبلغها مقتله، فاحتسبته عند الله، وأقسمت أن تقاتل مسيلمة حتى يقتل أو تقتل، فذهبت إلى اليمامة، واشتركت في الموقعة   (1339) ولقد ظلت تداوي هذا الجرح سنة، وحين نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إلى حمراء الأسد "، بعد انتهاء غزوة أحد بساعات شدت عليها ثيابها، فما استطاعت من نزف الدم، رضي الله عنها ورحمها- انظر: " الطبقات" لابن سعد (8/302) . (1340) " الطبقات " لابن سعد (8/302-303) . (1314) وقصة ذلك: أن مسيلمة لعنه الله وجد فرصة على حبيب فقال له: " هل تشهد أني رسول الله "؟ فقال حبيب: " لا أسمع "، فقال مسيلمة: " أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ "، فقال حبيب: " نعم "، فأمر مسيلمة بقتل حبيب كما في " الحلية " (1/356) ، فكان رجاله يقطعون جسمه عضوا عضوا، وفي كل مرة يعرضون عليه نفس السؤالين، فكان رضي الله عنه يجيب السؤال الأول بالصمم، والثاني بنعم، وكأنه رضي الله عنه كان يتمثل قول الشاعر: أصَمُّ عن الشيء الذي لا أريده ... وأسمع خلقِ الله حين أريد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 التي قتل فيها مسيلمة، وأبلت بلاء حسنًا -وكانت قد أصبحت مسنة- حتى قطعت يدها وهي تحاول قتل مسيلمة، وجُرِحت سوى يدها أحدَ عَشر جرحًا، ثم عادت من المعركة بيد واحدة، والدم ينزف، وكان أبو بكر رضي الله عنه وهو خليفة يأتيها يسأل عنها، واستمر جرحها ينزف دمًا حتى فارقت الحياة، وأدركتها الوفاة رضي الله عنها) (1342) . [بعد الانسحاب الرائع لخالد بن الوليد من سرية مؤتة والذي أنقذ به جيشه من فناء محقق، لم يكد خالد بن الوليد رضي الله عنه يعود بجيشه، إلى ضواحي المدينة بـ (الجرف) حتى اصطدم بأهل المدينة يصيحون بالجيش: " يا فرار يا فرار، فررتم في سبيل الله "، ويحثون في وجوههم التراب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " ليسوا بفرَّار، ولكنهم كُرَّار إن شاء الله". ورغم ذلك ظل أهل المدينة حانقين على الجيش يؤنبون كل من لاقوه من أفراده حتى المرأة كانت لا تفتح الباب لزوجها منهم، وتذكره بأنه من الذين فروا؛ وفضلوا الحياة على الاستشهاد في سبيل الله: فقد روي عن أبي بكر بن عبد الله بن عتبة أنه كان يقول: (ما لقي جيش بعثوا معنا ما لقي أصحاب مؤتة من أهل المدينة، لقيهم أهل المدينة بالشر، حتى إن الرجل لينصرف إلى بيته وأهله، فيدق عليهم الباب، فيأبون أن يفتحوا له، يقولون: " ألا تقدمت مع أصحابك؟ ") يعنى الذين استشهدوا] (1343) . وفي وقعة اليرموك حرض أبو سفيان رضي الله عنه النساء، فقال: " من رأيتنه فارًّا فاضرِبْنه بهذه الأحجار والعصي حتى يرجع " (1344) ،   (1342) " الطبقات" (8/304) ، و " سير أعلام النبلاء " (2/281) . (1343) انظر: " البداية والنهاية " (4/ 241) ، و "غزوة مؤتة" لمحمد أحمد باشميل ص (330 - 331) . (1344) " البداية والنهاية " (7/11) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 وحمل المسلمون على الروم حملة منكرة، ودارت بينهم الحرب كما تدور الرحى، وتكاثرت جموع الروم على ميمنة المسلمين، فعادت الخيل تنكص بأذنابها راجعة على أعقابها منكشفة كانكشاف الغنم بين يدي الأسد، ونظرت النساء خيل المسلمين راجعة على أعقابها، فنادت النساء: " يا بنات العرب! دونكن والرجال، ردوهم من الهزيمة حتى يعودوا إلى الحرب "، قالت سعيدة بنت عاصم الخولاني: (كنت في جملة النساء يومئذ على التل، فلما انكشفت ميمنة المسلمين صاحت بنا عقيرة بنت غفار، وكانت من المترجلات الباذلات، ونادت: " يا نساء العرب! دونكن والرجال، واحملن أولادكن على أيديكن، واستقبلنهن بالتحريض "، فأقبلت النسوة، واستقبلن من انهزم من سرعان الناس يضربنهم بالخشب والحجارة، ويرجمن وجوه الخيل بالحجارة، وجعلت ابنة العاص بن منبه تنادي: " قَبح الله وجه رجل يفر عن حليلته "، وجعلت النساء يقلن لأزواجهن: " لستم لنا ببعولة إن لم تمنعوا عنا هؤلاء الأعلاج " (1345) ، وكانت خولة تقول هذه الأبيات: يا هاربًا عن نسوة ثقاتْ ... لها حمال ولها ثباتْ تُسلِمُوهُن إلى الهَنات ... تَمْلِكُ نواصِينَا مع البنات أعلاج سوء فسق عتاة ... ينلن منا أعظم الشتات قال ابن جرير: (وقد قاتل نساء المسلمين في هذا اليوم، وقتلوا خلقًا كثيرا من الروم، وكن يضربن من انهزم من المسلمين، ويقلن: " أين تذهبون وتَدَعوننا للعلوج؟ فإذا زجرنهم لا يملك أحد نفسه حتى يرجع إلى   (1345) (قال منهال: فقد كانت النساء أشد علينا غلظة من الروم) اهـ. من " فتوح الشام " للواقدي (1/129) ، وانظر " البداية والنهاية" (7/11) . والأعلاج: جمع عِلْج: وهو الرجل من كفار العجم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 القتال) (1346) اهـ. ورجعت الفرسان تحرض الفرسان على القتال، فرجع المنهزمون رجعة عظيمة، عندما سمعوا تحريض النساء، وخرجت هند ابنة عتبة، وبيدها مزهر، ومن خلفها نساء من المهاجرين، وهي تقول الشعر الذي قالته يوم أحد: نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق مشي القطا الموافق ... قيدي مع المرافق ومن أبى نفارق ... إن تغْلبُوا نعانق أو تدبروا نفارق ... فراق غير واثق هل من كريم عاشق ... يحمي عن العواتق ثم استقبلت خيل ميمنة المسلمين، فرأتهم منهزمين، فصاحت بهم: " إلى أين تهزمون؟ وإلى أين تفرون؟ من الله ومن جنته؟ هو مطلع عليكم "، ونظرت إلى زوجها أبي سفيان منهزمًا، فضربت وجه حصانه بعمودها، وقالت له: " إلى أين يا ابن صخر؟ ارجع إلى القتال، ابذل مهجتك حتى تُمَحصَ ما سلف من تحريضك على رسول الله صلى الله عليه وسلم "، قال الزبير بن العوام: فلما سمعت كلام هند لأبي سفيان، ذكرت يوم أحد ونحن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فعطف أبو سفيان عندما سمع كلام هند، وعطف المسلمون معه، ونظرت إلى النساء وقد حملن معهم، وقد رأيتهن يسابقن الرجال، وبأيديهن العمد بين أجل الخل (1347) ، ولقد رأيت منهن امرأة وقد أقبلت على علج عظيم وهو على فرسه، فتعلقت به، وما زالت به حتى نكبته عن جواده، وقتلته، وهى تقول: " هذا بيان نصر الله للمسلمين " " وفي هذه الموقعة قتلت أسماء بنت يزيد بن السكن بعمود خبائها   (1346) " البداية والنهاية" (7/13) . (1347) كذا بالأصل! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 تسعة من الروم " (1348) ، قال الزبير بن العوام رضي الله عنه: " وحمل المسلمون حملة منكرة لا يريدون غير رضا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم " فانكسر الروم) (1349) . ويُروى أنه لما أسر ضرار بن الأزور في وقعة أجنادين سار خالد بن الوليد في طليعة من جنده لاستنقاذه، فبينا هو في الطريق، مَرَّ به فارس معتقل رمحه، لا يبين منه إلا الحَدق، وهو يقذف بنفسه، ولا يلوي على ما وراءه، فلما نظر خالد قال: " ليت شعري من هذا الفارس؟ وأيم الله إنه لفارس "، ثم اتبعه خالد والناس من ورائه، حتى أدرك جند الروم، فحمل عليهم"، أمعن بين صفوفهم، وصاح بين جوانبهم، حتى زعزع كتائبهم، وحطم مواكبهم، فلم تكن غير جولة جائل، حتى خرج وسنانه ملطخ بالدماء، وقد قتل رجالا، وجندل أبطالًا، ثم عرض نفسه للموت ثانية، فاخترق صفوف القوم غير مكترث، وخامر المسلمين من القلق والإشفاق عليه شيء كثير، وظنه أناس خالدًا، حتى إذا قدم خالد قال له رافع بن عميرة: " من الفارس الذي تقدم أمامك؟ فلقد بذل نفسه ومهجته "، فقال خالد: والله لأنا أشد إنكارًا وإعجابًا لما ظهر من خلاله وشمائله، وبينا القوم في حديثهم، خرج الفارس كأنه الشهاب الثاقب، والخيل تعدو في أثره، وكلما اقترب أحد منه ألوى عليه، فأنهل رمحه من صدره، حتى قدم على المسلمين، فأحاطوا به وناشدوه كشف اسمه، ورفع لثامه، وناشده ذلك خالد، وهو أمير القوم وقائدهم، فلم يحر جوابًا، فلما أكثر خالد أجابه وهو ملثم فقال: " أيها الأمير إني لم أعرض عنك إلا حياءً منك، لأنك أمير جليل، وأنا من ذوات الخدور، وبنات الستور، وإنما   (1348) " سير أعلام النبلاء" (2/297) . (1349) "فتوح الشام" (1/127 - 128) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 حملني على ذلك أني مُحْرَقَةُ الكبد، زائدة الكمد "، فقال خالد: " من أنت؟ "، قالت: " أنا خَوْلَةُ بنت الأزور، كنت مع نساء قومي، فأتاني آت بأن أخي أسير، فركبتُ، وفعلتُ ما رأيتَ "، هنالك صاح خالد في جنده، فحملوا، وحملت معهم خولة، وعظم على الروم ما نزل بهم منها، فانقلبوا على أعقابهم، وكانت تجول في كل مكان علها تعرف أين ذهب القوم بأخيها، فلم تر له أثرًا، ولا وقفت له على خبر، على أنها لم تزل على جهادها، حتى استنقذ لها أخوها. ومن مواقفها الرائعة، موقفها يوم أسر النساء في موقعة " صحورا "، (فقد وقفت في النساء، وكانت قد أسرت معهن، فأخذت تثير نخوتهن، وتضرم نار الحمية في قلوبهن، ولم يكن من السلاح شيء معهن، فقالت: " خذن أعمدة الخيام، وأوتاد الأطناب، ونحمل على هؤلاء اللئام، فلعل الله ينصرنا عليهم "، فقالت عفراء بنت عَفَار: " والله ما دعوتِ إلى ما هو أحب إلينا مما ذكرتِ "، ثم تناولت كل واحدة عمودًا من عمد الخيام، وصِحنَ صيحة واحدة، وألقت خَوْلَةُ على عاتقها عمودها، وتتابع النساء وراءها، فقالت لهن خولة: " لا ينفك بعضكن عن بعض، وكُنَّ كالحلقة الدائرة، ولا تتفرقن فتُمْلكْنَ، فيقع بكن التشتيت، واحطمن رماح القوم، واكسرن سيوفهم "، وهجمت خولة، وهجم النساء وراءها، وقاتلت بهن قتال المستيئس المستميت، حتى استنقذتهن من أيدي الروم، وخرجت وهي تقول: نحن بنات تُبَّعٍ وحِمْيَر ... وضربنا في القوم ليس يُنْكَر لأننا في الحرب نار تسعر ... اليوم تُسْقَوْن العذاب الأكبر) (1350)   (1350) " السابق " (1/28-29) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 وبعد: فهؤلاء هن أمهاتنا الأوليات، كواكب السحَر في سماء العظائم، وأروع الغُرَرَ في جبين العزائم، وذلك شيء من حديث جهادهن، لا يَدَع لقائل قيلًا، ولا لِمُفْتَخِرٍ سبيلًا، يشهد بسر من أسرار القوة العظيمة، التي جعلت من العرب الأميين خير أمةٍ أخرجت للناس، إنها النفوس التي صاغها الله برحمته، ورواها من حكمته، واصطنعها لتربية جنده، هيَأها لتزكية خَلْقه: سَلَامٌ عَلى تِلْك الخَلائِقِ إنَّها مُسَلًمَة ... مِنْ كُل عارٍ ومَأثَم وهذا موقف من مواقف الإيمان، وقد خالطت بشاشته قلب امرأة رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولًا، حكاه عن الماضي القريب الأستاذ عبد الله بن عفيفي الباجوري رحمه الله: (في أصيل يوم من صيف سنة 1914 كنت واقفًا في جمهور الواقفين في محطة طنطا، أترقب القطار القادم من الإسكندرية لأتخذه إلى القاهرة. لقد كان كل في شُغل بتلك الدقائق المعدودات يقضيها في توديع وإشفاق، وترقب وانتظار، وحمل متاع وتنسيق آخر، وكنت في شغُل بصديق يجاذبنى حديثا شيقًا ممتعا. في تلك اللحظات الفانيهَ، وبين ذلك الجمع المحتشد، راعَ الناسَ صياح وإعوال، وتهدج واضطراب، ومشادة ومدافعة، ثم أبصروا فإذا فتاة في السابعة عشرة من سنيها، يقودها إلى موقف القطار شرطي عات شديد، وساعٍ من سعاة معتمدي الدول قوي عتيد، ومن خلفها شيخ أوروبي جاوز الستين مكتئب مهزول، وهى تدافع الرجلين حولها بيدين لا حول لهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 أقبل القطار ثم وقف! فكاد كل ينسى بِذلك الموقف موقفه وما قصد له، ثم أصعدت الفتاة، وصعد معها من حولها، وعجلت أنا وصاحبي فأخذنا مقاعدنا حيث أخذوا مقاعدهم، كل ذلك والفتاة على حال من الحزن والكرب لا يَجْملُ معها الصبر، ولا يُحْمدُ دونها الصمت، سألت الشيخ: " ما خطبه؟ وما أمر الفتاة؟ "، فقال وقد أشرقه الدمع، وقطع صوته الأسى: " إنني رجل أسباني، وتلك ابنتي، عرض لها منذ حين ما لم أعلمه، فصحوت ذات صباح على صوتها تصلي صلاة المرأة المسلمة، ومنذ ذلك اليوم احتَجَزَتْ ثيابها لتتولى أمر غسلها، وأرسلت خمارها الأبيض على صفحتي وجهها، ومكشوف صدرها، ثم أخذت تُنْفِدُ وقتها في صلاة وصيام، وسجود وهجود، وكانت تُدْعَى " روز "، فأبت إلا أن تسمى " فاطمة "، ما لبثت أن تبعتها أختها الصغرى، فصارت أشبه بها من القطرة بالقطرة، والزهرة بالزهرة. فزعت لهول ذلك الأمر، وقصدتُ أحد أساقفتنا، فأخذ يعاني رياضتها فلم يجد إلا شِماسا وامتناعًا، وعَزَت على الرجل خيبته، فكتب إلى معتمد الدولة الأسبانية، بأمر الأسرة الخارجة على دينها، وهنالك آمر المعتمد حكومة مصر فساقت إليه الفتاة كما ترى برغمها ورغم ذويها ليقذف بها بين جوانب دير تسترد فيه دينها القديم! ".. . قلت: " أوَ أرضاك أن تساق ابنتك سوق الآثمات المجرمات على غير إثم ولا جريمة؟ ". فزفر الرجل زفرة كاد يتصدَّع لها قلبه وأحناء ضلوعه، ثم قال: " أما لقد خُدعتُ ودُهِمْتُ، وغلب أمر الحكومتين أمري فما عساني أفعل؟ ". على أثر ذلك انثنيت إلى الفتاة وهى تعالج من أهوال الحزن وأثقاله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 ما تخشع الراسيات دون احتماله، فقلت: " ما بالك يا فاطمة؟ "- وكأنها أنِسَتْ منى ما لم تأنسه ممن حولها- فأجابتني بصوت يتعثر من الضنى: (لنا جيرة مسلمون، أغدو إليهم فأستمع أمر دينهم، حتى إذا أخذني النوم ذات ليلة رأيت النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم في هالة من النور يخطف سناها الأبصار، يقول وهو يلوح إلي بيده: " اقتربي يا فاطمة ") ، ولو أنك أبصرتها، وهي تنطق باسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم لرأيت رعْدَة تتمشى بين أعطافها وأطرافها حتى تنتهي إلي أسنانها فتخالف بينها، وإلى لسانِها فتعقله، وإلى وجهها فتحيل لونه، فلم تكد تستتم جملتها حتى أخذتها رجفة فهوت على مقعدها كأنها بناء منتقض! إلى ذلك الحد غشي الناس ما غشيهم من الحزن، وأبصرت بشيخ يتمشى في ردهة القطار فطلبت إليه أن يؤذن في أذنها، فلما انتهى إلى قوله: " أشهد أن محمدًا رسول الله " تنفست الصُّعداء، وأمعنت في البكاء، وعاودتها سيرتها الأولى، فلما أفاقت قلت لها: " ومم تخافين وتفزعين؟ "، قالت: " إنه سيؤمر بي إلى دير.. حيث ينهلون من السياط دمي، ولست من ذلك أخاف، إلا إن أخوف ما أخاف يومئذ أن يحال بيني وبين صلاتي ونسكي! "، قلت لها: " يا فاطمة أولا أدلك على خير من ذلك؟ "، قالت: " أجل"، قلت: " إن حكم الإسلام على القلوب، فما عليك لو أقررت بين يدي المعتمد بدينك القديم، وأودعت الإسلام بين شغاف قلبك، حتى لا يفوتك أن تقيمي شعائره حيث تشائين؟ "، هنالك نظرت إليَّ نظرة تضاءلتُ دونها حتى خفيتُ على نفسي، ثم قالت:" دون ذلك حَزُّ الأعناق وتفصيل المفاصل! دعني! فإنني إن أطعت نفسي، عصاني لساني "، وكان ضلالًا ما توسلت به أنا وأبوها ومَن حولها. كان ذلك حتى أوفينا على القاهرة فحيل دونها، لم أعلم بعد ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 شيئًا من أمر فاطمة لأني لم أستطع أن أعلم، رحمة الله وبركاته عليك يا فاطمة، فما أنت أولى شهيدات الرأي الحر، والإيمان الوثيق) (1351) .   (1351) " المرأة العربية " (2/8-11) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 [الفصل السادس] المرأة عالِمةً يقولون- وكأنهم أدلَوْا بالجديد من الحجة والعلم-: " إن المرأة نصف المجتمع " يتخذونها وسيلة تسوغ هم كل مأرب في المرأة! ولكننا نعلم أن الإسلام قد أولى المرأة غاية الأهمية والعناية لا باعتبار أنها نصف المجتمع، بل إنها أكثر من نصف المجتمع، إنها صانعة المجتمع، فيجب أن تحوز تلك العناية كي تكون على مستوًى يجعلها تصوغ لَبِناتِ المجتمع على أكمل وجه. - لقد كان أول ما نزل من الوحي قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم) العَلَق (1- 5) ، فدل ذلك على مكانة العلم وشرفه في الإسلام. - وقال عز وجل: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) الزمر (9) . - وقال سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة) التحريم (6) . جاء عن عَليّ رضي الله عنه في تفسيرها: " أدبوهم، وعَلموهم "، وروى عنه الحاكم وابن المنذر قوله في تفسيرها: " عَلِّموا أنفسَكم، وأهليكم الخير، وأدبوهم ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 قال الألوسي رحمه الله: (واستُدل بها على أنه يجب على الرجل تعلم ما يجب من الفرائض وتعليمه لهؤلاء، وأدخل بعضهم الأولاد في الأنفس لأن الولد بَعْضٌ من أبيه) . - وقال عز وجل مخاطبًا أمهات المؤمنين رضي الله عنهن: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) الأحزاب (34) . - وقال صلى الله عليه وسلم: " طلب العلم فريضة على كل مسلم " (1352) . قال الحافظ السخاوي: (قد ألحق بعض المصنفين بآخر هذا الحديث: " ومسلمة " وليس لها ذكر في شيء من طرقه وإن كان معناها صحيحًا) (1353) اهـ. من هنا قال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى: (ويجب عليهن- أي النساء- النفار للتفقه في الدين، كوجوبه على الرجال، وفرض عليهن كلهن معرفة أحكام الطهارة والصلاة والصيام، وما يحل، وما يحرم: من المآكل، والمشارب، والملابس كالرجال، ولا فرق، وأن يعلمن الأقوال والأعمال: إما بأنفسهن، وأما بالإباحة لهم لقاء من   (1352) (رواه ابن عدي والبيهقي عن أنس، والطبراني في " الكبير" عن ابن مسعود، وفي " الأوسط " عن ابن عباس، وفيه أيضا وكذا البيهقي عن أبي سعيد، وتمام في فوائده عن ابن عمر، والخطيب في " تاريخه عن علي ") اهـ، وقال الحافظ العراقي- رحمه الله-: (قد صحح بعض الأئمة طرقه) ، وقال - المزي: (هذا الحديث روي من طرق تبلغ رتبة الحسن) ، وقال السيوطي في " التعليقة المنيفة": (وعندي أنه بلغ رتبة الصحيح، لأني رأيت له نحو خمسين طريقا، وقد جمعها في جزء) اهـ، انظر: " تخريج أحاديث إحياء علوم الدين " (1/55 - 57) ، " تخريج أحاديث مشكلة الفقر " رقم (86) . (1353) " المقاصد الحسنة " ص (277) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 يعلمهن، وفرضٌ على الإمام أن يأخذ الناس بذلك) (1354) اهـ. وعن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيما رجل كانت عنده وليدة، فعلمها، فأحسن تعليمها، وأدَّبها، فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران " (1355) . فقرن صلى الله عليه وسلم ثواب العتق من رِق العبودية بثواب العتق من رق الجهل بفرائض الله عز وجل، وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد أحست المرأة نتيجة لهذا الحث بحاجتها إلى العلم، فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تطلب منه مجلسًا خاصًا بالنساء، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: " يا رسول الله ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يومًا نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله "، فقال صلى الله عليه وسلم: " اجتمعن في يوم كذا وكذا في مكان كذا "، فاجتمعن، فأتاهن، فعلمهن مما علمه الله) (1356) . لقد بلغ حرص النساء المسلمات على العلم غايته حتى تطلبن المجالس الخاصة بهن للتعليم مع أنهن يستمعن في المسجد لتعليمه ومواعظه صلى الله عليه وسلم. كذلك نجد النبي صلى الله عليه وسلم يسن للنساء سنة مؤكدة، ألا وهي: شهود مجامع الخير يتزودن منها: فعن عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم   (1354) عزاه في" الأسرة في ضوء الكتاب والسنة" ص (28) إلى: " الأحكام" لابن حزم (1/413) ، ووقفت عليه بمعناه في طبعة زكريا علي يوسف (1/325) . (1355) تقدم تخريجه برقم (902) . (1355) أخرجه البخاري (1/175) في العلم: باب هل يجعل للنساء يومًا على حدة في العلم، وفي الجنائز، وفي الاعتصام، ومسلم رقم (2633) في البر والصلة: باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 أن نخرجهن في الفطر: والأضحى: العواتق (1357) والحُيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير، ودعوة المسلمين.. قلت: " يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب؟ " قال: " لتلبسها أختها من جلبابها ") (1358) . - وجاء في " فتوح البلدان " للبلاذري أن أم المؤمنين حفصة بنت عمر ابن الخطاب رضي الله عنهما كانت تتعلم الكتابة في الجاهلية على يد امرأة كاتبة تدعى " الشفاء العدوية " (1359) ، فلما تزوجها صلى الله عليه وسلم طلب إلى الشفاء أن تعلمها تحسين الخط وتزيينه كما علمتها أصل الكتابة) (1360) . - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: " نِعْمَ النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين " (1361) . لقد أقبلت المرأة المسلمة على العلم منذ أكرمها الله تعالى بالإسلام، فنهلت من معينه، وأخذت منه بسهم وافر: فهذه: الصديقة بنت الإمام الصدِّيقِ الأكبر، خير من طلعت عليه الشمس   (1357) العواتق: جمع عاتق، وهي البنت البالغة، والتي قاربت البلوغ، لأنها تعتق من الخروج لخدمة أهلها، لتمكث في البيت إلى أن تتزوج. (1358) أخرجه البخاري (2/386) في العيدين، والحيض، والحج، ومسلم رقم (890) في صلاة العيدين، باب ذكر إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى وشهود الخطبة. (1359) الشفاء بنت عبد الله العدوية، كانت من عقلاء النساء وفضلائهن، وهى من المهاجرات الأول، كان عمر يقدمها في الرأي، ويرعاها، ويفضلها، وربما ولَّاها شيئا من أمر السوق- انظر: " الإصابة" (7/727 - 828) . (1360) " تربية الأولاد في الإسلام " (1/277) ، وانظر: "المجموع " (9/55) . (1361) أخرجه مسلم رقم (332) في الحيض: باب استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فْرصَة من مسك في موضع الدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 بعد الأنبياء والمرسلين، رفيق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، ومعينه في الأسفار، ووزيره في عهده، وخليفته بحق من بعده، رضي الله عنه وعن ابنته، القرشية، التَّيمية، المكية، أم المؤمنين، زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، وحبيبة خليل الله صلى الله عليه وسلم، الفقيهة الربانية، المبرأة من فوق سبع سماوات، أفقه نساء هذه الأمة على الإطلاق، تزوج بها سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم وهي بنت تسع سنوات، وهو صلى الله عليه وسلم ابن أربع وخمسين سنة، وأقام معها تسع سنوات، ومات عنها وهو ابن ثلاث وستين سنة، وهي لم تخط بعد إلى التاسعة عشرة، على أنها ملأت أرجاء الأرض علمًا، فهى في رواية الحديث نسيج وحدها، وعت من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تعه امرأة من نسائه، وروت عنه ما لم يَرْوِ مِثلَهُ أحد من الصحابة إلا أبا هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين، قال الحافظ الذهبي رحمه الله: (روت عنه صلى الله عليه وسلم علما كثيرًا طيبا مباركا فيه، وعن أبيها، وعن عمر، وفاطمة، وسعد، وحمزة بن عمرو الأسلمي، وجُدامة بنت وهب) (1362) . عاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين سنة، وتوفيت ولها من العمر ثمان وستون سنة. قال الحافظ الذهبي رحمه الله: (وكانت امرأة بيضاء جميلة، ومِن ثَم يقال لها: الحميراء، ولم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بِكرَا غيرها، ولا أحَب امرأةً حُبَّها، ولا أعلم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بل ولا في النساء مُطلقًا، امرأة أعلم منها، وذهب بعض العلماء إلى أنها أفضل من أبيها، وهذا مردود، وقد جعل الله لكل شيء قدرا، بل نشهد أنها زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فهل فوق ذلك مَفْخَر؟) (1363) اهـ.   (1362) " سير أعلام النبلاء " (2/135) . (1363) "السابق" (2/140) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 من فضائلها رضي الله عنها: ما رواه هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرِيتُكِ في المنام ثلاثَ ليال، جاء بكِ الملَكُ فِى سَرَقَةٍ (1364) من حرير، فيقول: " هذه امرأتك "، فأكشفُ عن وجهك، فإذا أنتِ فيه، فأقول: إن يكُ هذا من عند الله يُمْضِهِ " (1365)) . وعن ابن أبي مُليكة، عن عائشة رضي الله عنها: (أن جبريل جاء بصورتها في خرقة حرير خضراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " هذه زوجتُك في الدنيا والآخرة " (1366)) . (وكان تزويجه صلى الله عليه وسلم بها إثر وفاة خديجة، فتزوج بها وبسودة في وقت واحد، ثم دخل بسودة، فتفرد بها ثلاثةَ أعوام حتى بنى بعائشة في شوال بعد وقعة بدر، فما تزوج بكرًا سواها، وأحبها حُبُّا شديدًا كان يتظاهر به، بحيث إن عمرو بن العاص، وهو ممن أسلم سنة ثمان من الهجرة، سأل النبي صلى الله عليه وسلم: " أي الناس أحبُّ إليك يا رسولَ الله؟ " قال: " عائشة"، قال: " فَمِن الرجال؟ "، قال: " أبوها" (1367) . وهذا خبر ثابت رغم أنوف الروافض، وما كان صلى الله عليه وسلم يُحِب إلا طيبا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " لو كنت مُتَخِذًا خليلًا من هذه الأمة، لاتخذت   (1364) السرقَة: بفتح السين والراء والقاف: هي القطعة، وانظر: " الفتح" (9/156) . (1365) " سير أعلام النبلاء " (2/140) . (1366) " السابق " (2/141) . (1367) أخرجه البخاري (7/19) في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (8/59) في المغازي: باب غزوة ذات السلاسل، ومسلم (2384) في فضائل الصحابة: باب من فضائل أبي بكر رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 أبا بكرٍ خليلًا، ولكن أخوةُ الإسلام أفضل " (1368) . فَأحَبَّ أفضل رجل من أمته، وأفضل امرأة من أمته، فمن أبغض حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو حَري أن يكون بغيضًا إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم) (1369) . وعن عمرو بن غالب: أن رجلًا نال من عائشة عند عمَّار، فقال: (اعزب مقبوحا منبوحًا، أتؤذي حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) (1370) . وحُبُّه صلى الله عليه وسلم لعائشة كان أمرًا مستفيضًا، ألا تراهم كيف كانوا يتحروْنَ بهداياهم يومها تقربًا إلى مرضاته؟! قال حماد بن زيد، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: (كان الناس يتحرَّوْنَ بهداياهم يوم عائشة، قالت: فاجتمعن صواحبي إلى أم سلمة، فقلن لها: إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريده عائشة، فقولي لرسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر الناس أن يُهدوا له أينما كان، فذكرت أم سلمة له ذلك، فسكت، فلم يردَّ عليها، فعادت الثانية، فلم يَرُد عليها، فلما كانت الثالثة قال: " يا أم سلمة، لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل عَلَيَّ   (1368) أخرجه البخاري (7/15) في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي المساجد، وفي الفرائض، وقد اختار صلى الله عليه وسلم أن يمرض في بيتها، ومن ثم قال أبو الوفا بن عقيل رحمه الله: (انظر كيف اختار لمرضه بيت البنت، واختار لموضعه من الصلاة الأب، فما هذه الغفلة المستحوذة على قلوب الرافضة، عن هذا الفضل والمنزلة التي لا تكاد تخفى عن البهيم فضلًا عن الناطق) اهـ نقلًا من " الإجابة " للزركشي ص (54) . (1369) " سير أعلام النبلاء" (2/142) . (1370) أخرجه الترمذي رقم (3888) في المناقب وحسنه، وابن سعد في "الطبقات" (8/65) ، و" الحلية " (2/44) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 الوحي وأنا في لحاف امرأةٍ منكنَّ غيرِها " (1371) متفق على صحته. وهذا الجواب منه دالّ على أن فضل عائشة على سائر أمهات المؤمنين بأمر إلهي وراء حُبه لها، وأن ذلك الأمر من أسباب حبه لها) (1372) . وعن أنس مرفوعًا: " فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " (1373) . وعنها رضي الله عنها قالت: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا عائشُ، هذا جبريل وهو يقرأ عليكِ السلام"، قالت: " وعليه السلامُ ورحمةُ الله، تَرى ما لا نَرى يا رسول الله " (1374)) . لقد كانتَ رضي الله عنها إحدى المجتهدات من أنفذ الناس رأيا في أصول الدين ودقائق الكتاب المبين، وكانت رضي الله عنها تحسن أن تقرأ، ولم يكن يعرف ذلك إلا عدد محدود من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكم كان لها رضي الله عنها من استدراكات على الصحابة وملاحظات، فإذا علموا   (1371) أخرجه البخاري (7/84) في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: باب فضل عائشة، وفي الهبة، وأخرجه مسلم مختصرا رقم (2441) ، ومطولًا رقم (2442) . (1372) " سير أعلام النبلاء " (2/143) . (1373) أخرجه البخاري (7/73) في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: باب فضل عائشة، وفي الأطعمة: باب الثريد، ومسلم رقم (2446) في فضائل الصحابة: باب فضل عائشة رضي الله عنها، والترمذي رقم (3887) . (1374) أخرجه البخاري (7/83) في فضل عائشة، وبدء الخلق، والأدب، والاستئذان، ومسلم رقم (2447) ، في فضائل الصحابة: باب فضائل عائشة رضي الله عنها، وأبو داود رقم (5232) ، والترمذي رقم (3876) . وقال الزركشي رحمه الله: (قال أبو الفرج: " وإنما سلم عليها ولم يواجهها لحرمة زوجها، وواجه مريم لأنه لم يكن لها بعل؛ فمن نُزهت لحرمة بعلها عن خطاب جبريل، كيف يسلط عليها أكف أهل الخطايا؟! ") اهـ. ص (55) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 بذلك منها رجعوا إلى قولها) (1375) . قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: (ما أشكَلَ علينا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط، فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علمًا) (1376) ، وقال مسروق: "رأيت مشيخة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يسألونها عن الفرايِض " (1377) . وقيل لمسروق: " كانت عائشة تحسن الفرائض؟ " قال: " والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الأكابر يسألونها عن الفرائض " (1378) . وقال عطاء بن أبي رباح: " كانت عائشة أفقه الناس، وأحسنَ الناس رأيا في العامة " (1379) . قال الزهري: (لو جمع علم الناس كلهم، وأمهات المؤمنين، لكانت عائشة أوسعَهم عِلما) (1380) . وعنه أيضًا: قال: " لو جمع علم عائشة إلى علم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل " (1381) . قال الذهبي رحمه الله: (مسند عائشة يبلغ ألفين ومائتين وعشرة   (1375) انظر: " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة، للزركشي، و" السمط الثمين في مناقب أمهات المؤمنين" للمحب الطبري ص (33-94) . (1376) أخرجه الترمذي رقم (3883) ، وقال: " حسن صحيح". (1377) " الإجابة" للزركشي ص (58) . (1378) أخرجه الدارمي (2/342، 343) ، وابن سعد في " الطبقات " (8/45) ، والحاكم (4/11) . (1379) " سير أعلام النبلاء " (2/185) . (1380) " المستدرك" (4/11) . (1381) قال الهيثمي في " المجمع": (رواه الطبراني، ورجاله ثقات) اهـ (9/243) ، وكذا الحاكم (4/11) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 أحاديث، اتفق لها البخاري ومسلم على مائة وأربعة وسبعين حديثًا، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين، وانفرد مسلم بتسعة وستين) (1382) . [وذكرها- رضي الله عنها- الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في طبقاته في جملة فقهاء الصحابة، ولما ذكر ابن حزم أسماء الصحابة الذين رويت عنهم الفتاوى في الأحكام على مزية كثرة ما نقل عنهم، قدَّم عائشة على سائر الصحابة، وقال الحافظ أبو حفص عمر بن عبد المجيد القرشي الميانشي في كتاب" إيضاح ما لا يسع المحدث جهله": " اشتمل كتاب البخاري ومسلم على ألف حديث ومائتي حديث من الأحكام فروت عائشة من جملة الكتابين مائتين ونيفا وتسعين حديثا لم يخرج عن الأحكام منها إلا يسير " قال الحاكم أبو عبد الله: " فحُمِل عنها ربع الشريعة "] ، (1383) . وعن عروة بن الزبير قال: " ما رأيت أحدًا أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة رضي الله عنها " (1384) . وذكر أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: " أنها كانت وحيدة عصرها في ثلاثة علوم: علم الفقه، وعلم الطب، وعلم الشعر " (1385) . ورُوي عن ابن شهاب قال: حدثنا القاسم بن محمد: أن معاوية دخل على عائشة، فكلمها، قال: فلما قام معاوية، اتكأ على يد مولاها ذكوان، فقال: " والله، ما سمعتُ قط أبلغَ من عائشة، ليس رسولَ الله صلى الله عليه وسلم) (1386) .   (1382) " سير أعلام النبلاء " (2/139) . (1383) " الإجابة " للزركشي ص (59) . (1384) "الإصابة" (8/18) . (1385) انظر: " الاستيعاب " (4/1881) وما بعده. (1386) " سير أعلام النبلاء" (2/183) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 وعن موسى بن طلحة قال؟ "ما رأيت أحدًا أفصح من عائشة " (1387) . وعن هشام عن أبيه قال: ربما روت عائشة القصيدة ستين بيتًا وأكثر، (1388) (وعن أبي الزناد؛ قال: ما رأيت أحدًا أروى لشعر من عروة، فقيل له: " ما أرواك! "، فقال: " ما روايتي في رواية عائشة؟ ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرًا " (1389)) . ورُوى عن ابن سيرين عن الأحنف، قال: (سمعت خطبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء بعدهم، فما سمعتُ الكلامَ من فم مخلوق أفخمَ ولا أحسنَ منه مِن في عائشة) (1390) . وعن الشعبي: أن عائشة قالت: رَوَيتُ لِلَبِيد نحوا من ألف بيت، وكان الشعبي يذكرها، فبتعجبُ من فِقهها وعلمها، ثم يقول: ما ظنكم بأدب النبوة (1391) ! وعن هشام بن عروة قال: كان عروة يقول لعائشة رضي الله عنها: يا أمَّتاه، لا أعجب من فقهك؛ أقول: زوجةُ نبي الله، وابنةُ أبي بكر، ولا أعجب من عِلمك بالشعْر وأيام الناس؛ أقول: ابنةُ أبي بكر، وكان أعلم الناس، ولكن أعجب من علمك بالطب: كيف هو، ومن أين هو، أو ما هو؟ قال: فضربَت علىَ منْكبِه، وقالت: أي عُرَية، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم   (1387) رواه الترمذي (3884) ، وقال: حسن صحيح غريب ". (1388) " سير أعلام النبلاء" (2/189) . (1389) "الإصابة" (8/ 18) . (1390) " المستدرك" (4/11) . (1391) " سير أعلام النبلاء " (2/197) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 كان يَسقمُ عند آخر عُمُره- أو في آخر عُمُره- وكانت تَقْدَمُ عليه وفودُ العرب من كل وجه، فَتَنْعَتُ له الأنعات، وكنتُ أعالجها له، فَمِنْ ثمَّ) (1392) . وعن عروة قال: (ما رأيتُ أحدًا أعلم بالطب من عائشة رضي الله عنها، فقلتُ: يا خالة، مِمن تعلمتِ الطب؟ قالت: كنت أسمع الناس يَنعَت بعضهم لبعض، فأحفظُه) (1393) . وعن هشام، عن أبيه، قال: (لقد صحبت عائشة، فما رأيت أحدًا قط كان أعلم بآية نزلت، ولا بفريضة، ولا بسنة، ولا بشعر، ولا أروى له، ولا بيوم من أيام العرب، ولا بنسب، ولا بكذا، ولا بكذا، ولا بقضاء، ولا طب منها، فقلت لها: " يا خالةُ، الطب، من أين عُلِّمْتِهِ؟ "، فقالت: " كنتُ أمرضُ فيُنْعَتُ لي الشيءُ، ويمرض المريض، فينعتُ له، وأسمع الناسَ ينعتُ بعضهم لبعض، فأحفظه ". قال عروة: فلقد ذهب عامةُ علمها، لم أسأل عنه) (1394) . (وكانت زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعًا قسيمات عائشة رضي الله عنها في إذاعة العلم وإفاضة الدين على المسلمين، مما يؤكد أن المرأة المسلمة أقبلت على العلم منذ أكرمها الله تعالى بالإسلام، كثيرة تلك الأحاديث التي روتها أمهات المؤمنين عنه صلى الله عليه وسلم، وكثيرة تلك الأقوال المنسوبة إليهن في التفسير وفقه الحديث، وكثيرات هن النساء اللاتي حفظن كتاب الله تعالى أو حفظن كثيرة، وحفظن الكثير من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكن يبلغن   (1392) أخرجه الإمام أحمد (6/67) ، وأبو نعيم في " الحلية " (2/50) ، وانظر: " مجمع الزوائد " (9/242) . (1393) " سير أعلام النبلاء " (2/183) . (1394) " السابق " (2/183) ، " الحلية " (2/49) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 ذلك الرجال من وراء حجاب كما أمر الله تعالى: (وإذا سألتموهن متاعًا فسألوهن من وراء حجاب) الأحزاب (53) . ولقد وجد على مر القرون نساء تجاوزن علوم فرض العين إلى فروض الكفاية، فكانت منهن المحدثات العظيمات، والراويات الثقات، وهذا الإماء محمد بن سعد صاحب الطبقات يعقد جزءًا من كتاب " الطبقات الكبير " لراويات الحديث من النساء أتى فيه على نيِّف وسبعمائة امرأة روين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن صحابته رضي الله عنهم، وروى عنهم أعلام الدين وأئمة المسلمين، وكذا فعل غيره من الأئمة في مصنفاتهم. وهل تجد موطنًا أوثق، ومرتقى أسمق، ومنزلة أوثق من أن عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه- وهو العَلَم الأشم الذي لا يدانيه أحد في علمه وحكمته، وقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته- يتلقى الحديث على مولاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تقوم على خدمته، وهي ميمونة بنت سعد؟ فكيف بمن دون علي رضي الله عنه؟! (1395) . ويُروى عن أم الدرداء الفقيهة الزاهدة قولها: " لقد طلبت العبادة في كل شيء فما أصبت لنفسي شيئًا أشفى من مجالسة العلماء ومذاكرتهم (1396) . لقد تصدت المرأة لفنون العلم وشئون الأدب، وأمعنت في كل ذلك إمعانًا أعيا على الرجل دركه في مواطن كثيرة، (وكان لها مظهر خلقي كريم في العلم والتعليم فقد امتازت " العالمة المسلمة " بالصدق في العلم، والأمانة في الرواية، واستمع إلى هذه الشهادة يشهدها واحد من عظماء العلماء ألا   (1395) " المرأة العربية" (3/141-142) بتصرف. (1396) " الأخت المسلمة" للجوهري ص (74) ، وانظر: " سير أعلام النبلاء" (4/277) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 وهو الحافظ الذهبي (ت 748) ، وقد ألف كتابه " ميزان الاعتدال " في نقد رجال الحديث، خرَّج فيه عدة آلاف مُتَّهم من المحدثين، ثم أتبع قوله بتلك الجملة التي كتبها بخطه الواضح وقلمه العريض فقال: " وما علمت من النساء من اتُّهِمَتْ ولا من تركوها " (1397) . ولعل قائلًا يقول: " وما للنساء ورواية الحديث؟ وهل تركهن الذهبي إلا من قلة أو ذلة؟ "، والجواب: أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ عهد عائشة رضي الله عنها حتى عهد الذهبي ما حُفِظَ ولا رُوِيَ بمثل ما حفظ في قلوب النساء، وروي على ألسنتهن. ذلكم الحافظ ابن عساكر (ت 571 هـ) أوثق رواة الحديث عقدة، وأصدقهم حديثا، حتى لقبوه بـ " حافظ الأمة "، كان له من شيوخه وأساتذته بضع وثمانون من النساء، فهل سمع الناس في عصر من العصور، وأمة من الأمم أن عالمًا واحدا يتلقى عن بضع وثمانين امرأة علمًا واحدًا؟ فكم ترى منهن من لم يلقها أو يأخذ عنها، والرجل لم يجاوز الجزء الشرقي من الدولة الإسلامية، فلم تطأ قدماه أرض مصر، ولا بلاد المغرب، ولا الأندلس وهي أحفل ما تكون بذوات العلم والرأي من النساء) (1398) . (وهذا الإمام أبو مسلم الفراهيدي المحدث يكتب عن سبعين امرأة) (1399) . (وقد شهد الحافظ جلال الدين السيوطي رحمه الله مجالس حافلة قرأ فيها على بعض المحدثات الحافظات الفقيهات، فتراه يختم كتابه " بغية الوعاة "   (1397) " ميزان الاعتدال" (4/604) . (1398) " المرأة العربية " (2/138-139) . (1399) " من أخلاق العلماء " هامش ص (345) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 بمسلسلات قرأ منها على الأصيلة الثقة الخيرة الفاضلة الكاتبة أم هانئ بنت الحسن الهوريني. - وعلى هاجر بنت محمد المصرية. - وأخبرته الشيختان المسندتان أم هانئ وأم الفضل بنت محمد المقدسي. - وقرأ على الأصيلة نشوان بنت عبد الله الكناني. - وأخبرته كمالية بنت محمد بن أبي بكر الجرجاني. - وأنبأته أمة الخالق بنت عبد اللطيف العقبي. - وأخبرته أمة العزيز بنت محمد الأمباسي. - وفاطمة بنت علي بن اليسير مشافهة بالفسطاط. - وخديجة بنت أبي الحسن بن الملقن ... إلخ) (1400) . ولقد بلغت الكثيرات من العالمات المسلمات منزلة علمية رفيعة، فكان منهن الأستاذات والمدرسات (للإمام الشافعي، والإمام البخاري، وابن خلكان، وابن حيان) (1401) . ونعرض فيما يلي نماذج من هؤلاء الفقيهات والمحدثات اللائي اعتززن بالإسلام، فكان لهن سهم في إعزازه، والبذل في سبيله.   (1400) " السابق" ص (345) . (1401) " تربية الأولاد في الإسلام" (1/279) ، وانظر مجلة " الأزهر " عدد رمضان 1404 هـ ص (1482) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 [فصل] صور من سيرة المسلمة العالمة حفصه بنت سيرين: أم الهذيل، الفقيهة، الأنصارية. قال هشام بن حسان: " قرأت حفصة بنت سيرين القرآن وهى ابنة اثنتي عشرة سنة، وماتت وهي ابنة تسعين ". وعنه أن ابن سيرين كان إذا أشْكِل عليه شيء من القرآن قال: " اذهبوا فسلوا حفصة كيف تقرأ ". وعنه قال: اشترت حفصة جارية أظنها سِنْدِيَّة، فقيل لها: " كيف رأيتِ مولاتَك؟ "، فذكر إبراهيم كلامًا بالفارسية، تفسيره: " أنها امرأة صالحة، إلا أنها أذنبت ذنبًا عظيمًا، فهي الليلَ كله تبكى وتصلي ". وعنه قال: قد رأيتُ الحسنَ وابنَ سيرين، وما رأيت أحدًا أرَى أنه أعقل من حفصة. وعن عبد الكريم بن معاوية قال: " ذُكر لي عن حفصة أنها كانت تقرأ نصف القرآن في كل ليلة، وكانت تصوم الدهر، وتفطر العيدين وأيام التشريق ". وعن هشام أن حفصة كانت تدخل في مسجدها فتصلى فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، ثم لا تزال فيه حتى يرتفع النهار، وتركع، ثم تخرج فيكون عند ذلك وضوءها ونومها، حتى إذا حضرت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 الصلاةُ عادت إلى مسجدها إلى مثلها. عن مهدي بن ميمون قال: مَكَثَتْ حفصة في مصلاها ثلاثين سنة لا تخرج إلا لحاجة أو لِقائِلَةٍ) (1402) . عَمْرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زُرارةَ: (ت 98 أو 106 هـ) . الأنصاريهَ، النجَّارية، المدنية، الفقيهة، تربية (1403) عائشة وتلميذَتُها، قيل: لأبيها صحبة، وجَدُها سعد من قدماء الصحابة، وهو أخو النقيب الكبير أسعد بن زرارة. كانت عالمة، فقيههَ، حجة، كثيرة العلم، حدثت عن عائشة، وأم سلمة، ورافع بن خَديج، وأختها أم هشام بنت حارثة، وحدث عنها ولدها أبو الرجال محمد بن عبد الرحمن، وابناه: حارثة، ومالك، وابن أختها القاضي أبو بكر بن حزم، وابناه: عبد الله، ومحمد، والزهري، ويحيى ابن سعيد الأنصاري، وآخرون، وحديثها كثير في دواوين الإسلام. روى أيوب بن سويد، عن يونس، عن ابن شهاب، عن القاسم ابن محمد أنه قال لي: " يا غلام، أراك تحْرِصُ على طلب العلم، أفلا أدلك على وعائه "؟ قلت: " بلى"، قال: " عليك بِعَمْرَةَ فإنها كانت في حَجْرِ عائشة رضي الله عنها؛ قال: فأتيتُها، فوجدتُها بحرًا لا ينْزَف " (1404) . (وهذه ابنة سعيد بن المسيب لما أن دخل بها زوجها " (1405) ، وكان   (1402) " صفة الصفوة " (4/24-26) ، " سير أعلام النبلاء" (4/507) . (1403) التربُ: اللذَةُ، والسنُّ، ومن وُلِد معك. (1404) "سير أعلام النبلاء" (4/507-508) . (1405) جاء في ترجمة سعيد بن المسيب (أن عبد الملك بن مروان خطب ابنته لولده الوليد حين ولاه العهد، فأبى أن يزوجها، قال أبو وداعة: كنت أجالس سعيد بن = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 من أحد طلبة والدها، فلما أن أصبح أخذ رداءه يريد أن يخرج، فقالت   = المسيب ففقدني أيامًا، فلما جئت قال: " أين كنت"؟، قلت: " توفيت أهلي، فاشتغلت بها "، قال: " فهلًا أخبرتنا فشهدناها؟ " قال: ثم أردت أن أقوم فقال: " هل أحدثت امرأة غيرها؟ " فقلت: " يرحمك الله، ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ " فقال: " إن أنا فعلتُ تفعل؟ " قلت: " نعم"، فحمد الله تعالى وصلى على النبي وزوجني على درهمين أو على ثلاثة، قال: فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح، وصرت إلى منزلي، وجعلت أفكر ممن آخذ وأستدين؟، وصليت المغرب، وكنت صائمًا فقدمت عشائي لأفطر، وكان خبزًا وزيتًا، وإذا بالباب يُقْرعُ، فقلت: " من هذا؟ " فقال: " سعيد"، ففكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلًا سعيد بن المسيب، فإنه لم يُر منذ أربعين سنة إلا ما بين بيته والمسجد، فقمت وِخرجت، إذا بسعيد بن المسيب، وظننت أنه بدا له، فقلت: " يا أبا محمد هَلا أرسلت إلي فأتيتك؟ " قال: " لا، أنت أحق أن تزار"، قلت: " فما تأمرني؟ " قال: " رأيتك رجلًا عَزَبًا قد تزوجت فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك "، فإذا هي قائمة خلفه فِي طوله، ثم دفعها في الباب، ورد الباب، فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقتُ من الباب، ثم صعدت إلى السطح، وناديت الجيران، فجاءوني وقالوا: " ما شأنك؟ " قلت: " زؤَجني سعيد بن المسيب ابنته، وقد جاء بها على غفلة وها هي في الدار"، فنزلوا إليها، وبلغ أمي فجاءت، وقالت: " وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أنا أصلحها ثلاثة أيام "، فأقمت ثلاثًا ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل الناس، وأحفظهم لكتاب الله تعالى، وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرفهم بحق الزوج، قال: فمكثت شهرا لا يأتيني ولا آتيه ثم أتيته بعد شهر، وهو في حلقته فسلمت عليه فرد علي، ولم يكلمني، حتى انفض مَنْ في المسجد، فلما لم يبق غيري، قال: " ما حال ذلك الإنسان؟ " قلت: " على ما يحب الصديق، ويكره العدو " اهـ نقلًا من (" من أخلاق العلماء" لمحمد بن سليمان) ص (123-125) ، وفي " الإحياء" بزيادة: (فقال: " إن رابك منه أمرً، فدونك والعصا "! ، فانصرفت إلى منزلي، فوجه إلي بعشرين ألف درهم) اهـ، فما أعظم اطمئنان ذلك التابعي الجليل إلى مصير ابنته، حتى أنه لم يفكر في استقصاء أحوالها، لاطمئنانه إلى أنها في كنف رجل تقي، يخشى الله تعالى، ويعرف حقها عليه، ومكانتها منه! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 له زوجته، " إلى أين تريد؟ "، فقال: " إلى مجلس سعيد أتعلم العلم"، فقالت له: " اجلس أعلمك علم سعيد ") (1406) . معاذَة بنت عبد الله (ت 83 هـ) : السيدة العالمة، أم الصهباء العدويةُ البصرية العابدة، زوجةُ السيدِ القدوة صِلَة بن أشيم. رَوَتْ عن عَلِي بن أبي طالب، وعائشة، وهشام بن عامر، حَدث عنها أبو قلابة الجَرمي، ويزيد الرشْك، وعاصم الأحول، وعمر بن ذر، وإسحاق بن سُوَيد، وأيوب السختِياني، وآخرون، وحديثُها محتج به في الصحاح، وثقها يحيى بن مَعِين. قال الحافظ الذهبي رحمه الله: (بلغنا أنها كانت تُحْيي الليلَ عبادةً، وتقول: " عَجِبْت لعين تنام، وقد عَلِمتْ طولَ الرُّقاد (*) في ظُلَمِ القبور "، ولما استشْهِد زوجُها صِلَةُ وابنُها في بعض الحروب، اجتمع النساء عندها، فقالت: " مرحبًا بِكُنَّ، إن كُنْتُنَّ جئتُن للهَناء، وإن كنتن جئتُنَّ لغير ذلك فارجعن ". وكانت تقول: والله ما أحب البقاء إلا لأتقرب إلى ربي بالوسائل، لعله يجمع بيني وبين أبي الشعثاء وابنه في الجنة") (1407) اهـ. أم الدرداء الصغرى: (السيدة العالمة الفقيهة، هُجَيْمَة بنت يحيى الوَصابِية الحِميَرِيَّة الدِّمَشقِيَّة. روت علمًا جَما عن زوجها أبي الدرداء، وعن سلمان الفارسي،   (1406) "المدخل" للإمام ابن الحاج (1/215) . (*) انظر الحاشية رقم (1504) . (1407) " سير أعلام النبلاء " (4/508 - 509) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 وكعب بن عاصم الأشعري، وعائشة، وأبي هريرة، وطائفة، وعرضت القرآن وهي صغيرة على أبي الدرداء، وطال عمرها، واشتهرت بالعلم والعمل والزهد. وقال ابن جابر وعثمان بن أبي العاتكة: كانت أم الدرداء يتيمةً في حِجْر أبي الدرداء، تختلف معه في بُرْنُس، تصلي في صفوف الرجال، وتجلس في حِلَق القرآن تعلَّمُ القرآن، حتى قال لها أبو الدرداء يومًا: " الحقي بصفوف النساء". وعن جبير بن نُفير، عن أم الدرداء، أنها قالت لأبي الدرداء عند الموت: " إنك خطبتني إلى أبَوي في الدنيا، فأنكحوك، وأنا أخطبك إلى نفسك في الآخرة "، قال: " فلا تنكحين بعدى"، فخطبها معاوية، فأخبرته بالذي كان، فقال: " عليك بالصيام") . قال مكحول: " كانت أم الدرداء فقيهة "، وعن عون بن عبد الله قال: " كنا نأتي أم الدرداء، فنذكر الله عندها"، وقال يونس بن ميسرة: " كن النساء يتعبدن مع أم الدرداء رضي الله عنها، فإذا ضَعُفْنَ عن القيام، تَعَلَّقنَ بالحبال "، قال إسماعيل بن عُبيد الله: كان عبد الملك بن مروان جالسًا في صخرة بيت المقدس، وأم الدرداء معه جالسة، حتى إذا نُودِي للمغرب قام، وقامت تتوكأ على عبد الملك حتى يدخلَ بها المسجد، فتجلس مع النساء، ويمضي عبد الملك إلى المقام يصلي بالناس. وعن يحيى بن يحيى الغسَّاني قال: كان عبد الملك بن مروان كثيرًا ما يجلس إلى أم الدرداء في مُؤخَر المسجد بدمشق) (1408) اهـ. وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: (أم الدرداء الصغرى: تابعية عابدة   (1408) "السابق" (4/277 - 279) بتصرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 عالمة فقيهة، كان الرجال يقرءون عليها، ويتفقهون في الحائط الشمالي بجامع دمشق، وكان عبد الملك بن مروان يجلس في حلقتها مع المتفقهة، يشتغل عليها وهو خليفة رضي الله عنها) (1409) . بنت الإمام مالك بن أنس: وكان الإمام مالك يُقرأ عليه الموطأ، فإن لحن القارئ في حرف، أو زاد، أو نقص تدق ابنته الباب، فيقول أبوها للقارئ: " ارجع، فالغلط معك "، فيرجع القارئ، فيجد الغلط (1410) . جارية الإمام مالك بن أنس: (وحكى عن أشهب أنه كان في المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وأنه اشترى خضرة من جارية، وكانوا لا يبيعون الخضرة إلا بالخبز، فقال لها: إذا كان عشية حين يأتينا الخبز فأتنا نعطكِ الثمن، فقالت: ذلك لا يجوز، فقال لها: ولم؟ فقالت: لأنه بيع طعام بطعام غير يدٍ بيد، فسأل عن الجارية، فقيل له: " إنها جارية مالك بن أنس " رحمه الله تعالى) (1411) اهـ. أم علي تقِيَّة: العالمة المصرية الفاضلة أبوها الثقة أبو الفرج غيث بن عليّ، وولدها النحوي القارئ أبو الحسين علىُّ بن فضل، صحبت الحافظ المحدِّث أبا طاهر السلَفي بثغر الإسكندرية زمانا، فذكرها في بعض تعاليقه، وأثنى عليها،   (1409) " البداية والنهاية" (9/47) . (1410) " المدخل" ص (1/215) . (1411) " السابق". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 وعثر هو يومًا في منزله، فانجرح إخمصه، فشقَّت وليدة في الدار خِرْقَة من خمارها وعصَّبته، فأنشدت تقية المذكورة في الحال لنفسها تقول: لو وجدت السبيل بخدِّي ... عوضًا عن خمار تلك الوليده كيف لي أن أقبِّل اليوم رِجْلًا ... سلكت دهرَها الطريق الحميده وقد كتب الشيخ السلَفي هذه الواقعة بخطه) (1412) . والدة الفقيه الواعظ المفسر زين الدين علي بن إبراهيم بن نجا: المعروف بـ "ابن نجية" سبط الشيخ أبي الفرج الشيرازي الحنبلي. قال ناصح الدين بن الحنبلي: قال لي والدي: زين الدين سَعِد بدعاء والدته، كانت صالحة حافظة، تعرف التفسير. قال زين الدين: كنا نسمع من خالي التفسير، ثم أجيء إليها، فتقول: " إيش فَسر أخي اليوم؟ "، فأقول: " سورة كذا وكذا "، فتقول: " ذكر قول فلان؟ وذكر الشيء الفلاني؟ " فأقول: " لا "، فتقول: " ترك هذا"، وسمعت والدي يقول: (كانت تحفظ كتاب " الجواهر" وهو ثلاثون مجلدة، تأليف والدها الشيخ أبي الفرج، وأقعدت أربعين سنة في محرابها) (1413) . فاطمة بنت الأستاذ الزاهد أبي علي الحسن بن على الدقاق: الشيخة، العابدة، العالمة، أم البنين النيسابورية، أهْل الأستاذ أبي القاسم القُشيري، وأم أولاده. وكانت عابدة، قانتة، متهجدة، كبيرة القدر (1414) .   (1412) "من أخلاق العلماء" للشيخ محمد بن سليمان رحمه الله ص (37) . (1413) " ذبل طبقات الحنابلة" (1/440) . (1414) " سير أعلام النبلاء" (18/479 -480) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 أم الخير الحجازية: تصدرت حلقات وعظ وإرشاد المسلمات بجامع عمرو بن العاص رضي الله عنه في القرن الرابع الهجري (1415) . [وجاء في مقدمة كتاب المعلمين لابن سحنون: (أن القاضي الورع عيسى بن مسكين كان يقرئ بناته وحفيداته.. قال عياض: فإذا كان بعد العصر دعا ابنتيه وبنات أخيه ليعلمهن القرآن والعلم، وكذلك كان يفعل قبله فاتح صقلية " أسد بن الفرات" بابنته أسماء التي نالت من العلم درجة كبيرة. وروى الخُشني أن مؤدبًا كان بقصر الأمير محمد بن الأغلب، وكان يعلم الأطفال بالنهار، والبنات في الليل) ] (1416) . قال الإمام ابن الحاج رحمه الله تعالى: (وقد كان في زماننا هذا سيدي أبو محمد رحمه الله تعالى قرأت عليه زوجته الختمة فحفظتها، وكذلك رسالة الشيخ أبي محمد بن أبي زيد رحمه الله، ونصف الموطأ للإمام مالك رحمه الله تعالى، وكذلك ابنتاها قريبان منها، فإذا كان هذا في زماننا فما بالك بزمان السلف رضوان الله عليهم أجمعين، والعالم أولى من يحمل أهله ومن يلوذ به على طلب المراتب العلية فيجتهد في ذلك جهده، فإنهم آكد رعيته، وأوجبهم عليه وأولاهم به) (1417) . فاطمة بنت السمرقندي: (وكان لعلاء الدين السمرقندي " صاحب تحفة الفقهاء" ابنته   (1415) "الأخت المسلمة " للجوهري ص (64) . (1416) " تربية الأولاد في الإسلام " (1/278) . (1417) " المدخل " (1/215-216) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 " فاطمة " الفقهية العلامة، حفظت "التحفة " لأبيها، وطلبها جماعة من ملوك الروم، فلما صنَّف أبو بكر الكاساني الملقَب " ملك العلماء " كتابه " البدائع " وهو شرح التحفة، عرضه على شيخه وهو أبوها، فازداد به فرحًا، وزوَّجه ابنته، وجعل مهرها منه ذلك، فقالوا في عصره: " شرح تحفته، وتزوَّج ابنته "، قال صاحب " الفوائد البهية ص 158 " في ترجمة السمرقندي: " محمد بن أحمد بن أبي أحمد أبو بكر علاء الدين السمرقندي صاحب " تحفة الفقهاء " أستاذ صاحب " البدائع "، شيخ كبير فاضل جليل القدر تفقَّه على أبي المعين ميمون المكحولي، وعلى صدر الإسلام أبي اليسر البزدوي، وكانت ابنته فاطمة الفقيهة العلامة زوجة علاء الدين أبي بكر صاحب " البدائع "، وكانت تفقهت على أبيها، وحفظت تحفته، وكان زوجها يخطئ فتردّه إلى الصواب، وكانت الفتوى تأتي فتخرج وعليها خطها وخط أبيها، فلما تزوجت بصاحب " البدائع " كانت تخرج وعليها خطّها وخط أبيها وخط زوجها) اهـ (1418) . وكانت فقيهة عالمة بالفقه والحديث، أخذت العلم من جملة من الفقهاء، وأخذ عنها كثيرون، وكان لها حلقة للتدريس، قد أجازها جملة من كبار القوم، وكانت من الزهد والورع على جانب عظيم، وألفت المؤلفات العديدة في الفقه والحديث، وانتشرت مؤلفاتها بين العلماء الأفاضل. وكانت معاصرة للملك العادل " نور الدين الشهيد "، وطالما استشارها في بعض أموره الداخلية، وأخذ عنها بعض المسائل الفقهية، وكان دائمًا ينعم عليها، ويعضد مسعاها " (1419) .   (1418) " من أخلاق العلماء " ص (125) ، وانظر: " جولة في رياض العلماء" للدكتور عمر الأشقر ص (155) . (1419) " الدر المنثور في طبقات ربات الخدور" ص (367) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 فاطمة بنت الإمام الحافظ البرزالي: كتبت البخاري في ثلاثة عشر مجلدًا، فقابله لها أبوها الإمام، وكان يقرأ فيه على الحافظ المزي تحت القبة، حتى صارت نسختها أصلا معتمدا يكتب منها الناس (1420) . ستَيْتَة بنت القاضي أبي عبد الله الحسين بن إسماعيل المَحَامِلِّي: (العالمة، الفقيهة، المفتية، تفقهت بأبيها، وروت عنه، وحفظت القرآن، والفقه، والفرائض، والحساب، والدور، والعربية، وغير ذلك، وكانت من أحفظ الناس للفقه، ومن أعلم الناس في وقتها بمذهب الشافعي، وكانت تفتى به مع الشيخ أبي علي بن أبي هريرة، وكانت فاضلة في نفسها، كثيرة الصدقة، مسارعة إلى فعل الخيرات، وقد سمعت الحديث أيضا، وهي والدة القاضي محمد بن أحمد ابن القاسم المحاملي) (1421) زوجة الحافظ الهيثمي (وهي بنت شيخه الحافظ العراقي) : كانت تساعد زوجها في مراجعة كتب الحديث (1422) . فاطمة بنت محمد بن أحمد التَنوخِية (ت 778 هـ) : (خاتمة المسندين في دمشق، كانت عالمة بالحديث، أخذ عنها جماعة: منهم الحافظ ابن حجر) (1423)   (1420) " البداية والنهاية " (14/185) . (1421) انظر: " البداية والنهاية" (11/306) ، " سير أعلام النبلاء " (15/264) . (1422) "تمام المنة ببيان الخصال الموجبة للجنة " ص (39) . (1423) " الأعلام " (5/132) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 أم زينب فاطمة بنت عباس بن أبي الفتح بن محمد البغدادية: الشيخة، الصالحة، العالمة، المفتية، الفقيهة، المدرسة، العابدة، الناسكة، المجاهدة، وكل هذه ألقاب خلعها عليها أهل دهرها، وكلها صفات وصلت بها منتهى حدودها. كانت تصعد المنبر، وتعظ النساء، وِانتفع بتربيتها، والتخرج عليها خلق كثير، وكانت عالمة موفورة العلم في الفقه والأصول (1424) . قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: (وكانتَ من العالمات الفاضلات، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقوم على الأحمدية في مواخاتهم النساء والمردان، وتنكر أحوالهم وأصول أهل البدع وغيرهم، وتفعل من ذلك ما لا يقدر عليه الرجال، وقد كانت تحضر مجلس الشيخ تقي الدين بن تيمية فاستفادت منه ذلك وغيره، وقد سمعتُ الشيخ تقي الدين يثني عليها ويصفها بالفضيلة والعلم، ويذكر عنها أنها كانت تستحضر كثيرا من المغني أو أكثره، وأنه كان يستعد لها من كثرة مسائلها وحسن سؤالاتها وسرعة فهمها، وهي التي خَتَمَتْ نساءً كثيرًا القرآن، منهن أم زوجتي عائشة بنت صديق، زوجة الشيخ جمال الدين المزي، وهي التي أقرأت ابنتها زوجتي أمة الرحيم زينب رحمهن الله وأكرمهن برحمته وجنته، آمين) (1425) . توفيت في يوم عرفة، بظاهر القاهرة، وشهدها خلق كثير. وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في " ذيل طبقات الحنابلة ": (فاطمة ابنة عباس بن أبي الفتح، أم زينب الواعظة، الزاهدة العابدة   (1424) "المرأة العربية " (3/98) . (1425) " البداية والنهاية " (14/72) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 الشيخة الفقيهة، العالمة المسندة المفتية، الخائفة الخاشعة، السيدة القانتة، المرابطة المتواضعة، الدَّينة العفيفة، الخَيِّرة الصالحة، المتقنة المحققة الكاملة، الفاضلة المتفننة البغدادية، الواحدة في عصرها، والفريدة في دهرها، المقصودة في كل ناحية. كانت جليلة القدر، وافرة العلم، تسأل عن دقائق المسائل، وتتقن الفقه إتقانًا بالغا، أخذت عن الشيخ عز الدين بن أبي عمر، حتى برعت، كانت إذا أشكل عليها أمر سألت ابن تيمية عنه، فيفتيها، ويتعجب منها ومن فهمها، ويبالغ في الثناء عليها. كانت مجتهدة، صوَّامة قوَّامة، قوَّالة بالحق، خشنة العيش، قانعة باليسير، آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر، انتفع بها خلق كثير، وعلا صيتُها، وارتفع محلها، وقيل: إنها جاوزت الثمانين، توفيت ليلة عرفة سنة أربع عشرة وسبعمائة، رحمها الله تعالى ورضي عنها آمين) (1426) . (وعلى سنتها سارت ابنتها زينب، فكانت تعظ النساء، وتخطبهن في حياة أمها، وبعد موتها) (1427) . شهدَةُ بنت المحدث أبي نصر أحمد بن الفرج الدينوري: مسندة العراق، وفخر النساء، قعدت للحديث في القرن السادس، وهى صاحبة السماع العالي، ألحقت فيه الأصاغر بالأكابر، بَعُد صيتها، وسمع عليها الخلق الكثير، وكان لها خط حسن، وخالطت الدُّورَ والعلماء، ولها بِر وخير (1428) .   (1426) " ذيل طبقات الحنابلة" (2/467 - 468) . (1427) " المرأة العربية " (3/98) . (1428) " سير أعلام النبلاء" (20/542) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 كريمة بنت أحمد بن محمد بن حاتم المَرْوَزِيَّة: الشيخة، العالمة، الفاضلة، المسنِدة، سيدة الوزراء، المجاورة بحرم الله، كانت من راويات صحيح البخاري المعتبرة عند المحدثين، روت عن زاهر بن أحمد السَّرْخَسي، وغيره، وكانت نابغة في الفهم والنباهة وحِدَّة الذهن، رحل إليها أفاضل العلماء. قال أبو بكر بن منصور السمعاني: سمعتُ الوالد يذكر كريمة، ويقول: (وهل رأى إنسان مثلَ كريمة؟ " (1429) . عائشة بنت محمد بن الحسين البسطامي: عالمة محدثة، كان أبوها، وأخوها، وولده من كبار العلماء (1430) . زينب بنت عبد الله بن عبد الحليم بن تيمية الحنبلية: ابنة الإمام شرف الدين عبد الله أخي شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمهم الله تعالى، وزوجة الإمام العلامة أبو محمد عبد الوهاب بن السلار (1431) ، قال الحافظ ابن حجر: (سمعتْ من الحجار وغيره، وحدَثت، وأجازت لي) (1432) . ومن تلاميذها الإمام الحافظ محمد بن ناصر الدين الدمشقي الشافعي (1433) .   (1429) " السابق" (18/233- 235) . (1430) " السابق" (18/425) . (1431) انظر: " الرد الوافر" لابن ناصر الدين الدمشقي ص (110) . (1432) " جلاء العينين في محاكمة الأحمدين " ص (30) . (1433) " الرد الوافر" ص (110) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 عائشة بنت حمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف ابن محمد بن قدامة المقدسي: سمعت صحيح البخاري، وروى عنها الحافظ ابن حجر، وقرأ عليها كتبًا عديدة، وانفردت في آخر عمرها بعلم الحديث (1434) . ومن المحدثات: السيدة نفيسة ابنة محمد (1435) . ومنهن: فاطمة بنت محمد البغدادي: الشيخة، العالمة، الواعظة، الصالحة، المُعمَرة، مسندة أصبهان، حَدَّث عنها السمعاني، وابن عساكر، وأبو موسى المديني، وغيرهم " (1436) . ومنهن: زينب ابنة الكمال، ومن تلاميذها الإمام محمد بن حمزة الحسيني (1437) . ومنهن: كمال بنت المحدث أبي محمد عبد الله بن أحمد السمرقندي: أم الحسن صالحة خيرة، وهى زوجة المحدّث عبد الخالق اليوسفي (1438) . ومنهن: وزيرة بنت عمر بن المنجى، ومن تلاميذها الإمام محمد بن سوار السبكي (1439) . ومنهن: عائشة بنت حسن بن إبراهيم: الواعظة، العالمة، المسندة، أم الفتح الأصبهانية، قال ابن السمعاني: سألت الحافظ إسماعيل عنها،   (1434) "المرأة ومكانتها" للحصين ص (57) . (1435) " تربية الأولاد في الإسلام" (1/278) . (1436) " سير أعلاء النبلاء" (20/148) . (1437) " الرد الوافر" ص (55) . (1438) " سير أعلام النبلاء " (20/420) . (1439) " الرد الوافر " ص (50) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 فقال: (امرأة صالحة، عالمة، تعظ النساء، وكتبت أمالي ابن مَنْدَة عنه، وهي أول من سمعتُ منها الحديث، بعثني أبي إليها، وكانت زاهدة) (1440) . ومنهن: زينب بنت مكي: وممن سمع عليها الحافظ أحمد بن بكار النابلسي وعبد الله بن المحب وعمر بن حبيب وكثير من المحدثين (1441) . وزينب بنت أبي القاسم: كانت عالمة أدركت جماعة من أعيان العلماء وأخذت عنهم، وأجازها أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري مؤلف الكشاف، والمؤرخ شهاب الدين بن خلكان صاحب التاريخ المشهور (1442) . أم سلمى فاطمة بنت أبي بكر بن عبد الله: روت عن أبيها، وكتب عنها محمد بن جعفر كتاب "الجمل" (1443) . ست الوزراء بنت عمر بن أسعد بن المنجا: الشيخة الصالحة، راوية صحيح البخاري، وغيره (1444) . خديجة بنت موسى بن عبد الله: الواعظة، وتعرف بـ " بنت البقال"، قال الخطيب: " كتبت عنها،   (1440) " سير أعلام النبلاء" (18/302-303) . (1441) " الردَ الوافر " ص (80) ، (101) ، (113) . (1442) " المرأة ومكانتها " ص (57) . (1443) " السابق " ص (56) . (1444) " البداية والنهاية " (14/79) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 وكانت فقيرة، صالحة، فاضلة " (1445) . أم الهذيل: لها روايات كثيرة، وقد قرأت القرآن وعمرها اثنتا عشرة سنة، وكانت فقيهة عالمة، من خيار النساء (1446) . أم السلامة بنت القاضي أبي بكر أحمد بن كامل بن خلف بن شنخرة: سمعت من محمد بن إسماعيل النصلاني وغيره، وعنها الأزهري، والتنوخي، وأبو يعلى بن الفراء، وغيرهم، وأثنى عليها غير واحد في دينها، وفضلها، سيادتها (1447) . فاطمة بنت إبراهيم بن محمود بن جوهر البطائحي: المسندة، المحدثة، الدمشقية، الصالحة، سمعت صحيح البخاري من ابن الزبيدي مرات، سمعت صحيح مسلم من ابن الحصيري، وأخذ عنها العلامة السبكي، والإمام المحقق ابن قيم الجوزية (1448) . ست القضاة بنت الشيرازي: تتلمذ عليها الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي، والقاضي الإمام أحمد ابن فضل الله العمري (1449) .   (1445) " السابق " (12/54) . (1446) "السابق " (11/302) . (1447) "السابق " (11/328) . (1448) انظر: " شذرات الذهب " (6/28) ، " الأعلام " (5/129) ، " ذيل طبقات الحنابلة " (2/448) ، " طبقات المفسرين" (2/91) (1449) "الرد الوافر" ص (81) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 زبيدة زوجة هارون الرشيد وابنة عمه: كانت عالمة، فقيهة، وذكر ابن خلكان: (أنه كان لها مائة جارية كلهن يحفظن القرآن العظيم، غير من قرأ منه ما قدر له وغير من لم يقرأ، وكان يسمع لهن في القصر دوي كدوي النحل، وكان ورد كل واحدة عُشْرُ القرآن) (1450) . وقاية: (امرأة عالمة فاضلة، كانت بإحدى مدن ليبيا، وكان يلجأ إليها أفاضل العلماء، ويقولون: " تعالوا بنا نستشير وقاية، فعصابتها خير من عمائمنا " (1451)) . فاطمة بنت الحسن بن علي البغدادي العطار: (المؤدبة الكاتبة وتعرف ببنت الأقرع، سمعت الحديث من أبي عمر بن مهدي وغيره، وكانت تكتب المنسوب على طريقة ابن البواب، ويكتب الناس عليها، وبكتابها يُضرب المثل، وبخطها كانت الهدنة من الديوان إلى ملك الروم، وكتبت مرة إلى عميد المُلْك الكندي رقعة فأعطاها ألف دينار..) (1452) . ربيعة خاتون بنت أيوب أخت السلطان صلاح الدين الأيوبي الملقبة ب " ست الشام ": واقفة المدرستين البرانية والجوانية الست الجليلة خاتون، أخت الملوك، وعمة أولادهم، وأم الملوك، كان لها من الملوك المحارم خمسة وثلاثون ملكًا، وكانت ست الشام من أكثر النساء صدقة وإحسانًا إلى الفقراء والمحاويج،   (1450) " البداية والنهاية " (10/71) . (1451) " حقائق ثابتة في الإسلام" لابن الخطيب ص (78) . (1451) " البداية والنهاية " (12/134) ، " سير أعلام النبلاء" (18/480) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 وكانت تعمل في كل سنة في دارها بألوف من الذهب أشربة وأدوية وعقاقير وغير ذلك وتفرقه على الناس، وكانت وفاتها يوم الجمعة في دارها التي جعلتها مدرسة (1453) وكانت في خدمتها الشيخة الصالحة العالمة أمة اللطيف بنت الناصح الحنبلي، وكانت فاضلة، ولها تصانيف، وهي التي أرشدتها إلى وقف المدرسة بسفح قاسيون على الحنابلة، ووقفت أمة اللطيف على الحنابلة مدرسة أخرى (1454) . وقال الشيخ عطية محمد سالم حفظه الله: (قد رأيت بنفسي وأنا مدرس بالأحساء نسخة لسنن أبي داود عند آل المبارك وعليها تعليق لأخت صلاح الدين الأيوبي..) (1455) اهـ. فاطمة بنت أحمد بن السلطان صلاح الدين الأيوبي: (من فضليات النساء، روت الفقه، وشيئًا من الحديث، واشتهرت في عصرها) (1456) . فاطمة بنت الحسين بن الحسن ابن فضلويه: سمعت الخطيب وابن المسلمة وغيرهما، وكانت واعظة لها رباط تجتمع فيه الزاهدات، وقد سمع عليها ابن الجوزي مسند الشافعي وغيره) (1457) . قال فضيلة الشيخ عطية محمد سالم حفظه الله: ( ... وذكر صاحب التراتيب الإدارية قوله: وقد ثبت عن كثير من   (1453) انظر: " البداية والنهاية " (13/84- 85) . (1454) " السابق " (13/170) . (1455) " تتمة أضواء البيان " (9/360) . (1456) " الإعلام " للزركلي (5/130) . (1457) " البداية والنهاية " (12/198) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 نساء أهل الصحراء الأفريقية خصوصًا شنقيط " شنجط "، وهي المعروفة بموريتانيا وتيتبكتو، وقبيلة كنت - العجبُ، حتى جاء أن الشيخ المختار الكنتي الشهير، ختم مختصر خليل للرجال، وختمته زوجته في جهة أخرى للنساء، ومما يؤيد ما ذكره أننا ونحن في بعثة الجامعة الإسلامية لأفريقيا، سمعنا ونحن في مدينة أطار وهى على مقربة من مدينة شنجط المذكورة، سمعنا من كبار أهلها أنه كان يوجد بها سابقًا مائتا فتاة يحفظن المدونة كاملة، وقد سمعت في الآونة الأخيرة أنه توجد امرأة تدرس في المسجد النبوي الحديث والسيرة، واللغة العربية وهى شنقيطية) (1458) اهـ. وقال الأستاذ عبد الله عفيفي رحمه الله: (وأكثر ما عرف به الممتازات من نساء المغرب الأقصى حفظ القرآن الكريم بقراآته جميعًا ورواية الحديث ودرس الفقه والأصول وما إلى هذه من علوم الدين، ويذكر أهل ذلك الاقليم ثمانين امرأة من نساء المغرب جمعن إلى النفاذ في ذلك كله حفظ مدونة الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه، وهي أكبر المطولات الجامعة في الحديث الفقه (1459) اهـ. وذكر من النسوة اللاتي تخرجن في العلوم الدينية: (السيدة الشريفة فاطمة الزهراء ابنة السيد محمد بن أحمد الإدريسي، تحفظ القرآن الكريم بقراآته، وتحفظ كثيرًا من كتب الفقه والحديث، ولها فوق ذلك صلة وثيقة بالعلوم العصرية، ولم تبارح دار أبيها قط، وتخرجت على أبيها وجدها) (1460) . وقال عبد الواحد المراكشي: (إنه كان بالربض الشرقي في قرطبة   (1458) " تتمة أضواء البيان " (9/360 - 361) . (1459) " المرأة العربية " (3/155) . (1460) " السابق " (3/156) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 سبعون ومائة امرأة كلهن يكتبن المصاحف بالخط الكوفي) (1461) . أما بعد: فذاك غيض من فيض حديث النهضة العلمية الإسلامية، وتلك آثار المرأة المسلمة فيها، ومآثرها عليها، فهل رأيت ما رأيت في أمة من الأمم قديمها وحديثها؟ اللهم إنها حكمة الله ملأ بها أحناء تلك الصدور (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا) (البقرة: 269) . فلو كان النساءُ كَمَنْ ذَكَرنا ... لَفضلَتِ النساءُ على الرجالِ وما التأنيثُ لاسم الشمس عَيْبٌ ... وما التذكيرُ فخر للهلالِ ومما ينبغي أن يعلم أن المرأة حازت تلك المكانة العلمية الرفيعة ضمن ضوابط شرعية محددة، تهيئ لها المناخ الصالح الذي تأمن فيه الاختلاط بالرجال، وحضور مجالسهم، فكانت تؤدي وظيفة العلم من وراء حجاب، ومن هنا فلا يجوز لأحد أن يستدل بهذه النماذج الطيبة من " العالمات المسلمات " على " استحلال " ما عليه مجتمعاتنا اليوم من اختلاط فاضح، وتهتك مزرٍ، وتبرج مشين، فهذا لا يمكن أن يقره دين ولا عقل، لتعارضه مع نصوص الشريعة الصريحة، ولمنافاته روحَها الراميةَ إلى سد الذرائع المفضية إلى الفتنة والفساد، ولكن تلك النماذج المشرقة دليل واضح على موقف الإسلام من حق المرأة في التعلم، على أن يتم في حدود ما أحل الله، وعلى أن تراعي طبيعتها وما يناسبها من أنواع العلوم، وعلى أن تصان مما يخدش عقيدتها وآدابها الإسلامية (1462) . * * *   (1461) " المرأة ومكانتها في الإسلام " للحُصَين ص (57) . (1462) ويأتي مزيد بيان لقضية " تعليم المرأة " إن شاء الله في القسم الرابع من هذا الكتاب، يسر الله إتمامه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 [الفصل السابع] المرأةُ ... عابدةً فَقُهَتْ المرأة المسلمة عن الله أمره، وتدبرت في حقيقة الدنيا، ومصيرها إلى الآخرة، فاستوحشت من فتنتهَا، وتجافي جنْبُها عن مضجعها، وتناءى قلبها من المطامع، وارتفعت همتها عن السفاسف، فلا تراها إلا صائمة قائمة، باكية والهة، وحفل التاريخ بالخيرات الصالحات اللواتي نهجن طريق الزهد عن فرط علم، ورسوخ عقيدة، لا عن حماقة وجهالة كما تجد في كثير ممن عرفن بالنسك والتصوف من أشتات البلاد. وثبت في دواوين الإسلام أخبار وأخبار عن النساء العابدات، بدءًا من صدر العهد النبوي إلى ما تلاه من القرون: فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى النساء بعد صلاة العيد، فكلمهن في الصدقة، فأخذن ينزعن الفُتخ والقرطة والعقود والأطواق والخواتيم والخلاخيل ويلقينها في ثوب بلال- وكان بلال قد بسط ثوبه ليضع فيه النساء صدقاتهن (1463) . وبذلك رقأت عبرة اليتيم، وبردت لوعة المسكين. وكذلك فعل النساء حين نزلت آية الصدقة: (إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنًا يضاعف لهم ولهم أجر كريم) الحديد (18) .   (1463) انظر تخريجه " بالقسم الثالث" ص (365) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 وكان كثير من الإحسان في الجاهلية مما تثيره المنافسة، وحسن الأحدوثة فأصبح بالإسلام مما تفيض به الرحمة، ويبعثه ابتغاء مرضاة الله. ويتصدر هؤلاء العابدات نساء الصحابة رضي الله عنهم وعنهن، ويتصدر نساء الصحابة أمهات المؤمنين وآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى رأس هؤلاء: أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما: عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: (ما رأيت امرأتين قط أجود من عائشة وأسماء، وجودُهما مختلف: أما عائشة فكانت تجمع الشيء حتى إذا اجتمع عندها قسمت، وأما أسماء فكانت لا تمسك شيئًا لغد) (1464) . قال القاسم: " كانت عائشة تصوم الدهر " (1465) . وعن عروة أن عائشة رضي الله عنها كانت تسرد الصوم، وعن القاسم أنها " (كانت تصوم الدهر، لا تفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر) (1466) . (وعنه قال: كنت إذا غدوت أبدأ ببيت عائشة رضي الله عنها، فأسَلمُ عليها، فغدوت يوما، فإذا هي قائمة تُسَبحُ، وتقرأ: (فَمَنَّ الله علينا ووقانا عذابَ السَّموم) الطور: (27) ، وتدعو، وتبكي، وترددها، فقمت حتى مللت القيام، فذهبت إلى السوق لحاجتي، ثم رجعت، فإذا هي قائمة كما هي تصلى وتبكي) (1467) .   (1464) "أحكام النساء" لابن الجوزي ص (125) . (1465) أخرجه ابن سعد (8/47) ، ورجاله ثقات، والمعنى أنها كانت تصوم غير الأيام المنهي عنها كالعيدين، وأيام التشريق، والحيض. (1466) " السمط الثمين" ص (90) . (1467) " السابق". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 وعن عروة قال: (كانت عائشة رضي الله عنها لا تمسك شيئًا مما جاءها من رزق الله تعالى إلا تصدقت به) (1468) . وقال عروة: (بعث معاوية مرة إلى عائشة بمائة ألف درهم، فقسمَتها، لم تترك منها شيئًا، فقالت بريرة: " أنتِ صائمة، فهلا ابتعتِ لنا منها بدرهم لحمًا؟ " قالت: " لو ذكرتِني لفعلت " (1469) ، وعنه أيضَا قال: " وإن عائشة تصدقت بسبعين ألف درهم، وإنها لترقع جانب درعها " رضي الله تعالى عنها) (1470) . عن محمد بن المنكدر عن أم ذَرَّة وكانت تغشى عائشة رضي الله عنها، قالت: بعث إليها ابن الزبير بمال في غِرارتين، قالت: أراه ثمانين ومائة ألف، فدعَت بطبق، وهى صائمة يومئذ، فجلست تقسمه بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك درهم، فلما أمست قالت: " يا جاريةُ هلمي فَطُوري "، فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أم ذَرَّة: " أما استطعت مما قسمت اليوم أن تشترى لنا بدرهم لحمًا نفطر عليه؟ " فقالت: " لا تُعَنفيني، لو كنت أذكرتِني لفعلتُ " (1471) . و (عن ابن يمن المكي قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها وعليها درع قطري ثمنه خمسة دراهم، فقالت: ارفع بصرك إلى جاريتي، فانظر إليها، فإنها تُزْهَى (1472) أن تلبسه في البيت، وقد كان منهن درع على عهد   (1468) " السابق" ص (88) . (1469) أخرجه أبو نعيم في " الحلية " (2/47) ، والحاكم (4/13) . (1470) رواه ابن سعد في " الطبقات " (8/45) . (1471) رواه ابن سعد (8/46) في " الطبقات"، وأبو نعيم في " الحلية " (2/47) ، ورجاله ثقات. (1472) تزهى أن تلبسه في البيت: أي تترفع عنه، ولا ترضاه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كانت امرأة تُقَيَّنُ (1473) في المدينة إلا أرسلت إليَّ تستعيره) (1474) . عن عبد الله بن أبي مليكة أنه جاء أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وعند رأسها ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن، فقلت: " هذا ابن عباس يستأذن "، فأكب عليها ابن أخيها عبد الله، فقال عبد الله: " هذا ابن عباس، وهى تموت "، فقالت: " دعني من ابن عباس "، فقال لها: " يا أماه إن ابن عباس من صالحي بنيك، يسلم عليك، وَيُوَدِّعُكِ، فقالت: " ائذن له إن شئت "، فأدخلته، فلما جلس، قال: " أبشري! فما بينك وبين أن تلقي محمدًا صلى الله عليه وسلم الأحبة إلا أن تخرج الروح من الجسد، كنتِ أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب، إلا طيبا، وسقطت قلادتك ليلة الأبواء، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تصبح في المنزل، فأصبح الناس ليس معهم ماء، فأنزل الله عز وجل: (فتيمموا صعيدًا طَيبّا) (المائدة: 6) ، وكان ذلك في سببك، وما أنزل الله لهذه الأمة من الرخصة، وأنزل براءتك من فوق سبع سماوات، جاء بها الروح الأمين، فأصبح ليس مسجد من مساجد الله يذكر الله فيه إلا تتلى فيه آناء الليل، وآناء النهار"، فقالت: " يا ابن عباس دعني منك، ومن تزكيتك، فوالله لوددت أني كنت نسيًا منسيا " (1475) . وكانت أم المؤمنين زينب بنت جحش بن رئاب ابنة عمة النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها امرأة صَنَاعا، وكانت تعمل بيدها، وتتصدق به في سبيل الله (1476) .   (1473) تقين بالمدينة: أي تزين لزفافها، والتقين: التزين. (1474) " السمط الثمين" ص (87) ، والحديث رواه البخاري (5/241-242) . (1475) " أحكام النساء" ص (125-126) . (1476) " سير أعلام النبلاء " (2/217) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 وكانت رضي الله عنها صالحة، صوامة، قوامة، بارَة، ويقال لها: "أم المساكين"، وقالت فيها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بعد موتها: " لقد ذهبت حميدة متعبدة، مفزع اليتامى والأرامل " (1477) ، وعن أنس رضي الله عنه قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: " ما هذا الحبل؟ "، قالوا: حبلٌ لزينبَ، فإذا فترت تعلًقت به "، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا، حُلُّوه، ليصلِّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد " (1478)) . وعن عبد الله بن رافع عن بررة بنت رافع قالت: " لما جاء العطاء بعث عمر إلى زينب رضي الله عنها بالذي لها، فلما دخل عليها قالت: " غفر الله لعمر، لَغيري من أخواتي كان أقوى على قَسْم هذا مني "، قالوا: " هذا كله لك "، فقالت: " سبحان الله! " واستترت دونه بثوب، وقالت: " صُبوه، واطرحوا عليه ثوبًا "، فصبوه، وطرحوا عليه، وقالت لي: " أدخلي يدك فاقبضي منه قبضة، فاذهبي إلى آل فلان، وآل فلان " - من أيتامها وذوي رحمها -، فقسمته حتى بقيت منه بقية؛ قالت لها بررة: " غفر الله لك، والله لقد كان لنا من هذا حظ " قالت: " فلكم ما تحت الثوب "، فرفعنا الثوب، فوجدنا خمسة وثمانين درهمًا، ثم رفعت يدها، وقالت: " اللهم لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا "، قالت: فماتت   (1477) " الإصابة " (7/670) . (1478) رواه البخاري (3/278) في أبواب التهجد: باب ما يكره من التشديد في العبادة، والنسائي (3/218-219) في قيام الليل: باب الاختلاف على عائشة في إحياء الليل، وفى رواية لأبي داود (قالوا: " زينب تصلي، فإذا كسلت، أو فترت أمسكت به"، فقال: " خلُّوهُ، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسَل أو فتر فليقعد") . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 رضي الله عنها) (1479) . وحدث محمد بن كعب قال: كان عطاء زينب اثني عشر ألف درهم حمل إليها فقسمته في أهل رحمها، وفي أهل الحاجة، حتى أتت عليه، فبلغ عمر فقال: " هذه امرأة يراد بها خير "، فوقف على بابها، وأرسل بالسلام، وقال: " قد بلغني ما فرقتِ "، فأرسل إليها بألف درهم لتنفقها، فسلكت بها طريق ذلك المال (1480) . ورُوِيَ أنها قالت حين حضرتها الوفاة: " إني قد أعددت كفني، ولعل عمر سيبعث إليَّ بكفن، فإن بعث بكفن فتصدقوا بأحدهما، إن استطعتم إذا أدليتموني أن تصدَّقُوا بِحَقْوي فافعلوا " (1481) . وهي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أسرعُكن لحوقًا بي: أطولكن يَدًا "، وإنما عَنَى صلى الله عليه وسلم طول يَدِها بالمعروف، قالت عائشة رضي الله عنها: " فكُنَّ يتطاوَلنَ أيتهُن أطولُ يَدًا، وكانت زينب تعمل وتتصدق (1482) . قالت عائشة رضي الله عنها: (كانت زينب بنت جحش تُساميني في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولم أرَ امرأة قط خيرًا في الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي تَصَدَّقُ به، وتَقَربُ به إلى الله تعالى ما عدا سَوْرَةً من حِدة كانت فيها تسرع منها الفيئة) (1483) .   (1479) "سير أعلام النبلاء" (2/213 - 215) . (1480) أخرجه ابن سعد بسند في الواقدي، كما في "الإصابة" (7/670) . (1481) "السابق" (2/217) ، وأخرجه ابن سعد بإسناد فيه الواقدي كما في "الإصابة" (7/669) . (1482) " السابق" (2/213) . (1483) " السابق" (2/214) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 أم المؤمنين زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله الهلالية: كانت رضي الله عنها تُدْعَى أم المساكين، لكثرة معروفها أيضًا (1484) . أم المؤمنين حفصة بنت أميرِ المؤمنين أبي حَفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وهي التي كانت تسامي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في مكانتها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت عابدة، خاشعة، قانتة رضي الله عنها، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها، ثم راجعها بأمر جبريل عليه السلام له بذلك، وقال: " إنها صَوامة، قوًامة، وهي زوجتك في الجنة " (1485) ، فأي شهادة وتزكية بعد شهادة الله عز وجل وتزكيته حفصة بنت الفاروق رضي الله عنهما؟! أسماء بنت أبي بكر عبد الله بن أبي قُحافة عثمان رضي الله عنهم أجمعين: أم عبد الله القرشية، التيمية، والدة الخليفة عبد الله بن الزبير، وأخت أم المؤمنين عائشة، وهى المعروفة بذات النطاقين، كانت خاتمة المهاجرين والمهاجرات. قال ابن أبي مُلَيكة: (كانت أسماء تصدع، فتضع يدها على رأسها، وتقول: " بذنبي، وما يغفره الله أكثر " (1486)) . (وعن فاطمة بنت المنذر: " أن أسماء كانت تمرض المرضة، فتعتِقُ   (1484) " السابق" (2/218) . (1485) "السابق " (2/228) ، وصححه ابن حجر في " الإصابة " (4/273) . (1486) "السابق " (2/290) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 كل مملوك لها ". وعن محمد بن المنكدر، قال: " كانت أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما- سَخِية النفس " (1487)) . وعن الركَين بن الربيع، قال: (دخلتُ على أسماءَ بنتِ أبي بكر، وقد كَبرَت، وهي تصلي، وامرأة تقول لها: " قومي، اقعدي، افعلي، من الكِبَر " (1488)) . أم الدرداء الصغرى: السيدة، العالمة، الفقيهة، هُجَيمة زوجة أبي الدرداء رضي الله عنه، عرضت القرآن وهى صغيرة على أبي الدرداء رضي الله عنه، وطال عمرها، واشتهرت بالعلم، والعمل، والزهد. قال عون بن عبد الله: " كنا نأتي أم الدرداء، فنذكر الله عندها " (1489) . وقال يونس بن ميسرة: " كُنَّ النساء يتعبدن مع أم الدرداء، فإذا ضًعُفنَ عن القيام، تَعَلَّقْنَ بالحبال "، وعنه أيضًا قال: (كنا نحضر أم الدرداء، وتحضرها نساء عابدات، يقمن الليل كله، حتى إذ أقدامهن قد انتفخت من طول القيام) (1490) . السيدة المكرمة الصالحة نفِيسة، ابنة الحسن بن زيد بن السيد سبطِ النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنهما، العلوية، الحَسَنِيَّة. كانت- رحمها الله وأكرمها- من الصالحات العوابد، زاهدة،   (1487) "السابق " (2/292) . (1488) " السابق " (2/295) . (1489) "السابق" (4/277-278) . (1490) "السابق" (4/278) ، وانظر: " صفة الصفوة" (4/296-297) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 تقية، نقيهَ، تقوم الليل، وتصوِم النهار، وتكثر البكاء من خشية الله عز وجل، حتى قيل لها: "تَرَفَقي بنفسك "، لكثرة ما رأوْا منها، فقالت: " كيف أرفق بنفسي وأمامي عقبة لا يقطعها إلا الفائزون؟ "، حجَّت ثلاثين حجة، وكانت تحفظ القرآن وتفسيره، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى بعد أن حكى أنها دخلت مصر مع زوجها المؤتمن إسحاق بن جعفر بن محمد الصادق: (فأقامت بها، وكانت ذات مال، فأحسنت إلى الناس، والجذمى، والزَّمْنَى، والمرضَى، وعموم الناس، وكانت عابدة، زاهدة، كثيرة الخير، ولما ورد الشافعي مصر أحسنت إليه، وكان ربما صَلَّى بها في شهر رمضان، وحين مات أمرت بجنازته فأدخِلَتْ إليها المنزل، فصلت عليه) (1491) اهـ. ومن أخبارها رحمها الله تعالى: (أنها أقامت بمصر مع زوجها إسحق بن جعفر الصادق، وقيل: مع أبيها الحسن الذي عُيِّن واليًا على مصر من قِبل أبي جعفر المنصور. وقد هرع إليها أهل مصر يشكون من ظلم أحمد بن طولون، فقالت لهم: متى يركب؟ قالوا: في غدٍ، فكتبت رقعة، ووقفت بها في طريقه، وقالت: " يا أحمد بن طولون "، فلما رآها عرفها، فترجل عن فرسه، وأخذ منها الرقعة، وقرأها، فإذا فيها: " ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وخُوِّلتُم فعسفتم، ورُدَّت إليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام القدر نافذة غير مخطئة لا سيما في قلوب أوجعتموها، وأكبادٍ جوعتموها، وأجساد عريتموها، فمحال أن   (1491) " البداية والنهاية" (10/262) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 يموت المظلوم، ويبقى الظالم. اعملوا ما شئتم فإنا صابرون، وجوروا فإنا مستجيرون، واظلموا فإنا إلى الله متظلمون (وسيعلم الذين ظَلموا أي منقلب ينقلبون) ، فعدل لوقته) (1492) . بل قيل: إن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى سمع عليها الحديث من وراء حجاب، وطلب منها أن تدعو له (1493) [توفيت رحمها الله تعالى وهي صائمة، فألزموها الفطر، فقالت: " واعجباه! أنا منذ ثلاثين سنة أسأل الله تعالى أن ألقاه صائمة، أأفطِر الآن؟! هذا لا يكون "، وخرجت من الدنيا، وقد انتهت قراءتها إلى قوله تعالى: (قل لمن ما في السموات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة) (1494) (الأنعام: 12) ] (1495) .   (1492) "إعداد المرأة المسلمة" ص (143 -144) . (1493) "مرآة النساء " ص (82) . (1494) " السابق". (1495) قال الحافظ الذهبي رحمه الله: (ولجهلة المصريين فيها اعتقاد يتجاوز الوصف، ولا يجوز مما فيه من الشرك، ويسجدون لها، ويلتمسون منها المغفرة، وكان ذلك من دسائس دُعاة العُبَيْدِية) اهـ. من " سير أعلام النبلاء" (10/106) ، وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: (وإلى الآن قد بالغ العامة في اعتقادهم فيها وفي غيرها كثيرا جدا، ولا سيما عوام مصر، فإنهم يطلقون فيها عبارات بشيعة مجازفة تؤدي إلى الكفر والشرك، وألفاظا ينبغي أن يعرفوا أنها لا تجوز، وربما نسبها بعضهم إلى زين العابدين، وليست من سلالته، والذي ينبغي أن يعتَقد فيها: ما يليق بمثلها من النساء الصالحات، وأصل عبادة الأصنام من المغالاة في القبور وأصحابها، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتسوية القبور وطمسها، والمغالاة في البشر حرام، ومن زعم أنها تفك من الخشب، أو أنها تنفع أو تضر بغير مشيئة الله فهو مشرك، رحمها الله وأكرمها) اهـ (10/262) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان الأموية، أخت الخليفة الراشد عمر ابن عبد العزيز رحمهما الله تعالى: كانت مضرب المثل في الكرم والجود، فكانت تقول: " لكل قوم نَهْمة (1496) في شيء، ونهمتي في الإعطاء"، وكانت تعتق كل يوم جمعة رقبة، وتحمل على فرس في سبيل الله عز وجل، وتقول: " أف للبخل، لو كان قميصًا لم ألبسه، ولو كان طريقًا لم أسلكه " (1497) . عجردة العمية: عن آمنة بنت يَعْلى بن سُهَيل قالت: (كانت عجردة العمية تغشانا، فتظل عندنا اليوم واليومين، قالت: فكانت إذا جاء الليل لبست ثيابها، وتقنَّعت، ثم قامت إلى المحراب، فلا تزال تصلي إلى السحَر، ثم تجلس فتدعو حتى يطلع الفجر، فقلت لها- أو قال لها بعض أهل الدار-: " لو نمتِ من الليل شيئًا؟ "، فبكت، وقالت: "ذكر الموت لا يدعُني أنام " (1498)) . وكانت تحيي الليل، وكانت مكفوفة البصر؛ فإذا كان السحر، نادت بصوت لها محزون: " إليك قطع العابدون دجى الليالي يستبقون إلى رحمتك وفضل مغفرتك، فبك يا إلهي أسألك لا بغيرك أن تجعلني في أول زمرة السابقين، وأن ترفعني لديك في عليين في درجة المقربين، وأن تلحقني بعبادك الصالحين، فأنت أرحم الرحماء، وأعظم العظماء، وأكرم الكرماء يا كريم، ثم تخر ساجدة فيُسمع لها وجبة، ثم لا تزال تدعو، وتبكي إلى الفجر (1499) .   (1496) النهمَة: الشهوة للشيء، والرغبة فيه. (1497) " أحكام النساء" ص (137) . (1498) "صفة الصفوة" (4/31) . (1499) " السابق" (4/ 31) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 حبيبة العدوية: وعن عبد الله المكي أبي محمد قال: (كانت " حبيبة العدوية" إذا صلت العتمة قامت على سطح لها، وشدَّت عليها درعها وخمارها، ثم قالت: " إلهي قد غارت النجوم، ونامت العيون، وغلقت الملوك أبوابها، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك "، ثم تقبل على صلاتها، فإذا طلع الفجر، قالت: " إلهي هذا الليل قَد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، فليت شعري أقبلت مني ليلتي فأهنأ، أم رددتها علي فأعزى؟ وعزتك لهذا دأبي ودأبك ما أبقيتني، وعزتك لو انتهرتني عن بابك ما برحت، لما وقع في نفسي من جودك وكرمك " (1500) . جارية الحسن بن صاع: كان الحسن بن صالح يقوم الليل هو وجاريته، فباعها لقوم، فلما صلَّت العشاء، افتتحت الصلاة، فما زالت تصلي إلى الفجر، وكانت تقول لأهل الدار كل ساعة تمضي من الليل: " يا أهل الدار قوموا! يا أهل الدار صَلوا! "، فقالوا لها: " نحن لا نقوم إلى الفجر "، فجاءت إلى الحسن ابن صالح، وقالت: (بعتني لقوم ينامون الليلَ كُلَّه، وأخاف أن أكسل من شهود نومهم "، فردها الحسن إليه رحمة بها، ووفاءً بحقها " (1501) . عابدة من بني عبد القيس: كانت إذا جاء الليل تحرمت، ثم قامت إلى المحراب، وكانت تقول:   (1500) " إحياء علوم الدين " (15/2774 - 2775) . (1501) " صفة الصفوة " (3/195) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 " المحب لا يسأم من خدمة حبيبه "، وكانت تقول: " عاملوا الله على قدر نِعَمِهِ عليكم، وإحسانِه إليكم، فإن لم تطيقوا: فعلى قدر ستره، فإن لم تطيقوا: فعلى الحياء منه، فإن لم تطيقوا: فعلى الرجاء لثوابه، فإن لم تطيقوا: فعلى خوف عقابه " (1502) . امرأة الهيثم بن جماز: قال الهيثم: (كانت لي امرأة لا تنام الليل، وكنت لا أصبر معها على السهر، فكنت إذا نعست ترش عليَّ الماء في أثقل ما أكون من النوم، وتنبهني برِجلها، وتقول: " أما تستحي من الله؟ إلى كم هذا الغطيط؟ "، فوالله إن كنت لأستحي مما تصنع) (1503) . أم الصهباء معاذة بنت عبد الله العدوية زوجة صلة بن أشيم رحمهما الله: وهى تلميذة مباركة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كانت- رحمها الله- إذا جاء النهار تقول: " هذا يومي الذي أموت فيه "، فما تطعم حتى تمسي، فإذا جاء الليل تقول: " هذه الليلة التي أموت فيها "، فتصلي حتى تصبح، ومن قولها: " عجبتُ لعين تنام، وقد عرفت طول الرقاد في ظلمة القبور " (1505) ، وكانت إذا جاء البرد لبست الثياب الرقاق حتى يمنعها البرد من النوم (1505) . (وكانت تصلى الليل الطويل، فكانت تَكِل الرجال، وهي لا   (1502) " السابق" (4/391) . (1503) " السابق". (1504) " إحياء علوم الدين" (15/2777) ، ومما يجب التنبيه عليه: أن الحياة في القبر ليست مجرد رقاد ونوم، بل هي حياة برزخية في نعيم أو جحيم. (1505) " صفة الصفوة" (4/22) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 تكلُّ) (1506) . ولما بلغها نبأ استشهاد زوجها وابنها (1507) ، أتت النساء يواسينها في مصابها، فقالت لهن: " إن كنتن جئتن لتهنئنني فمرحبًا بكن، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن"، ولم تتوسد فراشًا بعد مقتل زوجها رحمهما الله تعالى. شعوانة: وقال يحيى بن بسطام: (كنت أشهد مجلس شعوانة، فكنت أرى ما تصنع من النياحة والبكاء، فقلت لصاحب في: " لو أتيناها إذا خلت فأمرناها بالرفق بنفسها؟ " فقال: " أنت وذاك "، قال: فأتيناها، فقلت لها: " لو رفقت بنفسك، وأقصرت عن هذا البكاء شيئًا، فكان أقوى لك على ما تريدين؟ " قال: فبكت، ثم قالت: " والله لوددت أني أبكي حتى تنفد دموعي، ثم أبكى دمًا حتى لا تبقى قطرة من دم في جارحة من جوارحي، وأني لي بالبكاء، وأني لي بالبكاء"، فلم تزل تردد: " وأني لي بالبكاء " حتى غشي عليها) (1508) . وكانت شعوانة تقول في دعائها: " إلهي ما أشوقني إلى لقائك،   (1506) " تنبيه المغترين أواخر القرن العاشر على ما خالفوا فيه سلفهم الطاهر" ص (117) . (1507) وقصة ذلك أن زوجها صلة بن أشيم (خرج غازيا هو وابنه، فقال صله لابنه: " يا بني! إلى أمك "، فقال ابنه: " يا أبت! أتريد الخير لنفسك، وتأمرني بالرجعة؟! أنت والله كنت خيرًا لأمي مني"، قال: " أما إذا قلتَ هذا فتقدَّمْ، فتقدم، فقاتل حتى أصيب، فرمى صلة عن جسده، وكان رجلًا راميا، حتى تفرقوا عنه، وأقبل يمشي حتى قام عليه، فدعا له، ثم قاتل حتى قتِل رحمهما الله تعالى) ، انظر: " كتاب الجهاد" للإمام عبد الله بن المبارك ص (129) . (1508) " إحياء علوم الدين" (15/2775) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 وأعظم رجائي جزائك، وأنت الكريم الذي لا يخيب لديك أمل الآملين، ولا يبطل عندك شوق المشتاقين، إلهي إن كان دنا أجلي، ولم يقربني منك عملي، فقد جعلت الاعتراف بالذنب وسائل عللي، فإن عفوت فمن أولى منك بذلك؟ وإن عدلت فمن أعدل منك هنالك! إلهي قد جرتُ على نفسي فِى النظر لها، وبقى لها حسن نظرك، فالويل لها إن لم تسعدها، إلهي إنك لم تزل بي بَرّا أيام حياتي، فلا تقطع عني برك بعد مماتي، ولقد رجوت ممن تولاني في حياتي بإحسانه، أن يسعفني عند مماتي بغفرانه، إلهي كيف أيأس من حسن نظرك بعد مماتي، ولم تولني إلا الجميل في حياتي، إلهي إن كانت ذنوبي قد أخافتني، فإن محبتي لك قد أجارتني، فتولً من أمري ما أنت أهله، وعُدْ بفضلك على مَن غره جهله، إلهي لو أردت إهانتي لما هديتني، ولو أردت فضيحتي لم تسترني، فمتعْني بما له هديتني، وأدِمْ في ما به سترتني.. " (1509) . [وعن محمد بن عبد العزيز بن سلمان قال: (كانت شعوانة قد كَمِدَت حتى انقطعت عن الصلاة والعبادة، فأتاها آتٍ في منامها فقال: أذري جفونكِ إما كنتِ شاجيةً ... إن النياحة قد تَشْفي الحُزَينِينَا جِدِّي وقُومي وصومي الدهرَ دائبةً ... فإنما الدَّوب من فعل المطيعينا فأصبحت فأخذت في الترنم والبكاء، وراجعتِ العمل. وعن الحسن بن يحيى قال: كانت شعوانة تردد هذا البيت فتبكي، وتبكِى النساكَ معها، تقول: لقد أمِنَ المغرور دارَ مقامِه ... ويوشِك يومًا أن يخاف كما أمِنْ وعن رَوْح بن سلمة قال: قال في مُضَر: ما رأيت أحدًا أقوى على   (1509) " السابق" (15/2777-2778) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 كثرة البكاء من شعوانة، ولا سمعت صوتًا قط أحرقَ لقلوب الخائفين من صوتها إذا هي نَشَجَت، ثم نادت: " يا مَوْتي، وبَني الموتى، وإخوةَ الموتى! ". وقال أبو عمر الضرير: سمعتها تقول: " من استطاع منكم أن يبكي فليبكِ، وإلا فليرحم الباكي، فإن الباكي إنما يبكي لمعرفته بما أتى إلى نفسه". وعن الحارث بن مغيرة، قال: كانت شعوانة تنوح بهذين البيتين: يُؤمِّل دنيا لتبقى له ... فوافَى المنيةَ قبلَ الأمَلْ حثيثًا يُرَوي أصولَ الفَسيلِ ... فعايش الفَسِيلُ (1510) ومات الرجُلْ وعن فضيل بن عياض قال: (قَدِمَتْ شعوانةُ، فأتيتها، فشكوت إليها، وسألتُها أن تَدعوَ بدعاء، فقالت: " يا فضيل أمَا بينك وبين الله ما إن دعوتَهُ استجاب لك؟ "، قال: فشهق الفضيل، وخَرَّ مغشيا عليه) (1511) . منيفة بنت أبي طارق البحرانية: كانت إذا هجم عليها الليل تقول: " بخ بخ يا نفسُ قد جاء سرور المؤمن "، فتقوم في محرابها، فكأنها الجذع القائم حتى تصبح. وعن أم عمار بنت مليك البحراني قالت: " بِتُّ ليلةً عند منيفة ابنة أبي طارق، فما زادت على هذه الآية ترددها، وتبكي: (وكيف تكفرون وأنتم تتلَى عليكم آيات الله وفيكم رسولُه ومن يعتصمْ بالله فقد هُدِي   (1510) الفسيل: مفرده الفسيلة، وهي كل عود يقطع من شجرته، فيغرس، كالنخل وغيره. (1511) "صفة الصفوة" (4/55-56) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 إلى صراطٍ مستقيم) (1512) (آل عمران: 101) . أم حيان السُّلَميَة: قال أبو خلدة: " ما رأيت رجلا قط، ولا امرأة أقوى ولا أصبر على طول القيام من أم حيان السلمية، إن كانت لتقوم في مجلس الحي كأنها نخلة تصفقها الرياح يمينًا وشمالا "، وكانت تقرأ القرآن في يوم وليلة (1513) . رَحلَة العابدة مولاة معاوية: عن سعيد بن عبد العزيز قال: " ما بالشام ولا بالعراق أفضل من رحلة". ودخل عليها نفر من القراء، فكلَّموها في الرفق بنفسها، فقالت: " ما لي وللرفق بها؟ فإنما هي أيامُ مبادرة، فمن فاته اليوم شيء لم يدركه غدًا، والله يا إخوتاه لأصَليَنَ ما أقلَتْنِي جوارحي، ولَأصُومَنَّ له أيام حياتي، ولأبكين له ما حملت الماء عيناي"، ثم قالت: " أيكم يأمر عبده بأمر فيحب أن يقصر فيه؟ ". ولقد قامت- رحمها الله- حتى أقعِدَتْ، وصامت حتى اسودَّت، وبكت حتى عمشت، وكانت تقول: " علمي بنفسي قَرحَ فؤادي، وكلم قلبي، والله لوددت أن الله لم يخلقني، ولم أك شيئًا مذكورًا "، وكانت- رحمها الله- تخرج إلى الساحل فتغسل ثياب المرابطين في سبيل الله (1514) . غصنة وعالية: كانتا من عابدات البصرة، قال أبو الوليد العبدي: " ربما رأيت   (1512) " صفة الصفوة " (4/57) . (1513) "السابق" (4/38) . (1514) " السابق" (4/ 40- 41) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 غصنة وعالية تقوم إحداهما من الليل، فتقرأ البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف في ركعة (1515) . غنضكة: وهى من عابدات البصرة، وكانت تصلي عامة الليل، ثم تقول: " أعوذ بالله من ملائكةٍ غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون "، فإذا قضت صلاتها قالت: " هذا الجهد مني، وعليك التكلان " (1516) . امرأة أبي عمران الجوني: من عابدات البصرة، كانت تقوم من الليل تصلي حتى تعصب ساقيها بالخرق، فيقول لها أبو عمران الجوني: " دون هذا يا هذه "، فتقول: " هذا عند طول القيام في الوقف قليل "، فيسكت عنها " (1517) . هنَيْدة: عن عامر بن أسلم الباهلي، عن أبيه قال: (كانت لنا جارية في الحي يقال لها: " هُنيْدَة "، فكانت تقوم إذا مضى من الليل ثُلثُه أو نصفه، فتوقِظُ ولدَها وزوجَها وخَدَمَها، فتقول لهم: " قوموا فتوضئوا، وصَلوا، فستغتبِطون بكلامي هذا"، فكان هذا دَأبَها معهم حتى ماتت، فرأى زوجها في منامه: " إن كنت تحب أن تَزَوجَها هناك، فاخلفها في أهلها بمثل فعلها، فلم يزل دأبَ الشيخ حتى مات، فأتَى أكبرَ ولدِه في منامه، فقيل له: " إن كنت تحب أن تُجاوِرَ أبويك في درجتهما من الجنة، فاخلفهما في أهلهما بمثل عَمَلِهما "، قال: فلم يزل ذلك دأبه حتى مات "، فكانوا   (1515) " السابق " (4/41) . (1516) " السابق" (4/43) . (1517) " السابق " (4/43) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 يُدْعَوْنَ القوَّامين) (1518) اهـ. بريرة: وقال ابن العلاء السعدي: (كانت لي ابنة عم يقال لها: " بريرة "، تعبدت، وكانت كثيرة القراءة في المصحف، فكلما أتت على آية فيها ذكر النار بكت، فلم تزل تبكي حتى ذهبت عيناها من البكاء، فقال بنو عمها: " انطلقوا بنا إلى هذه المرأة حتى نعذلها في كثرة البكاء "، قال: فدخلنا عليها، فقلنا: " يا بريرة كيف أصبحت؟ " قالت: " أصبحنا أضيافًا منيخين بأرض غربة، ننتظر متى نُدْعَى فنجيب"، فقلنا لها: " كم هذا البكاء، قد ذهبت عيناكِ منه "، فقالت: " إن يكن لعيني عند الله خير، فما يضرهما ما ذهب منهما في الدنيا، وإن كان لهما عند الله شر، فسيزيدهما بكاءً أطول من هذا "، ثم أعرضت، فقال القوم: " قوموا بنا، فهي والله في شيء غير ما نحن فيه" (1519)) . شقيقات بشر الحافي: (وذكر الخطيب أنه كان لبشر الحافي الزاهد المشهور أخوات ثلاث، وهن: " مُخًة"، و " مضغة "، و "زبدة"، وكلهن عابدات زاهدات مثله وأشد ورعًا أيضًا، ذهبت إحداهن إلى الإمام أحمد فقالت: " إني ربما طفئ السراج، وأنا أغزل على ضوء القمر، فهل عَلَيَّ عند البيع أن أمَيز هذا من هذا؟ "، فقال: " إن كان بينهما فرق، فميزي للمشتري ". وقالت له مَرًةً إحداهن: " ربما تمر بنا مشاعل بني طاهر في الليل، ونحن نغزل فنغزل الطاق، والطاقين، والطاقات، فَخَلصْني من ذلك "، فأمرها أن تتصدق بذلك الغزل كُله لما اشتبه عليها من معرفة ذلك المقدار (1520) .   (1518) "السابق" (4/391) . (1519) " إحياء علوم الدين" (15/2777) . (1520) وفي بعض الروايات: أن الإمام أحمد قال لها: " من أنتِ عافاك الله؟ "، = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618 وَسَألتْهُ عن أنين المريض أفيه شكوى؟ قال: " لا، إنما هو شكوى إلى الله عز وجلَ "، ثم خرجت فقال لابنه عبد الله: " يا بني اذهب خلفها فاعلم لي مَن هذه المرأة؟ "، قال عبد الله: فذهبت وراءها فإذا هي قد دخلت دار بشر، وإذا هي أخته " مخة ") (1521) . جارية روميهَ: وقال عبد الله بن الحسن: (كانت لي جارية رومية، وكنت بها معجبًا، فكانت في بعض الليالي نائمة إلى جنبي، فانتبهت، فالتمستها، فلم أجدها، فقمت أطلبها، فإذا هي ساجدة، وهي تقول: " بحبك في إلا ما غفرت لي ذنوبي"، فقلت لها: " لا تقولي: بحبك لي، ولكن قولي: بحبي لك "- يعني إرشادًا لها إلى التوسل المشروع بالعمل الصالح- فقالت: " لا يا مولاي، بحبه لي أخرجني من الشرك إلى الإسلام، وبحبه لي أيقظ عيني، وكثير من خلقه نيام " (1522)) . سرية: وقال أبو هاشم القرشي: (قدمت علينا امرأة من أهل اليمن يقال لها: " سرية"، فنزلت في بعض ديارنا، قال: فكنت أسمع لها من الليل أنينًا وشهيقًا، فقلت يوما لخادم لي: " أشرف على هذه المرأة، ماذا تصنع؟ "، قال: فأشرف عليها، فما رآها تصنع شيئًا غير أنها لا ترد طرفها عن السماء وهى مستقبلة القبلة، تقول: " خلقتَ سرية، ثم غذيتها بنعمتك من حال إلى حال، وكل أحوالك لها حسنة، وكل بلائك عندها جميل، وهي   = فقالت: " أخت بشر الحافي" فبكى- رحمه الله- وقال: " من بيتكم يخرج الورع الصادق، لا تغزلي في شعاعها". (1521) " البداية والنهاية " (10/298) ، وانظر: " أحكام النساء" ص (142) . (1522) " إحياء علوم الدين " (15/2775 - 2776) ، وانظر: " صفة الصفوة " (4/46) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 مع ذلك متعرضة لسخطك بالتوثب على معاصيك فلتة بعد فلتة، أتراها تظن أنك لا ترى سوء فعالها وأنت عليم خبير، وأنت على كل شيء قدير " (1523)) . " عفيرة " العابدة: كانت- رحمها الله- لا تضع جنبها إلى الأرض في ليل، وتقول: " أخاف أن أؤخذ على غِرة وأنا نائمة، وكانت لا تمل من البكاء، فقيل لها: " أما تسأمين من كثرة البكاء؟ "، فقالت: " كيف يسأم إنسان من دوائه وشفائه؟! " (1524) . وكانت تقول في مناجاتها: " عصيتك بكل جارحة مني على حدتها، والله لئن أعنتَ لأطيعنك- ما استطعتُ- بكل جارحة عصيتك بها " (1525) . وقدا ابن أخ لها طالت غيبته، فَبُشرتْ به، فبكت، فقيل لها: " ما هذا البكاء؟! اليوم يوم فرح وسررو "، فازدادت بكاء، ثمِ قالت: " والله ما أجد للسرور في قلبي مسكنًا مع ذكر الآخرة، ولقد ذكَرني قدومُه يوم القدوم على الله فمِن بين مسرور ومثبور " (1526) . ودخل عليها قوم، فقالوا: " ادعي لنا "، فقالت: " لو خرس الخطاءون ما تكلمت عجوزكم، ولكن المحسن أمر المسيء بالدعاء، جعل الله قراكم من نبق الجنة، وجعل الموت مني ومنكم على بال، وحفظ علينا الإيمان إلى الممات، وهو أرحم الراحمين " (1527) .   (1523) " السابق" (15/2776) . (1524) " صفة الصفوة" (4/34) . (1525) " السابق ". (1526) " السابق "، وانظر: " البداية والنهاية" (10/177) . (1527) " صفة الصفوة " (4/33) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 وقال أحمد بن علي: (استأذنا على عفيرة، فحجبتنا، فلازمنا الباب، فلما علمت ذلك قامت لتفتح الباب لنا، فسمعتها وهي تقول: " اللهم إني أعوذ بك ممن جاء يشغلني عن ذكرك "، ثم فتحت الباب، ودخلنا عليها، فقلنا لها: " يا أمة الله ادعي لنا "، فقالت: " جعل الله قِراكم في بيتي المغفرة "، ثم قالت لنا: " مكث عطاء السلمي أربعين سنة، فكان لا ينظر إلى السماء، فحانت منه نظرة، فخر مغشيًا عليه، فأصابه فتق في بطنه، فياليت عفيرة إذا رفعت رأسها لم تعص، وياليتها إذا عصت لم تعد) (1528) ، وعنها قالت رحمها الله: " ربما اشهيت أن أنام فلا أقدر عليه، وكيف أنام أو كيف يقدر على النوم، من لا ينام عنه حافظاه ليلًا ونهارًا؟ " (1529) . جارية حبشية: وقال بعض الصالحين: (خرجت يوما إلى السوق، ومعي جارية حبشية، فاحتبستها في موضع بناحية السوق، وذهبت في بعض حوائجي، وقلت: " لا تبرحي حتى أنصرف إليك "، قال: فانصرفت، فلم أجدها في الموضع، فانصرفت إلى منزلي، وأنا شديد الغضب عليها، فلما رأتني عرفت الغضب في وجهي، فقالت: " يا مولاي لا تعجل علي، إنك أجلستني في موضع لم أر فيه ذاكرًا لله تعالى، فخفت أن يُخسف بذلك الموضع"، فعجبت لقولها، وقلت لها: " أنت حرة "،، فقالت: " ساء ما صنعت، كنت أخدمك فيكون لي أجران، وأما الآن فقد ذهب عني أحدهما " (1530)) . عبدة البصرية: وهي امرأة عكفت على العبادة، وأفرطت في السهر، وأسرفت في   (1528) " إحياء علوم الدين" (15/2776) . (1529) " صفة الصفوة" (4/33) . (1530) " إحياء علوم الدين" (15/2776 - 2777) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 البكاء حتى كف بصرها. سمعت قائلا يقول: " ما أشد العمى على من كان بصيرًا "! فقالت: " يا عبد الله، عمى القلب عن الله أشد من عمى العين، وددت أن الله وهب لي كنه محبته، وأنه لم يبق مني جارحة إلّا أخذها " (1531) . آمنة بنت أبي الورع: (كانت آمنة بنت أبي الورع من العابدات الخائفات، وكانت إذا ذكرت النار قالت: " أدخِلُوا النار، وأكلوا النار، وشربوا من النار، وعاشوا"، ثم تبكي، وكأنها حبة على مِقْلَى، وكانت إذا ذكرت النار بكت وأبكت) (1532) . وذكر الحافظ ابن الجوزي رحمه الله: (أن امرأة من الصالحات كانت تعجن عجينة، فبلغها- وهي تعجن- موتُ زوجها، فرفعت يدها منه، وقالت: " هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء"!! وأخرى كانت تستصبح بمصباح، فجاءها خبر زوجها، فأطفأت المصباح، وقالت: " هذا زيت قد صار لنا فيه شركاء " (1533)) . ميمونة: (بنت شاقولة الواعظة التي هي للقرآن حافظة، ذكرت يومًا في وعظها أن ثوبها الذي عليها- وأشارت إليه- له في صحبتها تلبسه منذ سبع وأربعين سنة وما تغير، وأنه كان من غزل أمها، قالت: " والثوب إذا لم يُعْص الله فيه لا يتخرق سريعا "، وقال ابنها عبد الصمد: كان في دارنا   (1531) " المرأة العربية" (3/97) . (1532) " التخويف من النار" للحافظ ابن رجب ص (23) . (1533) "أحكام النساء" ص (147) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 حائط يريد أن ينقض فقلت لأمي: " ألا ندعو البَنَّاءَ ليصلح هذا الجدار؟ "، فأخذت رقعة، فكتبت فيها شيئًا، ثم أمرتني أن أضعها في موضع من الجدار، فوضعتها، فمكث على ذلك عشرين سنة، فلما توفيت أردت أن أستعلمَ ما كتبت في الرقعة، فحين أخذتها من الجدار سقط، وإذا في الرقعة: (إن الله يمسك السمواتِ والأرضَ أن تزولا) اللهم ممسك السموات والأرض أمسكه) (1534) . منيبة: وعن أبي عياش القطان قال: [كانت امرأة بالبصرة متعبدة يقال لها: منيبة، وكانت لها ابنة أشد عبادة منها، فكان الحسن رُبما رآها، وتعجب من عبادتها على حداثتها. فبينا الحسن ذات يوم جالس، إذ أتاه آت فقال: أما علمت أن الجارية قد نزل بها الموت؟ فوثب الحسن فدخل عليها، فلما نظرت الجارية إليه بكت، فقال لها: "يا حبيبتي ما يبكيك؟ "، قالت له: (يا أبا سعيد الترابُ يُحْثَي على شبابي، ولم أشبع من طاعة ربي، يا أبا سعيد انظر إلى والدتي وهي تقول لوالدي: " احفر لابنتي قبرًا واسعا، وكفنها بكفن حسن"، والله لو كنت أجهز إلى مكة لطال بكائي، كيف وأنا أجهزُ إلى ظلمة القبور ووحشتها، وبيت الظلمة والدود؟) ] (1535) . قال الوضاح بن حسان الأنباري: (حدثني رجل من أهل الكوفة قال: كانت امرأة من التيم مجتهدة في العبادة، فكانت تفطر في كل ثلاثٍ مرة، ولا تخرج من مسجد الحي إلا لحاجة، فقال لها إبراهيم التيمي: " صلاتك في بيتك أفضل من صلاتك في مسجد الحي"، ففعلت، فلزمت بيتها، فلم تزدَد إلا خيرًا) (1536) .   (1534) " البداية والنهاية" (11/ 333) . (1535) "صفة الصفوة" (4/27) . (1536) "صفة الصفوة" (3/192- 193) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 عن ابن السماك قال: أذنب غلام امرأة من قريش ذنبًا، فَسَعَتْ إليه بالسوط، فلما قربت منه رمت بالسوط، وقالت: " ما تَركتِ التقوى أحدًا يَشْفِي غيظَه " (1537) . فاطمة بنت نصر العطار: كانت من سادات النساء، وهي من سلالة أخت صاحب المخزن، كانت من العابدات المتورعات المخدرات، يقال إنها لم تخرج من منزلها سوى ثلاث مرات وقد أثنى عليها الخليفة وغيره والله أعلم (1538) . رابعة بنت إسماعيل العدوية: (ومن هؤلاء الناسكات رابعة بنت إسماعيل العدوية البصرية، وكانت مضرب المثل في تَدَلُّه القلب واحتراق الكبد حبا لله وإيثارًا لرضاه، وكانت على تواصل صيامها وقيامها، وتتابع زفراتها، وتدفق عبراتها، تستقل كل ذلك في جنب الله، قال يوما شيخ الزهاد سفيان الثوري وهو عندها: " واحزناه! " فقالت: " لا تكذب! بل قل: واقلة حزناه، ولو كنت محزونا لم يتهيأ لك أن تتنفس ". ومن حديث خادمتها عبدة بنت أبي شوال- وكانت أشبه الناس بها في نسكها وعبادتها-: كانت رابعة تصلي الليل كله، فإذا طلع الفجر هجعت في صلاتها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر، فكنت أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها ذلك، وهي فزعة: " يا نفس كم تنامين؟! يوشك أن تنامي نومة (1539) لا تقومين منها إلا بصرخة يوم النشور ") . قالت عبدة: (وكان هذا دأبها أمد دهرها حتى ماتت، ولما حضرتها   (1537) " السابق" (3/194) . (1538) " البداية والنهاية " (12/299) . (1539) بل هي حياة برزخية في نعيم أو عذاب! فكيف يعبر عنها بالنوم؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 الوفاة دعتني، وقالت: " يا عبدة! لا تؤذني بموتي أحدًا، وكفنيني في جبتي هذه "- وهي جبة من شعر كانت تقوم فيها إذا هدأت العيون) ، ومن قولها: " ما ظهر من أعمالي فلا أعده شيئا "، ومن وصاياها " اكتموا حسناتكم، كما تكتمون سيئاتكم " (1540)) . عن أزهر بن مروان قال: دخل على رابعة رِياح القيسي، وصالح بن عبد الجليل، وكلاب، فتذاكروا الدنيا، فأقبلوا يذمونها، فقالت رابعة: " إني لأرى الدنيا بترابيعها في قلوبكم "، قالوا: " ومن أين تَوَهمت علينا؟ " قالت: " إنكم نظرتم إلى أقرب الأشياء من قلوبكم، فتكلمتم فيه " (1541) [ (قال خالد بن خِداش: سَمعتْ رابعةُ صالحًا المُريَّ يذكر الدنيا في قصصه، فنادته: " يا صالح، من أحب شيئا أكثر مِنْ ذِكْرِه ". وقال محمد بن الحسين البرجلاني: حدثنا بشر بن صالح العَتَكي، قال: استأذن ناس على رابعة، ومعهم سفيان الثوري، فتذاكروا عندها ساعةً، وذكروا شيئا من الدنيا، فلما قاموا، قالت لخادمتها: " إذا جاء هذا الشيخ وأصحابه، فلا تأذني لهم، فإني رأيتهم يحبون الدنيا ". وعن أبي يسار مِسْمَع، قال: (أتيت رابعة، فقالت: جئتني وأنا أطبخ أرزًا، فآثرتُ حديثك على طبيخ الأرز، فرجعتْ إلى القدر، وقد طُبخَت) . وعن حماد قال: (دخلت أنا وسلام بن أبي مطيع على رابعة، فأخذ سلام في ذكر الدنيا، فقالت: " إنما يُذكر شيء هو شيء، أما شيء ليس   (1540) "المرأة العربية" (3/96 - 97) . (1541) "صفة الصفوة" (4/29) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 بشيء فلا ") (1542) . وقال أبو سعيد بن الأعرابي: (أما رابعة، فقد حَمَلَ الناسُ عنها حكمة كثيرة، وحكى عنها سفيان وشُعبة وغيرهما ما يَدُل على بطلان ما قيل عنها، وقد تمثلته بهذا: ولقد جعلتُك في الفؤاد مُحَدثي ... وَأبَحْتُ جسمي مَنْ أرادَ جُلوسي فنسبها بعضهم إلى الحلول بنصف البيت، وإلى الإباحة بتمامه. قلت- أي الحافظ الذهبي-: فهذا غلُو وجهل، ولعل مَنْ نسبها إلى ذلك مُباحِيُّ حلولي ليحتجَّ بها على كفره، كاحتجاجهم بخبر: " كنت سمعه الذي يسمع به " (1543)) (1544) اهـ. قال ابن كثير رحمه الله: وقد (ذكروا لها أحوالًا وأعمالًا صالحة، وصيامَ نهارٍ، وقيامَ ليل، ورؤيت لها منامات صالحة، فالله أعلم) وقال أيضا: (وأثنى عليها أكثر الناس، وتكلم فيها أبو داود السجستاني، واتهمها بالزندقة، فلعله بلغه عنها أمر) (1545) اهـ والله أعلم. زوجة الملك الصالح نور الدين محمود بن زنكي: عصمت الدين خاتون بنت الأتابك معين الدولة: كانت -رحمها الله- كثيرة التهجد، وأحسن النساء في عصرها،   (1542) "سير أعلام النبلاء " (8/241-242) . (1543) قطعة من حديث الولاية المشهور، رواه البخاري (11/292-293) في الرقاق: باب التواضع، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (1545) "سير أعلام النبلاء" (8/242 -243) . (1545) "البداية والنهاية " (10/186-187) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 وأعفَهن، وأكبرهن صدقة، و (كانت تكثر القيام في الليل، فنامت ذات ليلة عن وِرْدها، فأصبحت وهي غضبى، فسألها نور الدين عن أمرها، فذكرت نومهَا الذي فوَّت عليها وِردَها، فأمر نور الدين عند ذلك بضرب " طبلخانة" في القلعة وقت السحر، لتوقظ النائم ذلك الوقت لقيام الليل، وأعطى الضارب على الطبلخانة أجرًا جزيلًا، وجراية كثيرة) (1546) . وقد تزوجت هذه المرأة الصالحة بعد وفاة نور الدين تلميذه صلاح الدين الأيوبي (سنة 572 هـ) رحمه الله (1547) . فخربة بنت عثمان البصرية: كانت من أسرة عريضة الجاه موفورة الغنى، ولكن ذلك كله لم يطب لها، فخرجت، وتزهدت، وتنسكت، وهجرت الراحة والمنام إلى الصلاة والقيام، وقنعت من العيش برغيف وقدح ماء، فذلك قوتها كل يوم. وكانت أشبه الناس برابعة في الوحشة من الدنيا والتدله، هاجرت إلى بيت المقدس وأقامت أربعين عامًا تقف الليل كله بباب المسجد الأقصى تصلي حتى يفتح الباب، فتكون أول داخل وآخر خارج) (1548) .   (1546) " البداية والنهاية " (12/317) . (1547) " السابق " (12/295) . (1548) " المرأة العربية " (3/98) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 الخاتمة "نسأل الله حسنها، إذا بلغت الروح المنتهى " إن للأبواب السابقة تعلقًا بقضية " الحجاب"، وإن بدا لأول وهلة خلافُ ذلك، سيما إذا لم نضيق مفهوم " الحجاب "، ونفهم منه فقط ما يتعلق بستر بدن المرأة. كلا، ليس الحجاب مجرد غطاء لبدن المرأة، إن الحجاب هو عنوان تلك المجموعة الدقيقة من الأحكام الاجتماعية المتعلقة بوضع المرأة في النظام الإسلامي، والتي شرعها الله سبحانه وتعالى لتكون " الحصن الحصين" الذي يحمي المرأة، و " السياج الواقي " الذي يعصم المجتمع من الافتتان بها، و" الإطار المنضبط" الذي تؤدي المرأة من خلاله دورها العظيم الذي وكلها الله به، واصطفاها له من أجل تحصيل سعادتي الدنيا والآخرة لها ولأمتها كافة، وذلك كله في انسجام دقيق من خلال معنى أعم وأشمل هو تحقيق العبودية الخالصة لله رب العالمين. (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (1549) . ويغالط هؤلاء المُضِلون المفسدون الذين يتشدقون بأن حجاب المرأة هو هو " حجاب على العقل، أو سُلَّم إليه.. " إلى آخر عباراتهم الجوفاء التى قد يسيغها الشعراء الذين يتبعهم الغاوون، والأدباء الذين هم في كل واد يهيمون، ولكنها لا تجد مساغا عند أحد من العقلاء فضلًا عن العلماء. إن عقولهم هي "المحجوبة" عن إدراك حكمة العليم الحكيم من تشريع   (1549) الذاريات (56) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 " الحجاب".. وإن تصوراتهم وأذواقهم وأخلاقهم هي " الممسوخة" حيث تجعل العري " الحيواني" تقدمًا ورقيًا، والستر " الإنساني تخلفًا ورجعية! ولقد رأينا- فيما تقدم- كيف تأثرت المرأة المسلمة بهذه التشريعات الربانية الحكيمة، ومارست دورها العظيم على أكمل وجه- من خلال "الحجاب " بمفهومه الشامل، فكان أن أثرت في الأمة أجمل التأثير وأحسنه. لقد اعتزت بالإسلام واعتز الإسلام بها، حتى صار بين أيدينا تاريخ مجيد حافل بسيرتها العطرة بوصفها أما وزوجة وابنة، وعالمة فقيهة محدثة، وعابدة خاشعة قانتة، فبان للجميع ما الذي كان يخفيه الحجاب، وماذا كان يدور خلف الخدور. إنها الثمرات المباركة التي جنتها الأمة من وراء الحجاب.. إنه الشرف العزيز الذي صانه الحجاب.. وإن هؤلاء هن " خريجات مدرسة الحجاب" قبل أن تعرف الدنيا مدرسة، وقبل أن يطرق سمعها " حقوقُ المرأة وتكريمها "، وإنما كان ذلك الوثوب إلى المجد، وكانت تلك النهضة إلى علياء السمو، يوم أدرك المسلمون الأوائل عِظم مكانة المرأة، وخطورة دورها: فأدوا إليها حق التربية والتهذيب "من وراء حجاب ". وحفظوا لها حق التعليم النافع " في إطار الحجاب ". فكان ما رأينا من نماذج مشرفة لا يأتي عليها الحصر. واليوم: (يريد نساؤنا أن ينهضن، فهن يبتغين الوسائل، ويتلمسن الخطى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 وما لهن لا ينهضن؟ ومن ذا يذودهن عما شرع الله لهن من الحقوق؟ وهل هن إلا منابت حُماتِنا، وأساةُ جراحنا، وبناة نهضتنا، ومنار دعوتنا، ومثار قوتنا؟ وهل نحن وإيَّاهن إلا كجناحي النَّسْر الصاعد، إذا هِيض أحدُهما خُفِض الآخر، فيصبح لا يجد في الأرض مقعدًا، ولا في السماء مصعدًا؟ لينهض النساء ما شئن أن ينهضن- ففي نهوضهن نهوضنا وبلوغ غايتنا-، ولكن ليحذر الآخذون بيدها، والداعون إلى نهضتها التواءَ القصد، والتباس الطريق، والتنكب عن صراط الله المستقيم، وشرعه القويم، فينالها الزلل، وتلجَّ بها العثرات، حتى يقول قوم: " لقد كان ما كانت فيه خيرًا وأبقى ". ألا وإن من التواء القصد، وضلال الطريق، أن يتخذ نساؤنا المرأة الغربية مثالًا يحتذينه، ويُمْعِنَّ في التشبه به. ونحن لا نَكْذِبُ المرأة الغربية، فليست جديرة بأن تكون مثلا أعلى يحتذى، فهي أولًا كافرة أو لا دين لها، وهي ثانيا هائمة لا خلق لها، إلا أن تهتدي بنور الإسلام، وتستضيء بأخلاقه وأحكامه، ولا يشفع لها أن يقال: " هي كاتبة حاسبة، وصانعة بارعة، وباحثة قديرة "، فإنها لم تزد أن دعمت حياة " المادة"، وزادتها نوطا جديدًا. ولا يخدعنا ما يدعيه مقلدة الأجنبي وعساكره الفكريون من أن المرأة الأوربية حظيت بتكريم حقيقي، فإنها إنما أعطيت مظاهر كاذبة تُستغل من ورائها كلُعبة للهو بها هنا وهناك، وغطى القوم ذلك بما أسموه تحريرا ورقيا. إن وضع المرأة عند الأجانب ليس إلا مظهرًا خاليا من القيم الرفيعة الصادقة، مثلها في ذلك مثل التقليد الذي جرى عليه الحاكم البريطاني حين يأمر باعتقال شخص، فيرسل إليه كتابا يختمه بهذا التوقيع: (خادمكم المطيع فلان) هكذا يُذَيلُ الحاكم خطابه الذي يعتقل به سيده المطاع!!. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 ولا شك أنه لو لم يكن لهذه الوضعية المعكوسة للمرأة ما يؤيدها من قوة السلاح وبهارج المادة والدعاية المتعصبة التي ألبستها عند مقلدتهم في ديارنا لبوس الحق، لو لم يكن لها ذلك لكانت سواد وجه لأي قوم اختاروها وسلكوا طريقها، ولكن هكذا يَضِل من اغتر، وغاب عن طريق الله وهداه. لكل ذلك نناشد نساءنا أن يسدلن الحجب بينهن وبين نساء أوروبة، ففي أمهاتنا الأوليات فضل وغَناء، أولئك اللواتي نَسْتَن عن طيب أعراقهن، وكرم أخلاقهن، وتلك دماؤهن تترقرق بين جوانحنا، وأعطاف قلوبنا، ولا نزال نَحِن إلى أمجادهن، لأن لنا في المجد نسبا عريقًا، وطريقًا عميقًا، فأما ما نحن فيه من مظاهر النوء بالواجب، والنكول عن الجِدّ، فإنما هو صدأ عارض وغشاء مستحدث ألقاه علينا تطاول الأمد، وتتابع الحادثات، وما أصابنا في سبيل ذلك من فداحة الظلم، وذل الإسار الذي فرضته علينا الأيدي الأوربية " الرحيمة" التي تمسح شعث الكلب، وتدمي قلوب الشعوب! فيا أيتها الأخت المسلمة: لقد حق لك أن تتيهي، وتفاخري نساء العالمين بما أسداه الإسلام إليك من تكريم، وما رفع عنك عن ظلم ومهانة. فاحذري أن تبدلي نعمة الله كفرا، أو أن تستبدلي الذي هو أدني بالذي هو خير. وأنت أيتها الأم الرؤوم (1550) : ليس ذاك الذي بين يديك بالطفل الذي يبقى أمد الحياة طفلًا، بل   (1550) الرؤوم: العطوف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 هو سر الوجود يذاع عنك، وصفحة الحياة تنشر عن أثرك، وهو أدل عليك من أسارير (1551) وجهك، وبيان لسانك. ليست هذه البَضْعةُ (1552) المتحركة باللعبة الملْهِية بل هي العالَم الأكبر، يضطرب كاضطرابه، ويتخايل في مخايله، فانظري على أي حالة تريدين أن يكون الكون. ليس ذلك الدارج بين عينيك بالصبي الخَلي (1553) بل هو خبيئة الدهر وعُدَّتُه. وربما ضُم معاطفُ ثوبك على رجل الدنيا وواحدها، وما ينبئك لعل هناك مُلْكًا يترقب سيفه، أو عرشًا يطمئن لقدميه، أو أمة متعثرة تنتظر النَصَفة من وَضَح رأيه، وفيض بيانه) (1554) . إن تلك المنزلة التي أعدكِ الله لها هي تلك التي وصفها بعضهم بحق فقال: " إن المرأة التي تهز المهد بيمينها، تهز العالم بيسراها". * * * ليست المرأة بالخَلْق الضعيف النفس، فإن من احتمل ما احتملته في ظلمات التاريخ، وعَسْف الأب، وصَلَف الزوج، إلى وَقر الحمل، وألم المخاض، وسُهْد الأمومة- راضيًا مطمئنا- لا يكون ضعيف النفس.   (1551) أسارير: واحدها أسرار، والأسرار واحدها سِرَرْ -كعنب- خطوط الجبهة والكف. (1552) البضعة: القطعة من اللحم. (1553) الخَلَى: مقصورة: الرطْب من النبات، والخلِي: " الفارغ. (1554) " المرأة العربية" بتصرف (1/7-15) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 632 وليست بالخلق الحقير، فإن من وكَلَه الله بابتناء الشعوب، وإنشاء الأمم لا يكون حقيرا. ألا إنما المرأة دعامة المجتمع، لا يزال ناهضا مكينًا ما نهضت به، فإن هي وَهَنت دونه، وتخاذلت عنه، واستهانت بالفضيلة، وأغرقت في الترف، تهاوت عَمَدهُ، وتَصَدعت جوانبه، وانبت نظامه، وانفصمت عراه، وكان حقا على الله أن يُديل من الأمة، ويبدلها، (وما ربك بظلام للعبيد) (1555) . والآن أيتها الأخت المسلمة: - فمن أجل " عودة الحجاب " تصفحنا تاريخ" المعركة بين الحجاب والسفور " أولا. - ومن أجل " عودة الحجاب" كانت هذه الوقفة مع " المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية" ثانيًا. - ومن أجل " عودة الحجاب " نواصل المسيرة المباركة إن شاء الله مع القسم الثالث: " الأدلة". اللهم يا ولي الإسلام وأهله مسكنا الإسلام حتى نلقاك عليه، ولا تحرمنا خير ما عندك، بسوء ما عندنا، واجعلنا هادين مهديين، غير ضالين ولا مضلين، سِلْما لأوليائك، حربًا لأعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادى بعداوتك من عاداك، ربنا اغفر لي، ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، وصلِّ اللهم على عبدك ونبيك ورسولك محمدٍ، وعلى آله   (1555) فصلت (46) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إِلى يوم الدين، آمين، والحمد لله رب العالمين. الثلاثاء 17 من ذي القعدة 1404 هـ الموافق 14 من أغسطس 1984م وكان الفراغ من إعداد الطبعة الخامسة في ليلة الأحد 9 من ربيع الثاني 1411 هـ، الموافق 28 من أكتوبر 1990م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 634 أدلة الحجاب بحث جامع لفضائل الحجاب وأدلة وجوبه والرد على من أباح السفور الدكتور محمد أحمد إسماعيل المقدم عفا الله عنه دار القمة لتوزيع الكتاب والشريط والسي دي دار الإيمان إسكندرية الجزء: 3 أدلة الحجاب الجزء: 3 أدلة الحجاب بحث جامع لفضائل الحجاب وأدلة وجوبه والرد على من أباح السفور تأليف الدكتور محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم دار القمة لتوزيع الكتاب والشريط والسي دي فاكس: 5457769 ت: 5222002 دار الإيمان للطبع والنشر والتوزيع إسكندرية ت: 5457769 الجزء: 3 بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة هذه الطبعة الحمد لله كما ينبغي لجلاله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله. أما بعد: فلا تزال قضية "الحجاب والسفور" تستقطب اهتمام المصنفين منذ فَتح بابَها "قاسم أمين " حتى اليوم، ولا تزال المطابع تقذف بالجديد من الإصدارات حول هذا الموضوع بين مؤيد ومُعارض، والجديد في هذا "الجديد" أن بعض المصنفين من داخل الصف الإسلامي خاضوا فيه بأسلوب ينتهي إلي موافقة "قاسم أمين " في القول بإباحة السفور، وإن سلكوا- لإثبات ذلك- مسلكا يتنزه عن المقاصد الرديئة التي تلطخ بها "قاسم أمين " وشيعته من بعده، لكنه لم يسلم- في الوقت نفسه - من بعض التحفظات: أولها: أن بعض المصنفين طوعت لهم أنفسهم استعمال مصطلحات "دخيلة" على الوسط العلمي، لم يعهد إطلاقها إلا في سياق الخطاب العالماني الذي درج على وصف المتشرعين بالتطرف، والتشدد، والغلو، والتعصب. الثاني: ضعف الملكة الفقهية، وغياب "الحِسِّ " الفقهي عند ربط حكم الحجاب بواقع المجتمعات الإسلامية المعاصر: فهذا أحدهم يضيق ذرعًا بإعمال فقهاء المذاهب المتأخرين قاعدة "سد الذرائع " في هذه المسألة، قائلاً: ".. حتى اشترطوا ذلك الشرط العجيب الذي لم يدل عليه دليل من كتاب ولا سنة، ألا وهو: شرط أمن الفتنة" اهـ. وهذا أحدهم يبالغ في إهمال قاعدة "سد الذرائع " إلى حد القول بإباحة كشف الوجه والكفين من المرأة الجميلة، ولو خُشيت الفتنة، باعتبار السفور حقا مشروعًا لها. - أ- الجزء: 3 كما أنهم لا يراعون عواقب مذهبهم حيث إن هناك كما هائلا ممن يضقن بالحجاب الشرعي من ضعيفات الإيمان، يتربصن في انتظار الإشارة "الصفراء" التي تبيح لهن المرور إلى مرحلة السفور لتضيء في إثرها الإشارة "الخضراء" فينطلقن زرافات ووحدانًا إلى التبرج والتهتك في أبشع صوره، كما حدث في بعض البلاد الإسلامية، والتاريخ يعيد نفسه، والسفور مطية الفجور. الثالث: أن هذه المصنفات موجهة أساسًا إلى المنقبات، وليس إلي المتبرجات، وتكاد تنحصر غايتها في حمل المنقبة على السفور، وليس هداية المتبرجة إلى الحجاب. الرابع. إهمال بعض أدلة المخالف، والإعراض عنها، وبخاصة فقه بعض الآيات القرآنية المتعلقة بالحجاب رغم وضوح دلالتها على وجوب الحجاب الكامل. الخامس: التركيز على نسبة القول بوجوب النقاب إلى المعاصرين من العلماء والدعاة وطلبة العلم، والانبساط في نقدهم ووصفهم بالتشدد والغلو والتعصب مع حجب أسماء الأئمة السابقين الذين نصروا هذا المذهب وتبنوه، بحيث يخيل للقاصر في العلم أن هذا مذهب مُحْدَث ليس من السلف ولا الأئمة من قال به، وأنه من بنات أفكار "المتطرفين" السادس: غلبة ملامح "الغرور العلمي " على المصنفين الذين يشتطون في دمغ مخالفيهم بأوصاف كريهة منفرة، ويسرفون في تحقيرهم، وطرحهم أرضًا الواحد تلو الآخر، وكأن الترجيح بين الآراء يعتمد على كم الشتائم والازدراء والتعالي على المخالف، ولو كان من العلماء العاملين، والهداة المهتدين، غافلين عن أنهم بهذا المسلك يقدمون لطلاب العلم أسوة تُحتذى، وأنموذجًا يقتدى به، ونحن لا ننكر أن في المسألة خلافا قديما، ولكن الذي ننكره هو الحيدة عن "أخلاقيات الخلاف " التي التزمها الأئمة - ب - الجزء: 3 المهديون في كل عصر ومصر. السابع: أن بعضهم يعمد إلى المختلفين في المسالة فيقسمهم إلى طرفين ووسط، بحيث يحتكر لرأيه منذ البداية الوسطية والاعتدال، ومن خالفه إما غال مُفْرِط، وإما جافٍ مُفَرِّط. إن ظاهرة "القسمة الثلاثية" هذه تعني التحكم بالعاطفة في قضايا الخلاف الفقهي السائغ الذي لا يجوز فيه رمي المخالف بالبدعة والضلالة والتشدد.. إلخ، كما أنها تعني مصادرة آراء المخالفين منذ البداية، لأن صاحب هذا المسلك- وبهذا الأسلوب العاطفي- يبدو وكأنه يسوق الناس بعصاه لتبني مذهبه "المحتَّم "، فهو يقول: "ليس لكم أن تبيحوا التبرج لأنه تفريط وجفاء، وليس لكم أن توجبوا النقاب لأن القول بالوجوب إفراط وتشدد، وغلو وتعصب، وبما أن "كلا طرفي قصد الأمور ذميم "، إذن فلا مناص لكم من السبيل الأوحد الذي يحتكر الوسطية والاعتدال، والذي لا بديل له ألا وهو القول بإباحة السفور". * وهاك أمثلة لظاهرة "القَسمة الثلاثية" تشي بها عناوين بعض الكتب: الأول: "الرد المفحم على من خالف العلماء، وتشدد، وتعصب، وألزم المرأة أن تستر وجهها وكفيها، وأوجب، ولم يقنع بقولهم: إنه سنة ومستحب (1) . الثاني: "النقاب للمرأة: بين القول ببدعيته، والقول بوجوبه " الثالث: الحجاب بين الإفراط والتفريط.   (1) ومفهوم هذا العنوان إخراج كل مخالف- في القديم والحديث- من زمرة العلماء، ويؤخذ منه رمي العلماء القائلين بوجوب الحجاب الكامل بالتشدد، والتعصب، كابن تيمية وابن القيم وعشرات غيرهما، ويفهم من نسبة "الإلزام" إليهم أنهم يتكلمون بالظن وما تهوى أنفسهم، ولا يبنون مذهبهم على أدلة القرآن والسنة. -ج- الجزء: 3 ويبقى في هذه العجالة تنبيهان: الأول: وهي مسألة دقيقة لا يتفطن إليها من "يحتار" بين الأقوال والأدلة المتعارضة في المسألة؟ وينزعج من الخلاف فيها، وهي أن مسائل الفقه ليست كلها على درجة واحدة من الوضوح والحسم في حكمها، فالألفاظ منها واضح الدلالة كالظاهر، والنص، والمفسر، والمحكم، ومنها غير واضح الدلالة كالمتشابه، والمجمل، والمشكل، والخفي، وأنه لا يشترط أن يقوم دليل قطعي على كل مسألة، بل أغلب مسائل الفقه ظنية، وإن الاجتهاد كما يجري في "ثبوت النص " كذلك يجري في "دلالته "، وأن المسائل الفقهية الخلافية يتم الترجيح فيها بالنظر في مجموع الأدلة، وليس في طائفة منها، وأن ضعف الدليل لا يستلزم ضعف المدلول، بمعنى أن صاحب المذهب الراجح قد يكون في ضمن أدلته دليل ضعيف من حيث ثبوته، أو من حيث دلالته، دون أن يقدح هذا في ترجيح مذهبه بالنظر إلى مجموع الأدلة التي استند إليها. الثاني: أننا يجب أن نتلقى الحكم الشرعي الراجح بصدور منثسرحة، وتسليم مطلق، وثقة كاملة بأن شريعة الله فيها صلاحنا وخيرنا، وأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، وأنه لا تخلو عبادة من مشقة معتادة، ومجاهدة للنفس، غير أن هذه المشقة إذا زادت وتضاعفت وصارت فوق الاحتمال، فهنا تأتي الرخصة الشرعية رفعًا للحرج، ودفعًا للعنت، وتيسيرًا على المكلفين، وأن على الباحث في المسألة أن يفرق بين "الحكم الشرعي" الأصلي الذي نستنبطه من الأدلة بتجرد، ونزاهة، وبين "الفتوى" التي تعتمد على المواءمة بين الحكم الشرعي وظروف المستفتي الخاصة أو الطارئة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الإسكندرية في السبت 28 صفر 1423 هـ الموافق 11 مايو 2002م -د- الجزء: 3 مقدمة الطبعة الأولى بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده! ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102] . (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1] . (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)) [الأحزاب: 75- 71] . أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. من نافلة القول أن نربط بين "عودة الحجاب " إلى وجوه المسلمات وبين الصحوة الإسلامية الناهضة التي أشرق بنورها كثير من البلاد الإسلامية ومنها "مصر"، فقد فرضت قضية "حكم النقاب " نفسها في واقعنا الفكري المعاصر بعد أن خُيِّل إلى الجميع أن مثل هذه المفاهيم، بل "التقاليد" (1) -   (1) راجع "معركة الحجاب والسفور" للمؤلف (96 1-197) هامش رقم (396) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 في زعمهم - قد ولَّت إلى غير رجعة. أجل! حدث هذا في أعقاب الصحوة الإسلامية القائمة على الأصالة، والاقتباس من منابع ديننا الحنيف الذي حملت رسالته، وحفظت أمانتَه هذه الأمةُ طيلة اثنى عشر قرنا من الزمان- قبل طروء الغزو الفكري- فكان أن امتزجت به مشاعرها، وجرت في سبيله دماؤها، وأصبح هو حياتها وفكرها، ومبدأها ومعادها، ونبض قلوبها. لقد تتابعت الحملات العسكرية ثم الفكرية للقضاء على هذا الدين وأهله، وخُيل إلى أعداء الإسلام أن الأمة مجتمعة قد استجابت لجهودهم، وأزمعت أن تُوَدعِّ الإسلام نهائيُّا إلى غير رجعة. وإذا بالطائفة الظاهرة المنصورة من علماء الأمة الربانيين يتصدَّوْنَ عن وَعي واقتدار في كل عصر ومِصر لأعداء الإسلام، ويبشرون الذين تسرب اليأس إلى قلوبهم بقوله تعالى: (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف: 87] ) وتوله عز وجل (سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) [الطلاق: 7] وقوله سبحانهْ: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) [الشورى: 28] ، وقوله جل وعلا: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [يوسف: 21] . ويوبخون أعداء الله بقوله جل وعز: (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا) [الكهف: 102] . وإذا بشباب في ريعان الصبا، وفتياتٍ في عمر الورود ينسابون من كل حدب وصوب، ينضمون إلى ركب الإيمان، ينادون بالعودة إلى كتاب الله وتحكيم شرعه، حاملين أنفسَهم وأنفاسَهم وأموالهم وأوقاتهم وزهرات شبابهم على أكفهم، باذلين ذلك كله في سبيل إعلاء كلمة الله، متحملين العذاب، والاضطهاد، والتشريد، والتنكيل، واثقين بوعد الله موقنين أن الشهداء والأسرى والمعذبين معالم على طريق النصر والتمكين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 لقد تجاوبت الآفاق بأصداء دعائهم: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) [آل عمران: 193] ، حين رددها شباب تركيا، والباكستان، وأفغانستان، ومصر، وجزيرة العرب، والشام، والمغرب، والسودان، وسائر الديار الإسلامية، بل في أعماق أوربة وأمريكا، وراحوا ينهلون من كتاب الله سبحانه، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وجهوا قلوبهم ووجوههم من جديد- بعد حيرة واغتراب- شطر البيت العتيق، وولوْا ظهورَهم (لِلْقُلَّيْس) (1) قبلةِ الضرار التي أقامها "أبرهة" (2) روسيا، و"أبرهة، أمريكا في "موسكو" و "واشنطن "، والتي قام على سدانتها، وتسيير الوفود نحوها " آباءُ رِغال " (3) عصرنا. لقد وَلَّوْها ظهورهم عملًا بقوله سبحانه وتعالى: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة: 150] . لقد أذهلت الصحوة الإسلامية أعداء الإسلام، فأخذوا يرقصون رقصة الموت التي يحاول فيها الذبيح باستماتة كأنه يحارب معركته الأخيرة، وما هي إلا "صحوة الموت " الزؤام أمام "صحوة البعث "   (1) القُلَّيْس: اسم كنيسة بناها بصنعاء "أبرهة الأشرم" لم يُرَ مثلُها بشيء من الأرض، وأراد أن يصرف إليها حَجّ العرب. (البداية والنهاية) للحافظ ابن كثير (170/ 2) ، والإشارة هنا إلى "الكرملين " و "الكونجرس " وغيرهما. " (2) أبرهة الحبشي ملك اليمن، وهو الذي قاد أصحاب الفيل لهدم الكعبة. (3) أبو رغال: هو الرجل الذي بعثته ثقيف مع أبرهة ليدله على طريق مكة كي يهدم البيت الحرام، فلما أنزله بالمغمس- موضع قرب مكة في طريق الطائف- مات أبو رِغال هنالك، فرجمت قبره العربُ، فهو القبر الذي يرجم الناس بالمُغَمس، وفيه قال جرير: إذا مات الفرزدق فارجموه ... كرجمكم لقبر أبي رغال انظر "البداية والنهاية " للحافظ ابن كثير (2/ 171) ، و "الأعلام" للزركلي (5/ 198) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 الإسلامي المرتقب (1) .   (1) ومن مظاهر ذلك تصريحات لساستهم تعكس هذا الرعب والفزع من "عودة الإسلام " من جديد! يقول "حاييم هبرتزوج" السفير اليهودي السابق لدى "الأمم المتحدة": (إن ظهور حركة اليقظة الإسلامية بهذه الصورة المفاجئة المذهلة قد أظهر بوضوح أن جميع البعثات الدبلوماسية، وقبل هؤلاء جميعًا وكالة الاستخبارات الأمريكية كانت تغط في سبات عميق) اهـ. من صحيفة الـ "جيروزالم بوست " الصهيونية- بتاريخ (25/ 9/ 1978 م) - نقلًا عن "الاتجاهات الفكرية المعاصرة" للدكتور على جريشة هامش ص (11) . وهذا راديو إسرائيل يبث في تعليق سياسي: (إن عودة الروح الدينية للظهور من جديد في المنطقة يشكل تهديدا مباشرا لمستقبل إسرائيل، ولمستقبل الحضارة الغربية بأسرها) اهـ. بصوت معلق إذاعة إسرائيل للشئون السياسية الساعة العاشرة والربع مساء يوم (5/9/1978 م) نقلًا عن "الاتجاهات الفكرية المعاصرة" هامش ص (12) . وهذا "ابن جوريون " يرتجف قائلاً: (نحن لا نخشى الاشتراكيات، ولا الثوريات، ولا الدِيمقراطيات في المنطقة، نحن فقط نحشى الإسلام، هذا المارد الذي نام طويلا، وبدأ يتململ من جديد اهـ. - نقلا عن "أجنحة المكر الثلاثة" للأستاذ عبد الرحمن حبنكة ص (131) . وقال أيضا في "الكنيست ": اصبروا، فلن يكون هناك سلام لإسرائيل ما دام العرب تحت قيادة الرجعيين، إن الشرط الأساسي للسلام هو أن يقوم في البلدان العربية حكومات ديمقراطية تقدمية متحررة من التقاليد الإسلامية اهـ. انظر "القسم الأول" ص (82) . وهذا "شعيا بومان "- كاتب يهودي - يصيح في هَلَع وفَزَع: إن على أوربة أن تظل خائفة من الإسلام، ذلك الدينً الذي ظهر في مكة لم يضعف من الناحية العددية، بل هو في ازدياد واتساع، ثم إن الإسلام ليس دينًا فحسب، بل إن من أهم أركانه الجهاد، وهذا ما يجب أن تتنبه له أوربا جيدا) اهـ. من "أجنحة المكر الثلاثة" ص (131) . ومن الجدير بالذكر أن أحد أعضاء الكنيست اليهودي علق على أحداث الانتفاضة الإسلامية في فلسطين مؤخرَا بقوله: = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = إننا نواجه نوعًا جديدا من البشر لم يكن موجودًا من قبل، رجال يقبلون على الموت بقدر ما نريد نحن الحياة اهـ. انظر "الاعتصام" عدد جمادى الآخرة 1408 هـ - فبراير 1988 م ص (12) . ويقول المنصِّر "لورنس براون ": (لقد كنا نخوف بشعوب مختلفة، ولكننا بعد الاختبار نجد مبررًا لمثل هذه المخاوف، لقد كنا نُخَوَّف من قبل بالخطر اليهودي، وبالخطر الأصفر، وبالخطر البلشفي، إلا أن هذا التخوف كله لم يتفق كما تخيلناه، إننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا، وعلى هذا فكل مضطهد لهم عدونا الألد، ثم رأينا البلاشفة حلفاء لنا، أما الشعوب الصفر فهنالك دول ديمقراطية كبرى تقاومها، ولكن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام، وفي قدرته على التوسع والإخضاع، وفي حيويته، إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي) اهـ. من "أجنحة المكر الثلاثة" ص (67) . وجاء في صحيفة (أحرونوت) الإسرائيلية: (إن على وسائل إعلامنا أن لا تنسى حقيقة هامة هي جزء من استراتيجية إسرائيل في حربها مع العرب، هذه الحقيقة هي أننا نجحنا بجهودنا وجهود أصدقائنا في إبعاد الإسلام عن معركتنا مع العرب طوال ثلاثين عاما، ويجب أن يبقى الإسلام بعيدَا عن المعركة إلى الأبد، ولهذا يجب أن لا نغفل لحظة واحدة عن تنفيذ خطتنا في منع استيقاظ الروح الإسلامية بأي شكل، وبأي أسلوب، ولو اقتضى الأمر الاستعانة بأصدقائنا لاستعمال العنف والبطش لإخماد أية بادرة ليقظة الروح الإسلامية قي المنطقة المحيطة بنا) اهـ. من صحيفة (أحرنوت) اليهودية بتاريخ (18/3/ 1978م) نقلًا عن "الاتجاهات الفكرية المعاصرة" هامش ص (12) . ويقول المستشرق شاتلي " إذا أردتم أن تغزوا الإسلام، وتخضدوا شوكته، وتقضوا على هذه العقيدة التي قضت على كل العقائد السابقة واللاحقة لها، والتي كانت السبب الأول والرئيسي لاعتزاز المسلمين وشموخهم، وسبب سيادتهم وغزوهم للعالم، عليكم أن توجهوا جهود هدمكم إلى نفوس الشباب المسلم والأمة الإسلامية بإماتة روح الاعتزاز بماضيهم وكتابهم القرآن، وتحويلهم عن كل ذلك بواسطة نشر ثقافتكم وتاريخكم، ونشر روح الإباحية، وتوفير عوامل الهدم المعنوي، وحتى = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 وما أكثر الإرهاصات التي تبشر باقتراب الوعد الحق الذي وعد الله عباده المؤمنين في قوله تبارك وتعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف: 9] ) . فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يذهبُ الليلُ والنهار حتى تُعْبَد اللات والعزى"، قالت: قلت: يا رسول الله، إن كنت لأظن حين أنزل الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف: 9] ) أن ذلك تام، قال: "إنه سيكون من ذلك ما شاء الله " (1) الحديث " ومما يوضح هذه البشارة: ما رواه شداد بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله زَوَىَ (2) لي الأرض، فرأيتُ مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ مُلْكها ما زويَ لي منها" (3) الحديث.   = لو لم نجد إلا المغفلين منهم والسذج البسطاء لكفانا ذلك؛ لأن الشجرة يجب أن يتسبب لها في القطع أحد أغصانها اهـ. من "غزو العالم الإسلامي " للمستشرق "شاتلي " ص 264) - نقلا عن "أجنحة المكر الثلاثة". (1) رواه مسلم رقم (2907) في "الفتن" باب "لا تقوم الساعة حتى تعبد دَوْس ذا الخلصة" (8/ 182) ، والحاكم (4/ 446، 447، 549) ، وفال: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه اهـ. قال الألباني رحمه الله: (في هذا الحديث بيان أن الظهور المذكور قي الآية لم يتحقق بتمامه، وإنما يتحقق في المستقبل، ومما لا شك فيه أن دائرة الظهور اتسعت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم في زمن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، ولا يكون التمام إلا بسيطرة والإسلام على جميع الكرة الأرضية، وسيتحقق - هذا قطعا لإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك) اهـ. من "تحذير الساجد" ص (173) . (2) أي: جمع وضم. (3) رواه مسلم (8/ 171) ، رقم (2889) في الفتن، باب "هلاك هذه الأمة = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 وما رواه جماعة من الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَه قال: "لَيَبلُغَن هذا الأمرُ ما بلغ الليل والنهار، ولا ترك الله بيتَ مَدَر ولا وَبَر إلا أدخله الله هذا الدينَ، بِعِز عزيز، أو بِذلِّ ذليل، عِزّا يعز الله به الإسلام، وذلّا يذل به الكفر" (1) . إن واقع الصحوة الإسلامية العالمية اليوم يبشر بأنها أخذت تقترب شيئًا فشيئًا من الموعد المرتقب الذي بَشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "ثم تكون خلافة على منهاج النبوة " (2) .   = بعضهم ببعض، وأبو داود رقم (4252) في الفتن "باب ذكر الفتن ودلائلها. والترمذي رقم (2176) في الفتن، باب "ما جاء في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا في أمته "، وابن ماجه في الفتن باب (ما يكون من الفتن، رقم (4016) . والأمام أحمد (5/ 278، 284) من حديث ثوبان رضي الله عنه. والإمام أحمد أيضا من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه (4/ 123) . (1) رواه من حديث تميم الداري رضي الله عنه مرفوعا الإمام اْحمد (4/ 103) ، ورواه أيضا عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه مرفوعًا (6/ 4) ولفظه: "لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام بعز عزيز أو ذل ذليل، إما يعزهم الله عز وجل فيجعلهم من أهلها، أو يذلهم فيدينون لها"، والحاكم (4/ 430- 431) ، قال الحاكم: (صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه) ، ووافقه الذهبي، وهو على شرط مسلم وحده. و (المَدَرُ) : المدن والحَضَر، و (الوَبَرُ) : صوف الإبل والأرانب ونحوها (2) جزء من حديث رواه الإمام أحمد (4/273) . وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/ 189) : (رواه أحمد والبزار أتم منه، والطبراني ببعضه في "الأوسط " ورجاله ثقات) اهـ. عن حذيفة رضي الله عنه مرفوعًا: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبريا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 وآية ذلك أنك ترى الشباب يترقى رويدا رويدا ليصل إلى "منهاج النبوة" فها هم يقيمون دعوتهم على أصل الأصول في دعوة الأنبياء والمرسلين ألا وهو توحيد الله سبحانه، والبراءة من الشرك، وتحرير ولائهم لله ورسوله والمؤمنين، ومنابذة أعداء "لا إله إلا الله " والبراءة منهم، والدعوة إلى التوحيد، ونشر عقيدة "أهل السنة والجماعة"، كل ذلك يحتل مساحة شاسعة من خريطة دعوتهم، أليس هذا هو جوهر "منهاج النبوة" ولبه وقطب رحاه؟ وها هم يحيون الدعوة إلى تحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيحة في كل ما يعرض لهم من قضايا ومشكلات. وها هم يجددون الدعوة إلى نبذ الفرقة والاختلاف، والاعتصام بحبل الله والائتلاف بالتمسك بالسنة، والبراءة من البدعة. وها هم ينفضون الغبار عن تراثهم، ويُحْيُونَ مفاهيم السلف الصالح رضي الله عنهم، ويجتهدون في أن يترقَوْا، إلى منهج السلف الصالح، وأن "يَتَسَامَوْا"، إلى أخلاقهم وعبادتهم! وجهادهم، وأن "يتقدموا " إلى تصوراتهم التي تلقوها من مشكاة النبوة الخاتمة دونما كدر ولا دَخَن. أليست هذه أهم خصائص "منهاج النبوة"؟! لقد أوْلى الإسلام المرأة اهتماما بليغا، وَبَوَّأها مكانة سامقة، وكرَّمها أعظم تكريم، وكيف تفاعلت بهذا كُلّه، فمارست دَوْرَها العظيم، وخلَّفت لنا تاريخًا حافلًا بسيرتها العطرة كأم وزوجة وابنة، وكمؤمنة مجاهدة صابرة، وكعالمة فقيهة محدثة، وكعابدة خاشعة قانتة، حتى بان للجميع ما الذي كان يخفيه الحجاب، وماذا كان يدور خلف الخدور؟ إنها الثمرات المباركات التي جنتها الأمة من وراء الحجاب، إنه الشرف العزيز الذي صانه الحجاب، وإن هؤلاء هُنَّ خريجات "مدرسة الحجاب" قبل أن تعرف الدنيا مدرسة، وقبل أن يطرق سمعها "حقوق المرأة وتكريمها". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 لقد كان من القضايا التي واجهت الصحوة الإسلامية "قضية المرأة" تلك القضية ذات الارتباط الوثيق بالنظام الاجتماعي في الإسلام، والتي يتفرع عنها مسائل تعليمها، وعملها، وحجابها.. وحول هذا الأخير نشأ الجدل، وثارت التساؤلات ما بين مخلص حائر يبحث عن الحق، وبين مغرض مجادل في الحق بعد ما تبين. من هنا احتدم الجدال حول "حكم تغطية المرأة وجهها وكفيها عن الرجال الأجانب عنها. وهل ذلك فرض أم فضل؟ ". فمن قائل: إن النقاب بدعة تركية، أو مملوكية، أو فارسية إيرانية. ومن قائل: إنه رجعية جاهلية. ومن قائل إنه بدعة وتنطع يأباه دين الإسلام ... إلخ. بل ذهب بعض المضلين إلى الإفتاء بأن العلماء مجمعون على بدعيته، و"براءة" الإسلام منه!! لقد راجت هذه القضية في توقيت لافت للنظر، من حيث اقترانه بأحداث سياسية جذرية، وتحركات فكرية عَلمانية، وحملات قمع محمومة، وإجراءات تعسفية (1) حاول الساسة من خلالها إخفاء هزيمتهم النفسية أمام الصحوة الإسلامية الجارفة، وخنق هذه الدعوة الناشئة، ووأدها في مهدها.   (1) ووصل الأمر في تركيا- مثلًا- إلى حَدِّ أن الحكومة هناك لم تكتف بمطاردة المحجبات داخل تركيا، حتى (تقدم السفير التركي في ألمانيا الغربية بطلب إلى الحكومة الألمانية يطلب فيه منع الطالبات التركيات الدارسات في ألمانيا من ارتداء الحجاب، غير أن رد وزارة الخارجية الألمانية كان بمثابة صفعة قوية إذ أجابت بأن ألمانيا دولة علمانية، ولذا فهي لا تتدخل في الشئون الدينية للطلاب) اهـ. من (المختار الإسلامي) - العدد (58) - السنة الثامنة- ربيع أول 1408 اهـ، نوفمبر 1987 م. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 وكانت كل هذه الأحداث والتحركات والحملات والإجراءات تصب في مجرى العداء والخصومة للإسلام وللعاملين من أجله، ذلك المجرى الخبيث الذي أصبح من السمات الثابتة لخارطة الوقائع على طول القرن الحالي، والذي ازداد اندفاعه النكِد في العهود القريبة. إذ طفت على السطح "فقاقيع " المتغربين، واعتلت المنابرَ الإعلامية وجوه مشبوهة، وألسنة مسعورة سبق اختيارها بدقة وعناية، ثم دُفع بها إلى حلبة الإعلام لتؤدي دورها المرسوم سلفا خدمة للعديد من تيارات التدخل الدولي، أو التبعية المحلية، ولتسعى سعيا حثيثا دائبا لتقليص مساحة هيمنة الإسلام على الحياة وتخطيطه لها، وتفريغه من مضمونه الرباني الشمولي. من هنا كان لزاما أن تُواجَهَ هذه الحملاتُ الخبيثة، وأن تُفْضَحَ هذه المؤمرات، وَتكشَفَ أبعادُ قضية "تحرير المرأة، وخلفياتها لوضعها تحت منظار الفحص، وتعرية جذور وفروع هذا النبت الخبيث. وقد تقدم بيان ذلك في كتاب "معركة الحجاب والسفور". والآن: جاء دور التفنيد والرد وبيان الأدلة وكشف الشبهات: لقد حرَّر لفيف من الكُتَّاب كثيرَا من المصنفات المطوَّلة، والرسائل المختصرة، حول "حكم كشفَ الوجه والكفين من المرأة"، وركز بعضهم على جانب من جوانب أدلته دون سائرها، فكان كلا منها على حدة، لا يَشفي من القارئ المعاصر غُلةَ الصدى (1) ، فتجاسر المقصر المذنب، المتعرض لما لا يطيق، وتطفَّل على مائدة أولئك الأفاضل، وحاول جهده أن يجمع من كتبهم ورسائلهم مجموعا يؤلف بينها، ويلم شعثها، ويجمع شتاتها، - ويستوعب ذكر أدلتها، ويدفع شُبَه المخالفين لها، في صحيفة   (1) الصدى: العطش. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 كاملة، ورقيمة حافلة. فشرعت منذ سنوات طوال أحاول الإنجاز والإتمام، لكن يعوقني القصور والتقصير، فظللت بين إقدام وإحجام، حتى مَن الكريم المتعال بإخراج كتابين، الأول: "معركة الحجاب والسفور"، والثاني: "المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية"، وهما كالتوطئة والتمهيد، لهذا الثالث المقصود. ثم جمعت- حسبما تمكنت، وقدر ما تَحَصَّلتُ- آيات بينات، وأحاديثَ شريفات، وأخبارَا نيرات في موضوع البحث، مع تفسيرها الذي حرَّره العلماء الفحول، وشرحِها الذي حبَّره أئمة المنقول، وأذعن له جمهورهم بالتلقي والقبول، ضاما إلى ذلكّ من مقالات أهل العلم المتقدمين منهم والمتأخرين ما وقفت عليه، جامعا لأشتات هذه الأبواب المتفرقة في الدواوين. غير أن هذا المجموع مع كونه شَذَرَمَذَرَ، لفقده الترتيبَ المتقن والتهذيبَ المستحسن، لم يُوفّ بالمقصود، لكنني حاولت من باب "سَددوا، وقاربوا"، فا لا يُدْرَكُ كُلُّه لا يُتْرَك جلّه. ولم أرَ في عيوب الناس عيبا ... كنقص القادرين على التمامِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 هذا، وقد رتبتُ الكتاب على مقدمة، وستة أبواب، وخاتمة: الباب الأول: الفصل الأول: فتنة المرأة. الفصل الثاني: احتياطات الإسلام لسد ذرائع الفتنة بالمرأة. الباب الثاني: الفصل الأول: معنى الحجاب ودرجاته. الفصل الثاني: تاريخ الحجاب. الباب الثالث: الفصل الأول: فضائل الحجاب. الفصل الثاني: مثالب التبرج. الباب الرابع: الفصل الأول: شروط الحجاب الشرعي. الفصل الثاني: أين نحن من الحجاب الشرعي. الباب الخامس: أدلة وجوب ستر الوجه والكفين: الفصل الأول: أدله القرآن الكريم. الفصل الثاني: الأحاديث النبوية المتعلقة بحكم الحجاب. الباب السادس: الفصل الأول: شبهات وجوابها. الفصل الثاني: نصوص علماء المذاهب الأربعة في حكم الحجاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 والله سبحانه وتعالى أسأل أن يجعله نورا لإخواني المسلمين، ونارا على أعداء الدين، وصلى الله وسلّم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. الإسكندرية في/ الأحد 15 جمادى الآخرة 1409 هـ الموافق 22 يناير 1989 م. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 الباب الأول الفصل الأول : فتنه المرأة. الفصل الثاني: احتياطات الإسلام لسد منابع الفتنة بالمرأة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 الفصل الأول فتنة المرأة إن المرأة المسلمة لقيت عناية فائقة من الإسلام بما يصون عفتها، ويجعلها عزيزة الجانب، سامية المكانة، وإن الضوابط التي فرضها عليها في ملبسها، وزينتها وعلاقتها بالرجال لم تكن إلا لِسَدِّ ذريعة الفساد، وتجفيف منابع الافتتان بها، فإذا هي تنكبت تلك المحجة، وانحرفت عن هذا السبيل، وحطمت تلك الحواجز، وتعدت تلك الضوابط، فثارت على البيت والولد، وانكشفت في المجامع والأندية، وانغمرت في اللهو واللعب، وراحت تعلن عن نفسها بشقاشق القول، وفضول اللسان، فهنالك الويل والوبال، والفتنة والدمار، والداء العضال. لقد كان الإشفاق من وبال ذلك الداء أشد ما خامر قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيله ألقى على السابقين الأولين من المسلمين كلمته الخالدة-: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يُصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه " (1) ، ليبين لنا كيف أن الافتتان بالمرأة قد يؤدي إلى إحباط عمل مِن أفضل ما يتقرب به إلى الله عز وجل، وهو   (1) رواه البخاري (1/ 15) - طبعة المكتبة السلفية- في بدء الوحي، والإيمان، والعتق، وفضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والنكاح، والأيمان والنذور، والحيل، ومسلم رقم (1907) في الإمارة، وأبو داود رقم (2201) في الطلاق، والترمذي رقم (1647) في فضائل الجهاد، والنسائي (1/ 59-60) في الطهارة، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 الهجرة إلى الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم. وقد أشار القرآن الكريم إلى خطر الفتنة بالمرأة، فقال سبحانه وتعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) [آل عمران: 14] ، فقدَّم سبحانه النساء لعراقتهن في هذا الباب؛ ولأن أكثر الرجال إنما دخل عليهم الخلل من قِبل هذه الشهوة، ولعله لأجل ذلك أيضا قدم سبحانه وتعالى المرأة على الرجل في قوله جل وعلا: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور: 2] ،. وقال سبحانه وتعالى حاكيا عن عزيز مصر: (قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) [يوسف: 28] ،. وحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من فتنة المرأة، ونصح لأمته قي هذا الباب أعظم النصح. فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تركتُ بعدي فتنةً هي أَضَر على الرجالِ من النساء " (1) . وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان " (2) .   (1) رواه البخاري (9/ 41) في النكاح: باب ما يُتَقَّى من شؤم المرأة، ومسلم رقم (2740) في الذكر والدعاء: باب أكثر أهل الجنة الفقراء، وبيان الفتنة في النساء، والترمذي في الأدب: رقم (2785) باب ما جاء في التحذير من فتنة النساء، وقال: - "هذا حديث حسن صحيح". (2) رواه الترمذي رقم (1173) في الرضاع: باب رقم (18) ، وقال: " حسن غريب"، وقد رمز السيوطي له بالصحة، وقال المناوي: (رواه عنه أيضا باللفظ المذكور الطبراني، وزاد: " وإنها أقرب ما تكون من الله وهي في قعر بيتها" قال الهيثمي: رجا له موثقون، ورواه أيضَا ابن حبان (رقم 329- موارد) عنه) = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 قال الطيبي: والمعنى المتبادر أنها ما دامت في خِدرها لم يطمع الشيطان فيها، وفي إغواء الناس، فإذا خرجت طمع، وأطمع لأنها حبائله، وأعظم فخوخه (1) . قوله: "فيستشرفها الشيطان " أصل الاستشراف: وضع الكف فوق الحاجب، ورفع الرأس للنظر. قال المنذري: أي ينتصب ويرفع بصره إليها، ويَهمُّ بها؛ لأنها قد تعاطت سببًا من أسباب تسلطه عليها، وهو خروجها من بيتها (2) اهـ. وعنه رضي الله عنه قال: "إنما النساء عورة، وإن المرأة لتخرج من بيتها وما بها بأس، فيستشرفها الشيطان، فيقول: إنك لا تمرين بأحد إلا أعجبته، وإن المرأة لتلبس ثيابها، فيقال: أين تريدين؟ فتقول: أعود مريضًا، أو أشهد جنازة، أو أصلي في مسجد، وما عَبَدَت امرأة رَبها مثلَ أن تعبده في بيتها" (3) . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الدنيا حلوة خَضِرة، وإن الله مستخلِفُكم فيها، فناظِر كيف تعملون؟ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أولَ فتنةِ بني إسرائيل كانت في النساء" (4) .   = اهـ. من "فيض القدير" (6/ 267) . (1) "فيض القدير" (6/ 266) . (2) وعلق الألباني قائلاً: "هذا في شيطان الجن، فما بالك في شيطان الإنس، لاسيما شياطين إنس هذا العصر الذي نحن فيه، فإنه أضر على المرأة من ألف شيطان؛ لأن أغلب شبان هذا الزمان لا مروءة عندهم، ولا دين، ولا شرف، ولا إنسانية، يتعرضون للنساء بشكل مفجع، وهيئة تدل على خساسة ودناءة وانحطاط، فعلى ولاة الأمر- إن كانوا مسلمين- أن يؤدبوا هؤلاء الفسقة الشررة، والوحوش الضارية" اهـ من "صحيح الترغيب والترهيب" (1/ 138) . رواه الطبراني في "الكبير" وقال الهيثمي في "المجمع ": "رجاله ثقات " (2/ 35) ، وقال المنذري: "إسناده حسن " ووافقه الألباني. رواه مسلم رقم (2742) في الذكر، باب أكثر أهل الجنة الفقراء، والترمذي = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 وقد أوغل نساء بني إسرائيل في المعاصي، وتَفَنَّنَّ في فتنة الرجال، ومن مظاهر ذلك: ما أخبر به صلى الله عليه وسلم في قوله: "كانت أمرأة من بني إسرائيل قصيرة تمشي مع امرأتين طويلتين، فاتخذت رجلين من خشب، وخاتما من ذهب، مُغَلَّفًا بطين، ثم حشته مِسكا، وهو أطيب الطيب، فمرت بين المرأتين، فلم يعرفوها، فقالت بيدها هكذا" (1) . وفي رواية. "فكانت إذا مرت بالمجلس حركته، فنفخ ريحه ". وروى عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كن نساء بني إسرائيل يتخذن أرجلًا من خشب يتشرفن للرجال في المسجد، فحرم الله عليهن المساجد، وسُلِّطت عليهن الحيضة" (2) . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "كان الرجال والنساء من بني إسرائيل يصلون جميعًا، فكانت المرأة إذا كان لها خليل تلبس القالَبين (3) تطوّل بهما لخليلها، فألقى الله عليهن الحيض، فكان ابن مسعود يقول: أخرجوهن من حيث أخرجهن الله" (4) .   = رقم (2192) في جملة حديث طويل في الفتن، باب: ما جاء ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة، وابن ماجة رقم (4000) في الفتن، باب: فتنة النساء. (1) أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" (3/ 0 4، 46، 68) ، وأخرجه النسائي مختصرًا في الزينة: (8/ 151، 190) ، وصححه الألباني في "صحيح الجامع الصغير، (4/ 159) رقم (4340) . (2) قال الحافظ رحمه الله: أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح وهذا- وإن كان موقوفًا- حكمه حكم الرفع لأنه لا يقال بالرأي، وروى عبد الرزاق نحوه بإسناد صحيح عن ابن مسعود اهـ- نقله عنه في "الفتح الرباني " (5/ 202) . (3) القالبين: بفتح اللام وكسرها نعل من خشب كالقبقاب. (4) رواه الطبراني في "الكبير،، ورجاله رجال الصحيح "مجمع الزوائد" (2/ 35) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 وقد عاقبهن الله عز وجل على إحداث التبرج والزينة. فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت فيما روته عنها عمرة بنت عبد الرحمن: "لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المساجد كما مُنِعَهُ نساءُ بنى إسرائيل " (1) قيل لعمرة: أوَ مُنِعْنَ؟ قالت: نعم. وجاء في كتبهم ما يشر إلى هذا العقاب، فقد جاء في الأصحاح الثالث من سفر أشعيا: "إن الله سيعاقب بنات صِهيون على تبرجهن، والمباهات برنين خلاخيلهن باْن ينزع عنهن زينة الخلاخيل، والضفائر، والأهلة، وا لحِلَق، والأساور، والبراقع، والعصائب ". وقد نبأ النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع بعض نساء أمته في نفس الكبيرة، وبشرهن بأسوء مصير، فقال صلى الله عليه وسلم: "صِنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البُخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا" (2) وقد يقع الافتتان بالمرأة من وجه آخر، إذا خلبت لُبَّ الرجل،   (1) رواه البخاري (2/ 406) في الأذان: باب انتظار الناس قيام الإمام العالم، ومسلم رقم (445) في الصلاة، بابْ خروج النساء إلى المساجد، و "الموطأ" (1/198) في القبلة، باب: ما جاء في خروج النساء إلى المساجد، وأبو داود رقم (569) في الصلاة، باب: التشديد في خروج النساء إلى المساجد، وانظر: "سنن الترمذي" (2/ 420) ، وكذا رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 91،193،235) . (قال الكرماني: فإن قلت: من أين علمت عائشة رضي الله عنها هذه الملازمة، والحكم بالمنع وعدمه ليس إلا لله تعالى قلت: مما شاهدت من القواعد الدينية المقتضية لحسم مواد الفساد. اهـ. نقلًا عن "الفتح الرباني" (5/ 202) . (2) أخرجه مسلم رقم (2128) في الجنة: باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 وسحرت عقله، وزينت له ترك الواجب، أو فعل المحرم. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما رأيت من ناقصات عقلٍ ولا دين أغلبَ لذي لُبّ منكن " (1) الحديث. ولذا قال الشاعر: يَصْرَعْن ذا اللُّبِّ حتى لاحِراك به ... وَهُنَّ أضعفُ خلقِ الله أركانا ومن هنا قال الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) [التغابن: 14، 15] ،.   (1) رواه أبو داود من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رقم (4679) في السنة: باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، وهو قطعه من حديث رواه مسلم رقم (79) في الإيمان باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات، وابن ماجه رقم (4003) في الفتن: باب بيان فتنة النساء. . وأخرج البخاري نحوه (3/ 381) ضمن حديث طويل عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب لِلُب الرجل الحازم من إحداكُنَ يا معشر النساء" في الزكاة: باب الزكاة على الأقارب، وفيْ الحيض: باب ترك الحائض الصوم، وفي العيدين: باب الخروج إلى المصلى بغير منبر، وفي الصوم: باب الحائض تترك الصوم والصلاة، وفي الشهادات: باب شهادة النساء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 الفصل الثاني احتياطات الإسلام لسد ذرائع الفتنة بالمرأة من حكمة الله سبحانه وتعالى أن ركب في الإنسان شهوة الفرج تركيبا قويا، وجعل لها عليه سلطانَا شديدَا، فإذا ثارت كانت أشد الشهوات عصيانًا على العقل، فلا تقبل منه صرفَا ولا عدلا، إلا من تحجزه التقوى، ويعصمه الله عز وجل بتوفيقه. والدليل على شدة هذا الميل أن الإنسان يحتمل بكل الرضا مشاق وتكاليف الزوجية وتربية الأولاد، والكد والتعب من أجلهم، بحيث صار الإنسان مسوقا عن طريق تسليط هذه الشهوة إلى التناسل وعمارة الدنيا ليقضي الله أمرًا كان مفعولا. إن المرأة من طبعها استهواءُ الرجل، والسيطرة على مشاعره، وامتلاك حسه ولبه، وفي سبيل إغوائه، ولفت نظره إليها قد تصنع من ألوان الفتن ما يجر إلى المنكر. والإسلام يقدر ما رُكب في طبيعة النوعين من التجاذب الذي يؤدي إلى الافتتان والفساد، فإذا تُرِك الناس لدواعي أهوائهم فسدت الأعراض، وفثست الإباحية. والله سبحانه وتعالى عليم بخلقه سواء منهم الرجل أو المرأة أو الشيطان، قال جل وعلا: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14] ، وقد نبهنا سبحانه إلى أن غاية الشيطان في هذا الباب أن يوقع النوعين في حضيض الفحشاء، لكنه يسلك في تزيينها، والإغراء بها مسلك التدرج والاستدراج عن طريق خطوات يقود بعضها إلى بعض، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 أولها النظرة، ثم النظرة تولد خطرة تطرق القلب، فإن دفعها العبد استراح مما بعدها، وإن لم يدافعها قويت، فصارت وسوسة، فكان دفعها أصعب، فإن بادر ودفعها، وإلا قويت، وصارت شهوة، فإن عالجها، وإلا صارت إرادة، فإن عالجها، وإلا صارت عزيمة، ومتى وصلت إلى هذه الحال لم يمكن دفعها، وأقترن بها الفعل ولابد) (1) . ولا ريب أن دفع مبادئ هذا الداء من أوله أيسر وأهون من استفراغه بعد حصوله إن ساعد القدر، وأعان التوفيق. ومن هنا قال العليم الخبير: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [النور: 21] ، ولما أراد الله عز وجل أن ينهانا عن الفاحشة لم يقل: (ولا تزنوا) ، ولكن قال: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا) [الإسراء: 32] ، فهذا أبلغ؟ لأنه نهى عن مجرد الدنو منه عن طريق ذرائعه ومقدماته، وقال سبحانه: (تِلْكَ حُدُودُ الله فَلَا تَقْرَبُوهَا) [البقرة: 187] ، فا بالك بمن يتخطاها؟! ومن أجل ذلك كله كان (الحفاظ على العرض) أحد المقاصد الأساسية العليا للشريعة الإسلامية، والتي تدور حولها جملة كبيرة من الأحكام، مَنْ تأمَّلَها وجد أنها كُلَّها تقود إلى هدفٍ واحد وهو: "منع وقع فاحشة الزنا"؛ - تعظيمًا لحرمات الله. - وصيانة للأعراض. - ومحافظة على النسل. - وتطهيرا للمجتمع من الرذيلة. واتخذت الشريعة في ذلك اتجاهين: الأول: اتجاه وقائي يمنع وقوع الفاحشة عن طريق سد المنافذ المؤدية إليها سدًّا محكمَا.   (1) "التبيان في أقسام القرآن " ص (304) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 والثاني: اتجاه علاجي عن طريق فتح أبواب التعفف والحصانة على مصاريعها، وشق الطرق المعبدة الموصلة إلى ما أحَلَّه الله. وهذا نفصله فيما يلي إن شاء الله تعالى. أولاً- الإجراءات الوقائية: تحريم الزنا وبيان أنه خراب للدنيا والدين أجمعت الشرائع السماوية على تحريم الزنا، واعتبرته من أكبر الآثام، وأعظم الجرائم التي تدنس النفس البشرية، وتحول بينها وبس سعادتها وكمالها، ووضعت له أقصى عقوبة في باب العقوبات وأشنعها، وهي الرجم بالحجارة حتى الموت، وتوعدت فاعليها بالعقوبات العاجلة، والعذاب الأليم في الآخرة، واتفقت المذاهب الأخلاقية علي تحريم الزنا واستقبحته، وحكمت عليه بالشناعة القبيحة، وجعلته قب عداد الجرائم الكبرى، قال سبحانه وتعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) [الإسراء: 32] ، والقرآن الكريم يجعل الزنا قرين الشرك والقتل قال تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا (70)) [الفرقان: 68 - 71] عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في صلاة الكسوف: "يا أمة محمد، والله إنه لا احَدَ أَغْيَرُ مِنَ الله، يَزْنِي عَبْدَه، أو تزني أَمَتُهُ، يا أمة محمد، والله لو تعلمون ما أعلم لضحِكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرا"، ثم رفع يديه فقال: "اللهم هل بلغت" (1) .   (1) رواه البخاري رقم (1044) ، كتاب الكسوف: باب الصدقة في الكسوف = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولّا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن " (1) . وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا زنى العبد خرج منه الإيمان، فكان على رأسه كالظلَّة، فإذا أقلع رجع إليه " (2) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال رسول صلى الله عليه وسلم: " إذا ظهر الزنا والربا في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله " (3) . وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال رسول صلى الله عليه وسلم: "لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مَضَوْا" (4) .   = "فتح الباري " (2/ 615) ، ومسلم في كتاب الكسوف "شرح النووي " (6/201) (1) رواه البخاري (5/ 143) في الظالم: باب النهبى بغير إذن صاحبه، وفي الأشربة في فاتحته، وفي الحدود: باب الزنا وشرب الخمر، وفي المحاربين: باب إثم الزناة، ومسلم رقم (57) في الإيمان: باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن التلبس بالمعصية، وأبو داود رقم (4689) في السنة: باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، والترمذي رقم (2627) في الإيمان: باب ما جاء لا يزني الزاني وهو مؤمن، والنسائي (8/ 64) في السرقة: باب تعظيم السرقة. (2) رواه بنحوه أبو داود رقم (4690) في السنة: باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، والترمذي رقم (2627) في الإيمان: باب ما جاء لا يزني الزاني وهو مؤمن، وصححه الحاكم (1/122) ، ووافقه الذهبي. (3) رواه الحاكم (2/ 37) ، وقال: "صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي، "ورواه الطبراني، وأبو يعلى بإسناد جيد، انظر: "الترغيب " (3/194) ، "مجمع الزوائد" (4/118) . (4) قطعة من حديث رواه ابن ماجه رقم (4019) في الفتن: باب العقوبات (2/ 489) ، وأبو نعيم في الحلية" (8/33 -334) ، والحاكم (4/540) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وحسنه الألباني لشواهده في "الصحيحة" رقم (106) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 وعن بريدة مرفوعا: "ما ظهرت فاحشة في قوم قط إلا سلط الله عز وجل عليهم الموت " (1) . وبلغ التنفير من هذه الفاحشة وأهلها أن أم جرَيْج العابد دعت على ابنها أن يعاقبه الله بأن "لا يموت حتى يرى وجوه المياميس " (2) كما جاء في الحديث، وقد ابتلي بذلك- رحمه الله- في قصة معروفة، والشاهد منها أن مجرد وقوع العين على هؤلاء الفواحش عقوبة وشر. ولقد جعل الله سبحانه وتعالى التعفف عن الزنا، والتصون منه من صفات المؤمنين المفلحين، قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)) [المؤمنون: 1 - 8] ،. وفي قصة يوسف عليه السلام أبلغ دليل على فضيلة العفة وحسن عاقبتها. وفي السنة أحاديث كثيرة صحيحة في هذا المعنى: ففي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: فعَدَّ منهم رجلاً "دعته امرأة ذاتُ مَنْصب وجمال، فقال: إنى أخاف الله " (3)   (1) قطعة من حديث رواه الحاكم (2/ 126) ، والبيهقي (3/ 346) ، وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي. (2) انظر نص الحديث في البخاري (3/ 94) في كتاب العمل في الصلاة: باب إذا دعت الأم ولدها في الصلاة، وفي المظالم، والأنبياء، ومسلم في " صحيحه، كتاب البر والصلةْ باب تقديم الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها. (3) جزء من حديث ش رواه البخاري (2/168) في الأذان: باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة. وفي الزكاة، وفي الرقاق، وفي المحاربين، ومسلم رقم (1031) = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يضمنْ لي ما بين رجليه، وما بين لَحْيَيهِ أضمنْ له الجنة" (1) . وفي حديث الثلاثة الذين أطبقت عليهم صخرة وهم في الغار، فلم يجدوا بُدًّا من التوسل إلى الله بصالح أعمالهم، فاستشفع أحدهم ببره لوالديه، واستشفع الثاني برده أجر عامل كان تركه عنده، فنماه له أضعافًا مضاعفة، واستشفع الثالث بأنه كانت له ابنة عمِّ يهواها، فما زال يراودها عن نفسها، حتى ألمّ بها قحط، فراودها، فخضعت له، فلما تمكن منها، قالت له: اتق الله، ولا تفضَّ الخاتمْ إلا بحقه، فإذا هو يرتعد من خشية الله، وينصرف عنها، ويترك لها الذهب الذي أعطاها ابتغاء وجه الله، فأزال الله الصخرة عن فم الغار بفضل أعمالهم الصالحة (2) . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كان فيمن كان قبلكم رجل اسمه الكِفْل، وكان لا ينزع عن شيء"- وفي رواية: " كان الكفْل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله فأتى امرأة علم بها حاجه، فأعطاها عطاءً كثيرًا"- وفي رواية: "ستين دينارًا- فلما أرادها على نفسها- ارتعدت، وبكت، فقال؟ ما يُبكيك؟ قالت: لأن هذا عمل ما عمِلته قط، وما حملني عليه إلا الحاجة، فقال: تفعلين أنتِ هذا من مخافة الله؟ فأنا   = في الزكاة: باب فضل إخفاء الصدقة، والموطأ (2/ 952، 953) في الشعر: باب ما جاء في المتحابين في الله، والترمذي رقم (2392) في الزهد: باب ما جاء في الحب في الله، والنسائي (8/ 222-223) في القضاء: باب الإمام العادل. (1) رواه البخاري (11/ 314) في الرقاق: باب حفظ اللسان، وفي المحاربين: باب فضل من ترك الفواحش، والترمذي رقم (2410) في الزهد باب ما جاء في حفظ اللسان (2) انظر نص الحديث في "صحيح البخاري، (6/584) في الأنبياء: باب حديث الغار، وفي البيوع، وفي الإجارة، وفي الحرث والمزارعة، وفي الأدب، ومسلم رقم (2743) في الذكر: باب قصة أصحاب الغار الثلاثة، وأبو داود رقم (3387) في البيوع: باب في الرجل يتجر في مال الرجل بغير إذنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 أحرى، اذهبي فَلَك ما أعطيتُكِ، ووالله لا أعصيه أبدا، فمات مِن ليلته، فأصبح مكتوب على بابه: إن الله تعالى قد غفر للكفل، فعجب الناس من ذلك، حتى أوحى الله تعالى إلى نبي زمانهم بشأنه " (1) . وقد شدد الله عز وجل عقوبة الزاني الأثيم المادية والمعنوية، فالعقوبة المادية: العذابّ الأليم بالجلد أو الرجم، والمعنوية: أن لا نرأف به، ولا نشفق عليه حتى يبرأ من جريرته، ويتوب منها، قال تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)) [النور: 2، 3] ،. وقد زادت السنة الشريفة وهي الوحي الثاني بعد القرآن على الحكم بجلد الزاني البكر والزانية البكر مائه جلدة أن يغربا عامًا. وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خذوا عنى، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا: البكر بالبكر، جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب، جلد مائة والرجم (2) ، ويؤخذ منه أن زنا الثيب أقبح من زنا البكر بدليل اختلاف حديهما. قال أبن القيم رحمه الله: وخَصَّ سبحانه حَدّ الزنا من بين سائر الحدود بثلاث خصائص:   (1) رواه بنحوه الترمذي رقم (2498) في صفة القيامة، باب رقم (49) ، ورواه ابن حبان رقم (2453- موارد) ، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن " وهو عند الحاكم (4/ 254-255) ، وصححه ووافقه الذهبي. (2) رواه مسلم رقم (1690) في الحدود: باب حد الزنا، وأخرجه أحمد (5/ 318) ، وأبو داود رقم (4415) في الحدود: باب في الرجم، والترمذي رقم (1434) في الحدود: باب ما جاء في الرجم على الثيب، والطبري رقم (8806) ، (8807) ، والبيهقي (8/ 210) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 أحدهما: القتل فيه بأشنع القتلات، وحيث خففه فقد جمع فيه بين العقوبة على البدن بالجلد، وعلى القلب بتغريبه عن وطنه سنة (1) . الثاني: أنه نهى عباده عن أن تأخذهم بالزناة رأفة في دينه، بحيث تمنعهم من إقامة الحد عليهم. الثالث: أنه سبحانه أمر أن يكون حَدُّهما بمشهد من المؤمنين، فلا يكون في خلوة حيث لا يراهما أحد، وذلك أبلغ في مصلحة الحد، وحكمة الزجر (2) اهـ. ويعذب الزناة في قبورهم إلى يوم القيامة على النحو الذي جاء في حديث رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم التي رأى فيها صورا من عذاب القبر، فقد ذكر صلى الله عليه وسلم أنه جاءه جبريل وميكائيل، قال: "فانطلقنا فأتينا على مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع، فيه لغط وأصوات، قال: فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجال ونساء عراة، فإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضَوْضَوْا- أي صاحوا من شدة حره- فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء هم الزناة والزواني " يعني من الرجال والنساء، فهذا عذابهم في القبر إلى يوم القيامة   (1) أجمع العلماء سلفًا وخلفا على أن الزاني المحصن يرجم لا محالة، وذهب جمهورهم إلى أن الواجب في حد الزاني المحصن هو الرجم فحسب، ومن هؤلاء الأئمة الأربعة، وذهب البعض إلى الجمع بين الرجم، والجلد، منهم علي رضي الله عنه، والحسن البصري، وإسحق بن راهويه، وداود، والظاهرية، واْجمع العلماء سلفَا وخلفا على وجوب الجلد على الزانيين غير المحصنين، ولم يعرف في ذلك مخالف، أما التغريب عاما وهو النفي من مكان الجريمة إلى مكان آخر، فقد اختلف فيه الفقهاء: فذهب الجمهور إلى الجمع بينهما: الجلد، والتغريب، وبه قال الشافعي وأحمد، وقال مالك والأوزاعي بالجمع بينهما بالنسبة إلى الرجال الأحرار، ولا نفي على النساء، وذهب أبو حنيفة ومن تابعه إلى عدم الجمع بين الجلد والنفي. انظر: "الحدود في الإسلام، للعلامة الدكتور محمد أبو شهبة ص (150: 201) . (2) " الجواب الكافي لمن سال عن الدواء الشافي " ص (144) بتصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 نسأل الله العافية، وفي رواية: "فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع يتوقد تحته نارا، فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا، فإذا خمدت رجعوا فيها، وفيها رجال ونساء عراة " وفي نهاية الحديث: "والذي رأيته في الثقب فهم الزناة" (1) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يلج الناسُ به النار، فقال: "الأجوفان الفم والفرج " (2) . وعن أبي بَرزة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أكثر ما أخاف عليكم شهوات الغَيّ، وبطونكم، وفروجكم، ومُضِلات الفتن" (3) . والزنا له مراتب، فهو بأجنبية لا زوج لها عظيم، وأعظم منه بأجنبية لها زوج، وأقبح منه: زوجة الجار: عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: قا! ل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "ما تقولون في الزنا؟ " قالوا: حرام حرمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من   (1) رواه من حديث حمرة بن جندب رضي الله عنه البخاري (12/ 457-458) في التعبير: باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح، وفي صفة الصلاة: باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم، وكذا في التهجد، والجنائز، والبيوع، والجهاد، وبدء الخلق، وا لأنبياء، وتفسير سورة براءة، والأدب، ومسلم رقم (2275) في الرؤيا: باب رؤية النبي صلى الله عليه وسلم والترمذي رقم (2294) في الرؤيا: باب ما جاء فى رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم الميزان والدلو. (2) رواه الترمذي رقم (2004) كتاب البر: باب ما جاء في حسن الخلق، وقال: هذا حديث صحيح غريب (4/ 363) وابن ماجه رقم (4315) في الزهد: باب ذكر الذنوب (2/ 561) والإمام أحمد (2/ 291، 392، 442) . (3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 420، 423) ، وكذا رواه البزار والطبراني في معاجمه الثلاثة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 أن يزني بامرأة جاره " (1) . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال؟ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: "أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك، قلت: إن ذلك لعظيم، قلت: ثم أيّ؟ قال: "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك "، قلت: ثم أيّ؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك " (2) ، الحديث. وعن بريدة رضي الله عنه مرفوعًا: " حُرمَةُ نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم، ما من رجل من القاعدين يخلف وجلا من المجاهدين في أهله، فيخونه فيهم، إلا وقف له يوم القيامة، فيأخذ من حسناته ما شاء حتى يرضى"، ثم التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "فما ظنكم؟ " وزاد النسائي قوله: "أترون يدع له من حسناته شيئًا؟ " (3) . ثم إن زنا الشيخ- لكمال عقله- أقبح من زنا الشاب: فعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، ومَلِك كذاب، وعائل مستكبر" (4) .   (1) رواه الإمام أحمد (6/ 8) ، والبخاري فى (الأدب المفرد" رقم (103) ، وقال المنذري (3/195) ، والهيثمي (8/ 168) : (رواه أحمد والطبراني في "الكبير" و "الأوسط " ورجاله ثقات) اهـ. (2) رواه البخاري (8/ 13) في تفسير سورة البقرة: باب قول الله تعالى: (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 22] ، وفي تفسير سورة الفرقان، وفي الأدب، وفي المحاربين وفي الديات، وفي التوحيد، ومسلم رقم (86) في الإيمان. باب الشرك أعظم الذنوب، والترمذي رقم (3181) و (3182) في التفسير: باب ومن سورة الفرقان، والنسائي (7/ 89- 90) في تحريم الدم: باب ذكر أعظم الذنب، وأبو داود رقم (2310) في الطلاق: باب في تعظيم الزنا. (3) رواه مسلم رقم (1897) في الأمارة: باب حرمة نساء المجاهدين وإثم من خان فيهم، وأبو داود رقم (2496) في الجهاد: باب حرمة نساء المجاهدين على القاعدين، والنسائي (6/ 50 - 51) في الجهاد: باب من خان غازيًا في أهله. (4) رواه مسلم رقم (107) في الإيمان: باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار، والمن = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 ومن مفاسد الزنا وعواقبه الوخيمة: أنه يعمي القلب، ويَطْمس نوره، وأنه يُحَقِّر النفسَ، ويقمعها، ويُسْقِطُ كرامة الإنسان عند الله وعند خلقه، وأنه يؤثر في نقصان العقل، وأنه يمحق بركة العمر، ويضعف في القلب تعظيم الله، ويوجب الفقر، ويكسو صاحبه سواد الوجه، وثوب المقت بين الناس، ومن خاصيته أيضًا أنه يشتت القلب، ويمرضه، ويجلب الهم والحزن والخوف، ويباعد صاحبه من الملك، ويقربه من الشيطان. فليس بعد مفسدة القتل أعظم من مفسدة الزنا، ولهذا شرع فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها، ولو بلغ العبدَ أن امرأة من نسائه قُتِلَتْ لكان أسهل عليه من أن يبلغه أنها زَنَت. وبما أن الجزاء من جنس العمل، فقد ينتقم الله من الزاني بأن يسلط على عرضه من لا يتقي الله فينال منه، كما فعل هو بعرض غيره، قال الشاعر: يا هاتكًا حرمَ الرجال وتابعا ... طرقَ الفساد فأنت غير مكرمِ من يَزْنِ في قوم بألفي دِرْهَم ... في أهلهِ يُزْنَى بربع الدرهم إن الزنا دَيْن أذا استقرضته ... كان الوفا من أهل بيتك فاعلم (1) وقد وصف بعضهم آثار هذه الفاحشة المدمرة فقال: "عارُه يهدِمُ البيوتَ الرفيعة، ويطأطئ الرؤوسَ العالية، وُيسَوِّدُ الوجوهَ البيض، ويصبغ بأسودَ من القارِ أنصع العمائم بياضًا، ويُخْرِسُ الألسنةَ البليغة، وَيُبَدّلُ أشجع الناس من شجاعتهم جبنا لا يدانيه جبن، ويهوى   = بالعطية، وتنفيق السلعة بالحلف، والنسائي (6/ 86) في الزكاة: باب الفقير المحتال. (1) موارد الظمآن لدروس الزمان " (3/ 473) ، وانظر: "السلسلة الصحيحة" رقم (370) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 بأطول الناس أعناقا، وأسماهم مقامًا، وأعرقهم عِزا إلى هاوية من الذل والازدراء والحقارة ليس لها من قرار. وهو أقدر أنواع العار على نزع ثوب الجاه مهما اتسع، ونباهة الذكر مهما بعدت، وإلباس ثوب من الخمول ينبو بالعيون عن أن تلفت إلى من كان في بيوتهم لفتة احترام، وهو- أي الزنا- لطخة سوداء إذا لحقت تاريخ أسرة غمرت كل صحائفه البيض، وتركت العيون لا ترى منها إلا سوادًا حالكًا. وهو الذنب الظلوم الذي إن كان في قوم لا يقتصر على شَيْن مَنْ قارفته من نسائهم، بل يمتد شينه إلى من سواها منهم، فيشينهن جميعا شينا يترّك لهن من الأثر في أعين الناظرين ما يقضي على مستقبلهم النسوي، وهو العار الذي يطول عمره طولا، فقاتله الله من ذنب، وقاتل فاعليه " (1) . وقال ابن القيم رحمه الله: ومفسدة الزنا مناقضة لصلاح العالم، فإن المرأة إذا زنت أدخلت العار عل أهلها وزوجها وأقاربها، ونكست رؤوسهم بين الناس، وإن حملت من الزنا: فإن قتلت ولدها جمعت بين الزنا والقتل، وإن أبقته حملته على الزوج فأدخلت على أهلها وأهله أجنبيًا ليس منهم، فورثهم وليس منهم، ورآهم، وخلا بهم، وانتسب إليهم وليس منهم، وأما زنا الرجل فإنه يوجب اختلاط الأنساب أيضًا، وإفساد المرأة المصونة، وتعريضها للتلف والفساد، ففي هذه الكبيرة خراب الدنيا والدين " (2) . عود لى بدء يعتبر إصلاح القلب، وتطهيره، وتعميره بتقوى الله عز وجل ومراقبته   (1) السابق (3/ 454- 455) (2) انظر "روضة المحبين ونزهة المشتاقين" ص (352- 363) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 أعظم رادع عن المعاصي، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه " (1) الحديث، وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب " (2) . ومن هنا كانت التربية الإيمانية، والتوجيه الواعي، ولزوم الجماعة الصالحة، واجتناب صحبة الفاسقين والبطالين، من وسائل الإسلام في محاربة الرذيلة، واستئصال شأفتها. غير أن الشريعة المطهرة لم تكلنا فقط إلى الضمائر التي قد تهن، والنفوس التي قد تضعف، ولكنها حددت إجراءات ترد هذه الضمائر إلى الاستقامة إذا نزعت إلى التمرد، ولم ترتدع بوازع الإيمان والتقوى، وتروض هذه النفوس إذا استشرفت للفتن، وتعيدها إلى الجادة، وقد ذكرنا طرفا من هذه الإجراءات، ونردف بجملة أخرى من الإجراءات الوقائية ضد الفاحشة، فمن ذلك: أن الله سبحانه منع الزواج ممن عُرف- أو عرفت- بالفاحشة إذا لم يتب فقال سبحانه: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)) [النور: 3] ، أخذَا بالحيطة؛ إذ من اعتاد الفاحشة لا يأمن أن يعاودها. حرَّم البذاء، ومنع الفحش في القول، وكره التلفظ بالسوء: قال عز وجل: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) [النساء: 148] ،   (1) رواه عن أنس بن مالك رضي الله عنه الإمام أحمد في "مسنده" (3/ 198) ، وتتمته: "ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل رجل الجنة لا يأمن جاره بوائقه ". (2) رواه البخاري (1/ 153) ، ومسلم (1599) ، وابن ماجه (3984) ، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 وقال: ليس المؤمن بالطعَّان، ولا باللعان، ولا الفاحش ولا البذيء" (1) . * وحرم أن يُظَنَّ بمؤمن سوء. وأوجب على المؤمن إذا سمع عن أخيه سوءًا أن يظن به البراء من الإثم، والطهارة من السوء كما هو طاهر وبريء، قال الله تعالى: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)) [النور: 12 - 14] ، والقصد من وراء هذا عدم السماح للفاحشة أن تظهر، ولو على ألسنة المتكلمين، أو في أذهان السامعين تركيزا للطهارة وتثبيتَا لها في جو البلاد والعباد، وفي هذا من معنى محاربة الفاحشة- بالوقاية مالا يخفى على عاقل. * وحرم قذف المؤمن أو المؤمنة بالفاحشة، ووضع لذلك عقوبة زاجرة: (الجلد ثمانين جلدهّ) ، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 4، 5] وعليه فمن قذف امرأة مؤمنة عفيفة اْو مؤمنًا عفيفَا بكلمة الفاحشة،   (1) رواه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه الترمذي رقم (1978) في البر: باب ما جاء في اللعنة، وقال: "حديث حسن غريب"، ورواه الإمام أحمد رقم (3839) ، وا بن حبان رقم (48- موارد) ، والبخاري في الأدب المفرد" رقم (312) ، والحاكم في " المستدرك " (1/ 12) ، وصححه، ووافقه الذهبي. (2) وعلى هذا فمن حدثك أن فلانًا أو فلانة فعل كذا، وجب عليك أن ترد عليه قائلاً: هل تستطيع أن تأتي بأربعة شهداء؟ وإلا فهذا إفك مبين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 وجب عليه أن يحضر أربعة شهود على صحة ما قاله، أو يجلد حدا على ظهره ثمانين جلدة، مع إسقاط عدالته حتى يتوب توبة نصوحا. وحرم مجرد حب إشاعة الفاحشة في البلاد والعباد: قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النور: 19] ، يردُّ على من يتصاغر هذا الأمر، ويقول في نفسه: كيف تعظم العقوبة لمجرد حب الفاحشة وظهورها وإن لم يعمل على ظهورها؟ فنبه إلى أن مجرد حب الفاحشة عمل على إيجادها وانتشارها، وإن الفاحشة البغيضة يجب أن تطارد من القلوب والنفوس قبل أن تطارد من العضلات والحركات. ومن إجراءات الإسلام في هذا الشأن تحريم التحدث بما يكون بين الزوجين متعلقا بالوقاع ونحوه (2) . * حظر على الرجل أن يغيب عن زوجه مدة طويلة. قال تعالى: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)) [البقرة: 226 - 228] ، فإذا حلف الرجل ألا يطأ زوجته أربعة أشهر فأكثر كان موليا، فإما أن يرجع في تلك المدة فيطؤها، ويكفر عن يمينه، وإلا تطلق منه بمجرد مضي المدة حتى لا تتضرر الزوجة. ومن أعظم التدابير الوقائية في هذا الباب: فرض الحجاب على النساء، واعتبار قرارهن في البيت هو الأصل   (1) انظر دور الصحافة في إشاعة الفاحشة في "معركة الحجاب والسفور" ص (135 – 142) (2) انظر: المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية" للمؤلف ص (169) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 الأصيل في دائرة عملهن، قال صلى الله عليه وسلم: "والمرأة في بيت زوجها راعية، وهي مسئولة عن رعيتها" (1) ، وما عداه استثناء، ثم إن هي خرجت تخرج محجوبة، لا تخالط الرجال، وبشروط أخرى جِماعها: حمايتها، وحماية المجتمع من الافتتان بها. * عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "إنما النساء عورة، وإن المرأة لتخرج من بيتها وما بها من بأس، فيستشرفها الشيطان، فيقول: إنك لا تمرين بأحد إلا أعجبتِهِ، وإن المرأة لتلبس ثيابها، فيقال: أين تريدين؟ فتقول: أعود مريضًا، أو أشهد جنازة، أو أصلي في مسجد، وما عبدت امرأة ربها مثل أن تعبده في بيتها" (2) . * ومن ذلك أيضَا: تحريم التبرج، وإظهار الزينة، والتجمل للفت نظر الأجانب، قال تعالى: (وَقَرن فِي بيُوتكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرجَّ الجاهِلِيَّةِ اَلأُولَى) [الأحزاب: 33] . ء ومنها!: تشريع الاستئذان: فقد حرم الله عز وجل الدخول إلى البيوت إلا بعد الإذن، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا   (1) قطعة من حديث رواه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما البخاري (13/ 119) في الأحكام في باب وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول، وفي الجمعة، والاستقراض، والعتق، والوصايا، والنكاح ومسلم رقم (1829) في الإمارة: باب فضيلة الإمام العادل، والترمذي رقم (1705) في الجهاد باب ما جاء في الإمام، وأبو داود رقم (2928) في الإمارة: باب ما يلزمه الإمام من حق الرعية. (2) تقدم تخريجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) [النور: 27-28] . ووضحت السنَّة الهدف من الاستئذان، وهو خشية أن تقع عين آثمة على عورة غافلة، فتلد تلك النظرة الخاطفه فاحشة فاضحة، لا قِبَلَ بتحملها. فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الاستئذان من أجل البصر". وعنه رضي الله عنه قال: اطَّلع رجل من ثقب في حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه مِدْرَى- مشط كبير من حديد - يحك به رأسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو علمت أنك تنظر، لطعنت به عينيك، إنما جُعِل الإذن من أجل البصر" (1) . وهذا المسلك يدل على مبلغ عناية الإسلام بصيانة البيوت، وحفظها من النظر إلى ما فيها، فقد يقع البصر على شيء يكره أهل البيت اطلاع أحد عليه، ولولا الاستئذان لتعرضت البيوت إلى انكشاف العورات. * وهده طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في الاستئذان: * عق عبد الله بن بُسْر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ع ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر؟ فيقول: "السلام عليكم.. السلام عليكم " (2) ذلك أن الدُّور لم يكن عليها يومئذ ستور) .   (9) رواه البخاري (12/ 253) في الديات: باب من اطلع في بيت قوم ففقؤوا عينه فلا دية له، وفي اللباس، والاستئذان، ومسلم رقم (2156) في الآداب: باب تحريم النظر في بيت غيره، والترمذي رقم (2710) في الاستئذان: باب من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم، والنسائي (7/ 60- 61) في القسامة: باب في العقول. (2) رواه أبو داود رقم (5186) في الأدب: باب كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان وفيه بقية بن الوليد، وهو صدوق كثير التدليس عن الضعفاء، لكنه صرح هدا الحديث بالتحديث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 وهذا ما صنعه الصحابة رضوان الله عليهم: فقد ثبت أِن عمر رضي الله عنه قال لأُبي بن كعب رضي الله عنه: ما منعك أن تأتينا؟، فقال: أتيت فسلمت على بابك ثلاث مرات، فلم تردَّ عليّ، فرجعت، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له، فليرجع " (1) . * ولابد أن يُعَين المستأذِنُ اسمه، ليؤذن له أم لا، فربما يكون شخصا غير مرغوب فيه، أو ربما يكون أهل البيت على حالة لا تخول لهم استقبال الزائرين، فعن جابر رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فدققت الباب، فقال: "من ذا؟ " فقلت: أنا، فقال: "أنا، أنا؟! " كأنه كرهها (2) . - وتبلغ عناية الإسلام بأدب الاستئذان آفاقًا لا تُطاول، ودرجة من الخلق الكريم، الذي لم تعرف الدنيا له مثيلًا، فلم يخول للابن أن يدخل على أمه أو أخته دون استئذان. رُوي في حديث عطاء بن يسار أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أسْتَأذِنُ على أمي؟ فقال: "نعم "، فقال: إني معها في البيت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استأذن عليها"، فقال الرجل: إني خادمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استأذن عليها، أتحب أن تراها عُريانة؟ "، قال: لا، قال: "فاستأذن   (1) رواه البخاري (11/ 29) في الاستئذان: باب التسليم والاستئذان ثلاثا، وفي البيوع والاعتصام، ومسلم رقم (2153) في الآداب: باب الاستئذان، والموطأ (2/ 963- 964) في الاستئذان: باب الاستئذان، وأبو داود أرقام (5180: 5184) في الأدب: باب كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان، والترمذي رقم (2691) في الاستئذان والآداب: باب ما جاء في الاستئذان ثلاثَا. (2) رواه بنحوه البخاري (11/ 37) في الاستئذان: باب إذا قال: من ذا؟ قال: أنا، ومسلم رقم (2155) في الآداب: باب كراهة قول المستأذن أنا إذا قيل: من هذا؟ وأبو داود رقم (5187) في الأدب: باب الرجل يستأذن بالدقِّ، والترمذي رقم (1712) في الاستئذان: باب ما جاء في التسليم قبل الاستئذان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 عليها" (1) . فهذه الآداب تبرز لنا مدى عناية الإسلام بحرمة البيوت، وكيف أعطاها التشريع الإلهي من القداسة ما يجعلها في مأمن من الشكوك والريب، وفي حصانة من جراثيم الفساد، وعوامل الانهيار (2) . * ومنها الأمر بغض البصر: قال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) [النور: 30، 31] الآيتان. فالله سبحانه يعلم مدى تأثير النظرة المحرمة في القلب، وما تحدثه من تحويل النفس إلى بركان، وما تحركه من الاندفاع نحو المرأة، والواقع يصدق ذلك، فكم من نظرة محرمة أودت بصاحبها إلى الوقوع في المعصية، وفتنةِ الرجل بالمرأة، وفتنةِ المرأة بالرجل. وقد قرن الله عز وجل الأمر بغض البصر بالأمر بحفظ الفرج لأن غض البصر هو السبيل لحفظ الفرج (ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ) .   (1) رواه في "الموطأ" في الاستئذان: باب الاستئذان، وإسناده منقطع، فإن عطاء بن يسار لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عبد البر: "مرسل صحيح، ولا أعلمه يستند من وجه صحيح ولا صالح اهـ من "الموطأ" ص (597) ط. الشعب. (2) وانظر: "الأدب الضائع " للمؤلف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 وقد تقع النظرة الخائنة دون أن يراها أحد، ومن ثم جاء ختام الآية بعلم الله تعالى الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فقال عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) . وقال تعالى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) [غافر 19] ،قال ابن عباس رضي الله عنهما: "هو الرجل يدخل على أهل البيت بيتهم، وفيهم المرأة الحسناء أو تمر به، فإذا غَفَلوا لَحَظَ إليها، فإذا فطنوا غض بصره عنها، فإذا غَفَلوا لَحَظ، فإذا فطنوا غَضَّ "، وقد اطلع الله من قلبه أنه ود لو اطَّلع على فرجها وأن لو قدر عليها فزنى بها (1) . وقال سفيان الثوري: الرجل يَكون في المجلس في القوم يسترق النظر إلى المرأة تمر بهم، فإن رأوه ينظر إليها اتَّقاهم فلم ينظر، وإن غَفَلوا نظر، هذا خائنة الأعين (وَمَا تخفِى ألصُدُورُ) قال: ما يجد في نفسه من الشهوة (2) . وعنه رحمه الله تعالى أنه قال في قوله تعالى: (يَعلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ) وهي النظرة بعد النظرة (3) . فإن النظرة، الأولى تكون وليدة المفاجأة فلا مؤاخذة عليها، وإذا وقعت   (1) "رواه ابن أبي حاتم، كذا في "الصارم المشهور" للتويجري ص (21) ، (2) رواه أبو نعيم في "الحلية" عن محمد بن يزيد بن خُنَيس عنه. المصدر السابق، وقد قال الشيخ حمود التويجري حفظه الله تعالى: وقد تضاءلت خائنة الأعين في زماننا، ولم تبق إلا عند الذين تستتر نساؤهم من المسلمين، وأما الذين فتنوا بتقليد طوائف الإفرنج والتزيّ بزيهم، فقد عُدمت فيهم خائنةُ الأعين، وحَل محلها تسريح النظر في محاسن النساء الأجنبيات، والتمتع بالنظر إليهن، ومضاحكتهن ومجالستهن، والتحدث معهن في الخلوة وغير الخلوة اهـ. من السابق " ص (21، 22) (3) "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (15/ 303) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 فعلى الناظر ألا يُعْقِبَها بأخرى، وعليه أن يُحَوّلَ بصره إلى الأرض، أو إلى جهة أخرى. فعن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة" (1) . وعن جرير بن عبد الله قال: "سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة، فأمرني أن أصرف بصري " (2) . وعلى من يرى رجلًا يترصد امرأة لينظر إليها أن ينصحه، ويرشده إلى غض البصر. فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "كان الفضل ابن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، فجعل رسول الله يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر" (3) . ومنها تحريم مس الأجنبية ومصافحتها: وإذا كان الإسلام يطارد الحرام أنى وجد، ويترصد المنكر حيثما كان ليقضي عليه، فلمس المرأة باليد يحرك كوامن النفس، ويفتح أبواب الفساد، ويسهل مهمة الشيطان، من أجل ذلك توعد الله من يفعل ذلك بصارم عقابه، وشديد عذابه.   (1) رواه الترمذي رقم (2777) في الأدب: باب ما جاء في نظر الفجأة، وأبو داود رقم (2149) في النكاح: باب ما يؤمر به من غض البصر، والإمام أحمد (3/ 353، 357) ، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب اهـ. (2) رواه مسلم رقم (2159) في الآداب: باب نظر الفجأة، وأبو داود رقم (48 1 2) قي النكاح: باب ما يؤمر من غض البصر، والترمذي رقم (2777! في الأدب: باب ما جاء في نظر الفجأة. (3) يأتي تخريجه إن شاء الله ص (418) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 * فعن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له " (1) ، وإذا كان هذا في مجرد المس إذا كان بغير شهوة، فما بالك بما فوقه؟! * وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: "كُتبَ على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة: فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجْلُ زناها الخطا، والقلب يهوي ويتمنى، وَيُصَدقُ ذلك الفرجُ ويكذبه" (2) والشاهد قوله صلى الله عليه وسلم: "واليد زناها البطش " وهو المس باليد بأن يمس امرأة أجنبية بيده. ومن تساهل في مصافحة النساء، واحتج بطهارة قلبه، وسلامة نيته، وأنه لا يتأثر بذلك، فإنه ينادي على نفسه بنقص الرجولة، وهو كذاب في دعواه طهارة قلبه وسلامة نيته، وهذا أطهر ولد آدم صلى الله عليه وسلم وأخوفهم لله، وأرعاهم لحدوده، يقول وهو المعصوم: "لا أمس أيدي النساء" (3) ، ويقول: "إني لا أصافح النساء" (4) ، ويمتنع من ذلك حتى في وقت البيعة الذي يقتضي عادة المصافحة، فكيف يباح لغيره من الرجال مصافحة النساء مع أن الشهوة فيهم غالبة، والفتنة غير مأمونة، والشيطان يجري منهم مجرى الدم؟! كيف وقد قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ   (1) "رواه الطبراني والبيهقي، ورجال الطبراني ثقات رجال الصحيح كذا قال المنذري في "الترغيب " (3/ 66) . (2) رواه مسلم في كتاب القدر: باب قدر على ابن آدم حظه من الزنا وغيره، "شرح النووي" (16/206) ، والإمام أحمد (2/317، 431) (3) رواه الطبراني في "الأوسط، عن عقيلة بنت عبيد، كما في صحيح الجامع الصغير" (6/ 123) رقم (7054) . (4) رواه عن أميمة بنت رقيقة "الموطأ" (2/ 982) في البيعة: باب ما جاء في البيعة، والنسائي (7/ 149) في البيعة، باب: بيعة النساء، وابن ماجه رقم (2874) في الجهاد: باب البيعة، والإمام أحمد (6/357) ، وصححه الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (8/122) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُواْ اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا (21)) [الأحزاب 21] . وعن عائشة رضي الله عنها: "وما مستا يَدُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يَدَ امرأة إلا امرأة يملكها" (1) أي يملك نكاحها. * ومن ذلك تحريم الخلوة بالأجنبية: وحقيقة الخلوة أن ينفرد رجل بامرأة في غيبة عن أعين الناس. إن الخلوة بالأجنبية من أعظم الذرائع، وأقرب الطرق إلى اقتراف الفاحشة الكبرى. وقد صرح القرطبي رحمه الله تعالى بأن الخلوة بغير محرم من الكبائر،   (1) رواه البخاري (8/ 504) في تفسير سورة الممتحنة، باب: إذا جاءك المؤمنات مهاجرات، وفي الطلاق، وفي الأحكام، ومسلم رقم (1866) في الإمارة: باب كيفية بيعة النساء، والترمذي رقم (3303) التفسير، باب: ومن سورة الممتحنة. تنبيه تمس الحاجة إليه: يتعلق بتهاون بعض الناس بهذا الحكم - وهو تحريم مصافحة الأجنبية - بزعم أنهم يستحيون من إحراج من يمد يده للمصافحة غافلين عن أن هذا عجز وليس حياءً، قال القرطبي رحمه الله فيما نقله عنه المناوي في "الفيض": (وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يأخذ نفسه بالحياء، وبأمر به، ويحث عليه، ومع ذلك فلا يمنعه الحياء من حق يقوله، أو أمر ديني يفعله، تمسكًا بقوله في الحديث الآتي: "إن الله لا يستحي من الحق " رواه النسائي وابن ماجه عن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه وهذا هو نهاية الحياء، وكماله، وحسنه، واعتداله، فإن من فرطّ عليه الحياء حتى منعه من الحق، فقد ترك الحياء من الخالق، واستحيا من الخلق، ومن كان هكذا حُرم منافع الحياء، واتصف بالنفاق والرياء. والحياء من الله هو الأصل والأساس، فإن الله أحق أن يستحيي منه، فليُحفظ هذا الأصل، فإنه نافع اهـ. (1/ 487) . وانظر رسالة "أدلة تحريم مصافحة الأجنبية " للمؤلف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 ومن أفعال الجاهلية (1) . وقال مجاهد في قوله تعالى: (وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعرُوفٍ) [الممتحنة: 12] ،: لا تخلو المرأة بالرجال، ذكره البغوي في تفسيره، وذكره أيضًا عن سعيد بن المسيب، والكلبي، وعبد الرحمن بن زيد أنهم قالوا: لا تخلو برجل غير ذي محرم، ولا تسافر إلا مع ذي محرم. إن خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية مدرجة الهلاك، وداعية الإثم والفجور، وكيف لا يكون ذلك، والفرصة سانحة، وقد مهدت الخلوة للغريزة ألن تستيقظ؟ وإذ كان الفعل يمر بمراحل ثلاث: * مرحلة النزوع والرغبة في الفعل. * ثم مرحلة الوجدان، فيجد الشخص، ويعزم علي الفعل. * ثم تأتي المرحلة الثالثة والأخيرة، وهي مرحلة التنفيذ. أما في هذا الباب، فالكائن البشري حين تتقد فيه نار الشهوة، ويستيقظ فيه الحيوان، تراه يندفع إلى الفعل إن لم تحجزه التقوى والخوف من الله سبحانه وتعالى. ومن ثم رأينا القرآن الكريم ينهى عن الاقتراب من أسباب الزنى، فيعالج هذه الجريمة الخلقية بحجز النفس عن أسبابها، فيقول تعالى: (وَلَا تَقربُوأ الزِّنَى) الآية [الإسراء: 32] ،، بينما يعالج جريمة القتل بتوجيه النهي إلى الفعل نفسه، وهو جريمة بشعة؟ إذ ليس بعد الشرك بالله أعظم ولا أكبر من القتل،- ولكن النفس بطبيعتها تأباه وتنكره، قال عز وجل: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الإسراء: 33] ) ،. وهذا يرينا إلى أيِّ حَد يسد الإسلام على هذه الجريمة كل منفذ، ويحجز النفس عن أسبابها.   (1) "الجامع لأحكام القرآن " (18/ 74) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخلوة بالأجنبية، وشدَّد في ذلك، والأحاديث في ذلك كثيرة منها: حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: "لا يَخْلُوَنَّ رجلٌ بامرأة إلا ومعها ذو محرم " (1) الحديث. ومنها: حديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان " (2) الحديث، وهذا يعم جميع الرجال ولو كانوا صالحين أو مسنين، وجميع النساء ولو كن صالحات أو عجائز. ومنها: حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها، فإن ثالثهما الشيطان " (3) . وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندخل على المُغِيبات" (4) . وعنه رضي الله عنه قال: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ندخل على النساء بغير إذن أزواجهن (5) .   (1) رواه البخاري (4/ 86) في الحج: باب حج النساء، وفي الجهاد: باب كتابة الإمام الناس، وفي النكاح: باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، ومسلم رقم (1341) في الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره. (2) رواه الإمام أحمد (6/ 446) ، ورواه عن عمر رضي الله عنه الترمذي رقم (2165) في الفتن: باب ما جاء في لزوم الجماعة، والحاكم (1/ 114- 115) وقال: (صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. (3) رواه الإمام أحمد في "لمسند" (3/ 339) . (4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/397) ، (4/ 196، 205) . (5) رواه الترمذي رقم (2780) في الأدب: باب ما جاء في النهي عن الدخول على النساء، وقال: "حسن صحيح"، والإمام أحمد في (المسند) (4/ 203) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان " (1) . وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تلجوا على المغيبات، فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم " (2) . وقد تكون القرابة إلى المرأة أو زوجها سبيلًا إلى سهولة الدخول عليها أو الخلوة بها، كابن العم وابن الخال مثلا، ولذلك حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك لأنه من مداخل الشيطان، ومسارب الفساد. فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والدخول على. النساء"، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ قال: "الحمو الموت " (3) ، والحمو هو قريب الزوج الذي لا يحل للمرأة، فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يفسد الحياة الزوجية كما يفسد الموت البدن. وقد حكى الإجماعَ كل تحريم الخلوة بالأجنبية غير واحد من العلماء منهم النووي، وابن حجر العسقلاني. قال النووي رحمه الله: وكذا لو كان معهما من لا يستحيا منه لِصِغَره كابن سنتين، وثلاث، ونحو ذلك، فإن وجوده كالعدم، وكذا لو اجتمع رجال بامرأة أجنبية فهو حرام (4) اهـ.   (1) رواه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما مسلم رقم (2173) في السلام: باب تحريم الخلوة بالأجنبية. يقال: امرأة مُغِيبة: إذا كان زوجها غائبا. (2) رواه الترمذي وقم (1172) في الرضاع؟ باب رقم (17) ، وقال: "هذا حديث غريب من هذا الوجه " (3/ 475) . (3) رواه البخاري (9/ 242) في النكاح: باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، ومسلم رقم (2172) في السلام: باب تحريم الخلوة بأجنبية والدخول عليها، والترمذي رقم (1171) في الرضاع: باب ما جاء في كراهية الدخول على المغيبات. (4) "شرح النووي على صحيح مسلم (9/109) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 قال الأبي رحمه الله: لا تعرض المرأة نفسها بالخلوة مع أحد، وإن قل الزمن، لعدم الأمن لا سيما مع فساد الزمن، والمرأة فتنة إلا فيما جُبلت عليه النفوس من النفرة من محارم النسب (1) اهـ. لا يأمنن على النساء أخ أخًا ... مافي الرجال على النساء أمين إن الأمين وإن تعفف جهده ... لابد أن بنظرة سيخون * ومن ذلك: أنه حَرَّم سفر المرأة بغير محرم: فإن المرأة مظنة الشهوة والطمع، وهي لا تكاد تقي- نفسها، لضعفها ونقصها، ولا يغار عليها مثل محارمها، الذين يرون أن النيل منها نيل من شرفهم وعرضهم، وسفرها بدون محرم يعرضها إلى الخلوة بالرجال ومحادثتهم، وقد يطمع فيها من في قلبه مرض، وربما سهل خداع المرأة، وربما يعتريها مرض، وإذا سلمت من كل هذا فلن تسلم من القيل والقال إذا سافرت بدون محرم يصونها ويرعاها. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، يقول: "لا يخلون وجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم " (2) ، فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجَّة،   (1) "إكمال إكمال المعلم" (3/436) . (2) هكذا مطلقا، والعمل على هذا الحديث عند أكثر العلماء، قال النووي رحمه الله: كل ما يسمى سفرًا تنهي عنه المرأة بغير زوج أو محرم سواء كان ثلاثة أيام أو يومين أو يومَا أو بريدًا أو غير ذلك لرواية ابن عباس رضي الله عنهما المطلقة: "لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرما، وهذا يتناول جميع ما يسمى سفرًا اهـ. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قد عمل أكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق لاختلاف التقييدات اهـ. وقال النووي أيضًا: ليس المراد من التحديد- أي الوارد في بعض الروايات- ظاهره بل كل ما يسمى سفرًا فالمرأة منهية عنه إلا بالمحرم، وإنما وقع التحديد عن أمر واقع، فلا يعمل بمفهومه اهـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 وإني اكْتُتِبْتُ في غزوة كذا وكذا؟ قال: "انطلق فَحُجَّ مع امرأتك " (1) . قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله: النساء لحم على وَضَم (2) إلا ما ذُبَّ عنه، كُلُّ أحدٍ يشتهيهن وهن لا مدفع عندهن، بل ربما كان الأمر إلى التخلي والاسترسال أقرب من الاعتصام، فحض الله عليهن بالحجاب، وقطع الكلام، ومباعدة الأشباح، إلا مع من يستبيحها وهو الزوج، أو يمنع منها وهم أولو المحرمية، ولما لم يكن بدٌّ من تصرفهن أذن لهن فيه بشرط صحبة من يحميهن، وذلك في مكان المخالفة وهو السفر مقر الخلوة، ومعدن الوحدة (3) اهـ. وقال النووي رحمه الله: المرأة مظنة الطمع فيها، ومظنة الشهوة ولو كبيرة، وقد قالوا: "لكل ساقطة لاقطة"، ويجتمع في الأسفار من سفهاء الناس وسقطتهم من لا يترفع عن الفاحشة بالعجوز وغيرها لغلبة شهوته، وقلة دينه ومروءته وحيائه (3) اهـ. فتبُّا لهؤلاء المستغربين، وسحقا سحقًا لعبيد المدنية الزائفة الذين أطلقوا لبناتهم ونسائهم العنان يسافرن دون محرم، ويخلون بالرجال الأجانب، مُدَّعين أن الظروف تغيرت، وأن ما اكتسبته المرأة من التعليم، وما أخذته من الحرية يجعلها موضع ثقة أبيها وزوجها، فما هذا إلا فكر خبيث دَلَفَ إلينا ليفسد حياتنا، وما هي إلا حجج واهية ينطق بها الشيطان على ألسنة هؤلاء الذين انعدمت عندهم غيرة الرجولة والشهامة فضلًا عن كرامة المسلم ونخوته.   وانظر: "إكمال الإكمال، للأبي (3/ 436) . (1) تقدم تخريجه. (2) وَضَم: الوضم ما وقيت به اللحم عن الأرض من خشب وحصير اهـ. من "مختار القاموس" ص (661) . (3) نقله عنهما الشيخ حمود بن عبد الله التويجري في "الرد القوي " ص (250- 251) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 ومَثَل الذين يتهاونون في الخلوة والاختلاط الآثم بدعوى أنهم رُبّوا على الاستجابة لنداء الفضيلة ورعاية الخُلُق، مَثَلُ قوم وضعوا كمية من البارود بجانب نار متوقدة، ثم ادعوا أن الانفجار لا يكون لأن على البارود تحذيرًا من الاشتعال والاحتراق.. إن هذا خيال بعيد عن الواقع، ومغالطهْ للنفس، وطبيعة الحياة وأحداثها (1) . * ومنها تحريم خروج المرأة متطيبة متعطرة: فمن المعلوم أن من دواعي فتنة الرجل بالمرأة، ونزوعه إليها ما يشم منها من الطيب الذي يفوح شذاه فيجر إلى الفتنة، ويكون رسولًا من نفس شريرة إلى نفوس أخرى شريرة. قال صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة استعطرت، ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية، وكل عين زانية" (2) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل عين زانية، وإن المرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس، فهي كذا وكذا، يعني زانية" (3) ، وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبًا" (4) .   (1) "تحريم الخلوة بالأجنبية الفضيلة الشيخ الدكتور محمد بن لطفي الصباغ حفظه الله ص (29- 30) ، وانظر رسالة (يا بنتي ويا ابني) للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله. (2) رواه من حديث أبي موسى رضي الله عنه الإمام أحمد (4/ 414) ، والنسائي (8/ 153) في الزينة، باب ما يكره للنساء من الطيب، والحاكم (2/ 396) ، وقال: (صحيح الإسناد، ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي، وانظر "فيض القدير" (3/ 147) . (3) رواه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الترمذي- رقم (2787) في الأدب: باب ما جاء في كراهية خروج المرأة متعطرة- واللفظ له، وأبو داود رقم (4174) ، (4175) في الترجل: باب في المرأة تتطيب للخروج، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح ". (4) رواه من حديث زينب امرأة ابن مسعود رضي الله عنهما مسلم رقم (443) - واللفظ له - في الصلاة: باب خروج النساء إلى المساجد، والنسائي (8/ 154) في الزينة: باب النهي للمرأة أن تشهد الصلاة إذا أصابت بخورًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 ولا ضير على المرأة أن تستعطر في بيتها ولزوجها، بشرط أن لا تغشى به مجالس الرجال؟ لأن الطيب من ألطف وسائل المخابرة والمراسلة، والحياء الإسلامي يبلغ من رقة الإحساس أن لا يحتمل حتى هذا العامل اللطيف الخفي. خرجت امرأة في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه متطيبة، فوجد ريحَها، فعلاها بالدرة، ثم قال: "تخرجن متطيبات، فيجد الرجل ريحكن؟ وإنما قلوب الرجال عند أنوفهم، اخرجن تَفِلات " (1) . * ومنها تحريم الخضوع بالقول: فقد يكون صوت المرأة رخيمًا، يحرك النفوس المريضة، فيجرها إلى التفكير في المعصية، أو يوقعها ويوقع بها في بلية العشق، قال بشار: يا قومِ أُذْني لبعضِ الحَيِّ عاشِقَةٌ ... والأذْنُ تَعْشَقُ قبلَ العينِ أحيانا ومن هنا نهيت المرأة عن مخاطبة الأجانب بكلام فيه ترخيم كما تخاطب زوجها، وأمرت أن تتحرى الصوت الجاد العاري عن أسباب الفتنة، ولم يخول لها الإسلام إذا نابها شيء في الصلاة أن تسبح كالرجال، بل عليها أن تصفق، وهي في الحج لا ترفع صوتها بالتلبية، ولا يشرع لها أن تؤذن للصلاة في المسجد، ولا أن تؤم الرجال. وقد سدَّ الإسلام على المرأة كل سبيل للتسيب في هذا الباب حينما جعل أمهات المؤمنين " محلا للقدوة، فلم يبق هناك عذر لمعتذر، قال تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا [الأحزاب: 32] ) ، وقال صلى الله عليه وسلم: "والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام " (2) . وفي رواية: "والأذن تزني، وزناهما السمع ".   (1) المصنف للإمام عبد الرزاق بن همام الصنعاني (4/ 370) . (2) تقدم تخريجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 ومن أعظم وسائل الإسلام لتجفيف منابع الفتنة بالمرأة: * تحريم الاختلاط المستهتر: تعريف الاختلاط المستهتر: هو اجتماع الرجل بالمرأة التي ليست بمحرم له اجتماعًا يؤدي إلى ريبة، أو: هو اجتماع الرجال بالنساء غير المحارم في مكان واحد يمكنهم فيه الاتصال فيما بينهم بالنظر، أو الإشارة، أو الكلام، أو البدن من غير حائل أو مانع يدفع الريبة والفساد. وقد حذر القرآن الكريم من هذا الاختلاط كما في قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب: 33] ) ، فخير حجاب للمرأة بيتها، وقال تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب: 53] ) ، إلى غير ذلك من الآيات. * وقال صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها" (1) . وعن أبي أسيد مالك بن ربيعة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول- وهو خارج من المسجد، وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق: "استأخِرن، فليس لكن أن تَحْقُقْنَ (2) الطريق، عليكن بحافات الطريق "، فكانت المرأة تلصَقُ بالجدار، حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به (3) . وقد أفرد صلى الله عليه وسلم في المسجد بابا خاصا للنساء يدخلن ويخرجن منه، لا يخالطهن   (1) تقدم تخريجه. (2) تحققن: أي تذهبن في حاق الطريق، وهو الوسط. (3) رواه أبو داود رقم (5272) في الأدب: باب في مشي النساء مع الرجال في الطريق (4/ 369) ، وسكت عنه المنذري، وله شاهد عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ: "ليس للنساء وسط الطريق " رواه ابن حبان في "صحيحه " رقم (1969) موارد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 ولا يشاركهن فيه الرجال: فعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو تركنا- هذا الباب للنساء؟ " قال نافع: فلم يدخل منه ابنُ عمر حتى مات (1) . وعن نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينهى أن يُدْخَلَ المسجدُ من باب النساء" (2) . ومن ذلك: تشريعه للرجال إمامًا ومؤتمين أن لا يخرجوا فور التسليم من الصلاة إذا كان في الصفوف الأخيرة بالمسجد نساء، حتى يخرجن، وينصرفن إلى دورهن قبل الرجال، لكي لا يحصل الاختلاط بين الجنسين- ولو بدون قصد- إذا خرجوا جميعا. قال أبو داود في "سننه": (باب انصراف النساء قبل الرجال من الصلاة) ثم ساق حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم مكث قليلا، وكانوا يرون أن ذلك كيما يَنفُذَ النساء قبل الرجال " (3) . ورواه البخاري أيضًا وفيه: قال ابن شهاب: (فنُرى والله أعلم- لكي ينفذ من ينصرف من النساء قبل أن يدركهن مَن انصرف من القوم) (4) أي الرجال.   11) رواه أبو داود رقم (571) في الصلاة: باب التشديد في خروج النساء إلى المساجد، وفي رواية عن نافع قال: قال عمر، قال الجزري: "وهو أصح "، وقال الألباني: "صحيح على شرط الشيخين" اهـ من: هامش "المرأة المسلمة للبنا" ص (15-16) . (2) رواه أبو داود رقم (464) ، في الصلاة، وإسناده منقطع. (3) رواه أبو داود رقم (1040) في الصلاة: باب انصراف النساء قبل الرجال من الصلاة (1/ 273) . (4) رواه البخاري (2/ 389) - فتح) رقم (849) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 * وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "كان يسلم فينصرفُ النساء فيدخلن بيوتهن من قبل أّن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم) . وروي النسائي: "أن النساء كن إذا سلمن قمن، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الرجال " (2) . قال الحافظ ابن حجر: (وفي الحديث ... كراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات فضلًا عن البيوت) اهـ (3) . * وعن أم حميد الساعدية أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إني أحب الصلاة معك، فقال: "قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير لك من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي " (4) . * وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تمنعوا النساء أن يخرجن إلى المساجد، وبيوتُهن خير لهن" (5) . * وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها" (6) ، وهذا   (1) السابق رقم (850) . (2) عزاه الحافظ ابن حجر إلى النسائي- "فتح الباري" (2/336) . (3) "فتح الباري" (2/ 392) . (4) عزاه الحافظ في "الفتح " إلى الإمام أحمد والطبراني، وقال: "وإسناد أحمد حسن "، وله شاهد من حديث ابن مسعود عند أبي داود (2/350) ، وقد رواه أيضَا في صحيحيهما ابن خزيمة (3/ 94) ، وابن حبان (328- موارد) . (5) رواه أبو داود رقم (567) في الصلاة: باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد، والإمام أحمد (2/ 76) . (6) رواه مسلم رقم (440) في الصلاة: باب تسوية الصفوف وإقامتها، وأبو داود = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 كله في حالة العبادة والصلاة التي يكون فيها المسلم أو المسلمة أبعد ما يكون عن وسوسة الشيطان وإغوائه. * وعن عبد الرحمن بن عابس قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما قيل له: أشهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، ولولا مكاني من الصغَر ما شهدتُه، حتى أتى العَلَم الذي عند دار كثير بن الصلت فصلى ثم خطب، ثم أتى النساء ومعه بلال فوعظهن، وذكَرهن، وأمرهن بالصدقة (1) الحديث. قال الحافظ ابن حجر: قوله: "ثم أتى النساء" يشعر بأن النساء كن على حدة من الرجال غير مختلطات بهم، قوله: "ومعه بلال " فيه أن الأدب في مخاطبة النساء في الموعظة أو الحكم أن لا يحضر من الرجال إلا من تدعو الحاجة إليه من شاهدٍ ونحوه؟ لأن بلالا كان خادم النبي صلى الله عليه وسلم، ومتولي قبض الصدقة، وأما ابن عباس فقد تقدم أن ذلك اغتفر له بسبب صغره اهـ (2) . * وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "شهدت الفطر مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم يصلونها قبل الخطبة، ثم يخطب بعد، خرج النبي صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إليه حين يُجَلِّس بيده، ثم أقبل يشقهم حتى جاء النساء" (3) الحديث. وفي رواية مسلم: " يُجَلِّس الرجال بيده" وذلك كي لا يختلطوا بالنساء.   = رقم (678) في الصلاة: باب صف النساء وكراهية التأخر عن الصف الأول، والترمذي رقم (224) في الصلاة: باب ما جاء في فضل الصف الأول، والنسائي (2/93) في الإمامة: باب ذكر خير صفوف النساء، وشر صفوف الرجال. (1) رواه البخاري رقم (977) في العيدين: باب العَلَم الذي بالمصلى. (2) "فتح الباري" (2/ 540) . (3) رواه البخاري رقم (979) في العيدين: باب موعظة الإمام النساء يوم العيد، ومسلم رقم (884) في العيدين في فاتحته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 * ولقد حرصت الصحابيات علي عدم الاختلاط حتى في أشد المساجد زحاما، وفي أشد الأوقات زحامًا، في موسم الحج بالمسجد الحرام: (فعن ابن جريج قال: أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام النساءَ الطوافَ مع الرجال، قال: كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال؟) أي غير مختلطات بهن (قال: قلت: أَبَعْدَ الحجاب أو قبلُ؟ قال: أي لَعمري، لقد أدركتهُ بعد الحجاب، قال: قلت: كيف يخالطن الرجال؟ قال: لم يَكُنَّ يخالطن، كانت عائشة رضي الله عنها تطوف. حَجْرَةً) بفتح المهملة وسكون الجيم بعدها راء أي ناحية، يقال: نزل فلان حجرة من الناس أي معتزلا، وفي رواية: "حجزة" بالزاي يعني مجوزًا بينها وبين الرجال بثوب (من الرجال، لا تخالطهم، فقالت امرأة: "انطلقي نستلم يا أم المؤمنين "، قالت: " انطلقي عنكِ "، وأبت، يخرجن متنكرات بالليل، فيطفن مع الرجال، ولكنهن كن إذا دخلن البيت قمن) أي وقفن حتى يدخلن حال كون الرجال مخرجين منه (حتى يدخلن، وأخْرِج الرجال) (1) . ودخلت على عائشة رضي الله عنها مولاة لها، فقالت لها: يا أم المؤمنين، طفت بالبيت سبعا، واستلمت الركن مرتين أو ثلاثًا، فقالت لها عائشة رضي الله عنها: "لا آجركِ الله، لا آجركِ الله، تدافعين الرجال؟! ألا كبرتِ ومررتِ؟! " (2) . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: روى الفاكهي من طريق زائدة عن إبراهيم النخعي قال: نهى عمر أن يطوف الرجال مع النساء، قال: فرأى رجلا معهن فضربه بالدرة (3) .   (1) رواه البخاري رقم (1618) كتاب الحج: باب طواف النساء مع الرجال. (2) رواه الإمام الشافعي في (مسنده" ص (127) ط. دار الكتب العلمية- لبنان. (3) "فتح الباري" (3/ 561) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 ولقد حط الله عن النساء الجمعة، والجماعة، والجهاد، وجعل جهادهن لا شوكة فيه، وهو الحج المبرور. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: "تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعْتَدي عند ابنِ أُمِّ مكتوم، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك، ولا يراك " (1) . إلى أمثلة أخرى كثيرة كلها تؤكد حرص الإسلام على وضع وتثبيت حواجز الأسلاك الشائكة بين الرجال والنساء الأجنبيات. ومن صور الاختلاط المنهي عنه: 1- اختلاط الأولاد الذكور والإناث- ولو كانوا إخوة- بعد التمييز في المضاجع، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتفريق بينهم في المضاجع. فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع " (2) . 2- اتخاذ الخدم الرجال، واختلاطهم بالنساء، وحصول الخلوة بهن، رُوِي في بعض الآثار أن فاطمة عليها السلام لما ناوَلَت أحَدَ ابنَيْها بلالًا أو أنسًا قال: "رأيت كفًا" يعني أنه لم يَرَ وجهًا (3) ، وقد كان أنس رضي الله عنه خادمًا خاصُّا للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان يعيش عنده كأحد أهله. 3- اتخاذ الخادمات اللائي يبقين بدون محارم، ْ وقد تحصل بهن الخلوة. 4- السماح للخطيبين بالمصاحبة والمخالطة التي تجر إلى الخلوة، ثم إلى   (1) أخرجه مسلم (4/ 195) ، أبو داود (2284) ، والنسائي (2/ 74- 75) ، والبيهقي (7/ 432) ، وأحمد (6/412) . (2) رواه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أبو داود رقم (495، 496) في الصلاة: باب متى يؤمر الغلام بالصلاة؟ (3) "تكملة فتح القدير" (8/98) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 ما لا تحمد عقباه، فيقع العبث بأعراض الناس بحجة التعارف ومدارسة بعضهم بعضًا. 5- استقبال المرأة أقارب زوجها الأجانب، وأصدقاءه- في حال غيابه ومجالستهم. 6- الاختلاط في دور التعليم كالمدارس، والجامعات، والمعاهد، والدروس الخصوصية 7- الاختلاط في الوظائف، والأندية، والمواصلات، والأسواق، والمستشفيات، والزيارات بين الجيران، والأعراس، والحفلات. 8- الخلوة في أي مكان ولو بصفة مؤقتة كالمصاعد، والمكاتب، والعيادات، وغيرها. فيا أولياء النساء والبنات والأزواج: احذروا: "الخلوة، والاختلاط المستهتر، والتبرج "، فإنها والزنى رفيقان لا يفترقان وصنوان لا ينفصمان غالبا. واعلموا: أن الستر والصيانة هما أعظم عون على العفاف والحصانة، وأن احترام القيود التي شرعها الإسلام في علاقة الجنسين هو صمام الأمن من الفتنة والعار، والفضيحة والخزي. احذروا أجهزة الفساد السمعية منها والبصرية التي تغزوكم في عقر داركم، وهي تدعو نساءكم وأبناءكم إلى الافتتان، وتضعف منهم الإيمان، وقد قيل: "حسبك من شَر سماعه"، فكيف برؤيته؟!! صونوا بناتكم وزوجاتكم، ولا تتهاونوا فتعرضوهن للأجانب فـ: إن الرجال الناظرين إلى النساء ... مثل السباع تطوف باللحمان إن لم تصن تلك اللحومَ أسودُها ... أُكلت بلا عِوّض ولا أثمَانِ إن الأعراض إذا لم تصن بهذه الحصون والقلاع، ولم تحصن بالأسوار والسدود، فستسقط لا محالة- أمام هذه الهجمة الشرسة، ويقع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 المحظور، ولا ينفع حينئذ بكاء ولا ندم، والتبعة كل التبعة، واللوم أولًا وأخيرا على ولي البنت الذي ألقى الحبل على غاربه، وأرخى لابنته العنان، فيداه أوكتا، وفوه نفخ: نَعَبَ الغراب بما كرهـ ... ـتَ، ولا إزالة للقدرْ تبكي وأنت قتلتها! ... اصبر، وإلا فانتحر آخر: أتبكي على لبنى وأنت قتلتها ... لقد ذهبت لبنى فما أنت صانع (1) ؟! * * * فتش عن الثغرة إن جعبة الباحثين والدارسين لظاهرة الاختلاط حافلة بالمآسي المخزية، والفضائح المشينة، التي تمثل صفعة قوية في وجه كل من يجادل في الحق بعد ما تبين. وإن الإحصائيات الواقعية في كل البلاد التي شاع فيها الاختلاط ناطقة بل صارخة بخطر الاختلاط على الدنيا والدين، "لخصها العلامة أحمد وفيق باشا العثماني الذي كان سريع الخاطر، حاضر الجواب، عندما (سأله بعض عُشَرائه من رجال السياسة في أوربة، في مجلس بإحدى تلك العواصم قائلاً: "لماذا تبقى نساء الشرق محتجبات في بيوتهن مدى حياتهن من غير أن يخالطن الرجال، ويغشين مجامعهن؟ ". فأجابه في الحال قائلاً: "لأنهن لا يرغبن أن يلدن من غير أزواجَهن".   (1) انظر: "صون المكرمات برعاية البنات" بقلم جاسم الفهيد الدوسري- حفظه الله، ص (52) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 وكاد هذا الجواب كصب ماء بارد على رأس هذا السائل، فسكت على مضض كأنه ألقم الحجر) (1) ولما وقعت فتنة الاختلاط بالجامعة المصريه، كان ما كان من حوادث يندى لها الجبين، ولما سئل "طه حسين " عن رأيه في هذا، قال: "لابد من ضحايا"!! ولكنه لم يبين. "بماذا" تكون التضحية؟ و "في سبيل ماذا" لابد من ضحايا (2) ؟ وأي ثمرة يمكن أن تكون أغلى وأثمن من أعراض المسلمين؟!! والآن نستطيع- بكل قوة - أن نجزم بحقيقة لا مراء فيها، وهى أنك إذا وقفت على جريمةٍ فيها نُهِشَ العِرضُ، وذُبح العفافُ، وأُهْدِرَ الشرفُ، ثم فتشت عن الخيوط الأولى التي نسجت هذه الجريمة، وَسَهَّلت سبيلها، فإنك حاتمًا ستجد أن هناك ثغرةً حصلت في الأسلاك الشائكة التي وضعتها الشريعة الإسلامية بين الرجال والنساء، ومن خلال هذه الثغرة. . . دخل الشيطان!! وصدقِ الله العظيم: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) [النساء: 27 - 28] ) . *** ثانيا: التدابير الإيجابية بينا فيما مضى كيف أن الإسلام "يطارد" أسباب الفتنة حتى يقضي عليها، ويتتبع ذرائع المعصية، حتى يسد منافذها، ومنابع الفساد حتى   (1) "الفتن" للشيخ أحمد عز الدين البيانوني رحمه الله - ص (214) . (2) "المرأة المسلمة" لوهبى غاوجي الألباني ص (241) ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 يجففها، ووسائل الفوضى حتى يجتثها من جذورها. يبقى أن ننبه إلى أنه في مقابل ذلك فتح للنكاح أبوابه على مصاريعها، وقضى على العقبات التي تعترضه بكل قوة، وهاك بعض وسائله في ذلك: علم س بالضرورة من دين الإسلام الترغيب في الزواج المشروع والحث عليه، وأنه من سنن الهدى، وجادة الإسلام. ودلت نصوص الشريعة على النهي عن التبتل والرهبانية (1) ، وأنها مولود مبتدع في الديانة النصرانية شدَّد الله النكير على فعلتها، فليست العزوبة من أمر الإسلام في شيء، وحديث الرهط نص في ذلك كما ثبت في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه (2) ، ولهذا قَرَنَ في حديث آخر بين الأمر بالزواج، والنهي عن الرهبانية، وذلك فيما رواه أبو أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تزوجوا، فإني مكاثر بكم الأمم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى" (3) وذكر الذهبي في "السير": أن طاوسا رحمه الله قال: "لا يتم نسك   (1) راجع "المرأة بين تكريم الإسلام، وإهانة الجاهلية" ص (161- 163) . (2) ونص الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم: فلما أخبروا كأنهم تقالوها، قالوا: فأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر، ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء، ولا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ". والحديث رواه البخاري (5/9) في النكاح: باب الترغيب في النكاح، ومسلم رقم (1401) فيه: باب استحباب النكاح، والنسائي (6/60) في النكاح أيضا باب النهي عن التبتل. (3) رواه البيهقي، وساقه الحافظ قي "الفتح " (9/ 13) ، وسكت عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 الشاب حتى يتزوج "، وقال لإبراهيم بن ميسرة: تزوج أو لأقولن لك ما قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه لأبي الزوائد: "ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور" اهـ (1) وقال المرُّوذي قال أبو عبد الله - يعني أحمد بن حنبل- ليس العزوبة من أمر الإسلام في شيء، النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أربع عشرة، ومات عن تسع، ولو تزوج بشر بن الحارث لتم أمره، ولو ترك الناس النكاح لم يكن غزو ولا حج، ولا كذا ولا كذا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح وما عندهم شيء، ومات عن تسع، وكان يختار النكاح ويحث عليه، ونهى عن التبتل، فمن رغب عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم فهو على غير الحق ويعقوب في حزنه قد تزوج وَوُلِدَ له. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "حببَ إلي النساء" (2) قلت له: فإن إيراهيم بن أدهم يحكى عنه أنه قال: "لَروعة صاحب العيال "، فما قدرت أن أتم الحديث (3) ، حتى صاح بي وقال: وقعنا في بنيات الطريق، انظر- عافاك الله - ما كان عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم قال: لبكاء الصبي بين يدي أبيه يطب منه خبزا أفضل من   (1) "سير أعلام النبلاء" (5/47 – 48) . وإنما أراد أمير المؤمنين رضي الله عنه أن يثير حفيظته ليسعى إلى التزوج، إذ رأى أبا الزوائد، وقد تقدمت به السن، ولم يتزوج، وانظره في "الفتح" (9/ 13) ، و "الإحياء" (2/ 23) ، و "المحلى" (9/ 44) ، و"موسوعة فقه عمر رضي الله عنه" (643) . (2) رواه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه النسائي (7/ 61) في عشرة النساء: باب حب النساء، بلفظ: "حُببَ إلي الطيبُ، والنساء، وجعلَ قرةُ عيني في الصلاة"، وكذا رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 128، 199، 285) ، والحاكم (2/ 160) ، والبيهقي، وغيرهم، وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي وقال الحافظ العراقي، "إسناده جيد"، وقال ابن حجر: "حسن". (3) تتمته كما في "الإحياء": (أفضل من جميع ما أنا فيه) اهـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 كذا وكذا، أنى يلحق المتعبد المتعزبُ المتزوجَ؟! انتهى كلامه (1) . وعن عثمان بن خالد قال: قال شداد بن أوس: (زَوِّجوني فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني أن لا ألقى الله عزبًا" (2) . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "لو لم يبق من أجلي سوى عشرة أيام أعلم أني أموت بعدهن، ولي طَول النكاح فيهن لتزوجت مخافة الفتنة" (3) . * إن جمهور فقهاء الإسلام يقررون أن النكاح سنة مؤكدة، وقال بعض الفقهاء من السلف وغيرهم: "إنه واجب"، بناء على الأوامر الإلهية، والخطابات النبوية الكثيرة، وقد اتفقوا جميعَا على أن من خاف العنت أو الزنا على نفسه وجب عليه أن يبادر إلى النكاح ليقي نفسه من الحرام، وإن لم يستطع فعليه بالصوم يكثر منه، كما في الحديث الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه لى وجاء" (4) . وحسب شبابنا لفهم هذه الأهمية أن العلماء بينوا أن النكاح أفضل عن التفرغ للعبادة. ولو سأل سائل فقال: "إني رجل مستطيع النكاح، ولا أخاف على   (1) "روضة المحيين" لابن القيم ص (214) . (2) "تلبيس إبليس" طبعة المدني، ص (414) . (3) انظر: "الإحياء" (1/ 685) . (4) رواه البخاري (4/142) في الصوم: باب الصوم لمن خاف على نفسه العزوبة، وفي النكاح: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: من استطاع منكم الباءة فليتزوج، وباب من لم يستطع الباءة فليصم، ومسلم رقم (1400) في النكاح: باب استحباب النكاح لمن تاقت إليه نفسه، وأبو داود رقم (2046) في النكاح: باب التحريض على النكاح، والترمذي رقم (1081) ، في النكاح؟ باب ما جاء في فضل التزويج والحث عليه، والنسائي (4/ 169) في الصوم: باب فضل الصيام، (6/56، 57) في النكاح: باب الحث على النكاح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 نفسي الحرام لو لم أتزوج، وأريد أن أظل عزبا ليكفيني أقل مال وعمل لكسب معيشتي، وسأشغل وقّتي كله بالعبادات النافلة من صلاة وصوم وذكر وقرآن.. إلخ" لقال العلماء لهذا الرجل "الزواج مع أداء العبادات المفروضة والسننْ الراتبة أفضل " (1) ومن تشريعات الإسلام في هذا الباب: * الترخيص لمن لم يقدر على نكاح الحرائر أن ينكح الإماء، قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [النساء: 25] ) ، * ومنها: وجوب تعاون المسلمين على تزويج عزابهم من نساء ورجال حتى لا يبقى في القرية أو الحي عَزَبٌ تخشى فتنته، قال تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور: 32] ) ، والأيامى جمع أيم، وهو من ليس متزوجًا من ذكر أو أنثى، فالرجل أيّم، والمرأة أيّم إذا لم يكن لها زوج. قال ابن مسعود رضي الله عنه:"التمسوا الغنى في النكاح "، وتلا هذه الآية، وقال عمر رضي الله عنه: "عجبي ممن لا يطلب الغنى في النكاح، وقد قال الله تعالى: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (2) . وبين هذا المعنى قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: "حق على الله عونُ من نكح التماس العفافِ عما حَرمَ الله. (3) . وقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة حق على الله تعالى عونهم: المجاهد في سبيل الله،   (1) راجع "المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية ص (161 – 173) ، (234- 235) ، (259) (2) "الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/241) (3) رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ابن عدي وابن منيع والديلمي أفاده المناوي في الفيض (3/ 93) وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع" (3/93) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 والمكاتَب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف " (1) . وحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تيسير النكاح وتذليل عقباته، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم "خير النكاح أيسره " (2) . وقوله صلى الله عليه وسلم: "خير الصداق أيسره" (3) . * ومنها: أَمْرُ مَنْ لم يجد النكاح بالاستعفاف: قال عز وجل: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور: 33] ) . * * *   (1) رواه الترمذي رقم (1655) في فضائل الجهاد: باب ما جاء في المجاهد والناكح والمكاتب وعون الله وإياهم، وحسنه، والنسائي (6/ 61) في النكاح: باب معونة الله الناكح الذي يريد العفاف، ورواه أيضَا الإمام أحمد، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم وصححه. (2) رواه أبو داود رقم (2117) في النكاح: باب فيمن تزوج ولم يسم صداقًا حتى مات، وابن حِبان، والحاكم (2/ 182) ، وصححه، ووافقه الذهبي. (3) انظر تخريجه في "المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية" ص (180) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 وبعد فهكذا نظم الإسلام الحياة الاجتماعية للناس تنظيما دقيقا، ووضع لهم التشريعات التي تكفل سعادتهم واستقامتهم، وقد تبين لنا من هذا الباب كيف أن الشريعة الإلهية عندما تحرم شيئا فإنها لا تكتفي بتحريمه فحسب، بل إنها تنادي في الوقت ذاته بتحريم كل ما يرغب الناس في إتيانه، أو يهيئ لهم فرصه، أو ما يكرههم عليه من الأسباب والدواعي. فها هي الشريعة المطهرة عندما تحرم الجريمة تحرم معها أسبابها وذرائعها ووسائلها، حتى تستوقف المرء على مسافة بعيدة قبل أن يفضي إلى حدود الجريمة الأصلية. ولا ترتضي الشريعة المحكمة حين تحرم شيئًا من الجرائم أن تلقي في روع الناس أن العقوبة قد وجدت لمجرد التنكيل بهم، ومحاسبتهم فقط، بل تشعرهم بأنها ناصحة لهم، ومصْلِحَة لمفاسدهم، ومُذَلِّلَةٌ لمشاكلهم، فتستخدم كل ما يؤثر فيهم من التدابير الوقائية الممكنة، وكذا الإجراءات العلاجية التي توصد باب الفتنة، وتعين على اجتناب الموبقات. وقد بان لك موقع الحجاب الشرعي من هذه الإجراءات، وكيف أن فرضيته تتواءم مع مقاصد الشريعة التي منها: المحافظة على النسل والعرض. * * * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 الباب الثاني الفصل الأول: معنى الحجاب ودرجاته الفصل الثاني: تاريخ الحجاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 الفصل الأول: معنى الحجاب ودرجاته * معنى الحجاب: أولًا- في اللغة (1) : الحَجْب والحِجاب: المنع من الوصول، يقال: حَجَبَهُ أي: مَنَعَه حَجْبًا وحجابًا، ومنه قيل للستر الذي يحول بين شيئين: حجاب؛ لأنه يمنع الرؤية بينهما، وسمي حجاب المرأة حجابا؟ لأنه يمنع المشاهدة، وقيل للبواب: حاجب؛ لأنه يمنع من الدخول عليه إلا بإذنه خشية الأذى يصيبه، وفي الحديث: "قال بنو قصي: فينا الحجابة" يعنون حجابة الكعبة، وهي سدانتها، وتولي حفظها، أو هم الذين بأيديهم مفاتيحها، وكل شيء منع شيئًا فقد حجبه كما تحجب الإخوة الأمَّ عن فريضتها، فإنهم يحجبون الأم عن الثلُثِ إلى السُّدُسِ. والحاجبان من الرأس لكونهما كالحاجبين للعينين في الذَبِّ عنهما، واحتجب الملِكُ عن الناس، وتحجَّب: إذا اكتن من وراء حجاب، ومادة الحجاب وردت في ثمانية مواضع من القرآن الكريم، ومعناها فيها جميعا يدور بين الستر والمنع: ومنه قوله تعالى: (حَتَى تَوَارَتْ بِاَلحجَابِ) [ص: 32] ، أي: احتجبت، وتوارت بالجبل أو الأفق، ومنه قوله عز وجل: (وَبَيْنَهُمَا جِجَابٌ)   (1) انظر "المصباح المنير" ص (131) ، "لسان العرب" (1/ 289) ، "تاج اللغة" (1/ 41) ، "إصلاح الوجوه والنظائر" ص (117) ، "المفردات " للراغب الأصبهاني ص (155) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 [الأعراف: 46] ، أي: سور، ومنه قوله تعالى: (وَمَا كاَنَ لِبَشَرٍ أن يُكَلِّمَهُ الله إلا وحيا أَؤ مِن وَرَاء جِجَاب) [الشورى: 51] ، أي من حيث لا يراه، وكذا في قوله سبحانه: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) [المطففين: 15] ) ، أي: مستورون، فلا يَرَوْنَهُ. ولم يذكر لفظ الحجاب في موضوع بحثنا- وهو ستر النساء عن الرجال- إلا في موضعين، أحدهما: قوله عز وجل: (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا [مريم: 17] ) ، وثانيهما في قوله جل وعلا: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب: 53] ) ، أي: ساتر يحول بينكم وبين رؤيتهن. ومن استعمال الحجاب في المعاني قولهم: العجز حجاب بين الإنسان ومراده، والمعصية حجاب بين العبد وربه، وجمع حجاب حجُب، مثل كتاب كتب. ثانياَ - في الشرع: وردت عدة تعريفات شرعية للحجاب، يدور أغلبها حول جانب معين منه، غير جامع لكل أركانه ومقوماته، مثل قول بعضهم: (هو ساتر يستر الجسم فلا يشف، ولا يصف) (1) . وقول البعض الآخر: (هو حجب المرأة المسلمة من غير القواعد من النساء عن أنظار الرجال غير المحارم لها) (2) . والذي يساعد على وضع تعريف جامع للحجاب هو معرفة الغرض منه، وكما أسلفنا القول فإن الحجاب أحد التدابير الوقائية التيَ شرعت من أجل منع وقوع الفتنة بين الرجال والنساء من جهة الشهوة.   (1) " إعداد المرأة المسلمة" ص (106) . (2) فصل الخطاب " للشيخ أبي بكر الجزائري ص (26) ، وقال حفظه الله: (بعض العوام يطلقون لفظ "الحجاب" على الحرز يكتب للمنع من العين أو الجان، وهو ادعاء باطل، وعمل لا يجوز) اهـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 ْإذن فالحجاب لفظ ينتظم جملة من الأحكام الشرعية الاجتماعية المتعلقة بوضع المرأة في المجتمع الإسلامي من حيث علاقتها بمن لا يحل لها أن تظهر زينتها أمامهم. وقد بَيَّنا جملة صالحة من هذه الأحكام في الفصل السابق بحيث نستطيع الآن أن ندرك موقع الحجاب بالنسبة لمقاصد الشريعة العليا خاصة ما يتعلق بحفظ العرض. * معنى السفور (1) : يقال: سفرت الريحُ الغيمَ عن وجه السماء سَفْرًا، فانسفر، فرَّقته فتفرق، وسُمىَ السفَرُ سَفَرًا لأنه يُسفِرُ عن وجوه المسافرين وأخلاقهم، فيظهر ما كان خافيًا منها. . . وإذا ألقت المرأة نقابها قيل: سفرت فهي سافرٌ بغير هاء، قال أبو منصور: وسفرت المرأة وجهها إذا كشفت النقاب عن وجهها، تَسْفِرُ سُفورًا فهي سافرة. وبهذا يعرف أن السفور لغة هو كشف الوجه، وقد خرج السفور اليوم عن معناه في أصل اللغة، وتحول إلى التبرج الفاحش والاختلاط المزري بالأجانب. من صور الحجاب: للحجاب صور متعددة يمكن أن تحتجب بها المرأة عن الأجنبي، فقد يكون الحائط مثلًا، أو الستارة السميكة، أو الباب حجابَا بينهما، وقد تغطي المرأة وجهها: * بالنقاب: وهو القناع الذي تضعه المرأة على مارن أنفها بحيث يُظْهِرُ   (1) "لسان العرب" (6/ 33- 37) باختصار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 عينيها ومحاجرهما (1) ، وهو ما يسمى باللفام، فإن كان لا يظهر منه إلا عيناها فقط سمي برقعا أو سمي بالوصوصة. وسمي النقاب نقابا لوجود نقبين في مواجهة العينين لمعرفة الطريق، قال الشاعر وهو يصور النقاب، وقد صنع من وجه المرأة هلالا به العينان؟ سفرن بدورًا وانتقبن أهلة * أو بالخمار، ويسمى أيضا: النَّصِيف، وهو ثوب تتجلل به المرأة فوق ثيابها كُلِّها، وير نصيفًا؟ لأنه نَصَف بين الناس وبينها فحجز أبصارهم عنها، وقيل: نصيف المرأة معجرها، والمعجر: ثوب تلفه المرأة فوق رأسها، ثم تتجلبب فوقه بجلبابها، والاعتجار: أن يلف المعجر على الرأس، ويرد طرفه على الوجه، وقال ابن حجر في تعريف الخمر: ومنه خمار المرأة؟ لأنه يستر وجهها) اهـ (2) . درجات الحجاب للحجاب الشرعي المأمور به ثلاث درجات بعضها فوق بعض في الاحتجاب والاستتار، دل عليها الكتابُ والسنة: الأولى: حجاب الأشخاص في البيوت بالجدر والخدر، وأمثالها، بحيث لا يرى الرجال شيئا من أشخاصهن ولا لباسهن ولا زينتهن الظاهرة ولا الباطنة ولا شيئا من جسدهن من الوجه والكفين وسائر البدن، وقد أمر   (1) محجر العين: هو ما دار بالعين من العظم الذي هو أسفل الجفن، وهو يظهر من نقاب المرأة، فكل ما بدا من النقاب محجر. "لسان العرب " (2/295) (2) وبهذا يعلم أن الحجاب والنقاب ليسا شيئين مختلفين، بل الأول أعم من الثاني، وبهذا أيضا يتبين خطأ السؤال الشائع في هذا الزمان متعلقا بحكم كشف الوجه، وهو: أيهما الفرض الواجب: الحجاب أم النقاب، ويعنون بالحجاب كشف الوجه، فالأصح أن يقال: الحجاب أم السفور، أو: النقاب أم السفور؟ والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 الله عز وجل بهذه الدرجة (1) من الحجاب فقال (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب: 53] ) وِقال سبحانه وتعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب: 33] ) ،. ويرشح هذه الدرجة أحاديث تحبب إلى المرأة القرار في البيت، وعدمَ الخروج حتى إلى صلاة الجماعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قرارها في بيتها أرجى لها في الأجر عند الله تعالى. الثانية: خروجهن من البيوت مستورات، ومن أدلتها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) الآية [الأحزاب: 59] ،. الثالثة: خروجهن مستورات الأبدان من الرأس إلى القدم، مع كشف الوجه واليدين عند أمن الفتنة عند بعض الأئمة (2) . واتفق جمهور علماء المذاهب في هذا الزمان على وجوب تغطية الوجه والكفين من المرأة سدُّا لذرائع الفساد، وعوارض الفتن، فلم يبق يشرع إلا الدرجتان الأولى والثانية. * * *   (1) انظر "جواهر القرآن " لمفتي عموم باكستان العلامة محمد شفيع، و "أحكام الحجاب في القرآن " للشيخ المفسر الأستاذ أمين أحسن الإصلاحي. (2) ويعد بعض العلماء الدرجة الثالثة من الحجاب هي "الحجاب الداخلي " الذي يحدد ما تظهره المرأة داخل البيت لمن يدخل عليها- بعد الاستئناس والاستئذان بشروطه وآدابه- من المحارم وغيرهم الذين ورد استثناؤهم في سورة النور، وانظر "أحكام الحجاب في القرآن" ص (9- 20) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 الفصل الثاني تاريخ الحجاب تعتبر قضية "الحجاب" جزءا من مقومات المرأة، مرتبطًا بأوائل وجودها، إذ كانت بدايته مع الأبوين في الجنة حيث أسكنهما الله تعالى، يأكلان منها حيث شاءا إلا شجرة واحدة فوسوس لهما الشيطان حتى أكلا منها، قال تعالى: (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) [الأعراف: 22] ، ثم أهْبِطا إلى الأرض، وبدءا حياة جديدة، فأنزل الله عليهما اللباس مرة أخرى. كما قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف: 26] ) ،. وقد حذر الله عز وجل بني آدم من فتنة الشيطان في موضوع هذا اللباس خصوصًا حتى لا يعيد معهم الكرَّة، فقال جل وعلا: (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) [الأعراف: 27] ،. فماذا عن التطورات التاريخية لحجاب المرأة عند الأمم المختلفة، ونخص منها أهل الكتاب وعرب الجاهلية؟ الحجاب عند أهل الكتاب من الأوهام الشائعة خاصة عند الغربيين أن حجاب النساء نظام ابتدعه الإسلام، وأنه لم يكن له وجود قبل الإسلام لا في جزيرة العرب، ولا في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 غيرها، وكادت المرأة المحجبة عندهم أن تكون مرادفة للمرأة المسلمة، أو المرأة التركية (1) التي كانت تمثل الإسلام في نظرهم من خلال "تركيا" دار الخلافة، وهذا الوهم مما يبين مدى جهلهم لا بحقائق الإسلام نفسه فحسب، بل أيضا بحقائق التاريخ، ونصوص كتبهم الدينية التي يتداولونها، ويتعصبون لها، ولا يكلفون أنفسهم عناء قراءتها ومراجعتها، ونخص بالذكر التوراة، والإنجيل. فمن يقرأ كتبهم يعلم بغير عناء كبير في البحث أن حجاب المرأة كان معروفا بين العبرانيين، من عهد إبراهيم عليه السلام، وظل معروفًا بينهم في أيام أنبيائهم جميعا، إلى ما بعد ظهور النصرانية (2) . وقد تكررت الإشارة إلى البرقع في غير كتاب من كتب العهدين القديم والجديد (3) : ففي الأصحاح الرابع والعشرين من "سفر التكوين" عن   (1) اشتهر الحجاب في تركيا لا لأنه "تقليد" تركي كما يزعم المغالطون أو الواهمون، وإنما كمظهر من مظاهر تمسك التركيات بالإسلام، فالحجاب في تركيا كان إسلاميّا فحسب، والترك لم يعرفوه إلا من خلال إسلامهم؟ لأنهم أخذوه عن الشعوب التي تعلموا منها الإسلام، الذي يفرض على المرأة الحجاب، ومن ثم كان الحجاب- بصورة من الصور- أصلا مرعيُّا في العالم الإسلامي كله- وليس في تركيا وحدها- خلال قرون متطاولة من الزمان. انظر: "واقعنا المعاصر للأستاذ "محمد قطب " ص (157) . وليس العجب من ترويج الكتاب الغربيين لهذه الفِرية أمثال أرنولد توينبي" صاحب كتاب "مدخل تاريخي للدين"، وذلك لأن هؤلاء الغربيين جميعا كانت، لهم مهمة معروفة عندما كتبوا هذا في حق الأتراك، ولكن العجب من أناس يدعون العلم والمعرفة وهم مقلدة لهؤلاء الغربيين حتى في أكاذيبهم الصارخة مثل دعواهم أن الحجاب بدعة تركية (!) . (2) وهنا نسأل: هل يحتمل عند "توينبي" وأذنابه أن يكون الأتراك هم الذين كتبوا لليهود والنصارى كتابهم المقدس عندهم؟ (3) أنظر: "المرأة في القرآن" لعباس محمود العقاد، الفصل السادس ص (87) ، وما بعدها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 "رفقة" أنها رفعت عينيها، فرأت إسحاق، فنزلت عن الجمل، وقالت للعبد: "من هذا الرجل الماشي في الحقل للقائي "، فقال العبد: "هو سيدي "، فأخذت البرقع، وتغطت. وفي الأصحاح الثامن والثلاثين من "سفر التكوين " أيضًا: أن ثامار مضت، وقعدت في بيت أبيها، ولما طال الزمن، خلعت عنها ثياب ترمُّلِها، وتغطت ببرقع، وتلففت. وفي النشيد الخامس من أناشيد سليمان تقول المرأة أخبرني يا من تحبه نفسى أين ترعى عند الظهيرة؟ ولماذا أكون كمقنعة عند قطعان أصحابك؟. وفي الأصحاح الثالث من "سِفر أشْعِيا": إن الله سيعاقب بنات صِهْيْونَ على تبرجهن والمباهات برنين خلاخيلهن بأن ينزع عنهن زينة الخلاخيل والضفائر والأهِلَّة والحِلَق والأساور والبراقع والعصائب (1) . ويقول "بُولس" في رسالته "كورنثوس " الأولى: (إن النقاب شرف للمرأة) ، وكانت المرأة عندهم تضع البرقع على وجهها حين تلتقي بالغرباء، وتخلعه حين تتروي في الدار بلباس الحداد. وكانت الكنيسة في القرون الوسطى تخصص جانبا منها للنساء حتى لا يختلطن بالرجال. قال الكونت "هنري دي كاستري": ربما كان الإنجيل أكثر تدقيقًا في التشديد- يعني في الحجاب- ولكنه لا يعمل به إلا قوم خصَّهم الله بمواهب الكمال، اهـ من كتاب "الإسلام خواطر وسوانح " اهـ (2) .   (1) ولعل من مظاهر هذه العقوبة منعهن من المساجد لما أحدثن الزينة كما في حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم ص (22) . (2) "المرأة العصرية وصفاتها المنافية للإسلام " للشيخ محمد الزمزمي الغماري ص (8) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 (وفي يوم من الأيام حكمت الكنيسة الأرثوذوكسية بحرمان المرأة حقها في المجتمع، فحظرت عليها حضور المآدب والحفلات، وألزمتها الحجاب صامتة صابرة،، لا شأن لها إلا الطاعة للزوج، والقيام بالغزل والنسيج، وطهي الطعام، وإذا خرجت من بيتها خرجت مستورة الجسم من قمة رأسها إلى أخمص قدمها) (1) . ولعله لهذا بقيت آثار البرقع والحجاب عند أهل الكتاب حتى يومنا هذا، وذلك واضح في زي راهبات النصارى، ودخول النصرانيات الكنيسة، وقد غطين رؤوسهن بساتر، بل هن حتى اليوم في حفلات أعراسهن يغطين وجوههن بنقاب شفاف فلعله من بقايا دينهم. الحجاب عند عرب الجاهلية نبين في هذا الفصل- إن شاء الله- أن العرب عرفوا في جاهليتهم حجاب القرار في البيت، وئقاب الوجه، ولعل هذا من بقايا الحنيفية السمحة التي تلقاها عرب الجاهلية عن ملة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، كما تلقوا منها الختان والعقيقة وغيرهما، كما عرفوا سفور الوجه الذي كان أغلب حالات فتيات العرب، وعرفوا هيئات مختلفة من التبرج الذي وصفه الله عز وجل بأنه "تيرج الجاهلية الأولى"، وذلك في قوله تعالى: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) [الأحزاب: 33] ؛ فقد كانت المرأة تلبس درعًا من اللؤلؤ، فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال (2) . وفي أقصى الطرف الآخر كان هناك طائفة من العرب عرفوا التكشف الفاضح حيث كانوا يطوفون بالبيت عراة، ويُسَوِّغون ذلك بقولهم: "لا   (1) "حقوق المرأة في الإسلام" - من رسائل الجزائري ص (7) (2) (2) "تفسير غرائب القرآن " للنيسابوري (22/ 10) - حاشية الطبرى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 نطوف في ثياب عصينا الله فيها" (1) !، بل افتروا على الله الكذب حيث قالوا في تسويغ تلك الفاحشة: (وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) [الأعراف: 28] ،. وفي "صحيح مسلم"، (2) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة، فتقول: من يعيرني تطوافًا؟ تجعله على فرجها وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله ... فما بدا منه فلا أحله فنزلت هذه الآية: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (3) الآية [الأعراف: 31] ،. وكان من لباس نساء الجاهلية المهلهل والهفاف، وهما دقيقا الخيط، رقيقا النسيج، أما ما كَثُف حَوْكُه، وضوعفت حواشيه فيدعى بالصفيق والشبيع والحصيف.. ومن لباسها الدثار، وهو جلباب شامل، والنطاق وهو ثوب تشده المرأهْ إلى وسطها، وترخي نصفه الأعلى على نصفه الأسفل (4) . وقد سجلت لنا آثارهم الأدبية وأشعارهم على وجه الخصوص الحالة الاجتماعية للمرأة الجاهلية، وهذا ما نفصِّله فيما يلي إن شاء الله. أولا: حجاب الجدر عرف العرب حجاب الجدر، وهو قرار المرأة في بيتها،- فمن ذلك قول   (1) انظر "تفسير القرآن العظيم " لابن كثير (3/398) ط. دار الشعب. (2) "صحيح مسلم بشرح النووي" (18/ 162) . (3) وهذه الضلالة الجاهلية المشار إليها أبطلها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع حين أذن مؤذنه في الناس يوم النحر بمنى: "ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان " رواه البخاري وغيره. (4) "المرأة العربية في جاهليتها وإسلامها" (1/ 110- 111) بتصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 بعضهم: ما كان أغناني عن حُب مَن ... مِن دونه الأستار والحجبُ ومنه أيضًا قول امرئ القيس: وَبَيْضَةِ خِدر لا يُرَام خِباؤها ... تَمَتَّعْتُ! مِنْ لَهْوٍ بها غَيْر مُعْجلٍ يقول: وَرُبَّ امرأة كالبيض في سلامتها أو في الصون والستر أو في صفاء اللون ونقائه ملازمة خِدرَها غير خَرَّاجةٍ وَلا ولاجَة انتفعت باللهو فيها على تمكث وتلبث لم أعجل عنها، ولم أشغل عنها بغيرها (1) . وامتدح العرب المرأة التي تقر في بيتها، ولا تخرج منه، فقال بعضهم في ذلك: من كان حربًا للنسا ... ءِ فإنني سلم لهنه فإذا عثرن دعونني ... وإذا عثرت دعوتهنه وإذا برزن لمحفل ... فقصارهن ملاحهنه فقوله: قصارهن يعني المقصورات منهم في بيوتهن اللاتي لا يخرجن منها إلا نادرًا، كما أوضح ذلك كثير عزة في قوله: وأنتِ التي حببتِ كل قصيرة ... إليَّ وما تدري بذاك القصائر عنيت قصيرات الحَجال ولم أرد ... قصار الخطا شر النساء البحاتر والحجال جمع حجلة، وهي البيت الذي يزين للعروس، فمعنى قصيرات الحجال: المقصورات في حجالهن، البحاتر: جمع بُحْتُر وهو القصير المجتمع الخَلْق. وذكر بعضهم أن رجلًا سمع آخر قال: لقد أجاد الأعشى في قوله: غراءُ فرعاء مصقول عوارضها ... تمشي الهوينا كما يمشى الوَجِي الوَحِلُ (2)   (1) شرح المعلقات السبع للزوزني ص (15) (2) الوَجِي: من يشتكي ألما في قدمه، والوَحِلْ الذي يتوحل في الطين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 كان مشيتها من بيت جارتها ... مر السحابة لا ريث ولا عجلُ ليست كمن يكره الجيران طلعتها ... ولا تراها لسر الجار تختتل فقال له: قاتلك الله، تستحسن غير الحسن، هذه الموصوفة خرَّاجة وَلاجة، والخراجة الولاجة لا خير فيها، ولا ملاحة لها، فهلا قال كما قال أبو قيس بن الأسلت: وتكسل عن جاراتها فيزرنها ... وتعتل من إتيانهن فَتُعْذَرُ (1) ومن امتداح العرب المرأة القارَّة فِى بيتها قول امرئ القيس: ويضحى فتيتُ المسكِ فوق فراشها ... نؤومَ الضُّحى لم تنتطِقْ عن تَفَضُّلِ (2) فهو يذكر ترف هذه المرأة، وأن لها من يكفيها، فقال "نؤوم الضحى" أي أنها تنام إلى وقت الضحى، وأن فتيت المسك - وهو ما تفتت من المسك عن جلدها فوق الفراش- يبقى إلى الضحى، وهي لا تنتطق أي لا تلبس النطاق في وسطها لِتَخْدُمَ، ولكنها في بيتها متفضلة. بل كان من الجاهليات من توصف بأنها غاية في التستر والانجماع عن الأجانب، ولزوم الأخلاق الفاضلة، ألم تسمع قول الشَّنْفَرى يمتدح زوجته أميمة: لقد أعجبتني لا سَقُوطًا قِناعُهاِ ... إذا ما مشت، ولا بذات تَلَفّتِ (3)   (1) "أضواء البيان " (7/687- 688) . (2) انظر "شرح المعلقات " للزوزني ص (23) . (3) يقول: إنها عفيفة ستيرة رزينة في مِشيتها، لا تتعمد إسقاط نقابها أمام الأجانب لاحتشامها، وحيائها، ولا تكثر من التلفت كما تفعل ذوات الريبة من النساء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 تبيتُ بُعَيْد النوم تُهدى غَبُوقَها ... لجاراتها إذا الهديةُ قَلَّتِ (1) تُحِل بمنجاةٍ من اللؤم بيتَها ... إذا ما بُيوت بِالمَذَمَّةِ حُلَّتِ (2) كأنَّ لها في الأرض نِسْبًا تَقُصُهُ ... على أُمِّها، وإن تكَلّمكَ تَبْلِتِ (3) أمَيْمَةُ لا يُخزي نَثَاها حليلَها ... إذا ذُكرَ النسوانُ عَفَّتْ وَجَلَّتِ (4) إذا هو أمسى آبَ قرَّة عينِه ... مآبَ السعيدِ، لم يَسَلْ: أين ظَلَّتِ (5) ثانيا: حجاب البدن والوجه أما حجاب الوجه فقد كان معروفًا عندهم أيضا: فمما يذكر في كتب التاريخ والأدب (أن النابغة أحد فحول الشعر لجاهلي (6) قد مرت به امرأة النعمان المسماة بالمتجردة في مجلس، فسقط   (1) وهي كريمة سخية تجود بالهدية على جاراتها في وقت يعز فيه الإهداء. (2) وهي حريصة على سمعتها، وسمعة بيتها، فهي تصونه عن كل ما يُخِل، فالذمُّ لا يلحقها. (3) وهى من شدة حيائها إذا مشت تُطْرِقُ بصرها في الأرض، ولا ترفعه، حتى يظن من رآها أنها تبحث عن شيء ضاع منها، فهي تتبع أثره، وإن كَلَّمت غريبًا، فإنها تكلمه بما تحتاج، ولا تطيل حديثها معه. (4) لذا فإذا ذكرت أفعالها وأخبارها، لم تَسُوْ حليلها لحسن مذهبها وعفتها. (5) وإذا عاد زوجها آخر النهار وجد ما يَسُرُّه منها، ولم يحتج إلى سؤالها: أين كانت؟ لأنها لا تبرح بيتها. وانظر "المفضليات" بشرح التبريزي (1/ 515- 518) (6) النابغة: زياد بن معاوية بن ضباب الذبياني، شاعر جاهلي من الحجاز، كان عند النعمان بن المنذر- من ملوك الحيرة- وقد شبب بامرأته بهذا البيت المشهور به = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 نَصِيفها- أي برقعها- الذي كانت قد تقنعت به، فسترت وجهها بذراعيها، وانحنت على الأرض ترفع النصيف بيدها الأخرى، فطلب النعمان من النابغة أن يصف هذه الحادثة في قصيدة، فعمل القصيدة التي مطلعها: أمن أل مية رائح أو مغتدي ... عجلان ذا زاد وغير مزود إلى أن قال: سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ ... فَتَنَاوَلَتْهُ، وَاتَقَتْنَا بِالْيَدِ) (1) ومما يدل على أنهم عرفوا البرقع قول أحدهم: إن لم أقاتل فألبسوني برقعًا ... وفتخات في اليدين أربعا وفي قصيدته التي مطلعها: أفاطِمُ قَبل بَيْنِكِ وَدّعيني ... ومنعَك ما سألتُك أنْ تبيني قال محصن بن ثعلبة الشاعر الجاهلي الملقب ب "المثقب العبدي": وثقبن الوصاوص بالعيون والوصاوص: البراقع. وكانت بعض نساء العرب لا يسفرن عن وجوههن إلا لخطب عظيم يلم بهن، ولهذا قال رؤبة الحميري عاشق "ليلى الأخيلية" من قصيدة يمدحها بها، ويثني عليها بالتبرقع غالبا، مع جمالها، ويشير فيها إلى أن إسفارها عن وجهها تارة رابه إذ لعله لخطب ألمَّ بها: وكنت إذا ما زرت ليلى تبرقعت ... وقد رابني منها الغداةَ سفورها (2) وقال ربيع بن زياد العبسي يرثي مالك بن زهير: من كان مسرورًا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهارِ   = من قصيدة له، فأراد النعمان قتله، فهرب إلى الغسانيين بالشام، ثم رجع إلى النعمان "الأعلام " للزركلي ص (54) ، (1) نقلًا من "الإسلام وتيارات الجاهلية" لآدم عبد الله الألوري ص (151-152) . (2) "زاد المسلم بحاشية فتح المنعم " (1/383) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 تجد النساء حواسرًا يندبنه ... يلطمن أوجههن بالأسحار فد كن يخبأن الوجوه تسترًا ... فاليوم حين برزن لِلنظار (1) وكانت المرأة في حالة الحرب، إذا اشتملت عليها الوقائع، أو دارت على فريقها الدوائر، وارتقبت من وراء ذلك ذل السباء وعار الإسار، تظهر سافرة حاسرة حتى تلتبس بالإماء، وفي هذا الموطن يقول مُهَلْهِلُ بن ربيعة: قربا مربط المشهر مني ... سوف تبدو لنا ذواتُ الحجال (2) وقال سبرة بن عمر الفقعسى يْعَيِّرُ أعداءه بكشف وجوه نسائهم في الحرب: ونسوتكم في الرَّوْعِ بادٍ وجوهُها ... يُخَلْنَ إماءً، والإماء حرائر وهو صريح فيْ أنْ ستر الوجوه وكشفها كان هو الفارق بين الحرائر والإماء. وقالي عمرو بن معد يكرب يحكي احتدام حرب من حروبه التي كانت قبل الإسلام: وبدت لميس كأنها ... بدر السماء إذا تبدى أي إنها! التجأت لشدة الحرب، وشغلها بالجليل من الأمر إلى كشف وجهها، فظهرت كالبدر، ومعناه أنها كانت تحتجب في عامة أحوالها. (وهذه حرت الفجار تنشب بين قريش وهوازن بسبب تعرض شباب من كنانة لامرأة من غمار الناس، راودوها على كشف وجهها، فنادت: "يا آل عامر" فلبتها سيوف بني عامر) (3) . وكان بين نساء الجاهلية من تستر وجهها لِكَلَف أصابه، وفي نحو ذلك ما نقل أبو زيد في نوادره عن أعرابي قيل له:   (1) "المرأة العربية" (1/107) . (2) المشهر: فرس مهلهل والحجال- جمع حجلة- ستور العروس (3) المرأة العربية (1/ 28) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 "ما تقول في نساء بني فلان؟ " فقال: "بَرْقِعْ وانظر"، يريد بذلك أن عيونهن خير ما فيهن. وشبيه ذلك ما حَدَّثَ الراغب (أن أسديًّا قبيح الوجه خطب امرأة قبيحة، فقيل لها: إنه قبيح وقد تعمَّم لك، فقالت: إن كان تَعَمَّم لنا، فإنا قد تبرقعنا له) (1) . وهذا أعرابي تضايقه البراقع لأنها تحول بينه وبين الحسان، وتخدعه في غير الحسان، فيقول: جؤى الله البراقع من ثياب ... عن الفتيان شرًا ما بقينا يوارين الحِسانَ فلا نراها ... ويسترن القباح فتزدهينا (2) ثالثا: سفور الوجه وبين أيدينا أمثلة سائرة مما أرسله العرب تنبئنا أن كشف القناع كان أغلب حالات فتيات العرب (3) وأمثلها بهن، فمن ذلك قولهم: "تَرَكَ الخِداعَ مَن كَشَفَ القِناع "، يريدون أن الفتاة لا تستر وجهها إلا لشر تؤثر أن تستره، وقولهم فيمن لا يستر عيبه: "كذات الشيب ليس لها خمار"، فهم لا يرون الخِمار لزامًا إلا لذات الشيب، فإن خليقا بها أن تواريه (4) . ولم يكن لحجاب الانتقاب بين نساء العرب نظام شامل، ولا هيئة   (1) "المرأة العربية" (1/ 104- 105) . (2) "فتح المنعم حاشية زاد المسلم" (1/383) . (3) ومن ثَمَ قال العلامة محمد بن جزي الكلبي رحمه الله: كان نساء العرب يكشفن وجوههن كما تفعل الإماء. اهـ من "التسهيل" (3/ 144) . وقال العلامة أبو حيان رحمه الله: كان دأب الجاهلية أن تخرج المرأة الحرة والأمة مكشوفتي الوجه في درع وخمار) ، وقال أيضَا: الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه. اهـ من "البحر المحيط " (7/ 250) . (4) "المرأة العربية" (1/ 105) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 واحدة، ففي القبيلة الواحدة ترى "الْبَرْزَةَ" وهي التي تجلس إلى الرجال، وتجاذبهم الحديث سافرة غير محجوبة، و"المحتشمة" كما قدمنا، وهي التي ترخي قناعها إذا خرجت من بيتها، فلا تطرحه حتى تعود. قال الفراء: "كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها، وتكشف ما قُدَّامَها فأُمِرن بالاستتار" اهـ (1) . ومنهن "سقوط القناع " وهي التي لا تكاد تنتقب ثقة بنفسها، وإدلالَا بحسنها، أو سيرًا على سجيتها. وفي مثلها يقول المسيِّب بن علس: إذا تستبيك بأصلتيّ ناعم ... قامت لتفننه بغير قناع تستبيك: تغلبك على نفسك حتى تكون سبيًا لها، والأصلتي: الخد الحسن. وقال المرقش الأصغر: أرتك بذات الضال منهما معاصما ... وخدّا أسيلًا كالوذيلة ناعما ذات الضال: موضع، والوذيلة: المرأة، ومعنى ذلك أنها لم تتحرج بما يخفى معاصمها، أو يحجب وجهها. وإلى هذه يشير عمر بن أبي ربيعة في قوله: فلما توافقنا وسلمت أقبلت ... وجوهٌ زهاها الحسن أن تتقنَّعا زهاها الحسن: استخفها، يقول: إن هذه الوجوه استخفها الحُسن عن أن تتقنَّع. وقال الأصمعي: وقد تُلْقي المرأةُ خِمارَها لحسنها وهي على عفة، وأنشد في ذلك قول أبي النجم في إحدى أراجيزه: مِن كُلَ غراء سَقْوطِ البرقع ... بَلْهَاءَ لم تَحْفَظْ ولم تُضَيِّع   (1) نقله عنه الحافظ في "الفتح " (8/347) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 غراء: من الغُرَّةَ وهي بياض الوجه، والبلهاء الغافلة عن الشر، الحسنهَ الظن بالناس (1) . وكان من شيمة نساء العرب تطويلُ الثياب، وجَرُّ الذيول كما اشتهر في أشعار أهل الجاهلية منهم كامرئ القيس الذي قال في معلقته: خرجتُ بها تمشي تَجُرُّ وراءنا ... على أثَرَيْنا ذَيلَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ والمرط الكساء من صوف أو خز أو غيرهما، والمرَحل - بالحاء المهملة - المنقوش بنقوش تشبه رحال الإبل. وكذلك اشتهر في أشعار العرب بعد الإسلام، قال عمر بن أبي ربيعة المخزومي الشاعر المفلق المتهالك قي مدح النساء: كتِبَ القتلُ والقِتالُ علينا ... وعلى الغانياتِ جَزُ الذّيُولِ (3) * * *   (1) "المرأة العربية" (1/ 103- 104) بتصرف. (2) "زاد المسلم بحاشية فتح المنعم " (1/383) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 94 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 الباب الثالث الفصل الأول: فضائل الحجاب الفصل الثاني: مثالب التبرج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 96 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 الفصل الأول: فضائل الحجاب أولًا: الحجاب طاعة لله عز وجل وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أوجب الله تعالى طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) [الأحزاب: 36، 37] ) وقال عز وجل: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) [النساء: 65] ) وقد أمر الله سبحانه وتعالى النساء بالحجاب فقال عز وجل: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور: 31] ) ،. وقال سبحانه: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب: 33] ) ، وقال تبارك وتعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب: 53] ) ، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ [الأحزاب: 59] ) ،. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة" (1) يعني أنه يجب سترها.   (1) تقدم تخريجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أختٍ له نذرت أن تحج حافية غير مختمرة، فقال: "مروها فلتختمر، ولتركب، ولتصم ثلاثة أيام " (1) . قال الخطابي رحمه الله: أما أمره إياها بالاختمار، فلأن النذر لم ينعقد فيه؛ لأن ذلك معصية، والنساء مأمورات بالاختمار والاستتار. اهـ (2) . ثانيَا: الحجاب إيمان والله سبحانه وتعالى لم يخاطب بالحجاب إلا المؤمنات، فقد قال سبحانه: (وَقُل لِلِمُؤمِنَاتِ) وقال عز وجل: (وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ) . ودخل نسوة من بني تميم على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، عليهن ثياب رقاق، فقالت: إن كنتن مؤمنات، فليس هذا بلباس المؤمنات، وإن كنتن غير مؤمنات، فتمتعن به" (3) ، وأدْخِلت امرأة عروس عليها رضي الله عنها، وعليها خِمار قبطي معصفر، فقالت أم المؤمنين رضي الله عنها: " لم تؤمن بسورة النور امرأة تلبس هذا" (3) . ثالثا: الحجاب طهارة بَيَّن الله سبحانه الحكمة من تشريع الحجاب، وأجملها قي قوله تعالى: ((وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب: 53] )) ، فنص سبحانه على أن الحجاب طهارة لقلوب المؤمنين والمؤمنات.   (1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/145) ، سنن أبي داود (3/ 233) رقم (3293) ، سنن ابن ماجه (1/ 654) ، سنن الترمذي (4/116) ، وحسنه، سنن النسائي (7/20) ، وضعفه الألباني في إرواء الغليل " (8/218) رقم (2592) . (2) "معالم السنن" (4/ 376) . (3) "تفسير القرطبي" (14/ 244) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 وبيان ذلك أنه إذا لم تر العين لم يشته القلب، أما إذا رأت العين فقد يشتهي القلب، وقد لا يشتهي، فالقلب عند عدم الرؤية أطهر، وعدم الفتنة حينئذ أظهر؛ لأن الرؤية سبب التعلق والفتنة، فكان الحجاب أطهر للقلب، وأنفى للريبة، وأبعد للتهمة، وأقوى في الحماية والعصمة " رابعا: الحجاب عفة رغَب الإسلام في التعفف (1) ، وعظَّم شأنه، وكان صلى الله عليه وسلم يأمر به، وَيَحُثُّ عليه، ففي الحديث أن هرقل سأل أبا سفيان: ماذا يأمركم؟ - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - ففال: قلت: يقول "اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة" (2) . وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: "أسألك الهدى والتقى والعفة" (3) ، وفي لفظ آخر: "إني أسألك الهدى والتقى والعفاف " (4) الحديث. والعفة صفة من صفات الحور العين التي أشار إليها قوله تعالى: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) [الرحمن: 72] ) ، وقوله عز وجل: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) [ص: 52] ) ، وقوله جل وعلا: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) [الصافات: 48] ) فقوله جل وعلا: (قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ) يعني: أنهن عفيفات لا ينظرن إلى   (1) العفة: حصول حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة، والمتعفف: المتعاطي لذلك بضرب من الممارسة والقهر، انظر: "المفردات " للراغب (ص 507) . (2) جزء من حديث طويل رواه البخاري (1/43) في كتاب بدء الوحي وغيره، ومسلم في كتاب الجهاد، والإمام أحمد (1/ 262- 263) . (3) رواه الإمام أحمد (1/ 389، 434، 443) . (4) رواه مسلم في كتاب الذكر، والترمذي في الدعوات، وابن ماجه في الدعاء، والإمام أحمد (1/411، 416، 437) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 غير أزواجهن، (عِينٌ) أي: حسان الأعين، جميلات المظهر، عفيفات تقيات نقيات. فقد جعل سبحانه عفتهن قرينة حجابهن وقرارهن في خيامهن، وامتدحهن بالعفة مع الجمال، فأعظم ما تكون العفة إذا ما اقترنت بالجمال، وقد وصف بهما يوسف عليه السلام في قول امرأة العزيز: (فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) [يوسف: 32] ) ،. ومن إعظام الإسلام لأمر العفاف أن شرط في إباحة الزواج من الكتابيات كونهن محصنات أي عفائف، كما أن العفة في القرآن خلق المؤمنات وسجية المحجبات. وقد جعل الله عز وجل الحجاب عنوان عفة المرأة عن التهمة الموجبة للتأذي: * فقال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ) الإدناء (أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ) بأنهن عفائف (فَلَا يُؤْذَيْنَ) فلا يتعرض لهن الفساق بأذى من قول أو فعل، وذلك لأن التي تبالغ في التستر حتى تحجب وجهها لا يُطمع فيها أنها تكشف عورتها. والآية دليل على وجود أذية إن لم يحتجبن، وذلك لأنهن إذا لم يحتجبن ربما ظُنَّ أنهن غير عفيفات، وقوله تعالى: (فَلَا يُؤْذَيْنَ) [الأحزاب: 59] ، نص على أن في معرفة محاسن المرأة إيذاءً لها ولذويها بالفتنة والشر. وقال سبحانه وتعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) رخص لهن في وضع الجلابيب، ورفع الإثم عنهن في ذلك، ثم عقبه ببيان المستحب فقال عز وجل: (وأن يستعففن) باستبقاء الجلابيب (خير لهن والله سمِيع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 عليمٌ) [النور: 60] فحرض القواعد العجائزْ على الاستعفاف، وأوضح أنه خير لهن وإن لم يتبرجن. فظهر بذلك فضل التحجب والتستر بالثياب ولو من العجائز (1) ، فوجب أن يكون التحجب الكامل والاستعفاف عن إظهار الزينة خيرًا للشابات من باب أولى، وأبعد لهن عن أسباب الفتنة، فظهر بذلك أن الحجاب عفة ونقاء وصيانة. خامسا: الحجاب ستر عن يعلى بن شداد بن أوس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى حَيِيٌّ ستير، يحب الحياء والستر" (2) الحديث. وقد امتن الله سبحانه وتعالى على الأبوين بنعمة الستر فقال عز وجل: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118)) [طه: 118] ، وقال سبحانه ممتنًا على عباده: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) الآية [الأعراف: 26] ، قال عبد الرحمن بن أسلم:، يتقى الله فيواري عورته، فذاك لباس التقوى) . ولذلك تجد وظيفة اللباس عند من لا يتقون الله ولا يستحيون منه كعامة   (1) وذلك لأن النفس الأبية لا ترضى بالدون، وقد عاب الله عز وجل قومًا استبدلوا طعاما بطعامِ أدنى منه، فنعى ذلك عليهم فقال عز من قائل: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) [البقرة: 61] ؛ لأن ذلك دليل على وضاعة النفس وقلة قيمتها. (2) رواه أبو داود رقم (4012) و (4013) في الحمام: باب النهي عن التعري، والنسائي (1/ 200) في الغسل: باب الاستتار عند الاغتسال، ورواه الإمام أحمد في "المسند" (4/244) . (3) قال في "الدر المنثور": أخرجه ابن أبي حاتم (3/ 76) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 الغربيين مثلًا، لا يتجاوز غرض الزينة والرياش، وأما المؤمنون المتقون فإنهم يحرصون على اللباس؟ أولَا لستر العورات التي يستحيا من إظهارها، ثم بعد ذلك لهم سعة في إباحة الزينة والتجمل. إن الذنوب معايب يُبْتعدُ عنها، ويُستتر منها، والعورات كذلك معايب يجب أن تستر، ويبتعد عما يحرم منها، وكأن المكثرين من الخطايا هم الذين لا يبالون بما يبدو من عوراتهم، ومن هنا ترى المؤمنين المبتعدين عن الذنوب بعيدين عن إظهار العورات. وجوب ستر العورات قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف: 31] . وقال جل وعلا: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) [النور: 30، 31] ، ويدخل في حفظ الفروج حفظها عن التكشف، وعن أن يُنظر إليها. وعن جابر بن صخر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا نُهينا أن تُري عوراتنا " (1) . حب الستر من أخلاق الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام * فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن موسى كان رجلًا حَييًّا سِتِّيرًا، لايرى من جلده شيء، استحياءً منه " (2) الحديث.   (1) رواه الحاكم (3/ 222- 223) ، وابن أبي حاتم في العلل (2/ 276) . (2) رواه البخاري (1/ 459) في الغسل: باب من اغتسل عريانا وحده، وفي = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 وكان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي " (1) الحديث، وفي لفظ: "اللهم استر عورتي ". * وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "احفظ عورتك، إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينُك "، قلت: فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: "إن استطعت أن لايرينها أحد فلا يَرينها"، قلت: فإذا كان أحدنا خاليا؟ قال: "فالله تبارك وتعالى أحق أن يُستحيا منه من الناس " (2) . فيستحب ستر العورة حتى في حال الخلوة - وقيل يجب؛ تأدبا مع الله سبحانه وتعالى، لقوله صلى الله عليه وسلم: "فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه من الناس ". وعن سعيد بن يزيد رضي الله عنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني فقال: "أوصيك أن تستحيي من الله تعالى كما تستحيي من الرجل الصالح من   = الأنبياء: باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام، وفي تفسير سورة الأحزاب، والترمذي (3219) في التفسير- سورة الأحزاب، والإمام أحمد (2/515) . (1) جزء من حديث رواه عن ابن عمر رضي الله عنهما أبو داود في "الأدب " (4/ 318- 319) رقم (5074) ، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" رقم (40) ص (15) ، والحاكم في "الدعاء" (1/517) ، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وأخرجه ابن ماجه في "الدعاء" (2/1273) – 1274) رقم (3871) ، وابن حبان في "صحيحه " رقم (2356) موارد، وصححه النووي في " الأذكار" ص (66) ، وحسنه الحافظ ابن حجر كما في "الفتوحات الربانية " (1/ 108) . (2) رواه أبو داود رقم (4017) ، في الحمام: باب ما جاء في التعري، والترمذي (2670) و (2795) في الأدب: باب ما جاء في حفظ العورة، وابن ماجه، وذكره البخاري تعليقا بصيغهّ الجزم (1/266) في الغسل: باب من اغتسل عريانا وحده في خلوة فالتستر أفضل، وقال الحافظ في "الفتح ": وإسناده إلى بهز صحيح اهـ، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 قومك " (1) . * وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة " (2) الحديث. بل ندبتنا الشريعة إلى الستر حتى عن أعين الجن الذين يَرَوْننا ولا نراهم. * فعن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا وضع أحدهم ثوبه أن يقول: بسم الله " (3) ، وعن علي رضي الله عنه بلفظ: "إذا دخل أحدهم الخلاء" (4) . وكل ما تقدم من الأدلة في حق الرجال فهو ينتظم النساء أيضًا لقوله صلى الله عليه وسلم: "النساء شقائق الرجال " (5) . وقد وردت أدلة خاصة تفيد أن المرأة كلها عورة بالنسبة للأجنبي، فيجب ستر ما يصدق عليه اسم العورة: * منها: ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:   (1) أخرجه الإمام أحمد في "الزهد" ص (46) ، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" ص (50) ، وغيرهما. (2) رواه مسلم رقم (338) في الحيض: باب تحريم النظر إلى العورات، وأبو داود رقم (4018) في الحمام: باب ما جاء في التعري، والترمذي رقم (2794) في الأدب: باب ما جاء في كراهية مباشرة الرجل الرجل، والمرأة المرأة. (3) أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" ص (8) رقم (20) - وانظر: "إرواء الغليل " (1/ 89) . (4) أخرجه الترمذي رقم (606) (2/503 - 504) في الصلاة: باب ما ذكر من التسمية عند دخول الخلاء، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه؟ وإسناده ليس بذاك القوي" اهـ. وابن ماجه (1/ 127- 128) . (5) رواه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أبو داود رقم (236) في الطهارة: باب في الرجل يجد البلة فى منامه، والترمذي رقم (113) في الطهارة. باب ما جاء فيمن يستيقظ فيرى بللاً، ولا- يذكر احتلاما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 "المرأة عورة" (1) الحديث. * وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تباشر المرأةُ المرأة فتنعتها لزوجها، كأنه ينظر- إليها" (2) الحديث يفيد أنه لم يبق للرجال سبيل إلى معرفة الأجنبيات من النساء لشدة حرصهن على الستر إلا من طريق الصفة أو الاغتفال ونحو ذلك، ولهذا قال "كأنه ينظر إليها". وعدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء اللاتي لا يسترن زينتهن ضمن أهل النار: * فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما: نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا" (3) . وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيكون في آخر أمتي نساء كاسيات عاريات، على رؤوسهن كأسنمة البخت، العنوهن فإنهن ملعونات" (4) . * * *   (1) تقدم تخريجه. (2) رواه الإمام أحمد (1/ 387) ، والبخاري (9/250) في النكاح: باب لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها، وأبو داود رقم (2150) في النكاح: باب ما يؤمر به من غض البصر، والترمذي رقم (2793) في الأدب: باب مما جاء في كراهية مباشرة الرجل الرجل والمرأة المرأة، وقال "هذا حديث حسن صحيح". (3) تقدم تخريجه (4) انظر تخريجه ص (135) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 نماذج من حرص الصحابة رضي الله عنهم على ستر النساء رُوي أن امرأة خرجت متزينة في عهد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، أذن لها زوجها في البروز، فَأُخْبرَ بها عمر رضي الله عنه، فطلبها، فلم يقدر عليها، فقام خطيبا، فقال: َ "هذه الخارجة، وهذا المرسلها لو قدرت عليهما لشترت (1) بهما"، ثم قال: "تخرج المرأة إلى أبيها يكيد بنفسه (2) ، وإلى أخيها يكيد بنفسه، فإذا أخرجت فلتلبس معاوزها" (3) . ورُوي أنه رضي الله عنه سمع نائحة، فأتاها، فضربها بالدرة حتى وقع خمارها عن رأسها، فقيل: "يا أمير المؤمنين، المرأهّ المرأة قد وقع خمارها"، فقال: "إنها لا حُرْمَةَ لها" (4) . والشاهد جزع الصحابة رضي الله عنهم لما انحسر الخمار عن رأسها. ولما دخل الثوار المتمردون على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ليقتلوه حاولت زوجته نائلة بنت الفرافصة أن تستره بشعرها، فقال لها أمير المؤمنين رضي الله عنه: "خذي خمارك، فلَعمري لَدخولُهم عليَّ أعظم من حُرْمَة شعرك " (5) .   (1) شترت به تشتيرًا: إذا سمعت به، ونددت، وأسمعته القبيح، وكان حقيقة التشتير إبراز مساوئ الرجل، وإظهار ما بطن منها، من الشتر: وهو انقلاب في الجفن الأسفل؛ لأنه بروز ما حقه أن يبطن، وهو عيب- انظر "الفائق " (2/ 220) ، و "غريب الحديث" (1/105) . (2) يكيد بنفسه: أي يسوق سياق الموت. (3) المعاوز: الخلقان: واحدهما: معوز، من الإعواز، وهو الفقر والحاجة- انظر: "الفائق " للزمخشري (2/ 220) ، "غريب الحديث " للخطابي (2/105- 155) ، و "مصنف عبد الرزاق " (4/371- 372) . (4) الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي (18/ 75) و "الزواجر" للهيثمي (5) كذا (!) ولعله (ما دخولهم عليَّ) ، أو يكون المقصود بالسياق الاستفهام = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 نماذج من حرض الصحابيات رضي الله عنهن على الستر قالت عائشة رضي الله عنها - في قصة الإفك: "فلما أخذوا برأس البعير فانطلقوا به، فرجعت إلى المعسكر، وما فيه من داع ولا مجيب، قد انطلق الناس، فتلفعت بجلبابي، ثم اضطجعت في مكاني، إذ مر بي صفوان ابن المعطل السلمي، وكان قد تخلف عن المعسكر لبعض حاجاته، فلم يبت مع الناس فرأى سوادي، فأقبل حتى وقف عليَّ، فعرفني حين رآني، وكان قد رآني قبل أن يضرب علينا الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي" (1) . والشاهد منه مبادرتها رضي الله عنها إلى تغطية وجهها حرصا على الستر، إقامة لحدود الله عز وجل. * وعن أم علقمة بن أبي علقمة قالت: "رأيت حفصة بنت عبد الرحمن ابن أبي بكر دخلت على عائشة رضي الله عنها وعليها خمار رقيق يشف عن جبينها، فشقته عائشة عليها، وقالت: أما تعلمين ما أنزل الله في سورة النور (2) ؟! ثم دعت بخمار فكستها) (3) ، وفي رواية الموطأ "وكستها خمارا كثيفا" (4) . * ودخل عليها- رضي الله عنها- نسوة من نساء أهل الشام، فقالت: لعلكن من الكُورة (5) التي يدخل نساؤها الحمامات؟ قلن: نعم، قالت:   = الإنكاري، والله أعلم. (1) انظر تخريجه ص (؟؟؟) . (2) تشير- رضي الله عنها- إلى قوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) [النور: 31] (3) انظر تخريجه ص (؟؟؟) . (4) "الموطأ" للإمام مالك (3/ 103) . (5) الكورة اسم يقع على جهة من الأرض مخصوصة كالشام والعراق وفلسطين، = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت ما بينها وبين الله من حجاب " (1) . وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نزعت ثيابها في غير بيتها، خرق الله عز وجل عنها ستره " (2) ، وذلك لأن الجزاء من جنس العمل. * وعن أنس رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بعبدِ قد وهبه لها، قال: وعلىَ فاطمة رضي الله عنها ثوب، إذا قَنَعت به رأسها، لم يبلغ رجليها، و، اذا غطت به رجليها، لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال: "إنه ليس عليك بأس، إنما هو أبوك وغُلامُكِ " (3) . وَيُرْوَى عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت "يا أسماء إني قد استقبحت ما يصنع النساء أن يُطْرحَ على المرأة الثوبُ فيصفها"، فقالت أسماء: يا ابنة رسول الله ألا أريك شيئًا رأيته بالحبشة؟ "، فدعت بجرائد رطبة، فحتتها، ثم طرحت عليها ثوبًا، فقالت فاطمة: "ما أحسن هذا وأجمله تُعرف به المرأة من الرجل (4) فإذا مت أنا فاغسليني أنت وعليّ ولا يدخل عَلَيَّ أحدٌ، فلما تُوُفِّيت غسلها علي وأسماء   = ونحو ذلك اهـ من "جامع الأصول" (7/ 339) . (1) رواه أبو داود رقم (4009) و (4010) في الحمام في فاتحته، والترمذي رقم (2803) و (2804) في الأدب: باب ما جاء في دخول الحمام، وقال: "هذا حديث حسن". (2) تقدم تخريجه. (3) أخرجه أبو داود (4/ 62) رقم (4106) كتاب اللباس: باب في العبد ينظر إلى شعر مولاته، وعنه البيهقي (7/ 95) ، وصححه الألباني في "الإرواء" (6/ 206) . (4) وفي رواية أنها قالت لها: "سترك الله كلما ستريني"، انظر: "سير أعلام النبلاء، (2/ 129، 132) ، و "المستدرك" (3/162) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 رضي الله عنهما" (1) . والشاهد منه أن فاطمة عليها السلام استقبحت أن يصف الثوب المرأة وهي ميتة، فلا شك أن وصفه إياها وهي حية أقبح وأقبح. * ومثله ما جاء عن نافع وغيره أن الرجال والنساء كانوا يخرجون بهم سواء، فلما ماتت زينب بنت جحش رضي الله عنها أمر عمر رضي الله عنه مناديا فنادى: "ألا لا يخرج على زينب إلا ذو رحم من أهلها"، فقالت بنت عميس: "يا أمير المؤمنين ألا أريك شيئًا رأيت الحبشة تصنعه لنسائهم؟ "، فَجَعَلَتْ نعشًا، وغَشَّتْة ثوبها، فلما نظر إليه قال: "ما أحسن هذا! ما أستر هذا" فأمر مناديًا أن اخرجوا على أمكم " (2) . * وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة"، فقالت أم سلمة رضي الله عنها: كيف تصنع النساء بذيولهن؟ قال: "يرخين شبرا"، قالت: إذن تنكشف أقدامهن، قال: "فيرخين ذراعا، ولا يزدن عليه" (3) . * وعن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: ألا أُريك امرأة من أهل الجنة: قلت: بلى، قال هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني أصْرعُ، وإني أتكشف، فادع الله لي، قال: "إن   (1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (2/ 43) ، والسياق له، والبيهقي (4/ 34- 35) ، وفي سنده جهالة، قال ابن التركماني: "في سنده من يحتاج إلى كشف حاله" اهـ. (2) رواه ابن سعد في "الطبقات" (8/ 79) ، و "سير أعلام النبلاء" (2/213) . (3) رواه الترمذى رقم (1731) في اللباس: باب ما جاء في جر ذيول النساء، وقال: "حسن صحيح"، والنسائي (8/ 209) في الزينة: باب ذيول النساء، وأبو داود رقم (4119) في اللباس: باب في قدر الذيل، وفي روايته قال: "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمهات المؤمنين في الذيل شبرا، فاستزدنه، فزادهن شبرًا، فكُن يُرْسِلنَ إلينا، فنذرع لهن ذراعا، والشاهد في هذه الرواية قوله: "فاستزدنه " مما يدل على شدة حرصهن على الستر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 شئت صبرتِ ولك الجنة، وإن شئتِ دعوتُ الله عز وجل أن يعافيك "، قالت أصبر، قالت: فإني أتكشف، فادع الله أن لا أتكشف. فدعا لها (1) . والشاهد فيه حرصها على الستر حتى في حال العذر، ففي رواية البزار من وجه آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما في نحو هذه القصة أنها قالت "إني أخاف الخبيث أن يجردني " الحديث. * وعن امرأة من الأنصار قالت: دخلت على أم سلمة رضي الله عنها، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه غضبان، فاستترت بكم درعي، فتكلم بكلام لم أفهمه، فقلت: يا أم المؤمنين كأني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبان؟ قالت: نعم أوَ ما سمعتيه؟ قالت: وما قال؟ قالت: قال: "إن السوء إذا فشا في الأرض فلم يُتناه عنه أنزل الله عز وجل بأسه على أهل الأرض "، قالت: قلت: يا رسول الله! وفيهم الصالحون؟ قال: "نعم، وفيهم الصالحون، يصيبهم ما أصاب الناس، ثم يقبضهم الله عز وجل إلى مغفرته ورحمته، أو إلى "رحمته ومغفرته " (2) والشاهد قولها: "فاستترت بكم درعي ". * وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له امرأة أخطبها، فقال: "اذهب فانظر إليها، فإنه أجدر أن يؤدم بينكما"، فأتيت امرأة من الأنصار فخطبتُها إلى أبويها، وأخبرتهما بقول النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنهما كرها ذلك، قال: فسَمعتْ ذلك المرأةُ، وهي في خدرها، فقالت: إن كان   (1) أخرجه البخاري (10/ 119) ، رقم (5652) في المرض: باب فضل من يصرع من الريح، وقولها: "إني أتكشف "، قال الحافظ: "المراد أنها خشيت أن تظهر عورتها وهي لا تشعر" اهـ (10/115) . (2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 418) ، وقال في "الفتح الرباني" (أورده الهيثمي، وقال: "رواه أحمد بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح" اهـ قلت: هو السند الأول من طريق يزيد بن هارون، ورواه أيضا الطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم في "الحلية") اهـ (19/175) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر فانظر، وإلا فأنشُدك"، كأنها أعظمت ذلك، قال: فنظرتُ إليها فتزوجتُها، فَذَكَر من موافقتها" (1) ، وموضع الشاهد منه واضح. * وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل "، فخطبتُ جاريةً فكنتُ أتخبأ لها، حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها وتزوُّجها، فتزوجتها " (2) . والشاهد قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن استطاع" إلخ؛ لأنه يبرز حرص المرأة المسلمة على الستر، حتى ليشق على من أراد رؤيتها أن يراها إلا بعناء واستغفال واختباء. * وعن محمد بن مسلمة رضي الله عنه قال: "خطبت امرأةً، فجعلت أتخبأ لها، حتى نظرت إليها في نَخْل لها، فقيل له: أتفعل هذا، وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا ألقى الله في قلب امرئٍ خِطبة امرأة، فلا بأس أن ينظر إليها" (3) ، ولو كانت هذه المرأة متكشفة   (1) روى شطره الأول: الترمذي رقم (1087) ، وحسَّنه في النكاح: باب ما جاء في النظر إلى المخطوبة، والنسائي - واللفظ له – (6/ 69- 70) في النكاح: باب ما جاء في النظر قبل التزويج، وصححه ابن حبان (1236- موارد) ،- ورواه بطوله ابن ماجه رقم (1888) (1/ 575) والإمام أحمد (4/ 245) -، وقال في "الفتح الرباني": "وصححه ابن حبان والحاكم، وأقره الذهبي " اهـ. (16/ 154) . (2) أخرجه أبو داود (2082) في النكاح: باب الرجل ينظر إلى المرأة وهو يريد تزويجها، والإمام أحمد (3/ 334، 360) ، والحاكم (2/ 165) ، وقال: "صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ في "الفتح " (9/ 87) : "سنده حسن " اهـ، وقال في "بلوغ المرام": (رجاله ثقات) اهـ. (3) رواه سعيد بن منصور في "سننه " رقم (159) ، وابن ماجه (1886) (1/ 574) ، والإمام أحمد (4/ 225) ، وإسناده ضعيف فيه الحجاج بن أرطاة، وهو مدلس، وقد عنعنه، وقواه الألباني بطرقه في "الصحيحة" رقم (98) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 معروضة كنساء هذا الزمان- إلا من رحم ربك لما احتاج إلى الاختباء وفي رواية عن سهل بن أبي حثمة قال "رأيت محمد بن مسلمة يطارد بثينة بنت الضحاك فوق إجَّار- وهو السطح الذي ليس حواليه ما يرد الساقط عنه - لها ببصره طردَا شديدًا فقلت- أتفعل هذا وأنت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!، فقال: فذكر الحديث". * وعن عاصم الأحول قال: "كنَّا ندخل على حفصة بنت سيرين، وقد جعلت الجلباب هكذا، وتنقبت به، فنقول لها: رَحِمَكِ الله، قال الله تعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) هو الجلباب، قال: فتقول لنا: أي شيء بعد ذلك؟ فنقول: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) ، فتقول: هو إثبات الحجاب " (1) . (ولما كان العلامة الكاساني في حلب طلبت منه زوجته الفقيهة فاطمة بنت السمرقندي الرجوع إلى بلاده، فلما همَّ بذلك استدعاه الملك العادل نور الدين، وسأله أن يقيم بحلب، فعرفه أنه لا يقدر على مخالفة زوجه، إذ هي بنت شيخه، فأرسل الملك إلى فاطمة خادما بحيث لا تحتجب منه، ويخاطبها عن الملك في ذلك، فلم تأذن للخادم، وأرسلت إلى زوجها تقول له:! أبَعُدَ عهدُك بالفقه إلى هذا الحدِّ؟ أما تعلم أنه لا يحل أن ينظر إلىَّ هذا الخادم؟ وأي فرق بينه وبين الرجال في عدم جواز النظر؟ فأرسل إليها الملك امرأة لتكلمها في هذا) (2) .   (1) أخرجه البيهقي (7/ 93) . (2) (كذا في "الجواهر المضيئة" بدائع الصنائع للكاساني) اهـ - ذكره في "رؤية دينية في ضوء العصر" ص (14) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 سادسا الحجاب حياء * الحياء مشتق من الحياة، والغيث يسمى حيا- بالقصر - لأن به حياةَ الأرض والنبات والدواب، وكذلك سميت بالحياء حياة الدنيا والآخرة، فمن لا حياء فيه فهو ميت في الدنيا، شقي في الآخرة، وحقيقته أنه خُلُق يبعث على ترك القبائح، ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق. * وبين الذنوب وبين قلة الحياء، وعدم الغيرة تلازم من الطرفين، وكل منهما يستدعي الآخر، ويطلبه حثيثا (1) . * والحياء من أبرز الصفات التي تنأى بالمرء عن الرذائل، وتحجزه عن السقوط إلى سفاسف الأخلاق، وحمأة الذنوب، كما أن الحياء من أقوى البواعث عل الفضائل وارتياد معالي الأمور: * عن أبي السَّوَّار العدوي حسان بن حريث قال: سمعت عمران بن حصين رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحياء لا يأتي إلا بخير"، وفي رواية قال: " الحياء خير كله "، أو قال: "الحياء كله خير" شك الراوي (2) . * ولعظيم أثره جعله الإسلام في طليعة خصائصه الأخلاقية: يُروَى عن زيد بن طلحة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل دين خلقا، وخلق الإسلام الحياء" (3) .   (1) انظر: "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص (72) ، و"مدارج السالكين" (2/ 259) . (2) أخرجه البخاري (10/ 537) في الأدب: باب الحياء، ومسلم رقم (37) في الحياء: باب بيان عدد شعب الإيمان، وأبو داود رقم (4796) في الأدب: باب الحياء. (3) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 905) في حسن الخلق: باب ما جاء في الحياء مرسلا، ووصله ابن ماجة رقم (4181) و (4182) بسندين ضعيفين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 * وَبَيِّن صلى الله عليه وسلم أن الحياء لم يزل مستحسنا في شرائع الأنبياء الأولين، وأنه لم يُرفع، ولم ينسخ في جملة ما نسخ الله من شرائعهم، فعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فافعل ما شئت " (1) . * والحياء نوعان: أولهما: نفسي، وهو الذي خلقه الله تعالى في جميع النفوس، كحياء كل شخص من كشف عورته والوقاع بين الناس، والآخر: إيماني، وهو خصلة تمنع المؤمن من ارتكاب المعاَصي خوفًا من الله تعالى، وهذا القسم من الحياء فضيلة يكتسبها المؤمن، ويتحلى بها، وهي أمُّ كل الفضائل الأخرى. فلذلك وجب على المسلمين أن يُعوِّدُوا بناتهم على الحياء، والتخلق بهذا الخلق الذي اختاره الله تعالى لدينه القويم، لأن عدم الحياء علامة لزوال الإيمان، ولا يخفى ما يتولد عن ذلك من العواقب الوخيمة (2) . * عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحياءُ والإيمانُ قرِنا جميعًا، فإذا رُفِعَ أحَدُهُما رُفِعَ الآخر" (3) . * وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار" (4) .   (1) أخرجه البخاري (10/ 540) في الأدب: باب إذا لم تستح فاصنع ما شئت، وفي الأنبياء: باب ما ذكر عن بني إسرائيل، وأبو داود رقم (4797) في الأدب: باب ما جاء في الحياء، وابن ماجة رقم (4183) في الزهد: باب الحياء. (2) " حجاب المرأة العفة والأمانة والحياء" تأليف السيد عبد الله جمال الدين أفندي ص (15) . ! 3) رواه الحاكم في (المستدرك) (1/ 22) ، وقال هذا حديث صحيح على شرطهما " وأقره الذهبي. (4) أخرجه الترمذي رفي (2010) في البر والصلة باب ما جاء في الحياء، وقال = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على رجل من الأنصار، وهو يَعِظ أخاه في الحياء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعْهُ فإن الحياء من الإيمان " (1) .   * والحياء من أخلاق الملائكة عليهم السلام: * فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما كانت ليلتي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها عندي، انقلب فوضع رداءه، وخلع نعليه، فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه، فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظهر أنه قد رقدت، فأخذ رداءه رويدا، وانتعل رويدًا، وفتح الباب رويدًا، فخرج، ثم أجافه رويدًا" الحديث، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: "فإن جبريل أتاني حين رأيتِ، فناداني، فأخفاه منك، فأجبتُه، فأخفيتُه منكِ، ولم يكن ليدخل عليك، وقد وضعت ثيابك، وظننت أن قد رقدت، فكرهت أن أوقظك، وخشيت أن تستوحشي، فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم " الحديث (2) . والشاهد منه أن جبريل عليه السلام استحيا أن يدخل عليها، وقد وضعت ثيابها رضي الله عنها، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يدخل. * وكانت شدة الحياء من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المثل الأعلى لكل مسلم ومسلمة.   = الترمذي: "حسن صحيح ". (1) رواه البخاري (1/93) في الإيمان: باب الحياء من الإيمان، وفي الأدب: باب الحياء، ومسلم رقم (36) في الإيمان: باب بيان عدد شعب الإيمان، والترمذي رقم (2618) في الإيمان: باب ما جاء أن الحياء من الإيمان، وأبو داود رقم (4795) في الأدب: باب في الحياء، والنسائي (8/121) في الإيمان: باب الحياء، وابن ماجة رقم (58) في المقدمة: باب في الإيمان. (2) أخرجه مسلم (3/14) واللفظ له، والنسائي (1/ 286) ، (2/ 160- 161) ، والإمام أحمد (6/ 221) ، وانظر: "سير أعلام النبلاء" (2/196) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ حياءَ من العذراء في خِدرها، فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه " (1) . * وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم كيف تغتسل من حيضتها؟ قال: فذكرت أنه علمها كيف تغتسل ثم تأخذ فرصة من مسك فتطهر بها، قالت: كيف أتطهر بها؟ قال: "تطهري بها سبحان الله "، واستتر، وأشار إلينا سفيان بن عيينة- أحد رواة الحديث- بيده على وجهه، قال: قالت عائشة: واجتذبتها إليَّ، وعرفت ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: تتبعي بها أثر الدم (2) . ولهذا؛ تأدب أصحابه رضي الله عنهم بهذا الخلق الإيماني، واختص بعضهم بمزية ظاهرة فيه، منهم أميرُ البررة، وقتيلُ الفجرة عثمان بن عفان رضي الله عنه. * عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحياء من الإيمان، وأحيى أمتي عثمان " (3) . ومن فضائله رضي الله عنه ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "يا عائشة ألا أستحيي من رجل والله إن الملائكة لتستحيي منه "؟ (4)   (1) أخرجه البخاري (10/ 538) في الأدب: باب الحياء، وفي الأنبياء: باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم رقم (2320) في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم: باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم، والخِدْر: بالكسر سِتر يمد للجارية في ناحية البيت، راجع (تاج العروس) للزبيدي (3/170) . (2) رواه مسلم (4/ 13-15) بشرح النووي. (3) رواه ابن عساكر- وانظر (سلسلة الأحاديث الصحيحة) رقم (1828) (4/442) ، وابن ماجه المقدمة باب رقم (11) ، والإمام أحمد (1/74) ، (3/184، 281) . (4) رواه الأمام أحمد في (المسند) (6/ 62) ، وروى نحوه مسلم رقم (2401) في فضائل الصحابة: باب من فضائل عثمان رضي الله عنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 * وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "إني لأدخل البيت المظلم أغتسل فيه من الجنابة، فأحني فيه صلبي حياء من ربي " (1) . وكذلك كان حال نساء الصحابة رضي الله عنهن، فلقد جاءت فاطمة بنت عتبة رضي الله عنها تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاخذ عليها: (أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ) الآية، فوضعت يدها على رأسها حياءً، فأعجبه ما رأي منها، فقالت عائشة رضي الله عنها: "أقِرِّي أيتها المرأة، فوالله ما بايعنا إلا على هذا"، قالت: "فنعم إذَا"، فبايعها بالآية (2) . النقاب حارس الحياء إن الوجه المصون بالحياء، كالجوهر المكنون في الوعاء، ولن تتزين امرأة بزينة هي أحمدُ ولا أجملُ من برقع الحياء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما كان الحياء في شيء إلا زانه" (3) . ولقد أبرز القرآن الكريم خلق الحياء في ابنتي الرجل الصالح، اللتين انحدرتا من بيت كريم، كله عفة وطهارة، وحسن تربية، وآية ذلك ما حكى القرآن من صيانتهما وحيائهما. فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) [القصص: 25] . قال: "ليست بِسَلفع (4) من النساء خراجة ولَّاجة، ولكن جاءت   (1) (المستطرف) (1/ 113) .. (2) رواه الإمام أحمد في (المسند) (6/ 151) . (3) عجز حديث عن أنس رضي الله عنه الترمذي رقم (1975) في البر والصلة: باب ما جاء في الفحش والتفحش، وحسنه، وابن ماجة رقم (4185) في الزهد: باب الحياء، والإمام أحمد (3/ 165) ، والبخاري في الأدب المفرد" (2/ 601) . (4) امرأة سلفع: سليطة جريئة، قال في لسان العرب) : الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 مستترة، قد وضعت كم دِرْعها على وجهها استحياء" (1) ورواه ابن أبي حاتم فقال: حدثنا أبو نعيم حدثنا إسرائيل عن أبي إسحق عن عمرو بن ميمون قال: قال عمر رضي الله عنه: "جاءت تمشي على استحياء، قائلةً بثوبها على وجهها، ليست بسَلْفَع من النساء ولَّاجة خَرَاجة" (2) . * وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي رضي الله عنه واضعة ثوبي، وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دُفن عمر رضي الله عنه، والله ما دخلتُهُ إلا مشدودة عَلَيَّ ثيابي حياءَ من عمر رضي الله عنه " (3) . * وروى البخاري في صحيحه بسنده عن فاطمة عليها السلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها وعليًّا رضي الله عنه وقد أخذا مضاجعهما" الحديث، وفيه في رواية على بن أعبد: "فجلس عند رأسها فأدخلت رأسها في اللفاع،   = "وفي الحديث: شرهن السلفعة البلقعة: البذية الفحاشة القليلة الحياء، ورجل سلفع: قليل الحياء، وفي حديث أم الدرداء: "شر نسائكم السلفعة" هي الجريئة على الرجال، وأكثر ما يوصف به المؤنث، وهو بلا هاء أكثر، ومنه حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) قال: ليست بسلفع " اهـ مختصرا (10/35 - 36) . (1) أخرجه الفريابي، وابن أبي شيبة في "المصنف "، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وصححه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اهـ كل من "الدر المنثور" (5/ 124) . (2) ذكره ابن كثير من رواية ابن أبي حاتم، وقال: "هذا إسناد صحيح " اهـ من تفسير القرآن العظيم " (6/238) ، وقال ابن كثير في تفسير الاَية: "أي تمشي مشي الحرائر، كما روي عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه قال: "كانت مستترة بكم ذراعها " اهـ (6/ 238) ، وانظر: " المستدرك، (2/ 407) . (3) "السمط الثمين في مناقب أمهات المؤمنين " ص (91) ، وقد روى نحوه الحاكم (4/ 7) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه "، وسكت عنه الذهبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 حياءً من أبيها" الحديث (1) . * والحادثة التالية- إن صحت- تجسد قيمة الحياء: عن فرج بن فضالة عن عبد الخبير بن ثابت بن قيس بن شماس عن أبيه عن جده قال جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقال لها أم خلاد وهي منتقبة تسأل عن ابنها وهو مقتول فقال لها بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: جئت تسألين عن ابنك وأنت منتقبة؟! فقالت: إن أرزأ ابني فلن أرزأ حيائي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ابنك له أجر شهيدين "، قالت: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: "لأنه قتله أهل الكتاب" (2) . * ومما يؤكد ارتباط تغطية الوجه بشدة الحياء ما ثبت: عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت أم سُلَيم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل عل المرأة من غسل إذا احتلمت؟، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأت الماء"، فغطَّت أم سلمة (3) - تعني وجهها - وقالت: يا رسول الله، وتحتلم المرأة؟، قال: "نعم، تربت يمينك، ففيم يشبهها ولدها"؟ (4) . ومما يذكر في كتب التاريخ والأدب أن النابغة أحد فحول الشعر الجاهلي قد مرت به امرأة النعمان في مجلس فسقط نصيفها (أي برقعها)   (1) (فتح الباري) (11/ 125) . (2) رواه أبو داود (3/ 5- 6) رقم (2488) في الجهاد: باب فضل قتال الروم على غيرهم من الأمم، وفي إسناده عبد الخبير بن ثابت قال البخاري: (روى عن فرج ابن فضالة، حديثه ليس بالقائم، فرج عنده مناكير) ، وقال أبو حاتم الرازي: "عبد الخبير حديثه ليس بالقائم، منكر الحديث". انظر "مختصر المنذري" (3/ 359) . (3) قال الحافظ: "في مسلم من حديث أنس أن ذلك وقع لعائشة أيضًا، ويمكن الجمع بأنهما كانتا حاضرتين) " اهـ من "الفتح" (1/277) . (4) رواه البخاري رقم (130) ، في العلم: باب الحياء في العلم - وانظر "الفتح" (1/276) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 الذي كانت قد تقنعت به فسترت وجهها بذراعيها وانحنت على الأرض ترفع النصيف بيدها الأخرى، فطلب النعمان من النابغة أن يصف هذه الحادثة في قصيدة فعمل القصيدة التي مطلعها. أمن آل مية رائح ومغتدي ... عجلان ذا زاد وغير مزود إلى أن قال: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد (1) إن التجرد من خلق الحياء مدرجة الهلاك، والسقوط من درك إلى درك إلى أن يصبح الإنسان صفيق الوجه، وينزع منه خلق الإسلام، فيجترئ على المخالفات، ولا يبالي بالمحرمات، وهناك تلازم بين ستر ما أوجب الله ستره، وبين التقوى، كلاهما لباس، هذا يستر عورات القلب ويزينه، وذاك يستر عورات الجسم ويزينه، وهما متلازمان: فمن شعور التقوى لله والحياء منه ينبثق الشعور باستقباح التكشف والحياء منه. قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) الآية [الأعراف: 26] ، قال الشاعر: إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى ... تقلب عريانًا وإن كان كاسيا وخير خصال المرء طاعة ربه ... ولا خير فيمن كان لله عاصيا إن مسارعة آدم وحواء إلى ستر عوراتهما بأوراق الشجر دليل على أن الحياء عنصر أصيل مركوز في فطرة الإنسان، فعليه أن يهتم به، ويحافظ عليه، ويصونه من أن يثلم، ففي صيانته، وسلامته سلامة للفطرة عن أن تمسخ أو تحرف، لأن في انحرافها مسخا وتشويها لآدميته، ولأن الحياء شعبة من شعب الإيمان، فمن تمسك به فقد تحصن ضد الشيطان، وأغلق   (1) تقدم ص (89) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 في وجهه بابا منيعَا، لو قدر له أن يدخل منه، لنال صاحبَه شر عظيم، والعياذ بالله. إذا لم تخش عاقبة الليالي ... ولم تستح فاصنع ما تشاء فلا والله ما في العيش خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء سابعا: الحجاب يناسب الغيرة إن الحجاب يتناسب مع الغيرة التي جبل عليها الإنسان السويُّ، والغيرة غريزة تستمد قوتها من الروح، والتحرر عن القيود غريزة تستمد قوتها من الشهوة، فهذه تغري بالسفور، وتلك تبعث على الاحتجاب. إن المدنية الغربية انحازت إلى الطبيعة الأولى، وقررت أن لا تحرم المنتسبين إليها التمتع بسفور النساء، واختلاط الجنسين، وضحَّتْ بالطبيعة الثانية في سبيل ذلك، فالرجل الغربي يخالط نساء الناس، ويجالسهن متهتكات، مقابل التنازل عن غيرته على زوجته وأخته وبنته، فيخالطهن غيره، ويجالسهن. إن القضاء على الغيرة بلغ عند مدنية الغرب إلى أن اعتبرتها من النقائص، بالرغم من أن الإنسان يشعر بفطرته أنها فضيلة، وتواضع كتابها وشعراؤها على تغيير هذه الفطرة. ومن الدليل على كون السفوريين يتكلفون إسكات صوت الغيرة في قلوبهم، وإماتتها مقابل ما يتمتعون به من الاختلاط بنساء غير نسائهم، أن مقلدتهم من المسلمين لا يسمحون بالدخول على نسائهم إلا لمن يسمح لهم بالدخول على نسائه، فلو قصدوا بالسفور الذي يدعون له إلى تحرير المرأة من أسر الاحتجاب كما يدعونه، لما حافظوا على شرط المعاوضة في سفور نسائهم عند أي رجل من معارفهم (1) .   11) انظر: "قولي في المرأة" ص (25- 27) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 * وفي السطور التالية نتوقف قليلا لنفصل معنى الغيرة وفضيلتها، وبيان ارتباطها الوثيق بقضية صيانة المرأة وحفظ العرض، فنقول بتوفيق الله وحده: إن من آثار تكريم الإسلام للمرأة ما غرسه في نفوس المسلمين من الغيرة، ويُقْصَدُ بالغيرة تلك العاطفة التي تدفع الرجل لصيانة المرأة عن كل مُحرم وشين، وعار. قال النحاس: "الغيرة هي أن يحمي الرجل زوجته وغيرها من قرابته، ويمنع أن يدخل عليهن، أو يراهن غيرُ مَحْرَم " (1) . * ويَعُدُّ الإسلام الدفاع عن العرض، والغيرة على الحريم جهادا يبذل من أجله الدم، ويضحى في سبيله بالنفس، ويجازي فاعله بدرجة الشهيد في الجنة. * فعن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قُتِلَ دُونَ ماله فهو شهيد، ومَنْ قُتِلَ دون دَمِهِ فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد" ومن قتل دون أهله فهو شهيد" (2) . بل يعد الإسلام الغيرة من صميم أخلاق الإيمان، فمن لا غيرة له لا إيمان له، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أغير الخلق على الأمة: * فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلًا مع امرأتي لضربته بالسيف غيرَ مُصْفِح (3) ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم،   (1) "زاد المسلم" (5/ 158) . (2) رواه الترمذي رقم (1418) ، (1421) في الديات: باب ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد، وأبو داود رقم (4772) في السنة: بابْ في قتال اللصوص، والنسائي (7/ 115، 116) في تحريم الدم: باب من قتل دون ماله، وابن ماجة رقم (2580) في الحدود: باب من قتل دون ماله فهو شهيد، وأحمد في "المسند" رقم (1628) ، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح". (3) ضربه بالسيف غير مصفح: إذا ضربه بحدِّه، وفربه صَفْحًا: إذا ضربه بعرضه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 فقال: "تعجبون من غيرة سعد؟ والله، لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها، وما بطن " الحديث (1) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وإن غيرة الله: أن يأتي المؤمنُ ما حَرمَ الله عليه " (2) . * وإن من ضروب الغيرة المحمودة: أنفةَ المحبِّ وحميته أن يشاركه في محبوبه غيره، ومن هنا كانت الغيرة نوعَا من أنواع الأثرة، لابد منه لحياطة الشرف، وصيانة العرض، وكانت أيضا مثار الحمية والحفيظة فيمن لا حمية له ولا حفيظة. وضد الغيور الدَّيُّوث، وهو الذي يقر الخبث في أهله، أو يشتغل بالقيادة، وقال العلماء أيضًا: (الديوث الذي لا غيرة له على أهل بيته) (3) ، وفي المحكم: (الديوث الذي يُدخل الرجال على حرمه بحيث يراهم) (4) ، وقد ورد الوعيد الشديد في حقه: * فعن عبد الله بن "عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجِّلة، والدَّيُّوث " الحديث (5) .   (1) رواه البخاري (12/ 181) في الحدود: باب من رأى مع امرأته رجلا فقتله، وفي التوحيد، ورواه تعليقَا في النكاح: باب الغيرة، ومسلم رقم (1499) في اللعان: في فاتحته. (2) رواه البخاري (9/ 230) في النكاح: باب الغيرة، ومسلم برقم (2761) في التوبة: باب غيرة الله تعالى، وتحريم الفواحش، والترمذي رقم (1168) في الرضاع: باب ما جاء في الغيرة. (3) "النهاية لما غريب الحديث" (2/147) . (4) "الزواجر" للهيثمي (2/52) . (5) أخرجه النسائي (1/ 357) واللفظ له، والإمام أحمد (2/ 134) ، وابن خزيمة في (التوحيد) (235) ، وابن حبان (56) ، وصححه العلامة أحمد شاكر رقم (6180) (9/34) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 إن الغيرة على حرمة العفة ركن العروبة، وقوام أخلاقها في الجاهلية والإسلام، لأنها طبيعة الفطرة البشرية الصافية النقية، ولأنها طبيعة النفس الحرة الأبية. لقد رأينا هذا الخلق يستقر في نفوس الجاهليين الذي تذوقوا معاني تلك الفضائل، وتحلوا بها، فإذا هم يغارون على عِرض جيرانهم من هوى أنفسهم ذاتهم، استمع معي إلى. عنترة يقول مفتخرا بنفسه: وأغض طرفي إن بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها وقول حاتم الطائي: إذا ما بت اختل عرس جاري ... ليخفيني الظلام فلا خفيت أأفضح جارتي وأخون جاري ... فلا والله أفعل ما حييت وفي عصر الإسلام يقول مسكين الدرامي: ناري ونار الجار واحدة ... وإليه قبلي تنزل القِدْرُ ما ضر جاري إذ أجاوره ... أن لا يكون لبيته ستر أعمى إذا ما جارتي خرجت ... حتى يواريَ جارتي الخِدر ويقول آخر في جارته أيضًا: ولم أكن طلابا أحاديث سرها ... ولا عالمًا إذا ما مرت أي جنس ثيابها وربما قامت الحروب غيرة على المرأة، وحمية لشوفها، واستجابة لاستغاثتها واستنجادها: فقد (تدافعت أشراف العرب في مساق عامتهم يوم الفِجار (1) قريش وهوازن وكان من أمر ذلك أن شبابًا من كِنانة أطافوا بامرأة من غِمار الناس في سوق عُكاظ، فأعجبهم ما رأوْا من حسنها، وسألوها أن تُسْفِرَ لهم عن وجهها، فأبت ذلك عليهم، فاخذوا يُعْنِتُونَها (2)   (1) حروب الفِجار: حروب نشبت بين العرب في الجاهلية في سوق عكاظ وهي أربع، وإنما دعيت بهذا الاسم لأن العرب أباحوا فيها حرمة الأشهر الحرم فقاتلوا، فكان ذلك منهم فِجارَا أي تفاجرَا. (2) أعنته: شق عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 ويسخرون بها، وهنالك نادت: يا آل عامر!، فَلَبَّتْها سيوف بني عامر، ووقف بنو كنانة يدرأون عن فتيانهم، وهاجت هَوَازِن لعامر، واغتمرت قريش في كنانة (1) ، وهنالك تفجرت الدماء، وتناثرت الأشلاء (2) ، ولولا حكمة بدرت من حرب بن أمية يومئذ لكان الخطب أفدحَ، والمصاب أطَمَّ، فقد وقف بين القوم فحسم ضغينتهم، واحتمل ديات قتلاهم) (3) . نماذج من غيرة الصحابة رضي الله عنهم فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان شديد الغيرة على النساء، فهو الذي أشار على الرسول صلى الله عليه وسلم بحجب نسائه، فوافقه القرآن فعن أنس رضي الله عنه قال عمر رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله! يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب (4) . * عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيتني دخلت الجنة، الحديث وفيه: "ورأيت قصرا بفنائه جارية، فقلت: لمن هذا؟، فقال: لعمر فأردت أن أدخله فأنظر إليه، فذكرت غيرتك "، وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه: "فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر، فذكرت غيرته، فولَّيت مُدْبِرا" فقال عمر: بأبي وأمي يا رسول الله، أعليك أغار؟ (5) . * وعن أبي السائب مولى هشام بن زُهرة رضي الله عنه: أنه دخل على أبي سعيد   (1) عامر بطن من بطون هوازن، وقريش فرع من فروع كنانة. (2) الأشلاء- جمع شلو- قطع اللحم. (3) "العقد الفريد" (3/109) ، وانظر "المرأة العربية" (1/ 27- 28) . (4) رواه البخاري (8/ 387) رقم (4790) في التفسير: باب (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) الآية. (5) رواه البخاري (7/ 50) في فضائل الصحابة: باب مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه رقم (3679) ، (3680) ، وقال السفاريني: (أي كيف أغار على دخولك قصرًا أنت السبب في حصوله لي؟ بل وأنت أولى بالمؤمنين من أنفسهم" اهـ من (شرح ثلاثيات المسند" (2/21) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 الخدري في بيته، قال: فوجدته يصلي، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكا في عراجين في ناحية البيت، فالتفت، فإذا حية، فوثبت لأقتلها، فأشار إليَّ أن اجلس، فجلست، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار، فقال: أترى هذا البيت؟، فقلت: نعم، فقال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعُرس، قال: فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله، فاستأذنه يومًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذ عليك سلاحك، فإني أخشى عليك قريظة" فأخذ الرجل سلاحه، ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة، فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به - وأصابته غيرة - فقالت له: اكفف عليك رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني، فدخل، فإذا بحية عظيمة مُنْطَوِية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج فركزه في الدار، فاضطربت عليه، فما يُدْرى أيهما كان أسرع موتا الحية أم الفتى؟ قال: فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكرنا ذلك له، وقلنا: ادْعُ الله يحييه لنا، فقال: "استغفروا لصاحبكم"، ثم قال: "إن بالمدينة جنّا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئا، فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنما هو شيطان (1) . والشاهد منه قول الرواي: "وأصابته غيرة". * وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "ألا تستحيون ألا تغارون: أن يخرج نساؤكم؟! فإنه بلغني أن نساءكم يخرجن في الأسواق يزاحمن العُلوج (2) ، أما تغارون؟ إنه لا خير فيمن لا يغار" (3) .   (1) رواه مسلم (14/ 234- 235) بشرح النووي، كتاب قتل الحيات وغيرها، وانظر "المرقاة" (4/3430) (2) انظر: (المسند) بتحقيق أحمد شاكر (2/ 255) ، وصححه، (والعلوج: جمع عِلْج، وهو الرجل من كفار العجم، أو الضخم القوي) اهـ من "الفتح الرباني، (17/303) . (3) هذه الزيادة في "المغني" لابن قدامة (7/ 27) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 * وذكر أبو عمر في "التمهيد" أن عمر رضي الله عنه لما خطب عاتكة بنت زيد شرطتْ عليه ألا يضربها، ولا يمنعها من الحق، ولا من الصلاة في المسجد النبوي، ثم شرطت ذلك على الزبير، فتحيَّل عليها أن كمن لها لما خرجت إلى صلاة العشاء، فلما مَرَّت به ضرب على عَجيزتها؟ فلما رجعت قالت: "إنا لله! فسد الناس! "، فلم تخرج بعد (1) . * ويروى أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "إن الله ليغار للمسلم، فَلْيَغَرْ" (2) ولما دخل الخوارج المفسدون على أمير البررة، وقتيل الفجرة عثمان بن عفان رضي الله عنه ليقتلوه، حاولت زوجه الوفية نائلة بنت الفرافصة رضي الله عنها أن تستر أمير المؤمنين بشعرها، فقال لها: "خذي خمارَكِ، فلعمري لدخولهم على أعظم من حرمة شعرك" (3) . أحداث صنعتها الغيرة * ذكر الحافظ ابن كثير- رحمه الله - في حوادث سنة ست وثمانين ومائتين: قال في المنتظم: ومن عجائب ما وقع من الحوادث في هذه السنة أن امرأة تقدمت إلى قاضي الري (4) ، فادعت على زوجها بصداقها خمسمائة دينار، فأنكره، فجاءت ببينة تشهد لها به، فقالوا: نريد أن تسفر لنا عن وجهها حتى نعلم أنها الزوجة أم لا؟، فلما صمَّموا علي ذلك قال الزوج: "لا تفعلوا، هي صادقة فيما تدَّعيه، فأقرَّ بما ادعَتْ ليصون زوجته عن النظر إلى وجهها، فقالت المرأة حين عرفت ذلك منه، وأنه إنما أقر ليصون   (1) "الإصابة (8/ 12) ، وانظر: أسد الغابة (6/ 185) . (2) "أخبار النساء" ص (82) . (3) "أعلام النساء" لكحالة (5/ 150) ، و"الدر المنثور في طبقات ربات الخدور" ص (517) . (4) سماه السمعاني: موسي بن إسحق الأنصار الخطمي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 وجهها عن النظر: هو في حِل من صداقي عليه في الدنيا والآخرة اهـ (1) ، زاد الحافظ السمعاني في "الأنساب": فقال القاضي وقد أعجب بغيرتهما: يُكْتَبُ هذا في مكارم الأخلاق اهـ. * ويذكر بعض المؤرخين في حسنات الحجاج بن يوسف الثقفي: أن امرأة مسلمة سُبيت في الهند، فنادت: (واحَجَّاجاه) واتصل به ذلك، فجعل يقول: (لبيكِ) ، وأنفق سبعة ملايين من الدراهم حتى أنقذ المرأة) (2) * وهذه امرأة شريفة أسرها الروم، لا تربطها بالخليفة (المعتصم بالله) رابطة سوى أخوة الإسلام، تستنجد به لما عذبها صاحب عمورية، وتطلقها صيحة يسجل التاريخ دويها الضخم: "وامعتصماه"، وما إن بلغت المعتصم هذه الندبة- وكان يأخذ لنفسه شيئًا من الراحة - حتى قالها بملء جوارحه: (لبيكِ) ، وانطلق لتوه إلى القتال، وانطلقت معه جحافل المسلمين، وقد ملأت الغيرة لكرامة المرأة نفس كل جندي إباءً وحماسا، فأنزلوا بالعدو شر هزيمة، واقتحموا قلاعه في أعماق بلاده حتى أتوا عمورية، وهدموا قلاعها، وانتهوا إلى تلك الأسيرة، وفكوا عقالها، وقال لها المعتصم: (اشهدي لي عند جَدك المصطفى صلى الله عليه وسلم أني جئت لخلاصك) (3) * (وفي القرن السابع الهجري حين ضرب التفرق أطنابه بين المسلمين   (1) "البداية والنهاية" (11/ 81) .. (2) "معجم البلدان " لياقوت الحموي (8/ 381) . (3) "شبهات حول العصر العباسي " للدكتور مؤيد فاضل ملا رشيد ص (83) ، ونضيف: أليس من حقنا أن نصم آذان حكامنا اليوم بقول الشاعر المعاصر: رب (وامعتصماه) انطلقت ... ملء أفواه الصبايا اليتم صادفت أسماعهم لكنها ... لم تصادف نخوة المعتصمَ لا يُلام الذئب في عدوانه ... إن يكُ الراعي عدوَّ الغنم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 حتى أضعفهم، واحتل الصليبيون قسمًا من بلادهم، وطمعوا في المزيد، واستعانوا ببعضهم على بعض، حتى أوشكوا أن يحتلوا مصر، فكر حاكم مصر الفاطمي آنذاك المدعو "العاضد لدين الله " أن يستعين بوالي الشام "نور الدين زنكي "، ولكنْ كيف وملك الشام لا يعترف بالخليفة الفاطمي في مصر، ولا يؤمن بشرعية خلافته، وحكمه إنما يدين بالاعتراف للخلافة العباسية في بغداد، وبينها وبين الفاطميين أشد الخصام؟ لقد وجد الحل بواسطة المرأة والغيرة على كرامتها، وهكذا أرسل العاضد إلى نور الدين زنكي رسالة استنجاد أرفقها بأبلغ نداء: أرفقها بخصلة من شعور نساء بيت خلافته في القاهرة، وكان أن بلغ التأثير مداه في قلب نور الدين، فسرت حمية الغيرة والنخوة قي جند الشام وأهله، فبذلوا- لإنقاذ مصر من الصليبيين- فلذات أكبادهم بقيادة أسد الدين شيركوه، ويوسف بن أيوب "صلاح الدين الأيوبي". وهكذا صنعت المرأة بخَصلة شعرها حدثًا غيَّر مجرى التاريخ، وقلب الأحداث رأسا على عقب، إلى أن كان يوم حطين الذي غسل الأرض المقدسة من العار، وأرغم جحافل الصليبيين على حمل عصا الرحيل والتسيار) (1) . إن حياة الغيرة التي يحياها المجتمع المسلم، والتي يسموا بها فوق النجوم رفعة، ويرتقي بها إلى أعلى المنازل فضلًا وطهرا، يقابلها في المجتمعات الكافرة قي الشرق والغرب حياة الدياثة (2) والخباثة، والقذارة والحقارة، واللوثة والنجاسة، والذلة والمهانة، التي قد تترفع عنها بعض الحيوانات حيث تغار فحولها على إناثها، ويقاتل الفحل دون أنثاه كل فحل يعرض لها حتى تصير إلى الغالب، وتأمل معي القصة التالية:   (1) "ماذا عن المرأة؟ " ص (25- 26) ، وانظر: "البداية والنهاية" (12/ 255) . (2) راجع "المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية" ص (46- 47) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 عن عمرو بن ميمون الأودي رضي الله عنه قال: "رأيت في الجاهلية قرْدة اجتمع عليها قرَدةٌ قد زنت، فرجموها، فرجمتها معهم" (1) . فاستقباح الزنا، والغيرة على العرض فطر الله سبحانه عليه هذا الحيوان البهيم الذي لا عقل له! والغيرة علي الحريم رمز الإسلام، ومن فقدها من أبناء البلاد الإسلامية، فإنما فقدها بعد اندماجه في أمم لا يغارون على نسائهم، ولا يرون أي بأس في مخاصرة زوجاتهم لرجال آخرين، في مرأى منهم ومشهد اهـ (2) . لقد وقع الشقاق الواسع بيننا وبين الأوربيين في الغيرة، يقول الدكتور نور الدين عثر حفظه الله: (إن أوربا لم تقدس العفة في يوم من الأيام، بل لم تحافظ على الطهر العذري، وحسبنا من المقياس الخلقي في موقفهم من المرأة أن لا نجد في لغتهم كلمة تعبر عن كرامة المحافظة والاستقامة في السلوك "الغريزي" أعني كلمة "العرض" هذه الكلمة الجامعة لمعاني الفضيلة "الغريزية"، وحمية المؤمن في الغيرة عليه والدفاع عنه) اهـ (3) . إن الأوربيين يستهجنون هذه المعاني، ولا يستسيغونها، بل هم ينددون بهذه ا! لفطرة الإنسانية العالية، ويحاربونها بمختلف الأساليب، ويرمون من خلال قصصهم وأدبهم أن يهبطوا بالإنسان السامَي إلى مستوى الحيوانية السافلة. قال رفاعة الطهطاوي في مجلة "روضة المدارس " التي كان يرأس تحريرها: (من محاسن الإسلام أن الله سبحانه وتعالى قد أودع في قلب الرجل الغيرة على نسائه، حتى جعل سبحانه وتعالى بدن الحرة عورة   (1) رواه البخاري (7/ 191) في مناقب الأنصار: باب القسامة في الجاهلية. (2) "الفتن" للبيانوني ص (213- 214) . (3) "ماذا عن المرأة؟ "، للدكتور نور الدين عثر ص (22- 23) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 بالنسبة للآخرين، فلا يحل لها كشفه عليه، ولا يحل له نظرها أيضًا، فلذلك كانت نساء الإسلام مصوناتٍ في بيوتهن، سيدات على غيرِهن.. ومن العادة أيضا العامة لسائر المسلمين، أنه لا يليق أن يسأل الإنسان عن حال زوجته، وإن كان هذا يُعَدُّ في بلاد الإفرنج من اللطافة والظرافة، لفقدهم الغيرة) اهـ (1) . عود على بدء إن الحجاب بمعناه الواسع يتناسب مع الغيرة المحمودة، وإن التبرج والاختلاط والخلوة المحرمة، وسائر أسباب الافتتان بالمرأة إنما تنتج عن عدم الغيرة وضعف الحمية. ولو أن المرأة التزمت درجة الحجاب المثلي وقرَّت في بيتها، ولو أنها إذا احتاجت للخروج فخرجت، حجبت كل بدنها عن الأجانب، لما كان لهذه الفتن مكان في حياتنا. ولو أننا تأملنا الواقع من حولنا لأدركنا أن بداية الفتتة إنما هي النظرة المحرمة على حد قول القائل: نظرة فابتسامة فسلام ... فكلام فموعد فلقاء فلو أسدل الحجاب علي وجه المرأة أيضا إذن لأخمدت الفتنة من أصلها، (وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ) [الأحزاب: 25] ،. ولقد سبق أن بَيَّنا أن من الغيرة المحمودة أنفةَ المحب، وحميته أن يشاركه في محبوبه غيره، فإذا كان النظر المحرم إلى وجه المرأة وغيره هو "زنا العين " بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم نحتج إلى إثبات أن هذا النظر نوع من المشاركة فيما ينبغىِ أن يستأثر به الزوج، أو المحارم لأمن الفتنة من جانبهم.   (1) نقله عنه الدكتور السيد أحمد فرج في "المؤامرة على المرأة المسلمة"، ص (141) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 ومن هنا يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ألا تستحيون؟ ألا تغارون؟ يترك أحدكم امرأته بين الرجال تنظر إليهم، وينظرون إليها" (1) . وأخيرَا قال العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى: وبالجملة، فإن المنصف يعلم أنه يبعد كل البعد أن يأذن الشارع للنساء في الكشف عن الوجه أمام الرجال الأجانب، مع أن الوجه هو أصل الجمال، والنظر إليه من الشابة الجميلة هو أعظم مثير للغرائز البشرية وداع إلى الفتنة، والوقوع فيما لا ينبغي، ألم تسمع بعضهم يقول: قلت اسمحوا لي أن أفوز ... بنظرة ودعوا القيامة بعد ذاك تقوم أترضى أيها الإنسان أن تسمح له بهذه النظرة إلى نسائك وبناتك وأخواتك، ولقد صدق من قال: وما عجب أن النساء ترجلت ... ولكن تأنيث الرجال عُجابُ (2) * * *   (1) "الزواجر" للهيثمي (2/ 46) . (2) "أضواء البيان" (6/ 602) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 الفصل الثاني مثالب التبرج التبرج لغة: هو إبداء المرأة زينتها، وإظهار وجهها، ومحاسن جيدها للرجال، وكل ما تستدعي به شهوتهم حتى التكسر والتبختر في مشيتها، ما لم يكن ذلك للزوج (1) . التبرج شرعا: هو إظهار الزينة، وإبراز المرأة لمحاسنها، وقيل: هو التبختر والتكسر في المشية (2) . وقيل: (هو كل زينة أو تجمل تقصد المرأة بإظهاره أن تحلو في أعين الأجانب، حتى القناع الذي تستتر به المرأة إن انتخب من الألوان البارقة، والشكل الجذاب لكي تلذ به أعين الناظرين، فهو من مظاهر تبرج الجاهلية أيضا) (3) . وفيما يلي نوضح مثالب التبرج وخطره على الدين والدنيا: أولا: التبرج معصية لله ورسوله صلى الله عليه وسلم: ومن يعص الله ورسوله فإنه لايضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئَا، قال   (1) "لسان العرب" (3/ 33) ، و"القاموس المحيط" (1/ 187) ، "المعجم الوسيط " (1/ 46) ، ويأتي - بإذن الله - زيادة بيان لمعنى التبرج، فانظر ص (277) ، (324) . (2) "تفسير الطبري" (22/ 4) (3) "الحجاب" للمودودي رحمه الله ص (132) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى" فقالوا: يا رسول الله من يأبى؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى" (1) . واعلم- رحمك الله - أن كل آية أو حديث اشتملت، أو اشتمل على الزجر عن معصية الله عز وجل، ومعصية رسوله صلى الله عليه وسلم يصلح أن يستدل به هنا، غير أننا- اختصارًا- نورد فيما يلي ما جاء في النهي عن معصية التبرج بخصوصها، فمن ذلك: ما رواه أبو حريز مولى أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه قال: "خطب الناسَ معاوية رضي الله عنه بحمص، فذكر في خطبته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ سبعة أشياء، وإني أبلغكم ذلك، وأنهاكم عنه، منهن النوح، والشعر، والتصاوير، والتبرج، وجلود السباع، والذهب، والحرير" (2) . وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم "كان يكره عشر خصال" وذكر منها: "والتبرج بالزينة لغير مَحَلها" (3) . قال السيوطي رحمه الله: والتبرج بالزينة: أي إظهارهما للناس الأجانب، وهو المذموم، فأما الزوج فلا، وهو معنى قوله "لغير محلها" اهـ (4) . ثانيا: التبرج كبيرة موبقة: جاءت أميمة بنت رُقيقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإسلام، فقال: "أبايعكِ على أن لا تُشركي بالله، ولا تسرقي، ولا تزني، ولا تقتلي وَلدَكِ، ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك، ولا تنوحي، ولا تتبرجي تبرج الجاهلية   (1) رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه البخاري (13/ 263) في الاعتصام: باب الاقتداء بسن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) رواه الإمام أحمد في "مسنده " (4/ 101) . (3) رواه النسائي في "سننه" (8/ 141) . (4) وكذا ذكره السندي في حاشيته - انظر: "سنن النسائي" (8/ 141- 142) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 الأولى" (1) . فتأمل كيف قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم التبرج الجاهلي بأكبر الكبائر المهلكة. ثالثًا: التبرج يجلب اللعن والطرد من رحمة الله: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيكون في آخر أمتي نساءٌ كاسيات عاريات، على رؤوسهن كأسنمة البخْت، العنوهن فإنهن ملعونات" (2) . عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيكون في آخِر أمتي رجال يركبون على سروج كأشباه الرجال، ينزلون على أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات، لو كانت وراءكم أمة من الأم لخدمن نساؤكم نساءهم كما يَخدِمْنكم نساءُ الأمم قبلكم " (3) .   (1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 196) ، وقال العلامة أحمد شاكر رحمه الله: "إسناده صحيح"، وذكر أن الحديث نقله الحافظ ابن كثير في "تفسيره " (8/ 327 - 328) عن المسند، وقال: "هذا إسناد صحيح"، ثم نسبه للترمذي والنسائي وابن ماجة. اهـ من "تحقيق المسند" (11/ 15) حديث رقم (6850) . (2) أخرجه الطبراني في "المعجم الصغير" ص (232) ، وصححه الألباني في "الحجاب" ص (56) ، ونقل السيوطي عن ابن عبد البر قوله (أراد صلى الله عليه وسلم النساء اللواتي يلبسن من الثياب الشيء الخفيف الذي يصف، ولا يستر، فهن كاسيات بالاسم، عاريات في الحقيقة) اهـ من "تنوير الحوالك" (3/ 103) ، وانظر: "نيل الأوطار" (2/ 131) . (3) رواه الأمام أحمد في "مسنده" رقم (7083) ، قال العلامة أحمد شاكر رحمه الله: (إسناده صحيح) (12/ 36) ، والحاكم في (المستدرك) (4/ 436) ، وقال: (صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه) ، وقال الهيثمي في "المجمع": (رواه أحمد والطبراني في الثلاثة، ورجال أحمد رجال الصحيح) اهـ (5/ 137) وقوله "كأسنمة البخت" هو جمع "سنام" وهو أعلى ظهر البعير، و"البخت" بضم الباء وسكون الخاء: جمال طوال الأعناق، والعِجاف: جمع عجفاء، = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 رابعًا: التبرج من صفات أهل النار: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البُخْت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا" (1) . وعن عمارة بن خزيمة قال: بينما نحن مع عمرو بن العاص رضي الله عنه في حج أو عمرة، فإذا نحن بامرأة عليها حبائر (2) لها، وخواتيم، وقد بسطت يدها على الهودج، فقال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الشّعْب إذ قال: "انظروا: هل ترون شيئًا"؟، فقلنا: نرى غربانَا فيها غراب أعصمَ (3) ؛ أحمرُ   = وهي المهزولة، وانظر: "الفتح الرباني" (13/ 302) . (1) رواه مسلم في "صحيحه" رقم (2128) في الجنة: باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء. قال النووي رحمه الله: (قيل: معنى كاسيات أي من نعمة الله عاريات من شكرها، وقيل: معناه تستر بعض بدنها، وتكشف بعضه إظهارًا لجمالها ونحوه، وقيل: تلبس ثوبًا رقيقا يصف لون بدنها وهو المختار، ومعنى مائلات: عن طاعة الله وما يلزمهن حفظه، مميلات أي: يعَلِّمْنَ غيرهن فعلهن المذموم، وقيل: يمشين متبخرات مميلات لأكتافهن، وقيل: مائلات يمتشطن المشطة الميلاء وهي مشطة البغايا، ومميلات: يمشطن غيرهن تلك المشطة، ومعنى رؤوسهن كأسنمة البخت أي: يكبرنها، ويعظمنها بلف عمامة أو- نحوها، والله أعلم) اهـ من "المجموع شرح المهذب " (4/ 307) ، وانظر: (القسم الأول) ص (171) . (2) حبائر ثياب جديدهّ، وثوب حبير أي جديد – انظر: (الصحاح) للجوهري (2/620) . (3) الأعصم: هو الأبيض الجناحين، وقيل الأبيض الرجلين، وقيل: هو أحمر المنقار والرجلين، انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" (3/ 249) . وفي الحديث كناية عن قلة من يدخل الجنة من النساء، لأن هذا الوصف في الغربان قليل، ونظير ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في خطبة الكسوف: "رأيت النار" ورأيت أكثر أهلها النساء متفق عليه، وفي الصحيحين أيضا من حديث أسامة بن زيد رضي = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 المنقارِ والرجلين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل الجنة من النساءِ إلا منْ كان منهن مثل هذا الغراب في الغِربان " (1) . خامسًا: التبرج سواد وظلمة يوم القيامة: قال الإمام الترمذي رحمه الله: حدثنا علي بن خَشْرم، أخبرنا عيسى بن يونس، عن موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد، عن ميمونة بنت سعد- وكانت خادمًا للنبي صلى الله عليه وسلم - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الرافلة في الزينة في غيرِ أهلها، كَمَثَل ظُلمَةٍ يوم القيامة، لا نُورَ لها" (2) . قوله: الرافلة: قال في "النهاية": الرافلة: هي التي تَرْفُلُ فِى ثوبها، أي تتبختر، والرفل: الذيل، ورفل إزاره: إذا أسبله، وتبختر فيه اهـ.   = الله عنهما: "وقمت على باب النار، فإذا عامة من دخلها النساء"، وفي صحيح مسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أقل ساكني الجنة النساء"، وانظر: "التذكرة" للقرطبي (1/ 369) ، و"الجنة والنار" للأشقر ص (83- 84) . (1) رواه الأمام أحمد (4/197، 205) ، والحاكم (4/602) ، وقال: "صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي، وزاد الألباني في تخريجه: أبا يعلى، وابن عساكر، وابن قتيبة في " إصلاح الغلط؟ وقال: (وهذا سند صحيح، وقول الحاكم: "صحيح على شرط مسلم " خطأ، وافقه الذهبي عليه، فإن أبا جعفر اسمه عمير بن يزيد لم يخرج مسلم له شيئا) اهـ. من الصحيحة" رقم (1850) (4/446) ، وقال التويجري حفظه الله: "والظاهر أن عمرو بن العاص رضي الله عنه إنما حَدَّث به قصد الإنكار على المرأة المبدية لزينتها بين الرجال الأجانب" اهـ من "الصارم المشهور" ص (14) . (2) رواه في "سننه" رقم (1167) ، كتاب الرضاع: باب ما جاء في كراهية خروج النساء في الزينة، وقال: (هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة، وموسى بن عُبيدة يضعف في الحديث من قبل حفظه، وهو صدوق، وقد رواه بعضهم عن موسى بن عبيدة، ولم يرفعه) اهـ (3/ 470) ، وضعفه الألباني في "الضعيفة" رقم (1800) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 وقوله: "في الزينة": أي في ثياب الزينة، قوله: "في غير أهلها" أي بين من يحرم نظره إليها، قوله: "كمثل ظلمة يوم القيامة" أي تكون يوم القيامة كأنها ظلمة، قوله: "لا نور لها" الضمير للمرأة، قال الديلمي: يريد المتبرجة بالزينة لغير زوجها اهـ (1) . وقال في الفردوس: والرَّفْلُ التمايل في المشي مع جَر ذيل، يريد أنها تأتي يوم القيامة سوداء مظلمة كأنها متجسدة من ظلمة اهـ (2) . قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: ذكره الترمذي، وضعفه، ولكن المعنى صحيح؛ فإن اللذة في المعصية عذاب، والراحة نصب، والشبَعَ جوع، والبركة مَحَق، والنور ظلمة، والطيب نتن، وعكسه الطاعات، فخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، ودم الشهيد اللون لون دم، والعَرْفُ عرف مِسْك اهـ (3) . سادسَا: التبرج نفاق: فعن أبي أذينة الصدفي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خير نسائكم الوَدُودُ الوَلودُ، المواتية، المواسية، إذا اتقَينَ الله، وَشر نسائكم المتَبَرجاتُ المتُخَيلاتُ، وهن المنافقات، لا يدخل الجنة منهن إلا مِثلُ الغرابِ الأعصم " (4) . سابعًا: التبرج فاحشة: فإن المرأة عورة، وكشف العورة فاحشة ومقت، قال تعالى: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)) [الأعراف: 28] ،.   (1) (تحفة الأحوذي) (4/ 329) . (2) نقله المناوي في "الفيض" (5/507) . (3) "عارضة الأحوذي" (5/ 113- 114) . (4) أخرجه البيهقي في "السنن" (7/ 82) ، ورواه عن ابن مسعود رضي الله عنه أبو نعيم في الحلية (8/ 376) ، وانظر "السلسلة الصحيحة" رقم (1849) ، (632) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 والشيطان هو الذي يأمر بهذه الفاحشة: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) [البقرة: 268] ، والمتبرجة جرثومة خبيثة ضارة تنشر الفاحشة في المجتمع الإسلامي، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)) [النور: 19] وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة استعطرت، ثم خرجت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية، وكل عين زانية" (1) . ثامنًا: التبرج تهتك وفضيحة: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها، فقد هتكت ستر ما بينها وبين الله عز وجل" (2) . ومثل ذلك ما ثبت عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله: "ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل فارق الجماعة، وعصى إمامه، فمات عاصيًا، وأمةٌ أو عبد آبق من سيده فمات، وامرأة غاب عنها زوجها، وقد كفاها مؤنة الدنيا،   (1) تقدم تخريجه. (2) رواه الإمام أحمد (6/ 199، 267) ، والحاكم في "المستدرك " (4/ 288) ، وصححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي، وابن ماجه (2/409) رقم (3812) . قال المناوي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "وضعت ثيابها في غير بيت زوجها) كناية عن تكشفها للأجانب، وعدم تسترها منهم "فقد هتكت ستر ما بينها وبين الله عز وجل" لأنه تعالى أنزل لباسا ليوارين به سواءتهن وهو لباس التقوى، وإذا لم يتقين الله، وكشفن سواءتهن، هتكن الستر بينهن وبين الله تعالى، وكما هتكت نفسها ولم تصن وجهها، وخانت زوجها يهتك الله سترها، والجزاء من جنس العمل، واهتك خرق الستر عما وراءه، والهتيكة الفضيحة اهـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 فتبرجت بعده، فلا تسأل عنهم " (1) . تاسعَا: التبرج سنة إبليسية: المعركة مع الشيطان معركة جدية، وأصيلة، ومستمرة، وضارية، لأنه عدو عنيد يصر على ملاحقة الإنسان في كل حال، وعلى إتيانه من كل صوب وجهة، كما وصفه الله تعالى في قوله: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)) [الأعراف: 16، 17] ، ولا عاصم لبني آدم من الشيطان إلا التقوى والإيمان والذكر، والاستعلاء على الشهوات، وإخضاع الهوى لهدى الله تبارك وتعالى. ومن استعراض ما حدث لآدم عليه السلام مع عدوه إبليس نرى أن الحياء من التعري وانكشاف السوءة شيء مركوز؟ في طبع الإنسان وفطرته إذ يقول الله سبحانه: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا) [الأعراف: 20] ،. وقال عز وجل: (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) [الأعراف: 22] ،. وقال عز من قائل: (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) [طه: 121] . لقد نسي آدم، وأخطأ، وتاب، وأستغفر، فقبل الله توبته، وغفر له، وانتهى أمر تلك الخطيئة الأولى، ولم يبق منها إلا رصيد التجربة الذي يعين   (1) أخرجه البخاري في " الأدب المفرد" (590) ، وابن حبان (50) ، والحاكم (1/ 19) ، والإمام أحمد (6/19) ، وابن أبي عاصم في "السنة" رقم (89) ، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وفيه أن هذه المرأة الخائنة احتاجت إلى غياب زوجها حتى تتبرج، فما عسانا نقول في نساء اليوم اللائي لا يحتجن إلى ذلك، بل يرتكبن أقبح أنواع التبرج وعلى مرأى ومسمع، بل وإقرار ورضَا من أزواجهن؟! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 ابن آدم في صراعه الطويل المدى مع الشيطان الذي يأتيه من مواطن! الضعف فيه، فيغويه، ويمنيه، ويوسوس له حتى يستجيب فيقع في المحظور. إن قصة آدم وحواء مع إبليس تكشف لنا مدى حرص عدو الله على كشف السوءات، وهتك الأستار، وإشاعة الفاحشة، وأن هذا هدف مقصود له. ومن ثم حذرنا الله عز وجل عن هذه الفتنة خاصة، فقال. جل وعلا: (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)) [الأعراف: 27] ،. ومن هنا فإن إبليس هو رائد الدعوة إلى كشف العورات، وهو مؤسس الدعوة إلى التبرج بدرجاته المتفاوتة، بل هو الزعيم الأول لشياطين الإنس والجن الداعين إلى (تحرير) المرأة عن قيد الستر والصيانة والعفاف. ومن ثم قال الله تبارك وتعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)) [فاطر: 6] ،. عاشرًا: التبرج من سنن اليهود والنصارى: (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)) [المائدة: 64] ،. لقد اتفق مخططوا الدولة الصهْيُونية العالمية التي تريد أن تسيطر على العالم في (بروتوكولات حكماء صهيون) على أن من السبل التي يجب اتباعها لإخضاع من يسمونهم (الجوييم) أو (الأمميين) - حربَ الأخلاق، وتقويض نظام الأسرة بشتى الوسائل الممكنة، ووجدوا أن الأسباب المدمرة للأسرة تتركز في كل ألوان الإغراء بالفواحش، وإثارة الشهوات. وهكذا غَدَوْا يصنعون: عن طريق الأفلام الماجنة التي توزعها في العالم (دور صهيونية) ، وعن طريق الأزياء الخليعة التي تنشرها دور الأزياء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 الصهيونية؟ وكذا المجلات والقصص ونحوها ولليهود باع كبير في هذا المجال، عرفوا به في كل عصر ومصر (1) وها هو ذا ناصحنا الأمين رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذرنا أولا من فتنة النساء (2) في حديث أسامة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" (2) ثم ها هو يخص فتنة النساء بالتحذير، ويبين لنا أنها كانت أول ما فتن به بنو إسرائيل، وذلك في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله عز وجل مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أولَ فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" (3) . وقد شرع الله لهن الستر، وأمَرَهُنَّ بالصيانة، فقلن (سمعنا وعصينا) ، كما كانت عادة الأمة المغضوب عليها. ويشرح لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم جانبًا من فتنة نساء بني إسرائيل وإلحاحهن على التحيل لبث هذه الفتنة فيما روراه عنه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كانت امرأة من بني إسرائيل قصيرة تمشي مع امرأتين طويلتين، فاتخذت رجلين من خشب (4) ، وخاتما من ذهب، مُغَلفا بطين، ثم حَشَته مِسكا، وهو أطيب الطيب، فمرت بين المرأتين؟ فلم يعرفوها، فقالت بيدها هكذا" (5) وَيُروَى عن عائشة رضي الله عنها قالت: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في   (1) انظر: "المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية" ص (29) . (2) تقدم تخريجه. (3) تقدم تخريجه. (4) وذلك لتبدو طويلة، تماما كما يفعل بعض النساء اليوم من لبس ما بـ (الكعب العالي) وللغرض نفسه. (5) تقدم تخريجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 المسجد، إذ دخلت امرأة مُزَيَّنة، ترفل (1) في زينة لها في المسجد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس انهوا نساءكم عن لبس الزينة، والتبختر في المسجد، فإن بني إسرائيل لم يلعنوا حتى لبست نساؤهم الزينة وتبخترن في المساجد" (2) . وقد حكت كتبهم أن الله سبحانه وتعالى عاقب بنات صهيون على تبرجهن، ففي الأصحاح الثالث من سِفْر أشْعِيا: (إن الله سيعاقب بنات صهيون علي تبرجهن والمباهات برنين خلاخيلهن بأن ينزع عنهن زينة الخلاخيل والضفائر والأهِلةِ والحِلَقِ والأساور والبراقع والعصائب وفي سفر أشعيا: (وقضى الله على بنات صهيون إذ يتشامخن ويمشين ممدودات الأعناق، غامزات لعيونهن، وخاطرات في سيرهن، يخشخشن بأرجلهن أن يعري عورتهن، وينزع في ذلك اليوم زينة الخلاخيل، والأساور، والبراقع) . وقد كان نساء العجم من اليهود أو النصارى الذين يعيشون مع المسلمين يحرصن على هذا التبرج، قال سعيد بن أبي الحسن للحسن البصري أخيه: إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورءوسهن، قال: اصرف بصرك عنهن (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) الآية (3) ضعف الأمة مرض التبرج أحد أعراضه وقد ظلت فتنة التبرج تطل برأسها حينًا بعد حين خلال أحقاب التاريخ الإسلامي، ولكنها ما كانت تستشري إلا في حالة ضعف الأمة   (1) ترفل: من رفل في ثيابه، إذا أطالها وجرها متبخترا. (2) رواه ابن ماجه في الفتن: باب فتنة النساء، وقال البوصيري في "الزوائد": هذا إسناد ضعيف، داود بن مدرك لا يُعرف، وموسى بن عبيدة ضعيف اهـ (3/241) . (3) "فتح الباري " (11/ 9) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 وانهزامها، مثال ذلك: الغزو العسكري الكافر وأقرب مثال أمامنا الحملة الفرنسية (1) ، ومثال آخر: الغزو الفكري من الداخل على يد أعداء الأمة المسلمة من أمثال "أتاتورك"، و"عبد الناصر"، و"السادات "، وسائر الطواغيت من الساسة والمفكرين (2) . ولا يزال أهل الكتاب خاصة اليهود يحرضون المرأة على التهتك والتبرج، فيهود الدونمة أول من حاول نزع الحجاب قي الولايات الإسلامية غير العربية، (من ذلك ما حدث في مدينة "سالونيك " مقر تجمعهم في عام 1914م من تنظيمهم لحفل ليلي، وقد استدعوا بعض النساء اليهوديات يحملن أسماء إسلامية ليقمن بتمزيق الحجاب على خشبة المسرح أمام الناس، ولكن الحكومة منعت هذا الحفل لئلا تثير عواطف المسلمين) (3) . وقد وقفت الأصابع الصليبية والصّهْيُوْنِيَّة تحرك عملاءها من وراء ستار، وأحيانًا عيانًا بيانًا: ْ- * فهذان القسيسان اللاهوتيان (دنلوب) و (كرومر) يناهضان الإسلام مناهضة متواصلة تحت ستار الاحتلال الإنكليزي لمصر. * وهذا (مرقص فهمي) القبطي يدعو صراحة إلى القضاء على الحجاب الإسلامي. * وهذا (الدوق داركير) يهاجم الحجاب. * وهذه الأميرة (نازلي) ترعى دعوة السفور، وتبثها في المجتمع المصري من خلال صالونها المشهور. * وهذا (جرجي نقولا باز) يؤلف كتابين تأييدًا لدعوة السفور التي   (1) راجع "معركه الحجاب والسفور" ص (89) . (2) وقد أشبعنا الكلام في تاريخ هذه المؤامرات في "السابق". (3) "التبرج والاحتساب عليه" لعبيد بن عبد العزيز ص (44) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 تبناها (قاسم أمين) . * وهذا (لويس عوض) يحرض على التبرج والتحرر من قيود الدين الإسلامي، إلى آخر تلك القائمة السوداء في كل عصر ومصر: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)) [التوبة: 32] ،. ومع تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم من التشبه بالكفار، وسلوك سبلهم خاصة في مجال المرأة إلا أن أغلب المسلمين خالفوا هذا التحذير، وتحققت نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سَنن مَن كان قبلكم شبرا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضَب لتبعتموهم "، قيل: اليهود والنصارى؟ قال: "فمن"؟ (1) . فما أشبه هؤلاء اللاتي أطعن اليهود والنصارى، وَعَصَيْنَ الله ورسوله بهؤلاء اليهود المغضوب عليهم الذين قابلوا أمر الله بقولهم: (سمعنا وعصينا) ، وما أبعدهن عن سبيل المؤمنات اللاتي قلن حين سمعنِ أمر الله: (سمعنا وأطعنا) ، قال تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)) [النساء: 115] . حادي عشر التبرج جاهلية منتنة: قال تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) [الأحزاب: 33] . وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم دعوى الجاهلية بأنها منتنة أي خبيثة، وأمرنا بنبذها، وقد جاء في صفته صلى الله عليه وسلم أنه (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) [الأعراف: 157] ،.   (1) تقدم تخريجه في "معركة الحجاب والسفور" ط. الثالثة ص (14) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 وقد تبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل من يدعو بدعوى الجاهلية، فقال: "ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية، (1) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال صلى الله عليه وسلم: "أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطَّلِبُ دمِ امرئ بغير حق ليهريق دمه " (2) . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وسنة الجاهلية اسم جنس يعم جميع ما كان أهل الجاهلية يعتمدونه اهـ. ودعوي الجاهلية شقيقة تبرج الجاهلية، كلاهما منتن خبيث، أبغضه الله تعالى، وحرَمه علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الأولى: "ما بال دعوى الجاهلية؟ دَعوها فإنها منتنة" (3) ، فوجب أن نقول في الأخرى: "دعوها فإنها منتنة"، بل ضعوها حيث وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا قال؟ "ألا إنَّ كُلَّ شيء من أمرِ الجاهلية تحت قَدَمي موضوع " (4) . فلا يجوز لأي مسلمة بحال أن ترفع ما وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو تعَظِّمَ   (1) رواه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه البخاري (3/ 198) في الجنائز: باب ليس منا من ضرب الخدود، ومسلم رقم (103) في الإيمان: باب تحريم ضرب الخدود، والترمذي رقم (999) في الجنائز: باب ما جاء في النهي عن ضرب الخدود، والنسائي (4/ 20) في الجنائز: باب ضرب الخدود. (2) رواه البخاري في "الديات" باب، من طلب دم امرئ بغير حق (12/ 219) ط. السلفية - حديث رقم (6882) . (3) قطعة من حديث رواه عن جابر رضي الله عنه البخاري (6/ 631) في المناقب: باب ما ينهى من دعوى الجاهلية، وفي تفسير سورة المنافقون (8/ 516-1517) ، ومسلم رقم (2584) في البر والصلة: باب نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا، والترمذي رقم (2312) في تفسير سورة المنافقون. (4) رواه أبو داود في المناسك: باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم رقم (1905) ، والترمذي في التفسير، وابن ماجة في المناسك، والدارمي في المناسك، والإمام أحمد (2/ 103) (5/ 73) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 ما حَقره من أمر الجاهلية سواء في ذلك: ربا الجاهلية أو تبرج الجاهلية، أو دعوى الجاهلية، أو حكم الجاهلية، أو ظن الجاهلية، أو حمية الجاهلية، أو سنة الجاهلية. ثانِى عشر: التبرج انتكاس، وتخلف، وانحطاط: من استعراض ما حدث لآدم عليه السلام مع عدوه إبليس نرى أن الحياء من التعري وانكشاف السوءة شيء مركوز في طبع الإنسان وفطرته، إذ يقول الله سبحانه: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا) [الأعراف: 20] . ويقول عز وجل: (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [الأعراف: 22] . ويقول سبحانه: (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا) [الأعراف: 27] ،. وكل هذه الآيات توحي بأهمية هذه المسألة وعمقها في الفطرة البشرية، فاللباس، وستر العورة ة زينة للإنسان، وستر لعوراته الجسدية، كما أن التقوى لباس وستر لعوراته النفسية. والفطرة السليمة تنفر من انكشاف سوءاتهما الجسدية والنفسية، وتحرص على سترها ومواراتها، والذين يحاولون تعرية الجسم من اللباس، وتعرية النفس من التقوى ومن الحياء من الله، ثم من الناس. والذين يطلقون ألسنتهم، وأقلامهم، وأجهزة التوجيه والإعلام كلها لتأصيل هذه المحاولة - في شتى الصور والأساليب الخبيثة - هم الذين يريدون سلب الإنسان خصائص فطرته، وخصائص إنسانيته، التي بها صار إنسانًا متميزَا عن الحيوان (1) . قال تبارك وتعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ   (1) "اللباس والزينة في الشريعة الإسلامية" ص (16- 17) ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)) [الإسراء: 70] ،. إن العري فطرة حيوانية، ولم تزل الحيوانات في انكشاف منذ خلقت، لم يتغير حالها يومًا، بعكس الإنسان الذي يصح أن نَصِفَهُ بأنه (حيوان مستور) . وهذه الفطرة الحيوانية لا يميل الإنسان إليها إلا وهو يرتكس إلى مرتبة أدنى من مرتبة الإنسان، إن رؤية العُرْي والتكشف جمالًا هو انتكاس في الذوق البشري قطعَا، ومؤشر واضح يبين انتشار التخلف في المجتمع البشري. وحتى هؤلاء الذين يتشدقون بالتقدم المزعوم، يقولون: إن الإنسان بدأ حياته على طريقة الحيوان عاريَا من كل ستر إلا شعره، ثم رأى أن يستر جسمه بأوراق الشجر، ثم بجلود الحيوانات، ثم جعل يترقى في مدارج الحضارة حتى اكتشف الإبرة، وابتدع وسيلة الحياكة، فاستكمل ستر جسمه. وهكذا كانت نزعة التستر وليدة التقدم المدني، فكل زيادة في هذا التقدم كانت مؤدية إلى زيادة في توكيد الحشمة، وكل خلل في كمال الستر عنوان التخلف والرجعية. وآية ذلك أن المتخلفين في أواسط أفريقيا عراة، حين تشرق حضارة الإسلام في هذه المناطق، يكون أول مظاهر هذه الحضارة اكتساء العراة، وانتشالهم من وهدة التخلف، والتسامي بهم إلى مستوى (الحضارة) بمفهومها الإسلامي الذي يستهدف استنقاذ خصائص الإنسان وإبرازها. قال الشيخ (مصطفى صبري) رحمه الله: لا خلاف في أن السفور حالة بداوة وبداية في الإنسان، والاحتجاب طرأ عليه بعد تكامله بوازع ديني أو خلقي يَزَعُهُ عن الفوضى في المناسبات الجنسية الطبيعية، ويسد ذرائعها، ويكون حاجزًا بين الذكور والإناث .... ثم إن الاحتجاب كما يكون تقييدًا للفوضى في المناسبات الجنسية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 الطبيعية، ويضاد الطبيعة من هذه الحيثية، فهو يتناسب مع الغيرة التي جُبل عليها الإنسان، ويوافق الطبيعة من ناحيته الأخرى، إلا أن الغيرة غريزة تستمد قوتها من الروح، والتحرر عن القيود في المناسبة الجنسية غريزة تستمد قوتها من الشهوة الجسمانية، فهذه تغري بالسفور، وتلك تبعث على الاحتجاب، وبين هاتين الغريزتين تجافِ، وتحارب يجريان في داخل الإنسان اهـ (1) . ثالث عشر: التبرج باب شر مستطير: وذلك لأن من يتأمل نصوص الشرع، وعِبَر التاريخ يتيقن مفاسد التبرج وأضراره على الدين والدنيا، لا سيما إذا إنضم إليه الاختلاط المستهتر. فمن هذه العواقب الوخيمة: تسابق المتبرجات في مجال الزينة المحرمة لأجل لفت الأنظار إليهن، مما يجعل المرأة كالسلعة المهينة الحقيرة المعروضة لكل من شاء أن ينظر إليها ومنها: الإعراض عن الزواج، وشيوع الفواحش، وسيطرة الشهوات. ومنها: انعدام الغيرة، واضمحلال الحياء. ومنها كثرة الجرائم. ومنها: فساد أخلاق الرجال خاصة الشباب، خاصة المراهقين، ودفعهم إلى الفواحش المحرمة بأنواعها. ومنها: تحطيم الروابط الأسرية، وانعدام الثقة بين أفرادها، وتفشي الطلاق. ومنها: المتاجرة بالمرأة، كوسيلة دعاية، أو ترفيه في مجالات التجارة وغيرها. ومنها: الإساءة إلى المرأة نفسها، والإعلان عن سوء نيتها، وخبث طويتها، مما يعرضها لأذية الأشرار والسفهاء.   (1) "قولي في المرأة، للشيخ مصطفى صبري رحمه الله ص (24- 25) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 ومنها: انتشار الأمراض: قال صلى الله عليه وسلم: "لم تظهر الفاحشة في قوم قط؛ حتى يعلنوا بها؛ إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مَضَوْا" (1) . ومنها: تسهيل معصية الزنا بالعين، قال صلى الله عليه وسلم: "العينان زناهما النظر" (2) ، وتعسير طاعة غض البصر التي أُمِرنا بها إرضاء لله سبحانه. ومنها: استحقاق نزول العقوبات العامة التي هي قطعًا أخطر عاقبة من القنابل الذرية، والهزات الأرضية، قال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)) [الإسراء: 16] ، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعذاب " (3) . * * *   (1) جزء من حديث طويل رواه عن ابن عمر رضي الله عنهما ابن ماجة (4019) ، وأبو نعيم في (الحلية) (8/ 333- 334) ، والحاكم (4/540) ، وقال صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. (2) تقدم تخريجه. (3) رواه أبو داود في الملاحم، والترمذي في الفتن، وابن ماجة فيه أيضًا، والإمام أحمد (1/ 5، 7) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 الباب الرابع الفصل الأول : شروط الحجاب الشرعي الفصل الثاني: أين نحن من الحجاب الشرعي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 الفصل الأول شروط الحجاب الشرعي إذا تتبعت الآيات القرآنية، والسنة المحمدية، والآثار السلفية في هذا الموضوع، تبين لك أن المرأة إذا خرجت من دارها وجب عليها أن لا تُظْهرَ شيئا من زينتها، وأن تستر جميع بدنها بأي نوع أو زي من اللباس، ما اجتمعت (1) فيه الشروط الآتية. الأول: استيعاب جميع بدن المرأة (على الراجح) . الثاني: أن لا يكون زينة في نفسه. الثالث: أن يكون صفيقًا لا يشف. الرابع: أن يكون فضفاضا غير ضيق. الخامس: أن لا يكون مبخرًا مطيبا. السادس: أن لا يشبه لباس الرجل. السابع: أن لا يشبه لباس الكافرات. الثامن: أن لا يكون لباس شهرة (2) .   (1) فإذا تخلف منها شرط واحد لم يُعَدَّ الحجابُ شرعيا، غير أنه يراعى الخلاف الفقهي في الشرط الأول فقط، وأما سائر الشروط فقد اختصرتها من كلام العلامة الألباني في "حجاب المرأة المسلمة"، وكأنه أول من ضبط شروط الحجاب هذا الضبط، فجزاه الله خيرَا، ورحمه رحمة واسعة. (2) الشروط من السادس إلى الثامن تحرم على المرأة مطلقَا سواء داخل بيتها أو خارجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 الشرط الأول استيعاب جميع البدن وهو موضوع البحث في هذا القسم، وسوف نفصل أدلته من القرآن والسنة والاعتبار في الباب الخامس إن شاء الله، وكذا سنعرض لمناقشة الشبهات التي استدل بها المخالفون والرد عليها في الباب السادس إن شاء الله تعالى. الشرط الثاني ألا يكون زينة في نفسه ومن أدلة ذلك: قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) الآية [النور: 31] ،، لأنه بعمومه يشمل الثياب الظاهرة إذا كانت مزينة تلفت أنظار الرجال إليها، ويشهد لذلك قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) [الأحزاب: 33] ،. وقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل فارق الجماعة، وعصى إمامه، ومات عاصيا، وأمة أو عبد أبق فمات، وامرأة غاب عنها زوجها، قد كفاها مؤونة الدنيا، فتبرجت بعده فلا تسأل عنهم " (1) . و (التبرج: هو أن تبدي المرأة من زينتها ومحاسنها وما يجب عليها ستره مما تَستدعي به شهوة الرجل) (2) . قال العلامة (الألباني) : (والمقصود من الأمر بالجلباب إئما هو ستر زينة   (1) تقدم تخريجه. (2) راجع ص (133) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 المرأة، فلا يعقل حينئذ أن يكون الجلباب نفسه زينة، وهذا كما ترى بَيِّن لا يخفى، ولذلك قال الإمام (الذهبي) في كتاب (الكبائر) (1) : (ومن الأفعال التي تلعن عليها المرأة إظهار الزينة والذهب واللؤلؤ تحت النقاب، وتطييبها بالمسك والعنبر والطيب إذا خرجت، ولبسها الصباغات والأزر الحريرية والأقبية القصار، مع تطويل الثوب وتوسعة الأكمام وتطويلها، وكل ذلك من التبرج الذي يمقت الله عليه، ويمقت فاعله في الدنيا والآخرة، ولهذه الأفعال التي قد غلبت على أكثر النساء، قال عنهن النبي صلى الله عليه وسلم: "اطلعت على النار، فرأيت أكثر أهلها النساء") اهـ (2) . قلت: ولقد بلغ الإسلام في التحذير من التبرج إلى درجة أنه قرنه بالشرك والزنى والسرقة وغيرها من المحرمات، وذلك حين بايع النبي صلى الله عليه وسلم النساء على أن لا يفعلن ذلك، فقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: جاءت أمَيمة بنت رُقيقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإسلام، فقال: "أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئا، ولا تسرقي، ولا تزني، ولا تقتلي ولدك، ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك، ولا تنوحي، ولا تتبرجي تبرج الجاهلية الأولى" (3) .   (1) الكبائر ص (102) . (2) انظر ص (136) . (3) تقدم تخريجه، وقد قال الآلوسي في "روح المعاني ": (ثم اعلم أن عندي مما يلحق بالزينة المنهي عن إبدائها ما يلبسه أكثر مترفات النساء في زماننا فوق ثيابهن ويستترن به إذا خرجن من بيوتهن، ووهو غطاء منسوج من حرير ذي عدة ألوان، وفيه من النقوش الذهبية والفضية ما يبهر العيون، وأرى أن تمكين أزواجهن ونحوهم لهن من الخروج بذلك ومشيهن به بين الأجانب من قلة الغيرة، وقد عمت البلوى بذلك. ومثله ما عمت به البلوى أيضًا من عدم احتجاب أكثر النساء من إخوان بعولتهن، وعدم مبالاة بعولتهن بذلك، وكثيرا ما يأمرونهن به، وقد تحتجب المرأة منهم بعد الدخول أيامًا إلى أن يعطوها شيئَا من الحلي ونحوه فتبدولهم، = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 الشرط الثالث أن يكون صفيقا فلا يشف أما الصفيق فلأن الستر لا يتحقق إلا به، وأما الشفاف فإنه يزيد المرأة فتنة وزينة، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: "سيكون في آخر أمتي نساء كاسيات عاريات، وعلى رؤوسهن كأسنمة البخت، العنوهن فإنهن ملعونات " (1) ، زاد في حديث آخر: "لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا" (2) . قال ابن عبد البر:، أراد صلى الله عليه وسلم النساء اللواتي يلبسن من الثياب الشيء الخفيف الذي يصف ولا يستر، فهن كاسيات بالاسم، عاريات في الحقيقة) (3) . وعن دحية الكلبي رضي الله عنه قال؟ أتي النبي صلى الله عليه وسلم بَقَبَاطِيّ (4) ، فأعطاني قُبْطِيَّة، وقال: "اصْدَعْها صَدْعين (5) ، فاقطع أحدهما قميصا، وأعط الآخر امرأتك تختمر به"، فلما أدبر قال: "وأمر امرأتك أن تجعل تحته ثوبا لا   = ولا تحتجب منهم بعد، وكل ذلك مما لم يأذن به الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأمثال ذلك كثير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) اهـ (6/ 56) . انظر (حجاب المرأة المسلمة) للألباني ص (55- 56) . (1) تقدم تخريجه. (2) تقدم تخريجه. (3) انظر: "تنوير الحوالك " (3/ 103) . (4) القباطي: بفتح القاف، وكسر الطاء المهملة، وتحتية مشددة؛ وجمع قبطية، وهي ثوب من ثياب مصر رقيقة بيضاء، كأنه منسوب إلى القبط، وهم أهل مصر، وضم القاف من تغيير النسب، وهذا في الثياب، فأما في الناس فقِبطي بالكسر، انظر: (النهاية) (4/ 6) . (5) أي: نصفين، وانظر: (معالم السنن " للخطابي (6/62) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 يَصِفُها" (1) . وعن أم علقمة بن أبي علقمة قالت: رأيت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر دخلت على عائشة وعليها خمار رقيق يشف عن جبينها، فشقته عائشة عليها وقالت: " أما تعلمين ما أنزل الله في سورة النور؟! ثم دعت بخمار فكستها" (2) وعن هشام بن عروة: أن المنذر بن الزبير قدم من العراق فأرسل إلى أسماء بنت أبي بكر بكسوةٍ من ثياب مروية وقوهية (3) رقاق عتاق بعدما كف بصرها، قال فلمستها بيدها ثم قالت: "أف، ردوا عليه كسوته "، قال: فشق ذلك عليه"، وقال: "يا أمة إنه لا يشف "، قالت: "إنها إن لم تشف فإنها تصف" (4) . وعن عبد الله بن أبي سلمة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كسا الناس القباطي، ثم قال: "لا تدرعها نساؤكم"، فقال رجل: "يا أمير المؤمنين قد ألبستها امرأتي، فأقبلت في البيت، وأدبرت، فلم أره يشف "، فقال عمر: "إن لم يشف فإنه يصف" (5) .   (1) رواه أبو داود (6/ 64) ، حديث رقم (4116) في اللباس: باب في لبس القباطي للنساء، والبيهقي في "السنن " (2/ 234) ، وقال المنذري: في إسناده عبد الله بن لهيعة، ولا يحتج بحديثه، وقد تابع ابن لهيعة على روايته هذه ابو العباس يحيى بن أيوب المصري، وفيه مقال، وقد احتج به مسلم، واستشهد به البخاري اهـ نقلاً من "عون المعبود" (11/175) (2) أخرجه ابن سعد (8/ 49- 50) ، ومالك (3/ 103) بنحوه، والبيهقي (2/ 235) ومداره على أم علقمة مرجانة، ذكرها ابن حبان في (الثقات) (1/ 236) ، وقال الذهبي: (لا تعرف) ، قال الألباني: فمثلها لا يحتج بها، وإنما يستشهد بروايتها. اهـ من (الحجاب) ص (57) . (3) مروية: ثياب مشهورة بالعراق منسوبة إلى "مرو" قرية بالكوفة، و"قوهية" من نسيج "قوهستان" ناحية بخراسان كما في "الأنساب للسمعاني " (10/268) . (4) أخرجه ابن سعد (8/ 184) ، وصحح الألباني إسناده إلي المنذر. (5) رواه البيهقي في "السنن" (2/ 234- 235) ، وابن أبي شيبة في "المصنف" = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 قال الألباني رحمه الله: وفي هذا الأثر والذي قبله إشارة إلى أن كون الثوب يشف أو يصف كان من المقرر عندهم أنه لا يجوز، وأن الذي يشف شر من الذي يصف، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: "إنما الخمار ما وارى البشرة والشعر" (1) ، وقالت شميسة: "دخلت على عائشة رضي الله عنها وعليها ثياب من هذه السَّيد (2) الصفاق (3) من درع وخمار ونقبة (4) قد لونت بشيء من عصفر" (5) . من أجل ذلك كله قال العلماء: (ويحب ستر العورة بما لا يصف لون البشرة. . . من ثوب صفيق أو جلد أو رق (6) ، فإن ستر بما يظهر فيه لون البشرة من ثوب رقيق لم يجز فيه لأن الستر لا يحصل بذلك) (7) . وقد عقد ابن حجر الهيتمي في "الزواجر" بابَا خاصُّا في لبس المرأة ثوبًا رقيقا يصف بشرتها وأنه من الكبائر، ثم استدل بحديث صنفان من أهل   = (195/8) بنحوه، ومعنى قوله "إن لم يشف فإنه يصف": أي: إن لم ير ما وراءه، فإنه يصف خلفها لرقته اهـ من "الفائق في غريب الحديث " (3/153) ، وقال مالك رحمه الله: بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى النساء أنه يلبسن القباطي، قال: وإن كانت لا تشف، فإنها تصف، قال مالك: معنى تصف: أي تلصق بالجلد) اهـ من "المنتقى" للباجي (7/ 224) . (1) رواه البيهقي معلقًا، فقال: روينا عن عائشة أنها سئلت عن الخمار، فقالت، فذكره (2/ 235) . (2) كذا بالأصل، ولعلها: "سيراء" انظر: "نيل الأوطار" (2/95) . (3) ثوب صفيق: متين بَين الصفاقة، وثوب صفيق وسفيق: جيد النسيج، كذا في (لسان العرب) وفي (القاموس) : (وثوب صفيق ضد السخيف) (3/ 262) ، والسخيف: هو القليل الغزل. (4) ثوب كالإزار يُشد كما تشد السراويل، كذا في (القاموس) (1/138) . (5) أخرجه ابن سعد (8/48) ، وصحح الألباني إسناده إلى شميسة. اهـ من (الحجاب) ص (58) . (6) بفتح الراء أو كسرها: جلد رقيق يُكتب فيه، (7) انظر (المهذب) (3/ 176) بشرح المجموع طبعة الشيخ زكريا على يوسف رحمه الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 النار لم أرهما" الحديث، ثم قال: " وذكر هذا من الكبائر ظاهر لما فيه من الوعيد الشديد، لم أر من صرح بذلك، إلا أنه معلوم بالأولى مما مر في تشبههن بالرجال " اهـ (1) . الشرط الرابع أن يكون فضفاضا غير ضيق فيصف شيئا من جسمها وذلك لأن الغرض من الثوب إنما هو رفع الفتنة، ولا يحصل ذلك إلا بالفضفاض الواسع! وأما الضيق فإنه وإن ستر لون البشرة، فإنه يصف حجم جسمها أو بعضه، ويصوره في أعين الرجال، وفي ذلك من الفساد والدعوة إليه ما لا يخفى، فوجب أن يكون واسعا. وقد قال أسامة بن زيد - رضي الله عنهما -: كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبطية كثيفة مما أهداها له دحية الكلبي، فكسوتها امرأتي، فقال: "مالك لا تلبس القبطية"؟ قلت: "كسوتها امرأتي "، فقال: "مُرها فلتجعل تحتها غلالة، فإني أخاف أن تصف حجم عظامها" (2) . فقد أمر صلى الله عليه وسلم بأن تجعل المرأة تحت القبطية الثخينة كلالة - وهي شعار يلبس تحت الثوب -؛ ليمنع بها وصف بدنها (3) ، والأمر يفيد الوجوب كما تقرر في الأصول.   (1) "الزواجر" (1/ 156- 157) ، وانظر الأحاديث في ذلك ص (157) . (2) أخرجه الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة" (1/ 441) ، والإمام أحمد في "المسند" (5/205) ، والطبراني في "الكبير" (1/160) ، والبيهقي (2/ 234) ، وابن سعد في "الطبقات" (4/64- 65) ، ونقل في (الفتح الرباني) عن الهيثمي قوله وفيه عبد الله بن عقيل وحديثه حسن، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات" اهـ (17/301) (3) وذلك لأن الثوب - وإن كان ثخينا - قد يصف الجسم إذا كان من طبيعته الليونة والانثناء على الجسد، كبعض الثياب الحريرية والجوخ المعروفة في هذا العصر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 قال العلامة الألباني: (ومما يحسن إيراده هنا استئناسا ما روي عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر: أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: "يا أسماء إني قد استقبحت ما يُصنع بالنساء أن يُطرح على المرأة الثوب فيصفها"، قالت أسماء: "يا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أريكِ. شيئًا رأيتُه بالحبشة"؟ فدعت بجرائد رطبة، فحتتها، ثم طرحت عليه ثوبًا، فقالت فاطمة: "ما أحسن هذا وأجمله تُعْرَفُ به المرأة عن الرجل فإذا مت أنا فاغسليني أنتِ وعلي، ولا يدخل عَلَيَّ أحدٌ"، فلما توفيت غسلها علي وأسماء رضي الله عنهم (1) . قال العلامة الألباني: فانظر إلى فاطمة بضعة النبي صلى الله عليه وسلم كيف استقبحت أن يصف الثوب المرأة وهي ميتة، فلا شك أن وصفه إياها وهي حية أقبح وأقبح، فليتأمل في هذا مسلمات هذا العصر اللاتي يلبسن من هذه الثياب الضيقة، ثم ليستغفرن الله تعالى، "وليتبن إليه، وليذكرن قوله صلى الله عليه وسلم: "الحياءُ والإيمان قُرِنا جميعا، فإذا رُفِعَ-أحدُهما رُفع الآخر" (2)) اهـ (3) . الشرط الخامس أن لا يكون مبخرا مطيبا وذلك لأحاديث كثيرة تنهى النساء عن التطيب إذا خرجن من بيوتهن؟ منها: ما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية" (4) .   (1) تقدم تخريجه. (2) تقدم تخريجه. (3) (حجاب المرأة المسلمة) ص (63) . (4) تقدم تخريجه، وانظر شرحه قي: "فيض القدير" (3/147) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 وعن زينب الثقفية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خرجت إحداكن إلى المسجد فلا تقربن طيبا" (1) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما أمرأة أصابت بخورا، فلا تشهد معنا العشاء الآخرة" (2) . وعن موسى بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن امرأة مرت به تعصف ريحها، فقال: يا أمة الجبار، المسجد تريدين؟ قالت: نعم، قال: وله تطيبتِ؟ قال!: نعم، قال: فارجعي فاغتسلي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من امرأة تخرج إلى المسجد تعصف ريحها فيقبل الله منها صلاة حتى ترجع إلى بيتها فتغتسل" (3) . قال الألباني رحمه الله: ووجه الاستدلال بهذه الأحاديث على ما ذكرنا العمومُ الذي فيها، فإن الاستعطار والتطيب كما يستعمل في البدن، يستعمل في الثوب أيضَا لا سيما وفي الحديث الثالث ذكر البخور، فإنه بالثياب أكثر استعمالًا وأخص. وسبب المنع منه واضح وهو ما فيه من تحريك داعية الشهوة، وقد اْلحق به العلماء ما في معناه، كحسن الملبس، والحلي الذي يظهر، والزينة   (1) رواه مسلم رقم (443) في "الصلاة،: باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، وأنها لا تخرج مطيبة (4/ 163- نووي) ، ورواه النسائي (8/ 154- 155 ) في الزينة: باب النهي للمرأة أن تشهد الصلاة أذا أصابت بخورًا. (2) رواه مسلم رقم (444) في الصلاة: باب خروج النساء إلى المساجد، وأبو داود رقم (4175) في الترجل: باب في رد الطيب، والنسائي (8/ 154 في الزينة: باب في النهي للمرأة أن تشهد الصلاة إذا أصابت من البخور. (3) أخرجه البيهقي (3/ 133- 246) ، وعزاه المنذري لابن خزيمة في "صحيحه "، انظر: الترغيب " (3/ 94) ، وأخرج نحوه أبو داود رقم (4174) في الترجل: باب في رد الطيب. قال المنذري: وأخرجه ابن ماجه، وفي إسناده عاصم بن عبيد الله العمري، ولا يُحتج بحديثه اهـ انظر "عون المعبود" (11/ 231) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 الفاخرة، وكذا الاختلاط بالرجال (1) . وقال ابن دقيق العيد: وفي حرمة التطيب علي مريدة الخروج إلى المسجد لما فيه من تحريك داعية شهوة الرجال، وأُلْحِقَ به حسن الملبس، والحلي الظاهر اهـ (2) . قلت: فإذا كان ذلك حرامًا على مريدة المسجد فما يكون الحكم علي مريدة السوق والأزقة والشوارع؟ لا شك أنه أشد حرمة، وأكبر إثمَا، وقد ذكر الهيتمي في "الزواجر" أن خروج المرأة من بيتها متعطرة متزينة من الكبائر، ولو أذن لها زوجها (3) . ثم إن هذه الأحاديث عامة تشمل جميع الأوقات، وإنما خص بالذكر العشاء الآخرة في الحديث الثالث لأن الفتنة وقتها أشد، فلا يتوهمن منه أن خروجها في غير هذا الوقت جائز) (4) . وقال ابن الملك: والأظهر أنها خصت بالنهي لأنها وقت الظلمة وخلو الطريق، والعطر يهيج الشهوة، فلا تأمن المرأة في ذلك الوقت من كمال الفتنة، بخلاف الصبح والمغرب، فإنهما وقتان فاضحان، وقد تقدم أن مَس الطيب يمنع المرأة من حضور المسجد مطلقًا اهـ (5) . الشرط السادس أن يشبه لباس الرجل وذلك لما ثبت من الأحاديث التي تتوعد المرأة إذا تشبهت بالرجل في   (1) انظر: "فتح الباري" (2/ 407) . (2) نقله عنه المناوي في "فيض القدير" (3/137) . (3) " الزواجر" (2/ 37) . (4) "حجاب المرأة المسلمة" ص (65) . (5) نقله عنه القاري في "المرقاة" (2/71) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 لباس أو غيره باللعن والطرد من رحمة الله، ومنها: ما رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس منا من تشبه بالرجال من النساء، ولا من تشبه بالنساء من الرجال" (1) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسَةَ المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل " (2) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمرجلاتِ من النساء، وقال: "أخرجوهم من بيوتكم " قال: فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلانًا، وأخرج عمر فلانًا (3) . وفي لفظ: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال". وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق والديه، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال، والديُّوث " (4) . وعن ابن أبي مليكة- واسمه عبد الله بن عبيد الله- قال: قيل لعائشة   (1) أخرجه الإمام أحمد (2/ 199- 200) ، وأبو نعيم في "الحليه " (3/ 321) ، وصححه الألباني في "الحجاب "- ص (66- 67) . (2) أخرجه أبو داود رقم (4098) في اللباس: باب لباس النساء، وابن ماجة (1/588) ، والحاكم (4/ 194) ، والإمام أحمد (2/325) ، وقال الحاكم: "صحيح" على شرط مسلم"، وأقره الذهبي، وصححه النووي في "المجموع". (3) أخرجه البخاري (10/ 346) في اللباس: باب إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت، وفي المحاربين: باب نفي أهل المعاصي والمخنثين، وأبو داود رقم (4930) في الأدب: باب في الحكم في المخنثين، والترمذي رقم (2785) و (2786) في الأدب، باب ما جاء في المتشبهات بالرجال من النساء، والدارمي (2/280- 281) ، والإمام أحمد رقم (1982، 2006، 2123) ، وابن ماجه (1/589) . (4) تقدم تخريجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 رضي الله عنها: إن المرأة تلبس النعل؟ فقالت: "قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَةَ من النساء" (1) . وفي هذه الأحاديث دلالهّ واضحة على تحريم تشبه النساء بالرجال، وعلى العكس، وهي عامة تشمل اللباس وغيره إلا الحديث الأول، فهو نص في اللباس وحده. وقد قال أبو داود في "مسائل الإمام أحمد": سمعت أحمد سئل عن الرجل يُلْبِسُ جاريته القرطق: قال: لا يلبسها من زي الرجال، لا يشبهها بالرجال (2) . وقد عد الهيتمي رحمه الله هذه المعصية من كبائر الذنوب، فقال: (عد هذا من الكبائر واضح لما عرفت من هذه الأحاديث الصحيحة وما فيها من الوعيد الشديد، والذي رأيته لأئمتنا أن ذلك التشبه فيه قولان: أحدهما: أنه حرام، وصححه النووي، بل صَوبه، وثانيهما: أنه مكروه، وصححه الرافعي في موضع، والصحيح، بل الصواب: ما قاله النووي من الحرمة، بل ما قدمته من أن ذلك كبيرة، ثم رأيت بعض المتكلمين على الكبائر عَده منها، وهو ظاهر) (3) . وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: قال الطبري: لا يجوز للرجال التشبه بالنساء في اللباس والزينة التي تختص بالنساء ولا العكس، وقال   (1) أخرجه أبو داود رقم (4099) في اللباس: باب لباس النساء، وفيه عنعنة ابن جريج، ويشهد له حديث أبي هريرة السابق، وقد صححه النووي رحمه الله في "المجموع " (4/307) . (2) "مسائل الإمام أحمد" للإمام أبي داود ص (261) (باب في اللباس) والقُرْطَقُ هو القَباء، ومنه حديث الخوارج في أبي داود في كتاب السنة باب رقم (28) : (كأني انظر إليه حبشي عليه قريطق) مصغرا، وانظر: (النهاية في غريب الحديث) (4/ 42) . (3) "الزواجر عن اقتراف الكبائر" (1/ 155) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: ظاهر اللفظ الزجر عن التشبه في كل شيء، لكن عرف من الأدلة الأخرى أن المراد التشبه في الزي وبعض الصفات والحركات ونحوها، لا التشبه في أمور الخير. قال: والحكمة في لعن من تشبه: إخراجه الشيء عن الصفة التي وضعها عليه أحكم الحكماء، وقد أشار إلى ذلك في لعن الواصلات بقوله: "المغيرات خلق الله" اهـ (1) . فثبت مما تقدم أنه لا يجوز للمرأة أن يكون زيها مشابهًا لزي الرجل، فلا يحل لها أن تلبس رداءَه وإزاره ونحو ذلك، كما تفعله بعض بنات المسلمين في هذا العصر من لبسهن ما يعرف ب (الجاكيت) و (البنطلون) ، وإن كان هذا في الواقع أستر لهن من ثيابهن الأخرى الأجنبية، فاعتبروا يا أولى الأبصار!. الشرط السابع أن لا يشبه لباس الكافرات وذلك لما ثبت من أن مخالفة الكفار، وترك التشبه بهم من المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، ولما يترتب على التشبه بالكفار من آثار سيئة على عقيدهّ المسلمين وسلوكياتهم (2) .   (1) نقله عنه الحافظ في الفتح" (10/ 345) ، والحديث المشار إليه رواه البخاري (8/498- فتح) ، (10/384، 390، 391، 393) ، ومسلم رقم (2125) في اللباس (14/105 - 107- نووي) ، وأبو داود رقم (4169) في الترجل، والترمذي رقم (2783) في الأدب، والنسائي (8/ 146) فِى الزينة، وابن ماجه (1/640) ، والدارمي (2/ 279) ، والإمام أحمد (1/ 433، 454) ، وابن حبان (7/416) . (2) وانظر تفصيل ذلك في "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أهل الجحيم"، الذي = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 ومما ينبغي أن يعلم أن أدلة هذه القاعدة الجليلة كثيرة جدا في الكتاب والسنة: فمن أدلة الكتاب قوله تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)) [الحشر: 19] ،. ومنها قوله تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)) [الجاثية: 18] ، يخبر تعالى أنه جعل رسوله صلى الله عليه وسلم على شريعة من الأمر شرعها له، وأمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وقد دخل في "الذين لا يعلمون" كل من خالف شريعته، و"أهواؤهم " ما يهوونه، وما عليه المشركون من هديهم الظاهر الذي هو من موجبات دينهم الباطل وتوابع ذلك فهم يهوونه، وموافقتهم فيه: اتباع لما يهوونه، ولذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين لهم في بعض أمورهم، ويسرون بذلك، ويودون أن لو بذلوا مالا عظيمًا ليحصل ذلك. وقال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)) [الحديد: 16] ،. قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى: فقوله: "ولا يكونوا" نهي مطلق عن مشابهتهم، وهو خاص أيضا في النهي عن مشابهتهم في قسوة قلوبهم، وقسوة القلوب من ثمرات المعاصي اهـ (1) . قال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية: ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية اهـ (2) .   = هو من نفائس شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى، ويجدر بكل مؤمن في هذا الزمان أن يتدارسه بإتقان. (1) "اقتضاء الصراط المستقيم" ص (43) . (2) "تفسير القرآن العظيم" (4/ 310) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 وفي الباب آيات أخر كثيرة وفيما ذكرنا كفاية. فتيين من هذه الآيات أن ترك هدي الكفار، والتشبه بهم في أعمالهم وأقوالهم وأهوائهم من المقاصد والغايات التي أسسها، وجاء بها القرآن الكريم، وقد قام صلى الله عليه وسلم ببيان ذلك وتفصيله للأمة، وحققته في أمور كثيرة من فروع الشريعة فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من عمل سنة غيرنا" (1) ، حتى عرف ذلك اليهود الذين كانوا في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وشعروا أنه صلى الله عليه وسلم يتحرى أن يخالفهم في- كل شئونهم الخاصة بهم، فقالوا: "ما يريد هذا الرجلُ أن يَدَعَ من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه " (2) . وهذا لا ينحصر في باب واحد من أبواب الشريعة المطهرة كالصلاة مثلا، وإنما تعداها إلى غيرها من العبادات، والآداب، والعادات، وسوف نقتصر هنا على إيراد ماله علاقة بموضوعنا إن شاء الله تعالى: فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم" (3) .   (1) عزاه السيوطي إلى الديلمي في "مسند الفردوس"، وعزاه الألباني إلى الطبراني في "الكبير"، وحسنه في "صحيح الجامع" رقم (5315) (5/ 102) ، وانظر شرحه في "فيض القدير" (5/ 386- 387) . (2) قطعة من حديث رواه مسلم رقم (302) في الحيض: باب جواز غسل الحائض رأس زوجها، وأبو داود رقم (258) في الطهارة، ورقم (2165) في النكاح، والترمذي رقم (2981) في التفسير، والنسائي (1/ 152) في الطهارة. (3) أخرجه الإمام أحمد (رقم 5114، 5115، 5667) ، وعلق البخاري في "صحيحه" بعضه (6/ 115) ، وأخرج القطعة الأخيرة منه أبو داود (2/ 173) وقال شيخ الإسلام في "الاقتضاء": "إسناده جيد" اهـ (39) ، وصححه العراقي في "المغني" (1/ 342) ، وحسنه الحافظ في (الفتح) (10/ 282) ، وذكر = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَ ثوبين معصفرين فقال: "إن هذه من ثياب الكفار، فلا تلبسها" (1) . وعن علي رضي الله عنه رفعه: "إياكم ولبوس الرهبان، فإنه من تَزَيا بهم أو تشبه، فليس مني " (2) . وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي مشيخة من الأنصار بيض لحاهم، فقال: "يا معشر الأنصار حَمروا أو صَفروا، وخالفوا أهل الكتاب "، قال: فقلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يتسرولون، ولا يأتزرون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسرولوا، وائتزروا، وخالفوا أهل الكتاب"، قال: فقلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يتخففون، ولا ينتعلون، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فتخففوا، وانتعلوا، وخالفوا أهل الكتاب"، قال: فقلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يقصون عثانينهم (3) ، ويوفرون سبالهم (4) ، فقال صلى الله عليه وسلم: "قصوا سبالكم، ووفروا عثانينكم، وخالفوا أهل الكتاب" (5) .   = في "بلوغ المرام" أن ابن حبان صححه (4/239 - سبل السلام) . (1) أخرجه مسلم (6/ 144) ، والنسائي (2/ 298) ، والحاكم (4/ 190) ، والإمام أحمد (2/162، 164، 193، 207، 211) ، وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". (2) قال الحافظ في "الفتح": أخرجه الطبراني في "الأوسط " بسند لا بأس به. اهـ (10/ 284) . (3) العثانين: جمع عثنون، وهي اللحية. (4) السبال: جمع سَبَلة، وهي الشارب. (5) أخرجه الإمام أحمد (5/ 264) من طريق القاسم قال: سمعت أبا أمامة به، قال الهيثمي في "المجمع" (5/ 131) : "رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح خلا القاسم، وهو ثقة، وفيه كلام لا يضر" اهـ، والحديث حسنه الحافظ في "الفتح" (9/ 291) وقال: "وأخرج الطبراني نحوه من حديث أنس"، = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 وفي كتاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عتبة بن فرقد رضي الله عنه: ".. وإياك والتنعم، وزي أهل الشرك، ولبوس الحرير.. " (1) . الشرط الثامن أن لا يكون لباس شهرة وذلك لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لبس ثوب شهرة فى الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة، ثم ألهب فيه نارًا" (2) . ولباس الشهرة هو كل ثوب يقصد به الاشتهار بين الناس، سواء كان الثوب نفيسَا يلبسه تفاخرًا بالدنيا وزينتها، أو خسيسا يلبسه إظهارًا للزهد والرياء، وقال ابن الأثير: (الشهرة ظهور الشيء، والمراد أن ثوبه يشتهر بين الناس لمخالفه لونه لألوان ثيابهم، فيرفع الناس إليه أبصارهم، ويختال عليهم بالعجب والتكبر) (3) . وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث "ألبسه الله ثوب مذلة"   = وذكر الهيثمي له شاهدَا من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عند الطبراني، قال في آخره: "وخالفوا أولياء الشيطان بكل ما استطعتم". (1) رواه الإمام أحمد في "المسند" رقم (92) بتحقيق العلامة أحمد شاكر رحمه الله (1/ 194) ، وقال: "إسناده صحيح". (2) أخرجه أبو داود رقم (4029) في اللباس: باب في لبس الشهرة، وابن ماجة (2/ 378- 379) رقم (3668) ، (3669) في اللباس: باب من لبس شهرة من الثياب، وحسنه المنذري في "الترغيب" (3/ 112) ، وابن مفلح في "الآداب" كما في "غذاء الألباب" (2/ 138) ، وقال الشوكاني: "رجال إسناده ثقات" اهـ من "نيل الأوطار" (2/ 125) ، وقال في "بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني": "وسنده صحيح " اهـ (17/ 289) ، وحسنه الألباني في "الحجاب" ص (110) . (3) نقله عن الشوكاني في "نيل الأوطار" (2/126) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 قال ابن رسلان: لأنه لبس الشهرة في الدنيا ليعز، ويفتخر على غيره، ويلبسه الله يوم القيامة ثوبًا يشتهر بمذلته واحتقاره بينهم عقوبة له، والعقوبة من جنس العمل. اهـ (1) . وقال المناوي: "ثم تلهب فيه النار" عقوبة له بنقيض فعله، والجزاء من جنس العمل، فأذله الله كما عاقب من أطال ثوبه خيلاء بأن خسف به فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة اهـ (2) . تنبيهات. * الأول: ليس هذا الحديث مختصَّا بنفيس الثياب، بل قد يحصل ذلك ممن يلبس ثوبَا يخالف ملبوس الفقراء من الناس، ليراه الناس فيتعجبوا من لباسه، ويعتقدوه، وإذا كان اللبس لقصد الاشتهار في الناس، فلا فرق بين رفيع الثياب ووضيعها، والموافق لملبوس الناس والمخالف، لأن التحريم يدور مع الاشتهار، والمعتبر القصد، وإن لم يطابق الواقع) (3) ، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" (4) . * الثاني: لعل الحكمة في تحريم أو كراهة لباس الشهرة؛ أنه يزري بصاحبه، وينقص مروءته. وفي "الغنية" للشيخ عبد القادر رحمه الله: (من اللباس المنزََّه عنه كل لبسة يكون بها مشتهرًا بين الناس، كالخروج عن عادة بلده وعشيرته   (1) نقله عنه في "نيل الأوطار" (2/126) . (2) "فيض القدير" (6/ 219) . (3) "نيل الأوطار" (2/ 126) ، وراجع- لزاما - "مجموع الفتاوى" (22/ 137- 139) . (4) رواه من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه البخاري (1/ 15) في بدء الوحي، والإيمان، والعتق، وغيرها، ومسلم رقم (1907) في الإمارة، وأبو داود رقم (2201) في الطلاق، والترمذي رقم (1647) في فضائل، الجهاد، والنسائي (1/95 -60) في الطهارة: باب النية في الوضوء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 فينبغي أن يلبس مما يلبسون لئلا يشار إليه بالأصابع، ويكون ذلك سببا إلى حملهم علي غيبته، فيشركهم في إثم الغيبة له) اهـ (1) . ومن فعل ذلك خيلاء حرم كما هو ظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله، أما لغير ذلك فقد رأي الإمام أحمد رجلًا لابسًا بردا مخططًا بياضًا وسوادًا، فقال: "ضع هذا، والبس لباس أهل بلدك "، وقال: "ليس هو بحرام، ولو كنت بمكة أو المدينة لم أعب عليك "، يعني: لأنه لباسهم هناك (2) . * الثالث: إذا تقرر أن المعتبر في الشهرة القصد والنية، فلا بأس حينئذ: 1- بلبس المنخفض من الثياب كسرًا لسورة النفس الأمارة بالسوء التي لا يؤمن عليها من التكبر إن لبست غالي الثياب، وتواضعَا لله عز وجل، واحتسابا للثواب الموعود علي ذلك، فعن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك اللباس تواضعا لله وهو يقدر عليه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق، حتى يخيِّره من أي حُلَلِ الإيمان شاء يلبَسها" (3) . 2- ولا بأس أيضًا بلبس الغالي من الثياب التي تحل شرعًا عند الأمن علي النفس من التسامي المشوب بنوع عن التكبر، إذا نوى بذلك تحصيل مطالب دينية صالحة: أ- كإظهار نعمة الله عليه، والتحدث بها امتثالا لقوله تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)) [الضحى: 11] ، وليجمع بين الجمال الظاهر بالنعمة، والجمال الباطن، بالشكر عليها، ولموافقة ما يحبه الله، قال   (1) ، (2) "غذاء الألباب بشرح منظومة الآداب" للسفاريني (2/138 - 139) . (3) أخرجه الترمذي رقم (2483) في صفة القيامة: باب رقم (40) ، وقال: "هذا حديث حسن"، ورواه الحاكم في "المستدرك " (4/ 184) ، وصححه، ووافقه الذهبي، ورمز له السيوطى بالصحة، وانظر شرحه في "فيض القدير" (6/101) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده" (1) . وعن أبي الأحوص عن أبيه مالك بن نضلة رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي ثوبَ دُون فقال لي: "ألَك مال"؟، قلت: نعم، قال: "من أيّ المال"؟، قلت: من كل المال قد أعطاني الله: من الإبل، والبقر، والغنم، والخيل، والرقيق، قال: "فإذا آتاك الله مالًا فَلْيُر أثَر نعمةِ الله عليك وكرامتِهِ " (2) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كُلْ ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك اثنتان: سَرَف، ومخيلَة" (3) . ب- أو ليتعرف على غناه الفقراءُ، فيقصدونه لطلب الزكاة والصدقات وقضاء الحاجات. ج- أو للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند من لا يلتفت إلا إلى ذوي الهيئات كلنا هو الغالب على عوام زماننا، وبعض خواصِّه (4) . 3- يتميز العلماء بلباس خاص (5) حتى يستدل عليهم المستفتي وطالب العلم. * الرابع: يدندن بعض ذوي الأغراض بدعوى أن التزام الحجاب فيه خروج عما ألفه المجتمع، واعتاده، وقد يشتبه الأمر على البعض فيتساءل:   (1) أخرجه- من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده- الترمذي (2819) في الأدب: باب ما جاء أن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته علي عبده، وقال: "هذا حديث حسن" – وانظر "تحفة الأحوذي" (8/106 - 107) . (2) أخرجه النسائي (8/ 196) في الزينة: باب ذكر ما يستحب من لبس الثياب، وما يكره منها، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 473) واللفظ له. (3) أخرجه البخاري تعليقا (10/ 265) في اللباس: في فاتحته، وقال الحافظ: "وصله ابن أبي شيبة في مصنفه، والدينوري في المجالسة، اهـ. (4) "نيل الأوطار" (2/ 125) . (5) انظر ص (202) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 وهل يكون الحجاب حينئذ لباس شهرة؟ ولإزالة هذا التوهم نقول بتوفيق الله: أولًا: إن هذا الأمر - أعني كون الحجاب نفسه لباس شهرة- محتمل في حالة واحدة فقط وهي: (مجتمع التزم نساؤه بكل شروط الحجاب، وشذت شرذمة منهن، فالتزمت كل شروط الحجاب ما عدا الشرط الأخير، وهو أن لا يكون لباس شهرة) ، وإلا فإن شروط الحجاب السابق ذكرها، والواجب توافرها مجتمعةً لا تتناقض. ثانيًا: أما في مجتمع شاع فيه السفور والتبرج والتهتك، ثم التزمت فئة قليلة من نسائه بزيِّ يستوفي كل شروط الحجاب، غير أنهن قصدن من وراء ذلك الشهرة أو التكبر والتفاخر، ولم يقصدن طاعة الله سبحانه، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فلهؤلاء النسوة حظ من الوعيد الوارد فيمن لبس ثوب شهرة؟ لأن المدار في اعتبار الثوب ثوبَ شهرة من عدمه إنما هو على النية والقصد، فالواجب هنا تصحيح النية، وتوجيهها خالصة لله عز وجل، لا مطالبة هؤلاء النسوة بخلع الحجاب موافقة للمجتمع الفاسد (1) . مثال ذلك: رجل هاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام، لا يقصد وجه الله عز وجل، وإنما هاجر لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، هل نكلفه بالبقاء فى دار الكفر، أم نأمره بتصحيح النية، ونذكره بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الإعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " الحديث (2) . فأين يا عباد الله من يلبس الثوب ليباهي به الناس، ويختال عليهم، ويشار إليه فيهم بالبنان عِزُّا وتعظيمًا، ويخالف زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لباس الشهرة، أين هذا من نساء مسلمات عفيفات، يتجشمن المشاق   (1) بل من الواجب أيضًا دعوة المتبرجات إلى اتباع سبيل المؤمنات، وتغيير هذا العرف الفاسد حتى يعود موافقَا للشرع المطهر. (2) تقدم تخريجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 لاستمساكهن بحبل الله المتين، ويعانين من أذى السفهاء وأعوان الشياطين، ويقاسين الغربة في أوطانهن وبين الأهلين؟! ثالثا: أن الشرع - وإن اعتبر موافقة لباس أهل البلدة، وعَدَّ مخالفتهم شهرة- إلا أن هذا مشروط بأن يكونوا مستقيمين على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما إذا فسدت فطرتهم، وانحرفوا عن الجادة، بحيث صار المعروف عندهم منكرًا، والمنكر معروفَا، فليس ذلك العرف الكاذب مسوغا لأن نجاريهم في ضلالهم بحجة عدم الاشتهار (1) . فإن واجبنا حينئذ ألا نقصد الاشتهار، بل نقصد التمسك بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) الآية [المائدة: 105] ، أما الزعم بان مخالفة أزياء قوم قد أسرفوا في محاكاة المشركين رجالا ونساءً ولم يرفعوا بآيات الله تعالى، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسًا، هو من الشهرة لشذوذه عما ألفه المجتمع، فهذا من أعجب الأشياء! إذ كيف يكون التمسك بالآيات القرآنية والنصوص النبوية شذوذًا؟! وهل يستقيم أن يكون اتباع سبيل الإفرنج المجرمين في التبرج والسفور استقامة واعتدالًا، واتباع سبيل المؤمنين في التستر والصيانة شذوذَا واعوجاجا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا، فهو ردٌّ" (2) ، وإذا كان الأمر كذلك فأين تقع الأحاديث الشريفة التالية   (1) وقد أشار إلى هذا المعنى سَيّد العُبادِ في زمانه محمد بن واسع رحمه الله لما دخل على بلال بن أبي بردة أمير البصرة، وكان ثوبه إلي نصف ساقيه، فقال له بلال: ما هذه الشهرة يا ابن واسع؟، فقال له ابن واسع: أنتم شهرتمونا، هكذا كان لباس من مضى، وإنما أننم طوَّلتم ذيولكم، فصارت السنة بينكم بدعة وشهرة اهـ، وقد عزاها ابن الحاج رحمه الله في "المدخل" (1/ 131) إلى الإمام أبي بكر محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي في كتابه "سراج الملوك والخفاء"، وراجع ص (403) . (2) رواه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها البخاري تعليقا بصيغة الجزم (4/ 416) في البيوع: باب النجش، ووصلة في الصلح (5/ 221) ، ومسلم = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 موقعها؟ وهي. * ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء" (1) . * وما رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن عنده يقول: "طوبى للغرباء"، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: "ناس صالحون في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم " (2) . * وما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي علي الناس زمان، الصابر فيه على دينه، كالقابض على الجمر" (3) . أين تقع هذه النصوص موقعها من الترغيب، إن لم يكن التمسك بالكتاب والسنة هو المتعين؟! * * *   = رقم (1718) في الأقضية، وأبو داود في السنة (2/ 506) ، وابن ماجه رقم (14) في المقدمة. (1) رواه مسلم رقم (145) في الإيمان: باب بيان أن الإسلام بدأ غريبَا. (2) رواه ابن المبارك في "الزهد" رقم (775) ، والإمام أحمد (2/ 177، 222) ، قال الألباني رحمه الله: إسناده جيد، رجاله كلهم ثقات من رجال "الصحيح" غير ابن لهيعة، وهو ثقة صحيح الحديث إذا روى عنه أحد العبادلة، ومنهم عبد الله بن المبارك، وهذا الحديث من روايته عنه كما ترى اهـ من "الصحيحة" رقم (1619) . (3) رواه الترمذي رقم (2261) في الفتن. باب رقم (73) ، وفي سنده عمر بن شاكر البصري، وهو ضعيف، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه "، وله شواهد يتقوى بها، ذكرها الألباني في "السلسلة الصحيحة" رقم (957) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 الفصل الثاني أين نحن من الحجاب الشرعي أيها الأب الرحيم.. أيها الزوج الغيور.. أيتها الأم الرءوم.. أيتها الأخت المسلمة! إن المسلم الغيور لو نظر إلى أحوال المسلمين والمسلمات اليوم، فسوف يندى جبينه خجلًا، ويقشعر بدنه أسفًا وحزنًا، وينخلع قلبه كمدا وغيظًا.. يكفيك أن تخرج من بيتك إلي أقرب طريق، أو متجر، أو وظيفة فترى بعينيك، وتسمع بأذنيك، إذًا. لهالك الأمر، واستهوتك أحزان ... فالعين باكية، والقلب حَرَّانُ فتجري دماء الغيرة في عروقك، وتصرخ مع الصارخ: لمثل هذا يذوب القلب من كمد ... إن كان في القلب إسلام وإيمان سوف ترى المرأة الكاسية العارية المتبرجة، هي وزوجها، وقد وضع ذراعه في ذراعها، ومشى إلى جوارها في الطريق فرحًا بفضيحتها، فخورا بعريها، مسرورًا بزينتها، مبهورا بمساحيقها وألوانها. وترى أباها قد أهمل تربيتها على - كتب ربها، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ورأى حالها المزرية، فغض منها الطرف، وتركها سادرة في غيها، تمرح وتلعب مع شيطانها، فلا يزجرها ولا ينهاها، متوهما أن هذا من حقها وترى أمها- بئست القدوة- وقد تبرجت مثلها، وأغرتها بالسفور، وحرضتها على التبرج والفجور، وزجرتها عن التستر والتحجب حتى يأتيها (نصيبُها) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 بفاسق مثلها. تراهم جميعا، وقد نزعوا برقع الحياء نزعا، وأجابوا واعظ الإيمان في قلوبهم قائلين: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ) . وبينما كانت الصحابيات رضي الله عنهن يستزدن (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم في طول ثيابهن، ترى هؤلاء النسوة قد قَصَّرن ثيابهن، وقصرن، وزين لهن الشيطان سوء عملهن فزعمن التبرج تقدمَا وتحررًا، وكلما ازداد تقلص الثوب عن بدن المتبرجة كلما كانت أحرى بوصف التقدم والتحرر، وأبرأ من التخلف والرجعية. يُقضى على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حَسَنًا ما ليس بالحسَنِ فأين الفطرة الآدمية؟ أين الحياء والغيرة؟ أين الإحساس والشعور؟ توارت كلها عن العين، وصارت أثرا بعد عين: لِحَد الركبتين تشمرينا ... بربك: أي نهر تعبرينا كأن الثوب ظل في صباح ... يزبد تقلصا حينا فحينا تظنين الرجال بلا شعور ... لأنكِ ربما لا تشعرينا (2) ولو أنك عَرَّجْتَ إلى البحر، واقتربت قليلا من الشاطئ لشاهدت الوحوش البشرية، والبهائم الآدمية في أوضاع مزرية يندى لها الجبين، كأنهم- في عريهم الفاضح- وحوش الغابات، وحيوانات الأدغال (3) !   (1) كما تقدم ص (109) . (2) "فقه النظر في الإسلام" ص (170) . (3) اعلم أنه لا يحل للمرأة أن تظهر شيئًا من بدنها أمام الرجال الأجانب؛ لأنها كلها عورة، كذا لا يحل لها أن تظهر ما بين السرة والركبة ولو للنساء المسلمات، ولهذا جاءت الأحاديث الصحيحة بمنع النساء من دخول الحمامات العامة مطلقا: فعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام " رواه النسائي، والترمذي، وَحَسنه، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم. وفي حديث أبي أيوب رضي الله عنه بلفظ: "ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر من نسائكم = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 ففي البحر سوءات وفي البر مثلها ... فيا ضيعة الأخلاق في البر والبحر (1) آخر: هل رأيتَ الجموعَ محتشداتِ ... فوق شَط الخِضَمِّ أو سابحاتِ ورأيتَ الحِسانَ يَمشينَ زَهْوا ... مُقبلات يَتهْنَ أو مُدْبِرات ضَلَلَتْهنَّ قُدْوَةْ الوالداتِ ... ومِنَ الوالدِين سوءُ أناِة ومن الزوجِ غَضُّ طَرْفٍ لِضَعْف ... أو طِباع في نفسِهِ فاسدات وانغماس الشقيقِ في شَهَواتٍ لا يُبالًي بمنهجِ الأخَوات فاطَرَحْن الحِشْمَةَ يَحْسَبَنْهَا مِنْ ... بالياتِ الأمُورِ والعادات حالةٌ تَجْرحُ الفضيلةَ حقا ... ولها تَدْمَى نَفْسُ ذِي النَّخَوات أيها البحرُ طهر القومَ واغسل ... ما تراهُ منهم منَ المنكرات (2) التبرج المقنع لئن كنا عرضنا آنفًا لصور من التبرج الصريح، فإننا نعرض فيما يلي إن شاء الله - لصور محدثة من التبرج لم يتعرض لها المصنفون قبل هذا العصر، لا لانعدامها، ولكن لأن أحدًا لم يكن ليجرؤ على تسمية المعاصي بغير   = فلا يدخل الحمام" رواه ابن حبان في "صحيحه"، والحاكم، وقال: "صحيح الإسناد". وعن أبي المليح الهذَلي أن نساءً من أهل "حمص" أو من أهل "الشام" دخلن على عائشة رضي الله عنها، فقالت: " أنتن اللاتي يدخلن نساؤكن الحمامات؟! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت زوجها، إلا هتكت الستر بينها وبين ربها " رواه الترمذي وحسنه، وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم، وقال: "صحيح علي شرطهما". وعلى أساس هذه الأحاديث فلا ينبغي التردد في تحريم ارتياد شواطئ الاصطياف، والحمامات المنتشرة في النوادي، بقياس الأولى، وذلك لما يجري في هذه الأماكن الموبوءة من أحوال يَرْفَضُ جبين القلم عرقًا من الخجالة بتسطيرها. (1) ، (2) "قولي في المرأة" ص (29- 30) بتصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 اسمها، فيسمى التبرج حجابا شرعيُّا! لقد كانت هذه الصور من التبرج تُدْرَج في مصنفات العلماء تحت اسم الفسوق، والعصيان، والتبرج الذي يضاهي تبرج الجاهلية الأولى، أما اليوم فقد انعكس الحال، واضطربت المفاهيم. لقد جهد أعداء الصحوة الإسلامية لوأدها في مهدها بالبطش والتنكيل، وأبى الله سبحانه إلا أن يتم نوره، ويظهر كلمته، فصار كيدهم هباءَ منثورَا. فرأوا أن يتعاملوا معها بطريقة خبيثة ترمي إلى الانحراف بها عن طريقها الرباني، فراحوا يروجون صورًا مبتدعة للحجاب على أنها (حل وسط) ترضي به المسلمةُ رَبها- زعموا-، وفي ذات الوقت تساير مجتمعها، وتحافظ على (أناقتها) ! وكان أن قذفت (بيوت الأزياء) التي أشفقت من بوار تجارتها المحرمة بنماذج ممسوخة من الأزياء تحت اسم (الحجاب العصري) الذي قوبل في البداية بتحفظ واستنكار. وكانت ظاهرة (الحجاب الشرعي) قد بدأت تفرض نفسها على واقع المجتمع، حتى صارت تشكل قوة اجتماعية ضاغطة أحرجت طائفة من المتبرجات، اللائي هرولن نحو (الحل الوسط) تخلصا من ذلك الحرج الاجتماعي، وبمرور الوقت تفشت ظاهرة (التبرج المقنع) المسمى بـ (الحجاب العصري) أو (حجاب التبرج) بإزاء ظاهرة (الحجاب الشرعي) . فما صفات حجاب التبرج؟ (1) * الأولى: أنه يكشف عورات مجمعا على تحريم كشفها: فبينما كان أول شروط الحجاب الشرعي أن يكون ساترا لبدن المرأة،   (1) انظر: "تبرج الحجاب" للشيخ محمد حسان وفقه الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 رأينا حجاب التبرج يكشف الوجه المنمص الحاجبين، وقد اختفى تحت قناع من الألوان الزاهية، وتلطخ وجهها بمساحيق متنوعة كأنها الطيف في تعددها، أما الحلي بأنواعها فقد برزت من الأذنين، وربما ظهر العنق، وجزء من الشعر، والقدمان، وربما تجاوزتهما، وترى صاحبته وقد ارتدت (عَينة) ترمز إلى الخمار، وقد خرجت مزينة مزخرفة، وترى في الخمار ما شئت من الألوان الصارخة كالأحمر والأصفر، وربما زادت على هذا الخمار ما يزيده زينة علي زينة فتضع شريطًا ذهبيًّا أو فضيًّا أو مزركشا، وقد التف على أعلى الخمار كأنه تاج، ثم تزعم صاحبة هذه الزينة الصارخة أنها محجبة، أي حجاب هذا الذي تزعمين؟! إن هذا خمار الخداع والتزييف، حجاب الزينة والفتنة، إنه حجاب عارِ متبرج فوق رأس فارغ خاوِ من العلم، والتقوى، والورع، والخوف، والاستحياء من الله تبارك وتعالى. وكم ذا بمصر من المضحكات ... ولكنه ضحك كالبكا! * الثانية: أنه زينة في نفسه: فترى هؤلاء الكاسيات العاريات صواحب (حجاب التبرج) يتفنن في فتنة الناس بألوان ثيابهن، ويضفن إلى ذلك ما شئن من الزوائد التي تزيدهن فتنة كالحلي وغيرها، وكأن القرآن الذي نزل فيه قول الله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) الآية وقوله تعالى: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) الآية وقوله عز وجل: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) الآية، إنما نزل علي قوم آخرين غير نساء المسلمين، وكأن الحق فيها على غيرنا وَجَبَ، وكأن هؤلاء الكاسيات العاريات يعاندن رب العزة، ويقلن بلسان الحال: "سمعنا وعصينا" تمامًا كما استقبلت أمة الغضب واللعنة أوامر الله عز وجل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 الثالثة: أنه شفاف، يظهر ما يجب ستره من العورات، فلا يحجب رؤية، ولا يمنع نظرا. الرابعة: أنه ضيق يصف العورات: فتراه التصق بها، حتى يتحققَ في صاحبته قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ونساء كاسيات عاريات، مائلات مملات" الحديث. الخامسة: أنه يكون معطرًا: فربما خرجت صاحبة هذا الحجاب المشئوم، فإذا بها ترسل سهام الشيطان إلى قلوب الرجال عبر تلك العطور الخبيثة فتلفت الأنظار، وتشيع الفاحشة في المؤمنين السادسة والسابعة: أنه أحيانًا يشبه ملابس الرجال: فتراهن يرتدين السروالات الضيقة، وأحيانَا يشبه ملابس الكافرات اللائي يتتبعن (الموضات) شبرًا بشبر، وذارعًا بذراع. الثامنة: أنه لباس شهرة وتفاخر: فترى صاحبته تتفنن في تطبيق قاعدة: (خالف تعرف) ، وكأن بين هؤلاء الكاسيات العاريات سباقًا حادا في عرض أزياء مستتر فهذه تلبس الحجاب الفاقع، وهذه تلبس الثوب الضيق الذي يكاد يشل حركتها، ثم تضع حول خصرها هذا (الحزام) الذهبي أو الفضي اللامع فإذا تلبست ببعض هذه الأفعال الشنيعة، أو كلها، تم توقيع العقد مع الشيطان للخروج إلى الشوارع بهذه الحال من التبرج والتهتك تحت ستار (الحجاب) المزعوم! ويظن البعض أنهن متدينات، وهن يحسبن في أنفسهن أنهن خير البنات والزوجات، وما هن إلا كما وصفهن الشاعر محمد عبد المطلب، وصدق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 في قوله: إنْ يَنْتَسِبْنَ إلى الحِجَاب ... فَإنه نَسَبُ الدَخيل أهي التي فرض الحجا ... ب لصونها شرع الرسول؟ جُعِلَ الحجابُ مُعاذَها ... من ذلك الداءِ الوبيل (1) تقول الداعية الفاضلة نعمت صدقي رحمها الله: (ولو أن المتبرجة تأملت بعين بصيرتها، ولو كان لها قلب يعي، لوجدت أنها- باصطناعها هذا الجمال المزور، ومبالغتها في التزين- لن تكتسب في الحقيقة جمالا ولا محاسن، بل إنها تمسخ وجهها، وتخفي ما حباها الله به من الجمال الفطري، بقناع من الأصباغ الزاهية، التي تختلف وتشذ عن الطبيعة، ينبو عنها الذوق السليم، وهي لا تأبه لذلك، ولا تفطن لما صنعت لوجهها من التشويه والتقبيح، فإن الله تعالي لم يخلق جفونًا زرقاء لامعة، ولا سوداء قاتمة، إلا في القردة والكلاب، ولا شفاهًا حمراء قانية، كأنها ولغت في الدم المسفوح، ولا خدودًا مضطرمة متوهجة الاحمرار، ولا حواجب هلاليه لامعة تذكر بما يتخيلون ويصفون في الأساطير من حواجب الشيطان، وأظافر مدببة حمراء كأنها مخالب حيوان كاسر مخضبة بدماء فريسته، فبالله هل هذا جمال أم دمامة وبشاعة؟! قل للجميلةِ أرسلَتْ أظفارَها ... إني لخوفٍ كدتُ أمضي هاربا إن المخالبَ للوحوشِ نخالُها ... فمتى رأينا للظباءِ مخالبا بالأمسِ أنتِ قصصتِ شعرَكِ غيلة ... ونقلتِ عن وضع الطبيعة حاجبا وغدًا نراك نقلتِ ثغرَكِ لِلقَفا ... وأزحتِ أنفَكِ رغم أنفِكِ جانبا   (1) راجع القصيدة في "معركة الحجاب والسفور" ص (160- 161) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 من علَّمَ الحسناءَ أنَّ جمالَها ... في أنْ تخالفَ خَلْقَهَا وَتُجانبا؟) (1) وبعد فيا صاحبة (حجاب التبرج) ! حذارِ أن تصدقي أن حجابك هو الذي أمر به القرآن السنة، وإياك أن تنخدعي بمن يبارك عملك هذا، ويكتمك النصيحة، ولا تغتري بأنك أحسن حالًا من صاحبات التبرج الصارخ فإنه لا أسوة في الشر، والنار دركات بعضها أسفل من بعض. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انظروا إلى من هو أسفل منكم في الدنيا، وفوقكم في الدين، فذلك أجدر أن لا تزدروا (2) نعمة الله عليكم " (3) . وعن الزهري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تلا هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)) [فصلت: 30] ، قال: "استقاموا والله لله بطاعته، ولم يروغوا (4) روغان الثعالب " (5) .   (1) "التبرج" ص (30-31) . (2) الازدراء: الاحتقار، والعيب، والانتقاص. (3) هذه الروايج ذكرها رزين، وأصل الحديث رواه - بلفظ آخر - البخاري (11/330) في الرقاق، ومسلم رقم (2963) في الزهد، والترمذي رقم (2515) في القيامة، قال الحافظ في "الفتح": (وقد وقع في نسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه: "خصلتان من كانت فيه كتبه الله صابرا شاكرا: من نظر في دنياه إلي من هو دونه، فحمد الله على ما فضله به عليه، ومن نظر في دينه إلى من هو فوقه، فاقتدى به") اهـ (11/ 330 - السلفية) ، والحديث ضعفه المناوي فى "الفيض" (3/ 244) ، والألباني في "الضعيفة" رقم (1924) (4/ 397 - 398) . (4) راغ الثعلب روغانًا: مال، وحاد عن الشيء، وذهب ها هنا، وها هنا. (5) أخرجه الإمام أحمد في "الزهد" ص (115) ، وابن المبارك فيه ص (110) رقم = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 وَعن الحسن رحمه الله أنه قال: (إذا نظر إليك الشيطان فرآك مداوما في طاعة الله فبغاك (1) ، وبغاك، فرآك مداوما، مَلَّكَ وَرَفضَكَ، وإذا كنت مرة هكذا، ومرة هكذا، طمع فيك (2) . ومسك الختام ما ختم الله عز وجل به الآيات الآمرة بالحجاب في قوله جل وعلا: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31] ،. الحجاب مسؤولية من؟ أولًا: المرأة المسلمة: مادامت عاقلة مكلفة، وقد خاطبها القرآن بالحجاب، ونَوَّعَ أساليب الخطاب: فتارة يأمرها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن) الآية. وقوله عز وجل: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) الآية وخاطبهن شخص أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، فقال جل وعلا: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) . فالمرأة مسئولة- أمام الله - عن الحجاب ليس لها أن تتخلى عنه، ولو رضي وليها بالتبرج أو أمرها به، وحثها عليه. قال الله تعالى: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14))   = (325) ، ومن طريقه أخرجه الطبري (24/ 66) . (1) فبغاك، وبغاك: أي طلبك مرة بعد مرة. (2) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" ص (7) رقم (20) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 [الإسراء: 13، 14] ، وقال تعالى: (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) [الطور: 21] . وعن علي رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا طاعة لبشر في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف" (1) . * ثانيًا: ولي المرأة: سواء أكان أبًا أو ابنا أو أخا، أو زوجًا، أو غيره. قال الله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) [النساء: 34] وليس المقصود بالقوامة - كما يظن بعض الجهلة - ظلم المرأة، والاستبداد بها، والاستعلاء عليها، وإنما هي المبالغة بالقيام على رعاية المرأة والإنفاق عليها، وإعطائها حقوقها، والحفاظ علي عرضها وعفافها، قال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم: 6] ، (2) . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع، وهو مسئول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهله، وهو مسئول عن رعيته " الحديث (3) . وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يسترعي الله تبارك وتعالى عبدًا رعية قَلَّتْ أو كثرت إلا سأله الله تبارك وتعالى عنها يوم القيامة، أقام فيهم أمر الله   (1) أخرجه البخاري (13/ 130- فتح) ، ومسلم واللفظ له (6/15) ، وأبو داود رقم (2625) ، والنسائي (2/ 187) ، وأحمد (1/ 94) ، وانظر: "سلسلة الأحاديث الصحيحة" أرقام (179، 180، 181) (2) انظر: "معركة الحجاب والسفور" ص (210) (3) تقدم تخريجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 تبارك وتعالى أم أضاعه، حتى يسأله عن أهل بيته خاصة" (1) . وعن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله سائل كلَّ راع عما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيَّع؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته" (2) . ولا شك أن أحوال أغلب النساء اليوم تعكس مدى تفريط الرجال في أداء حق هذه الرعاية التي جعلها الله واجبا حتمًا في أعناقهم، ومن هنا شدَّد العلماء النكير على هؤلاء المفرطين، ورتبوا علي ذلك أحكامَا، وأصدروا فتاوى. ومن ذلك ما قاله الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي رحمه الله تعالى: (أما خروج النساء متبرجات بذلك اللباس الضيق القصير الذي يحدد العورة، فقد أجمع علماء المسلمين على منعه، ونصوص الكتاب والسنة طافحة به، فيحرم علي كل مسلم أن يترك ابنته، أو زوجته، أو أخته تخرج إلا وعليها الدروع السابغة مع طول الذيول لأجل الستر. وكل من ترك زوجته تخرج بادية الأطراف على صفة تبرج الجاهلية الأولى، فهو آثم شرعًا، عليه وزر ذلك، وعلى المرأة أيضًا، لقوله تعالى: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) الآية، ولقوله تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) إلى آخر الآية. ولا تصح أيضًا إمامة رجل ترك امرأة له عليها ولاية تخرج متبرجة ذلك التبرج، وكذا لا تصح شهادته، ولا يجوز إعطاؤه شيئا من الزكاة الواجبة ولو كان فقيرا مظهرًا للشكوى، كما في فتاوى المالكية لسيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم الشنقيطي إقليما.   (1) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (2/ 15) ، (5/ 25) . (2) عزاه الألباني في "الصحيحة" رقم (1636) إلى النسائي في "عشرة النساء" والضياء في "المختارة"، وابن حبان في "صحيحه"، وابن عدي في "الكامل". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 وقد أشار إلى ذلك أخونا الشيخ محمد العاقب - رحمه الله - دفين فاس في نظمه لهذه الفتاوى بقوله: من تركَ الزوجة عمدًا تخرجُ ... بادية أطرافها تبرج فلا إمامةَ ولا شهادة ... له وإن جرت بذاك العادة ولا له قسط من الزكاة ولو فقيرا مظهر الشكاة (1) يعني ولو كان فقيرا مظهر الشكوى للأغنياء من شدة فقره. * ثالثًا: الحاكم: (فإن واجب الخليفة أو الحاكم المسلم حراسة الدين، وسياسة الدنيا بالدين، وإن أحد حقوق الإنسان المسلم صيانة عرضه، الأمر الذي لا يتم إلا بمراعاة التدابير الشرعية في هذا الباب. وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: "ما يَزَعُ الناس السلطانُ أكثر مما يَزَعُهُم القرآنُ") (2) . (وإن حفظ حدود الحجاب الشرعي بين الرجال والنساء، وتعليم ذلك، والترغيب فيه، ومعاقبة المنحرفين والمنحرفات عن هذه الحدود، وتعزير الداعين إلى ما يضاده، ونفيهم؛ حماية للبلاد والعباد من شرورهم، وتسخير أجهزة التعليم والإعلام لنصرة دين الله تعالى، وترسيخ هذه المفاهيم الإسلامية من أهم ما يناط بالحكام الذين استرعاهم الله هذه الأمة) (3) . * * *   (1) "زاد المسلم" (1/ 382 - 383) . (2) راجع "المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية" ص (23) . (3) وقد تقدم تفصيل ذلك في "السابق" ص (23-26) ، (32-38) وانظر: "معركة الحجاب والسفور" ص (200 -203) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 الباب الخامس أدلة وجوب ستر الوجه والكفين الفصل الأول : أدلة القرآن الكريم الفصل الثاني: أدله السنة الشريفة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 ص 190 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 الفصل الأول أدلة القرآن الكريم الدليل الأول قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)) [الأحزاب: 59] ،. * قول الإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ) : قال رحمه الله في تأويل هذه الآية: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ) : لا تتشبهن بالإماء في لباسهن، إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن، فكشفن شعورهن ووجوههن، ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهن، لئلا يعرض لهن فاسق، إذا علم أنهن حرائر بأذى من قول. ثم اختلف أهل التأويل في صفة الإدناء الذي أمرهن الله به. فقال بعضهم: هو أن يغطين وجوههن ورؤوسهن، فلا يبدين منهن إلا عينًا واحدة. ذكر من قال ذلك: حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح (1) قال: ثني معاوية، عن علي (2) ، عن   (1) أبو صالح المصري عبد الله بن صالح فيه ضعف "التقريب" (1/423) . (2) هو علي بن أبي طلحة، تكلم فيه بعض الأئمة، ولم يسمح من ابن عباس، بل = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 ابن عباس، قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينًا واحدة. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد، عن عَبيدةَ (1) في قوله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) فلبسها عندنا ابن عون، قال: ولبسها عندنا محمد، قال محمد: ولبسها عندي عبيدة، قال ابن عون: بردائه، فتقنع به، فغطى أنفه، وعينه اليسرى، وأخرج عينه اليمنى، وأدنى رداءه من فوق حتى جعله قريبًا من حاجبه أو على الحاجب. حدثني يعقوب، قال. ثنا هُشيم، قال: أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، قال: سألت عبيدة عن قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ)   = لم يره، وقد قيل إن بينهما مجاهدا، انظر هامش ص (209) . (1) رجال هذا الإسناد جبال في الثقة والضبط، فابن جرير هو الحافظ الطائر الصيت، المفسر المشهور، ويعقوب هو ابن إبراهيم الدورقي ثقة، وابن عُلَيَّة هو إسماعيل بن علية إمام كبير ثقة، وابن عون هو عبد الله بن عون المزني أحد الأعلام ثقة ثبت، ومحمد هو ابن سيرين أحد الأعلام التابعين، وعَبيدة هو السلماني إمام ثقة زاهد، وهو من أعلام التابعين الكبار، ومخضرم ثقة ثبت، قال الحافظ في "التهذيب": (كان "شريح" القاضي إذا أشكل عليه شيء من أمر دينه سأله، ورجع إليه) اهـ (7/ 84) ، قال الإمام الذهبي: (عبيدة بن عمرو السلماني المرادي الكوفي الفقيه العَلَمَ، كاد أن يكون صحابيّا، أسلم زمن الفتح باليمن، وأخذ العلم عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما، قال الشعبي: (كان يوازي شريحًا في القضاء) ، وقال العجلي: عبيدة أحد أصحاب عبد الله بن مسعود الذين يقرءون، ويفتون الناس "، وقال ابن سيرين: (ما رأيت رجلا أشد توقيًا من عبيدة) ، وكان مكثرًا عنه) انظر: "تذكرة الحفاظ " (1/ 50) ، وإذا تقرر لديك أن عبيدة السلماني من كبار التابعين، وأنه آمن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه نزل المدينة في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يزل بها حتى مات، لعلمت حينئذ أنه يفسر ما كان سائدًا في المجتمع الذي كان يمثله أجلة الصحابة رضي الله = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) قال: فقال بثوبه، فغطى رأسه ووجهه، وأبرز ثوبه عن إحدى عينيه. وقال آخرون: بل أمِرْنَ أن يشددن جلابيبهن على جباههن. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) إلى قوله: (وَكَانَ الله غَفورا رَحِيما) قال: كانت الحرة تلبس لباس الأمة، فأمر الله نساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن، وإدناء الجلباب: أن تقنع (1) ، وتشدَّهُ على جبينها. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ) أخذ الله عليهن إذا خرجن أن يقنعن على الحواجب (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) وقد كانت المملوكة إذا مرَّت تناولوها بالإيذاء، فنهى الله الحرائر أن يتشبهن بالإماء. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال. ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) يتجلببن فيُعلم أنهن حرائر، فلا يعرض لهنَّ فاسق بأذى من قول ولا ريبة. . .   = عنهم، وأكابر الأمة الذين عليهم مدار هذا الدين. (1) اعلم أن (التقنع يطلق على تغطية الوجه، وبهذا التفسير تتوافق هذه الرواية لما قبلها، ومعلوم أن التوفيق بين القولين في كلام العقلاء واجب مهما أمكن، وأن ضرب أحدهما بالآخر لا يجوز، ومن العجيب أن ابن جرير نقل قول ابن عباس هذا في سياق من لا يقول بستر الوجه، ولم يلتفت إلى الروايات التي توضح معنى التقنع في هذه الرواية) اهـ من كلام الشيخ أبي هشام الأنصاري - نقلا عن "مجلة الجامعة السلفية". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 وقوله: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) يقول تعالى ذكره: إدناؤهن جلابيبهن إذا أدنينها عليهن أقرب وأحرى أن يعرفن ممن مررن به، ويعلموا أنهن لسن بإماء، فيتنكبوا عن أذاهنَّ بقول مكروه، أو تعرض بريبة (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) بهنَّ أن يعاقبهن بعد توبتهن بإدناء الجلابيب عليهن) اهـ (1) . * قول الإمام أبي بكر أحمد بن علِى الرازي الجصاص الحنفي (ت 370 هـ) : قال رحمه الله تعالى: (حدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أبي خيثم، عن صفية بنت شيبة عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) خرج نساء من الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من أكسية سود يلبسنها. قال أبو بكر: في هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبيين، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج لئلا يطمع أهل الريب فيهن. وفيها دلالة على أن الأمة ليس عليها ستر وجهها وشعرها لأن قوله تعالى: (وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ) ظاهره أنه أراد الحرائر، وكذا روي في التفسير لئلا يكن مثل الإماء اللاتي هن غير مأمورات بستر الرأس (2) والوجه، فجعل الستر فرقا يعرف به الحرائر من الإماء، وقد روي عن عمر أنه كان يضرب الإماء، ويقول: "اكشفن رؤوسكن، ولا تشبهن بالحرائر" اهـ (3) .   (1) "جامع البيان عن تاويل آي القرآن" (22/ 45- 47) . (2) رُوي من حديث عائشة رضى الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها، فاختبأت مولاة لهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "حاضت"؟، فقالوا: نعم، فشق لها من عمامته، فقال: "اختمري بهذا" رواه ابن ماجه وابن أبي شيبة. (3) "أحكام القرآن" (3/371- 372) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 * قول الإمام الفقيه عماد الدين بن محمد الطبري المعروف بـ "إلكيا الهراس" (1) (ت 504 هـ) قال رحمه الله في تفسيره: (قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) الآية- الجلباب: هو الرداء، فأمرهن بتغطية وجوههن ورؤوسهن، ولم يوجب على الإماء ذلك) اهـ (2) . * قول الإمام محيي السنة أبو الحسين البغوي (ت 516 هـ) في "معالم التنزيل": اكتفى رحمه الله في تفسير الإدناء بقول ابن عباس وعبيدة السلماني ولم يلتفت إلى قول آخر، كأنه لم يره شيئًا مذكورًا، وكذا فعل "الخازن" رحمه الله (3) . * قول أبي القاسم محمد بن عمر الخوارزمي الزمخشري الملقب بـ "جار الله" (4) (ت 538 هـ) :   (1) إلكيا: كلمة فارسية بمعنى الكبير القدر المقدم بين الناس و"إلكيا الهراس، هو علي بن محمد بن علي، وكنيته أبو الحسن الملقب بعماد الدين، ولد في سنة (450 هـ) ، وتفقه على إمام الحرمين، وهو من أجل تلاميذه بعد الغزالي، ومن مصنفاته: "شفاء المسترشدين في مباحث المجتهدين"، وهو من أجود كتب الخلافيات، وكتاب في أصول الفقه. انظر ترجمته في (طبقات الشافعية) (7/ 231- 234) ، والبداية والنهاية" (12/ 172) ، و"شذرات الذهب" (8/4) ، و"فيات الأعيان" (2/ 488) ، و "النجوم الزاهرة" (5/ 201) . (2) "تفسير إلكيا الهراس الطبري" (4/ 354) . (3) "لباب التأويل في معاني التَنزيل" (5/ 227) (4) لقب بهذا لأنه جاور في مكة مدة من الزمان، كان من أكبر رؤوس الاعتزال في عصره، وكان حنفي المذهب، وقد كشف الزمخشري في تفسيره "الكشاف" = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 قال- عفا الله عنه- في تفسيره: ومعنى (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) يرخينها عليهن، ويغطين بها وجوههن وأعطافهن، يقال إذا زل الثوب عن وجه المرأة أدني ثوبك على وجهك، وذلك أن النساء كن في أول الإسلام على هجّيراهن في الجاهلية متبذلات تبرز المرأة في درع وخمار، لا فصل بين الحرة والأمة، وكان الفتيان وأهل الشطارة (1) يتعرضون إذا خرجن بالليل إلى مقاضي حوائجهن في النخيل والغيطان للإماء، وربما تعرضوا للحرة بعلة الأمة، يقولون: حسبناها أمة، فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه ليُحتَشَمن ويُهَبن، فلا يطمع فيهن طامع، وذلك في قوله: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) أي: أولى وأجدر بأن يعرفن فلا يُتعرض لهن، ولا يَلْقَين ما يكرهن. فإن قلت: ما معنى (مِن) في (مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) ؟ قلت: هو للتبعيض، إلا أن معنى التبعيض محتمل وجهين: أحدهما: أن يتجلببن ببعض ما لهن من الجلابيب، والمراد أن لا تكون الحرة متبذلة في درع وخمار كالأمة والماهنة، ولها جلبابان فصاعدًا في بيتها. والثاني: أن ترخي المرأة بعض جلبابها وفضله كل وجهها تتقنع حتى تتميز من الأمة.   = النقاب عن وجوه إعجاز القرآن الكريم، وأبدع في بيان نكتها ما شاء الله أن يبدع، حتى عُدَّ كل من كتب في التفسير بعده - من الناحية البلاغية - عالة عليه، غير أنه انتُقدَ عليه أشياء، أشدها محاولته تطبيق آيات القرآن على مذهبه الاعتزالي، ووقوعه في أهل السنة والجماعة بعبارات فاحشة، وقد انتصر لأهل السنة الشيخ أحمد بن محمد بن منصور المنير الإسكندري المالكي (ت 680 هـ) وتعقب اعتزاليات الزمخشري تعقبا حثيثا في كتابه "الانتصاف" (1) الشاطر: من أعيى أهله ومؤدبه خبثا ومكرًا - مولدة، كما في القاموس وشرحه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 وعن ابن سيرين: سألت عبيدة السلماني عن ذلك، فقال: أن تضع رداءها فوق الحاجب، ثم تديره حتى تضعه على أنفها، وعن السدي: أن تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين، وعن الكسائي: يتقنغن بملاحفهن منضمة عليهن، أراد بالانضمام معنى الإدناء اهـ (1) . * قول القاضي أبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي المالكي (ت 543 هـ) : قال رحمه الله تعالى في تفسيره: المسألة الثانية: اختلف الناس في الجلباب على ألفاظ متقاربة، عمادها أنه الثوب الذي يُستر به البدن، لكنهم نوَّعوه ههنا، فقد قيل: إنه الرداء، وقيل: إنه القناع. المسألة الثالثة: قوله تعالى: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ) قيل: معناه تغطي به رأسها فوق خمارها، وقيل: تغطي به وجهها حتى لا يظهر منها إلا عينها اليسرى. المسألة الرابعة: والذي أوقعهم في تنويعه أنهم رأوا الستر والحجاب مما تقدم بيانه واستقرت معرفته، جاءت هذه الزيادة عليه، واقترنت به القرينة التي بعده وهي مما تبينه، وهو قوله تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ) ، والظاهر أن ذلك يسلب المعرفة عند كثرة الاستتار، فدلَّ، وهي: المسألة الخامسة: على أنه أراد تمييزهن عن الإماء اللاتي يمشين حاسرات، أو بقناع مفرد، يعترضهن الرجال فيتكشفن، ويكلمونهن؛ فإذا تجلببت، وتسترت، كان ذلك حجابًا بينها وبين المتعرض بالكلام، والاعتماد بالإذاية، وقد قيل- وهي: المسألة السادسة: إن المراد بذلك المنافقون.   (1) "الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل" (3/ 274) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 قال قتادة: كانت الأمة إذا مرت تناولها المنافقون بالإذاية، فنهى الله الحرائر أن يتشبهن بالإماء؛ لئلا يلحقهن مثل تلك الإذاية. وقد روي أن عمر بن الخطاب كان يضرب الإماء على التستر وكثرة التحجب، ويقول: "أتتشبهْن بالحرائر"؟ وذلك من ترتيب أوضاع الشريعة بين اهـ (1) . * قول الإمام أبي الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي القرشي البغدادي الحنبلي (ت 597 هـ) : قال رحمه الله تعالى في "تفسيره": سبب نزولها أن الفساق كانوا يؤذون النساء إذا خرجن بالليل، فإذا رأوْا المرأة عليها قناع تركوها، وقالوا: هذه حرة، وإذا رأوها بغير قناع، قالوا: أمة، فآذَوْها، فنزلت هذه الآية، قاله السدي. قوله تعالى: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) قال ابن قتيبة: يلبس الأردية، وقال غيره: يغطين رؤوسهن ووجوههن ليُعْلَمَ أنهن حرائر (ذَلِكَ أَدْنَى) أي: أحرى وأقرب (أَن يُعْرَفْنَ) أنهن حرائر (فَلَا يُؤْذَيْنَ) اهـ (2) . قول الإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن الرازي (ت 606 هـ) (3) قال في "تفسيره الكبير": وكان في الجاهلية تخرج الحرة والأمة مكشوفات يتبعهن الزناة، وتقِع التهم، فأمر الله الحرائر بالتجلبب، وقوله: (ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا   (1) "أحكام القرآن" (3/ 1585- 1587) . (2) "زاد المسير في علم التفسير" (6/422) . (3) انظر ترجمته في "البداية والنهاية" (13/ 55 – 56) ، "سير أعلام النبلاء" (21/ 500) ، "لسان الميزان" (4/ 426 - 429) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 يُؤْذَيْنَ) قيل: يعرفن أنهن حرائر فلا يتبعن، ويمكن أن يقال: المراد أنهن لا يزنين، لأن من تستر وجهها - مع أنه ليس بعورة (1) لا يُطْمَعُ فيها أنها تكشف عورتها، فُيعرفن أنهن مستورات، لا يمكن طلب الزنا منهن اهـ (2) . * قول الإمام أبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي المالكي (ت 671 هـ) : قال رحمه الله تعالى في "تفسيره": لما كانت عادة العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن، وتشعب الفكرة فيهن، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمرهن بإرخاء الجلابيب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن اهـ. وقال أيضا: قوله تعالى: (مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) الجلابيب: جمع جلباب، وهو ثوب أكبر من الخمار، وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنه الرداء؟ وقد قيل: إنه القناع، والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن، وفي صحيح مسلم عن أم عطية قالت: قلت: يا رسول الله! إحدانا لا يكون لها جلباب؟، قال: "لتلبسها أختها من جلبابها" اهـ. وحكى رحمه الله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "ما يمنع المرأة المسلمة إذا كانت لها حاجة أن تخرج في أطمارها (3) ، أو أطمار جارتها مستخفية، لا يعلم بها أحد حتى ترجع إلى بيتها"؟.   (1) يأتي إن شاء الله بيان أنه ليس بعورة أي: في الصلاة، لا مطلقا، بل الأمر بحجاب الوجه في هذه الآية دليل على أن الوجه عورة في باب النظر، والله أعلم، وانظر ص (244- 250) . (2) "مفاتيح الغيب" (6/ 591) . (3) الأطمار جمع طِمر - بكسر الطاء، وسكون الميم- وهو الثوب الخلق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 وقال القرطبي رحمه الله أيضَا: قوله تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ) أي الحرائر، حتى لا يختلطن بالإماء، فإذا عُرِفن لم يقابَلْن بأدنى من المعارضة مراقبةً لرتبة الحرية، فتنقطع الأطماع عنهن، وليس المعنى أن تُعرف المرأة حتى تُعْلَمَ من هي (1) ، وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى أمة قد تقنعت ضربها بالدرة، محافظة على زي الحرائر. وقد قيل: إنه يجب الستر والتقنع الآن في حق الجميع من الحرائر والإماء، وهذا كما أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا النساءَ المساجدَ بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قوله: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: "لو عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا لمنعهن من الخروج كما مُنِعَتْ نساء بني إسرائيل"، (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) تأنيس للنساء في ترك الجلابيب قبل هذا الأمر المشروع. اهـ (2) . * قول الإمام القاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي الشافعي (ت 691 هـ) : قال رحمه الله في "تفسيره": (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) يغطين وجوههن وأبدانهن بملاحفهن إذا برزن لحاجة، و (مِن) للتبعيض، فإن المرأة ترخي بعض جلبابها، وتتلفع ببعض (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ) يُمَيَّزنَ عن الإماء والقينات (فَلَا يُؤْذَيْنَ) فلا يؤذيهن أهل الريبة بالتعرض لهن (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) لما سلف (رَحِيمًا) بعباده حيث يراعي مصالحهم حتى الجزئيات منها. اهـ (3) .   (1) وانظر أيضا تفسير الثعالبي المالكيّ (ت 875 هـ) ، الموسوم بـ "الجواهر الحسان في تفسير القرآن" (3/237) . (2) "الجامع لأحكام القرآن" (14/ 243 - 244) . (3) "أنوار التنزيل، وأسرار التأويل" (2/ 280) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 قول العلامة أحمد بن محمد شهاب الدين الخفاجي (ت 1069 هـ) : قال رحمه الله في "حاشيته على تفسير البيضاوي" شارحا الفقرة السابقة منه قوله: (مِن) للتبعيض ... إلخ - وقد قال في "الكشاف": إنه يحتمل وجهين: أن يتجلببن ببعض ما لهن من الجلابيب، فيكون البعض واحدَا منها، أو يكون المراد ببعض جزءًا منه بأن ترْخِيَ بعض الجلباب، وفضلَه على وجهها فتتقنَّع به، والتجلبب على الأول لبس الحجاب على البدن كله، وعلى هذا التقنع بستر الرأس والوجه، مع إرخاء الباقي على بقية البدن، وقوله (يُدْنِينَ) يحتمل أن يكون مقول القول، وهو خبر بمعنى الأمر (1) ، أو جواب الأمر على حَدِّ: (قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ) الآية [إبراهيم: 31] . والجلباب إزار واسع يُلْتَحَفُ به، فما قيل: إن النظم (عَلَيْهِنَّ) دون "على وجوههن"، وقد فسره بستر وجوههن وأبدانهن به، فكيف يصح الحمل على التبعيض حينئذ، إذ لا يصح لفظ "البعض" في موضع "مِنْ" إلا أن يبقى بعض من الجلباب غير مستعمل في الوجه والبدن، ليس بشيء، لأن قوله: (عَلَيْهِنَّ) إما على تقدير مضاف أي على رؤوسهن، أو وجوههن، أو على أنه مفهوم منه - وإن لم يقّدَّر-، وأما قوله: "وأبدانهن" فبيان للواقع؛ لأنها إذا أرخت على الوجه بعضَه بقي باقيه على البدن، لكن المأمور به ضم بعض منه لأن به الصيانة، قوله: "عن الإماء والقينات " إما من عطف أحد المترادفين أو المراد بالقينات البغايا، وأما إرادة المغنية فلا وجه له، وقوله: "يميزن" فالمراد بالمعرفة التمييز مجازا لأنه المقصود، ولو   (1) وعليه تكون صيغة المضارع هنا للأمر، وظاهر الأمر الوجوب، بل إن الأمر إذا ورد بصيغة المضارع فإنه يكون آكد في الدلالهَ على الوجوب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 أبقى على معناه صح. قال السبكي في "طبقاته": واستنبط أحمد بن عيسى من فقهاء الشافعية من هذه الآية أن ما يفعله العلماء والسادات من تغيير لباسهم وعمائمهم أمر حسن، وإن لم يفعله السلف، لأن فيه تمييزًا لهم حتى يعرفوا فيُعمل بأقوالهم (1) . قوله: "لما سلف": ليس المراد به أمر التجلبب قبل نزول هذه الآية حتى يقال إنه لا ذنب قبل الورود في الشرع، فهو مبني علي الاعتزال والقبح العقلي، بل المراد: ما سلف من ذنوبكم المنهيِّ عنها مطلقا، فيغفرها إن شاء، ولو سلم إرادته فالنهي عنه معلوم من آية الحجاب التزامَا، وقيل: المراد لما عسى يصدر من الإخلال في التستر) اهـ (2) . * قول الإمام عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي الحنفي (ت 701 هـ) : قال رحمه الله في تفسيره": (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) يرخينها عليهن، ويغطين بها وجوههن وأعطافهن، يقال إذا زال الثوب عن وجه المرأة: أدني ثوبك على وجهك (3) ، و (مِن) للتبعيض، أي: ترخي بعض جلبابها وفضله على   (1) وقد أنكر هذا الاستنباط العلامة صديق حسن خان رحمه الله، ونقل عن علماء السلف المنع منه – انظر "فتح البيان في مقاصد القرآن" له (7/413 - 414) ، وانظر ص (163) من هذا القسم. (2) "عناية القاضي، وكفاية الراضي على تفسير البيضاوي". (3) (وهذا الذي نقله النسفي في تفسيره يدل دلالة ظاهرة على أن المرأة المسلمة في المجتمعات الإسلامية تستر وجهها، وكان الإدناء للثوب عندما ينقشع عن وجه المرأة متعارفًا عليه بين المسلمين حتى مضت هذه الصورة مثالَا يحتذى) اهـ من تعليق الشيخ عبد العزيز بن خلف "نظرات في كتاب حجاب المرأة المسلمة للألباني" هامش ص (51) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 وجهها اهـ (1) . تنبيه: تحتجب الأمة إذا خيف بها الفتنة: قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية (ت 728 هـ) رحمه الله رحمة واسعة: وكذلك الأمة إذا كان يخاف بها الفتنة كان عليها أن ترخي من جلبابها، وتحتجب، ووجب غض البصر عنها ومنها، وليس في الكتاب والسنة إباحة النظر إلى عامة الإماء، ولا ترك احتجابهن وإبداء زينتهن، ولكن القرآن لم يأمرهن بها أمر الحرائر، والسنة فرقت بالفعل بينهن وبين الحرائر، ولم يفرق بينهن وبين الحرائر بلفظ عام، بل كانت عادة المؤمنين أن تحتجب منهم الحرائر دون الإماء، واستثنى القرآن من النساء الحرائر القواعد، فلم يُجْعَلْ عليهن احتجاب، واستثنى بعض الرجال وهم غير أولي الإربة، فلم يمنع من إبداء الزينة الخفية لهم لعدم الشهوة في هؤلاء وهؤلاء، فأنْ يستثنى بعض الإماء أولى وأحرى، وهن من كانت الشهوة والفتنة حاصلة بترك احتجابها وإبداء زينتها، وكما أن المحارم أبناء أزواجهن ونحوه ممن فيه شهوة وشغف لم يجز إبداء الزينة الخفية له، فالخطاب خرج عامُّا على العادة، فما خرج عن العادة خرج به عن نظائره، فإذا كان في ظهور الأمة والنظر إليها فتنة، وجب المنع من ذلك كما لو كانت في غير ذلك. اهـ (2) . وزعم نفاة الحكمة والتعليل والقياس أن الشريعة قد فرقت بين المتماثلين، وجمعت بين المختلفين، وأيدوا ذلك بأمور: منها أن الشارع حرم النظر إلى العجوز الشوهاء القبيحة المنظر إذا كانت حرة، وجوزه إلى الأمة الشابة البارعة الجمال، وقد انبرى الإمام المحقق شمس الدين محمد   (1) "مدارك التنزيل، وحقائق التأويل" (3/79) . (2) "تفسير سورة النور" ص (86) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 ابن أبي بكر ابن قيم الجوزية تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية، للرد عليهم وتتبع ما استدلوا به، وكان مما قال رحمه الله في الرد على الشبهة السابقة: وأما تحريم النظر إلى العجوز الحرة الشوهاء القبيحة، وإباحته إلى الأمة البارعة الجمال فكذب على الشارع، فأين حرَّم الله هذا، وأباح هذا؟ والله سبحانه وتعالى إنما قال: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) [النور: 30] ، ولم يطلق الله ورسوله للأعين النظر إلى الإماء البارعات الجمال، وإذا خشي الفتنة بالنظر إلى الأمة حرم عليه بلا ريب. وإنما نشأت الشبهة أن الشارع شرع للحرائر أن يسترن وجوههن عن الأجانب، وأما الإماء فلم يوجب عليهن ذلك، لكن هذا في إماء الاستخدام والابتذال، وأما إماء التسري اللاتي جرت العادة بصونهن وحجبهن، فأين أباح الله ورسوله لهن أن يكشفن وجوههن في الأسواق والطرقات ومجامع الناس، وأذن للرجال في التمتع بالنظر إليهن؟ فهذا غلط محض على الشريعة، وأكَّد هذا الغلطَ أن بعض الفقهاء سمع قولهم: "إن الحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها، وعورة الأمة ما لا يظهر غالبًا كالبطن والظهر والساق"، فظن أن ما يظهر غالبًا حكمه حكم وجه الرجل، وهذا إنما هو في الصلاة، لا النظر، فإن العورة عورتان: عورة في الصلاة، وعورة النظر، فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق ومجامع الناس كذلك، والله أعلم (1) اهـ. وما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام المحقق ابن القيم عليهما الرحمة من احتجاب الحسان من الإماء، وبروز غير الحسان، قد نص عليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى، فنقل ابن منصور عنه أنه قال: "لا تنتقب الأمة"، ونقل ابن منصور عنه أيضًا، وأبو حامد الخَفَّاف أنه قال: "تنتقب   (1) "القياس في الشرع الإسلامي" ص (69) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 الجميلة" (1) اهـ. * قول العلامة محمد بن أحمد بن جَزي الكلبي المالكي (ت 741) : قال رحمه الله في "تفسيره": كان نساء العرب يكشفن وجوههن كما تفعل الإماء، وكان ذلك داعيا إلى نظر الرجال لهن، فأمرهن الله بإدناء الجلابيب ليسترن بذلك وجوههن، ويُفَهمَ الفرقُ بين الحرائر والإماء. والجلابيب جمع جلباب وهو ثوب أكبر من الخمار، وقيل: هو الرداء، وصورة إدنائه عند ابن عباس أن تلويه على وجهها حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها، وقيل: أن تلويه حتى لا يظهر إلا عيناها، وقيل: أن تغطي نصف وجهها (2) . (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) أي ذلك أقرب إلى أن يعرف الحرائر من الإماء، فإذا عرف أن المرأة حرة لم تعارض بما تعارض به الأمة، وليس المعنى أن تعرف المرأة من هي، إنما المراد أن يفرق بينهما وبين الأمة لأنه كان بالمدينة إماء يعرفن بالسوء، وربما تعرض لهن السفهاء (3) أهـ. * قول الإمام النحوي المفسر أثير الدين أبي عبد الله محمد بن يوسف ابن علي أبن حيان الأندلسي الشهير بأبي حيان (ت 745 ص) : قال رحمه الله في "تفسيره": ... وقال السدي: (تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين "، وكذا عادة بلاد الأندلس لا يظهر من المرأة إلا عينها الواحدة) (4) . وقال أيضا رحمه الله: والظاهر أن قوله: (وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ) يشمل   (1) "الصارم المشهور" ص (74) . (2) ونسبه القرطبي إلى الحسن "الجامع لأحكام القرآن" (14/ 243) . (3) "التسهيل لعلوم التنزيل" (3/ 144) . (4) "البحر المحيط " (7/ 250) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 الحرائر والإماء، والفتنة بالإماء أكثر لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر، فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح (1) ، و (مِن) في (جَلَابِيبِهِنَّ) للتبعيض، و (عَلَيْهِنَّ) شامل لجميع أجسادهن، أو: (عَلَيْهِنَّ) على وجوههن، لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه، (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ) لتسترهن بالعفة، فلا يتعرض لهن، ولا يلقين ما يكرهن، لأن المرأة إذا كانت غاية في التستر والانضمام لم يُقْدَمْ عليها بخلاف المتبرجة، فإنها مطموع فيها. اهـ. فصل في بيان الدليل على صحة التفريق بين الحرائر والإماء في الحجاب * قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والحجاب مختص بالحرائر دون الإماء كما كانِت سنة المؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه: أن الحرة تحتجب، والأمة تبرز" (2) أهـ، وقال رحمه الله تعالى: قولة: (قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ   (1) يتضح من هذا أن الإمام أبا حيان رحمه الله يذهب إلى التسوية بين الحرائر والإماء في حكم الجلباب الشامل للوجه والكفين، بناء على عدم وجود دليل . يفرق بينهما في الحكم، ومنه يتبين مرجوحية ما ذهب إليه فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله من الاستدلال بقول أبي حيان: "فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح" على صحة مذهبه في التسوية يبن الحرائر والإماء - لا في وجوب الحجاب الكامل كما هو مذهب أبي حيان صاحب هذا النص بل في التسوية بينهما في السفور. (2) "تفسير سورة النور" ص (56) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 جَلَابِيبِهِنَّ) الآية: دليل على أن الحجاب إنما أُمِر به الحرائر دون الإماء؟ لأنه خص أزواجه وبناته، ولم يقل: وما ملكت يمينك وإمائك وإماء أزواجك وبناتك؟ ثم قال (وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ) والإماء لم يدخلن في نساء المؤمنين كما لم يدخل في قوله (نِسَائِهِنَّ) ما ملكت أيمانهن حتى عُطف عليه في آيتي النور والأحزاب (1) ، وهذا قد يقال إنما ينبني على قول من يخص ما ملكت اليمين بالإناث، وإلا فمن قال: هي فيهما أو في الذكور ففيه نظر. وأيضَا فقوله: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) وقوله: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ) [المجادلة: 2] إنما أريد به الممهورات دون المملوكات، فكذلك هذا، فآية الجلابيب في الأردية عند البروز من المساكن، وآية الحجاب عند المخاطبة في المساكن؛ فهذا مع ما في الصحيح من أنه لما اصطفى صفية بنت حيي، وقالوا إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين، وإلا فهي مما ملكت يمينه، دل على أن الحجاب كان مختصُّا بالحرائر. وفي الحديث دليل على أن أمومة المؤمنين لأزواجه دون سراريه، والقرآن ما يدل إلا على ذلك، لأنه قال: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) ، وقال: (وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا) ، وهذا أيضًا دليل ثالث من الآية؛ لأن الضمير في قوله: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ) عائد إلى أزواجه فليس للمملوكات ذكر في الخطاب، لكن إباحة سراريه من بعده فيه نظر (2) 0 اهـ.   (1) وهما قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) إلى قوله تعالى: (أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) [النور: 31] ، وكذا قوله تعالى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ) إلى قوله عز وجل: (وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) (الأحزاب: 55) (2) "مجموع الفتاوى" (15/448 -449) ، وفيما ذكره رد على استبعاد العلامة الألباني تخصيص قوله تعالى: (وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ) بالحرائر دون الإماء، كما جاء في "حجاب المرأة المسلمة" ص (44-47) ، مع تصحيحه لما ورد عن عمر رضي الله عنه من التفريق كما يأتي إن شاء الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 فصل * ذكر الآثار الواردة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في التفريق بين الحرائر والإماء في التقنع بالجلباب (1) : روى عبد الرزاق في "مصنفه" أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس أن عمر رضي الله عنه ضرب أمة لآل أنس رآها متقنعة، فقال: "اكشفي رأسك (2) ، لا تشبهي بالحرائر". وروى ابن جّريج عن عطاء أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ينهى الإماء عن الجلابيب أن يتشبهن بالحرائر، قال ابن جريج عن نافع: إن صفية بنت أبي عبيد حدثته، قالت: خرجت امرأة مختمرة متجلببة، فقال عمر: من هذه المرأة؟ فقيل له: جارية لفلان، رجل من بيته، فأرسل إلى حفصة، فقال: ما حملك على أن تخمري هذه الأمة، وتجلببيها، حتى هممت أن أقع بها، ولا أحسبها إلا من المحصنات؟! لا تشبهوا الإماء بالمحصنات. انتهى. ورواه البيهقي، وقال؟ "الاَثار بذلك عن عمر صحيحه" انتهى. روى ابن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا علي بن مسهر، عن المختار بن فلفل، عن أنس بن مالك، قال: دَخَلت على عمر بن الخطاب أمَة قد كان يعرفها لبعض المهاجرين، أو الأنصار، وعليها جلباب متقنعة به فسألها: عتِقْتِ؟ قالت: لا، قال: فما بال الجلباب؟! ضعيه على رأسك، إنما الجلباب على الحرائر من نساء المؤمنين، فتلكأت فقام إليها بذلك بالدرة،   (1) انظر: "نصب الراية" للزيلعي (1/ 300 - 301) ، "المحلى" لابن حزم (3/ 218) ، "إرواء الغليل" للألباني (6/ 203 – 204) حيث صححوا هذه الآثار في التفريق بين حجاب الحرائر والإماء. (2) الظاهر- بضميمة الآثار الآتية عن الفاروق رضي الله عنه أنه عبر هنا عن الجزء بالكل، وأن مقصوده: "اكشفي وجهك"، والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 فضرب بها رأسها حتى ألقته. وروى محمد بن الحسن في كتاب "الآثار": أخبرنا أبو حنيفة، عن حماد ابن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي أن عمر بن الخطاب كان يضرب الإماء أن يتقنعن، ويقول: لا تتشبهن بالحرائر. انتهى. * قول الإمام الحافظ أبي الفداء إسماعيل عماد الدين ابن عمر بن كثير القرشي الشافعي (ت 774 هـ) : قال في "تفسيره الجليل": يقول الله تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم تسليما أن يأمر النساء المؤمنات - خاصة أزواجه وبناته لشرفهن - بان يدنين عليهن من جلابيبهن، ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية وسمات الإماء. والجلباب: هو الرداء فوق الخمار، قاله ابن مسعود، وعبيدة، وقتادة، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، وعطاء الخراساني، وغير واحد، وهو بمنزلة الإزار اليوم. قال الجوهري: الجلباب: الملحفة، قالت امرأة من هذيل ترثي قتيلًا لها: تمشي النسور إليه وَهْيَ لاهية ... مَشْيَ العَذَارى عليهن الجلابيبُ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: "أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينًا واحدةً" (1) .   (1) رواية علي بن طلحة عن ابن عباس منقطعة، قال الحافظ ابن حجر: "روى عن ابن عباس ولم يسمع منه، بينهما مجاهد"، وقال دحيم: "لم يسمع التفسير من ابن عباس"، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: "روى عن ابن عباس، ولم يره) - له عند مسلم حديث واحد في ذكر العزل، وروى له الباقون حديثا آخر في الفرائض، قال الحافظ ابن حجر: "قلت ونقل البخاري من تفسيره رواية = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 وقال محمد بن سيرين: "سألت عبيدة السلماني عن قول الله تعالى: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) فغطى وجهه ورأسه، وأبرز عينه اليسرى (1) . اهـ (2) . * وقد فسر الإمام جلال الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد المحَلِّي رحمه الله (ت 864 هـ) الآية بقوله: (مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) جمع جلباب، وهي الملاءة التي تشتمل بها المرأة، أي: يرخين بعضها على الوجوه إذا خرجن لحاجتهن إلا عينا واحدة (ذَلِكَ أَدْنَى) أقرب إلى (أَنْ يُعْرَفْنَ) بأنهن حرائر (فَلَا يُؤْذَيْنَ) بالتعرض لهن، بخلاف الإماء، فلا يغطين وجوههن، فكان المنافقون يتعرضون لهن، (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) لما سلف منهن لترك الستر (رَحِيمًا) بهن إذ سترهن. اهـ (3) . وقال السيوطي رحمه الله: هذه آية الحجاب في حق سائر النساء ففيها وجوب ستر الرأس والوجه   = معاوية بن صالح عنه عن ابن عباس شيئا في التراجم وغيرها، ولكنه لا يسميه، يقول: قال ابن عباس أو يذكر عن ابن عباس " اهـ، ويفهم من صيغة الجزم احتجاج الإمام البخاري بهذه الرواية - أعني رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما - في مواضع عديدة من كتاب التفسير حيث أوردها معلقه، وإن كانت ليست على شرطه في الجامع الصحيح، ووصلها ابن حجر في "الفتح"، فانظر: "فتح الباري" (8/ 54) ، (8/76) ، (8/ 114) ، و "تهذيب التهذيب" (7/ 339 -340) . (1) أورد هذا الأثر السيوطي في "الدرر المنثور" (5/ 221) وقال: أخرجه الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير الطبري، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين. اهـ. (2) تفسير القرآن العظيم" (6/ 470) . (3) "قرة العينين على تفسير الجلالين" ص (560) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 عليهن" (1) اهـ. وقال الإمام الخطيب الشربيني رحمه الله في تفسيره: " (يُدْنِينَ) يقربن (عَلَيْهِنَّ) أي على وجوههن وجميع أبدانهن، فلا يدعن شيئًا منها مكشوفًا" (2) ، أهـ. وقال أيضَا: قال ابن عادل: ويمكن أن يقال: المراد يعرفن أنهن لا يزنين، لأن من تستر وجهها مع أنه ليس بعورة أي في الصلاة لا يُطمع فيها أنها تكشف عورتها فبفرض أنهن مستورات لا يمكن طلب الزنا منهن " (3) 0 اهـ. * وقال الشيخ أبو السعود محمد بن محمد العمادي (ت 951 هـ) في "تفسيره": أي يغطين بها وجوههن وأبدانهن إذا برزن لداعية من الدواعي (4) . أهـ. * وقال الشيخ إسماعيل حقي البروسوي (ت 1137 هـ) رحمه الله في "تفسيره": والمعنى يغطين بها وجوههن وأبدانهن وقت خروجهن من بيوتهن لحاجة، ولا يخرجن مكشوفات الوجوه والأبدان كالاماء حتى لا يتعرض لهن السفهاء ظنُّا بأنهن إماء. ونقل عن أنس رضي الله عنه قال: "مرت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه جارية متقنعة   (1) "عون المعبود" (4/106) ، "الإكليل" على هامش "جامع البيان" ص (334) . (2) "السراج المنير" (3/271) . (3) السابق (3/ 372) . (4) "إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم" (7/ 115) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 فعلاها بالدرة، وقال: يالكاع (1) تتشبهين بالحرائر ألقي القناع" (2) . اهـ. * قال العلامة الشوكاني (ت 1250 هـ) في "تفسيره": قال الواحدي: قال المفسرون: يغطين وجوههن ورءوسهن إلا عينَا واحدة، فيعلم أنهن حرائر لا يعرض لهن بأذى. إلى أن قال رحمه الله: "وليس المراد بقوله (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ) أن تعرف الواحدة منهن من هي، بل المراد أن يعرفن أنهن حرائر لا إماء لأنهن قد لبسن لبسة تختص بالحرائر (3) . اهـ * وقال الشيخ السيد محمد عثمان ابن السيد محمد أبي بكر ابن السيد عبد الله الميرغني المحجوب المكي (ت 1268 هـ) في "تفسيره": (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) أي يرخين على وجوههن وسائر أجسادهن ما يسترهن من الملاآات والثوب الساتر (4) . اهـ. * وقال العلامة أبو الفضل شهاب الدين السيد محمود الألوسي البغدادي (ت 1270 هـ) في " تفسيره": والإدناء: التقريب، يقال: أدناني، أي قربني، وضمن معنى الإرخاء أو السدل، ولذا عُدِّيَ بـ "على"، على ما يظهر لي، ولعل نكتة التضمين الإشارة إلى أن المطلوب تستر يتأتى معه رؤية الطريق إذا مشين فتأمل. وقال أيضًا رحمه الله:   (1) لكاع: كلمة تقال لمن يُستَحقَرُ به مثل العبد والأمهَ والخامل والقليل العقل، مثل قولك: يا خسيس. اهـ من "فتح البيان" لصديق حسن خان (7/ 415) . (2) "روخ البيان" (7/ 240) . (3) "فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير" (4/ 304- 305) . (4) "تفسير الميرغني " (2/ 93) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 والظاهر أن المراد بعليهن: على جميع أجسادهن، وقيل: على رؤوسهن أو على وجوههن لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه. وقال أيضًا. وفي رواية أخرى عن الحبر رواها ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه. تغطي وجهها من فوق رأسها بالجلباب وتبدي عينا واحدة، وأخرج عبد الرزاق وجماعة عن أم سلمة قالت: "لما نزلت هذه الآية (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها" (1) . وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "رحم الله تعالى نساء الأنصار، لما نزلت (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ) الآية، شققن مروطهن، فاعتجرن بها، فصلين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما على رؤوسهن الغربان (2) . اهـ. * وقال نعمةُ الله بنُ محمود الخجواني: يدنين يُغطين (عَلَيْهِنَّ) أي على أيدهن وأرجلهن وعلى جميع معاطفهن (مِن) فواضل (جَلَابِيبِهِنَّ) وملاحفهن بحيث لا يبدو من مفاصلهن وأعضائهن شيء سوى العينين، بل عين واحدة (3) . اهـ. * وقال الشيخ عبد العزيز بن أحمد الدميري: يدنين يرخين الرداء سترا ... للوجه والرأس يعم الصدرا (4)   (1) أخرجه أبو داود (2/ 182) بإسناد صحيح، وأورده في "الدر" (5/ 221) برواية عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبي داود وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من حديث أم سلمة بلفظ: "من أكسية سود يلبسنها"، والغربان؟ جمع غراب، شبهت الأكسية في سوادها بالغربان (2) "روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني" (22/88-90) . (3) "الفواتح الإلهية" (2/163) نقلا عن "مجلة الجامعة السلفية". (4) "التيسير في علوم التفسير" ص (91) نقلَا عن "مجلة الجامعة السلفية". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 * وقال المهايمي: (يُدْنِينَ) أي يقربن تقريب تغطية (عَلَيْهِنَّ) أي على وجوههن وأبدانهن (1) . اهـ. * وقال علامة الشام محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ) - رحمه الله - في "تفسيره": فَأمِرنَ - يعني الحرائر- أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء، بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه ليحتشمن ويُهبن فلا يطمع فيهن طامع. وقال أيضا: وأخرج - يعنى ابن أبي حاتم - عن يونس بن يزيد أنه سأل الزهري: هل على الوليدة خمار، متزوجة أو غير متزوجة؟ قال: عليها الخمار إن كانت متزوجة، وتنهى عن الجلباب، لأنه يكره لهن أن يتشبهن بالحرائر المحصنات (2) . * قال علامة القصيم الشيخ أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في "تفسيره": (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) الآية: هذه الآية هي التي تسمى آية الحجاب، فأمر الله نبيه أن يأمر النساء عموما، ويبدأ بزوجاته وبناته لأنهن آكد من غيرهن، ولأن الآمر لغيره ينبغي أن يبدأ بأهله قبل غيرهم كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) أن (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) وهن اللاتي يكن فوق الثياب من ملحفة وخمار ورداء ونحوه، أى يغطين بها وجوههن وصدورهن.   (1) "تبصير الرحمن" (2/ 164) نقلأ عن "مجلة الجامعة السلفية" (2) "محاسن التأويل" (13/4908 - 4909) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 ثم ذكر حكمة ذلك فقال: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) دل على وجود أذية إن لم يحتجبن، وذلك لأنهن إذا لم يحتجبن ربما ظُنَّ أنهن غير عفيفات فيتعرض لهن من في قلبه مرض فيؤذيهن، وربما استهين بهن، وظُنَّ أنهن إماء فتهاون بهن من يريد الشر، فالاحتجاب حاسم لمطامع الطامعين فيهن. (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) حيث غفر لكم ما سلف، ورحمكم بأن بين لكم الأحكام، وأوضح الحلال والحرام، فهذا سد للباب من جهتهن، وأما من جهة أهل الشر فتوعدهم بقوله: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي مرض: شك أو شهوة (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) أي المخوفون المرهبون الأعداء المتحدثون بكثرتهم وقوتهم وضعف المسلمين. ولم يذكر المعمول الذي ينتهون عنه ليعم ذلك كل ما توحي به أنفسهم إليهم، وتوسوس به، وتدعو إليه من الشر من التعريض بسب الإسلام وأهله، والإرجاف بالمسلمين وتوهين قواهم، والتعرض للمؤمنات بالسوء والفاحشة، وغير ذلك من المعاصي الصادرة من أمثال هؤلاء (ِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) أي نأمرك بعقوبتهم وقتالهم ونسلطك عليهم ثم إذا فعلنا ذلك لا طاقة لهم بك وليس لهم قوة ولا امتناع، ولهذا قال: (ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا) (1) "، اهـ. * قول العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي (ت 1393 هـ) : قال رحمه الله: ومن الأدلة القرآنية على احتجاب المرأة وسترها جميع بدنها حتى وجهها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) فقد قال غير واحد من أهل العلم: إن معنى (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ   (1) "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنَّان" (6/ 122) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 جَلَابِيبِهِنَّ) أنهن يسترن بها جميع وجوههن، ولا يظهر منهن شيء إلا عين واحدة تبصر بها، وممن قال به ابن مسعود، وابن عباس، وعَبيدة السلماني وغيرهم. فإن قيل: لفظ الآية الكريمة وهو قوله: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) لا يستلزم معناه ستر الوجة لغة، ولم يرد نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع على استلزامه ذلك، وقول بعض المفسرين إنه يستلزمه معارَض بقول بعضهم: إنه لا يستلزمه، وبهذا يسقط الاستدلال بالآية على وجوب ستر الوجه. فالجواب: أن في الآية الكريمة قرينة واضحة على أن قوله تعالى فيها: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) يدخل في معناه ستر وجوههن بإدناء جلابيبهن عليها، والقرينة المذكورة هي قوله تعالى: (قُلْ لِأَزْوَاجِكَ) ووجوب احتجاب أزواجه وسترهن وجوههن لا نزاع فيه بين المسلمين، فذكر الأزواج مع البنات ونساء المؤمنين يدل على وجوب ستر الوجوه بإدناء الجلابيب كما ترى. ومن الأدلة على ذلك أيضَا هو ما قدمنا في سورة النور (1) في الكلام على قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) من أن استقراء القرآن يدل على أن معنى: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) الملاءة فوق الثياب، وأنه لا يصح تفسير (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) بالوجه والكفين كما تقدم إيضاحه، وأعلم أن قول من قال: "إنه قد قامت قرينة قرآنية على أن قوله تعالى: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) لا يدخل فيه ستر الوجه، وأن القرينة المذكورة هي قوله تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ) قال: وقد دل قوله: (أَنْ يُعْرَفْنَ) على أنهن سافرات كاشفات عن وجوههن لأن التي تستر وجهها لا تعرف " باطل، وبطلانه واضح، وسياق الآية يمنعه منْعًا باتا لأن قوله:   (1) انظر ص (303) وما بعدها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) صريح في منع ذلك، وإيضاحه: أن الإشارة في قوله: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ) راجعة إلى إدنائهن عليهن من جلابيبهن، وإدناؤهن عليهن من جلابيبهن لا يمكن بأي حال أن يكون أدنى أن يعرفن بسفورهن، وكشفهن عن وجوههن كما ترى، فإدناء الجلابيب منافٍ لكون المعرفة معرفة شخصية بالكشف عن الوجوه كما لا يخفى. وقوله في الآية الكريمة: (لِأَزْوَاجِكَ) دليل أيضا على أن المعرفة المذكورة في الآية ليست بكشف الوجوه، لأن احتجابهن لا خلاف فيه بين المسلمين. والحاصل: أن القول المذكور تدل على بطلانه أدلة متعددة: الأول: سياق الآية كما أوضحناه آنفا. الثاني: قوله (لِأَزْوَاجِكَ) كما أوضحناه أيضًا. الثالث: أن عامة المفسرين من الصحابة فمن بعدهم فسروا الآية مع بيانهم سبب نزولها، بأن نساء أهل المدينة كن يخرجن بالليل لقضاء حاجتهن خارج البيوت، وكان بالمدينة بعض الفساق يتعرضون للإماء، ولا يتعرضون للحرائر، وكان بعض نساء المؤمنين يخرجن في زي ليس متميزا عن زي الإماء، فيتعرض لهن أولئك الفساق بالأذى، ظنا منهم أنهن إماء، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يتميزن في زيهن عن زي الإماء، وذلك بأن يدنين عليهن من جلابيبهن، فإذا فعلن ذلك، ورآهن الفساق علموا أنهن حرائر، ومعرفتهن بأنهن حرائر لا إماء هو مبنى قوله: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ) فهي معرفة بالصفة لا بالشخص، وهذا التفسير منسجم مع ظاهر القرآن كما ترى، فقوله: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) لأن إدناءهن عليهن من جلابيبهن يشعر بأنهن حرائر فهو أدنى وأقرب لأن يعْرفن: أي يعلم أنهن حرائر، فلا يؤذين من قبل الفساق الذين يتعرضون للإماء. وهذا هو الذي فسر به أهل العلم بالتفسيرِ هذه الآية، وهو واضح، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 وليس المراد منه أن تعرض الفساق للإماء جائز (1) بل هو حرام، ولا شك أن المتعرضين لهن من الذين في قلوبهم مرض، وأنهم يدخلون في عموم قوله: (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) في قوله تعالى: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) إلى قوله: (وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا) . ومما يدل على أن المتعرض لما لا يحل من النساء من الذين في قلوبهم مرض، قوله تعالى: (َّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) الآية، وذلك معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الأعشى: حافظ للفرج راض بالتقى ... ليس ممن قلبه فيه مرض وفي الجملة: فلا إشكال في أمر الحرائر بمخالفة زي الإماء ليهابهن الفساق، ودفع ضرر الفساق عن الإماء لازم، وله أسباب أخر ليس منها إدناء الجلابيب. اهـ (2) . * ونقل العلامة أبو الأعلى المودودي (ت 1399 هـ) رحمه الله تعالى جملة من أقوال المفسرين في تفسير هذه الآية ثم قال رحمة الله عليه: "ويتضح من هذه الأقوال جميعا أنه من لدن عصر الصحابة الميمون إلى القرن الثامن للهجرة، حمل جميع أهل العلم هذه الآية على مفهوم واحد، هو الذي قد فهمناه من كلماتها، وإذا راجعنا بعد ذلك الأحاديث النبوية والآثار، علمنا منها أيضا أن النساء قد شرعن يلبسن النقاب على العموم   (1) وقد شنع بعضهم بذلك، وزعم أن لازم هذا التفسير: أن الله تعالى أطلق الفساق على أعراض إماء المسلمين. انظر: "المحلى" (3/ 219) ، "الحجاب" للألباني ص (44-45) ، وهذا الاستنباط ليس بلازم أصلًا، لأن سياق الآيات يرده صراحة كما هو واضح أعلى والله أعلم. (2) "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" (6/ 6! هـ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 بعد نزول هذه الآية على العهد النبوي، وكن لا يخرجن سافرات، فقد جاء في سنن أبي داود والترمذي والموطأ للإمام مالك وغيرها من كتب الأحاديث أن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر أن "المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين"، و"نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب" وهذا صريح الدلالة على أن النساء في عهد النبوة قد تعودن الانتقاب ولبس القفازين عامة، فنهين عنه في الإحرام، ولم يكن المقصود بهذا الحكم أن تُعْرَضَ الوجوه في موسم الحج عرضا، بل كان المقصود في الحقيقة أن لا يكون القناع جزءا من هيئة الإحرام المتواضعة، كما يكون جزءًا من لباسهن عادة، فقد ورد في الأحاديث الأخرى تصريح بأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وعامة المسلمات كنَّ يخفين وجوههن عن الأجانب في حالة إحرامهن أيضا، ففي سنن أبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذَوْا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه" (1) ، وفي الموطأ للإمام مالك عن فاطمة بنت المنذر قالت: "كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، فلا تنكره علينا" (2) . وقد ورد في "فتح الباري" عن عائشة رضي الله عنها: "تسدل المرأة جلبابها من فوق رأسها على وجهها" (3) . وكل من تأمل كلمات الآية وما فسرها به أهل التفسير في جميع الأزمان بالاتفاق، وما تعامل عليه الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لم ير في الأمر مجالا   (1) رواه أبو داود رقم (1833) ، في الحج: باب في المحرمة تغطي وجهها (2/167) . (2) الموطأ- باب تخمير المحرم وجهه، ص (217) ط. الشعب، بدون قولها: "فلا تنكره علينا". (3) انظر: "فتح الباري" - كتاب الحج، باب ما يلبس المحرم من الثياب (3/ 474) ط السلفية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 للجحود بأن المرأة قد أمرها الشرع الإسلامي بستر وجهها عن الأجانب، ما زال العمل جاريا عليه منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا اليوم (1) . اهـ. وقال رحمه الله في "تفسير سورة الأحزاب": والجلباب في اللغة العربية: الملحفة والملاءة واللباس الواسع، والإدناء يعني: التقريب واللف، فإن أضيف إليه حرف الجر "على" قُصد به الإِرخاء والإِسدال من فوق. وبعض المترجمين والمفسرين في هذه الأيام غلبهم الذوق الغربي، فترجموا هذا اللفظ بمعنى الالتفاف؟ لكي يتلافوا حكم ستر الوجه، لكن الله لو أراد ما ذكره هؤلاء السادة لقال: "يدنين إليهن"، فإن من يعرف اللغة العربية لا يمكن أن يسلم بأن (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ) تعني: أن يتلففن أنفسهن فحسب، هذا بالإضافة إلى قوله: (جَلَابِيبِهِنَّ) يحول أكثر وأكثر دون استخراج هذا المعنى. (ومِنْ) هنا للتبعيض يعني جزءَا أو بعضا من جلابيبهن، ولو التفت المرأة بالجلباب لالتفت به كله طبعًا لا ببعضه، أو بطرف منه، ومن ثم تعني الآية صراحة أن يتغطى النساء تمامًا، ويلففن أنفسهن بجلابيبهن ثم يسدلن عليهن من فوق بعضا منها أو طرفها، وهو ما يعرف عامة باسم النقاب. هذا ما قاله أكابر المفسرين في أقرب عهد بزمن الرسالة وصاحبها صلى الله عليه وسلم، فقد روى ابن جرير وابن المنذر أن محمد بن سيرين رحمهِ الله سأل عبيدة السلماني عن معنى هذه الآية،- وكان عبيدة قد أسلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأت إليه، وجاء المدينة في عهد عمر رضي الله عنه، وعاش فيها، ويعتبر نظيرا للقاضي شريح في الفقه والقضاء - فكان جوابه أن أمسك بردائه وتغطى به، حتى لم يظهر من رأسه ووجهه إلا عين واحدة.   (1) "الحجاب" ص (302 - 303) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 وقد فسرها ابن عباس رضي الله عنهما أيضا بما يقارب هذا إلى حد كبير، وما ثقله عنه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه يقول فيه: "أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة"، وهذا ما قاله قتادة والسدي أيضًا في تفسير هذه الآية. ويتفق أكابر المفسرين الذين ظهروا في تاريخ الإسلام بعد عصر الصحابة والتابعين على تفسير الآية بهذا المعنى" اهـ. * ثم قال رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) : المراد بقوله (يُعْرَفْنَ) أن كل من يراهن في هذا اللباس الوقور المحتشم غير المزين يعرف أنهن شريفات حرائر، لا أوباش متهتكات متبذلات فيطمع أي مستهتر خليع في أن ينال منهن مراده. والمقصود من قوله: (فَلَا يُؤْذَيْنَ) لا يتعرض لهن أحد بأذى. ونحن نتوقف هنا قليلا، ونحاول أن نفهم معًا أي روح لقانون الاجتماع الإسلامي يعبر عنها هذا الأمر القرآني؟ وما هو غرضه ومقصوده الذي ذكره رب العالمين بنفسه؟ لقد أمر الله النساء في الآية رقم (31) من سورة النور ألا يبدين زينتهن إلا لأشخاص معينين ذُكِروا في هذه الآية: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) ، فإذا قرأنا هذا الأمر متصلًا مع الآية التي بين أيدينا من سورة الأحزاب، ظهر لنا في وضوح أن الأمر الصادر إلى النساء في هذه الآية أن يدنين عليهن من جلابيبهن يعني: إخفاء الزينة عن غير المحارم، ولا يتحقق هذا الغرض طبعًا إلا إذا كان الجلباب غير مزين ولا منقوش في ذاته، وإلا ضاع هذا الغرض بارتداء جلباب مزين منقوش لافت للنظر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 وفوق هذا أن الله تبارك وتعالى لا يأمر النساء بإرخاء الجلباب وإخفاء الزينة فحسب، بل يأمرهن كذلك أن يسدلن على أنفسهن - يعني من أعلى - طرفًا من جلابيبهن، وأي إنسان عاقل لا يمكن أن يفهم من هذا القول شيئَا سوى أنه يقصد ضرب النقاب أو التنقب؛ حتى يختفي الوجه أيضا إلى جانب إخفاء زينة الجسم واللباس، ثم يذكر رب العالمين ذاته علة هذا الأمر فيقول: إن هذه أمثل طريقة لأن يعرف نساء المسلمين فلا يؤذين. ويظهر من هذا تلقائيًّا أن هذا الأمر صادر إلى النسوة اللاتي لا يتلذذن بمعاكسة الرجال لهن، وحملقتهن في وجوههن وأجسامهن، ورغبتهم فيهن، بل يتألمن ويتأذين، واللاتي لا يردن جعل أنفسهن في عداد نجوم المجتمع الداعرات، بل يردن أن يعرفن بأنهن مصابيح البيوت العفيفات التقيات، هؤلاء الشريفات الطيبات يقول الله لهن: إن كنتن تردن أن تعرفن بهذه الصفة فعلًا، وإن كان اهتمام الرجال بكن، ورغبتهم فيكن لا يلذ لكن حقيقة، بل يؤذيكن، ويؤلمكن، فليس السبيل إلى ذلك أن تخرجن من بيوتكن متزينات كعروس ليلة زفافها، وتظهرن جمالكن وحسنكن براقًا أخاذا كأحسن ما يكون أمام الأعين الطامعة الجائعة، بل إن أفضل سبيل لهذا الغرض أن تخرجن خافيات زينتكن كلها في جلباب مسدل غير مزين، وتضربن النقاب على وجوهكن، وتمشين بطريقة لا يلفت نظر الناس فيها إليكن شيء حتى ولا صوت حليكن. إن المرأة التي تتزين وتتهيأ قبل خروجها، ولا تخرج قدمها من منزلها قبل أن تكون قد وضعت أصنافا وألوانا من المساحيق والخطوط بين أحمر وأزرق وأسود وأبيض، لا يمكن أن يكون غرضها من هذا سوى أنها تريد أن تلفت إليها نظر الرجال، وتدعوهم هي نفسها إلى الالتفات إليها، والاهتمام بها، والرغبة فيها، فإن قالت بعد ذلك إن النظرات الجائعة العطشى تؤذيها، وتضايقها، وإن ادعت أنها لا تريد أن تُعرف بأنها "سيدة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 مجتمع " و"امرأة محبوبة مرغوب فيها"، بل تحب أن تكون ربة بيت شريفة محترمة، فليس ذلك منها غير خداع ومكر. إن قول الإِنسان لا يحدد نيته، بل إن نيته الحقيقية هي التي تختار، وتحدد شكل عمله، ومن ثم فالمرأة التي تجعل نفسها شيئًا لافتًا للنظر، ثم تمشي أمام الرجال، يفضح فعلها هذا الدوافع التي تكمن خلفه، والمحركات التي تعمل وراءه، ولهذا يتوقع طلاب الفتنة منها نفس ما يتوقعونه من امرأة من هذا الصنف، فالقرآن يقول للنساء: هيهات هيهات أن تكُنَّ مصابيح البيوت النيرات، ونجوم المجتمع الداعرات في وقت واحد، فلكي تكن مصابيح البيوت اتركن تلك المناهج والطرق والأساليب التي تناسب نجوم المجتمع، واسلكن أسلوب الحياة الذي يساعدكن في أن تصبحن مصابيح البيوت، إن الرأي الشخصي لأي إنسان - سواء كان مطابقا للقرآن أم مخالفا، وسواء أراد قبول هدي القرآن منهج عمل، وقاعدة سلوك أم لم يرد - إن كان لا يريد بحال أن يرتكب جريمة عدم الأمانة في التفسير، فلا يمكن أن يخطئ في فهم مراد القرآن وقصده، وما لم يكن منافقًا فسوف يُسَلم بأن مراد القرآن هو ما ذكرنا آنفًا، فإن خالف بعد ذلك فسوف يخالف بعد أن يعترف بأنه يعمل على خلاف القرآن، أو أنه يفهم هدي القرآن فهمًا أعوج خاطئا " (1) اهـ * وقال فضيلة الشيخ أبي بكر جابر الجزائري - حفظه الله تعالى -: "قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) . هذه الآية من سورة الأحزاب، وهي متأخرة في التلاوة عن الآيتين قبلها (2) أبطلت دعوى الخصوصية في الحجاب؛ حيث أشركت في   (1) "تفسير سورة الأحزاب " ص: (161- 163) ، (165 - 167) . (2) يعني قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) الآية، وقوله = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 الخطاب نساء المؤمنين باللفظ الصريح، وهي تطالب المؤمنات إذا خرجن من بيوتهن لحاجة استدعت ذلك أن يغطين وجوههن، ويسترن محاسنهن. أما التعليل في الآية فهو يشير إلى المجتمع الإسلامي في تلك الأيام، وأنه كان مخلخلًا مهزوزًا؛ لوجود أغلبية فيه من المنافقين والمنافقات، والمشركين والمشركات، وحُكم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستقر بعد، والأمن لم يستتب، بدليل أن المنافقين كان منهم من يتعرض للجواري في الشوارع، ويغازلهن لإيقاعهن في الريبة، فمن باب الوقاية العاجلة أمر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول آمرا أزواجه وبناته ونساء المؤمنين به إذا خرجت إحداهن لحاجتها أن تغطي رأسها ووجهها، لتُعرف أنها حرة، وليست جارية تخدم البيوت، فلا يتعرض لها أولئك المنافقون بالكلام المريب والمغازلة الفاتنة، والمقصود من الكلام أن هذه الآية مؤكدة لفرضية الحجاب، ومقررة له. ودعاة السفور يقولون إن هذه الآية لم تأمر بتغطية الوجه، وإنما أمرت بتغطية الرأس فقط، وهو فهم باطل؛ إذ الجلباب هو ما تضعه المرأة على رأسها، فكيف يقال لها: أدني الجلباب من رأسك تغطية (1) . وإنما تدنيه عن رأسها لتغطي به وجهها، هذا هو المعقول والمفهوم من العرب، ثم مجرد تغطية الرأس لا تمنع من المغازلة المخوفة، وإنما يمنع منها تغطية الوجه بالمرة، أما كاشفة الوجه فإن النظر إليها ومنها يسَهلُ المكالمة، فالمغازلة، كما قال الشاعر الحكيم: نظرة فابتسامة فسلام ... فكلام فموعد فلقاء". (2)   = عز وجل: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) الآية إلى قوله تعالى: (وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) . (1) كذا في الأصل، ولعله: (فكيف يقال لها: "أدنى الجلباب من رأسك" وهو يغطيه؟) يريد أنه يكون حينئذ تحصيل حاصل، والله أعلم. (2) "فصل الخطاب في المرأة والحجاب" (ص: 38 - 39) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 * وقال الدكتور محمد محمود حجازي في تفسيره: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) فيسترن أجسادهن كلها حتى وجوههن إلا ما به ترى الطريق (1) اهـ. * وقال الشيخ عبد العزيز بن خلف: "والمفهوم من الجلباب أنه لا ينحصر باسم ولا بجنس ولا بلون، وإنما هو كل ثوب تشتمل به المرأة لستر مواضع الزينة من ثابت ومنقول، وإذا عرفنا المقصود منه، زال الحرج في وصفه ومسماه. فقوله تبارك وتعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ) (2) يدل على تخصيص الوجه لأن الوجه عنوان المعرفة فهو نص على وجوب ستر الوجه. وقوله تعالى: (فَلَا يُؤْذَيْنَ) هو نص على أن في معرفة محاسن المرأة إيذاء لها ولغيرها بالفتنة والشر، ولذلك حرم الله تعالى عليها أن تخرج من بدنها ما تعرف به محاسنها أيا كانت" (3) اهـ. * وقال حفظه الله تعالى (2) : "الجلباب" أكمل من ضرب الخمار لأنه يحيط ببدن المرأة كلها، ويستر جميع ما يعلو بدنها من الزينة، أو ما يصف جسمها، لأن لبس الثياب التي تصف حجم المرأة حرام عليها استعمالها بحضرة الرجال الأجانب ...   (1) "التفسير الواضح (22/ 27) (2) وقال فضيلته معلقا على هذا الموضع: (لو لم يكن من الأدلة الشرعية على منع كشف الوجه إلا هذا النص من الله تعالى لكفى به حكمَا موجبَا، لأن الوجه هو العنوان من المرأة لمعرفتها من الناحية المحذورة، والله تعالى أمر المرأة بأن تعمل على حجب ما يدل على معرفتها من بدنها، وهذا الأمر يقتضي الوجوب، ولا يوجد أي دليل ينقله من الوجوب إلى الاستحباب أو الخيار) اهـ من هامش ص: 48. (3) "نظرات في حجاب المرأة المسلمة" (ص: 48 - 49) . (4) "السابق" (ص: 52) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 ص 226 فارغة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 في البيوت. وهذه الآية الكريمة تستدعي التأمل وإدارة الفكر من وجوه: الأول: أن الله تعالى لم يقل: "يتجلببن" وإنما قال: (يُدْنِينَ) ومعلوم أن الإدناء ليس هو نفس التجلبب، بل هو أمر زائد على التجلبب، فلا يحصل الامتثال بهذا الأمر بمجرد التجلبب، بل لابد من الإِتيان بقدر زائد عليه يصح أن يطلق عليه كلمة الإِدناء. الثاني: أن الإِدناء لا يطلق على لبس الثياب، ثم إنه لا يتعدى بعلى، بل يتعدى باللام، ومِن، وإلى فتعديته هنا بعلى لتضمينه معنى فعل آخر، وهو الإِرخاء، والإِرخاء يكون من فوق، فالمعنى: يرخين شيئا من جلابيبهن من فوق رؤوسهن على وجوههن. أما قولنا: على وجوههن، فلأن الجلباب لابد أن يقع على عضو عند الإِرخاء، ومعلوم بالبداهة أن ذلك العضو لا يكون إلا الوجه وأما أن يكون على الجبهة فقط فمعلوم أن هذا القدر القليل من عطف الثوب لا يسمى إِرخاء، ويؤيد هذا المعنى - أي: أن المراد بالإِدناء هو الإِرخاء، لا مجرد، التجلبب - أيضًا، أن الله أتى بكلمة (مِن) التبعيضية قبل الجلابيب، فمقتضاه أن الإِدناء يكون بجزء من الجلباب مع أن التجلبب يطلق على مجموع هيئة لبسه. الثالث: أن الضمير في (يُدْنِينَ) يرجع إلى ثلاث طوائف جمعاء: إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وإلى بناته، وإلى نساء المؤمنين، وقد أجمعوا على أن ستر الوجه والكفين كان واجبا على أزواجه صلى الله عليه وسلم، فإذا دل هذا الفعل على وجوب ستر الوجه والكفين في حق طائفة منها؛ فلم لا يدل نفس ذلك الفعل على نفس ذلك الوجوب في حق طائفتين أخريين؟! الرابع: أن الله أمر أمهات المؤمنين بالتستر الكامل في آية الحجاب، ولم يستثن عضوًا من عضو، فلو كان المراد بإدناء الجلباب مجرد تغطية الرأس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 من غير أن يشمل الوجه والكفين لكان كلامه تعالى عبثا في حق أمهات المؤمنين إذ من العجائب أن يؤمر أولًا بالتستر الكامل حتى الوجه والكفين، ثم يؤمر بتغطية الرأس فقط، مع بقاء الآية الأولى محكمة غير منسوخة. وياليت شعري أي حاجة مست إلى الأمر بستر الرأس بعد الأمر بستر جميع الأعضاء؟! الخامس: أن أساليب الرواة وإن اختلفت في بيان سبب نزول هذه الآية، لكنهم متفقون على أن من أهداف هذا الأمر تمييز الحرائر من الأِماء بالزي. فعلينا أن نرجع في معرفة ذلك إلى تقاليد العرب في ذلك الزمان وقبله، ويبدو من إشعار الشعراء الجاهليين أن الحرائر والشريفات كن محتجبات الوجوه في الجاهلية أيضا، وحجاب الوجوه – وإن يكن عامًّا - لكنه كان هو الزي الفارق بين الحرة والأمة. ثم ساق فضيلته شواهد شعرية لتأييد أن ستر الوجوه وكشفها كان هو الفارق بين الحرة والأمة في زمن الجاهلية (1) ، إلى أن قال حفظه الله: وبعد معرفة هذا القدر من تقاليد نساء الجاهلية يسهل علينا فهم معنى الآية، وأن الله تعالى أمر المؤمنات بالتزام الزي الذي كان قد تقرر عندهم أنه زي الحرة، وليس بزي الأمة، ومعلوم أن ذلك الزي كان هو ستر الوجه بالجلباب. السادس: أن الروايات التي وردت في بيان سبب نزول هذه الآية إما ساكتة عن بيان الزي الذي يفرق بين الحرة والأمة، وإما صريحة جازمة فيه   (1) وقد تقدم ذكر جملة صالحة منها في فصل تاريخ الحجاب في الجاهلية، فراجع ص (84) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 فالرواية التي فيها، الصراحة ببيان الزي هى ما رواه أبن سعد عن محمد ابن كعب القرظى قال: كان رجل من المنافقين يتعرض لنساء المسلمين يؤذيهن، فإذا قيل له، قال: "كنت أحسبها أمة"، فأمرهن الله أن يخالفن لفي الإماء، ويدنين عليهن من جلابيبهن تخمر وجهها إلا إحدى عينيها، يقول: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) ، يقول ذلك أحرى أن يعرفن (1) ويقرب منها الرواية التي رواها ابن جرير، ونقلها فضيلة الدكتور الهلالي فإن فيها تفسير (يُدْنِينَ) بكلمة: يتقنعن، والتقنع يطلق على تغطية الوجه، ومنه مقنع الكندي، سمى مقنعا لأنه كان لا يخرج إلا وعلى وعلى وجهه ستر (2) . ومنه ما قال أحمد بن أبي يعقوب في "تاريخه": وكانت العرب تحضر سوق عكاظ وعلى وجهها البراقع، فيفال: إن أول عربى كشف قناعه ظريف ابن غنم العنبري (3) . ومنه المثل السائر: ألقى عن وجهه قناع الحياء. فالروايات التي تبين سبب النزول تصرح أيضًا بان الفرق بين الحرة والأمة إنما كان بستر الوجه وكشفه. وأما استدلالاهم بما تقرر في كتب الفقه من أن الأمة لا تستر رأسها فليس بناهض: أما أولا: فلأن الله تعالى إنما رد المسلمين إلى التقاليد التي كانت متقررة في مجتمع العرب، ولم يردهم إلى ما تقرر في هذا الشرع، فإن ما تقرر فيه، لم يتقرر إلا بعد نزول هذه الآية. وأما ثانيا: فلأن كشف الرأس للإِماء ليس بمتفق عليه (4) .   (1) "طبقات ابن سعد" (8/176، 177) . (2) انظر: "الأغاني" ترجمه مقنع (17/60) . (3) "تاريخ اليعقوبي" ط. أوربة (2/ 315) . (4) "تفسير ابن كثير" (5/516) ، و"تفسير سورة النور" لابن تيمية = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 وأَما ما قاله فضيلة الدكتور من أن عمر رضي الله عنه كان يضرب الإِماء على ستر الرأس فليس بصحيح، بل الصحيح أنه كاد يضربهن على ستر الوجه وهاك لفظ الرواية: قال أنس: مرت بعمر بن الخطاب جارية متنقبة، فعلاها بالدرة، وقال: يالكاع تتشبهين بالحرائر؟ ألقي القناع (1) . والعجب من فضيلة الدكتور أنه كيف رضي أن يستدل به على جواز كشف الوجوه للحرائر؟! السابع؟ أنا لو سلمنا - على سبيل التنزل - أن مجرد ستر الرأس يكفي لتمييز الحرة من الأمة، فلا شك أن ستر الوجه مع ستر الرأس أوْلى في إِعطاء هذا التمييز، وفي تأدية هذا الغرض، فسبب النزول على تقدير صحة ما فهمه منه فضيلة الدكتور لا يقتضي نفي ستر الرأس ولا ينافي وجوبه. الثامن أن سبب النزول ينص على أن الله تعالى دَرَأَ- بأمر إِدناء الجلباب- مفسدة من المفاسد، وهي التعرض للنساء، ولكن هناك مفاسد أخرى أكبر منها، وذلك أن المرأة- ولو كانت فاجرة- إذا تعرض لها أحد في الطريق بالتغزل، أو بإلقاء الكلمات تثور الحمية والغيرة فيها، وتستشيط غضبًا، إلا التي ترامت في وقاحتها وفجورها إلى النهاية، قلما يظفر الرجل بجدوى في مطلوبه بمثل هذا التعرض، ولا يجتني من عمله هذا إلا شوك الذل والهوان ولكن إذا خرجت المرأة سافرة الوجه فلا غرو أن يلتقي نظرها بنظر أحد من الرجال، ومعروف أن التقاء النظرين يحدث انجذابا في القلبين قلما يصبر أحدهما عن الآخر، ويقع كل واحد منهما فريسة لصاحبه بسهولة تامة، ولذلك ورد "أن النظر سهم من سهام إبليس مسموم " (2) . وقال الشاعر:   = ص (17) ، و"المحلى" (3/ 281) . (1) "فتح البيان" للنواب صديق حسن خان (7/316) (2) انظر: "تفسير ابن كثير" (5/87) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 كل الحوادث مبداها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر وقال آخر: يصرعن ذا اللب حتى لاحراك به ... وهن أضعف خلق الله إنسانا وليست هذه المفاسد متخيلة مفروضة، بل قد ابتلي بها المجتمع البشري في العالم كله، وكل ذلك من عواقب هذا السفور. فإذا كانت هناك مفاسد أخرى بجنب المفسدة التي نزلت لدرئها الآية الكريمة فهل من حكمة الحكيم الخبير الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وما يتطور إليه المجتمع بفضل السفور، هل من حكمته أن يدرأ مفسدة واحدة صغيرة، ويترك مفاسد أخرى كبيرة مفتحة الأبواب، يدرؤها مع أنها من قبيلها وأشد منها؟ فالصحيح أن مفسدة واحدة صغيرة - وهي التعرض للنساء في الطرقات - لما ظهرت واقتضت أمرًا من أوامر الله يسد به بابها أمر الله بأمر يكفي لسد باب هذه المفسدة، ولسد أبواب المفاسد الأخرى التي هي أكبر من أختها، فأمر بستر الرأس والوجه حتى ينقطع السبيل. ولعل قائلاً يقول: إن الأمر إذا كان كذلك؛ فلم لم ينبه الله تعالى على تلك الأغراض النبيلة التي تكمن وراء هذا الأمر؟ ولم اقتصر على الإشارة إلى تلك الأَغراض في آية الحجاب بقوله: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) فلم يحتج إلى الإِعادة، ويالها من كلمة جامعة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة من أغراض هذا الباب إلا أحصتها في طيها، ثم إن قوله تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) يشير إلى هذه الأغراض أيضًا، قال الرازي: "قيل: يعرفن أنهن حرائر فلا يتبعن، ويمكن أن يقال: المراد أنهن لا يزنين، لأن من تستر وجهها مع أنه ليس بعورة لا يطمع فيها أن تكشف عورتها" (1) اهـ.   (1) انظر: "التفسير الكبير" (6/ 799) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 التاسع: أن أعمال أمهات المؤمنين، وأعمال نساء المسلمين ترشدنا إلى ما هو الصحيح في معنى إدناء الجلباب، لأن الخطاب كان موجها إليهن مباشرة، وكان الله مهيمنَا عليهن، والرسول قيما ورقيبًا على أعمالهن، فلا نحسب أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر الصحابة والصحابيات على عمل لم يوجبه الله، مع أنه كان قد جاء لرفع الأواصر والأغلال، وكان عزيزَا عليه ما عنتوا، وقد أعطت الروايات عن أعمالهن تفصيلًا لا يحوم حوله شك، ولا ريب بأنهن كن يسترن الوجوه إيمانا بكتاب الله، وتصديقًا بتنزيله (1) . العاشر: أن من تصدى من الصحابة والتابعين وعلماء أهل التأويل لتفسير إدناء الجلباب فسره بستر الوجوه، إلا بعض أقوال شاذة، وهاك شيئا من تلك النصوص ... ثم سرد فضيلته جملة كبيرة من النقول عن جماهير المفسرين، وقد تقدم نقل أقوالهم آنفا. ثم قال حفظه الله معقبًا: هذه هي أقوال أعلام هذه الأمة من لدن أفضل القرون إلى القرن الرابع عشر الذي نعيش فيه، يعرف منها أن من تصدى لتفسير إدناء الجلباب فقد فسره بتغطية الوجه، ولو كان ممن يقول بجواز كشفه، ولا يُعْرَف أحد خالف هذا التفسير صريحا، وإنما يستأنس بأقوال بعضهم أنه لا يرى تغطية الوجه جزءًا من إدناء الجلباب، وهاك نصوص هولاء: قال مجاهد: يتجلببن (2) . وقال عكرمة: تغطي ثغرة نحرها بجلبابها تدنيه عليها (3) . وقال سعيد بن جبير: يسدلن عليهن (4) .   (1) وقد سردنا فيما مضى النصوص التي تقرر هذه الدعوى بما لا مجال للكلام فيه. (2) ، (3) "تفسير ابن كثير" (5/516) . (4) "روح المعاني" للآلوسي (22/ 83) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 وقال ابن قتيبة: يلبسن الأردية (1) . وهذه الأقوال كما ترى ليست صريحة في نفي ستر الوجه، فإن التجلبب، وسدل الجلباب ولبس الأردية لا ينافي تغطية الوجه، على أن التجلبب كان له طريق معروف في نساء المسلمين، وهو لبسها مع تغطية الوجه، فمن يدعي حمل هذه الأقوال على خلاف المعروف فليأت عليه بدليل. ثم هذا الوجه العاشر من الوجوه التي أشرنا إليها في بداية الكلام على هذه الآية، فتلك عشرة كاملة، ولدينا مزيد. الحادي عشر: أن قوله (يُدْنِينَ) صيغه مضارع للأمر، ومعلوم أن الأمر للوجوب، وأنه إذا ورد بصيغة المضارع يكون آكد في الدلالة على الوجوب. وإذا تعين بعشرة وجوه أن المراد بإدناء الجلباب هو تغطية الوجه، تعين أنه واجب نطق به كتاب الله، فلا مناص عن الالتزام به. وفي ختام البحث على معنى هذه الآية لا أرى بأسًا أن أتكلم حول ما قاله فضيلة الدكتور في الإدناء. إن فضيلة الدكتور نقل عن ابن جرير اختلاف أهل التأويل في الإدناء: أهو تغطية الوجه، أم شد الجلباب على الجبهة؟ ثم رجح الأخير، بل صرح بأنه هو المتعين لخمسة أمور. . . أقول: قد عرفت مما قدمنا أن هذا التقسيم لا يبتني على أساس متين، فكل ما يتفرع عليه فهو مثله. قال فضيلة الدكتور: (الأول: ما تقدم من النصوص التي يفسر بها كتاب الله ومن رويت عنه - وهو النبي وأصحابه - أعلم بكتاب الله) اهـ أقول:   (1) "زاد المسير في علم التفسير" (6/ 422) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 سينكشف الغطاء عن تلك النصوص وعن عمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأمته، فاصطبروا. قال: (الثاني: أقوال العلماء السابقة (1) لا تتمشى مع القول بوجوب ستر الوجه والكفين بوجه، ولا يقدر أحد أن يقول أن أولئك كانوا يجهلون معنى هذه الآية، ويتواطئون على خلاف ما دلت عليه) اهـ أقول: لا يغرن أحدًا إجماعُ العلماء أو شبه إجماعهم على إخراج الكفين والوجه عن العورة، فمدار الحجاب ليس هو العورة، بل إنما أمر الحجاب لأنه أزكى وأطهر لقلوب المؤمنين والمؤمنات، ولو صح أن موقفهم وأقوالهم لا تتمشى مع القول بوجوب ستر الوجه والكفين، فلا شك أنهم أو كثير منهم ناقضوا أنفسهم حيث صرحوا بالوجوب، ولا يقدر أحد أن يقول إن أولئك كانوا يجهلون معنى التناقض، وفضيلة الدكتور ينقل عن بعضهم التصريح بأن الوجه والكفين ليسا بعورة، والتصريح بأن سترهما واجب، وأن سبب الوجوب هو خوف الفتنة، ومع ذلك يقول فضيلته "إن أقوالهم لا تتمشى مع القول بالوجوب"، ولا أدرى أي شيء يمنع عن التمشي بعد هذا كله؟ ثم ليعلم أن الصحابة والأمة المسلمة التي التزمت نساؤها بستر الوجوه بعد نزول آيتي النور والأحزاب – كما سنورد مدللًا - وكذلك أكابر الصحابة والتابعين وفطاحل العلماء المفسرين الذين فسروا إدناء الجلباب بستر الوجوه، لا يقدر أحد أن يقول إنهم كانوا يجهلون لغة العرب، أو كانوا يجهلون أنهم يمتثلون ويفسرون أمرَا من أوامر الله، وأن الأمر للوجوب.   (1) يشير فضيلة الدكتور الهلالي - رحمه الله تعالى - إلى تنصيص كثير من العلماء على إخراج الوجه والكفين من حدود العورة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 قال: (الثالث: أن إدناء الجلابيب غير صريح في تغطية الوجه، ولا سيما إذا عرفت سبب نزولها، والتعليل الذي هو في آخر الآية وهو قوله: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) اهـ. أقول: قد عرفت أن إدناء الجلابيب لا يصلح لمعنى غير تغطية الوجه، ولا سيما إذا عرفت سبب نزولها والبيئة التي نزلت فيها، وعرفت معنى التعليل الذي هو في آخر هذه الآية، وفي آية الحجاب. قال: (الرابع: كثرة القائلين بالثاني حتى ابن عباس، إلخ) اهـ. أقول: أولًا: الكتاب والسنة هما العيار على الناس، والناس ليسوا عيارا على الكتاب والسنة. ثانيًا: قد عرفت – وستعرف - حقيقة الكثرة والقلة في الجانبين، فليس القائلون بالسفور إلا نزرا يسيرًا في جنب هذه الأمة الزاخرة المتدفقة بأسرها. قال: (الخامس: أن هذه الآية مفسرة في القرآن نفسه، وأولى ما فُسر به القرآنُ، القرآنُ. . . الخ) اهـ. أقول: نعم، هذه الآية يفسرها قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) ، وقوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) ، وأما تفسيرها بقوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) فتفسير لجزء من مدلولها، ولناحية من نواحي معناهِا الواسعة الأرجاء، فلا يصح الاقتصار عليه، وقد قدمنا ما في الاستدلال بهذه الآية على جواز كشف الوجه (1) ، فلا حاجة إلى الإعادة.   (1) انظر (299) ، (314) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 وإذا كانت في القرآن عدة آيات تصلح لتفسير آية منه فليس لنا أن نفسرها ببعضها، ونهمل بعضا آخر فلا نراعيها، على أن التأسيس معلوم الأولوية كل التأكيد (1) . فإذا قلنا: إن آية النور بيان لجزء (2) من آداب النساء في المجتمع   (1) وذلك لأن اللفظ إذا احتمل أكثر من معنى، رجح تقديم محتمل اللفظ الراجح على المحتمل المرجوح: كالتأسيس، فإنه يقدم على التوكيد، مثال ذلك قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) الآية، فكلمة (وَصَدُّوا) هنا يحتمل أن يكون لازمة مثل قوله تعالى: (رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) وعليه يكون معنى الصدود الكفر، فتكون كالتوكيد لقوله تعالى: (كَفَرُوا) ، ويحتمل أن تكون متعدية، وحينئذ يدل قوله تعالى: (كَفَرُوا) على كفرهم في أنفسهم، وقوله: (وَصَدُّوا) على أنهم حملوا غيرهم على الكفر، وصدوه عن الحق، فهنا يترجح القول الأخير لأن فيه تأسيسَا لمعنى جديد، خلاف القول الأول الذي يقتضي التكرار والتوكيد. ونظير ذلك قوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)) إن حملنا الحياة الطيبة في هذه الآية على الحياة الدنيا كان ذلك تأسيسًا، وإن حملناها على حياة الجنة تكرر ذلك مع قوله بعده: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ) الآية، لأن حياة الجنة الطيبة هي أجرهم الذي يجزونه، قال أبو حيان في "البحر المحيط": (والظاهر من قوله تعالى: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) إن ذلك في الدنيا، وهو قول الجمهور، ويدل عليه قوله: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ) يعني في الآخرة) اهـ. ومثال ذلك أيضًا قوله تعالى: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) ، وقوله عز وجل: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) ، قيل: تكرار اللفظ فيهما توكيد، وكونه للتأسيس أرجح لما ذكرنا، فتحمل الآلاء في كل موضع على ما تقدم قبل ذلك التكذيب، فلا يتكرر منها لفظ، وكذا يقال في سورة المرسلات، فيحمل على المكذبين بما ذكر قبل كل لفظ، والله تعالى أعلم. (2) إنما يسوغ هذا الجمع بناء على التسليم الجدلى بصحة ما ذهبوا إليه من آية النور تفيد جواز السفور، ومع ذلك فإنها - طبقَا لما فهمته الصحابيات رضي الله عنهن - لا تفيد ذلك كما سيأتي إن شاء الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 الإِسلامي، وآية الأحزاب بيان لجزء آخر منها، يكون ذلك أوفق بلطائف التنزيل وببلاغة كلام الله تعالى وإعجازه" اهـ. * وقال العلامة عبد العزيز بن باز - رحمه الله - في تفسير الآية: "والجلابيب جميع جلباب، والجلباب هو ما تضعه المرأة على رأسها للتحجب، والتستر به، أمر الله سبحانه جميع النساء بإدناء جلابيبهن على محاسنهن من الشعور والوجه وغير ذلك حتى لا يُعرفن بالعفة فلا يُفتتن، ولا يَفْتِنَّ غيرَهن فيؤذيهن" (1) اهـ. * * *   (1) رسالة تبحث في مسائل السفور والحجاب " ص: (6) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 فصل في بيان معنى الحجاب تقدمت عبارات المفسرين في تحديد المقصود من الجلباب، وقد جمعها الحافظ ابن حجر في "الفتح" سبعة أقوال: (المقنعة، والخمار أو أعرض منه، والثوب الواسع يكون دون الرداء، والإِزار، والملحفة، والملاءة، والقميص) (1) اهـ. وأرجحها ما ذهب إليه كثير من المحققين، ألا وهو أنه الجلباب في لغة العرب التي خاطبنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما غطى جميع الجسم لا بعضه. ذكره ابن حزم في "المحلى" (2) ، وصححه القرطبي في تفسيره (3) . وقال ابن الأثير: (الجلباب: الملحفة والإِزار الذي تتغطى به المرأة) (4) اهـ. وقال البغوي: (هو المُلاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار) (5) اهـ. وقال ابن كثير: (هو الرداء فوق الخمار، وهو بمنزلة الإِزار اليوم) (6) اهـ. قال الألباني: (ولعله العباءة التي تستعملها اليوم نساء نجد والعراق ونحوهما) (7) . اهـ. وقال الشيخ أنور الكشميري: (والجلباب رداء ساتر من القرن إلى   (1) "فتح الباري" (1/ 505) . (2) "المحلى" (3/217) . (3) "الجامع لأحكام القرآن" (14/243) . (4) "جامع الأصول" (6/ 152) . (5) "معالم التنزيل". (6) "تفسير القرآن العظيم" (3/518) . (7) "حجاب المرأة المسلمة" (ص: 38) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 القدم) (1) . اهـ. وقال الشيخ إبراهيم الشوري، والشيخ محمد الشيباوي: (والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن، وكل امرأة أعرف بما يستر جسمها، ولا تحتاج إلى تعليم في ذلك) (2) اهـ. وقال الشيخ عبد العزيز بن خلف: (والمفهوم من الجلباب لا ينحصر باسم ولا بجنس ولا بلون، وإنما هو كل ثوب تشتمل به المرأة لستر مواضع الزينة من ثابت ومنقول، وإذا عرفنا المقصود منه زال الحرج في وصفه ومسماه) (3) اهـ. حكم لبس الجلباب روى الشيخان وغيرهما عن أم عطية رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق (4) ، والحُيَّض، وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله! إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: لتلبسها أختها من جلبابها". قال الحافظ ابن حجر: (وفيه امتناع خروج المرأة بغير جلباب) (5) اهـ. وقال البدر العيني: (ومنها - أي من فوائد الحديث - امتناع خروج النساء بدون الجلاليب) (6) اهـ. قال العلامة الألباني معلقًا على عبارة الكشميري (7) رحمه الله:   (1) "فيض الباري" (1/ 388) . (2) "تيسير التفسير" "العشر الثامن من القرآن" (ص:46) . (3) (نظرات في كتاب حجاب المرأة المسلمة) (ص: 48) . (4) العواتق. جمع عاتق، وهي الشابة أول ما تدرك. (5) "فتح الباري" (1/ 505) . (6) "عمدة القارئ" (3/ 305) (7) "فيض الباري" (1/388) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 "الجلباب لستر زينة المرأة عن الأجانب، فسواء خرجت إليهم، أو دخلوا عليها فلابد على كل حال من أن تتجلبب (1) ، ويؤيد هذا ما قاله قيس بن زيد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة بنت عمر. . فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها فتجلببت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن جبريل أتاني فقال لي أرجع. حفصة فإنها صوامة قوامة، وهي زوجتك في الجنة" (2) ، وقد صح عن عائشة أنها كانت إذا صلت تجلببت، فدل على أن الجلباب ليس خاصا بالخروج" (3) اهـ. فتوى العلامة الألباني في وجوب الجلباب: قال رحمه الله تعالى: " ... الحق الذي يقتضيه العمل بما في آيتي النور والأحزاب أن المرأة يجب عليها إذا خرجت من دارها أن تختمر، وتلبس الجلباب على الخمار، لأنه كما قلنا سابقًا أستر لها، وأبعد عن أن يصف حجم رأسها وأكتافها، وهذا أمر يطلبه الشارع. . .، وهذا الذي ذكرته هو الذي فسر به السلف آية الإِدناء، ففي "الدر" (5/ 222) : (وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) قال: يسدلن عليهن من جلابيبهن، وهو القناع فوق الخمار، ولا يحل لمسلمة أن يراها غريب إلا أن يكون عليها القناع فوق الخمار وقد شدت به رأسها ونحرها"، (4) اهـ.   (1) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/ 310) . (2) أخرجه ابن سعد (8/ 58) ، قال الألباني: (الحديث مرسل، وأخرجه الحاكم " (4/ 15) ، وذكر له شاهدا من حديث أنس، فيتقوى به إن شاء الله تعالى) اهـ من "حجاب المرأة المسلمة" هـ (ص: 40) . (3) "حجاب المرأة المسلمة" هامش (ص: 40) . (4) "حجاب المرأة المسلمة" هامش (ص: 39 – 40) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 وقال رحمه الله في موضع آخر: "الغرض من الثوب إنما هو رفع الفتنة، ولا يحصل ذلك إلا بالفضفاض الواسع، وأما الضيق فإنه وإن ستر لون البَشَرة فإنه يصف حجم جسمها أو بعضه، ويصوره في أعين الرجال، وفي ذلك من الفساد والدعوة إليه ما لا يخفى، فوجب أن يكون واسعًا، وقد قال أسامة بن زيد رضي الله عنهما: كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطية كثيفة مما أهداها له دحية الكلبي، فكسوتها امرأتي، فقال: مالك لم تلبس القبطية؟ قلت: كسوتها امرأتي، فقال: "مرها فلتجعل تحتها غلالة، فإني أخاف أن تصف حجم عظامها" (1) . فقد أمره صلى الله عليه وسلم بأن تجعل المرأة تحت القبطية غلالة - وهي شعار يلبس تحت الثوب - ليمنع بها وصف بدنها، والأمر يفيد الوجوب كما تقرر في الأصول " (2) اهـ. وقد صرح الحديث بأن القبطية كانت "كثيفة" أي: ثخينة غليظة، كما صرح بالمحذور الذي خشيه النبي صلى الله عليه وسلم من هذه القبطية فقال: "إني أخاف أن تصف حجم عظامها". فمن هنا جزم الشيخ- رحمه الله - بأن الحديث وارد على الثياب الكثيفة التي تصف حجم الجسم من ليونتها، ولو كانت غير رقيقة، ولا يمكن حمله على الثياب الرقيقة الشفافة التي لا تستر لون البشرة، ومن ثم استنكر الشيخ على بعض الشافعية قوله: ويستحب أن تصلي المرأة في قميص سابغ وخمار، وتتخذ جلبابًا كثيفًا فوق ثيابها ليتجافى عنها، ولا يتبين حجم أعضائها (3) ، فقال معلقا: (والقول بالاستحباب فقط ينافي ظاهر الأمر فإنه للوجوب كما تقدم،   (1) تقدم تخريجه. (2) "حجاب المرأة المسلمة" (ص: 60) . (3) ذكره الرافعي في "شرحه " (4/ 92، 105 بشرح المهذب) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 وعبارة الإمام الشافعي رضي الله عنه في "الأم" قريب مما ذهبنا إليه، فقد قال (1/78) : "وإن صلى في قميص يشف عنه لم تجزه الصلاة. . فإن صلى في قميص يصفه، ولم يشف كرهت له، ولا يتبين أن عليه إعادة الصلاة، والمرأة في ذلك أشد حالًا من الرجل إذا صلت في درع وخمار يصفها الدرع، وأحب إلي أن لا تصلي إلا في جلباب فوق ذلك، وتجافيه عنها لئلا يصفها الدرع". وقد قالت عائشة رضي الله عنها: "لابد للمرأة من ثلاثة أثواب تصلى فيها: درع، وجلباب، وخمار، وكانت عائشة تحل إزارها فتجلببُ به " (1) . وإنما كانت تفعل ذلك لئلا يصفها شيء من ثيابها، وقولها "لابد" دليل في وجوب ذلك، وفي معناه قول ابن عمر رضي الله عنهما: إذا صلت المرأة، فلتصل في ثيابها كلها: الدرع والخمار والملحفة (2) . وهذا يؤيد ما سبق أن ذهبنا إليه من وجوب الجمع بين الخمار والجلباب على المرأة إذا خرجت) (3) اهـ. فصل مناقشة ما ذهب إليه فضيلة الشيخ الألباني في تفسير آية الإدناء * قال رحمه الله: "لا دلالة في الآية على، أن وجه المرأة عورة يجب عليها ستره، بل غاية ما   (1) أخرجه ابن سعد (8/48 - 49) ، وصحح الألباني إسناده على شرط مسلم (الحجاب) هـ (ص: 62) . (2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"، وصحح سنده الألباني في "الحجاب" (ص: 62) . (3) "حجاب المرأة المسلمة" (ص: 61- 62) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 فيها الأمر بإدناء الجلباب عليها، وهذا كما ترى أمر مطلق، فيحتمل أن يكود الإدناء على الزينة ومواضعها التي لا يجوز لها إظهارها حسبما صرحت به الآية الأولى (1) - وحينئذ تنتفي الدلالة المذكورة، ويحتمل أن يكون أعم من ذلك، فعليه يشمل الوجه وقد ذهب إلى كل من التأويلين جماعة من العلماء المتقدمين، وساق أقوالهم في ذلك ابن جرير في تفسيره، والسيوطي في "الدر المنثور"، ونحن نرى أن القول الأول أشبه بالصواب لأمور الأول: أن القرآن يفسر بعضه بعضا، وقد تبين من آية النور المتقدمة أن الوجه لا يجب ستره، فوجب تقييد الإِدناء هنا بما عدا الوجه توفيقًا بين الآيتين. الأخر: أن السنة تبين القرآن، فتخصص عمومه، وتقيد مطلقه، وقد دلت النصوص الكثيرة منها على أن الوجه لا يجب ستره، فوجب تفسير هذه الآية على ضوئها، وتقييدها بها. فثبت أن الوجه ليس بعورة يجب ستره، وهو مذهب أكثر العلماء كما قال ابن رشد في "البداية" (1/ 89) ، ومنهم أبو حنيفة ومالك والشافعي ورواية عن أحمد، كما في "المجموع" (3/ 169) ، وحكاه الطحاوي في "شرح المعاني " (2/ 9) عن صاحي أبي حنيفة أيضا، وجزم في "المهمات" من كتب الشافعية أنه الصواب، كما ذكره الشيخ الشربيني في "الإقناع " (2/110) . لكن ينبغي تقييد هذا بما إذا يكن على الوجه وكذا الكفين شيء من الزينة لعموم قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) وإلا وجب ستر ذلك، لاسيما في هذا العصر الذي تفنن فيه النساء بتزيين وجوههن وأيديهن   (1) يعني لذلك قوله تعالى (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) الآية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 بأنواع من الزينة والأصبغة مما لا يشك مسلم بل عاقل ذو غيرة في تحريمه اهـ (1) . وأنت ترى من كلام فضيلته أنه صرح بأن القول الأول الذي حكاه "أشبه" بالصواب، وذكر أن مرجع هذا الشبه" إلى أمرين: الأول: أن القرآن يفسر بعضه بعضا. وهذا حق، ولكن لو طبقناه على آيات الحجاب مجتمعة لعلمنا أن آيات سورتي النور والأحزاب متضافرة على إثبات عموم الإدناء لسائر البدن، وقد تقدمت الإشارة إلى أن التأسيس معلوم الأولوية على التوكيد إذا دار الأمر بينهما، فلو سلمنا أن آية (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) تفيد إباحة السفور، فإن آية الإِدناء تؤسس حكمًا جديدا، وتقدم بيان ذلك في الكلام الذي نقلناه عن الشيخ أبي هشام الأنصاري فراجعه (2) . والأمر الثاني: الذي ذكره الشيخ هو دعوى أن النصوص الكثيرة من السنه دلت على أن الوجه لا يجب ستره. ويجاب عنها بأن هذه النصوص المشار إليها محتملة، وليست صريحة في إباحة السفور، والد ليل إذا طرقه الاحتمال سقط به الاستدلال، ويأتي بيان ذلك مفصلا أن شاء الله تعالى (3) . ثم خلص فضيلته من الأمرين السابقين إلى أن الوجه ليس بعورة، فقال رحمه الله: فثبت أن الوجه ليس بعورة يجب ستره ثم قال: وهو مذهب أكثر العلماء. . . إلخ. والجواب: أن هذا صحيح، ولا تعارض- بحمد الله- بين ما ذهب   (1) "حجاب المرأة المسلمة" (ص: 40 -42) ويأتي مزيد بيان في تفسير الآيات المشار إليها إن شاء الله. (2) راجع ص: (236) . (3) انظر ص: (391) وما بعدها، ص (426 – 429) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 إليه أكثر العلماء من أن الوجه ليس بعورة، وبين إفتاء بعضهم بوجوب ستره أمام الأجانب، لأن حدود العورة ليست هي حدود الحجاب، فإذا قيل: إن وجه المرأة ليس بعورة، فهذا المذهب إنما هو في الصلاة إذا لم تكن المرأة بحضرة الرجال الأجانب، وأما بالنسبة لنظر الأجنبي إليها فجميع بدنها عورة لابد من ستره عن الأجنبي مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة" (1) . ولهذا غالبًا ما تجد تصريح العلماء بأن الوجه والكفين ليسا بعورة إنما يكون عند الكلام على شرط ستر العورة في أبواب "شروط صحة الصلاة". قال الشافعي- رحمه الله- في "باب كيف لبس الثياب في الصلاة " (2) : (وكل المرأة عورة، إلا كفيها ووجهها) اهـ. وقال أيضا: (وعلى المرأة أن تغطي في الصلاة كل ما عدا كفيها ووجهها) اهـ. وقال الشهاب: (وما ذكره - أي البيضاوي - من الفرق بين العورة في الصلاة وغيرها مذهب الشافعي رحمه الله) (3) اهـ. وقال الشيخ محمد عليش رحمه الله: (والعورة من الحرة جميع بدنها سوى وجهها وكفيها، وهذا بالنسبة للصلاة. . .) (4) اهـ. وقال الإمام موفق الدين ابن قدامة رحمه الله تعالى في باب "صفة الصلاة": (وقال الأوزاعي والشافعي: جميع المرأة إلا وجهها وكفيها، وما سوى ذلك يجب ستره في الصلاة) (5) اهـ.   (1) تقدم تخريجه. (2) "الأم" (1/77) . (3) "عناية القاضي" (6/ 373) ، وانظر: "روح المعاني" للآلوسي (18/141) . (4) "منح الجليل على مختصر العلامة خليل" (1/133) . (5) "المغني" (1/101) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 ونقل عنه الشيخ محمد زكريا بن يحيى الكاندهلوي قوله: (أجمعوا على أن للمرأة كشف وجهها في الصلاة) (1) اهـ. وبعد أن صحح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه ليس للمرأة أن تبدي الوجه واليدين والقدمين للأجانب، قال: (وأما ستر ذلك في الصلاة، فلا يجب باتفاق المسلمين، بل يجوز لها كشف الوجه بالإجماع) (2) اهـ. وقال الشيخ مصطفى الرحيباني: (لا خلاف في المذهب أنه يجوز للمرأة الحرة كشف وجهها في الصلاة - ذكره في المغني وغيره) (3) 0 اهـ. وقال المرداوي رحمه الله: (قال الزركشي: "أطلق الإمام أحمد القول بأن جميعها عورة، وهو محمول على ما عدا الوجه أو على غير الصلاة"، وقال بعضهم: الوجه عورة، وإنما كشف في الصلاة للحاجة، قال الشيخ تقي الدين: والتحقيق أنه ليس بعورة في الصلاة، وهو عورة في باب النظر، إذ لم يجز النظر إليه) (4) اهـ. وقال الشيخ العلامة فقيه الحنابلة في وقته منصور بن إدريس البهوتي (5) : (والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة" رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح، وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: "أتصلي المرأة في درع وخمار، وليس عليها إزار؟ "، قال: "إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها" رواه أبو داود، وصحح عبد الحق وغيره أنه موقوف على أم سلمة "إلا وجهها".   (1) "بذل المجهود لحل سنن أبي داود" (4/ 301) . (2) "حجاب المرأة المسلمة ولباسها في الصلاة" ص (6) (3) "مطالب أوى النهى في شرح غاية المنتهى" (1/330) . (4) "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" (1/452) . (5) "كشاف القناع عن متن الإقناع" (1/243) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 ولا خلاف في المذهب أنه يجوز للمرأة الحرة كشف وجهها في الصلاة، ذكره في المغني وغيره "قال جمع: وكفيها" واختاره المجد، وجزم به في العمدة والوجيز، لقوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) . قال ابن عباس وعائشة "وجهها وكفيها" رواه البيهقي، وفيه ضعف، وخالفهما ابن مسعود، وهما - أي الكفان والوجه من الحرة البالغة - عورة خارجها، أي: الصلاة باعتبار النظر كبقية بدنها لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم "المرأة عورة") اهـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (اختلفت عبارة أصحابنا في وجه الحرة في الصلاة، فقال بعضهم: ليس بعورة وقال بعضهم: عورة، وإنما رخص في كشفه في الصلاة للحاجة، والتحقيق أنه ليس بعورة في الصلاة، وهو عورة في باب النظر، إذ لم يجز النظر إليه) وقال أيضًا: (فليست العورة في الصلاة مرتبطة بعورة النظر لا طردا ولا عكسا) (1) اهـ. وقال المحقق أبو النجا شرف الدين موسى الحجاوي المقدسي: (والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها إلا وجهها، قال جمع: وكفيها، وهما والوجه عورة خارجها باعتبار النظر كبقية بدنها) (2) اهـ. وقال: (ويكره أن يصلي في ثوب فيه صورة، وأن يصلى الرجل ملثمًا، والمرأة منتقبة، إلا أن تكون في مكان، وهناك أجانب لا يحترزون عن النظر إليها، فلا يجوز لها رفع النقاب) (3) اهـ.   (1) نقله عنه التويجري في "الصارم المشهور" ص: 72- 73. (2) "الإقناع" (1/ 88) . (3) "الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع" (185) باب ستر العورة وبيانها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 قال الشيخ الإمام عبد القادر بن عمر الشيباني الحنبلي: "والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة، حتى ظفرها وشعرها "إلا وجهها"، والوجه والكفان من الحرة البالغة عورة خارج الصلاة باعتبار، والنظر كبقية بدنها" (1) اهـ. وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله: "العورة عورتان: عورة في الصلاة، وعورة في النظر، فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق ومجامع الناس كذلك" (2) اهـ. أما احتجاج فضيلة الشيخ ناصر الدين الألباني بما ذكره "الشربيني" في "الإِقناع" فمردود بما تقدم بيانه من أن مدار الحجاب ليس هو العورة، بل مردود بما ذكره الشربيني نفسه في تفسيره المسمى "السراج المنير" حين نقل قول ابن عادل: (ويمكن أن يقال: المراد يعرفن أنهن لا يزنين، لأن تستر وجهها مع أنه ليس بعورة- أي: في الصلاة - لا يطمع فيها أنها تكشف عورتها) (3) اهـ. بل هذا الشربيني نفسه يصرح بترجيح تحريم النظر إلى وجه الأجنبية وكفيها (4) ، فتراه ينقل عن السبكي قوله: "إن الأقرب إلى صنع الأصحاب أن وجهها وكفيها عورة في النظر لا في الصلاة" اهـ. وقال البيضاوي في تفسير قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) : "والمستثنى هو الوجه والكفان لأنهما ليستا من العورة، والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر، فإن كل بدن الحرة عورة، لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة" (5) اهـ.   (1) (نيل المآرب بشرح دليل الطالب) (1/ 39) . (2) "القياس في الشرع الإسلامي" ص: 69. (3) "السراج المنير" (3/ 271) ، وانظر أيضَا كلام الشربيني المذكور ص: (؟؟؟) (4) "مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج" (3/129) . (5) "عناية القاضي وكفاية الراضي" (6/ 373) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 قال الشهاب في شرحه: ومذهب الشافعي رحمه الله كما في الروض وغيرها أن جميع بدن المرأة عورة حتى الوجه والكف مطلقًا، وقيل: يحل النظر إلى الوجه والكف إن لم يخف فتنة، وعلى الأول: هما عورة إلا في الصلاة، فلا تبطل صلاتها بكشفها" (1) اهـ. وقال الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله: "ويباح كشف وجهها حيثا لم يأت دليل بتغطيته، والمراد كشفه عند الصلاة بحيث لا يراها أجنبي، فهذه عورتها في الصلاة، وأما عورتها بالنظر إلى نظر الأجنبي إليها فكلها عورة كما يأتي تحقيقه" (2) اهـ. وقال المودودي رحمه الله تعالى: "وأدعى إلى العجب أن هؤلاء الذين يبيحون للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها للأجانب يستدلون على ذلك بأن الوجه والكفين من المرأة ليسا بعورة، مع أن الفرق كبير جدا بين الحجاب وستر العورة، فالعورة مالا يجوز كشفه حتى للمحارم من الرجال، وأما الحجاب فهو شيء فوق ستر العورة، وهو ما حيل به بين النساء والأجانب من الرجال " (3) اهـ. وقال فضيلة الشيخ أبو هشام عبد الله الأنصاري: (لا يغرن أحدًا إجماعُ العلماء أو شبه إِجماعهم على إخراج الوجه والكفين عن العورة، فمدار الحجاب ليس هو العورة، بل إنما أمر بالحجاب لأنه أزكى وأطهر لقلوب المؤمنين والمؤمنات، ولو صح أن موقفهم وأقوالهم لا تتمشى مع القول بوجوب ستر الوجه والكفين، فلا شك أنهم أو كثير منهم تناقضوا أنفسُهم حيث صرحوا بالوجوب، ولا يقدر أحد أن يقول: إن أولئك كانوا يجهلون معنى التناقض) (4) اهـ.   (1) السابق. (2) "سبل السلام" (1/ 176) . (3) "تفسير سورة النور" ص: 158. (4) "مجلة الجامعة السلفية - ذو القعدة 1398هـ، ص: 69. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 وقال الدكتور محمد محمود حجازي: "وعورة المرأة في الصلاة كل بدنها إلى وجهها وكعبيها (1) ، وهي كلها عورة بالنسبة للرجال الأجانب، وبعضهم يقول: كلها إلا الوجه والكفين ما لم تخف الفتنة" (2) اهـ. وقال الشيخ محمد على الصابوني: "الأمر بالجلباب إنما جاء بعد أن استقر أمر الشريعة على وجوب "ستر العورة"، فلابد أن يكون الستر المأمور به هنا زائدَا على ما يجب من ستر العورة، ولهذا اتفقت عبارات المفسرين- على اختلاف ألفاظها- على أن المراد بالجلباب: الرداء الذي تستر به المرأة جميع بدنها فوق الثياب، ... وليس المراد ستر العورة كما ظن بعض الناس" (3) اهـ. فهذا القدر من النقول عن أهل العلم كاف لإثبات الفرق بين حدود العورة وحدود الحجاب. وعليه فلا يصح ما أيَّد به البعض إباحته للسفور من إِجماع العلماء أو شبه إجماعهم على إِخراج الوجه والكفين من العورة، فتدبر ذاك، والله سبحانه يتولى هداك.   (1) كذا بالأصل، ولعل ما يقتضيه السياق: (إلا وجهها وكفيها) . (2) "التفسير الواضح " (18/ 66) . (3) "روائع البيان " (2/ 378) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 الدليل الثاني آية الحجاب وهي قوله تعالى مخاطبًا الصحابة رضي الله عنهم في شأن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) [الأحزاب: 53] . هذه هي آية الحجاب، نزلت في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة، وهي نعم بإطلاقها حجاب جميع الأعضاء بما فيها الوجه والكفان، لا تستثني عضوًا من عضو. وهذا المعنى هو الذي يشهد له عمل أمهات المؤمنين، ولم يختلف العلماء في تعيين هذا المعنى حتى نطيل الكلام في تحقيقه، وإنما يقول من يظن أن الوجه والكفين خارجان عن الحجاب: "إن هذه الآية مختصة بأمهات المؤمنين"، وهذه الناحية هي التي تقتضي البحث والتنقيب في هذه الآية. * قال شيخ المفسرين الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) يقول: وإذا سألتم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج متاعًا (فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) يقول: من وراء ستر بينكم وبينهن ولا تدخلوا عليهن بيوتهن (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) يقول تعالى ذكره: سؤالكم إياهنَ المتاع إذا سألتموهن ذلك من وراء حجاب أطهر لقلوبكم وقلوبهن من عوارض العين فيها، التي تعرض في صدور الرجال من أمر النساء، وفي صدور النساء من أمر الرجال، وأحرى من أن لا يكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 للشيطان عليكم وعليهن سبيل " (1) اهـ. * وقال العلامة أبو بكر الجصاص الحنفي - رحمه الله تعالى -: "قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) قد تضمن حظْر رؤية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وَبَيَّن به أن ذلك أَطهر لقلوبهم وقلوبهن؛ لأن نظر بعضهم إلى بعض ربما حدث عنه الميلُ والشهوة، فقطع الله بالحجاب الذي أوجبه هذا السبب، قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ) يعني: بما بَيَّنَ في هذه الآية من إِيجاب الاستئذان، وترك الإطالة للحديث عنده، والحجاب بينه وبين نسائه، وهذا الحكم وإن نزل خاصًّا في النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه، فالمعنى عام فيه وفي غيره، إذ كنا مأمورين باتباعه والاقتداء به، إلا ما خصه الله به دون أمته" (2) اهـ. ولعله يشير إلى قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) الآية، وغيرها من الآيات العديدة في الأمر باتباعه صلى الله عليه وسلم، والعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. * وقا! ل الإمام القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي المالكي: "المسألة الثالثة عشرة- قوله: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) وفي المتاع أربعة أقوال: الأول: عارية، الثاني: حاجة، الثالث: فتوى، الرابع: صحف القرآن، وهذا يدل على أن الله أذن فى مساءلتهن من وراء حجاب في حاجة تعرض أو مسألة يستفتى فيها، والمرأة كلها عورة، بدنها وصوتُها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة أو لحاجة، كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يَعِنُّ، وَيَعْرِضُ   (1) "جامع البيان" (22/39) . (2) "أحكام القرآن" (3/369 – 370) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 عندها. المسألة الرابعة عشرة - قوله: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) المعنى: أن ذلك أنفى للرِّيبة، وأبعد للتهمة، وأقوى في الحماية، وهذا يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له، فإن مجانبة ذلك أحسن لحاله، وأحصن لنفسه، وأتم لعصمته" اهـ (1) . * وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي المالكي- رحمه الله -: "واختلف في المتاع، فقيل:- ما يتمتع به من العواري (2) ، وقيل: فتوى، وقيل: صحف القرآن، والصواب أنه عام في جميع ما يمكن أن يطلب من المواعين، وسائر المرافق للدين والدنيا". وقال أيضًا: في هذه الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهن من وراء حجاب في حاجة تعرض، أو مسألة يُستفتين فيها، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى، وبما تضمنتة أصول الشريعة من أن المرأة عورة، بدنُها وصوتُها، كما تقدم، فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة كالشهادة عليها، أو داءٍ يكون ببدنها، أو سؤالها عما يعرض وتعيَّن عندها " (3) اهـ. ومما يؤيد عموم آية الحجاب وأنها ليست خاصة بأمهات المؤمنين رضي الله عنهن قوله تعالى بعدها: (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) [الأحزاب: 55] .   (1) "أحكام القرآن" (3/578 – 579) . (2) العواري: جمع عارية، ما تداولوه بينهم. (3) الجامع لأحكام القرآن " (14/227) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 * قال الحافظ ابن كثير- رحمه الله: "لما أمر الله النساء بالحجاب عن الأجانب بَيَّن أن هؤلاء الأقارب لا يجب الاحتجاب عنهم كما استثناهم في سورة النور عند قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) الآية" (1) اهـ. * وقال النسفي في تفسيره: "لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب: يا رسول الله أو نحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب؟ "، فنزل: (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ) أي: النساء المؤمنات (وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) أي: لا إِثم عليهن في أن لا يحتجبن من هؤلاء" (2) اهـ. * وقال الشيخ إسماعيل حقي البروسوي رحمه الله: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا) الماعون وغيره (فَاسْأَلُوهُنَّ) أي: المتاع (مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) من خلف ستر، ويقال خارج الباب (ذَلِكُمْ) أي سؤال المتاع من وراء الحجاب (أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) أي: أكثر تطهيرًا من الخواطر النفسانية، والخيالات الشيطانية، فإن كل واحد من الرجل والمرأة إذا لم ير الآخر لم يقع في قلبه شيء. قال في "كشف الأسرار": نقلهم عن مألوف العادة إلى معروف الشريعة ومفروض العبادة، وبيَّن أن البشر بشر، وإن كانوا من الصحابة وأزواج النبي عليه السلام، فلا يأمن أحد على نفسه من الرجال والنساء، ولهذا شدد الأمر في الشريعة بأن لا يخلو رجل بامرأة ليس بينهما محرمية، كما   (1) "تفسير القرآن العظيم" (3/ 504) (2) "مدارك التنزيل، وحقائق التأويل" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 قال عليه السلام: "لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان "، وكان عمر رضي الله عنه يحب ضرب الحجاب عليهن محبة شديدة، وكان يذكره كثيرا، ويود أن ينزل فيه، وكان يقول: "لو أطاع فيكن ما رأتكن عين " اهـ. وقال أيضُا: "وكانت النساء قبل نزول هذه الآية يبرزن للرجال (1) اهـ، يعني قوله تعالى (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا) الآية. * وقال الإمام محمد بن على بن محمد الشوكاني- رحمه الله-: "والإِشارة بقوله (ذَلِكُمْ) إلى سؤال المتاع من وراء حجاب، وقيل: الإشارة إلى جميع ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن، وعدم الاستئناس للحديث عند الدخول وسؤال المتاع، والأول أولى، واسم الإِشارة مبتدأ، وخبره (أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) أي أكثر تطهيرًا لها من الريبة، وخواطر السوء التي تعرض للرجال في أمر النساء، وللنساء في أمر الرجال. وفي هذا أدب لكل مؤمن وتحذير له من أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحلُّ له، والمكالمة من دون حجاب لمن تحرم عليه". وفي تفسير قوله تعالى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ) قال: (وَلَا نِسَائِهِنَّ) هذه الإضافة تقتضي أن يكون المراد بالنساء المؤمنات، لأن الكافرات غير مأمونات على العورات، والنساء كلهن عورة" اهـ (2) . * وقال السيوطي- رحمه الله تعالى-: (هذه آية الحجاب التي أمِر بها أمهات المؤمنين بعد أن كان النساء لا يحتجبن) (3) اهـ.   (1) "روح البيان، (7/ 215) . (2) "فتح القدير" (4/ 298) . (3) (الإكليل في استنباط التنزيل" (ص: 179) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 * وقال العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله تعالى -: "قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولًا وتكون في نفس الآية قرينة تدل على عدم صحة ذلك القول، وذكرنا له أمثلة في الترجمة، وأمثلة كثيرة في الكتاب لم تذكر في الترجمة، ومن أمثلته التي ذكرنا في الترجمة هذه الآية الكريمة فقد قلنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: ومن أمثلته قول كثير من الناس: إن آية الحجاب أعني قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) خاص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإن تعليله تعالى لهذا الحكم الذي هو إيجاب الحجاب بكونه أطهر لقلوب الرجال والنساء من الريبة في قوله تعالى: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) قرينة واضحة على إرادة تعميم الحكم، إذ لم يقل أحد من جميع المسلمين إن غير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا حاجة إلى أطهرية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة منهن، وقد تقرر في الأصول أن العلة قد تعم معلولها، وإليه أشار في مراقي السعود" بقوله: وقد تخصصُ وقد تعمم ... لأصلها لكنها لا تخرم انتهى محل الغرض من كلامنا في الترجمة المذكورة – وبما ذكرنا تعلم أن في هذه الآية الكريمة الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب حكم عام في جميع النساء لا خاصٌّ بأزواجه صلى الله عليه وسلم، وإن كان أصل اللفظ خاصا بهن، لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه. ومسلك العلة الذي دل على أن قوله تعالى: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) هو علة قوله تعالى: (فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) هو المسلك المعروف في الأصول بمسلك الإيماء والتنبيه، وضابط هذا المسلك المنطبق عن جزئياته: هو أن يقترن وصف بحكم شرعي على وجه لو لم يكن فيه ذلك الوصف علةً لذلك الحكم، لكان الكلام معيبا عند العارفين، وَعَرف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 صاحب "مراقي السعود" دلالة الإِيماء والتنبيه في مبحث دلالة الاقتضاء والإِشارة والإيماء والتنبيه بقوله: دلالة والإيماء والتنبيهِ ... في الفن تقصد لذى ذويهِ أن يقرن الوصف بحكم إن يكن ... لغير عله يَعِبْهُ من فَطِنْ وعَرَّفَ أيضَا الِإيماء والتنبيه في مسالك العلة بقوله. والثالث الإيما اقتران الوصفِ ... بالحكم ملفوظين دون خلفِ وذلك الوصف أو النظير ... قِرانه لغيرها نصير فقوله تعالى: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) لو لم يكن علة لقوله تعالى: (فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) لكان الكلام معيبَا غير منتظم عند الفطن العارف. وإذا علمت أن قوله تعالى: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) هو علة قوله: (فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) وعلمت أن حكم العلة عام، فاعلم أن العلة قد تعمم معلولها، وقد تخصصه كما ذكرنا في بيت "مراقي السعود"، وبه تعلم أن حكم آية الحجاب عام لعموم علته، وإذا كان حكم هذه الآية عامَّا بدلالة القرينة القرآنية، فاعلم أن الحجاب واجب بدلالة القرآن على جميع النساء (1) اهـ. خطاب الواحد يعم حكمه جميع الأمة ودلالة ذلك على عموم حكم الجلباب * قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: وعن الأدلة على أن حكم آية الحجاب عام، هو ما تقرر في الأصول من أن خطاب الواحد يعم حكمه جميع الأمة، ولا يختص الحكم بذلك   (1) "أضواء البيان" (6/ 584) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 الواحد المخاطَب؛ لأن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لواحدٍ من أمته يعم حكمه جميع الأمة، لاستوائهم في أحكام التكليف، إلا بدليل خاص يجب الرجوع إليه، وخلافُ أهلِ الأصول في خطاب الواحد هل هو من صيغ العموم الدالة على عموم الحكم؟ خلاف في حال، لا خلاف حقيقي، فخطاب الواحد عند الحنابلة صيغة عموم، وعند غيرهم من المالكية والشافعية وغيرهم، أن خطاب الواحد لا يعم؛ لأن اللفظ الواحد لا يشمل بالوضع غيره، وإذا كان لا يشمله وضعًا، فلا يكون صيغة عموم، ولكن أهل هذا القول موافقون على أن حكم خطاب الواحد عام لغيره، ولكن بدليل آخر غير خطاب الواحد وذلك الدليل بالنص والقياس. أما القياس- فظاهر، لأن قياس غير ذلك المخاطب عليه بجامع استواء المخاطبين في أحكام التكليف من القياس الجلي- والنص كقوله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أُصَافحُ النسَاءِ، وما قَولي لامرأةٍ واحدة إلا كقَولي لمائةِ امرأة". وأشار إلى ذلك في "مراقي السعود" بقوله: خطابُ واحدٍ لغير الحنبلِ ... من غير رَعي النصِ والقيسِ الجلي وبهذه القاعدة الأصولية (1) التي ذكرنا تعلم أن حكم آية الحجاب عام، وإن كان لفظها خاصّا بأزواجه صلى الله عليه وسلم، لأن قوله لامرأة واحدة من أزواجه أو من غيرهن كقوله لمائة امرأة كما رأيت إيضاحه قريبًا (2) اهـ. وقال الشنقيطي رحمه الله أيضا: وإذا علمت بما ذكرنا أن حكم آية الحجاب عام، وأن ما ذكرنا معها من الآيات فيه الدلالة عل احتجاب جميع بدن المرأة عن الرجال الأجانب علمت أن القرآن دل على الحجاب. ولو فرضنا أن آية الحجاب خاصة بأزواجه صلى الله عليه وسلم، فلا شك أنهن خير   (1) وممن صحح هذه القاعدة العلامة الألباني، ونقل عن بعض المحققين ما يؤيد أنها الحق، ويلزم من ذلك تعميم آية الحجاب خلافا لمذهبه، انظر "تمام المنة في التعليق على فقه السنة" ص 41-42. (2) أضواء البيان، (6/589 - 581) بتصرف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 أسوة لنساء المسلمين في الآداب الكريمة المقتضية للطهارة التامة وعدم التدنس بأنجاس الريبة، فمن يحاول منع نساء المسلمين- كالدعاة للسفور والتبرج والاختلاط اليوم- من الاقتداء بهن في هذا الأدب السماوي الكريم المتضمن سلامة العرض والطهارة من دنس الريبة غاشٌّ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم مريضُ القلب كما ترى (1) اهـ. * وقال الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية السابق في تفسيره: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ) إذا طلبتم من نسائه صلى الله عليه وسلم (مَتَاعًا) شيئًا يُتمتع به الماعون ونحوه، ومثله العلم والفتيا (فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) أي سِتر بينكم وبينهن (ذَلِكُمْ) أي السؤال من وراء حجاب (أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) من الريب وخواطر السوء، وكان نزول آية الحجاب في شهر ذي القعدة من السنةَ الخامسة من الهجرة، وحكم نساء المؤمنين في ذلك حكم نسائه صلى الله عليه وسلم (2) اهـ. * وقال الأستاذ محمد أديب كلكل: "ومن الأدلة على وجوب ستر الوجه واليدين من المرأة قوله سبحانه وتعالى حيث أمرنا إذا سألنا النساء متاعًا أن نطلبه من وراء حجاب، فقال سبحانه: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) فلو لم يكن ستر الوجه أمرًا مطلوبَا لم يكن لطلب الحاجة من وراء حجاب أي معنى، وقد قرر الله عز وجل أن الحجاب أطهر لقلوب الجميع، فلا يقل أحد غير ما قال الله عز وجل ". إلى أن قال: "فإن قال قائل: إن هذه الآية خاصة بأمهات المؤمنين وقد   (1) "السابق" (6/ 592) . (2) "صفوة البيان لمعاني القرآن" (2/190) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 نزلت بحقهن، قلت: إنها وإن كانت خاصة بنساء النبي صلى الله عليه وسلم من جهة السبب، فهي عامة من جهة الأحكام، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأكثر آيات القرآن ذوات أسباب في نزولها بلا خلاف بين العلماء، فإذا حصرنا أحكامها ضمن دائرة أسبابها فما هو حظنا منها إذن؟ وبذلك نكون قد عطلنا آيات الله، وأبطلنا أحكامها جملة وتفصيلًا، وهل أنزل القرآن ليطبق في عصر دون عصر وفي زمن دون أزمان؟ فادعاء أنها خاصة بنساء النبي صلى الله عليه وسلم إضافة إلى ما ذكرته لا ينهض حجة لأن الاستثناء في آية (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ) عام، وهو فرع من الأصل وهو الحجاب، فدعوى تخصيص الأصل يستلزم تخصيص الفرع، وهو غير مسلم لما علم تعميمه، فهل يقال لامرأة أباح الله لها أن تظهر على أبيها وابنها وأخيها: إن الله لم يوجب عليك التحجب عن غيرهم؟! فقصر الله عز وجل ظهور المرأة على محارمها فقط بقوله تعالى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ ... ) الآية، أما غيرهم من الأجانب فإنه يجب عليها الاحتجاب عنهم بداهة بمقتضى مفهوم الآية" (1) اهـ. * يقول الشيخ سعيد الجابي رحمه الله في كتابه "كشف النقاب": "فقوله عز وجل: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) يدفع هذا- أي دعوى التخصيص - لأنه قد أشير إليه بغير ما يدعيه أهل التخصيص من أن الحجاب لأجل تميزهن عن غيرهن، ورفعهن على من سواهن، بل بيَّن سبحانه أن الباعث للحجاب هو تطهير قلوب الفريقين، وإذا كانت نساء النبي صلى الله عليه وسلم المطهراتُ من السفاح، المحرماتُ علينا بالنكاح، الموصوفات بأنهن أمهات المؤمنين قد أمرن بالحجاب طهارة لقلوبهن وقلوب أبنائهن المحرم عليهم نكاحُهن، فما نقول في غيرهن المحللات لنا بالنكاح، المتطلع   (1) "فقه النظر في الإسلام" (ص: 40- 43) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 لهن أهل السفاح، هل يجوز لهن أن يكن سافرات غير منتقبات! وبارزات غير محجبات.؟! ومما يدفع دعوى الاختصاص: قول العربي العالم بلغته أكثر منا على أثر نزول آية الحجاب: "نهينا أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب، لئن مات محمد لأتزوجن فلانة، فنزل: (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا) . ومما يدفع دعوى الاختصاص: إشراك الله عز وجل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته ونساء المؤمنين في حكم واحد في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) فبطلت دعوى التخصيص. وإذا كان الأمر كذلك، فكل ما ثبت لنسائه عليه السلام ثبت لغيرهن، وكل ما ثبت لغيرهن ثبت لهن، ولقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم أن الأمر يقتضي العموم، وأن سياق الآية يفيده ويقتضيه" (1) اهـ. *وقال الأستاذ محمد أديب كلكل: "وأما قوله تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) إنما يعني توجيههن وتربيتهن توجيهَا ساميًا، وتربية عالية بأنهن لسن كأحد من النساء في المكانة والمنزلة والرفعة والحرمة، إنه أسلوب في التربية لا يختلف عن قولك لولدِ نجيب مثلا: "يا بني لست كأحد من عامة الأولاد حتى تطوف في الشوارع، وتأتي بما لا يليق من الحركات، فعليك بالأدب واللياقة"، فقولك هذا لا يعني أن سائر الأولاد يُحْمَدُ فيهم طواف الشوارع، وإتيان الحركات السيئة، ولا يطلب منهم الأدب واللياقة، بل المراد بمثل قولك هذا تحديد معيار لمحاسن الأخلاق وفضائلها، كي يتطلع   (1) السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 ويصبو إليها كل ولد يريد أن يعيش كنجباء الأولاد فيسعى في بلوغها والحصول عليها، إن القرآن قد اختار هذا الأسلوب وهذه الطريقة في مخاطبة نساء النبي صلى الله عليه وسلم لضبطهن بضابطة على وجه خاص حتى يكن أسوة لسائر النساء، وتتبع طريقتهن وعاداتهن في بيوت عامة المسلمين. فقوله تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)) إنها وصايا ربانية وأوامر إلهية، فأي منها لا يتصل بعامة النساء المسلمات؟ وهل النساء المسلمات لا يجب عليهن أن يتقين الله تعالى، أو قد أبيح لهن أن يخضعن بالقول، ويكلمن الرجال كلاما يغريهم ويشوقهم؟ أو يجوز لهن أن يتبرجن تبرج الجاهلية؟ ثم هل ينبغي لهن أن يتركن الصلاة ويمنعن الزكاة، ويعرضن عن طاعة الله ورسوله؟ وهل يريد الله أن يتركهن في الرجس؟ فإذا كانت هذه الأوامر والإِرشادات عامة لجميع المسلمات فما المبرر لتخصيص ما ورد في سياق مخاطبة أمهات المؤمنين من قرار في البيوت وملازمة للحجاب، وعدم مخالطة الأجانب بهن خاصة؟ إن التوجيه الرباني، والتربية الإِلهية لكل النساء عامة بشخص أمهات المؤمنين من باب "إياك أعني، واسمعي يا جارة" (1) اهـ. * وقال الشيخ وهبي سليمان غاوجي الألباني: "للحجاب الشرعي المأمور به ثلاث درجات بعضها فوق بعض في الاحتجاب والاستتار، دل عليها الكتاب والسنة، الأولى: حجاب   (1) السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 الأشخاص في البيوت بالجدر والخدر وأمثالها بحيث لا يرى الرجال شيئا من أشخاصهن ولا لباسهن ولا زينتهن الظاهرة ولا الباطنة، ولا شيئا من جسدهن من الوجه والكفين وسائر البدن. وقد أمر الله تعالى بهذه الدرجة من الحجاب فقال: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) إذ إن هذا يدل على أن سؤال أي شيء منهن يكون من خلف ستر يستر الرجال عن النساء والنساء عن الرجال، وما ذكر من سبب نزول الآية يقرر هذا الأمر ويؤكده، وأمر بها في قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) . قال محمد بن سيرين: نُبِّئْتُ أنه قيل لسودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: مالك لا تحجين ولا تعتمرين كما تفعل أخواتك؟ فقالت: قد حججت، واعتمرت، وأمرني الله تعالى أن أقرَّ في بيتي، فو الله لا أخرج من بيتي حتى أموت، قال: فوالله ما خرجت من باب حجرتها، حتى خرجت جنازتها، وهذا الحكم عام قد استثنى منه الخروج للحاجة، قال صلى الله عليه وسلم: "أُذِنَ لكن في الخروج لحاجتكن" رواه البخاري، ويرشح هذه الدرجةَ أحاديثُ تحبب إلى المرأة القرار في البيت، وعدم الخروج حتى إلى صلاة الجماعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قرارها في بيتها أرجى لها في الأجر عند الله تعالى" (1) . اهـ * وقال الشيخ أبو هشام عبد الله الأنصاري: "إن الأمر بالحجاب في هذه الآية لا يختص بأمهات المؤمنين، وإن كان ضمير النسوة يرجع إليهن لأجل أنهن هن المذكورات في السياق؛ ولأنهن الأسوة والقدوة لنساء المسلمين في جميع نواحي الحياة، ومعلوم أن التخصيص بالذكر لا يوجب التخصيص بالحكم، والدليل على عدم الاختصاص من وجوه:   (1) "المرأة المسلمة" (ص: 197- 198) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 الأول: تقرر في أصول الشريعة أن خطاب الواحد يعم حكمه جميع الأمة حتى يرد دليل على التخصيص، وليس! هناك أي دليل على تخصيص حكم الحجاب بأمهات المؤمنين، كما ستعرف. الثاني: أن سياق الآية هو العموم،- وإن كان المورد خاصا- فقوله تعالى: (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) ليس معناه أنهم يدخلون بيوت غير النبي من غير أن يؤذن لهم، ثم قوله، (إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ) إلى قوله: (وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) ليس معناه أنهم لا يتأدبون بهذه الآداب، ولا يراعونها إلا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان سياق الآية هو العموم، وتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر إنما لأجل أن ما عرض له هو المورد والسبب في نزولها، ولأجل أنه هو القدوة للمسلمين، فكيف يسوغ لنا أن نتحرر عن جزء من آداب هذه الآية قائلين إنه مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه؟! الثالث: أن الله تعالى بين حكمة الحجاب وعلته فقال: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) ، وهذه العلة عامة إذ ليس أحد من المسلمين يقول إن غير أزواج النبي لا حاجة إلى تزكية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة منهن، وعموم علة الحجاب وحكمته دليل على عموم حكم الحجاب لجميع نساء المسلمين. الرابع: دليل الأولوية! وهو أن أمهات المؤمنين كن أطهر نساء الدنيا قلوبا، وأعظمهن قدرا في قلوب المؤمنين، ومع ذلك أمرن بالحجاب طلبًا لتزكية قلوب الطرفين؛ فغيرهن من النساء أولى بهذا الأمر. الخامس: أن آية إدناء الجلباب تتمة وتفسير لآية الحجاب، وتلك عامة لنساء المؤمنين نصًّا، فلابد وأن تكون آية الحجاب كذلك. السادس: أن نساء المسلمين التزمن بالحجاب كما التزمت أمهات المؤمنين" اهـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 إلى أن قال فضيلته: "هذا؛ وإنك لو تصفحت نصوص العلماء لا تكاد تجد أحدًا يقول بتخصيص الحجاب بأمهات المؤمنين، والحجاب الذي جعله من جعله خاصًّا بهن هو قدر زائد على الحجاب المعروف الذي نحن في بحثه، ويتضح ذلك بالتأمل في نصوصهم. قال القاضي عياض: "فرض الحجاب مما اختصصن به فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة، ولا في غيرها، ولا يجوز لهن إظهار شخوصهن- وإن كن مستترات- إلا ما دعت إليه الضرورة من الخروج للبراز. . وقد كن إذا قعدن للناس جلسن من وراء الحجاب، وإذا خرجن حجبن وسترن أشخاصهن كما جاء في حديث حفصة يوم وفاة عمر، ولما توفيت زينب جعلوا لها قبة فوق نعشها تستر شخصها". انتهى، انظر: "صحيح مسلم مع شرحه للنووي " (2/ 215) ؛ "فتح الباري" (8/ 530) . فالذي يراه القاضي مختصًّا بهن هو عدم جواز كشف الوجه والكفين لهن مهما اشتدت الحاجة إلى ذلك، وعدم إبراز شخوصهن وإن كن مستترات، وأصرح من كلام القاضي ما قاله من المفسرين البغوي وغيره. فال البغوي: "فبعد آية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم منتقبة كانت أو غير منتقبة" (انظر: "تفسير البغوي" على هامش "الخازن" (5/ 224) . ومعلوم أن اختصاص هذا القدر الزائد على الحجاب بأمهات المؤمنين لا ينافي عموم الحجاب لعامة النساء (1) ، على أن المحققين رَدُّوا على القاضي   (1) قال الشيخ شمس الدين الرملي الشهير بالشافعي الصغيرَ رحمه الله- في كتابه "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج": (وما نقله الإمام من الاتفاق على منع النساء - أي منع الولاة لهن يعني من = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 عياض ما ادعاه، وأثبتوا أن هذا الاشتداد في الحجاب لم يقع رأسًا (1) اهـ.   = الخروج سافرات- معار ض لما حكاه القاضي عياض عن العلماء أنه لا يجب على المرأة ستر وجهها في طريقها، وإنما ذلك سنة، وعلى الرجال غض البصر عنهن للآية، وحكاه المصنف- أي النووي عليه الرحمة- في شرح مسلم، وأقره عليه. ودعوى بعضهم عدم التعارض في ذلك، "إذ منعهن من ذلك ليس لكون الستر واجبا عليهن في ذاته، بل لأن فيه مصلحة عامة، وفي تركه إخلال بالمروءة" مردودة، إذ ظاهر كلامهما أن الستر واجب لذاته، فلا يتأتى هذا الجمع، وكلام القاضي ضعيف، وحيث قيل بالجواز كُرِه، وقيل: خلاف الأولى، وحيث قيل بالتحريم- وهو الراجح- حرم النظر إلى المنقبة التي لا يبين منها غير عينيها ومحاجرها، كما بحثه الأذرعي، ولا سيما إذا كانت جميلة، فكم في المحاجر من خناجر) اهـ (6/ 187) . مع أن الحافظ ابن حجر رحمه الله نقل عن القاضي عياض ما يشعر بأنه يستدل بآية الإدناء على حجاب جميع البدن، قال الحافظ رحمه الله في شرح حديث الخثعمية: (وفي الحديث منع النظر إلى الأجنبيات وغض البصر، قال عياض: "وزعم بعضهم أنه غير واجب إلا عند خشية الفتنة"، قال: "وعندي أن فعله إذ غطى وجه الفضل أبلغ من القول" ثم قال: "ولعل الفضل لم ينظر نظرَا يُنكَر، بل خشي عليه أن يئول إلى ذلك، أو كان قبل نزول الأمر بإدناء الجلابيب" اهـ من "الفتح" (11/12) ، ولا شك أن هذا الاحتمال الأخير ضعيف، لأن حجة الوادع التي وقعت فيها تلك القصة كانت في السنة العاشرة من الهجرة، وآيات الحجاب نزلت قبل ذلك في السنة الخامسة من الهجرة، والله أعلم. (1) قال الحافظ رحمه الله تعالى: (وفي الحديث من الفوائد: مشروعية الحجاب لأمهات المؤمنين، قال عياض: "فرض الحجاب مما اختصصن به، فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا في غيرها، ولا إظهار شخوصهن- وإن كن مستترات- إلا ما دعت إليه الضرورة من براز"، ثم استدل بما في "الموطأ" أن حفصة لما توفي عمر سترها النساء عن أن يُرى شخصها، وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها ليستر شخصها" انتهى، وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن، وقد كنَّ بعد النبي صلى الله عليه وسلم يحججن، ويطفن، وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 * وقال الشيخ عبد العزيز بن خلف حفظه الله: "لم يرد في آية "النور" وآية "الحجاب" أي تخصيص لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم بما قضت به من الأحكام، فهي أحكام عامة للمسلمات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، وإن من الزعم الباطل أن يقال: إن آية الحجاب خاصة بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، كما أن ما ورد عن الأحكام على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب التستر ومنع ما يدعو إلى الفتنة وصيانة المرأة المسلمة من بذل زينتها وشرفها وكرامتها للرجال الأجانب عنها، عام لكل مسلمة إلى يوم القيامة، وأما مسارعة أمهات المؤمنين إلى العمل بالشرائع الدينية، فهذا لا يدل على أنه خاص بهن، لأنهن القدوة الحسنة لكل مسلمة إلى يوم القيامة، وأثر الفعل في الاقتداء وامتثال الأحكام أعظم من القول فقط، وهذا ملموس. ومثله ما وقع في عمرة الحديبية فيما ثبت في رواية البخاري قال: "لما تم صلح الحديبية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، فقال: "قوموا، فانحروا، ثم احلقوا"، قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى   = منهن الحديث، وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص وقد تقدم في الحج قول ابن جريج لعطاء لما ذكر له طواف عائشة: "أقبل الحجاب أو بعده؟ " قال: "قد أدركت ذلك بعد الحجاب" اهـ. وقال الحافظ أيضا: (والحاصل أن عمر رضي الله عنه وقع في قلبه النفرة من اطلاع الأجانب على الحريم النبوي، حتى صرح بقوله عليه الصلاة والسلام: "أحجب نساءك"، وأكد ذلك إلى أن نزلت آية الحجاب، ثم قصد بعد ذلك أن لا يبدين أشخاصهن أصلًا، ولو كن مستترات فبالغ ذلك، فمنع منه، وأذن لهن في الخروج لحاجتهن دفعا للمشقة، ورفعًا للحرج، اهـ من "فتح الباري" (8/ 391) ، وانظر نص الحديث المشار إليه في "الفتح" (8/ 388) رقم (4895) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 تنحر بُدْنَكَ، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلق، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غمّا" اهـ. فمثل هذه القصة فيها امتثال للأمر، واقتداء بالقدوة الحسنة، لأن الأمر الذي يلازمه فعل يكون كذلك، فهو أقوى في مسارعة المسلم للأخذ به من الأمر وحده، وهكذا كان حال النساء المسلمات في زمن التنزيل لما نزل أمر الله بالحجاب، كانت أول من سارع للأخذ به أمهات المؤمنين ليقوى به جانبا الأخذ بالتشريع لظهورهن أمام سائر المسلمين بصورة ما أراده الله تعالى من المؤمنات في تنزيله عز وجل" (1) اهـ. * وقال الشيخ عبد العزيز بن راشد النجدي رحمه الله بعد أن ذكر آيتي سورة الأحزاب (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) الآية، (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) الآية: "فإن قيل: الآيتان الأخيرتان سياقهما وظاهرهما الخصوص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، قيل: كلا، بل الأصل في كل شريعة وآية أنه يدخل تحتها كل فرد من الأمة ما لم يخرجه دليل، ولا دليل على اختصاصهن بذلك، إذ كل مؤمنة منهية عن الخضوع بالقول للرجال، والتبرج الجاهلي بإبداء زينتها، كما أمرت بالقرار في البيت، وترك الخروج منه إلا لمصلحة، وكذا كل مؤمن مأمور بحسن الأدب مع المؤمنات إذا سألهن حاجة أو متاعَا أن يكون من وراء حجاب، وأن لا يخرق عليها الحجاب، ولا يأمرها بتركه، ولا يقرها على معصية إذا ائتمرت لأمره، فإذا خالفت فلا إثم على من سألها من المتقين، وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه قد أُذنَ لَكُنَ أن تخرجن لحوائجكن" رواه البخاري" (2) اهـ.   (1) "نظرات في كتاب حجاب المرأة المسلمة" هامش (ص: 92 – 93) . (2) "تيسير الوحيين" (1/ 144- 145) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 * وقال الشيخ أبو بكر الجزائري- حفظه الله -: (فهذه الآية الكريمة تعرف بآية الحجاب، إذ هي أول آية نزلت في شأنه، وعلى أثرها حَجَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، وحجب المؤمنون نساءهم، وهي نص في فرض الحجاب، إذ قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) قطعي الدلالة في ذلك، ومن عجيب القول أن يقال إن هذه الآية نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم فهي خاصة بهن دون باقي نساء المؤمنين، إذ لو كان الأمر كما قيل لما حجب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم، ولما كان لإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للخاطب أن ينظر لمن يخطبها معنى أبدا. وفوق ذلك أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم جعلهن الله تعالى أمهات المؤمنين، إذ قال الله تعالى: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) ، فنكاحهن محرم على التأبيد كنكاح الأمهات، فأي معنى إذا لحجبهن وحجابهن إذا كان الحكم مقصورًا عليهن، ومن هنا كان الحكم عاما يشمل كل مؤمنة إلى يوم القيامة، وكان من باب قياس الأولى، فتحريم الله تعالى التأفيف للوالدين يدل على تحريم ضربهما من باب أولى، وهذا الذي دلت عليه نصوص الشريعة، وعمل به المسلمون) (1) اهـ. تنبيه لم يتعرض فضيلة الشيخ ناصر الدين الألباني لمناقشة استدلال هذه الكثرة من العلماء بآية "الحجاب" في كتابه "حجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة" وكأنه- رحمه الله- ذهب إلى تخصيص الوجوب بأمهات المؤمنين، وعدم تعميم الحكم على سائر المسلمات، مع أن هذا "العموم" لازم من كلامه- رحمه الله -، فقد أستشهد بحديث أم عطية رضي الله عنها   (1) "فصل الخطاب في المرأة والحجاب" (ص: 34- 35) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 لإثبات أن الأمر بإخراج النساء إلى صلاة العيد إنما وقع بعد نزول الحجاب، ونص الحديث المشار إليه: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة (1) جمع نساء الأنصار في بيت، ثم أرسل إليهن عمر بن الخطاب، فقام على الباب فسلم عليهن، فرددن السلام، فقال: "أنا رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إليكن"، فقلن: مرحبًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبرسوله، فقال: "تبايعن على أن لا تشركن بالله شيئًا، ولا تسرقن، ولا تزنين، ولا. تقتلن أولادكن، ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، ولا تعصين في معروف؟ " فقلن: "نعم"، فمد عمر يده من خارج الباب، ومددن أيديهن من داخل، ثم قال: "اللهم اشهد"، وأمرنا (وفي رواية: فأمرنا) أن نخرج في العيدين العتق والحيض، ونهينا عن اتباع الجنائز، ولا جمعة علينا، فسألته عن البهتان، وعن قوله: (وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) ؟ قال: هي النياحة" (2) ... ثم قال الشيخ: ووجه الاستشهاد به إنما يتبين إذا تذكرنا أن آية بيعة النساء (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا. . .) إنما نزلت يوم الفتح كما قال مقاتل (الدر 6/ 209) ، ونزلت بعد آية الامتحان كما أخرجه ابن مردويه عن جابر (الدر 6/ 211) ، وفي البخاري عن المسور أن آية الامتحان نزلت في يوم الحديبية، وكان ذلك سنة ست على الصحيح كما قال ابن القيم في "الزاد"، وآية الحجاب إنما نزلت سنة ثلاث وقيل: خمس حين بنى صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، كما في ترجمتها في "الإصابة".   (1) تعني من الحديبية وليس قدومه مهاجرا منه مكة كما قد يتبادر إلى الذهن- أفاده الشيخ في حاشية. ص: 26. (2) أخرجه أحمد في "المسند" (6/ 408- 409) ، والبيهقي (3/184) ، والضياء المقدسي في "المختارة" (1/104- 105/1) ، وحسن إسناده الذهبي في "مختصر البيهقي" (133/ 1) ] اهـ. من هامش "حجاب المرأة المسلمة" ص: 26 مختصرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 فثبت من ذلك أن أمر النساء بالخروج إلى العيد إنما كان بعد فرض الحجاب، ويؤيده أن في حديث عمر أنه لم يدخل على النساء، وإنما بايعهن من وراء الباب، وفي هذه القصة أبلغهن أمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء بأن يخرجن للعيد، وكان ذلك في السنة السادسة عقب رجوعه صلى الله عليه وسلم من الحديبية، بعد نزول آية الامتحان والبيعة كما تقدم" (1) اهـ. والشاهد منه قول الشيخ رحمه الله: "بعد فرض الحجاب" مشيرًا إلى آية الحجاب (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا) الآية، ثم دعم كلامه بقوله: "ويؤيده أن في حديث عمر أنه لم يدخل على النساء، وإنما بايعهن من وراء الباب" فيلزم من هذا أن الشيخ يستدل بعموم آية الحجاب في حق سائر النساء، والله أعلم. * * *   (9) "حجاب المرأة المسلمة" هامش (ص 25- 26) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 الدليل الثالث (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)) [الأحزاب: 32، 33] . ومحل الشاهد منه قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) * قال إمام المفسرين ابن جرير الطبري- رحمه الله تعالى-: "قيل إن التبرج في هذا الوضع التبختر والتكسر". ثم روى بسنده عن قتادة قال: "أي إذا خرجتن من بيوتكن؛ قال: كانت لهن مشية وتكسر وتغنج، يعني بذلك الجاهلية الأولى، فنهاهن الله عن ذلك. حدثني يعقوب، قال ثنا ابن علية، قال: سمعت ابن أبي نُجيح، يقول في قوله تعالى: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) قال: التبختر، وقيل: إن التبرج هو إظهار الزينة، وإبراز المرأة محاسنها للرجال " (1) . * وقال الإمام أبو بكر الجصاص رحمه الله تعالى: وقوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) روى هشام عن محمد بن سيرين قال: قيل لسودة بنت زمعة: ألا تخرجين كما تخرج أخواتك؟ قالت: والله لقد حججت واعتمرت ثم أمرني الله أن أقر في بيتي، فوالله لا أخرج، خرجت حتى أخرجوا جنازتها.   (1) "تفسير الطبري" (22/4) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 وقيل: إن معنى (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) كن أهل وقار وهدوء وسكينة، يقال: وقر فلان في منزله يقر وقورًا إذا هدأ فيه واطمأن به، وفيه الدلالة على أن النساء مأمورات بلزوم البيوت منهيات عن الخروج. وقوله تعالى: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) روى ابن أبي نجيح عن مجاهد (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) قال: كانت المرأة تتمشى بينِ أيدي القوم، فذلك تبرج الجاهلية، وقال سعيد عن قتادة (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) يعني إذا خرجتن من بيوتكن، قال: كانت لهن مشية وتكسر وتغنج فنهاهن الله عن ذلك، وقيل: هو إظهار المحاسن للرجال، وقيل: في الجاهلية الأولى ما قبل الإِسلام، والجاهلية الثانية حال من عمل في الإسلام بعمل أولئك. فهذه الأمور كلها مما أدب الله تعالى به نساء النبي صلى الله عليه وسلم صيانة لهن، وسائر النساء المؤمنين مرادات بها (1) اهـ. * وقال القاضي أبو بكر ابن العربي رحمه الله: "قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) يعني اسكنَّ فيها، ولا تتحركن، ولا تبرحن منها، حتى إنه رُوي- ولم يصح (2) - أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انصرف من حجة الوداع قال لأزواجه: "هذه، ثم ظهور الحصر"؛ إشارة إلى ما يلزم المرأة من لزوم بيتها، والانكفاف عن الخروج منه، إلا لضرورة. وقد دخلت نَيّفًا على ألف قرية من برية، فما رأيت نساءٌ أصون عيالًا، ولا أعف نساء من نساء نابلس التي رُمِي فيها الخليل عليه السلام بالنار، فإني أقمت فيها أشهرًا، فما رأيت امرأة في طريق نهارا إلا يوم الجمعة، فإنهن يخرجن إليها حتى يمتلئ المسجد منهن، فإذا قُضيت الصلاة، وانقلبن   (1) "أحكام القرآن" (3/359 - 360) . (2) ولكن صححه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (4/88) ، وانظر: "صحيح الجامع الصغير" (6/ 77) حديث رقم (6885) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 إلى منازلهن لم تقع عيني على واحدةٍ منهن إلى الجمعة الأخرى، وسائر القرى تُرى نساؤها متبرجات بزينة وعُطلة، متفرقات في كل فتنة وعُضْلة، وقد رأيت بالمسجد الأقصى عفائف ما خرجن من معتكفهن حتى استشْهِدْنَ فيه" (1) اهـ. * وقال الإمام أبو عبد الله القرطبي- رحمه الله -: معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى، هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة، على ما تقدم في غير موضع، فأمر الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم بملازمة بيوتهن، وخاطبهن بذلك تشريفا لهن، ونهاهن عن التبرج، وأعلم أنه فعل الجاهلية الأولى (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) (2) " اهـ. وقال ابن عطية رحمه الله: "والذي يظهر عندي أنه أشار إلى الجاهلية التي لحقنها، فأمِرْن بالنقلة عن سيرتهن فيها، وهى ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة؛ لأنهم كانوا لا غيرَة عندهم، وكان أمر النساء دون حجاب، وجعلها أولى بالنسبة إلى ما كن عليه، وليس المعنى أن ثَمَّ جاهلية أخرى (3) ، وقد أوقع اسم الجاهلية على تلك المدة قبل الإِسلام، فقالوا: جاهلي في الشعراء، وقال ابن عباس في البخاري: سمعت أبي في الجاهلية يقول" (4) إلي غير هذا" (4) اهـ.   (1) "أحكام القرآن" (3/ 1535 - 1537) . (2) "الجامع لأحكام القرآن" (14 / 179- 180) . (3) انظر نقد العلامة الألباني لمصطلح "جاهلية القرن العشرين" في "حياة الألباني وآثاره وثناء العلماء عليه" تصنيف الأستاذ محمد إبراهيم الشيباني (1/ 391- 394) . (4) "الجامع لأحكام القرآن (14/ 180) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 قال القرطبي معلقَا: قلت: وهذا قول حسن، ويُعْترضُ بأن العرب كانت أهل قشف وضنك في الغالب، وأن التنعم وإظهار الزينة إنما جرى في الأزمان السابقة، وهي المراد بالجاهلية الأولى، وأن المقصود من الآية مخالفة من قبلهن من المِشية على تغنيج وتكسير وإظهارِ المحاسن للرجال، إلى غير ذلك مما لا بجوز شرعَا، وذلك يشمل الأقوال كلَها ويعمُّها فيلزمن البيوت، فإن مست الحاجة إلى الخروج فليكن على تبذل وتستر تام، والله الموفق" (1) اهـ. وقال القرطبي أيضا. "لما كانت عادة العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإِماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إِليهن، وتشعب الفكرة فيهن، أمر الله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمرهن بإرخاء الجلابيب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن" (2) اهـ. * قال الإمام أبو حيان: "كان دأب الجاهلية أن تخرج الحرة والأمة مكشوفتي الوجه في درع وخمار". وقال أيضا: "الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه" ونقل أبو حيان أيضَا عن الليث أنه قال: (تبرجت المرأة: أبدت محاسنها من وجهها وجسدها) . اهـ. ونقل عن مقاتل في تفسير التبرج: (تلف الخمار على وجهها، ولا تشده) (3) . اهـ. ونقل الحافظ في "الفتح" عن الفراء قوله: (كانوا في الجاهلية تسدل   (1) "الجامع لأحكام القرآن" (14/180) (2) "السابق" (14/ 243) (3) "البحر المحيط" (7/ 230) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 المرأة خمارها من ورائها، وتكشف ما قدامها، فأمِرْنَ بالاستتار) (1) اهـ. وقال الإمام أبو حيان أيضَا: "وكان نساء العرب يكشفن وجوههن كما تفعل الإِماء، وكان ذلك داعيا إلى نظر الرجال لهن، فأمرهن الله بإدناء الجلابيب ليسترن بذلك وجوههن، ويفهم الفرق بين الحرائر والإِماء" (2) اهـ. * وقد ذكر العلامة محمد أنور الكشميري الديوبندي رحمه الله تعالى الآيات التي لها تعلق بأنواع الحجب المأمور بها فقال: "ومنها: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ... ) إلخ، والخطاب فيها- وإن كان خاصّا- إلا أن الحكم عام، ثم الخروج عند الحوائج ليس من تبرج الجاهلية الأولى في شيء، إنما تبرجهن أن يخرجن كالرجال بالوقاحة، وعدم تستر" (3) اهـ. ونقل عن الحافظ تقسيمه الحجاب بأن منه ما يكون بإدناء النقاب عند الخروج، واسمه حجاب الوجوه، والثاني اسمه حجاب الأشخاص) (4) يعني: القرار في البيوت، والله أعلم. * وقال الشيخ إسماعيل حقي البروسوي: " (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ... ) والمعنى: الزمن يا نساء النبي بيوتكن، واثبتن في مساكنكن، والخطاب- وإن كان لنساء النبي- فقد دخل فيه غيرهن" (5) اهـ.   (1) "فتح الباري" (8/347) . (2) "البحر المحيط" (7/ 250) . (3) ، (4) "فيض الباري" (1/ 254) . (5) "روح المعاني" (7/170) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 " وقال الراغب الأصفهاني: "ثوب مُبرَّج صُوّرتْ عليه بروج، فاعتبر حُسْنُهُ، فقيل: تبرجت المرأة، أي تشبهت به في إظهار المحاسن، وقيل: ظهرت من برجها أي قصرها، ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) وقوله تعالى: (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ) ، والبرج سعة العين وحسنها تشبيهَا بالبرج في الأمرين" (1) اهـ. * وقال الشوكاني رحمه الله: ويمكن أن يراد بالجاهلية الأخرى ما يقع في الإِسلام من التشبه بأهل الجاهلية بقول أو فعل، فيكون المعنى: ولا تبرجن أيها المسلمات بعد إِسلامكن تبرجًا مثل تبرج أهل الجاهلية التي كنتن عليها، وكان عليها من قبلكن، أي: لا تحدثن بأفعالكن وأقوالكن جاهلية تشبه الجاهلية التي كانت من قبل" (2) اهـ. * وقال الألوسي رحمه الله: "والمراد على جميع القراءات أمرهن رضي الله تعالى عنهن بملازمة البيوت وهو أمر مطلوب من سائر النساء، أخرج الترمذي والبزار عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المرأة عورة، فإذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من رحمة ربها وهي في قعر بيتها". وأخرج البزار عن أنس قال: جئن النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن: يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله تعالى فهل لنا عمل ندرك به فضل المجاهدين في سبيل الله تعالى؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "من قعدت منكن في بيتها فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى"   (1) "المفردات" (ص: 54) . (2) "فتح القدير" (4/ 278) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 وقد يحرم عليهن الخروج بل قد يكون كبيرة كخروجهن لزيارة القبور إذا عظمت مفسدته، وخروجهن ولو إلى المسجد وقد استعطرن وتزين إذا تحققت الفتنة، أما إذا ظنت فهو حرام غير كبيرة، وما يجوز من الخروج كالخروج للحج وزيارة الوالدين وعيادة المريض، وتعزية الأموات من الأقارب ونحو ذلك، فإنما يجوز بشروط مذكورة في محلها" (1) اهـ. * وقال الشيخ أحمد مصطفى المراغي- رحمه الله-: " (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) أي: الزمن بيوتكن، فلا تخرجن لغير حاجة، وهو أمر لهن ولسائر النساء" (2) اهـ. * وقال المودودي - رحمه الله -: "إن مقام المرأة ومستقرها هو البيت، وما وضعت عنهن واجبات خارج البيت إلا ليلازمن البيوت بالسكينة والوقار ويقمن بواجبات الحياة العائلية، أما إن كان بهن حاجة إلى الخروج فيجوز لهن أن يخرجن من البيوت بشرط أن يراعين جانب العفة والحياء، فلا يكون في لباسهن بريق أو زخرفة أو جاذبية تجذب إليهن الأنظار، ولا في نفوسهن من حرص على إظهار زينتهن، فيكشفن تارة عن وجوههن، وأخرى عن أيديهن، ولا في مشيتهن شيء يستهوي القلوب، ولا يلبسن كذلك من الحلي ما يحلو وسواسه في المسامع ولا يرفعن أصواتهن بقصد أن يسمعها الناس، نعم يجوز لهن التكلم في حاجتهن، ولكنه يحب أن لا يكون في كلامهن لين وخضوع ولا في لهجتهن عذوبة وتشويق، كل هذه الضوابط والحدود - إن راعتها النساء - جاز لهن أن يخرجن لحوائجهن" (3) اهـ.   (1) "روح المعاني" (22/ 6) . (2) (تقسير المراغي" (22/ 6) . (3) "الحجاب" (ص: 313) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 * وقال فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية الأسبق- رحمه الله-: " (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) الزمنها فلا تخرجن لغير حاجة شرعية، ومثلهن في ذلك سائر نساء المؤمنين". اهـ. وقال أيضا: "ومما يباح خروجهن لأجله الحج، والصلاة في المسجد، وزيارة الوالدين، وعيادة المريض، وتعزية الأقارب، والعلاج ونحو ذلك بشروطه التي منها التستر وعدم التبذل" (1) . اهـ. * وقال العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله: "نهى سبحانه في هذه الآيات نساء النبي الكريم أمهات المؤمنين وهن من خيرِ النساء وأطهرهن عن الخضوع بالقول للرجال، وهو تليين القول وترقيقه؛ لئلا يطمع فيهن من في قلبه مرض شهوة الزنا ويظن أنهن يوافقنه على ذلك، وأمر بلزومهن البيوت، ونهاهن عن تبرج الجاهلية، وهو إظهار الزينة والمحاسن كالرأس والوجه والعنق والصدر والذراع والساق ونحو ذلك من الزينة لما في ذلك من الفساد العظيم والفتنة الكبيرة وتحريك قلوب الرجال إلى تعاطي أسباب الزنا. وإذا كان الله سبحانه يحذر أمهات المؤمنين من هذه الأشياء المنكرة مع صلاحهن، وإيمانهن، وطهارتهن، فغيرهن أولى وأولى بالتحذير، والإنكار، والخوف عليهن من أسباب الفتنة عصمنا الله وإياكم من مضلات الفتن، ويدل على عموم الحكم لهن ولغيرهن قوله سبحانه في هذه الآية (وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) فإن هذه الأوامر أحكام عامة لنساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن" (2) . اهـ.   (1) "صفوة البيان لمعاني القرآن" (2/183) (2) "رسالة في الحجاب والسفور" (ص: 13 14) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 * وقال الشيخ أبو بكر الجزائري حفظه الله: "في هذه الآية الكريمة دلالات كبرى كلها تؤكد حكم الحجاب، وتقرره، وهي كالتالي: 1- منع المؤمنة من ترقيق قولها وتلينه إذا تكلمت مع أجنبي عنها ليس محرمًا لها. 2- تقدير وجود مرض الشهوة في قلوب بعض المؤمنين، وهو علة نهي المرأة عن ترقيق قولها إذا قالت. 3- وجود تحديد العبارة والتكلم على قدر الحاجة، بحيث لا تزيد المرأة إذا تكلمت مع أجنبي في كلامها ما ليس بضروري للإفهام، فلا يجوز منها إطناب ولا استطراد، بَل يجب أن تكون كلماتها على قدر حاجتها في خطابها. 4- لزوم المرأة المسلمة بيتها وهو مقر عملها الطبيعي، فلا تخرج إلا لحاجة ماسه إذ البيت هو محل تربية أولادها، وخدمة زوجها، وعبادة ربها بالصلاة، والزكاة، وذكر الله وما والاه. 5- تحريم التبرج، وهو خروج المرأة المسلمة من بيتها كاشفة من (1) وجهها، مظهرة لمحاسنها غير خجلة ولا محتشمة حيية. إن هذه الدلالات الخمس من هذه الآية في خطاب أمهات المؤمنين رضي الله عنهن كل واحدة منها دالة بفحواها على فرضية الحجاب، وتَحتُّمِه على المرأة المسلمة، غير أن المبطلين (2) لم يروا ذلك، فقالوا في هذه الآية والتي قبلها: "إنها نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم وهي خاصة بهن ولا تعلق لها بغيرهن من نساء المؤمنين وبناتهم"، وهو قول مضحك عجيب. . . وهاتان الآيتان مثلهما مثل إقسام الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه لو أشرك   (1) كذا بالأصل، ولعله (عن) . (2) لعل فضيلته يقصد بالمبطلين دعاة التحرر من الحجاب بالكلية، لا العلماء الفضلاء المخالفين في حكم كشف الوجه والكفين عن اجتهاد مخلص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 لحبط عمله، وكان من الخاسرين في آية الزمر، مع العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم لا يتأتى منه الشرك ولا غيره من الذنوب، ولكن الكلام من باب "إياك أعني، واسمعي يا جارة"، وعليه فإذا كان الرسول على جلالته لو أشرك لحبط علمه، وخسر فغيره من باب أولى، كما أن الحجاب لو فرض على نساء النبي وهن أمهات المؤمنين كان على غيرهن من باب أولى. ويبدو أنه لما كان الحجاب مخالفا لما كان عليه العرب في جاهليتهم، ولم يشرع تدريجا، وشيئًا فشيئا حتى بالقوة، إذ لا يمكن فيه التدريج، فلما شرع دفعة واحدة كان أمرا عظيما، فبدأ الله تعالى فيه بنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يقال- وما أكثر من يقول يومئذ، والمدينة مليئة بالنفاق والمنافقين-: انظروا كيف ألزم نساء الناس البيوت والحجاب، وترك نساءه وبناته غاديات رائحات ينعمن بالحياة. . . إلى آخر ما يقول ذوو القلوب المرضى في كل زمان ومكان، فلما فرضه على نساء رسوله صلى الله عليه وسلم لم يبق مجال لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تَرْغَبَ بنفسها عن نساء الرسول صلى الله عليه وسلم فترى السفور لها، ولا تراه لأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم وبناته، وهذا يعرف عند علماء الأصول بالقياس الجلي، ومن باب أولى كتحريم ضرب الأبوين قياسا على تحريم التأفيف في قوله تعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) (1) اهـ. * وقال الشيخ عبد العزيز بن خلف رحمه الله: "قد قرن الله تعالى هذا التوجيه بالتقوى حيث لا تلتزم بتلك الصفات المحمودة المشروعة إلا من تخشى الله تعالى وتنقيه من كل النساء، وهذا السياق قيل لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يقول أحد من المسلمين: إن الحكم خاص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقط؟! وأن للنساء المؤمنات أن يخالفنه؟ هذا لا   (1) "فصل الخطاب في المرأة الحجاب" (ص: 35- 38) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 يقول به أحد، والحكم لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. ... وهذا كله ظاهر، لأن هذه كلَّها أحكام وآداب وتوجيه من الله جل جلاله لتحتفظ المرأة المسلمة بكرامتها وحصانتها، ولقطع دابر الوسائل التي تقرب إلى الفتنة والشر، وهذا سبيل من كان يرجو الله واليوم الآخر. وأما أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فمضمون الآيات مخاطبتهن تعظيمَا وإكبارَا لهن، مع أن الحق استبعاد الفتنة معهن من أصحابه صلى الله عليه وسلم، لأنهن لسن كأحد من النساء بالفضل وعظيم القدر، لا بما يدعو إلى الفتنة والشر من بدن المرأة ومواضيع الزينة منها، فلا ريب أنهن وسائر المسلمات المؤمنات سواء، لأن الجميع في باب واحد من عدم العصمة، وحينما نقول: "إن الجميع في باب واحد من عدم العصمة"، نقول ذلك لعموم أنه لا عصمة لأحد بعد محمد صلى الله عليه وسلم، غير أنهن أتقى النساء، لأنهن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شهد الله لهن بأنهن الطيبات وأنهن المبرآت، فعلى أزواجه وبناته ومن تبعهن من المسلمات المؤمنات رضوان الله تعالى ورحمته وبركاته" (1) اهـ. * وقال الدكتور السيد محمد علي نمر: "ولأمر ما أضاف الله البيت إلى المرأة لكثرة ملازمتها له، حيث يقول سبحانه: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) فالبيوت للأزواج، ولكنها أضيفت إلى المرأة لما تقوم به من دور عظيم فيه" (2) . يا أختُ سابغة البرا ... قع في الأباطح والوعورْ قَرِّي فديتُك حيث لا ... تؤذيكِ لافحة الهجير ودعي الجنوحَ إلى السفو ... رِ، وخَففي ألمَ العشير النمر لو لزم الشرى ... من كان يطمع في النمور؟   (1) "نظرات في حجاب المرأة المسلمة" (ص: 94- 95) . (2) "إعداد المرأة المسلمة" (ص: 59) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 والطير تأخذها شبا ... كُ الصَّيْدِ في ترك الوكور (1) الدليل الرابع قوله تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)) [النور: 31] . في هاتين الآيتين الكريمتين ثلاثة مواضع استُدلَّ بها على وجوب الحجاب: الأول: قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) . فقد صح عن ابن مسعود وغيره تفسير الزينة بالثياب الظاهرة من المرأة، وأما من قال: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) الوجه والكفان فقد بنى مذهبه: 1- إما على آثار عن ابن عباس رضي الله عنهما، منها صحيح (2) ومنها ضعيف. 2- وإما على أساس الترجيح بالإِلزام الفقهي، بناءَ على أن عورة المرأة في الصلاة: البدن كله ما عدا الوجه والكفين، وأن إحرامها في الوجه والكفين، قالوا: فيلزم من ذلك إباحة إظهارهما. ومما يلفت النظر أن كثيرَا من المفسرين وقعوا في بعض التناقض حيث   (1) "فقه النظر في الإسلام" (ص: 188) . (2) قوله رضي الله عنه: "الكف ورقعة الوجه " رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (4/283) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 التزموا في سائر آيات الحجاب القول بوجوبه على سائر النساء، ثم ذهبوا في هذا الموضع بالذات إلى ترجيح المذهب المنسوب إلى ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، واحتجوا بهذا الإلزام الفقهي غير اللازم لوجود الفرق بين داخل الصلاة، وخارجها. وقد رجح بعضهم جواز كشف الوجه والكفين لأن الحاجة قد تمس إلى إظهارهما كالخِطبة والشهادة والتطبيب إلخ، والجواب أنه يرخص لها ذلك في حدود حاجتها، والله أعلم. أما الموضع الثاني: فقوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) ، أما الثالث: فقوله عز وجل: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) . تحقيق الآثار المنسوبة إلى ابن عباس رضي الله عنهما والآثار المسندة إلى أبن مسعود رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال فضيلة الشيخ عبد القادر بن حبيب السندي المدرس بمعهد الحرم المكي الشريف أثناء نقده لأئر: "إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه" (1) . وليس هناك حديث صحيح مرفوع في هذا المعنى إلا ما جاء عن عبد الله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في أثر أخرجه الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره (2) ، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3) . قال الإمام ابن جرير الطبري: حدثنا أبو كريب، قال ثنا مروان، قال   (1) انظر تحقيقه ص (370 - 371) . (2) "تفسير الطبري" (8/119) . (3) "السنن الكبرى" (2/182- 183) ، (7/86) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 ثنا مسلم الملائي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ) قال: الكحل والخاتم. قلت: إسناده ضعيف جدًّا، بل هو منكر. قال الإمام الذهبي: مسلم بن كيسان أبو عبد الله الضبي الكوفي الملائي الأعور عن أنس وإبراهيم النخعي، وقال الإمام الحافظ أبو الحجاج المزي في ترجمة مسلم بن كيسان الملائي روى عن سعيد بن جبير- وهو يروي في هذا الإسناد عن سعيد بن جبير (1) . ثم قال الإمام الذهبي فى ترجمته: "عن الثوري ووكيع بن الجراح بن مليح، قال الفلاس: متروك الحديث، وقال أحمد: لا يكتب حديثه، وقال يحيى: ليس بثقة، وقال البخاري: يتكلمون فيه، وقال يحيى أيضَا: زعموا أنه اختلط، وقال يحيى القطان: حدثني حفص بن غياث قال: قلت لمسلم الملائي: عمن سمعت هذا؟ قال- عن إبراهيم عن علقمة، قلنا: علقمة عمن؟ قال: عن عبد الله، قلنا: عبد الله عمن؟ قال: عن عائشة-، وقال النسائي: متروك الحديث" (2) اهـ. "وقلت: هذا الإسناد ساقط لا يصلح للمتابعات والشواهد كما لا يخفى على أهل هذا الفن الشريف. وقال الإمام الحافظ البيهقي في "السنن الكبرى": "أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا أحمد بن عبد الجبار ثنا حفص بن غياث عن عبد الله بن مسلم بن هرمز عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال: ما في الكف والوجه" (3) اهـ.   (1) "تهذيب الكمال " (7/ 663) . (2) "ميزان الاعتدال" (4/ 106) . (3) "السنن الكبرى" (2/ 225) ، (7/ 852) ، وقال الشيخ منصور بن إدريس البهوتي رحمه الله: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ) قال ابن عباس= الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 قلت: إسناده مظلم ضعيف لضعف راويين هما أحمد بن عبد الجبار العطاردي، قال الإمام الذهبي. أحمد بن عبد الجبار العطاردي روى عن أبي بكر بن عياش وطبقته، ضعفه غير واحد، قال ابن عدي: رأيتهم مجمعين على ضعفه ولا أرى له حديثَا منكرا، إنما ضعفوه لأنه لم يلق الذين يحدث عنهم، وقال مطين: كان يكذب، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال ابنه عبد الرحمن: كتبت عنه وأمسكت عن التحديث عنه لما تكلم الناس فيه، وقال ابن عدي: كان ابن عقدة لا يحدث عنه، وذكر أن عنده قِمَطْرًا على أنه كان لا يتورع أن يحدث عن كل أحد، مات سنة 272 هـ (1) . وقال الحافظ في التقريب: ضعيف (2) . وكذا يوجد في هذا الإِسناد- عند الإمام البيهقي- عبد الله بن مسلم بن هرمز المكي عن مجاهد وغيره، قال الحافظ الذهبي: ضعفه ابن معين،. وقال: وكان يرفع أشياء، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال ابن المديني: كان ضعيفا (مرتين) عندنا، وقال أيضا: ضعيف، وكذا ضعفه النسائي (3) ، وقال الحافظ في "التقريب": ضعيف (4) . قلت: هذان الإسنادان ساء حالهما إلى حد بعيد لا يحتج بهما ولا يكتبان، وهنا أسانيد أخرى لا تقل درجتها في الضعف والنكارة، وبذلك يمكن أن يقال إن هذه النسبة غير صحيحة إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (5) .   = وعائشة: وجهها وكفيها. رواه البيهقي، وفيه ضعف، وخالفهما ابن مسعود. اهـ من "كشف القناع" (1/243) . (1) "ميزان الاعتدال" (1/ 112 - 113) . (2) "تقريب التهذيب" (1/ 19) . (3) "ميزان الاعتدال" (2/ 503) . (4) "تقريب التهذيب" (1/ 450) (5) في هذا التعميم نظر، فقد صحت بعض آثار عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذا المعنى، منها ما تقدم ص (283) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 ولو صح الإِسناد إليه لما كان فيه حجة عند علماء أهل الحديث فكيف في هذه الحال، وقد صحت الأسانيد إلى ابن عم المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإلى غيره من الصحابة رضي الله عنهم عكس هذا المعنى الذي رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" والبيهقي في "سننه" وكذا ابن أبي حاتم في "تفسيره"، وزد على ذلك ما ثبت بأسانيد صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سوف يأتي مفصلا من أمره صلى الله عليه وسلم بالحجاب والستر. * وإليكم أولا ما جاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، ومنهم عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره إذ قال رحمه الله تعالى: حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال أخبرني الثوري، عن أبي إسحاق الهمداني، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال: الثياب (1) . قلت: إسناده في غاية الصحة وأورد هذا الأثر الإمام ابن كثير في تفسيره (2) . ثم ساق الإمام ابن جرير الطبري إسنادَا آخر بقوله: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله مثله - قلت: إسناده في غاية الصحة. وقال الإمام السيوطي: أخرج ابن جرير الطبري وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في "سننه" عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال: الزينة الظاهرة الوجه والكفان وكحل العينين، ثم قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "فهذا تظهره في بيتها لمن دخل عليها، ثم لا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن" الآية.   (1) "تفسير الطبري" (18/ 119) ، وقد رواه ابن أبي شيبة، والحاكم من طريقه، وقال: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في "التلخيص". (2) "تفسير القرآن العظيم" (2/283) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 ثم قال رضي الله عنه: "والزينة التي تبديها لهؤلاء قرطاها، وقلادتها وسوارها، وأما خلخالها، ومعضدها، ونحرها، وشعرها، فإنها لا تبديه إلا لزوجها (1) " قلت: رواية ابن عباس رضي الله عنهما هذه قد اطلعت على إسنادها عند ابن جرير الطبري في تفسيره ورجالها كلهم ثقات إلا أنها منقطعة؛ لأن فيها على بن أبي طلحة المتوفى سنة 143 هـ يروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- ولم يلقه والواسطة بينهما هو مجاهد بن جبر المكي - وهو إمام كبير ثقة ثبت كما لا يخفى على أحد - وقد احتج بهذه الرواية - أعني رواية على بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- البخاري في "الجامع الصحيح " (2) ؛ إذ أوردها في مواضع عديدة من كتاب التفسير معلقة وإن كانت ليست على شرطه في "الجامع الصحيح" - قال ذلك الحافظ في "التهذيب" (3) . وقال الإمام المزي في "تهذيب الكمال" مشيرَا إلى رواية التفسير هذه "في ترجمة على بن أبي طلحة: "هو مرسل عن ابن عباس، وبينهما مجاهد (4) "، واعتمد على هذه الرواية علامة الشام محمد جمال الدين القاسمي في "تفسيره" (5) ، والإمام القرطبي في تفسيره (6) ، وكذلك الإمام ابن كثير في تفسيره في مواضع عديدة فكانت قوية ومحتجُّا بها عند علماء التفسير وغيرهم، وإن ظاهر القرآن والسنة وأثار الصحابة والتابعين تؤيدها فليعتمد عليها ويستأنس بها". (7) اهـ من "رسالة الحجاب" للسندي.   (1) "الدر المنثور" (5/ 42) . (2) انظر مثلا: "فتح الباري" (8/ 54، 76، 114) . (3) "تهذيب التهذيب" (7/ 340) . (4) "تهذيب الكمال" (5/ 480) . (5) "محاسن التأويل" (4/ 4909) . (6) "الجامع لأحكام القرآن" (14/ 243) . (7) "رسالة الحجاب في الكتاب والسنة" (ص: 21 26) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 ولو أن فضيلته اقتصر على قوله: "يُستأنس بها" لكان أقرب من قوله: "فليعتمد عليها" لما في الكلام الذي أسلفه في رواية على بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما. ما أجاب به العلماء عن قول ابن عباس رضي الله عنهما * أولَا: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والسلف تنازعوا في الزينة الظاهرة على قولين، فقال ابن مسعود: هي الثياب، وقال ابن عباس ومن وافقه: هي ما في الوجه واليدين مثل الكحل والخاتم. قال: وحقيقة الأمر أن الله جعل الزينة زينتين، زينةَ ظاهرة وزينة غير ظاهرة، وجوَّز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج وذوي المحارم، وأما الباطنة فلا تبديها إلا للزوج وذوي المحارم. وقبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب يرى الرجال وجهها ويديها، وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر إليها لأنه يجوز لها إظهاره، ثم لما أنزل الله عز وجل آية الحجاب بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) حجب النساء عن الرجال، وكان ذلك لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله عنها فأرخى النبي صلى الله عليه وسلم الستر ومنع أنسَا أن ينظر. ولما اصطفى صفية بنت حيي بعد ذلك عام خيبر قالوا: إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين، وإلا فهي مما ملكت يمينه، فحجبها. فلما أمر الله أن لا يُسئلن إلا من وراء حجاب، وأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن؛ والجلباب هو المُلاءة وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره الرداء، وتسميه العامة: الأزار، هو الأزار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 الكبير الذي، يغطي رأسها وسائر بدنها، وقد حكى عَبيدة وغيره أنها تدنيه من فوق رأسها فلا تظهر إلا عينها، ومن جنسه النقاب " فكن النساء ينتقبن" وفي الصحيح "إن المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين"، فإذا كنَّ مأمورات بالجلباب وهو ستر الوجه أو ستر الوجه بالنقاب، كان حينئذ الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تظهر للأجانب، فما بقي يَحِلُّ للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة فابن مسعود ذكر آخر الأمرين؛ وابن عباس ذكر أول الأمرين" (1) اهـ كلام شيخ الإسلام ابن تيمية. ثانيا: قال العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى: "وأما ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسر "إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا" بالوجه والكفين فهو محمول على حالة النساء قبل نزول آية الحجاب، وأما بعد ذلك فقد أوجب الله عليهن ستر الجميع كما سبق في الآيات الكريمات من سورة الأحزاب وغيرها، ويدل على أن ابن عباس أراد ذلك ما رواه على بن أبي طلحة عنه أنه قال: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة. وقد نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم والتحقيق وهو الحق الذي لا ريب فيه، ومعلوم ما يترتب على ظهور   (1) "حجاب المرأة ولباسها في الصلاة" ص: 13 – 17، "مجموع الفتاوى" (22/ 110) ، ويتضح من هذا أن شيخ الإسلام يذهب إلى وقوع النسخ في مراحل تشريع الحجاب قال رحمه الله: (وعكس ذلك الوجه واليدان والقدمان ليس لها أن تبدي ذلك للأجانب على أصح القولين بخلاف ما كان قبل النسخ بل لا تبدي إلا الثياب) اهـ، وقال أيضَا رحمه الله تعالى: (وأما وجهها ويداها وقدماها فهي إنما نهيت عن إبداء ذلك للأجانب لم تُنه عن أَبدائه للنساء ولا لذوى المحارم) اهـ. من "مجموع الفتاوى" (22/ 117 - 118) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 الوجه والكفين من الفساد والفتنة، وقد تقدم قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) ولم يستثن شيئا وهي آية محكمة، فوجب الأخذ بها والتعويل عليها وحمل ما سواها عليها، والحكم فيها عام في نساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن من نساء المؤمنين وتقدم من سورة النور ما يرشد إلى ذلك" (1) اهـ. وهذا الجمع أولى لما ورد عن ابن عباس أيضًا من قوله: تدني الجلباب إلى وجهها ولا تضرب به. قال روح في حديثه: قلت: وما (لا تضرب به) ؟ فأشار لي كما تجلبب المرأة، ثم أشار لي ما على خدها من الجلباب قال: "تعطفه وتضرب به على وجهها كما هو مسدول على وجهها". رواه أبو داود في كتاب المسائل قال: حدثنا أحمد - يعني ابن محمد بن حنبل - قال حدثنا يحيى وروح عن ابن جريج قال أخبرنا عطاء قال أخبرنا أبو الشعثاء أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فذكر الحديث – وإسناده صحيح على شرط الشيخين. وقول ابن مسعود رضي الله عنه ومن وافقه هو الصحيح في تفسير هذه الآية لاعتضاده بآية سورة الأحزاب وهي قولة تعالي: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) . * قال الإمام أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن الجوزي رحمه الله: "قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) أي لا يُظهِرنها لغير محرم، وزينتهن على ضربين: خفية كالسوارين والقرطين والدملج والقلائد ونحو ذلك، وظاهرة وهي المشار إليها بقوله: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) وفيه سبعة أقوال: أحدها: أنها الثياب، رواه أبو الأحوص عن ابن مسعود، وفي لفظ آخر قال. هو الرداء.   (1) "رسالة في الحجاب والسفور" ص: 19. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 والثاني: أنها الكف والخاتم والوجه. والثالث: الكُحل والخاتم، رواهما سعيد بن جبير عن ابن عباس. والرابع: القُلبان، وهما السواران والخاتم والكحل، قاله المسور بن مخرمة. والخامس: الكحل والخاتم والخضاب، قاله مجاهد. والسادس: الخاتم والسِّوار، قاله الحسن. والسابع: الوجه والكفان، قاله الضحاك. قال القاضي أبو يعلى: والقول الأول أشبه، وقد نص عليه أحمد فقال: الزينة الظاهرة: الثياب، وكل شيء منها عورة حتى الظفر. ويفيد هذا تحريم النظر إلى شيء من الأجنبيات لغير عذر، فإن كان لعذر مثل أن يريد أن يتزوجها أو يشهد عليها، فإنه ينظر في الحالين إلى وجهها خاصة، فأما النظر إليها لغير عذر فلا يجوز لشهوة ولا لغيرها، وسواء في ذلك الوجه والكفان وغيرهما من البدن فإن قيل: فلم لا تبطل الصلاة فالجواب: أن في تغطيته مشقة فعفي عنه" (1) اهـ. * قال ابن عطية: "ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بألا تبدي (2) ، وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لابد منه ونحو ذلك، فما ظهر على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه" (3) اهـ.   (1) "زاد المسير" (6/ 31) . (2) كذا، ولعله: "بألا تبدي وجهها" كما يظهر من السياق، ومن تعقيب القرطبي رحمه الله. (3) "الجامع لأحكام القرآن" (12/ 229) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 ثم عقب القرطبي رحمه الله قائلاً: "قلت: هذا قول حسن، إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة، وذلك في الصلاة والحج، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعًا إليهما (1) ، يدل على ذلك ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها وساق حديث أسماء (2) مستدلا به، إلى أن قال رحمه الله: وقد قال ابن خويز منداد من علمائنا: إن المرأة إذا كانت جميلة، وخيف من وجهها وكفيها الفتنة، فعليها ستر ذلك، وإن كانت عجوزًا أو مُقَبَّحة جاز أن تكشف وجهها وكفيها" (3) اهـ. * وقال البيضاوي رحمه الله تعالى في تفسيره: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) كالحلي والثياب والأصباغ فضلا عن مواضعها لمن لا يحل أن تبدي له (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) عند مزاولة الأشياء كالثياب والخاتم فإن في سترها حرجَا. وقيل المراد بالزينة مواضعها على حذف المضاف (4) ، أو ما يعم المحاسن   (1) "الجامع لأحكام ألقرآن" (12/ 229) . (2) وقد تعقب الألباني هذا الاستدلال من القرطبي بقوله: (قلت: وفي هذا التعقيب نظر أيضا، لأنه وإنا كان الغالب على الوجه والكفين ظهورهما بحكم الواقع، فإنما ذلك بقصد من المكلف، والآية حسب فهمنا إنما أفادت استثناء ما ظهر دون قصد، فكيف يسوغ حينئذ جعله دليلًا شاملا لما ظهر بالقصد؟ فتأمل) اهـ من "حجاب المرأة المسلمة" (ص: 24) . (3) انظر الجواب عنه (ص: 336) . (4) ونظيره قوله تعالى: (فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) والمراد بها الجنة، لأنها مكان الرحمة، وكذلك: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) والمراد مواضع الصلاة، قال الزمخشري: (وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتصون والتستر فإنه ما نهى عن الزينة إلا لملابستها تلك المواقع فكان إبداء المواقع نفسها متمكنا في الحظر ثابت القدم في الحرمة) اهـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 الخلقية والتزيينية، والمستثنى هو الوجه والكفان لأنهما ليستا من العورة، والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر، فإن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة" اهـ. * قال الشهاب في "شرحه": "ومذهب الشافعي - رحمه الله - كما في "الروضة" وغيرها أن جميع بدن المرأة عورة حتى الوجه والكف مطلقَا، وقيل: يحل النظر إلى الوجه والكف إن لم يخف فتنة، وعلى الأول: هما عورة إلا في الصلاة، فلا تبطل صلاتها بكشفهما". وقال أيضَا: قوله: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) أي: بلا إظهار كأن كشفته الريح، والاستثناء عن الحكم الثابت بطريق الإشارة، وهو المؤاخذة به في دار الجزاء، وفي حكمه ما لزم إظهاره لتحمل شهادة ومعالجة طبيب. وقال أيضًا: "قوله: "وقيل المراد بالزينة مواضعها" وفي نسخة: مواقعها، وهو بمعناه، وهذا ما ارتضاه الزمخشري، وهو على مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وجعله كناية عما ذكر كنقي الجيب وهو مجاز من ذكر الحال وإرادة المحل، وقيل: إنه بتقدير مضاف كما ذكره المصنف رحمه الله. وفي "الانتصاف": قوله: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ) الآية يحقق أن إبداء الزينة مقصود بالنهي، ولو حمل على ما ذكر لزم أن يحل للأجانب النظر إلى ما ظهر من مواقع التزيين، وهو باطل لأن بدن الحرة جميعه عورة يعني عند الشافعي ومالك، وأما إبداء الزينة وحدها فلا خلاف في جوازه، إذ لا يحرم نظر سوار امرأة يباع في يد رجل، وأما كونه تنكسر به قلوب الفقراء فلا وجه له ولذا مرضه المصنف لمخالفته مذهبه وفيه نظر، والزينية نسبة إلى الزينة وفي نسخة "التزيينية"، وقوله "والمستثنى" أي على هذا القول وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، والقدمان والذراعان فى رواية (قوله: بدن الحرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 عورة) كما في الحديث: "المرأةُ عورة مستورة" رواه الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه، لكن ليس فيه لفظ مستورة، وما ذكره من الفرق بين العورة في الصلاة وغيرها مذهب الشافعي رحمه الله، وفيه كلام في ابن الهمام فراجعه " (1) اهـ. * وقال الشيخ العلامة محمد بن أحمد بن جزي الكلبي رحمه الله: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) نهى عن إظهار الزينة بالجملة ثم استثنى الظاهر منها، وهو ما لابد من النظر إليه عند حركتها أو إصلاح شأنها وشبه ذلك، فقيل: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) يعني الثياب فعلى هذا يجب ستر جميع جسدها، وقيل: الثياب والوجه والكفان، وهذا مذهب مالك لأنه أباح كشف وجهها وكفيها في الصلاة وزاد أبو حنيفة القدمين" (2) اهـ. * وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "هذا أمر من الله تعالى للنساء المؤمنات، وغيرة منه لأزواجهن عباده المؤمنين، وتمييز لهن عن صفة نساء الجاهلية وفعال المشركات. وقال رحمه الله. وقال: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) أي: ولا يظهرن شيئًا من الزينة للأجانب، إلا ما لا يمكن إخفاؤه، وقال ابن مسعود: كالرداء والثياب يعني على ما كان يتعاناه (3) نساء العرب، من المِقنعة التي تجلل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثياب فلا حرج عليها فيه، لأن هذا لا يمكن إخفاؤه ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها وما لا يمكن إخفاؤه، وقال بقول ابن مسعود: الحسن وابن سيرين وأبو الجوزاء   (1) "عناية القاضي وكفاية الراضي" (6/ 373) . (2) "التسهيل لعلوم التنزيل" (3/ 64) . (3) أي يأخذن أنفسهن به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 وإبراهيم االنخعي وغيرهم" (1) اهـ. * وقال السيوطي رحمه الله: (وَلَا يُبْدِينَ) يظهرن (زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) وهو الوجه والكفان فيجوز نظره لأجنبي إن لم يخف فتنة في أحد وجهين، والثاني: يحرم لأنه مظنة الفتنة، ورجح حسمًا للباب" (2) اهـ.   "تفسير القرآن العظيم" (6/ 46- 47) ، قال الشيخ الأنصاري معلقا على عبارة ابن كثير رحمه الله هذه: (والمقصود أن فيها الدلالة على أن ستر جميع الجسد كان قد صار ديدن نساء الصحابة والتابعين ونساء المسلمين. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت عليه آيات الحجاب فقام بتعليمها وتعليم تأويلها وحكمتها، هاهم أولئك الصحابة كافة الأنصار منهم والمهاجرون تعلموا منه معنى تلك الآيات، ثم رجعوا إلى بيوتهم فعلموهم أزواجهم وبناتهم وأخواتهم ونساء بيوتهم، وهاهن الصحابيات الطاهرات سمعن هذه الآية وتعملنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ممن تعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فشققن مروطهن وغطين وجوههن، وجعلن النقاب جزءًا أو لباسَا من ألبستهن، وهذا هو الذي صار ديدن نساء العرب ونساء المسلمين كافة، لا زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين فقط، بل حكى الشوكاني عن ابن رسلان اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه لا سيما عند كثرة الفساق (نيل الأوطار 6/ 245) . ولم يكن فعلهم وفعل نسائهم هذا تطوعَا، ولا التزاما من قبل أنفسهن بما لم يلزمه الله ورسوله، كما يزعمه الله ورسوله، كما يزعمه الزاعمون، بل فعلوا كل ذلك - كما أخبرتنا الصديقة بنت الصديق- إيمانا بكتاب الله وتصديقًا بتنزيله، وامتثالَا بأوامر الله وتناهيًا عن نواهيه، ولم يكن يخفى عليهم أن أوامر الله للوجوب ونواهيه للتحريم، وأن نساءهم بتغطيه وجوههن يمتثلن أمر الحجاب وأمر إدناء الجلباب، ويتناهين عن إبداء الزينة، وأنهن ممثلات للمجتمع الذي يريد الله ثم يريد رسوله إقامته، وبعد هذا كله لا أدري كيف يشك شاك في وجود ستر الوجوه وحرمة إبدائها؟ وماذا ومن ذا بعد الله ورسوله والصحابة والمؤمنين حتى يعتمد عليه؟ اهـ "من مجلة الجامعة السلفية".   (2) "تفسير الجلالين" (2/ 54) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 وروى ابن أبي حاتم والسيوطي في "الدر" عن سعيد بن جبير موقوفا أنه قال: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) يعني: ولا يضعن الجلباب وهو القناع من فوق الخمار (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ) الآية قال: فهو محرم" (1) اهـ. * وقال العلامة ابن مفلح الحنبلي رحمه الله تعالى: قال أحمد: ولا تبدي زينتها إلا لمن في الآية، ونقل أبو طالب: "ظفرها عورة، فإذا خرجت فلا تبين شيئًا ولا خفها فإنه يصف القدم" وأحبُّ إليَّ أن تجعل لكمها زرَا عند يدها. واختار القاضي قول من قال: المراد بما ظهر من الزينة: الثياب لقول ابن مسعود وغيره، لا قول من فسرها ببعض الحلي أو ببعضها فإنه الخفية، قال: وقد نص عليه أحمد فقال: الزينة الظاهرة الثياب وكل شيء منها عورة حتى الظفر (2) اهـ. * وقال العلامة الكشميري رحمه الله: فإن قلت: وإذا جاز كشف هذه الأعضاء مطلقا فما معنى التخصيص والاستثناء؟ قلت: ومن ادعى أن القرآن رغبهن في كشفها؟ ولكن السياق في إبداء الزينة عند من يباح له ضرورة، أما من لا ضرورة فيهم فالسنة فيهم كما ذكرها في آية أخرى وهي إدناء الجلباب لأن ذلك أستر لها، وإن جاز لها كشفها أيضا إلا أنه لما كان قد ينجر إلى الفتن حرض القرآن بسترها في عامة الأحوال (3) اهـ. وقال أيضَا رحمه الله: وإنما قلت: إن كشف الوجه جائز لولا الفتنة لحديث فضل بن عباس وشابة في الحج فصرف صلى الله عليه وسلم وجهه عنها وقال: "خشيت أن يقع بينهما شيطان" (4) فافهم وتشكر (4) اهـ.   (1) نقله الخجندي في "حبل الشرع المتين" (ص: 234) . (2) "الفروع" (1/ 601) . (3) ، (4) "فيض الباري" (4/ 24) ، وانظره (4/308) ، وسيأتي الجواب عن حديث الفضل (ص: 381) إِن شاء الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 * وقال الألوسي رحمه الله: ومذهب الشافعي عليه الرحمة كما في "الزواجر": أن الوجه والكفين ظهرهما وبطنهما إلى الكوعين عورة في النظر من المرأة ولو أمة على الأصح، وإن كانا ليسا عورة من الحرة في الصلاة. . . وذهب بعض الشافعية إلى حل النظر إلى الوجه والكف إن أمنت الفتنة، وليس بمعول عليه عندهم، وفسر بعض أجلتهم ما ظهر بالوجه والكفين بعد أن ساق الآية دليلا على أن عورة الحرة ما سواهما، وعلل حرمة نظرهما بمظنة الفتنة فدل ذلك على أنه ليس كل ما يحرم نظره عورة، وأنت تعلم أن إباحة إبداء الوجه والكفين حسبما تقتضيه الآية عندهم مع القول بحرمة النظر إليهما مطلقَا في غاية البعد، فتأمل (1) . واعلم؛ أنه إذا كان المراد النهي عن إبداء مواقع الزينة، وقيل بعمومها الوجه والكفين والتزم القول بكونهما عورة وحرمة إبدائهما لغير من استثنى بعد يجوز أن يكون الاستثناء في قوله تعالى: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) من الحكم الثابت بطريق الإشارة وهو المؤاخذة في دار الجزاء، ويكون المعنى: أن ما ظهر منها من غير إظهار كان كشفته الريح مثلًا فهن غير مؤاخذات به في دار الجزاء، وفي حكم ذلك ما لزم إظهاره لنحو تحمل شهادة ومعالجة طبيب، وروى الطبراني، والحاكم وصححه، وابن المنذر، وجمع آخرون، عن ابن مسعود أن "ما ظهر": الثياب والجلباب، وفي   (1) قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: (إن الله تعالى أمر المؤمنات بحفظ فروجهن، والأمر بحفظ الفروج أمر به، وبما يكون وسيلة إليه، ولا يرتاب عاقل أن وسائله تغطية الوجه لأن كشفه سبب للنظر إليها وتأمل محاسنها والتلذذ بذلك، وبالتالي إلى الوصول والاتصال، وفي الحديث: (العينان تزنيان، وزناهما النظر) إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: "والفرج يصدق كل ذلك أو يكذبه "، فإذا كان الوجه من وسائل حفظ الفرج كان مأمورا به لأن الوسائل لها أحكام المقاصد) اهـ من "رسالة الحجاب" (ص: 6) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 رواية الاقتصار على الثياب، وعليها اقتصر أيضَا الإمام أحمد، وقد جاء إطلاق الزينة عليها في قوله تعالى: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) على ما في البحر" (1) اهـ. * قال الشيخ أبو هشام الأنصاري: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ) . وهذه أول آية من الثلاث حسب ترتيب القرآن، يستأنس من بعض الروايات أنها نزلت قبل آية إدناء الجلابيب، بينما يستأنس من بعض الروايات الأخرى أنها نزلت بعدها، وعلى كلا التقديرين لها محمل صحيح فلا تعنينا هذه الناحية من البحث. وهذه الآية تأمر المؤمنات بإخفاء الزينة كلها سواء أردنا بالزينة الزينة الخلقية من الوجه والعينين، والأنف والشفتين، والشعر والخدين، والأذنين والصدغين، وغيرها من جسد المرأة وأعضائها، أو أردنا الزينة المكتسبة، من السوار والخاتم، والخضاب والكحل، والفتخ والقلب، والدملج والقرط، والإكليل والثوب المبرقش وغيرها. إن هذه الآية تأمر بإخفاء هذه الزين كلها لا تستثني منها زينة من زينة (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) ، و (مَا ظَهَرَ مِنْهَا) مبهم لم يفسره الكتاب والسنة بل تركاه على إبهامه، وقام الصحابة والتابعون والعلماء المفسرون برفع هذا الإبهام، ولا شك أنهم لو أجمعوا على شيء لكان فيه غنى وكفاية، ولكان ذلك رافعا للإبهام، والنزاع معا، ولكن شاء الله أن لا يرتفع هذا الإِبهام رحمة بهذه الأمة، فاضطربت أقوالهم وتخالفت، حتى استحقت أن نتركها على حالها ونرجع إلى الله ورسوله، فلما رجعنا إلى الله ورسوله وجدنا الإِبهام باقيا على حاله، وستعرف أن بقاءه خير، ولنبحث الآن عن ناحية أخرى.   (1) "روح المعاني" (8/ 141) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 إن الله تعالى حينما نهى إبداء الزينة أسند الفعل إلى النساء، وجاء به متعديَا، لكنه حينما استثنى لم يقل "إلا ما أظهرن منها"، بل قال: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) فعدل الفعل عن التعدي إلى اللزوم ولم يسنده إلى النساء، ومقتضى هذا أن المرأة مأمورة بإخفاء الزينة مطلقا، وليست مخيرة في إبداء شيء منها، نعم! إنها إذا التزمت بالإخفاء، وتقيدت به، ثم ظهر من تلك الزينة شيء من غير أن تقصر وتفرط في الإخفاء، ومن غير أن تقصد وتتعمد الإِبداء، فإنها لا تعاتب عليه ولا تؤاخذ به عند الله، هذا هو المفهوم من سياق هذه الآية، وهذا الذي يقتضيه نظم الكلام. ومن هنا يعرف أن كل زينة يمكن للمرأة إخفاؤها فهي مأمورة بإخفائها، سواء كان الوجه والكفان أو الكحل والخاتم والسواران، وأنها لو قصرت في إخفاء مثل هذه الزينة، وكشفتها تعمدًا تؤاخذ عليها، وأن كل زينة لا يمكن إخفاؤها- مثل الثياب الظاهرة- أو يمكن إخفاؤها ولكنها انكشفت من غير أن تتعمد المرأة لكشفها أو تشعر بانكشافها، فإنها لا تؤاخذ عليها، ولا تستحق عتابًا ما، كما أنها لا تؤاخذ ولا تعاتب إذا كشفتها عمدا- لأجل حاجة أو مصلحة ألجأتها إلى كشفها، فكأن المرأة لم تباشر ولم تتعمد كشفها، وإنما الحاجة أو المصلحة هي التي كشفتها، فلا عتاب على المرأة، فقوله تعالى: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) في معنى قوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) والحاصل أن الزينة نوعان، نوع يمكن إخفاؤها، فالمرأة مأمورة بإخفاء هذا النوع من الزينة مهما كانت، ونوع لا يمكن إخفاؤها، أو يمكن ولكنها تنكشف من غير أن تتعمد المرأة كشفها، أو تعتري حاجه تلجئ المرأة إلى إبدائهما، فهذا النوع هو المراد بقوله تعالى: (مَا ظَهَرَ مِنْهَا) والمرأة لا تؤاخذ على ظهور هذا النوع من زينتها، ولما كان هذا النوع من الزينة يختلف باختلاف الظروف والحاجات والمصالح، ولا يمكن تحديدها بحد معين لا يقبل الزيادة والنقصان تركها الله ورسوله على إبهامها تيسيرا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 لهذه الأمة واجتنابَا عن التضييق عليها. ويضرب لذلك مثلا بالثياب الظاهرة، أو ما انكشفت من أعضائها لأجل تيار الهواء من غير قصد منها، والنظر إلى المخطوبة قبل النكاح، أو كشف المرأة بعض أعضائها أمام الطبيب لدفع الحرج، أو كشفها للوجه والكفين أمام الشاهد، هذه وأمثالها من الصور، التي تلتجئ المرأة فيها إلى كشف أعضائها التي أمرت بسترها إجماعَا، ولا عتاب عليها في تلك الصور، فإن كل ذلك مما ظهر من زينتها من غير أن تبديها بخيارها. ومن هنا يظهر أن تحديد (مَا ظَهَرَ مِنْهَا) في الوجه والكفين أو الخاتم والسوارين أو الكحل والخضاب وأمثالها لا يصح، بل الصحيح هو تركه على إبهامه وعمومه، وأنه شامل لجميع جسد المرأة حسب الحاجة والظروف، وأن الذين حددوه في مقدار معين فقد وقعوا في التفريط، ولكنهم بجنب هذا التفريط وقعوا في الإفراط، فإنهم أباحوا لها أن تبدي هذا القدر مطلقا، سواء دعت الحاجة إلى كشفها أم لا، مع أن الله لم يخيرهن في إبداء شيء من الزينة، وإنما عفا عنهن ما ظهر منها بنفسها. وإذا تحقق معنى هذه الآية فليكن على ذكر من القارئ الكريم أن قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ) مضارع في معنى النهي، والنهي للتحريم، وإذا وقع النهي بصيغة المضارع يكون آكد في التحريم، فالآية صريحة في أن إبداء الزينة حرام على المرأة، فهي دليل على وجوب الحجاب، وأن الوجه والكفين داخلان فيه. والذين يستدلون بهذه الآية على جواز كشف الوجه والكفين لم أر لهم شيئا يروي الغليل ويشفي العليل، وإنما جل ما يتوكئون عليه هو صرف الآية عن معناها المنصوص إلى غيره مستدلا بقول ابن عباس وأصحابه، وقول ابن عباس يأبى عما ينحلون إليه. وذلك لأن ابن عباس وعدة من أصحابه فسروا إدناء الجلباب بتغطية الوجه، ولم يكن يخفى عليهم أنهم يفسرون أمرا من أوامر الله تعالى، وأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 أمره تعالى للوجوب، وأن الله أوجب ذلك لإقامة التمييز بين الحرة والأمة، فلا يمكن صرفه عن الوجوب إلى الاستحباب، وإلا يفوت الغرض المطلوب والهدف المنشود، فهل يا ترى أنهم تناقضوا أنفسهم فقالوا بوجوب ستر الوجه، وقالوا بجواز كشفها مطلقَا؟ لا، بل يستأنس من قول ابن عباس أنه يرى جواز الكشف لأجِل الضرورة، فقد روى ابن جرير عنه في قوله: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) ؛ قال: والزينة الظاهرة: الوجه، وكحل العين، وخضاب الكف، والخاتم، فهذا تظهره في بيتها لمن دخل من الناس عليها "تفسير ابن جرير" (18/83، 84) . فابن عباس لا يفتي بجواز كشف الوجه واليدين مطلقًا، وإنما يفتي بجواز كشفهما عند من دخل عليها في البيت، ثم المراد بالداخلين في البيت إما أن يكون حق أقاربها من ليس بمحرم لها، مثل أبناء عمها وعمتها وخالها وخالتها ومثل أحمائها، فإن هؤلاء يكثر دخولهم في البيت، فابن عباس يرى في التستر عنهم مشقة وحرجا، ويستنبط جواز كشف الوجه والكفين أمامهم من قوله: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) فكأن المرأة ليست هي التي أبدت الزينة أمامهم بل المشقة هي التي أظهرتها، وإما أن يكون المراد بالداخل في البيت كل من دخل في البيت مطلقَا بعد الإذن، وبالجملة فتقييد الجواز بالبيت يفيد أن ابن عباس يرى اشتغال المرأة بمهنتها في بيتها، من الحوائج التي تبيح لها كشف الوجه أما الأجانب، فهو يرى الجواز في حالة خاصة، وهو ينبئ عن عدم الجواز في عامة الأحوال، فانظر أين قوله هذا من الذين يميلون إلى السفور، ويزعمون أن ابن عباس هو إمامهم في هذا (1) اهـ. * أما العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي فقد قال بعد أن ذكر ما أثر عن السلف في تفسير قوله تعالى: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) :   (1) "مجلة الجامعة السلفية" عدد مايو، يونيو 1978م. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 "وقد رأيت في هذه النقول المذكورة عن السلف أقوال أهل العلم في الزينة الظاهرة والباطنة، وأن جميع ذلك راجع في الجملة إلى ثلاثة أقوال كما ذكرنا: الأول: أن المراد بالزينة ما تتزين به المرأة خارجا عن أصل خلقتها، ولا يستلزم النظر إليها برؤية شيء من بدنها كقول ابن مسعود رضي الله عنه، ومن وافقه: إنها ظاهر الثياب، لأن الثياب زينة لها خارجة عن أصل خلقتها وهى ظاهرة بحكم الاضطرار كما ترى. وهذا القول هو أظهر الأقوال عندنا وأحوطها وأبعدها من الريبة وأسباب الفتنة. القول الثاني: أن المراد بالزينة، ما تتزين به، وليس من أصل خلقتها أيضا، لكن النظر إلى تلك الزينة يستلزم برؤية شيء من بدن المرأة، وذلك كالخضاب والكحل ونحو ذلك، لأن النظر إلى ذلك يستلزم رؤية الموضع الملامس له من البدن كما لا يخفى. القول الثالث: أن المراد بالزينة الظاهرة بعض بدن المرأة الذي هو من أصل خلقتها لقول من قال: إن المراد بما ظهر منها الوجه والكفان- وما تقدم ذكره عن بعض أهل العلم. وإذا عرفت هذا فاعلم؛ أننا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولًا، وتكون في نفس الآية قرينة دالة على عدم صحة ذلك القول (1) ، وقدمنا أيضا في ترجمته أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون الغالب في القرآن إرادة معنى معين في اللفظ، مع تكرر ذلك اللفظ في القرآن، فكون ذلك المعنى هو المراد من اللفظ في الغالب، يدل على أنه هو المراد في محل النزاع، لدلالة غلبة إرادته في القرآن بذلك اللفظ، وذكرنا له بعض الأمثلة في   (1) "أضواء البيان" (1/10 - 12) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 الترجمة (1) وإذا عرفت ذلك فاعلم؛ أن هذين النوعين من أنواع البيان اللذين ذكرناهما في ترجمة هذا الكتاب المبارك ومثلنا لهما بأمثلة متعددة كلاهما موجود في هذه الآية التي نحن بصددها. أما الأول منها: فبيانه أن قول من قال في معنى (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) أن المراد بالزينة: الوجه والكفان مثلَا، توجد في الآية قرينهّ تدل على عدم صحة هذا القول، وهي أن الزينة في لغة العرب، هي ما تتزين به المرأة مما هو خارج عن أصل خلقتها كالحلي والحلل، فتفسير الزينة ببعض بدن المرأة خلاف الظاهر، ولا يجوز الحمل عليه، إلا بدليل يجب الرجوع إليه وبه تعلم أن قول من قال: الزينة الظاهرة: الوجه والكفان خلاف ظاهر معنى لفظ الآية، وذلك قرينة على عدم صحة هذا القول، فلا يجوز الحمل عليه إلا بدليل منفصل يجب الرجوع إليه. وأما نوع البيان الثاني المذكور فإيضاحه: أن لفظ الزينة يكثر تكرره في القرآن العظيم مرادَا به الزينة الخارجة عن أصل المزين بها، ولا يراد بها بعض أجزاء ذلك الشيء المزين بها كقوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) وقوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) وقوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا) وقوله تعالى: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا) وقوله تعالى: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) وقوله تعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) الآية وقوله تعالى: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) الآية وقوله تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الآية، وقوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ) الآية، وقوله تعالى: (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) ، وقوله تعالى عن قوم موسى: (وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ) الآية وقوله   (1) "السابق" (1/ 15- 16) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 تعالى: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) فلفظ الزينة فى هذه الآيات كلها يراد به ما يزين به الشيء وهو ليس من أصل خلقته كما ترى وكون هذا المعنى هو الغالب في لفظ الزينة في القرآن يدل على أن لفظ الزينة في محل النزاع يراد به هذا المعنى، الذي غلبت إرادته في القرآن العظيم، وهو المعروف في كلام العرب كقول الشاعر: يأخذن زينتهن أحسن ما ترى ... وإذا عطِلن فهن خيرُ عواطلِ وبه تعلم أن تفسير الزينة في الآية بالوجه والكفين فيه نظر. وإذا علمت أن المراد بالزينة فى القرآن ما يتزين به مما هو خارج عن أصل الخلقة وأن من فسرها من العلماء بهذا اختلفوا على قولين: فقال بعضهم: هي زينة لا يستلزم النظر إليها رؤية شيء من بدن المرأة كظاهر الثياب، وقال بعضهم: هي زينة يستلزم النظر إليها رؤية موضعها من بدن المرأة كالكحل والخضاب ونحو ذلك. قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين المذكورين عندي قول ابن مسعود رضي الله عنه أن الزينة الظاهرة: هي ما لا يستلزم النظر إليها رؤية شيء من بدن المرأة الأجنبية، وإنما قلنا إن هذا القول هو الأظهر، لأنه هو أحوط الأقوال وأبعدها عن أسباب الفتنة، وأطهرها لقلوب الرجال والنساء، ولا يخفى أن وجه المرأة هو أصل جمالها ورؤيته من أعظم أسباب الافتتان بها كما هو معلوم والجاري على قواعد الشرع الكريم هو تمام المحافظة والابتعاد عن الوقوع فيما لا ينبغي (1) اهـ.   (1) "انظر "أضواء البيان" (6/192 - 202) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 * وقال الشيخ أبو الأعلى المودودي رحمه الله رحمة واسعة: "وأما قوله تعالى: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) فقد جعلت البيانات المختلفة في كتب التفسير مفهوم هذه الآية مغلقا إلى حد عظيم، وإلا فإن هذه الآية واضحة جدا لا خفاء فيها ولا إبهام، فإذا قيل في الجملة الأولى (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) أي: لا يظهرن محاسن ملابسهن وحليهن ووجوههن وأيديهن وسائر أعضاء أجسادهن، استثنى من هذا الحكم العام بكلمة (إلا) في جملة (مَا ظَهَرَ مِنْهَا) أي: ما كان ظاهرا لا يمكن إخفاؤه أو هو ظهر بدون قصد الإِظهار من هذه الزينة، وهذه الجملة تدل على أن النساء لا يجوز لهن أن يتعمدن إظهار هذه الزينة، غير أن ما ظهر منها بدون قصد منهن- كأن يخف الرداء لهبوب الريح وتنكشف بعض الزينة مثلا - أو ما كان ظاهرا بنفسه لا يمكن إخفاؤه، كالرداء التي تجلل به النساء ملابسهن، لأنه لا يمكن إخفاؤه وهو مما يستجلب النظر لكونه على بدن المرأة على كل حال- فلا مؤاخذة عليه من الله تعالى. وهذا هو المعنى الذي بينه عبد الله بن مسعود، والحسن البصري، وابن سيرين، وإبراهيم النخعي لهذه الآية، وعلى العكس من ذلك قال غيرهم من المفسرين: إن معنى مَا ظَهَرَ مِنهَا ما يظهره الإنسان على العادة الجارية، ثم هم يدخلون فيه وجه المرأة وكفيها بكل ما عليها من الزينة، أي أنه يصح عندهم أن تزين المرأة وجهها بالكحل والمسحق والصبغ ويديها بالحناء والخاتم والحلق والأسورة ثم تمشي في الناس كاشفة وجهها وكفيها وهذا المعنى للآية مروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وتلامذته، وإليه ذهبت طائفة كبيرة من فقهاء الحنفية. وأما نحن فنكاد نعجز عن أن نفهم بأي قاعدة من قواعد اللغة يجوز أن يكون معنى (مَا ظَهَرَ) : "ما يظهره الإنسانُ" فإن الفرق بين "أن يظهر الشيء بنفسه" و"أن يظهره الإنسان بقصده" واضح لا يكاد يخفى على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 أحد، والظاهر من الآية أن القرآن ينهى عن إبداء الزينة ويرخص فيما إذا ظهرت من غير قصد، فالتوسع في هذه الرخصة إلى حد "إظهارها عمدا" مخالف للقرآن، ومخالف للروايات التي يثبت بها أن النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ما كن يبرزن إن الأجانب سافرات الوجوه، وأن الأمر بالحجاب كان شاملًا للوجه، وكان النقاب قد جعل جزءًا من لباس النساء إلا في الإِحرام. وأدعى إلى العجب أن هؤلاء الذي يبيحون للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها للأجانب يستدلون على ذلك بأن الوجه والكفين من المرأة ليسا بعورة مع أن الفرق كبير جدًّا بين الحجاب وستر العورة، فالعورة ما لا يجوز كشفه حتى للمحارم من الرجال، وأما الحجاب فهو شيء فوق ستر العورة وهو ما حيل به بين النساء والأجانب من الرجال، وإن موضوع البحث في هذه الآية هو الحجاب لا ستر العورة" (1) اهـ. * وقال الشيخ عبد العزيز بن راشد النجدي رحمه الله: وزينة الوجه هي أكبر الزينة التي نهين عن إبدائها لأجنبي وكشفها، كما أمر الرجال أن يغضوا أبصارهم عنها وعن كل محرم، ولهذا ما أحد ينظر إلى شيء من المرأة قبل وجهها لما جعل الله عليه الناس من تفضيل زينته وحسنه على كل زينة فيها، والله لم يخاطب الناس إلا بما يعقلون بفطرتهم، وما جرت به عادتهم ودلت عليه لغتهم، وليس من المعقول ولا من حكمة الله ولا دينه الذي أنزله رحمة وهداية وصيانة للأعراض والفضائل، وسياجا لها أن يحرم الزنا ووسائله، ويعظم عقوبته، ثم يبيح للنساء أن يكشفن وجوههن بين الرجال الأجانب، ويسفرن بها، ويتبرجن في الطرقات، لا مرية أن هذا أكبر دواعي الزنا وأسبابه، وهتك الأعراض،   (1) "تفسير سورة النور" (ص: 157- 158) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 والضرر بالرجال الذين جبلهم على الميل إلى زينة وجه المرأة وحسنه والمغالاة في المهر لأجله" (1) اهـ محل الغرض منه. * وقال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله: "إن الله تعالى نهى عن إبداء الزينة مطلقا إلا ما ظهر منها، وهي التي لابد أن تظهر كظاهر الثياب، ولذلك قال: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) ، لم يقل: إلا ما أظهرن منها، ثم نهى مرة أخرى عن إبداء الزينة إلا لمن استثناهم فدل هذا على أن الزينة الثانية غير الزينة الأولى، فالزينة الأولى هي الزينة الظاهرة التي تظهر لكل أحد، ولا يمكن إخفاؤها، والزينة الثانية هي الزينة الباطنة التي يتزين بها، ولو كانت هذه الزينة جائزة لكل أحد لم يكن للتعميم في الأولى والاستثناء في الثانية فائدة معلومة. 4- أن الله تعالى يرخص بإبداء الزينة الباطنة للتابعين غير أولى الإربة من الرجال، وهم الخدم الذين لا شهوة لهم، وللطفل الصغير الذي لم يبلغ الشهوة، ولم يطلع على عورات النساء، فدل هذا على أمرين: أحدهما: أن إبداء الزينة الباطنة لا يحل لأحد من الأجانب إلا لهذين الصنفين. الثاني: أن علة الحكم ومداره على خوف الفتنة بالمرأة والتعلق بها، ولا ريب أن الوجه مجمع الحسن وموضع الفتنة، فيكون ستره واجبَا لئلا يفتتن به أولو الإربة من الرجال، (2) اهـ. * وقال الدكتور محمد فؤاد البرازي- حفظه الله-: لو كان المعنى بـ (مَا ظَهَرَ) الوجه والكفين، بمعنى أن العادة فيهما أنهما لا يُستران. بل يبرزان، لكان الملائم مقامًا في التعبير أن يكون: "إلا   (1) "تيسير الوحيين" (1/ 142- 143) . (2) "رسالة الحجاب" (ص: 8- 9) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 الظاهر منها"، وإنما قال النص: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) فأشار إلى حصول ذلك عفوًا، ودون قصد حيث أسند الظهور إلى الشيء، لا إلى فاعله" (1) . وقال أيضًا: ولا نرتاب في أن بعض السلف الذين فسروا: (مَا ظَهَرَ مِنْهَا) بالوجه والكفين يشترطون مع ذلك أمن الفتنة، وإلا فهل يجيز واحد منهم لامرأة كشف وجهها - في مثل هذا الزمان أمام الرجال، وفيهم الفسقة لصوص الأعراض الذين يتشببون بمحاسن النساء، ويذرعون الطرقات بحثَا عنهن، والفتنة في هذا غالبة، إن لم نقل متحققة" (2) اهـ. * وقال الشيخ أبو بكر الجزائري حفظه الله تعالى: قوله تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) الآية، إن دلالة هذه الآية على الحجاب قوية إذ تضمنت الأمر بغض، البصر وحفظ الفرج، فحفظ الفرج لا يتم إلا بغض البصر، وغض البصر لا يتم إلا بالحجاب التام، وتقدم لنا في هذا الباب أن غض البصر يتأتى لأحد الجنسين وكلاهما مأمور به إذا لم يكن هنا اختلاط، أو مع الاختلاط فلا يتأتى، وليس في إمكان أي مؤمن أو مؤمنة أن يطيع ربه في هذا الأمر بحال. ومن هنا كان مدلول كلمة الحجاب ليس هو أن تغطي المرأة محاسنها فحسب، بل مدلوله الحق هو أن يكون هناك حاجب وحاجز يحول دون اختلاط النساء بالرجال والرجال بالنساء، وعندئذ يمكن غض البصر وحفظ الفرج، ولما كان خروج المرأة ضروريا لما يطرأ لها من أمور تستدعي   (1) "حجاب المرأة في الأسلام" ص: 20) - طبعة مجلس إشاعهَ العلوم بالجامعة النظامية - حيدر آباد - الهند. (2) "السابق" (ص: 25) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 خروجها، أذن لها في الخروج ولكن غير مبدية لزينتها بل ساترة لها إلا ما لا يمكن ستره كعين تبصر بها، أو كف تتناول به أو ثياب عليها، وهذا معنى الاستثناء في الآية (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) وبه فسره غير واحد من الصحابة والتابعين ومن بعدهم" (1) اهـ. الدليل الخامس قوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) . وهذا يتضمن أمر النساء بتغطية وجوههن ورقابهن، وبيان ذلك أن المرأة إذا كانت مأمورة بسدل الخمار من رأسها على جيبها لتستر صدرها فهي مأمورة ضمنًا بستر ما بين الرأس والصدر وهما الوجه والرقبة، وإنما لم يُذكر هاهنا للعلم بأن سدل الخمار إلى أن يضرب على الجيب لابد أن يغطيهما. قد يطلق الاختمار لغة على تغطية الوجه قال بعضهم في وصف امرأة بالجمال وهي مخمرة وجهها: قل للمليحة في الخمار المذهب ... أفسدت نسك أخي التقي المذهب نور الخمار ونور خدك تحته ... عجبا لوجهك كيف لم يتلهبَ * قال الألباني: فقد وصفها - يعني المليحة - بأن خمارها كان على وجهها أيضا (2) اهـ. * قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: الخمر التي تغطى الرأس والوجة والعنق، والجلابيب التي تسدل من   (1) "فصل الخطاب في المرأة والحجاب " (ص، 50- 51) . (2) "حجاب المرأة المسلمة" هامش (ص: 33) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 فوق الرؤوس حتى لا يظهر من لابسها إلا العينان (1) اهـ. * وقال الشيخ عبد العزيز بن خلف حفظه الله: قال تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) قد أمر الله تبارك وتعالى المرأة بعدم إبداء شيء من زينتها إلا ما ظهر منها عن غير قصد الفتنة، ثم أراد - جل ذكره - أن يعلمها كيف تحيط مواضع الزينة بلف الخمار الذي تضعه على رأسها فقال: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ) يعني من الرأس وأعالي الوجه (عَلَى جُيُوبِهِنَّ) يعني الصدور حتى تكون بذلك قد حفظت الرأس وما حوى، والصدر وما تحته، وما بين ذلك من الرقبة وما حولها، لتضمن المرأة بذلك ستر الزينة الأصلية والفرعية، فمن استثنى شيئًا من تلك المنطقة المحرمة بنص القرآن العزيز، فعليه الدليل الذي يخصص هذا، ويحدد المستثنى، وهذا غير ممكن قطعًا، لأنه يحتاج إلى نص صريح من القرآن العزيز، أو من السنة المطهرة، وأنَّى لأولئك الذي قد استثنوا الوجه من تلك المنطقة بالأمور الظنية أن يأتوا بالدليل القطعي؟ ويشهد لما قلناه من تحريم خروج الزينة الأصلية والمنقولة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بزوجته صفية، وفعل أمهات المؤمنين، وفعل نساء المؤمنات في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية، وآية الأحزاب، من الستر الكامل بالخمر والجلابيب (2) اهـ.   (1) نقله عنه في "السابق" (ص:) 71. (2) "نظرات في حجاب المرأة المسلمة (ص: 44- 45) ، وقال الشيخ أيضَا: والقاعدة الأساسية في تفسير ألفاظ القرآن العزيز، وتطبيق ما أراده الله منها، فيما يختص بالرجال، مقيد بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله، وما كان من اختصاص النساء. فإن من فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته، لأنهن أعلى مستوى في الاقتداء لنساء المؤمنين إلى يوم القيامة. اهـ، وانظر أيضا كتابه ع: (70-71) ، (77- 79) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 * وقال الشيخ عبد العزيز بن خلف أيضا: "قوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) صريح في إدناء الخمار من الرأس إلى الصدر، لأن الوجه من الرأس الذي يجب تخميره عقلا وشرعًا وعرفا، ولا يوجد أي دليل يدل على إخراج الوجه من مسمى الرأس في لغة العرب، كما لم يأت نص على إخراجه أو استثنائه بمنطوق القرآن والسنة ولا بمفهومهما، واستثناء بعضهم له، ونفيهم بأنه غير مقصود في عموم التخمير مردود بالمفهوم الشرعي واللغوي ومغمور بأقوال بقية علماء السلف والخلف، كما هو مردود بقاعدتين اصطلح عليهما رجال الفقه في السنة. الأولى: أن حجة الأثبات مقدمة على حجة النفي. والثانية: أنه إذا تعارض مبيح وحاظر قدم الحاظر على المبيح. الموضع الثالث: آية الحجاب في سورة الأحزاب فهي صريحة في تخمير الوجه لأنه - عنوان المعرفة". اهـ (1) * وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين: "قوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) فإن الخمار ما تخمر به المرأة رأسها وتغطية بها كالغدقة (2) ، فإذا كانت مأمورة بأن تضرب بالخمار على جيبها كانت مأمورة بستر وجهها إما لأنه من لازم ذلك أو بالقياس، فإنه إذا وجب ستر النحر والصدر كان وجوب ستر الوجه من باب أولى لأنه موضع الجمال والفتنة، فإن الناس الذين يتطلبون جمال الصورة لا يسألون إلا عن الوجه، فإذا كان جميلًا لم ينظروا إلى ما سواه نظرا ذا أهمية، ولذلك إذا قالوا: "فلانة جميلة" لم يفهم من هذا الكلام إلا جمال الوجه،   (1) "نظرات" هامش (ص: 15) . (2) كذا بالأصل! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 فتبين أن الوجه هو موضع الجمال طلبَا وخبرا، فإذا كان كذلك فكيف يفهم أن هذه الشريعة الحكيمة تأمر بستر الصدر والنحر، ثم ترخص في كشف الوجه" اهـ (1) . " وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى: "قال البخاري رحمه الله في "صحيحه": باب "وليضربن بخمرهن على جيوبهن" وقال أحمد بن شبيب: حدثنا أبي، عن يونس، قال ابن شهاب عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) شققن مروطهن فاختمرن بها" (2) . حدثنا أبو نعيم، حدثنا إبراهيم بن نافع، عن الحسن بن مسلم، عن صفية بنت شيبة أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول: "لما نزلت هذه الآية (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن به" اهـ. من صحيح البخارى. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "الفتح" في شرح هذا الحديث: "قوله: (فاختمرن) أي غطين وجوههن، وصفة ذلك أن تضع الخمار على رأسها وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر، وهو التقنع، قال الفراء: كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها وتكشف ما قدامها فأمرن بالاستتار". وقال الحافظ أيضَا في كتاب (الأشربة) في أثناء تعريف الخَمر: ومنه خمار   (1) "رسالة الحجاب" (ص: 7-8) . (2) قال الشيخ محمود بن أحمد العيني في "عمدة القاري" (10/ 92) : (قوله: "نساء المهاجرات" أي: النساء المهاجرات، قوله: "مروطهن" جميع مِرْط بكسر الميم، وهو الإزار، وقوله: "فاختمرن بها" أي: غطين وجوههن بالمروط التي شققنها) اهـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 المرأة لأنه يستر وجهها" اهـ. * قال الشنقيطي رحمه الله في حديث عائشه هذا: "وهذا الحديث الصحيح صريح في أن النساء الصحابيات المذكورات فيه فهمن أن معنى قوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) يقتضي ستر وجوههن، وأنهن شققن أزُرَهن فاختمرن أي سترن وجوههن بها امتثالًا لأمر الله في قوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) المقتضي ستر وجوههن. وبهذا يتحقق المنصف: أن احتجاب المرأة عن الرجال وسترها وجهها عنهم ثابت في السنة الصحيحة المفسرة لكتاب الله تعالى، وقد أثنت عائشة رضي الله عنها على تلك النساء بمسارعتهن لامتثال أوامر الله في كتابه، ومعلوم أنهن ما فهمن ستر الوجوه من قوله: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) إلا من النبي صلى الله عليه وسلم لأنه موجود وهن يسألنه عن كل ما أشكل عليهن في دينهن، والله جل وعلا يقول: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) فلا يمكن أن يفسرنها من تلقاء أنفسهن" اهـ من "أضواء البيان". وقد روي ابن أبي حاتم من حديث صفية بنت شيبة قالت: بينما نحن عند عائشة قالت: فذكرن نساء قريش وفضلهن، فقالت عائشة رضي الله عنها: "إن لنساء قريش لفضلًا، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقا لكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل، لقد أنزلت سورة النور: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مِرطِها المرحل فاعتجرت به تصديقا وإيمانًا بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات (1)   (1) قال محمد بن الحسن: لا يكون الاعتجار إلا مع تنقب، وهو أن يلف بعض = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 كأن على رؤوسهن الغِرْبان" ومعنى معتجرات: مختمرات كما جاء موضحَا في رواية البخاري المذكورة أنفًا، والاعتجار: هو لَف الخمار على الرأس مع تغطية الوجه. قال ابن الأثير: "وفي حديث عُبيد الله بن عدي بن الخيار: جاء وهو معتجر بعمامته ما يَرى وحشي منه إلا عينيه ورجليه، الاعتجار بالعمامة هو أن يلفها على رأسه وَيرُدّ طرَفَها على وجهه ولا يعمل منها شيئًا تحت ذقنه" اهـ. * قال العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى: "فترى عائشة رضي الله عنها مع علمها وفهمها وتقاها أثنت عليهن هذا الثناء العظيم، وصرحت بأنها ما رأت أشدَّ منهن تصديقًا بكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل، وهو دليل واضح على أن فهمهن لزوم ستر الوجوه من قوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) من تصديقهن بكتاب الله وإيمانهن بتنزيله (1) ، وهو صريح في أن احتجاب النساء عن الرجال وسترهن وجوههن تصديق بكتاب الله وإيمان بتنزيله كما ترى. فالعجب كل العجب ممن يدعي من المنتسبين للعلم أنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة ما يدل على ستر المرأة وجهها عن الأجانب، مع أن الصحابيات فعلن ذلك ممتثلات أمر الله في كتابه إيمانا بتنزيله، ومعنى هذا   = العمامة على رأسه، وطرفا منه يجعله شبه المعجر للنساء وهو أن يلفه حول وجهه اهـ. من "المبسوط" (1/ 31) (1) وقال الشيخ أبو هشام الأنصاري: (ومن الطرائف أن بعضهم استدل بقوله (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) على أن الوجه ليس بداخل في الحجاب، لأن الله تعالى لم يأمر فيه بستر الوجه، أقول: نعم إن الله لم يأمر هنا بستره، ولكنه لم يأمر هنا بستر الرأس والعنق والعضدين أيضا، فهل يجوز لهما كشف هذه الأعضاء؟ فما هو جوابكم فهو جوابنا) . اهـ من "مجلة الجامعة السلفية" عدد مايو، ويونيو 1978. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 ثابت في الصحيح كما تقدم عن البخاري، وهذا من أعظم الأدلة وأصرحها في لزوم الحجاب لجميع نساء المسلمين كما ترى" (1) اهـ. الدليل السادس قوله تعالى: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) * وقال الشيخ أبو بكر الجزائري: قوله تعالى: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) إن دلالة هذه الآية على الحجاب الكامل أظهر وأقوى من الآيات السابقة، وذلك لأن إثارة الفتنة بسماع صوت الخلخال في الرجل إذا ضربت المرأة برجلها وهي تمشي أقل بكثير من فتنة النظر إلى وجهها وسماع حديثها، فإذا حرم الله تعالى بهذه الآية على المرأة أن تضرب الأرض برجلها خشية أن يسمع صوت حليها فيفتن به سامعه كان تحريم النظر إلى وجهها- وهو محط محاسنها- أولى وأشد حرمة" (2) اهـ. * وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين: "قوله تعالى: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) يعني: لا تضرب المرأة برجلها فيعلم ما تخفيه من الخلاخيل ونحوها مما تتحلى به للرجل، فإذا كانت المرأة منهية عن الضرب بالأرجل خوفا من افتتان الرجل بما يسمع من صوت خلخالها ونحوه فكيف بكشف الوجه. فأيما أعظم فتنة أن يسمع الرجل خلخالا بقدم المرأة لا يدري ما هي وما جمالها لا يدري أشابة هي أم عجوز، ولا يدري أشوهاء هي أم حسناء، أيما أعظم فتنة هذا أو أن ينظر إلى وجه سافر جميل ممتلئ شبابَا   (1) "أضواء البيان" (6/595) (3) "فصل الخطاب" (ص: 41) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 ونضارة وحسنا وجمالا وتجميلا بما يجلب الفتنة، ويدعوا إلى النظر إليها؟ إنَّ كل إنسان له إربة في النساء ليعلم أي الفتنتين أعظم وأحق بالستر والإِخفاء" (1) . * وقال الشيخ عبد العزيز بن خلف: قوله تعالى: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) يؤخذ من هذا أن الله تعالى حرَّم على المرأة ما يدعو إلى الفتنة، حتى بالحركة والصوت، وهذا غاية في تأديب المسلمة، ومبالغة في حفظ كرامتها، ودفع الشر عنها، فلو كان شيء أخفى من هذا لذكره جل شأنه توجيهَا للمرأة المسلمة وتعليمًا لها، فما أكرمها على الله حيث تمتثل أوامره، وتعمل بأحكامه، وما أنقصها وأفسدها لما وهبها حينما تخالف أمره، ومن هذه النبذة يظهر لنا ملموسًا - كما يظهر للناس جميعًا - أن المرأة حينما تكون متحجبة ساترة لمواضع زينتها، فإن جِبلة الرجل تتوق إلى النظر لأدنى شيء يبدو منها، فهي قد احتفظت بنور يعترفه كل أحد تحت هذه الحجب. بخلاف المرأة السافرة التي قد بذلت مواهبها الأصليه والمكتسبة للناظرين، فكل مبذول ممتهن، وقد نزع الله تعالى منها النور الذي يهبه لمن أطاعه واتقاه، فلو علمت المرأة السافرة والمتبرجة، ومن بذلت نفسها ممتهنة للسوقة والأنذال ما تحت هذا الخمار من النور والكرامة لسارعت إليه، فسبحان من له في خلقه شؤون!. فالله سبحانه وتعالى أدَّب من أطاعه من النساء، ووجههن أكمل توجيه، وعلمهن من العلم النافع ما يكنَّ به عضوا نافعًا في المجتمعات الإنسانية، وأما صالحة كريمة. . .   (1) "رسالة الحجاب" (9 – 10) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 ومن أجل ذلك جاء القرآن العزيز بتوجيهها التوجيه الذي يحبه الله ويرضاه، فبدأها في هذه الآية بأعلى ما فيها وأفضله، وهو الرأس، وختمهما بأسفل ما فيها وأدناه، وهي الأرجل، فيؤخذ من هذا أن المرأة عورة، حرام عليها أن يظهر من بدنها أي شيء يراه الرجال الأجانب منها، حتى ما وضعته على سبيل التجمل، سواء في ذلك ما كان ظاهرًا أو خفيا من الرأس حتى القدم" (1) اهـ. * وقال الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله: قوله تعالى: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) وهذا يدل على أن النساء يجب عليهن أن يسترن أرجلهن أيضا، وإلا استطاعت إحداهن أن تبدي ما تخفي من الزينة، وهي الخلاخيل، ولاستغنت بذلك عن الضرب بالرجل، ولكنها كانت لا تستطيع ذلك، لأنه مخالفة للشرع مكشوفة، ومثل هذه المخالفة لم تكن معهودة في عصر الرسالة، ولذلك كانت إحداهن تحتال بالضرب بالرجل لتُعْلِم الرجال ما تخفي من الزينة، فنهاهن الله عن ذلك" (2) اهـ. ونقل عن ابن حزم رحمه الله قوله بأن هذا نص على أن الرجلين والساقين مما يخفى، ولا يحل إبداؤه. ولا ريب أن الفتنة المتوقعة من كشف الوجه أعظم بكثير وأشد ضراوة من فتنة كشف القدمين أو الضرب بالأرجل، والله أعلم. الدليل السابع قوله تعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ   (1) "نظرات في حجاب المرأة المسلمة" (ص: 45- 47) . (2) "حجاب المرأة المسلمة" (ص 36) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [النور: 60] * قال شيخ المفسرين أبو جعفر بن جرير الطبري - رحمه الله تعالى -: يقول تعالى ذكره: واللواتي قد قعدن عن الولد من الكبر من النساء، فلا يحضن، ولا يلدن، واحدتهن قاعد (اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) يقول: اللاتي قد يئسن من البعولة فلا يطمعن في الأزواج (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) يقول: فليس عليهن حرج، ولا إثم أن يضعن ثيابهن، يعني جلابيبهن، وهي القناع الذي يكون فوق الخمار، والرداء الذي يكون فوق الثياب، لا حرج عليهن أن يضعن ذلك عند المحارم من الرجال، وغير المحارم من الغرباء، غير متبرجات بزينة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) وهي المرأة لا جناح عليها أن تجلس في بيتها بدرع وخمار، وتضع عنها الجلباب، ما لم تتبرج لما يكره الله، وهو قوله: (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) . ثم قال: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) حُدّثتُ عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) : يعني الجلباب، وهو القناع، وهذا للكبيرة التي قعدت عن الولد، فلا يضرها أن لا تتجلبب فوق الخمار، وأما كل امرأة مسلمة حُرَّة، فعليها إذا بلغت المحيض أن تدني الجلباب على الخمار، وقال الله في سورة الأحزاب: (نَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) اهـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 ثم روى بإسناده عن مجاهد قال: (ثِيَابَهُنَّ) : جلابيبهن، وقال ابن زيد: وضع الخمار، وقال ابن مسعود: الجلباب أو الرداء أو الملحفة، إلى أن قال رحمه الله: وقوله: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) يقول: وإن تعففن عن وضع جلابيبهن وأرديتهن، فيلبسنها خير لهن من أن يضعنها، وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل ثم ذكر بسنده عن مجاهد قال: أن يلبسن الجلابيب، وعن الشعبي قال: ترك ذلك، يعني ترك وضع الثياب" (1) اهـ. * وقال الإمام أبو بكر الجصاص رحمه الله تعالى: وقوله تعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) الآية قال ابن مسعود ومجاهد: والقواعد اللاتي لا يرجون نكاحا هي اللاتي لا يردنه، وثيابهن: جلابيبهن، وقال إبراهيم وابن جبير: الرداء، وقال الحسن: الجلباب والمنطق، وعن جابر بن زيد: يضعن الخمار والرداء. قال أبو بكر: لا خلاف في أن شعر العجوز عورة لا يجوز للأجنبي النظر إليه كشعر الشابة، وأنها إن صلت مكشوفة الرأس كانت كالشابة في فساد صلاتها، فغير جائز أن يكون المراد وضع الخمار بحضرة الأجنبي. فإن قيل: إنما أباح الله تعالى لها بهذه الآية أن تضع خمارها في الخلوة بحيث لا يراها أحد، قيل له: فإذا لا معنى لتخصيص القواعد بذلك إذ كان للشابة أن تفعل ذلك في خلوة، وفي ذلك دليل على أنه إنما أباح للعجوز وضع ردائها بين يدي الرجال بعد أن تكون مغطاة الرأس، وأباح لها بذلك كشف وجهها ويدها لأنها لا تشتهي، وقال تعالى: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) فأباح لها وضع الجلباب، وأخبر أن الاستعفاف بأن لا تضع ثيابها أيضًا بين يدي الرجال خير لها" (2) اهـ.   (1) "جامع البيان" (18/ 165- 167) . (2) "أحكام القرآن" (3/ 333- 334) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 * وقال الإمام الفقيه عماد الدين الطبري المعروف بإلكيا الهراس رحمه الله: قوله تعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) الآية: عني به الكبيرة السن، وجوز لها أن تضع الرداء واللحاف أو الخمار، قال ابن عباس: المراد به الجلباب من فوق الخمار، ومعلوم أنه غير مجوز لها أن تكشف من بدنها عورة لأنه إن كان حالة الخلوة بنفسها فالعجوز والشابة سواء، وإن كان بين الناس فالواجب حمله على الجلباب وما فوق الخمار لا نفس الخمار لأن من شأن الجلباب أن يبلغ مع الستر النهاية، ومع الخمار قد ينكشف من رؤوسهن وأعناقهن بعض التكشف، فأبان الله تعالى أن هذا التحرز ليس وجوبه عليهن كوجوبه على الشابات لأنه ليس في النظر إليهن من خوف الافتتان كما في النظر إلى الشابة، ولذلك قال في آخره: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) (1) اهـ. * ونقل الإمام محيي السنة البغوي رحمه الله في تفسيره "القواعد" عن ربيعة الرأي قال: هُنَّ العُجَّز اللاتي إذا رآهن الرجال استقذروهن، فأما من كانت فيها بقيهَ من جمال، وهي محل الشهوة، فلا تدخل في هذه الآية (2) اهـ. * وقال أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي في "تفسيره": "قوله تعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ. . .) الآية، والمراد بالثياب: الثياب الظاهرة كالملحفة والجلباب الذي فوق الخمار (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) غير مظهرات زينة، يريد الزينة الخفية التي أرادها في قوله: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) أو غير قاصدات بالوضع التبرج ولكن التخفف إذا   (1) "تفسير إلكيا الهراس الطبري". (2) "معالم التنزيل". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 احتجن إليه، والاستعفاف من الوضع خير لهن، لما ذكر الجائز عقبه بالمستحب بعثَا منه على اختيار أفضل الأعمال وأحسنها كقوله: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) (1) اهـ. * وقال الإمام ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير الإسكندري المالكي رحمه الله تعَالى: قوله تعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ) الآية: قرر الزمخشري هذه الآية على ظاهرها، ويظهر لي - والله أعلم - أن قوله تعالى: (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) من باب "على لاحب لا يهتدى بمناره" (2) أي: لا منار فيه فيهتدى به، وكذلك المراد هنا: والقواعد من النساء اللاتي لا زينة لهن فيتبرجن بها لأن الكلام فيمن هي بهذه المثابة، وكأن الغرض من ذلك أن هؤلاء استعفافهن عن وضع الثياب خير لهن فما ظنك بذوات الزينة من الثياب؟.   (1) "الكشاف" (3/76) . (2) قال الإمام جمال الدين محمد بن نباته المصري: على لاحب لايهتدى بمناره ... إذا سافه العود النباطي جرجرا يصف قفرا، لا أعلام فيه، وقوله "لا يُهتدى بمناره" يعني ليس فيه منار يهتدى به، لا أن فيه منارا إلا أنه لا يهدي، والعود: الجمل البالغ تمام سنة، وسافه: إذا شمه، وجرجرا: إذا حن، وعادة الإبل أن تشم الأرض التي لا تعرفها، فتحن لعلمها ببعد المسافة اهـ. من "سرح العيون شرح رسالة ابن زيدون" ص: 186. ونظيره قول عبيد بن وهب العبسي، وقيل: زهير: بأرض فضاء لا يسد وصيدها ... عليَّ ومعروفي بها غير منكر أي لا يسد بابها علي، يعني: ليست فيها أبواب حتى تسد، على حد قول الآخر: ولا ترى الضب بها ينجحر. اهـ من "أضواء البيان" (4/42) . ومثله في القرآن الكريم قوله تعالى: (وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ) كأنهم قالوا: ولا تأويل للأحلام الباطلة، فنكون به عالمين. اهـ من "محاسن التأويل" للقاسمي (9/ 3546 - 3547) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 وأبلغ ما في ذلك أنه جعل عدم وضع الثياب في حق القواعد من الاستعفاف إيذانًا بأن وضع الثياب لا مدخل له في العفة، هذا في القواعد فكيف بالكواعب؟ والله أعلم" (1) اهـ. * قال الإِمام البيهقي في "سننه": باب ما جاء في القواعد من النساء: أخبرنا أبو علي الروذباري، أنبأ أبو بكر بن داسه، ثنا أبو داود، ثنا أحمد بن محمد المروزي، ثنا علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ) الآية فنسخ واستثنى من ذلك (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) الآية (2) اهـ. * وقال الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) أي: عند الرجال، ويعني بالثياب: الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار، هذا المراد بالثياب لا جميع الثياب (3) ، (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) أي من غير أن يردن بوضع الحجاب أن تُرى زينتهن، والتبرج: إظهار المرأة محاسنها، (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ) فلا يضعن تلك الثياب (خَيْرٌ لَهُنَّ) . وقال ابن قتيبة: والعرب تقول: امرأة وأضع إذا كبرت فوضعت الخمار، ولا يكون هذا إلا في الهرمة، قال القاضي أبو يعلى: وفي هذه الآية دلالة على أنه يباح للعجوز كشف وجهها ويديها بين يدي الرجال، وأما شعرها فيحرم النظر إليه كشعر الشابة" اهـ.   (1) "الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال" بهامش "الكشاف" (3/ 76) . (2) "السنن الكبرى للبيهقي (7/ 93) . (3) لأنه من باب إطلاق الكل، وإرادة الجزء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 * وقال الرازي في "تفسيره": لا شبهة أنه تعالى لم يأذن في أن يضعن ثيابهن أجمع لما فيه من كشف كل عورة فلذلك قال المفسرون: المراد بالثياب هنا الجلباب والبرد والقناع الذي فوق الخمار، وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ (أن يضعن جلابيبهن) وعن السدي عن شيوخه: أن يضعن خمرهن عن رؤوسهن، وعن بعضهم أنه قرأ (أن يضعن من ثيابهن) وإنما خصهن الله تعالى بذلك لأن التهمة مرتفعة عنهن، وقد بلغن هذا المبلغ، فلو غلب على ظنهن خلاف ذلك لم يحل لهن وضع الثياب، ولذلك قال: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) وإنما جعل ذلك أفضل من حيث هو أبعد من المظنة، وذلك يقتضي أن عند المظنة يلزمهن أن لا يضعن ذلك كما يلزم مثله في الشابة" (1) اهـ. * وقال الإمام أبو عبد الله القرطبي رحمه الله: قوله تعالى: (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) أي: غير مظهرات ولا معترضات بالزينة لينظر إليهن، فإن ذلك من أقبح الأشياء وأبعده عن الحق. والتبرج: التكشف والظهور للعيون، ومنه بروج مشيدة، وبروج السماء والأسوار؛ أي: لا حائل دونها يسترها، وقيل لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين ما تقولين في الخضاب والصباغ والتمائم والقرطين والخلخال وخاتم الذهب ورقاق الثياب؟ فقالت: يا معشر النساء، قصتكن قصة امرأة واحدة أحل الله لكُنَّ الزينة غير متبرجات لمن لا يحل لكن أن يروا منكن مُحرما" (2) (3) اهـ.   (1) "التفسير الكبير" (6/ 307) . (2) رواه ابن أبي حاتم - كذا في "تفسير القرآن العظيم" (6/ 91) . (3) "الجامع لأحكام القرآن" (12/ 309- 311) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 وعن عاصم الأحول قال: كنا ندخل على حفصة بنت سيرين وقد جعلت الجلباب هكذا، وتنقبت به، فنقول لها: رحمك الله، قال الله تعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) : هو الجلباب، قال: فتقول لنا: "أي شيء بعد ذلك؟ " فنقول: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) فتقول: "هو إثبات الحجاب" (1) . * وقال الشيخ إسماعيل حقي رحمه الله تعالى: " (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ) عند الرجال (ثِيَابَهُنَّ) أي: الثياب الظاهرة كالجلباب والإزار فوق الثياب والقناع فوق الخمار" (2) . وقال أيضَا رحمه الله. "اعلم أن العجوز إذا كانت حيث لا تشتهى جاز النظر إليها لأمن الشهوة، وفيه إشارة إلى أن الأمور إذا خرجت عن معرض الفتنة، وسكنت نائرة الآفات سهل الأمر وارتفعت الصعوبة وأبيحت الرخص، ولكن التقوى فوق أمر الفتوى كلما أشار إليه قوله تعالى: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) وفي الحديث: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين، حتى يدع ما لا بأس به حذرَا مما به بأس" (3) .   (9) تقدم تخريجه، وحفصة هي أم الهذيل الأنصارية البصرية التابعية أخت محمد بن سيرين، قال ابن معين: "ثقة حجة"، وقال إياس بن معاوية: "ما أدركت أحدًا أفضله عن حفصة" وذكرها ابن حبان في "الثقات"، وانظر: "تهذيب التهذيب" (12/409 -410) . (2) "روح البيان" (6/ 178) . (3) أخرجه الترمذي (2451) ، وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وابن ماجه (4215) ، والحاكم (4/319) وصححه، ووافقه الذهبي، والبيهقي (5/335) عن عطية السعدي رضي الله عنه مرفوعَا، وفيه عبد الله بن يزيد الدمشقي، قال فيه الجوزجاني: "روى عنه ابن عقيل أحاديث منكرة". انظر: "تهذيب التهذيب" (6/ 82- 83) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 قال ابن سيرين: ما غشيت امرأة قط لا في يقظة ولا في نوم غير أم عبد الله، وإني لأرى المرأة في المنام فأعلم أنها لا تحل لي فأصرف بصري (1) ، قال بعضهم: "ليت عقلي في اليقظة كعقل ابن سيرين في المنام" (2) اهـ. * وقال علامة القصيم عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى: (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ) أي: حرج وإثم (أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) أي: الثياب الظاهرة كالخمار ونحوه الذي قال الله فيه للنساء (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) فهؤلاء يجوز لهن أن يكشفن وجوههن لأمن المحذور منها وعليها. ولما كان نفي الحرج عنهن في وضع الثياب ربما تُوهم منه جواز استعمالها لكل شيء دفع هذا الاحتراز بقوله: (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) أى: غير مظهرات للناس زينة من تجمل بثياب ظاهرة وتستر وجهها، ومن ضرب الأرض ليعلم ما تخفي من زينتها لأن مجرد الزينة على الأنثى ولو مع تسترها ولو كانت لا تشتهى يفتن فيها ويوقع الناظر إليها في الحرج (3) اهـ. * قال العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: "وأظهر الأقوال في قوله: (أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) أنه وضع ما يكون فوق الخمار والقميص من الجلابيب التي تكون فوق الخمار والثياب، فقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) دليل واضح على أن المرأة التي فيها جمال ولها طمع في النكاح لا يرخص لها في وضع شيء من ثيابها ولا الإخلال بشيء من التستر بحضرة الأجانب" (4) اهـ.   (1) ومثله قول بعضهم في مدح عفيف: إن هََم في حُلْم بفاحشة ... زجرته عفته فينتبهُ (2) "روح البيان" (6/ 178) . (3) "تيسير الكريم الرحمن" (5/218) . (4) "أضواء البيان" (6/ 591) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 * وقال العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى: يخبر سبحانه أن القواعد من النساء وهن العجائز اللاتي لا يرجون نكاحًا لا جناح عليهن أن يضعن ثيابهن عن وجوههن وأيديهن إذا كن غير متبرجات بزينة. فعلم بذلك أن المتبرجة بالزينة ليس لها أن تضع ثوبها عن وجهها ويديها وغير ذلك من زينتها، وأن عليها جناحا في ذلك ولو كانت عجوزا، لأن كل ساقطة لها لاقطة (1) ، ولأن التبرج يفضي إلى الفتنة بالمتبرجة ولو كانت عجوزًا فكيف يكون الحال بالشابة والجميلة إذا تبرجت؟ لا شك أن إثمها أعظم والجناح عليها أشد، والفتنة بها أكبر. وشرط سبحانه في حق العجوز أن لا تكون ممن يرجو النكاح، وما ذاك،- والله أعلم- إلا لأن رجاءها النكاح يدعوها إلى التجمل والتبرج طمعًا في الأزواج، فنهيت عن وضع ثيابها عن محاسنها صيانة لها ولغيرها من الفتنة، ثم ختم الآية سبحانه بتحريض القواعد على الاستعفاف وأوضح أنه خير لهن، وإن لم يتبرجن، فظهر بذلك فضل التحجب والتستر بالثياب ولو من العجائز وأنه خير لهن من وضح الثياب فوجب أن يكون التحجب والاستعفاف عن إظهار الزينة خيرًا للشابات من باب أولى، وأبعد لهن عن أسباب الفتنة" (2) اهـ. * وقال التويجري رحمه الله: ومفهوم الآية الكريمة أن من لم تيأس من النكاح بعد وهي التي قد بقي فيها بقية من جمال وشهوة للرجال فليست من القواعد، ولا يجوز لها وضع   (1) وقالوا في هذا المعنى: لكل ساقطة في الحي لاقطة ... وكل كاسدة يومًا لها سوق (2) "رسالة الحجاب والسفور" (ص: 6-8) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 شيء من ثيابها عند الرجال الأجانب، لأن افتتانهم بها وافتتانها بهم غير مأمون" (1) اهـ. ***   (1) "الصارم المشهور على أهل التبرج والسفور" (ص: 63) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 الفصل الثاني الأحاديث النبوية الشريفة المتعلقة بحكم الحجاب وقد جمعتها في ثلاثه أقسام: القسم الأول: أحاديث استنبط منها العلماء وجوب الحجاب على المسلمات عامة. القسم الثاني: أحاديث تبين حجاب أمهات المؤمنين، ومنها أحاديث استنبط منها بعض العلماء ما يفيد عموم الحجاب لسائر المؤمنات. القسم الثالث: أحاديث تفيد مشروعية الحجاب الكامل لسائر نساء الأمة المحمدية، أو تفيد شيوعه فى نساء الصدر الأول، أو تفيد منع الرجال من النظر إلى الأجنبيات، ونبين فيها محاولة بعض العلماء استنباط وجوب الحجاب الكامل لسائر المسلمات من بعض هذه الأحاديث. القسم الأول 1- عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المرْأَةُ عَوَرَة" (1) . * قال الشيخ حمود التويجري حفظه الله: "وهذا الحديث دال على أن جميع أجزاء المرأة عورة في حق الرجال الأجانب، وسواء في ذلك وجهها وغيره من أعضائها، وقد نقل أبو طالب عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه قال: ظُفر المرأة عورة، فإذا خرجت من بيتها فلا تُبِنْ منها شيئَا ولا خُفَّها، فإن الخُفَّ يصفُ القدم،   (1) تقدم تخريجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 وأحبُّ إلي أن تجعل لكمها زرا عند يدها حتى لا يبين منها شيء" اهـ. وقد تقدم ذكر ما نقله شيخ الإِسلام ابن تيميه عن الإمام أحمد أنه قال: كل شيء منها عورة حتى ظفرها، قال شيخ الإسلام: "وهو قول مالك" (1) اهـ. عن أبي الأحوص عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها" (2) . * قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: وقد ذكر هذا الحديث صاحب مجمع الزوائد، وقال: رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثقون، وهذا الحديث يعتضد بجميع ما ذكرنا من الأدلة، وما جاء فيه من كون المرأة عورة: يدل على الحجاب للزوم ستر كل ما يصدق عليه اسم العورة، ومما يؤيد ذلك: الهيثمي أيضا في مجمع الزوائد عن ابن مسعود قال: "إنما النساء عودة، وإن المرأة لتخرج عن بيتها وما بها من بأس فيستشرفها الشيطان فيقول: "إنك لا تمرين بأحد إلا أعجبته، وإن المرأة لتلبس ثيابهما فيقال: أين تريدين؟ فتقول: أعود مريضًا أو أشهد جنازة أو أصلي في مسجد، وما عبدت امرأة ربها مثل أن تعبده في بيتها" ثم قال: رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات اهـ منه ومثله له حكم الرفع إذ لا مجال للرأي فيه (3) . 2- عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَنْتقِب المرأةُ المحرِمَةُ، ولا تَلْبَسُ القُفازَينِ" (4) .   (1) "الصارم المشهور" (ص: 96) ، "الرد القوي" (ص: 245) . (2) تقدم تخريجه. (3) "أضواء البيان" (6/ 596) . (4) أخرجه البخاري (4/63) رقم (1838) في جزاء الصيد: باب ما ينهى من = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 * قال الشيخ أبو هشام عبد الله الأنصاري: هذا الحديث أحسن دليل على ما وقع من التغير والتطور في ألبسة النساء بعد نزول الحجاب والأمر بإدناء الجلباب، وأن النقاب كان قد صار من ألبسة النساء بحيث لم يَكُنَّ يخرجن إلا به، وليس معنى النهي عن الانتقاب للمحرمة أنها لا تستر وجهها،. . .، وإنما المراد أنها لا تتخذ النقاب لباسا على حدة من ألبستها، وإنما تستر وجهها بجزء من لباسها" (1) اهـ. * قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله: والمسألة الرابعة عشرة: قوله في حديث ابن عمر: "ولا تَنَتقِب الَمرأةُ" وذلك لأن سترها وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج، فإنها ترخي شيئًا من خمارها على وجهها غير لاصق به، وتعرض عن الرجال، ويعرضون عنها" (2) اهـ. * وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله: وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يُحْرِمْنَ وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن (3) . وقال شيخ الإسلام أيضًا: ووجه المرأة في الإِحرام فيه قولان في مذهب   = الطيب للمحرم والمحرمة، والموطأ (1/ 324) في الحج: باب ما ينهى عنه من لبس الثياب في الإِحرام والترمذي رقم (833) في الحج: باب ما جاء فيما لا يجوز للمحرم لبسه، وقال: "حسن صحيح"، وأبو داود رقم (1825، 1826) في المناسك: باب ما يلبس المحرم، والنسائي (5/ 135) في الحج، باب النهي أن تلبس المحرمة القفازين، والإمام أحمد (2/ 119) . (1) "إبراز الحق والصواب في مسألة السفور والحجاب" - الحلقة الخامسة - مجلة الجامعة السلفيه. (2) "عارضة الأحوذي" (4/ 56) . (3) "مجموع الفتاوى" (15/370 – 37) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 أحمد وغيره، قيل: إنه كرأس الرجل فلا يغطى، وقيل: إنه كبدنه فلا يغطى بالنقاب والبُرْقُع ونحو ذلك مما صنع على قدره؛ وهذا هو الصحيح فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه إلا عن القفازين والنقاب. وكن النساء يدنين على وجوههن ما يسترها من الرجال من غير وضع ما يجافيها عن الوجه، فعلم أن وجهها كبدن الرجل، وذلك أن المرأة كلها عورة، فلها أن تغطي وجهها ويديها (1) لكن بغير اللباس المصنوع بقدر العضو، كما أن الرجل لا يلبس السراويل ويلبس الإِزار" (2) اهـ. * وقال الإمام العلامة المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في "تهذيب السَنن": "وأما نهيه صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما المرأة أن تنتقب وأن تلبس القفازين فهو دليل على أن وجه المرأة كبدن الرجل لا كرأسه، فيحرم عليها فيه ما وضع وفُصِّل على قدر الوجه كالنقاب والبرقع ولا يحرم عليها ستره بالمِقْنَعة والجِلباب ونحوهما، وهذا أصح القولين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سوى بين وجهها ويديها، ومنعها من القفازين والنقاب، ومعلوم أنه لا يحرم عليها ستر يديها وأنهما كبدن المحرم يحرم سترهما بالمفصَّل على قدرهما وهما القفازان، فهكذا الوجه إنما يحرم ستره بالنقاب ونحوه، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم حرف واحد، في وجوب كشف المرأة وجهها عند الإحرام إلا النهي عن النقاب، وهو كالنهي عن القفازين، فنسبة النقاب إلى الوجه كنسبة القفازين إلى اليد سواء، وهذا واضح بحمد الله" (3) اهـ. وفال أيضًا في "إعلام الموقعين" في نفس الحديث: "ونساؤه صلى الله عليه وسلم أعلم الأمة بهذه المسألة، وقد كن يَسْدُلن على وجوههن   (1) يعني في حال الإحرام. (2) "مجموع الفتاوى" (20/ 120) . (3) "تهذيب سنن أبي داود" (5/ 282- 283) بهامش "عون المعبود". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 إذا حاذاهن الركبان فإذا جاوزوهن كشفن وجوههن - ورَوى وكيع، عن شعبة، عن يزيدَ الرِّشْك، عن معاذة العدوية قالت: سألتُ عائشة رضي الله عنها ما تلبسُ المحرمة؟ فقالت: لا تنتقب ولا تتلثم وتسدل الثوبَ على وجهها" (1) . ثم ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى قول الذين يمنعون المحرمة من تغطية وجهها ورد عليهم إلى أن قال: فكيف يحرم ستر الوجه في حق المرأة مع أمر الله لها أن تدني عليها جلبابها، لئلا تُعرف ويفْتَتَن بصورتها" (2) اهـ. وذكر الإمام ابن القيم أيضا في "بدائع الفوائد" سؤالَا في كشف المرأة وجهها في حال الإِحرام وجوابا لابن عقيل في ذلك، ثم تعقبه بالرد فقال: سبب هذا السؤال والجواب خفاءُ بعض ما جاءت به السنة في حق المرأة في الإِحرام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لها كشف الوجه في الإحرام ولا غيره، وإنما جاء النصُّ بالنهي عن النقاب خاصة، كما جاء بالنهي عن القفازين، وجاء بالنهي عن القميص والسراويل. ومعلوم أن نهيه عن لبس هذه الأشياء، لم يُرِد أنها تكون مكشوفة لا تستر ألبتة بل قد أجمع الناسُ على أن المحرمة تستر بدنها بقميصها ودِرْعها، وأن الرجل يستر بدنه بالرداء وأسافله بالإِزار، مع أن مخرج النهي عن النقاب والقفازين والقميص والسراويل واحد، وكيف يُزاد على موجَب النص ويُفهم منه أنه شرع لها كشف وجهها بين الملا جهارًا؟ فأي نص اقتضى هذا أو مفهومِ أو عموم أو قياس أو مصلحة؟   (1) وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "تلبس المحرمة من الثياب ما شاءت إلا ثوبَا مسه زعفران أو ورس، ولا تتبرقع، ولا تتلثم، وتسدل الثوب على وجهها إن شاءت ". رواه البيهقي (5/ 47) ، وغيره، انظر: "مسائل الإمام أحمد" لأبي داود (ص: 108-110) . (2) انظر: "إعلام الموقعين عن رب العالمين" (1/ 222 -223، 276) ، "بدائع الفوائد" (3/ 141-143) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 بل وجه المرأة كبدن الرجل، يحرم ستره بالمفصل على قدره كالنقاب والبُرقع، بل وكيدها يحرم سترها بالمفصل على قدر اليدين كالقُفَّاز، وأما سترها بالكم وستر الوجه بالملاءة والخمار والثوب فلم يُنْه عنه البتة، ومن قال: إن وجهها كرأس المحرم فليس معه بذلك نص ولا عموم، ولا يصح قياسه على رأس المحرِم، لما جعل الله بينهما من الفرق. وقول من قال من السلف: "إحرام المرأة في وجهها"، إنما أراد به هذا المعنى، أي لا يلزمها اجتناب اللباس كما يَلزم الرجل، بل يلزمها اجتناب النقاب، فيكون وجهها كبدن الرجل. ولو قدر أنه أراد وجوبَ كشفه فقوله ليس بحجة ما لم يثبت عن صاحب الشرع أنه قال ذلك وأراد به وجوب كشف الوجه ولا سبيل إلى واحد من الأمرين. وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "كنا إذا مَرَّ بنا الركبان سدلت إحدانا الجلباب على وجهها"، ولم تكن إحداهن تتخذ عودا تجعله بين وجهها وبين الجلباب" (1) ، كما قاله بعض الفقهاء، ولا يُعْرَفْ هذا عن امرأة من نساء الصحابة ولا أمهات المؤمنين البتة، لا عملا ولا فتوى، ومستحيل أن يكون هذا من شعار الإِحرام، ولا يكونَ ظاهرًا مشهورًا بينهن يعرفه الخاص والعام. ومن آثر الإِنصاف، وسلك سبيل العلم والعدل، تبين له راجح المذهب من مرجوحها، وفاسدها من صحيحها، والله الموفق والهادي" (2) اهـ. * ونقل الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" عن ابن المنذر أنه قال: أجمعوا على أن المرأة المحرمة تلبس المخيطَ كله والخِفافَ، وأن لها أن تغطي رأسها وتستُر شعرها إلا وجهها، فتسدل عليه الثوب سدلًا خفيفا تستتر به عن نظر الرجال الأجانب، ولا تخمره، إلا ما روي عن فاطمة   (1) انظر: "نيل الأوطار" (5/ 71) . (2) "بدائع الفوائد" (3/ 174- 175) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 بنت المنذر قالت: " كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها تعني جدتها " قال: ويحتمل أن يكون ذلك التخمير سدلا، كما جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بنا ركب سدلنا الثوب على وجوهنا ونحن محرمات فإذا جاوزونا رفعناه" (1) اهـ. * قال العلامة الصنعاني في حاشيته على "شرح العمدة" بعد ما ذكر الحديث "لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين". قال: قوله: بوجهها وكفيها، أقول: فلا يُلبس ما فصل وقطع وخيط لأجل الوجه كالنقاب، ولأجل اليدين كالقفازين، لا لأن المراد أنها لا تغطي وجهها وكفيها كما توهم، فإنه يجب سترهما، لكن بغير النقاب والقفازين" (2) اهـ. 3- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جَر ثَوبَه خُيلاَءَ لم يَنظر الله إليه يوم القِيامَةِ" فقالتْ أمُّ سَلَمة رضي الله عنها: فكيف يَصْنَعُ النسَاء بذُيولهن؟ قال: "يُرخِينَ شبرَا" فقالت: "إذًا تنكَشِف أقَدامهن " قال: "فيرخينَه ذِرَاعا لا يزِدن عليه" (3) . وقال الترمذي: وفي الحديث رخصة للنساء في جَرِّ الإزار لأنه يكون أستَرَ لهن". وقال البيهقي: في هذا دليل على وجوب ستر قدميها. وفي رواية لأحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم   (1) "فتح الباري" (3/475) ، وانظر ص 319 الحاشية رقم (1) . (2) "العدة شرح العمدة بحاشية الصنعاني" (3/ 476) . (3) رواه أبو داود رقم (4117) ، والترمذي (4/ 223) ، والنسائي (8/209) ، والإمام أحمد (2/ 5، 55) وعبد الرزاق (11/ 82) ، وأبو عوانة (5/ 482) ، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 رخص للنساء أن يُرْخين شبرًا، فقلن: يا رسول الله إذًا تنكشف أقدامُنا، فقال: "ذِرَاعا ولا يَزِدنَ عليه" (1) . ْوفي رواية له أخرى عن ابن عمر رضي الله عنهما أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم سألنه عن الذيل، فقال: "اجعلنَه شِبرَا" فقلن: شبرا لا يَسْتُرُ من عَورَةِ، فقال: "اجعلْنَه ذرَاعَا" فكانت إحداهن إذا أرادت أن تتخذ درعا أرخت ذراعَا فجعلته ذيلا (2) . * قال التويجري: وفي هذا الحديث والحديثين بعده دليل على أن المرأة كلها عورة في حق الرجال الأجانب، ولهذا لما رخص النبي صلى الله عليه وسلم للنساء في إِرخاء ذيولهن شبرًا، قلن له: إنَ شبرا لا يستر من عورة، والعورة ها هنا القدم، كما هو واضح من باقي الروايات عن ابن عمر وأم سلمة رضي الله عنهم. وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم النساء على جعل القدمين من العورة وإذا كان الأمر هكذا القدمين فكيف بما فوقهما من سائر أجزاء البدن ولا سيما الوجه الذي هو مجمع محاسن المرأة؟ وأعظم عا يَفْتَتِنُ به الرجال ويتنافسون في تحصيله إن كان حسنا. ومن المعلوم أن العشق الذي أضنى كثيرا من الناس وقتل كثيرا منهم إنما كان بالنظر إلى الوجوه الحسنة، لا إلى الأقدام وأطراف الأيدي ولا إلى الحلي والثياب، وإذا كان قدم المرأة عورة يجب سترها، فوجهُها أولى أن يُسْتَر والله أعلم (3) .   (1) انظر: سنن النسائي (8/209) ، وابن ماجه (3580) ، وأحمد (6/293، 309) ، وابن أبي شيبة (8/ 220) ، والدارمي (2647) ، وابن حبان (1451 - موارد) ، والطبراني في "الكبير" (23/358، 384، 416، 417) .   (2) "المسند" (2/90) . (3) "الصارم المشهور" (ص: 97 – 98) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 * وقال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله: هذا الحديث دليل على وجوب ستر قدم المرأة، وأنه أمر معلوم عند نساء الصحابة رضي الله عنهم، والقدم أقل فتنة من الوجه والكفين بلا ريب، فالتنبيه بالأدنى تنبيه على ما فوقه، وما هو أولى منه بالحكم، وحكمة الشرع تأبى أن يجب ستر ما هو أقل فتنة، ويرخص في كشف ما هو أعظم منه فتنة، فإن هذا من التناقض المستحيل على حكمة الله وشرعه (1) اهـ. 4- عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والدخولَ على النساءِ" فقال رجل من الأنصَارِ: "يا رسُولَ الله! أفرأيتَ الحَمُو؟ "، قال: "الحَمُو الموتُ" (2) . * قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: فهذا الحديث الصحيح صرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالتحذير الشديد من الدخول على النساء فهو دليل واضح على منع الدخول عليهن وسؤالهن متاعًا إلا من وراء حجاب، ِ لأن من سألها متاعَا لا من وراء حجاب فقد دخل عليها، والنبي صلى الله عليه وسلم حذّره من الدخول عليها، ولما سأله الأنصاري عن الحمو الذي هو قريب الزوج الذي ليس محرمَا لزوجته كأخيه وابن أخيه وعمه وابن عمه ونحو ذلك - قال له صلى الله عليه وسلم: "الحَمو الموتُ" فسمى صلى الله عليه وسلم دخول قريب الرجل على امرأته وهو غير محرم لها باسم الموت، ولا شك أن تلك العبارة هي أبلغ عبارات التحذير، لأن الموت هو أفظع حادث يأتي على الإنسان في الدنيا، كما قال الشاعر:   (1) "الحجاب" (ص: 18) . (2) رواه البخاري (9/242) في النكاح: باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، والدخول على المغيبة، ومسلم رقم (2172) في السلام: باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها، والترمذي رقم (1171) في الرضاع: باب ما جاء في كراهية الدخول على المغيبات، والإمام أحمد (4/ 149، 153) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 والموت أعظم حادث ... مما يمر على الجبلة والجبلة: الخلق - ومنه قوله تعالى: (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء: 184] فتحذيره صلى الله عليه وسلم هذا التحذير البالغ من دخول الرجال على النساء، وتعبيره عن دخول القريب على زوجة قريبه باسم الموت، دليل صحيح نبوي على أن قوله تعالى: (فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) عام في جميع النساء كما ترى، إذ لو كان حكمه خاصا بأزواجه صلى الله عليه وسلم، لما حذَّر الرجال هذا التحذير البالغ العام من الدخول على النساء. وظاهر الحديث التحذير من الدخول عليهن ولو لم تحصل الخلوة بينهما، وهو كذلك، فالدخول عليهن والخلوة بهن كلاهما محرم تحريمًا شديدا بانفراده، كما قدمنا أن مسلما رحمه الله أخرج هذا الحديث في باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها فدل على أن كليهما حرام" (1) اهـ. * وقال ابن حجر في "فتح الباري" في شرح الحديث المذكور: إياكم والدخولَ بالنصب على التحذير، وهو تنبيه المخاطب على محذور ليتحذر عنه كما قيل: إياك والأسد، وقوله: إياكم، مفعول لفعل مضمر تقديره: اتقوا. وتقدير الكلام: اتقوا أنفسكم أن تدخلوا على النساء، والنساء أن يدخلن عليكم، ووقع في رواية ابن وهب بلفظ: لا تدخلوا على النساء، وتضمن منع الدخول منعَ الخلوة بها بطريق الأولى" (2) اهـ. * وقال الشيخ عبد القادر السندي: الحديث فيه دلالة واضحة على أنه لا يجوز دخول الأجنبي على   (1) "أضواء البيان" (6/ 592 - 593) . (2) "فتح الباري" (9/ 242) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 الأجنبية، وكذا قريب الزوج من أخ وعم ونحو ذلك، وفي رواية لمسلم في "الصحيح" عن أبي الطاهر عن ابن وهب قال: سمعت الليث يقول: "الحمو أخو الزوج وما أشبه من أقارب الزوج وابن العم ونحوه"، وفي الحديث تغليظ شديد وتنبيه خطير من الدخول على النساء. * وقال الإمام ابن الأثير في "النهاية": لا يخلون رجل بأجنبية، وإن قيل حموها، ألا حموها الموت، أحد الأحماء أقارب الزوج، والمعنى فيه: أنه إذا كان رأيه في أخي الزوج وما شابهه وهو قريب فكيف بالغريب؟ أي: فلتمت، ولا تفعل ذلك، وهذه الكلمة تقولها العرب كما تقول الأسد: الموت، والسلطان: النار، أي لقاؤهما مثل الموت والنار، يعني أن خلوة ابن عم الزوج معها أشد من خلوة غيرها من الغرباء لأنه ربما حَسَّنَ لها أشياء، وحملها على أمور تثقل على الزوج من التماس ما ليس في وسعه أو سوء عشرة أو غير ذلك". قلت: إذا كان الوجه والكفان ليستا من العورة والزينة وجاز كشفهما أمام الأجانب فلماذا هذا التشديد في هذه الأحاديث الصحيحة، ولماذا هذا التناقض بين تلك الأحاديث وقد سبق أن قلت: إن تلك الأحاديث غير صحيحة فلا يجوز أن يقال إنها متعارضة مع هذه الأحاديث الصحيحة التي فيها التغليظ الشديد والتحريم الموثق، فلو كانت تلك الأحاديث والآثار التي يستدل بها بعض الناس على جواز كشف الوجه والكفين صحيحة الإسناد لكانت شاذة غير محفوظة في أنظار أهل الحديث، فكيف وهي ضعيفة منكرة، فلا يحتج بها بحال من الأحوال فلا ينبغي أن يقال بعد هذا النقل إن الوجه والكفين ليستا من العورة والزينة استنادًا على قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الذي سبق بيانه من ناحية الإسناد" (1) اهـ.   (1) "رسالة الحجاب" (ص: 33 - 35) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 * وقال البوطي: فلولا أن المرأة بمجموعها عورة بالنسبة للأجانب من الرجال، لما أطلق النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن دخولهم عليهن إذا النهي يشمل مختلف ما عليه المرأة من حالات، وما دامت بادية الوجه كما هو شأن كل امرأة في بيتها، ولقد انسحب الحكم كما نرى حتى على أخي الزوج فلا يجوز له هو الآخر أن يدخل على امرأة أخيه، ولو كان الوجه غير عورة لاستثنى - تسهيلَا للأحماء - أن تكون المرأة ساترة لما عدا الوجه والكفين من أجزاء جسمها" (1) اهـ. 5- عن عائشة رضي الله عنها: أن أفلح أخا أبي القعَيس جاء يستأذن عليها، وهو عمها من الرضاعة بعد أن نزل الحجاب، قالت: "فَأبَيْتُ أن آذنَ له، فلما جَاءَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أخبرتُه بالذي صَنَعْتُ، فأمرني أن آذنَ له" (2) . وفي رواية أنه قال لها: "أتحتجبين مني، وأنا عمك؟ ". وفي ثالثة: فقلت: لا آذن له حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أخا أبا القعيس ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس". ورواية: "وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة". وقال عروة: فبذلك كانت عائشة تقول: حَرموا من الرضاع ما يحرم   (1) "إلى كل فتاة تؤمن بالله" (ص: 40- 41) . (2) هي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: "ائذني له، فإنه عمك، تربت يمينك" وفي رواية: "صدق وأفلح، ائذني له". والحديث رواه البخاري (8/ 392) كتاب التفسير: باب إن تبدوا شيئا أو تخفوه. . . وفي الشهادات، وفي النكاح، ومسلم رقم (1444) في الرضاع: باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة، والموطأ (2/601، 602) في الرضاع: باب رضاعة الصغير، والترمذي رقم (1147) في الرضاع، وأبو داود رقم (2055) في النكاح، والنسائي (6/ 99) في النكاح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 من النسب"، وفي رواية مسلم: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحتَجِبِي منه، فإنه يحَرُمُ من الرضَاعِ ما يحَرُمُ من النسَبِ". * قال الحافظ ابن حجر في فوائد هذا الحديث: "وفيه وجوب احتجاب المرأة من الرجال الأجانب" (1) اهـ. والشاهد فيه واضح، وهو أن الحافظ عمم حكم الوجوب على سائر النساء. 6- عن الزهري عن نبهان مولى أم سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كانَ لإحداكن مَكُاتب، وكانَ عندَه ما يؤدّي، فلتَحتَجِب منه" (2) . * قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: "وجه الدلالة من هذا الحديث - يعني على وجوب الحجاب - أنه يقتضي أنَّ كشف السيدة وجهها لعبدها جائز ما دام في ملكها، فإذا خرج منه، وجب عليها الاحتجاب لأنه صار أجنبيا، فدل على وجوب احتجاب المرأة عن الرجل الأجنبى" (3) اهـ. وروى الطحاوي بإسناده عن ابن شهاب أن نبهان مولى أم سلمة حدثه   (1) "فتح الباري " (9/ 56) . (2) أخرجه أبو داود (4/ 21) رقم (3928) ، والترمذي رقم (1261) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح، ومعنى هذا الحديث عند أهل العلم على التورع، وقالوا: لا يعتق المكاتب، وإن كان عنده ما يؤدي حتى يؤدي اهـ. وأخرجه وابن ماجه (2520) ، والحاكم (2/ 219) ، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وابن حبان (1412) ، والبيهقي (10/ 327) ، وأشار إلى جهالة نبهان، ثم قال: قال الشافعي: لم أر من رضيت من أهل العلم يثبت هذا الحديث. اهـ، والإمام أحمد (6/289، 308، 311) ، وانظر الكلام في نبهان مولى أم سلمة (ص: 346) . (3) "رسالة الحجاب" (ص: 19) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 أنه بينا هو يسير مع أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في طريق مكة، وقد بقي من كتابته ألفا درهم، قال: فكنت كلما أدخل عليها وأراها، فقالت: وهي تسير: "ماذا بقي عليك من كتابتك يا نبهان؟ "، قلت: "ألفا درهم"، قالت: "فهما عندك؟ "، فقلت: "نعم"، فقالت: "ادفع ما بقي عليك من كتابك إلى محمد بن عبد الله بن أمية، فإني قد أعنته بها في نكاحه، وعليك السلام"، ثم ألقت دوني الحجاب فبكيت، وقلت: "والله لا أعطيه إياها أبدًا"، قالت: "إنك والله يا بني لن تراني أبدًا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا أنا إذا كان عند مُكاتب إحداكن وفاء بما بقي عليه من كتابته؛ فاضربوا دونه حجاب". ثم قال الطحاوي رحمه الله: ومما يستخرج من هذا الحديث من الأحكام مما يدخل فيه مع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مَن سواهن من الناس. . . إلخ" (1) اهـ. وعن سليمان بن يسار قال: استأذنت على عائشة رضي الله عنها، فقالت: من هذا؟ فقلت: سليمان، قالت: كم بقي عليك من مكاتبتك؟ قال: قلت: عشر أواق، قالت: ادخل فإنك عبد ما بقي عليك درهم (2) . ***   (1) "مشكل الآثار" (1/ 121) . (2) رواه البيهقى (7/ 95) ، وصححه الألباني في إرواء الغليل" (6/183) وقال البيهقي عقبه: "وروينا عن القاسم بن محمد أنه قال: إن كانت أمهات المؤمنين يكون لبعضهن المكاتب، فتكشف له الحجاب ما بقي عليه درهم، فإذا قضى أرخته دونه". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 القسم الثاني حجاب أمهات المؤمنين انعقد الإجماع على وجوب الحجاب الكامل في حق أمهات المؤمنين، وذلك أمتثالَا لأمر الله تعالى في آية الحجاب، وبيت الأحاديث ذلك، وهاك بعضا منها: 1- عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك قالت: "فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني، فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش، فأدلج، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني، فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه (1) حين عرفني، فخمرت. (وفي رواية: فسترت وجهي عنه بجلبابي" (2) الحديث.   (1) تعني قوله: "إنا لله، وإنا إليه راجعون". (2) جزء من حديث الإفك الطويل، رواه البخاري (5/ 320) في الشهادات، والجهاد، والمغازي، وفي تفسير سورة يوسف، والنور، والإيمان والنذور، والاعتصام، والتوحيد، ومسلم رقم (2770) في التوبة: باب حديث الإفك، والترمذي رقم (3179) في التفسير: سورة النور، والنسائي (1/ 163 - 164) في الطهارة باب بدء التيمم، وما خمرت الصديقة بنت الصديق وجهها إلا لأنه عورة وزينة ينبغي إخفاؤها. قال الشيخ عبد العزيز بن خلف رحمه الله: (وهذا أيضًا من أدلة الوجوب لتخميرها وجهها بالجلباب، لأنه لم يرد أن ستره خاص بهن بأي لفظ في القرآن ولا في السنة، ولأن الحجاب غير الإِدناء، وهو ظاهر) اهـ من (نظرات في حجاب المرأة المسلمة" (ص: 96) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 2- وعن عكرمة قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول، وقد بلغه أن - عائشة رضي الله عنها احتجبت من الحسين بن علي رضي الله عنهما. . .، فقال: "إن رؤيته لها لحل". وعن عمر بن دينار عن أبي جعفر قال: كان الحسن والحسين لا يريان أمهات المؤمنين. .، فقال ابن عباس: "إن رؤيتهما لهن تَحِلُّ" (1) . 3- وعن يزيد بن بابنوس قال: ذهبت أنا وصاحب لي إلى عائشة رضي الله عنها فاستأذنا عليها، فألقت إلينا وسادة، وجذبت إليها الحجاب، فقال صاحبي: ما تقولين في العراك. . . الحديث. 4- وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: قلت لعائشة: إنما فاقنا عروة (2) بدخوله عليكِ كما أراد، قالت: "وأنت إذا أردت فاجلس من وراء حجاب فسلني عما أحببت، فإنا لم نجد أحدً بعد النبي صلى الله عليه وسلم أولى لنا من أبيك. . . " الحديث (3) . والشاهد منه قولها رضي الله عنها: "فاجلس من وراء حجاب" امتثالا لقوله تعالى: (فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) . 5- عن صفية بنت شيبة قالت: حدثتنا أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت: "يا رسول الله! يرجع الناس بِنُسُكَين، وأرجع بنسك واحد؟ "، فأمر بي أخي عبد الرحمن فأعمرني من التنعيم، وأردفني خلفه على البعير في ليلة حارة، فجعلت أحسر عن خماري، فتناولني بشيء في يده، فقلت: "هل ترى من أحد؟ (4) .   (1) "الطبقات الكبرى" (8/ 178) ، وانظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/ 232) (2) عروة هو: ابن الزبير، وأمه أسماء بنت أبي بكر، فعائشة رضي الله عنها خالته، ولهذا كان يدخل عليها. (3) الطبقات الكبرى" (8/ 211) . (4) رواه الطيالسي في "مسنده". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 6- عن أم سنان الأسلمية قالت: لما نزلنا المدينة لم ندخل حتى دخلنا مع صفية منزلها، وسمع بها نساء المهاجرين والأنصار، فدخلن، فرأيت أربعًا من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم منتقبات: زينب بنت جحش، وحفصة، وعائشة، وجويرية. . . الحديث (1) . 7- وعن أم معبد بنت خليف قالت: رأيت عثمان وعبد الرحمن في خلافة عمر حجَّا بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، فرأيت على هوادجهن الطيالسة الخضر، وهن حجرة من الناس، يسير أمامهن ابن عفان على راحلته، يصيح إذا دنا منهن أحد: "إليك، إليك"، وابن عوف من ورائهن يفعل مثل ذلك، فنزلن بقرية قريبًا من منزلي، اعتزلن الناس، وقد ستروا عليهن الشجر عن كل ناحية، فدخلت عليهن وهن ثمان جميعًا (2) . وقد تقدم خبر اتخاذ النعش لأم المؤمنين زينت رضي الله عنها وتغشيته بثوب، واستحسان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه هذه السنة (3) . 8- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن أم سُلَيم صنعت حيسا (4) ، وأرسلت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمناسبة زواجه من زينب بنت جحش رضي الله عنها، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وجلسوا يأكلون ويتحدثون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، وزوجته مولية وجهها إلى الحائط إلى أن خرجوا (5) .   (1) "الطبقات الكبرى" (8/ 126) . (2) "الطبقات الكبرى" (8/ 209) . (3) انظر: ص (102) . (4) الحَيس: نوع من الحلوى. (5) رواه مسلم وغيره، وقال الدكتور البوطى: (لا يقال إن هذا قد يكون حكما خاصَا بزوجات الرسول عليه الصلاة والسلام لأن الفرق بين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وسائر نساء المسلمات فيما يتعلق بالحجاب، إنما هو فارق زمني فقط، ذلك أن مشروعية الحجاب تمت في حق نسائه عليه الصلاة والسلام أولا، ثم إنها عمت سائر النساء بعد حين) اهـ. من "إلى كل فتاة تؤمن بالله" ص (41-42) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 9- عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا الذي أسأم، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، الحريصة على اللهو" (1) . 10- قال الإمام الترمذي: حدثنا سويد نا عبد الله بن يونس بن زيد، عن ابن شهاب، عن نبهان مولى أم سلمة أنه حدثه أن أم سلمة حدَّثته أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندها ميمونة، فأقبل ابنُ أم مكتوم، وذلك بعد أن أُمِرنا بالحجاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "احتَجبَا منهُ"، فقلنا: يا رسول الله أليس أعمى لا يُبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفعميَاوانِ أنتما؟ ألستُما تبصِرَانه؟ " (2) .   (1) أخرجه البخاري (9/ 248) ، ومسلم (3/ 22) ، والنسائي (1/ 236) ، والبيهقي (7/ 92) ، وأحمد (6/ 84- 85) . (2) رواه أبو داود رقم (4112) (4/361) في اللباس: باب في - قوله عز وجل: - (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ) ، والترمذي رقم (2779) (5/102) في الأدب: باب ما جاء في احتجاب النساء من الرجال، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، والإمام أحمد (6/ 296) ، وابن سعد في "الطبقات" (8/ 126- 127) ، وابن حبان (1457، 1968) ، والطحاوي في "المشكل" (1/ 115 - 116) ، والبيهقي (7/ 91 -92) ، والبغوي في "شرح السنة" (9/ 34) . وقال النووي رحمه الله: (وهذا الحديث حسن، ولا يلتفت إلى قدح من قدح فيه بغير حجة معتمدة) اهـ من "شرح النووي" (10/ 97) ، ونبهان هو المخزومي مولى أم سلمة، قال الحافظ ابن حجر: (أخرجه أصحاب السنن من رواية الزهري عن نبهان مولى أم سلمة عنها، وإسناده قوي، وأكثر ما عُللَ به انفراد الزهري بالرواية عن نبهان، وليست بعلة قادحة، فإن من يعرفه الزهري، ويصفه بأنه مكاتب أم سلمة ولم يجرحْه أحد، لا تُرَدّ روايته) اهـ من "الفتح" (9/248) ، وقال في موضع آخر: (حديث مختلف في صحته) اهـ. "الفتح" (1/ 654) ، وقال في "تلخيص الحبير": (ليس في إسناده سوى نبهان مولى أم سلمة، شيخ الزهري، وقد وُثق) اهـ (3/148) ، ولعله يعني توثيق ابن حبان له، كما صرح به في "التهذيب" (10/ 146) ، وقد وثقه الحافظ الذهبي في "الكاشف"، وضعفه = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 11- وعن أنس رضي الله عنه في قصة زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفية رضي الله عنها: فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين، أو مما ملكت يمينه، فقالوا إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي مما ملك يمينه، فلما ارتحل وطَّأ لها خلفه، ومد الحجاب بينها وبين الناس (1) . وفي رواية أخرى عن أنس رضي الله عنه أيضا قال: "فلما قُرب البعير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرج، وضع رسول الله رجله لصفية لتضع قدمها على فخذه، فأبت ووضعت ركبتها على فخذه، وسترها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحملها وراءه، وجعل رداءه على ظهرها ووجهها، ثم شده من تحت رجلها وتحمَّل بها وجعلها بمنزلة نسائه"، اهـ. * قال الشيخ عبد العزيز بن خلف حفظه الله: وهذا الحديث من أدلة الوجوب أيضا، لأنه من فعله صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة، فهو عمل كامل، حيث إنه صلى الله عليه وسلم ستر جسمها كله، وهذا هو الحق الذي يجب اتباعه، فهو القدوة الحسنة، ولو لم يكن دليل من النصوص الشرعية على وجوب ستر المسلمة وجهها وجميع بدنها ومقاطع لحمها إلا هذا الحديث الصحيح، لكفى به موجبًا وموجهَا إلى أكمل الصفات" (2) اهـ.   = الألباني في "تخريج فقه السيرة" ص (44-45) ، و"إرواء الغليل" رقم (1806) (6/ 210) ، وانظر لزاما: "عمدة القاري" (20/216 - 217) ، فإن صح الحديث، فإن قول الترمذي: (باب ما جاء في احتجاب النساء من الرجال) ، يفيد عموم حكم الحجاب لجميع نساء هذه الأمة، وأنه ليس خاصا بأمهات المؤمنين، والخطاب - وإن توجه إليهن - فغيرهن تبع لهن رضي الله عنهن. (1) رواه البخاري في عدة مواضع في الصلاة، والأذان، وصلاة الخوف، والجهاد، والأنبياء، والغازي، ومسلم رقم (1365) في النكاح: باب فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها، وفي المغازي باب غزوة خيبر، والنسائي (6/ 131-134) في النكاح باب البناء في السفر. (2) "نظرات في حجاب المرأة المسلمة" (ص 97) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 * وقال الشيخ أبو هشام الأنصاري في معرض رَدِّه على من احتج بقصة صفية رضي الله عنها على أن الحجاب خاص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم: "قلت: إن قصة صفية هذه لا تدل على اختصاص الحجاب بأمهات المؤمنين، بل على عكس من ذلك تدل عل عمومه لهن ولنساء المسلمين، لأن السياق يصرح تمام التصريح بان الصحابة كانوا مترددين في أمر صفية أنها مملوكة سُرية أو حرة متزوجة؟ وأنهم كانوا على جزم صارم بان النبي صلى الله عليه وسلم لو حجبها فهي أمارة على أنه أعتقها وتزوجها، ولم يكن جزمهم هذا إلا لأنهم كانوا يعرفون أن الحجاب مختص بالحرائر، وأنه أكبر ميزة وأعظم فارق في معرفة الحرة من المملوكة (1) ، فإذا حجبها فلابد وأن تكون حرة، والحرة لا تصلح أن تكون سُرِّيَّة فهي إذن من أزواجه وأمهات المؤمنين. فالصحابة رضي الله عنهم إنما جعلوا الحجاب أمارة على العتق والتزويج، لأن صفية كانت سبيًا مملوكة، نعم لو كانت من الحرائر المؤمنات من قبل، ثم جعلوا الحجاب أمارة على كونها من أمهات المؤمنين لكان في ذلك دليل على اختصاص الحجاب بهن، وأما إذ ليس فليس. ثم ليعلم أن التزوج والعتق ليسا من خصائصهن، فالحجاب الذي جعلوه أمارة على العتق والتزوج كيف يكون مختصا بهن؟ ثم إن القصة لا تدل على أكثر من أن أمهات المؤمنين كن محتجبات، ولا يلزم من كونهن محتجبات اختصاصهن بالحجاب" (2) اهـ. ***   (1) انظر ص: (206) . (2) "مجلة الجامعة السلفية". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 القسم الثالث 1- عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) شققن مروطهن فاختمرن بها" (1) . وروى ابن أبي حاتم هذا الحديث من طريق صفية بنت شيبة قالت: بينا نحن عند عائشة قالت: فذكرنا نساء قريش وفضلهن، فقالت عائشة رضي الله عنها: "إن لنساء قريش لفضلَا، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقًا لكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل، لقد أنزلت سورة النور (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) انقلب رجالهن إليهن، يتلون عليهن ما أنزل الله عليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وبنته وأخته، وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل، فاعتجرت به تصديقًا وإيمانًا بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان" (2) . وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: "رحم الله نساء الأنصار، لما نزلت (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ) الآية شققن مروطهن فاعتجرن بها، وصلين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما على رؤوسهن الغربان" (3) . ولا يتأتى تشبيههن بالغربان إلا مع سترهن وجوههن بفضول أكسيتهن (4) .   (1) رواه البخاري رقم (4758) في التفسير: باب (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) "فتح الباري" (8/ 347) . (2) "تفسير ابن كثير" (5/ 90) . (3) "فتح القدير" للشوكاني (4/ 307) . (4) "إلى كل فتاة تؤمن بالله " ص: 41. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 والاعتجار: هو الاختمار. قال الحافظ: "قوله: "فاختمرن" أي: غطين وجوههن" اهـ (1) . وتفسير الاختمار بتغطية الوجه هو الصحيح، لما مضى (2) من التفصيل عن أعمالهن. *** 2- عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذَوْا بنا سَدَلَتْ إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه" (3) . وهذان الحديثان (4) صريحان في شمول الحجاب للوجوه، بل يفيدان أن تغطية الوجوه كان هو المقصود بأمر الحجاب، والحديث الأخير حكمه عام لجميع نساء المؤمنين، فإن المراد بضمائر جمع المتكلم ليست أمهات المؤمنين فحسب كما يزعمه الزاعمون، والدليل على ذلك أن عائشة رضي الله عنها هي التي روت هذا الحديث، وهي التي كانت تفتي: بأن المرأة المحرمة تسدل جلبابها من فوق رأسها على وجهها.   (1) "فتح الباري" (8/ 347) . (1) انظر ص: (310) . (3) أخرجه الإمام أحمد (6/30) ، وأبو داود رقم (1833) في الحج: باب في المحرمة تغطي وجهها (2/167) ، وابن ماجه (2935) ، والبيهقي (5/48) ، والدارقطني (286، 287) ، وفي إسناده يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف، وتكلم فيه غير واحد، وأخرج له مسلم في جماعة غير محتج به، وقال الحافظ في التلخيص (2/ 292) : ". . . أخرجه ابن خزيمة، وقال: في القلب من يزيد بن أبي زياد، ولكن ورد من وجه آخر، ثم أخرج من طريق فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر - وهي جدتها - نحوه، وصححه الحاكم. اهـ. الإشارة إلى هذا الحديث، وإلى الذي قبله، وهو حديث الإفك، وفيه قولها رضي الله عنها: (وكان يراني قبل الحجاب) ، وقولها: (فخمرت وجهي بجلبابي) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 وروى مالك في الموطأ ما يفيد أن تغطية الوجوه في الإِحرام كان عامًّا في النساء، لا في زمن الصحابة فقط، بل فيما بعدهم أيضَا، فقد روى عن فاطمة بنت المنذر قالت: كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق فلا تنكره علينا (1) . وهذا العموم هو الذي فهمه العلماء في حديث عائشة. قال في "عون المعبود" في قولها: "يمرون بنا": أي علينا معشر النساء (2) . وقال الشوكاني في "النيل": واستدل بهذا الحديث على أنه يجوز للمرأة إذا احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريبا منها أن تسدل ثوبها من فوق رأسها على وجهها، لأن المرأة تحتاج إلى ستر وجهها فلم يحرم عليها ستره مطلقَا كالعورة، لكن إذا سدلت يكون الثوب متجافيا عن وجهها بحيث لا يصيب البشرة، هكذا قال أصحاب الشافعي وغيرهم، وظاهر الحديث خلافه، لأن الثوب المسدول لا يكاد يسلم من إصابة البشرة، فلو كان التجافي شرطًا لبينه صلى الله عليه وسلم ". وقال ابن المنذر: "أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط والخفاف، وأن لها أن تغطي رأسها لا وجهها فتسدل الثوب سدلًا خفيفًا تستتر به عن نظر الرجال" (3) انتهى. والمقصود من نقل كلام الشوكاني وابن المنذر أن العلماء لا يرون هذه الضمائر راجعة إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة" (4) اهـ. 3- وعن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: "كنا نغطي وجوهَنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل ذلك في   (1) الموطأ" (1/328) ، كتاب الحج: باب تخمير المحرم وجهه. (2) "عون المعبود" (5/ 102، 104، 105) . (3) "نيل الأوطار" (5/ 77) . (4) "مجلة الجامعة السلفية" عدد أكتوبر 1978م. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 الإِحرام" (1) 4- وعن فاطمة بنت المنذر فى رحمها الله قالت: "كنا نخمر وجوهنا، ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما" (2) . وفي تعبير أسماء رضي الله عنها بصيغة الجمع في قولها: "كنا نغطي وجوهنا من الرجال " دليل على أن عمل النساء في زمن الصحابة رضي الله عنهم كان على تغطية الوجوه من الرجال الأجانب والله أعلم، أما حديث فاطمة بنت المنذر فيفيد أن تغطية الوجه في الإِحرام كان عامًّا في النساء لا في زمن الصحابة فقط بل فيما بعدهم أيضًا. 5- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خَطَبَ أحدُكُم المرأةَ، فإن استطَاعَ أن يَنظُرَ إلى ما يدعُوه إلى نِكَاحِها فليَفعَل " فخطبت جارية فكنت أتخبَّأ لها، حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها، وتزوجتُها (3) . 6- وعن محمد بن مسلمة رضي الله عنه قال: خطبتُ امرأةُ فجعلتُ أتخبأ لها حتى نظرتُ إليها في نَخل لها، فقيل له: أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أَلقى الله في قلب امرِئ خطبَة امرأة فلا بأس أن ينظُرَ إليها" (4) .   (1) أخرجه الحاكم (1/ 454) ، وقال: "صحيح على شرط الشيخين،، ووافقه الذهبي، وهو صحيح على شرط مسلم وحده. (2) أخرجه الإمام مالك في الموطأ (1/ 328) في الحج: باب تخمير المحرم وجهه، والحاكم (1/ 454) ، وصححه، ووافقه الذهبي. (3) أخرجه الإمام أحمد (3/ 334) ، (3/360) ، وأبو داود رقم (2082) في النكاح باب الرجل ينظر إلى المرأة، وهو يريد تزويجها، والحاكم (2/ 165) ، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ في "بلوغ المرام": رجاله ثقات، وقال في "الفتح" وسنده حسن، وله شاهد من حديث محمد بن مسلمة اهـ (9/87) (4) رواه سعيد بن منصور في "سننه" (1/146) رقم (519) ، وابن ماجه (1886) = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 7- وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرتُ له امرأة أخطُبُها فقال:"اذهَبْ فانظُر إليها فإنه أجْدَر أن يؤدَمَ بينَكما" فأتيت امرأة من الأنصار فخطبتها إلى أبويها، وأخبرتُهما بقول النبي صلى الله عليه وسلم فكأنهما كرِها ذلك، قال: فَسَمِعت ذلك المرأةُ وهي في خِدْرِها، فقالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر فانظر، وإلا فأنشدُك، كأنها أعظمت ذلك، قال: فنظرت إليها فتزوجتها، فذكر من موافقتها (1) . * قال التويجري: "وفي هذا الحديث والحديثين قبله دليل على مشروعية احتجاب النساء من الرجال الأجانب، ولهذا أنكروا على محمد بن مسلمة لما أخبرهم أنه تخبأ لمخطوبته حتى نظر إليها وهي لا تشعر، فأخبرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رخَّص في ذلك للخاطب. وكذلك المغيرة بن شعبة رضي الله عنه لما طلب النظر إلى المخطوبة كَرِه ذلك   = والطحاوي (2/ 8) ، والبيهقي، والطيالسي (1186) ، والإمام أحمد (4/ 225) ، والحاكم (3/434) ، وقال: هذا حديث غريب، وإبراهيم بن صرمة ليس من شرط هذا الكتاب، وقال الذهبي في "التخليص": ضعفه الدارقطني، وقال أبو حاتم: شيخ. اهـ، والحديث رواه ابن حبان في "الزوائد" (1235) . (1) رواه سعيد بن منصور في "سننه" (1/145) رقم (516) ، والترمذي (3/ 397) رقم (1087) في النكاح: باب ما جاء في النظر إلى المخطوبة، وحسَّنه، والنسائي (6/ 69) في النكاح، باب إباحة النظر قبل التزويج، والدارمي (2/ 134) ، وابن ماجه (1888) ، والطحاوي (2/8) ، وابن الجارود في "المنتقى" ص: 312، والدارقطني (3/ 252) ، والبيهقي (7/ 84) ، والإمام أحمد (4/144) ، (4/ 245) ، عن بكر بن عبد الله المزني عن المغيرة بن شعبة، وأخرجه عن ثابت عن أنس رضي الله عنه، قال: (أراد المغيرة أن يتزوج. . .) الحديث وابن ماجه (1887) ، وابن حبان (1236 - موارد) ، والدارقطني (3/253) ، والحاكم (2/165) ، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وقال البوصيري في "الزوائد": هذا إسناد صحيح، رجال ثقات. اهـ (1/118) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 والداها، وأعظمت ذلك المرأة وشددت على المغيرة ثم مكنته من النظر إليها طاعة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي هذه الأحاديث أيضا بيان ما كان عليه نساء الصحابة رضي الله عنهم من المبالغة في التستر من الرجال الأجانب، ولهذا لم يتمكن جابر ومحمد بن مسلمة رضي الله عنهما من النظر إلى المخطوبة إلا من طريق الاختباء والاغتفال، وكذلك المغيرة لم يتمكن من النظر إلى مخطوبته إلا بعد إذنها له في النظر إليها" (1) اهـ. وكذلك يشهد لهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر رضي الله عنه: "فإن استطَاعَ أن يَنطرَ إلى ما يَدعُوه إلى نِكَاحِهَا فَليَفعَل". * وقال الشيخ أبو هشام ا! لأنصاري معلقا على حديث المغيرة رضي الله عنه: وهذا الحادث يدل أيضَا على أن النساء كن قائمات بالتستر بحيث لم يكن الرجل يقدر على أن يراهن إلا بالحيل والتصرفات، أو إلا أن يسمحن له بالرؤية، ولو كن يخرجن سافرات الوجوه، كاشفات الخدين، مكتحلات العينين، مخضوبات الكفين لم يكن الرجال يحتاجون إلى تجشم هذه المشقات في رؤيتهن ". اهـ. وقال معلقًا على قول جابر رضي الله عنه في آخر حديثه: فخطبت امرأة من بني سلمة فكنت أختبئ تحت الكرب حتى رأيت منها بعض ما دعاني إِليها (المحلى لابن حزم (11/220) . وفي هذا الحديث دليل من وجهين: الأول: أن قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن استطاع أن ينظر. . . إلخ" يدل على أن النظر إلى النساء لم يكن سهلَا، بل كان لابد لها من حيل وتصرفات، ولو كانت النساء يخرجن سافرات الوجوه في ذلك الزمان لم يكن لاشتراط الاستطاعة   (1) "الصارم المشهور" (ص: 94- 95) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 في النظر إليهن معنى. والثاني: ما فعله جابر من الاختباء تحت الكرب دليل على أن النساء لم يكن يتركن الحجاب إلا إذا علمن أنهن في أمن من نظر الرجال. وقال في حديث محمد بن مسلمة رضي الله عنه: وهذا الحادث مثل حادث جابر في الدلالة على، المطلوب، مع مزيد الدلالة على أن النظر إلى المرأة الأجنبية كان من أسباب التعجب والنكران عند أوائل هذه الأمة" (1) اهـ. * * * 8- وعن موسى بن يزيد الأنصاري عن أبي حميد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خَطَبَ أحدُكم امرأةَ، فلا جُنَاحَ عليه أن يَنظُرَ إليها إذا كان أنما يَنظر إليها لخِطبته، وأن كانت لا تعلَمُ" (2) . ! قال الشيخ أبو هشام الأنصاري حفظه الله: إن رفع الجناح عن إظهار التزين في هذه الحالة المخصوصة لأجل هذه المصلحة الخاصة دليل على أن في إظهار التزين في عامة الأحوال جناحًا وإثما. والدليل على تغاير حكم الخطبة عن حكم عامة الأحوال أن الخاطب أبيح له النظر إلى المخطوبة، بل هو مأمور بذلك أمر حض وإرشاد، أو أمر استحباب وندب، بينما هو مأمور بغض البصر عن الأجنبيات، وحرم عليه النظر إليهن إلا النظرة الأولى أو نظرة الفجأة التي تصدر منه من غير   (1) "مجلة الجامعة السلفية" عدد نوفمبر، ديسمبر 1978. (2) أخرجه الإمام أحمد (5/ 424) ، وفي "مجمع الزوائد": (رواه الطبراني في "الأوسط" و"الكبير") (4/276) ، وقال: "ورجال أحمد رجال الصحيح" اهـ، وسكت عليه الحافظ في "التلخيص" (3/147) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 تعمد وقصد، والذين لهم إلمام بقواعد الشريعة يعرفون جيدًا أن تقييد إِباحة الشيء أو جوازه أو رخصته بحالة خاصة دليل على تحريمه في الأصل كما أن ما حرم تحريم الوسائل فإنه يباح للحاجة أو المصلحة الراجحة (انظر زاد المعاد 1/224) فجواز أو إباحة إظهار التزين - الذي يعده البعض كشف الوجه - للمخطوبة دليل على تحريم إظهار تلك الزينة في عامة الأحوال. وصنيع الفقهاء والمحدثين يرشد إلى ما قلنا: فإن عامتهم بوبوا على أحاديث الخطبة بباب جواز النظر إلى الخطوبة وأمثاله، فتقييدهم النظر إلى المخطوبة بالجواز يشعر بأن النظر إلى غير المخطوبة غير جائز عندهم (1) . * قال الشيخ أبو محمد المقدسي في "المغني": "لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في إباحة النظر إلى المرأة لمن أراد نكاحها. . .، ولا بأس بالنظر إليها بإذنها وغير إذنها لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بالنظر وأطلق. . . ولا يجوز له الخلوة بها لأنها محرمة ولم يَرد الشرعُ بغير النظر فبقيت الخلوة على التحريم ولأنه لا يُؤمَن مع الخلوة مواقعة المحظور. . .، ولا ينظر إليها نظرة تلذذ وشهوة ولا لريبة، قال أحمد في رواية صالح: ينظر إلى الوجه ولا يكون عن طريق لذة، وله أن يردد النظر إليها ويتأمل محاسنها لأن المقصود لا يحصل إلا بذلك" (2) اهـ كلامه ملخصًا. وقيَّد الحجاوي والفُتُوحي وغيرهما جواز النظر بما إذا غلب على ظنه إجابته، قال الجراعيُ: متى غلب على ظنه عدم إجابته لم يجز، كمن ينظر إلى امرأة جليلة يخطبها مع علمه أنه لا يُجاب إلى ذلك" اهـ.   (1) "مجلة الجامعة السلفية" نوفمبر، ديسمبر 1978 (2) "المغني" (6/ 552 - 553) مختصرا، وفي المسألة تفصيل يراجع في "السلسلة الصحيحة" حديث رقم (95) إلى (99) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 وكما أن الأحاديث التي ذُكرت آنفًا قد دلت بمنطوقها على جواز نظر الرجل إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها، فكذلك هي دالة بمفهومها على أنه لا يجوز النظرُ إلى غيرها من سائر الأجنبيات - ويوضح ذلك قوله في حديث أبي حُميد رضي الله عنه: إذا كان إنما ينظر إليها لخطبة، فدل على أنه لا يجوز النظر إلى الأجنبية لغير خاطب. وأيضا فوضع البأس والجُناح على الخاطب إذا نظر إلى مخطوبته يدل على أنه لا يجوز النظر لغير خاطب، وأن عليهْ في نظره إلى الأجنبية بأسا وجناحَا، والله أعلم. وقد أخرج البخاري رحمه الله تعالى في "الجامع" نحو حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه فقد عقد بابًا إذ قال: (باب النظر إلى المرأة قبل التزويج) . وقال الحافظ في "الفتح": قال الجمهور: لا بأس أن ينظر الخاطب إلى الخطوبة، قالوا: ولا ينظر إلى غير وجهها وكفيها (1) . * قال السندي: "وأما المفهوم المخالف لهذا الحديث فإنه لا يجوز لغير الخاطب أن ينظر إليها ولا يتحقق ذلك إلا إذا كانت المرأة محجبة وأما في حالة كشف الوجه والكفين فلا معنى لهذا الحديث بالمفهوم، فهذا أيضَا دليل على عدم جواز كشف الوجه والكفين" (2) اهـ. وسياق حديث محمد بن مسلمة وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا ألقَى الله عز وجل في قلب امرئ خِطبَةَ امرأة فلا بأس أن ينظُرَ إليها" فهذا الإذن بهذا السياق يدل على تحريم النظر إلى الوجه والكفين لغير الخاطب.   (1) راجع الخلاف في هذا في "الفتح" (9/87 -88) . (2) "رسالة الحجاب" ص (42 - 43) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 9- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُباشِرِ المرأةُ المرأة، فَتنعَتها لزوجِها، كأنه يَنظُرُ إليها" (1) . * قال القسطلاني رحمه الله: "قال الطيبي رحمه الله تعالى: المعنى به فى الحديث النظر مع المس، فتنظر إلى ظاهرها من الوجه والكفين، وتجس باطنها باللمس" (2) اهـ. * قال الشيخ حمود التويجري حفظه الله: "وفي نهيه صلى الله عليه وسلم المرأة أن تباشر المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها دليل على مشروعية احتجاب النساء عن الرجال الأجانب، وأنه لم يبق للرجال سبيل إلى معرفة الأجنبيات من النساء إلا من طريق الصفة أو الاغتفال ونحوِ ذلك، ولهذا قال: "كأنه ينظُرُ إليها" فدلَّ على أن نظر الرجال إلى الأجنبيات ممتنع في الغالب من أجل احتجابهن عنهم، ولو كان السفور جائزًا لما كان الرجال يحتاجون أن تُنْعَتَ لهم الأجنبيات من النساء بل كانوا يستغنون بنظرهم إليهن كما هو معروف في البلدان التي قد فشا فيها التبرج والسفور" (3) اهـ. * * * 10- وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن   (1) رواه البخاري (9/ 250) في النكاح: باب لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها، وأبو داود رقم (2150) في النكاح: باب ما يؤمر به من غض البصر، والترمذي رقم (2793) في الأدب: باب ما جاء في كراهية مباشرة الرجل الرجل، والمرأة المرأة. (2) "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" (9/ 237) . (3) "الصارم المشهور" ص (95) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 نظر الفُجَاءَةِ فأمرني أن أصرف بصري" (1) . * وقال التويجري: "ويستفاد من هذا الحديث أن نساء المؤمنين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كن يستترن عن الرجال الأجانب ويغطين وجوههن عنهم، وإنما كان يقع النظر عليهن فجأة في بعض الأحيان، وأيضَا لو كُنَّ يكشفن وجوههن عند الرجال الأجانب لكان في صرف البصر عنهن مشقة عظيمة. ولاسيما إذا كثرت النساءُ حول الرجل، لأنه إذا صرف بصره عن واحدة فلا بد أن ينظر إلى أخرى أو أكثر، وأمَّا إذا كن يغطين وجوههن كما يفيده ظاهر الحديث، فإنه لا يبقى على الناظر مشقة في صرف النظر، لأن ذلك إنما يكون بغتة في بعض الأحيان والله أعلم" (2) .   (1) رواه مسلم رقم (2159) في الآداب: باب نظر الفجأة، وأبو داود رقم (2148) في النكاح: باب ما يؤمر من غض البصر، والترمذي رقم (2777) في الأدب: باب ما جاء في نظرة الفجأة. (2) "الصارم المشهور" ص (92) ، وقال الشيخ أبو هشام الأنصاري في معرض الرد على من استدل بهذا الحديث على إباحة السفور: (هذا لا يتم به الاستدلال، فإنه غاية ما فيه إمكان وقوع النظر على الأجنبيات، وهذا لا يستلزم جواز كشف الوجوه والأيدي أمام الأجانب، وإيضاح ذلك أن المرأة كثيرَا ما تكشف وجهها وكفيها ظنًّا منها أنها بمأمن من نظر الأجنبي بينما تكون هي بمرأى منه، مثلَا تمر في طريق خالية من الرجال فتكشف وجهها ويكون رجل عند باب غرفته أو شباكها أو في شرفة أو على سقف أو في ناحية أخرى يراها وهى لا تشعر به كذلك ربما تضطر المرأة إلى كشف بعض جسدها لأمر ما، كما أنها ربما ينكشف بعض أعضائها من غير خيار منها أو من غير أن تشعر بانكشافه - وقد أسلفنا بعض هذا - وربما تكون المرأة غير مسلمة أو مسلمة اجترأت على هتك أوامر الله وكشفت بعض أعضائها تعمدَا - وقد عمت به البلوى في هذا الزمان - فالسبيل في هذه الصور وأمثالها أن يؤمر الرجل بغض البصر، وليس من مقتضيات هذا أن يجوز للمرأة كشف وجهها من غير عذر أو حاجة أو مصلحه) اهـ من "مجلة = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 11- عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة "وفي رواية أخرى: ثلاث طلقات" وهو غائب، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: "تِلكَ امرأة يغشاها أصحَابي (1) ، اعتَدِّي عند ابن أم مكتُوم فإنه رجل أعمَى تَضَعِينَ ثِيَابَكِ عندَه". وفي رواية: "انتَقِلي إلى أم شريكٍ، وأم شريك امرأة غنية من الأنصارِ، عظيمةُ النفقَةِ فى سبيلِ اللهِ، ينزلُ عليها الضيفَانِ، فإني أكره أن يَسقُطَ خمارُك أو ينكشفَ الثوبُ عن سَاقَيكِ، فيرى القومُ منك بعضَ ما تكرهين، ولكن انتقِلي إلى ابنِ عمك عبدِ الله ابن أم مكتومِ الأعمى - وهو من البطن التي هي منه - فإنك إذا وَضَعتِ خمارَك لم يَرَك"، فانتقلتُ إليه، فلما انقضت عدتي سمعتُ نداء المنادي ينادي: الصلاة جامعة، فخرجت إلى المسجد فصليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قضى صلاته جلس على المنبر فقال: "إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن جمعتكم لأن تميمَا الداري كان رجلا نصرانيا فجاء فبايع وأسلم، وحدثني حديثا وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال. . ." الحديث (2) .   = الجامعة السلفية" عدد (نوفمبر وديسمبر 1978) . (1) قال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي - رحمه الله - في "عارضة الأحوذي": (قوله لها: "تلك امرأة يغشاها أصحابي" قيل في ذلك وجهان: أحدهما: أن ذلك قبل نزول الحجاب، وهو ضعيف، لأن مغيب عليّ إلى اليمن حين سافر معه زوج فاطمة كان بعد نزول الحجاب بمدة. الثاني: وهو الصحيح: أن أم شريك كانت مبجلة رجلة، فكان المهاجرون والأنصار يداخلونها بجلالتها ورجولتها، فلم يكن ذلك موضع تحصين لكثرة الداخل فيه والخارج، وعسر التحفظ فيه، فنقلها منه إلى دار امرأة لها زوج أعمى، فتكون فى حصانة من الرجال، وفي ستر من ضراوة الرجل المختص بذلك المنزل) اهـ (5/146) . (2) أخرجه مسلم (4/196) - واللفظ له -، وأبو داود (2284) ، والنسائي (2/ = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك" وفي رواية: "فإني أكره أن يسقط منك خمارك فيرى القوم منك بعض ما تكرهين" دليل على أنه لا يجوز للمرأة أن تكشف وجهها - فضلا عن غيره - عند البصير من الرجال الأجانب، وذلك لأن الخمار عام لمسمى الرأس والوجه لغة وشرعَا (1) ، ويشهد لهذا ما حكيناه سابقًا من قول الحافظ ابن حجر في تعريف الخمر: ومنه الخِمار لأنه يغطي وجه المرأة. وقول القاضي أبي علي التنوخي فيما ينسب إليه: قل للمليحة في الخمار المذهب ... أفسدت نسك أخي التقي المذهب نور الخمار، ونور خدك تحته ... عجبا لوجهك كيف لم يتلهب وهذا الحديث ينبغي أن يفهم في ضوء قوله صلى الله عليه وسلم: "المرأة عَورَةُ". وإذ! كان النظر إلى وجوه النساء أعظم فتنة من النظر إلى رؤوسهن، فبعيد أن تأتي الشريعة الكاملة بإيجاب ستر الرؤوس، وإباحة كشف الوجوه، وقوله "لم يرك" ظاهر في إرادة جميع ما يبدو منها من وجه ورأس ورقبة، وليس في الحديث ما يدل على وجوب ستر الرأس وحده دون الوجه. *** 12- عن عائشة رضي الله عنها قالت. خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب (2) لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها   = 74 – 75) ، والطحاوي (2/38) ، والبيهقيّ (7/432) ، وأحمد (6/412) ، وانظر: "العدة شرح العمدة بحاشية الصنعاني" (4/240 -241) . (1) انظر ص (285) ، وانظر: "نظرات في حجاب المرأة المسلمة" ص (72 - 73) ، و"الصارم المشهور" ص (77 - 78) . (2) وجاء في كتاب الطهارة في البخاري أنه كان قبل الحجاب والجواب كما ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله: أن (المراد بالحجاب الأول غير الحجاب الثاني، = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 عمر بن الخطاب فقال: يا سودة أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين، قالت: فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وإنه ليتعشى وفى يده عَرْق - هو العظم إذا أخذ منه معظم اللحم- فدخلت عليه، فقالت: يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر كذا وكذا، قالت: فأوحى الله إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه، فقال: "إنه أُذِنَ لَكن أن تخرُجنَ لحاجَتِكُن" (1) . * قال الشيخ أبو هشام الأنصاري حفظه الله: "ومقتضى هذا أن سودة لولا طولُ قَدّها لخفيت على الناس، وأن عمر لم يكن عرفها لكونها كاشفة الوجه، بل لطول قدمها وهيئتها التي تميزها عن غيرها، وفي هذا الحديث دليل أيضا أن الحجاب لم يكن مختصُّا بأمهات المؤمنين، وذلك لأن سياق الحديث يدل على أن عمر لم يكن يحب أن تعرف أشخاص أمهات المؤمنين، ولو كان الحجاب مختصُّا بهن لكان أول دليل عليهن، وأول فارق وأعظم هيئة تميزهن عن غيرهن، ولعرفهن كل أحد، وعرف أعيانهن في معظم الأحوال" (2) اهـ. واعلم؛ أن غاية ما يؤخذ من هذا الحديث بانفراده هو اشتراك أمهات   = والحاصل أن عمر رضي الله عنه وقع في قلبه نفرة من اطلاع أجانب على الحريم النبوي، حتى صرح بقوله له عليه الصلاة والسلام: "احجب نساءك"، وأكّد ذلك، إلى أن نزلت آية الحجاب، ثم قصد بعد ذلك أن لا يبدين أشخاصهن أصلا - ولو كن مستترات، فبالغ في ذلك، فمنِع منه، وأذِن لهن في الخروج لحاجتهن، دفعا للمشقة، ورفعا للحرج) . (1) رواه البخاري (1/ 300) في الوضوء: باب خروجِ النساء إلى البراز وفي التفسير: في تفسير سورة الأحزاب: باب قوله (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) ، وفي الاستئذان، باب آية الحجاب، ومسلم رقم (2170) في السلام: باب إباحة الخروج للنساء لقضاء حاجة الإنسان (2) "مجلة الجامعة السلفية". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 المؤمنين مع سائر النساء في "مشروعية الحجاب"، وهذا موضع اتفاق مع المخالف، فإنه يستدل به على عموم هذه المشروعية، أما الوجوب ذاته فلا يستدل عليه بهذا الحديث بانفراده، وإنما بما سبق من الأدلة الكثيرة على عموم آية الحجاب، وعدم تخصيصها بأمهات المؤمنين، والله أعلم. 13- عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قبرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رجعنا، وحاذينا بابه إذ هو بامرأة لا نظنه عرفها، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا فاطمة من أين جئتِ؟ "، قالت: جئت من عند أهل الميت، رَحِمتُ إليهم مَيتهم، وَعَزَّيتهم. . . (1) الحديث. فقد ظن الصحابة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف هذه المرأة التي مرت من عنده، لأنها كانت مستترة، ولكنه عرفها، وقال لها: "يا فاطمة" كما عرف عائشة رضي الله عنها وسط الناس وهي منتقبة (2) . *** (1) رواه الإمام أحمد (2/ 169) ، والبيهقي في السنن (4/ 60) ، وفي الدلائل (1/192) ، والحاكم في المستدرك (1/ 373) ، وقال: "صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. (2) وذلك - فيما يروى - حينما جاءت عائشة رضي الله عنها لتنظر إلى صفية رضى الله عنها أول ما قدمت المدينة، (فتنكّرت، وتنقبت، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عينيها، فعرفها) الحديث رواه ابن ماجة، وله شاهد مرسل عن عطاء بن يسار ذكره ابن سعد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 الباب السادس الفصل الأول : شبهات وجوابها الفصل الثاني: المذاهب الفقهية في حكم كشف الوجه والكفين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 الفصل الأول شبهات وجوابها لعل فيما تقدم من الأدلة الواضحة على وجوب الحجاب كفاية وبلاغًا لمن صدق الله عز وجل في طلب الحق، وصدق مع نفسه. غير أنه بقيت بعض النصوص استدل بها المبيحون للسفور، نحاول فيما يلي - إن شاء الله - رفع الغشاوة عنها، ودفع الشبه فيها، مع حسن الظن بالمخالفين الذين بنوا عليها مذهبهم. غير أن هناك فريقَا من الذين في قلوبهم مرض، ممن هو على شعبة من النفاق في إيمانه بالله، تعرفهم في لحن القول، استغلوا هذه الشبهات ليبرروا بها دعوتهم إلى ما يسمُّى بـ "تحرير المرأة " (1) . إن الغرض مرض، وصاحب الغرض الخبيث يستطيع أن يقحم في كل سطر مما ذكره شبهًا وإشكالات يتعلق بها في إثبات عكس ما تقدم تحقيقه، ليتخذ السفور سلمَا إلى مآربه الأبليسية، وان كان يعلم من نفسه أنه كاذب   (1) فلا تغتر - أخي - بالمجادلات الواقعة من هؤلاء المغرضين من دعاة ما يسمى بـ (تحرير المرأة، فكلها خيالات مختلة، وعلل معتلة، وما تمسكوا به من الأدلة النقلية فهو إما اعتماد على نص ضعيف أو مكذوب، وإما خبر متشابه لا يدل على المطلوب، وأما ما تمسكوا به من الأدلة العقلية فهو كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، وإما يتصرفون في النقل بما يوافق أهواءهم فيحذفون ما عليهم، ويثبتون ما لهم، وإما لقصور عن فهم عبارات العلماء مما لم يريدوه، وإما بالتقصير في النظر والحكم بالظن الكاذب، والتمسك بالأمور المتشابهة الخفية، والإعراض عن الأشياء الواضحة الجلية، وليس هذا طريق العلماء القاصدين لإيضاح الدين، وإرشاد المسلمين، بل هو السمة المميزة لأولئك المضلين على اختلاف أمصارهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 في دعواه. (وصناعة التأويل في الكلام والتلاعب بالألفاظ ليست عسيرة، أتقنها بنو إسرائيل من قبل لنيل عَرَض من الدنيا قليل، ويتقنها كثير من المحامين اليوم لجمع مزيد من البضاعة نفسها، كما يتقنها كثير من المشتغلين ببضاعة العلم الشرعي ليتجملوا بذلك أمام من يملكون – في الظاهر - رعايتهم ودفعهم في سلم المناصب الدنيوية الفانية) (1) . يقول الإمام الشاطبي في "الموافقاتَ" بعد أن أستَعرض صورا ونماذج من حيل المبطلين في التلاعب بنصوص، الأدلة، والتحايل على قواعد الأحكام: "ولذلك لا تجد فرقة من الفرق الضالة، ولا أحدًا من المختلفين في الأحكام يعجز عن الاستدلال على مذهب بظواهر من الأدلة وقد مَرَّ من ذلك أمثلة بل قد شاهدنا ورأينا من الفساق من يستدل على مسائل الفسق بأدلة ينسبها إلى الشريعة المنزهة. . . " (2) اهـ. ولكن ليس معنى هذا أن الطالب لمعرفة الحق يضيع بين تلبيس المخادعين ونصيحة العلماء الصادقين، فإن الصادق في طلب الحق لا يعدم أن يجد دلائل الحق في محكمات النصوص الواضحة النيرة، فإن تاه عن معرفة هذه النصوص لم يعدم أن يجد دلائله فيما اجتمع عليه السلف الصالح خلال القرون الماضية. يقول الإمام الشاطبي – رحمه الله – معلقا على الفقرة السابقة: "فلهذا كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه من العمل فهو أحرى بالصواب، وأقوم في   (1) "إلى كل فتاة تؤمن بالله" ص (55 – 56) . (2) "الموافقات" (3/76 - 77) بتصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 العلم والعمل" (1) اهـ. فإن لم يعلم شيئَا عن. أخبار السلف؛ لم يعدم أن يجد دلائله في استقامة العالم الذي يفتيه، وحسن سيره وسيرته بين الناس، وثباته أمام مزالق الفتن والأهواء، فإن عدم من حقائق إسلامه ما يبصره بشيء من هذا كله، فإن بلاءه من نفسه قبل أن يكون من مكيدة المخادعين، أو مكر الضالين المضلين، إذ لا يكون مسلما حقُّا إلا بعد أن يكون على شيء من البصيرة بدينه، بحيث تشير له - ولو من بُعْدٍ - إلى معالم الحق، وتحذره - ولو في الجملة - من مهاوي الضلال، فإن على الحق نورًا. تدور شُبه المغرضين حول أقوالٍ لا رصيد لها من المعنى الذي يمكن أن يتقبله العقل السليم، لأنها من نوع ما يسميه علماء المنطق بالسفسطة التي لها شكل الحجة، وليست لها حقيقتها (2) . وهي أقوال يراد بها إخضاع النفس، أكثر مما يراد بها إقناع العقل. هذا فيما يتعلق بالمغرضين من أعداء الدين الذين يتخذون السفور ذريعة لمقاصدهم السيئة، أما الفريق الآخر الذي يبيح السفور بناءً على اجتهاد فقهي مخلص في طلب الحق، فأغلب ما تعلقوا به: - إما أحاديث ضعيفة، لا تثبت عند أهل العلم بالحديث. - وإما وقائع أحوال لا عموم لها. - وإما نصوص يفهم منها إباحة السفور لكنها كانت قبل نزول الحجاب. - وإما نصوص يفهم منها حصول السفور في حالة من حالات الترخيص فيه مثل الخِطبة، والشهادة، والتطبيب، وغيرها، وهذه في الحقيقة تؤيد أن الأصل منع السفور، وإلا لما كان لهذه الاستئناءات   (1) السابق. (2) انظر الجواب عن بعضها في صفحة (408-456) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 معنى (1) . - وإما نصوص غير صريحة يطرقها الاحتمال، فيسقط بها الاستدلال. وقد تقدم الجواب عن بعض الشبهات (2) ، وهذا أوان الشروع في الجواب عما تبقى من شبهات الفريقين، فنقول بتوفيق الله وحده: الشبهة الأولى * ما أخرجه أبو داود في "سننه" باب: فيما تبدي المرأة من زينتها، قال: حدثنا يعقوب بن كعب الأنطاكي ومؤمل بن الفضل الحراني، قالا: أخبرنا الوليد، عن سعيد بن بَشير، عن قتادة، عن خالد- قال يعقوب: ابن درَيك - عن عائشة رضي الله عنها: أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رِقاق، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض، لم يَصلُح أن يُرَى منها إلا هذا وهذا"، وأشار إلى وجهه وكفيه (3) . قالوا: فهذا نص صريح في أنه يجوز للمرأة كشفُ وجهها وكفيها عند الرجال الأجانب.   (1) انظر "المغني" لابن قدامة (6/ 559) . (2) مثل: دعوى إجماع العلماء على إخراج الوجه والكفين من العورة، انظر جوابها في صفحة (244 - 250) . ومثل دعوى خصوصية آيات الحجاب بأمهات المؤمنين رضي الله عنهن، وقد تقدم جوابها ص (256) وما بعدها. (3) رواه أبو داود في "سننه" رقم (4104) ، في اللباس: باب فيما تبدي المرأة من زينتها، والبيهقي في "السنن الكبرى" من هذا الوجه في موضعين: (2/ 226) ، (7/ 86) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 جواب هذه الشبهة الأصل أنه لا يُتكلف الجوابُ عن الحديث حتى يصح، والضعيفُ يكفي في رَدِّه كونُه ضعيفا، فمن باب (أثبت العرش، ثم انقش) نناقش: * أولا: إسنادَ الحديث: في الحديث علل قادحة: العلة الأول: انقطاع سنده، كما صَرَّح بذلك الأمام أبو داود رحمه الله نفسه، فقد قال عقب روايته الحديث: هذا مُرْسَل، خالد بن دُرَيْك لم يدرك عائشة. (1) وكذا قال أبو حاتم الرازي (2) ، وعبد الحق في "أحكامه" (3) . وقال ابن معين: مشهور، وقال مرة: ثقة، وقال النسائي. ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، في أتباع التابعين (4) . وقال الحافظ ابن حجر في "التقريب": ثقة يرسل (5) . العلة الثانية: أن في سنده سعيد بن بشير أبو عبد الرحمن البصري (6) ،   (1) "السابق". (2) ذكره الحافظ ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" (3/ 294) . (3) "تهذيب التهذيب" (3/ 87) . (4) "السابق" (3/ 86-87) . (5) "تقريب التهذيب" (1/ 212) ، (6) وفي ترجمته في "تهذيب التهذيب" (4/ 8-10) ، و"سير أعلام النبلاء" (7/ 304- 305) ما حاصله: [قال أبو مسهر: "لم يكن في بلدنا أحد أحفظ منه، وهو منكر الحديث"، وقال أبو حاتم: "محله الصدق"، وقال أبو أحمد الحاكم: "ليس بالقوي"، وقال بقيهَ: سألت شعبة عن سعيد بن بشير، فقال: "ذاك صدوق اللسان"، وقال ابن عيينة: "حدثنا سعيد بن بشير، وكان حافظا"، وقال دحيم: "يوثقونه، كان حافظا"، وأما ابن مهدي فروى عنه، ثم ترك، وقال أبو زرعة: "لا يحتج به، ومحله الصدق"، وقال البخاري: "يتكلمون في حفظه"، وقال ابن = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 قال الحافظ: "ضعيف" (1) . العلة الثالثة: أن فيه قتادة، وهو مدلس، وقد عنعنه، كما أن فيه الوليدَ ابنَ مسلم، قال الحافظ: "ثقة، لكنه كثير التدليس والتسوية" (2) ، وقد عنعنه. والحديث رواه أبو داود في "المراسيل" عن محمد بشار، عن أبي داود، عن هشام الدستوائي، عن قتادة مرسلا: "إن الجارية إذا حاضت، لم يصلع أنه يُرى منها إلا وجهُها ويداها إلى المفصل". * ثانيا: فرض صحة الحديث: وعلى فرض صحة الحديث، أو تقويته بشواهده، فبماذا أجاب عنه العلماء القائلون بتحريم السفور؟ لقد اختلفت أجوبتهم عنه: 1- فمنهم من حمله على أنه كان قبل الأمر بالحجاب: * قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والسلف تنازعوا في الزينة الظاهرة على قولين:   = معين والنسائي: "ضعيف"، وقال سعيد بن عبد العزيز: "كان حاطب ليل"، وقال علي بن المديني: "كان ضعيفا"، وقال محمد بن عبد الله بن نمير: "منكر الحديث، ليس بشيء، ليس بقوي الحديث، يروي عن قتادة المنكرات"، وقال ابن عدي: "له عند أهل دمشق تصانيف، ولا أرى بما يرويه بأسا، ولعله يهم في الشيء بعد الشيء، ويغلط، والغالب على حديثه الاستقامة، والغالب عليه الصدق"، وقال الساجي: "حَدث عن قتادة بمناكير": وقال ابن حبان: "كان رديء الحفظ، فاحش الخطأ، يروي عن قتادة ما لا يتابع عليه" وقال أبو بكر البزار: (هو عندنا صالح ليس به بأس"] اهـ. (1) "تقريب التهذيب" (1/ 292) . (2) "تقريب التهذيب" (2/ 336) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 فقال ابن مسعود: هي الثياب، وقال ابن عباس ومن وافقه: هي ما في الوجه واليدين مثل الكحل والخضاب. ثم بين رحمه الله أن تشريع الحجاب مر بمرحلتين: أولاهما تغطية البدن ما عدا الوجه والكفين. والأخرى: حجاب جميع البدن بما في ذلك الوجه والكفان. ثم قال رحمه الله تعالى ما نصه: "فإذا كُنَّ مأمورات بالجلباب وهو ستر الوجه، أو ستر الوجه بالنقاب، كان حينئذ الوجه واليدان من الزينة التي أُمِرَت ألا تظهرها للأجانب، فما بقي يَحِل للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة، فابن مسعود ذكر آخر الأمرين، وابن عباس ذكر أول الأمرين" (1) اهـ. إلى أن قال شيخ الإسلام: وعكس ذلك الوجه واليدان والقدمان، ليس لها أن تبدي ذلك للأجانب على أصح القولين بخلاف ما كان قبل النسخ بل لا تبدي إلا الثياب " (2) اهـ. * وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله - في معرض الرد على من أباح النظر إلى الوجه والكفين محتجًا بحديث أسماء رضي الله عنها: وأما حديث أسماء فيحمل على أنه كان قبل نزول آية الحجاب، فنحمله عليه (3) . * وقال القاري في شرح هذا الحديث: قولها "وعليها ثياب رِقَاق" بكسر الراء جمع رقيق، ولعل هذا كان قبل الحجاب (4) .   (1) "مجموع الفتاوى" (22/110-112) بتصرف. (2) "السابق" (22/117 - 118) . (3) "المغني" (6/559) . (4) مرقاة المفاتيح" (4/438) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 وقد ضعف الشنقيطي - رحمه الله تعالى – الحديث، ثم قال: "مع أنه مردود بما ذكرنا من الأدلة على عموم الحجاب، ومع أنه لو قدر ثبوته قد يحمل على أنه كان قبل الأمر بالحجاب" (1) اهـ. * وقال الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي: "لو قدرَ أن حديث عائشة صحيح، فهو محمول على أنه كان قبل الأمر بالحجاب، وبناءً على هذا يكون منسوخا، لا يجوز العمل به" (2) اهـ. * وقال الشيخ محمد علي الصابوني في "روائع البيان": ويحتمل أنه كان قبل آيات الحجاب، ثم نسخ بها (3) . * وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين: ثم على تقدير الصحة - أي صحة حديثه عائشة رضي الله عنها - يحمل على ما قبل الحجاب، لأن نصوص الحجاب ناقلة عن الأصل فتقدم عليه (4) .   (1) "أضواء البيان" (6/597) . (2) "يا فتاة الإسلام" ص (257) . (3) "روائع البيان" (2/157) . (4) "رسالة الحجاب" ص (30) . واعلم أنه هناك جملة من الأحاديث والآثار يفهم منها كشف الوجه واليدين أو اليدين فقط، وعادة العلماء الموجبين للحجاب أن يجيبوا عنها بقولهم (هذا كان قبل الأمر بالحجاب) " ومن أمثلة ذلك: أ- حديث عائشة هذا الذي نحن بصدده. ب- عن عائشة رضي الله عنها قالت: دَخَلَت علي خويلة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص الأسلمية، وكانت عند عثمان بن مظعون رضى الله عنه، قالت: فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذاذة هيئتها، فقال لي: "يا عائشة ما أبذ هيئة خويلة! "، فقالت: فقلت: يا رسول الله امرأة لها زوج يصوم النهار، ويقوم = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 2- ومن العلماء من ذهب إلى وجوب تأويل حديث عائشة رضي الله عنها إن صَحَّ: إذا ثبت لدينا دليل واحد يفيد تحريم كشف الوجه والكفين؛ ثم فرضنا جدلًا ثبوت حديث عائشة رضي الله عنها الذي يبيح كشفهما؛ وافترضنا أيضا تكافؤ الدليلين من حيث الثبوت؛ وعلمنا أن الأصل في الدليل   = الليل، فهي كمن لا زوج لها، فتركت نفسها، وأضاعتها. . . الحديث، وقد تقدم في القسم الثاني ص 172، وانظر "الفتح الرباني" (17/304) . ج- عن أبي جحيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين سلمان وبين أبي الدرداء، فقال: فجاءه سلمان يزوره فإذا أم الدرداء متبذلة (أي لابسة ثياب المهنة، وتاركة للبس ثياب الزينة) ، فقال: ما شأنك يا أم الدرداء؟ قالت: إن أخاك أبا الدرداء يقوم الليل، ويصوم النهار، وليس له في شيء من الدنيا حاجة. . . الحديث، رواه البخاري (4/ 246-247) ، والترمذي (3/ 290) ، والبيهقي (4/ 376) ، والمؤاخاة كانت في أوائل الهجرة، وانتهت بعد آية التوريث، وآية التوريث نزلت قبل الحجاب. د- ما رواه البيهقي في قصة توبة أبي لبابة وقال "حديث صحيح"، وفيه قول أم سلمة رضي الله عنها: أفلا أبشره يا رسول الله بذلك؟ قال: "بلى إن شئتِ" قالت: فقمتُ على باب حجرتي، فقلت - وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب - يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك. هـ- وعن أنس رضي الله عنه قال: "لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوّب عليه بحَجَفَة له. . . ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما وأم سُليم وأنهما لمُشَمرتان أرى خَذمَ سُوقِهما - يعني الخلاخيل - تنقزان القرب على متونهما تفرغانه في أفواه القوم) ، رواه البخاري في المغازي، باب إذا همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما "فتح الباري" (7/ 418) ، وفي الجهاد، باب (عزو النساء وقتالهن مع الرجال، وباب المجن ومن يتترس بترس صاحبه، وفي فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب أبي طلحة، ومسلم رقم (1811) في الجهاد، باب غزوة النساء مع الرجال. مجوب عليه بحَجَفَةْ أي ساتر له، قاطع بينه وبين الناس، مترس عليه بترس، تنقزان: أي تثبان، والمقصود تحملان القرب، وتقفزان بها وثبا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 الشرعي الإعمال لا الإهمال؛ وأن الواجبَ - عند التعارض - أن لا يصار إلى ترجيح أحد الدليلين إلا عند تعذر الجمع بينهما، لأن إعمال الدليلين معا أولى من إلغاء أحدهما؛ إذن يتعين محاولة الجمع بينهما (1) ، وهذا ما فعله فريق من العلماء: * قال ابن رسلان في حديث عائشة رضي الله عنها: "والحديث مقيد بالحاجة إلى رؤية الوجه والكفين كالخطبة ونحوها (2) ، ويدل على تقييده بالحاجة اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن   (1) لا يتَصَوَّرُ أن تأمر الآية والأحاديث الصحيحة المؤمنين بغض الأبصار، في حين نجد في هذا الحديث تصريحًا بإباحة النظر إن الوجه والكفين مِمّا يوجب تأويل الحديث - على فرض ثبوته- لأن فيه قرينةَ تدل على قابليته للتأويل، أو التقييد بالحاجة أو الضرورة، ألا وهي قوله: "لا يصلح أن يُرى منها"، ومعلوم معارضة لفظه "يُرى" للنصوص الآمرة بغض البصر، وهذا بخلاف ما لو قال: (لا يصلح أن يظهر منها إلا وجهها وكفيها) ، بل إنه إذا أباح الكشف بلا قيد فقد أوقع المسلمين في حرج شديد حين يطلق الكشف، وبأمر بالغض، والشريعة منزهة عن ذلك الحرج (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78) ولأنه يحول دون أطهرية قلوب المؤمنين بكثرة المشاهد، ومحاولات الغض، خاصة في زماننا، وهذا بخلاف نظرة الفجأة إلى ما قد يظهر من النساء بدون قصد إظهار، فذلك قليل نادر في المجتمع الإسلامي. وعلى فرض جواز كشف الوجه واليدين بلا تقييد بحاجة أو ضرورة، مع الأمر بغض البصر، فما هو واجب المرأة المسلمة إذا عاشت بين قوم رَقّ دينهم، وذهب ورعهم، فلا يرتدعون عن النظر المحرم إلى وجهها، هل تعينهم على هذا الفسق، وتشارك في هذه الفتنة أم أنه يجب عليها حينئذٍ منع هذا المنكر، إما بقرارها في بيتها، وإما بالخروج عند الحاجة متسترة محجبة درءًا للفتنة وسدُّا للذريعة؟!   (2) ومثلها: النظر للمداواة، وللشهادة لها أو عليها، والنظر للمعاملة من بيع أو رهن أو إجارة، أو تعليم، ويشترط لجواز ذلك فقْدُ جنس، ومحرم صالح، وتعذره من وراء حجاب، ووجود مانع خلوة، ويشترط في النظر للتزويج أن يكون بعد العزم على التزوج، ورجاء الإجابة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 سافرات الوجوه، لاسيما عند كثرة الفساق (1) اهـ. * وقال الشيخ خليل أحمد السهارنفوري: "ويدل على تقييده بالحاجة اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه، لاسيما عند كثرة الفساد وظهوره" (2) اهـ. * وقال الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي: "لو ثبت أن حديث عائشة صحيح - مع العلم بأنه لم يثبت - فحينئذِ كشف المرأة وجهها لرجل أجني مقيد ذلك بالحاجة، والضرورة، لا مطلقا" (3) اهـ. ومقصودهم - والله أعلم - أن المرأة إذا بلغت لم يحل أن يظهر من بدنها شيء لأنها كلها عورة، إلا أن تحتاج أو تضطر لكشف وجهها وكفيها فيحل لها ذلك حينئذ بقدره. أو: أن المرأة إذا بلغت حل لها أن تظهر وجهها وكفيها ما لم تُخَفْ الفتنه بهما، فإن خيفت الفتنة فعليها ستر ذلك. فإذا قيل: بل يتعين الترجيح لأن التكلف في الجمع بينهما غير خافٍ على من تأمله. قلنا: نحن أسعد بهذا المسلك منكم؛ إذ إن أدلة وجوب ستر الوجه والكفين ناقلة عن الأصل، وأدلة جواز كشفه مبقية على الأصل، والناقل عن الأصل مُقَدَّم كما هو معروف عند الأصوليين، وذلك لأن الأصل بقاء الشيء على ما كان عليه، فإذا وجد الدليل الناقل عن الأصل دل ذلك على طروء الحكم على الأصل وتغييره إياه.   (1) نقله عنه الشوكاني في "نيل الأوطار" (6/130) . (2) "بذل المجهود في حل أبي داود" (16/164) (3) "يا فتاة الإسلام" ص (258) ، بهذا السياق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 ولذلك نقول: إن مع الناقل زيادةَ علم، وهو إثبات تغيير الحكم الأصلي، والمثبِت مقدم على النافي، وهذا الوجه إجمالي ثابت حتى على تقدير تكافؤ الأدلة ثبوتَا ودلالة (1) . * فوائد: الأولى: أكثر أهل الأصول يرجحون الخبر الناقل عن الأصل، على الخبر المبقي على البراءة الأصلية، وإليه الإشارة بقول صاحب "مراقي السعود" في مبحث الترجيح باعتبار المدلول: وناقل ومثبت والآمر ... بعد النواهي ثم هذا الآخر على أباحة. . . إلخ لأن معنى قوله: (وناقل) أن الخبر الناقل عن البراءة الأصلية مقدم على   (1) رسالة الحجاب للشيخ محمد بن صالح العثيمين (ص 28) . ويحسن أن ندعم هذا الكلام بقول محدث الشام رحمه الله في معرض الرد على من استدل بقول جابر بن عبد الله عن النساء في صلاة العيد: (فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتيمهن) على إباحة الذهب المحلق للنساء، فقال حفظه الله في أثناء الرد: [لو فرضنا أنه جاء في حديث أو أحاديث التصريح بذلك - أي إباحة المحلق - فينبغي أن يحمل ذلك على الأصل الأول، وهو الإباحة، ثم طرأ عليها ما أخرجها من هذا الأصل إلى التحريم بدليل أحاديث التحريم، فإن مثل هذه الأحاديث لا تصدر من الشارع في الغالب إلا لرفع ذلك الأصل وهو الإباحة في الأمور التي نص على تحريمها، ولذلك يقول علماء "أصول الفقه": (إذا تعارض حاظر ومبيح قدم الحاظر) ، وفي هذه الحالة لا يلزمنا أن نثبت تأخر النص المحرم على النص المبيح، لأن النص المحرم يتضمن في الواقع الإشارة إلى رفع ما تضمنه النص المبيح كما هو ظاهر] اهـ. من "حجاب المرأة المسلمة" هامش ص (27) . وهو كما ترى يحمل في طياته الرد على من قال: "أين دليل التراخي الزمني بين الحاظر والمبيح الذي هو أحد شروط النسخ؟ "، وانظر أيضَا: "إرواء الغليل" (1/149) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 الخبر المبقي عليها، وعزاه في شرحه المسمى "نشر البنود، للجمهور، وهو المشهور عند أهل الأصول" (1) اهـ. واستدل الجمهور لمذهبهم بما يأتي: أولاً: أن الحديث المبقي للبراءة لا يستفاد منه فائدة جديدة، وذلك لأنه لا يفيد أكثر مما استفيد من البراءة الأصلية، أما الحديث الرافع للبراءة فيستفاد منه فائدة جديدة. ثانيا: أن الخبر الناقل عند ترجيحه يُقَدَّرُ متأخرا، وعليه فيكون ناسخا للخبر المبقي للبراءة الأصلية، والخبر المبقي لها لم ينسخ البراءة الأصلية، وإنما هو مُقَرِّر لها، وبذلك يتحقق النسخ مرة واحدة. أما لو جعل لخبر المبقي للبراءة هو الراجح فسيقدر متأخرَا فيكلون ناسخا للناقل للبراءة، والناقل قد نسخ البراءة الأصلية لأنه غير مقرر لها فيلزم من ذلك النسخ مرتين، والنسخ خلاف الأصل، فالخبر الناقل مقلل له، وعليه يكون راجحا (2) . الفائدة الثانية: ذهب جماعة من أهل الأصول إلى أنه إِذا تعارض خبران، وكان أحدهما دالا على الوجوب، والآخر دالا على الإباحة، ففي هذه الحالة يقدم الدال على الوجوب، وذلك لأن العمل به مقَدم للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب، ثم الدال على الإباحة - ويشمل غير الواجب - فيدخل فيه المسنون والمندوب لاشتراك الجميع على عدم العقاب على ترك الفعل (3) .   (1) "أضواء البيان" (5/657 - 658) . (2) انظر: "شرح الأسنوي" (3/178) ، و"أصول الفقه" للشيخ محمد أبو النور زهير (4/213) . (3) "أضواء البيان" (5/658) ، وانظر: "حاشية السعد" (2/312) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 الفائدة الثالثة: أن المسلمة إن عملت بقول من أوجب ستر الوجه والكفين فأدت ذلك على سبيل الوجوب برئت ذمتها عند القائلين بأنه فرض وعند القائلين بأنه فضل كليهما، ولو أسفرت عن وجهها وكشفت كفيها، ولم تسترهما على سبيل الوجوب تبقى مطالَبَة بواجب على قول جمع كبير من العلماء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "دع ما يَريبُك إلى ما لا يَرِيبُك" (1) ، ويقول: "فمن اتقَى الشُبُهاتِ فقد استبرَأ لدِينِه وعِرْضِهِ" (2) . * ثالثًا: متن الحديث: قد عرفتَ ضعف هذا الحديث من حيث السند، أما من حيث معانيه وألفاظهُ فهو معارض للأدلة المتوافرة على وجوب الحجاب سواء في ذلك عموم آيات الحجاب، أو فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله وتقريره، فهل يسوغ أن يؤخذ بظاهرِ حديثْ هذا حاله فيكون مخصصًا لكل ما ورد من عموم ألفاظ القرآن وما صح من فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع صفية، وتقريره لفعل سودة رضي الله عنهما؟ أضف إلى ذلك مخالفة لفظه: "لا يصلح أن يرى منها" لحديث جرير بن   (1) وتتمته "فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة" أخرجه الترمذي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما رقم (2518) في صفة القيامة، باب رقم (60) وقال: (حسن صحيح) ، والنسائي (8/327 - 328) بدون التتمة في الأشربة، باب الحث على ترك الشبهات، والإمام أحمد في مسنده (1/200) ، (3/112 - 153) ، وصححه ابن حبان (512) ، والحاكم (2/13) ووافقه الذهبي، وأخرج النسائي هذه الجملة في آخر حديث طويل (8/ 230) في القضاة، باب الحكم باتفاق أهل العلم، وقال: (هذا الحديث جيد جيد) . (2) قطعة من حديث رواه البخاري (1/153) في الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، وفي البيوع: باب الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات، ومسلم (1599) في المساقاة: باب لعن آكل الربا وموكله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 عبد الله رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري" (1) . وقد كان إسلام جرير رضي الله عنه في رمضان سنة عشر من الهجرة (2) . كما أنه مخالف لحال أمهات المؤمنين ونسائهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عملا ليسَ عليه أمرُنا فهو رَدٌّ" (3) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت "كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحرِمات، فإذا حاذَوْنا سَدَلت إحدانا جلبابَها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه" (4) . وعنها رضي الله عنها قالت: "تَسدُل المحرمة جلبابها من فوق رأسها على وجهها" (5) . روى ابن أبي خيثمة من طريق إسماعيل بن خالد عن أمه، قالت: كنا ندخل على أم المؤمنين يوم التروية، فقلت لها: "يا أم المؤمنين! هنا امرأة تأبى أن تغطي وجهها وهي محرمة"، فرفعت عائشة خمارها من صدرها، فغطت به وجهها (6) - أي وجه المرأة المشار إليها. وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "كنا نكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن مُحرمات فيمر بنا الراكب فتَسدُل المرأة الثوب من فوق رأسها على وجهها" (7) .   (1) سبق تخريجه. (2) أي قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر. (3) أخرجه مسلم (1718) (18) بهذا اللفظ، وقد اتفقا على إخراجه بلفظ: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ) . (4) سبق تخريجه. (5) سبق تخريجه. (6) انظر "تلخيص الحبير" (2/ 292) . (7) انظر: ص (350) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 وعن فاطمة بنت المنذر قالت: "كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات، ونحن مع أسماء رضي الله عنها" (1) . فلو كان لهن سعة من السفور؛ ولو كان حديث عائشة صحيحَا ومعمولًا به؛ لما كان النساء يلتزمن تغطية الوجوه، ولاسيما في حالة الإحرام. وحديث عائشة رضي الله عنها أيضًا مخالف لما ثبت عن أسماء رضي الله عنها نفسها: فقد قالت أسماء رضي الله عنها: "كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام" (2) . و (عمل من نسب إليه الحديث بخلافه حتى عند الرخصة دليل على ضعف الحديث أو على الأقل نسخه) (3) . * قال الشيخ عبد العزيز بن خلف: فتمسك أسماء بهذا يرد على من أخذ بحديث عائشة أن أسماء قد أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا تكشف إلا وجهها وكفيها (4) اهـ. * وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين: وأيضًا فإن أسماء رضي الله تعالى عنها كان لها حين هجرة النبي صلى الله عليه وسلم سبع وعشرون سنة، فهي كبيرة السن فيبعد أن تدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق تصف منها ما سوى الوجه والكفين، فلابد على تقدير الصحة من أن يحمل على ما قبل الحجاب، لأن نصوص الحجاب ناقلة عن   (1) سبق تخريجه. (2) سبق تخريجه. (3) "فصل الخطاب" ص (88) . (4) "نظرات في حجاب المرأة المسلمة" ص (54) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 الأصل فتقدم عليه (1) اهـ. * قال الشيخ عبد العزيز بن خلف: "هذا الحديث - يقصد حديث عائشة رضي الله عنها - لا يصح العمل به، لأنه ضعيف هو وطرقه، وأيضا فغير سائغ أن تدخل أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم بثياب رقاق تصف بَشرَتها، وذلك بالمدينة بعد أن نزل الحجاب، إلا أن يكون ذلك في مكة وقبل الهجرة، وقبل نزول الحجاب، وإذا كان كذلك، فلا يلتفت إليه، وليس بحجة" (2) اهـ.   (1) "رسالة الحجاب" ص (30) ، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهتم بستر المرأة المسلمة منذ أوائل مراحل الدعوة بمكة، وأمر ابنته زينب بتخمير نحرها، فهل يخفى ذلك على المسلمات، بما فيهن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، وهى التي كان يتردد صلى الله عليه وسلم، على بيت أبيها صباح مساء. روى البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: لم أعقل أبوي إلا وهما يَدينان الدين، ولم يمر عليهما يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشيا. . . الحديث - انظر "فتح الباري" (10/671-672) . وعن الحارث بن الحارث الغامدي، قال: قلت لأبي ونحن بمنى: ما هذه الجماعة؟ قال: هؤلاء القوم قد اجتمعوا على صابئ لهم، قال: فنزلنا - وفي رواية: فتشرفنا - فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى توحيد الله والإيمان به، وهم يردون عليه قوله، ويؤذونه، حتى انتصف النهار، وتصدّع عنه الناس، وأقبلت امرأة قد بدا نحرها تبكي، تحمل قدحًا فيه ماء، ومنديلا، فتناوله منها، وشرب، وتوضأ، ثم رفع رأسه، فقال: "يا بنية! خمري عليك نحركِ، ولا تخافي على أبيك غلبة ولا ذلا"، قلت: من هذه؟ قالوا: هذه زينب ابنته. قال الألباني: أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" اهـ. من "حجاب المرأة المسلمة" ص (35-36) . (2) "نظرات في حجاب المرأة المسلمه" ص (66-67) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 * وقال الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي: إن أسماء رضي الله عنها عندها من التقوى، والخشية لله، والورع، والحياء، ما يمنعها أن تدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليها ثياب رقاق (1) . وعن محمد بن قنفذ عن أمه أنها سألت أم سلمة رضي الله عنها: ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب؟ قالت: "تصلي في الخمار والدرع السابغ إذا غيب ظهور قدميها" (2) . وفي رواية أبي داود عن أم سلمة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أتصلي المرأة في درع وخمار، وليس لها إزار؟ قال: "إذا كان الدرع سابغَا يغطي ظهور قدميها" (3) . فإذا عدَّ القدمين عورة، وأذن لها في الإسبال كي لا تنكشف القدمان، وأمر بعدم الضرب بالأرجل حتى لا يسمع صوت الخلاخل، أو تظهر الزينة الخفية، فإن أمره بتغطية الوجه الذي هو مجمع الحُسْن والفتنة أولى. فهذا من باب "التنبيه بالأدنى على ما فوقه، وما هو أولى منه بالحكم"، وحكمة الشرع تأبى أن يجب ستر ما هو أقل فتنة، ويرخص كشف ما هو أعظم منه فتنة، فإن هذا من التناقض المستحيل على حكمة الله وشرعه. وأخيرًا: فإن هذا الحديث لو سلمنا صلاحيته للاحتجاج فهو حجة على أهل السفور، وذلك لأن هذا نص يقضي بأن المرأة إذا بلغت المحيض لا يجوز لها أن تكشف غير الوجه والكفين أمام أحدٍ كائنًا من كان، أبا أو   (1) "يا فتاة الإسلام" ص (258) . (2) رواه مالك في "الموطأ" كتاب صلاة الجمعة (8) ، باب الرخصة في صلاة المرأة في الدرع والخمار (10) ، رقم (37) ، موقوفا على أم سلمة رضي الله عنها. (3) "سنن أبي داود" - كتاب الصلاة (2) ، باب في كم تصلي المرأة (83) ، ورواه الحاكم في "المستدرك" (1/ 250) كتاب الصلاة، وقال: (هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه) اهـ، ووافقه الذهبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 أخا أو ابنَا، أو عما، أو غيرهم، ومعلوم أن الله قد أذن للمرأة في إبداء الزينة أمام المحارم، ومنع عنه أمام الأجانب، فما هي الزينة التي تبديها أمام المحارم، ولا تبديها أمام الأجانب؟ وبتعبير آخر: لما جاز لها كشف وجهها وكفيها أمام الأجانب، ولم يجز لها كشف شيء من أعضائها سوى الوجه والكفين أمام المحارم فأي فرق يبقى بين المحارم والأجانب؟ مع أن القرآن ينص على الفرق بينهما في صراحة باتة، فتفكر!، ولو قيل: إن هذا نص يجري فيه التخصيص من نصوص أخرى، قلنا: فما لناحية الحجاب والسفور لا يجري فيها التخصيص بالنصوص؟! " (1) . الشبهة الثانية * وهي ما رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (2) ، قال رحمه الله تعالى: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج قال:. . . قالت عائشة رضي الله عنها: دخلت عَلَيَّ ابنةُ أخي لأمي عبد الله بن الطفيل مزينة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، فأعرض، فقالت عائشة: يا رسول الله إنها ابنة أخي وجارية، فقال: "إذا عركت (3) المرأة لم يحل لها أن تظهر إلا وجهها، وإلا ما دون هذا"، وقبض على ذراع نفسه، فترك بين قبضته وبين الكفِّ مثل قبضة أخرى. والحسين هو سُنَيْد بن داود المِصيصي المحتسب، قال الحافظ في "التقريب": ضعيف مع إمامته ومعرفته، لكونه كان يُلَقَّن حجاج بن محمد   (1) "مسالة السفور والحجاب" لأبي هشام الأنصاري - مجلة الجامعة السلفية، ص (77) ، عدد نوفمبر، ديسمبر 1978م. (2) "تفسير الطبري" (18/ 119) ، وانظر: "الدر المنثور" (5/ 42) . (3) عركت: حاضت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 شيخَه" (1) اهـ. وقال الذهبي في "الميزان": حافظ له تفسير، وله ما يُنكَر، وقال: صدقه أبو حاتم، وقال أبو داود: لم يكن بذلك، وقال النسائي: الحسين بن داود ليس بثقة" (2) اهـ. كما أن هذا الحديث معضل، لأن بين ابن جريج وعائشة رضي الله عنها مفاوز، فقد توفي ابن جريج بعد المائة والخمسين، ولم يدرك عائشة رضي الله عنها. ونقل الذهبي في "الميزان" عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قوله: "قال أبي: بعض هذه الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة، كان ابن جريج لا يبالي من أين يأخذها، يعني قوله: أخبِرت، وحُدثت عن فلان" (3) ! وقال الحافظ في "التهذيب": "وقال الأثرم عن أحمد: إذا قال ابن جريج: قال فلان، وقال فلان، وأخبرت، جاء بمناكير، وإذا قال: أخبرني، وسمعت فحسبك به،. . . وقال جعفر بن عبد الواحد عن يحيى بن سعيد: كان ابن جريج صدوقًا، فإذا قال: حدثني، فهو سماع، وإذا قال: أخبرني، فهو قراءة، وإذا قال: "قال" فهو شبه الريح" (4) . وقال الدارقطني: "تجنب تدليس ابن جريج فإنه قبيح التدليس، لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح مثل إبراهيم بن أبي يحيى، وموسى بن   (1) "تقريب التهذيب" (1/ 335) . (2) "ميزان الاعتدال" (2/ 236) ، وانظر ترجمته أيضَا في "تهذيب التهذيب" (4/ 244) ، و"الجرح والتعديل" (4/ 326) ، و"تاريخ بغداد" (8/ 42-44) ، و"طبقات المفسرين" (1/209) ، و"سير أعلام النبلاء" (10/627) . (3) "ميزان الاعتدال" (2/ 659) رقم (5227) . (4) "تهذيب التهذيب" (6/ 404) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 عبيدة وغيرهما" (1) . وقال الإمام صلاح الدين العلائي: "يكثر من التدليس" (2) . واعلم؛ أن هذا الحديث لا يصلح أن يكون شاهدا لحديث عائشة السابق وذلك لتخالف متن الحديثين، ولإعضال هذا الحديث كما أشرنا (3) . الشبهة الثالثة * ما أخرجه البيهقي في "سننه" من طريق محمد بن رمح، ثنا ابن لَهِيعة، عن عياض بن عبد الله أنه سمع إبراهيم بن عبيد بن رفاعة الأنصاري يخبر عن أبيه أظنه عن أسماء ابنة عميس أنها قالت: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما، وعندها أختها أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم، وعليها ثياب شامية واسعة الأكمام، فلما نظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فخرج، فقالت عائشة رضي الله عنها: تَنَحَّي فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرًا كرهه، فتنحت، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عائشة رضي الله عنها: لم قام؟ قال: "أو لم تَرَ إلى هيئتها؟! إنه ليس للمرأة   (1) "السابق" (6/ 405) . (2) "جامع التحصيل في أحكام المراسيل" ص (108) رقم (33) . (3) وقد تعقب العلامة الألباني الشيخ أبا الأعلى المودودي رحمه الله في تقويته هذا الحديث بمرسل قتادة، ثم احتجاجه بهما على أن المرأة عورة كلها إلا الوجه واليدين على جميع الناس حتى على الأب والأخ وسائر المحارم! غير أن مدار المساجلة كان حول لفظ لم أعثر عليه في مظانه من تفسير ابن جرير، وكلا الشيخين لم يعزه إلى موضعه فيه، واللفظ المشار إليه: عن ابن جريج قال: "خرجت لابن أخي عبد الله بن الطفيل مزينة، فكرهه النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إنه ابن أخي يا رسول الله، فقال: "إذا عركت المرأة لم يحل لها أن تظهر إلا وجهها إلا ما دون هذا"، وقبض على ذراع نفسه"، وبين الألباني رحمه الله مخالفة لفظ الحديث لنص القرآن (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) الآية، وفيها: (أَوْ بَنِي = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 المسلمة أن يبدو منها إلا هذا وهذا"، وأخذ بكميه فغطى بهما ظهر كفيه حتى لم يبد من كفيه إلا أصابعه، ثم نصب كفيه على صُدْغَيْهِ حتى لم يَبْدُ إلا وجهه. قال البيهقي: إسناده ضعيف (1) . وعياض بن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر هو الفهري (2) ، من رجال مسلم، قال أبو حاتم: "ليس بالقوي"، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الساجي: "روى عنه ابن وهب أحاديث فيها نظر"، وقال يحيى بن معين: "ضعيف الحديث"، وقال ابن شاهين: "في الثقات"، وقال أبو صالح: "ثبت له بالمدينة شأن كبير، في حديثه شيء"، وقال البخاري: "منكر الحديث"، وقال الحافظ في "التقريب": "فيه لين" (3) . لكن علة هذا الحديث ابن لَهِيعة، واسمه عبد الله الحضرمي أبو عبد الرحمن المصري القاضي وهو ثقة فاضل، لكنه كان يحدث من كتبه فاحترقت، فحدث من حفظه فخلط (4) . قال الهيثمي: "وفيه ابن لهِيعة، وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح" (5) . وقال في موضع آخر: "ابن لَهِيعة حديثه حسن، وفيه ضعف" (6) .   = إِخْوَانِهِنَّ) ثم قال: (فهي - أي الآية - صريحة الدلالة على جواز إبداء المرأة زينتها لابن أخيها، فكان الحديث منكرَا من هذه الجهة أيضًا) اهـ من "حجاب المرأة المسلمة" هامش ص (18) . (1) "السنن الكبرى" (7/ 86) . (2) "تهذيب التهذيب" (8/ 201) . (3) "تقريب التهذيب" (2/96) . (4) فمن حدث عنه قبل احتراق كتبه كالعبادلة وغيرهم فحديثه قوي، ومن روى عنه بعد احتراق كتبه فحديثه ضعيف، إلا أن يجبره وجه آخر. (5) "مجمع الزوائد" (5/ 137) ، وقال: "رواه الطبراني في الكبير، والأوسط) اهـ. (6) "السابق" (5/137) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 وقال الإمام أبو محمد عبد الرحمن الرازي ابن الإمام أبي حاتم الرازي بعدما ساق سندين في كل منهما ابن لهيعة: "قلت لأبي: فأيهما أصح؟ قال: لا يضبط عندي، جميعا ضعيفين" (1) . وقال الجوزجاني: "لا يوقف على حديثه، ولا ينبغي أن يحتج به، ولا يغتر بروايته، وقال ابن حبان: سبرت أخباره، فرأيته يدلس على أقوام ضعفاء على أقوام ثقات قد رآهم" (2) . وقال الألباني: "ضعيف من قبل حفظه" (3) . وقال أيضًا. "وبعض المتأخرين يحسن حديثه، وبعضهم يصححه" اهـ. ثم قال: والذي لا شك فيه أن حديثه في المتابعات والشواهد لا ينزل عن رتبة الحسن، وهذا منها" (4) اهـ.   (1) "علل الحديث" لابن أبي حاتم (1/ 482) . (2) "الضعفاء الصغير" ص (66) ، "الضعفاء والمتركون" ص (95) . (3) "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة" رقما (319) ، (461) . (4) "حجاب المرأة المسلمة" ص (25) . ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن فضيلة الشيخ الألباني يخالف كلا من ابن عباس رضي الله عنهما ومَنْ وافقه مِن الصحابة، ومن بعدهم كالبيهقي والقرطبي ممن استدلوا بقوله تعالى (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) على أن المراد: الوجه والكفان، انظر كتابه (ص 33) ، ورجح فضيلته أن الآية تستثني ما ظهر منها بدون قصد، فلا يسوغ أن تُجعل دليلَا شاملا لما ظهر منها بالقصد (ص 24) ، فحديث عائشة رضي الله عنها عند أبي داود هو الأصل الذي بنى عليه الشيخ مذهبه، وإذا كان هذا الأصل ضعيفَا في سنده ومعناه كما تقدم، ولا تقوم به حجة، فإن الفرع الذي ساقه لتقويته أولى بالطرح، ومن المعلوم أن من أباح السفور من العلماء إنما استدل مع حديث عائشة وأسماء بثلاثة أدلة: أولها: أن الوجه والكفين ليسا من العورة في الصلاة والحج. والثاني: تفسير قوله تعالى (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) بالوجه والكفين. وكلاهما يبطل الشيخ الألباني الاستدلال به على إباحة السفور، انظر "حجاب المرأة المسلمة" (ص 33) . = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 وبعض من صحح أحاديث ابن لَهِيعة إنما صححها من رواية العبادلة (1) عنه. ومع تضعيف الإمام البيهقي رحمه الله هذا الحديثَ، فإنه- إلى جانب ذلك - أعرض عن الاستشهاد به لتقوية حديث عائشة رضي الله عنها، مع أنه- دون غيره من المحدثين - أخرجهما معًا في سننه، فكأنه رحمه الله لم يَعُدَّهُ صالحا في المتابعات والشواهد (2) . أما احتجاجه رحمه الله بما رُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنهما، فقد تقدم الجواب عنه في تفسير قوله تعالى (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) (3) وبيان ضعفه سندا. فعلى هذا يكون تفسير (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) بالوجه والكفين محتاجًا إلى دليل صحيح، ودليلهم الذي بنوا عليه مذهبهم الحديث المرسل المروي عن عائشة رضي، الله عنها، فكيف يكون مجرد قولهم دليلا على صحة الحديث؟ وقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه تفسير (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) بالثياب، وإذا صح ما رُوي عن ابن عباس (4) رضي الله عنهما يكون قول صَحابي   = والثالث: دعوى جريان عمل النساء به، وهذه فيها نظر، انظر ص (475) ، وكذا جواب الشبهات من الرابعة إلى الثامنة، وكذا العاشرة، والحادية عشرة. (1) والبعض يضيف إلى العبادلة آخرين حدثوا عنه قبل احتراق كتبه، ليس منهم محمد بن رمح راوي هذا الحديث عنه. (2) بل لما أراد رحمه الله تقوية حديث عائشة رضي الله عنها عدل عن هذا الحديث إلى تقويته بالآثار الواردة عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، فقال عقب روايته: "مع هذا المرسل قول من مضى من الصحابة رضي الله عنهم في بيان ما أباح الله من الزينة الظاهرة، فصار القول بذلك قويًّا، والله الموفق" اهـ. من "السنن الكبرى" (2/ 226) ، وانظر: "النقد البناء لحديث أسماء" فإنه بحث متين. (3) راجع (ص 284-289) . (4) وقد صحح الألباني تفسير ابن عباس رضي الله عنهما للآية، بأن المقصود: = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 خالفه صاحبي آخر، فوجب أن نختار أقرب القولين إلى الكتاب والسنة. واعلم؛ أن من حسَّن حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه عنها خالد بن دريك، إنما حسنه - رغم انقطاعه - باعتبار حديث أسماء بنت عميس - هذا رغم ضعفه - شاهدا موصولًا له. ولو سلمنا بتحسين الحديثين، لكان الجواب عن حديث أسماء هذا كالجواب عن حديث عائشة رضي الله عنها، تماما كما تقدم (1) ، والعلم عند الله تعالى. الشبهة الرابعة حديث السفعاء الخدين * ذهب بعض الفضلاء إلى تحسين حديث أسماء السابق، وبعد أن صلح عنده الاحتجاج به قال: "وقد جرى العمل عليه عند النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث كن يكشفن عن وجوههن وأيديهن بحضرته صلى الله عليه وسلم وهو لا ينكر ذلك، عليهن" اهـ. وهذا السياق لا يصح جملة وتفصيلا، بل ذهب بعض العلماء إلى القول بأن: "سياق هذا بأسلوب الجزم فيه افتئات في حق النبي صلى الله عليه وسلم وحق النساء المؤمنات رضي الله عنهن، لأن الأدلة التي كانت هي السند في سياقه لا تحمل أمورا قطعية، وإنما تضمنت احتمالات ضعيفة لا تقوم بها حجة على ما قاله، لأن مثل ذلك يحتاج إلى أدلة قطعية ومتواترة، ولا شيء من هذا   = "الكف، ورقعة الوجه"، وهو في "المصنف" لابن أبي شيبة (4/ 283) ، وقال الألباني: "وروى نحوه عن ابن عمر بسند صحيح أيضَا" اهـ، وانظر: "تمام المنة في التعليق على فقه السنة" (ص 160 – 161) (1) راجع (ص 372-384) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 كله" (1) اهـ. ومن هذه الأدلة التي استدل بها فضيلته على هذه الدعوى: * ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئا على بلال، فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته، ووعظ الناس، وذكَّرهم، ثم مضى حتى أتى النساء (2) فوعظهن، وذكَرهن، فقال: "تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم"، فتكلمت امرأة من سطة النساء (3) سفعاء الخدين (4) ، فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: "لأنكن تكثرن الشكاية، وتكفرن العشير"، قال: فجعلن يتصدقن من حُليّهن، يلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتمهن (5) . قال: وقول جابر في هذا الحديث: سفعاء الخدين، يدل على أنها كانت كاشفة عن وجهها، إذ لو كانت محتجبة لما رأى خديها، ولما علم بأنها سفعاء الخدين. والجواب *أولا: أن الحديث ليس فيه حجة لإثبات ما أورده من أجله.   (1) "نظرات في حجاب المرأة المسلمة" (ص 67-68) . (2) وفي رواية النسائي: (ومضى إلى النساء ومعه بلال) قال القاري في "المرقاة": ولا يلزم منه رؤيته لهن اهـ (2/255) . (3) أي جالسة وسطهن. (4) أي فيهما تغير وسواد. (5) أخرجه البخاري في خمسة عشر موضعًا، ومسلم في العيدين، والنسائي، والدارمي، والبيهقي، والإمام أحمد في مسنده بإسنادٍ صححه السندي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 * قال العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى: "وأجيب عن حديث جابر هذا بأنه ليس فيه ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كاشفة عن وجهها، وأقرها على ذلك، بل غاية ما يفيده الحديث أن جابرا رأى وجهها، وذلك لا يستلزم كشفها عنه قصدًا، وكم من امرأة يسقط خمارها عن وجهها من غير قصد، فيراه بعض الناس في تلك الحال، كما قال نابغة ذبيان: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليدِ فعلى المحتج بحديث جابر المذكور أن يثبت أنه صلى الله عليه وسلم رآها سافرة، وأقرها على ذلك، ولا سبيل له إلى إثبات ذلك" اهـ (1) . * وقال الشيخ حمود بن عبد الله التويجري حفظه الله تعالى: "وأما حديث جابر رضي الله عنه فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى تلك المرأة سافرة بوجهها، وأقرها على ذلك، حتى يكون فيه حجة لأهل السفور، وغاية ما فيه أن جابرًا رأى وجه تلك المرأة، فلعل جلبابها انحسر عن وجهها بغير قصد منها، فرآه جابر، وأخبر عن صفته، ومن ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رآها كما رآها جابر، وأقرها فعليه الدليل" (2) اهـ. * وقال الأستاذ درويش مصطفى حسن حفظه الله: "إن هذه المرأة كانت مبدية وجهها وهي في وسط النساء، وفي مصلاهن يوم العيد، ولا حرج عليها في ذلك، أما وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتاهن يخبرهن بأن أكثر النساء حطب جهنم، نسيت كل شيء، ولم تهتم إلا بأمر واحد دون ما عداه، وهو معرفة سبب هذا الأمر الخطير، فهمَّت تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتغافلت حينا عن تغطية وجهها دون أن تقصد،   (1) "أضواء البيان" (6/597) . (2) "الصارم المشهور" ص (117 - 118) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 فوقع نظر جابر - راوي الحديث - على حالتها تلك، فأخبر بهذا الوصف الذي رآه، لكي تعرف به هذه المرأة من غير أن يقصد النظر إليها" (1) اهـ. * ثانيًا: أنه قد روى هذه القصة المذكورة من الصحابة غير جابر رضي الله عنه، ولم يذكروا كشف المرأة المذكورة عن وجهها، وقد ذكر مسلم "صحيحه" ممن رواها - غير جابر - أبا سعيد الخدري، وابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم، وذكره غيره عن غيرهم، ولم يقل أحد ممن روى القصة غير جابر إنه رأى خدي تلك المرأة السفعاء الخدين (2) . * قال الشيخ حمود التويجري حفظه الله: "ومما يدل على أن جابرًا رضي الله عنه قد انفرد برؤية وجه المرأة التي خاطبت النبي صلى الله عليه وسلم أن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأبا هريرة وأبا سعيد الخدري رضي الله عنهم رَوَوْا خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وموعظته للنساء، ولم يذكر واحد منهم ما ذكره جابر رضي الله عنه من سفور تلك المرأة وصفة خديها. فأما حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فرواه الإمام أحمد في "مسنده"، والحاكم في "مستدركه"، وقال: "صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر النساء تصدقن ولو من حُلِيكُن فإنكن أكثر أهل جهنم"، فقالت امرأة ليست من عِليَةِ النساء: وبم يا رسول الله نحن أكثر أهل جهنم؟ قال: "إنكن يكثِرنَ اللعن وتكفرن العشير (3) ".   (1) "فصل الخطاب في مسألة الحجاب والنقاب" (ص 95) . (2) (فلعل هذا كان لقبَا للمرأة، أو أن الراوي كان يعرفها قبل الحجاب) اهـ. من "حجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة" لمكية نواب مرزا - رسالة ماجستير جامعة أم القرى (ص 54) . (3) أي الزوج، أي يجحدن إحسان أزواجهن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 فوصف ابن مسعود رضي الله عنه المرأة التي خاطبت النبي صلى الله عليه وسلم بأنها ليست من علية النساء، أي ليست من أشرافهن، ولم يذكر عنها سفورًا ولا صفة الخدين. وأما حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فرواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر النساء تصدقن، وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار"، فقالت امرأة منهن جَزْلَة: وما لنا يا رسول الله؟ قال: "تكثرن اللعن، وتكفرن العشير"، فوصف المرأة بأنها كانت جزلة، ولم يذكر ما رواه جابر من سَفْع خَدَّيها. قال ابن الأثير: امرأة جزلة أي تامةُ الخَلْق، ويجوز أن تكون ذات كلام جزل أي: قوي شديد. وقال النووي: جزلة بفتح الجيم وإسكان الزاي، أي ذات عقل ورأي، قال ابن درَيد: الجزالة العقلُ والوقار. وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فرواه الإمام أحمد والشيخان وأهل السنن إلا الترمذي، وفيه: فقالت امرأة واحدة لم يُجِبْهُ غيرها منهن: نعم يا نبي الله، لا يُدرى حينئذٍ من هي، قال: فتصدقن. . ." الحديث. قال النووي رحمه الله في قوله "لا يدري حينئد من هي": معناه لكثرة النساء، واشتمالهن بثيابهن لا يدرى من هي؟ اهـ. فهذا ابن عباس رضي الله عنهما لم يذكر عن تلك المرأة سفورًا، ولا عن غيرها من النسوة اللاتي شهدن صلاة العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان شهودُ ابن عباس رضي الله عنهما لصلاة العيد في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فرواه الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح"، وفيه. "فقالت امرأة منهن: ولم ذلك يا رسول الله؟ . . ." الحديث. وأما حديث أبي سعيد رضي الله عنه، فأخرجاه في الصحيحين وفيه: "فقلن: وبم يا رسول الله؟ . . ." الحديث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 فهؤلاء خمسة من الصحابة رضي الله عنهم، ذكروا نحو ما ذكره جابر رضي الله عنه، من موعظة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء، وسؤالهن له عن السبب في كونهن أكثر أهل النار، ولم يذكر واحد منهم سفورًا، لا عن تلك المرأة التي خاطبت النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن غيرها، وهذا يقوي القول بأن جابرا رضي الله عنه قد انفرد برؤية وجه تلك المرأة، ورؤيته لوجهها لا حجة فيه لأهل التبرج والسفور، لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآها سافرة بوجهها، وأقرها على ذلك" (1) . * ثالثًا: * قال الإمام النووي رحمه الله في شرح حديث جابر هذا عند مسلم: وقوله: "فقامت امرأة من سطة النساء" هكذا هو في النسخ سِطة بكسر السين، وبفتح الطاء المخففة، وفي بعض النسخ: واسطة النساء، قال القاضي: "معناه: من خيارهن، والوسط: العدل والخيار"، قال: وزعم حذاق شيوخنا أن هذا الحرف مغيَّر في كتاب مسلم، وأن صوابه: من سفلة النساء، وكذا رواه ابن أبي شيبة في "مسنده"، والنسائي في "سننه"، وفي رواية لابن أبي شيبة: (امرأة ليست من علية النساء) ، وهذا ضد التفسير الأول، ويعضده قوله بعده: "سفعاء الخدين " وهذا كلام القاضي، وهذا الذي ادَّعَوْه من تغيير الكلمة غير مقبول، بل هي صحيحة، وليس المراد بها من خيار النساء كما فسَّره به هو، بل المراد: امرأة من وسط النساء جالسة في وسطهن، قال الجوهري وغيره من أهل اللغة: يقال وسطت القوم أوسطهم وسطًا وسطة أي توسطتهم " (2) اهـ. * قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي، رحمه الله: وهذا التفسير الأخير هو الصحيح، فليس في حديث جابر ثناء: ألبتة على   (1) "الصارم المشهور" (ص 118-122) بتصرف، (2) "شرح النووي على صحيح مسلم" (6/175) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 396 سفعاء الخدين المذكورة، ويحتمل أن جابرا ذكر سُفْعَةَ خديها ليشير إلى أنها ليست ممن شأنها الافتتان بها (1) ، لأن سُفْعة الخدين قبح في النساء، قال النووي: "سفعاء الخدين: أي فيهما تغير وسواد"، وقال الجوهري في "صحاحه": والسُّفْعَة في الوجه سواد في خدي المرأة الشاحبة، ويقال للحمامة سفعاء، لما في عنقها من السُّفْعة، قال حميد بن ثور: من الورق سفعاء العلاطين باكرت ... فروع أشاء مطلع الشمس أسحما قال مقيده عفا الله عنه، وغفر له: السُّفْعَةَ في الخدين من المعاني المشهورة في كلام العرب أنها سوادٌ وتغير فى الوجه من مرض أو مصيبة أو سفر شديد، ومن ذلك قول متمم بن نُويرة التميمي يبكي أخاه مالكا: تقول ابنةُ العمري مالَكَ بعد ما ... أراك خضيبا ناعم البال أروعا فقلت لها طولُ الأسى إذ سألتِني ... ولَوْعَةُ وَجْد تترك الخدَّ أسفعا ومعلوم أن من السُّفْعَة ما هو طبيعي كما في الصقور، فقد يكون في خَدَّيِ الصقر سواد طبيعي، ومنه قول زهير بن أبي سَلْمى: أهوى لها أسفعُ الخدين مطرق ... ريش القوادم لم تنصب له الشبك والمقصود أن السفعة في الخدين إشارة إلى قبح الوجه، وبعض أهل العلم يقول: إن قبيحة الوجه التي لا يرغب فيها الرجال لقبحها، لها حكم القواعد اللاتي لا يرجون نكاحًا" (2) اهـ.   (1) وقيل إنه لم يرها، ولكنه تكلم عنها بوصفها السائد الذي لا يتوقف على رؤيتها كما مر ذلك قريبا، يؤيد ذلك أنه من المعاني الشهيرة في كلام العرب بصفته تغيرَا وسوادًا في الوجه من مرض أو مصيبة. (2) "أضواء البيان" (6/597 – 599) ، ومما يؤيده أن الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى أشار إلى استثناء القواعد، من النساء اللاتي لا يرجون نكاحًا من قوله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) الآية، فحكى رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: (فنسخ، واستثنى من ذلك (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397 * رابعا: أن هذه المرأة ربما تكون من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحًا، فلا تثريب عليها في كشف وجهها على النحو المذكور، ولا يمنع ذلك من وجوب الحجاب على غيرها، قال تعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)) [النور: 60] . يؤيد ذلك أن الراوي وصفها بأنها سفعاء الخدين، أي فيهما تغير وسواد فهي من الجنس المعذور في السفور حيث لم يكن بها داع من دواعي الفتنه. ويؤيده أيضَا ما تعارف عليه النساء غالبا من أن المرأة التي تجرؤ على سؤال الرجال هي أكبرهن سنا، والعلم عند الله تعالى (1) . * خامسا: أن هذا الحديث ليس فيه ما يدل على أن هذه القصة كانت قبل الحجاب أو بعده، فيحتمل أنها كانت قبل أمر الله تعالى النساء أن يضربن يخمرهن على جيوبهن، وأن يدنين عليهن من جلابيبهن. " قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: إما أن تكون هذه المرأة من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحا فكشف وجهها مباح، ولا يمنع وجوب الحجاب على غيرها، أو يكون قبل نزول آية الحجاب، فإنها كانت في سورة الأحزاب سنة خمس أو ست من الهجرة، وصلاة العيد شرعت في السنة الثانية من الهجرة (2) .   = اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) الآية) ، ثم قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: "وفي معنى ذلك الشوهاء التي لا تشتهى) اهـ. من المغني " (6/ 560) . (1) انظر: "الصارم المشهور" ص 122، "نظرات" ص 68، "رسالة الحجاب" (ص 32) ، "فصل الخطاب" ص 96، "الحجاب" للسندي (ص 44 – 45) (2) "رسالة الحجاب" ص 32، ولا يمتنع أن تشرع في السنة الثانية وتخرج النساء = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 398 وقال الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي رحمه الله: "من المعروف والمتقرر أن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتعارض، ولا تتضارب، ولا يرد بعضها بعضا، لأنها من عند الله كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أوتيت القرآن ومثله معه"، ولكن إذا حصل تعارض بين أحاديث الرسول فحينئذ لابد من سلوك طريق الجمع، فنقول: إذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى المرأة سفعاء الخدين وأقرها، وأنها لم تكن من القواعد (1) ، فالجمع هو أن حديث جابر كان قبل الأمر بالحجاب، فيكون منسوخًا بالأدلة التي ذكرناها، وهي أكثر من أربعين دليلًا، ومن ترك الدليل، ضل السبيل، وليس على قوله تعويل" (2) اهـ. * وقال الشيخ عبد الله بن جار الله رحمه الله: "هذا وإن أدلة وجوب الحجاب ناقلة عن الأصل، وأدلة جواز كشفه مبقية على الأصل، والناقل عن الأصل مقدم كما هو معروف عند الأصوليين، لأن مع الناقل زيادة علم، وهو إثبات تغيير الحكم الأصلي" (3) اهـ.   = إليها قبل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك لو قلنا إنه كان في السنة السادسة، أما استدلال محدث الشام رحمه الله بقوله صلى الله عليه وسلم "لتلبسها أختها من جلبابها" على أن المرأة السفعاء الخدين كانت مجلببة محجبة مما يؤيد أن الحادثة بعد نزول آية الإدناء، فلا يمنع أن النساء كن يلبسن الجلباب أولا، ثم نزل الأمر بمجرد الإدناء، بل هو ظاهر الآية كما يفهم من إضافة الجلباب إليهن في قوله (مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) أي الموجودة بالفعل (راجع ص 213) . (1) وأنها لم تكن أَمَة، وقد جاء في المسند: (أنها كانت من سفلة النساء) ، وأخرجه مسلم وأبو داود والدرامي. (2) "يا فتاة الإسلام" (ص 262-263) . (3) "مسئولية المرأة المسلمة" ص 58، وراجع ص (378) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 * وقال الشيخ عبد العزيز بن [راشد] النجدي رحمه الله: "وأما حديث جابر فليس فيه أنه كان بعد نزول آيات الحجاب حتى يصلح دليلًا لما ذهب إليه مَن جوَّز كشف وجه المرأة، ولم يوجب حجبه عن الأجنبي منها باجتهاد وحسن نية، ولو علم ما جَرَّ على المسلمين وغيرهم من الإباحية والشر لما أفتى بذلك ولو ضرب بالسياط ما لم يشرف على الهلاك، ولو طَلَب منه أو من مقلديه زائروه وأصدقاؤه أن يُحْضرَ إليهم زوجته أو أخته أو إحدى محارمه فيْ مجلسهم عنده كاشفات الوَجوه أو محتجبات لَعَدَّ ذلك استخفافًا بحقه ودينه وسخرية منهم له، ولتسبب عن ذلك هَجره إياهم، ومقاطعتهُ لهم مادام عنده حياءُ الإسلام، والإيمان بالكتاب. يعلم ما ذكرنا قطعًا، ويجزم بحرمته وضرره على الرجال من لفت نظره سفورُ النساء في الطرقات، والمجامع كالمواصلات والمحاكم والمستشفيات إذ أول ما يُطْمِعُه فيهن كشفُ وجوههن، وما إليها من عنق وشعر وصدر تابعٌ للوجه في السفور والحجاب فعليك بالاحتياط لنفسك وعرضك لعلك تنجو من هذا الليل والفتن الجارفة، ولا تقولن: إذا أمِنَت الفتنه عند الأجنبي منها جاز لها كشفُه ولو نظر إليها، فإن الفتن لا تؤمن على أحد مادامت الشهوة تجري في دمه، ويطمع في تفريغها ما لم يكن معصومًا من قِبل الله بالنبوة أو تأييد إلهي، فإن لم يفتتن الناظر والمنظور بالوقوع في الفاحشة، فلن يُؤمَنَ عليها تعلقُ قلب أحدِهما بالثاني، والوقاية خير من العلاج" (1) اهـ. الشبهة الخامسة * عن ابن عباس رضي الله عنهما قيل له: شهدت العيدَ مع النبي صلى الله عليه وسلم؟   (1) "أصول السيرة المحمدية" (ص 167) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 قال: نعم، ولولا مكاني من الصغَر ما شهدته، حتى أتى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت، فصلىَّ، فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إليه حين يُجَلِّس الرجال بيده، ثم أقبل يشقهم، ثم أتى النساء ومعه بلال، فقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا) فتلا هذه الآية حتى فرغ منها، ثم قال حين فرغ منها: "أأنتن على ذلك؟ " فقالت امرأة واحدة لم يجبه غيرها منهن: نعم يا نبي الله، ثم قال: "هلم لكنَّ فداكن أبي وأمي"، فرأيتهن يهوين بأيديهن يقذفنه، وفي رواية: فجعلن يلقين الفتخ والخواتم في ثوب بلال، ثم انطلق هو وبلال إلى بيته" (1) . قال ابن حزم: "فهذا ابن عباس بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أيديهن فصحَّ أن اليَدَ من المرأة والوجه ليسا بعورة، وما عداهما ففرض ستره" (2) اهـ. والجواب: أنه ليس في الحديث ذكر الوجه بحال، فأين فيه ما يدل على أن وجه المرأة ليس بعورة؟ وفي الحديث ذكر الأيدي ولكن ليس فيه تمرير بأنها كانت مكشوفة حتى يتم الاستدلال به على أن يد المرأة ليست بعورة. غاية ما فيه أن ابن عباس رضي الله عنهما رآهن يهوين بأيديهن (3) ، ولم يذكر حسرهن عن أيديهن، وإذا كان الحديث محتملًا لكل من الأمرين لم يصح الاستدلال به على أن يد المرأة ليست بعورة، فإن الدليل إذا طرقه الاحتمال سقط به الاستدلال، والله تعالى أعلم.   (1) رواه البخاري (2/ 539 - 541) ، وأبو داود (1/174) ، والبيهقي في "سننه" (3/ 307) ، والنسائي (1/ 227) ، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 331) . (2) "المحلى" (3/217) . (3) ولعل صغر سنه المنوه به في صدر الحديث يقضي بأن يغتفر له حضور موعظة النساء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 الشبهة السادسة * عن عائشة رضي الله عنها قالت: أومت – وفي لفظ: أومأت - امرأة من وراء ستر، بيدها كتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، فقال: "ما أدري أيد رجل أم يد امرأة؟ " قالت: بل امرأة - وفي لفظ: بل يد امرأة -، قال: "لو كنتِ امرأة لغيرت أظفارك" - يعني بالحناء" (1) . * والجواب عنه من وجهين: أولاَ: أن في إسناده مطيعَ بن ميمون العنبري، قال في "التقريب": لين الحديث (2) ، وقال في "التهذيب": روى عن صفية بنت عصمة. . . قال ابن عدي: له حديثان غير محفوظين، قلت: أحدهما في اختضاب النساء بالحناء" والآخر في الترجل والزينة، قال: وذكر له ثالثًا، وقال: وهما جميعا غير محفوظ " (3) اهـ. وفيه أيضا: صفية بنت عصمة، قال س الحافظ في "التقريب": لا تعرف (4) ، وقال المناوي: "رمز المصنف - أي السيوطي - لحسنه، ظاهر سكوته عليه أن مخرجه أحمد أخرجه وأقره، والأمر بخلافه فقد قال في "العلل": حديث منكر، وفي "الميزان": وعن ابن عدي أنه غير محفوظ، وقال في المعارضة: أحاديث الحناء كلها ضعيفة أو مجهولة" (5) اهـ. وقد ضعفه الألباني في "ضعيف الجامع الصغير" (6) .   (1) أخرجه الإمام أحمد (6/ 262) ، وأبو داود في الترجل رقم (4148) باب في الخضاب للنساء، والنسائي (8/ 142) في الزينة باب الخضاب للنساء. (2) "تقريب التهذيب" (2/ 255) . (3) "تهذيب التهذيب" (10/ 183) . (4) "التقريب " (2/603) . (5) "فيض القدير" (5/ 330) . (6) "ضعيف الجامع الصغير" (5/ 49) رقم (4846) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 ثانيا: وعلى فرض! صحته، ليس فيه دليل على إباحة السفور بل هو مختص بذكر اليد. *وعن عائشة رضي الله عنها أن هند ابنة عتبة قالت: يا نبي الله بايعني، قال: "لا أبايعك حتى تغيري كفيك، كأنهما كفا سَبُع" (1) . * والجواب عنه كسابقه، مع أن هذا ليس فيه ما يفيد أن كفيها كانتا مكشوفتين، وفي سنده غبطة بنت عمرو المجاشعية البصرية، وعمتها، وجدتها، ثلاثتهن مجهولات. أما غبطة: فقد ذكرها الحافظ في "لسان الميزان" (2) في (فصل في النساء المجهولات) وقال في "التقريب": "مقبولة" (3) ، يعني إذا توبعت، وإلا فلَيّنة. وأما عمتها أم الحسن: فقال في "التقريب": "لا يعرف حالها" (4) ، وأما جدتها: فقال الذهبي في "الميزان": أم الحسن عن جدتها عن عائشة، لا يدرى من هاتان (5) . الشبهة السابعة * عن سهل بن سعد (6) رضي الله عنه "أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، جئت لأهب لك نفسي فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعَّد النظر إليها وصوَّبه، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقصد منها شيئًا   (1) أخرجه أبو داود في سننه رقم (4147) في الترجل، باب في الخضاب للنساء، والحديث ضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" (6/ 57) ، رقم (6182) وذكر أنه ضمنه "السلسلة الضعيفة" رقم (4466) . (2) "لسان الميزان" (7/ 528) . (3) "التقريب" (2/ 608) . (4) "السابق" (2/ 620) . (5) "ميزان الاعتدال" (4/612) . (6) كان عمره حينئذ خمسة عشر عاما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403 جلست. . ." الحديث (1) . * والجواب من وجوه: أحدها: ليس في الحديث أنها كانت سافرة الوجه، ونظر النبي صلى الله عليه وسلم إليها لا يدل على سفورها، لأن تصويب النظر لا يفيد رؤية الوجه، فيمكن أن يكون نظرة إليها لمعرفة نبلها وشرفها وكرامتها، فإن هيئة الإنسان قد تدل على ذلك، الثاني: ما ذكره القاضي أبو بكر بن العربي من أنه "يحتمل أن ذلك قبل الحجاب، أو بعده لكنها كانت متلفعة (2) . وسياق الحديث يبعد ما قال سيما الأخير، بل إنه يشير إلى وقوع ذلك في أوائل الهجرة، لأن الفقر كان قد تخفف كثيرًا بعد بني قينقاع والنضير وقريظة، ومعلوم أن نزول الحجاب كان عقب قريظة، وفي الحديث إشارة إلى شدة فقر الرجل الذي تزوجها حتى أنه لم يكن يملك خاتما من حديد. الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم، ولا يقاس عليه غيره من البشر (3) . الرابع: أنه ثبت في صحيح السنة أنه يباح للرجل أن ينظر إلى وجه المرأة لقصد الخطبة، ويباح لها النظر إليه وكشف وجهها له، وعليه فلا حجة في الحديث على إباحة كشف الوجه لأجنبي غير خاطِب، ومن استدل به على ذلك فقد حمل الحديث على غير مَحْمله، والله أعلم.   (1) رواه البخاري (9/ 34) ، ومسلم (4/ 143) ، والنسائي (2/ 86) ، والبيهقي (7/ 84) - وترجم له: (باب نظر الرجل إلى المرأة يريد أن يتزوجها) . (2) "فتح الباري" (9/118) . (3) قال الحافظ ابن حجر: والذي تحرر عندنا أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يحرم عليه النظر إلى المؤمنات الأجنبيات بخلاف غيره اهـ "الفتح" (9/210) . وانظر "مجلة الجامعة السلفية" عدد نوفمبر، وديسمبر 1978م ص 74، 76. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 الشبهة الثامنة حديث سبيعة بنت الحارث رضي الله عنها * عن سُبيعة بنت الحارث أنها كانت تحت سعد بن خولة، فتوفي عنها في حجة الوداع، وكان بدريًّا، فوضعت حملها قبل أن ينقضي أربعة أشهر وعشر من وفاته، فلقيها أبو السنابل بن بعكك حين تعلَّت (1) من نفاسها، وقد اكتحلت واختضبت وتهيأت، فقال لها: أربَعي (1) على نفسك - أو نحو هذا - لعلك تريدين النكاح؟ إنها أربعة أشهر وعشر من وفاة زوجك. قالت: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت له ما قال أبو السنابل بن بعكك، فقال: "قد حللتِ حين وضعت" (3) . قال الألباني: "أخرجه الإمام أحمد من طريقين عنها، أحدهما صحيح، والآخر حسن، وأصله في "الصحيحين" وغيرهما، وفي روايتهما: "تجملت للخطاب"، وفيها أن أبا السنابل كان خطبها فأبت أن تنكحه. والحديث صريح الدلالة على أن الكفين ليسا من العورة في عرف نساء الصحابة، وكذا الوجه أو العينان على الأقل، وإلا لما جاز لسبيعة رضي الله عنها أن تظهر ذلك أمام أبي السنابل لاسيما وكان قد خطبها فلم ترضه" (4) اهـ.   (1) أي خرجت من نفاسها، وسلمت. (2) أي: ارفقي. (3) أخرجه الإمام أحمد (6/ 432) ، والبخاري في (9/414) ، ومسلم رقم (1485) ، والترمذي رقم (1193) ، والنسائي (6/190) كلهم في كتاب الطلاق. (4) "حجاب المرأة المسلمة" هامش (ص 32) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 * والجواب بمعونة الملك الوهاب: أولا: ليس في الحديث دليل على أنها كانت سافرة الوجه حين رآها أبو السنابل بل غاية ما فيه أنه رأى خضاب يديها وكحل عينيها، ورؤية ذلك لا يستلزم رؤية الوجه. * قال الشيخ عبد العزيز بن خلف: "والمستمسك من الحديث هو أنه عرف منها أنها كانت مكتحلة ومخضبة، وله أن يعرف أنها كانت مكتحلة حين تكون قد لوت الجلباب على وجهها، وأخرجت عينا كما وصف ابن عباس رضي الله عنهما فعل المؤمنات بعد نزول آية إدناء الجلابيب" (1) اهـ. وقد أشار الألباني في الحاشية إلى هذا الاحتمال بقوله: "والحديث صريح الدلالة على أن الكفين ليسا من العورة في عرف نساء الصحابة، وكذلك الوجه أو العينان على الأقل" اهـ. ثانيًا: قال الحافظ ابن حجر في الفوائد المستنبطة من قصة سبيعة: وفيه جواز تجمل المرأة بعد انقضاء عدتها لمن يخطبها، لأن في رواية الزهري التي فى المغازي: "فقال: ما لي أراك تجملت للخُطَّاب؟ "، وفي رواية ابن إسْحاق: "فتهيأت للنكاح، واختَضبت"، وفي رواية معمر عن الزهري عند أحمد: "فلقيها أبو السنابل وقد اكتحلت"، وفي رواية الأسود: "فتطيبت وتعطرت" (2) اهـ. ويتضح من هذا أن إظهار زينتها إنما كان للخُطَّاب، وعليه ينبغي حمل هذه الروايات، وقد سبق ذكر جملة من النصوص في الترخيص في نظر الخاطب إلى المخطوبة بإذنها، أو بغير إذنها، فعلم أبو السنابل بخضابها واكتحالها، وقال لها: "ما لي أراك تجملت للخطاب"، وكان قد نظر إليها   (1) "نظرات في حجاب المرأة المسلمة" (ص 75) ، وانظر (ص 181) . (2) "فتح الباري" (9/379) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 مريدا خطبتها لكنها أبت أن تنكحه. جاء في رواية البخاري أنه كان ممن خطبها، فأبت أن تنكحه، فقال لها ما قال، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "كذب (1) أبو السنابل" رواه أحمد، وفي رواية الموطأ: فخطبها رجلان أحدهما شاب، وكهل، فحطت إلى الشاب، فقال الكهل: "لم تحلي"، وكان أهلها غَيَبًا فرجا أن يؤثروه بها" (2) اهـ. فأين في الحديث جواز كشف الوجه والكفين لغير الخاطب؟ ثالثا: أما استدلال محدث الشام بقصة سبيعة على أن الكفين لم يكونا عورة في عرف نساء الصحابة: فيرده ما سبق ذكره (3) مرارًا امن أدلة الكتاب والسنة وأقوال العلماء على أن عرفهن الغالب كان الاستتار الكامل عن الرجال، ويرده كذلك قول سبيعة نفسها في رواية أخرى: "فلما قال لي ذلك - أي أبو السنابل - جمعتُ عَلَيَّ ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك. . . الحديث". فقولها: "جمعت علي ثيابي" يوحى بأنها خرجت عن حال التزين المذكورة، وإذا ضممنا إليها قولها: "حين أمسيت" فهمنا عن سلوكها رضي الله عنها حرصها الشديد على الاستتار عن الأجانب ليس فقط بالحجاب بل أيضا بظلام الليل.   (1) وقد يراد بالكذب الخطأ في الفتوى، وهو في كلام أهل الحجاز كثير، أو يراد به ظاهره من جهة أنه كان عالمَا بالقصة وأفتى بخلافه، وهذا بعيد، قال الحافظ: "وفيه أن المفتي إذا كان له ميل إلى الشيء لا ينبغي له أن يفتي فيه لئلا يحمله الميلُ إليه على ترجيح ما هو مرجوح كما وقع لأبي السنابل حيث أفتى سبيعة أنها لا تحل بالوضع لكونه كان خطبها فمنعته، ورجا إذا قبلت ذلك منه وانتظرت مُضي المدة حضر أهلها فرغبوها في زواجه دون غيره " اهـ (9/ 475) . (2) "الموطأ" (2/ 589- 590) في الطلاق، باب عدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملًا، ومعنى (حطّت إلى الشاب) : مالت إليه، ونزلت بقلبها نحوه. و (غَيَبًا) بفتح الياء جمع غائب "جامع الأصول" (8/108) . (3) انظر ص (450) ، (474) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "وفيه مباشرة المرأة السؤال عما ينزل بها، ولو كان مما يستحي النساء من مثله، لكنْ خروجُها من منزلها ليلا، ليكون أستر لها كما فعلت سبيعة" (1) اهـ. الشبهة التاسعة * احتج المبيحون للسفور بنصوص وردت في الأمر بغض البصر على أن هذا يلزم منه أن تكون وجوه النساء مكشوفة، وإلا فعن ماذا يُغَض البصر إذا كانت النساء مستورات الوجوه؟ وذلك مثل قوله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)) [النور: 30] . وقوله صلى الله عليه وسلم: "يا علي لا تُتْبع النظرةَ النظرةَ، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة" (2) . وفي حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة، فأمرني أن أصرف بصري" (3) . فاستنبطوا من الآية القرآنية الآمرة بغض البصر أن في المرأة شيئا مكشوفًا، ثم أثبتوا- باجتهادهم- أن هذا الشيء المكشوف هو الوجه والكفان، ثم استشهدوا لذلك بالأحاديث التي فيها أيضًا أمر بغض البصر. * والجواب بمعونة الملك الوهاب: أن هذا الأمر بغض البصر أمر من الله سبحانه وتعالى، وأمر من   (1) فتح الباري" (9/ 379) . (2) تقدم تخريجه (ص 47) . (3) تقدم تخريجه (ص 47) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي بوجوب التزامه طاعة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، أما كونه يقضي بأن هناك شيئًا مكشوفا للأجانب من المرأة المسلمة هو الوجه والكفان، فهذا قول غير صحيح يرده النقل والعقل، ويأباه الواقع، وبيان ذلك من وجوه: الوجه الأول: أن المدينة المنورة في زمن التنزيل كان فيها نساء اليهود والسبايا والإماء، ونحوهن، وربما بقي النساء غير المسلمات في المجتمع الإسلامي سافراتٍ كاشفات الوجوه، فأُمِروا بغض البصر عنهن. وغاية ما في الأمر بغض البصر إمكان وقوع النظر على الأجنبيات، وهذا لا يستلزم جواز كشف الوجوه والأيدي أمام الأجانب. قال البخاري رحمه الله تعالى: قال سعيد بن أبي الحسن للحسن: إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورؤوسهن؟ قال: اصرف بصرك عنهن، يقول الله عز وجل: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) قال قتادة: عما لا يحل لهم (1) . والأمر بالحجاب منذ اللحظة الأولى لم يتوجه لغير المؤمنات، لأنهن مظنة الاستجابة لأمر الله عز وجل، قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) ، [سورة الأحزاب: 36] الآية، وقال جل وعلا: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)) [النور: 51] . وقال سبحانه (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) الآية [سورة الأحزاب: 59] ، ولم يقل (ونساء أهل المدينة) . وقال تبارك وتعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) الآية، وقال   (1) صحيح البخاري - كتاب الاستئذان رقم 79 – "فتح الباري" (11/9) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 سبحانه: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ) الآية، ولم يقل (وقل لنساء المدينة) ، لكن الأمر توجه لمن شرفهن الله تعالى بالإيمان مطلقا. والقرآن اليوم يخاطبنا كما خاطب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من قبل، فنحن اليوم أيضا لا نخاطب الكوافر والفواسق بستر الوجه وإنما نخاطب المؤمنين والمؤمنات، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإذا كانت المرأة غير مسلمة، أو مسلمة اجترأت على هتك أوامر الله، وتعمدت كشف زينتها - وهذا ما عمت به البلوى في زماننا - فالواجب هنا - على الأقل – أن يؤمر الرجل بغض البصر، مع العلم بأن هذا لا يقتضي أن ما فعلته هذه المرأة من كشف الوجه وغيره تجيزه الشريعة بغير عذر أو مصلحة. الثاني: أن الله تبارك وتعالى أمر بغض البصر، لأن المرأة - وإن تحفظت غاية التحفظ، وبالغت في الاستتار عن الناس - فلابد أن يبدو بعض أطرافها في بعض الأحيان كما هو معلوم بالمشاهدة من اللاتي يبالغن في التحجب والتستر، فلهذا أمر الرجال بغض البصر عما يبدو منهن في بعض الأحوال. وهذا الأمر بالغض لا يستلزم أنها تكشف ذلك عمدا وقصدا، فكم من امرأة تحرك الريح ثيابها، أو تقع فيسقط الخمار عن وجهها من غير قصد منها فيراها بعض الناس على تلك الحال، كما قال النابغة الذبياني: سَقَط النصِيف ولم تُرِدْ إِسقاطه ... فَتَنَاوَلَتْهُ، وأتَّقَتْنا بالْيَدِ أي تناولته بيدٍ، واتقتنا فسترت وجهها باليد الأخرى. ومن هنا قال تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) ولم يقل (إلا ما أظهرنه) لأن "أظهر" في معنى التعمد، بخلاف "ظهر" أي من غير قصد منها فهذا مَعفُوٌّ عنه، لا ما تظهره هي بقصد، فعليها حرج في تعمد ذلك، وكثيرا ما يصادف الرجل المرأة وهي غافلة، فيرى وجهها أو غيره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 من أطرافها، فأمره الشارع حينئدِ بصرف بصره عنها كما في حديث جرير ابن عبد الله رضي الله عنه، قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، فأمرني أن أصرف بصري) (1) فهذا هو موقع نظر الفجأة. وفي سؤال جرير عن نظر الفجأة دليل على مشروعية استتار النساء عن الرجال الأجانب وتغطية وجوههن عنهم، وإلا لكان سؤاله عن نظر الفجأة لغوًا لا معنى له، ولا فائدة من ذكره. الثالث: عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أذن لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الحج في آخر حجة حجها، وبعث معهن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، قال: فكان عثمان ينادي: ألا لا يدنوا إليهن أحد، ولا ينظر إليهن أحد، وهن في الهوادجِ على الإبل، فإذا نزلن أنزلهن بصدر الشِّعب، وكان عثمان وعبد الرحمن بذنَب الشعب، فلم يصعد إليهن أحد (2) . ومن المقطوع به أن أمهات المؤمنين كن يحتجبن حجابًا شاملا جميع البدن بغير استثناء، ومع هذا قال عثمان رضي الله عنه: "ولا ينظر إليهن أحد" يعني إلى شخوصهن لا إلى وجوههن لأنها مستورة بالإجماع، ومع ذلك نهى عن النظر إلى شخوصهن تعظيمًا لحرمتهن، وإكبارًا وإجلالًا لهن، وذلك لشدة احترام الصحابة رضوان الله عليهم أمهات المؤمنين رضي الله عنهن. ويستفاد من هذا أن مِنْ حِفظ حرمة المؤمنة المحجبة غضَّ البصر عنها - وإن تنقبت -، خاصة وأن جمالها قد يعرف، وينظر إليها -لجمالها وهي مختمرة، وذلك لمعرفة قوامها أو نحوه، وقد يعرف وضاءتها وحسنها من مجرد رؤية بنانها كما هو معلوم، ولذلك فسَّر ابن مسعود رضي الله عنه قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) بأن الزينة هى الملاءة فوق   (1) تقدم تخريجه (ص 47) (2) أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (8/152) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 الثياب، ومما يوضح أن الحسن قد يعرف مع الاحتجاب الكامل قول الشاعر: طافَتْ أُمامَةُ بالركبانِ آونَةً ... يا حُسْنَها مِن قوام ما وَمنْتَقِبا فقد بالغ في وصف حسن قوامها مع أن العادة كونه مستورًا بالثياب لا منكشفا، وهو يصفها بهذا الحسن أيضا مع كونها منتقبة. ومن ثم قال العلماء: إنه لا يجوز للرجل أن ينظر إلى بدن المرأة نظر شهوة ولو كانت مستورة، لأن ذلك مدعاة إلى الافتتان بها كما لا يخفى، ووقوعه فيما سماه النبي صلى الله عليه وسلم: "زنا العين"، قال صلى الله عليه وسلم: "والعينان تزنيان، وزناهما النظر" (1) . ولا مخرج من ذلك إلا غض البصر عنها ولو كانت محجبة، لأنه إذا نظر إليها نظر شهوة - ولو كانت محجبة - لكان حرامًا عليه كما تقدم. الرابع: أنه قد تعرض للمرأة المحجبة ضرورات بل حاجات تدعوها إلى كشف وجهها، ويرخص لها في ذلك مثل نظر القاضي إلى المرأة عند الشهادة، والنظر إلى المرأة المشتبه فيها عند تحقيق الجرائم، ونظر الطبيب المعالج إلى المرأة بشروطه، والنظر إلى المراد خطبتها، وهذا كله يكون بقدر الحاجة فقط لا يجوز له أن يتعداها، فإن دعته نفسه إلى الزيادة عن قدر الحاجة فهو مأمور بغض البصر عنها، والله أعلم. الخامس: أن اعتبار أمر الله تعالى المؤمنين بغض الأبصار دليلا على أن وجوه المسلمات كانت مكشوفة للأجانب مجرد وهم وظن، بدليل ترتيب آيات الحجاب حسب نزولها، وذلك لأن الأمر بالحجاب الكامل الذي جاء في قوله عز وجل: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) الآية [الأحزاب: 33] . وقوله سبحانه وتعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ   (1) رواه مسلم في صحيحه، انظر "شرح النووي" (6/ 206) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) [الأحزاب: 53] . وقوله جل وعلا: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)) [الأحزاب: 59] ، كل هذه الأوامر بالحجاب إنما نزلت في سورة الأحزاب في السنة الخامسة من الهجرة النبوية، وشاع الحجاب بعدها في المجتمع المسلم بعد نزولها، وقبل الأمر بغض البصر، الذي نزل في سورة النور التي نزلت في السنة السادسة من الهجرة (1) . ومما يدل على ذلك أيضا قول أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها فى قصة الإفك: "بينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني، فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش، فأدلج، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمَّرت - وفي رواية: فسترت - وجهي بجلبابي" (2) . فهذا الحديث يؤكد أن الأمر بغض البصر الوارد في سورة النور متأخر عن الأمر بالحجاب الذي ورد في سورة الأحزاب التي نزلت في السنة الخامسة، ثم جاء الأمر بغض البصر في السنة السادسة بعد عام من شيوع الحجاب وامتثال المجتمع الإسلامي للأمر بالحجاب حتى صار هو القاعدة. ومن هنا يتضح أن استنباط البعض من الأمر بغض البصر أن وجوه النساء كانت سافرة غير صحيح، بدليل أن الأمر بالحجاب نزل أولَا، وامتثله نساء المؤمنين، ثم نزل في السنة التي تليها الأمر بغض البصر،   (1) أنظر "عمدة القاري" للعيني (20/ 223) . (2) تقدم تخريجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 ولعّل الحكمة في ذلك أن الأمر بغض البصر مع بقاء الوجوه سافرة قد يشق على بعض النفوس، ولكنه مع الحجاب أيسر، ومن ثم فإن الأمر بغض البصر نزل تأكيدًا للحجاب القائم فعلًا، أي أنه - أي إطلاق البصر - لا يجوز للمرأة الأجنبية، وإن كانت محجبة سدّا للذرائع، ودرءًا للفتنة، فتناولت الشريعة الحكيمة إخماد الفتنة وسد ذريعتها من الجانبين: من جانب المرأة حيث كلفتها بالحجاب، ثم من جانب الرجل حيث كلفته بغض البصر. ولقد صار الحجاب بعد نزول الأمر بغض البصر في سورة النور أصلا من أصول النظام الاجتماعي في الدولة المسلمة، واستمر عليه المسلمون قرونا مديدة، ولم يستطع أحد أن يشكك في وجوب التزامه، ولم يطالب أحد ببتر جزء من هذا الحجاب خوفًا من تفريغ آية غض البصر من مضمونها، أو تعطيلها عن مجال عملها، تالله إنها لشبهة أوْهَى من بيت العنكبوت يغني فسادها عن إفسادها. السادس: سلمنا جدلا أن الأمر بغض البصر يُشِعر بأن هناك شيئًا مكشوفًا من المرأة هو الوجه، فإذا أضفنا إلى ذلك أن الأمر بغض البصر يفيد تحريم النظر إلي وجه الأجنبية، ينتج أن النظر إلى الوجه المكشوف حرام. فلننتقل إلى السؤال التالي: كيف يكون الحكم لو شاع الفسق، وعاشت المرأة في مجتمع لا يتورع رجاله عن النظر إلى وجهها بشهوة، وأرادت هي أن لا تتسبب في حدوث هذا المنكر؟ والجواب لا يخرج عن أحد احتمالات: الأول: أن تلزم المرأة بيتها، ولا تغادره أبدًا، ولا يخفى ما فيه من مشقة لبعض النساء. والثاني: أنها إذا خرجت لحاجتها تكلف كل من تمر عليه من الرجال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 بأن يغمض عينيه، حتى لا تتسبب بسفورها في معصية النظر المحرمة، ولا يخفى ما فيه. والثالث: أنها إذا خرجت لحاجتها تغطي هي وجهها منعا لحدوث هذا المنكر الغالب على الظن وقوعه، ولا يخفى أن هذا أيسرها، والله أعلم. ومن هنا قال بعض العلماء: نعم، من تحققت من نظر أجنبي لها يلزم ستر وجهها عنه، وإلا كانت معينة له على حرام، فتأثم (1) . السابع: أن الأمر بغض البصر مطلق، فيشمل كل ما ينبغي أن يُغَضَّ البصر عنه، قال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) ولم يبين الشيء الذي يُغَض عنه البصر، فدل على أن هذا الأمر مطلق فيشمل كل ما ينبغي غض البصر عنه، سواء أكان ذلك عن المسلمة المحجبة حتى في حالة احتجابها لشدة حرمتها، ودرءًا للفتنة، أو حينما يظهر شيء من بدنها عفوا من غير قصد، أو يقصد عند الضرورة أو الحاجة الشرعية، وسواء كان غض البصر عن الإماء المسلمات السافرات، أو عن نساء أهل الكتاب والسبايا اللائي لا يتحجبن، درءًا للفتنة بهن كذلك. ومما ينبغي أن نلتفت إليه أن من مقاصد الأمر بغض البصر: أن لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، وكذلك ألا تنظر المرأة إلى عورة المرأة. جاء في تفسير قوله تعالى (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) أن حفظ الفروج قسمان: أحدهما: حفظها عن أي شيء محرم سواء المباشرة كالزنا واللواط وإتيان الزوجة في الدبر أو المحيض وما إلى ذلك، فيكون موافقا لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7))   (1) "حواشي الشرواني والعبادي" (6/ 193) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 [المؤمنون: 5 - 7] ، وقال صلى الله عليه وسلم: "إنا نُهينا أن تُرى عوراتنا" (1) . وأما الثاني: فأن يحفظوها عن أن تنكشف للناس، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حينما سأله معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك"، قلت: فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: "إن استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها"، قلت: فإذا كان أحدنا خاليًا؟ قال: "فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه من الناس" (2) . وعن أبي سعيد الخدري مرفوعا. "لا ينظر الرجل الى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفْضِي الرجل إلى الرجل في الثوب الواحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد" (3) . وبين صلى الله عليه وسلم عورة الرجل الى ينبغي غض البصر عنها في قوله صلى الله عليه وسلم: "الفخذ عورة" (4) . وقوله لجرهد الأسلمي رضي الله عنه: "غط فخذك، فإن الفخذ عورة" (5) .   (1) أخرجه الحاكم (3/222 - 223) ، وعنه البيهقي في الشعب، وابن أبي حاتم في "العلل" (2/276) منْ حديث جبار بن صخر رضي الله عنه. (2) أخرجه أصحاب السنن الأربعة، والبيهقي وغيرهما، وصححه الحاكم والذهبي. (3) أخرجه مسلم (1/ 183) ، والإمام أحمد (3/ 63) ، والترمذي (2/130) وقال: "حسن غريب صحيح"، والبيهقي (7/98) ، ولابن ماجة النصف الأول منه (661) . (4) رواه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما الترمذي رقم (2796) في الأدب: باب ما جاء أن الفخذ عورة، وفيه أبو يحيى القتات، وهو ضعيف. (5) رواه البخاري في "صحيحه" تعليقَا (1/570) ، وضعفه في تاريخه للاضطراب في سنده، ورواه أبو داود رقم (1014) في الحمام: باب النهي عن التعري، والترمذي رقم (2799) في الأدب: باب ما جاء أن الفخذ عورة، وحسنه، وابن حبان، وصححه، والإمام أحمد في "المسند" (3/478) ، وقال البخاري: = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 416 وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما بين السرة والركبة عورة" (1) . فإذا تبين لك أن هذه المقاصد كلها تندرج تحت الأمر بغض البصر تبين لك فساد قول السفوريين، وجواب تساؤلهم: ما معنى الأمر بغض البصر إذا لم تكن وجوه النساء مكشوفة؟ والعلم عند الله سبحانه وتعالى. الشبهة العاشرة * وهي ما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباس رضي الله عنهما يوم النحر خلْفه على عَجُزِ راحلته، وكان الفضل رجلًا وضيئَا، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم للناس يُفتيهم، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنُها، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم والفضل ينظر إليها، فأخلف (2) بيده فأخذ بذقن الفضل، فعدَّل وجهه عن النظر إليها، فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله في الحج على عباده أدْرَكَت أبي شيخا كبيرَا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ قال: "نعم" (3) . وفي رواية لعلي بن أبي طالب قال: ولوى عنق الفضل، فقال له   = "حديث أنس أسند، وحديث جَرْهَد أحوط، حتى نخرج من اختلافهم" اهـ. وانظر "إرواء الغليل" (1/ 298) . (1) أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، وأبو داود في سننه، والدارقطني في "سننه"، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا. (2) أي أدار وجه الفضل عنها بيده الشريفة من خلف الفضل. (3) أخرجه البخاري (3/ 422) ، (4/ 80) ، (11/10) واللفظ له، ومسلم (4/101) ، وأبو داود (1/286) ، والنسائي (2/ 5) ، وابن ماجه (2/314) ، ومالك (1/309) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 العباس: يا رسول الله لمَ لويت عنق ابن عمك؟ قال: "رأيت شابًّا وشابة فلم آمن الشيطان عليهمَا" (1) . * تنوعت أجوبة العلماء عن هذا الحديث نذكر بعضها فيما يلي إن شاء الله: * قال الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي: قلت: لا حجة في الحديث للذين يقولون بجواز كشف الوجه والكفين لأنه صلى الله عليه وسلم أنكر على الفضل بن عباس إنكارًا باتا بأن لوى عنقه وصرفه إلى جهة أخرى، وكان في هذا الصنيع من رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكار واضح لأنه أنكر باليد (2) . وقال الحافظ في "الفتح" مشيرًا إلى هذا الحديث: "ويقرب ذلك ما رواه الحافظ أبو يعلى بإسناد قوي من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم وأعرابي معه بنت له حسناء، فجعل الأعرابي يعرضها لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يتزوجها، وجعلت ألتفت إليها، ويأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأسي فيلويه، فكان يلبي حتى رمى جمرة العقبة" ثم قال الحافظ: فعلى قول الشابة: إن أبي، لعلها أرادت جدها لأن أباها كان معها، وكأنه أمرها أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم ليسمع كلامها، ويراها رجاء أن يتزوجها (3) . ثم قال الحافظ وفي الحديث: منع النظر إلى الأجنبيات وغض البصر،   (1) رواه الترمذي رقم (885) في الحج، باب ما جاء أن عرفة كلها موقف وقال: (حسن صحيح) ، وأبو داود رقم (1735) في المناسك: باب الصلاة بجمع، والإمام أحمد (1/ 76) . (2) "رسالة الحجاب" (ص 35) . (3) "فتح الباري" (4/ 82) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 وقال عياض: "وزعم بعضهم أنه غير واجب إلا عند خشية الفتنة، قال: وعندي أن فعله صلى الله عليه وسلم غطى وجه الفضل أبلغ من القول، ثم قال: لعل الفضل لم ينظر نظرا ينكر، بل خشي عليه أن يئول إلى ذلك، أو كان قبل نزول الأمر بإدناء الجلابيب" اهـ. ثم قال الحافظ: روى أحمد وابن خزيمة من وجه آخر عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للفضل حين غطى وجهه: "هذا يوم مَن ملك فيه سمعه وبصره، ولسانه غفر له" (1) اهـ. * وقال الشيخ صالح بن فوزان أثناء رده على الدكتور يوسف القرضاوي: وأما استدلال المؤلف على جواز نظر الرجل الأجنبي إلى وجه المرأة بحديث الفضل بن العباس ونظره إلى الخثعمية وصرف النبي صلى الله عليه وسلم وجه الفضل عنها، فهذا من غرائب الاستدلال لأن الحديث يدل على خلاف ما يقول لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقر الفضل على ذلك، بل صرف وجهه، وكيف يمنعه من شيء مباح! (2) قال النووي رحمه الله عند ذكره لفوائد هذا الحديث: "منها تحريم النظر إلى الأجنبية، ومنها إزالة المنكر باليد لمن أمكنه" (3) . وقال العلامة ابن القيم: "وهذا منع وإنكار بالفعل، فلو كان النظر جائزًا لأقره عليه" (4) اهـ. وقال الدكتور البوطي معلقًا على نفس الحديث: "قالوا: فلولا أن وجهها عورة لا يجوز نظر الرجل الأجنبي إليه لما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك   (1) "السابق" (4/ 70) . (2) "الإعلام" ص (69) . (3) "شرح النووي لصحيح مسلم" (9/98) . (4) "روضة المحبين" (ص 102) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 بالفضل، أما المرأة ذاتها فقد كان عذرها في كشفه أنها كانت محرمة بالحج" (1) اهـ. * وقال الشنقيطي رحمه الله تعالى بعد أن ذكر الحديث: قالوا: فالإخبار عن الخثعمية بأنها وضيئة يفهم منه أنها كانت كاشفة عن وجهها. وأجيب عن ذلك أيضَا من وجهين: الأول: الجواب بأنه ليس في شيء من روايات الحديث التصريح بأنها كانت كاشفة عن وجهها وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كاشفة عنه، وأقرها على ذلك، بل غاية ما في الحديث أنها كانت وضيئة، وفي بعض روايات الحديث: أنها حسناء، ومعرفة كونها وضيئة أو حسناء لا يستلزم أنها كانت كاشفة عن وجهها وأنه صلى الله عليه وسلم أقرها على ذلك، بل قد ينكشف عنها خمارها من غير قصد، فيراها بعض الرجال من غير قصد كشفها عن وجهها. إلى أن قال رحمه الله: ويحتمل أن يكون يعرف حسنها قبل ذلك الوقت لجواز أن يكون قد رآها قبل ذلك وعرفها، ومما يوضح هذا أن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما الذي روى عنه هذا الحديث لم يكن حاضرا وقت نظر أخيه إلى المرأة، ونظرها إليه لما قدمنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم قَدَّمه بالليل من مزدلفة إلى منى في ضعفة أهله (2) ، ومعلوم أنه إنما روى الحديث المذكور من طريق أخيه الفضل، وهو لم يقل له: إنها كانت كاشفة عن وجهها، واطلاع الفضل على أنها وضيئة حسناء لا يستلزم السفور قصدا لاحتمال أن يكون رأى وجهها وعرف حسنه من أجل انكشاف خمارها من غير قصد منها، واحتمال أنه رآها قبل ذلك وعرف حسنها.   (1) "إلى كل فتاة تؤمن بالله" (ص 40) . (2) ثبت في "الصحيحين" و "المسند" و "السنن". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 فإن قيل: قوله إنها وضيئة، وترتيِبه على ذلك بالفاء قوله: "فطفق الفضل ينظر إليها"، وقوله: "وأعجبه حسنها" فيه الدلالة الظاهرة على أنه كان يرى وجهها وينظر إليه لإعجابه بحسنه. فالجواب: أن تلك القرائن لا تستلزم استلزاما لا ينفك أنها كانت كاشفة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها وأقرها لما ذكرنا من أنواع الاحتمال، مع أن جمال المرأة قد يعرف وينظر إليها لجمالها وهي مختمرة وذلك لحسن قدِّها وقوامها، وقد تعرف وضاءتها وحسنها من رؤية بنانها فقط كما هو معلوم، ولذلك فسر ابن مسعود، (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) بالملاءة فوق الثياب كما تقدم. ومما يوضح أن الحسن يعرف من تحت الثياب قول الشاعر: طافت أمامة بالركبان آونة ... يا حسنها من قوام ما ومنتقبا فقد بالغ في حسن قوامها مع أن العادة كونه مستورًا بالثياب لا منكشفَا. الوجه الثاني: أن المرأة محرمة، وإحرام المرأة في وجهها وكفيها، فعليها كشف وجهها إن لم يكن هناك رجال أجانب ينظرون إليها (1) ، وعليها ستره عن الرجال في الإحرام كما هو معروف عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن، ولم يقل أحد إن هذه المرأة الخثعمية نظر إليها أحد غير الفضل ابن عباس رضي الله عنهما (2) ، والفضل منعه النبي صلى الله عليه وسلم من النظر إليها،   (1) انظر: "عارضة الأحوذي" (4/ 56) المسألتان الرابعة عشرة، والخامسة عشرة. (2) الذين شاهدوا قصة الفضل والخثعمية لم يذكروا حسن المرأة ووضاءتها ولم يذكروا أنها كانت كاشفة عن وجهها - كما في حديث علي بن أبي طالب، وفيه قول العباس (يا رسول الله لمَ لويت عنق ابن عمك؟) وكذا حديث جابر في صحيح مسلم في الحج وفيه (فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به ظُعُن يَجرين فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 وبذلك يعْلم أنها محرمة لم ينظر إليها فكشفها عن وجهها إذًا لإحرامها لا لجواز السفور (1) . فإن قيل: كونها مع الحجاج مظنة أن يرى الرجال وجهها إن كانت سافرة لأن الغالب أن المرأة السافرة وسط الحجيج، لا تخلو ممن ينظر إلى وجهها من الرجال. فالجواب: أن الغالب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الورع وعدم النظر إلى النساء، فلا مانع عقلًا ولا شرعًا ولا عادة من كونها لم ينظر إليها أحد منهم، ولو نظر إليها لحكى كما حكى نظر الفضل إليها، ويفهم من صرف النبي صلى الله عليه وسلم بصر الفضل عنها أنه لا سبيل إلى ترك الأجانب ينظرون إلى الشابة وهي سافرة كما ترى، وقد دلت الأدلة المتقدمة على أنها يلزمها حجب جميع بدنها عنهم. وبالجملة فإن النصف يعلم أنه يبعد كل البعد أن يأذن الشارع للنساء في الكشف عن الوجه أمام الرجال الأجانب مع أن الوجه هو أصل الجمال، والنظر إليه من الشابة الجميلة هو أعظم مثير للغرائز البشرية وداعٍ إلى الفتنة والوقوع فيما لا ينبغي، ألم تسمع بعضهم يقول: قلت اسمحوا لي أن أفوز بنظرة ... ودعوا القيامة بعد ذاك تقوم أترضى أيها الإنسان أن تسمح له بهذه النظرة إلى نسائك وبناتك وأخواتك؟ ولقد صدق من قال: وما عجب أن النساء ترجلت ... ولكن تأنيث الرجال عجيب (2)   = وجه الفضل، فصرف وجهه من الشق الآخر) . (1) وقد استدل ابن بطال بحديث الخثعمية على أن ستر وجه المرأة ليس بفرض، ثم قال: (لإجماعهم على أن للمرأة أن تبدي وجهها في الصلاة، ولو رآه الغرباء) ، غير أن الحافظ تعقبه بقوله: (وفي استدلاله بقصة الخثعمية لِما ادعاه نظر، لأنها كانت محرمة) اهـ من "الفتح" (11/ 12) . (2) "أضواء البيان" (6/599 - 602) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 * وقد قال الألباني في هذا الحديث: والحديث يدل على ما دل عليه الذيَ قبله من أن الوجه ليس بعورة، لأنه كما قال ابن حزم: لو كان الوجه عورة يلزم ستره لما أقرَّها على كشفه بحضرة الناس ولأمرها أن تسبل عليه من فوق؛ ولو كان وجهها مغطى ما عرف ابن عباس أحسناء هي أم شوهاء (1) . * قال الشيخ حمود التويجري: وأما قول ابن حزم: "لو كان وجهها مغطى ما عرف ابنُ عباس أحسناءُ هي أم شوهاء" فجوابه: أن يقال: إن عبد الله بن عباس لم يشهد قصة الخثعمية (2) ولم يَرَ وجهها، وإنما حدثه بحديثها أخوه الفضل بن عباس رضي الله عنهما. ثم قال: وإن كان الفضل قد رأى وجهها فرؤيته له لا تدل على أنها كانت مستديمة لكشفه، ولا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رآها سافرة بوجهها وأقرها على ذلك، وكثيرًا ما ينكشف وجه التحجبة بغير قصد منها، إما بسبب اشتغال بشيء أو بسبب ريح شديدة أو لغير ذلك من الأسباب فيرى وجهها من كان حاضرَا عندها، وهذا أولى ما حُملت عليه قصة الخثعمية، والله أعلم (3) اهـ. * وقريب من هذه الأجوبة ما أجاب به فضيلة الشيخ عبد العزيز بن راشد النجدي حيث قال رحمه الله:   (1) "حجاب المرأة المسلمة" هامش (ص 27) . (2) وقد أشار الحافظ في "الفتح" إلى احتمال شهود ابن عباس القصة، فقال: (ويحتمل أن يكون سؤال الخثعمية وقع بعد رمي جمرة العقبة، فحضره ابن عباس، فنقله تارة عن أخيه لكونه صاحب القصة، وتارة عما شاهده) إلخ، (4/80) . (3) "الصارم المشهور" (ص 139- 140) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 قلت: أما حديث ابن عباس فليس فيه أن الخثعمية كانت كاشفة وجهها نصا، ومن زعم ذلك فقد أقحم فيه ما ليس في لفظه، وإنما فيه أنها وضيئة وحسناء، والوضاءة والحسن: البياض والجمال مطلقا وهو لا يختص بعضو دون آخر، كما يصدق هذا النعت والوصف على كل عضو على انفراده من أعضائها، ومن الجائز أن الفضل لما رأى بياض وجمال بعض ما بدا منها، بغلبته لها واضطرارها لإظهاره، كسائر النساء إذا ركبن الدواب أعجبه لشدة بياضه وحسنه. وقال رحمه الله: ويحتمل أنها كانت كاشفة وجهها أمام الناس، فسكت عنها النبي كسكوته عن الكلام مع الفضل، مكتفيًا بتحويل وجهه عن النظر إليها لقربه منه، ولم ينكر عليها لحداثة عهدها بالإسلام، كما سكت عن المرأة التي بايعت على الإسلام وشرط عليها ألا تنوح على ميت، فقالت: فلانة أسعدتني، وأنا أريد أن أجزيها، فما قال لها شيئَا، ولا أنكر عليها ولا أبى عن مبايعتها لعلمه أنها إذا تمكن الإيمان من قلبها لابد أن تنقاد لأوامره، وتنتهي عن نواهيه، وتُحرم النياحة. وقال: "واحتمال آخر قريب هو أن البدويات ومن لم يتعودن ركوب الدواب ولا الأسفار إلا قليلا، يعرض لهن ما يضطرهن إلى كشف بعض ما وجب ستره عليهن، وما اعتدن أن يحجبنه عن الأجنبي" (1) اهـ. * وقال الشيخ أبو هشام الأنصاري حفظه الله: "هذا هو النص الذي كثيرًا ما يتوكأ عليه من يتصدى لشق ستور النساء من علماء هذا الزمان، يتوكأ عليه لإقامة الحجة على جواز السفور، مع أن هذا الاستدلال لا يتمشى على طريقة الفقهاء المحدثين، فهي واقعة حال لا عموم لها، يتطرق إليها من الاحتمالات ما لا يتركها كمصدر للدليل،   (1) "أصول السيرة المحمدية" (ص 165 -166) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 فمعلوم أن كشفها عن وجهها كان لأجل الإحرام (1) لا لجواز السفور، ثم يحتمل أن تلك المرأة كانت راكبة فكانت تحتاج إلى كشف وجهها للتثبت على راحلتها والتمكن عن ظهرها وزمامها، أو التجأت إلى ذلك لازدحام الحجيج وإيابهم وذهابهم فكان ما انكشف منها من قبيل (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) ، أو تعمدت من كشف وجهها أن يراها النبي صلى الله عليه وسلم شابة وضيئة حسناء فلعله يميل إلى التزوج بها، أو كشفت وجهها لأنها علمت أنها بمأمن من نظر الرجال. ويستأنس لذلك أن الراوي ذكر نظر الفضل إليها ولم يذكر نظر أحد غيره إليها، فلو نظر إليها أحد غيره، لحكى ذلك كما حكى نظر الفضل إليها، ولما صرف النبي صلى الله عليه وسلم وجه الفضل عنها لم يبق أحد ينظر إليها حتى تحتاج إلى ستر الوجه وتؤمر به. ويفهم من صرف نظر الفضل عنها أنه لا سبيل إلى ترك الأجانب ينظرون إلى الشابة وهي سافرة، وأن وجه المرأة هو مصدر الفتن ومزلة الأقدام، فمن شاء فليفتح بابها، ومن شاء فليغلق.   (1) والدفع بأن المرأة كانت محرمة فيه نظر، وذلك بالنظر إلى ما تقدم تحقيقه (ص 303 - 306 ) من أن المرأة لا تمنع من تغطية الوجه والكفين، وأن الذي تمنع منه هو النقاب والقفازان، واختلف في المكان الذي وقعت فيه الحادثة، ففي رواية ابن عباس رضي الله عنهما عند البخاري: (ثم أردف الفضل من مزدلفة إلى منى) ، فأفاد أنها كانت محرمة، لكن يرد عليه ما أشرنا إليه آنفَا، وفي قصة أخرى رواها علي رضي الله عنه التصريح بأنها وقعت في منى عند المنحر، وبعد رمي جمرة العقبة كما في "المسند" (1/75 - 76) ، ومع ذلك يجيب عنها من يرى كشف الوجه والكفين حال الإحرام بقولهم: لو صح أنه وقع عند المنحر، فلا يلزم منه أنها تحللت، حتى لو كانت قد رمت جمرة العقبة، وحتى لو كانت قد نحرت، فقد رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرج عمَن قدم أو أخر شيئَا من أعمال يوم النحر، والله أعلم. وانظر "فتح الباري" (4/ 80-84) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 والحاصل أن كل ما قدمنا من النصوص الدالة على وجوب الحجاب من الكتاب والسنة هي أصول وقوانين كلية، وهذه واقعة عين، وقد علمت ما فيها من الاحتمالات، فهي لا تصلح لمقاومة تلك النصوص، ولا يترك القانون الكلي في مقابلة واقعة عين مثل هذه" (1) اهـ. الشبهة الحادية عشرة * عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر مُتَلَفِّعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة، لا يعرفُهن أحد عن الغَلَس". وفي رواية: ثم ينقلبن إلى بيوتهن، وما يُعْرَفن من تغليس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة، وفي رواية للبخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الصبح بِغَلَسٍ، فينصرفن نساء المؤمنين، لا يُعْرَفْنَ من الغلس، ولا يعرف بعضهن بعضا (2) . قال الأصمعي: التلفع: أن تشتمل بالثوب حتى تجلل به جسدك، وقال الجوهري: تلفعت المرأة بمرطها أي تلحفت به، وكذا قال ابن الأثير، وزاد: وتغطت، قال: واللفاعُ: الثوب يُتغطى به، قال الجوهري: وتلفع الرجل بالثوب والشجرُ بالورق إذا اشتمل به وتغطى.   (1) "مجلة الجامعة السلفية"، وانظر هامش (ص 409- 410) . (2) رواه البخاري (2/65) في مواقيت الصلاة: باب وقت الفجر، وفي الصلاة في الثياب: باب في كم تصلي المرأة من الثياب، وفي صفة الصلاة: باب خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس، وباب سرعة انصراف النساء من الصبح، وقلة مقامهن في المسجد، ومسلم رقم (645) في المساجد: باب استحباب التكبير بالصبح في أول وقتها، والموطأ (1/ 5) في وقوت الصلاة: باب وقوت الصلاة، وأبو داود رقم (423) في الصلاة: باب وقت الصبح، والترمذي رقم (153) في الصلاة: باب في التغليس في الفجر، والنسائي (1/271) المواقيت: باب التغليس في الحضر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 * قال التويجري: "وهذا الحديث يدل على أن نساء الصحابة كن يغطين وجوههن، ويستترن عن نظر الرجال الأجانب، حتى إنهن من شدة مبالغتهن في التستر وتغطية الوجوه لا يَعْرِفُ بعضهُن بعضَا، ولو كُنَ يكشفن وجوههن لعرف بعضهُن بعضا كما كان الرجال يعرفُ بَعضهم بعضَا، قال أبو بَرْزَة رضي الله عنه: "وكان - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - ينفتل من صلاة الغداة حين يعرفُ الرجل جليسه" (1) . قال الداودي في قوله "ما يعرفن من الغَلَس" معناه: لا يعرفْن أنساء أم رجال؟ أي لا يظهر للرائي إلا الأشباح خاصَّة. وقيل: لا يُعْرَفُ أعيانهن، فلا يُفَرَّقُ بين خديجة وزينب - قال النووي: وهذا ضعيف لأن المتلفعة في النهار لا يُعْرف عينُها فلا يبقى في الكلام فائدة (2)   (1) رواه البخاري (2/ 33) في مواقيت الصلاة: باب وقت العصر، وباب القراءة في الفجر، ومسلم رقم (647) في المساجد: باب استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها، وأبو داود رقم (398) في الصلاة: باب وقت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم والنسائي (1/ 246) في المواقيت: باب أول وقت الظهر، وباب ما يستحب من تأخير العشاء. (2) قال العيني رحمه الله بعد حكاية كلام النووي: (ورُدَّ بأن المعرفة إنما تتعلق بالأعيان، فلو كان المراد غيرها لنفى الرؤية بالعلم، وقال بعضهم: "وما ذكره من أن المتلفعة بالنهار لا يعرف عينها فيه نظر، لأن لكل امرأة هيئة غير هيئة الأخرى في الغالب، ولو كان بدنها مغطى" انتهى، قلت: هذا غير موجه، لأن الرائي من أين يعرف هيئة كل امرأة حين كن مغطيات، والرجل لا يعرف هيئة امرأته إذا كانت بين المغطيات إلا بدليل من الخارج، وقال الباجي: "وهذا يدل على أنهن كن سافرات إذ لو كن منقبات لمنع تغطية الوجه من معرفتهن لا الغلس" قوله "من الغلس " كلمة "من" ابتدائية، ويجوز أن تكون تعليلية، والغَلس بفتحتين: آخر الليل، ولا مخالفة بين هذا الحديث وبين حديث أبي = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 وقول النووي هذا مع ما تقدم عن أئمة اللغة في تفسير التلفع يؤيد ما ذكرتُه من مبالغة نساء الصحابة رضي الله عنهم في التستر وتغطية وجوههن عن الرجال الأجانب، ويؤيد هذا ما تقدم (1) عن عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت نساء الأنصار وفضلهن، وأنهن لما أنزلت سورة النور (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) قامت كل امرأة منهن إلى مِرْطها فاعتجرت به، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجراتِ كان على رؤوسهن الغربان، رواه ابن أبي حاتم - وقد تقدم تفسير الاعتجار وأنه لف الخمار على الرأس مع تغطية الوجه" (2) اهـ. * قال بدر الدين العيني رحمه الله: ثم عدم معرفتهن يحتمل أن يكون لبقاء ظلمة من الليل، أو لتغطيتهن بالمروط غاية التغطي، وقيل: معنى "ما يعرفهن أحد" يعني ما يعرف أعيانهن، وهذا بعيد، والأوجه فيه أن يقال: "ما يعرفهن أحد" أي: نساء هم أم رجال، وإنما يظهر للرائي الأشباح خاصة" (3) اهـ. وقال في موضع آخر: "قوله "متلفعات" حال، أي متلحفات من التلفع، وهو شد اللفاع، وهو ما يغطي الوجه، ويتلحف به" (4) اهـ. * وقال الشيخ عبد العزيز بن خلف: "وهذا الحديث أيضَا ليس فيه دلالة على كشف الوجه مطلقًا، وحينما   = برزة الذي مضى من أنه كان ينصرف حين يعرف الرجل جليسه، لأنه إخبار عن رؤية جليسه، وهذا إخبار عن رؤية النساء من البعد) اهـ. من "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (6/ 74- 75) . (1) انظر ص (314) . (2) "الصارم المشهور" ص (85-87) . (3) "عمدة القاري" (4/ 90) . (4) "السابق" (6/ 74) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 428 تكون المرأة في ظلمة لا تعرف فيها، فلا جناح عليها في كشف وجهها، لأن المقصود من لزوم التخمير هو عدم تمييز محاسن الوجه، وهذا ظاهر" (1) اهـ. الشبهة الثانية عشرة * قول بعضهم: "إن الدين يسر" وإباحة السفور مصلحة تقتضيها مشقة التزام الحجاب في عصرنا. والجواب من وجوه: أولا: تقرير خاصة اليسير ورفع الحرج في الدين عن المسلمين بأدلة القرآن والسنة: قال الله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78] . وقال سبحانه: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)) [النساء: 27، 28] . وقال عز وجل: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185] . وقال جل وعلا: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة: 286] . وقال تبارك وتعالى في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ (2) حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ   (1) "نظرات في حجاب المرأة المسلمة" (ص 72) . (2) أي يشق عليه، ويعنته، ويحرجه كل أمر يشق على أمته، ويعنتها، أو يحرجها، وهو حريص على أمته، حريص على جلب المصالح لها، ودفع المفاسد والمساوئ عنها، وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 429 رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)) [التوبة: 128] وقال في صفته في التوراة والإنجيل: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف: 157] . فهذه الآيات صريحة في التزام مبدأ التخفيف والتيسير على الناس في أحكام الشرع، قال الشاطبي رحمه الله تعالى: إن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع (1) . * أما السنة القولية: فمنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالحنيفية السمحة" (2) . وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدينَ أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا" (3) . وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذًا إلى اليمن، فقال: "ادعُوا الناسَ، وبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا" (4) .   (1) الموافقات (1/340) . (2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5/266) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، ومن حديث أبي أمامة رضي الله عنه، والديلمي في "مسند الفردوس" من حديث عائشة رضي الله عنها - انظر "كشف الخفا" ص (251) . (3) رواه البخاري (1/ 116) في الإيمان: باب الدين يسر، وفي الرقاق (11/ 300) ، باب القصد في المداومة على العمل، والنسائي (8/121 - 122) في الإيمان، باب الدين يسر. (4) رواه البخاري (7/657 – 658) في المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن، وفي الجهاد، وفي الأدب، والأحكام، والأحكام، ومسلم رقم (1733) في الجهاد، باب الأمر بالتيسير وترك التنفير، وفي الأشربة، وأبو داود رقم (3684) في الأشربة باب النهي عن المسكر، والنسائي (8/298، 299، 300) في الأشربة، باب تحريك كل شراب أسكر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 430 وقال للصحابة في حادثة الأعرابي الذي بال في المسجد: "إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين" (1) . وقال صلى الله عليه وسلم: "بشروا، ولا تنفروا، ويسروا، ولا تعسروا" (2) . وقال صلى الله عليه وسلم: "خير دينكم أيسره" (3) . * وأما سنته الفعلية صلى الله عليه وسلم: فـ "ما خُيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثما، فإن كان إثما، كان أبعدَ الناس منه" (4) الحديث. أضف إلى ذلك ما ثبت من مشروعية الرخص، وهو أمر مقطوع به، ثم إجماع علماء الأمة على عدم وقوع المشقة غير المألوفة في التكاليف الشرعية. والحاصل: أن الشارع لا يقصد أبدًا إعنات المكلفين أو تكليفهم ما لا   (1) البخاري (1/386) في الوضوء، باب صب الماء على البول في المسجد، وأبو داود رقم (380) في الطهارة، باب الأرض يصيبها البول، والترمذي رقم (147) في الطهارة، باب ما جاء في البول يصيب الأرض، والنسائي (1/48، 49) في الطهارة، باب ترك التوقيت في الماء. (2) رواه البخاري (1/196) في العلم من حديث أنس رضي الله عنه، ومسلم رقم (1732) في الجهاد، باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير، وأبو داود رقم (4835) في الأدب، باب في كراهية المراء. (3) رواه الإمام أحمد، والبخاري في "الأدب المفرد" والطبراني في "الكبير" عن محجن ابن الأدرع، والطبراني في "الكبير" أيضا عن عمران بن حصين، وفي "الأوسط"، وابن عدي، والضياء عن أنس، قال الزين العراقي: "سنده جيد"، ورمز له السيوطي بالصحة - انظر "فيض القدير" (3/ 486) . (4) رواه البخاري (10/541) في الأنبياء، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الأدب، والحدود، والمحاربين، ومسلم (رقم 2327) في الفضائل، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، والموطأ (2/903) في حسن الخلق، باب ما جاء في حسن الخلق، وأبو داود رقم (4785) في الأدب، باب في التجاوز في الأمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 431 تطيقه أنفسهم، فكل ما ثبت أنه تكليف من الله للعباد فهو داخل في مقدورهم وطاقتهم. ثانيا: أما دعوى أن إباحة السفور مصلحة معتبرة نظرَا لمشقة التزام الحجاب خصوصا في البلاد التي شاع فيها التبرج والانحلال، وحتى لا يرمى الإسلام بالتشدد، والمسلمون بالتطرف. فنبين فيما يلي - إن شاء الله - ضوابط المصلحة الشرعية، وعلاقة التكليف بالمشقة. يقول الوضعيون: (حيثما وجدت المصلحة فثم وجه الله) ، إما الأصوليون فيصدق على منهجهم أنه (حيثما وجد الشرع فثمة مصلحة العباد) . وحتى نفرق بين المنهجين، ونميز بين من أسلم وجهه لله، ومن أسلم نفسه للهوى نحدد ما هي: ضوابط المصلحة الشرعية الأول: اندراجها في مقاصد الشرع - وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال -، فكل ما يحفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول أو بعضها فهو مفسدة. الثاني: عدم معارضتها للقرآن الكريم، وذلك لأن معرفة مقاصد الشريعة إنما تم استنادًا إلى الأحكام الشرعية المنبثقة من أدلتها التفصيلية، والأدلة كلها راجعة إلى الكتاب، فلو عارضت المصلحة كتاب الله لاستلزم ذلك أن يعارض المدلول دليله، وهو باطل. قال تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) [المائدة: 49] ، وقال جل وعلا: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 432 إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [النساء: 59] الآية. الثالث: عدم معارضتها للسنة، وإلا اعتبرت رأيا مذموما، وقد تواتر عن الصحابة رضي الله عنهم تواصيهم باجتناب الرأي في الدين. قال عمر رضي الله عنه: "إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن: أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها، واسْتَحْيَوْا حين سُئِلوا أن يقولوا: لا نعلم، فعارضوا السنن برأيهم، فإياكم وإياهم. الرابع: عدم معارضتها القياسَ الصحيح". الخامس: عدم تفويتها مصلحة أهم منها، أو مساوية لها. وإذا أحسنا تطبيق هذه الضوابط لى مسألتنا فلن نشك أن هذه "المصلحة" الموهومة غير معتبرة لمنافاتها هذه الضوابط. ثالثًا: فإذا كان لابد للمصلحة من أن تنضبط بكل ما ذكرنا، فما معنى قولهم إذن: المشقة تجلب التيسير؟ وقولهم: تتبدل الأحكام بتبدل الأزمان؟ (1) والجواب: أنه ليس بين هاتين القاعدتين وبين الضوابط آنفة الذكر أي تعارض، بل هما منسجمتان معها موافقتان لها. أما الأولى وهي أن: "المشقة تجلب التيسير" فمعناها أن المشقة التي قد يجدها المكلف في تنفيذ الحكم الشرعي سبب شرعي صحيح للتخفيف فيه بوجهٍ ما. لكن ينبغي أن لا تفهم هذه القاعدة على وجه يتناقض مع الضوابط السابقة للمصلحة، فلابد للتخفيف أن لا يكون مخالفًا لكتاب ولا سنة ولا   (1) ويأتي - بإذن الله - توضيح هذه القاعدة ص (442) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 433 قياس صحيح ولا مصلحة راجحة. ومن المصالح ما نص على حكمه الكتاب والسنة، كالعبادات والعقود والمعاملات، وهذا القسم لم يقتصر نص الشارع فيه على العزائم فقط، بل ما من حكم أحكام العبادات والمعاملات إلا وقد شرع إلى جانبه سبل التيسير فيه: كالصلاة شرعت أركانها وأحكامها الأساسية، وشرع إلى جانبها أحكام ميسرة لأدائها عند لحوق المشقة كالجمع والقصر والصلاة من جلوس، وكالصوم شرع إلى جانب أحكامه الأساسية رخصة الفطر بالسفر والمرض، وكالطهارة من النجاسات في الصلاة شرع معها رخصة العفو عما يشق الاحتراز منه، وحرم الله عز وجل أخذ مال الغير، وأرخص للمضطر أن يأخذ قدر ضرورته منه. وأوجب الله سبحانه وتعالى الحجاب على المرأة، ثم نهى عن النظر إلى الأجنبية، وأرخص في كشف الوجه والنظر إليه عند الخطبة، والعلاج، والتقاضي، والتعليم، والمعاملة، والإشهاد. إذن فليس في التيسير الذي شرعه الله سبحانه وتعالى في مقابلة عزائم أحكامه ما يخل بالوفاق مع ضوابط المصلحة، ومعلوم أنه لا يجوز الاستزادة في التخفيف على ما ورد به النص، كأن يقال: إن مشقة الحرب بالنسبة للجنود تقتضي وضع الصلاة عنهم أو تأخيرها إلى القضاء فيما بعد أو كأن يقال: إن مشقة التحرز عن الربا في هذا العصر تقتضي جواز التعامل به أو كأن يقال: إن مشقة التزام الحجاب في بعض المجتمعات تقتضي أن يباح للمرأة التبرج مثلا بدعوى عموم البلوى به قال ابن نجيم: المشقة والحرج إنما يعتبران في موضع لا نص فيه، وأما مع النص بخلافه، فلا يجوز التخفيف بالمشقة (1) .   (1) "الأشباه والنظائر" (1/117) ، "رسائل ابن عابدين" (2/120) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 434 ومما ينبغي توضيحه أن المشقة نوعان: الأول: مشقة معتادة مألوفة: وهي التي يستطيع الإنسان تحملها دون إلحاق ضرر به، فهذه المشقة غير مرفوعة عنا، ولا تنفك عنها العبادة غالبا، لأن كل عمل في الحياة لا يخلو عن مشقة، بل إن معنى التكليف - وهو (طلب ما فيه كلفة ومشقة) - لا يتحقق إلا بها، غير أنها محتملة تتلاءم مع طاقة الإنسان العادية، قال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة: 286] . * قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن كانت المشقة مشقة تعب، فمصالح الدنيا والآخرة منوطة بالتعب، ولا راحة لمن لا تعب له، بل على قدر التعب تكون الراحة (1) . ورُبَّ حكم شرعي جُلُّ مصلحته مرتبط بما فيه من المشقة والجهد كالقصاص والحدود، فمثل هذه المشقة لا أثر لها في التيسير والتخفيف، وإنما المشقة التي أنيط بها ذلك هو ما كان فوق الحد المعتاد بسبب طارئ". * قال العز بن عبد السلام رحمه الله: المشاق ضربان: أحدهما مشقة لا تنفك العبادة عنها، كمشقة الوضوء والغسل في شدة السبرات (2) ، وكمشقة إقامة الصلاة في الحر والبرد، ولاسيما صلاة الفجر، وكمشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار، وكمشقة الحج التي لا انفكاك عنها غالبًا، وكمشقة الاجتهاد في طلب العلم والرحلة فيه، وكذلك المشقة في رجم الزناة، وإقامة الحدود على الجناة، ولاسيما في حق الآباء والأمهات والبنين والبنات، فإن في ذلك مشقة عظيمة على مقيم هذه العقوبات بما يجده من الرقة والمرحمة بها   (1) "إعلام الموقعين" (2/ 112) (2) السبرات: جمع سبرة وهي شدة البرد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 435 للسراق والزناة والجناة من الأجانب والأقارب والبنين والبنات. ثم قال رحمه الله: "فهذه المشاق كلها لا أثر لها في إسقاط العبادات والطاعات، ولا في تخفيفها، لأنها لو أثرت لفاتت مصالح العبادات والطاعات، في جميع الأوقات، أو في غالب الأوقات، ولفات ما رتب عليها من المثوبات الباقيات، مادامت السماوات والأرض (1) . وهذه المشقة - وإن كانت سببَا للثواب والأجر - إلا أنها ليست هي المقصودة أصلا للشارع من الأفعال التي كلفنا بها (2) ، وأنما المقصود هو المصالح المترتبة عليها. الشبهة الثالثة عشرة هل يلحق إظهار الوجه بما يكشف بدعوى عموم البلوى بكشفه؟ * أجاب عن هذا الشيخ عبد العزيز بن راشد النجدي رحمه الله فقال:   (1) "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" (2/7) . (2) وعليه فلا ينبغي أن نقصد في أعمالنا المشقات ونتحرى الاستزادة منها، ظانين أن وراء ذلك الأجر العظيم، وأن الثواب على قدر المشقة، فهذا يخالف قصد الشارع، فمن ترك طريقًا معبدَا إلى المسجد، وسلك طريقا آخر فيه عقبات يبتغي بذلك زيادة الأجر، فقد أخطأ القصد، ولا ثواب له، قال صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثًا، أخرجه مسلم رقم (2670) في العلم، باب "هلك المتنطعون"، وأبو داود رقم (4608) في السنة، باب في لزوم السنة. وقال صلى الله عليه وسلم: "اكفلوا من الأعمال ما تطيقون" رواه البخاري في الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل، ومسلم في الصلاة رقم (782) ، والنسائي (3/ 218) في صلاة الليل، باب الاختلاف على عائشة في إحياء الليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 436 "لا يصح هذا لأمور: أولاً: أنه لا حاجة تدفع إلى كشفه كالمذكورات، ويمكنها أن تحجب ما سوى العينين في طريقها دائمًا كما تشهد التجارب عند كل من أوجب ستره، كما أنها مستغنية عن إبدائه. ثانيا: أنه أزين شيء في المرأة، وأجمل ما يدعو إليها، ويغري بها، وهذا معترف به عند جميع الناس ممن يدين بالحجاب، ومن لا يدين به. ثالثا: أن كشفه أكبر مثير لشهوة الناظرين إليه من الرجال ما لم يكونوا من محارمها، كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظر إليه منها، لأن حسنه يحمل على الرغبة فيها، كما يمنع قبحه عنها، وإن إدامة النظر إليه هي بريد الزنا، وانتهاك الأعراض، ووسيلة إلى اختلاط الأنساب وفشو الفواحش، وما ينتج عنه من أمراض وسفك دماء عند ذوي الغيرة. رابعا: أن من حكمة التشريع الإلهي وكذلك البشري العمل على تقليل الشر بمنع وسائله، وتكثير الخير بتقريب أسبابه وتسهيلها على طالبيه. خامسا: أنه قد لُمِس وشوهد عيانا أن الفجور المتفشي في الأمم اليوم، وقبل الأيام الحاضرة، أول أساس له كشف وجوه النساء عند غير محارمهن، وذلك أنه إذا كشفته زال عنها الحياء، الذى هو أكبر حصن عليها لعفتها، وسياج عن الرجال إليها، وحينئذ تجترئ على مخاطبة الرجال، وتأنس من الدنو من فلان وعلان، ويطمع فيها كل فاجر يتمكن من الاتصال بها للين حديثها، وارتفاع الخفر عنها كما تيقن هذا من لم يغلب هواه على عقله ودينه وفطرته، ويصدقه التجارب عند جميع أجناس البشر في كل زمان" (1) اهـ. * وقال الشيخ عبد العزيز بن خلف:   (1) "أصول السيرة المحمدية" (ص 163-164) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 437 "وعلى هذا فلم يكن هذا التقليد (1) الذي يخالف السنة مبيحًا لما ثبت من المنهيات الشرعية، وأخذت به الأمة الإسلامية، فالبلوى لها حكمها، والمجتمعات لها أحكامها، لأن البلوى لا تبيح محرما في نفس الأمر، كما لا تبيحه عادات المجتمعات، ولا ينقلب الحرام مباحًا بتغير الزمان والمكان. إن الفتنة هي قاعدة من قواعد التحريم، فلو قلنا بانتفاء الفتنة عمن كانت في "لندن" مثلا، بحيث إن السفور هو العادة المتبعة، وربما تنتفي الفتنة غالبًا، فهل يقال: إن هذا السفور مباح للمرأة المسلمة؟ نقول: لا يكون السفور مباحًا، لأنه لا يجوز لها أن تكشف وجهها للرجال الأجانب لعموم النص، ولو انتفت الفتنة غالبا رغم أنه قد يكون من الصعب عليها أن تكون غير سافرة هناك، وربما كان التستر شهرة تلفت أنظار المجتمع بأسره، وكل ذلك لا يكون عذرا لإبداء وجهها" (2) اهـ. الشبهة الرابعة عشرة هل إباحة السفور من الرفق بالنساء؟ * استدل بعضهم - إلى جانب الأحاديث المشيرة إلى يسر الإسلام وسماحته – بقوله صلى الله عليه وسلم: "استوصوا بالنساء خيرا" (3) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "رفقًا   (1) يقصد هنا - كما يعلم من السياق - ما عمت به البلوى من حلق الرجال لحاهم تقليدا للإفرنج، (2) "نظرات في كتاب حجاب المرأة المسلمة" للألباني (ص 35 - 36) . (3) رواه البخاري (9/ 160- 161) في النكاح، باب المداراة مع النساء، وفي الأنبياء، وفي الأدب، والرقاق، ومسلم رقم (1468) في الرضاع، باب الوصية بالنساء، والترمذي رقم (1188) في الطلاق، باب ما جاء في مداراة النساء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 438 بالقوارير" (1) ، على أن هذه النصوص تقتضي إباحة السفور لهن. * وجواب ذلك أن وصيته صلى الله عليه وسلم بالنساء خيرًا حق لا ريب فيه، ولكن السؤال: هل السفور من الخير الذي أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم؟ إن النصوص الواردة في الوصية بالنساء خيرًا في جملتها تأتي بحسن العشرة، وإلزامهن بالخير لهن في أمري الدين والدنيا بأسلوب الرفق وحسن الخلق وما إلى ذلك. فالحق الذي يصح به اتباع وصيته صلى الله عليه وسلم هو اتباع هديه القائم بنفسه، وفي أهله وبناته ونساء المؤمنين من الأقوال والأفعال، ومن خالف ذلك فإنه لم يعمل بوصيته صلى الله عليه وسلم. أما قوله صلى الله عليه وسلم: "رفقا بالقوارير" (2) فهو يعني أمهات المؤمنين ومن خالطهن من نساء الصحابة رضي الله عنهم وعنهن، وأما قياس السافرات عليهن في هذا الخطاب فهو خطأ، وليس من الحق في شيء. ويؤخذ من وصفه صلى الله عليه وسلم النساء بالقوارير أن ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها" (3) .   (1) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه، رقم (6149) ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه - ومعهن أم سُليم فقال: "ويحك يا أنجشة، رويدك سوقَا بالقوارير". وسبب ورود الحديث أن أنجشة كان يحدو بالنساء يسوق بهن في سفر، وكان حسن الصوت، فاشتد بهن في السياق، فخاف عليهن النبي صلى الله عليه وسلم من حث السير بسرعة السقوط أو التألم من كثرة الحركة والاضطراب الناشئ عن السرعة، أو خاف عليهن الفتنة من سماع النشيد، فلهذا قال له: "رويدك ارفق بالقوارير" يعني النساء، شبههن بالقوارير لرقتهن وضعفهن عن الحركة، انظر "فتح الباري" (10/ 562) . (3) تتمة الحديث الذي سبق تخريجه آنفا برقم (1) ، وهذه رواية مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، انظر "شرح النووي" (10/ 57) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 439 وفي رواية هشام عن قتادة: "رويدك سوقك، ولا تكسر القوارير" قال أبو قلابة: يعني ضعفة النساء، قيل في تفسيره: شبههن بالقوارير لسرعة انقلابهن عن الرضا، وقلة دوامهن على الوفاء، كالقوارير يسرع إليها الكسر، ولا تقبل الجبر، وقد استعملت الشعراء ذلك، قال بشار: ارفق بعمرو إذا حركت نسبته ... فإنه عربي من قوارير (1) والمقصود أن من أراد تقويم الزجاجة كسرها، ومن هذا الوجه جاءت وصيته صلى الله عليه وسلم بالنساء خيرَا، وباستعمال الرفق بهن في كل أمر يُطلب منهن الاستقامة عليه، وهذا من أهداف حسن العشرة. ومعلوم أن غالب النساء ضعيفات بالخير، قويات بالشر والفتنة، فالرجل قائم على المرأة مسؤول عنها بالمعنى الكامل في جميع أوجه الخير، وإلزامها بلوازم الإسلام، وما يجب لها، وعليها، من إيصال النفع، ودفع الشر. وهذا كله داخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "لتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا" أو "لتقصرنه على الحق قصرًا" (2) . والأطر معناه العطف، أي: تعطفونه، وتردونه، والقصر: معناه الحبس أي يحبس عن فعل الشر، هكذا قال العلماء. فكل من لا يمتثل الحق، ويأخذ الواجبات الشرعية فإنه ظالم يجب   (1) "فتح الباري" (10/ 561) . (2) جزء من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أخرجه أبو داود رقم (4336) في الملاحم، باب الأمر والنهي، والترمذي رقم (3050) في أبواب تفسير القرآن باب (48) من تفسير سورة المائدة وحسنه، ورواه ابن ماجة رقم (4006) في الفتن، باب الأمر بالمعروف، والطبري (10/ 491) ، وفي سنده عند الجميع انقطاع لأن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه كما نص عليه غير واحد، وفي الباب عن أبي موسى عند الطبراني، قال الهيثمي في "المجمع" (7/ 269) : "ورجاله رجال الصحيح" اهـ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 440 وجوبًا شرعيا على من خاطبهم الخبر الأخذ على أيديهم ما أمكن، لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. إذا تبين هذا، فإننا نقول: إن استجابة المرأهٌ للحق، أو عدم استجابتها ليس شرطًا في تحريم السفور أو إباحته، وإنما ذلك يبنى على أمرين: الأول: أن السفور شر عام للمرأة والرجل، سواء في ذلك من رضي أو من كره، ولا يمكن لفرد مسلم أن يقول: "إنه من الخير"، وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يجب علينا وجوبا شرعيا محاربة الشر أيًّا كان مصدره، سواء تغلبنا عليه بمحاربتنا إياه أو لا، وعلى قدر المراتب التي أقامها صلى الله عليه وسلم كأساس لمن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر في قوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرَا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الأيمان" (1) . الثاني: أن النزاع في إثبات الواجب إنما يكون في الدعوة إلى ما هو الحق الذي شرعه الله تبارك وتعالى وشرعه نبينا صلى الله عليه وسلم، وعليه السلف الصالح، وامتثلته المرأة المؤمنة في عهده صلى الله عليه وسلم، وهم القدوة الحسنة في الاتباع. ***   (1) رواه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مسلم رقم (49) في الإيمان باب كون النهي عن المنكر من الإيمان، والترمذي رقم (2173) في الفتن، باب ما جاء في تغيير المنكر باليد، وأبو داود رقم (1140) في صلاة العيدين، باب الخطبة يوم العيد، ورقم (4340) في الملاحم، باب الأمر والنهي، والنسائي (8/111) في الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان، وأخرجه ابن ماجه رقم (4013) في الفتن، باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 441 الشبهة الخامسة عشرة الفهم المغلوط لقاعدة: "تبدل الأحكام بتبدل الأزمان" أولا: تقرر عند أهل العلم أن "الحكم الشرعي" لا يتبدل مهما تبدلت الأزمان، وتغيرت الأعراف اللهم إلا عن طريق النسخ، وقد أُغْلِق بابُه بعد تكامل هذا الشرع الحنيف بانتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى. وقاعدة "تبدل الأحكام بتبدل الأزمان" مبنية على قاعدة فقهية أخرى وهي أن "العادة مُحَكَّمة" أي أن عرف الناس مُحَكَّم في الأحكام الشرعية، وقد فهم القوم من ذلك أنه مادامت أعرافهم متطورة بتطور الأزمان؛ فلابد أن تكون الأحكام الشرعية كذلك. ولا ريب أن هذا الكلام إذا كان مقبولا على ظاهره، لاقتضى أن يكون مصير شرعية الأحكام كلها رهنًا بيد عادات الناس وأعرافهم، وهذا لا يمكن أن يقول به مسلم، لكن تحقيق المراد من هذه القاعدة: أن ما تعارف عليه الناس، وأصبح عرفًا لهم: (1) إما أن يكون هو بعينه حكما شرعيّا أيضا، بأن أوجده الشرع، أو كان موجودًا فيهم فدعا إليه وأكَّده، مثال ذلك: الطهارة عند النجس والحدث عند القيام إلى الصلاة، وستر العورة فيها، وحجب المرأة زينتها عن الأجانب، والقصاص في الجنايات، والحدود في الزنا والسرقة والخمر وما شابه ذلك، فهذه كلها أمور تعَدُّ من أعراف المسلمين وعاداتهم، وهي في نفس الوقت أحكام شرعية يستوجب فعلها الثواب، وتركها العقابَ؛ سواء منها ما كان متعارفًا قبل الإسلام ثم جاء الحكم الشرعي مؤيدا ومحسِّنًا له، كحكم القسامة والدية والطواف بالبيت، وما كان غير معروف قبل ذلك وإنما أوجده الإسلام نفسه كأحكام الطهارة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 442 والصلاة والزكاة وغيرها فهذه الصورة من الأعراف لا يجوز أن يدخلها التبديل والتغيير مهما تبدلت الأزمنة، وتطورت العادات والأحوال، لأنها بحد ذاتها أحكام شرعية ثبتت بأدلة باقية ما بقيت الدنيا، وليست هذه الصورة هي المعنية بقول الفقهاء: "العادة محَكمة". (2) وإما أن لا يكون حكما شرعيًا، ولكن تعلق به الحكم الشرعي بأن كان مناطًا له، مثال ذلك: ما يتعارفه الناس من وسائل التعبير وأساليب الخطاب والكلام، وما يتواضعون عليه من الأعمال المخلة بالمروءة، والآداب، وما تفرضه سنة الخلق والحياة في الإنسان مما لا دخل للإرادة والتكليف فيه كاختلاف عادات الأقطار في سن البلوغ، وفترة الحيض والنفاس. فهذه الأمثلة أمور ليست بحد ذاتها أحكامًا شرعية كالأمثلة السابقة في النوع الأول، ولكنها متعلق ومناط لها، وهذه الصورة من العرف هي المقصودة من قول الفقهاء (العادة مُحَكَمة) ، فالأحكام المبنية على العرف والعادة هي التي تتغير بتغير العادة، وهنا فقط يصح أن يقال: (لا يُنكَر تبدلُ الأحكام بتبدل الأزمان) ، وهذا لا يعد نسخا للشريعة، لأن الحكم باق، وإنما لم تتوافر له شروط التطبيق، فطُبِّق غيره، يوضحه أن العادة إذا تغيرت فمعنى ذلك أن حالة جديدة قد طرأت تستلزم تطبيق حكم آخر، أو: أن الحكم الأصلي باقٍ، ولكن تغير العادة استلزم توافر شروط معينة لتطبيقه. مثال ذلك: "ما ذهب إليه أبو حنيفة من الاكتفاء بالعدالة الظاهرة، فلم يشترط تزكية الشهود فيما عدا الحدود والقصاص لغلبة الصلاح على الناس وتعاملهم بالصدق، ولكن لما كثر الكذب في زمان أبي يوسف ومحمد صار في الأخذ بظاهر العدالة مفسدة وضياع للحقوق، فقالا بلزوم تزكية الشهود، وقال الفقهاء عن هذا الاختلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 443 "إنه اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان"، ومثله أيضا سقوط خيار الرؤية برؤية ظاهر البيت وبعض حُجَرِه، وهذا ما أفتى به أئمة الحنفية لأن الحُجَر كانت تبنى على نمط واحد، ولكن لما تغيرت عادة الناس في البناء أفتى متأخروهم بعدم سقوط خيار الرؤية إلا برؤية جميع حجر البيت" (1) اهـ. وإذا تحرر المعنى المراد من قولهم: "العادة محكمة"، علمت أنها لا تستلزم تغيير الأحكام بتغير الأزمان، وعندئذ يصبح قول من قال: (تتبدل الأحكام بتبدل الأزمان) إما كلامًا باطلًا لا صحة له إن حمل على ظاهره كما قد يفهمه كثير من الناس، وإما كلامَا متجوزا فيه محمولا على غير ظاهره، وذلك بأن يقصد به الأحكام المرتبطة من أصلها بما قد يتبدل ويتغير من أعراف الناس ومصالحهم التي لم يُقْضَ فيها بحكم مبرم، كتلك الأمثلة التي مر ذكرها، ولكن ينبغي أن يعلم أن دوران تلك الأحكام مع مناطاتها لا يمكن أن يعتبر تبدلًا أو تغييرًا حقيقيًّا لها، بل هذا الذي يظهر في مظهر التغيير منه إنما هو ممارسة حقيقية له كما مر بيانه (2) . بيان علاقة هذه القاعدة بأحكام الحجاب مما تقدم يتضح أنه لا يصح احتجاج أعداء الحجاب بهذه القاعدة على استباحة التبرج الذي حَرمه الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم. وهذه القاعدة ونظائرها هي كل ما يحفظه أولئك المفتونون بالحياة الغربية من قواعد الشريعة الإسلامية وأصولها، وإنما يتعلقون بها في مجال التخفيف والتسهيل والسير مع مقتضيات التحلل من الواجبات فقط، ولكنهم يتناسون هذه القاعدة تماما عندما يقتضيهم الأمر عكس ذلك.   (1) "الوجيز في أصول الفقه" ص258 - 259، وانظر: "الموافقات" (2/ 283 - 284، و"الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص 83 - 84) . (2) "ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية" (ص291) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 444 بل نستطيع أن نقول أيضا إنه لا يصح احتجاج من يبيح السفور اعتمادا على نفس القاعدة، لأنه لا يستطيع منصف ناصح للأمة - ممن يرى إباحة كشف وجه المرأة - أن يعثر على مثالٍ تتجلى فيه ضرورة تبدل الأحكام بتبدل الأزمان؛ مثل ضرورة القول بوجوب ستر المرأة وجهها عن الأجانب عنها، نظرًا لمقتضيات الزمان الذي نعيشه، ونظرا لما تكاثر فيه من المنزلقات التي تستوجب مزيدَا من الحذر في السير، والتبصر بمواقع الأقدام، ريثما يهيئ الله عز وجل للمسلمين مجتمعهم الإسلامي المنشود. وهذا نفس ما قرره العلماء اعتمادَا على التطبيق الصحيح لهذه القاعدة: قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى، وعفا عنه: "وكان قد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء في حضور المسجد، والصواب الآن المنع، إلا العجائز، بل استُصْوِبَ ذلك في زمان الصحابة، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: "لو علم النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدثت النساء بعده لمنعهن عن الخروج"، ولما قال ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"، فقال بعض ولده: "بلى والله لنمنعهن" فضربه، وغضب عليه، وقال: تسمعني أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا" فتقول: بلى، وإنما استجرأ على المخالفة لعلمه بتغير الزمان، وإنما غضب عليه لإطلاقه اللفظ بالمخالفة ظاهرا من غير إظهار العذر" (1) . وجاء في "المنتقى": "تمنع الشابة عن كشف وجهها لئلا يؤدي إلى الفتنة، وفي زماننا المنع واجب، بل فرضٌ لغلبة الفساد" (2) اهـ. وقد شرط المالكية، والحنفية، وبعض الشافعية (3) لجواز كشف المرأة   (1) "إحياء علوم الدين" (1/728) . (2) نقله في "اللباس والزينة في الشريعة الإسلامية" ص (141) . (3) انظر: "أحكام القرآن" لأبي بكر بن العربي (3/ 1357) ، و"أحكام القرآن" للجصاص (3/289) و "الدر المختار) في باب الحظر والإباحة من "حاشية ابن عابدين" (5/244) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 445 وجهها: أن لا يكون ذلك في حالة تثير الفتنة بأن تكون مزينة أو بارزة الجمال، وأن لا تظهر أمام فساق يغلب على الظن أنهم لا يغضون من أبصارهم، كما أمر الله تعالى، بل ينقادون لدوافع أهوائهم وشهواتهم، فإن فُقِدَ أحد الشرطين كان عليها أن تستر وجهها درءًا للفتنة بالنسبة للحالة الأولى، وإزالة للمنكر الذي تسببت به في الحالة الثانية، وإنما يكون إزالة المنكر في مثل هذه الحال بأن تمنع الفساق من النظر إليها، أو بأن لا تخرج من بيتها إلى هؤلاء الناس، أو بأن تحجب وجهها عنهم، وهو أيسر الأسباب الثلاثة إذًا إذا تغير حال الناس، وعم الفسق وطم، بحيث تعلم المرأة أن حولها مَن قد ينظر إليها النظر المحرم الذي نهى الله تعالى عنه، باْن يتْبعَ النظرةَ النظرةَ، ولا تستطيع أن تزيل هذا المنكر إلا بحجب وجهها عنه، وعلى هذه الحالة يحمل ما نَقله الخطيب الشربيني عن إمام الحرمين من اتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات الوجوه (1) . وقد صرح بهذا القيد القرطبي فيما نقله عن ابن خويز منداد من أئمة المالكية: "أن المرأة إذا كانت جميلة، وخيف من وجهها وكفيها الفتنة، فعليها ستر ذلك" (2) ، وكذا في "قوانين الأحكام الشرعية" لابن جزي. وقال صاحب "الدر المختار" من الحنفية: "وتمنع المرأة الشابة من كشف الوجه بين الرجال، لا لأنه عورة، بل لخوف الفتنة، ولا يجوز النظر إليه بشهوة (3) ، وكذا في "الهدية العلائية". * قال الشيخ أحمد عز الدين البيانوني رحمه الله في كتابه "الفتن": "قول الأئمة: "عند خوف الفتنة" إنما يعلم في ناظر خاص، وأما بالنظر   (1) "مغني المحتاج" (3/ 129) . (2) "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (12/ 228) (3) "الدر المختار" على هامش ابن عابدين (1/284) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 446 إلى جماهير الناس الذين تبرز المرأة سافرة أمامهم، فلا يتصور عدم خوف الفتنة منهم جميعا، فيتحتم المنع من السفور أمامهم على هذا التعليل، وبهذا يظهر مذهب أبي حنيفة وأصحابه في المسألة" (1) اهـ. * قال الأستاذ محمد أديب كلكل في كتابه "فقه النظر في الإسلام": وإذا علمت المرأة بأن أحدًا من الرجال ينظر إليها، وجب عليها ستر وجهها لئلا توقع غيرها في الإثم، وتعرضه للفتنة وإثارة الشهوة، وفي عصرنا هدا لا يقول بجواز كشف الوجه والكفين إلا مكابر ومُنْكِر للحقائق والوقائع، وعليه اتفاق الأئمة رضوان الله عليهم أجمعين، لأن الفتنة أمرها محقق لا تحتاج إلى إيراد حجة، أو إقامة برهان، أو تقديم دليل، أو يجادل في أن القطبين السالب والموجب إذا تقاربا لا يلتقيان أو لا يتجاذبان. وحتى يوجد المجتمع المسلم الكامل الذي قد تربى تربية إسلامية صحيحة، وسرت حقائق الإيمان في دمه وعروقه، واستنار فؤاده بنور اليقين، فأشرق على جوارحه سلوكا طيبًا، ونفعًا عامًا؛ حينئذٍ نبحث في خلاف الفقهاء رحمهم الله تعالى في جواز كشف الوجه واليدين، وإلى أن يتم ذلك، ويتحقق نقول: "إن ستر الوجه واليدين من المرأة في عصرنا هذا واجب اتفاقا لأن الفتنة قائمة لا محالة، وسدا لذرائع الفتنة المحققة". * قال القرطبي في تفسيره: "وقد قيل: إنه يجب الستر والتقنع الآن في حق الجميع من الحرائر والإماء، وهذا كما أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا النساء المساجد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قوله "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: "لو عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا لمنعهن من   (1) "الفتن" (ص 210) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 447 الخروج إلى المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل" (1) اهـ. فما الذي أحدثته النساء في زمن عائشة رضي الله عنها بالنسبة لما عليه المرأة اليوم من تهتك وانحلال، وسفور وفجور، وتكشف فاضح، وإغراء لعين حتى منعت من المسجد؟؟ أفلا يكون هذا دليلًا كافيَا بمفرده على وجوب الستر الكامل في عصرنا هذا؟ وأن لا يكون هناك تحدث وكتابة عن غيره حتى تشرق الأرض بنور ربها، ويعمها الهدى والرشاد، ويسود فيها حكم الله؟ " (2) اهـ. * وقال الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي: "وهكذا، فقد ثبت الإجماع عند جميع الأئمة - سواء من يرى منهم أن وجه المرأة عورة كالحنابلة، ومن يرى منهم أنه غير عورة كالحنفية والمالكية - أنه يجب على المرأة أن تستر وجهها عند خوف الفتنة بأن كان مِن حولها مَن ينظر إليها بشهوة، ومن ذا الذي يستطيع أن يزعم بأن الفتنة مأمونة اليوم، وأنه لا يوجد في الشوارع من ينظر إلى وجوه النساء بشهوة؟ " (3) اهـ. الشبهة السادسة عشرة نساء خيرات كن سافرات * احتج دعاة السفور بأن في شهيرات النساء المسلمات على اختلاف طبقاتهن كثيرًا ممن لم يضربن على وجوههن الحجاب، رغم ما عرفن به من الاختلاط بالرجال.   (1) "الجامع لأحكام القرآن" (14/ 244) . (2) "فقه النظر في الإسلام" (ص 37-38) . (3) "إلى كل فتاة تؤمن بالله" (ص 45) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 448 ولقد عمد المروجون لهذه الشبهة إلى التاريخ وكتب التراجم، يفتشون في طولها وعرضها، وينقبون فيها بحثا عن مثل هؤلاء النساء، حتى ظفروا بضالتهم المنشودة، ودرتهم المفقودة، فالتقطوا أسماء عدد من النساء لم يكنَّ يبالين- فيما نقلته الأخبار عنهن- أن يظهرن سافرات أمام الرجال، واْن يلتقين معهم في ندوات أدبية وعلمية دونما تحرز أو تحرج. * وجواب هذا من وجوه: الأول: أن نسألهم: قد علمنا الأدلة الشرعية التي عليها تبنى الأحكام من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس، فضمن أي مصدر من مصادر التشريع تندرج مثل هذه الأخبار، خاصة وأن أغلبها وقع بعد زمن التشريع وانقطاع الوحي؟ الثاني: فإذا علم أن حكم الإسلام إنما يؤخذ من نص ثابت كتاب الله تعالى، أو حديث صحيح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قياس صحيح عليهما، أو إجماع التقى عليه أئمة المسلمين وعلماؤهم، لم يصح حينئذ الاستدلال بالتصرفات الفردية عن آحاد الناس، أو ما يسميه الأصوليون بـ "وقائع الأحوال" (1) . فإذا كانت هذه الوقائع الفردية من آحاد الناس لا تعتبر دليلا شرعيًّا   (1) وقائع الأحوال، وقضايا الأعيان هي عبارة عن مواقف فردية وقعت في عصر التشريع، على خلاف مقتضى أدلة العموم، كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة وقد أراد أن يضحي بعناق: "تجزئك، ولا تجزئ أحدًا بعدك" وكاعتباره شهادة خزيمة بمنزلة شاهدين، فهذه وأمثالها لا يقام عليها أحكام عامة، لأنها وردت متأثرة بأسباب استثنائية خاصة، فبقيت محصورة في نطاق الحال الذي ظهرت فيه، ولم يجز أن يمتد لها ذيل من التشريع العام المتجاوز لطبيعة تلك الحال، ومن أبرز قرائن وقائع الأحوال أنها تأتي معارضة لعموم حكم كلي لا شبهة فيه من أجل سبب استثنائي لو نقبت عنه لاكتشفته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 449 لأي حكم شرعي حتى لو كان أصحابها من الصحابة (1) رضوان الله عليهم أو التابعين من بعدهم، فكيف بمن دونهم؟ بل المقطوع به عند المسلمين جميعًا أن تصرفاتهم هي التي توزن - صحة وبطلانًا - بميزان الحكم الإسلامي، وليس الحكم الإسلامي هو الذي يوزن بتصرفاتهم، ووقائع أحوالهم، وصدق القائل: "لا تعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله". الثالث: ولو كان لتصرفات آحاد الصحابة أو التابعين مثلًا قوةُ الدليل الشرعي دون حاجة إلى الاعتماد على دليل آخر، لبطل أن يكونوا معرضين للخطأ والعصيان، ولوجب أن يكونوا معصومين مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هذا لأحد إلا للأنبياء عليهم وعلى خاتمهم الصلاة والسلام، أما من عداهم فحق عليهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل بني آدم خطاء" (2) ، وإلا فما بالنا لا نقول – مثلًا - بحل شرب الخمر، وقد وجِد فيمن سلف في القرون الخيرية من شربها؟ الرابع: وما بال هؤلاء الدعاة إلى السفور قد عمدوا إلى كتب التاريخ والتراجم فجمعوا أسماء مثل هؤلاء النسوة من شتى الطبقات والعصور، وقد علموا أنه كان إلى جانب كل واحدة منهن سواد عظيم، وجمع غفير، من النساء المتحجبات الساترات لزينتهن عن الأجانب من الرجال؟ فلماذا لم يعتبر بهذه الجمهرة العظيمة، ولم يجعلها حجة بدلًا من حال أولئك القلة الشاذة المستثناة؟ أما علموا أن "الاستثناء" يؤيد القاعدة، ولا ينقضها؟ وأن ندرة هذه   (1) هناك فرق بين "قول الصحابي" وبين "واقعة حال له" فتنبه. (2) صدر حديث رواه الترمذي رقم (2501) في صفة القيامة، باب المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه، وأخرجه ابن ماجة رقم (4251) في الزهد، باب ذكر التوبة، والدرامي (2/303) في الرقاق، باب في التوبة، والإمام أحمد (3/198) ، كلهم عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وتتمته: "وخير الخطائين التوابون". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 450 الحفنة المبعثرة في هامش التاريخ الإسلامي، أقوى دليل على صحة قول: الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله: "لم تزل الرجال على مرّ الأزمان تكشف الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات، أو يمنعن من الخروج" (1) ، * والإمام ابن رسلان رحمه الله: "اتفق المسلمون على منع النساء من الخروج سافرات" (2) . * وشيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: "إن النساء كن يخرجن إلى المساجد والأسفار منتقبات لئلا يراهن الرجال" (3) . ولماذا لم يحتج بمواقف نساء السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان في تمسكهم بالحجاب الكامل (4) ، واعتباره أصلًا راسخًا من أصول البنية الاجتماعية؟! الشبهة السابعة عشرة (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) * يشيع أعداء الإسلام حول الحجاب أراجيف ينطق بها الشيطان على ألسنتهم، مثل قولهم: إن الحجاب يُسَهِّل عملية إخفاء الشخصية، وقد يتستر وراءه بعض النساء اللواتي يقترفن الفواحش، ويتعاطين المآثم، (ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ   (1) "إحياء علوم الدين" (1/729) . (2) نقله عنه في "عون المعبود" (4/106) . (3) "فتح الباري" (9/248) . (4) وقد مر بك أمثلة من ذلك، فانظر ص (107) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 451 اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [التوبة: 30] . * إنه قول بوار لا يصدر إلا ممن أكلهم الهوى، وأعجزهم البيان، فغفلوا عن حرمة أحق الذي أنزله علام الغيوب، ونسوا أن الله سبحانه وتعالى يحكم ولا معقب لحكمه، ويقضي ولا راد لقضائه (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23] . فما حكم الله به عدل، وما أخبر به صدق (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) [الأنعام: 115] . فقد حكم سبحانه بوجوب النقاب أو استحبابه على الأقل، وأخبر أنه أزكى وأطهر لقلوب المؤمنين والمؤمنات. فحينما يأتي مرضى القلوب ويشغبون بهذه الأراجيف، فلا يمكن بأي حال أن يسوقنا هذا التخوف المحتمل من سوء استخدام النقاب إلى التخلي عن حكم الله عز وجل، وكل عاقل يفهم من سلوك المرأة التي تبالغ في ستر نفسها حتى أنها لا تبدي وجهًا ولا كفّا، فضلًا عن سائر بدنها أن هذا دليل الاستعفاف والصيانة، قال تعالى بعد الأمر بالحجاب: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) قال أبو حيان: "لتسترهن بالعفة، فلا يُتعرض لهن، ولا يَلقين ما يكرهن، لأن المرأة إذا كانت في غاية التستر والانضمام لم يُقْدَمْ عليها بخلاف المتبرجة، فإنها مطموع فيها" (1) اهـ. وكل عاقل أيضا يعلم أن تبرج المرأة وإظهارها زينتها، يشعر بوقاحتها، وقلة حيائها، وهوانها على نفسها، ومن ثم فهي الأوْلى أن يساء بها الظن بقرينة مسلكها الوخيم حيث تعرض زينتها كالسلعة، فتجر على نفسها وصمة خبث النية، وفساد الطوية، وطمع الذئاب البشرية، ومن أوقع نفسه مواقع التهمة، فلا يلومن مَن أساء به الظن. إن هؤلاء المنافقين مرضى القلوب فساق هذا الزمان الذين يتشدقون بأن   (1) "البحر المحيط" (7/ 250) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 452 الحجاب يمكن أن يكون وسيلة لإخفاء هوية البغي يجب أن يؤدبوا ويعزروا أشد التأديب وأعنف التعزير، لأنه لهم نصيبَا وافرَا من قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)) [الأحزاب: 58] . ولقد كان إخوانهم من منافقي المدينة أفقه منهم وأعقل حينما كانوا يتجرءون على السافرة، فإذا أخِذوا في ذلك قالوا - تخفيفًا لجريمتهم - حَسِبناها أمَةَ، لأنهم فهموا من المبالغة في التستر أن صاحبتها عفيفة محصنة. واليوم انعكس الحال، وانقلبت المفاهيم رأسًا على عقب، بفضل أنصار المرأة ومحرريها، فصارت التي تحتجب مستعبدة، وصارت المتبرجة امرأة حرة متحررة، لقد شرع الله سبحانه وتعالى حكمه في مثل هؤلاء المنافقين فقال مباشرة بعد الأمر بإدناء الجلابيب: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)) [الأحزاب: 60 - 62] ثم إن من المتواتر لدى الكافة أن المسلمة التي تتحجب في هذا الزمان تذوق الويلات من الأجهزة الحكومية، والإدارات الجامعية، والحملات الإعلامية، والسفاهات من المنافقين في كل مكان، ثم هي تصبر على هذا كله ابتغاء وجه الله تعالى، ولا يفعل هذا إلا مؤمنة صادقة رباها القرآن والسنة، فإذا حاولت فاسقة مستهترة ساقطة أن تتجلبب بجلباب الحياء، وتواري عن الأعين زلتها بارتداء شعار العفاف ورمز الصيانة، وتستر عن الناس آفتها وفجورها بمظهر الحَصان الرزان فما ذنب الحجاب إذن؟ إن الاستثناء يؤيد القاعدة ولا ينقضها كما هو معلوم لكل ذي عقل، مع أن نفس هذه المجتمعات التي يروج فيها هذه الأراجيف، قد بلغت من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 453 الانحدار والتردي في مهاوي التبرج والفسوق والعصيان ما يغني الفاسقات عن التستر، ولا يحوجهن إلى التواري عن الأعين. وإذا كان بعض المنافقين يتشدقون بأن في هذا خطرًا على ما يسمونه (الأمن) فليخبرونا بالله كيف يهتز الأمن ويتزلزل بسبب المنقبات مع أنه لم يتزلزل مرة واحدة بسبب السافرات والمتبرجات؟ هب أن رجلًا انتحل شخصية قائد عسكري كبير، وارتدى بَزَّته، وتحايل بذلك، واستغل هذا الثوب فيما لا يباح له كيف تكون عقوبته؟ وهل يصلح سلوكه - في نظركم - مبررًا للمطالبة بإلغاء الزي المميز للعسكريين مثلا خشية أن يسيءَ أحَد استعماله؟ وما يقال عن البزة العسكرَية، يقال عن "لباس الفتوة، وزي الرياضة، فإذا وجد في المجتمع الجندي الذي يخون، والفتى الذي يسيء، والرياضي الذي يذنب، هل يقول عاقل إن على الأمة أن تحارب شعار العسكر، ولباس الفتوة، وزي الرياضة،. . . لخيانات ظهرت، وإساءات تكررت؟ فإذا كان الجواب: "لا" فلماذا يقف أعداء الإسلام من الحجاب هذا الموقف المعادي، ولماذا يثيرون حوله الشائعات الباطلة المغرضة؟ " (1) . إن الهدف البعيد من وراء هذه الأراجيف الكاذبة هو تنفير المسلمات من الحجاب الذي فرضه الله عز وجل، وترسيخ روح الاشمئزاز والكراهية من التجلبب به، والتحصن بعفافه، حتى إذا خلعن الحجاب ظهرن في المجتمع بأقبح ما تظهر به امرأة في تهتكها وانحلالها. إن الإسلام كما يأمر المرأة بالحجاب، يأمرها أن تكون ذات خلق ودين، إنه يربي مَنْ تحت الحجاب قبل أن يسدل عليها الجلباب، ويقول لها: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف: 26] ، حتى تصل إلى قمة الطهر والكمال، قبل أن تصل إلى قمة الستر والاحتجاب، فإذا اقتصرت امرأة   (1) "إلى كل أب غيور يؤمن بالله" د. عبد الله ناصح علوان (ص 44) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 454 على أحدهما دون الآخر، تكون كمن يمشي على رجل واحدة، أو يطير بجناح واحد. إن التصدي لهؤلاء المستهترات - إن وجدن - أن تصدر قوانين صارمة بتشديد العقاب على كل من تسول له نفسه استغلال الحجاب لتسهيل الجرائم وإشباع الأهواء، فمثل هذا التشديد جائز شرعًا في شريعة الله الغراء التي حرصت على صيانة النفس، ووقاية العرض، وجعلتهما فوق كل اعتبار، وإذا كان التخوف من سوء استغلال الحجاب مخطرة محتملة، إلا أن المخطرة في التبرج والسفور بنشر الفاحشة وفتح ذرائعها مقطوع بها لدى كل عاقل. ويدلي بعضهم بحجة مقلوبة فيقول: إن عفة الفتاة حقيقة كامنة في ذاتها، وليست غطاء، يلقى ويُسدل على جسمها، وكم من فتاة محتجبة عن الرجال في ظاهر، وهي فاجرة في سلوكها، وكم من فتاة حاسرة الرأس سافرة) الوجه لا يعرف السوء سبيلَا إلى نفسها أو سلوكها؟ * قال الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في دفع هذه الشبهة: "إن هذا صحيح، فما كان للثياب أن تنسج لصاحبها عفة مفقودة، ولا أن تخلق له استقامة معدومة، وربَّ فاجرة سترت فجورها بمظهر سترها، ولكن من هذا الذي فى زعم أن الله سبحانه وتعالى إنما شرع الحجاب لجسم المرأة ليخلق الطهارة نفسها أو العفة في أخلاقها؟ ومن هذا الذي زعم أن الحجاب إنما شرعه الله ليكون إعلانا بأن كل من لم تلتزمه فهي فاجرة تنحط في وادي الغواية؟ إن من حكمة الله عز وجل في تشريع الحجاب وفرضه على المرأة المحافظة على عفة الرجال الذين تقع أبصارهم عليها، وليس فقط حفاظا على عفتها من الأعين التي تراها، ولئن كانت تشترك معهم هي الأخرى في هذه الفائدة في كثير من الأحيان، فإن فائدتهم من ذلك أعظم وأخطر، وإلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 455 فهل يقول عاقل - تحت سلطان هذه الحجة المقلوبة - إن للفتاة أن تتجرد أمام الرجال مادامت ليست في شك من قوة أخلاقها وصدق استقامتها؟! إن بلاء الرجال بما تقع عليه أبصارهم من فتنة المتبرجات هو المشكلة التي أحوجت المجتمع إلى حل، فتكفل به شرع الله على أفضل وجه، وبلاء الرجال إذا لم يجد في سبيله هذا الحل الإلهي، ما من ريب سيتجاوز بالسوء إلى النساء أيضًا، ولا يغني عن الأمر شيئًا أن تعتصم المتبرجة عندئذ باستقامة في سلوكها أو عفة في نفسها، فإن في ضرام ذلك البلاء الهائج في نفوسهم ما قد يتغلب على كل استقامة، ويقضي على كل عفة قد تتصف بها المرأة المتبرجة التي تعرض فنون التبرج والفتنة أمامهم" (1) اهـ. ***   (1) "إلى كل فتاة تؤمن بالله" (ص 82-83) بتصرف، ومن الجدير بالذكر أن البوطي أشعري خَلَفي، وله مواقف من السلفية تناولها العلماء بالرد والإبطال، نسأل الله عز وجل أن يلهمه رشده، وأن يوفقه إلى اتباع منهج أهل السنة والجماعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 456 الفصل الثاني المذاهب الفقهية في حكم كشف الوجه والكفين من المناسب قبل أن نشرع في سرد نُقُول علماء المذاهب الأربعة المتبوعة- رحمهم الله - أن ننبه إلى أن واجب المسلم أن يأخذ بالدليل مع وافر الحرمة والتقدير لأئمة الفقه والحديث، في القديم والحديث، ولا لوم في الانتساب المذهبي المجرد من العصبية، هذا هو المذهب الحق، والقول الصدق، وله مخالفة إمامه إلى إمام آخر، حجته في تلك المسألة أقوى، بل عليه اتباع الدليل فيما تبرهن له، لا كمن تمذهب لإمام، فإذا لاح له ما يوافق هواه عمل به من أي مذهب كان، محتجًّا بأن الخلاف في الفروع يتسامح فيه على الإطلاق، ومتجاهلًا أنه: ليس كل خلاف جاء معتبرا ... إلا خلاف له حظ من النظر ونظرية "جواز التعبد بالخلاف" التي يتبناها في زماننا عوام فسدت فطرتهم بفعل التربية المعوجة ماِ هي إلا صدى لقول سلفهم: "من قلد عالمًا لقي الله سالما"، مع فارق وهو أن الأولين كانوا يلزمون مذهبًا واحدَا لا يحيدون عنه، أما هؤلاء فقد تركوا الحبل على الغارب، وأطلقوا لأهوائهم العِنان حتى تظفر بمرادها في زلة عالم، أو رخصة متكلفة، أو قول شاذ ملفق دون أي اعتبار لمخالفة العالم غير المعصوم لقول المعصوم صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)) . لقد وصف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم دواءَ داءِ الفرقة والاختلاف في قوله: "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافَا كثيرَا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 457 الراشدين المهديين". . . الحديث، فالسنة تجمع المتفرقين، وتُوحّدُ المختلفين. ولقد جعل الله عز وجل الإجماع حجة معصومة من الضلال، فلا يصح أن نجعل ما يضاده وهو الاختلاف حجة أيضًا، بل علينا أن نردد مع ابن مسعود رضي الله عنه قوله "الخلاف شر". وما أحسن قول حافظ المغرب الإمام أبي عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى: "الاختلاف ليس بحجةِ عند أحدٍ علمتُه من فقهاء الأمة إلا مَنْ لا بصر له، ولا معرفة عنده، ولا حجة في قوله" (1) اهـ. وشتان بين أن يقع اختلاف بين العلماء المخلصين في طلب الحق، المجتهدين في تحري الأدلة، الدائرين في حالتي الصواب والخطأ بين مضاعفة الأجر مع الشكر، وبين الأجر الواحد مع العذر، وبين من يتتبع الزلات، ويتحكم بالتشهي، ويرجح بالهوى، فيئول حاله إلى البطالة، ورقة الدين، ونقص العبودية. ومع أن دائرة الخلاف في القضية التي نحن بصددها قد ضاقت جدًّا في زماننا كما سيتبين لك عما قليل إن شاء الله تعالى، إلا أنه لزم التحذير من "بدعة التعبد بالخلاف مطلقا" لشيوع استدلال "أنصار البدعة" بها في قضايا أشد خطورة مما نحن بصدده، والله المستعان. * أولا: المذهب الحنفي: الأصل في المذهب الحنفي أنه يجوز للمرأة كشف وجهها وكفيها (2) عند   (1) "جامع بيان العلم وفضله" (2/109) . (2) بل جاء في متون المذهب (وبدن المرأة الحرة عورة إلا وجهها وكفيها وقدميها) انظر: "اللباب في شرح الكتاب" (1/62) "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق" للزيلعي (1/96) ، واعلم أن القدمين عورة داخل الصلاة وخارجها = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 458 أمن الفتنة (1) ، لكن المتأخرين منعوا ذلك لا لأنهما عورة، لكن لانتشار الفساد، وغلبة الظن بحصول الفتنة، فضلا عن تحققها، وهاك بعض نصوصهم: * قال الكاساني رحمه الله: "فلا يجوز النظر من الأجنبي إلى الأجنبية الحرة إلى سائر بدنها إلا الوجه والكفين، لقوله تعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) إلا أن االنظر إلى مواضع الزينة الظاهرة، وهي الوجه والكفان، رخص بقوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) ، والمراد من الزينة مواضعها، ومواضع الزينة الظاهرة: الوجه والكفان، ولأنها تحتاج" إلى البيع والشراء، والأخذ والعطاء، ولا يمكنها ذلك – عادةً - إلا بكشف الوجه والكفين، فيحل لها الكشف، وهذا قول أبي حنيفة رضي الله عنه وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يحل النظر إلى مواضع الزينة منها من غير شهوة، وأما عن شهوة فلا، لقوله صلى الله عليه وسلم: "العينان تزنيان"، وليس زنى   = في الأصح لحديث أم سلمة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: "أتصلي في درع وخمار وعليها إزار؟ "، فقال صلى الله عليه وسلم: "إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها" أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي، وانظر: "الدين الخالص" للشيخ محمود خطاب السبكي (2/104) . وما يؤديه أيضَا قول أم سلمة رضي "الله عنها: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال صلى الله عليه وسلم: "يرخين شبرا"، فقالت: إذن تنكشف أقدامهن، قال: "فيرخينه ذراعَا لا يزدن عليه "أخرجه الترمذي، وقال: "حسن صحيح"، قال البيهقي: (وفي هذا دليل على وجوب ستر قدميها) ، واستنبط بعض العلماء من قوله تعالى (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) وجوب ستر القدمين، قال الإمام ابن حزم رحمه الله: (هذا نص على أن الرجلين والساقين مما يخفى ولا يحل إبداؤه) اهـ من المحلى" (3/216) . انظر "الفتاوى الهندية في مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان" (1/58) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 459 العين إلا النظر عن شهوة،. . والأفضل للشاب غض البصر عن وجه الأجنبية، وكذا الشابة؛ لما فيه من خوف حدوث الشهوة، والوقوع في الفتنة، ويؤيده المروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) أنه الرداء والثياب، فكان غض البصر، وترك النظر أزكى وأطهر" (1) اهـ. * وقال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله تعالى في كلام له حول النظر إلى الأجنبيات: ". . فدل أنه لا يباح النظر إلى شيء من بدنها، ولأن حرمة النظر لخوف الفتنة، وعامة محاسنها في وجهها، فخوف الفتنة في النظر إلى وجهها أكثر منه إلى سائر الأعضاء". إلى أن قال رحمه الله: "ولكنا نأخذ بقول علي وابن عباس (2) رضي الله عنهم فقد جاءت الأخبار في الرخصه بالنظر إلى وجهها وكفها (3) . . " إلى أن قال: "وهذا كله إذا لم يكن النظر عن شهوة، فإن كان يعلم أنه إن نظر اشتهى لم يحل له النظر إلى شيء منها" (3) اهـ.   (1) "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" (5/ 123) ، وانظر "تبيين الحقائق" للزيلعي (6/17) . (2) يشير هنا إلى ما روى عنهما رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) بأنها الكحل والخاتم، وقد تقدم بيان الراجح في تفسيرها (ص 263) ، وقد بين الإمام أكمل الدين محمد البابرتي الحنفي في "شرح العناية على الهداية" أن دلالة قولهما على الوجه والكفين غير واضح قال: (إذ الظاهر أن موضع الكحل هو العين، لا الوجه كله، وكذا موضع الخاتم هو الإصبع، لا الكف كله، والمدّعى جواز النظر إلى وجه الأجنبية كله، وإلى كفيها بالكلية) اهـ (10/ 24) . (3) "المبسوط" (10/ 152 - 153) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 460 * وقال الإمام أبو بكر الجصاص في تفسير قوله تعالى (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) : "في هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها من الأجنبي، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج، لئلا يطمع أهل الريب فيهن" (1) اهـ. * وجاء في "الدر المختار": "يعزر المولى عبده، والزوج زوجته على تركها الزينة، أو كلمه ليسمعها أجنبي، أو كشفت وجهها لغير محرم" (2) اهـ. وجاء فيه كذلك قول الطحطاوي: "وتمنع المرأة الشابة من كشف الوجه بين رجال، لا لأنه عورة، بل لخوف الفتنة كمسه وإن أمن الشهوة لأنه أغلظ" (3) . * وقال ابن عابدين في شرحه: "المعنى: تمنع من الكشف لخوف أن يرى الرجال وجهها فتقع الفتنة، لأنه مع الكشف قد يقع النظر إليها بشهوة" (3) اهـ. * ونقل ابن عابدين عن صاحب "المحيط" قوله: ". . . ودلت المسألة على أن المرأة منهية عن إظهار وجهها للأجانب بلا ضرورة، لأنها منهية عن تغطيته لحق النسك لولا ذلك، وإلا لم يكن لهذا الإرخاء فائدة" (4) اهـ.   (1) "أحكام القرآن" (3/ 458) . (2) "هامش رد المحتار" (3/ 261) . (3) "رد المحتار على الدر المختار" (1/ 272) . (4) السابق (2/ 189) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 461 * وقال الإمام محمد أنور الكشميري ثم الديوبندي رحمه الله: "ومنها - أي من آيات الحجاب -: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) قيل: الزينة هي الوجه والكفان، فيجوز الكشف عند الأمن عن الفتنة على المذهب، وأفتى المتأخرون بسترها لسوء حال الناس. . إلى أن قال: "ومنها: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) إلخ، والخطاب فيها وإن كان خاصًا إلا أن الحكم عام" (1) اهـ. * وقال العلامة ابن نجيم - المتوفى سنة سبعين وتسعمائة - رحمه الله: وفي فتاوى قاضيخان (2) : "ودلت المسألة على أنها لا تكشف وجهها للأجانب من غير ضرورة"، وهو يدل على أن هذا الإرخاء عند الإمكان، ووجودِ الأجانب واجب عليها" (3) اهـ. وقال أيضًا: "قال مشايخنا: تمنع المرأة الشابة من كشف وجهها بين الرجال في زماننا للفتنة" (4) اهـ. * وفي الهدية العلائية": "وينظر من الأجنبية ولو كافرة إلى وجهها وكفيها فقط للضرورة، قيل: والقدم والذراع والمرفق إذا آجرت نفسها للخبز ونحوه من الطبخ وغسل الثياب، لأنه يبدو منها عادة، وتمنع الشابة من كشف وجهها خوف   (1) "فيض الباري على صحيح البخاري" (1/ 254) . (2) وهو الشيخ العلامة محمود الأوزجندي رحمه الله. (3) "البحر الرائق شرح كنز الدقائق" (2/381) . (4) "السابق" (1/284) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 462 الفتنة" (1) اهـ. * وفي "الهدية العلائية" أيضًا: "والنظر إلى ملاءة الأجنبية بشهوة حرام، أما بدونها فلا بأس، ولو إلى جسدها المستور بثياب لا تصف، ولا يظهر حجمها" (2) اهـ. * وفي "المنتقى": "تمنع الشابة من كشف" وجهها لئلا يؤدي إلى الفتنة، وفي زماننا المنع واجب، بل فرض لغلبة الفساد" (3) اهـ. * ونقل البيانوني في "الفتن" عن الجرداني رحمه الله قوله: "وعورة المرأة بالنسبة لنظر الأجنبي إليها جميع بدنها" يدون استثناء شيء منه أصلا، ولو كانت عجوزًا شوهاء، فيحرم على الرجل أن ينظر إلى شيء منها، ولو بغير شهوة. . ويجب أن تستتر عنه، وهذا هو المعتمد (4) اهـ. * ونقل الأستاذ درويش مصطفى حسن عن بعض علماء الأحناف قولهم: "فحل النظر مقيد بعدم الشهوة، وإلا فحرام، وهذا زمانهم، أما في زماننا فمنع من الشابة أي فمنع نظر الوجه من الشابة، ولو من غير شهوة" (5) . * وقال الشيخ أحمد عز الدين البيانوني رحمه الله:   (1) نقلا عن: "فقه النظر في الإسلام" للشيخ محمد أديب كلكل (ص 36) . (2) نقلأ عن: "السابق" (ص 63) . (3) نقلًا عن "اللباس والزينة في الشريعة الإسلامية" (ص 141) . (4) "الفتن" ص 196 - 197. (5) "فصل الخطاب" (ص 55) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 463 "قول الأئمة "عند خوف الفتنة" (1) إنما يُعلم في ناظر خاص، وأما بالنظر إلى جماهير الناس الذين تبرز المرأة سافرة أمامهم؛ فلا يتصور عدم خوف الفتنة منهم جميعَا، فيتحتم المنع من السفور أمامهم على هذا التعليل، وبهذا يظهر مذهب اْبي حنيفة وأصحابه في المسألة" (2) اهـ. * ثانيَا: المذهب المالكي: * قال العلامة صالح عبد السميع الآبى الأزهري المالكي: "وعورة الحرة مع رجل أجني مسلم جميع جسدها عدا الوجه والكفين ظهرًا وبطنا، فالوجه والكفان ليسا عورة، فيجوز لها كشفهما للأجنبي، وله نظرهما إن لم تخش الفتنة، فإن خيفت الفتنة: فقال ابن مرزوق: مشهور المذهب وجوب سترهما، وقال عياض: لا يجب سترهما، ويجب غض البصر عن الرؤية، وأما الأجنبي الكافر فجميع جسدها حتى وجهها وكفيها عورة بالنسبة له" (3) اهـ. * ويقول الشيخ أحمد الدردير في "أقرب المسالك إلى مذهب مالك": "وعورة المرأة مع رجل أجنبي عنها جميع البدن غير الوجه والكفين، وأما هما فليس بعورة، وإن وجب عليها سترهما لخوف الفتنة" (4) .   (1) يعني قول السرخسي: (حرمة النظر لخوف الفتنة - يعني: لا لكونه عورة -، وخوف الفتنة في النظر إلى وجهها - وعامة محاسنها في وجهها - أكثر منه إلى سائر الأعضاء) اهـ من "المبسوط " (10/ 152) . (2) "الفتن" ص (197) . (3) "جواهر الإكليل في شرح مختصر العلامة الشيخ خليل في مذهب الإمام مالك إمام دار التنزيل" (1/41) ، وانظر: "شرح منح الجليل على مختصر العلامة خليل" للشيخ محمد عليش (1/33) ، و"إكمال إكمال المعلم" للآبي (5/430) . (4) نقلًا عن "مجلة الجامعة السلفية" مقالة الشيخ الأنصاري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 464 وحكى الشيخ أحمد الصاوي قولين في وجوب ستر الوجه في تلك الصورة: الأول: الوجوب، وهو مشهور المذهب. والثاني: وجوب غض البصر على الرجل، وهو قول عياض (1) . * وقال القاضي عياض رحمه الله: "فرض الحجاب مما اختصصن به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها، ولا إظهار شخوصهن، وأن يكن مستترات إلا ما دعت إليه ضرورة من براز. . . " إلخ (2) اهـ. * قال ابن بطال: "وفيه - أي حديث المرأة الحثعمية - دليل على أن ستر المرأة وجهها ليس فرضَا لإجماعهم على أن للمرأة أن تبدي وجهها في الصلاة، ولو رآه الغرباء، وأن قوله (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) على الوجوب في غير الوجه" (3) اهـ. * قال ابن رسلان رحمه الله: "وهذا - أي جواز نظر الأجنبية - عند أمن الفتنة مما تدعو الشهوة إليه من جماع أو ما دونه، أما عند خوف الفتنة فظاهر إطلاق الآية والحديث عدم اشتراط الحاجة، ويدل على تقييده بالحاجة اتفاق المسلمين على منع   (1) نقلا عن "مجلة الجامعة السلفية" مقالة الشيخ الأنصاري. (2) نقله عنه في "الفتح، وتعقبه الحافظ بقوله: (وليس فيما ذكره دليل على ما ادَّعاه) اهـ انظر: "فتح الباري"، (8/391) . (3) نقله عنه الحافظ في "الفتح" (11/12) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 465 النساء أن يخرجن سافرات الوجوه، لاسيما عند كثرة الفساق" (1) اهـ. * وقال الشيخ محمد بن أحمد بن جزي الغرناطي المالكي: "وإن كانت أجنبية جاز أن يرى الرجل من المتجالة الوجه والكفين، ولا يجوز أن يرى ذلك من الشابة إلا لعذر من شهادة، أو معالجة، أو خِطبة" (2) اهـ. * قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: "والمرأة كلها عورة بدنها وصوتها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة، أو لحاجة كالشهادة، أو داء يكون ببدنها" (3) اهـ. وقال أيضا: "قوله في حديث ابن عمر: "ولا تنتقب المرأة" وذلك لأن سترها وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج، فإنها ترخي شيئَا من خمارها على وجهها غير لاصق به، وتُعْرِضُ عن الرجال، ويُعْرِضون عنها" (4) اهـ. * وذكر القرطبي في تفسيره: "أن ابن خويز منداد من علماء المالكية قال: إن المرأة إذا كانت جميلة، وخيف من وجهها وكفيها الفتنة فعليها ستر ذلك، وإن كاتَ عجوزا أو مقبحة جاز أن تكشف وجهها وكفيها" (5) اهـ.   (1) نقله عنه الشوكاني في "نيل الأوطار" (6/ 130) . (2) "قوانين الأحكام الشرعية، ومسائل الفروع الفقهية" ص 484 الباب التاسع عشر، وانظر: "أسهل المدارك شرح إرشاد السالك في فقه إمام الأئمة مالك" للشيخ شهاب الدين عبد الرحمن بن عسكر البغدادي (1/ 184) . (3) "أحكام القرآن" (3/ 1578) . (4) "عارضة الأحوذي" (4/56) المسألة الرابعة عشرة. (5) "الجامع لأحكام القرآن" (12/228) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 466 * قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي المعروف بالحطاب المالكي: "واعلم أنه إن خشي من المرأة الفتنة يجب عليها ستر الوجه والكفين، قاله القاضي عبد الوهاب ونقله عنه الشيخ أحمد زروق في "شرح الرسالة" وهو ظاهر التوضيح هذا ما يجب عليها" (1) اهـ. * وقال الشيخ محمد عرفة الدسوقي رحمه الله: "قوله: "كستر وجه الحرة ويديها" فإنه يجب إذا خيفت الفتنة بكشفها" (2) اهـ. وقال أيضَا: "متى أرادت - يعني المحرمة - الستر عن أعين الرجال جاز لها ذلك مطلقًا، عَلِمَت أو ظنت الفتنة بها أم لا، نعم إذا علمت أو ظنت الفتنة بها كان سترها واجبًا" (3) اهـ. * ثالثًا: المذهب الشافعي: في كشف وجه المرأة وكفيها والنظر إلى ذلك - عند الشافعية - ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يخاف الفتنة، أو ما يدعو إلى الاختلاء بها لجماع أو مقدماته، فالنظر والكشف في هذه الحالة حرام بالإجماع كما قاله الإمام. الحالة الثانية: أن ينظر إليهما بشهوة، وهي قصد التلذذ بالنظر المجرد،   (1) "مواهب الجليل لشرح مختصر خليل" (1/499) . (2) "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" (1/214) ، والمقصود: وإن لم يكن الوجه والكفان عورة في أصل المذهب كما يقتضيه السياق. (3) "السابق" (4/54-55) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 467 وأمن الفتنة، فيحرم مطلقا، وعلى المرأة ستر وجهها وكفيها من رؤوس الأصابع إلى المعصم ظهرَا وبطنَا. الحالة الثالثة: أن تنتفي الفتنة، وتؤمن الشهوة؛ ففي هذه الحالة قولان: الأول: لا يجوز، ولو من غير مشتهاة، أو خوف فتنة على الصحيح، وهو قول النووي رحمه الله في "المنهاج"، والإصطخري، وأبي علي الطبري، واختاره الشيخ أبو محمد، وبه قطع الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والروياني، وغيرهم، ووجهه الإمام باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات الوجوه، وبأن النظر محرك للشهوة، ومظنة للفتنة، وقد قال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) ، واللائق بمحاسن الشريعة سد باب الذرائع إلى المحرم، والإعراض عن تفاصيل الأحوال، أي بشهوة أو بغير شهوة، كما قالوه في الخلوة مع الأجنبية (1) . * قال العلامة تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى: "إن الأقرب إلى صنع الأصحاب أن وجهها وكفيها عورة في النظر، لا في الصلاة" اهـ. الثاني: لا يحرم عند أمن الفتنة وعدم الشهوة، لقوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) وهو مفسَّر بالوجه والكفين، ونسبه الإمام للجمهور، والشيخان النووي، والرافعي للأكثرين. قال في "المهمات": "إنه الصواب لكون الأكثرين عليه، وهو قول الرافعى". * قال البلقيني: "الترجيح بقوة المدرك والدليل فإن نظرت لقوله تعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ   (1) قال العلامة شمس الدين الرملي الشهير بالشافعي الصغير في "نهاية المجتاج إلى شرح المنهاج" معلقا: (وبه اندفع القول بأنه غير عورة) اهـ. (6/187) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 468 يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) ، ولقاعدة سد الذرائع إلى المحرم رجحت الحرمة وإذا نظرت لقوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) رجحت جواز النظر، والفتوى والمذهب على ما جاء في المنهاج من الحرمة مطلقًا، وهو القول الأول، وهو الراجح" (1) اهـ. * وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى: "فإذا خرجت - أي المرأة - فينبغي أن تغض بصرها عن الرجال، ولسنا نقول إن وجه الرجل في حقها عورة، كوجه المرأة في حقه، بل هو كوجه الصبي الأمرد في حق الرجل، فيحرم النظر عند خوف الفتنة فقط، فإن لم تكن فتنة فلا، إذ لم يزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات، ولو كان وجوه الرجال عورة في حق النساء، لأمروا بالتنقب، أو منعن من الخروج إلا لضرورة" (2) اهـ. ورجح الغزالي أيضًا في "الإحياء" أن كشف وجه المرأة للأجنبي حرام، وأن نهي الأجنبية عنه واجب. * قال الزبيدي رحمه الله: "قوله لها في تلك الحالة: لا تكشفي وجهك أي استري وجهك واجب أو مباح أو حرام لا يخلو من أحد الثلاثة فإن قلتم: إنه واجب، فهو الغرض المطلوب لأن الكشف معصية، والنهي عن المعصية حق" (3) اهـ.   (1) "فقه النظر في الإسلام ص 34 -36 وانظر: "روضة الطالبين" (7/21) ، و"مغني المحتاج إلى معرفة معاني المنهاج" (3/ 128) ، "نهاية المحتاج" (2/8) ، (6/187) ، "السراج الوهاج" (ص 52) ، "إعانة الطالبين" (1/113) ، "فتح الوهاب" (1/ 48) . (2) "إحياء علوم الدين" المجلد الأول (ص 728 - 729) . (3) "إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين" (7/ 17) للعلامة السيد محمد بن محمد الحسيني الزبيدي الشهير بمرتضى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 469 * قال العلامة محمد الشربيني الخطيب الشافعي رحمه الله: (وما نقله الإمام من الاتفاق على منع النساء: أي منع الولاة لهن معارَض بما حكاه القاضي عياض عن العلماء أنه لا يجب على المرأة ستر وجهها في طريقها، وإنما ذلك سنة، وعلى الرجال غض البصر عنهن للآية، وحكاه المصنف عنه في شرح مسلم، وأقره عليه. وقال بعض المتأخرين: "إنه لا تعارض في ذلك، بل منعهن من ذلك، لا لأن الستر واجب عليهن في ذاته، بل لأن فيه مصلحة عامة، وفي تركه إخلال بالمروءة". وظاهر كلام الشيخين أن الستر واجب لذاته، فلا يتأتى هذا الجمع، وكلام القاضي ضعيف، وحيث قيل بالجواز كره، وقيل: خلاف الأولى، وحيث قيل بالتحريم - وهو الراجح - هل يحرم النظر إلى المنتقبة التي لا يتبين منها غير عينيها ومحاجرها أم لا؟ * قال الأذرعي: "لم أر فيه نصّا، والظاهر أنه لا فرق، لاسيما إذا كانت جميلة، فكم من المحاجر من خناجر" اهـ، وهو ظاهر) (1) اهـ. * وقال الخطيب الشربيني أيضا: "ويكره أن يصلي في ثوب فيه صورة، وأن يصلي الرجل ملثما، والمرأة منتقبة، إلا أن تكون في مكان وهناك أجانب لا يحترزون عن النظر إليها، فلا يجوز لها رفع النقاب" (2) . * وفي حواشي الشرواني والعبادي: "من تحققت من نظر أجنبي لها يلزمها ستر وجهها عنه، وإلا كانت   (1) "مغني المحتاج" (3/129) . (2) "الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع" ص 185. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 470 معينه له على حرام، فتأثم" (1) اهـ، * رابعا: المذهب الحنبلي: نقل العلامة ابن مفلح عن شيخ الإسلام قوله: "وكشف النساء وجوههن بحيث يراهن الأجانب غير جائز" (2) اهـ. وتقدم مثله عن تلميذه الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله (3) . * وقال العلامة ابن مفلح رحمه الله: "قال أحمد: ولا تبدي زينتها إلا لمن في الآية، ونقل أبو طالب: "ظفرها عورة، فإذا خرجت فلا تبين شيئًا، ولا خفها، فإنه يصف القدم، وأحب إليَّ أن تجعل لكمها زرُّا عند يدها"، اختار القاضي قول من قال: المراد بـ "ما ظهر" من الزينة: الثياب، لقول ابن مسعود وغيره، لا قول من فسرها ببعض الحلي، أو ببعضها، فإنها الخفية، قال: وقد نص عليه أحمد فقال: الزينة الظاهرة الثياب، وكل شيء منها عورة حتى الظفر" (4) اهـ. وقال العلامة ابن مفلح أيضَا: "نقل أبو طالب: ظفر المرأة عورة، فإذا خرجت فلا يبين منها شيء، ولا خفها، فإن الخف يصف القدم، وَأحَبُّ إليَّ أن تجعل لكمها زرَّا عند يدها لا يبين منها شيء" (5) اهـ. * قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: "لا يختلف المذهب في أنه يجوز للمرأة كشف وجهها في الصلاة، وأنه   (1) "حواشي الشرواني والعبادي" (6/ 193) " (2) الآداب الشرعية والمنح المرعية" (1/ 316) . (3) انظر (ص 193) . (4) "الفروع" (1/601) . (5) "السابق" (5/154) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 471 ليس لها كشف ما عدا وجهها وكفيها، وفي الكفين روايتان". إلى أن قال: "وقال بعض أصحابنا: المرأة كلها عورة، لأنه قد روى في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة" رواه الترمذي، وقال. "حديث حسن صحيح"، لكن رخص لها في كشف وجهها وكفيها لما في تغطيته من المشقة، وأبيح النظر إليه لأجل الخطبة لأنه مجمع المحاسن، وهذا قول أبي بكر الحارث بن هشام (1) ، قال: المرأة كلها عورة حتى ظفرها". وقال: "فأما الكفان فقد ذكرنا فيهما روايتين: إحداهما: لا يجب سترهما لما ذكرنا (2) ، والثانية: يجب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة"، وهذا عام إلا ما خصه الدليل، وقولُ ابن عباس: "الوجه والكفان" قد روى أبو حفص عن عبد الله بن مسعود خلافه قال: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال: الثياب، ولا يجب كشف الكفين في الإحرام، إنما يحرم أن تلبس فيهما شيئَا مصنوعا على قدرهما، كما يحرم على الرجل لبس السراويل، والذي يستر به عورته" (3) اهـ.   (1) وظاهره وجوب تغطية كل بدنها حتى في الصلاة بما في ذلك الوجه والكفان، ولهذا علق حافظ المغرب الإمام أبو عمر بن عبد البر - رحمه الله- عليه قائلاً: (قول أبي بكر هذا خارج عن أقاويل أهل العلم، لإجماع العلماء على أن للمرأة أن تصلي المكتوبة ويداها ووجهها مكشوف ذلك كله منها، وتباشر الأرض به، وأجمعوا على أنها لا تصلي منتقبة، ولا عليها أن تلبس قفازين في الصلاة، وفي هذا أوضح الدلائل على أن ذلك منها غير عورة، وجائز أن ينظر إلى ذلك منها كل من نظر إليها بغير ريبة ولا مكروه. وأما النظر للشهوة، فحرام تأملها من فوق ثيابها لشهوة، فكيف بالنظر إلى وجهها مسفرة، وقد روى نحو قول أبي بكر بن عبد الرحمن عن أحمد بن حنبل) اهـ من "التمهيد" (6/ 365) . يشير إلى استدلال من لم يوجب سترهما بقول ابن عباس رضي الله عنهما في (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) الوجه والكفان، وبنهي المحرمة عن لبس القفازين والنقاب، ولأن الحاجة تدعو إلى كشف الوجه للبيع والشراء والكفين للأخذ والاعطاء. (3) "المغني" (1/601- 602) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 472 * وقال العلامة علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي رحمه الله: (قوله: "والحرة كلها عورة، حتى ظفرها وشعرها إلا الوجه" والصحيح من المذهب: أن الوجه ليس بعورة، وعليه الأصحاب، وحكاه القاضي إجماعا، وعنه: الوجه عورة أيضًا، قال الزركشي: "أطلق الإمام أحمد القول بأن جميعها عورة، وهو محمول على ما عدا الوجه، أو على غير الصلاة" اهـ، وقال بعضهم: الوجه عورة، وإنما كشف في الصلاة للحاجة. قال الشيخ تقي الدين: "والتحقيق أنه ليس بعورة في الصلاة، وهو عورة في باب النظر، إذ لم يجز النظر إليه") (1) اهـ. * وقال المحقق أبو النجا شرف الدين موسى الحجاوي المقدسي رحمه الله: "والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها إلا وجهها، قال جمع: وكفيها، وهما والوجه عورة خارجها باعتبار النظر كبقية بدنها" (2) اهـ. * وقال العلامة منصور بن إدريس البهوتي رحمه الله: "ولا خلاف في المذهب أنه يجوز للمرأة الحرة كشف وجهها في الصلاة، ذكره في المغني وغيره، "قال جمع: وكفيها" واختاره المجد، وجزم به في العمدة، والوجيز، لقوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال ابن عباس وعائشة: "وجهها وكفيها" رواه البيهقي، وفيه ضعف،   (1) "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل" (1/452) . (2) "الإقناع" (1/88) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 473 وخالفهما ابن مسعود، وهما - أي الكفان والوجه - من الحرة البالغة عورة خارجها - أي الصلاة - باعتبار النظر كبقية بدنها، لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: " المرأة عورة" (1) اهـ. * وقال الشيخ مصطفى السيوطي الرحيباني رحمه الله: "والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها. . إلا وجهها، لا خلاف في المذهب أنه يجوز للمرأة الحرة كشف وجهها في الصلاة، ذكره في المغني" وغيره" (2) اهـ. وقال الشيخ عبد القادر بن عمر الشيباني رحمه الله: "والحرة البالغة كلها عورة في الصلاة حتى ظفرها وشعرها "إلا وجهها" والوجه والكفان من الحرة البالغة عورة خارج الصلاة باعتبار النظر كبقية بدنها" (3) اهـ. تنبيهات الأول: نستطيع أن نخلص مما تقدم بأن علماء المذاهب الأربعة يكادون يتفقون على وجوب تغطية المرأة جميع بدنها عن الأجانب، سواء منهم من يرى أن الوجه والكفين عورة، ومن يرى أنهما غير عورة لكنه يوجب تغطيتهما في هذا الزمان لفساد أكثر الناس، ورقة دينهم، وعدم تورعهم عن النظر المحرم إلى وجه المرأة الذي هو مجمع المحاسن، ومعيار الجمال، ومصباح البدن (4) .   (1) "كشاف القناع على متن الإقناع" (1/243) . (2) "مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للشيخ المرعي الكرمى" (1/330) (3) "نيل المآرب بشرح دليل الطالب" (1/39) . (4) انظر: "إلى كل فتاة تؤمن بالله" (ص 44 - 46) ، "نظرات في كتاب الحلال والحرام في الإسلام للشيخ عبد الحميد طهماز (ص 34-35) ، "فقه النظر في = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 474 الثاني أجمع العلماء على مشروعية احتجاب النساء عن الرجال الأجالب فقد نقل الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" عن ابن المنذر أنه قال "أجمعوا على أن المرأة المحرمة تلبس المخيط كله، والخفاف، وأن لها أن تغطي رأسها، وتستر شعرها إلا وجهها، فتسدل عليه الثوب سدلًا خفيفًا تستتر به عن نظر الأجانب" اهـ. وهذا يقتضي أن غير المحرمة مثل المحرمة فيما ذكر، بل أولى" (1) اهـ. وفيه دليل واضح، وكشف فاضح لجهل من ادعى أن النقاب بدعة لا أصل لها في الإسلام (2) الثالث: أنه رغم الخلاف القديم بين الفقهاء في هذه المسألة إلا أنه بقي خلافًا نظريًّا إلى حَد بعيد، حيث ظل احتجاب النساء هو الأصل في الهيئة الاجتماعية خلال مراحل التاريخ الإسلامي، وفيما يلي نُقُول عن بعض الأئمة تؤكد أن التزام الحجاب كان أحد معالم "سبيل المؤمنين" في شتى العصور: * قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "كانت سنة المؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أن الحرة تحتجب، والأمة تبرز" (3) اهـ. * ونقل الإمام ابن رسلان رحمه الله: اتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات (4) اهـ.   = الإسلام" (ص 37-38) (1) "الرد القوي" للتويجري (ص248- 249) (2) انظر: "الرد العلمي على كتاب تذكير الأصحاب بتحريم النقاب" للمؤلف (3) انظر ص (206) (4) انظر ص (450) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 475 * وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله: "لم يزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات" (1) اهـ. * وقال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: "إن العمل استمر على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات لئلا يراهن الرجال" (2) اهـ. الرابع: ما هي الحالات التي يرخص فيها بالسفور أمام الأجنبي؟ نظرًا لأن الشرع الحنيف إنما حرم السفور سدًّا لذريعة الفتنة، ونظرَا للقاعدة الفقهية التي تنص على أن: ما مُنعَ سدًّا للذريعة ابِيحَ للمصلحة الراجحة، فقد رفع الله الحرج عن المرأة حيث احتاجت إلى كشف وجهها، وكذا عن الرجل إذا طرأت حاجة إلى النظر إليه، فمن هذه الحالات: أولا: عند الخِطبة، وقد تقدمت الأدلة في ذلك (3) . ثانيا: عند التداوي إذا فقدت طبيبة تداويها، بشرط عدم الخلوة، وقصر النظر على موضع الحاجة، وتحري الطبيب العدل الثقة (4) . ثالثا: عند تعليمها العلم الواجب إذا افتقدت امرأة تعلمها، وكذا محرما صالحًا، وأن يتعذر التعليم من وراء حجاب، وإلا لم يحل لها الكشف، ولا له النظر، وأن تؤمن الفتنة من الجانبين. رابعا: عند التقاضي، والشهادة، وزاد بعضهم: المعاملة التي قد تستوجب الشهادة.   (1) "إحياء علوم الدين" (4/729) . (2) "فتح الباري" (9/ 248) . (3) راجع (ص (352) وما بعدها. (4) انظر: "شرح السنة" (9/23) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 476 * قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: للمفتي والقاضي والشاهد أن ينظر إلى وجه المرأة إذا كلمتهم في الفتوى والقضاء والشهادة، فأما القاضي والشاهد فلابد من كشف وجهها له لِيَعْلَمَ على من يَقضي، وعلى من شَهد، إذ العلم بالمقضي عليه والمشهود عليه شرط، فأما المفتي فلا ينظر إليها إلا إذا كانت سافرة بسبب أو كان ذلك مما يتعلق بالتقوى، ومن العلماء من قال: ينظر إليها، فإنها مأمورة بسؤاله، وهو مأمور بإجابتها، وكلاهما عورة أباحته الفتوى، فكذلك رؤيتها لأن ذلك يتم بالرؤية" (1) اهـ. خامسا: عند الإكراه، كما في حالة العيش في ظل حكومات "إرهابية" جائرة، تسلط جلاوزتها على المنتقبات لإيذائهن، أو اعتقالهن، أو فصلهن من وظائفهن إذا كانت المصدر الوحيد لرزقهن، فإن الأمر إذا ضاق اتسع، والصبر أولى. وفي جميع الحالات الاستثنائية الآنفة الذكر، يجب على المرأة أن تجتنب إظهار زينتها كالحلي والأصباغ ونحوها. التنبيه الخامس: اعلم أن الشريعة المحكمة ترمى من وراء تشريع الحجاب إلى منع الفتنة ابتداء من مجرد الاستحسان والتلذذ بالنظر الذي هو زنا العين، وانتهاء بالفاحشة الكبرى، وآية ذلك: - أن للمرأة أن تكشف وجهها في الصلاة والحج إذا أمنت نظر الرجال إليها. - وأن لها أن تكشفه في الظلام إذا كانت بحيث لا تُرى، وعليه حُملَ حديث (كن ينصرفن من صلاة الفجر متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس) . إن احتمل كونهن سافرات. - وأن لها أن تكشفه أمام رجل أعمى لا يراها.   (1) "عارضة الأحوذي" (4/ 56) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 477 - وأن لها أن تكشفه إذا كانت عجوزًا قاعدًا لا يُشتَهي مثلها. - وأن لها أن تكشفه أمام صبي غير ذي شهوة، وكذا أمام من ذهبت شهوته من الرجال، أو من لا شهوة له منهم أصلا. *** الجزء: 3 ¦ الصفحة: 478 الخاتمة تذكرة ... ومعذرة * أما التذكرة: فهي للمؤمنين والمؤمنات، والتائبين والتائبات: قال الله تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)) [الذاريات: 55] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الدين النصيحة" الحديث (1) ، وقال صلى الله عليه وسلم في صفة المؤمن: "إن المؤمن خُلِق مُفَتَّنا، تَوابَا نسِيا، إذا ذُكرَ ذَكَرَ" (2) . فيا أيتها الأخت المسلمة: تدبري قول الله تعالى: " (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)) [الحديد: 16] ، فهلا كان جوابكِ: "بلى آن يارب"؟ وهلا تدبرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَحِّ الأذى عن طريق المسلمين" (3) ؟ فإذا كانت إماطة الأذى عن الطريق من شُعَبِ الإيمان التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأيهما أشد أذى: شوكة أو حجر في الطريق، أم فتنة   (1) رواه من حديث تميم الداري رضي الله عنه مسلم رقم (55) في الإيمان: باب بيان أن الدين النصيحة، وأبو داود رقم (4944) فى الأدب: باب في النصيحة، والنسائي (7/ 156) فى البيعة: باب النصيحة للإمام. (2) رواه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما الطبراني في "الكبير" و "الأوسط"، وقال الهيثمي: (أحد إسناد الكبير رجاله ثقات) اهـ، من "فيض القدير" (5/ 491) ، وانظر: "صحيح الجامع الصغير" (5/ 172) . (3) رواه من حديث أبي برزة رضي الله عنه أبو يعلى في "مسنده"، وابن حبان في "صحيحه"، كما في الجامع الصغير"، وزاد الألباني عزوه إلى ابن أبي شيبة، والضياء. انظر: "صحيح الجامع" (6/ 25) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 479 تفسد القلوب، وتعصف بالعقول، وتشيع الفاحشة؟ إنه ما من شاب مسلم يبتلي منكِ اليوم بفتنة تصرفه عن ذكر الله، وتصده عن صراطه المستقيم - كان بُوسعكِ أن تجعليه في مأمنٍ منها - إلا أعقبك منها غدًا نكال من الله عظيم. يا غافلا يتمادَى ... غدًا عليكَ يُنادَى هذا الذي لم يُقَدِّمْ ... قبل الترحُّل زادا هذا الذي وعظوه ... وخَوَّفوه المعادا فلم يكن لمنادِيه ... طائِعًا منقادا (1) بادري إلى طاعة ربك عز وجل، ودعي عنكِ انتقادَ الناس ولومَهم، فإن حساب الله غدا أشد وأعظم: أيها اللائمُ دعني ... لستُ أصغي للملام انني أطلب مُلكًا ... نيلُه صعْبُ المرام في جِنانِ الخُلْدِ في الفِرْ ... دَوْسِ في دارِ السلام قولي لدعاة الرذيلة، وخونة الفضيلة: إليك عني، إليكَ عني ... فلستُ منكَ، ولستَ مني ترفعي عن طلب مرضاتهم ومداهنتهم، فإن التسامي إلى مرضاة الله أسعد لك وأسلم، عن عروة بن الزبير رضى الله عنهما مرفوعا: "من التمس رضا الله بسخط الناس، رضي الله عنه، وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس" (2) . وإن كنتِ حقا قد رضيتِ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا وبزوجاته وبناته ونساء المؤمنين أسوة وقدوة: فسارعي إلى التوبة، ولا تُسَوِّفي، بل قولي كما قال موسى عليه السلام: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طه: 84] .   (1) "غالية المواعظ " لأبي البركات نعمان الألوسي (2/65) . (2) انظر "تحقيق شرح الطحاوية" هامش (ص 235) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 480 وقولي كما قال المؤمنون من قبل: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة: 285] . وأما المعذرة فهي إلى ربنا عز وجل، من: - هؤلاء المعرضين الذين سيقولون بلسان حالهم: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ) [الشعراء: 136] . - وهؤلاء المغرضين المضلين الذين تمردوا على أهل العلم، وشذوا عن المألوف، وأمروا بالمنكر، ونَهَوْا عن المعروف. أعني أصحاب العقلية الورقية التافهة الذين يَتَوَلَّوْنَ اليوم البحث في قضايا المرأة والحجاب، ويقومون بصياغة الشعارات الاجتماعية التي تتمخض كل يوم عن بلية لا لَعًا (1) لها، وفتنة - وقى الله شرها - ممثلة في تلك الفتاوى المضجعة، المحلولة العقال، المبنية على التجري، لا التحري، المؤسسة على الظن، وهو أكذب الحديث، أو الهوى، وهو معبود باطل خبيث، يصدرها قوم لا خلاق لهم من الصحافيين، ومن أسموهم المفكرين، تعج منهم الحقوق إلى الله عجيجا، وتضج منهم الأحكام إلى من أنزلها ضجيجا يُنَفِّرون من النقاب لا لأن البحث العلمي أداهم إلى أنه مكروه أو محرم أو بدعة كما يرجفون ولكن لأنه يشمئز منه مقلدوهم من كفار الشرق والغرب. فاللهم باعد بين نسائنا وبناتنا وأخواتنا وبينهم كما باعدت بين المشرق والمغرب. ويا أيها الناظر فيه، الواقف على معانيه:   (1) لعا – كعصى - كلمة يراد منها الانتعاش من العثرة، يقال في الدعاء للعاثر: لعًا له، وفي الدعاء عليه: لا لعًا له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 481 إنْ تجدْ عيبا فَسُدَّ الخَلَلَا ... فجلَّ من لا عيب فيه وعلَا *** فما كان فيه من حق وصواب فمن الله هو المانُّ به، فإن التوفيق بيده، وما كان فيه من زلل فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء. ولله دَر الإمام ابن القيم - رحمه الله - حيث قال: فلك أيها القارئ صفوُهُ، ولمؤلفه كدرُهُ، وهو الذي تجشَم غراسه وَتَعَبَهُ، ولك ثَمَره، وها هو قد استهدف لسهام الراشقين، وأستعذر إلى الله من الزلل والخطأ، ثم إلى عباده المؤمنين (1) . *** وهذا آخر ما قصدت جمعه وترتيبه، وإني أبتهل إلى الله تعالى بأكف الضراعة وأتوسل إليه بحبه نَبِيَّهُ محمدَا صلى الله عليه وسلم أن يجعله خالصَا لوجهه الكريم، وسببا للفوز بالرضى والقبول والتكريم، وأن يجعله لنفع عباده الصالين موقوفَا، وعن أهل التحذلق والتنطع مصونًا مصروفا، وأن يرحمني ووالديَّ وسائر المسلمين، إنه أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين: قرُب الرحِيلُ الى دِيارِ الآخره ... فَاجعَلْ إلهي خيرَ عُمرِي آخِرَهُ فلئن رَحمتَ فأنت أكرم رَاحِمٍ ... وَبِحارُ جُودِك يا إلهي زاخِرَه آنِسْ مبيتي في القبورِ وَوِحْدَتي ... وارحم عظامي حين تبقى ناخِرَه فأنا المُسَيْكِينُ الذي أيَّامُهُ ... وَلَّتْ بِأوْزارٍ غَدَتْ مُتَواتِرَه وتَولهُ باللُّطفِ عِنْدَ مَآلِهِ ... يا مَالِكَ الدنيا وَرَبَّ الآخِرَه (2) وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى أله وصحبه أجمعين.   (1) "مفتاح دار السعادة" (ص 67) ط. الشيخ زكريا علي يوسف رحمه الله. (2) وهذا الشعر مما يعزى إلى الإمام الشافعي رحمه الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 482 الفهارس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 483