الكتاب: لمسات بيانية في نصوص من التنزيل المؤلف: فاضل بن صالح بن مهدي بن خليل البدري السامرائي الناشر: دار عمار للنشر والتوزيع، عمان - الأردن الطبعة: الثالثة، 1423 هـ - 2003 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- لمسات بيانية في نصوص من التنزيل - كتاب فاضل صالح السامرائي الكتاب: لمسات بيانية في نصوص من التنزيل المؤلف: فاضل بن صالح بن مهدي بن خليل البدري السامرائي الناشر: دار عمار للنشر والتوزيع، عمان - الأردن الطبعة: الثالثة، 1423 هـ - 2003 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] المقدمة يا رب لك الحمدُ كما ينبغي لجلالِ وجهك وعظيم سلطانك. وبعد: فهذه جملة من نصوص التنزيل العزيز سُئلتُ عن سِرِّ التعبير في بعضها واخترتُ بعضها الآخر من سور متعددة لأبيّن طرفاً مما فيها من أسرار تعبيرية ولمسات فنية لعلَّ فيها نفعاً لدارسي القرآن ولتكون خطوةً أخرى بعد كتاب (التعبير القرآني) في بيان شيء من أسرار هذا السِّفْر العظيم كتاب الله الخالد. قال لي بعضهم بعد أن اطّلع على كتاب (التعبير القرآني) ، لو أَسميتَهُ (الإعجاز القرآني) . فقلتُ له: هذا العنوان أكبرُ مني وأنا لا أستطيع أن أنهض ببيان الإعجاز القرآني ولا بشيءٍ منه، وإنما هو دراسة في بيان شيء من أسرار التعبير القرآني العظيم الذي لا تنتهي عجائبه. إن هذا الكتاب - وكذلك الكتاب الذي قبله أعني كتاب (التعبير القرآني) ليس في بيان الإعجاز القرآني، وليس هو خطوة واحدة في هذا الطريق، وإنما هو خطوة في طريق قد يُوصِلُ السالكَ إلى طريق الإعجاز أو شيء من الإعجاز. إن إعجاز القرآن أمرٌ متعدد النواحي متشعبُ الاتجاهات ومن المتعذر أن ينهض لبيان الإعجاز القرآني شخصٌ واحد ولا حتى جماعة في زمنٍ ما مهما كانت سَعَةُ علمهم واطلاعهم وتعدد اختصاصاتهم إنما هم يستطيعون بيانَ شيءٍ من أسرار القرآن في نواحٍ متعددة حتى زمانهم هم، ويبقى القرآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 مفتوحاً للنظر، لمن يأتي بعدنا في المستقبل ولِمَا يَجِدُّ من جديد. وسيجد فيه أجيالُ المستقبل من ملامح الإعجاز وإشاراته ما لم يخطر لنا على بال. وأضرب مثلاً لتعدد نواحي الإعجاز، فإني سمعتُ وقرأت لأشخاص مختصين بالتشريع والقانون، يُبَيِّنون إعجازَ التشريع القرآني، ويبينون اختيارات الألفاظ التشريعية في القرآن ودقتها في الدلالة على دقة التشريع ورفعته ما لا يصحُّ استبدال غيرها بها، وإن اختيار هذه الألفاظ في بابها أَدقُّ وأعلى مما نُبيِّنُ نحن من اختياراتٍ لغوية وفنية وجمالية. وقرأتُ وسمعت لأشخاص متخصصين بعلم التشريح والطب في بيان شيء من أسرار التعبير القرآني من الناحية الطبية التشريحية ودقتها يفوق ما نذكره في علم البلاغة. فألفاظهُ مختارة في منتهى الدقة العلمية. من ذلك على سبيل المثال أن ما ذكره القرآن من مراحل تطور الجنين في الرحم هي التي انتهى إليها العلمُ مما لم يكنْ معروفاً قبل هذا العصر مما دعا علماء أجانب إلى أن يعلنوا إسلامهم. وليس ذلك فقط؛ بل إن اختيار تعبير (العلقة) و (المضغة) - مثلاً أعجب اختيار علمي. فاختيار التعبير بـ (العلقة) اختيارٌ له دلالته، فإن المخلوق في هذه المرحلة أشبه شيء بالعلقة، وهي الطفيلية المعروفة. وكذلك التعبير بـ (المضغة) ، فالمضغة كما قرأنا في كتب التفسير، هي القطعة من اللحم قدر ما يمضغ الماضغ. ولكن لاختيار كلمة (مضغة) سببٌ آخر، ذلك أن (المضغة) هي قطعة اللحم الممضوغة أي التي مضغتها الأسنان، وقد أثبت العلمُ الحديث أن الجنين في هذه المرحلة ليس قطعة لحم عادية بل هو كقطعة اللحم التي مضغتها الأسنان، فاختيار لفظ (المضغة) اختيارٌ علمي دقيق. إنه لم يقل "قطعة لحم صغيرة" ولو قال ذلك لكان صواباً ولكن قال: (مضغة) لِمَا ذكرتُ ورُبَّما لغيرهِ أيضاً، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وقرأتُ فيما توصَّلَ إليه علم التاريخ وما دَلَّتْ عليه الحفرياتُ الحديثة من أخبار ذي القرنين أدق الكلام وأدق الأخبار ما لم يكن يعرفهُ جميع مفسري القرآن فيما مضى من الزمان. وأن الذي اكتشفه المؤرخون والآثاريون وما توصلوا إليه في هذا القرن منطبقٌ على ما جاء في القرآن الكريم كلمةً كلمة ولم يكن ذلك معلومًا قبل هذا القرن البتة. وقرأتُ في اختيار التعبير القرآني لبعض الكلمات التاريخية كـ (العزيز) في قصة يوسف، وكاختيار تعبير (الملك) في القصة نفسها، واختيار كلمة (فرعون) في قصة موسى، فعرفتُ أن هذه ترجمات دقيقة لما كان يُستعمل في تلك الأزمان السحيقة فـ (العزيز) أدقُّ ترجمةٍ لمن يقوم بذلك المنصب في حينه، وأن المصريين القدامى كانوا يفرقون بين الملوك الذين يحكمونهم فيها إذا كانوا مصريين أو غير مصريين، فالملكُ غير المصري الأصل، كانوا يسمونه (الملك) ، والمصري الأصل يسمونه (فرعون) وأن الذي كان يحكم مصر في زمن يوسف غير مصري، وهو من الهكسوس فسماه (الملك) ، وأن الذي كان يحكمها في زمن موسى هو مصري فسماه (فرعون) ، فسمى كل واحد بما كان يُسمى في الأزمنة السحيقة. وعرفت من الإشارات الإعجازية في مختلف العلوم كما في أسرار البحار والضغط الجوي وتوسع الكون وبداية الخلق ما دعا كثيراً من الشخصيات العلمية إلى إعلان إسلامهم. بل إن هناك أموراً لم تُعرفْ إلا بعد صعود الإنسان في الفضاء، واختراقه الغلاف الجوي للأرض، وقد أشار إليه القرآن إشارات في غاية العجب ذلك أن الإنسانَ إذا اخترق الغلاف الجوي للأرض، وجد نفسه في ظلام دامس وليل مستديم ولم تُرَ الشمسُ، إلا كبقية النجوم التي نراها في الليل. فالنهارُ الذي نعرفه نحن، لا يتعدى حدودَ الغلاف الجوي فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 تجاوزناه كنا في ظلام لا يعقبه نهار. وقد أشار إلى ذلك القرآن إشارة عجيبة في قوله: {وَآيَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} [يس: 37] فجعل النهار كالجلد الذي يُسلخ وأما الليل: فهو الأصل، وهو الكل، فشبَّه الليلَ بالذبيحة، والنهار جلدها؛ فإن سُلخ الجلد ظهر الليل فجعل النهار غلافاً والليل هو الأصل. وقال: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} [الحجر: 14-15] . أي: لو مكنّاهم من الصعود إلى السماء، لانتهوا إلى ظلام وقالوا: {سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} ، وغير ذلك وغيره. وعلى هذا فالإعجاز القرآنيّ متعدِّدُ النواحي، متشعب الاتجاهات، ولا يزال الناس يكتشفون من مظاهر إعجازه الشيء الكثير، فلا غرو أن أقول إذن: إن الإعجاز أكبر مما ينهضُ له واحد، أو جماعة في زمن ما. إن التعبير الواحد، قد ترى فيه إعجازاً لغوياً جمالياً، وترى فيه في الوقت نفسه، إعجازاً علمياً، أو إعجازاً تاريخياً، أو إعجازاً نفسياً، أو إعجازاً تربوياً أو إعجازاً تشريعياً، أو غير ذلك. فيأتي اللغوي، ليبين مظاهرَ إعجازهِ اللغوي، وأنه لا يمكن استبدالُ كلمةٍ بأخرى، ولا تقديم ما أُخِّرَ أو تأخير ما قُدِّمَ، أو توكيد ما نُزعَ منه التوكيد، أو عدم توكيدِ ما أُكِّدَ. ويأتيك العالم في الطب ليقول من وجهة نظر الطب، ألطف وأدق مما يقوله اللغوي. ويأتيك العالم في التشريع، ليقول مثل ذلك من وجهة نظر التشريع والقانون. ويأتيك المؤرخ ليقول مثل ذلك من وجهة نظر التاريخ، ويأتيك صاحب كل علم، ليقول مثل ذلك من وجهة نظر علمه. إننا ندلُّ على شيء من مواطن الفن والجمال، في هذا التعبير الفني الرفيع، ونضع أيدينا على شيء من سُمُوِّ هذا التعبير، ونبين أن هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 التعبير، لا يقدر على مجاراته بشر، بل ولا البشر كلهم أجمعون، ومع ذلك لا نقول: إن هذه هي مواطن الإعجاز، ولا بعض مواطن الإعجاز وإنما هي ملامح ودلائل، تأخذ باليد وإضاءات توضع في الطريق، تدل السالكَ على أن هذا القرآن كلامٌ فنيٌّ مقصود، وُضع وضعاً دقيقاً ونُسج نسجاً مُحْكماً فريداً، لا يشابهه كلام، ولا يرقى إليه حديث {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ} [الطور: 34] . أما شأن الإعجاز، فهيهات هيهات، إنه أعظمُ من كل ما نقول، وأبلغ من كل ما نَصِفُ، وأعجبُ من كل ما نقف عليه من دواعي العجب. إن هذا القادم من الملأ الأعلى، والذي نزل به سيدٌ من كبار سادات الملأ الأعلى، فيه من الأسرار، ودواعي الإعجاز، ما تنتهي الدنيا ولا ينتهي. قد ترى أن في قولي مبالغةً وادعاءً أو انطلاقاً من عاطفةِ دينٍ أو التهابِ وجدانٍ، وليس بوسعي أن أمنعكَ من هذا التصور، ولا أن أردَّ عنك ما ترى. ولكن، لو فُتح القلبُ المقفل، وأُوقد السراجُ المُعطَّل، وأشرقت بالنور حنايا لم تكن تعرف النور، ولامست فؤادك نفحةٌ من روح الملك القدوس، وهبَّت على أوديةِ نفسك، نسمةٌ من عالم الروح، وسمعتَ صوتاً يملأ نفسك، قادماً من بعيد، من الملأ الأعلى يقول: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق} [الحديد: 16] . {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 17] . فقفَّ شعرُ بدنك، واقشعرّ جلدك، ومار فؤادك، وتحركت السواكن، واضطرب بين جنبيك ما اضطرب، والتهب فيه ما التهب، وانهمرت الدموع تسيلُ في شعاب القلوب التي قتلها الظمأ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وأقفرها الجفاف، تغسل الأوضار وتروي حبات القلب وتُندِّي اليَبَسَ وتُحيي المواتَ فعند ذاك تذوقُ ما لم تَعهدْ له مَذَاقاً ولا طعماً، وتحسُّ ما لم يكن لك فيه سابقُ معرفةٍ، ولا إحساس، وتصيحُ بكل جوارحك قائلاً: والله لقد آن! والله لقد آن! وعند ذاك تعرفُ ما أقول وتفهمُ ما أُشير إليه، ولكن أنّى لي أنْ أُوصِلَكَ إلى هذا؟! وكيف أُوصلُكَ وأنا المنقطعُ، وأُعطيك وأنا المحروم؟ ولا حولَ ولا قوة إلا بالله. إنما هي دلائلُ أضعها في الطريق وإشارات وصُوى، وشيء من خافت النورِ في مصباحٍ ناضبِ الزيت، غير ناقعِ الفتيل، عسى اللهُ أن ينفع بها سالكاً، ويجنِّب العثار سارياً في الليل البَهيم؛ فتنالنا منه دعوةٌ صالحة تنفعنا في عَرَصات القيامة. وفي الختام لا أجدُ خيراً من أن أُوصيك ما أوصى به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صاحبه أبا ذر، وليكن ذلك منك على ذِكْرٍ وإياك أن تنساه: يا أبا ذر أَحْكمِ السفينةَ فإنَّ البحرَ عميق وخَفِّفِ الحملَ فإنَّ العَقبةَ كَؤُود وأكثرِ الزادَ فإنَّ السفرَ طويل وأخلصِ العملَ فإنَّ الناقدَ بصير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 سورة الفاتحة نفتتح الكتاب بسورة الفاتحة تَبَرُّكاً. {الحمد للَّهِ} . معنى {الحمد} : الثناءُ على الجميل من نعمةٍ أو غيرها مع المحبة والإجلال. فالحمد: أنْ تذكر محاسنَ الغير، سواء كان ذلك الثناءُ على صفةٍ من صفاتهِ الذاتية كالعلم والصبر والرحمة والشجاعة، أم على عطائه وتَفضُّلهِ على الآخرين. ولا يكون {الحمد} إلا للحَيِّ العاقل. وهذا من أشهر ما فُرِّقَ بينه وبين المدح. فإنك قد تمدح جماداً، وقد تمدح حيواناً ولكن لا تحمده، فقد تقولُ كلاماً في مدح الديك، وفي مدح البقر، وفي مدح الكلب، وفي مدح الذهب، وفي مدح اللؤلؤ وغير ذلك، ولكن لا تحمده. جاء في تفسير الرازي: "إن المدحَ قد يحصل للحي ولغير الحي، ألا ترى أن مَنْ رأى لؤلؤة في غاية الحُسْنِ أو ياقوتة في غاية الحسن فإنه قد يمدحها ويستحيل أن يحمدها فثبت أنَّ المدح أَعمُّ من الحمد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ومما ذكر في الفرق بينهما أيضاً: "إن المدحَ قد يكون قبل الإحسان، وقد يكون بعده، أما الحمد فإنه لا يكونُ إلا بعد الإحسان". فإن الحمد يكون لما هو حاصلٌ من المحاسن في الصفات، أو الفعل، فلا يُحمَدُ مَنْ ليس في صفاته ما يستحق الحمد، ولا يُحمَدُ مَنْ لم يفعل جميلاً. أما المدح، فقد يكون قبل ذلك، فقد تمدح إنساناً ولم يفعل شيئاً من المحاسن والجميل، ولذا كان المدح مَنْهياً عنه، بخلاف الحمد، فإنه مأمورٌ به، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "احثُوا الترابَ في وجوه المَدَّاحين". في حين قال: "مَنْ لم يَحمدِ الناسَ لم يحمدِ الله" وبذا علمنا من قوله: {الحمد للَّهِ} أنَّ الله حَيٌّ، له الصفات الحسنى والفعل الجميل، فحمدناه على صفاته، وعلى فِعْلِه وإنعامه. ولو قال: (المدح لله) لم يُفِدْ شيئاً من ذلك. وهناك فرقٌ آخر بين الحمد والمدح، وهو أنَّ في الحمد تعظيماً وإجلالاً ومحبة، ما ليس في المدح. فكان اختيار (الحمد) أولى من اختيار (المدح) . وفَرَّقُوا بين الحمد والشكر، فقالوا: "إن الحمد يعمُّ ما إذا وصل ذلك الإنعامُ إليكَ أو إلى غيرك، وأما الشكر، فهو مختصٌّ بالإنعام الواصل إليك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 فأنتَ تشكر الشخص إذا أوصلَ إليك نعمةً، وأما الحمدُ فإنه لا يختص بذاك، فإنك تحمدهُ على إنعامه لك، أو لغيرك. ومن جهة أخرى، إنَّ الشكرَ لا يكون إلا على النعمة، ولا يكون على صفاته الذاتية، فإنك لا تشكرُ الشخصَ على عِلْمِه، أو على قدرته وقد تحمده على ذاك. جاء في (لسان العرب) : "والحمد والشكر متقاربان والحمدُ أعمّهما، لأنك تحمد الإنسان على صفاته الذاتية، وعلى عطائه، ولا تشكره على صفاته". فكان اختيار الحمد أولى أيضاً من الشكر، لأنه أعَمُّ، فإنك تُثني عليه بنعمه الواصلة إليك، وإلى الخلق أجمعين، وتثني عليه بصفاته الحسنى الذاتية، وإن لم يتعلق شيء منها بك. فكان اختيار (الحمد) أولى من المدح والشكر. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، أنه قال: {الحمد للَّهِ} ، ولم يقل: (أحمدُ الله) ، أو: (نَحمدُ الله) ، وما قاله أولى من وجوه: منها: أنَّ قولنا "أَحمدُ الله" أو "نحمد الله" مختصٌّ بفاعل معين. ففاعل "أحمد" هو المتكلم، وفاعل: (نحمد) هم المتكلمون، في حين أن عبارة: {الحمد للَّهِ} مطلقة لا تختصُّ بفاعلٍ معين وهذا أولى. فإنك إذا قلت: (أَحمدُ الله) أخبرت عن حمدك أنتَ وحدك، ولم تُفِدْ أن غيركَ حَمِدهُ، وإذا قلت: نحمد الله، أخبرت عن المتكلمين ولم تفد أن غيركم حمده، في حين أن عبارة {الحمد للَّهِ} لا تختص بفاعل معين فهو المحمودُ على وجه الإطلاقِ، منكَ ومِنْ غيركَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ومنها: أنك إذا قلت: أحمدُ فلاناً، لا يعني أنه يستحقُّ الحمدَ فقد تُثني على شخصٍ لا يستحقُّ الثناء، وقد يهجو شخصٌ شخصاً، وهو لا يستحق الهجو، ذلك أن الشخص قد يضع المدح في غير موضعه، ويضع الهجو في غير موضعه، ويفعل أفعالاً لا ينبغي أن يفعلها، فأنتَ إذا قلت: أحمدُ الله، أخبرتَ عن فعلك، ولا يعني ذلك أنَّ مَنْ تحمده يستحقُّ الحمد في حين أنك إذا قلت: {الحمد للَّهِ} أفاد ذلك استحقاق الله للحمد وليس ذلك مرتبطاً بفاعلٍ معين. ومنها: أن قولك: (أحمد الله) ، أو: (نحمد الله) ، مرتبطٌ بزمن معين، لأن الفِعْلَ له دلالة زمنية معينة، فالفعل المضارع يدل على الحال، أو الاستقبال، ومعنى ذلك أن الحمد لا يحدث في غير هذا الزمان الذي تحمده فيه. ولا شك أن الزمن الذي يستطيع الشخص أو الأشخاص الحمدَ فيه محدود، وهكذا كلُّ فِعْلٍ يقوم به الشخصُ محدود الزمن، فإن أقصى ما يستطيع أن يفعله، أن يكون مرتبطاً بعمره، ولا يكون قبل ذاك وبعده فِعْلٌ فيكون الحمد أقل مما ينبغي، فإنَّ حمدَ الله لا ينبغي أن ينقطع ولا يُحَدَّ بفاعل، أو بزمان في حين أن عبارة: {الحمد للَّهِ} مُطلقة غير مقيدة بزمن معين، ولا بفاعل معين، فالحمد فيها مستمرٌّ غير منقطع. جاء في (تفسير الرازي) : "إنه لو قال: (أحمدُ الله) ، أفاد ذلك كون ذلك القائل قادراً على حمده، أما لما قال: {الحمد للَّهِ} فقد أفاد ذلك، أنه كان محموداً قبلَ حمدِ الحامدين، وقبلَ شُكْرِ الشاكرين. فهؤلاء سواء حمدوا، أم لم يحمدوا وسواء شكروا أو لم يشكروا، فهو تعالى محمودٌ من الأزل إلى الأبد بحمده القديم وكلامه القديم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 ومن ذلك أن: (أحمد الله) ، جملة فعلية، و {الحمد للَّهِ} جملة اسمية، والجملة الفعلية دالة على الحدوث والتجدد، في حين أن الجملة الاسمية دالة على الثبوت، كما هو معلوم، وهي أقوى وأدوم من الفعلية، فقولك: (متبصّر) ، أقوى وأثبت من: (يتبصّر) ، و: (مثقف) ، أقوى وأثبت من: (يتثقف) ، و: (متدرب) أقوى وأثبت من: (يتدرب) ، فاختيار الجملة الاسمية أوْلى من اختيار الجملة الفعلية ههنا، إذ هو أدلُّ على ثبات الحمد واستمراره. ومنها: "أن قولنا: {الحمد للَّهِ} معناه: أن الحمد والثناء حقٌّ لله وملكه فإنه تعالى، هو المستحق للحمد بسبب كثرة أياديه وأنواع آلائه على العباد. فقولنا: {الحمد للَّهِ} معناه: إن الحمد لله حقٌّ يستحقه لذاته ولو قال: (أحمد الله) لم يدلّ ذلك على كونه مستحقاً للحمد لذاته. ومعلوم أنَّ اللفظ الدال على كونه مستحقاً للحمد أولى من اللفظ الدال على أن شخصاً واحداً حمده". ومنها: "أن الحمدَ عبارة عن صفة القلب، وهي اعتقاد كون ذلك المحمود مُتفضِّلاً منعماً مستحقاً للتعظيم والإجلال. فإذا تَلفَّظَ الإنسانُ بقوله: (أحمدُ الله) ، مع أنه كان قلبه غافلاً عن معنى التعظيم اللائقِ بجلال الله، كان كاذباً لأنه أخبر عن نفسه بكونه حامداً مع أنه ليس كذلك. أما إذا قال: الحمد لله، سواء كان غافلاً أو مستحضراً لمعنى التعظيم، فإنه يكونُ صادقاً لأن معناه: أن الحمد حقٌّ لله، وملكه، وهذا المعنى حاصل سواء كان العبد مشتغلاً بمعنى التعظيم والإجلال، أو لم يكن. فثبت أن قوله: {الحمد للَّهِ} أَوْلى من قوله: أحمد الله. ونظيره قولنا: (لا إله إلا الله) ، فإنه لا يَدْخلُه التكذيبُ بخلاف قولنا: (أشهدُ أن لا إله إلا الله) ، لأنه قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 يكون كاذباً في قوله: (أشهد) ولهذا قال تعالى في تكذيب المنافقين: {والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] ". فثبت أن: {الحمد للَّهِ} أولى من: (أحمد الله) أو: (نحمد الله) . هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إن عبارة الحمد هذه يمكن أن تُقالَ بالرفع، أي: (الحمدُ لله) ، ويمكن أن تقال بالنصب، أي: (الحمدَ لله) ، فأي العبارتين أَوْلى بالاختيار؟ والجواب: أن قراءة الرفع، أولى من قراءة النصب، ذلك أن قراءة الرفع تدل على أن الجملة اسمية، في حين أن قراءة النصب، تدل على أن الجملة فعليه بتقدير: نحمد، أو أحمد، أو احمدوا، بالأمر. والجملة الاسمية أقوى وأثبت من الفعلية، لأنها دالةٌ على الثبوت كما مر إيضاحه. جاء في (الكشاف) : "والعدل بها عن النصب إلى الرفع على الابتداء، للدلالة على ثبات المعنى واستقراره ومنه قوله تعالى: {فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ} [الذاريات: 25] ، رفع السلام الثاني للدلالة على أن إبراهيم، عليه السلام، حَيَّاهُمْ بتحيةٍ أحسن من تحيتهم، لأن الرفع دالٌّ على معنى ثبات السلام لهم، دون تجدده وحدوثه". وجاء في (البحر المحيط) : "وقراءة الرفع أمكن في المعنى، ولهذا أجمع عليها السبعةُ، لأنها تدل على ثبوت الحمد واستقراره لله تعالى، فيكون قد أخبر بأن الحمدَ مستقرٌّ لله تعالى.. ومَنْ نصب فلا بد من عامل تقديره: أحمد الله أو حمدت الله فيتخصَّصُ الحمدُ بتخصيصِ فاعلهِ وأشعر بالتجدد والحدوث". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وجاء في (تفسير البيضاوي) : "وإنما عدل عنه إلى الرفع، ليدلَّ على عموم الحمد وثباته، دون تَجَدُّدِه وحدوثه". وقد تقول: أليس تقدير فِعْلِ الأمر في قراءة النصب أقوى من الرفع، بمعنى: (احمدوا الحمدَ لله) ، كما تقول: (الإسراع في الأمر) ، بمعنى أسرعوا؟ والجواب: لا، فإن قراءةَ الرفع أولى أيضاً، ذلك لأن الأمر بالشيء، لا يعني أن المأمور به مستحق للفعل، فقولك: امدحْ زيداً، لا يعني أن زيداً مستحقٌّ للمدح، وقولك: اهجُ خالداً، لا يعني أن خالداً مستحق للهجو. وقد يكون المأمور غير مقتنع بما أُمِرَ به، فقد يؤمر الإنسانُ بشيء وهو غير مقتنع به، كأن تقول: اذكر فلاناً بخير، وهو لا يستحق أن يُذكر بخير، أو أن المأمور غير مقتنع بذاك بخلاف الرفع، فإنه يفيد ثُبوتَ الشيء، واستقرارَه على جهة الاستحقاق. وحتى لو أفاد الأمر أفاد ذلك على جهة الثبات أيضاً والدوام نحو: صبرٌ جميلٌ يا فتى، بمعنى: اصبر. فكان الحمدُ لله أولى من: الحمدَ لله بالنصب في الإخبار والأمر. وهي أعني: (الحمد لله) ، أَوْلى من: (حمداً لله) . ذلك أن: (الحمدُ لله) جملة اسمية، كما ذكرنا، و: (حمداً لله) ، فعليه، والجملة الاسمية، أقوى وأثبت من الفعلية، كما ذكرنا قبل قليل. وإن (الحمد) مُعَرَّفةٌ بأل في حين أن (حمداً) نكرة، والتعريف ههنا يفيد ما لا يفيدهُ التنكير، ذلك أن (ال) قد تكون لتعريف العهد، فيكون المعنى: أن الحمدَ المعروفَ بينكم هو لله. وقد تكون لتعريف الجنس على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 سبيل الاستغراق، فيدل على استغراق الأحمدة كلها. وَرجَّحَ بعضهم المعنى الأول، ورجح بعضهم المعنى الثاني، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لك الحمدُ كلُّه" فدل على استغراق الحمد كله. والراجحُ فيما يبدو لي، أن المعنيين مرادان، ذلك أن التعبيرَ يحتملهما معاً، فعلى هذا يكون المعنى: أن الحمد المعروف بينكم، هو لله سبيل الاستغراق والإحاطة، فلا يخرج عنه شيء من أفراد الحمد ولا أجناسه. وعلى أية حال، هو أولى من التنكير الذي ليس فيه دلالة على هذا المعنى. واختلف في جملة الحمد هذه أعني: (الحمدُ لله) أَخبريةٌ هي، أم إنشائية؟ فذهب معظم العلماء إلى أنها خبرية، وأن القصد هو الإخبار بثبوت الحمد لله، كما تقول: (المال لزيد) ، و (الكتاب لخالد) . وقيل: هي إنشائية، فإن القصدُ ذِكْرُ ذلك على جهةِ المدحِ والتعظيم، وقال بعضهم: "هي وأمثالها، إخبارية لغة ونقلها الشارع للإنشاء لمصلحة الأحكام"، وقال بعضهم: هي إخبار يتضمن إنشاء. جاء في (روح المعاني) : "إن الحمد إخبار عن محاسن الغير، مع المحبة والإجلال. والمدح إخبار عن المحاسن ولذا كان الحمد إخباراً يتضمن إنشاء، والمدح خبراً محضاً". وهذا هو الراجح في رأيي، فإنها تحتمل الخبر وإنشاء التعظيم، فتجمع المعنيين معاً. وعبارة الحمد الواردة في السورة أعني: (الحمد لله) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 أولى من: (إن الحمد لله) ، مِن أكثر مِن وجه، ذلك لأنه ليس المقام مقام شَكٍّ أو إنكار، فيحتاج إلى التوكيد، فإنها توجيه للمؤمنين الذي يُقِرُّونَ ذلك ولا ينكرونه. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إن عبارة: (الحمد لله) ، تحتمل الخبر وإنشاء التعظيم كما ذكرنا فتجمع المعنيين معاً، ولو قلت: (إن الحمد لله) لأصبحت خبراً محضاً لا تحتمل الإنشاء. ونظير ذلك الدعاء فإنه إنشاءٌ فإذا أدخلت عليه (إن) خرج من الدعاء إلى الخبر فإن قولك: (رحمة الله عليه) ، و: (الله يغفر له) ، دعاء فإذا أدخلت (إن) عليه، فقلت: (إن رحمة الله عليه) و (إن الله يغفر له) ، كان الكلامُ خبراً لا دعاء. فـ (الحمدُ لله) أولى من (إن الحمد لله) لِمَا فيها من جمع مَعْنيي الخبر والإنشاء. كما أن عبارة الحمد هذه أعني: (الحمدُ لله) أولى ههنا من: (لله الحمد) من أكثر من وجه. من ذلك أن عبارةَ (للهِ الحمدُ) فيها اختصاصٌ، أو إزالةُ شكٍّ عمَّن ادَّعى أنَّ الحمد لغير الله أو ادّعى أنَّ هناك ذاتاً مشتركة معه في الحمد فقدمتَ الجار والمجرور لإزالة هذا الشك أو لقصد الاختصاص، في حين أنَّ المقامَ ليس مقام إزالة شك، ولا أنَّ هناك من ادّعى أن الحمد لغير الله فتقدم الجار والمجرور لقصد الاختصاص. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إن الحمد في الدنيا ليس مختصاً لله وحده، وإن كان هو سببه كله، فالناس قد يحمد بعضهم بعضاً "فالأستاذ يتسحق الحمدَ من التلميذ، والسلطان العادل، يستحق الحمد من الرعية". وفي الحديث: "مَنْ لم يحمد الناس، لم يحمد الله". ومعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 ذلك أنْ تعرفَ لكل ذي فضل فضله. وقال الله تعالى، في ذم بعض الناس: {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} [آل عمران: 188] ، فإن حُمِدُوا بما فَعلوا، فلا بأس في ذلك. وجاء في تفسير الرازي ذِكْرُ الفرقِ بين قوله: {الحمد للَّهِ} ، وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، لماذا قدم (الله) في العبادة فقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ولم يقدمه في (الحمد) فقال: "إن قوله (الحمد) يحتمل أن يكون لله ولغير الله، فإذا قلت (لله) فقد تَقيَّدَ الحمدُ بأن يكون لله. أما لو قدم قوله: (نعبد) احتمل أن يكون لله واحتمل أن يكون لغير الله، وذلك كفر. والنكتةُ: "أن الحمدَ لما جاز لغير الله في ظاهر الأمر، كما جاز لله لا جَرَمَ حَسُنَ تقديمُ الحمد أما ههنا، فالعبادة لما لم تجز لغير الله، لا جرم قَدَّمَ قوله: {إِيَّاكَ} على نعبد". وقد تقول: ولكن الله سبحانه قال في مكان آخر: {فَلِلَّهِ الحمد رَبِّ السماوات وَرَبِّ الأرض رَبِّ العالمين} [الجاثية: 36] . فقدم مستحق الحمد، فما الفرق؟ ونقول: ومَن يُنْكر التقديم والتأخير؟ وإنما يكون ذلك بحسب المقام، فإذا اقتضى المقامُ التقديمَ، قُدِّمَ وإلا فلا. وفي آية الجاثية، اقتضى المقام التقديم، أعني: تقديم الذات المستحقة للحمد، وتخصيصه بها. فقد ذكرت سورة الجاثية أصنافاً من الكفار، وفَصَّلت في ذكر عقائدهم، ومواقفهم من آيات الله ورسله. فقد ذكرت أنهم اتخذوا من دون الله أولياء (الآية 10) ، وأنهم اتخذوا الهوى إلهاً لهم (الآية 23) . وأنهم نسبوا الحياةَ والموتَ إلى الدهر، لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 إلى الله {وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر} [الجاثية: 24] . فلم يعترفوا لله بشيءٍ من خصائص الربوبية والألوهية. ولم يُقِرُّوا له بفضل على الإنسان، ولذا كرر وأعاد القول إنه هو الذي خلق السماوات والأرض وما فيهن. وهو الذي يُحيي ويميت وإنه وحده المُتفضِّلُ في هذا الوجود، لا مُتفضِّلَ سواه على الحقيقة، فقال سبحانه: {وَمَآ أَنَزَلَ الله مِنَ السمآء مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} [الجاثية: 5] . وقال: {الله الذي سَخَّرَ لَكُمُ البحر لِتَجْرِيَ الفلك فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ} [الجاثية: 12-13] . {وَخَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق} [الجاثية: 22] . {قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ} [الجاثية: 26] . فالله هو الذي خلق السماوات والأرض وما فيهن، ولم يشاركه في ذلك أحد، وهو الذي خلق الإنسان وسخر له ما في السماوات، وما في الأرض، وتَفضَّلَ عليه بالنعم، فهو الذي أنزل المطر وأخرج الرزق من الأرض، وسخّر البحر، وفعلَ وفعل، فهو وحده المتفضل على وجه الحقيقة، وهو المستحق الحمد على جهة الحصر والقصر، فقدم الذات الإلهية، وقَصَرَ الحمدَ عليه، لأن المقام يقتضي ذلك بخلاف سورة الفاتحة التي ليس فيها شيء من ذاك، وهي - أعني: سورة الفاتحة - توجيه للمؤمنين الذين يخصون الله بالعبادة ويطلبون منه الثبات على الهدى. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إنَّ جُلَّ التعبيرات في سورة الجاثية، جرت على طريقة الحصر: {لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الجاثية: 9] . {مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ} [الجاثية: 10] . {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الجاثية: 10] . {لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ} [الجاثية: 11] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 {الله الذي سَخَّرَ لَكُمُ البحر} [الجاثية: 12] . {إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [الجاثية: 15] . {فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية: 17] . {وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} [الجاثية: 24] . {وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر} [الجاثية: 24] . {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24] . {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ} [الجاثية: 25] . {قُلِ الله يُحْيِيكُمْ} [الجاثية: 26] . {وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} [الجاثية: 27] . {يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ المبطلون} [الجاثية: 27] . {اليوم تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 28] . {ذَلِكَ هُوَ الفوز المبين} [الجاثية: 30] . {إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً} [الجاثية: 32] . {بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الجاثية: 33] . {وَقِيلَ اليوم نَنسَاكُمْ} [الجاثية: 34] . {وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} [الجاثية: 34] . {فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا} [الجاثية: 35] . {وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ} [الجاثية: 35] . {فَلِلَّهِ الحمد} [الجاثية: 36] . {وَلَهُ الكبريآء} [الجاثية: 37] . فاقتضى المقام تقديم الذات، المستحقة للحمد من كل ناحية في سورة الجاثية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 ثم انظر كيف جاء مع الحمد باسمه العَلَم، فقال: {الحمد للَّهِ} ، ولم يأتِ بوصفٍ آخر بدله، فلم يقل مثلاً: (الحمد للخالق) ، أو الرازق أو للحَيِّ، أو للقادر، ونحو ذلك من نعوت الله وصفاته، ذلك أنه لو جاء بأيّ وصفٍ بدل لفظ الجلالة، لأفهمَ ذلك أن الحمدَ إنما استحقه بهذا الوصف دون غيره، فلو قال: (الحمد للعليم) ، لأفهم أن الحمد إنما استحقه بوصف العلم، ولو قال: (الحمد للقادر) ، لأفهم أن الحمد إنما استحقه بوصف القدرة، وهكذا بقية أوصافه الحسنى، فجاء بالذات ليدل على أن الحمد إنما استحقه لذاته هو، لا بوصفٍ دون وصف، فكان ذلك أولى. جاء في (روح المعاني) : "أتى باسم الذات في الحمدلةِ لئلا يتوهم لو اقتصر على الصفة اختصاص استحقاقه الحمد بوصفٍ دون وصف، وذلك لأن اللام على ما قيل للاستحقاق، فإذا قيل: (الحمد لله) يفيد استحقاق الذات له، وإذا علق بصفة أفاد استحقاق الذات الموصوفة بتلك الصفة له ... ومعنى الاستحقاق الذاتي ما لا يُلاحَظُ معه خصوصيةُ صفة". هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إن اسم (الله) مناسب لقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، فإن لفظ (الله) مناسبٌ للعبودية، لأن هذا اللفظ على أشهر الأقوال مأخوذ من لفظ (الإله) ، أي: المعبود. و (أَلِهَ) معناه: (عبدَ) فكان لفظ (الله) مناسباً للعبادة. فقد اقترنت العبادة أكثر ما اقترنت بلفظ (الله) في القرآن الكريم، فقد اقترنت به أكثر من خمسين مرة، وذلك نحو قوله: {بَلِ الله فاعبد وَكُن مِّنَ الشاكرين} [الزمر: 66] . وقوله: {أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله} [الرعد: 36] . وقوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ} [الزمر: 64] وغير ذلك. ومن ناحية أخرى، أنه لو جاء بوصف غير اسم العلم، لم يفهم أن المقصود به الله صراحة، فلو قلت: (الحمدُ للحَيِّ) ، كان (الحي) مشتركاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 بين الله وغيره، وكذلك العليم والقادر والسميع. بل حتى لو جئت بما لا يَصحُّ وصفُ غيرِ الله به، فقلتَ مثلاً: (الحمد للبارئ) ، أو للقيوم أو لفاطر السماوات والأرض، أو غير ذلك، لم يفهم أن المقصود به الله صراحة، فكان ذكر (الله) أولى من ذكر أي اسم آخر. فتبين من هذا أن: {الحمد للَّهِ} أَوْلى من: المدح لله أو الشكر لله. وأولى من: أحمدُ الله أو نحمدُ الله، أو احمدِ اللهَ (بالأمر) . وأولى من، الحمدَ لله. وأولى من، حمداً لله. وأولى من، إنَّ الحمدَ لله. وأولى من، لله الحمد. وأولى من، الحمدُ للحَيِّ، أو القادر، أو العليم، ونحو ذلك من الصفات والأسماء. {رَبِّ العالمين} . الربُّ: المالك، والسيد، والمربّي والقيّم، والمنعم، وربُّ العالمين: مالِكُهم وسيدهم، ومُرَبِّيهم، والمُنْعِم عليهم. ومالكُ الشخص وسيده، ومربيه والقيم المنعم عليه أَحَقُّ بالحمد وأولى به من غيره "وبُدئ بالرب، لأنه له التصرف في المَسُود والمملوك والعابد بما أراد من خير أو شرّ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 ودخل تحت قوله: {رَبِّ العالمين} كثيرٌ من صفات الله تعالى كالعليم "والسميع والبصير، والقيوم والمريد، والملك وما أشبه ذلك، لأن كل واحد من هذه الأسماء والصفات، يطلب ما يقع عليه". و {العالمين} : جمع عالمَ، وهو كل موجود سوى الله تعالى، واختلف في دلالة الجمع هذه، فرجَّح بعضهم أنها تفيد ذوي العلم خاصة، أو المُكَلَّفين من الخَلْقِ بدليل قوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1] . وقوله: {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} [الروم: 22] ، ولا يكون نذيراً للبهائم والجمادات. وقال بعضهم: إن العالمين هم الإنس بدليل قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين} [الشعراء: 165] . وقوله: {وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين} [المائدة: 20] . وقيل: جمع العالم ليشمل كل جنس مما سُمِّيَ به، فإن للعالمين آحاداً كل منها يسمى عالَماً، فهناك عالم الإنسان، وعالم الحيوان، وعالم الحشرات، وكل صنف وكل جنس يسمى عالماً أيضاً. وقيل: كل قرن وكل جيل يسمى عالَماً أيضاً، فأهلُ كل زمانٍ عالَمٌ فَجَمعَهُ، ليشمل كل الأجيال، وأهل كل الأزمنة. وقيل: جمعه لاحتمال أن ينصرف الذهن بلفظ (العالَم) إلى هذا العالم المحسوس "لأن العالم وإنْ كان موضوعاً للقدر المشترك، إلا أنه شاع استعمالهُ بمعنى المجموع كالوجود في الوجود الخارجي، وقد غلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 استعماله في العرف بهذا المعنى في العالم المحسوس، لإلْفِ النفس بالمحسوسات فجمع ليفيد الشمول قطعاً". والظاهر أنه يَصحُّ إطلاقُ لفظ (العالمين) على الجيل الواحد، أو الأجيال بدليل قوله تعالى في بني إسرائيل: {يابني إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} [البقرة: 47] . فإن هذا التفضيل مخصوص بزمانهم، وقوله تعالى في مريم: {وَطَهَّرَكِ واصطفاك على نِسَآءِ العالمين} [آل عمران: 42] . وذلك في زمانها خاصة، وقوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين} [الشعراء: 165] . وذلك خاص بالذكور من أهل زمانهم. ومثله قوله تعالى: {قَالُواْ أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالمين} [الحجر: 70] وذلك في الذكور خاصة من أهل زمانهم، بل في مجموعة من أهل زمانهم وقد سماهم (عالمين) أيضاً. وقال: {أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين} [الأعراف: 80] . وهذا يشمل جميع الإنس من زمن آدم إلى زمانهم. وقد تشملُ عمومَ المكلفين، أو العقلاء على مر الأجيال، وذلك نحو قوله تعالى: {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 108] . وقد خَصَّ هذه اللفظةَ بعضُ أهل العلم بالمكلفين خاصة، ورُدّ بقوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين * قَالَ رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} [الشعراء: 23-24] . ففسر رب العالمين بأنه رب السماوات والأرض، وما بينهما وهو عامٌّ شامل لكل ما في الوجود. والذي يبدو لي أن هذا الاستدلال فيه نظر، فهو لم يشرح كلمة (العالمين) ، بل بَيَّنَ صفة {رَبِّ العالمين} وقد يبيّن بتعبيرات مختلفة كلها صادقة عليه، فقد تقول: ما رَبُّ هذه الدار؟ فيقالُ لكَ: تاجر، أو فقيه، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 موظف. فليست كلمة (تاجر) أو (فقيه) أو (موظف) تفسيراً لـ (هذه الدار) ، وإنما هي بيانٌ لحقيقةِ ربِّ الدار. ولو أجاب موسى، عليه السلام، عن سؤال فرعون بقوله: رَبٌّ قادر على كل شيء، حَيٌّ لا يموت، لا يُعْجِزُه شيء، يُجازي المحسنَ بالجنة، والمسيء بالنار، لكان صواباً، ومعلوم أن هذا ليس تفسيراً للعالمين، بل هو بيانٌ لصفة رب العالمين. إن (العالَم) يُجمَعُ على العوالم وعلى العالمين، والذي يبدو لي: أن العوالم يطلق على جميع العوالم من المكلفين، وغيرهم من جمادات وحيوانات وغير ذلك، وإن (العالمين) لا تطلق إلا على ذوي العلم خاصة، أو على ما اجتمع فيه العقلاء، وغيرهم، فيغلّب العقلاء. ولا يطلق (العالَمون) على غير العقلاء وحدهم، فلا يقال للحشرات والطيور (عالمين) بل عالم أو عوالم، ولكن يقال للبشر أو لجماعة من البشر أو لجيل من البشر، أو للمكلَّفين من خَلْقِ الله من الإنس والجن على مَرِّ العصور (عالمين) كما ورد ذلك في القرآن الكريم. ذلك أن الجمع بالياء والنون خاص بالعقلاء. فعلى هذا يكون قوله: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} إما أن يعني: رب البشر أو المكلَّفين أو رب الخلق كلهم، وغلّب العقلاء منهم. ولهذا التخصيص أو التغليب سببه ذلك أن الكلام في سورة الفاتحة خاص بالعقلاء، فالعبادةُ والاستعانة وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم، وتصنيف الخلق إلى مُنْعَمٍ عليهم، ومغضوب عليهم، وضالين، هو خاصٌّ بالمكلفين. فكان هذا الاختيار أنسب شيء، ولو قال: رب العالم أو رب العوالم، لم يحسن هذا الحُسْنَ لأنه يشملُ غيرَ المكلفين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إن فيه رداً على المغضوب عليهم، ومنهم اليهود الذين يدّعون أن الله ربُّ بني إسرائيل خاصة، وليس رب الخلق الآخرين من البشر فردَّ عليهم بقوله: إنه ربُّ العالمين جميعاً، من سائر البشر والمكلفين، فحسن اختيار {رَبِّ العالمين} من كل وجه. وقد تقول، ولِمَ لَمْ يُفصّلْ في ذكر مظاهر الربوبية، كما فعل في مكان آخر، فقد قال تعالى ثمة {فَلِلَّهِ الحمد رَبِّ السماوات وَرَبِّ الأرض رَبِّ العالمين * وَلَهُ الكبريآء فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم} [الجاثية: 36-37] ؟ والجواب: أنَّ كلَّ مقام اقتضى التعبير الوارد فيه، فقد تردَّدَ ذِكْرُ السماوات والأرض، وما فيهن أكثر من مرة في سورة الجاثية، وذِكْرُ مظاهرِ ربوبيته لها. فقد قال: {إِنَّ فِي السماوات والأرض لأيات لِّلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءايات لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 3-4] . وقال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ} [الجاثية: 13] . وقال: {وَخَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق} [الجاثية: 22] . وقال: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} [الجاثية: 27] . وقال: {فَلِلَّهِ الحمد رَبِّ السماوات وَرَبِّ الأرض رَبِّ العالمين} [الجاثية: 36] . وهذا كله من مظاهر ربوبيته للسماء والأرض. كما ذكر ربوبيته للعقلاء، وسائر الأحياء الأخرى، فقد قال: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ} [الجاثية: 4] . وقال: {الله الذي سَخَّرَ لَكُمُ البحر} [الجاثية: 12] . وقال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [الجاثية: 13] . فقد سَخَّرَ اللهُ البحرَ وما في السماوات والأرض للإنسان، وهذا من مظاهر الربوبية له. وقال: {قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ} [الجاثية: 26] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ} [الجاثية: 30] . وذكر الشرائع التي أنزلها الله على البشر، وهذا كله من مظاهر الربوبية للعالمين، فناسب هذا التفصيلَ في سورة الجاثية في حين لم يذكر في سورة الفاتحة إلا أصناف المكلفين. ثم إنه لما خص بالذكر في سورة الفاتحة، أصنافَ الخلق من العقلاء، قال: {رَبِّ العالمين} ولَمَّا فَصَّلَ في سورة الجاثية في ذكر السماوات والأرض، وما فيها من دابة وبشر، قال: {رَبِّ السماوات وَرَبِّ الأرض رَبِّ العالمين} [الجاثية: 36] . فناسب كلُّ كلام موضعه. ثم قال بعد ذلك في سورة الجاثية: {وَلَهُ الكبريآء فِي السماوات والأرض} [الجاثية: 37] فذكر الكبرياء إضافة إلى الحمد، ولم يذكر غير الحمد في الفاتحة، ذلك أنه جرى ذِكْرُ المستكبرين بغير الحق في السورة، فناسب ذِكْر الكبرياء الحق له سبحانه، وأنه مُخْتَصٌّ به. قال تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ ءايات الله تتلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} [الجاثية: 7-8] . وقال: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءاياتنا شَيْئاً اتخذها هُزُواً} [الجاثية: 9] . والهزو من مظاهر الاستكبار. وقال: {أَفَلَمْ تَكُنْ ءاياتى تتلى عَلَيْكُمْ فاستكبرتم وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} [الجاثية: 31] . وقال: {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الجاثية: 33] . والاستهزاء من مظاهر الاستكبار. وقال: {ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتخذتم ءايات الله هُزُواً} [الجاثية: 35] . فناسب ذلك أن يذكر أن له الكبرياء في السماوات والأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وقد تقول: ولمِمَ اختار كلمة (رب) ههنا، ولم يختر اسماً أو وصفاً آخر من أسمائه وصفاته كما فعل في مواطن أخرى من الكتاب العزيز، فقد قال في موطن: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض} [الأنعام: 1] . وقال في موطن آخر: {الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات والأرض} [فاطر: 1] وقال في موطن ثالث: {الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [سبأ: 1] . وقال في موطن رابع: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} [الكهف: 1] . والجواب: أن كل اختيارٍ يناسبُ سياقَ السورة التي ورد فيها، غير أن الملاحظ أن هذه الافتتاحات متكاملة، فقد ذكر في سورة فاطر، أنه فطر السماوات والأرض وابتدأها وأحدث ذواتها من العَدَم الصِّرْف، ثم ذكر أنه خلقها، أي: قدّرها وصوّرها على غيرِ مثالٍ سابق. والخَلْق في اللغة، قد "يكون بمعنى الإنشاء، وإبراز العين من العدم الصرف إلى الوجود، وهذا لا يكون إلا لله [وقد] يكون بمعنى التقدير والتصوير، ولذلك يسمى صانع الأديم ونحوه الخالق، لأنه يقدر". قال تعالى على لسان عيسى، عليه السلام {أني أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير} [آل عمران: 49] . أي: أصوّر وأصنع. فاللهُ هو المُوجِدُ للسماوات والأرض، وهو المصوِّر المقدر لها على غير مثال سابق، وهو مالكها ومالك ما فيها، فبعد أن ذكر أنه فطر السماوات والأرض وخلقها، ذكرَ أن له ما فيها أيضاً، فقد يملك شخص داراً ولا يملك ما فيها من أثاث، أما الله فهو مالكها ومالك ما فيها، وذكر ربوبيته لها، أي: تربيتها وحفظها وإصلاحها بعد إيجادها، وذكر إنزاله الكتاب على عبده لهداية الخلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وهكذا تكاملت الآياتُ تكاملاً شاملاً، فقد ذكر أنه مُحْدِثُها ومُصَوِّرُها ومالكها، ومالكُ ما فيها، وحافظها والقَيِّمُ عليها، وأنه ينزل الكتب لهداية عقلاء خلق الله إلى طريقه المستقيم. وهكذا تكون كلُّ آية مُكَمِّلة للآيات الأخرى. قالوا: وقوله: {رَبِّ العالمين} عمَّ ذلك كلَّه. فالربُّ يشمل كل ما ذكر من صفات الله من ملك وخلق. و (العالمين) تشمل كل ما ذكر من السماوات والأرض وما فيهما، فهي حقيقة بأن تُسمى "أم الكتاب". جاء في (تفسير الرازي) : "أنه تعالى لم يقل: الحمد لله خالق العالمين، بل {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} والسبب فيه أن الناس أطبقوا على أن الحوادث، مفتقرةٌ إلى المُوجِدِ والمُحْدِثِ حالَ حدوثها، لكنهم اختلفوا في أنها حال بقائها، هل تبقى محتاجة إلى المُبْقي أم لا؟ فقال قوم: الشيءُ حال بقائه يستغني عن السبب، والمربي هو القائم بإبقاء الشيء وإصلاح حالهِ حالَ بقائه، فقوله: {رَبِّ العالمين} تنبيه على أن جميع العالمين، مفتقرة إليه في حال بقائها، والمقصود أن افتقارها إلى الموجد في حال حدوثها، أمرٌ متفق عليه. أما افتقارها إلى المبقي والمربي حال بقائها هو الذي وقع فيه الخلاف، فخصَّه سبحانه بالذكر، تنبيهاً على أن كلّ ما سوى الله فإنه لا يستغني عنه لا في حال حدوثه ولا في حال بقائه ... ثم إنه تعالى افتتح سوراً أربعة بعد هذه السورة بقوله: {الحمد للَّهِ} . فأولها سورة الأنعام، وهو قوله: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1] . واعلم أن المذكور ههنا قسم من أقسام قوله: {رَبِّ العالمين} لأن لفظَ العالَمِ يتناول كل ما سوى الله. والسماوات والأرض والنور والظلمة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 قسم من أقسام ما سوى الله. فالمذكور في أول سورة الأنعام كأنه قسم من أقسام ما هو مذكور في أول سورة الفاتحة، وأيضاً فالمذكور في أول سورة الأنعام أنه خلق السماوات والأرض، والمذكور في أول سورة الفاتحة كونه رباً للعالمين. وثانيهما في سورة الكهف، وهو قوله: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب} [الكهف: 1] والمقصود منه تربية الأرواح بالمعارف ... وقوله في أول سورة الفاتحة: {رَبِّ العالمين} إشارة إلى التربية العامة في حق كل العالمين ... فكان المذكور في أول سورة الكهف، نوعاً من أنواع ما ذكره في أول الفاتحة. وثالثها سورة سبأ، وهو: {الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [سبأ: 1] . فَبيَّنَ في أول سورة الأنعام، أن السماوات والأرض له. وبَيَّنَ في أول سورة سبأ أن الأشياء الحاصلة في السماوات والأرض له، وهذا أيضاً قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} . ورابعها قوله: {الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات والأرض} [فاطر: 1] والمذكور في أول سورة الأنعام، كونه خالقاً لها، والخلق هو التقدير، والمذكور في هذه السورة كونه فاطراً لها ومحدثاً لذواتها. وهذا غير الأول، إلا أنه أيضاً قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} . ثم إنه تعالى لما ذكر في سورة الأنعام كونه خالقاً للسماوات والأرض، ذكر كونه جاعلاً للظلمات والنور. أما في سورة فاطر، فلما ذكر كونه فاطر السماوات والأرض ذكر كونه جاعلاً الملائكة رسلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 ففي سورة الأنعام، ذكر بعد خَلْق السماوات والأرض، جَعْلَ الأنوار والظلمات، وذكر في سورة فاطر بعد كونه فاطر السماوات والأرض جعل الروحانيات". هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن قوله: {رَبِّ العالمين} مناسب لقوله فيما بعد: {اهدنا الصراط المستقيم} ، فإن المهمة الأولى للمربي هي الهداية، ولذلك اقترنت الهداية بلفظ الرب في القرآن كثيراً. من ذلك قوله: {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى * قَالَ رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 49-50] . وقوله: {ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى} [طه: 122] . وقوله: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى * الذي خَلَقَ فسوى * والذي قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 1-3] . وقوله: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي ربي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 161] . وقوله: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] . وقوله: {وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هاذا رَشَداً} [الكهف: 24] . وقوله: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] . وقوله: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99] . وقوله: {عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل} [القصص: 22] وغير ذلك. {الرحمان الرحيم} . {الرحمان} : فَعْلان من الرحمة، و {الرحيم} : فعيل منها. وصيغة (فعلان) تُفِيدُ الدلالةَ على الحدوث والتجدُّد، وذلك نحو: عطشان وجوعان وغضبان، ولا تفيد الدلالة على الثبوت، وتفيد أيضاً الامتلاء بالوصف. جاء في (التفسير القيم) : "ألا ترى أنهم يقولون غضبان، للممتلىء غضباً، وندمان وحيران وسكران ولهفان، لمن مُلِئَ بذلك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وصيغة (فعيل) تدل على الثبوت في الصفة، نحو: طويل وجميل وقبيح، أو التحول في الوصف إلى ما يقرب من الثبوت، نحو: خطيب وبليغ وكريم. فجاء بالوصفين للدلالة على أن صفته الثابتة والمتجددة، هي الرحمة للاحتياط في الوصف، فإنه لو وصف نفسه بأنه (رحيم) فقط لوقع في النفس أن هذا وصفه الثابت، ولكن قد يأتي وقت لا يرحم فيه كالكريم والخطيب، ولو قال: (رحمن) فقط لظُنَّ أن هذا وصفٌ غير ثابت، كالغضبان والعطشان وهذا الوصف يتحول فيذهب الغضب ويزول العطش، وكذلك الرحمة فجمع بينهما ليدل على أن وصفه الثابت والمتجدد هو الرحمة، فرحمته دائمة لا تنقطع، وهو من أحسن الجمع بين الوصفين، ولا يؤدي الوصف بأحدهما ما يؤدي اجتماعهما. ووقوعهما بعد كلمة (الرب) أحسن موقع، فإن هذا الرب الذي لا رَبَّ غيره، والسيد الذي لا سيد سواه رحيمٌ بعباده، فتنبسط نفوسُ العباد، ويقوى أملهم برحمته، وفيه إشارةٌ إلى أن المربي ينبغي أن يتحلى بالرحمة، وأنه لا ينبغي أن يقسو على مَنْ يربيهم ويرشدهم. كما أن فيه إشارة إلى أن الرحمة ينبغي أن تكون صفة الرب بكل ما تحتملُ من معانٍ. فالمالك ينبغي أن يكون رحيماً بما يملك وبمن يملك، والمربي ينبغي أن يكون رحيماً، والسيد ينبغي أن يكون رحيماً، والمصلح ينبغي أن يكون رحيماً، والقَيِّمُ ينبغي أن يكون رحيماً. فالرحمة ينبغي أن تكون وصف الرب بكل معانيها، وقد وصف الله رسوله، وهو المربي الأعظم والمصلح الأعظم بالرحمة فقال: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] . {مالك يَوْمِ الدين} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 والمعنى: مالك يوم الجزاء. وقرىء (مَلِك) أيضاً وهي قراءة متواترة واختلف في الأوْلى منهما، فرجح بعضهم قراءة: (مالك) ورجح بعضهم قراءة: (ملِك) . والحق أنْ لا تفاضل ولا ترجيحَ بين القراءتين، فكلتا القراءتين متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نزل بهما جبريل من عند الرحمن، غير أنّا نقول: إن لكلِّ قراءة معنى كما هو معلوم، وكل قراءة تستدعي أموراً ربما لا تستدعيها القراءة الأخرى. فالمالك قد يكون ملكاً، وقد لا يكون، والملك قد يكون مالكاً، وقد لا يكون. وتصرّف المالك غير تصرّف الملك، ومما ذكر من الفروق بينهما: 1- أن المالكيةَ سببٌ لإطلاق التصرف، فالمالك يتصرف فيما يملك ما لا يتصرفه الملك من بيعٍ أو هبة، أو إيجار وغير ذلك، وليس للملك أن يبيع رعاياه. 2- "أن الملك ملك للرعية والمالك مالِك للعبيد، والعبد أدْوَن حالاً من الرعية فوجب أن يكون القهر في المالكية أكثر منه في الملكية، فوجب أن يكون المالك أعلى حالاً من الملك". والخلقُ عيالُ الله وعباده وليسوا رعاياه. 3- "إن الرعية يمكنهم إخراج أنفسهم عن كونهم رعية لذلك الملك، باختيار أنفسهم، أما المملوك فلا يمكنه إخراج نفسه عن كونه مملوكاً لذلك المالك باختيار نفسه، فثبت أن القهر في المالكية أكمل منه في الملكية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 4- "إن الملك يجب عليه رعايةُ حال الرعية، قال صلى الله عليه وسلم: "كلُّكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته". ولا يجب على الرعية خدمة الملك. أما المملوك، فإنه يجب عليه خدمة المالك وأن لا يستقل بأمر، إلا بإذن مولاه". 5- إن قراءة (المالك) أرجى من قراءة (الملك) لأن أقصى ما يُرْجى من الملكِ العدلُ والإنصاف وأن ينجو الإنسان منه رأساً برأس. أما المالك فالعبد يطلب منه الكسوة والطعام والرحمة والتربية، فكأنه تعالى يقول: أنا مالكِكُمْ فعليَّ طعامُكم وثيابكم وثوابكم وجنتكم". 6- قيل: إن (مالك) أمدحُ لأنه يحسن أن يضاف إلى من لا يضاف الملك إليه نحو: مالك الإنس والطير والحيوان ومالك الجمادات فهو أوسع لشمول العقلاء وغيرهم ولا يقال: هنا ملك. 7- المالك أكثرُ سلطةً وتصرفاً فيما يملك من الملِك في الرعية ذلك أنَّ المالكية تبقى في يد المالك إذا تصرف فيما يملك بجور أو اعتداء أو سرف. ولا يستطيع أحد انتزاع المملوك من مالكه. 8- إن المالك أرفقُ بما يملك من المَلِكِ، ذلك أن المالك ينظر في أمرِ ما يملك، ويتعاهد أمره ويُصْلح خَلَلَهُ، فمن كان منهم مريضاً عالجه، ومن كان ضعيفاً أعانه، وإن كان جائعاً أطعمه، وإن وقع في بلاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 خَلَّصه. وإن المالك يدافع عما يملك ويحميه، ويحفظه من الاعتداء عليه، وذلك ما لا يفعله الملك. وقصارى ما يفعله المَلِكُ إذا عُرِضَ عليه شخص للقيام بواجبٍ ما، وكان مريضاً أن يرده، ولا يكلفه بالواجب، أما المالك فإنه يعالجه ويقوم بأمره. فالقراءة بها مناسبة للرحمة في قوله تعالى: {الرحمن الرَّحِيمِ} ، ومناسبة ليوم الدين، والخَلْقُ أحوجُ ما يكون آنذاك إلى مالك أمرهم، يرعاهم ويرحمهم. فالقراءة بـ (مالك) كما يقول صاحب (روح المعاني) : "أرفقُ بالمذنبين مثلي وأنسب بما قبله، وإضافته إلى يوم الدين ليكسر حرارته". إلى غير ذلك. وقيل: إن الملك لا يكون إلا أعظم الناس وأعلاهم، ولا يكون إلا واحداً، في حين أن كل واحد من أهل البلد يكون مالكاً فيكون الملك أشرف من المالك. والذي يبدو، إنما أنزلت القراءتان لتجمعا بين معنيي المالك والملك، فيكون مالكاً ملكاً، وذلك نظير قوله تعالى: {مَالِكَ الملك} [آل عمران: 26] . فالمُلك إنما هو لِلمَلِكِ لا لِلمالِكِ، كما قال تعالى على لسان فرعون: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهاذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتيا} [الزخرف: 51] . فجمع بين المالك والملِك، وأفاد أن المُلك إنما هو مِلْك له ولا يتأتى ذلك في قراءة واحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وقد تقول: ولِمَ خصَّ الملك بيوم الدين، ولم يذكر الدنيا. والجواب: أنه قال قبلها: {رَبِّ العالمين} وهو يشمل الدنيا. وأن (يوم الدين) يعني: يوم الجزاء، ولا شك أن مالك يوم الجزاء، هو مالك ما قبله من أيام العمل، وإلا فكيف يجزي على ما ليس ملكاً له؟ وقد تقول: ولِمَ قال: (يوم الدين) ولم يقل: (يوم القيامة) ؟ والجواب: أنه قال ذلك "مراعاة للفاصلة وترجيحاً للعموم، فإن الدين بمعنى الجزاء يشمل جميع أحوال القيامة من ابتداء النشور، إلى السرمد الدائم بَلْ يكادُ يتناولُ النشأةَ الأولى بأسرها، على أن يوم القيامة لا يفهم منه الجزاء مثل يوم الدين". ثم إن (الدين) له معانٍ عدة، كالجزاء والحساب والطاعة والقهر، فيجمعها في المعنى، فذلك اليوم هو يوم الدين كله، فهو يوم الحساب، وهو يوم الجزاء، وهو يوم الطاعة والخضوع لله، وهو يوم يعزُّ فيه أهلَ طاعته، ويقهرُ أهل معصيته، وهو يوم الدين، أي: يوم إعلاء الدين، وإظهار شأنه كما يقال: (اليوم يومك) ، أي: أنت صاحبه والظاهر فيه، و (اليوم يوم المُجِدّين) إلى غير ذلك من المعاني التي تحتملها كلمةُ الدين، ولا يؤدي نحو هذه المعاني: يوم القيامة. جاء في (روح المعاني) : "وأيضاً للدين معانٍ شاع استعماله فيها كالطاعة والشريعة فتذهب نفس السامع إلى كل مذهب سائغ، وقد قال بكلٍّ من هذين المعنيين بعض، والمعنى حينئذ على تقدير مضاف، فعلى الأول، يوم الجزاء الكائن للدين، وعلى الثاني يوم الجزاء الثابت في الدين. وإذا أُريدَ بالطاعة في الأول الانقياد المطلق لظهوره ذلك اليوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 ظاهراً وباطناً، وجعل إضافة (يوم) للدين في الثاني، لِمَا بينهما من الملابسة باعتبار الجزاء لم يحتج إلى تقدير". وهناك أمر آخر وهو أن (يوم الدين) أنسبُ لقوله: (رب العالمين) لشمول العالمين على المكلفين ولا بد، وأنسبُ لأصناف المكلفين التي ذكرتهم السورة من مُنْعَمٍ عليهم، ومَغْضوب عليهم وضالين، لأن من معنى (الدين) الجزاء والحساب والطاعة والقهر، وهذه كلها إنما تكون لهؤلاء فهو أنسب من يوم القيامة الذي لا يُفْهَمُ من معناه اللغوي ما يفهم من يوم الدين ولشموله على أشياء لا تتعلق بالجزاء. فيومُ الدين أنسب من يوم القيامة من كل ناحية. وقد تقول: ولِمَ أضاف الملك إلى اليوم، واليوم لا يملك وإنما يُملك ما فيه؟ والجواب: أن ذلك لقصد العموم، فملك اليوم هو ملكٌ لما فيه ومن فيه. فمالكه مالك لما اشتمل عليه من أمور مادية ومعنوية، فملكية اليوم هي ملكية لكل ما يجري ويحدث في ذلك اليوم ولكل ما في ذلك اليوم، ولكل مَنْ في ذلك اليَوْم، فهي إضافة عامة شاملة لا تقوم مقامها إضافة، ونظيره في كلام الناس: (خليفة العصر والزمان) . جاء في (روح المعاني) : "وتخصيصُ (اليوم) بالإضافة مع أنه تعالى مالكُ وملكُ جميع الأشياء في كل الأوقات، إما للتعظيم وإما لأن المُلك والمِلك الحاصلين في الدنيا لبعض الناس، بحسب الظاهر، يزولان، وينسلخ الخلق عنها انسلاخاً ظاهراً في الآخرة: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 فَرْداً} [مريم: 95] وينفرد سبحانه في ذلك اليوم انفراداً لا خفاء فيه، ولذلك قال سبحانه: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19] و {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] . واقتران الحمد بهذه الصفات أحسن اقتران وأجمله، فالله محمودٌ بذاته وصفاته، فإن (الله) اسم للذات العلية المتصفة بالصفات العليا، فقولك: (الحمد لله) معناه: أنه المستحقُّ للحمد بذاته وجميع صفاته، وأنه محمودٌ بربوبيته للعالمين، فإن من الأرباب مَنْ لا تُحمَدُ ربوبيته، أما الله سبحانه فهو محمود بكل معاني الربوبية، وهو محمود في كونه رحماناً رحيماً، وليست كل رحمة محمودة، فإذا وضعت الرحمة في غير محلها، كانت عيباً في صاحبها، أما الله فمحمود في رحمته يضعها في محلها، ويكتبها لمستحقيها، ولذلك كان من الناس صنف منعَماً عليهم وصنف مغضوباً عليهم. وهو محمودٌ يوم الدين محمودٌ في مالكيته وملكه لذلك اليوم كله. وقد استغرق هذا الحمد الأزمنة كلها، فقد استغرق الحمد حين كان الله ولم يكن معه شيء وهو قوله: (الحمد لله) . واستغرق الحمد حين خلق العالم وربَّه وأنشأه وذلك قوله: (رب العالمين) ، واستغرق الحمد، وقتَ كانت الرحمة تنزلُ وهي لم تنقطع، ولا تنقطع وذلك قوله: (الرحمن الرحيم) ، واستغرق الحمد يوم الجزاء كله، ويوم الجزاء لا ينتهي لأن الجزاء لا ينتهي، فأهل الجنة خالدون فيها وأهل النار خالدون فيها. وجزاء كل منهم فيها غير مُنْقَضٍ، فذلك هو يوم الدين. جاء في "حاشية الجرجاني على الكشاف" في قوله: {مالك يَوْمِ الدين} "فإن الجزاء يتناول جميع أحوال الآخرة إلى السرمد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 فاستغرق الحمد الزمان كلَّه من الأزل إلى الأبد، ولم يترك منه شيئاً، فكان كقوله: {لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة} [القصص: 70] . وشمل ذلك قوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحق وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين} [الزمر: 75] . وقوله: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [يونس: 10] . فلم يترك شيئاً من الحمد إلا ذكره، ولم يترك وقتاً منذ الأزل إلى الأبد حيث لا ينقطع الزمن إلا استغرقه فكانت هذه السورة جديرة بأن تسمى أم الكتاب. جاء في (التفسير القيم) : "في ذِكْرِ هذه الأسماء بعد الحمد، وإيقاع الحمد على مضمونها ومقتضاها ما يدل على أنه محمود في إلهيته، محمود في ربوبيته، محمود في رحمانيته، محمود في ملكه، وأنه إله محمود، ربٌّ محمود، ورحمن محمود وملك محمود". {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . قدم مفعولي (نعبد) و (نستعين) لقصد الاختصاص، والمعنى، نَخُصُّكَ بالعبادة ونخصك بالاستعانة، فلا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك إذ لا تصح العبادة إلا لله، ولا تجوز الاستعانة إلا به، وهو نظير قوله تعالى: {بَلِ الله فاعبد} [الزمر: 66] . وقوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون} [الزمر: 64] . وقوله: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} [الممتحنة: 4] . وقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} [هود: 88] . وقوله: {وَعَلَى الله فتوكلوا} [المائدة: 23] . ولو قيل: نعبدك ونستعينك، لم يُفِدْ نفيَ عبادتهم لغيره، ولا الاستعانة بغيره، وذلك نظير قولك: (أكرمتك) و (إياك أكرمت) . فقولك: (أكرمتك) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 يفيد أن المتكلمَ أكرمَ المُخاطَبَ، ولا يفيد أنه خَصَّهُ بالإكرام بخلاف قوله: (إياك أكرمت) فإنه يفيد أنه خَصَّهُ بالإكرام فلم يُكْرِمْ أحداً غيره. وتكرير (إياك) مع فعل الاستعانة يفيد التخصيص على حصر الاستعانة به، فإنه لو قال: (إياك نعبد ونستعين) لأفاد أنه يخصه بالعبادة، ولم يُفِدْ أنه يخصّه بالاستعانة نصّاً، بل لم يعيّن الذات التي يستعين بها أيضاً. كما أنه لو اقتصر على ضميرٍ واحد فقال: (إياك نعبد ونستعين) لربما أفهم أنه لا يتقرب إليه إلا بالجمع بين العبادة والاستعانة، فلا يعبد من دون استعانة ولا يستعين من دون عبادة وهو غير صحيح، ونظيره أن تقول: (إياك أعطي وأحذر) فإن هذا قد يفهم أن الحذر يكون مع العطاء ولا يكون عطاء على وجه الاستقلال، أو حذر على وجه الاستقلال، وربما أفهم أيضاً الاستقلال في العطاء والحذر. فإن قال: (إياك أُعطي وإياك أحذر) أفاد أنه يخصه بالعطاء، وأنه يخصه بالحذر على كل وجه سواء اجتمع العطاء والحذر أم لم يجتمعا. جاء في (روح المعاني) : "في سر تكرار (إياك) فقيل: للتخصيص على طلبِ العون منه تعالى، فإنه لو قال سبحانه: (إياك نعبد ونستعين) لاحتمل أن يكون إخباراً بطلب المعونة من غير أن يعين ممن يطلب. وقيل: لو اقتصر على واحد ربما توهم أنه لا يتقرب إلى الله تعالى إلا بالجمع بينهما، والواقع خلافه". ثم إن في تكرير (إياك) من الاهتمام والقوة ما ليس في الحذف، فقولك: (إياك أحفظ وإياك أرعى) أقوى من (إياك أحفظ وأرعى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 جاء في (التفسير القيم) : "ففي إعادة الضمير من قوة الاقتضاء لذلك ما ليس في حذفه، فإذا قلت لملك مثلاً: إياك أحبُّ وإياك أخاف، كان فيه من اختصاص الحب والخوف بذاته والاهتمام بذكره، ما ليس في قولك: إياك أحب وأخاف". فاقتضى التكرار من كل وجه. ثم لننظر من ناحية أخرى، كيف أطلق فِعْلَ الاستعانة ولم يقيده بشيء، فإنه قال: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ولم يقل: نستعين على كذا، أو على كذا فلم يقل مثلاً: (نستعين على العبادة) أو نستعين على الطاعة، أو ما إلى ذلك، وذلك أنه أراد إطلاق الاستعانة لتشمل كل شيء يريده الإنسان، ولا يخصها بشيء، فهو يستعينُ بالله على العبادة، وعلى طلب الرزق، وعلى النصر على الأعداء، وعلى أن ييسر له أموره، وعلى أن يقضي له حوائجه، فتشمل كل أمور الدنيا والآخرة. قيل: ولو خصَّ الاستعانة بالعبادة والطاعة، لبقي حكم الاستعانة في غيرها مجهولاً. جاء في (روح المعاني) : "في سر إطلاق الاستعانة فقيل: ليتناول كلَّ مُستعانٍ فيه، فالحذف هنا مثله في قولهم: (فلان يعطي) في الدلالة على العموم. وأيضاً لو كان المَرادُ الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة، لبقي حكم الاستعانة في غيرها غير معلوم في أم الكتاب". ثم لننظر من ناحية أخرى، كيف عبر عن العبادة والاستعانة بلفظ الجمع، لا الإفراد فقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ولم يقل: (أعبد وأستعين) ، وذلك إشارة إلى أهمية الجماعة في الإسلام فالدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الإسلامي ليس ديناً فردياً، بل هو دينٌ جماعي، وكثيرٌ من مظاهر الجماعية واضحٌ فيه كصلاة الجماعة وهي تَفضُلُ صلاةَ الفرد بسبعٍ وعشرينَ درجة، ولست المساجدُ إلا مظهراً من مظاهر الجماعية، وهذه السورة التي تَتَرَدَّدُ في كل ركعة من ركعات الصلاة فيها إشارة إلى أهمية الجماعة، بكلمة نعبد ونستعين واهدنا. والحج أكبر مظهر جماعي، والزكاة والصدقات من أكبر مظاهر التكافل الاجتماعي، والجهاد من شؤون الجماعة ويعلنه أمير المؤمنين، والصوم في الإسلام ليس عبادة فردية محضة بل هو عبادة جماعية، فتخصيصه بشهر معين يلتزم به كل المجتمع المسلم وليس كما يرغب الفرد، من أكبر مظاهر الجماعية، وتعيين الأعياد ووجوب الإفطار فيها فلا يشذ فرد واحد عن المجتمع من أكبر مظاهر الجماعية، وعيادة المرضى أمرٌ جماعي، وغير ذلك وغيره كل ذلك من مظاهر الجماعة. جاء في (تفسير الرازي) : "إن المراد من هذه النون نون الجمع، وهو تنبيه على أن الأولى بالإنسان أن يؤدي الصلاة بالجماعة ... الوجه الثالث: إن المؤمنين إخوة، فلو قال: (إياك أعبد) لكان قد ذكر عبادة نفسه ولم يذكر عبادة غيره. أما لما قال: (إياك نعبد) كان قد ذكر عبادة نفسه وعبادة جميع المؤمنين، شرقاً وغرباً، فكأنه سعى في إصلاح مهمات المسلمين". وجاء في (فتح القدير) : "والمجيء بالنون في الفعلين لقصد الإخبار من الداعي عن نفسه، وعن جنسه من العباد. وقيل: إن المقام لما كان عظيماً لم يستقلّ به الواحد استقصاراً لنفسه واستصغاراً لها، فالمجيء بالنون لقصد التواضع لا لتعظيم النفس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وقرنت العبادة بالاستعانة ليدل على أن الإنسان لا يستطيع أن يقوم بعباة الله إلا بإعانة الله وتوفيقه، ولا ينهض بها إلا بالتوكل عليه، فهو إقرار بالعجز عن حمل هذه الأمانة الثقيلة، إذا لم يُعِنه الله على ذلك، فالاستعانة بالله علاجٌ لغرور الإنسان وكبريائه وهما داءان قتّالان "وليجمع بين ما يتقرب به العباد إلى ربهم وبين ما يطلبونه ويحتاجون إليه من جهته". وقُدِّمت العبادةُ على الاستعانة لعدة وجوه منها: إنَّ العبادة هي عِلَّةُ خَلْقِ الإنس والجن {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . وإنها الغايةُ من خَلْقهم، وإن الاستعانة إنما هي وسيلةٌ للقيام بها، فكانت العبادةُ أولى بالتقديم لأنَّ الغاية مقدمة على الوسيلة. جاء في (روح المعاني) : "إنَّ العبادة واجبةٌ حتماً لا مناص للعباد من الإتيان بها حتى جعلت كالعلة لخلق الإنس والجن فكانت أحق بالتقديم". وجاء في (التفسير القيم) : "إن تقديم العبادة على الاستعانة في الفاتحة من باب تقديم الغايات على الوسائل، إذ العبادة غاية العباد التي خُلِقُوا لها والاستعانة وسيلة إلَيْها". ومنها: أن العبادة قَسْمُ الربِّ وحَقُّه، وأن الاستعانة مرادُ العبد، ومن الطبيعي أن يقدم العبد ما يستوجب رضا الرب ويستدعي إجابته قبل أن يطلب منه شيئاً وهو التذلل لله والخضوع بين يديه بالعبادة. فكان القيام بالعبادة مظنة استجابة طلب الاستعانة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 ومنها: أن العبادة حقُّ الله وقسمه والاستعانةُ قسمُ العبد، وحقُّ الله أولى بالتقديم. ومنها: أنَّ العبادة أكثرُ مناسبةً للجزاء أعني قوله: {مالك يَوْمِ الدين} والاستعانة أنسب لطلب الهداية، فوضعَ كلَّ تعبير مع ما يناسبه. جاء في (روح المعاني) : "إنها - أي العبادة - أشد مناسبة بذكر الجزاء، والاستعانة أقوى التئاماً بطلب الهداية". ومنها: أن " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} متعلقٌ بألوهيته واسمه (الله) . و {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} متعلق بربويته واسمه الرب، فقدم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} كما تقدم اسم الله على الرب في أول السورة". ومنها: أن {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} هو قسم الله "فكان مع الشطر الذي هو ثناء على الله تعالى لكونه أولى به. و {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قسم العبد فكان مع الشطر الذي له وهو {اهدنا الصراط المستقيم} إلى آخر السورة". وهذا التعبير هو نظير قوله تعالى: {فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] . فقدم العبادة على التوكل. هذا علاوة على أن في تأخير فعل الاستعانة توافقاً مع خواتيم الآي في السورة. فاقتضى تقديم العبادة من كل وجه. فإن قلت: كان قياس الكلام أن يقول: (إياه نعبد وإياه نستعين) فَلِمَ قال: (إياك نعبد ... ) بالخطاب؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 والجواب: أنَّ هذا يسمى التفاتاً في علم البلاغة، والالتفاتُ قد يكون عدولاً من الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى الخطاب، ومن ذلك قوله تعالى: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] . فعدل من الخطاب إلى الغيبة. وللالتفات فائدةُ عامةٌ وفوائد يقتضيها المقام، أما الفائدة العامة فهي "أنَّ الكلامَ إذا نُقِلَ من أسلوب إلى أسلوب كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع، وإيقاظاً للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد". ومن فوائده التي اقتضاها المقام "أنه لما ذكر الحقيق بالحمد وأجرى عليه تلك الصفات العظام تَعلَّقَ العلمُ بمعلومٍ عظيمِ الشأن، حقيق بالثناء، وغاية الخضوع والاستعانة في المهمات فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات، فقيل: إياك يا مَنْ هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة، لا نعبد غيرك، ولا نستعينه، ليكون الخطاب أدلَّ على أن العبادة له، لذلك التميز الذي لا تحق العبادة إلا به". ومنها: أنه لما وُصِفَ بأنه رب العالمين عُلِمَ أنه حاضرٌ في كل مكان وزمان وليس غائباً ذلك لأنه رب العالمين جميعاً، فلا يغيب عنهم، ولا يغيبون عنه، فلما علم حضوره نودي بنداء الحاضر المخاطب. "ونظير هذا أنك تذكر شخصاً متصفاً بأوصاف جليلة مُخْبِراً عنه إخبار الغائب ويكون ذلك الشخص حاضراً معك، فتقول له: إياك أقصد، فيكون في هذا الخطاب من التلطُّف على بلوغ المقصود ما لا يكون في لفظ (إياه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ومنها: أنه "ذكر توطئةً للدعاء في قوله: اهدنا". ثم إنَّ الطلبَ من الحاضر أقوى من الطلب من الغائب. "ومنها: أن الكلام من أول السورة إلى هنا ثناءٌ، والثناء في الغيبة أَوْلى، ومن هنا إلى الآخر دعاءٌ، وهو في الحضور أولى، والله تعالى حييٌّ كريم. وقيل: "إنه لما كان الحمد لا يتفاوت غيبة وحضوراً، بل هو مع ملاحظة الغيبة أدخل وأتم، وكانت العبادة إنما يستحقها الحاضر الذي لا يغيب كما حكى سبحانه عن إبراهيم، عليه السلام {فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين} [الأنعام: 76] . لا جَرمَ عَبَّرَ سبحانه وتعالى عن الحمد بطريق الغيبة وعنها بطريق الخطاب إعطاء لكلٍّ منهما ما يليقُ من النسق المستطاب". وقيل غير ذلك، والله أعلم. {اهدنا الصراط المستقيم} . معنى الهداية الإرشاد والدلالة والتبيين والإلهام. وفعل الهداية قد يُعدَّى بنفسه نحو قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان: 3] . وقوله: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} [الفتح: 2] ، وقد يُعدَّى بإلى كقوله: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] . وقوله: {وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ فتخشى} [النازعات: 19] . وقد يعدى باللام كقوله: {الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهاذا} [الأعراف: 43] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وقيل: إن الفرق بين التعدية بالحرف والتعدية من دون حرف أن التعديةَ بالحرف تقال إذا لم يكن فيه ذلك فيصل بالهداية إليه، وإن التعدية من دون حرف تقال لمن يكون فيه ولمن لا يكون فيه، فتقول: هَدَيتهُ إلى الطريق وهديته للطريق لمن لا يكون في الطريق فتوصله إليه، وتقول: (هديته الطريق) لمن كان فيه فَتُبصِّرهُ به وتُبَيِّنهُ له، وتقوله أيضاً لمن لا يكون فيه فتوصله إليه. قال تعالى على لسان إبراهيم، عليه السلام، قائلاً لأبيه: {فاتبعني أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} [مريم: 43] . وأبوه ليس في الصراط، بل هو بعيد عنه. وقال تعالى في المنافقين: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقتلوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخرجوا مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لأتيناهم مِّن لَّدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} [النساء: 66-68] . والمنافقون ليسوا على الصراط. وقال على لسان رسل الله: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [إبراهيم: 12] . وهم في الصراط. وقال مخاطباً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم: {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} [الفتح: 2] . وهو سالك للصراط. فتعديةُ الفعل بنفسه تقال لمن كان فيه أي في الصراط ولمن لم يكن فيه. أما التعدية باللام وإلى فتكون لمن لم يكن فيه، وذلك نحو قوله تعالى على لسان الخصمين اللذين جاءا داود، عليه السلام، ليحكم بينهما: {فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط} [ص: 22] . وقوله: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق} [يونس: 35] . أي: يوصل إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 جاء في تفسير ابن كثير: "وقد تُعدَّى الهداية بنفسها كما هنا: {اهدنا الصراط المستقيم} فتضمن معنى ألهمنا أو وَفِّقنا أو ارزقنا أو أعطنا {وَهَدَيْنَاهُ النجدين} [البلد: 10] أي: بيّنا له الخيرَ والشر". وقد تُعدى بإلى كقوله تعالى: {اجتباه وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النحل: 121] . {فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم} [الصافات: 23] . وذلك بمعنى الإرشاد والدلالة وكذلك قوله: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] . وقد تعدى باللام كقول أهل الجنة: {الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهاذا} [الأعراف: 43] . أي وفَّقنا لهذا وجعلنا له أهلاً". وفي اللسان: "هديته الطريق والبيت هداية، أي: عَرَّفته، لغة أهل الحجاز، وغيرهم يقول: هديته إلى الطريق، وإلى الدار، حكاها الأخفش". قال ابن بري: يقال: هديته الطريق بمعنى عرّفته فيعدى إلى مفعولين، ويقال: هديته إلى الطريق، وللطريق على معنى أرشدته إليها. فيعدى بحرف الجرِّ كأرشدت قال: ويقال: هديت له الطريق على معنى بَيَّنتُ له الطريق". وفيه أيضاً أن "هديت لك في معنى (بينت لك) وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} [السجدة: 26] . قال أبو عمرو: أَوَ لم يُبَيِّنْ لهم". فعلى هذا يكون: (هداه الطريق) بمعنى عرّفه الطريق، و (هداه إلى الطريق وللطريق) بمعنى أرشده إليه، ويقال: (هداه للطريق) بمعنى بيّنه له أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ويبدو أن الهداية على مراتب، فالبعيدُ الضالُّ عن الطريق، يحتاج إلى هادٍ يدلّه على الطريق، ويوصله إليه، فهنا نستعمل (يهدي إلى) أي: يوصل إلى ويرشد إلى. والذي يصل إلى الطريق يحتاج إلى هادٍ يعرّفه بأحوال الطريق ومراحلها، وما فيها من مخاوف وأماكن الهلكة والأمن ويعرّفه بما يحتاجه السالك في هذه الطريق، وهنا نستعمل (هداه الطريق) . أما اللام فإنها تستعمل في اللغة للتعليل، أي: لبيان الغاية من الحدث، وقد تستعمل لانتهاء الغاية أيضاً كأن تقول (جئتُ لطلبِ العلم) أي إنَّ طَلَبَ العلم غاية المجيء وعِلَّته، و (جئت للدار) بمعنى: جئت إليها. وقد تستعمل اللام مع الهداية لبيان الغاية من الحدث، فسالك السبيل يريد الوصول إلى غاية وليس الطريق غاية في نفسه، فيؤتى باللام عند هذه الغاية فيقال: (هداه لكذا) أي: أبلغه لها، فكانت غاية سلوكه وسيره. والإنسان محتاج إلى هذه الهدايات كلها، فإن ضلَّ احتاج من يهديه إلى الطريق، وإن وصل احتاج مَنْ يُعرّفهُ بالطريق، وإن سلك احتاج الوصول إلى الهدف، وألاّ ينقطع في الطريق، وإن قطع الطريق، احتاج إلى من يبلغه غايته، وأن ينيله مرامه ويهديه له. وعند ذلك يقول كما قال أصحاب الجنة، بعد أن قطعوا الطريق وبلغوا مرادهم {الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهاذا} [الأعراف: 43] . أي: وفقنا لهذا في خاتمة المطاف، وهي خاتمة الهدايات. ولذا لم نجد استعمال (هدى) مُعَدَّى باللام في القرآن الكريم مع السبيل أو الصراط فلا تجد مثل (هداه لصراط مستقيم) أو (هداه لسبيل مستبين) لأن الصراط ليس هو الغاية؛ بل هو طريقٌ يُوصِلُ إلى الغاية فهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 مطلوب لغيره فيقال: هداه إلى الصراط وهداه الصراط. قال تعالى: {بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات: 17] . فجعل الإيمان غاية، ذلك أن الإيمان من الأمن، وهو استقرار النفس وطمأنينتها، وأكثر ما يرهق الإنسان فَقْدُ أمنه النفسي فبلوغه غاية من أعظم الغايات. وقال: {قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ} [يونس: 35] . وقال: {إِنَّ هاذا القرآن يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] . وقال: {الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهاذا} [الأعراف: 43] . وقال: {يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ} [النور: 35] . ولم يَرِدْ ذِكْرٌ للسبيل أو نحوه مع اللام كما ترى بل هذه كلها غايات، فالإيمان والحق والتي هي أقوم والنورُ والجنة، كلها غاياتٌ مُرادةٌ مطلوبة، وقد استعملت اللام معها. والملاحظ أيضاً أن هذه الهداية، وهي الهداية للغاية والانتهاء إليها اختصَّها اللهُ لنفسه أو لقرآنه، فلم يستعمل (هدى لكذا) إلاّ له سبحانه أو لكتابه فهو المبلغ للغايات بخلاف هداه كذا أو هداه إلى كذا، فقد استعمله له ولغيره، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] . وقال: {فاتبعني أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} [مريم: 43] . وقد تقول: لكن القرآن استعمل تعبيرين أحياناً في سياق واحد، مما يدل على أنهما بمعنى واحد، وذلك نحو قوله تعالى: {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلام وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15-16] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 فقال: {يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلام} فَعدَّى الفِعْلَ بنفسه إلى {سُبُلَ السلام} ثم قال: {وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} فعدَّاه بالحرف (إلى) مما يدل على أنهما بمعنى واحد. ونحو قوله: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يهدي إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يهدي إِلاَّ أَن يهدى} [يونس: 35] . فعداه مرة بإلى ومرة باللام فقال: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق} فعدّاه بإلى ثم قال: {قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ} فعداه باللام، ثم قال: {أَفَمَن يهدي إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ} فجعلها بمعنى واحد. والحق أنها ليست بمعنى واحد، وأن هناك ما يقتضي هذا الاختلاف، فبالنسبة إلى الآية الأولى وهي قوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلام وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} فإن الذي اتَّبعَ رضوانَ الله ليس ضالاً ولا مبتعداً عن الصراط بل هو فيه، فهو محتاج إذن إلى مَنْ يهديه الطريق ويعرّفه إياه، وليس محتاجاً إلى من يوصله إليه، وأما الذي في الظلمات فيحتاج إلى من يخرجه منها ويدلّه على الطريق ويوصله إليه فهو ليس في الطريق الصحيح ولذا قال: {وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي: يوصلهم إليه. فاقتضى كل موضع التعبير الذي ورد فيه. فاقتضى الأمر بالنِّسبة إلى الآية الثانية، وهي قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يهدي إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يهدي إِلاَّ أَن يهدى} [يونس: 35] . فإن الشركاء لا يستطيعون الدلالة على الحق والإرشاد إليه أصلاً. ولكن الله يهدي إلى الحق وللحق، فالله يرشد إليه ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 يوصلك إلى المنتهى ويُبلِّغك المراد فهو لا يكتفي بأن يقول لك إنّ الطريق من هنا بل يعرّفك به ويوصلك إلى طلبتك، إنك قد تسأل شخصاً عن الطريق فيرشدك إليه ويقول لك: الطريق من هنا، أو ذلك هو الطريق، ولكنه لا يعرف مراحل الطريق ولا يدري ما فيه بَلْه إيصالكَ إلى المنتهى وتنويلك المبتغى، فآلهتهم لا تهدي إلى الحق، أي: لا تُرشد إليه لأنها لا تعرف أين هو بَلْه التعريفَ به والإيصال إلى خاتمته لحين تنويل المراد. إن الله سبحانه وتعالى لا يهدي إلى الحق فقط، بل يعرّفك إياه ويبيّنه لك، ويبلّغك إياه، وأما شركاؤهم فلا يدرون الحق أين هو؟ وفرقٌ بعيد بين الحالين فشركاؤهم لا يعرفون مبتدأ الطريق، والله يوصلك إلى الخاتمة ويبلغك المراد. فالفرق واضح بين التعبيرين. ونعود إلى قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} فقد عَدَّى فِعْلَ الهداية بنفسه، ولم يُعَدِّهِ بالحرف وذلك ليجمع عدة معانٍ في آن واحد، ذلك أن التعديةَ من دون حرفٍ تُقالُ لمن يكون فيه ولمن لا يكون فيه، فهنا نطلب الهداية لمن كان في الطريق فيعرّفه به ويبصّره بشأنه، ولمن ضل وانحرف من المؤمنين عن الجادّة فيرده إلى الجادة فشمل القسمين. ولما كان هؤلاء من الموحدين الحامدين لله كان المعنى علاوةً على ما مَرَّ طلب استمرار الهداية على الطريق المستقيم، والتثبيت على الهدى والزيادة فيه كما قال تعالى: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17] . "فإن العبد مفتقر في كل ساعة وحالة إلى الله تعالى في تثبيته على الهدى ورسوخه فيها، وتبصره وازدياده منها واستمراره عليها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 فيكون معنى {1649;هْدِنَا الصراط المستقيم} عرِّفنا الطريقَ الحق وردّنا إليه ردّاً جميلاً إذا ما ضللنا أو انحرفنا، وثَبِّتنا على الهدى وزِدْنا هدى. جاء في (البحر المحيط) : ومضمون هذه الجملة طلب استمرار الهداية إلى طريق مَنْ أنعم الله عليهم، لأن مَن صَدَر منه حمد الله وأخبر بأنه يعبده ويستعينه، فقد حصلت له الهداية، لكن يسأل دوامها واستمرارها". وجاء في (روح المعاني) : "وللمحققين في معنى (اهدنا) وجوه ... أحدها: أن معناه ثَبِّتنا على الدين كيلا تزلزلنا الشُّبَه وفي القرآن {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] . وفي الحديث: "اللهم يا مُقلِّبَ القلوبِ ثَبِّتْ قلوبنا دينك" وثانيها: أعطنا زيادة الهدى، كما قال تعالى: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17] . وثالثها: أن الهداية الثواب، كقوله تعالى: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس: 9] . ورابعها: أن المراد دُلَّنا على الحق في مستقبل عمرنا، كما دَلَلْتنا عليه في ماضيه". وقد تقول: ولِمَ لَمْ يقدم المفعول مع الهداية كما فعل مع العبادة والاستعانة؟ لِمَ لم يقل: (إيَّانا اهدِ) كما قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ؟ والجواب: أنه لا يصح التقديم لأنه لا يصلح طلب التخصيص بالهداية دون سائر الناس فلا يصح أن تقول: (اللهم اهدني ولا تهدِ أحداً سواي) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 أو: (اللهم ارحمني ولا ترحم أحداً غيري) بل لكَ أنْ تسأل الهداية لنفسك ولا تَقْصرها عليكَ، فلو قلت: (إيانا اهد) لكان المعنى: اهدنا ولا تهدِ أحداً سوانا، وهذا لا يصح. ثم انظر من ناحية أخرى كيف قال: (اهدنا) ولم يقل: (اهدني) ؟ وذلك لأكثر من سبب: منها: أنه مناسبٌ للجمع في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، "لأنه لما أخبر المتكلم أنه هو ومن معه يعبدون الله ويستعينونه سأل له ولهم الهداية إلى الطريق الواضح، لأنهم بالهداية إليه تَصحُّ منهم العبادة. ألا ترى أن من لم يهتد إلى السبيل الموصلة لمقصوده لا يصح له بلوغ مقصوده". وجاء في (تفسير الرازي) : "كأن العبد يقول: سمعت رسولك يقول: (الجماعة رحمة والفرقة عذاب) فلما أردت تحميدك ذكرت حمد الجميع فقلت: (الحمد لله) ، ولما ذكرت العبادة ذكرت عبادة الجميع فقلت: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، ولما ذكرت الاستعانة ذكرت استعانة الجميع فقلت: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فلا جرم لما طلبت الهداية طلبتها للجميع فقلت: {اهدنا الصراط المستقيم} ، ولما طلبت الاقتداء بالصالحين طلبت الاقتداء بالجميع فقلت: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ، ولما طلبت الفرار من المردودين فررت من الكل فقلت: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} . ومنها: "أن الدعاء كلما كان أعم كان إلى الإجابة أقرب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ومنها: أن فيه أن تحب للآخرين ما تحب لنفسك فيغسل ما في النفس من درن الأَثَرة ونوازع الانفراد بالخير، ويشيع عند المسلم حب التعاون. ومنها: إشاعة الروح الجماعية بين الأفراد. ومنها: أن الاجتماع على الهدى، تثبيتٌ وقوة، وأن كثرة السائرين على الطريق تورث الأُنس وتهوِّن مشقة السير بخلاف الانفراد في السير فإنه يورث الوحشة ويستجلب الملل، إن الإنسان إذا كان معه سالكون لم يستوحش، وكلما كثر السالكون شاع الأمن ورسخت الطمأنينة، أما السالك وحده فإنه قد يستوحش وقد يضعف وقد يسقط، وقد تأكله الذئاب، ويد الله مع الجماعة وإنما يأكل الذئبُ من الغنم القاصية. وهذا الأمر حاصل لمن سلك سبل الدنيا ولمن سلك سبل المبادىء والقيم سواء بسواء، وهو في الثانية أظهر وأخطر. ثم انظر من ناحية أخرى، كيف ارتبط قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} بأول السورة ووسطها وآخرها. فارتبط بقوله: {رَبِّ العالمين} في أول السورة، لأن من معاني الرب المربي، وأول مهامّ المربي هي الهداية كما ذكرنا. وارتبط بقوله: {الرحمن الرَّحِيمِ} لأن مَنْ هداه الله فقد رحمه، فإنك تطلبُ من الرحمن الرحيم أن لا يتركك ضالاًّ لا تهتدي إلى الطريق، فإن رحمته تأبى أن يترك مَنْ سأله الهداية والنجاة من الضلال والضياع ضالاً مُضيَّعاً. وارتبط بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لأن العبادة ينبغي أن تكون على الطريقة الصحيحة التي يرتضيها الله، ولا تتحقق العبادة إلا بالهداية إلى الطريق المستقيم، فلا يمكن أن تعبده عبادة صحيحة وأنت ضال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وارتبط بقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ومن الاستعانة أن تطلب منه الهداية والثبات عليها. وارتبط بقوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} لأن المُنْعَمَ عليهم هم الذين سلكوا الصراط المستقيم. وارتبط بقوله: {وَلاَ الضآلين} في آخر السورة لأن الضالين هم التائهون عن الطريق، السالكون غيرَ جادةِ الحق، والهدى ضد الضلال، وكثيراً ما يجمع القرآن بين الهدى والضلال على أنهما متضادان، قال تعالى: {يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} [النحل: 93] وقال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} [البقرة: 26] . وغير ذلك كثير. واختيارُ كلمة (صراط) دون كلمة (طريق) أو (سبيل) له سببه، ذلك أن (صراط) على وزن (فِعال) من (صراط) وهو من الأوزان الدالة على الاشتمال كالرباط والشِّداد، فيشتمل على كل السالكين، ولا يضيق بهم فهو واسع رَحْبٌ بخلاف كلمة (طريق) فإنها (فعيل) بمعنى (مفعول) من (طرق) بمعنى مطروق، وهذا لا يدل في صيغته على الاشتمال، فقد يضيق بالسالكين ولا يستوعبهم. وكذلك كلمة (السبيل) فهي كأنها (فعيل) بمعنى (مفعول) من أسبلَتِ الطريقُ إذا كثرت سابِلَتُها كالحكيم بمعنى المُحكَم. والسابلة من الطريق المسلوكةُ يقال: سبيل سابلة، أي: مسلوكة. وقد جاء بالصراط مفرداً مُعَرَّفاً بتعريفين: بالألف واللام والإضافة، وموصوفاً بالاستقامة مما يدل على أنه صراط واحد، ليس ثمة صراط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 غيره، فإنه ليس بين النقطتين أكثر من مستقيم واحد. فالصراط المستقيم هو طريق الإسلام وهو دين الله، ووصفه بالاستقامة ليدلّ على أنه أقصر الطرق وأقربها إلى المطلوب فلا يشق على السالك، وما عداه من الطرق معوجٌّ، ولا يوصل إلى المقصود فإنه لا يوصل أكثر من مستقيم واحد بين نقطتين. إن المراد من السلوك على الصراط، هو الوصول إلى الله تعالى كما قال: {إِنَّ هاذه تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} [الإنسان: 29] . وربنا على صراط مستقيم والذي يوصل إليه صراط مستقيم كما قال: {إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود: 56] . وقال: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [الحجر: 41] . فتعين السلوك على هذا الصراط للوصول إليه. والوصول إليه معناه الوصول إلى رضاه، وإلاّ فكلنا مردودون إليه وملاقوه. جاء في (تفسير الرازي) : "اعلم أن أهل الهندسة قالوا: الخط المستقيم هو أقصر خط يصل بين نقطتين. فالحاصل أن الخط المستقيم أقصر من جميع الخطوط المعوجّة، فكان العبد يقول: {اهدنا الصراط المستقيم} لوجوه: الأول: أنه أقرب الخطوط وأقصرها، وأنا عاجز فلا يليق بضعفي إلا الطريق المستقيم. الثاني: أن المستقيم واحد وما عداه معوجة، وبعضها يشبه بعضاً في الاعوجاج، فَيَشْتَبِهُ الطريقُ عليَّ. أما المستقيم فلا يشابهه غيره، فكان أبعد عن الخوف والآفات وأقرب إلى الأمان. الثالث: الطريق المستقيم يوصل إلى المقصود، والمعوج لا يوصل إليه. الرابع: المستقيم لا يتغير، والمعوج يتغير". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وجاء في (التفسير القيم) : "وذكر الصراط المستقيم منفرداً مُعَرَّفاً بتعريفين، تعريفاً باللام، وتعريفاً بالإضافة، وذلك يفيد تعيينه واختصاصه، وأنه صراط واحد. وأما طرق أهل الغضب والضلال، فإنه سبحانه يجمعها ويفردها كقوله: {وَأَنَّ هاذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] . فوحَّد لفظ الصراط وسبيله وجمع السبل المخالفة له ... وهذا لأن الطريق الموصل إلى الله واحد، وهو ما بعث به رُسُلَهُ وأنزل به كتبه لا يصل إليه أحد إلا من هذه الطريق، ولو أتى الناس من كل طريق واستفتحوا من كل باب فالطريق عليهم مسدودة، والأبواب عليهم مغلقة، إلا من هذا الطريق الواحد". والملاحظ أن القرآن لم يأت بكلمة الصراط، إلا مُفْرَدَةً فلم يستعملها مجموعة بخلاف السبيل فإنه يفردها ويجمعها، ذلك أن الصراط هو أوسع السبل، وهو الذي تُفضي إليه السبل. قال تعالى: {وَأَنَّ هاذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] فجعله صراطاً واحداً وهو صراطٌ مستقيم ثم قال: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل} . وقال: {يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلام} [المائدة: 16] . فذكر السبل بالجمع، وهي طرق الخير المتعددة في الإسلام. وقال: {والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] . فجعل له سبلاً متعددة، في حين لم يجعل له إلا صراطاً واحداً، وهو الصراط المستقيم. ثم زاد هذا الصراط بياناً وتوضيحاً، فقال: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} فذكر أنه صراط الذين أنعم الله عليهم، وسَلِمُوا من الغضب والضلال. وقد جمع الله أصناف المكلفين في هذه الآية وانتظمهم كلهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 فهم إما أهل السعادة، وهم الذين أنعم الله عليهم. وإما أهل الشقاوة وهم صنفان: صنف عرف الحق، وخالفه فلم يعمل بمقتضاه وهم المغضوب عليهم. وصنف لم يعرف الحق، وهم الضالون، لأن مَنْ لم يعلم الحق ضال، قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً * الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103-104] . جاء في (تفسير البيضاوي) : "ويتجه أن يقال: المغضوب عليهم: العصاة، والضالين: الجاهلون بالله". ولا يخرج أصناف المكلفين عن هؤلاء، فالسعداء هم أهل الطاعة الذين عرفوا الحق، وعملوا بمقتضاه وهم الذين أنعم الله عليهم. والأشقياء هم الصنفان الآخران، فجمعهم أحسنَ جمعٍ وأوجزه. جاء في (تفسير الرازي) : "دلت هذه الآية على أن المكلفين ثلاث فرق: أهل الطاعة وإليهم الإشارة بقوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} . وأهل المعصية وإليهم الإشارة بقوله: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} . وأهل الجهل في دين الله والكفر وإليهم الإشارة بقوله: {وَلاَ الضآلين} ... في الآية سؤال آخر: ما الحكمةُ في أنه تعالى جعل المقبولين طائفة واحدة، وهم الذين أنعم الله عليهم، والمردودين فريقين: المغضوب عليهم والضالين؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 والجواب: أن الذين كملت نِعَمُ الله عليهم، هم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به، فهؤلاء هم المرادون بقول: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ، فإن اختلّ قيدُ العمل فهم الفَسَقة، وهم المغضوب عليهم كما قال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خالدا فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء: 93] . وإن اختلَّ قيدُ العلم، فهم الضالون لقوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} [يونس: 32] ". وجاء في (التفسير القيم) : "مِنْ ذِكْرِ المُنْعَمِ عليهم وتمييزهم عن طائفتي الغضب والضلال، فانقسم الناس بحسب معرفة الحق والعمل به إلى هذه الأقسام الثلاثة. لأن العبد إما أن يكون عالماً بالحق أو جاهلاً به، والعالم بالحق إما أن يكون عاملاً بموجبه أو مخالفاً له. فهذه أقسام المكلفين لا يخرجون عنها البتة. فالعالمُ بالحق العاملُ به هو المُنْعَمُ عليه ... والعالم به المتبع هواه هو المغضوب عليه. والجاهل بالحق هو الضال، والمغضوب عليه ضال عن هداية العمل. والضال مغضوب عليه لضلاله عن العلم الموجب للعمل، فكلٌّ منهما ضال مغضوب عليه، ولكن تارك العمل بالحق بعد معرفته به أولى بوصفِ الغضب وأحق به". وجاء فيه أيضاً: "فإن مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين: فساد العلم وفساد القصد، ويترتب عليهما داءان قاتلان وهما الضلال والغضب. فالضلال نتيجة فساد العلم، والغضب نتيجة فساد القصد. وهذان المرضان هما ملاكُ أمراض القلوب جميعها، فهداية الصراط المستقيم يتضمنُ الشفاء من مرضِ الضلال ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 والتحقق بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} علماً ومعرفة وعملاً وحالاً يتضمنُ الشفاءَ من مرضِ فساد القلب والقصد ... ثم إن القلب يعرض له مرضان عظيمان، إن لم يتداركهما تراميا به إلى التلف ولا بد، وهما: الرياء والكبر. فدواء الرياء بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ودواء الكبر بـ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ... فإذا عوفي من مرض الرياء بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ومن مرض الكبر والعجب بـ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ومن مرض الجهل بـ {اهدنا الصراط المستقيم} عُوفيَ من أمراضه وأسقامه ورَفَلَ في أثواب العافية، وتمت عليه النعمة، وكان من المُنْعَم عليهم غير المغضوب عليهم، وهم أهل فساد القصد الذين عرفوا الحق وعدلوا عنه، والضالين، وهم أهل فساد العلم الذين جهلوا الحق ولم يعرفوه". ثم لننظر من ناحية أخرى كيف قال: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فعبر عن المنعم عليهم بالفعل الماضي، ثم قال: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} فعبر عنهم بالصورة الاسمية. أما جعل فعل الإنعام فعلاً ماضياً فذلك ليتعيَّنَ زمانُه، وليبين أن المقصود صراط الذين ثَبتَ إنعامُ الله عليهم وتَحقَّقَ وهم الأنبياء والصِّدِّيقون والشهداء والصالحون كما قال تعالى: {فأولائك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وَحَسُنَ أولائك رَفِيقاً} [النساء: 69] . ولو قال: (صراطَ الذين تُنعِمُ عليهم) لأغفلَ كُلَّ مَنْ مضى من رسل الله والصالحين، لأن الفعل المضارع أكثر ما يدل على الحال. بل لم يدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 على أنه أنعم على أحدٍ فيما مضى، ونحو ذلك أن تقول: (أعطني ما أعطيتَ أمثالي) أو تقول: (أعطني ما تُعطي أمثالي) فإن العبارة الأولى تفيد أنه أعطى قبله من أعطى، وأما الثانية، فلا تفيد أنه أعطى أحداً من قبل، بل قد يكون ذلك العطاء ابتداء، ولاحتمل أن يكون صراط الأولين غير صراط الآخرين، ولم يُفِد التواصلَ بين زمر المؤمنين من لدن آدم عليه السلام، إلى قيام الساعة، ولم يفهم أن هذا الطريق، إنما هو طريقٌ مسلوكٌ سلكه من قبلنا الرسل وأتباعهم، ولكان صراط الذين ينعم عليهم، أقل شأناً من صراط الذين أنعم عليهم، لأن الذين أنعم الله عليهم، فيهم أولو العزم من الرسل، وفيهم الأنبياء وأتباعهم، وأما من ينعم عليهم بعد ذلك، فليس فيهم نبيٌّ ولا رسول. ثم إن الإتيان بالفعل الماضي، يدل على أنه كلما مر الزمن كثر عددُ الذين أنعم الله عليهم، لأن الحاضر يلتحق بالماضي، وهكذا تتسع دائرة المنعَم عليهم بمرور الزمن بخلاف قولنا: (صراط الذين ينعم الله عليهم) ، فقد يخص الوقت الذي طلب فيه الداعي الهداية، ولربما كان عدد المهديين آنذاك قليلاً. فانظر الفرق بين قوله: (أنعمت عليهم) والقول: (تنعم عليهم) . وأما قوله: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} بالاسم، فليشمل سائر الأزمنة. فإن قلت: ولِمَ لمْ يقل: (صراط المنعَمِ عليهم) ليشمل سائر الأزمنة أيضاً؟ فالجواب: أن كل تعبير في مكانه أمثل وأحسن. فلو قال: (المنعَم عليهم) لم يبيّن المُنعِم الذي أنعم عليهم، والنعمة إنما تقدر بقدر المنعِم، فإن كان المنعم صديقاً يختلف عما إذا كان أميراً أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 سلطاناً، وذلك من حيث مقدار النعمة، ومن حيث التكريم لمن نالها، فإن كان المنعِم عظيماً عَظُمتْ نعمتهُ، وإن كان أدنى من ذلك كانت على قدر صاحبها، وكذلك من حيث التكريم، فالذي ينعم عليه السلطان غير الذي ينعم عليه أحد أفراد الرعية، فإن قولك: (فلان أنعم عليه الخليفة) فيه من التعظيم والتكريم ما ليس في قولك: فلان أنعم عليه رئيس البلدية أو المحافظ. ففي قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} من التكريم وعظم النعمة ما ليس في (المنعَم عليهم) . هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إن الله سبحانه ينسب الخير والفضل إلى نفسه، ولا ينسب إلى نفسه الشر والسوء، قال تعالى: {وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن: 10] . فبنى الشرَّ للمجهول ونسبَ الخيرَ إلى ذاته الكريمة. وقال: {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشر كَانَ يَئُوساً} [الإسراء: 83] . فنسب النعمة إلى نفسه ولم ينسب إلى نفسه الشر، فلم يقل: (وإذا مسسناه بالشر) كما قال صلى الله عليه وسلم: "والخيرُ كلُّه في يديك، والشر ليس إليك" والنعمة تَفضُّلٌ وخير، فهو ينسبها إلى نفسه وليس أحدٌ مُولى نعمة على الحقيقة إلا الله كما قال: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله} [النحل: 53] . ولذلك ينسب النعم كلها إلى نفسه، ولم يَرِدْ فِعْلُ النعمة مسنداً إلى غير الله في القرآن الكريم قال: {قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً} [النساء: 72] . وقال: {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ} [القصص: 17] . وقال: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف: 59] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 ولم يسند فعل النعمة إلى غير الله، إلا في قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37] . فقد أسنده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن أسنده إلى الله أولاً، وهي نعمةٌ خاصة أنعم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على زيد بن حارثة الذي رباه، وجعله بمنزلة ابنه. فنسبة النعمة والفضل إلى الله أمثلُ وأكمل. وأما المغضوب عليهم، فقد بناه للمفعول ليعم الغضب عليهم: غضب الله، وغضب الغاضبين لله ولا يتخصص بغاضبٍ معين، فهم مغضوبٌ عليهم من كل الجهات. بل إن هؤلاء سيغضب عليهم أخلصُ أصدقائهم وأقرب المقربين إليهم، يوم ينقطع حبلُ كل مودّةٍ في الآخرة غير حبل المودّة في الله، وتنقطع كل العلائق غير العلائق في الله، كما قال تعالى: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] . وقال: {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت: 25] . فيغضب بعضهم على بعض ويتبرأ بعضهم من بعض حتى يتبرأ الإنسان من جلده وجوارحه التي تشهد عليه، فهم مغضوبٌ عليهم من كل شيء، ومن كل أحد. فانظر هذا العموم في الغضب وهذا الإطلاق. وقيل: "إنما بناه للمفعول لأن من طُلب منه الهداية ونُسب الإنعام إليه لا يناسبه نِسبةُ الغضب إليه، لأنه مقام تَلطُّفٍ وترَفُّقٍ وتذلل لطلب الإحسان، فلا يناسب مواجهته بوصف الانتقام وليكون المغضوب عليهم توطئةً لختم السورة بالضالين لعطف موصولٍ على موصول مثله لتوافق آخر الآي". وجاء في (التفسير القيم) : "وأضاف النعمة إليه وحذف فاعل الغضب لوجوه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 منها: أن النعمةَ هي الخير والفضل، والغضب من باب الانتقام، والعدل والرحمة تغلب الغضب فأضاف إلى نفسه أكملَ الأمرين وأسبقهما وأقواهما. وهذه طريقة القرآن في إسناد الخيرات والنعم إليه، وحذف الفاعل في مقابلتهما كقول مؤمني الجن: {وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن: 10] . الوجه الثاني: إن الله سبحانه هو المُتفرد بالنعم: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله} [النحل: 53] . فأضيف إليه ما هو متفرد به، وإن أضيف إلى غيره فلكونه طريقاً ومجرى للنعمة. وأما الغضب على أعدائه فلا يختص به تعالى، بل ملائكته وأنبياؤه ورسله وأولياؤه، يغضبون لغضبه، فكان في لفظة {المغضوب عَلَيْهِم} بموافقة أوليائه له من الدلالة على تفرده بالإنعام وأن النعمة المطلقة منه وحده، هو المتفرد بها ما ليس في لفظة (المنعم عليهم) . الوجه الثالث: إن في حذف فاعل الغضب من الإشعار بإهانة المغضوب عليه، وتحقيره وتصغير شأنه ما ليس في ذِكْرِ فاعلِ النعمة من إكرام المُنعَمِ عليه والإشادة بذكره، ورفع قدره ما ليس في حذفه. فإذا رأيتَ مَنْ قد أكرمه ملك وشَرَّفه ورفع قدره فقلت: هذا الذي أكرمه السلطان، وخلع عليه وأعطاه ما تمناه كان أبلغ في الثناء والتعظيم من قولك: هذا الذي أُكرم وخُلع عليه وشُرّف وأُعطي". ثم انظر من ناحية أخرى، كيف جعل كُلاًّ من المغضوب عليهم والضالين اسماً، وذلك للدلالة على الثبوت، فيكون الغضب عليهم دائماً ثابتاً لا يزول واتصافهم بالضلال على وجه الثبوت أيضاً. فلا يُرْجى لهم خيرٌ ولا هدى، فلم يقل صراط الذين غُضب عليهم وضلوا فيجعل الغضب أو الضلال في زمنٍ دون زمن؛ بل إن هذا الوصف لازم لهم إلى يوم القيامة ثابت لا يزول فهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 مغضوب عليهم في الدنيا والآخرة، وضالون في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {وَمَن كَانَ فِي هاذه أعمى فَهُوَ فِي الآخرة أعمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الإسراء: 72] . ثم انظر كيف قال: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} فذكر (لا) بينهما، ولم يقل (غير المغضوب عليهم والضالين) لئلا يُفْهَمَ أنَّ المباينة لمن جمع الغضب والضلال دون من لم يجمعهما، فإنه لو قال: (غير المغضوب عليهم والضالين) لتوهم أن المباينة لمن جمع الغضب والضلال. فلما ذكر (لا) جعل المباينة لكل صنف منهما. ونظير ذلك أن تقول: (أنا لا أحب مَنْ تكبر وبخل) أو (أنا لا أحب من تكبر ولا من بخل) فإن الجملة الأولى تحتمل أنه لا يحب هذين الصنفين، وتحتمل أنه لا يحب مَنْ جمع بين هذين الوصفين دون مَنْ لم يجمعهما، فمن تكبر ولم يبخل أو بخل ولم يتكبر، لم يكن داخلاً في الحكم بخلاف قولك: (أنا لا أحب من تكبر ولا من بخل) فإنك نَصصتَ فيه على أنك لا تحب مَن اتصف بأي صفة منهما. جاء في (حاشية الجرجاني على الكشاف) : "لمَ دخلت (لا) في (ولا الضالين) ؟ سؤال الكشاف يعني أن (لا) المسماة بالمزيدة عند البصريين، إنما تقع بعد الواو العاطفة في سياق النّفي للتأكيد والتصريح بتعليق النفي بكل من المعطوف والمعطوف عليه كيلا يتوهم أن المنفي هو المجموع من حيث هو مجموع فيجوز حينئذٍ ثبوت أحدهما". وقد تقول: ولمَ قدّم الغضبَ على الضلال، فقال: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} ولِمَ لَمْ يقدم الضالين على المغضوب عليهم؟ والجواب إن المقام يقتضي تقديم المغضوب عليهم من أوجه: منها: أن المغضوب عليه أشد ضلالاً وجرماً وعقوبة لأنه علم وجحد، وليس من علم كمن لا يعلم، ولذا قيل: في العقائد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وعالم بعلمه لم يَعْمَلَنْ ... معذّب من قَبْلِ عُبّاد الوثَنْ فهو أولى بالسؤال والمباعدة عنه، فإنَّ الضالَّ إذا علم الحق، فربما اتبعه وربما خالفه فيكون من المغضوب عليهم. ومنها: أنه جاء في الحديث الصحيح أن المغضوب عليهم اليهود والضالين النصارى. واليهود أسبق من النصارى فناسب أن يبدأ بهم. ومنها: أن صفة المغضوب عليهم هي أول معصية ظهرت في الوجود وأقدمها على الإطلاق، وهي معصية إبليس، ذلك أنه كان عالماً بالحق عارفاً له، فعصى ربه وخالف أمره، فغضب الله عليه ولعنه، ثم قطع إبليس عهداً على نفسه أن يُضلَّ بني آدم فقال: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ} [النساء: 119] . فناسب أن يبدأ بذكر أولى المعاصي على الإطلاق وأن يتبعها بما قطع إبليس على نفسه أن يفعله وهو الإضلال. ومنها: أن هذه الصفة، أعني صفة المغضوب عليهم، هي أول معصية ظهرت على الأرض، وهي قتل ابن آدم أخاه، بعد أن قَرَّبا قرباناً، فتُقُبِّلَ من أحدهما ولم يُتَقَبَّلْ من الآخر، فقتله متعمداً ظالماً له. وبذا تبين أن صفة المغضوب عليهم، هي أقدم صفة من صفات المعاصي، ظهرت في الوجود في الملأ الأعلى، وبعدها على الأرض، فناسبَ أن يبدأ بها. ومنها: أن المغضوب عليه، يقابل المُنْعَم عليه، ولا يقابل الضال، فإنك تقول: (فلان أنعم عليه الخليفة، وفلان غضب عليه) ولا تقول: (فلان أنعم عليه الخليفة وفلان ضل) . فناسب أن يضع بجنب الذين أنعم الله عليهم، المغضوب عليهم. ومنها: أن المغضوب عليه، يقابل المُنْعَم عليه، ولا يقابل الضال، فإنك تقول: (فلان أنعم عليه الخليفة، وفلان غضب عليه) ولا تقول: (فلان أنعم عليه الخليفة وفلان ضل) . فناسب أن يضع بجنب الذين أنعم الله عليهم، المغضوب عليهم. ومنها: أن تقديم المغضوب عليهم، هو المناسب لِمُفْتَتَحِ السورة وما بعده، ذلك أن الحامد لله العارف بصفاته الخاصَّ إياهُ بالعبادة والاستعانة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 إذا زاغ كان من المغضوب عليهم، لأنه علم وخالف، فكان من المناسب أن يسأل الله المباعدة عن ذلك أولاً بخلافِ مَنْ لا يعلم، وكان ضالاً، وأما سؤال الهداية بعد ذلك وهو قوله: {اهدنا الصراط المستقيم} فهو المناسبُ للسؤال بالمباعدة عن الضلال. فلما قَدَّم الحمدَ وما إليه ناسب السؤال بالمباعدة عن الغضب، ولما طلب بعد ذلك الهداية، ناسب أن يذكر بعد ذلك، المباعدة عن الضلال. ومنها: أن ذلك هو المناسب لخواتيم الآي أيضاً. جاء في (البحر المحيط) : "وقدم الغضب على الضلال، وإن كان الغضب من نتيجة الضلال، ضل عن الحق فغضب عليه لمجاوزة الإنعام، ومناسبة ذكره قرينة لأن الإنعام يقابل بالانتقام ولا يقابل الضلال الإنعام. فالإنعامُ إيصالُ الخير إلى المنعم عليه، والانتقام إيصال الشر إلى المغضوب عليه فبينهما تطابقٌ معنوي. وفيه أيضاً تناسب التسجيع لأن قوله: (ولا الضالين) تمام السورة فناسب أواخر الآي". ثم انظر كيف تناسب قوله: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} وقوله: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} فإن الحمدَ مُطْلَقٌ غير مقيدٍ بزمن ولا بفاعلٍ معين، وهو دائم ثابت، وهؤلاء مغضوب عليهم وضالون على جهة الثبوت والدوام. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، أنَّ مَنْ لم يحمد الله، فهو مغضوب عليه وضال، ومن لم يقرّ بأن الله رب العالمين، فهو مغضوب عليه وضال. ومَنْ لم تُدْركه رحمةُ الله الرحمن الرحيم فهو مغضوبٌ عليه وضال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ومن لم يؤمن بيوم الدين، وأن الله مالك ذلك اليوم، فهو مغضوب عليه وضال. ومَنْ لم يَخُصَّ اللهَ بالعبادة والاستعانة، فهو مغضوبٌ عليه وضال. ومن لم يهتد إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، فهو مغضوب عليه وضال. فما أجلَّ هذا الارتباط! إن هذه السورة جمعت أصول العقيدة الإسلامية. وأولها: الإقرار بوجود الله، وأن له صفات الكمال وهو المستحق للحمد، ذاتاً وصفات، منها الإقرار بالتوحيد، وهو قوله: {رَبِّ العالمين} وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإن كونه رباً للعالمين جميعاً، يعني: أنه لا رَبَّ سواه، وأن تخصيصه بالعبادة والاستعانة معناه: أنه لا إله سواه، فقد شملت توحيد الألوهية والربوبية. وقوله: {مالك يَوْمِ الدين} يعني: الإقرار باليوم الآخر والجزاء. وقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} يعني: الإقرار بقدرته التي لا تُحَدُّ. وقوله: {اهدنا الصراط المستقيم * صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} يعني: الإقرار بالرسل، وما أنزل إليهم من كتب. فإن الصراط المستقيم الذي يريده الله إنما يُعْرَفُ من طريق الأنبياء والرسل. والعبادة التي يرتضيها الله لا تُؤخذ إلا عن طريق الرسل، فإنه ليس للإنسان أن يعبد الله كما يشتهي، بل كما يريد الله ويحب. فتضمنت السورة أصول العقيدة وأمهاتها. وتضمنت دين الإسلام بركنيه، الإيمان والعمل الصالح. أما الإيمان فقد ذكرت أركانه، من إيمان بالله ورسله واليوم الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وأما العمل الصالح فقد دخل في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إلى آخر السورة. جاء في (تفسير الرازي) : "فقوله {الحمد للَّهِ} يدل على وجود الصانع، وعلى علمه وقدرته.. وعلى كونه مستحقاً للحمد والثناء والتعظيم.. وأما قوله: {رَبِّ العالمين} فهو يدل على أن ذلك الإله واحد، وأن كل العالمين مُلكه ومِلكه، وليس في العالم إله سواه ولا معبود غيره. أما قوله: {الرحمان الرحيم} فيدل على أن الإله الواحد الذي لا إله سواه، موصوف بكمال الرحمة والكرم والفضل والإحسان. وأما قوله: {مالك يَوْمِ الدين} فيدل على أن من لوازم حكمته ورحمته، أن يحصل بعد هذا اليوم، يومٌ آخر يظهر فيه تمييز المحسن عن المسيء، ويظهر فيه الانتصاف للمظلومين من الظالمين، ولو لم يحصل هذا البعث والحشر، لقدح ذلك في كونه رحماناً رحيماً. وإذا عرفتَ هذا ظهر أن قوله: {الحمد للَّهِ} يدل على وجود الصانع المختار. وقوله: {رَبِّ العالمين} يدل على وحدانيته. وقوله: {الرحمان الرحيم} يدل على رحمته في الدنيا والآخرة. وقوله: {مالك يَوْمِ الدين} يدل على كمال حكمته ورحمته بسبب خلق الدار الآخرة ... أما الأعمال التي يأتي بها العبد فلها ركنان: أحدهما: إتيانه بالعبادة وإليه الإشارة بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} . والثاني: علمه بأنه لا يمكنه الإتيان بها، إلا بإعانةِ الله، وإليه الإشارة بقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ". فهذه السورة هي أم الكتاب حقاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 من سورة المائدة سأل سائل عن قوله تعالى: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} . لِمَ ختم الآية بقوله: {فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} وكان المناسب لقوله: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} أن يقول: (فإنك أنت الغفور الرحيم) ؟ ولِمَ لم يقل سيدنا عيسى كما قال سيدنا إبراهيم، عليهما السلام: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 36] . إن الشِقَّ الأول من السؤال قديم: "قال أبو بكر بن الأنباري، وقد طعن على القرآن مَنْ قال: إن قوله: {فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} لا يناسب قوله: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} لأن المناسب، فإنك أنت المغفور الرحيم". وأجاب عنه. وجاء في (الإتقان) : "من مشكلات الفواصل، قوله تعالى: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} فإن قوله: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} يقتضي أن تكون الفاصلة (الغفور الرحيم) . والذي نريد أن نقوله أولاً: إنه لا يَصحُّ اقتطاعُ جزء من آية أو جزء من السياق، وبناءُ الحكمِ عليه، بل الذي ينبغي هو أن يُنظرَ في السياقِ كله، ثم ينظر في ملاءمة الكلام بعضه لبعض. ولو نظر السائل أو المعترض في السياق لما أثار هذا السؤالَ أصلاً، فإنه لا يصح ختم الآية بالمغفرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 والرحمة ههنا، لأن السياق لا يمكن أن يقتضيهما، ولو فعل ذلك لكان نظير ما روي من أن: "بعض الأعراب سمع قارئاً يقرأ: والسارق والسارقة إلى آخرها، وختمها بقوله: (والله غفور رحيم) فقال: ما هذا كلام فصيح. فقيل له: ليس التلاوة كذلك، وإنما هي: {والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فقال: بَخٍ بخ عَزَّ فحكمَ فقطعَ". هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، إنه ليس كل موطن تُذكر فيه المغفرةُ أو الرحمة، ينبغي أن تُختمَ الآيةُ بهما، وإنما يعود ذلك إلى الموطن والسياق. ومن المعلوم أنه وردت في القرآن مواطن ذكرت فيها المغفرة والرحمة، ولم تختم الآيات بهما لأن الموطن لا يقتضي ذلك، بل يقتضي أمراً آخر يدل عليه السياق، وذلك نحو قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ واغفر لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [الممتحنة: 5] فإنه لم يختم بالمغفرة مع أنه ورد طلب المغفرة، ذلك لأن مَدارَ الطلب في الآية هو أنْ لا يجعلهم فتنة للذين كفروا، وهو مَحطُّ الاهتمام كما هو واضحٌ من السياق، وذلك يقتضي الختم بالعزة والحكمة، كما هو ظاهر فختم بهما. ونعود إلى سياق الآية التي هي مثار السؤال، فنقول: إن الآية وردت في سياق التبرؤ من قولٍ قالته طائفةٌ من النصارى ونسبته إلى عيسى عليه السلام، حكاه الله تعالى بقوله: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلاهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} . فنسب إلى عيسى أنه طلب من الناس أن يتخذوه وأمه إلهين من دون الله. وأظنُّ أن هذا المقام يمنع عيسى من طلب المغفرة، أو تَرجِّيها لهؤلاء الذين جعلوا الله دون منزلة عيسى وأمه. لقد ردّ علماؤنا الأوائل على مَنْ ظن أن المناسب ختم الآية بالمغفرة والرحمة بردودٍ عدة منها: 1- أنه لو ختم الآية بالمغفرة والرحمة لضعف المعنى، لأن هذا ينفرد بالشرط الثاني، ولا يكون له تَعلُّقٌ بالشرط الأول، في حين أن ختمه بالعزة والحكمة متعلق بالشرطين، فإن تعذيبه ومغفرته مَنُوطان بعزته وحكمته "فكان العزيز الحكيم أليق بهذا المكان، لعمومه وأنه يجمع الشرطين، ولم يصلح (الغفور الرحيم) أن يحتمله ما احتمله العزيز الحكيم". وجاء في (روح المعاني) : "وادعى بعضهم أنهما متعلقان بالشرطين لا بالثاني فقط، وحينئذ وجه مناسبتهما لا سترة عليه، فإنَّ مَنْ له الفعل والترك عزيز حكيم". ومعنى ذلك، أن اختيار العزيز الحكيم متعلقٌ بالثواب والعقاب جميعاً، وليس بحال واحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 جاء في (الكشاف) : "وإن تغفر لهم، فإنك أنت العزيز، القوي، القادر على الثواب والعقاب، الحكيم الذي لا يُثيبُ ولا يعاقب إلا عن حكمةٍ وصواب. فإن قلت: المغفرة لا تكون للكفار، فكيف قال: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} . قلت: ما قال إنك تغفرُ لهم، ولكنه بنى الكلام على إنْ غفرتَ لهم فقال: إنْ عذبتهم عدلتَ، لأنهم أحقاء بالعذاب، وإن غفرتَ لهم مع كفرهم، لم تعدم في المغفرة وجه حكمة، لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في العقول، بل متى كان الجرم أعظم جرماً كان العفو عنه أحسن". 2- الآية مبنية على التسليم لله سبحانه، وتفويض الأمر إليه وليس على التعريض بطلب المغفرة. جاء في (ملاك التأويل) : "أما آية المائدة فمبنية على التسليم لله سبحانه وأنه المالك للكل، يفعلُ فيهم ما شاء، فلو ورد هنا عقب آية المائدة: "وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم" لكان تعريضاً بطلب المغفرة، ولم يقصد ذلك في الآية، وإنما قيل ذلك على لسان عيسى، عليه السلام، تبرّياً وتسليماً لله سبحانه، وليس موضع طلب مغفرة لهم، وإنما هو تَنصُّلٌ من حالهم، وتسليم لله فيهم. قال الغزنوي - رحمه الله -: لم يقل: (الغفور الرحيم) لأن مخرجه على التسليم، ولأن في ذكر العفو تعريضاً للسائل، والكلام لتسليم الأمرين، والحكمة تقتضيهما وكأنه قال: المغفرةُ لا تُنقِصُ من عِزِّكَ، ولا تَخرجُ عن حكمتك". وجاء في (البرهان) : "وقيل: ليس هو على مسألة الغفران، وإنما هو معنى تسليم الأمر إلى مَنْ هو أملك لهم، ولو قيل: (فإنك أنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 الغفور الرحيم) لأوهم الدعاء بالمغفرة، ولا يسوغ الدعاء بالمغفرة لمن مات على شِرْكهِ لا لنبي ولا لغيره". وجاء في (تفسير ابن كثير) : "هذا الكلام يتضمنُ رَدَّ المشيئة إلى الله، عز وجل، فإنه الفَعَّالُ لما يشاء". 3- وقيل إن ذكر العزيز الحكيم من باب الاحتراس، وذلك أنه "لا يغفر لمن استحق العذاب إلا مَنْ ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه، فهو العزيز، أي: الغالب، والحكيم: هو الذي يضع الشيء في محله. وقد يَخْفى وجه الحكمة على بعض الضعفاء في بعض الأفعال، فيتوهم أنه خارج عنها، وليس كذلك، فكان في الوصف بالحكيم احتراسٌ حسن، أي: وإن تغفر لهم مع استحقاقهم العذاب فلا معترضَ عليك لأحدٍ في ذلك والحكمةُ فيما فعلته". وجاء في (روح المعاني) : "وقيل: إن ذكرهما من باب الاحتراس، لأن ترك عقاب الجاني قد يكون لعجز في القدرة، أو لإهمال ينافي الحكمة، فدفعَ تَوهُّمَ ذلك بذكرهما". وجاء في (تفسير البيضاوي) : {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} فلا عجزَ ولا استقباح، فإنك القادرُ القوي على الثواب والعقاب، الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمةٍ وصواب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وخلاصة الاحتراس، أن العفو عن المستحق للعذاب العظيم، قد يكون عن عجز وضعف، لا عن استطاعةٍ وقدرة، أو قد يكون عن سوء تدبير وتقدير، أو عن كليهما، فلو قال: (فإنك أنت الغفور الرحيم) لما دفع هذين الوصفين عنه، فإن الغافر الراحم قد يكون إنما يفعل ذلك لضعفه، أو لسوء تدبيره. فقال: {فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} ليدفع ذلك عنه، وليقول إنه إن عفا وغفرَ فعن كمالِ العزةِ والقدرة، وعن غايةِ الحكمة والتدبير، فكان الختم بهما أولى مما ذكر المعترض. 4- وقيل: إن المقام مقام تَبرؤٍ مما نُسِبَ إليه، وليس مقام طلبِ عفوٍ ومغفرة فلا يصح في هذا المقام الصفح والمغفرة. جاء في (البرهان) : "وقيل لأنه مقام تَبرٍّ، فلم يذكر الصفةَ المقتضيةَ استمطارَ العفوِ لهم، وذكر صفة العدل في ذلك، بأنه العزيز الغالب، وقوله: (الحكيم) الذي يضع الأشياء في مواضعها فلا يعترض عليه، إن عفا عمن يستحق العقوبة". 5- وقيل: إنه لا يجوز المغفرة والرحمة، أو التعريض بهما لهؤلاء لأن هؤلاء مقطوع لهم بالعذاب، وعدم المغفرة، لأنهم مشركون قال: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء: 48] . وكما قال الله: إنه لا يغفر للمشركين، قال: إنه لا يصح سؤال المغفرة للمشركين لا من نبيٍّ، ولا من غيره، قال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى} [التوبة: 113] . فلا يجوز التعريض بالمغفرة، بل الذي يصح هو تفويض الأمر إليه، وتركه إلى حكمته سبحانه، بل إنَّ ما دان به هؤلاء أكبر من الشرك وأعظم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 فإن الشرك أن تجعل لله نداً، وكان المشركون في الجاهلية يجعلون مع الله آلهةً أخرى يعبدونهم، ليقربوهم إليه زلفى. وأما هؤلاء فقد عبدوا المسيح وأمه من دون الله، فإنهم جعلوه أقل من الشريك، فهم أوْلى بعدم المغفرة ورجائها لهم. 6- ولا يَحْسنُ طلبُ المغفرة لهم، أو التعريض بها من السيد المسيح من جانب آخر، ذلك أن الأمر يتعلق به هو، أعني بعيسى، عليه السلام، فإنه مسؤول مستنطق عما ادُّعيَ عليه أنه قاله وهو أنه طلب من الناس أن يعبدوه وأمه، وأن يتركوا عبادة الله. وقد ذكر السيد المسيح أن هذا افتراء عليه، فكيف يصح أدباً أن يطلب المغفرة أو يعرض بها لهؤلاء المفترين الذين أعلَوه وأمه على الله سبحانه؟ إنه لو كان الأمر يتعلق بغيره، لكان من السماجة الشفاعة لهم، لأن ما فعلوه أعظم من الشرك، فكيف والأمر يتعلق به هو؟ إن طلب المغفرة لهم يعني التغاضي أو التهوين من شناعة هذا الأمر ويوهِمُ الرضا به والارتياح له. ألا ترى أنه لو اتُّهمَ مسؤول الشرطة مثلاً بأنه أصدر أمراً للإطاحة بالملك، ليكون هو مكانه، ثم قبض على هذا المسؤول واستجوب، فنفى أن يكون له علمٌ بذلك، أكان يصح أن يَطلبَ من الملك العفو عن هؤلاء الذين خلعوا سلطانه، وأعلنوا العصيان عليه، وادعوا أن هذا بأمرِ مسؤول الشرطة نفسه؟ إنه الآن في مقام دفع التهمة عن نفسه، وإثبات براءته، فكيف يصح أن يطلب العفو عن هؤلاء الجناة المفترين؟ إنه الآن في موقفٍ يحتاجُ إلى الشفاعة لا أن يشفع هو. فتبين من هذا أن ختم الآية بما ختم من العزة والحكمة هو الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 ونشير إلى جانب لطيف آخر في الآية وهو قوله: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} ، فإنه لم يقل (إن تعذبهم فإنهم أحقاء بذلك) أو (فذلك عدل) ذلك أن كونهم عبادة، معناه أنه المستحقُّ للعبادةِ دون غيره، وأنه الإله الحق. فمستحق العبادة مَنْ كان الخَلْقُ عباده دون مَنْ ليس له عباد. فإنه لو قال: (فإنهم أحقاء بذلك) أو قال: (فذلك عدل) لم يعن ذلك أنهم عباده. فالناسُ ليسوا عباداً لمن يعدل، كما أنهم إذا كانوا أحقاء بالعذاب، فليس معناه أنهم عباد لمن عذّب. فالذي يعذّب شخصاً أو جماعة لا يعني أن المعذبين عباده. فاختيار لفظ العبودية أنسب شيء في هذا المقام. وفيه معنى آخر، وهو أنهم لما كانوا عباده، فليس هناك من معترض على ما يفعل بهم من تعذيب أو مغفرة، فالأمر كله إليه، ومتروك لمشيئته، ومناط بعزته وحكمته وحكمه، فإنه هو العزيز الحكيم. وكذلك فعل سيدنا عيسى، عليه السلام، فقد أناط الأمرَ بعزته وحكمته وحكمه وفَوَّضَهُ إليه. وانظر من ناحية أخرى إلى الضمير (أنت) وتعريف {العزيز الحكيم} للدلالة على توكيد الحكم، وقصر العزة والحكمة عليه والكمال فيما وصف به، فإنه في الحقيقة لا عزيزَ، ولا حكيمَ ولا حاكم سواه. فإنه لم يقل: (فإنك عزيز حكيم) ذلك أن هذا التعبير لا يفيد قَصْرَ الصفتين عليه - سبحانه - ولا كمالهما فيه. فإنك إذا قلت لأحد: (إنك كريم سمح) فلا يفيد ذلك قصر الصفتين عليه؛ بل يفيد إثبات الوصفين له بخلاف ما إذا قلت (إنك أنت الكريم السمح) ، فإنَّ ذلك يفيد القصر أو الكمال فيما وصفت. فقوله: {فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} يفيد قصر هذين الوصفين عليه، وكمالهما فيه دون غيره بمعنى: إنه لا عزيزَ ولا حكيم على وجه الكمال والحقيقة سواك. وهذا التعبير أولى في هذا الموطن، لأنه في موطن نفي الألوهية عن غير الله وإثباتها له، فهو المتفرد بذاته وصفاته لا يشاركه ولا يشابهه فيهما أحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 فهو الإله حصراً، وهو العزيز الحكيم حصراً. وأما الشق الثاني من السؤال وهو: لماذا لم يقل سيدنا عيسى كما قال سيدنا إبراهيم عليهما السلام: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 36] . فإنه سأل المغفرة والرحمة أو عرّض بهما لمن عصاه، فهذا يُجابُ عنه من أوجه: منها: أن إبراهيم، عليه السلام، لم يقل: (ومن عصاكَ فإنك غفور رحيم) ، بل قال: {وَمَنْ عَصَانِي} ومعصية العبد دون معصية الله. ومنها: أن إبراهيم، عليه السلام، ذكر المعصية، ولم يذكر الشرك، فقد قال: {وَمَنْ عَصَانِي} ولم يقل: (ومَنْ أشركَ بك) والمعصية درجات، أما الشرك فهو أكبر الكبائر، فإن الله قد يغفر للعاصي غير المشرك، أما المشرك فإن الله لن يغفر له، وقد قال تعالى عن سيدنا آدم، عليه السلام: {وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] ثم قال: {ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى} [طه: 122] . وهنا أود أن أسأل سؤالاً فأقول: هل يظن أحد أن سيدنا إبراهيم، عليه السلام، كان يمكن أن يقول: ومَن اتَّخذني إلهاً من دونك، فإنك غفور رحيم؟ فهذا ما قالته الفرقة المفترية على عيسى. إن إبراهيم، عليه السلام، وإنْ كان أوّاهاً حليماً، كما وصفه الله تعالى، تَبرَّأَ من أبيه لما تَبيَّنَ أنه عدوٌّ لله، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] . فاتضح الفرق بين المقامين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن الأنبياء ليسوا على طبيعة واحدة، ولا ضير في ذلك ما دام كلٌّ منهم تدفعه طبيعته إلى ابتغاء رضوان الله. فطبيعة نوح وسجيته غير طبيعة إبراهيم وسجيَّتِه، وقد شبه الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر بإبراهيم، وعمر بنوح، وفي كل ذلك خير. ولم أجد في القرآن الكريم أنه وصف موسى بما وصف إبراهيم عليهما السلام، فلم يقل فيه: (إن موسى لأوَّاهٌ حليم) ، كما قال في إبراهيم، ولا عيبَ في ذلك ولا قصور، فصفاتهم كلها صفاتُ الكمال، ولنا في رسول الله، وفيهم أُسوةٌ حسنة، فلا ضير أن تتنوع الاستجابات وتتعدد المواقف ما دام كل ذلك في سبيل الله وفيما يرضي الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 قصة إبراهيم في سورتي الحجر والذاريات 1- قال تعالى في سورة الحجر: {وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مَّسَّنِيَ الكبر فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين * قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضآلون} . 2- وقال في سورة الذاريات: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الحكيم العليم} . *** من الواضح البيّن أنَّ ثمة تشابهاً ظاهراً في محتوى القصتين، وتقارباً في التعبير بينهما إلى درجة كبيرة، غير أن هناك جملة اختلافات بينهما أبرزها: إنه وصف الضيف في سورة (الذاريات) بأنهم (مكرَمون) فقال: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين} ولم يصفهم بذاك في سورة (الحجر) بل قال: {وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} وقد أدى هذا إلى الاختلاف بين السياقين في أمور عدة منها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 1- إنه ذكر في سورة الذاريات، أن إبراهيم، عليه السلام، ردّ التحية عليهم حين حيَّوه فقال: {فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ} ، ولم يذكر ذلك في الحجر. وإنما ذكر أنهم حيوه ولم يذكر أنه رد التحية عليهم. ولا شك أن رَدَّ التحية هو الذي يقتضيه الإكرام. فلما وصفهم بأنهم مكرمون ناسب ذلك ذكر رد التحية، فإنه من إكرامهم. إنه ردّ التحية عليهم بخيرٍ من تحيتهم، فإنهم حيّوه بالنصب {سَلاَماً} وحياهم بالرفع {سَلاَمٌ} . فهم حيّوه بالجملة الفعلية الدالة على الحدوث والتجدد، أي: نُسلّمُ سلاماً، وهو قد حياهم بالجملة الاسمية الدالة على الثبوت. والاسم أقوى وأثبت من الفعل، كما هو معلوم في اللغة، وكما مَرَّ توضيحه في سورة الفاتحة، وذلك نحو يطّلع ومطّلع، ويتعلّم ومتعلِّم. فهو حياهم بالسلام الشامل الثابت الدائم فيكون قد حياهم بخيرٍ من تحيتهم. جاء في (التفسير الكبير) : "إن إبراهيم، عليه السلام، أراد أن يرد عليهم بالأحسن فأتى بالجملة الاسمية، فإنها أدل على الدوام والاستمرار". وجاء في (معاني القرآن) للفراء: "وأما قوله تعالى: {فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] فإنه رفع وهو بمنزلة الأمر في الظاهر كما تقول: (من لقي العدو فصبراً واحتساباً) ، فهذا نصبه ورفعه جائز. وإنما كان الرفع وجه الكلام، لأنه عامة فيمن فعل، ويراد بها من لم يفعل، فكأنه قال: فالأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 فيها على هذا فيرفع. وينصب الفعل إذا كان أمراً عند الشيء يقع ليس بدائم، مثل قولك للرجل: إذا أخذت في عملك فجدّاً جدّاً وسيراً سيراً. نصبتَ لأنك لم تَنْوِ به العموم فيصير كالشيء الواجب على مَنْ أتاه وفعله ... وأما قوله: {فَضَرْبَ الرقاب} [محمد: 4] فإنه حَثَّهم على القتل إذا لقوا العدو، ولم يكن الحث كالشيء الذي يجب بفعل قبله، فلذلك نصب، وهو بمنزلة قولك: إذا لقيتم العدو فتهليلاً وتكبيراً وصِدْقاً عند تلك الوقعة.. كأنه حثٌّ لهم". وجاء في (شرح ابن يعيش) أن: "الفرق بين النصب والرفع، أنك إذا رفعتها فكأنك ابتدأت شيئاً قد ثبت عندك واستقر وفيها ذلك المعنى.. وإذا نصبت كنت ترجّاه في حال حديثك، وتعمل في إثباته". 3- ذكر في سورة الذاريات، أنه جاءهم بعجل ووصف هذا العجل بأنه سمين وقَرَّبه إليهم ليأكلوه. وهذا مما يدل على تكريم ضيفه واحتفائه بهم، ولم يقل مثل ذلك في (الحجر) . وكلٌّ من الحالين المذكورين هو المناسب لموطنه وسياقه. 4- ذكر في آيات (الذاريات) أنه أوجس منهم خيفة، ولم يواجه ضيفه بما أحسَّ في نفسه. في حين أنه واجههم بذاك في سورة الحجر، فقال مخاطباً إياهم: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} . وواضح أن ما جاء في آيات الذاريات هو المناسب لمقام الإكرام، فليس مناسباً لجو التكريم أن يعلن لضيفه، أنه غير مطمئنٍّ إليهم، وأنه منهم وَجِلٌ. وهكذا ترى أن كل تعبير هو المناسب للسياق الذي ورد فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 5- أظهر التعبير أن حالة الخوف والوجل في آيات الحجر، أكثر مما هي في آيات الذاريات. فإنه واجه ضيفه بالخوفِ منهم، في سورة (الحجر) بالجملة الاسمية المؤكدة بـ (إن) ، وجاء مع ذلك بالصفة المشبهة (وَجِلُون) الدالة على شدة الخوف، ثم أخرجه مخرج العموم والشمول لأهل البيت أجمعين، فذكره بصورة الجمع: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} . في حين ذكر ذلك في (الذاريات) بالجملة الفعلية غير المؤكدة، فقال: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} وذكره بصورة الإفراد. ولا شك أن الحالة النفسية لسيدنا إبراهيم، عليه السلام، وما صَرَّحَ به من شدة الفزع، جعلت المقام لا يتناسب هو وذكر التكريم فإن التكريم يحتاج إلى انشراح نفسي وانفتاح، وهو غير موجود في آيات (الحجر) ، بل إن كل تعبير فيها يدل على القلق وعدم الارتياح. فناسبَ كُلُّ تعبيرٍ موطِنَهُ. 6- ولما واجههم بالخوف منهم والوجل في سورة (الحجر) واجهوه بالبشرى، فإنه لما قال لهم: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} قالوا له: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} . ولما لم يواجههم بذلك في سورة الذاريات، بل ذكره بصيغة الغيبة: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} لم يواجههوه بالبشرى بل وردت بصغية الغيبة أيضاً (وبشروه) فكان التعبير في المواطنين على النحو الآتي: الحجر: إنا منكم وجلون ... إنا نبشرك بغلام عليم الذاريات: فأوجس منهم خيفة ... وبشروه بغلام عليم فناسب كل تعبير موطنه وسياقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 7- لما ذكر الوجل منهم بالصيغة الاسمية في سورة الحجر: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} بشروه بالجملة الاسمية أيضاً {إِنَّا نُبَشِّرُكَ} . ولما ذكر الخوف منهم بالصيغة الفعلية في سورة الذاريات: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} بشروه بالصيغة الفعلية أيضاً: {وَبَشَّرُوهُ} . 8- قال في آيات الذاريات: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} بتقديم (منهم) على (خيفة) . وهذا التقديم، يفيد الاختصاص والحصر، أي: أن الخوف كان منهم لا من غيرهم، ولو قال: (فأوجس خيفة منهم) لكان أخبر أنه خاف منهم، ولم يخبر أنه لم يخف من غيرهم، بل ربما كان ثمة خوف منهم، ولم يخبر أنه لم يخف من غيرهم، بل ربما كان ثمة خوف آخر من غيرهم، فإن التعبير الوارد في الآية جعل الضيف وحدهم سببَ الخوف وقصرَ ذلك عليهم. وأما التعبير الآخر، أعني: (فأوجس خيفة منهم) فلا يقصر الخوف عليهم، بل ربما كان هناك سبب آخر معهم وهذا نظير قولك: (بكَ وثقتُ) و (وثقتُ بكَ) فإن الجملة الأولى أخبرتَ بها أنك قصرتَ الثقةَ على المخاطب ولم تثق بأحدٍ آخر. أما الجملة الثانية فإنها تفيد أنك وثقت به ولم تُفِدْ أنك قصرتَ الثقة عليه، بل قد تكون وثقت بغيره أيضاً. ومما يوضح ذلك قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الرحمان آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك: 29] ، فقد أخر الجار والمجرور (به) عن الفعل (آمنا) وقدم الجار والمجرور (عليه) على الفعل (توكلنا) . ذلك أن "الإيمان لمَّا لم يكن منحصراً في الإيمان بالله؛ بل لا بد معه من رُسُله وملائكته وكتبه واليوم الآخر وغيره مما يتوقَّفُ صحةُ الإيمان عليه، بخلاف التوكل فإنه لا يكون إلا على الله وحده لتفرُّدِه بالقدرة والعلم القديمين الباقيين قَدَّمَ الجارَّ والمجرور فيه ليؤذنَ باختصاص التوكل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 العبد على الله دون غيره، لأن غيره لا يملك ضراً ولا نفعاً فيتوكل عليه". وكذلك ذكر في سورة الحجر فقد قال: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} بتقديم (منكم) على (وجلون) مما يفيد أنهم هم سبب الخوف. وهذا التقديم يفيد القصر كما في آية الذاريات. فكلتا الآيتين أفادت الدلالة على أن الخوف كان من الضيف وحدهم، لا من غيرهم بدلالة تقديم الجار والمجرور على مُتعلّقه. غير أنه أخرج ذلك على سبيل المواجهة المؤكدة في آيات الحجر، وعلى سبيل الغيبة غير المؤكدة في آيات الذاريات. فكانت نهاية الآية في الحجر متناسقة مع الموسيقى، ومع المعنى في آن واحد. 9- اعترض في سورة الحجر على تبشيرهم له بالغلام واستنكر ذلك قائلاً: {أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مَّسَّنِيَ الكبر فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} فكأنه غير مستوثقٍ من أنهم رُسُلُ ربه. ويبدو أن الذي أدخلته عليه هيئتهم من الوجل والخوف زرع الشك فيهم، وعدم الثقة بأقوالهم وأفعالهم. وكما أظهر لهم عدم ارتياحه من دخولهم بيته، أظهر الاستخفافَ بالبشرى والاستنكار لأقوالهم. ولم يعترض أو يستنكر في سورة الذاريات، لأن مقام الإكرام غير مناسبٍ للاعتراض والاستنكار والاستخفاف بما يقولون. وكل تعبير مناسب للسياق الذي ورد فيه كما هو ظاهر. 10- ذكر في آيات الذاريات أن امرأة سيدنا إبراهيم عندما سمعت بالبشرى، أقبلت في جَلَبةٍ وصكّت وجهها متعجبة مما أخبروه به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 ولم يذكر ذلك في الحجر ذلك أن الخوف الذي ذكر في الحجر، كان عاماً شاملاً لأهل البيت أجمعين: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} وفي مثل هذا الموقف، قعدت العجوزُ المُسِنَّةُ خائفةً وجلة من هؤلاء الغرباء الذين أدخلوا الخوفَ على البيت كله. فناسب ذلك عدم ذكر خروجها لهم ومواجهتهم. أما في آيات الذاريات، فليس فيها هذا الشمول، فلم يمنع ذلك من خروجها، فناسب كل موقف موطنه. يتبين لنا مما مر أن كل تعبير مناسب للسياق الذي ورد فيه مناسبة تامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 قصة موسى في سورتي النمل والقصص قال لي أحدهم مرة، لو كتبتَ في قصة موسى في سورتي النمل والقصص، فإن بينهما تشابهاً كبيراً ولا يتبيّن سِرُّ الاختلاف في التعبير بينهما من نحو قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ} و {فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ} . وقوله: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} و {اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} وما إلى ذلك. فأنهدني قوله إلى أن أكتب في ذلك، وطلبت من الله أن يعينني على ما عزمتُ عليه، وأن يُبَصِّرني بمرامي التعبير في كتابه الحكيم، وأن يفتح عليّ من كنوز علمه الواسع الذي لا يُحدُّ فتحاً مباركاً، إنه سميع مجيب. من سورة النمل {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرآن مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ * إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ إني آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ الله رَبِّ العالمين * ياموسى إِنَّهُ أَنَا الله العزيز الحكيم * وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ ياموسى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون * إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سواء فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء فِي تِسْعِ آيَاتٍ إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ * فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هاذا سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين} . من سورة القصص {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار لَعَلَّكُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 تَصْطَلُونَ * فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الوادي الأيمن فِي البقعة المباركة مِنَ الشجرة أَن ياموسى إني أَنَا الله رَبُّ العالمين * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ ياموسى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمنين * اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} . *** من هذين النصين تتبين طائفة من الاختلافات في التعبير أُدوّنُ أظهرها: النمل القصص {إني آنَسْتُ نَاراً} {آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً} - {امكثوا} {سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} {لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} {أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار} {فَلَمَّا جَآءَهَا} {فَلَمَّآ أَتَاهَا} {نُودِيَ أَن بُورِكَ} {نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الوادي الأيمن} {وَسُبْحَانَ الله رَبِّ العالمين} - {ياموسى} {أَن ياموسى} {إِنَّهُ أَنَا الله العزيز الحكيم} {إني أَنَا الله رَبُّ العالمين} {وَأَلْقِ عَصَاكَ} {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} {ياموسى لاَ تَخَفْ} {ياموسى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ} {إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون} {إِنَّكَ مِنَ الآمنين} {إِلاَّ مَن ظَلَمَ} {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} {اسلك يَدَكَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ} - {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب} {إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} *** إن الذي أوردته من سورة النمل، هو كل ما ورد من قصة موسى في السورة. وأما ما ذكرته من سورة القصص، فهو جزء يسير من القصة، فقد وردت القصةُ مُفصَّلةً ابتداء من قبل أن يأتي موسى إلى الدنيا إلى ولادته، وإلقائه في اليمِّ والتقاطه من آل فرعون، وإرضاعه ونشأته وقتله المصري وهربه من مصر إلى مدين، وزواجه وعودته بعد عشر سنين وإبلاغه بالرسالة من الله رب العالمين، وتأييده بالآيات، ودعوته فرعون إلى عبادة الله إلى غرقِ فرعون في اليمّ، وذلك من الآية الثانية إلى الآية الثالثة والأربعين. فالقصة في سورة القصص، إذن مفصلة مطولة، وفي سورة النمل مُوجَزة مجملة. وهذا الأمر ظاهر في صياغة القصتين، واختيار التعبير لكل منهما. هذا أمر، والأمر الثاني أن المقام في سورة النمل، مقامُ تكريمٍ لموسى أوضح مما هو في القصص، ذلك أنه في سورة القصص، كان جو القصة مطبوعاً بطابع الخوف الذي يسيطر على موسى، عليه السلام، بل إن جو الخوف كان مقترناً بولادة موسى، عليه السلام، فقد خافت أمه فرعون عليه، فقد قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني} . ويستبدُّ بها الخوفُ أكثر حتى يصفها رب العزة بقوله: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لولا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا} . ثم ينتقل الخوفُ إلى موسى عليه السلام، ويساوره وذلك بعد قتله المصري: {فَأَصْبَحَ فِي المدينة خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ} . فنصحه أحدُ الناصحين بالهرب من مصر لأنه مهدد بالقتل: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ} ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وطلب من ربه أن ينجيه من بطش الظالمين: {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين} .. فهرب إلى مدين وهناك اتصل برجل صالح فيها، وقَصَّ عليه القصص فطمأنه قائلاً: {لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين} . وهذا الطابع - أعني طابع الخوف - يبقى ملازماً للقصة إلى أواخرها، بل حتى إنه لما كلفه ربه بالذهاب إلى فرعون راجعه وقال له: إنه خائف على نفسه من القتل: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} . وطلب أخاه ظهيراً له يُعِينُه ويصدّقه لأنه يخاف أن يكذّبوه: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} . في حين ليس الأمر كذلك في قصة النمل، فإنها ليس فيها ذِكْرٌ للخوف إلا في مقام إلقاء العصا. فاقتضى أن يكون التعبير مناسباً للمقام الذي ورد فيه. وإليك إيضاح ذلك: 1- قال تعالى في سورة النمل: {إني آنَسْتُ نَاراً} وقال في سورة القصص: {آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً} ، فزاد {مِن جَانِبِ الطور} وذلك لمقامِ التفصيلِ الذي بُنيت عليه القصة في سورة القصص. 2- قال في سورة النمل: {إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ إني آنَسْتُ نَاراً} وقال في سورة القصص: {قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً} بزيادة {امكثوا} . وهذه الزيادة نظيرة ما ذكرناه آنفاً أعني مناسبة لمقامِ التفصيل الذي بنيت عليه القصة بخلاف القصة في النمل المبنية على الإيجاز. 3- قال في النمل: {سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} . وقال في القصص: {لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} . فبنى الكلام في النمل على القطع {سَآتِيكُمْ} وفي القصص على الترجي {لعلي آتِيكُمْ} . وذلك أن مقام الخوف في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 القصص لم يدعه يقطع بالأمر فإن الخائف لا يستطيع القطع بما سيفعل بخلاف الآمن. ولما لم يذكر الخوف في سورة النمل بناه على الوثوق والقطع بالأمر. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إن ما ذكره في النمل هو المناسب لمقام التكريم لموسى بخلاف ما في القصص. ومن ناحية ثالثة، إن كل تعبير مناسبٌ لجو السورة الذي وردت فيه القصة، ذلك أن الترجي من سمات سورة القصص والقطع من سمات سورة النمل. فقد جاء في سورة القصص قوله تعالى: {عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} وهو ترجٍّ. وقال: {عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل} . وهو تَرَجٍّ أيضاً. وقال: {لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} ، وقال: {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} ، وقال: {لعلي أَطَّلِعُ إلى إلاه موسى} ، وقال: {لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ، ثلاث مرات في الآيات 43، 46، 51، وقال: {فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين} ، وقال: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، وهذا كله ترجٍّ. وذلك في عشرة مواطن في حين لم يَرِد الترجي في سورة النمل إلا في موطنين وهما قوله: {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} ، وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . وقد تردد القطع واليقين في سورة النمل، من ذلك قوله تعالى على لسان الهدهد: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} ، وقوله على لسان العفريت لسيدنا سليمان: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} . وقوله على لسان الذي عنده علم من الكتاب: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} . فانظر كيف ناسب الترجي ما ورد في القصص، وناسب القطع واليقين ما ورد في النمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 ثم انظر بعد ذلك قوله تعالى في القصة: {سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} ومناسبته لقوله تعالى في آخر السورة: {الحمد للَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} ، وانظر مناسبة {سَآتِيكُمْ} لـ {سَيُرِيكُمْ} . وبعد كل ذلك، انظر كيف تم وضع كل تعبير في موطنه اللائق به. 4- كرر فعل الإتيان في النمل، فقال: {سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ} ، ولم يكرره في القصص، بل قال: {لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ} فأكد الإتيان في سورة النمل لقوة يقينه وثقته بنفسه، والتوكيد يدل على القوة، في حين لم يكرر فعل الإتيان في القصص مناسبة لجو الخوف. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى إن فعل (الإتيان) تكرر في النمل اثنتي عشرة مرة. وتكرر في القصص ست مرات فناسب تكرار {آتِيكُمْ} في النمل من كل وجه. 5- وقال في سورة النمل: {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} . وقال في القصص: {لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} . فذكر في سورة النمل أنه يأتيهم بشهاب قبس، والشهاب: هو شعلة من النار ساطعة. ومعنى (القَبَس) شعلة نار تقتبس من معظم النار، كالمقباس يقال: قبس يقبس منه ناراً، أي: أخذ منه ناراً، وقبس العلمَ استفادَه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وأما (الجذوة) فهي الجمرة أو القبسة من النار وقيل: هي ما يبقى من الحطب بعد الالتهاب، وفي معناه ما قيل: هي عود فيه نار بلا لهب. والمجيء بالشهاب أحسن من المجيء بالجمرة، لأن الشهاب يدفىء أكثر من الجمرة لما فيه من اللهب الساطع، كما أنه ينفع في الاستنارة أيضاً. فهو أحسنُ من الجذوة في الاستضاءة والدفء. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ذكر أنه سيأتي بالشهاب مقبوساً من النار، وليس مُخْتلَساً أو محمولاً منها، لأن الشهاب يكون مقبوساً وغير مقبوس، وهذا أدلّ على القوة وثبات الجنان، لأن معناه أنه سيذهب إلى النار ويقبس منها شعلة ساطعة. أما في القصص فقد ذكر أنه ربما أتى بجمرة من النار، ولم يقل إنه سيقبسها منها. والجذوة قد تكون قبساً وغير قبس. ولا شك أن الحالة الأولى أكمل وأتم لما فيها من زيادة نفع الشهاب على الجذوة، ولما فيها من الدلالة على الثبات وقوة الجنان. وقد وضع كل تعبير في موطنه اللائق به، ففي موطن الخوف، ذكر الجمرة وفي غير موطن الخوف، ذكر الشهاب القبس. 6- قال في سورة النمل: {فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ} . وقال في سورة القصص: {فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ} . فما الفرقُ بينهما؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 قال الراغب الأصفهاني مفرقاً بين الإتيان والمجيء: "الإتيان مجيءٌ بسهولة، ومنه قيل للسيل المار على وجهه أتي". وقال: "المجيء كالإتيان، لكن المجيء أعم، لأن الإتيان مجيءٌ بسهولة". ولم يذكر أهل المعجمات ما ذكره الراغب، وإنما هم يفسرون واحداً بالآخر، فيفسرون جاء بأتى، وأتى بجاء، غير أنهم يذكرون في بعض تصريفات (أتى) ما يدلُّ على السهولة، فيقولون مثلاً في تفسير الطريق الميتاء من (أتى) "طريق مسلوك يسلكه كل أحد" وذلك لسهولته ويسره. ويقولون: "كل سيل سهلته لماء، أتيّ" و "أتّوا جداولها: سهلوا طرق المياه إليها" يقال: (أتّيت الماء) إذا أصلحت مجراه حتى يجري إلى مقارّه ... ويقال: أتّيت للسيل، فأنا أؤتّيه إذا سهلت سبيله من موضع إلى موضع ليخرج إليه ... وأتّيت الماء تأتيةٌ وتأتّياً، أي: سَهَّلتُ سبيله ليخرج إلى موضع". والذي استبان لي أن القرآن الكريم، يستعملُ المجيءَ لما فيه صعوبةٌ ومشقة، أو لما هو صعب وأشق مما تُستعمل له (أتى) فهو يقول مثلاً: {فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور} [المؤمنون: 27] ، وذلك لأنّ المجيء فيه مشقة وشدة. وقال: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق: 19] . وقال {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} [الكهف: 71] . وقال: {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} [الكهف: 74] . وقال: {قَالُواْ يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} [مريم: 27] . وقال: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمان وَلَداً * لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً} [مريم: 88-90] . وقال: {وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الباطل كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81] . وقال: {فَإِذَا جَآءَتِ الصآخة * يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ} [عبس: 33-34] . وقال: {فَإِذَا جَآءَتِ الطآمة الكبرى} [النازعات: 34] . وهذا كله مما فيه صعوبة ومشقة. وقد تقول: وقد قال أيضاً: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية} [الغاشية: 1] . والجواب: أن الذي جاء هنا هو الحديث وليس الغاشية في حين أن الذي جاء هناك هو الطَّامةُ والصاخَّة ونحوهما مما ذكر. ويتضح الاختلاف بينهما في الآيات المتشابهة التي يختلف فيها الفعلان، وذلك نحو قوله تعالى: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] . وقوله: {فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ الله} [غافر: 78] ، ونحو قوله: {جَآءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110] و {أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام: 34] ، ونحو قوله: {لَّجَآءَهُمُ العذاب} [العنكبوت: 53] {وَأَتَاهُمُ العذاب} [النحل: 26] وما إلى ذلك. فإنه يتضح الفرق في اختيار أحدهما على الآخر، وإليك إيضاح ذلك: قال تعالى: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 1] . وقال: {فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ الله قُضِيَ بالحق وَخَسِرَ هُنَالِكَ المبطلون} [غافر: 78] . فقد قال في النحل: {أتى أَمْرُ الله} ، وقال في غافر: {جَآءَ أَمْرُ الله} ، وبأدنى نظر يتضح الفرق بين التعبيرين، فإن المجيء الثاني، أَشَقُّ وأصعبُ لما فيه من قضاءٍ وخسران، في حين لم يزد في الآية الأولى على الإتيان. فاختار لما هو أصعب وأشق (جاء) ولما هو أيسر (أتى) . ونحو ذلك قوله تعالى: {حتى إِذَا استيأس الرسل وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القوم المجرمين} [يوسف: 110] . وقوله: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حتى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ المرسلين} [الانعام: 34] . فقال في آية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 يوسف: {جَآءَهُمْ نَصْرُنَا} وفي آية الأنعام: {أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} ومن الواضح أن الحالة الأولى أشق وأصعب وذلك أن الرُّسُلَ بلغوا درجة الاستيئاس وهي أبعدُ وأبلغ، وذهب بهم الظن إلى أنهم كُذبوا، أي: أن الله سبحانه وتعالى كذبهم ولم يصدُقهم فيما وَعَدَهم به وهذا أبلغ درجات اليأس وأبعدها وعند ذاك جاءهم نصره سبحانه فنجّي من شاء وعوقب المجرمون. في حين ذكر في الآية الأخرى أنهم كُذّبوا، أي: كذبهم الكافرون، وأُوذوا فصبروا. وفرقٌ بعيد بعيد بين الحالتين، فلقد يكذَّب الرسلُ وأتباعهم ويؤذَون ولكن الوصول إلى درجة اليأس والظن بالله الظنون البعيدة أمرٌ كبير. ثم انظر إلى خاتمة الآيتين تر الفرق واضحاً، فما ذكره من نجاة للمؤمنين ونزول اليأس على الكافرين في آية يوسف مما لا تجده في آية الأنعام يدلك على الفرق بينهما. ومن ذلك قوله تعالى: {كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * فَأَذَاقَهُمُ الله الخزي فِي الحياة الدنيا وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 25-26] . وقوله: {قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * ثُمَّ يَوْمَ القيامة يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الذين أُوتُواْ العلم إِنَّ الخزي اليوم والسواء عَلَى الكافرين} [النحل: 26-27] . فقال في الآيتين: {وَأَتَاهُمُ العذاب} في حين قال: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ العذاب وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين * يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 53-55] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 فقال: {لَّجَآءَهُمُ العذاب} وذلك أن الآيتين الأوليين في عذاب الدنيا بدليل قوله في آية النحل: {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يُخْزِيهِمْ} وقوله في آية الزمر: {فَأَذَاقَهُمُ الله الخزي فِي الحياة الدنيا وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} في حين أن آية العنكبوت في عذاب الآخرة، وحتى لو كانت في عذاب الدنيا فإن ما ذكر فيها من العذاب أشق وأشد مما في الآيتين الأخريين بدليل قوله: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} وقوله: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} فجاء لما هو أشق وأشد بالفعل (جاء) ولما هو أيسر بـ (أتى) . وقد تقول: ولكنه قال: {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً} فاستعمل مضارع (أتى) . والجواب: أن القرآن لم يستعمل مضارعاً للفعل جاء. ولذلك كلُّ ما كان من هذا المعنى مضارعاً، استعمل له مضارع (أتى) فلا يدخل المضارع في الموازنة وسيأتي بيان ذلك. ومن ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إبراهيم وأصحاب مَدْيَنَ والمؤتفكات أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولاكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَيُقِيمُونَ الصلاة} [التوبة: 70-71] . فقال: {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات} وهو الموطن الوحيد الذي جاء فيه نحو هذا التعبير في القرآن في حين قال في المواطن الأخرى كلها: {جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} [الأعراف: 101] . ولو نظرت في هذه التعبيرات، ودققت فيها لوجدت أن كل التعبيرات التي جاءت بالفعل (جاء) أشق وأصعب مما جاء بـ (أتى) ، وإليك بيان ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 قال تعالى: {تِلْكَ القرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كذلك يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين * وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ * ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى بآياتنآ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين} [الأعراف: 101-103] . فانظر كيف قال في آية التوبة: {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولاكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ولم يذكر أنهم كفروا أو عوقبوا، في حين قال في آيات الأعراف: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} فذكر عدم إيمانهم، وأنهم طُبع على قلوبهم: {كذلك يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين} وذكر أنه وجد أكثرهم فاسقين، وأنه لم يجد لأكثرهم عهداً، وذكر بعد ذلك ظُلْمَ فرعون وقومه لموسى وتكذيبهم بآيات الله وعاقبتهم. فانظر موقف الأمم من الرسل في الحالتين وانظر استعمال كُلٍّ من الفعلين جاء وأتى، يتبين لك الفرق واضحاً بينهما. ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كذلك نَجْزِي القوم المجرمين} [يونس: 13] . فقال: {وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} وذلك أنه ذكر إهلاك القرون لظلمهم وذكر تكذيبهم وعدم إيمانهم وذكر جزاء المجرمين. وقال: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات فردوا أَيْدِيَهُمْ في أفواههم وقالوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [إبراهيم: 9] . إلى أن يقول: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ على مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون * وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 الظالمين} [إبراهيم: 12-13] . ويمضي في وصف عذاب الكفرة عذاباً غليظاً: {مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ ويسقى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 16-17] . فقال أيضاً: {وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} ، وأنا في غنى عن أن أبيّن موقف الأمم من رسلهم، وكفرهم بما أرسلوا به، وتهديدهم لهم بإخراجهم من الأرض، وعن ذكر عذاب الكافرين في الدنيا بإهلاكهم وفي الآخرة بما وصفه أفظع الوصف. فانظر إتيانه بالفعل (جاء) وقارنه بالفعل (أتى) في آية التوبة يتضح الفرق بين استعمال الفعلين. ومن ذلك قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ كانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرض وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولاكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الذين أَسَاءُواْ السواءى أَن كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} [الروم: 9-10] . فذكر عاقبة الذين أساؤوا، وأنها السُّوأى تأنيث الأسوأ، أي أسوأ الحالات على الإطلاق، وذكر تكذيب الأمم لرسلهم واستهزاءهم بهم، في حين لم يصرح في آية التوبة بتكذيب ولا استهزاء، ولم يذكر لهم عاقبةً ما. ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير * ثُمَّ أَخَذْتُ الذين كَفَرُواْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [فاطر: 25-26] . فذكر تكذيب الأمم السابقة لرسلهم بعد أن جاؤوهم بكل ما يدعو إلى الإيمان من البَيِّنات والزبر والكتاب المنير، وذكرَ أخذَهُ لهم وعَلَّقَ على ذلك بقوله: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 ومن ذلك قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ كانوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأرض فَمَآ أغنى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّتَ الله التي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون} [غافر: 82-85] . فقال: {جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} ثم ذكر أن أممهم استهزؤوا برسلهم وبقوا على شركهم حتى رأوا بأس الله ينزل بهم. فلم ينفعهم إيمانهم بعد فوات الأوان. قارن هذه الآيات التي وردت بالفعل (جاء) بالآية التي وردت بالفعل (أتى) وهي آية التوبة، يتبين الفرق بين استعمال الفعلين: جاء وأتى. وقد تقول: لكن ورد في القرآن (أتتكم الساعة) و (جاءتهم الساعة) والساعة واحدة، فما الفرق؟ وأقول ابتداء أنه لا يصح اقتطاع جزء من الآية للاستدلال، بل ينبغي النظرُ في الآية كلها وفي السياق أيضاً ليصحَّ الاستدلالُ والحكم. وإليك الآيتين اللتين فيهما ذِكْرُ الساعة. قال تعالى: {قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الله حتى إِذَا جَآءَتْهُمُ الساعة بَغْتَةً قَالُواْ ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام: 31] . وقال: {قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أتاكم عَذَابُ الله أَوْ أَتَتْكُمُ الساعة أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صادقين * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 40-41] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 فقال في الآية الأولى: {جَآءَتْهُمُ الساعة} وقال في الثانية: {أَتَتْكُمُ الساعة} . وبأدنى تأمل يتضح الفرق بين المقامين. فإن الأولى في الآخرة وفي الذين كذبوا باليوم الآخر، وهم نادمون متحسرون على ما فرطوا في الدنيا، وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم. وتوضحه الآية قبلها وهي قوله تعالى: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هاذا بالحق قَالُواْ بلى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ ... } [الأنعام: 30-31] . في حين أن الثانية في الدنيا بدليل قوله: {أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صادقين} وقوله: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} فذكر أنه يكشف ما يدعون إليه إن شاء، وهذا في الدنيا، وإلا فإن الله لا يكشف عن المشركين شيئاً في الآخرة ولا يستجيب لهم البتة. فالموقف الأول أشق وأشد مما في الثانية، فجاء بالفعل (جاء) لما هو أصعب وأشق. ويستعمل (أتى) لما هو أخف وأيسر. ولعل من أسباب ذلك أن الفعل (جاء) أثقل من (أتى) في اللفظ بدليل أنه لم يرد في القرآن فعل مضارع لـ (جاء) ولا أمر ولا اسم فاعل ولا اسم مفعول، ولم يرد إلا الماضي وحده بخلاف (أتى) الذي وردت كل تصريفاته، فقد ورد منه الماضي والمضارع والأمر واسم الفاعل واسم المفعول. فناسب بين ثقل اللفظ وثقل الموقف في (جاء) ، وخِفَّةِ اللفظ وخفة الموقف في (أتى) والله أعلم. ونعود إلى ما نحن فيه من قصة موسى، فقد قال في سورة النمل: {فَلَمَّا جَآءَهَا} وقال في سورة القصص: {فَلَمَّآ أَتَاهَا} ذلك أن ما قطعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 موسى على نفسه في النمل أصعب مما في القصص، فقط قطع في النمل على نفسه أن يأتيهم بخبرٍ أو شهاب قبس، في حين ترجّى ذلك في القصص. والقطع أشق وأصعب من الترجي. وأنه قطع في النمل، أنْ يأتيهم بشهابٍ قبس، أي: بشعلة من النار ساطعة مقبوسة من النار التي رآها في حين أنه ترجَّى في القصص أن يأتيهم بجمرة من النار، والأولى أصعب. ثم إن المهمة التي ستوكل إليه في النمل، أصعب وأشق مما في القصص، فإنه طُلبَ إليه في النمل، أن يُبلِّغ فرعون وقومه رسالةَ ربه، في حين طلب إليه في القصص، أن يبلغ فرعون وملأه. وتبليغُ القوم أوسعُ وأصعب من تبليغ الملأ، ذلك أن دائرة الملأ ضيقة، وهم المحيطون بفرعون في حين أن دائرة القوم واسعة، لأنهم منتشرون في المدن والقرى، وأن التعامل مع هذه الدائرة الواسعة من الناس صعب شاق، فإنهم مختلفون في الأمزجة والاستجابة والتصرف، فما في النمل أشق وأصعب، فجاء بالفعل (جاء) دون (أتى) الذي هو أخف. ويدل على ذلك قوله تعالى في سورة طه: {فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ ياموسى} [طه: 11] ، ذلك لأنه أمره بالذهاب إلى فرعون ولم يذكر أحداً آخر: {اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى * قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لي أَمْرِي} [طه: 24-26] . فانظر كيف لما أرسله إلى فرعون قال: {أَتَاهَا} ، ولما أرسله إلى فرعون وملئه قال (أتاها) أيضاً في حين لما أرسله إلى فرعون وقومه قال: {جَآءَهَا} وأنت ترى الفرق بين الموطنين ظاهراً. 7- ذكر في القصص جهة النداء فقال: {فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الوادي الأيمن فِي البقعة المباركة مِنَ الشجرة} ولم يذكر الجهة في النمل، وذلك لأن موطنَ القصص موطنُ تفصيل، وموطن النمل موطن إيجاز كما ذكرت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 8- قال في النمل: {نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ الله رَبِّ العالمين} ولم يذكر مثل ذلك في القصص، بل ذَكَرَ جهة النداء فقط، وذلك لأن الموقف في النمل موقفُ تعظيمٍ كما أسلفنا وهذا القول تعظيم لله رب العالمين. 9- قال في النمل: {ياموسى} . وقال في القصص: {أَن ياموسى} . فجاء بـ (أن) المفسرة في القصص، ولم يأت بها في النمل، وذلك لأكثر من سبب. منها: أن المقام في النمل مقام تعظيم لله سبحانه، وتكريم لموسى كما ذكرنا فَشرَّفه بالنداء المباشر في حين ليس المقام كذلك في القصص، فجاء بما يفسر الكلام، أي: ناديناه بنحو هذا، أو بما هذا معناه، فهناك فرق بين قولك: (أشرت إليه أن أذهب) و (قلت له اذهب) فالأول معناه: أشرت إليه بالذهاب، بأيِّ لفظٍ أو دلالة تدل على هذا المعنى. وأما الثاني فقد قلت له هذا القول نصّاً، ومثله قوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم * قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} [الصافات: 104-105] . أي: بما هذا تفسيره أو بما هذا معناه بخلاف قوله: {قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] . ومنها أن المقام في سورة القصص، مقام تبسّط وتفصيل فجاء بـ (أن) زيادة في التبسط. ومنها أن ثقل التكليف في النمل يستدعي المباشرة في النداء، ذلك أن الموقف يختلف بحسب المهمة وقوة التكليف كما هو معلوم. 10- قال في النمل: {إِنَّهُ أَنَا الله العزيز الحكيم} . وقال في سورة القصص: {إني أَنَا الله رَبُّ العالمين} . فجاء بضمير الشأن الدال على التعظيم في آية النمل: {إِنَّهُ أَنَا} ولم يأت به في القصص، ثم جاء باسميه الكريمين: {العزيز الحكيم} في النمل زيادة في التعظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 ثم انظر إلى اختيار هذين الاسمين وتناسبهما مع مقام ثقل التكليف، فإن فرعونَ حاكمٌ متجبر يرتدي رداء العزة، ألا ترى كيف أقسم السحرةُ بعزته قائلين: {بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} [الشعراء: 44] . فاختار من بين أسمائه (العزيز) مُعرَّقاً بالألف واللام للدلالة على أنه هو العزيز ولا عزيزَ سواه، و (الحكيم) للدلالة على أنه لا حاكمَ ولا ذا حكمةٍ سواه، فهو المتصف بهذين الوصفين على جهة الكمال حصراً. وفي تعريف هذين الاسمين بالألف واللام من الدلالة على الكمال والحصر ما لا يخفى ما لو قال: (عزيز حكيم) فإنه قد يشاركه فيهما آخرون. ثم انظر من ناحية أخرى، كيف أنه لما قال: {أَنَا الله العزيز الحكيم} ، لم يذكر أن موسى سأل ربه أن يعزِّزه ويُقَوِّيه بأخيهِ. ولما لم يقل ذلك ذكر أنه سأل ربه أن يكون له رِدْءٌ، يُصدّقه ويقوّيه وهو أخوه (هارون) . وقد تقول: ولكنه قال في القصص: {إني أَنَا الله رَبُّ العالمين} ، وفي ذلك من التعظيم ما لا يخفى. ونقول: وقد قال ذلك أيضاً في النمل، فقد قال: {وَسُبْحَانَ الله رَبِّ العالمين} ، وزاد عليه: {إِنَّهُ أَنَا الله العزيز الحكيم} . فاتضح الفرق بين المقامين. وقد تقول: ولِمَ قال في سورة طه: {إني أَنَاْ رَبُّكَ فاخلع نَعْلَيْكَ} [طه: 12] بذكر ربوبيته له خصوصاً، ولم يقل كما قال في سورتي النمل والقصص: (رب العالمين) ؟ والجواب: أنه في سورة طه كان الخطاب والتوجيه لموسى عليه السلام أولاً فعلّمه وأرشده فقال له: {إنني أَنَا الله لا إلاه إلا أَنَاْ فاعبدني وَأَقِمِ الصلاة لذكري * إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} [طه: 14-15] ، فطلب منه العبادةَ وإقامة الصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وقال بعد ذلك: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى} [طه: 23] ثم ذكر مِنَّته عليه مرة أخرى فقال: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى * إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى} [طه: 37-38] . ويمضي في ذكر مِنَّته عليه ولم يرد مثل ذلك في النمل ولا في القصص. فإنه لم يذكر توجيهاً له أو إرشاداً لعبادته في النمل، ولا في القصص فلم يأمره بعبادة أو صلاة أو تكليف خاص بشأنه. ثم إنه في سورة القصص وإن كان قد فَصَّلَ في ذِكْرِ ولادته ونشأته وما إلى ذلك فقد ذكرها في حالة الغيبة لا في حالة الخطاب: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ} {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ * ... فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ * ... وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ * ... وَدَخَلَ المدينة} في حين كان الكلام في سورة طه بصورة الخطاب. فناسب أن يقول له في (طه) {أَنَاْ رَبُّكَ} بخلاف ما في النمل والقصص، والله أعلم. 11- قال في النمل: {وَأَلْقِ عَصَاكَ} . وقال في القصص: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} . فجاء بـ (أن) المفسرة أو المصدرية. ونظيره ما مر في قوله: (يا موسى) و (أن يا موسى) . فقوله: {وَأَلْقِ عَصَاكَ} قولٌ مباشر من رب العزة، وهو دال على التكريم. وأما قوله: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} فإن معناه: أنه ناداه بما تفسيره هذا أو بما معناه هذا. فأنت إذا قلت: (ناديته أن اذهب) كان المعنى ناديته بالذهاب. فقد يكون النداء بهذا اللفظ أو بغيره بخلاف قولك: (ناديته اذهب) ، أي: قلت له: اذهب. وهو نحو ما ذكرناه في قوله: (يا موسى) و (أن يا موسى) من أسباب ودواعٍ فلا داعي لتكرارها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 12- قال في النمل: {ياموسى لاَ تَخَفْ} . وقال في القصص: {ياموسى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ} . بزيادة (أقبل) على ما في النمل وذلك له أكثر من سبب. منها: أن مقام الإيجاز في النمل يستدعي عدم الإطالة، بخلاف مقام التفصيل في القصص. ومنها: أن شيوع جو الخوف في القصص يدل على إيغال موسى في الهرب، فدعاه إلى الإقبال وعدم الخوف. فوضع كل تعبير في مكانه الذي هو أليق به. 13- قال في النمل: {إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون} . وقال في القصص: {إِنَّكَ مِنَ الآمنين} . ذلك أن المقام في سورة القصص مقام الخوف، والخائف يحتاج إلى الأمن، فأمَّنه قائلاً: {إِنَّكَ مِنَ الآمنين} . أما في سورة النمل فالمقام مقام التكريم والتشريف، فقال: {إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون} ، فألمح بذلك إلى أنه منهم، وهذا تكريم وتشريف. ثم انظر كيف قال: {لَدَيَّ} مُشْعِراً بالقُربِ وهو زيادةٌ في التكريم والتشريف. ثم انظر من ناحية أخرى كيف أنه لما قال في سورة النمل {لَدَيَّ} المفيدة للقرب ناداه بما يفيد القرب فقال: {ياموسى} ولم يقل: {أَن ياموسى} كما قال في القصص، ففصل بين المنادي والمنادَى بما يفيد البعد. وأمره أيضاً بما يفيد القرب بلا فاصل بينهما فقال: {أَلْقِ عَصَاكَ} ولم يقل: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} للدلالة على قرب المأمور منه. فناداه من قُرْبٍ وأمرَهُ من قرب، وذلك لأنه كان منه قريباً، فانظر علو هذا التعبير ورفعته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 ثم انظر من ناحية أخرى كيف قال: {إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون} ولم يقل: (إني لا يخاف مني المرسلون) لأن المرسلين لا يخافون بحضرته، ولكنهم يخشونه ويخافونه كل الخوف، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أنا أخشاكم لله" فهو أخوفُ الناس منه، وأخشاهم له. 14- قال في النمل: {إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سواء فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ولم يقل مثل ذلك في القصص، لأنه لا يحسن أن يقال: (إنك من الآمنين إلا من ظلم، ثم بدل حسناً بعد سوء..) ولو قال هذا لم يكن كلاماً. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، ناسب ذلك قول ملكة سبأ {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين} . فإنها ظلمت نفسها بكفرها وسجودِها للشمس من دون الله، ثم بدّلت حُسْناً بعد سوء، فأسلمتْ لله رب العالمين. فلاءم هذا التعبير موطنه من كل ناحية. وقد تقول: لقد ورد مثل هذا التعبير في سورة القصص أيضاً، وهو قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} . والحق أن المقامين مختلفان، فإن القول في سورة القصص هو قول موسى عليه السلام حين قتل المصري، وموسى لم يكن كافراً بالله، بل هو مؤمن بالله تعالى، ألا ترى إلى قوله منيباً إلى ربه بعد ما فعل فعلته: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي} وقوله حين فرَّ من مصر: {رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين} وقوله: {قَالَ عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل} . فإن موسى لم يبدّل حُسْناً بعد سوء، ذلك أنه عليه السلام لم يكن سيئاً بخلافِ ملكة سبأ، فإنها كانت مشركة، وقد بدّلت حسناً بعد سوء. فما جاء من قوله: {إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سواء} أكثر ملاءمة للموضع الذي ورد فيه من كل ناحية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 15- قال في النمل: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} . وقال في القصص: {اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} . لقد استعمل في سورة القصص أمر الفعل (سلكَ) الذي يستعمل كثيراً في سلوك السُّبُل فيقال: سلك الطريق والمكان سَلْكاً، قال تعالى: {والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً * لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} [نوح: 19-20] . ذلك لأنه تردد سلوكُ الأمكنةِ والسبل في قصة موسى في القصص، بخلاف ما ورد في النمل. فقد ورد فيها، أي: في سورة القصص سلوك الصندوق بموسى، وهو مُلقى في اليمّ إلى قصر فرعون، وسلوك أخته وهي تقصُّ أثره. وسلوك موسى الطريق إلى مدين بعد فراره من مصر، وسلوكه السبيلَ إلى العبد الصالح في مدين، وسَير موسى بأهله وسلوكه الطريق إلى مصر، حتى إنه لم يذكر في النمل سَيره بأهله بعد قضاء الأجل، بل إنه طوى كُلَّ ذِكْرٍ للسير والسلوك في القصة. فقال مبتدئاً: {إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ إني آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} بخلاف ما ورد في القصص، فإنه قال: {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً} فحسن ذكر السلوك في القصص دون النمل. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إن الفعل (دخل) ومشتقاته تكرر خمس مرات في النمل في حين، لم يرد هذا الفعل ولا شيء من مشتقاته في القصص، فناسب ذكره في النمل دون القصص. ومن ناحية أخرى، إن الإدخال أخص من السَّلْك أو السلوك اللذين هما مصدر الفعل سلك، لأن السَّلْك أو السلوك، قد يكون إدخالاً وغير إدخال، تقول: سلكتُ الطريق وسلكت المكان، أي: سرتُ فيه، وتقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 سلكت الخيط في المخيط، أي: أدخلته فيه. فالإدخالُ أَخصُّ وأشقُّ من السلك والسلوك. فإن السَّلك قد يكون سهلاً ميسوراً، قال تعالى في النحل: {فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً} [النحل: 69] ، فانظر كيف قال: {ذُلُلاً} ليدلل على سهولته ويُسْرِه، وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض} [الزمر: 21] . وهل هناك أيسر من سلوك الماء في الأرض وغوره فيها؟ فناسب وضع السلوك في موطن السهولة واليسر، ووضع الإدخال في موطن المشقة والتكليف الصعب. لقد ناسب الإدخال أن يوضع مع قوله: {سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} وقوله: {فَلَمَّا جَآءَهَا} ومهمةَ التبليغِ إلى فرعون وقومه. وناسب أن يوضع السلوك في مقام الخوف، وأن يوضع الإدخال في مقام الأمن والثقة. وناسب أن يوضع الإدخال، وهو أخص من السلوك مع (الشهاب القبس) الذي هو أخَصُّ من الجذوة، وأن يوضع السلوك، وهو أعمُّ من الإدخال مع الجذوة من النار التي هي أعم من الشهاب القبس. فكل لفظة وضعت في مكانها الملائم لها تماماً. 16- قال في القصص: {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب} ولم يذكر مثل ذلك في النمل. و (الرهب) هو الخوف، وهو مناسبٌ لجو الخوف الذي تردد في القصة. ومناسب لجو التفصيل فيها بخلاف ما في النمل. 17- قال في النمل: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} . وقال في القصص: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ} . فقد أعطاه في النمل تسع آيات إلى فرعون، وذكر في القصص برهانين، وذلك لما كان المقام في النمل مقامَ ثِقةٍ وقوة وسّع المهمة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 فجعلها إلى فرعون وقومه، ووسَّع الآيات فجعلها تسعاً، ولما كان المقام مقام خوف في القصص، ضيّق المهمة، وقلل من ذكر الآيات. وكل تعبير وضع في مكانه المناسب. ثم إن استعمال كلمة (الآيات) في النمل مناسب لما تردد من ذكر للآيات والآية في السورة، فقد تردد ذِكْرهما فيها عشر مرات، في حين تردد في القصص ست مرات. فناسب وضع (الآيات) في النمل، ووضع (البرهان) في القصص الذي تردد فيها مرتين، في حين ورد في النمل مرة واحدة، فناسب كل تعبير مكانه. 18- قال في النمل: {إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} . وقال في القصص: {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} . فوسّع دائرة التبليغ في النمل كما ذكرنا، وذلك مناسب لجو التكريم في القصة، ومناسب لثقة موسى بنفسه التي أوضحتها القصة. ولما وسّع دائرة التبليغ وسّع الآيات التي أعطيها، بخلاف ما ورد في القصص. 19- قال في النمل: {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هاذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} . ومعنى ذلك أن موسى قبل المهمة ونفذها من دون ذكر لتردد أو مراجعة، وهو المناسب لمقام القوة والثقة والتكريم، في حين قال في القصص: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} ، فذكر مراجعته لربه وخوفه على نفسه من القتل. وهو المناسب لجو الخوف في السورة ولجو التبسط والتفصيل في الكلام. وكل تعبير مناسب لموطنه الذي ورد فيه كما هو ظاهر. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 من سورتي المؤمنون والزمر من سورة (المؤمنون) {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ} . من سورة الزُّمَر {ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحمد للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} . *** ترى في هذين النصين آيتين فيهما شيء من التلاقي في التعبير وشيء من الاختلاف، وهما قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ} . وقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} . وهاهنا ثلاثة سؤالات وهي: 1- لِمَ قال في آيةِ (المؤمنون) : {لَمَيِّتُونَ} باللام، وقال في الزمر: {مَّيِّتُونَ} من دون لام؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 2- ولِمَ أكد الموت في آية (المؤمنون) بإن واللام، وأكد البعث بإنَّ وحدها مع أن الموت لا شك فيه، وليس ثمة مُنْكِر له، بخلاف البعث، فإن هناك منكرين له كثيرين؟ 3- لِمَ ختم آية (المؤمنون) بالبعث فقال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ} ، وختم آية الزمر بالاختصام فقال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} . وللجواب عن السؤال الأول نقول: لقد أكد الموت في آية (المؤمنون) بإن واللام في حين أكده في الزمر بإن وحدها، ذلك أن سورة (المؤمنون) تكرر فيها ذكر الموت كثيراً، وتعددت صوره وأحواله، بخلاف سورة الزمر. فقد ذكر في سورة (المؤمنون) قوم نوح، وقال: {إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} ، أي: سيموتون بالغرق. وقال بعدها: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} ، ثم قال: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} ، وقال بعدها: {فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة بالحق فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين} ، وقال بعدها: {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} ، وقال بعد ذلك: {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ المهلكين} ، ثم قال بعدها: {وَهُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اختلاف الليل والنهار} ، ثم قال: {قالوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} ، وقال بعدها: {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ رَبِّ ارجعون} . في حين لم يَرِدْ ذِكْرُ الموت في سورة (الزمر) إلا مرتين إحداهما في الآية المذكورة وهي قوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} والأخرى قوله: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 لقد تردد ذكر الموت في سورة (المؤمنون) عشر مرات، في حين لم يرد ذكر الموت في سورة (الزمر) إلا مرتين، فاقتضى ذلك تأكيد الموت في سورة (المؤمنون) أكثر مما في (الزمر) . هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إنه لما أكثرَ من الكلام على الموت في (المؤمنون) ، أكثرَ من تأكيده في الآية فجعله بحرفين، ولما قَلَّلَ الكلامَ عليه في (الزمر) ، قلل من حروف التوكيد، فكان كلُّ تعبيرٍ مناسباً لموطنه. أما بالنسبة إلى السؤال الثاني، فنقول: إن النظرة الأولى قد توحي بأنه كان ينبغي تأكيد البعث أكثر من تأكيد الموت، ذلك لأن الموت لا شَكَّ فيه، وأنه لا ينكره أحد، أما البعث فَمُنْكِرُوه كثير، فلماذا إذن أكَّدَ الموتَ أكثر مما أكد البعث؟ لماذا أكد الموت بإن واللام فقال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ} ، وأكد البعث بإن وحدها، فقال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ} . لقد أثير هذا السؤال قديماً، فقد جاء في (البحر المحيط) : "فإن قلت: الموت مقطوع به عند كل أحد، والبعث قد أنكرته طوائف، واستبعدته وإن كان مقطوعاً به من جهة الدليل لإمكانه في نفسه ومجيء السمع به، فوجب القطع به، فما بالُ جملة الموت مؤكَّدة بإن واللام ولم تؤكد جملة البعث [إلا] بإن؟ ". إن هناك أكثر من سبب يدعو إلى هذا التعبير منها: 1- إن ما ذكره قبل هذه الآية من خلق الإنسان من الطين وإحكامه وتطويره من قطرةِ ماء إلى أنْ يصير إنساناً عاقلاً منتشراً في الأرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 أكبر دليل على أن إعادته ممكنة ليس في ذلك أدنى ريب، فلا يحتاج بعد هذه الأدلة إلى كبير توكيد. جاء في (روح المعاني) : "ولم يؤكد سبحانه أمرَ البعث تأكيده لأمر الموت مع كثرة المترددين فيه والمنكرين له، اكتفاء بتقديم ما يغني عن كثرة التأكيد، ويشيد أركان الدعوى أتم تشييد من خَلْقِه تعالى الإنسانَ من سلالةٍ من طين، ثم نقله من طور إلى طور، حتى أنشأه خلقاً آخر يستغرق العجائب، ويستجمع الغرائب، فإن في ذلك أدل دليل على حكمته وعظيم قدرته عز وجل". وجاء في (البحر المحيط) : "ولم تؤكد جملة البعث إلا بإنّ لأنه أبرز في سورة المقطوع به الذي لا يمكن فيه نزاع، ولا يقبل إنكاراً وأنه حَتْمٌ لا بد من كيانه، فلم يحتج إلى توكيد ثان". 2- إن الإعادة أسهل من الابتداء في منطق العقل، فإن الذي يصنع كل يوم آلاف النماذج لهو أقدر على إعادتها إذا حطَّمها أو أتلفها، ولذا أكَّدَ الخلق الأول تأكيدين، وأكد البعث تأكيداً واحداً فقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} فأكَّده باللام وقد. وقال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ} فأكده بإنَّ وحدها، ذلك لأن الإعادة كما ذكرنا أهون من الابتداء في منطق العقل، وإن لم يكن على الله شيء أهون من شيء، قال تعالى: {وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] . وبذا يكون هذا التعبير أنسب شيء وأحسنه وأعدله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 3- إن ما ذكره الله من خلق الإنسانه وتطويره حتى صار مخلوقاً على أحسن هيئة، حتى قال رب العزة تعقيباً على خلقه: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} إن ذلك ربما يوحي أنه خلقه للخلود، وأعدّه للبقاء في هذه الدنيا. وأن الموت كأنه خلاف لما أعدّه له، ألا ترى إلى قوله تعالى: {بَعْدَ ذلك} ، في قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ} ، أي: إنكم بعد كل ذلك من التدبير والإحكام والإحسان في الخلق والتطوير، (وبعد ما ذكر من الأمور العجيبة) ستموتون مما يفيد استبعاد تقدير الموت عليه، ولذا اقتضى ذلك تأكيد الموت. جاء في (روح المعاني) : "ولما تضمنت الجملة السابقة المبالغة في أنه تعالى شأنه أحكم خلق الإنسان وأتقنه، بالغ سبحانه - عز وجل - في تأكيد الجملة الدالة على موته، مع أنه غير منكر لما أن ذلك سبب لاستبعاد العقل إياه، أشدَّ استبعاد حتى يوشك أن ينكر وقوعه مَنْ لم يشاهده، وسمع أن الله - جل جلاله - أحكم خلق الإنسان وأتقنه غاية الإتقان، وهذا وجه دقيق لزيادة التأكيد في الجملة الدالة على الموت، وعدم زيادته في الجملة الدالة على البعث". 4- إن الإنسان كثيراً ما يغفل عن الموت فينشغل بالحياة وتلهيه أمورها عما هو أَولى، ويعمل أعمال من لا يرجو الموت ولا يأمله، فلا يتعظ كما قال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التكاثر * حتى زُرْتُمُ المقابر} [التكاثر: 1-2] ، وكما قال: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 129] . فكأنه نسي حقيقة الموت الذي سيطولُه ولا بد، فهو كأنه منكر له في أعماله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وإن لم يكن منكراً له في عقله ولسانه، فنزل منزلة المنكر له غير المقرّ به لأن أعماله أعمال المنكرين له والعبرة بالأعمال لا بالأقوال. فأكّده له تأكيدَ المنكرين له لعله يَرْعوي ويتطامن. جاء في (روح المعاني) : "وقيل إنما بولغ في القرينة الأولى، لتمادي المخاطبين في الغفلة، فكأنهم نزلوا منزلة المنكرين لذلك، وأخليت الثانية لوضوح أدلتها وسطوح براهينها. وربما يقال: إن شدة كراهة الموت طبعاً التي لا يكاد يَسْلَمُ منها أحد، نزلت منزلة شدة الإنكار، فبولغ في تأكيد الجملة الدالة عليه. وأما البعث فمن حيث إنه حياةٌ بعد الموت لا تكرهه النفوس، ومن حيث إنه مَظنةٌ للشدائد تكرهه، فلما لم يكن حاله كحال الموت، ولا كحال الحياة، بل بَيْنَ بين، أكدت الجملة الدالة عليه تأكيداً واحداً". وجاء في (البحر المحيط) : إنه إنما بولغ في تأكيد الموت "تنبيهاً للإنسان أن يكون الموت نُصْبَ عينيه، ولا يغفل عن تَرَقُّبِهِ، فإن مآله إليه، فكأنه أكدت جملته، ثلاث مرار لهذا المعنى لأن الإنسان في الحياة الدنيا يسعى فيها غاية السعي ويؤكد ويجمع حتى كأنه مُخَلَّدٌ فيها فنبه بذكر الموت مؤكداً مبالغاً فيه ليقصر وليعلم أن آخره إلى الفناء فيعمل لدار البقاء". 5- إن الآية لم ترد في سياق المنكرين للبعث، بل هي في سياق المؤمنين العالمين بمقتضى إيمانهم الوارثين للفردوس، فلا يقتضي ذلك تأكيد البعث كتأكيد المنكرين له. وقد تقول: أفيقتضي هذا السياقُ تأكيدَ الموت؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 فنقول: نعم، فإن المؤمن قد تَعْرِضُ له غفلةٌ ينسى فيها الموت في زَحمة عمله، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "أكثروا من ذكر هاذم اللذات". وقال: "كفى بالموت واعظاً". فهو يحتاج إلى من يذكّره بالموت. 6- لقد أكد الموت هذا التأكيد للدلالة على أن الإنسان، لا يتمكن من الخلود في الدنيا مهما حاول، ومهما بذل من جهد في سبيل ذلك، فإن الإنسان لا بد أن يموت، ولا سبيل إلى الخلود ههنا. فهذا إخبار بأن الإنسان لا يستطيع أن يصل إلى ما يُخَلّده، وأن محاولاته ستبوء بالفشل مهما حاول. وهذه الآية قَطْعٌ لأطماعِ الإنسان في الخلود في الدنيا. 7- إن الموت يستدعي التأمل والنظر، ذلك أن الإنسان يموت ويُمَات، وقد خلقه الله كذلك، وكان بمقدوره تعالى أن يخلقه على غير هذه الحالة، فلا يموت ولا يُمَات. ولو قدر ذلك له لكان هذا أكبر نقمة على البشرية أو من أكبر النقم. تصور جيشاً هائلاً من المجرمين الموغلين في الإجرام، يعجز الخَلْقُ عن إهلاكهم، كيف سيفعلون بالناس الآخرين؟ إننا مع أسباب الموت والإماتة الكثيرة نعاني ما نعاني من المجرمين، فكيف إذا كان هؤلاء أحياء خالدين لا يمكن التخلص منهم؟ كيف لو اجتمع المجرمون من كل العصور، وأخذوا يعيثون ما يعيثون في المجتمعات؟ كيف ترى أصحاب العاهات والآلام الشديدة والمعذبين الذين يتمنون الموت في كل لحظة، ليريحهم مما هُمْ فيه ولا يحصل مُتمنَّاهم هذا؟ أليس الموت نعمة لهؤلاء؟ أليس الموتُ نعمةً لأصحاب النار مثلاً؟ ألا ترى إلى قولهم: {يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ} [الزخرف: 77] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 ثم انظر أية كارثة تحيق بالبشرية من تكاثرٍ مستمرٍ بلا موت؟ إنه أكبر وأخطر من أي سرطان عُرف أو يُعرف. ثم انظر كيف يعيش الناس عند ذاك، وما مقدار ما يكفيهم من الغذاء والكساء، وأماكن السكن، أية أرض ستتسع لهم؟ وغير ذلك وغيره من الأمور التي يطول تعدادها. أرأيت كيف أن الموت من أعظم نعم الله على البشرية في هذه الأرض؟ ألا ترى أن ذلك به حاجة إلى التنويه والنظر في أمره وتأمُّلِ نعمةِ الله فيه، كنعمةِ الخلق والإيجاد، ولذا أكدهما تأكيداً متناظراً، فقد أكد كلاًّ من الخلق والموت تأكيدين وأكد البعث تأكيداً واحداً. أنا لا أرى نعمة ممقوتة كهذه النعمة، ونعمة مَخُوفةً كهذه النعمة، ونعمة مُحزنة مُبكية مُؤْسيةً كهذه النعمة. إن توكيد الموت لم يجىء من حيث إنكار وقوعه، فإنّه لا ينكر أحد وقوعه، وإنما جاء من ناحيةِ إنكارِ عدم العمل بمقتضى هذه المعرفة، وعدم تقدير هذه النعمة حق قدرها على البشرية لا على الفرد الواحد بعينه. 8- ذهب أكثر النحاة إلى أن اللام الداخلة على الفعل المضارع، تُخلصه للحال زيادةً على إفادةِ التوكيد فإذا قلت: (إنه ليكتب) فمعناه: إنه يكتب الآن. أما إذا دخلت على الاسم فلا تخلصه للحال، بل تكون للتوكيد فقط، قيل: ولذا أكد الموت باللام ولم يؤكد البعث بها. جاء في (البحر المحيط) : "وكنتُ سُئِلْتُ: لِمَ دخلت اللام في قوله: {لَمَيِّتُونَ} ، ولم تدخل في {تُبْعَثُونَ} ، فأجبتُ: بأن اللام مخلصة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 المضارع للحال غالباً، فلا تجامع يوم القيامة، لأن إعمال (تبعثون) في الظرف المستقبل تخلصه للاستقبال، فتنافي الحال. وإنما قلت: (غالباً) لأنه قد جاءت قليلاً مع الظرف المستقبل، كقوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} [النحل: 124] ، على أنه يحتمل تأويل هذه الآية، وإقرار اللام مخلصة المضارع للحال، بأن يقدر عامل في يوم القيامة". ويبدو لي أن هذا هو الغالب، وليس هو قاعدة مطردة والله أعلم. مما تقدم يتضح أن تأكيد الموت بإنَّ واللام، وتأكيد البعث بإنّ وحدها له أكثر من سبب يدعو إليه. هذا علاوة على جو السورة التي وردت فيها الآية، واقتضى تأكيد الموت هذا التأكيد بخلاف ما في (الزمر) . فاقتضى ذلك من كل وجه هذا التعبير. وأمَّا بالنسبة إلى السؤال الثالث، وهو السؤال عن سبب ختم آية (المؤمنون) بالبعث، وختم آية الزّمر بالاختصام فنقول: إن نهاية كلّ آية تناسب سياق الآية الذي وردت فيه وتناسب جو السورة التي هي فيها. فإنَّ آية (المؤمنون) وقعت في سياق بَدْءِ خَلْقِ الإنسان وتطوره إلى منتهاه، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 فأنتَ ترى أن ختام الآيات هذه بالبعث، هو الختمُ الطبيعي، وهو الحلقة النهائية في سلسلة الحياة وتطورها. أما آية الزمر، فقد وقعت في سياقٍ آخر يقتضي ختم الآية بالخصومة، قال تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحمد للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} . والشركاء المتشاكسون مظنة الوقوع في الخصام، فكان الختم بذلك أمراً طبيعيّاً يقتضيه السياق. ثم إن جو سورة الزمر شائعٌ فيه ذِكْرُ الخصومات والفصل بين المختلفين، لأن الخصومة تقتضي الحكم والقضاء. أما جو سورة المؤمنون فشائعٌ فيه ذِكْرُ الموت والبعث. إن ذكر البعث والحياة الآخرة شائع في سورة (المؤمنون) . فقد قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ} . وقال: {وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الآخرة} . وقال: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} . وقال: {والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} . وقال: {وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة عَنِ الصراط لَنَاكِبُونَ} . وقال: {وَهُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اختلاف الليل والنهار} . وقال: {قالوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هاذا مِن قَبْلُ إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 وذكر مشهداً من مشاهد أهل النار: (انظر الآيات 103-108) ، ثم قال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} . فأنتَ ترى أن جو السّورة، يشيع فيه ذِكْرُ البعث واليوم الآخر، فناسب ختام الآية جو السورة، علاوة على السياق الذي وردت فيه. أما سورة الزمر فقد شاع فيها ذكر الخصومات والقضاء والحكم، فقد بدأت السورة، بقوله تعالى: {تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم} و (الحكيم) ، صفةٌ قد تكون من الحكم، وهو الفصل في الأمور، أي القضاء كما قال تعالى: {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ الحق وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين} [الأنعام: 57] . وقد تكون من الحكمة. وقال بعدها: {إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ، وهو واضح في الحكم بين المختلفين. والخصومةُ إنما هي لونٌ من ألوان الاختلاف. وقال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} . وقال: {أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} . وقال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بالحق وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} . والقضاء يقتضي اختلافاً وفصلاً. فأنتَ ترى أن جَوَّ السورة شاع فيه الفصلُ والاختلافُ والخصومات، فناسب ختام الآية جو السورة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، لقد ناسب ختام كل آية مُفْتَتحَ سورتها وخاتمتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 فقد ناسب قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ} في المؤمنون، مُفْتَتحَ السورة، وهو قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} ، ومن لوازم الإيمان، الإيمانُ بالبعث، وناسب قوله في آخر السورة: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} . وناسب قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} في (الزمر) مفتتح السورة، وهو قوله تعالى: {تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم} ، وقوله: {إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ، فإن الخصومة تقتضي حكمًا بين المتخاصمين، كما ناسب قوله تعالى في خاتمة السورة: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحق وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين} ، والقضاء إنما يكون بين المتخاصمين. فانظر كيف ناسَب ختامُ كل آية من الآيتين، مُفْتتحَ سورتها وخاتمتها، وناسب جَوَّ السورةِ الشائع فيها، وناسب السياقَ الذي وردت فيه. فقد اقتضى المقام خاتمة الآيتين من كل وجه. ثم انظر بعد ذلك كيف قال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} ، فأفردَ النبيَّ عنهم، وجعلهم فريقين، ذلك لأن الخصومة والفصل يقتضيان أكثر من طرف، في حين لم يقتض ذلك في آية المؤمنون، فقال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ} بجعلهم فريقاً واحداً، إذ كلهم يُبعثون وبخاصة أن الكلام على الإنسان على وجه العلموم خلقه وتطوره وموته وبعثه. فانظر كيف ناسب كل تعبير موطنه؟ فما أحسن هذا الاختيار في النظم وما أبلغه وأجمله! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 من سورتي المؤمنون والمعارج من سورة (المؤمنون) {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون * الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ * والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك فأولائك هُمُ العادون * والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أولائك هُمُ الوارثون * الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . من سورة (المعارج) {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً * إِلاَّ المصلين * الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ * والذين في أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّآئِلِ والمحروم * والذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين * والذين هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذَلِكَ فأولائك هُمُ العادون * والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أولائك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} . *** هناك تشابه كبير بين النصين، كما أن هناك اختلافاً بينهما كما هو ظاهر: 1- فقد قال في سورة المؤمنون: {الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} . وقال في سورة المعارج: {الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 2- وقال في سورة المؤمنون: {والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ} . ولم يذكر ذلك في سورة المعارج. 3- وقال في سورة المؤمنون: {والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} . وقال في سورة المعارج: {والذين في أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّآئِلِ والمحروم} . 4- وقال في سورة المعارج: {والذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين * والذين هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} . ولم يذكر مثل ذلك في آيات المؤمنون. 5- وقال في سورة المعارج: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ} . ولم يذكر نحو ذلك في سورة المؤمنون. 6- وقال في سورة المؤمنون: {والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ، بالجمع. وقال في سورة المعارج: {وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ، بالإفراد. 7- وقال في سورة المؤمنون: {أولائك هُمُ الوارثون * الذين يَرِثُونَ الفردوس} . وقال في سورة المعارج: {أولائك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} . 8- قال في سورة المؤمنون: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . ولم يقل مثل ذلك في سورة المعارج. فما سببُ ذلك؟ نعود إلى هذين النصين، لنتلمَّسَ سِرَّ التعبير في كل واحد منهما. إن آيات النص الأول، هي مفتتح سورة (المؤمنون) ، وارتباطها بآخر السورة قبلها ظاهر، فقد قال تعالى في أواخر السورة التي قبلها: {ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وافعلوا الخير لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] . وختمها بقوله: {فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة واعتصموا بالله هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير} [الحج: 78] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 فأنتَ ترى من الأمر بالركوع والسجود وعبادة الله، وفِعْلِ الخير وتأكيد ذلك بالأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة ما يتناسب مناسبة ظاهرة مع مفتتح السورة، وما ذكر فيها من صفات المؤمنين من الصلاة والزكاة، وغيرها من الصفات. لقد ابتدأت السورة بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون * الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} . وفي هذا النص تقرير لفلاح المؤمنين، وإخبار بحصوله في حين كان الفلاح مرجوّاً لهم في السورة قبلها. فقد قال ثمة: {ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وافعلوا الخير لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فقد أمرهم بالركوع والسجود، لِيُرجى لهم الفلاحُ، وهنا تحقق الفلاح بعد أن فعلوا ما أمرهم به ربهم. فهناك طَلَبٌ وتَرجٍّ وهنا تنفيذ وحصول، فانظر التناسب اللطيف في التعبير، وكيف وضعه وضعاً فنياً بديعاً. فقد بدأ بالأمر والطلب من الذين آمنوا أن يفعلوا ما يأمرهم به ربهم، فاستجاب الذين آمنوا، ففعلوا ما أمرهم به، فوقع لهم الفلاح على وجه التحقيق، ثم انظر كيف طلب منهم ربهم وكيف استجابوا؟ قال: {ياأيها الذين آمَنُواْ} ، فناداهم بالصيغة الفعلية الدالة على الحدوث، فاستجابوا واتصفوا بذلك على وجه الثبات، فوصفهم بالصيغة الاسمية (المؤمنون) . ثم قال: {اركعوا واسجدوا} ، وقال: {فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة} ، فاتصفوا بما أمرهم به ربهم على وجه الثبات، فوصفهم بالصيغة الاسمية فقال: {الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ * والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 ثم قال: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} بصيغة ترجّي الفلاح. ثم أخبر أنهم بعد أن قاموا بما أمرهم به ربهم، أن الفلاح قد وقع على جهة التحقيق والتأكيد، فجاء بـ (قد) الداخلة على الفعل الماضي، وهي تفيد التحقيق والتوقع والتقريب. فقد كان الفلاح متوقعاً مرجوّاً لهم، فحصل ما توقعوه وتحقق عن قريب. فما أَسرعَ ما نَفَّذُوا وما أسرعَ ما تَحقَّقَ لهم الفلاح! فانظر كيف اقتضى التعبير (قد) من جهات عدة، وانظر ارتباط كل ذلك بالسورة قبلها. جاء في (البحر المحيط) في هذه السورة: "ومناسبتها لآخر السورة قبلها ظاهر، لأنه تعالى خاطب المؤمنين بقوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا} الآية وفيها: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، وذلك على سبيل الترجية فناسب ذلك قوله: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} إخباراً بحصول ما كانوا رَجَوْهُ من الفلاح". لقد ابتدأ بالصفة التي تستدعي الفلاح، ولا فلاح من دونها وهي الإيمان، وكل ما عداها من الصفات، إنما هي تَبَعٌ لها فإن لم يكن إيمان فلا فلاح أبداً، كما قرر في آخر السورة، فقد قال في أول السورة: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} ، وقال في خاتمتها: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون} . فانظر التناسب بين مفتتح السورة وخاتمتها، وانظر التناسب بين هذا المفتتح وخاتمة السورة قبلها. ثم ذكر أولَ صفة للمؤمنين، وهي الخشوع في الصلاة فقال: {الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} والخشوع في الصلاة، يعني خشية القلب وسكون الجوارح، وهو روح الصلاة، والصلاة من غير خشوع، جسد بلا روح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وهو - أي الخشوع - أمر مشترك بين القلب والجوارح، سكونها وتَرْكُ الالتفات، وغض البصر وخفض الجناح. وخشوع القلب خضوعه وخشيته وتذلله وإعظام مقام الرب، وإخلاص المقال وجمع الهمة. "وكان الرجل إذا قام إلى الصلاة، هاب الرحمنَ أن يشدّ بصره إلى شيء، أو يُحَدِّثَ نفسه بشأنٍ من شؤون الدنيا". وتقديم الوصف بالخشوع في الصلاة على سائر الصفات المذكورة بعده "ما لا يخفى من التنويه بشأن الخشوع". وللبدء بذِكْرِه أكثرُ من سببٍ يدعو إلى ذلك، فهو علاوة على أهميته، وأنه روح الصلاة، مرتبط بما ورد في ختام السورة السابقة من ذكر الركوع والسجود، فقد قال: {ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا} فذكر ركني الصلاة الظاهرين، وههنا ذكر الركنَ الباطن، فاستكمل ما ذكره هناك. ثم إن السورة مشحونةٌ بجو الخشوع بشقيه سواء ما يتعلق بالقلب، وما يتعلق بالجوارح وبالدعوة إليه بكل أحواله. فقد كرر الدعوة إلى التقوى، والتقوى أمرٌ قلبي، وهي من لوازم الخشوع فقال: {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} . وقال: {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون} . وقال: {إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ} . والخشية والإشفاق أمر قلبي، وهما من لوازم الخشوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وقال: {والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} . والوجَلُ أمرٌ قلبي وهو من لوازم الخشوع أيضاً. وذكر الكفار وذَمَّهم بقوله: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} ، وهذه الغمرة تمنعها من الخشوع والخضوع والإعراض عما سِوى الله تعالى. وذكرُ القلوب ههنا أمرٌ له دلالته، فلم يقل: (هم في غمرة) ، كما قال في مكان آخر من القرآن الكريم (الذاريات 11) بل قال: (قلوبهم في غمرة) والقلبُ هو موطن الخشوع ومكانه، فإن كان هذا القلب في غمرة فكيف يخشع؟ وقال في ذم الكفار: {فَمَا استكانوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} فلم يخشعوا، لأن الخاشع مستكين لربه متضرع متذلل إليه. وقال: {فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ} والاستكبارُ والعُلوُّ مناقضان للخشوع، إذ الخشوع، تَطَامنٌ وتَذلُّلٌ وخضوعٌ لله رب العالمين. فبدءُ السورةِ بالخشوع، هو المناسب لجو السورة. ثم إنَّ البدءَ به له دلالةٌ أخرى، ذلك أنه ورد في الآثار، أن الخشوع أول ما يُرفَعُ من الناس، وقد جاء عن عبادة بن الصامت أنه قال: "يوشك أن تدخل المسجد، فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً". وعن حذيفة أنه قال: "أولُ ما تَفقدون من دينكم الخشوع، وآخرُ ما تفقدون من دينكم الصلاة، وتنقض عُرى الإسلام عروة عروة". فبدأ بما يُرفع أولاً، وختم بما يرفع آخراً، وهو الصلاة، فقال: {والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 ثم انظر كيف جاء بالخشوع بالصيغة الاسمية الدالة على الثبات ولم يقل: (يخشعون) للدلالة على أنه وصف لهم دائم في الصلاة غير عارض، فإن الصلاة إذا ذهب منها الخشوع كانت ميتة بلا روح. ثم انظر كيف أنه لما وصفهم بالإيمان على جهة الثبوت، وصفهم بالخشوع في الصلاة على جهة الثبوت والدوام أيضاً. فإنه لو قال: (يخشعون) لَصحَّ الوصفُ لهم وإن حصل لحظة في القلب أو الجارحة في حين أنه يريد أن يكون لهم الاتصاف بالخشوع في القلب والجوارح ما داموا في الصلاة. وتقديم الجار والمجرور (في صلاتهم) على (خاشعون) له دلالته أيضاً، ذلك أن التقديم يفيد العناية والاهتمام، فقدَّمَ الصلاةَ لأنها أَهمُّ ركنٍ في الإسلام حتى أنه جاء في الأثر الصحيح، أن تاركها كافرٌ هادمٌ للدين، وحتى أن الفقهاء اختلفوا في كفر تاركها فمنهم مَنْ قال: إن تاركها كافر وإنْ نطق بالشهادتين. في حين أنه لو قدم الخشوع لكان المعنى أن الخشوع أهم، وليس كذلك فإن الصلاة أهم. والصلاةُ من غير خشوع أكبرُ وأعظم عند الله من خشوعٍ بلا صلاة، فإن المصلي، وإن لم يكن خاشعاً أسقط فرضه وقام بركنه بخلاف من لم يصلّ. وقد تقول: وكيف يكون خشوع بلا صلاة؟ فنقول: إن الخشوع وَصْفٌ قلبي وجسمي، يكون في الصلاة وغيرها، ويوصف به الإنسان وغيره. قال تعالى: {وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمان فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} [طه: 108] ، فوصف الأصوات بالخشوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وقال: {خاشعة أبصارهم تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} . فوصف الأبصار بالخشوع. وقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} [الغاشية: 2] . فوصف الوجوه به. وقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق} [الحديد: 16] . فوصف القلب بالخشوع. وليس ذلك مقصوراً على الصلاة كما هو واضح. قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خاشعين للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بآيات الله ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران: 199] . وقال: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] . وقال: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذل يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45] . فتقديم الصلاة ههنا أهم وأهم. وقال بعدها: {والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ} . اللغو: "السقط، وما لا يُعتَدُّ به من كلام وغيره ولا يحصل منه على فائدة ولا نفع". وفي (الكشاف) : "إن اللغو ما لا يعنيك من قولٍ أو فعل، كاللعب والهزل وما توجب المروءة إلغاءه واطّراحهُ". وقال الزجاج: "اللغو: هو كل باطل ولهو وهزل ومعصية، وما لا يَجْملُ من القول والفعل.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وقال الحسن: إنه المعاصي كلها". فاللغو جِماعٌ لما ينبغي اطّراحه من قول وفعل. ووضع هذه الصفة بجنب الخشوع في الصلاة ألطف شيء وأبدعه، فإنَّ الخاشعَ القلبِ الساكنَ الجوارح أبعدُ الناس عن اللغو والباطل. إذ الذي أخلى قلبه لله وأسكن جوارحه، وتَطامنَ وهدأ ابتعد بطبعه عن اللغو والسقط وما تُوجب المروءة اطراحه. جاء في (الكشاف) : "لما وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعه الوصف بالإعراض عن اللغو ليجمعَ لهم الفِعْلَ والتركَ الشاقَّين على الأنفس اللذين هما قاعدتا بناء التكليف". ويعني بالفعل الخشوع، وبالترك الإعراض عن اللغو. والحق أن الخشوع أمرٌ يجمع بين الفعل والترك، ففيه من الفعل جمع الهمة وتذلل القلب وإلزامه التدبر والخشية، وفيه من الترك السكون وعدم الالتفات وغض البصر وما إلى ذلك. جاء في (التفسير الكبير) : "فالخاشع في صلاته، لا بد وأن يحصل له مما يتعلق بالقلب نهاية الخضوع والتذلل للمعبود. ومن التروك أن لا يكونَ مُلتفتَ الخاطر إلى شيءٍ سوى التعظيم. ومما يتعلق بالجوارح، أن يكون ساكناً مُطْرِقاً ناظراً إلى موضع سجوده، ومن التروك أن لا يلتفت يميناً وشمالاً". وما بعده من الصفات المذكورة موزعة بين الفعل والترك، أو مشتركة فيهما كما هو ظاهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 ولوضع هذه الصفة - أعني الإعراض عن اللغو - بجنب الخشوع له دلالة أخرى، فإن السورة كما شاع فيها جو الخشوع، كما أسلفنا فإنها شاع فيها أيضاً جو الترك والإعراض، وذم اللغو بأشكاله المختلفة. فمن ذلك أنه قال: {كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحاً} والعملُ الصالح مناقضٌ للغو وعمل الباطل. وقال: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حتى حِينٍ} ، والغمرة هي ما هُمْ فيه من لغوٍ وباطل. وقال: {أولائك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} ، والمسارعة في الشيء ضد الإعراض عنه. و (الخيرات) ضد اللغو والباطل. وقال في وصف الكفار: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ} ، والنكوص هو الإعراض، والهُجْر من اللغو، وهو القبيح من الكلام والفحش في المنطق. وقال: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَآءَهُمْ بالحق وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} وقولهم: (به جِنة) من اللغو. وقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} من الإعراض، إذ الكُرْةُ للشيء، إعراضٌ نفسيٌّ عنه. وقال في وصف الكفار: {وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة عَنِ الصراط لَنَاكِبُونَ} ، وتَنَكُّبُ الصراط، إعراض عن الحق. وقال: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ} . وقال فيهم: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} ، والطغيان هو الباطل وهو من اللغو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وقال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى الله الملك الحق لاَ إلاه إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم} ، والعبث هو الباطل، وهو من اللغو واللهو، ووصف الله نفسه بالحق، والحقُّ نقيضُ الباطل والباطل من اللغو. وقال: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بالحق وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} ، والحق نقيض الباطل واللغو والكذب من اللغو في القول، إلى غير ذلك. فأنتَ ترى أن السورة مشحونة بجو الدعوة إلى الحق وذَمِّ اللغو في القول والعمل. فوضعُ هذه الآية في مكانها له دلالته في جو السورة، كما هو في الآية قبلها. ثم انظر بناء هذه الآية، فإنه جعلها اسمية المسند، فلم يقل: (والذين لا يلغون) ، أو (عن اللغو يعرضون) ، وقدم الجار والمجرور {عَنِ اللغو} على اسم الفاعل {مُّعْرِضُونَ} ولكلٍّ سببٌ. فإن قوله: {عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ} أبلغ من (لا يلغون) ذلك أن الذي لا يلغو قد لا يُعرض عن اللغو بل قد يستهويه ويميل إليه بنفسه ويحضر مجالسه، أما الإعراض عنه فإنه أبلغُ من عدمِ فِعْلهِ، ذلك أنه أبعد في التَّرك، فإنَّ المُعرض عن اللغو علاوة على عدم فعله ينأى عن مشاهدته وحضوره وسماعه، وإذا سمعه أعرض عنه كما قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} [القصص: 55] . فهم لم يكتفوا بعدم المشاركة فيه، بل هم ينأون عنه. ثم إن التعبير باسمية المسند يشير إلى أن إعراضهم عن اللغو، وصفٌ ثابت فيهم، وليس شيئاً طارئاً. وهو مع ذلك متناسب مع ما ذكر فيهم من الصفات الدالة على الثبوت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وأما تقديم الجار والمجرور (عن اللغو) فهو للاهتمام والحصر، إذ المقام يقتضي أن يقدَّم المُعرَضُ عنه لا الإعراض. فإن الإعراض قد يكون إعراضاً عن خير كما قال تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ} . فتقديم الباطل من القول والفعل ليخبر أنهم معرضون عنه هو الأوْلى. كما أن فيه حصراً لما يُعرَضُ عنه، إذ الإعراض لا ينبغي أن يكون عن الخير، بل الخير ينبغي أن يُسارَع فيه، فتقديم الجار والمجرور ليس لفواصل الآيات فقط، وإن كانت الفاصلة تقتضيه بل لأن المعنى يقتضيه أيضاً. جاء في (روح المعاني) : إن قوله: {والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ} "أبلغ من أن يقال: (لا يلغون) من وجوه: جعل الجملة اسمية دالة على الثبات والدوام، وتقديم الضمير المفيد لتقوّي الحُكْم بتكريره، والتعبير في المسند بالاسم الدال كما شاع على الثبات، وتقديم الظرف عليه المفيد للحصر، وإقامة الإعراض مقام التَّرك ليدلَّ على تباعدهم عنه رأساً مباشرة وتسبباً وقيلاً وحضوراً، فإن أصله أن يكون في عرض أي ناحية غير عرضه". ثم قال بعدها: {والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} . إن هذا التعبير يجمع معاني عدة كلها مرادة لا تُؤدَّى في أي تعبيرٍ آخر. فإنه لو حذف اللام من (الزكاة) لكونها زائدة مقوية، كما ذهب بعضهم، أو قدم (فاعلون) على (الزكاة) فحذف اللام أو أبقاها، أو بدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 (مؤتون) بـ (فاعلون) لم يؤدِّ المعاني التي يؤديها هذا التعبيرُ البليغ، وهذا النَّظْمُ الكريم، وهي معانٍ جليلة مرادة كلها. فإن (الزكاة) اسم مشترك بين عدة معانٍ، فقد يطلق على القَدْر الذي يخرجه المزكّي من ماله إلى مستحقه، أي: قد تطلق على المال المخرَج. وقد يطلق على المصدر بمعنى: التزكية، وهو الحدث، والمعنى: إخراج القدْر المفروض من الأموال إلى مستحقه. وقد تكون بمعنى العمل الصالح، وتطهير النفس من الشرك والدنس، كما قال تعالى: {فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف: 81] . وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى * وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى} [الأعلى: 14-15] . وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9-10] . أي: أفلح من طهّر نفسه وخلَّصها من الدنس والسوء. وهذه المعاني مجتمعة يصح أن تكون مرادة في هذا التعبير. ذلك أنه يصح أن يكون المعنى: والذين هم يؤدون الزكاة، وذلك على تضمين (فاعلون) معنى (مؤدّون) أو على تقدير مضاف محذوف، أي: والذين هم لأداء الزكاة فاعلون. فأصلُ الكلام على هذا: (والذين هم فاعلون الزكاة) . فالزكاة مفعولٌ به لاسم الفاعل (فاعلون) ، ثم قدم المفعول للاختصاص فصار (الزكاةَ فاعلون) كما تقول: (أنا زيداً ضارب) ، ثم زيدت اللام لتوكيد الاختصاص، وهو قياس مع مفعول اسم الفاعل تقدم أو تأخر، كما قال تعالى: {وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 91] . ونسمي هذه اللام لام التقوية. وبهذين التقديرين يكون المقصود بالزكاة اسم العين، وهو المال الذي يُخرج لمستحقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ويصح أن تكون (الزكاة) بمعنى التزكية وهو الحدث، أي: فِعْل المزكّي، فيكون (فاعلون) بمعناها فيكون أصل التعبير (فاعلون الزكاة) ومعنى (فعلَ الزكاة) زكّى، أو أخرج الزكاة، كما يقال للضارب فعلَ الضرب. جاء في (الكشاف) : "الزكاة اسم مشترك بين عين ومعنى. فالعين القدْر الذي يُخرجه المزكّي من النصاب إلى الفقير. والمعنى: فعل المزكّي الذي هو التزكية، وهو الذي أراده الله فجعل المزكّين فاعلين له. ولا يسوغ فيه غيره، لأنه ما من مصدر إلا يعبر عن معناه بالفعل. ويقال لمحدثه: فاعل، تقول للضارب: فاعل الضرب، وللقاتل: فاعل القتل، وللمزكّي: فاعل التزكية، وعلى هذا الكلامُ كله. والتحقيق أنك تقول في جميع الحوادث: مَن فاعلُ هذا؟ فيقال لك: فاعله الله أو بعض الخلق. ولم يمتنع الزكاة الدالة على العين أن يتعلق بها (فاعلون) لخروجها من صحة أن يتناولها الفاعل، ولكن لأن الخلق ليسوا بفاعليها.. ويجوز أن يراد بالزكاة العين، ويُقدّر مضافٌ محذوفٌ وهو الأداء". وجاء في (البحر المحيط) : "والزكاة إن أريد بها التزكية صَحَّ نِسبةُ الفعل إليها، إذ كل ما يصدر صح أن يقال فيه فعل، وإن أريد بالزكاة قدر ما يخرج من المال للفقير، فيكون على حذف: أي لأداء الزكاة فاعلون، إذ لا يصح فعل الأعيان من المزكي أو يُضَمَّن (فاعلون) معنى (مؤدون) وبه شرحه التبريزي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وجاء في (روح المعاني) : "الظاهر أن المراد بالزكاة المعنى المصدري - أعني التزكية - لأنه الذي يتعلق به فعلهم. وأما المعنى الثاني، وهو القَدْرُ الذي يُخرجه المزكي فلا يكون نفسه مفعولاً لهم فلا بد إذا أريد من تقدير مضاف، أي لأداء الزكاة فاعلون. أو تضمن (فاعلون) معنى (مؤدون) وبذلك فسره التبريزي إلا أنه تُعُقِّب بأنه لا يقال: (فعلت الزكاة) ، أي: أدَّيتها. وإذا أريد المعنى الأول أدى وصفهم بفعل التزكية إلى أداء العين بطريق الكناية التي هي أبلغ، وهذا أحدُ الوجوه للعدول عن (والذين يزكون) إلى ما في النظم الكريم". وجاء في (فتح القدير) : "ومعنى فِعلهم للزكاة تأديتهم لها فعبَّر عن التأدية بالفعل لأنها مما يصدق عليه الفعل، والمراد بالزكاة هنا المصدر، لأنه الصادر عن الفاعل. وقيل: يجوز أن يراد بها العين على تقدير مضاف، أي: والذين هم لتأدية الزكاة فاعلون". ويصح أن تكون الزكاة بمعنى العمل الصالح وتطهير النفس، فيحتمل أن تكون اللام زائدة مقوية دخلت على المفعول به (الزكاة) فيكون معنى (فعل الزكاة) فعل العمل الصالح وتطهير النفس كما يقال: (فعل خيراً، أو فعل شراً) فيكون معنى الآية: (الذين هم فاعلون العمل الصالح وتطهير النفس) واللام زائدة في المفعول ويسمّونها مقوية وهي تفيد توكيد الاختصاص في المفعول المقدم، أي: لا يفعلون إلا ذاك. ويحتمل أن تكون اللام لام التعليل، أي: يفعلون من أجل الزكاة، أي: هم عاملون من أجل تزكية نفوسهم وتطهيرها والمفعول محذوف، فيكون الفعل عاماً، وهو كل ما يؤدي إلى الخير وتطهير النفس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 جاء في (روح المعاني) : "وعن أبي مسلم أن الزكاة هنا بمعنى العمل الصالح كما في قوله تعالى: {خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً} [الكهف: 81] . واختار الراغب أن الزكاة بمعنى الطهارة، واللام للتعليل والمعنى: والذين يفعلون ما يفعلون من العبادة ليزكيهم الله تعالى، أو يزكوا أنفسهم ... قال صاحب "الكشاف"، معنى الآية، الذين هم لأجل الطهارة وتزكية النفس عاملون الخير. ويرشد إلى ذلك قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى * وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى} [الأعلى: 15] . و {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [الشمس: 9] ". وجاء في (البحر المحيط) : "وقيل (للزكاة) للعملِ الصالح كقوله: {خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً} ، أي: عملاً صالحاً. قاله أبو مسلم. وقيل: الزكاة هنا: النماء والزيادة. واللام لام العلة ومعمول فاعلون محذوف. التقدير: والذين هم لأجل تحصيل النماء والزيادة فاعلون الخير". فالزكاة إذن تحتملُ العبادة المالية، وتحتملُ العملَ الصالح والتطهير والنماء، واللام تحتمل التقوية، وتحتمل التعليل، وهذه المعاني كلها مرادة مطلوبة، فهو يريد الذين يؤدون الزكاة، ويفعلون العمل الصالح وتطهير النفس ويفعلون من أجل ذلك. ولا تجتمع هذه المعاني في أي تعبير آخر. فلو أبدل كلمة (مؤتون) مكان (فاعلون) لاقتصر الأمر على زكاة المال، ولو حذف اللام لم يفد معنى التعليل، فانظر كيف جمع عدة معانٍ بأيسر سبيل. جاء في (تفسير ابن كثير) : "الأكثرون على أن المراد بالزكاة ههنا زكاة الأموال، مع أن هذه الآية مكية، وإنما فُرضت الزكاةُ بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة. والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات النصب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 والمقادير الخاصة، وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجباً بمكة.. وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة ههنا زكاةُ النفس من الشرك والدنس كقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} .. وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مراداً وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال فإنه من جملة زكاة النفوس، والمؤمن الكامل هو الذي يفعل هذا وهذا، والله أعلم". وتقديم الزكاة للاهتمام والعناية والقصر، أي: لا يفعلون إلا الخير، والزكاة منها. وقد تقول: ولِمَ لم يقل: (والذين هم للصلاة فاعلون) ، كما قال: {والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} ؟ والجواب: أن إخراج النصاب إلى مستحقه كافٍ لأداء فريضة الزكاة، وليس وراءه شيء يتعلق بها، فإن لم يفعل ذلك فلا زكاة. أما فعل الصلاة من قيام وقعود وركوع وسجود مع هيئاتها الأخرى فليس بكافٍ، بل ينبغي أن يكون مع ذلك خشوعٌ وتدبر وحضورُ قلبٍ وسنن وآداب تكمل هذه الأفعال الظاهرة وتتمها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "لكَ من صلاتك ما عقلتَ منها"، فاتضح الفرق بينهما. وقال بعدها: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك فأولائك هُمُ العادون} . قيل: المعنى: أنهم مُمْسِكون لفروجهم على أزواجهم وما ملكت أيمانهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 جاء في (البحر المحيط) : " (حفظ) لا يتعدى بعلى.. والأولى أن يكون من باب التضمين ضُمِّنَ (حافظون) معنى ممسكون أو قاصرون، وكلاهما يتعدى بعلى كقوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37] ". وجاء في (فتح القدير) : "ومعنى حفظهم لها أنهم ممسكون لها بالعفاف عما لا يَحلُّ لهم.. وقيل: إن الاستثناء من نفي الإرسال المفهوم من الحفظ. أي: لا يرسلونها على أحد إلا على أزواجهم. وقيل: المعنى: إلا والين على أزواجهم وقَوَّامين عليهم". إن اختيار هذا التعبير اختيار عجيب، وفيه آياتٌ عظيمة لمن تدبر ونظر. ذلك أنه قال: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} ، ولم يقل (ممسكون) أو نحو ذلك مما فسر به. وفي اختيار (الحفظ) سر بديع، ذلك أن الذي يمسك فرجه عما لا يحل يكونُ حافظاً لنفسه ولفرجه من الآفات والأمراض والأوجاع التي تصيبه، وهي أمراضٌ وبيلة وخيمةُ العاقبة. ومَنْ أرسله في المُحَرَّمات، فإنما يكون قد ضَيَّعه وضَيَّعَ نفسه. جاء في الحديث: "لم تظهر الفاحشةُ في قوم قط حتى يُعْلِنُوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا" واختيار {غَيْرُ مَلُومِينَ} في قوله: {إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} اختيار لطيف، ذلك أنه علاوة على ما يفيده ظاهر النص من أن الذي يعتدي على أعراض الناس مَلُومٌ على ما فعل، فإنه يفيد أيضاً أن الذي يبتغي وراء ما ذكر ملوم من نفسه ومن الناس لما يُحدث في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 نفسه وفيهم من أضرارٍ وأمراض فهو يلوم نفسه على ما أحدث فيها من أوجاع وعاهات مستديمة، وعلى ما أحدث في زوجه وعائلته. وحتى ولده الذي لا يزال جنيناً في بطن أمه قد يصيبه من عقابيل ذلك ما يجعله شقياً مُعذَّباً طوال حياته، وملوم من المجتمع على ما أحدثه في نفسه وعلى ما يُحْدِثُه فيهم من أمراض معدية مهلكة. فمن حفظ فرجه فهو غير ملوم، وإلا فهو ملوم أشد اللوم. ثم قال: {فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك فأولائك هُمُ العادون} . و {العادون} هم المعتدون، ومعنى الآية: أن هؤلاء هم "الكاملون في العدوان المتناهون فيه". فإنه لم يقل: (فأولئك عادون) أو (من العادين) بل قال: {فأولائك هُمُ العادون} للدلالة على المبالغة في الاعتداء من جهة أن العِرْضَ أثمن وأغلى من كل ما يُعتدى عليه ويُنال منه، ومن جهة أن هؤلاء هم أَولى مَن يوصف بالعدوان، لأنهم يعتدون على أنفسهم بما يجرّون عليها من وبال وأوجاع وعاهات مستديمة، قد تصل إلى الجنون، ويعتدون على أزواجهم وعوائلهم، بما ينقلونه إليهم من هذه الأوجاع والأمراض، ويعتدون على أولادهم وعلى الجيل اللاحق من أبنائهم، ممن لم يظهر إلى الدنيا بما يُلحقونه بهم من هذه الآفات المستديمة، ويعتدون على المجتمع الذي يعيشون فيه، بما ينقلونه إليه من أمراض معدية مرعبة وما (الإيدز) إلا واحد من هذه الأمراض الوبيلة المرعبة. أفهناكَ عدوانٌ أوسعُ من هذا العدوان وأخطر منه؟ نحن نعرف أن المعتدي قد يعتدي على بيت أو قبيلة، أما أن يمتد العدوان إلى الإنسان نفسهِ وأولاده وزوجه وربما إلى طبيبه الذي يعالجه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وإلى الجيل الذي لم يظهر بعد، وإلى المجتمع على وجه العموم، فهذا شر أنواع العدوان وأوْلى بأن يوسم صاحبه به. أفرأيتَ العلو في الاختيار والجلالة فيه، إنه لا يؤدي تعبيرٌ آخر مُؤدَّاه. إنه لم يقل: (فأولئك هم الضالون) أو (أولئك هم الخاطئون) أو (الفاسقون) ، وما إلى ذلك مع أنهم منهم، لأن هذه الصفات فردية، وليس فيها إشارة إلى العدوانية، كما ليس فيها إشارة إلى الخطر الهائل الذي يحيق بالمجتمع من جراء ذلك. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إن ذلك أنسب مع قوله: {غَيْرُ مَلُومِينَ} فإن المعتدي مَلُومٌ على عدوانه أكثر من صاحب الأوصاف التي ذكرناها. وهناك أمر آخر لاءم بين ذِكْرِ هذه الصفات، وهو أن الصفات المذكورة كلها ذات علاقة بالآخرين، وليست فردية، فالذي لا يحفظُ فرجه، إنما يرسله فيما لا يَحِلُّ له من أفراد المجتمع، وقوله: {غَيْرُ مَلُومِينَ} كذلك فإن الملوم يقتضي لائماً، وقد فعل ما يقتضي اللومَ من الآخرين، وقوله: (هم العادون) كذلك. فإن العادي يقتضي معتدى عليه، ولا يسمى عادياً حتى يكون ثَمَّةَ معتدى عليه. فالصفات هذه كلها كما ترى ليست فردية. فانظر التناسب اللطيف بينها. ثم انظر كيف اختار التعبير عن هذه الصفات بالصيغة الاسمية فقال: (حافظون) و (ملومين) و (العادون) للدلالة على ثبات هذه الصفات. فقوله: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} ، يفيد ثبات الحِفْظ ودوامه وعدم انتهاكه على سبيل الاستمرار، لأن هذا لا ينبغي أن يخرم ولو مرة واحدة. ومن فعل ذلك على وجه الدوام فإنه غير ملوم على وجه الدوام، أيضاً فإن خالف لِيْمَ على ذلك. والذي يبتغي وراء ذلك، ويلهث وراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 الفاحشة، فهو معتدٍ على وجه الثبات أيضاً، وقد يثبت هذا العدوان، فلا يمكن إزالته أبداً، وذلك ببقاء آثاره على نفسه وعلى الآخرين. فانظر رِفْعةَ هذا التعبير وجلاله. ثم قال بعدها: {والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} . وجهُ ارتباط هذه الآية بما قبلَها ظاهر، إذ أن كلاًّ من الفروج والأمانات ينبغي أن يُحفَظَ، فالفروج ينبغي أن تُحفظ وتصان وكذلك الأمانات. ومن لم يحفظ الأمانة والعهد، فهو مَلُومٌ كما هو شأن من لم يحفظ فرجه. ومن ابتغى ما لا يحلُّ له من الفروج عادٍ، وكذلك الباغي على الأمانة عادٍ ظالم. وقد قدم الأمانة على العهد، وجمع الأمانة وأفرد العهد. أما جمع الأمانة، فلتعددها وتنوعها فهي كثيرة جداً، فمن ذلك ما يُؤْتَمنُ عليه الشَخصُ من ودائع الناس وأموالهم، ومنها ما يطّلع عليه من أسرار الناس وأحوالهم، ومنها الأقوال التي يسمعها ويُستأمنُ عليها مما لا يصح أن يذيعه منها، ومنها أن يودع شخصٌ أهلاً له عند شخصٍ حتى يعودَ ويقول له: هؤلاء أهلي وصغاري عندك أمانة حتى أعود، أو حتى يكبروا، فهو يتولى أمرهم ويرعاهم، والزرعُ قد تجعله أمانةً عند شخص فيرعاه ويتعهده ويحفظه، والحكم أمانة، والرعية أمانة عند أميرهم ومتولِّي أمرهم، والقضاء أمانة ثقيلة، والشرع أمانة، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال} [الأحزاب: 72] . جاء في (البحر المحيط) : "والأمانة الظاهر أنها كل ما يُؤْتَمَنُ عليه من أمر ونهي، وشأن ودين ودنيا، والشرع كله أمانة، وهذا قول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الجمهور ولذلك قال أبيّ بن كعب: من الأمانة أن اؤتمنت المرأةُ على فَرْجها". وفي الحديث "المؤذّن مؤتمن" يعني: أن المؤذن أمينُ الناس على صلاتهم وصيامهم، فصلاةُ الناس وصيامهم أمانةٌ عنده. وفي الحديث أيضاً: "المجالس بالأمانة" و "هذا نَدْبٌ إلى تركِ إعادة ما يجري في المجلس من قولٍ أو فعل، فكان ذلك أمانة عند مَنْ سمعه أو رآه. والأمانة تقع على الطاعة والعبادة والوديعة والثقة والأمان، وقد جاء في كل منها حديث"، وفي الحديث: "الإيمانُ أمانة ولا دِينَ لمن لا أمانةَ له". وفي حديث آخر: "لا إيمان لمن لا أمانة له". وفي الحديث: "أستودع الله دينَكَ وأمانتكَ". أي: أهلك، ومَنْ تخلفه بعدك منهم، ومالك الذي تودعه". جاء في (روح المعاني) في قوله تعالى: {والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} : "الآية عند أكثر المفسرين عامة في كل ما ائتُمِنُوا عليه، وعوهدوا من جهة الله تعالى، ومن جهة الناس كالتكاليف الشرعية والأموال المودعة والأيمان والنذور والعقود ونحوها. وجمعت الأمانة دون العهد قيل: لأنها متنوعة متعددة جدّاً بالنسبة إلى كل مكلف من جهته تعالى، ولا يكاد يخلو مكلف من ذلك ولا كذلك العهد". وجاء فيه أيضاً: "وكأنه لكثرة الأمانة، جُمعت ولم يُجمع العهدُ، قيل: إيذاناً بأنه ليس كالأمانة كثرة، وقيل: لأنه مصدر، ويدل على كثرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 الأمانة ما روى الكلبي: كلُّ أحدٍ مؤتمن على ما افتُرض عليه من العقائد والأقوال والأحوال والأفعال، ومن الحقوق في الأموال، وحقوق الأهل والعيال وسائر الأقارب والمملوكين والجار وسائر المسلمين، وقال السدي: إن حقوق الشرع كلها أمانات قد قَبِلَها المؤمن وضمن أداءها بقبول الإيمان. وقيل: كل ما أعطاه الله تعالى للعبد من الأعضاء وغيرها أمانة عنده، فمن استعمل ذلك في غير ما أعطاه لأجله، وأذن سبحانه له به، فقد خان الأمانة. فقد رأيت من تَعَدُّدها وتَنوُّعِها وتشعبها، ما يدعو إلى جمعها وليس كذلك العهد، فأفرد العهد وجمع الأمانة. وأما تقديمها على العهد، فلأهميتها كما رأيت، وحسب ذلك أن تكون الشرعَ كله كما مر، وحسبك من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان أمانة، ولا دين لمن لا أمانة له". وقوله: "لا إيمان لمن لا أمانة له" وجاء في (فتح القدير) : "والأمانةُ أعم من العهد، فكلُّ عهدٍ أمانة". أما اختيار كلمة (راعون) مع الأمانة والعهد دون (الحفظ) الذي استُخدم مع الفروج، فله سبب لطيف ذلك أن (راعون) اسم فاعل من (رعى) وأصل الرعي حفظ الحيوان، وتولي أمره وتفقد شأنه. جاء في (الكشاف) : "والراعي القائم على الشيء بحفظ وإصلاح، كراعي الغنم وراعي الرعية. ويقال: مَن راعي هذا الشيء؟ أي: مُتولِّيه وصاحبه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وجاء في (روح المعاني) تفسير (راعون) : "قائمون بحفظها وإصلاحها. وأصل الرعي، حفظ الحيوان؛ إما بغذائهِ الحافظِ لحياته أو بذبِّ العدو عنه، ثم استعمل في الحفظ مطلقاً". فالرعي ليس مجرد الحفظ؛ بل هو الحِفْظُ والإصلاح والعناية بالأمر وتولي شأنه، وتفقد أحواله وما إلى ذلك. وهذا ما يتعلق بالأمانة كثيراً وليس مجرد الحفظ كافياً. فمن ائتمن عندك أهله وصغاره، فلا بد من أن تتفقد أمورهم وتنظر في أحوالهم وحاجاتهم علاوة على حفظهم، وكذلك مَنْ تولى أمرَ الرعية، ونحوه مَن اؤتمن على زرعٍ أو ضرع، وكذلك ما حمّله الله للإنسان من أمر الشرع يحتاج إلى قيام به وتحرٍّ للحق فيما يُرضي الله وما إلى ذلك من أمور لا يصح معها مجرد الحفظ، فالرعاية أشمل وأعم. ثم إن هناك فرقاً آخر بين رعي الأمانة وحفظ الفروج، ذلك أن الفروج جزء من الإنسان، وهي لا تندّ عنه، أما الأمانات فقد تكون في أماكن متعددة، وربما تكون أماكن حفظها نائية عنه، فهي تحتاج إلى تفقد ورعاية كما يحتاج الحيوان إلى حفظه من الذئاب والوحوش الضارية. وقد يصعب على الإنسان المحافظة على الأمانة، من العادين واللصوص فيضطر إلى تَخْبئتها في أماكن لا ينالها النظرُ ولا يَطُولها التفتيشُ، فكان على المؤتمن أن ينظر في حفظها كما ينظر الراعي في أمرِ ما يرعاه. فاختيار الرعي لها أنسب من الحفظ. ثم إن اختيار كلمة (راعون) بالصيغة الاسمية دون الفعلية له سببه، فإنه لم يقل: (يرعون) ذلك ليدلَّ على لزوم ثبات الرعي ودوامه وعدم الإخلال به البتة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وأما تقديم الأمانة والعهد على (راعون) فللاهتمام والعناية بأمرهما، وللدلالة على أنهما أَولى ما يُرْعى في هذه الحياة. وزيادة اللام، تفيد الزيادة في الاختصاص وتوكيده. وتفيد فائدة أخرى إلى جانب ما ذكرت، ذلك أن كلمة (الراعي) قد تكون بمعنى الصاحب، تقول: (مَنْ راعي هذه الدار؟) و (من الراعي لهذه الدار؟) أي: من صاحبها ومتولي أمرها؟ فيكون المعنى على هذا: والذين هم أصحاب الأمانات والعهود، أي: هم أهلها ومتولّوها. ولو قيل بدل ذلك: الذين هم يرعون الأمانة والعهود، لم تُفِدْ هذه الفائدة الجليلة. ثم قال بعد ذلك: {والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} . فختم بالمحافظة على الصلاة، وهي آخر ما يُفْقَدُ من الدين، كما في الحديث الشريف، فلعلَّ الختمَ بالمحافظة عليها إشارة إلى ذلك، أي أنها خاتمة عُرى الإسلام. إن ذكر الصلاة في البدء والخاتمة تعظيم لأمرها أيما تعظيم. جاء في (روح المعاني) : "وفي تصدير الأوصاف وختمها بأمر الصلاة تعظيم لشأنها. وتقديم الخشوع للاهتمام به، فإن الصلاة بدونه كلا صلاةٍ بالإجماع، وقد قالوا: صلاةٌ بلا خشوع جَسَدٌ بلا روح". فقد بدأ بالخشوع في الصلاة، وكأنه إشارة إلى أول ما يرفع، وختم بالمحافظة عليها إشارة إلى آخر ما يبقى، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 والخشوع غير المحافظة، فالخشوعُ أمرٌ قلبي متضمن للخشية والتذلل، وجمع الهمة والتدبر، وأمرٌ بدني وهو السكونُ في الصلاة كما سبق ذكره فهو صفة للمصلي في حال تأديته لصلاته. وأما المحافظة فهي المواظبة عليها، وتأديتها في أوقاتها بشروطها من طهارة المصلي وملبوسه ومكانه وإقامة أركانها وإتمام ركوعها وسجودها وقراءتها والمشروع من أذكارها، وأن يوكلوا نفوسهم بالاهتمام بها، وبما ينبغي أن تتم به أوصافها. وقيل: "المراد يحافظون عليها بعد فعلها من أن يفعلوا ما يُحْبِطُها ويبطلُ ثوابها". وكل ذلك مراد، لأنه من المحافظة عليها. وذُكِرتِ الصلاة أولاً بصورة المُفْردِ ليدل ذلك على أن الخشوع مطلوب في جنس الصلاة، ففي كل صلاة ينبغي أن يكون الخشوع، أيّاً كانت الصلاة فرضاً أو نافلة، فالصلاة ههنا تفيد الجنس. وذُكرت آخراً بصورة الجمع للدلالة على تعددها من صلوات اليوم والليلة إلى صلاة الجمعة والعيدين وصلاة الجنازة، وغيرها من الفرائض والسنن، فالمحافظة ينبغي أن تكون على جميع أنواع الصلوات. جاء في (الكشاف) : "وقد وُحّدت أولاً لِيُفادَ الخشوعُ في جنس الصلاة، أي صلاة كانت، وجُمعت آخراً لتفاد المحافظة على أعدادها وهي: الصلوات الخمس والوتر والسنن المرتبة على كل صلاة، وصلاة الجمعة والعيدين والجنازة والاستسقاء والكسوف، وصلاة الضحى والتهجد وصلاة التسبيح وصلاة الحاجة وغيرها من النوافل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 واستعمالُ الجمع مع المحافظة أنسبُ شيء للدلالة على المحافظة عليها بأجمعها. وقد جيء بالفعل المضارع، فقال: {والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ، بخلاف ما مَرَّ من الصفات للدلالة على التجدد والحدوث، لأن الصلوات لها مواقيت وأحوال تحدث وتتجدد فيها فيصلى لكل وقت وحالة، فليس فيها من الثبوت ما في الأوصاف التي مرت، فهناك فرق مثلاً بينها وبين قوله: {الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} ، لأن الخشوع ينبغي أن يكون مستمراً ثابتاً في الصلاة لا ينقطع، فهو صفة ثابتة فيها. وكذلك قوله: {والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ} فإنه ينبغي أن يكون الإعراض عن اللغو دائماً مستمراً لا ينقطع، وكذلك قوله: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} فإن حفظ الفروج ثابت دائم. وأما العطف بالواو في كل صفة من هذه الصفات، فللدلالة على الاهتمام بكل صفة على وجه الخصوص، وهذا ما تفيده الواو من عطف الإخبار والصفات. وكذلك ذكر الاسم الموصول مع كل صفة، فإنه يدل على الاهتمام والتوكيد، فإنه لم يقل مثلاً: (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون، وعن اللغو معرضون وللزكاة فاعلون ... إلخ) بل كَرَّرَ الموصول مع كل صفة للدلالة على توكيد هذه الصفات، وأهمية كل صفة. جاء في (تفسير فتح القدير) : "وكرر الموصولات للدلالة على أن كل وصف من تلك الأوصاف لجلالته، يستحق أن يستقل بموصوف متعدد. ثم قال بعد ذلك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 {أولائك هُمُ الوارثون} . فجاء بضمير الفصل والتعريف في الخبر، للدلالة على القصر، أي: هؤلاء الجامعون لهذه الأوصاف، هم الوارثون الحقيقيون وليس غيرهم. ثم فسر هذا الإبهام، فبين ماذا يرثون، فقال: {الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ففي هذا الإبهام ثم الإيضاح بعده من الفخامة ما فيه. جاء في (الكشاف) : " (أولئك) الجامعون لهذه الأوصاف (هم الوارثون) الأحقّاء بأن يُسَمّوا وُرّاثاً دون مَنْ عداهم. ثم ترجم الوارثين بقوله: {الذين يَرِثُونَ الفردوس} فجاء بفخامة وجزالة لإرثهم لا تخفى على الناظر". ثم انظر إلى تقديم الجار والمجرور على الخبر، في قوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} للدلالة على القصر وتناسب ذلك مع التقديم في الأوصاف السابقة: في صلاتهم خاشعون، للزكاة فاعلون، لفروجهم حافظون، لأماناتهم وعهدهم راعون، فجازاهم من جنس عملهم، فإن أولئك الذين قصروا أعمالهم على الخير، قصر الله خلودهم في أعلى الجنة، وهو الفردوس، فلا يخرجون عنه إلى ما هو أدنى درجة منه، فكان خلودهم في الفردوس لا في غيره. والفردوسُ أعلى الجنةِ وأفضلها ومنه تَتفجَّرُ أنهارُ الجنة كما جاء في الحديث. ثم نأتي إلى سورة المعارج. قال تعالى: {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً * إِلاَّ المصلين * الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ * والذين في أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّآئِلِ والمحروم * والذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين * والذين هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * إِنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذَلِكَ فأولائك هُمُ العادون * والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أولائك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} . قال تعالى: {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً} . بنى الفعل (خلق) للمجهول، ذلك أن المقام مقام ذم لا تكريم. مقام ذكرِ جانبٍ مظلمٍ من طبيعة البشر. والله سبحانه لا ينسب الفعل إلى نفسه في مقام السوء والذم. قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] . فنسب الفعل إلى ذاته في مقام المدح. وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ} [الأعراف: 11] . وقال: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 181] . في حين قال: {يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً} [النساء: 28] . وقال: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] . وقال: {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً} . والهلع فَسَّره ربنا بقوله: {إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} ، فهو الجزع عند مَسِّ الشر والمنع عند مس الخير. جاء في (الكشاف) : "الهلع سرعة الجزع عند مَسِّ المكروه وسرعة المنع عند مَسِّ الخير.. و (الخير) : المال والغنى. و (الشر) : الفقر، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 الصحة والمرض. إذا صَحَّ الغنيُّ مَنَعَ المعروف وشَحَّ بماله، وإذا مرض جزع وأخذ يوصي". وجاء في (تفسير ابن كثير) : "أي: إذا مَسَّهُ الضُّرُّ فَزِعَ وجزع وانخلع قلبهُ من شدة الرعب، وأَيِسَ أنْ يحصلَ له بعد ذلك خير. {وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} أي: إذا حصلت له نعمة من الله، بخل بها على غيره، ومنعَ حقَّ الله - تعالى - فيها". وجاء في (فتح القدير) : "قال في الصحاح: الهلع في اللغة: أَشَدُّ الحرص وأسوأ الجزع وأفحشه.. أي: إذا أصابه الفقر والحاجة، أو المرض ونحو ذلك، فهو جَزُوع، أي كثير الجزع. وإذا أصابه الخير من الغنى والخصب والسعة ونحو ذلك، فهو كثير المنع والإمساك". والجزع ضد الصبر ونقيضه، وقد قابله الله بالصبر فقال: {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} [إبراهيم: 21] . وجاء في (لسان العرب) : "الجزوع ضد الصبور على الشر، والجزع نقيض الصبر ... وقيل: إذا كثر منه الجزع، فهو جزوع وجُزاع". وقد بدأ بالشر قبل الخير، فقال: {إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} وذلك لأن السياق يقتضي ذلك، فقد بدأت السورةُ بالعذاب، وهو قوله تعالى: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} . وذكر قبل هذه الآية مشهداً من مشاهد العذاب، فقال: {يَوَدُّ المجرم لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ... . كَلاَّ إِنَّهَا لظى * نَزَّاعَةً للشوى} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 فالمناسبُ إذن هو البدء بالشر، وهو الذي يقتضيه السياقُ وجَوُّ السورة. فالإنسانُ خُلق هلوعاً لا يصبر إذا مسه الشر بل يجزع. وذِكْرُ الجزع ههنا وهو عدم الصبر مناسب لقوله تعالى في أوائل السورة: {فاصبر صَبْراً جَمِيلاً} . فهو يأمر نبيه بالصبر الجميل. والصبرُ طاردٌ للجزع المقيت الذي طُبع عليه الإنسان وتحرر منه مَنْ أراد الله له الخير. واستثنى من الاتصاف بصفة الهلع هذه بشقيها: الجزع والمنع للخير، مَن ذكرَهم بعد هذه الآية بقوله: {إِلاَّ المصلين * الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ} . والدوام على الصلاة معناه المواظبةُ عليها والانهماكُ فيها حتى تنتهي، وعدم الانشغال عنها، وليس المراد أنهم يصلون أبداً. جاء في (البحر المحيط) : "ديمومتها، قال الجمهور: المواظبة عليها. وقال ابن مسعود: صلاتها لوقتها. وقال عقبة بن عامر: يقرّون فيها ولا يلتفتون يميناً ولا شمالاً". وجاء في (فتح القدير) : "أي لا يَشغلهم عنها شاغل، ولا يصرفهم عنها صارف، وليس المراد بالدوام أنهم يصلّون أبداً". وجاء في (روح المعاني) : "أخرج ابن المنذر عن أبي الخير أن عقبة قال لهم: مَنِ الذين هم على صلاتهم دائمون؟ قال: قلنا: الذين لا يزالون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 يصلون. فقال: لا ولكن الذين إذا صلّوا لم يلتفتوا عن يمينٍ ولا شمال". وقد فرق صاحب (الكشاف) بين الدوام والمحافظة على الصلاة، فقال: "فإن قلت: كيف قال: {الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ} ثم {وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ؟ قلت: معنى دوامهم عليها: أن يواظبوا على أدائها ولا يخلّون بها، ولا يشتغلون عنها بشيءٍ من الشواغل، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضلُ العملِ أدومُه وإنْ قَلَّ".. ومحافظتهم عليها أن يراعوا إسباغ الوضوء لها، ومواقيتها ويقيموا أركانها ويكملوها بسننها وآدابها ويحفظوها من الإحباط باقتراف المآثم. فالدوام يرجع إلى أنفس الصلوات والمحافظة على أحوالها". وهذه الآية مرتبطة بقوله تعالى قبل هذه الآيات في صفة جهنم: {تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى} ومرتبطة بقوله تعالى: {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً} . أما ارتباطها بقوله: {تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى} فهو واضح، فإن ذلك الذي تدعوه جهنم، قد أدبر عن الطاعةِ وتولَّى عن الحق، وهذا مُقْبِلٌ على الطاعة، مواظب عليها، لا يلتفت عنها، فهو ناجٍ من عذاب جهنم. ثم انظر إلى قوله تعالى: {تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى} فقد ذكر أمراً ووكَّده فقال: {تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى} وقابله بقوله: {إِلاَّ المصلين} . وقال: (وتولى) وهو توكيد للإدبار والانصراف عن الطاعة، وقابله بقوله: {الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ} أي: مقبلون على الطاعة مستمرون عليها. فهو مرتبط بها أحسن ارتباط. وهذا الصنف مقابلٌ لأولئك المُدْبرين العُصاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وأما ارتباطها بقوله: {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً} فهو أجملُ ارتباط وأحسنه ذلك أن الدوام على الصلاة علاجٌ للجزع، وعلاج لمنع الخير. فإن الجَزُوعَ شخصٌ لا يصبر. وعلاج هذه الصفة أن يتعلم الصبر ويتعوده، والدوام على الصلاة والمواظبة عليها والاستمرار عليها من أحسن ما يعوّد على الصبر، فإن هذه الأعمال تقتضي صبراً متواصلاً، ولذا لا يدومُ عليها كثيرٌ من الناس، فهم يصلون ولكن لا يدومون على صلاتهم؛ بل ينشغلون عنها بأنفسهم وقلوبهم وتسرح في دواخلهم صوارفُ تنالُ كثيراً من صلاتهم. فالدوام عليها علاج من أنجع الأدوية للتعويد على الصبر والمعافاة من الجزع. وهي كذلك علاج لمنع الخير ذلك أن الدائم في صلاته يتعود أن يُعطي من نفسه ووقته لربه، بل يعطيه نَفْسَهُ كُلَّها ووقته في الصلاة، وأن يتحرر من العبودية لرغبته وشهوته فيدوم على أمر ليس فيه مصلحة دنيوية ظاهرة له، بل قد تفوّت عليه شيئاً عاجلاً كما ذكر ربنا في قوله في صلاة الجمعة: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] . فالدوام على الصلاة علاج ناجع لهذه النفوس الجاسية لتسمح من وقتها ومالها وكلِّ ما يربطها برغباتها وشهواتها، ولذا لم يكتف بقوله {إِلاَّ المصلين} بل قال: {الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ} . ثم قال بعد ذلك: {والذين في أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّآئِلِ والمحروم} . قيل: إن المراد بالحق المعلوم الزكاة لأنها مُقَدَّرةٌ معلومة، وقيل: غير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وعلى أية حال فإن هؤلاء وضعوا في أموالهم حقاً معلوماً لِمُستحقِّه. وهذه الآية مرتبطة بقوله تعالى في أصحاب جهنم: {وَجَمَعَ فأوعى} ومرتبطة بقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} . أما ارتباطها بقوله تعالى: {وَجَمَعَ فأوعى} فهو ظاهر، ذلك أن الله وصف أصحاب جهنم بقوله: {تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى * وَجَمَعَ فأوعى} ، ومعنى جمع فأوعى: أنه جمع المال بعضه على بعض فأوعاه، أي: فجعله في وعاء وكنزه ومنع حَقَّ الله الواجب فيه من مستحقيه. أما هؤلاء المعافَون من النار، فقد جعلوا في أموالهم حقاً معلوماً للسائل والمحروم، فهم لم يمنعوا حق الله، فلم يكونوا ممن أدبر وتولى وجمع فأوعى. وأما ارتباطها بقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} ، فهو ظاهر أيضاً ذلك أن معنى {وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} أنه إذا أصابه الخير والمال والغنى بَخِلَ ومنعَ حقَّ الله تعالى فيه كما ذكرنا. وهؤلاء جعلوا في أموالهم حقاً معلوماً للسائل والمحروم فهم معافَون مستثنَون من صفة الهلع المذكورة؛ بل إنهم مُسْتثنون من صفة الهلع بشقيها: الجزع عند مسِّ الشر والمنع عن مس الخير. ذلك أن قسماً من البخلاء إذا خرج شيء من مالهم، جزعوا وحزنوا كأنما حلّت بهم مصيبة، وكان المال ألصق بقلوبهم من أي شيءٍ آخر، فهؤلاء الذين جعلوا في أموالهم حقاً معلوماً للسائل والمحروم، لم يجزعوا عند خروج المال منهم ولم يُعقبوه أنفسهم، ولم يمنعوا السائل والمحروم منه؛ فإخراجُ المال إلى الفقراء والمساكين علاجٌ وشفاء لهذا الداء الوبيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وهناك لمسة فنية لطيفة في اختيار نوع العذاب في هذا السياق، ذلك أنه قال: {كَلاَّ إِنَّهَا لظى * نَزَّاعَةً للشوى * تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى * وَجَمَعَ فأوعى} . ومن معاني (الشوى) جلد الإنسان فهي، أي: جهنم تنزعُ جلدَ الإنسان وتُبقي الأحشاءَ بلا جلد. والجلدُ للأحشاء كالوعاء للمال يحفظُ ما في داخله، فإن هذا الشخص كما أوعى ماله ومنعه حقه، سيمزقُ اللهُ وعاء جسمه ويخرج ما في داخله. ولا شك أن جلده ووعاء نفسه أحبّ إليه من المال ومن كل شيء، ألا ترى أنه يقال للمطلوب: (انجُ بجلدك) ؟ فانظر التناسقَ الجميلَ بين المعصية والعذاب، والجزاء من جنس العمل. ثم قال بعد ذلك: {والذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين} . ويوم الدين يوم القيامة، واختيار ذكر التصديق بيوم الدين دون غيره من أركان الإيمان ههنا له سَببهُ، ذلك أن جَوَّ السورة في الكلام على هذا اليوم، فقد قال في أوائل السورة: {تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} وهذا اليوم هو يوم القيامة، كما جاء في الحديث الصحيح. وقال عن هذا اليوم: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً} أي: أن الكفار يستبعدون وقوعه ويرونه محالاً، في حين أن هؤلاء المعافَين يُصدِّقون به. وقال: {يَوْمَ تَكُونُ السمآء كالمهل * وَتَكُونُ الجبال كالعهن} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وقال: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ * يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خاشعة أبصارهم تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ اليوم الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ} . فجو السورة والسياق في الكلام على يوم الدين، وختم السورة بالكلام عليه، فكان مناسباً لأن يَخصَّهُ بالذِّكْرِ من بين أركانِ الإيمان الأخرى، فقال: {والذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين} . ثم قال: {والذين هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} . وذكرُ الإشفاق من العذاب مناسبٌ لجو السورة أيضاً، فإن السورة مشحونةٌ بذكر العذاب والكلام عليه فقد بُدئت السورةُ به وخُتمت به، فقال في أول السورة: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} ، وقال في خاتمتها: {خاشعة أبصارهم تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} كما ذكر فيها مشهداً آخر من مشاهد العذاب، فقال: {يَوَدُّ المجرم لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ التي تُؤْوِيهِ * وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلاَّ إِنَّهَا لظى * نَزَّاعَةً للشوى * تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى * وَجَمَعَ فأوعى} . فاختيار الإشفاق من العذاب أنسبُ اختيارٍ ههنا. ولا شك أن الذين يصدّقون بيوم الدين، ويخشون عذاب ربهم مستثنَون معافَون من صفة الهلع. فالتصديقُ بيوم الدين مُدْعاةٌ للطمأنينة والأمن في النفوس، فهو يصبر إذا مَسَّهُ الشر احتساباً لأجرِ ذلك عند الله، وأنه سيعوضه خيراً مما فقد أو مما ابتُليَ به، وإذا مسه الخير، لا يمنع، لأن الله سيعطيه أضعافَ ما يعطي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 ثم قال بعد ذلك: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذَلِكَ فأولائك هُمُ العادون} . وقد مر تفسير ذلك في آيات سورة (المؤمنون) فلا حاجة إلى إعادة ما مر. غير أن الذي نقوله ههنا: إنَّ هذه الآيات مرتبطةٌ بما قبلها أجمل ارتباط. وهي مع ما ذُكِرَ معها من الأوصاف مَنْجاةٌ من الهلع وعلاج له. ذلك أن الذي يصبر على شهوته ولا يندفع وراء رغبته يعوّد نفسه على الصبر، فلا يجزع إذا رأى ما يستثير شهوته ثم لا يلهث وراءها حتى يهتبل هذه الفرصة للتلذذ بها. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية إن حفظ الفروج وعدم إرسالها إلا على مستحقيها، أولى من حِفْظِ المال وكنزه ومنع مستحقه منه. ثم قال: {والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} . وقد مر ذلك في آيات سورة (المؤمنون) . وهذا علاج للهلع أيضاً، ذلك أن الأمانة والعهد ربما يُلْحِقان بالمؤتمن ضرراً من سلطة أو متنفِّذ، ذلك لأن صاحب الأمانة قد يكون مطلوباً لهما فالمؤتمن كأنه يعينه على ما هو عليه أو لغير ذلك من الأسباب. وقد يُفَوِّتانِ عليه خيراً كبيراً، وهو مع ذلك يَفِي بالعهدِ ويؤدي الأمانة مُوطِّناً نفسه على الصبر على ما سيحيقُ به محتسباً أجرَ ما يفوتُه من الخير العاجل عند الله. ولا شك أن هذا مما يكسر الهلع ويضعفه ويعافي منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 ثم قال: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ} . "والشهادة من جملة الأمانات وخَصَّها من بينها، إبانةً لفضلها لأن في إقامتها إحياء الحقوق وتصحيحها في زيّها تضييعها وإبطالها". والقيام بالشهادة معناه: إقامتها على "مَنْ كانت عليه من قريب أو بعيد، أو رفيع أو وضيع، ولا يكتمونها ولا يغيرونها" ولا يُخْفون ما عَلِموه منها. والإتيان بها مجموعة إشارة "إلى اختلاف الشهادات وكثرة ضروبها، فحسن الجمع من جهة الاختلاف". والقيام بالشهادات من أنفع الأشياء في علاج الهلع بشقيه، ذلك أن القيام بالشهادة، قد يعرض صاحبها للأذى والنيل منه أو قد يُفَوِّتُ عليه فرصةً من فرص الخير المادي، والنفع العاجل، فالقيام بها توطينٌ للنفس على استقبال الشر والصبر عليه، وتوطين لها على السماح بالخير، وبذله وعدم منعه. ثم قال بعد ذلك: {وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} . فختم بالمحافظة على الصلاة، كما افتتح بالدوام عليها، وهذا نظير ما جاء في سورة (المؤمنون) من الافتتاح بالصلاة والختم بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 والمحافظة على الصلاة غير الدوام عليها: "فإن معنى الدوام هو أن لا ينشغل عنها بشيء من الشواغل"، وأن ينهمك بها ويواظب على أدائها. أما المحافظة عليها فتعني مراعاة شرائطها وإكمال فرائضها وسننها وأذكارها، كما سلف بيان ذلك. وارتباط هذه الآية بما قبلها واضح فهي مرتبطة بقوله: {وَجَمَعَ فأوعى} ذلك أن القصد من جعل المال في وعاء، هو المحافظة عليه. والصلاة أدعى وأولى بالمحافظة عليها. ومرتبطةٌ بصفة الهلع أيضاً ذلك أنها علاج لهذه الصفة المستهجنة بشقيها. فالمحافظة على الصلاة في مختلف الأوقات وتباين الأزمان في أوقات الرخاء والشدة، والعسر واليسر، والمرض والعافية، والشر والخير من المنجيات من هذه الصفة، ذلك أن المحافظة عليها تحتاج إلى الصبر الطويل، لذلك قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا} [طه: 132] ، وتحتاج إلى البذل والسماح بالخير، وقد وصف الله تعالى رجالاً من المؤمنين بقوله: {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة} [النور: 37] . فالصلاةُ إذا حضرت أهمُّ من التجارة والبيع، فهم يفرطون بالصفقات واحتمال الربح في جنب الصلاة. إن الصفات المذكورة أنفع علاج لصفة الهلع المقيت، وإن القائمين بهذه الصفات إنما هم ناجون منها مستثنَون من أهلها معافَون من بَلْواها. ثم قال بعد ذلك: {أولائك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وقد تقول: ولماذا قال في آيات (المؤمنون) : {أولائك هُمُ الوارثون * الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وقال ههنا: {أولائك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} . فذكر هناك أنهم يرثون الفردوس، والفردوس أعلى الجنة وربوتها، وأفضلها، ومنه تنفجر أنهارُ الجنة. ثم ذكر أنهم فيها خالدون. في حين قال هنا أنهم في جنات، ولم يقل أنهم في أعلى الجنان، كما لم يقل أنهم فيها خالدون كما قال في الأولين. ونظرة إلى ما في النصين توضح سبب ذلك. إن آيات سورة (المؤمنون) في ذِكْرِ فلاح المؤمنين وآيات سورة المعارج في ذكر المعافَين من الهلع وقد جعل كل صفة في موطنها. 1- فقد قال في سورة (المؤمنون) : {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} فذكر صفة الإيمان على وجه العموم. وقال في آية (المعارج) : {والذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين} فذكر ركناً من أركان الإيمان، وهو التصديق بيوم الدين. وثَمَّةَ فَرْقٌ بين الحالين. جاء في (روح المعاني) في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} "والمراد بالمؤمنين قيل: إما المُصَدِّقون بما عُلِمَ ضرورةً أنه من دينِ نبينا صلى الله عليه وسلم من التوحيد والنبوة، والحشر الجسماني والجزاء ونظائرها". فذكر في آية (المؤمنون) المؤمنين بيوم الدين وغيره، وذكر في سورة المعارج التصديق بيوم الدين. فما ذكره في سورة (المؤمنون) أكمل. 2- قال في آية (المؤمنون) : {الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وقال في آية (المعارج) : {الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ} . والخشوع أعَمُّ من الدوام ذلك أنه يشمل الدوام على الصلاة وزيادة فهو روحُ الصلاة، وهو من أفعالِ القلوب والجوارح من تَدَبُّرٍ وخضوع وتذلل وسكونٍ وإلبادِ بصرٍ وعدم التفات. والخاشع دائم على صلاته منهمك فيها حتى ينتهي. 3- قال في (المؤمنون) : {والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ} وهو كل باطل من كلامٍ وفِعْلٍ وما توجب المروءة إطراحه كما ذكرنا. ولم يذكر مثل ذلك في سورة المعارج، فهذه صفةُ فضلٍ لم ترد في المعارج. 4- قال في (المؤمنون) : {والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} . وقال في سورة (المعارج) : {والذين في أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّآئِلِ والمحروم} . وما في سورة (المؤمنون) أعمُّ وأشملُ إذ الزكاة تشمل العبادة المالية كما تشمل طهارة النفس فهي أعلى مما في المعارج وأكمل فإنه ذكر في المعارج أنهم يجعلون في أموالهم حقاً للسائل والمحروم. أما الزكاة فإنها تشمل أصنافاً ثمانية وليس للسائل والمحروم فقط، هذا علاوة على ما فيها من طهارة النفس وتزكيتها كما سبق تقريره. 5- قال في سورتي (المؤمنون) و (المعارج) : {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذَلِكَ فأولائك هُمُ العادون * والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 6- قال في آية (المعارج) : {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ} . ولم يذكر ذلك في آيات (المؤمنون) ذلك أنه في سياق المعافاة من الهلع. وقد ذكرنا مناسبة ذلك وعلاقته بالنجاة منه. فاقتضى ذلك ذكره وتخصيصه من بين الأمانات. 7- قال في آيات (المؤمنون) : {والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} بالجمع. وقال في (المعارج) : {وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} بإفراد الصلاة. والصلوات أعم من الصلاة وأشمل. والمحافظة على الصلوات أعلى من المحافظة على الصلاة لما فيها من التعدد والتنوع والفرائض والسنن. فلما كانت الصفات في آيات سورة (المؤمنون) أكمل وأعلى كان جزاؤهم كذلك، فجعل لهم الفردوسَ ثم ذكر أنهم خالدون فيها، في حين قال في سورة (المعارج) : {أولائك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} ولم يذكر أنهم في الفردوس، ولم يذكر الخلود؛ فانظر كيف ناسب كل تعبير موطنه. ثم انظر كيف ذكر في سورة (المؤمنون) المؤمنين وهم المُصَدِّقون بيوم الدين وزيادة، وذكر الخشوع في الصلاة، وهو الدوام عليها وزيادة، وذكر فِعْلهم للزكاة وهي العبادة المالية وزيادة. ومستحقوها هم السائل والمحروم وزيادة، وذكر الإعراض عن اللغو وهو زيادة. وذكر الصلوات وهي الصلاة وزيادة، ثم ذكر الفردوس وهي الجنة وزيادة في الفضل والمرتبة، وذكر الخلود فيها وهو الإكرام وزيادة. فانظر ما أجمل هذا التناسب والتناسق، فسبحان الله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 من سورتي الطور والقلم قال تعالى في سورة الطور: {فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ} . وقال في سورة القلم: {مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} . فزاد قوله: (بكاهن) على ما في سورة القلم، فما سببُ ذاك؟ والجواب: أن هناك أكثر من سببٍ دعا إلى هذه الزيادة. 1- منها أنه فصّل في سورة الطور في ذِكْرِ أقوال الكفَرة في الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ذكروا أنه كاهن، وذكروا أنه مجنون، وذكروا أنه شاعر {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون} ، وقالوا: إنه كاذب {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ} . في حين لم يذكر غير قولهم إنه مجنون في سورة القلم {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} فناسب ذكر هذه الزيادة في سورة الطور. 2- ومنها أنه ذكر في سورة الطور قوله: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} والاستماع مما تدّعيه الكهنةُ لتابعيهم من الجنِّ، فناسب ذلك ذكر الكهنة فيها. 3- ومنها أنه ذكر السحر في سورة الطور فقال: {أَفَسِحْرٌ هاذا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ} فناسب ذكرُ السحر ذكرَ الكهنة. 4- ومما حسّن ذلك أيضاً أنه توسّع في القسَم في أول سورة الطور بخلاف سورة القلم، فقد قال: {والطور * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ * والبيت المعمور * والسقف المرفوع * والبحر المسجور} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 في حين لم يقسم في سورة القلم إلاَّ بالقلم وما يسطرون. فناسب التوسع في الطور هذه الزيادة. 5- ذكر في سورة القلم في آخر السورة قول الكفرة، إنه لمجنون ولم يزد على هذا القول فقال: {وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذكر وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} فردّ عليهم في أول السورة بنفي الجنون عنه فقال: {مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} فناسب آخر السورة أولها. ثم انظر من ناحية أخرى كيف ناسب التأكيد بالباء الزائدة في النفي (بمجنون) التوكيد باللام في الإثبات (لمجنون) لأن الباء لتوكيد النفي واللام لتوكيد الإثبات. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 من سورة القمر {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} . *** سأل سائل: لِمَ وحّد تعالى: (النَّهَر) في هذه الآية ولم يجمعه مع أن الجناتِ قبله جَمْعٌ بخلاف المواضع الأخرى من القرآن الكريم، فإنه إذا جمع الجنة، جمع النهر أيضاً فيقول: {جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} ؟ والجواب: أنه جمع في لفظ (النهَر) عدة معان وأعطى أكثر من فائدة لا يفيدها فيما لو قال: (أنهار) . ذلك أنه علاوة على أن فواصل الآيات، تقتضي (النهَر) لا (الأنهار) لأن آيات السورة على هذا الوزن فقد جاء قبلها: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} وجاء بعدها: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} فإن المعنى أيضاً يقتضي ذلك من جهات أخرى منها: أن النهَر اسم جنس بمعنى الأنهار، وهو بمعنى الجمع. وقد يؤتى بالواحد للدلالة على الجمع والكثرة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "أهلكَ الناسَ الدينارُ والدرهم". والمراد بالدينار والدرهم الجنس لا الواحد. وجاء في (معاني القرآن) للفراء: "ونهَر معناه أنهار. وهو في مذهبه كقوله: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} . وزعم الكسائي أنه سمع العرب يقولون: أتينا فلاناً فكنا في لحمة ونبيذةٍ. فوحّد ومعناه الكثير". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ومنها: أن معاني (النهر) أيضاً السَّعة. والسَّعة ههنا عامة تشمل سعة المنازل وسعة الرزق والمعيشة، وكل ما يقتضي تمام السعادة السعة فيه. جاء في (البحر المحيط) : "ونَهَر: سَعة في الأرزاق والمنازل". وجاء في (روح المعاني) : "وعن ابن عباس تفسيره بالسعة ... والمراد بالسعة سعة المنازل على ما هو الظاهر، وقيل: سعة الرزق والمعيشة، وقيل: ما يعمهما". ومنها: أن من معاني (النهر) أيضاً الضياء. جاء في (لسان العرب) : "وأما قوله - عز وجل -: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} فقد يجوز أن يعني به السعة والضياء، وأن يعني به النهر الذي هو مجرى الماء، على وضع الواحد موضع الجميع.. وقيل في قوله: {جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} أي: في ضياء وسعة، لأن الجنة ليس فيها ليل، إنما هو نور يتلألأ". وجاء في (معاني القرآن) للفراء: "ويقال: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} في ضياء وسعة". وهذه المعاني كلها مُرادةٌ مطلوبة، فإنَّ المتقين في جنات وأنهار كثيرة جارية، وفي سعة من العيش والرزق والسكن وعموم ما يقتضي السعة، وفي ضياء ونور يتلألأ ليس عندهم ليل ولا ظلمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 فانظر كيف جمعت هذه الكلمة هذه المعاني كلها، إضافة إلى ما تقتضيه موسيقى فواصل الآيات بخلاف ما لو قال (أنهار) ، فإنها لا تعني إلا شيئاً واحداً. ثم انظر كيف أنه لما كان المذكورون هم من خواص المؤمنين، وهم المتقون وليسوا عموم المؤمنين أعلى أجرَهم ودرجتهم، فقال: (ونهر) ولم يقل: (وأنهار) . ولما أعلى أجرهم ودرجتهم وبالغ في إنعامهم وإكرامهم جاء بالصفة والموصوف بما يَدلُّ على المبالغة فقال: {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} ولم يقل: (ملك قادر) فإن (مليك) أبلغ من (ملك) و (مقتدر) أبلغ من (قادر) فإن كلمة (مليك) على صيغة (فعيل) وهي أبلغُ وأثبتُ من صيغة (فعِل) . جاء في (روح المعاني) : "عند مليك، أي: ملك عظيم الملك، وهو صيغة مبالغة، وليست الياء من الإشباع". ولما جاء بالصيغة الدالة على الثبوت، قال: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} "ذلك لأن هذا المقعد ثابت لا يزول، فهو وحده مقعد الصدق، وكل المقاعد الأخرى كاذبة، لأنها تزول إما بزوال الملك صاحبه، وإما بزوال القعيد، وإما بطرده، وهذا المقعد وحده الذي لا يزول، وقد يفيد أيضاً أنه المقعد الذي صدقوا في الخبر به". هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إن معنى الصدق ههنا يفيد معنى الخير أيضاً والجودة والصلاح فجمعت كلمة (الصدق) ههنا معنيي الخير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 والصدق معاً، كما جمع (النهر) أكثر من معنى. ثم انظر كيف أنهم لما صدقوا في إيمانهم وعملهم، كان لهم مقعد الصدق. و (المقتدر) أبلغ أيضاً من (القادر) ذلك أن (المقتدر) اسم فاعل من (اقتدر) وهذا أبلغ من (قدر) فإن صيغة (افتعل) قد تفيد المبالغة والتصرف والاجتهاد والطلب في تحصيل الفعل بخلاف فَعَل ومنه اكتسب واصطبر واجتهد قال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} [البقرة: 286] . جاء في (الكشاف) في هذه الآية: "فإن قلت: لم خصَّ الخير بالكسب والشر بالاكتساب؟ قلت: في الاكتساب اعتمال، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس، وهي منجذبةٌ إليه وأمّارة به كانت في تحصيله أعملَ وأَجدَّ، فجُعلت لذلك مكتسبة فيه، ولما لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال". وجاء في (البحر المحيط) : "والذي يظهر لي أن الحسنات، هي مما تُكتسب دون تكلف ... والسيئات تكتسب ببناء المبالغة". وقال سيبويه: "كسب: أصاب، واكتسب: تصرف واجتهد". فجاء ههنا، أي: في قوله: (مقتدر) بالصيغة الدالة على القدرةِ البالغة مع الملك الواسع الثابت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 فانظر كيف بالغ وأعظمَ في الأجر، وبالغَ وأعظمَ في المُلك، وبالغ وأعظمَ في القدرة لمن بالغ وجدّ في عمله وصدق فيه وهم المتقون. ونريد أن نشير إلى أمر، وهو إطلاق وصف (المبالغة) على صفات الله نحو علام، وعليم، وغفور، وما إلى ذلك. فقد توهم بعضهم أنه ينبغي أن لا يطلق على صفات الله وَصْفُ المبالغة، لأنها صفات حقيقة وليست مبالغاً فيها. وقد اعترضَ عليَّ معترضٌ ذات مرة بنحو هذا. مع أنه من الواضح أن ليس المقصود كما ظن الظان أو توهم. فالمقصود أن هذا البناء يفيد كثرةَ وقوع الفعل، وليس المقصود أن الأمرَ مبالَغٌ فيه. فـ (عليم) أبلغ من (عالم) و (صبور) أبلغ من (صابر) ذلك أن الموصوف بعليم معناه أنه موصوف بكثرة العلم، وليس المقصود أن صاحبه وُصف بهذا الوصف وهو لا يستحق أن يُوصَفَ به فكان الوصف به مبالغة. ولا نريد أن نطيل في كشف هذه الشبهة، فإنها فيما أحسب لا تستحق أكثر من هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 من سورة الجمعة سأل سائل عن قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مِّنَ اللهو وَمِنَ التجارة والله خَيْرُ الرازقين} . لِمَ قدمت التجارة على اللهو أولاً فقال: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً} وأَخَّرها عنه بَعْدُ فقال: {خَيْرٌ مِّنَ اللهو وَمِنَ التجارة} ؟ والجواب والله أعلم أن سبب تقديم التجارة على اللهو في قوله: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً} أنها كانت سبب الانفضاض ذلك أنه قدمت عِيرُ المدينة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، وكان من عُرْفِهِمْ أن يُدخَلَ بالطبلِ والدفوف والمعازف عند قدومها فانفضَّ الناسُ إليها ولم يبقَ في المسجد إلا اثنا عشر رجلاً فأنزل الله قوله: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً} . فقدمها لأنها كانت سبب الانفضاض وليس اللهو، وإنما كان اللهو والضرب بالدفوف بسببها فقدَّمها لذلك. ولهذا أفرد الضمير في (إليها) ولم يقل (إليهما) لأنهم في الحقيقة إنما انفضّوا إلى التجارة وكان قد مسّهم شيءٌ من غلاء الأسعار. وأما تقديم اللهو عليها فيما بَعْدُ في قوله: {قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مِّنَ اللهو وَمِنَ التجارة} فذلك لأن اللهو أعمُّ من التجارة، فليس كل الناس يشتغلون في التجارة ولكن أكثرهم يلهون. فالفقراء والأغنياء يلهون، فكان اللهو أعم فقدمه لذلك إذ كان حكماً عاماً فقدم التجارة في الحكم الخاص لأنها في حادثة معينة وقدم اللهو في الحكم العام لأنه أعم. ولأنها مناسبة لقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 {والله خَيْرُ الرازقين} فالتجارة من أسباب الرزق وليس اللهو فوضعها بجنبه. ولأنَّ العادةَ أنك إذا فاضلتَ بين أمور فإنك تبدأ بالأدنى، ثم تترقى فتقول: (فلان خير من فلان ومن فلان أيضاً) ، وذلك كأن تقول: (البحتري أفضل من أبي فراس، ومن أبي تمام ومن المتنبي أيضاً) ، فإنك إذا بدأتَ بالأفضل انتفت الحاجة إلى ذكر مَنْ هو أدنى، فبدأ باللهو لأنه ظاهر المذمة ثم ترقى إلى التجارة التي فيها كسب ومنفعة. وكرر (من) مع اللهو ومع التجارة فقال: {خَيْرٌ مِّنَ اللهو وَمِنَ التجارة} ليؤذن باستقلالِ الأفضلية لكل واحد منهما لئلا يتصور أنَّ الذمَّ إنما هو لاجتماع التجارة واللهو، فإن انفراد اللهو أو التجارة خرج من الذم، فأراد أن يبين ذم كل منهما على جهة الاستقلال لئلا يتهاون الناسُ في تقديم ما يرضي الله وتفضيله. ونحو ذلك، أن تقول: (الأناةُ خيرٌ من التهور والعجلة) فإن ذلك قد يفهم أنها خير من اجتماعهما، ذلك لأن اجتماعهما أسوأ من انفرادهما فإنَّ الذي يجمع التهور والعجلة أسوأ ممن اتصف بإحدى الخلتين. فإن قلت: (الأناة خير من التهور ومن العجلة) أفاد استقلال كل صفة عن الأخرى، وأنها خير من أية صفةٍ منهما، فإن اجتمعتا كان ذلك أسوأ. فجاء بـ (من) ليؤذن باستقلال كل من اللهو والتجارة وأنه ليس المقصود ذم الجمع بين الأمرين بل ذم وتنقيص كل واحد منهما، بالنسبة إلى ما عند الله. جاء في (روح المعاني) : "واختير ضمير التجارة دون اللهو، لأنها الأهم المقصود، فإن المراد ما استقبلوا به العِيرَ من الدف ونحوه. أو لأن الانفضاض للتجارة مع الحاجة إليها والانتفاع بها إذا كان مذموماً، فما ظنك بالانفضاض إلى اللهو وهو مذموم في نفسه ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 {خَيْرٌ مِّنَ اللهو وَمِنَ التجارة} وتقديم اللهو ليس من تقديم العدم على الملكة كما توهم؛ بل لأنه أقوى مذمة فناسب تقديمه في مقام الذم. وقال ابن عطية: قدمت التجارة على اللهو في الرؤية لأنها أهم وأُخِّرت مع التفضيل، لتقع النفسُ أولاً على الأبين ... وقال الطيبي: قدم ما كان مؤخراً وكرر الجار، لإرادة الإطلاق في كل واحد واستقلاله فيما قصد منه، ليخالف السابق في اتحاد المعنى، لأن ذلك في قصة مخصوصة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 من سورة المنافقون {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولائك هُمُ الخاسرون * وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين} . *** في هاتين الآيتين - كما هو شأن الآيات القرآنية كلها - أسرار تعبيرية بديعة. والذي دعاني إلى الكتابة فيهما، أن سائلاً سألني مرة: لماذا قال تعالى: {فَأَصَّدَّقَ} بالنصب وعطف بالجزم، فقال: (وأكنْ) ولم يجعلهما على نسقٍ واحد؟ فآثرتُ أن أكتب في هاتين الآيتين لارتباطهما. {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولائك هُمُ الخاسرون} . لقد نهى الله في هذه الآية عن الانشغال بأمر الأموال والتصرف فيها والسعي في تدبير أمرها، والانشغال بأمر الأولاد إلى حَدِّ الغفلة عن ذكر الله، وإيثار ذلك عليه ومن يفعل ذلك كان خاسراً خسارة عظيمة. هذا معنى الآية على وجه الإجمال، إلا أن هناك أسراراً تعبيرية تدعو إلى التأمل منها: 1- إنه قال: {لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ} ومعنى (لا تُلهكم) : لا تَشْغلكم. وقد تقول: لماذا لم يقل: (لا تشغلكم) ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 والجواب: أنَّ من الشغل ما هو محمودٌ فقد يكون شغلاً في حق كما جاء في الحديث: "إن في الصلاة لشغلاً" وكما قال تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الجنة اليوم فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} [يس: 55] . أما الإلهاء فمما لا خيرَ فيه وهو مذمومٌ على وجه العموم، فاختار ما هو أحق بالنهي. 2- لقد أسند الإلهاء إلى الأموال والأولاد فقال: {لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ} . فقد نهى الأموال عن إلهاء المؤمن، والمراد في الحقيقة نهي المؤمن عن الالتهاء بما ذكر. والمعنى: لا تلتهوا بالمال والأولاد عن ذكر الله. وهذا من باب النهي لشيءٍ والمرادُ غيره، وهو كقوله تعالى: {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور} [لقمان: 33] ، فقد نهى الحياة الدنيا عن غرّ المؤمن والمراد نهي المؤمن عن الاغترار بالدنيا. إن المَنْهي في اللغة: هو الفاعل نحو قولك: (لا يضربْ محمودٌ خالداً) فـ (محمود) هو المنهي عن أن يضرب خالداً، ونحو قولك: (لا يسافرْ إبراهيمُ اليوم) فإبراهيم منهي عن السفر. ونحو قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ} [الحجرات: 11] . فالقوم هم المنهيون وكذلك النساء. وكما تقول: (لا تضربْ خالداً) و (لا تضربي هنداً) فالفاعل هو المنهي وليس المفعول به. والفاعل في الآية هو الأموال والأولاد. أما المخاطبون فمفعول به. فالمنهي إذن هي الأموال والأولاد، وهي منهية عن إلهاء المؤمن. وقد تقول: ولِمَ لم يعبر بالتعبير الطبيعي فيقول: لا تلتهوا بالأموال والأولاد، على أصل المعنى؟ والجواب: أن في هذا العدول عدة فوائد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 منها: أنه نهى الأموال عن التعرض للمؤمن وإلهائه عن ذكر الله فكأنه قال: أيها الأموال لا تُلْهي المؤمن عن ذِكْري. فكأن الله يريد حماية المؤمن وذلك بنهي السبب عن أن يتعرض له فيكفّ عن التعرض. وفي هذا النهي مبالغة إذ المراد نهي المؤمن ولكنه بدأ بأصلِ المسألة وهي الأموالُ والأولاد فنهاها هي عن التعرض للمؤمن بما يلهيه. فقد جعل الله المؤمن كأنه مطلوب من قبل الأموال والأولاد تسعى لإلهائه وفتنته فنهاها عن السعي لهذا الأمر لينقطع سبب الالتهاء ويقمعه. ومنها: أن فيه إهابة للمؤمن ألا يقع في شَرَكِ الأموال والأولاد بحيث تلهيه وهو غافل مسلوب الإرادة، فنسب الإلهاء إليها ليأخذ المؤمنُ حَذَره منها، فكأن الأموال والأولاد ينصبون الشَّرَك ليلهوه عن ذكر الله، فعليه أن يحذر من أن يقع فيه كما تقول: (لا يخدعْك فلان) فإن فيه إهابةٌ لأخذِ الحذر منه. هذا إضافة إلى ما فيه من التعبير المجازي اللطيف، وهو إسناد الإلهاء إلى الأموال فجعلها عاقلة مريدة تنصب الشرَك لوقوع المؤمن في الفخ. جاء في (روح المعاني) : "والمراد بنهي الأموال وما بعدها نهي المخاطبين، وإنما وجه إليها للمبالغة لأنها لقوةِ تَسَبُّبها للهو وشدة مدخليتها فيه، جُعلت كأنها لاهية وقد نُهيت عن اللهو، فالأصل لا تلهوا بأموالكم.. إلخ. فالتجوُّزُ في الإسناد. وقيل: إنه تَجُوُّزٌ بالسبب عن المسبب كقوله: {فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} [الأعراف: 2] أي: لا تكونوا بحيث تلهيكم أموالكم.. ". وجاء في (تفسير البيضاوي) : "توجيه النهي إليها للمبالغة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 3- جاء بـ (لا) بعد حرف العطف فقال: {لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ} ولم يقل: (أموالكم وأولادكم) ذلك أن كلاً من الأموال والأولاد داعٍ من دواعي الإلهاء، فالمال داع من دواعي الإلهاء وكذلك الأولاد. ولو قال: (أموالكم وأولادكم) لاحتمل أن النهي عن الجمع بينهما، فلو لم يجمع بينهما جاز، فلو انشغل بالمال وحده جاز، أو انشغل بالأولاد وحدهم جاز، وهو غير مراد. إذ المراد عدم الانشغال بأيِّ واحدٍ منهما على سبيل الانفراد أو الاجتماع. 4- قدم الأموال على الأولاد لأن الأموال تلهي أكثر من الأولاد، فإن الانشغال فيها وفي تنميتها يستدعي وقتاً طويلاً وقد ينشغل المرء بها عن أهله، فلا يراهم إلا لماماً فقدم الأموال لذلك. 5- قدم المفضول على الفاضل، فالأولاد أفضل من الأموال، لأن المال إنما يكون في خدمتهم ويترك لهم وذلك لأكثر من سبب. منها: أن المقام مقام إلهاء كما ذكرنا فاستدعى تقديمها. ومنها: أن المقام يقتضي ذلك من جهة أخرى، فإن هذا التقديم نظير التقديم في الآية اللاحقة من تقديم المفضول وهو قوله: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين} فقدم الصدقة على كونه من الصالحين. ولما قدم النهي عن الالتهاء بالمال قدم الصدقة. والصدقة إنما هي إخراجٌ للمال من اليد والقلب، والالتهاء إنما هو انشغال به بالقلب والوقت والجارحة. ولما قال: {عَن ذِكْرِ الله} قال: {وَأَكُن مِّنَ الصالحين} لأنَّ المُنشغلَ عن الفرائضِ وذِكْرِ الله ليس من الصالحين. فهو تناظرٌ جميل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم ... فأصّدّق. عن ذكر الله ... وأكن من الصالحين. والملاحظ أنه حيث اجتمع المالُ والولد في القرآن الكريم، قُدِّمَ المالُ على الولد إلا في موطن واحد، وذلك نحو قوله تعالى: {شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح: 11] . وقوله: {المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا} [الكهف: 46] . وقوله: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً} [المدثر: 12-13] ، ونحو ذلك، لأن المال في هذه المواطن أدعى إلى التقديم، إما لأن الانشغال به أكثر كما ذكرنا، أو لأنه أدعى إلى الزينة والتفاخر وما إلى ذلك من المواطن التي تقتضي تقديم الأموال. أما الموطن الذي قدم فيه الولد على المال، فهو قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقترفتموها وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [التوبة: 24] . وذلك لأن المقام مقام حب. ولا شك أن المتقدمين من الأبناء والأزواج وغيرهم أَحبُّ إلى المرء من الأموال لأنه إنما ينفقُ المالَ عليهم ويُبقيه لهم بعد رحيلهِ عن هذه الدار. ثم لا تنسَ أنه قدم مجموع القرابات من الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة، ولا شك أن هؤلاء بمجموعهم أحبّ إلى المرء من المال. فالأبناء وحدهم أثقل في ميزان الآباء من الأموال، فكيف إذا اجتمع معهم ما اجتمع مِمَّنْ يُحبّ؟ أما مسألة تقديم الأموال على وجه العموم، فلعلَّ الله يُيَسِّر لنا البحثَ فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 6- قال: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ} ولم يقل: (ومن تُلْههِ تلك) فنسب الفعل إلى الشخص، لينال بذلك جزاءه ولئلا يفهم أنه ليس بمقدور الشخص الانصراف عن اللهو، وأنه غير مسؤول عن هذا الالتهاء. فقال: (ومن يفعل ذلك) للدلالة على أن ذلك بمقدوره، وأنَّ هذا من فِعْلهِ وكَسْبه. فالالتهاء ليس أمراً سلبياً، بل هو فِعْلٌ يقوم به الشخص وينال جزاءه عليه. 7- ثم انظر كيف جاء لذلك بالفعل المضارع فقال: {وَمَن يَفْعَلْ} للدلالة على استمرار الحدث وتَكَرُّرهِ ولم يقل: (ومن فعل) بالماضي، ذلك لأن الالتهاء بالأموال والأولاد أمرٌ يومي متكرر، ولذا عبر عنه بالفعل المضارع الذي يدل على التكرار والتطاول. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، أنه لو قال: (ومن فعل) لاحتمل أن ذلك الخسران الكبير، إنما يقعُ ولو فعلَهُ مرةً واحدة وهو غير مراد. ثم ليتناسب الفعل والجزاء إذ ليس من المعقول أن يكون ذلك الخسران الكبير الثابت المدلول عليه بالجملة الاسمية والقصر إنّما يكون لما وقع مرة واحدة من الالتهاء، بل المناسب أن يكون ذلك لما تكرر حصوله وتطاول. 8- ثم قال بعد ذلك: {فأولائك هُمُ الخاسرون} ، واختيار الخسران نهاية للآية أنسب شيء ههنا فإنه المناسب للالتهاء بالأموال والانشغال بها. فإن الذي ينشغلُ بالمال إنما يريد الربح، ويريد تنمية ماله فقال له: إن هذا خسرانٌ وليس ربحاً حيث باع "العظيمَ الباقي بالحقيرِ الفاني". 9- ثم إن الإتيان بضمير الفصل (هم) بين المبتدأ والخبر وتعريف (الخاسرون) بأل، إنما يفيدان القصر والتأكيد، أي أن هؤلاء لا غيرهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 هم الخاسرون حقاً. وهم أولى مَنْ يُسمَّون خاسرين. فإنه لم يقل: (فأولئك خاسرون) ، أو من الخاسرين. ولو قال لأفاد أن خسارتهم قد تكون قليلة أو قد يشاركهم فيها غيرهم بل قال: {فأولائك هُمُ الخاسرون} للدلالة على أنهم هم الخاسرون دون غيرهم وهم المتصفون بالخسارة إلى الحد الأقصى. جاء في (روح المعاني) : "وفي التعريف بالإشارة والحصر للخسران فيهم، وفي تكرير الإسناد وتوسيط ضمير الفصل ما لا يخفى من المبالغة". 10- اختار الإلهاء عن ذكر الله دون غيره من العبادات فلم يقل مثلاً: لا تلهكم عن الصلاة أو عن الجهاد أو عن غير ذلك من العبادات، ذلك أن ذكر الله يشمل جميع الفرائض، فكل عمل تعمله لا يكون لله إلا إذا كنت ذاكراً لله في نفسك أو على لسانك أو مستحضراً له في قلبك. والذكر قد يكونُ في القلب كما يكون في اللسان، قال تعالى: {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} [الأعراف: 205] . وقال: {وَأَقِمِ الصلاة لذكريا} [طه: 14] . فذِكْرُ الله "عام في الصلاة والثناء على الله تعالى بالتسبيح والتحميد وغير ذلك والدعاء.. وقال الحسن: جميع الفرائض". ولذلك كان الخسران كبيراً فهو متناسب مع عظم المعصية، والله أعلم. {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 1- تبدأ الآية بقوله: {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ} وهذا الأمر بالإنفاق مقابل النهي عن الإنفاق على أصحاب رسول الله من المنافقين. فالمنافقون يقولون لأوليائهم: {لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ} . والله يقول لأوليائه: {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ} فانظر كيف قابل النهي بالأمر. 2- قال: {مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ} فجاء بـ (من) الدالة على التبعيض ولم يقل: (أنفقوا ما رزقناكم) ، للدلالة على أن الإنفاق إنما يكون في قسم من المال ولا يشمل المالَ كله، فتستسهلُ النفوسُ التخلي عن قسم من المال، استجابةً لأمر ربها بخلاف ما إذا سألها المال كله، فإنها تستعظمُ ذلك وتبخلُ به، قال تعالى: {وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أموالكم * إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد: 36-37] . 3- أسند الرزق إلى نفسه فقال: {مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ} للدلالة على أن هذا المال إنما هو من رزق الله سبحانه، ملّكه عبادَهُ، فتطيب النفوس لإخراج بعض ما رزقه الله، استجابةً لأمرِ الله الرازق. وهذا التعبير اللطيف مَدْعاةٌ إلى الخروج عن الشح والاستجابة لأمر الله. 4- ثم قال: {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت} فجاء بـ (من) ولم يقل: (قبل أن يأتي أحدكم الموت) إشارة إلى قرب الموت من الإنسان، وأنه على الإنسان أن يسابق الموتَ ويبادر بالعمل الصالح. فإن (من) هذه تفيد ابتداء الغاية الزمانية، ومعناه الزمن القريب من الموت بل المتصل به، وأن حذفها يفيد الوقت الذي هو قبل الموت سواء كان قريباً أم بعيداً ويفيد إعطاء المهلة مع أن الأجل إذا جاء لا يمهل، فالمجيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 بها يفيد طلب التعجيل بالتوبة والإنفاق إذ كل ساعة تمر بالإنسان، تحتمل أن تكون هي ساعة الموت، وهي التي ذكرها بقوله: {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت} فانظر حُسْنَ التعبير ودقته. 5- قدم المفعول به على الفاعل، فقال: {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت} ولم يقل: (يأتي الموت أحدكم) ذلك لأن المفعول به هو المهم ههنا، إذ هو المعنيُّ بالتوبةِ والصلاح، وهو المدعوّ للإنفاق وهو المُتحسِّرُ النادم إذا عاجله الموت. فالعناية والاهتمام منصبان على المفعول الذي يأتيه الموت، وهو كل واحد منا. 6- جاء بالفاء في قوله: {فَيَقُولُ رَبِّ} ولم يأت بثم أو الواو، ذلك لأن الفاء تفيد معنيي السبب والعطف، في حين أن ثم أو الواو لا تفيد السبب، بل تفيد العطف وحده. ومن ناحية أخرى، إن الفاء تفيد التعقيب بلا مهلة في حين أن (ثم) تفيد التراخي، والواو تفيد مطلق الجمع. فجاء بالفاء لجمع معنيي السبب والعطف، أي أن الموت سبب لهذا الندم وطلب التأخير لِمَا ينكشفُ له من سوء المنقلب والعياذ بالله. ثم إن طلب التأخير يأتي رأساً بلا مهلة، ففي ساعة الموت وعند حضوره يطلب التأخير ليسلك سبيلَ الصالحين، ولو جاء بـ (ثم) لَمَا أفاد ذاك، بل يفيد أن طلب ذاك إنما يكون بعد مهلة وتراخٍ، وكذلك الواو لا تفيد ما أفادته الفاء. 7- ثم انظر كيف ناسب المجيء بالفاء الدالة على قصر الوقت حذف حرف النداء، فقال: (ربّ) ولم يقل: (يا رب) لأن الوقت لم يعد يحتمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 التضييع في الكلام فيأتي بـ (يا) بل يريد أن يستعجل في طلبه، فيختصر من الكلام ما لا حاجةَ له به ليفرغ إلى مراده. 8- جاء بـ (لولا) فقال: {لولا أخرتنيا} ولم يقل: (لو أخرتني) لأن (لولا) أَشَدُّ في الطلب من (لو) وقائلها أكثر إلحاحاً من قائل: (لو) فإن (لو) تكون للطلب برفق، وأما (لولا) فتكون للطلب بشدةٍ وحَثٍّ، ومعنى ذلك أن ما هو فيه يستدعي الإلحاح في الطلب، وأن يجأر به وأن يأتي بما هو من أشدِّ أدواتِ الطلب قوةً، كما أنها من أدوات التنديم وفيها تنديمٌ للنفس على ما فرط، ولو جاء بـ (لو) لأفاد العرض الخفيف. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إن (لو) قد تفيد التمني، والتمني قد يكون ميؤوساً منه ليس لصاحبه فيه مَطْمع نحو (لو يعود الميت إلى الحياة، فيخبر الناس بما هو فيه) في حين أن هذا القائل ليس متمنياً، بل هو طالبٌ للعودة، سائلٌ لها فلو جاء بـ (لو) لأفاد أن هذا من باب التمني الذي يتمناه الإنسان، ولا يرجو وقوعه كقول القائل: (ألا ليتَ الشبابَ يعود يوماً) والتمني قد يكون في حال العافية كما يكون في غيرها في حين أن هذا طالب للتأخير وليس متمنياً. 9- جاء بالفعل الماضي بعد (لولا) فقال: {لولا أخرتنيا} ولم يقل: (لولا تؤخرني) ذلك أن المحذور وقع في حين أن الفعل المضارع قد يفيد أن الأمر لم يقع بعد، وأن في الأمر سَعَةً وذلك نحو قوله تعالى: {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ} [الواقعة: 70] . وقوله: {قَالَ ياقوم لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل: 46] . هذا علاوة على ما يفيدُ دخولُ (لولا) على الماضي من قوةِ الطلب وشدته، وإن كان مستقبل المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 10- ثم انظر كيف طلب مهلة قصيرة لإصلاح حاله، مع أنه كان يتقلب في الأرض من دون أدنى تفكير أو اهتمام بمآله في الآخرة أو بالأوقات التي يضيعها هدراً من دون اكتراث، فقال: {إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} ، ولم يقل: (إلى أجل) فيحتمل القريب والبعيد، فطلب مهلة قصيرة وأجلاً قريباً لتداركِ ما فات. فانظر كيف جاء بالفاء الدالة على قصر الزمن بين إتيانِ الموت وطلب التأخير، وحذف (يا) النداء اختصاراً للزمن ليفرغ إلى طلبه، وجاء بـ (لولا) الدالة على الإلحاح في الطلب، كل ذلك ليحصلَ على مهلةٍ قليلة ليصلح شأنه. فانظر أية إشارات هذه إلى هَولِ ما هو فيه؟ وقد تقول: ولمَ قال ههنا: {أخرتنيا} بالياء وقال في سورة الإسراء: {أَخَّرْتَنِ} فحذف الياء واجتزأ بالكسرة؟ والجواب: أن المقام يوضح ذلك. فقد قال في سورة الإسراء على لسان إبليس: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هاذا الذي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 62] . وقال ههنا: {لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين} . وهنا نسأل: أيّ الطلبين يريده المتكلِّمُ لنفسه على وجه الحقيقة، وأيهما يعودُ بالنفع عليها ودفع الضرر عنها أهُوَ قولُه: {لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين} أم قوله: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً} ؟ والجواب ظاهر. فإنَّ طلبَ إبليس لا يريدهُ من أجل نفسه، ولا لأنه محتاجٌ إليه، وإنما يريده ليُضِلَّ ذريةَ آدم. ثم إن هذا الطلب لا يعود عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 بنفع، ولا يدفع عنه ضراً وليست له مصلحة فيه؛ بل العكس هو الصحيح بخلاف الطلب الآخر، فإنه يريده لنفسه حقاً وإنه لا شيء ألزم منه لمصلحته هو ودفع الضرر عنه. فلما كان طلب التأخير لمصلحة الطالب حقاً، وأنه ابتغاء لنفسه على وجه الحقيقة أظهر الضمير. ولما كان طلب إبليس ليس من أجل نفسه ولا يعود عليها بالنفع حذف الضمير واجتزأ بالكسرة. ثم في الحقيقة، إن كلام إبليس ليس طلباً، وإنما هو شرطٌ دخل عليه القَسَم فقال: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ} فهو من باب الطلب الضمني، وليس من باب الطلب الصريح. وأما قوله: {لولا أخرتنيا} فهو طلب صريح ففرق تبعاً لذلك بين التعبيرين. فصرّح بالضمير وأظهر نفسه في الطلب الصريح، وحذف الضمير واجتزأ بالإشارة إليه في الطلب غير الصريح. وهو تناظرٌ جميل، ففي الطلب الصريح صَرَّحَ بالضمير، وفي الطلب غير الصريح لم يصرح بالضمير. 11- وهنا نأتي إلى سؤال السائل وهو: لِمَ عطفَ بالجزم على النصب، فقال: (فأصّدّقَ) بالنصب ثم قال: (وأكنْ) بالجزم ولم يجعلهما على نسق واحد؟ والجواب: أن هذا مما يسميه النحاة (العطف على المعنى) وقد يسمى في غير هذا القرآن (العطف على التوهم) . ذلك أن (أصّدّق) منصوب بعد فاء السببية، و (أكن) مجزوم على أنه جواب للطلب، والمعنى: إنْ أخرتني أكن من الصالحين. ونحو ذلك أن تقول: (هلاّ تدلّني على بيتك أَزُرْك) ، فـ (أزرك) مجزوم بجواب الطلب والمعنى، إن تدلني على بيتك أزرك ولو جئت بفاء السبب لنصبت، فقلت: (هلا تدلني على بيتك فأزورَك) ، وإن أسقطت الفاء وأردت معنى الشرط جزمت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 جاء في (البحر المحيط) : "وقرأ جمهور السبعة (وأكن) مجزوماً. قال الزمخشري: (وأكن) مجزوماً على محل (فأصدق) كأنه قيل: إن أخرتني أصدق وأكن. وقال ابن عطية: عطفاً على الموضع لأن التقدير إن تؤخرني أصّدّق وأكن". ففي الآية الكريمة جاء بالمعطوف عليه على إرادة معنى السبب وجاء بالمعطوف على معنى الشرط فجمع بين معنيي السبب والشرط. فالعطف إذن ليس على إرادة معنى الفاء بل على إرادة معنى جديد. جاء في (معاني النحو) : "عطف (أكن) المجزوم على (أصدّق) المنصوب، وهو عطف على المعنى وذلك أن المعطوف عليه يراد به السبب والمعطوف لا يراد به السبب، فإنَّ (أصدّق) منصوب بعد فاء السبب وأما المعطوف فليس على تقدير الفاء ولو أراد السبب لنصب، ولكنه جزم لأنه جواب الطلب نظير قولنا: (هل تدلني على بيتك أزرك؟) كأنه قال: إن تدلّني على بيتك أزرك. فجمع بين معنيي التعليل والشرط، ومثل ذلك أن أقول لك: (احترم أخاك يحترمْك) و (احترم أخاك فيحترمَك) فالأول جواب الطلب والثاني سبب وتعليل. وتقول في الجمع بين معنيين (أكرمْ صاحبك فيكرمَك ويعرفْ لك فضلك) وهو عطف على المعنى". وقد تقول: ولماذا لم يُسَوِّ بينهما، فيجعلهما نسقاً واحداً؟ والجواب أنهما ليسا بمرتبة واحدة في الأهمية، فالصلاح أهم من الصدقة ذلك أن الذي ينجي من العذاب، هو كونه من الصالحين لا كونه متصدقاً فإن المؤمن قد لا يتصدق بصدقة أصلاً ومع ذلك يدخل الجنة بصلاحه فقد يكون ليس معه ما يتصدق به. فالذي ينجيه من العذاب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 ويدخله الجنة، هو أن يكون من الصالحين، والتصدق إنما يكون من الصلاح. والذي يدلك على ذلك قوله تعالى في سورة (المؤمنون) : {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ رَبِّ ارجعون * لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا} [المؤمنون: 99-100] . فإنه ذكر الصلاح ولم يذكر الصدقة، لأن الآية لم تقع في سياق الكلام على الأموال وإنفاقها، وذلك يدل على أن الصلاحَ هو مناطُ النجاة وأنه هو الأهم. فعبّر عن كونه من الصالحين بأسلوب الشرط، لأنه أقوى في الدلالة على التعهد والتوثيق، فقد اشترط على نفسه أن يكون من الصالحين، وقطع عهداً على نفسه بذلك. فأعطى الأهم والأولى أسلوبَ الشرط الدال على القوة في الأخذ على النفس والالتزام. وأعطى ما هو دونه في الأهمية والأولوية، أسلوب التعليل ولم يجعلهما بمرتبة واحدة. وقد تقول: إذا كان الأمر كذلك فَلِمَ قَدَّمَ الصدقة على الصلاح؟ والجواب: أن السياق هو في إنفاق الأموال، فقد قال تعالى في هذه الآية: {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ} فدعا إلى الإنفاق، فكان تقديم الصدقة مناسباً للمقام. ثم إنه تردد في السورة ذِكْرُ الأموال والانشغالُ بها، وما إلى ذلك، فقد جاء قبل هذه الآية قوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولائك هُمُ الخاسرون} فنهى عن الانشغال بالأموال والأولاد عن ذكر الله، وجاء قبلها قوله في المنافقين: {هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السماوات والأرض} . فأنتَ ترى أن تقديم الصدقة، هو المناسب للسياق الذي وردت فيه الآية وللجو الذي تردد فيه ذِكْرُ الأموال والانشغال بها، والتوصية من المنافقين بعدم إنفاقها في سبيل الخير. وقد تقول: ولِمَ قال: {فَأَصَّدَّقَ} ولم يقل: (فأتصدق) الذي هو الأصل؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 والجواب: أن هناك أكثر من سبب يدعو إلى هذا الاختيار. منها أن مقاطع (فأتصدق) أكثر من مقاطع (فأصّدّق) . فإن مقاطع (فأتصدق) ستة ومقاطع (فأصّدّق) خمسة: فَ + أَ + تَ + صد + دَ + قَ = ستة مقاطع. فَ + أص + صد + دَ + قَ = خمسة مقاطع. وهو طلب التأخير إلى أجل قريب فاختار اللفظة التي هي أقصر لتناسب قصر المدة. ثم إن في (فأصّدّق) تضعيفين أحدهما في الصاد، والآخر في الدال في حين أن في (فأتصدق) تضعيفاً واحداً موطنه الدال، والتضعيف مما يدل على المبالغة والتكثير، ولذا كان في قوله: (فأصّدّق) من المبالغة والتكثير في الصدقة ما ليس في (فأتصدق) فدلّ بذلك أنه أراد أجلاً قريباً ليكثر من الصدقة ويبالغ فيها. فهذا البناء أفاد معنيين: الأول: قصر المدة وذلك لأنه طلب التأخير مدة قصيرة. والآخر: هو الإكثار من الصدقة في هذه المدة القصيرة فكان ذلك أنسب. من هذا ترى أنه وضعَ كلَّ تعبير في مكانه الذي هو أليقُ به، وأعطى كلاً منهما حقه الذي هو له. فانظر كيف جمع بين معنيي التعليل والشرط. وقدم الصدقة مناسبة للمقام وأعطى الصلاح أهميةً تفوقُ الصدقة، وجاء بلفظةٍ تدلُّ على قِصَرِ المدة والإكثار من الصدقة فجمعت معنيين مناسبة للمقام؛ كلُّ ذلك بأوجز عبارة وأبلغها. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 من سورتي المعارج وعبس من سورة المعارج {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ المجرم لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ التي تُؤْوِيهِ * وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلاَّ إِنَّهَا لظى * نَزَّاعَةً للشوى * تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى * وَجَمَعَ فأوعى * إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً * إِلاَّ المصلين} . من سورة عبس {فَإِذَا جَآءَتِ الصآخة * يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وصاحبته وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} . *** بدأ في سورة (عبس) بذِكْرِ الأخِ فالأم فالأب فالصاحبة ثم الأبناء في الأخير. وفي سورة المعارج على عكس ذلك، فقد بدأ بالأبناء، فالصاحبة فالأخ فالفصيلة، ثم انتهى بأهل الأرض أجمعين. وسبب ذلك والله أعلم أن المقام في (عبس) مقام الفرار والهرب، قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء} والإنسان يفرّ من الأباعد أولاً، ثم ينتهي بألصقِ الناس به وأقربهم إليه، فيكونون آخر مَن يفر منهم. والأخ أبعد المذكورين في الآية من المرء. وإنَّ ألصقهم به زوجهُ وأبناؤه، فنحن ملتصقون في حياتنا بأزواجنا وأبنائنا أكثر من التصاقنا بإخواننا وآبائنا وأمهاتنا. فقد تمر شهور بل ربما أعوام ونحن لا نرى إخواننا في حين نأوي كل يوم إلى أزواجنا وأبنائنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 والإنسان قد يترك أمه وأباه ليعيش مع زوجه وأبنائه وهو ألصق بأبنائه من زوجه، فقد يفارق زوجه ويسرحها ولكن لا يترك ابنه. فالأبناء آخر مَنْ يَفرُّ منهم المرءُ ويهرب. وهكذا رتب المذكورين في الفرار بحسب العلائق، فأقواهم به علاقة هو آخر من يفر منه، فبدأ بالأخ ثم الأم ثم الأب. وقدم الأم على الأب، ذلك أن الأب أقدر على النصر والمعاونة من الأم. وهو أقدر منها على الإعانة في الرأي والمشورة، وأقدر منها على النفع والدفع. فالأم في الغالب ضعيفة تحتاج إلى الإعانة بخلاف الأب. والإنسان هنا في موقف خوف وفرار وهرب، فهو أكثر التصاقاً في مثل هذه الظروف بالأب لحاجته إليه، ولذا قدم الفرار من الأم على الفرار من الأب، وقدم الفرار من الأب على الفرار من الزوجة، لمكانةِ الزوجةِ من قلب الرجل وشدة علاقته بها، فهي حافظة سره وشريكته في حياته، ثم ذكر الفرار من الأبناء في آخر المطاف، ذلك لأنه ألصق بهم وهم مرجوون لنصرته ودفع السوء عنه أكثر من كل المذكورين. هذا هو السياقُ في (عبس) سياقُ الفرار من المعارف وأصحاب العلائق أجمعين لِلْخُلُوِّ إلى النفس، فإنَّ لكل امرىء شأناً يشغله وهمّاً يُغْنيه. أما السياق في سورة المعارج، فهو مختلف عما في (عبس) ذلك أنه مشهد من مشاهد العذاب الذي لا يُطاق، فقد جيء بالمجرم، لِيُقذفَ به في هذا الجحيم المستعر، وهذا المجرم يودُّ النجاةَ بكل سبيل ولو أدى ذلك إلى أنْ يبدأ بابنه، فيضعه في دركات لظى. فرتب المذكورين ترتيباً آخر يقتضيه السياق، وهو البدء بالأقربِ إلى القلب والأعلقِ بالنفس فيفتدي به فضلاً عن الآخرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 لقد وردت في السياق جملة أمور تقتضي هذا الترتيب منها: 1- إنه ذكر أن هذا المفتدي (مجرم) وليس امرءاً اعتيادياً، والمجرمُ مستعدٌّ لِفعْلِ أيِّ شيء لينجو ولو أن يبدأ بأقرب المُقَرَّبين إليه وأحبهم إلى قلبه فيضعه في السعير. وهو لا يهمه أن يفتدي بالناس أجمعين فيضعهم مكانه في أطباق النيران بذنب لم يرتكبوه وإنما ارتكبه هو. 2- جرى ذِكْرُ القرابات قبل هذا المشهد فقال: {وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} . والحميم القريب، فبدأ بأقرب القرابة وهم الأبناء، ثم انتهى إلى الأباعد وهم من في الأرض عموماً. 3- ذكر بعد هذه الآيات أن الإنسان {خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} فلما أدرك المجرم العقاب وأيقن أنه مُواقِعهُ لا مَحالةَ أدركه الهلعُ والجزع، ومن أظهر مظاهر هذا الهلع والجزع أن يبدأ بأقرب الناس وأحبِّهم إليه فيفتدي به. 4- إن البدء بأقرب الناس وأحبهم إليه وألصقهم بقلبه ليفتدي به، يدل على أن العذاب فوق التصور، وهولُهُ أبعدُ من الخيال بحيث جعله يبدأ بأقرب الناس إليه، وأن يتخلى عن كل مساومة. جاء في (أنوار التنزيل) في قوله تعالى: {يَوَدُّ المجرم لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} : "إن ذلك لبيان أن اشتغال كل مجرم بنفسه بلغ به إلى حيث يتمنى أن يفتدي بأقرب الناس إليه وأعلقهم بقلبه، فضلاً عن أن يهتم بحاله ويسأل عنها". فرتَّبهن ترتيباً آخر مبتدئاً بالأبناء فالزوجة فالأخ فالفصيلة، وفيهم الأبوان ثم انتهى بأهل الأرض أجمعين، فلا يبقى أحد غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وهناك جانب فني آخر، غير التقديم والتأخير، وهو اختيار لفظ (المرء) في آية (عبس) على (الإنسان) فقال: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ} في حين قال قبل هذه الآيات: {قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ} وقال: {فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ} ، ذلك أن الأصل في كلمة (المرء) أن تطلق على الرجل، وقد تُؤنَّثُ هذه الكلمة فيقال: (المرأة) وجَمْعُ المرء الرجال من غير لفظه، وقد تطلق على الإنسان أيضاً. فاختيار (المرء) ههنا أوفق من (الإنسان) ذلك أنه ذكر الفرار من الصاحبة، وهي الزوجة فقال: {وصاحبته وَبَنِيهِ} فناسب ههنا ذكر (المرء) لأن (الإنسان) كلمة تشمل الذكر والأنثى، في حين أن الفارّ من الصاحبة هو الرجل. ثم إن اختيار كلمة (المرء) أوفق لسبب آخر ذلك أن مشهد الفرار يوم القيامة لا يختص بالإنسان، بل هو عام يشمل رجال الثقلين من الجن والإنس، وأن كلمة رجل ورجال تطلق على هذا الجنس من الثقلين، قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن: 1] . فكلمة (مرء) أعمُّ من كلمة (إنسان) من ناحية وأخصُّ منها من ناحية أخرى، فهي قد تستعمل للرجل خاصة فتكون أخص من كلمة (إنسان) التي تشمل عموم البشر من الذكور والإناث، وقد تستعمل لغير الإنسان، أعني الجن الذين يشملهم الفرار في الآخرة، فتكون أعم بهذا المعنى في حين أن المَعْنيَّ بالآيات السابقة هو (الإنسان) فقط {فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً} إلخ وهذا خاص بالإنسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ثم إن اختيار كلمة (مرء) أنسب من كلمة (رجل) أيضاً ذلك أن (المرء) يشمل الصغار والكبار فهي أعم من كلمة (رجل) التي تشمل الكبار من هذا الجنس في حين أن مشهد الفرار ينتظم الثقلين أجمعين. فانظر كيف اختار كلمة (مرء) بدل (إنسان) و (رجل) لاعتبارات متعددة. فهي أعني (المرء) تعني الإنسان، وتعني الرجل، ثم هي لا تخص رجال الإنس، بل تَعمُّهم وتَعمُّ رجالَ الجن، ولا تختص الكبار بل تشمل الكبار والصغار. فانظر كيف اختار أوفقَ كلمةٍ وأنسبها لهذا المقام. وثمة لمسة فنية أخرى، وهي وضع كل مشهد في السورة المناسبة له. فقد وضع مشهد الفرار في السورة التي تبدأ بـ {عَبَسَ وتولى} . والتولّي نوع من أنواع الفرار من الشيء والانصراف عنه. والعبوس أيضاً هو نوع من أنواع الفرار النفسي من الشيء بعكس الألفة والانشراح له. والتلهِّي عن الشيء، هو الفرار منه بصورة ما، أعني ما ورد في قوله تعالى: {وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يسعى * وَهُوَ يخشى * فَأَنتَ عَنْهُ تلهى} . فوضعُ مشهدِ الفرار الأكبر في الآخرة في (عبس) مناسبٌ لجو السورة أيَّما مناسبة. ووضعُ مشهد العذاب الأكبر الذي ذكره بقوله: {كَلاَّ إِنَّهَا لظى * نَزَّاعَةً للشوى * تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى * وَجَمَعَ فأوعى} في سورة المعارج التي تبدأ بقوله: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} أنسبُ شيء وأحسنه. فوضعَ مشهدَ العذاب في السورة التي تبدأُ بالعذاب. ووضعَ مشهدَ الفرار في السورة التي تبدأ بنوعٍ من أنواع الفرار. فما أحسنَ التناسب والاختيار في الموطنين! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 من سورتي المعارج والقارعة قال تعالى في سورة المعارج: {وَتَكُونُ الجبال كالعهن} . وقال في سورة القارعة: {وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش} . فزاد كلمة (المنفوش) في سورة القارعة على ما في المعارج فما سببُ ذاك. والجواب: 1- أنه لما ذكر القارعة في أول السورة، والقارعة من القَرْع، وهو الضربُ بالعصا، ناسبَ ذلك ذكر النفش، لأن من طرائق نفش الصوف أن يُقْرعَ بالمقرعة. كما ناسب ذلك من ناحية أخرى وهي أن الجبال تُهَشَّمُ بالمقراع (وهو من القرع) وهو فأسٌ عظيم تُحَطَّمُ به الحجارة، فناسب ذلك ذكر النفش أيضاً. فلفظ القارعة أنسب شيء لهذا التعبير. كما ناسب ذكر القارعة ذكر (الفراش المبثوث) في قوله: {يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث} أيضاً لأنك إذا قرعت طار الفراش وانتشر. ولم يحسن ذكر (الفراش) وحده كما لم يحسن ذكر (العهن) وحده. 2- إن ما تقدم من ذِكْرِ اليومِ الآخر في سورة القارعة، أهول وأشد مما ذكر في سورة المعارج فقد قال في سورة المعارج: {تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فاصبر صَبْراً جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً} وليس متفقاً على تفسير أن المراد بهذا اليوم، هو اليوم الآخر. وإذا كان المقصود به اليوم الآخر فإنه لم يذكر إلا طول ذلك اليوم، وأنه تعرج الملائكة والروح فيه. في حين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 قال في سورة القارعة: {القارعة * مَا القارعة * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا القارعة} فكرر ذِكْرَها وعظمها وهولها. فناسب هذا التعظيم والتهويل أن يذكر أن الجبال تكون فيه كالعِهْنِ المنفوش. وكونُها كالعهن المنفوش أعظم وأهول من أن تكون كالعهن من غير نفشٍ كما هو ظاهر. 3- ذكر في سورة المعارج أن العذاب (واقع) وأنه ليس له دافع {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} ووقوع الثقل على الصوف. من غير دفعٍ له لا ينفشه بخلاف ما في القارعة، فإنه ذكر القرع وكرره، والقرع ينفشه وخاصة إذا تكرر، فناسب ذلك ذكر النفش فيها أيضاً. 4- التوسع والتفصيل في ذكر القارعة حسّن ذِكْرَ الزيادةِ والتفصيل فيها، بخلاف الإجمال في سورة المعارج، فإنه لم يزد على أن يقول: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} . 5- إن الفواصل في السورتين تقتضي أن يكون كل تعبير في مكانه، ففي سورة القارعة، قال تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث * وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش} . فناسبت كلمة (المنفوش) كلمة (المبثوث) . وفي سورة المعارج قال: {يَوْمَ تَكُونُ السمآء كالمهل * وَتَكُونُ الجبال كالعهن} . فناسب (العهن) (المهل) . 6- ناسب ذكر العهن المنفوش أيضاً قوله في آخر السورة {نَارٌ حَامِيَةٌ} لأن النار الحامية هي التي تُذِيبُ الجبالَ، وتجعلها كالعهن المنفوش، وذلك من شدة الحرارة، في حين ذكر صفة النار في المعارج بقوله: {كَلاَّ إِنَّهَا لظى * نَزَّاعَةً للشوى} والشَّوَى هو جلد الإنسان. والحرارةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 التي تستدعي نزع جلد الإنسان أقلُّ من التي تذيب الجبال وتجعلها كالعهن المنفوش، فناسب زيادة (المنفوش) في القارعة من كل ناحية. والله أعلم. كما أن ذكر النار الحامية مناسب للقارعة من ناحية أخرى، ذلك أن (القَرّاعة) - وهي من لفظ القارعة - هي القدّاحة التي تُقدح بها النار. فناسب ذكر القارعة، ذكر الصوف المنفوش وذكر النار الحامية، فناسب آخر السورة أولها. وبهذا نرى أن ذكر القارعة حسّن ذكر (المبثوث) مع الفراش، وذكر (المنفوش) مع الصوف، وذكر النار الحامية في آخر السورة. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 سورة القيامة سألني ولدي ذات يوم: ما مناسبةُ قولهِ تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} لِمَا قبله وهو قوله تعالى: {بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ} . فقلتُ له: دَعْني أنظر في أول السورة، لعلي أجد مفتاحَ الجواب. فقرأت: بسم الله الرحمن الرحيم: {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة * وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 فقلت له: المناسبة ظاهرة، وهي أن الله تعالى أقسم بيوم القيامة، وأقسم بالنفس اللوامة، ومن أبرزِ سِماتِ النفس اللوامة أن تعجل في الأمر، ثم تندم عليه، فتبدأ بلومِ نفسها على ما فعلت. وهو في الآيات التي ذَكَرْتَها ذَكَرَ النفسَ، فقال: {بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} وذَكَرَ العجلةَ فقال: (لتعجلَ به) فالمناسبة ظاهرة. ثم بدأتُ أقرأُ السورةَ متأملاً فيها فوجدت من دقائق الفن والتناسب والتناسق ما يدعو إلى العجب فآثرتُ أن أُدَوِّنَ شيئاً من هذه اللمسات الفنية. لقد ذكر المفسرون مناسبة هذه السورة لما قبلها أعني سورة (المدّثّر) وارتباطها بها. فقد قالوا: إنه سبحانه قال في آخر سورة المدثر: {كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ الآخرة * كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} [المدثر: 53-54] ، وفيها كثير من أحوال القيامة "فذكر هنا يوم القيامة وجُمَلاً من أحوالها" فكان بينهما مناسبة ظاهرة. إن هذه السورةَ قطعةٌ فنية مترابطة متناسقة مُحْكَمةُ النَّسْجِ، وليس صواباً ما جاء في (الإتقان) أن "من الآيات ما أشكلت مناسبتها لما قبلها، من ذلك قوله تعالى في سورة القيامة: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} فإن وجه مناسبتها لأول السورة وآخرها عَسِرٌ جداً". إنَّ ترابطَ آيات هذه السورة ترابط محكم وتناسبها فيما بينها لا يخفى على المتأمل. لقد أقسم الله سبحانه بيوم القيامة، وأقسم بالنفس اللوامة على رأي الأكثرين، أو أقسم بيوم القيامة، ولم يقسم بالنفس باللوامة على رأي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 آخرين. وسِرُّ هذا الاختلافِ، أنَّ ثَمَّة قراءة بإثبات القسم بيوم القيامة أي (لأقسم) إلا أنهم اتفقوا على إثبات حرف النفي مع النفس اللوامة فكلهم قرأ {وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة} . ولا نريدُ أن نطيل الكلامَ على اقتران فعل القسم بـ (لا) ودواعيه فقد تكلم فيه المفسرون والنحاة بما فيه الكفاية. والذي نريد أن نقوله ههنا: إنَّ كل أفعال القسم المُسْندةِ إلى الله في القرآن الكريم مسبوقة بـ (لا) إذ ليس في القرآن الكريم (أقسم) بل كلها (لا أقسم) ، وذلك نحو قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم} [الواقعة: 75] وقوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق} [الانشقاق: 16] وقوله: {لاَ أُقْسِمُ بهاذا البلد} [البلد: 1] وما إلى ذلك. فليس القَسَمُ ههنا بِدْعاً من التعبير. وباختصار كبير نُرجِّحُ أن هذا التعبير إنما هو "لونٌ من ألوان الأساليب في العربية تُخبر صاحبك عن أمرٍ يَجهله أو ينكره، وقد يحتاج إلى قَسَمٍ لتوكيده، لكنك تقول له: لا داعي أن أحلف لك على هذا، أو لا أريد أن أحلف لك أن الأمر على هذه الحال، ونحوه مستعملٌ في الدارجة عندنا نقول: ما أحلف لك أن الأمر كيت وكيت. أو ما أحلف لك بالله لأن الحلف بالله عظيم، إن الأمر على غيرِ ما تَظُنُّ ... فأنت تخبره بالأمر، وتقول له: لا داعي للحلف بالمعظمات على هذا الأمر". أو كما ذهبت إليه الدكتورة بنت الشاطىء، وهو أنَّ القصدَ من ذلك هو التأكيد "والتأكيد عن طريق النفي، ليس بغريبٍ عن مألوفِ استعمالنا، فأنت تقولُ لصاحبك: لا أُوصيكَ بفلان تأكيداً للوصية ومبالغةً في الاهتمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 بها، كما تقول: لن أُلِحَّ عليك في زيارتنا. فتبلغ بالنفي ما لا تبلغه بالطلب المباشر الصريح". ومهما كان الرأي في دخول (لا) على فعل القسم، فإن هذا لا يُغَيِّرُ شيئاً من أصل المسألة، وهي أنه ابتدأ السورةَ بالقسَمِ بيوم القيامة والنفس اللوامة نفياً أو إثباتاً. وقد حاول المفسرون أن يجدوا المناسبة لاجتماعهما في القسم فقالوا: "المقصود من إقامة القيامة، إظهار أحوال النفوس اللوامة، أعني سعادتها وشقاوتها، فقد حصل بين القيامة والنفوس اللوامة هذه المناسبة الشديدة". وجاء في (التبيان في أقسام القرآن) : "وجمع سبحانه في القسم بين محلِّ الجزاء وهو يومُ القيامة، ومحلِّ الكَسْبِ وهو النفس اللوامة ... ولما كان يومُ معادها هو محل ظهور هذا اللوم وتَرتُّبِ أثرهِ عليه، قَرَنَ بينهما في الذِّكْرِ". إن السورة مبنية على ما ابتدأت به من القسم، فهي مبنية على أحوال يوم القيامة، وعلى النفس، ولا تكاد تخرج عن ذلك. هذا أمر. والأمرُ الآخر أنه تعالى لم يقسم بالنفس على صفة الإطلاق، بل أقسم بنفسٍ مخصوصة، وهي النفس اللوامة، وهذا له طابعهُ الواضح في السورة كما سنبين. إن الإنسان يلومُ نفسه لأحدِ سببين: إما أن يتعجل فيفعل ما لا ينبغي له فعله، فيندم على ذلك فيبدأ يلوم نفسه، لِمَ فعلت ذاك؟ لِمَ لَمْ أتروَّ؟ وإما أن يتراخى عن فِعْل كان الأَوْلى له أن يفعله، وأن يَغتنم الفرصة التي سنحت له، ولكنه قعد عن ذلك مُسَوِّفاً، ففاته نفعٌ كبير، وقد لا تسنح له فرصة، كالتي فاتت، فيبدأ بلوم نفسه. لم تباطأتُ، لمَ لم أفعل؟ لمَ لم أغتنم الفرصة؟ ونحو ذلك. والسورة مطبوعة أيضاً بهذين الطابعين من صفات النفس اللوامة، طابع العجلة التي تدعو إلى الندم واللوم، وطابع التباطؤ وتفويت الفرص الذي يؤدي إلى الندم واللوم أيضاً. فالسورة مبنية على ما ابتدأت به. يوم القيامة، والنفس اللوامة في حاليها: العجلة والتباطؤ. أما يوم القيامة، فقد تكررت أحواله في السورة في تناسق لطيف، إلى أن ختمت بقوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى} فتناسب بَدْءُ السورةِ مع خاتمتها. ثم قال بعد القسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} فعاد إلى القيامة. والملاحظ في هذا التعبير أنه جمع بين نفس الإنسان ويوم القيامة، أيضاً كما ابتدأت السورة فقال: {أَيَحْسَبُ الإنسان} أي: أَيظنُّ ذلك في نفسه؟ والحسبانُ أمرٌ نفسي داخلي، ولم يقل مثلاً: (لنجمعنك إلى يوم القيامة) أو (لتبعثن) ونحو ذلك فجمع بينهما في تناسق لطيف مع بداية السورة، وهو اختيار فني رفيع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ومن الملاحظ أننا لا نجد جواباً للقسم الذي ابتدأت به السورة، وإنما نجد ما يدل عليه وهو هذه الآية. فجوابُ القسم محذوف ويُقَدِّرهُ النحاةُ (لتبعثن) . وهذا الحذف يتناسب هو والعجلة التي دلّت عليها النفس اللوامة وجَوّها - أعني جو العجلة - الذي طبعت به السورة. ومن الملاحظات الأخرى في هذه الآية، أنها مرتبطةٌ بما ورد في آخر السورة وهو قوله: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى} أجملَ ارتباط حتى كأنهما آيتان متتابعتان تأخذُ إحداهما بحجز الأخرى. ثم قال بعدها: {بلى قَادِرِينَ على أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} . إن هذه الآية تتناسب هي وما ورد في آخر السورة من قوله تعالى: {فَخَلَقَ فسوى} إلا أن هذه تسويةٌ مخصوصة بالبنان وتلك تسويةٌ عامة. وكل آية موضوعة في مكانها المناسب فآية {نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} مرتبطة بقوله: {نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} فإن البنان عظام، فناسب ذلك بأن يكون بجنب {نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} . أما الآية الأخرى وهي {فَخَلَقَ فسوى} فهي مرتبطة بالخلق العام للإنسان، فناسب ذلك الإطلاق والعموم فناسبت كل آية موضعها. وملاحظة أخرى في هذا التعبير، وهي أنه حذف منه عامل الحال، فقال: {بلى قَادِرِينَ} ولم يذكر عامله، ويقدره النحاة بقولهم: (بلى نجمعها قادرين) وهذا الحذف يتناسب أيضاً والعجلة التي دلّت عليها النفس اللوامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 ثم قال بعد ذلك: {بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} . ومعنى الآية أن الإنسان يريد المداومةَ على شهواته ومعاصيه، ويقدم الذنب ويؤخر التوبة. جاء في (الكشاف) في تفسير قوله تعالى: {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} "ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات، وفيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه. وعن سعيد بن جبير - رضي الله عنه - يقدم الذنب ويؤخر التوبة، ويقول: سوف أتوب، سوف أتوب حتى يأتيه الموت على شَرِّ أحواله وأسوأ أعماله". وجاء في (البحر المحيط) : "إن الإنسان إنما يريد شهواته ومعاصيه، يمضي فيها أبداً قُدُماً راكباً رأسه مطيعاً أمله ومُسَوِّفاً بتوبته". وارتباطُ الآية بالنفس اللوامة واضح، فإن الإنسان ههنا يسوّف التوبة، ويتباطأ عنها ويغرّه الأمل حتى يموت، فيدركه الندم ويقع تحت مطرقة اللوم. وانظر بعد ذلك كيف جاء باللام الزائدة المؤكدة في مفعول الإرادة، فقال: {بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ} والأصل أن يقال: (بل يريد الإنسان أن يفجر) لأن فعل الإرادة متعدٍّ بنفسه لا باللام كما قال: {يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] . غير أنه جاء باللام للدلالة على قوةِ إرادةِ الفجور والشهوات عند الإنسان وشدة الرغبة فيها. وهذه مَدْعاةٌ إلى الندم البالغ، وكثرة لوم الإنسان لنفسه. فارتبط ذلك أحسن ارتباط بالنفس اللوامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 ثم انظر كيف أنه لما بالغ في إرادة الفجور والرغبة فيه، بالغ في اللوم فجاء بصيغة المبالغة، فقال: {اللوامة} ولم يقل (اللائمة) للدلالة على كثرة اللوم، فانظر المناسبة بين المبالغة في الفجور والمبالغة في اللوم، وكيف أنه لَمَّا بالغَ في أحدهما بالغ في الآخر. ثم قال بعد ذلك: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة} . وهذا "سؤال مُتعنِّتٍ مُسْتبعدٍ لقيام الساعة" وقد جاء بأداة الاستفهام (أيّان) التي تدل على شدة الاستبعاد. وهذا المتعنِّت المستبعد لقيام الساعة هو الذي يقدم الفجور والمعصية ويؤخر التوبة، وهو المذكور في الآية السابقة. وقال بعد ذلك: {فَإِذَا بَرِقَ البصر * وَخَسَفَ القمر * وَجُمِعَ الشمس والقمر * يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر} . وهذه الآيات كأنها جواب السائل عن موعد القيامة المستبعد لوقوعها. وقد بدأ التعبير بـ (إذا) الدالة على الزمان لأن السائل إنما سأل عن زمنها وموعدها، فكان الجواب بالزمان كما كان السؤال عن الزمان. ومعنى: {بَرِقَ البصر} دهش فلم يبصر، وقيل:: تَحيَّر فلم يطرف. وبرق بصره، أي: ضعف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وذكرُ البصر مع ذكر الشمس والقمر له سببه ومناسبته، فإن البصر يعمل مع وجود الشمس والقمر، أي: مع النور؛ فإذا لم يكن ثَمَّةَ نورٌ فلا يعمل شيئاً كما قال تعالى: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات لاَّ يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] . وفي هذا اليوم قد تعطَّلَ البصرُ كما تعطّل الشمس والقمر، فالبصرُ بَرِقَ، والقمر خُسِفَ، وجُمعَ الشمسُ والقمر. ثم انظر كيف قال: {بَرِقَ البصر} ولم يقل (عَمِيَ) أو نحو ذلك، فإن المراد تعطيله مع وجوده، كما فعل بالشمس والقمر، فإنه لم يُزِلْهُمَا ويُذهبْهما، وإنما عَطَّلهما فهو تناسب لطيف. ثم انظر كيف قال: {وَجُمِعَ الشمس والقمر} إشارة إلى تعطيل الحياة الرتيبة إذ إن استمرار الشمس والقمر على حالهما دليل على استمرار الحياة. والدنيا إنما هي أيامٌ وليال، وآيةُ النهار الشمس وآية الليل القمر، فجمعُهما معاً دليلٌ على تعطيل الحياة التي كان يرجوها مُسَوِّفُو التوبةِ، والمغترُّون بالأمل والذين يقدّمون الفجور ممن تقدم ذِكْرُهم بقوله: {بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} ثم انظر بعدُ علاقة ذلك بالنفس اللوامة التي كانت تقدّم الفجور، وتغتر بالدنيا ففاجأها ما يستدعي كثرة اللوم. ثم انظر مناسبة ذلك القسم بـ (يوم القيامة) ، و (اليومُ) يُستعمل في أحد مَدْلوليهِ لمجموعِ الليل والنهار فناسب ذلك ذكر الشمس والقمر، إذ هما دليلا اليوم وآيتاه في الدنيا، أما يوم القيامة فهو يوم لا يتعاقبُ فيه الشمس والقمر، بل يُجمعان فيه فلا يكون بعدُ ليلٌ ونهار بل هو يومٌ متصل طويل. وفي هذا اليوم يطلب الإنسان الفرار، ولكن إلى أين؟ ويبقى السؤال بلا جواب. ثم يجيب رب العزة بقوله: {كَلاَّ لاَ وَزَرَ} والوزَر: الملجأ، فلا ملجأ يفر إليه الإنسان ويحتمي به وإنما {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 المستقر} والفارُّ يطلب ملجأ يأوي إليه ويعتصم به ويطلب الاستقرار ولكن لا استقرار إلا إلى الله، فإليه وحده المستقَرُّ. وتقديم الجار والمجرور يفيد القصرَ والاختصاص، فليس ثمة مستقر إلى سواه. وهذا التقديم يقتضيه الكلام من جهتين: من جهة المعنى وهو الاختصاص والقصر، وتقتضيه فاصلةُ الآية أيضاً. وتقديم (يومئذ) كذلك يقتضيه الكلام من هاتين الجهتين أيضاً. فالمستقَرُّ في ذلك اليوم خاصةً إلى الله سبحانه، أما في الدنيا فالإنسان قد يجد مستقراً يأوي إليه ويستقر فيه، أما في ذلك اليوم، فلا مستقرَّ إلا إلى الله. وتقديم {إلى رَبِّكَ} على {يَوْمَئِذٍ} له سببه أيضاً ذلك أن الإنسان في تلك الحالة، يبحث عن مكان يفر إليه ويستقر فيه، فقدم له ما يبحث عنه، وقال له: {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر} لأنه هو الأهم، وهو المقصود. واختيار كلمة (رب) ههنا اختيار مقصود، فالرب هو المالك والسيّد والمدبّر والمربّي والقيّم والمنعم. وربُّ كلِّ شيء مالكهُ ومستحقه. والفارُّ إلى مَنْ يلتجىء؟ هل يلتجىء إلا إلى سيده ومالكه وصاحب نعمته ومدبّر أمره والقيّم عليه؟ فهو وزَرهُ وإليه مستقرُّه، فهل ترى أنسب من كلمة (رب) ههنا؟ ثم إن اختيار كلمة (مستقر) اختيار دقيق محكم أيضاً، ذلك أن هذه الكلمة تدل على المصدر بمعنى الاستقرار، وتدل على اسم المكان بمعنى مكان الاستقرار، وتدل على اسم الزمان، بمعنى الاستقرار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وهي هنا تفيد هذه المعاني كلها، فهي تفيد (الاستقرار) ، أي: إلى ربك الاستقرار، وتفيد موضع الاستقرار وهو الجنة والنار أي إن ذلك إلى مشيئته تعالى. جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر} : "إلى ربك خاصة (يومئذ) مستقرُّ العباد، أي: استقرارهم، يعني أنهم لا يقدرون أن يستقروا إلى غيره وينصبوا إليه. أو إلى حكمه ترجع أمورُ العباد لا يحكم فيه غيره كقوله: {لِّمَنِ الملك اليوم} [غافر: 16] أو إلى ربك مستقرّهم، أي: موضع قرارهم من جنة أو نار". وجاء في (البحر المحيط) : "المستقر، أي: الاستقرار أو موضع استقرار من جنة أو نار إلى مشيئته تعالى: يُدْخِلُ مَنْ شاء الجنة، ويدخل من شاء النار بما قدم وأخر". وتفيد زمان الاستقرار أيضاً، أي أن وقت الفصل بين الخلائق، وسَوقهم إلى مستقرهم عائد إلى مشيئته تعالى. فهم يمكثون في ذلك اليوم ما يشاء الله أن يمكثوا، ثم هو يحكم بوقت ذهابهم إلى مواطن استقرارهم، فكلمة (مستقر) أفادت ثلاثة معان مجتمعة علاوةً على ما تقتضيه الفاصلةُ في نهاية الآيات. ولا تغني كلمةٌ أخرى عنها، فلو أبدلت بها (الاستقرار) ما أدّت تلك المعاني، فهي أنسبُ كلمة في هذا الموضع. ثم قال بعد ذلك: {يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} . والمعنى أن الإنسان يُنَبَّأُ بما قدّم من عملِ خيرٍ أو شر، وبما أخّر من عملٍ كان عليه أن يعمله، فلم يعمله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وهذه الآية متناسبة مع ذكر النفس اللوامة، في أول السورة في حالتيها اللتين تدعوان إلى اللوم. أنْ تفعلَ فعلاً ما كان ينبغي لها أن تفعله، فتلوم نفسها عليه، وهذا يدخل فيما قدّم. أو تقعدَ عن عملٍ كان ينبغي لها أن تعمله، فلم تعمله وهو يدخل فيما أخّر. ثم قال بعدها: {بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ} . بعد أن أخبر عن أحوال يوم القيامة فيما تقدم، عاد إلى النفس مرة أخرى. وهو اقترانٌ يذكِّرنا بالاقتران بين يوم القيامة والنفس اللوامة في مفتتح السورة. والمعنى: أن الإنسان يعرف حقيقة نفسه، ولو جاء بالحجج والأعذار. وقال بعدها: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} . وجهُ ارتباط هذه الآية بما قبلها، أن الحجج والمعاذير، إنما تلقى باللسان فارتبطت بقوله: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} . والضمير في (به) يعود على القرآن، ولم يجرِ له ذِكْرٌ، وهو مفهومٌ من المعنى "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقن الوحي، نازع جبريل القراءة، ولم يصبر إلى أنْ يُتِمَّها مسارعةً إلى الحِفْظِ وخوفاً من أن يتفلَّتَ منه، فأمر بأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 يستنصت إليه ملقياً إليه بقلبه وسمعه، حتى يقضى إليه وحيه.. (لتعجل به) لتأخذه على عجلة ولئلا يتفلَّت منك". وأما قوله: {لِتَعْجَلَ بِهِ} فهو تعليل لتحريك اللسان، فالعجلة علة لفعله هذا صلى الله عليه وسلم. إن العجلة المذكورة هنا تتناسب مع جو العجلة في السورة، ثم إن ذكر ضمير القرآن من دون أن يجري له ذِكْرٌ اختصارٌ وإيجاز في الكلام مناسب لجو العجلة هذه، فقد تعاون كلٌّ من التعبير والتعليل لبيان هذا الغرض. وقال بعدها: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} . الملاحظ في هذا التعبير أنه قدم الجار والمجرور على الاسم، وذلك للاختصاص والقصر. والمعنى أننا نحن المتكفِّلُونَ بجمعه في صدرك وتلاوته للناس صحيحاً كاملاً. وهذا موطن من مواطن القصر، لأنه لا يمكن لأحدٍ غير الله أن يفعل ذلك. فإن تثبيت النصوص في النفس وحفظها بمجرد سماعها وعدم نسيانها، وإلقاءها كما هي على مَرِّ الزمن، إنما هو فِعْلِ الله وحده فهو الذي يثبت في النفوس أو يمحو منها ما يشاء. إذن فإن ذلك عليه وحده. وهذا التقديم اقتضاه المعنى كما اقتضته الفاصلة. ولو أخر الجار والمجرور لأخلَّ بالمعنى، ذلك أنه يقتضي عدم القصر ومعنى ذلك أنه يخبر بأنه مُتكَفِّلٌ بجمع القرآن في صدره، وليس المتكفل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 الوحيد وذلك كما تقول: (يشرح خالدٌ لكَ هذا الأمر) فإنك ذكرت أن خالداً يشرح له الأمر ولم تُفِدْ أن خالداً يخصه بالشرح لأحدٍ غيره. ولو قال: (لكَ يشرحُ خالد هذا الأمر) لأفاد أنه يخصه بالشرح ولا يشرح لأحد آخر. فتقديم الجار والمجرور على عامله يفيد القصر غالباً. وهذا موطن قصر، إذ لا يمكن أن يفعل ذلك غير الله تعالى، أعني التكفل بتثبيت القرآن في النفس بمجرد سماعه. وإدخال (إنّ) يقتضيه المعنى أيضاً في أكثر من جهة: من ذلك أنها تفيد التعليل كما في قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة: 103] . فهنا أفادت التعليل وبَيَّنت سبب النهي عن تحريك اللسان. فقد قال: لا تحرك به لسانك، لأن جمعه في صدرك نحن نتكفل به. ولو لم يدخل (إنّ) لم يرتبط الكلام ولانتفى معنى التعليل إذ لو قال: (لا تحرك به لسانك لتعجل به علينا جمعه وقرآنه) لم تجد له هذا الحُسْنَ الذي تجد، ولانفصل الكلام بعضه عن بعض. فـ (إن) ربطت الكلام بعضه ببعض وأفادت التعليل. ومن ذلك أنها تفيد التوكيد، وهذا الموطن يقتضي التوكيد إذ إن حفظ الإنسان لكل ما يُلْقى إليه بمجرد سماعه أمرٌ غريب والتكفُّلُ به يحتاج إلى توكيد. ولذا جاء بـ (إنّ) المؤكدة. وقال بعد ذلك: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} . ومعنى: {فاتبع قُرْآنَهُ} أي: اتّبعه بذهنك وفكرك، أي: فاستمع له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 والإسناد إلى ضمير الجمع هنا له دلالة إضافة إلى التعظيم الذي يفيده ضمير الجمع ذلك أن القارئ هو جبريل، وليس الله. جاء في (التفسير الكبير) في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ} "جعل قراءة جبريل عليه السلام قراءته ... ونظيره في حق محمد عليه الصلاة والسلام {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] . وجاء في (البحر المحيط) : "فإذا قرأناه، أي: الملَك المُبلِّغ عنا". وكذلك المبيِّن في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} فالذي يبيّن للرسول ويوضح هو الملَك، فهو يقرأ بأمر الله ويبيّن بأمر الله فالأمر مشترك. الله يأمر والملك يبلّغ، ولذا عبر بأسلوب الجمع، والله أعلم، وأظن أن الفرق واضح بين قوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ} والقول: (فإذا قرأتُه فاتّبع قرآنه) . والقول في التقديم في {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} هو هو في الآية قبلها. فإن تقديم الجار والمجرور يفيد الاختصاص أيضاً ذلك أن تبيين ما أشكل منه مختص به تعالى. وقال بعد ذلك: {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة * وَتَذَرُونَ الآخرة} . والعاجلة يُؤثِرها بنو آدم على وجه العموم، ويقدمونها على الآخرة. وارتباطها بما قبلها وهو قوله تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} ظاهر. فكلتاهما في العجلة وإيثارها، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان ينازع جبريل القراءة ولا يصبر حتى يتمها ليأخذه على عجل، والناس على وجه العموم يؤثرون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 العاجلةَ على الآخرة، فهو طبعٌ عام في البشر خُلقوا عليه كما قال تعالى: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] فالموضوع إذن موضوع واحد هو العجلة. وكلاهما يتعجَّلُ ما هو أثيرٌ لديه ومُفصَّلٌ عنده. جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة} ، كأنه قال: بل أنتم يا بني آدم لأنكم خلقتكم من عجل وطبعتم عليه تعجلون في كل شيء ومن ثم تحبون العاجلة: {وَتَذَرُونَ الآخرة} ... فإن قلت: كيف اتصل قوله: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} إلى آخره بذكر القيامة؟ قلت: اتصاله به من جهة التخلص منه إلى هذا التوبيخ بحب العاجلة وترك الاهتمام بالآخرة". وجاء في (روح المعاني) في هذه الآية: {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة * وَتَذَرُونَ الآخرة} تعميم الخطاب للكل كأنه قيل: بل أنتم يا بني آدم لما خُلقتم من عجل وجبلتم عليه تعجلون في كل شيء ولذا تحبون العاجلة وتذرون الآخرة ويتضمن استعجالك، لأن عادة بني آدم الاستعجال ومحبة العاجلة.. ومنه يعلم أن هذا متصل بقوله سبحانه: {بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} فإن الإنسان يسوفّ بتوبته ويغرّه أَملُه ويُؤثِرُ ما بين يديه ويغمسُ نفسه في شهواته، ويَستحبُّ عاجلَ حياته ولا ينظر فيما وراء ذلك من أمور الآخرة، فهي متصلة بما قبلها وبقوله: {بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} أتَمَّ اتصال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 كما أنها متصلة بالنفس اللوامة التي بنيت عليها السورة اتصالاً ظاهراً. فالنفس اللوامة كما ذكرنا تلومُ نفسها لأحد سببين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 إما أن تعجل فتعمل عملاً تندم عليه، فتلوم نفسها على ذلك، وهذا ما يفيده قوله: {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة} ، وإما أن تؤخر عملاً كان ينبغي لها عمله فيفوتها خيره، فتندم عليه، فتلوم نفسها على ذلك وهذا ما يفيده قوله: {وَتَذَرُونَ الآخرة} فهو هنا عجّل أمراً وترك آخر فندم من الجهتين ولام نفسه في الحالتين، لام نفسه في العجلة ولام نفسه في التَّرك. وما أحرى أن تسمى هذه النفس بالنفس اللوامة، لأن دواعي اللوم متكاثرة عليها. ثم انظر كيف اختار الفعل: {وَتَذَرُونَ} على (تتركون) ذلك أن في (تذرون) حذفاً وأصله (تَوذَرون) من (وَذِرَ) ليدل ذلك على طابع العجلة الذي يريد أن ينتهي من الشيء في أقرب وقت. فاختيار هذا الفعل المحذوف الواو، مناسبٌ لجو العجلة. وقد تقول: ولِمَ لم يقل: (تَدَعون) وهو فيه حذف كما في {وَتَذَرُونَ} ؟ والجواب - والله أعلم - أن اختيار (تَذَرون) على (تَدَعون) له سببه ذلك أن الفعل (وذر) في عموم معانيه يفيد الذم، ومنه قولهم: امرأة وذِرة أي: رائحها رائحة الوذْر، وهو اللحم، وقولهم: (يا ابنَ شامَّةِ الوذر) وهو سَبٌّ يكنى به عن القذف. وفي الحديث: "شَرُّ النساء الوذِرة المذِرة" بخلاف (ودع) فإن من معانيه الرائحة والدعة وخفض العيش. وقد يفيد المدح ومنه قولهم: رجل وديع، أي: هادئ ساكن. في حين أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 الموقف موقف ذم فإنهم يحبون العاجلة ويذرون الآخرة، فاختار الفعل الذي يقال في عموم معانيه للمدح. وهو اختيار فَنيٌّ رفيع. ثم قال بعد ذلك: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} . هذان الصنفان هما ما يؤولُ إلى أحدهما الناسُ يوم القيامة. الذي يؤثر الآخرة ويعمل لها، والذي يحب العاجلة ويذر الآخرة. وهذه الآيات مرتبطة بأول السورة وهو القَسَمُ بيوم القيامة أتمَّ ارتباط. فإنه في يوم القيامة ينقسم الناس إلى هذين الصنفين. ثم إن لاختيار كلمة (رب) وتقديم الجار والمجرور سببه أيضاً. أما اختيار كلمة (رب) فهو أنسب شيء ههنا، فإن وجوه أهل السعادة تنظرُ إلى وليّ نعمتها في الدنيا والآخرة ومربيها وسيدها الذي غذاها بالنعم وهداها إلى طريق السعادة، وأوصلها إليه ولم تكن قد رأته من قبل. ولم يرد في هذه السورة من أسماء الله تعالى غير لفظ (الرب) . وأما تقديم الجار والمجرور في قوله تعالى: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فللاختصاص، فإن هذه الوجوه لا تنظر إلا إليه، فإن النظر إليه يُذْهِلُهَا عن كلِّ ما عداه وينسي أهلها ما عداه من النعيم، فإن أهل الجنة ما أُعطُوا شيئاً أحبّ إليهم من النظر إليه كما في الحديث الصحيح. فهذا من أوجب مواطن الاختصاص. فالتقديم اقتضاه المعنى كما اقتضته موسيقى الفاصلة. وهذا الجمع بين النضرة وسعادة النظر إلى وجهه الكريم، يشبه الجمع بين النضرة والسرور في قوله تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الإنسان: 11] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 ثم قال بعدها في الصنف الشقيّ: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} . وهذه بمقابل الوجوه الناضرة، وهي وجوهُ مَنْ آثرَ العاجلة، وترك الآخرة، وجوهُ مَنْ يريد ليفجرَ أمامه، الوجوه التي ينبغي لأصحابها أن يُكْثِرُوا اللومَ لأنفسهم ويبالغوا في اللوم. وتقديم {يَوْمَئِذٍ} في الآيتين يفيد الاختصاص وهو ما يقتضيه المعنى والفاصلة، فإن نضرة أصحاب النعيم خاصة بذلك اليوم، أما في الدنيا فربما لم تعرف وجوههم النضرة. وكذلك أصحاب الوجوه الباسرة، فإن البُسُورَ مختصٌّ بذلك اليوم، وربما كانت وجوههم من أنضر الوجوه في الدنيا. {تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} . والفاقرة: الداهيةُ العظيمة التي تقصم فقار الظهر وأصلها من الفقرة والفقارة كأن الفاقرة تكسر فقار الظهر. واختيار فعل الظن مناسب أحسن مناسبة لجو السورة والسياق مع أن الموطنَ موطنُ علمٍ ويقين، وقد فسره أكثر المفسرين بالعلم واليقين، ذلك أن الإتيان بفعل الظن متناسب مع تأخير التوبة وإيثار العاجلة وتقديم الفجور، فإنه في الحياة الدنيا بنى حياته على الظن، فهو يظن أنه سيمتد به العمر ويطول به الأجل، فيسوّف بتوبته ويقدم شهوته. وهذا الظن يرافقه إلى اليوم الآخر، فهو إلى الآن يظن وقوع الداهية ظناً، وهو إلى الآن في حالِ ظنٍّ وأملٍ لا في حالِ علمٍ وبصيرة، فهو لا يرى إلا اللحظة التي هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 فيها، وما بعدها فهو عنده ظنٌّ لا يقين كما كان شأنه في الدنيا يقدم شهوته ويؤثر عاجلته ويقول: أيَّانَ يوم القيامة؟ فانظر هذا الاختيار الرفيع لفعل الظن في هذا الموقف، وانظر تناسب ذلك مع النفس اللوامة التي لا ترى إلا ما هي عليه حتى تفوتها الفرصة، ويفوتها معها الخير، ويدركها سوء العاقبة، فتلوم نفسها على ما فرطت في جنب الله. وذُكِرَ لاختيار فِعْلِ الظن سببٌ آخر هو أن الظانّ لا يعلم نوع العقوبة، ولا مقدارها فيبقى وَجِلاً أشد الوجل، خائفاً أعظم الخوف من هذا الأمر الذي لا يعلم ما هو ولا مداه ولا كيف يَتَّقيه. ألا ترى أن الذي يعلم ما سيحلُّ به يكونُ مُوطِّناً نفسه على ذلك الأمر بخلاف الذي لا يعلم ماذا يتّقي، وما مداه وما نوع تلك الفاقرة. جاء في (روح المعاني) : "وجيء بفعل الظن ههنا، دلالة على أن ما هُمْ فيه، وإن كان غاية الشر يتوقع بعده أشد منه وهكذا أبداً ... وإذا كان ظانّاً كان أشدّ عليه مما إذا كان عالماً موطِّناً نفسه على الأمر". ولاختيارِ الفاقرةِ دون غيرها سببٌ سنذكره في مكانه. واختيار تعبير {أَن يُفْعَلَ بِهَا} بالبناء للمجهول دون أن يقول مثلاً: (أن تصيبها فاقرة) أو (تحلّ بها) أو نحو ذلك له سبب لطيف. ذلك أن قوله: {أَن يُفْعَلَ بِهَا} معناه أن هناك فاعلاً مُريداً يفعلُ بفقار الظهر ما يريد من تحطيمٍ وقصم. أما القول: (أن تصيبها) أو (تحل بها) فكأن ذلك متروك للمصادفات والظروف، فقد تكون الفاقرة عظيمة أو هينة والفواقر بعضها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 أدهى من بعض. فقوله: {أَن يُفْعَلَ بِهَا} أنسب اختيار في هذا السياق إذ لا يترك ذلك للمصادفات والموافقات، بل كان ذلك بقدر. ثم إنه لم يقل: (أن نفعل بها) بإسناد الفعل إلى ذاته العلية، لأنه لم يُرِدْ أن ينسبَ إيقاع هذه الكارثة والشر المستطير إلى نفسه كما هو شأن كثير من التعبيرات التي لا ينسب الله فيها السوء إلى ذاته العلية نحو قوله: {وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن: 10] . وقوله: {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشر كَانَ يَئُوساً} [الإسراء: 83] . فلم ينسب الشر إلى ذاته. ثم قال بعدها: {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التراقي * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} . "والضمير في {بَلَغَتِ} للنفس وإن لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ". وعدم ذكر الفاعل ولا ما يدل عليه مناسب لجو العجلة الذي بنيت عليه السورة. ونحوه ما مر في حذف جواب القسم في أول السورة، وحذف عامل الحال {قَادِرِينَ} ، وعدم ذكر ما جرى عليه الضمير في قوله: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} وغيره مما سنشير إليه. {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} وحذف الفاعل وإبهامه في (قيل) مناسبٌ لإضماره وعدم ذكره في {بَلَغَتِ التراقي} كلاهما لم يَجْرِ له ذِكْرٌ، وكذلك الإبهام في (راق) مناسب لسياق الإبهام هذا، فإن كلمة (راق) مشتركة في كونها اسم فاعل للفعل (رقَى يرقي) وهو الذي يقرأ الرقية على المريض ليشفى، وفي كونها اسم فاعل للفعل (رقي يرقَى) بمعنى (صعد) ومنه قوله تعالى: {أَوْ ترقى فِي السمآء} [الإسراء: 93] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 واختلف في تفسير هذه الآية على هذين الوجهين: مَن يرقيه فيشفيه وينجيه من الموت؟ أو مَن يَرقى بروحه إلى السماء أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ فالقائل مجهول، أَهُمْ أهلهُ ومن يتمنى له الشفاء أم هم الملائكة الذين حضروه أثناء الموت؟ فانظر جو الحذف والإبهام وكيف ناسب ما قبله؟ وقال بعدها: {وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق} . واختيار فعل الظن اختيار مناسب غاية المناسبة لما قبلها ولجوِّ السورة كما ذكرنا، فهو إلى اللحظة الأخيرة في حالِ ظنٍّ وأمل ولا يزال فِراقُ الحياة عنده ظناً من الظنون لا يقيناً، ومناسب لقوله: {تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} فهو في الموطنين، يفترض أن يكون في موقف علم ويقين ولكن مع ذلك لا يزال في موقف ظن. جاء في (روح المعاني) : "والظن هنا عند أبي حيان على بابه وأكثر المفسرين على تفسيره باليقين. قال الإمام: ولعله إنما سُمِّيَ اليقينُ ههنا بالظن لأن الإنسان ما دامت روحهُ متعلقةً ببدنه يطمعُ في الحياة لشدة حبه لهذه الحياة العاجلة ولا ينقطع رجاؤه عنها، فلا يحصل له يقين الموت، بل الظن الغالب مع رجاء الحياة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 قوله: {والتفت الساق بالساق} . قيل: معناه لَفُّهما في الكفن، وقيل: انتهاء أمرهما بالموت، وكل ما قيل في تفسير الآية يراد به حالة من حالات الموت الذي حصل يقيناً لا ظناً. {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق} . إن تركيب هذه الآية نظير آية {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر} ، فإن تقديم {إلى رَبِّكَ} يفيد القصر والاختصاص، فإن الناس يُساقون إلى ربهم وليس إلى مكان أو ذاتٍ أخرى، فسَوقهم مختص بأنه إلى الله وحده لا إلى غيره. وكذلك تقديم (يومئذ) فالمساق إليه سبحانه يكون في ذلك اليوم خصوصاً، وهو يوم مفارقة الدنيا. وقدم {إلى رَبِّكَ} على {يَوْمَئِذٍ} لأنه هو المهم لأنها جهة المساق ومُنتهاه ومستقره. وقد قال في آية سابقة: {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر} وقال هنا: {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق} فاختير لفظ (المساق) ههنا لأن الآية في مفارقة الروح الجسد عند الموت، فيذهب بالميت بعد ذلك ويساق إلى ربه، ثم يوضع في القبر، والقبر ليس مستقرّاً ولا موطن إقامة، وإنما هو موطن زيارة كما قال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التكاثر * حتى زُرْتُمُ المقابر} [التكاثر: 1-2] فسماها زيارة ولم يسمها مكثاً أو إقامة. أما الآية الأولى فهي في يوم القيامة، يوم قيام الناس من قبورهم والذهاب بهم إلى مستقرهم في الجنة أو النار. وقد سمى الله الجنة مستقرّاً وكذلك النار قال تعالى: {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان: 24] . فالمساق ينتهي إلى المستقر كما قال تعالى: {وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ زُمَراً حتى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هاذا قَالُواْ بلى ولاكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين * قِيلَ ادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين * وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً} [الزمر: 71-73] . فهذه غاية المساق ومنتهاه، وكل ذلك إلى الله رب العباد. ثم قال بعدها: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى * ولاكن كَذَّبَ وتولى * ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى * أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى} . هذه الآيات فيها حشد من الفن عظيم عسى أن أُوفَّقَ إلى بيانِ شيء من مظاهره. فمن ذلك: 1- أن هذه الآيات وقعت بعد قوله: {والتفت الساق بالساق * إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق} وهذا النفي والإخبار فيها، إنما هو في الآخرة وهي من أحوال الآخرة وأخبارها، فارتبطت بقوله: {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة} . 2- كما ارتبطت بالنفس اللوامة من جهتيها الداعيتين إلى اللوم، فقد ذكرنا أن النفس اللوامة إنما تلوم نفسها لسببين: إما أن تقوم بعمل لا ينبغي أن تقوم به فتندم فتلوم نفسها على ذلك، أو تترك عملاً ما كان ينبغي لها أن تتركه، فيفوتها خيره فتندم فتلوم نفسها على ذلك. والنفس هنا قدّمت التكذيب والتولّي: {ولاكن كَذَّبَ وتولى} وأخَّرت التصديقَ والصلاة {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى} فندمت في الحالتين فاقتضى ذلك أن تلوم نفسها من الجهتين، وأن تكثر ذلك وتبالغ في الملامة. 3- كما ارتبطت بقوله: {بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} ذلك أنه كذّب وتولى، فقدم شهواته ومعاصيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 4- وارتبط قوله: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى} بقوله: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة} فهو مُسْتَبعِدٌ له مكذب به فهو لم يصدِّق ولم يصلِّ. 5- كما ارتبط ذلك بقوله تعالى: {يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} فإنه قدّم التكذيب والتولّي وأخّر التصديق والصلاة. 6- وارتبط قوله: {فَلاَ صَدَّقَ} بقوله: {بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} ذلك أن التصديق أمر إيماني، وهو من دخائل النفوس التي لا يطلع عليها إلا الله. والإنسان أعلم من غيره بما في نفسه فهو على نفسه بصيرة، ثم إن الإيمان كما يقال: تصديقٌ بالجَنانِ وقولٌ باللسان وعمل بالأركان، فهو لم يصدّق بالجنان {فَلاَ صَدَّقَ} وكذّب باللسان، كما قال تعالى: {ولاكن كَذَّبَ} فأظهر التكذيب و {وتولى} ولم يعمل بالأركان فانتفت عنه حقيقة الإيمان. 7- وارتبط عدم الصلاة والتولّي بإلقاء المعاذير، فإنه سَيُسأل عن ذلك، فيحاول أن يدفع عن نفسه بالمعاذير. 8- وارتبط قوله: {فَلاَ صَدَّقَ} وقوله: {ولاكن كَذَّبَ} بقوله: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} فإنه لم يؤمن، والإيمان باليوم الآخر من أهم أركان الإيمان. 9- وارتبطت هاتان الآيتان أعني قوله: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى * ولاكن كَذَّبَ وتولى} بقوله: {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة * وَتَذَرُونَ الآخرة} فهو قد أحب العاجلة، فكذّب وتولى وترك الآخرة. 10- وارتبطتا بقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} فإنه لو صدّق وصلّى لكان من أصحاب الوجوه الناضرة، ولكن كذّب وتولى فأصبح من أصحاب الوجوه الباسرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 قوله: {ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى} . يتمطى، يتبختر وأصله من المطا، وهو الظهر، أي: يَلْوي مطاه تبختراً. وقيل أصله يتمطّط، أي: يتمدد في مشيته ومَدِّ منكبيه قلبت الطاء فيه حرفَ عِلَّة كراهة اجتماع الأمثال مثل تظنَّى من تظنّن. وهذه الآية مرتبطة بقوله تعالى: {تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} . والفاقرة هي الداهية التي تقصم فقار الظهر. فهذا الذي يتبختر في مشيته ويلوي ظهره، سيقصم فقار ظهره، فلا يستطيع حراكاً. وهو جزاءٌ من جنس العمل، أفلم يكن يلوي ظهره ويتبختر، فسيحطّم هذا الظهر الذي طالما لواه وتبختر به. وهذا أنسبُ عقابٍ له. ولو قال بدل ذلك مثلاً: ستصيبه داهيةٌ أو تحل به كارثة أو قارعة لم تجده يَحْسُنُ هذا الحُسْنَ، ولا يرتبط به مثل هذا الارتباط، فإن ذلك لا يجانس تَمطّيه. وهي مرتبطة أيضاً بقوله تعالى: {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق} فهو كان يذهب إلى أهله وينقلب إليهم متى شاء، أما الآن فإنه يُساق سَوقاً إلى ربه وسيده على الرغم من أَنْفِهِ. ثم انظر كيف قدم الجار والمجرور في السَّوق فقال: {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق} لأنه ليس له اختيار، وإنما هو مَذهوبٌ به إلى جهة واحدة. أما في الدنيا فهو ينقلب إلى أهله وإلى عمله، وإلى أصدقائه وإلى من شاء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 فليس ثمة حصر، ولذا لم يقدم الجار والمجرور في الدنيا، فقد كانت له فيها الحرية. أما الآن فهو مَسُوقٌ سوقَ العبدِ إلى مولاه وربه وسيده. ثم انظر كيف أنه لم يذكر (يومئذ) في الدنيا بخلاف يوم موته وسَوقه. فإنه كان في الدنيا يذهب كل يوم وليس في يوم معيّن، أما سَوقه إلى ربه فذلك في يوم معين وهو يوم الفراق فلم يحتج إلى ذكر اليوم في الدنيا بخلاف يوم المساق. فانظر كيف تقابل التعبيران والمشهدان. قوله: {أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى} . {أولى لَكَ} عبارة تقال على جهة الزجر والتوعّد والتهديد. تقول لمن تتوعده وتتهدده، (أولى لك يا فلان) أي: ويل لك. واشتقاقها من (الوَلْي) وهو القرب، فهو اسم تفضيل يفيد قرب وقوع الهلاك. جاء في (الكشاف) : {فأولى لَهُمْ} [محمد] "وعيدٌ بمعنى: فويلٌ لهم، وهو أفعل من الوَلْي وهو القرب ومعناه: الدعاء عليهم بأن يَلِيَهم المكروه". وجاء في (روح المعاني) : {أولى لَكَ فأولى} "من الوَلْي بمعنى القرب، فهو للتفضيل في الأصل غلب في قرب الهلاك ودعاء السوء، كأنه قيل: هلاكاً أَولى لك بمعنى: أهلككَ اللهُ تعالى هلاكاً أقرب لك من كل شر وهلاك.. وفي الصحاح عن الأصمعي، قاربَهُ ما يُهْلِكُه: أي نزل به ... وقيل: اسم فعل مبني ومعناه: وَلِيكَ شَرٌّ بعد شر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 واختيار هذا الدعاء أنسب شيء ههنا، فهو دعاء عليهم وتهديد لهم بالويل القريب والشر الوشيك العاجل، فهو مناسب لإيثارهم العاجلة وتقديمهم الفجور والشهوات وتأخيرهم الطاعات، فكما عجّلوا في فجورهم وشهواتهم ومعاصيهم عجل لهم الويل والثبور. وهو مناسب لجو العجلة في السورة الذي ذكرنا قسماً من مظاهره. لقد ورد هذا الدعاء في سورة محمد فقال: {فأولى لَهُمْ} غير أننا نلاحظ الفروق التعبيرية الآتية بينهما: 1- إنه كرر الدعاء في سورة القيامة في الآية الواحدة فقال: {أولى لَكَ فأولى} ولم يكرره في سورة محمد بل قال: {فأولى لَهُمْ} . 2- ثم إنه عاد فكرر الآية: {أولى لَكَ فأولى} كلها في سورة القيامة، فكان تكراران: تكرار جزئي في الآية، وتكرار كلي للآية. 3- في آية {أولى لَكَ فأولى} كرر لفظ {أولى} ولم يكرر {لَكَ} . 4- فَصَلَ بين الدعاءين في الآية الواحدة بالفاء. 5- فصل بين الآيتين بـ (ثم) . وبالتأمل في السياقين نجد السبب واضحاً. قال تعالى في سورة محمد: {وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القتال رَأَيْتَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت فأولى لَهُمْ} [محمد: 20] . وقال في سورة القيامة: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى * ولاكن كَذَّبَ وتولى * ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى * أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وكل سياق يقتضي ما ذكر فيه من جهات متعددة منها: 1- إن المذكور في آية القيامة أشد كفراً وضلالاً من المذكورين في آية محمد، ذلك أنه قال في آية محمد: {رَأَيْتَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت} وهؤلاء من ضَعَفَة الدين. جاء في (الكشاف) : " {الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} هم الذين كانوا على حرف غير ثابتي الأقدام". وجاء في (روح المعاني) : {رَأَيْتَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} أي: نفاق. وقيل: ضعف في الدين". في حين قال في سورة القيامة: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى * ولاكن كَذَّبَ وتولى} وربما أظهر الأول التصديق والصلاة في حين أن الثاني أظهر التكذيب والتولّي، ثم ذهب إلى أهله متبختراً بذاك فهو إذن أولى بالوعيد الشديد. 2- إن المذكورين في سورة محمد أخبر عنهم وهم أحياء، والأحياء تُرْجى لهم التوبة، وبابُ التوبة مفتوح، أما المذكور في سورة القيامة فأخبر عنه بعد الموت وقد مات على التكذيب والتولي وتحقق عليه الوعيد الشديد. 3- اذكر في آية سورة محمد صفة واحدة، وهي الجبن عن القتال، فهدَّدهم مرة واحدة في حين ذكر أكثر من صفة من صفات الكفر في سورة القيامة فكرر تهديده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 4- ذكر صفتين للمذكور في سورة القيامة وهما: عَدَمُ التصديق وعدم الصلاة: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى} ولكل منهما ذكر تهديدًا: فلا صدّق ... أولى لك. ولا صلّى ... فأولى. ثم كرر هاتين الصفتين وأكَّدهما بمعناهما، فقال: {ولاكن كَذَّبَ} وهي بمعنى {فَلاَ صَدَّقَ} ثم قال: {وتولى} وهي إثباتٌ لعدم الصلاة وغيرها من الطاعات. فالآية الثانية تكرير وتوكيد لما نفاه عنه في الآية الأولى. ولذا كرر التهديد وأعاده، لأنه أعاد الصفتين كلتيهما بمعناها فقال: {ثُمَّ أولى لَكَ فأولى} . وعلى هذا فهو ذكر عدم التصديق وأكده بالتكذيب، وذكر عدم الصلاة وأكده بالتولّي، ولكلٍّ تهديدٌ ووعيد فكرره أربع مرات كل وعيد مقابل صفة. 5- لقد ذكر صفتين كما أسلفنا في سورة القيامة، وهاتان الصفتان ليستا بدرجة واحدة من الضلال بل إحداهما أشدّ من الأخرى. فالأولى: هي التكذيب أو عدم التصديق. والأخرى: التولي ومنه عدم الصلاة. وعدم التصديق أو التكذيب هو إنكار للإيمان من أساسه، فهو لم يصدّق بالرسالة ولا ببقية أركان الإيمان. والثانية: عدم الصلاة. جاء في (فتح القدير) : {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى} أي: لم يصدّق بالرسالة ولا بالقرآن ولا صلى لربه.. وقيل: فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 ولا شك أن عدم التصديق، هو أكبر جرماً وضلالاً لأن صاحبه لم يؤمن أصلاً. أما عدم الصلاة فهو أخف. ذلك أن المؤمن إذا قصّر في الطاعات تكاسلاً فقد يغفر الله له أو يتجاوز عنه، لأنه لا يزال في دائرة الإسلام. وقد قال أكثر الفقهاء أن المسلم إذا ترك الصلاة تهاوناً وتكاسلاً غير جاحدٍ لفرضيتها لا يُخْرِجُه ذلك عن الإسلام. أما إذا لم يؤمن ولم يصدق فلا ينفعه شيء، وإن فعل ما فعل من مظاهر الطاعة. ولذا كانت قوة التهديد بمقابل قوة الوصف. فقال مقابل {فَلاَ صَدَّقَ} {أولى لَكَ} فذكر {لَكَ} ومقابل {وَلاَ صلى} {فأولى} بحذف (لك) إشارة إلى عظم الإيمان وأهميته، وإشارة إلى أن الصفتين المذكورتين ليستا بدرجة واحدة في الضلال. فهذا الحذف ليس للفاصلة فقط، وإن كانت الفاصلة تقتضيه أيضاً، وإنما هو للمعنى وللفاصلة. 6- إن الصفتين لم يكررهما بلفظهما بل بمعناهما ومقتضاهما، وهما في لفظ الإعادة والتوكيد أشد سوءاً ونُكراً مما ذكرهما أولاً. فإنه قال أولاً: {فَلاَ صَدَّقَ} وقال في التأكيد والإعادة: {ولاكن كَذَّبَ} والتكذيب إنما يكون بالإعلان والإشهار. أما عدم التصديق فلا يستلزم الإعلان، وقد تقول: (هو لا يصدّق غير أنه لا يعلن تكذيبه) ، فربما لا يصدّق إنسانٌ بأمرٍ غير أنه لا يكذّبُ به. فالتكذيب إذن أشد سوءاً أو ضلالاً من عدم التصديق. وكذا قوله: {وَلاَ صلى} فقد كرره وأكده بقوله: {وتولى} ، والتولّي أعمُّ من عدم الصلاة وأشد. وعلى هذا فآية التوكيد أشد من الآية المؤكَّدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وقد فرق بين الآيتين بـ (ثم) وذلك لجملة أسباب: منها أن {ثُمَّ} قد تفيد عموم البعد والتباين وليس المقصود بها التراخي في الزمن فقط، ومن ذلك قولهم: (أعجبني ما صنعته اليوم، ثم ما صنعته أمس أعجب) . ونحو ذلك قوله تعالى: {فَلاَ اقتحم العقبة * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بالصبر وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة} [البلد: 11-17] . دخلت {ثُمَّ} لبيان تفاوت رتبة الفك والإطعام من رتبة الإيمان. فما بعد (ثم) أبعد من الرتبة مما قبلها، وكذلك ههنا فإن التهديد أقوى من الأول. وقيل: إن التكرار ههنا مبالغة في التهديد والوعيد. ومنها: إنه جاء بـ (ثم) لتوكيد الكلام، إذ أن جملة التوكيد قد يفصل بينها وبين المؤكدة بحرف العطف، تقول: والله ثم والله. وفي (روح المعاني) : "إنها كُرِّرت للتأكيد". وربما جاء بـ (ثم) للتراخي الزمني أيضاً، إذ هناك عذاب في القبر وعذاب في الآخرة، وبينهما مدة مديدة كما قال تعالى في آل فرعون: {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} [غافر: 46] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 فهم يعرضون على النار غدواً وعشياً في القبر، ويوم تقوم الساعة لهم عذابٌ أشد. وعلى هذا يكون التهديد الأول في القبر والثاني في الآخرة، وجاء بينهما بـ (ثم) الدالة على المهلة والتراخي. والدالة على بُعْدِ ما بين التهديدين والعذابين في الشدة. ونحوه ما قيل في قوله: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 3-4] . قيل: تأكيدٌ لحصول العلم كقوله: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} [النبأ: 4-5] وقيل: ليس تأكيداً بل العلم الأول عند المعاينة ونزول الموت، والعلم الثاني في القبر، وهذا قول الحسن ومقاتل. ورواه عطاء عن ابن عباس. ويدل على صحة هذا القول عدة أوجه: أحدها: أن الفائدة الجديدة والتأسيس هو الأصل، وقد أمكن اعتباره مع فخامة المعنى وجلالته، وعدم الإخلال بالفصاحة. الثاني: لتوسط (ثم) بين العلمين، وهي مؤذنة ما بين المرتبتين زماناً وخطراً". وجاء في (فتح القدير) في قوله: {أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى} "قيل: ومعنى التكرير لهذا اللفظ أربع مرات: الويلُ لك حياً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 والويلُ لك ميتاً، والويل لك يوم البعث، والويل لك يوم تدخل النار". 7- لذا جاء بالفاء بين الأوليين لقربهما وتعجيلهما فقال: {أولى لَكَ فأولى} فإن ما بين العذابين قريب، وهو عذاب الدنيا وعذاب القبر. وكذلك جاء ما بين العذابين الآخرين بالفاء، لقربهما من بعضهما وهو {أولى لَكَ فأولى} الثانية فإنهما متصلان بيوم القيامة ودخول النار. فكل عذابين قريبين من بعضهما فصل بينهما بالفاء. وقد فصل بـ (ثم) للفاصل الزمني البعيد بين كل منهما. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، أنه جيء بالفاء الدالة على التعقيب بلا مهلة لمناسبة العجلة التي بنيت عليها السورة في قوله: {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة} وقوله: {بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} وغير ذلك من السياقات التي تدل على العجلة. ثم قال بعد ذلك: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى} . هذه الآية مرتبطة بأول السورة، وهو القَسم بيوم القيامة، ومرتبطة بقوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} ومرتبطة بقوله: {يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} ذلك أنه مجزيٌّ عن عمله ولا يترك سدى، بل سيعاقب على فعله، ومرتبطة بالآية قبلها وهي {أولى لَكَ فأولى} ذلك أن معناها: أنه لا يترك سدى بل سيعاقب على فعله، ومرتبطة بما بعدها وبآخر السورة، وهو قوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى} . وغنية هذه الوثاقة في الارتباط عن كل قول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 قوله: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى} . حذف نون (يكن) لسببين والله أعلم: الأول: مراعاة لجانب العجلة التي طُبعت به السورةُ، وتكررت مظاهره في أكثر من موطن، فحذف نون (يكن) للفراغ من الفعل بسرعة وهو الملائم لجو العجلة في السورة. الثاني: أن الإنسان لا يكون إنساناً من المنيّ وحده حتى يُراقَ في الرحم، ويلتقي بالبويضة. فبالمنيّ والبويضة يكتمل الخَلْقُ وبهما يتم الإنسان، أما المنيّ وحده، فلا يكون منه إنسان وكذلك البويضة وحدها. فنقَصَ من فعل الكون إشارة إلى أن التطوير المذكور في الآيات هذه لا يكون إلا بهما معاً، أما المني فهو جزء من السبب. ولم يُتِمَّ الفعل إشارة إلى ذلك. ومعنى (يُمنَى) : يراق في الرحم، فإن لم يُمنَ فلا تكوين. وهذا من مواطن الحذف البديعة. ثم قال: {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى} . الملاحظ أنه لم يذكر فاعل الخلق ولا التسوية ولا الجعل، ولم يُجرِ له ذِكْراً، فقد قال: {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى * فَجَعَلَ} وقد كان بنى الفعل قبلها للمجهول، فلم يذكر فاعله أيضاً، وهو قوله: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى} فلم يذكر فاعل التَّرك، وعَدَمُ ذِكْرِ فاعلِ الخَلْقِ وما بعده مناسبٌ لحذف فاعل التَّرك. وكل ذلك مناسب لجو العجلة في السورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 والهاء في {مِنْهُ} تعود على المنيّ، فمن ماء الرجل يكون الذكر والأنثى، وليس للأنثى فيه دخل، ولم يكن هذا الأمر معلوماً حتى العصر الحديث، فقد ثبت أن الذكر هو المسؤول عن الجنس وليس الأنثى. وقد ذكره القرآن الكريم قبل اكتشاف قوانين الوراثة وعلم الأجنّة فقال: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى} فأعاد الضمير على المنيّ، ولو أعاده على العلقة لقال: (منها) . ولم يُعده على النطفة مع أنها هي القطرة من المنيّ، لئلا يحتمل إعادته على العلقة، وهذا إعجاز علمي علاوة على الإعجاز الفني. ثم قال بعد ذلك: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى} . اسم (ليس) مكنيٌّ غير مصرّح به وهو اسم الإشارة (ذلك) . وقد أشار به إلى ذاتٍ غير مذكورةٍ في الكلام، فناسب ذلك عدم التصريح بالفاعل فيما تقدم من الأفعال. وناسب آخر السورة أولها، فقد أقسم في مفتتح السورة بيوم القيامة، وختمها بإحياء الموتى. وقد تقول: ولِمَ قال ههنا: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ} على سبيل التقرير، وقال في أوائل السورة: {بلى قَادِرِينَ} على سبيل الإثبات؟ والجواب أن إحياء الموتى أصعب وأعسر من تسوية البنان في القياس العقلي، وإن كانت الأفعال بالنسبة إلى الله كلها سواء، فجاء في آية إحياء الموتى بأسلوب التقرير الاستفهامي الدال على الأهمية وأكّد القدرة بالباء الزائدة فقال: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ} في حين جاء بالإثبات في تسوية البنان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 فقال: {بلى قَادِرِينَ} . ثم إنه حذف الفعل وصاحب الحال، وجاء بالحال وحدها، فقال: {قَادِرِينَ} ولم يقل: (نجمعها قادرين) فأخلاها من كل توكيد في حين ذكر الجملة تامة، مؤكدة في إحياء الموتى فدلَّ ذلك على الفرق بين المقامين. وفي ختام هذه اللمسات، نقول: إن هناك أكثر من خط فني في هذه السورة. منها: خَطُّ مراعاة العجلة، ومنها: مراعاة جانب القيامة، ومراعاة الازدواج. في التعبير وغيرها من الخطوط. أما مراعاة جانب القيامة وجانب النفس اللوامة، فالسورة مبنية عليهما أصلاً كما بيّنا. وسنشير إلى جانبين آخرين هما: مراعاة جانب العجلة، ومراعاة الازدواج في التعبير. أما بقية الجوانب، فهي ظاهرة لا تحتاج إلى إيضاح. فمن مراعاة جانب العجلة: 1- حذف جواب القسم الذي افتتحت به السورة وهو {لاَ أُقْسِمُ} . 2- حذف عامل الحال وهي {قَادِرِينَ} . 3- عدم ذكر مرجع الضمير في قوله: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} فالهاء لا تعود على مذكور. 4- عدم ذكر الفعل {بَلَغَتِ} في قوله: {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التراقي} ولم يَجر له ذكر. 5- عدم ذكر فاعل الظن في قوله: {وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق} ولم يجر له ذكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 6- عدم ذكر فاعل {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى} . 7- حذف نون (يكون) في قوله: {أَلَمْ يَكُ} . ومن السياقات الواردة في العجلة: 1- قوله: {بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} والمعنى: أنه يؤثر العاجلة، فيقدم شهواته. 2- قوله: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} . 3- قوله: {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة * وَتَذَرُونَ الآخرة} . أما ظاهرة الازدواج أو الاقتران بين الأمرين المتناظرين أو المتقابلين، فإن السورة مبنية كما يبدو على هذا الازدواج والاقتران. فالسورة تبدأ بالقسم بشيئين هما: يوم القيامة، والنفس اللوامة، ثم تستمر السورة على هذا النحو من الاقتران والازدواج، فمن ذلك مثلاً: 1- أنها أقسمت بشيئين هما يوم القيامة والنفس اللوامة. 2- وجمعت بين آيتين من آيات الله الكونية: آية الليل وآية النهار، وهما الشمس والقمر وذلك في قوله: {وَجُمِعَ الشمس والقمر} . 3- وذكرت نوعين من العمل يُنبأ بهما الإنسان، وهما ما قدّم وما أخر {يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} . 4- وذكرت ما خفي في النفس وما يظهره الإنسان من الحجج والمعاذير وذلك في قوله: {بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ} . 5- وذكرت العاجلة والآخرة وذلك في قوله تعالى: {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة * وَتَذَرُونَ الآخرة} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 6- وذكرت الحُبَّ والتَّرْكَ وذلك في قوله: {تُحِبُّونَ} و {وَتَذَرُونَ} . 7- وذكرت نوعين من الوجوه: الوجوه الناضرة، والوجوه الباسرة. 8- ونفت اثنتين من الطاعات في قوله: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى} . 9- وأثبتت اثنتين من المعاصي وذلك في قوله: {ولاكن كَذَّبَ وتولى} . 10- وكررت آية واحدة مرتين وهي قوله: {أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى} . 11- وذكرت نعمتين من نعم أهل الجنة: نضرة الوجوه والنظر إلى الرب {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . 12- وذكرت عقوبتين من عقوبات أهل النار، بُسور الوجه وقاصمة الظهر: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} . 13- وذكرت نوعين من الجمع، جمعاً في يوم القيامة وجمعاً في الدنيا. أما الجمع في يوم القيامة فهو قوله: {أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} وقوله: {وَجُمِعَ الشمس والقمر} . وأما جمع الدنيا فهو جمع القرآن، وهو قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} . 14- وذكرت نوعين من القدرة: القدرة على تسوية البنان وهو قوله: {بلى قَادِرِينَ على أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} والقدرة على إحياء الموتى، وهو قوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى} . ذكرهما بطريقتين من الإثبات. الإثبات الصريح: وهو قوله: {بلى قَادِرِينَ} . والإثبات عن طريق التقرير {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وإحداهما بحرف الجواب هو: {بلى} ، والأخرى بحرف السؤال وهو الهمزة: {أَلَيْسَ ذَلِكَ} . 15- وذكر نوعين من التسوية: تسوية جزئية مقيدة وهي تسوية البنان وهو قوله: {نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} . وتسوية عامة مطلقة وهو قوله: {فَخَلَقَ فسوى} . 16- وذكر طورين من أطوار خلق الإنسان، وهما النطفة والعلقة. 17- وذكر الجنسين وهما الذكر والأنثى: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى} . 18- وذكر طريقتين من التعبير عن الله. التعبير بالجمع {بلى قَادِرِينَ} و {نَّجْمَعَ} و {نُّسَوِّيَ} . والتعبير بالإفراد وذلك نحو قوله: {فَخَلَقَ فسوى} . إلى غير ذلك من مظاهر الازدواج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 سورة البلد سُئلت مرة: ما علاقة القَسَم بمكة على خَلْق الإنسان في كَبَد في قوله تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بهاذا البلد} ؟ فقلتُ له ابتداء: إن الله أقسم بمكة حالَ كونِ الرسول فيها والرسول كان يلاقي فيها عنتاً ومشقة وهو يبلّغ الدعوة، فقال الله تعالى: إن الله خلق الإنسان مكابداً في دنياه، ليسلّيه ويصبّره. ثم رأيتُ أن أنظر في السورة وأُدوِّنَ ما أجدُ فيها من لمسات فنية. إن مناسبة هذه السورة لما قبلها - أعني سورة الفجر - قوله تعالى: {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ * كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم * وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين * وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً * وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً} [الفجر: 15-20] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 فقد ذكر فيها صنفي الإنسان: الغني والفقير. الصنف الذي أكرمه ربه ونعّمه، والصنف الذي ابتلاه وضيّق عليه الرزق، وهو ما ذكره في سورة البلد. فقد ذكر الإنسان الذي أهلك المال الكثير، وذكر المسكين ذا المتربة واليتيم ذا المقربة. ووصف الله الإنسان بأنه لا يكرم اليتيم، ولا يحضّ على طعام المسكين في سورة الفجر، وأوصانا بالرحمة وحضّنا على الإنفاق في سورة البلد ذاكراً هذين الصنفين اللذين ذكرهما في سورة الفجر فقال: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} فذكر الصنفين المذكورين في سورة الفجر، اليتيم والمسكين. ولما وصف الله الإنسان بأنه يحب المال حباً شديداً ويأكل التراث أكلاً لمّاً في سورة الفجر، ذكر في سورة البلد أن هذه عقبة لا يجتازها إلا من أعان الآخرين بماله وسمح لهم به. ثم انظر إلى علاقة قوله: {وَتَأْكُلُونَ التراث} بقوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} وأنه كما يأكل ينبغي أن يُطعم الآخرين، فانظر إلى قوة المناسبة وجمال الارتباط. وقد انتبه المفسرون - رحمهم الله - إلى علاقة هذه السورة بما قبلها. جاء في (البحر المحيط) : "لما ذكر تعالى ابتلاءه للإنسان بحالة التنعيم، وحالة التقدير وذكر من صفاته الذميمة ما ذكر وما آل إليه حالهُ وحال المؤمن أتبعه بنوع من ابتلائه ومن حاله السيىء، وما آل إليه في الآخرة". وجاء في (روح المعاني) : "ولما ذم سبحانه فيما قبلها مَنْ أحبَّ المال، وأكل التراث أكلاً لمّاً، ولم يحض على طعام المسكين، ذكر جلّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 وعلا فيها الخصال التي تطلب من صاحب المال من فك الرقبة، وإطعام في يوم ذي مسغبة. وكذا لما ذكر - عز وجل - النفس المطمئنة هناك ذكر سبحانه بعض ما يحصل به الاطمئنان". ثم انظر من ناحية أخرى، كيف أن هذه السورة - أعني سورة البلد - استوفت عناصرَ البلاغ والإرسال، فقد ذكرت موطنَ الرسالة، والرسول، والمرسَل إليهم، والرسالة. فقد ذكرت (مكة) وهي المرادة بقوله: {بهاذا البلد} ، والرسول: وهو المراد بقوله: {وَأَنتَ حِلٌّ بهاذا البلد} وذكرت المرسل إليه وهو {الإنسان} ويدخل فيه أيضاً: (الوالد وما ولد) ، وذكرت الرسالة، وهي الإيمان والعمل الصالح، وهو ما ذكرته من فك الرقبة ونحوه من الأعمال الصالحة. وذكرت أصنافَ الخَلْقِ بالنسبة للاستجابة إلى الرسالة، وهم أصحاب الميمنة الذين اقتحموا العقبة وأصحاب المشأمة، وهم الكفرة. فانظر أيّ عموم واستيفاء وشمول في هذه السورة المباركة؟ {لاَ أُقْسِمُ بهاذا البلد * وَأَنتَ حِلٌّ بهاذا البلد * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} . لقد أقسم الله تعالى بما ذكر "على أن الإنسان خُلق مغموراً في مكابدة الشدائد والصعاب". فقد أقسم سبحانه بالبلد الحرام في حال حلول الرسول صلى الله عليه وسلم فيه وإقامته به يُبلِّغ دعوته. وقد تقول: ولِمَ قال: {وَأَنتَ حِلٌّ} ولم يقل: وأنت حالٌّ أو مقيمٌ بهذا البلد؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 والجواب: أنه جمع بالعدول إلى كلمة {حِلٌّ} عدة معان في آن واحد كلها مرادة مطلوبة. ذلك أن كلمة {حِلٌّ} تحتمل معاني عدة: منها: أنها تأتي بمعنى الحالّ والمقيم. وقالوا: إن المقصود، تعظيم المقسم به، وهو أنه لما حل الرسول بمكة جمعت شرفين، شرفها هي الذي شرَّفها الله به، وشرف الرسول فازدادت تعظيماً على تعظيم وشرفاً على شرف، واستحقت بذلك القسم. جاء في (البحر المحيط) : "إنه تعالى أقسم بها لما جمعت من الشرفين شرفها بإضافتها إلى الله تعالى، وشرفها بحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإقامته فيها فصارت أهلاً لأن يقسم بها". وجاء في (تفسير البيضاوي) : "أقسم سبحانه بالبلد الحرام، وقَيَّده بحلوله عليه السلام فيه، إظهاراً لمزيد فضله وإشعاراً بأن شرفَ المكان بشرفِ أهله". وجاء في (التبيان في أقسام القرآن) : "إنه إذا كان الحل من الحلول، فهو متضمنٌ لهذا التعظيم مع تضمنه أمراً آخر، وهو الإقسام ببلده المشتمل على رسوله وعبده، فهو خيرُ البِقاع، وقد اشتمل على خير العباد. فجعل بيته هدى للناس ونبيه إماماً وهادياً لهم، وذلك من أعظم نعمه وإحسانه إلى خلقه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وقيل: هو نفي للقسم. والمعنى: لا أقسم بهذا البلد إذا لم تكن فيه بعد خروجك منه". ومن معاني (الحِلّ) : أنها تأتي بمعنى اسم المفعول، أي: مُستَحَلّ، فعلى هذا يكون المعنى: وأنت مستَحلٌّ قتلك لا تُراعَى حرمتُكَ في هذا البلد الحرام الذي يأمنُ فيه الناس على دمائهم وأموالهم والذي يأمن فيه الطير والوحش. جاء في (الكشاف) : "ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك، يُستحلّ بهذا البلد الحرام كما يستحل الصيد في غير الحرم. عن شرحبيل: يُحَرِّمونَ أن يقتلوا بها صيداً ويعضدوا بها شجرة ويستحلُّون إخراجَك وقتلك. وفيه تثبيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة وتعجيب من حالهم في عداوته. أو سلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسم ببلده على أن الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد". وجاء في (روح المعاني) : "وفيه تحقيق مضمونه بذكر بعض المكابدة على نهج براعة الاستهلال، وإدماج لسوء صنيع المشركين، ليصرّح بذمهم على أن الحِلّ بمعنى المستَحلّ بزنة المفعول الذي لا يحترم، فكأنه قيل: ومن المكابدة أن مثلك على عِظَمِ حُرمته يُستحَلُّ بهذا البلد ولا يُحتَرمُ كما يستحل الصيد في غير الحرم ... وفي تأكيد كون الإنسان في كبد، بالقسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث على أن يطامن نفسه الكريمة على احتماله، فإن ذلك قدر محتوم". وجاء في (التبيان في أقسام القرآن) : "وفي الآية قول ثالث، وهو أن المعنى: وأنت مُستحَلّ قتلُك وإخراجك من هذا البلد الأمين الذي يأمن فيه الطير والوحش والجاني، وقد استحل قومُكَ فيه حرمتك، وهم لا يعضدون به شجرةً ولا ينفرون به صيداً ... وعلى كل حال فهي جملة اعتراض في أثناء القسم موقعها من أحسن موقع وألطفه. فهذا القسم متضمن لتعظيم بيته ورسوله". ومن معاني (الحِلّ) أنها تأتي بمعنى الحلال ضد الحرام، أي: "وأنت حلال بهذا البلد يحل لك فيه قتلُ مَنْ شئت. وكان هذا يوم فتح مكة". وجاء في (الكشاف) : "يعني وأنت حِلّ به في المستقبل، تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر ... فإن قلت أين نظير قوله: {وَأَنتَ حِلٌّ} في معنى الاستقبال؟ قلتُ: قوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] ومثله واسع في كلام العباد". وعلى هذين القولين الأخيرين تكون (لا) نافية، أي: لا أقسم بهذا البلد في حين أن أهلُه يستحلون حرمتك، ولا يرعون لك قدراً، أو لا أقسمُ به وقد جاء أهله بأعمال تستحل حرمتهم والوقيعة بهم في هذا البلد الأمين. فعلى كلا القولين: تكون (لا) نافية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 جاء في (البحر المحيط) : "وقال ابن عطية: وهذا يتركب على قول مَنْ قال: (لا) نافية، أي: أن هذا البلد لا يقسم الله به، وقد جاء أهلُه بأعمالٍ توجب الإحلال، إحلال حرمته". وقيل: المعنى: "وأنت حِلّ بهذا البلد مما يقترفه أهله من المآثم مُتَحرِّجٌ بريء منها"، كما تقول: أنا في حِلّ من هذا. وهذه المعاني كلها مرادة مطلوبة، فهو صلى الله عليه وسلم حالٌّ بهذا البلد الكريم يبلِّغُ رسالة ربه متحرجٌ من آثامهم بريءٌ من أفعال الجاهلية، وقد استُحلّت حرمته وأُريد قتله في حين حلولهِ به وتبليغ دعوة ربه. وأنه حَلَّ لهذا الرسول أن يقتلَ ويأسرَ في هذا البلد يومَ الفتح ما لا يحلُّ لغيره. وهذا على الاستقبال وعلى الوعد بنصره. فانظر كيف جمعت كلمة {حِلٌّ} هذه المعاني المتعددة بخلاف ما لو قال: (حالّ) أو مقيم، أو حلال، أو ما إلى ذلك مما يقصر الكلام على معنى واحد. فإنها جمعت اسم الفاعل وهو الحالّ، واسم المفعول وهو المستحَلّ، والمصدر وهو الحلال. فانظر أيّ اتساع في المعنى؟ وهي في هذه المعاني كلها مرتبطة بالمقسم عليه، وهو قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} أحسن ارتباط وأوثقه كما سنبين ذلك. وقد تقول: ولِمَ لم يقل: (لا أقسم بهذا البلد الأمين) كما أقسم في سورة التين؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 والجواب: أنه لما جرى ذِكْرُ المكابدة في هذا البلد، وما استحل به من الحرمات وما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم من المشقة والعنت والتعذيب لم يناسب ذلك ذكر الأمن. كما لا يصح ذكر ذلك على معنى أنه حِلٌّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصنع فيه ما يشاء من القتل والأسر كما حدث في فتح مكة، فإن ذلك لا يناسب ذكر الأمن أيضاً. كما أن جو السورة لا يناسب ذكر الأمن، فإن جو السورة في المكابدة والمشقة حتى أنه لم يذكر جزاء المؤمنين في الآخرة، بل ذكر جزاء الكافرين وهذا الجزاء لا يأمن معه الكافر أبد الآبدين. فلم يناسب ذلك ذكر (الأمين) . وقد تقول: ولِمَ كرر {بهاذا البلد} في الآيتين فقال: {وَأَنتَ حِلٌّ بهاذا البلد} ولم يقل: (وأنت حِلٌّ به) ؟ والجواب: أن هذا أجمل تكرير وأحسنه ولا يقع الضمير موقعه في الحسن. إذ من المعلوم أن العرب إذا عُنيت بلفظٍ كررته وذلك كأن يكون في موطن التشويق أو التحسر أو التعظيم أو التهويل وغير ذلك من مواطن العناية والاهتمام وذلك نحو قول الشاعر: يا مُوقد النار بالهنديِّ والغارِ ... هيّجت لي حَزَناً يا مُوقد النارِ فأنتَ ترى أن تكرار (يا موقد النار) من أجمل التكرار وأحسنه. ومثل ذلك التكرارُ للتحسر نحو قوله: فيا قبرَ معنٍ أنت أول حفرة ... من الأرض خطّت للسماحة موضعا ويا قبر معنٍ واريت جُودَهُ ... وقد كان منه البر والبحر مترعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 ونحوه قول أبي العتاهية: مات والله سعيد بن وهب ... رحم الله سعيد بن وهب يا أبا عثمان أبكيت عيني ... يا أبا عثمان أوجعت قلبي ومن التكرير للتعظيم والتهويل قوله تعالى: {الحاقة * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحاقة} [الحاقة: 1-2] و: {القارعة * مَا القارعة} [القارعة: 1-2] و: {وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين} [الواقعة: 27] . ومن التكرير للإنذار قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بياتا وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف: 97-98] . فانظر حُسْنَ هذا التكرير وجمال موقعه. وقد يكون التكرير للإنكار وذلك كأن تقول لشخص أساء إلى مَنْ أحسن إليه في حين تنكَّرَ له الأقربون وطرده الناس أجمعون: أتعادي خالداً الذي أكرمك، وآواك وأنت حينذاك طريدٌ مُهان لا أحد يؤويك؟ أتهين خالداً الذي أكرمك وآواك من أجلِ شخص رذيلٍ؟ أتسرق خالداً الذي أكرمك وآواك، وقد وثق بك وائتمنك؟ ثم أتتّهم خالداً الذي أكرمك وآواك بما تعلم أنه كذبٌ وزور؟ أيسيء أحدٌ إلى هذا الشخص الذي أكرمه وآواهُ؟ أيفعل أحد كل هذا مع الشخص الذي أكرمه وآواه؟ أيّ فعل هذا. وأيّ إنسان ذلك الإنسان؟! والتكرار في الآية لتعظيم بلد الله الحرام فقد قال: {لاَ أُقْسِمُ بهاذا البلد * وَأَنتَ حِلٌّ بهاذا البلد} أي: وأنت حالّ بهذا البلد تَلقى العنتَ والظلم والأذى، بهذا البلد الذي يأمن فيه الخائف، ويأمن فيه الوحش والطير، فأيّ انتهاك لحرمة هذا البلد، وأيّ جور يقع بهذا البلد؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وما إلى ذلك من المعاني الأخرى، التي تقال في تفسير كلمة {حِلٌّ} . جاء في (ملاك التأويل) : "للسائل أن يسأل عن تكرير لفظ (البلد) وجعله معطوفاً وفاصلة في الآيتين وكيف موقع ذلك في البلاغة، وعند الفصحاء. والجواب: أنه قد تقدم أن العرب مهما اعتنت بشيء وتَهمَّمت به كررته، وإن ذلك من فصيح كلامهم وأن منه قوله: وإن صخراً لوالينا وسيدنا ... وإن صخراً إذا نشتو لنحار وإن صخراً لتأتمّ الهُداةُ به ... كأنه علَم في رأسه نار ... وذكره ظاهراً لما يحرز هذا المعنى من تعظيمه، لما فيه من تعظيمه لما فيه من التنبيه والتحريك". وقيل إن التكرير جيء به لفائدة أخرى وهي أن هذا البلد حرام لا تُستحل حرمته، ولا يسفك فيه دم ولا يروَّع فيه آمن، ولكن الله أحل لنبيه يوم فتح مكة ما لم يحلّه لغيره من قتلٍ وأسر فكأن هذا البلد في هذا اليوم غيره في سائر الأيام وأنه أصبحت له صفة أخرى، وهي صفة الحل فجمع صفتي الحرم والحل فتكرر لتكررِ الوصفين، وكأنه أصبح بلدين لا بلداً واحداً. جاء في (درة التنزيل) : "للسائل أن يسأل عن تكرير {البلد} وجعله فاصلة بين الآيتين.. والجواب أن يقال: إذا عني بالثاني غير المقصود بالأول من وصف يوجب له حكماً غير حكم الأول كان من مختار الكلام. فالبلد الأول قصد به وصف لم يحصل في الثاني وهو مكة. لأن معنى أقسم بالبلد المحرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 الذي جُبلت على تعظيمه قلوبُ العرب، فلا يحل فيه لأحد ما أُحِلَّ للنبي صلى الله عليه وسلم، فقوله: {وَأَنتَ حِلٌّ} أي: مُحَلٌّ أُحِلَّ لك منه ما حرم على غيرك. فصار المعنى: أقسم بالبلد المحرم تعظيماً له، وهو مع أنه محرم على غيرك مُحَلّ لك إكراماً لمنزلتك. فالبلد في الأول محرم وفي الثاني محلل". {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} . اختلف في الوالد هذا وما ولد، فقيل: هو آدم وذريته "وعلى هذا فقد تضمن القسم، أصل المكان وأصل السكان، فمرجع البلاد إلى مكة ومرجع العباد إلى آدم". وقيل: رسول الله صلى الله عليه وسلم وآباؤه فعلى هذا "أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه وحرم أبيه ومنشأ أبيه إسماعيل وبمن ولده وبه. فإن قلت: لِمَ نكّر؟ قلتُ: للإبهام المستقل بالمدح والتعجب". وقيل: هو كل والد وما ولد من العقلاء وغيرهم "لا يراد به مُعيَّن، بل ينطلق على كل والد. وقال ابن عباس ذلك. قال: هو على العموم يدخل فيه جميع الحيوان". وهذا الذي يترجح عندي فهو يشمل كل والد وولده يدخل فيه ما ذكره الأولون ولا يخصهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 ووجه ارتباطها بالمقسَم عليه ظاهر، ذلك أن الولادة مشقة وتعب ومكابدة، فارتباطها بقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} بَيِّن. وكما هي مرتبطة بالمُقْسَمِ عليه في أول السورة هي مرتبطةٌ أيضاً بآخر السورة، وهو قوله: {وَتَوَاصَوْاْ بالصبر وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة} ذلك أن الوالد من الأناسي والبهائم، يحتاج في تربية ولده وحفظه وإطعامه والقيام عليه إلى صبر ورحمة. فاتضح بذلك قوة ارتباط الآية بأول السورة وآخرها. ثم انظر كيف انتقل من الوالد وما ولد إلى خلق الإنسان - وهو من جملة الوالد وما ولد - فَخَصَّهُ من بين هذا العامّ لأن مدارَ الكلام معقودٌ عليه. ثم انظر كيف قال: {وَمَا وَلَدَ} ولم يقل: (ومن ولد) ولذلك أكثر من سبب. فإن {مَا} عامة و (من) خاصة، فإن (ما) تقع لذوات غير العاقل، وتقع لصفات مَنْ يعقل، فتقول: (أركبُ ما تركبُ) و (آكلُ ما تأكل) فهي هنا لذوات غير العاقل. وتقع لصفات العقلاء قال تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وثلاث ورباع} [النساء: 3] . وقال: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران: 36] . وقال: {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} [الليل: 3] . وهو الله سبحانه. وتقول: (زيد ما زيد) قال تعالى: {وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين} [الواقعة: 27] . فهي تكون للعاقل وغيره، فهي أَعمُّ وأشمل من (من) قال الفراء: "وصلحت (ما) للناس، ومثله {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} وهو الخالقُ للذكر والأنثى. مثله: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} ولم يقل: من طاب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 ثم إن لفظها يوحي بالسعة والشمول، ذلك أنها منتهية بحرف الإطلاق وهو الألف، وهو الذي يمتد فيه النَفَس بخلاف (من) الذي ينتهي بحرف مقيد، وهو النون الساكنة. فجعل المنتهي بحرف مطلق للمطلق الكثير، والمنتهي بحرف مقيد للقليل المقيد بالعقل. فجاء بـ (ما) لتناسب العموم والشمول في الآية. ثم إن هذه الآية مناسبة لجو السورة على وجه العموم، فهي مرتبطة بإطعام المحتاجين في اليوم ذي المسغبة، فإن الوالد يسعى إلى إطعام ولده ويلاقي من أجل ذلك ما يلاقي من مشقة ومكابدة. إن جو السورة تسيطر عليه المكابدةُ والمشقة والصبر والرحمة وكل ذلك يعانيه الوالد لحفظ ولده ورعايته. ثم انظر من ناحية أخرى، كيف يحتمل قوله: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} وما تحتمله كلمة {حِلٌّ} من السَّعةِ في احتمالات المعنى، وكيف ناسب ذلك سعة (ما) نُطقاً ومعنى. {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} . الكبد: الشدة والمشقة. ومعنى {فِي كَبَدٍ} أنه "يكابد مشاقّ الدنيا والآخرة. ومشاقُّه لا تكاد تنحصر من أول قَطْعِ سُرَّته إلى أن يستقر قراره، إما في جنة، فتزول عنه المشقات، وإما في نار فتتضاعف مشقاته وشدائده". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وقيل: "يكابد الشكر على السراء ويكابد الصبر على الضراء لا يخلو عن أحدهما". لقد عبر عن هذا المعنى بقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} ولم يقل: (يكابد) أو (مكابداً) ونحو ذلك، ذلك أن (في) تفيد الظرفية والوعاء. ومعناه: أن الإنسان خلق مغموراً في المشاق والشدائد والصعاب منغمساً فيها كما ينغمر الشيء في الماء، وكما يكون الشيء في الوعاء. فالشدائد والمشاق تحيط بالإنسان لا تنفكُّ عنه إلى أن يموت. وبعد الموت إما أن يجتازَ العقبةَ، فيدخل الجنة فتزول عنه الشدائد والمصائب، وإما أن لا يجتازها فيبقى في المشقات والشدائد أبد الآبدين منغمراً في النار وهي أكبر الشدائد وأعظمهن. ومن معاني (الكبد) أيضاً القوة والشدة والصلابة. جاء في (لسان العرب) : "وكبد كل شيء عِظَم وسطه وغلظه كبِدَ كَبَداً وهو أكبد، ورملةٌ كبداء عظيمة الوسط.. والكبداء: الرَّحى التي تُدار باليد، سميت كبداء لما في إدارتها من المشقة. وفي حديث الخندق: فعرضت كبدة شديدة، وهي القطعة الصلبة من الأرض. وأرض كبداء وقوس كبداء: أي شديدة". وهذا المعنى من لوازم المعنى الأول، فإن الذي خُلِقَ مكابداً للشدائد والمصائب متحملاً مشاق الدنيا لا بد أن يكون خلق مستعداً لذلك قوياً عليه شديد التحمل له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 إن هذه الآية هي جواب القسم الذي تقدم، فقد أقسم بالبلد الحرام في وقت حلول الرسول الأعظم فيه، وأقسم بالوالد وما ولد على أن الإنسان خلق مغموراً في الشدائد والمشاقّ. والسورة كلها مَبْنيةٌ على هذا الأمر، فهي مبنية على مكابدة الإنسان للشدائد والمصائب والمشاق. وكل لفظة وكل تعبير في هذه السورة مبني على ذلك ويخدم هذا الشيء. أما ارتباط القسم بالجواب، فهو واضح فقد ذكرنا ارتباط قوله تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بهاذا البلد * وَأَنتَ حِلٌّ بهاذا البلد} بهذه المكابدة وكيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يَلْقى ما يلقى من قومه من مشقة وشدة وهو يبلّغ دعوة ربه. وفي هذا إشارة إلى أن الدعاة ينبغي أن يوطنوا أنفسهم على المكابدة والصبر، وتحمل المشاق، فإن هذا من لوازم الدعوة إلى الله تعالى، فقلَّما يكون الداعية في عافية من ذاك. قال تعالى: {الاما * أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين} [العنكبوت: 1-3] . والفتنة مشقة كبيرة وشدة بالغة، نسأل الله العافية. وعلى الإنسان أن يكابد ويجاهد للنجاة منها. ثم انظر من ناحية أخرى كيف ارتبطت مفردات القسم بكل معانيها بقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} . فالحِلّ كما ذكرنا لها أكثرُ من معنى، وهي في كل معانيها مرتبطة بهذا الأمر. فهي إذا كانت بمعنى الحالِّ والمقيم فهي مرتبطة به، ذلك أن الرسول في أثناء حلوله بمكة كان يكابد ويتحمل من أصناف الأذى والمشاق الشيء العظيم فهو في كبد من ذلك، وكان يتلقَّى ذلك بصبرٍ وثبات وقوة وشدة، فهي مرتبطة بالكبد بمعنييه، المشقة والقوة. وإذا كانت بمعنى اسم المفعول، أي: مستَحَلٌّ قتلُكَ وإيذاؤك لا تراعى حرمتك، فهي مرتبطة بذلك ارتباطاً واضحاً كله مشقة ونصب. وإذا كانت بمعنى الحلال ضد الحرام، أي: يحلُّ لك أنْ تقتلَ من تشاء وتأسر من تشاء، وذلك في يوم الفتح فارتباطها بها كذلك واضح ذلك لأن الكفار آنذاك في كبد ومشقة وأنت والمسلمون في قوة وغلبة ونصر، فعند ذلك تكون مرتبطة بالكبد بمعنييها، المشقة والقوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 وإذا كانت بمعنى أنك حلٌّ من أعمالهم متحرجٌ من آثامهم بريء منها فهي مرتبطة بها كذلك، ذلك أنه يكابد ويجاهد ليخرج عن مألوفِ عاداتِ قومه وأفعالهم، ويكابد للقيام بفضائل الأعمال وجلائلها، وهي أمور مستكرهة على النفس ثقيلة عليها، تحتاج إلى مكابدة وقوة للقيام بها، قال تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5] . وقال صلى الله عليه وسلم: "حُفّت الجنةُ بالمكاره، وحُفّت النار بالشهوات". فهي في كل معانيها مرتبطة بالجواب أحسن ارتباط وأتمه. وكذلك قوله: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} مرتبط بالجواب أحسن ارتباط وأتمه، كما ذكرنا فهو مرتبط بـ (الكبد) بمعنييه: المشقة والقوة. فقد ذكرنا أن الولادةَ مشقةٌ وعنت، وهي تحتاج إلى قوة ومثابرة ومكابدة لحفظ المولود وتربيته وبقائه وتوفير غذائه. كما أن هذه الآية مرتبطة بما بعدها من اقتحام العقبة، ومشاقّ الجوع وغيرها أتم ارتباط، كما هو ظاهر وكما سنبين ذاك. {أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} . قيل: إن المعنيَّ بقوله: {أَيَحْسَبُ} بعضُ "صناديد قريش الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكابد منهم ما يكابد. والمعنى: أيظن هذا الصنديد القوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 في قومه المتضعف للمؤمنين أنْ لن تقوم قيامة، ولن يقدر على الانتقام منه وعلى مكأفاته بما هو عليه". وقيل: إن التهديد "مصروف لمن يستحقه". وقيل: إن المعنيَّ به الإنسان، أي: أيظن هذا الإنسان الذي خلق مكابداً شديداً، أنْ لن يقدر عليه أحد؟ جاء في (البحر المحيط) : "والظاهر أن الضمير في {أَيَحْسَبُ} عائد على الإنسان، أي: هو لشدة شكيمته وعزته وقوته، يحسب أن لا يقاومه أحد، ولا يقدر عليه أحد لاستعصامه بُعدَدِه وعَدَدِه. وجاء في (التبيان) : "ثم أنكر سبحانه على الإنسان ظنه وحسبانه أن لن يقدر عليه مَن خَلَقه في هذا الكبد والشدة والقوة التي يكابد بها الأمور. فإن الذي خلقه كذلك أَوْلى بالقدرة منه وأحق. فكيف يقدر على غيره مَنْ لم يكن قادراً في نفسه. فهذا برهان مستقل بنفسه. مع أنه متضمن للجزاء الذي مَناطهُ القدرةُ والعلم فنبَّه على ذلك بقوله: {أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} وبقوله: {أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ} فيحصي عليه ما عمل من خير وشر ولا يقدر عليه فيجازيه بما يستحقه". وارتباط هذه الآية بما قبلها واضح، فالذي خُلق يكابد المصائب والمشاق لا بد أن يكون خُلق مستعدّاً لاحتمال ذلك ولا بد أن يكون شديد الخَلْق قوياً، وهو من معاني (الكبد) كما ذكرنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 قال تعالى: {نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ} [الإنسان: 28] . فهذا الذي خُلق شديداً قوياً ويكابد المصائب والمشاق قد يسبق إلى وهمه أنْ لن يقدر عليه أحد، فيهدده ربه ويتوعده إذا كان عنده هذا الحسبان بأن الذي خلقه وزَوَّده بهذه القوة والشدة أقدر منه على نفسه. والظاهر أن هذا الحسبان واقرٌ في نفوس البشر فهم يتصورون أنه لا يَتمكَّنُ منهم أحدٌ ولا يقدر عليهم أحد، ولذا تراهم يعيشون في غطرسة وكبرياء وظلم بعضهم لبعض معتصمين بجبروتهم وقوتهم لا يحسبون لمن خلقهم حساباً، ولو حسبوا حساباً لخالقهم وربهم القوي القادر لتطامنوا وتواضعوا. ثم إن هذه الآية مرتبطة بقوله تعالى: {وَأَنتَ حِلٌّ بهاذا البلد} أي: ألاَ يتصور هؤلاء الذي ينتهكون محارم البلد الحرام ولا يراعون لكَ حُرمةً فيؤذونك ويعذبونك مستندين إلى قدرتهم وجبورتهم ألا يظنون أن هناك من هو أقدر عليهم منهم عليك؟ فهي مرتبطة بما قبلها أتم ارتباط وأحسنه. جاء في (تفسير الرازي) : "اعلم أنا إن فسرنا (الكبد) بالشدة في القوة، فالمعنى أيحسب ذلك الإنسان الشديد أنه لشدَّتهِ لا يقدرُ عليه أحد، وإن فسرناه بالمحنة والبلاء، كان المعنى تسهيل ذلك على القلب. كأنه يقول: وَهَبْ أنَّ الإنسان كان في النعمة والقدرة، أَفيظنُّ أنه في تلك الحالة لا يقدر عليه أحد؟ ". {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 اللبد: هو الكثير المجتمع من تَلَبَّدَ الشيءُ إذا اجتمع. ومعنى الآية: إنه يقول إنه أنفق مالاً كثيراً، وهو يقول ذاك إما على جهة الافتخار أو على جهة التحسر. جاء في (الكشاف) : "يريد كثرة ما أنفقه فيما كان أهل الجاهلية يسمونها، مكارمَ ويَدْعونها معاليَ ومفاخر". وجاء في (روح المعاني) : "أي: يقول ذلك وقت الاغترار فخراً ومُباهاةً وتَعظُّماً على المؤمنين وأراد بذلك ما أنفقه رياءً وسمعة ... وقيل: المراد ما تقدم أولاً، إلا أن هذا القول وقت الانتقام منه، وذلك يوم القيامة. والتعبير عن الإنفاق بالإهلاك لما أنه لم ينفعه يومئذ". وقد عبر عن الإنفاق بالإهلاك، فإنه لم يقل: (أنفقت مالاً) كما هو الشائع في استعمال القرآن الكريم. واختيار تعبير الإهلاك في هذا الموطن أحسن اختيار وأجمله، فإنه المناسب لجو السورة، وذلك أنه مناسب لجو المشاق والشدائد التي تؤدي إلى الهلاك وتفضي إليه. وهو متناسبٌ مع ما يعانيه الرسول وأصحابه في البلد الحرام من الشدائد والمحن التي قد أدت ببعضهم إلى الهلاك كياسر وسمية، ومتناسبٌ مع حسبان الإنسان أنْ لن يقدِر عليه أحد فيهلكه، ومتناسب مع ذكر العقبة التي قد تفضي إلى الهلاك. ومتناسب مع ذوي المسغبة من اليتامى والمساكين وهلاكهم من الجوع إن لم يُطْعَمُوا، ومتناسب مع خاتمة أصحاب المشأمة التي هي هلاك مقيم. وعَبَّر عن الإنفاق بالإهلاك لأسباب أخرى غير هذه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 جاء في (روح المعاني) : "وعبر عن الإنفاق بالإهلاك إظهاراً لعدم الاكتراث، وأنه لم يفعل ذلك رجاء نفع فكأنه جعل المال الكثير ضائعاً. وجاء في (التبيان) : "ثم أنكر سبحانه على الإنسان قوله: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً} وهو الكثير الذي يلبد بعضه فوق بعض، فافتخر هذا الإنسان بإهلاكه وإنفاقه في غير وجهه، إذ لو أنفقه في وجوهه التي أُمِرَ بإنفاقه فيها ووضعه مواضعه لم يكن ذلك إهلاكاً له بل تَقرُّباً به إلى الله وتوصلاً به إلى رضاه وثوابه وذلك ليس بإهلاكٍ له. فأنكر سبحانه افتخاره وتبجحه بإنفاق المال في شهواته وأغراضه التي إنفاقه بها إهلاك له". فانظر أي اختيار هذا. ثم انظر أَيَحْسُنُ (أنفقتُ) مكان {أَهْلَكْتُ} ههنا؟ واختيار (اللبد) في الآية مكان (الكثير) اختيارٌ دقيق ذلك أن اللبد معناه الكثير المجتمع من تلبد الشيء إذا اجتمع. جاء في (الكشاف) : "لبداً قرىء بالضم والكسر جمع لُبدة ولِبدة، وهو ما تَلبَّدَ يريد الكثرة". وهو متناسب مع اجتماع الكفرة لإيذاء الرسول والمسلمين لصدِّهم عن دعوتهم كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن: 19] . فاجتماعُ المال في الإهلاك مناسب لاجتماع الكفرة على الرسول لإهلاكه، وإهلاك دعوته وهو حِلٌّ بهذا البلد. فانظر حُسْنَ هذا الاختيار وعُلُوَّ هذا التعبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 ثم انظر جو الاجتماع الذي تفيد كلمة (لبد) وشيوعه في السورة في الوالد وما ولد، وفي العينين، وفي اللسان والشفتين في آلة النطق، وفي النجدين وليس نجداً واحداً فإنه ذكر نجدين ولم يذكر نجداً واحداً كما في قوله تعالى: {ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ} [عبس: 20] . وقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان: 3] . وفي تفسير العقبة بجملة أمور، وفي ذكر المؤمنين بصيغة الجمع {الذين آمَنُواْ} ، واجتماعهم على التواصي بالصبر والمرحمة أي: يوصي بعضهم بعضاً، ثم في اجتماع أهل الكفار في جهنم وإيصاد النار عليهم. فانظر حسن اختيار كلمة (لبد) ههنا، ثم انظر هل تغني عنها كلمة (الكثير) ؟ {أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ} . والمعنى: أيظن هذا الإنسان الذي يَدَّعي أنه أهلك المال الكثير أنه لم يره أحد؟ أَوَ يظن أن أعماله تخفى لا يطَّلع على حقيقتها أحد؟ فالله يعلم إن كان أنفق مالاً أو لم ينفق شيئاً، وإن كان مدّعياً كاذباً في قوله. وإذا كان قد أنفق فهو يعلمُ الغرضَ والمقصد الذي أنفق المال من أجله. جاء في (الكشاف) : "يعني أن الله كان يراه وكان عليه رقيباً. ويجوز أن يكون الضمير للإنسان". وجاء في (البحر المحيط) : "أَيحسبُ أن أعماله تَخْفى، وأنه لا يراه أحد، ولا يطّلع عليه في إنفاقه ومقصد ما يبتغيه مما ليس لوجه الله منه شيء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وجاء في (التبيان) : "ثم وبخه بقوله: {أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ} وأتى ههنا بِلَمْ الدالة على المضي في مقابلة قوله: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً} فإن ذلك في الماضي، أفيحسب أن لم يره أحد فيما أنفقه وفيما أهلكه؟ ". وأنتَ ترى مما مَرَّ أنه ذكر من صفات الله تعالى القدرةَ والعلم الذي دلت عليه الرؤية، وهما الغاية في التهديد. ثم أقام الدليل على قدرته وعلمه بقوله: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النجدين} . أفَتَرى أن الذي يجعل للإنسان عينين يبصر بهما لا يبصر هو ولا يرى، وأن الذي أَقْدَرَ الإنسانَ على النطق لا يستطيع أن يتكلم، وأن الذي هداه إلى طريقي الخيرِ والشر ليس عنده علم؟ جاء في (تفسير الرازي) : "واعلم أنه تعالى لما حكى عن ذلك الكافر قوله: {أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} أقام الدلالة على كمال قدرته فقال: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النجدين} . وجاء في (التبيان) : "ثم ذكر برهاناً مقدراً أنه سبحانه أحقُّ بالرؤية وأولى من هذا العبد الذي له عينان يبصر بهما. فكيف يُعطيه البصرَ مَنْ لم يره؟ وكيف يعطيه آلةَ البيان من الشفتين واللسان، فينطق ويبين عما في نفسه ويأمر وينهى مَنْ لا يتكلَّم ولا يكلِّم، ولا يخاطِبُ ولا يأمر ولا ينهى؟ وهل كمال المخلوق مستفاد إلا من كمال خالقه؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 ومن جعله عالماً بنجدي الخير والشر - وهما طريقاهما - أليس هو أولى وأحق بالعلم منه". ثم انظر من ناحية أخرى إلى ارتباط قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ} بقوله: {أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ} وهو ارتباط العين بالرؤية، وارتباط قوله: {وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} بقوله: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً} فإن اللسان والشفتين، هما آلةُ النطق وبها يقول ما يقول: فهو يتقلب بنعم الله ويحاربه ويحارب أولياءه ورسله ويحارب دعوته. {وَهَدَيْنَاهُ النجدين} . النجد: هو الطريق العالي المرتفع. جاء في (لسان العرب) : "النجد من الأرض قفافها وصلابها، وما غلظ منها وأشرف وارتفع واستوى.. ولا يكون النجد إلا قُفاً أو صلابة من الأرض في ارتفاع مثل الجبل معترضاً بين يديك يردُّ طرفك عما وراءه". والمقصود بالنجدين: طريقا الخير والشر. وقيل: الثديان. والأول أشهر وهو الذي ذهب إليه عامة المفسرين. وعن أبي هريرة أنه عليه السلام قال: "إنما هما النجدان، نَجْدُ الخير ونجد الشر ولا يكون نجدُ الشر أحبّ إلى أحدكم من نجد الخير" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 واختيار كلمة (نجد) للطريق ههنا اختيار لطيف مناسب، فإنه لم يقل كما قال في مواطن أخرى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل} [الإنسان: 3] أو {ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ} [عبس: 20] أو {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6] أو {يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلام} [المائدة: 16] ذلك أن التعبير مناسب لجو السورة فإن سُلوكَ النجدِ فيه مشقةٌ وصعوبة لما فيه من صعود وارتفاع فهو مناسب للمكابدة والمشقة التي خلق الإنسان فيها، ومناسب لاقتحام العقبة وما فيه من مشقة وشدة. {فَلاَ اقتحم العقبة} . العقبة: "طريق في الجبل وعر.. والعقبة الجبل الطويل يعرض للطريق، فيأخذ فيه، وهو طريق صعب شديد". وسميت بذلك لصعوبة سلوكها. والاقتحام: هو الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة والقحمة هي الشدة والمهلكة والأمر العظيم. والمقصود بالعقبة: الأعمالُ الصالحة التي سيبينها على سبيل الاستعارة. جاء في (البحر المحيط) : "العقبة استعارة لهذا العمل الشاق من حيث هو بذل مال تشبيه بعقبة الجبل، وهو ما صعب منها وكان صعوداً، فإنه يلحقه مشقة في سلوكها.. ويقال: قحم في الأمور قحوماً: رمى نفسه من غير روية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وجاء في (روح المعاني) : "وهي هنا استعارة لما فسرت به من الأعمال الشاقة المرتفعة القدر عند الله تعالى.. ويجوز أن يكون قد جعل ما ذكر اقتحاماً وصعوداً شاقاً، وذِكْرُه بعد النجدين جعلَ الاستعارةَ في الذروة العليا من البلاغة". ومعنى الآية أنه: "لم يشكر تلك الأيادي والنعم بالأعمال الصالحة من فك الرقاب وإطعام اليتامى والمساكين.. والمعنى: أن الإنفاق على هذا الوجه، هو الإنفاق المرضي النافع عند الله لا أنْ يُهلكَ مالاً لبداً في الرياء والفخار، فيكون مثلْه {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ} [آل عمران: 117] الآية". وجاء في (التبيان في أقسام القرآن) : "ولم يقتحم العقبة التي بينه وبين ربه التي لا يصل إليها، حتى يقتحمها بالإحسان إلى خَلْقِه بفك الرقبة، وهو تخليصها من الرق، ليخلِّصه اللهُ من رقِّ نفسه ورق عدوه، وإطعام اليتيم والمسكين في يوم المجاعة، وبالإخلاص له سبحانه بالإيمان الذي هو خالص حقه. وهو تصديقُ خبره وطاعة أمره وابتغاء وجهه وبنصيحة غيره أن يوصيه بالصبر والرحمة ويقبل وصية من أوصاه بها، فيكون صابراً رحيماً في نفسه معيناً لغيره على الصبر والرحمة". واختيار هذا التعبير أنسبُ شيء ههنا، فاختيار (العقبة) بعد (النجدين) اختيار بديع، وهو كما جاء في (روح المعاني) : إن ذكرها بعد النجدين جعل الاستعارة في الذروة العليا من البلاغة، ذلك أن النجد: وهو الطريق العالي المرتفع يؤدي إلى العقبة، وهي الطريق الوعر في الجبل، فإن العقبة تقع في النجاد غالباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 واختيار لفظ (الاقتحام) وما فيه من شدة ومخاطرة هو المناسبُ لبيان وعورة وصعوبة هذه العقبة، فإنه لم يعبر عن ذلك بالاجتياز ونحوه، مما يدل على شدة هذه العقبة. فانظر كيف أن كل لفظة وقعت في مكانها المناسب وأن اختيار كل لفظة اختيار مناسب لجو السورة. فكل من الاقتحام والعقبة مناسب لقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} . ذلك أن من معاني (الكبد) المشقة والقوة، وأن اقتحام العقبة في مشقة وتعب كما أنه يحتاج إلى قوة وشدة. فانظر حُسْنَ المناسبة. كما أن هذه الآية تناسب ما بعدها من المشقات والشدائد التي يعانيها المسكين واليتيم، في اليوم ذي المسغبة. ثم انظر علاقة هذه الآية بأول السورة وخاتمتها، وهو كيف أن الرسول كان في حال اقتحام للعقبة، وهو حالٌّ ببلد الله الحرام، يَلْقى ما يلقى من العنت والمشقة في تبليغ دعوة ربه. وبخاتمتها وهم الذين لم يقتحموا العقبة، فبقوا في عقبة جهنم أبد الآبدين، وكانت النار عليهم مؤصدة. ثم إن اختيار (لا) في هذا الموطن اختيار عجيب دقيق، وهو ما وقف عنده النحاة والمفسرون وحاولوا تخريجه وتفسيره. فقد ذهب قسم منهم إلى أنها نافية للفعل الماضي، أي: (فلم يقتحم العقبة) . ومن المعلوم أن (لا) إذا نفت الفعل الماضي المعنى، وَجَبَ تكرارها، إلا ما ندر نحو قوله تعالى: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى} [القيامة:: 31] في حين لم تتكرر ههنا، وأجابوا عن ذلك بأنها مكررة في المعنى لأن (العقبة) مُفَسَّرةٌ بشيئين: فك الرقبة، وإطعام المسكين فكأنه قال: فلا فَكَّ رقبةً، ولا أطعمَ مسكيناً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ومن النادر الذي دخلت فيه (لا) على الفعل الماضي المعنى ولم تكرر قول أبي خراش الهذلي: إنْ تَغفر اللهمَّ تغفر جَمّا ... وأيُّ عبدٍ لك لا ألمّا أي: لم يُلِمّ. والمعنى: وأيّ عبد لم يذنب. وقول الشاعر: وكان في جاراته لا عهد له ... وأيُّ أمرِ سيِّىء لا فَعَله أي: لم يفعله. قالوا: وهي هنا بمعنى (لم) وتكرارها كثير وهو غير واجب. جاء في (روح المعاني) : "والمُتَيقَّنُ عندي أكثرية التكرار، وأما وجوبه فليس بمتيقن". وقسم ذهب إلى أنها في الآية دعاء، فلا يلزم تكرارها، كقولهم: (لا فضّ الله فاك) و (لا عافاه الله) وهي هنا دعاء عليه أن لا يفعل خيراً. وقيل: إن الفعل يراد به الاستقبال، بمعنى لا يقتحم العقبة، وإذا كان الفعل الماضي دالاً على الاستقبال لم يلزم تكرارها. جاء في (المغني) : "ومثله في عدم وجوب التكرار بعدم قصد المضي، إلا أنه ليس دعاء قولك: (والله لا فعلت كذا) وقول الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 حَسْبُ المحبين في الدنيا عذابهم ... تالله لا عَذّبتهم بعدها سَقرُ" وجاء في (الفوائد في مشكل القرآن) للعز بن عبد السلام في هذه الآية: "ويشكل الفني بـ (لا) وهي إنما تنفي الاستقبال. والجواب: إنها بمعنى (لم) والصحيح اشتراكهما، وعدل إليها لأن النفي بها أبلغ، لما توهمه من نفي الاستقبال في أصل الوضع، أو يجعلها على بابها، أي: صفة هذا يقتضي أنه لا يقتحم العقبة أبداً، فيكون ذماً له باعتبار صفته لا باعتبار عدم فعله وتضمنها معنى (لم) فيكون الذم أيضاً لعدم الفعل في الماضي". وقيل هي للاستفهام، والتقدير: أفلا اقتحم العقبة، وقد حذفت الهمزة، والمعنى: أفلا سلك الطريق التي فيها النجاة والخير؟ ". وقال آخر: هي تحضيض والأصل: ألا اقتحم العقبة ثم حذفت الهمزة، وهو ضعيف ولا يعرف أن (لا) وحدها تكون للتحضيض وليس معها الهمزة. هذا أبرز ما قيل في (لا) هذه. والذي يبدو لي والله أعلم أن هذا التعبير جمع معاني عدة في آن واحد. فهو يحتمل المضي، أي أن هذا الإنسان الذي يذكر عن نفسه أنه أهلك مالاً كثيراً ويحسب أن لن يقدر عليه أحد، وأنه لم يَطَّلعْ أحد عليه فيما يفعل - سواء كان هذا واحداً معيناً أم كان صنفاً هذا وصفه - لم يقتحم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 العقبة، فهو لم يؤمن ولم يطعم المحتاجين من اليتامى والمساكين ولم يتواص بعمل الخير. ويحتمل أن هذا الإنسان فرداً كان أم صنفاً لا يقتحم العقبة في المستقبل، لأن من كان هذا وصفُه لا يقتحم العقبة، إلا إذا آمن وغيّر من حاله. فهو لم يقتحم العقبة في الماضي ولا يقتحمها في المستقبل، بل هو باقٍ على حاله على وجه الدوام. ويحتمل أن هذا التعبير دعاء على هذا الصنف أو الشخص بألاّ يقتحم العقبة كما في قوله تعالى: {ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة: 1] وقوله: {قَاتَلَهُمُ الله أنى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30] . فإن من كان هذه صفته لا يستحق الدعاء له بالخير. كما يحتمل الاستفهام المراد به التنديم والتوبيخ على ما فرط والحض على الإنفاق بمعنى "ألا اقتحم العقبة" وقد حذفت منه الهمزة. ونحو هذا وارد في القرآن الكريم والفصيح من كلام العرب، فقد جاء فيه قوله تعالى: {وَجَآءَ السحرة فِرْعَوْنَ قالوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين} [الأعراف: 113-114] . بدلالة قوله تعالى: {قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين} [الشعراء: 41-42] . ونحو قول الشاعر: قالوا: تحبها؟ قلت: بهراً. أي: أتحبها؟ وقول الكميت: طربتُ وما شوقاً إلى البيض أطربُ ... ولا لعباً مني وذو الشيب يلعبُ أي: أَوَذُو الشيبِ يلعب؟ وهذه المعاني كلها مرادة مطلوبة، فقد جمع هذا التعبير عدة معان في آن واحد: المضي والاستقبال والتوبيخ والحض والدعاء. فهو أخبر أنه لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 يقتحم العقبة فيما مضى من عمره، وأنه لا يقتحمها في المستقبل، وأنه وَبَّخه على ذلك، ودعا عليه بعدم اقتحامها. فانظر كيف جمع هذا التعبير هذه المعاني، وكلها مُرادةٌ مطلوبة وأنه لو جاء بأي حرف آخر غير (لا) لم يُفِدْ هذه المعاني الكثيرة المتعددة. فهو لو قال: (ما اقتحم العقبة) أو (لم يقتحم العقبة) لم يفد إلا الإخبار عنه في الماضي. فانظر كيف وسَّعت (لا) المعنى وجمعت معاني عدة في تعبير واحد؟ {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة} . هذا الأسلوب من أساليب التفخيم والتعظيم والتهويل ونحوه قوله: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا القارعة} [القارعة: 3] وقوله: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحاقة} [الحاقة: 3] و {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحطمة} [الهمزة: 5] تعظيماً لأمرها. ثم فسر العقبة بعد ذلك بقوله: {فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ} . {فَكُّ رَقَبَةٍ} . "وفك الرقبة: تخليصها من رق أو غيره. وفي الحديث: "أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دُلّني على عمل يُدخلني الجنة، فقال: تعتق النسمة وتفك الرقبة. قال: أَوَليسا سواء؟ قال: لا. إعتاقها: أن تنفرد بعتقها. وفكها: أن تعين في تخليصها من قوَدٍ أو غُرْم". وجاء في (فتح القدير) : "كل شيء أطلقته، فقد فككته، ومنه فك الرهن، وفك الكتاب.. والفك في الأصل حل القيد، سمي العتق فكاً، لأن الرق كالقيد، وسمي المرقوق رقبة، لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 واختيار هذا التعبير يوحي بشدة حال المسترق، وكربه ومعاناته ومكابدته. والاسترقاق هو من أكثر أحوال المكابدة والمعاناة شدة. وارتباط الآية بقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} ارتباط واضح بيّن. {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} . المسغبة: المجاعة وهي الجوع العام وليس الجوع الفردي. والفرق بين المسغبة والسغب، أن السغب معناه: الجوع، والجوع قد يكون عاماً، وقد يكون خاصاً، أما المسغبة فهي عامة ولذا قيل: إن معناه "في يوم فيه الطعام عزيز". وهذا مما يدل على شدة الكرب والضيق واللأواء، فالإطعام في هذا اليوم له شأنه فهناك فرق بين إطعام المسكين والطعامُ موفور والخلةُ مسدودة، والإطعام في وقت قلة الطعام وشِحَّتهِ والخوف من فقدانهِ والإمساك عن بيعه، فهده عقبة كؤود من عقبات المجتمع، والإطعام في مثل هذا اليوم اقتحام لهذه العقبة أي اقتحام. {يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} وهو اليتيم القريب في النسب ليجتمع له صدقة وصِلَة. وذلك ليتفقد كل واحد أقرباءه المحتاجين ليتم التكافل والتراحم بينهم. {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} والمتربة مأخوذة من (تَرِبَ) : "إذا افتقر، ومعناه: التصق بالتراب. وذو المتربة: هو الذي مأواه المزابل وقيل: "وهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 المطروحون على ظهر الطريق قعوداً على التراب لا بيوت لهم". وجاء بـ (أو) ولم يأت بالواو ذلك أن الواو تفيد معنى الجمع ومعناه: لو أتى بالواو لا يقتحم العقبة إلا إذا فك الرقبة، وأطعم هذين الصنفين جميعاً فإن أطعم صنفاً واحداً لم يقتحم العقبة. وهو غيرُ مُرادٍ، بل المراد التنويع. والمقصود أن يطعم هذه الأصناف من الناس، اليتيم أو المسكين، على سبيل الاجتماع أو الانفراد. وقد قدم فك الرقاب على إطعام اليتامى والمساكين إشارة إلى عظم الحرية في الإسلام وأن المطلوب أولاً تحريرُ الناس من العبودية والاسترقاق. وانظر بعد ذلك ارتباط هؤلاء الأصناف بقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} فهؤلاء من أشد الناس مكابدة ومعاناه. ثم انظر إلى ارتباط هؤلاء الأصناف بقوله: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً} فقد أهلكها هذا القائل في غير محلها، فلم يطعمْ جائعاً ولم يفكَّ رقبة. ثم انظر إلى ارتباط هؤلاء الأصناف بالآية بعدها، وهو قوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بالصبر وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة} فإن فك الرقاب وإطعام المحتاجين من المرحمة. وهؤلاء الأصناف من الناس من المسترقّين والمساكين من أحوجِ الخَلْق إلى الصبر. {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بالصبر وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة} . إن {ثُمَّ} هنا لا تفيد التراخي في الوقت وإلا تأخر الإيمان عن العمل الصالح الذي ذكره من فك الرقاب وإطعام المحتاجين في حين أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 لا يفيدُ عملٌ من دون إيمان. وإنما تفيد {ثُمَّ} ههنا تراخي رتبة الإيمان ورفعه محله عما ذكره من الأعمال لأنه هو الأصل، وهو مدار القبول والرفض. جاء في (الكشاف) : "جاء بثم لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة لا في الوقت لأن الإيمان هو السابق المقدم على غيره، ولا يثبت عملٌ صالح إلا به". وجاء في (فتح القدير) : "جاء بثم للدلالة على تراخي رتبة الإيمان ورفعة محله. وفيه دليل على أن هذه القُرَب، إنما تنفع مع الإيمان". وذكر بعد الآيات التواصي بالصبر والتواصي بالمرحمة. جاء في (الكشاف) : "المرحمة: الرحمة أي: أوصى بعضهم بعضاً بالصبر على الإيمان والثبات عليه، أو بالصبر عن المعاصي وعلى الطاعات والمحن التي يُبتلى بها المؤمن، وبأنْ يكونوا متراحمين متعاطفين أو بما يؤدي إلى رحمة الله". إن السورة مبنية على هذين الأمرين: الصبر والمرحمة. فالصبر مرتبط بقوله تعالى: {وَأَنتَ حِلٌّ بهاذا البلد} لما يلاقيه الرسول من عنت وأذى وهو حالٌّ بهذا البلد. وبقوله: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} فإن تربية الولد وحفظه بحاجة إلى الصبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 ومرتبط بقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} لأن المكابدة والمشقة والشدة، تحتاج إلى صبر. وسلوك النجدين يحتاج إلى صبر لما في صعودهما وسلوكهما من تعب ونَصَب، واقتحام العقبة يحتاج إلى صبر، والرقبة المستَرَقّة تحتاج إلى صبر على القيام بشأن العبودية، وقضاء اليوم ذي المسغبة يحتاج إلى صبر كثير وشديد. واليتيم يحتاج إلى صبر، وكذلك المسكين ذو المتربة، فإن هذه الأصناف تحتاج إلى صبر طويل. والذين آمنوا يحتاجون إلى الصبر على الطاعات والصبر عن المعاصي. فانظر كيف ارتبط الصبر بالسورة وكيف بُنيت السورة عليه؟ وكذلك الرحمة فإن ذكرها مع الصبر أحسن ذكر وأجمله. فهي مرتبطة بقوله: {وَأَنتَ حِلٌّ بهاذا البلد} على كل معاني (الحلّ) فإذا كان حالاًّ يبلّغ دعوة ربه فإنه أحرى أن يُعامَلَ بالرحمة لا بالأذى. وإذا كان المعنى أنه حلالٌ للرسول هذا البلد وذلك في فتح مكة فقد عامل الرسول قريشاً بالرحمة والإحسان، وقال في ذلك اليوم: "اليومَ يومُ المَرْحمة". وقال لهم: "ما تظنون أني فاعلٌ بكم؟ " قالوا: خيراً، أخٌ كريم وابنُ أخٍ كريم. فقال لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" فانظر أيّ رحمة هذه؟ ومرتبطة بقوله: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} فإن العلاقة بين الوالد وولده، علاقة رحمة وبرٍّ. وهذا الذي أهلك مالاً لُبداً، يحتاج إلى الرحمة لينفق المال على ذوي الحاجة، ولئلا يهلكه فيما لا ينفع. وذو الرقبة المسترَقّة محتاجٌ إلى الرحمة والإشفاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 واليوم ذو المسغبة ينبغي أن تَشيعَ فيه الرحمةُ وهو من أحوج الأوقات إلى إشاعة الرحمة، واليتيم المسكين من أحوج الخلق إلى الرحمة. والذين آمنوا ينبغي أن يتواصوا بينهم بالرحمة. وهكذا بنيت السورة على الصبر والمرحمة. ثم انظر كيف كرر التواصي مع كل منها فقال: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بالصبر وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة} ولم يقل: (وتواصوا بالصبر وبالمرحمة) ولا: (وتواصوا بالصبر والمرحمة) لأهمية التواصي بكلٍّ منهما وللدلالة على أن كلاًّ منهما جدير بالتواصي به. فأنت ترى أن هناك ثلاثة تعبيرات لكل تعبير دلالته: {وَتَوَاصَوْاْ بالصبر وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة} . وتواصوا بالصبر وبالمرحمة. وتواصوا بالصبر والمرحمة. والتعبير الأول أقوى التعبيرات للدلالة على أهمية كُلٍّ منهما، وذلك لتكرار الفعل مع حرف الجر توكيداً على أهمية ذلك. ثم يأتي التعبير الثاني بالدرجة الثانية وهو تكرار حرف الجر مع المرحمة دون تكرار الفعل، ثم يأتي التعبير الثالث بالدرجة الثالثة، وهو العطف من دون ذكرٍ للفعل ولا لحرفِ الجر. فيكون معنى التعبير الأول، وهو الذي عبرت به الآية أدلّ على أهمية كلٍّ من الصبر والمرحمة وآكد من التعبيرين الآخرين. ثم انظر من ناحية أخرى كيف قدم التواصي بالصبر على التواصي بالمرحمة ذلك لأنه تقدم ما يحتاج إلى الصبر من المكابدة والمشقة، وانغمار الإنسان فيها، واقتحام العقبة وذكر النجدين. وأخَّر المرحمة لما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 جاء بعد ذلك من فكِّ الرقاب وإطعام الأيتام والمساكين. فقدم التواصي بالصبر لمّا تقدّم ما يدعو إليه. وقد تقول: ولمَ لم يقل كما قال في سورة (العصر) : {وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 3] ؟ فقد ذكر التواصي بالحق ثم ذكر بعده التواصي بالصبر. والجواب: أنَّ المقامَ مختلف ففي سورة (العصر) كان الكلام على خسارة الإنسان على وجه العموم، فجاء بالتواصي بالحق على وجه العموم. ولما كان الكلام في سورة البلد على جزء من الحق وهو ما يتعلق بالرحمة والإطعام قال: {وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة} . وقدم الحق في سورة (العصر) : لأنه الأهَمُّ ولأن الصبر إنما يكون صبراً على الحق. إذ ليس المهم هو الصبر، وإنما المهم أن يصبر على ماذا، ثم إن التمسك بالحق والتواصي به يحتاج إلى صبر أيّ صبر. فقدم الحق لذلك بخلافِ سورةِ البلد، فإنه قدم الصبر على المرحمة لما ذكرنا. {أولائك أَصْحَابُ الميمنة * والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ المشأمة} . أي: أولئك الذين آمنوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة، وفَكُّوا الرقبةَ وأطعموا المحتاج في اليوم ذي المسغبة أصحاب الميمنة. والميمنة: مفعلة من اليُمن، وهو الخير والبركة أو من اليمن. وقد يكون معناه جهة اليمين التي تقابل الميسرة وهي الجهة التي فيها السعداء. وقد يكون معناها أصحاب اليمين أي: الذين يُؤتَون صحائفهم بأيمانهم. وقد يكون معناها: أصحاب اليمن والخير على أنفسهم وعلى غيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 والذين كفروا هم أصحاب المشأمة. والمشأمة مفعلة من الشأم، وهي جهة الشمال، أو من الشؤم، وهو ضد اليُمن. ومعنى أصحاب المشأمة أصحاب جهة الشمال التي فيها الأشقياء أو الذين يؤتَون صحائفهم بشمائلهم أو أصحاب الشؤم على أنفسهم وعلى غيرهم. وقد تقول: ولمَ لم يقل أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال كما قال في مواطن أخرى من القرآن الكريم؟ والجواب أن اختيار هذين اللفظين له عدة فوائد: منها: أن الميمنة والمشأمة جمعت عدة معانٍ، وهي كلها مُرادةٌ مطلوبة في آن واحد، ولو قال: أصحاب اليمين أو أصحاب الشمال لأعطى معنى واحداً. فأصحاب الميمنة هم أصحاب جهة اليمين التي فيها السعداء، وهم الذين يؤتَون صحائفهم بأيمانهم، فيذهبون إلى الجنة، وهم أصحاب اليمن والخير والبركة على أنفسهم وعلى غيرهم، فإنهم أفاضوا خيرَهُم ومالهم على الفقراء والمحتاجين وتواصوا بالرحمة على خلق الله وهم ميامين على أنفسم بأنْ رضي الله عنهم وأدخلهم الجنة. وكذلك أصحاب المشأمة فهم أصحاب جهة الشمال التي فيها الأشقياء، وهم الذين يؤتَون صحائفهم بشمائلهم، ويساقون إلى النار، وهم أصحاب الشؤم على أنفسهم وعلى غيرهم في الدنيا والآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 هذا إضافة إلى التناسب اللفظي، فالعمل والوصف والجزاء كله (مفعلة) فالذين يطعمون في يوم ذي {مَسْغَبَةٍ} يتيماً ذا {مَقْرَبَةٍ} أو مسكيناً ذا {مَتْرَبَةٍ} ويتواصون بـ {بالمرحمة} أصحاب {الميمنة} . ومقابلهم من الكفار أصحاب {المشأمة} . فاقتضى المقام هذا الاختيار من كل جهة. وقد تقول: ولِمَ جاء في آية الكفار بضمير الفصل، فقال: {والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ المشأمة} ولم يأت به مع المؤمنين؟ والجواب: أن المذكورين من المؤمنين هم من أصحاب الميمنة، وليسوا أصحاب الميمنة على جهة القصر فهناك أصحاب ميمنة غيرهم فإنه لم يذكر مثلاً: الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أو الذين آمنوا وتواصوا بالحق، أو الذين آمنوا وتواصوا بالجهاد، أو الذين آمنوا وتواصوا بالدعوة إلى الله، فكلُّ هؤلاء من أصحاب الميمنة. بل ربما كان من أصحاب الميمنة من لم يتواص بصبر ولا مرحمة أصلاً من عامة المسلمين، وقد قال تعالى في سورة التين: {إِلاَّ الذينءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين: 6] ولم يذكر تواصياً بشيء. أما الذين كفروا فهم أصحاب المشأمة حصراً، ولا يخرجهم منهم وصفٌ آخر أو عمل آخر إذا بقوا على كفرهم. جاء في (روح المعاني) : إنه "جيء بضمير الفصل معهم لإفادة الحصر". فكان ذكر ضمير الفصل في آية الكفار، وعدم ذكره في آية المؤمنين هو المناسب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ} . ومعنى الآية: إنها عليهم "مُطبقةٌ فلا ضوءَ فيها، ولا فُرَج ولا خروج منها آخر الأبد". وههنا سؤالات: لِمَ قدم الجار والمجرور: {عَلَيْهِمْ} ولم يؤخرهما؟ ولِمَ قرئت {مُّؤْصَدَةٌ} بالهمز؟ وما الفرق بينها وبين عدم الهمز؟ ولِمَ لم يقل كما قال في سورة الهمزة. {فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} ؟ ولِمَ ذكر جزاء الكافرين، ولم يذكر جزاء المؤمنين؟ أما تقديم الجار والمجرور فقد يظن ظانٌّ أنه لفاصلة الآية، فإن كلمة (مؤصدة) هي المناسبة لخواتم الآي: المسغبة، المقربة، المتربة، المرحمة، المشأمة. ولو قال: (نار مؤصدة عليهم) لم يكن مناسباً. وهذا صحيح فإنه لو أخر الجار والمجرور لم يناسب خواتم الآي، غير أن المعنى يقتضي ذلك أيضاً، فإن التقديم ههنا يفيد الحصر، فإن النار مؤصدة على الكافرين لا يخرجون منها أبداً. أما غير الكافرين من عصاة المؤمنين، فقد يخرجون منها بعد أن ينالوا عقابهم، فهي إذن مؤصدة عليهم حصراً ولو قال: (نار مؤصدة عليهم) لم يفد الحصر بل لأفاد أنها مؤصدة عليهم، وقد تكون مؤصدة على غير الكفار أيضاً، وهو غير مراد. أما قراءة الهمز في (مؤصدة) فإنها قرئت أيضاً (موصدة) بغير الهمزة. وقد يظن ظان أن التخفيف أولى لأنه من (وصد) و (أوصد) . والحق أنهما لغتان: أصد ووصد، يقال: أصد الباب وآصده وأوصده، إذا أطبقه وأغلقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 جاء في (لسان العرب) : "أصد البابَ أطبقه كأوصده إذا أغلقه ومنه قرأ أبو عمرو: إنها عليهم مؤصدة بالهمز أي مطبقة". وجاء في (روح المعاني) : "مؤصدة مطبقة من آصدت الباب، إذا أغلقته وأطبقته، وهي لغة قريش على ما روي عن مجاهد.. ويجوز أن يكون من (أوصدته) بمعنى غلقته أيضاً وهمز على حد من قرأ بالسؤق مهموزاً، وقرأ غير واحد من السبعة، موصدة بغير همز فيظهر أنه من أوصدت.. والمراد مغلقة أبوابها، وإنما أغلقت لتشديد العذاب والعياذ بالله تعالى عليهم". أما اختيار الهمز، فله دلالته ذلك أن الهمزة حرف ثقيل شديد، وهي على كال حال أثقل من الواو فاختار الهمزة على الواو لثقلها وشدتها، لأن الموقف شديد وصعب، فهي المناسبة لثقل ذلك اليوم وصعوبته وشدته قال تعالى: {وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [الإنسان: 27] ، وإنَّ النُّطقَ بها لثقيلٌ، فإذا قال (مؤْ) كان كأنَّ الشخصَ يعاني من أمر ثقيل. فهي أنسب وأدَلّ على الكرب والثقل من التسهيل والنطق بالواو. وهو المناسب أيضاً لجو المكابدة والشدة والقوة في السورة. والله أعلم. أما السؤال الثالث وهو: لماذا لم يقل كما قال في سورة الهمزة: {فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} فذلك له أكثرُ من سبب، وكلُّ تعبير هو أليقُ بمكانه من نواح عدة منها: 1- إنه توسع في سورة الهمزة في ذكر صفات المعذَّب وتوسع في ذكر العذاب فقال: {ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الذى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الحطمة * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحطمة * نَارُ الله الموقدة * التي تَطَّلِعُ عَلَى الأفئدة * إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} [الهمزة: 1-9] . فقال في ذكر صفات المعذَّب، أنه هُمَزة لُمَزة، وأنه جمع مالاً وعَدّدة، يحسب أن ماله أخلده، في حين لم يزد في سورة البلد على قوله: {والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا} . ولما توسع في صفات المعذب توسع في ذكر عذابه، فقال: {كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الحطمة * وَمَآ أَدْرَاكَ ... } . فناسب ذلك ذكر الزيادة في سورة الهمزة دون سورة البلد. 2- إنه ذكر في أول الهمزة {ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} فدعا عليهم بالهلاك الدائم الذي لا ينقطع. ورفعُ (الويل) يفيد الثبوت، فناسب الدلالة على الدوام، أن يقول: {إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} للدلالة على الاستيثاق من غلق الأبواب عليهم. 3- ذكر في سورة الهمزة أن هذا الكافر يجمع المال ويعدده، ويحفظه فكما حفظ المال وجمعه وأغلق عليه الأبواب، واستوثق من حفظه أغلقت عليه أبواب جهنم واستوثق منها بأنها مُدّت عليهم الأعمدة. فناسب الاستيثاق من حفظ المال وإيصاد الأبواب عليه الاستيثاقَ، وإطباقَ الأبواب عليه في النار. في حين أنه ذكر في سورة (البلد) أنه أهلك مالاً لُبداً. فذلك أهلكَ المالَ وأنفقه، وهذا جَمَعَ المال وحفظه، فناسب ذكر الحفظ وشدة الاستيثاق في سورة الهمزة الاستيثاق من غلق باب النار عليه، والجزاءُ من جنس العمل. 4- ذكر في سورة الهمزة أن هذا الكافر يحسب أن ماله أخلده في الدنيا وأبقاه، وأنه لا يفارقها، فعوقب بذلك بالخلود في النار، وإطباق أبوابها عليه والاستيثاق بالعمد الممدّدة عليها، للدلالة على خلوده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 في النار أبد الآبدين. فحسبانه الخلود في الدنيا مقابل لحقيقة الخلود في النار. فهناك ظَنٌّ وهنا يقين. وهناك خلود مظنون في الدنيا وهنا خلود واقع حقيقة في النار. 5- ذكر في سورة الهمزة أن هذا الكافر يتعدى على الآخرين، فهو لم يكفّ أذاهُ عنهم، ولم يَنَلْهُمْ من خيره شيء، فهو يهمزهم ويلمزهم ويمنع خيره عنهم، فلم ينفق من ماله شيئاً. فلما اعتدى على الآخرين وآذاهم انبغى له الحبس لتخليص الناس من شره وعدوانه. والمحبوس تُغلق عليه أبواب الحبس ويُستوثق من إغلاقها وعدم فتحها لئلا يخرج منها. فناسب ذلك زيادة الاستيثاق بالعمد الممدة على الأبواب لئلا تفتح. في حين لم يذكر في سورة البلد سوى الكفر بآيات الله، ولم يذكر أنهم تعدّوا على الآخرين. 6- إن المعذبين في سورة الهمزة كفار وزيادة، فهم: 1- كافرون. 2- يتعدون على الآخرين بالهمز واللمز والسخرية والتكبر. 3- أنهم جمعوا الأموال ولم ينفقوها. 4- يحسبون أن الأموال تُخَلِّدهم في الدنيا. في حين لم يذكر في سورة البلد إلا الكفر. فأولئك كفار وزيادة في العدوان، فاقتضى ذلك الزيادة في تعذيبهم وحبسهم. فانظر كيف ناسب كل تعبير موطنه. ولو جُعلت الزيادة في سورة البلد لم تَحْسُن كما هو ظاهر. وأمّا السؤال الأخير وهو: لماذا ذكر جزاء الكافرين ولم يذكر جزاء المؤمنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 فالجواب عنه أن ذلك لمناسبة ما ذكر في أول السورة من خلق الإنسان في كبد، فلم يناسب ذلك ذكر النعيم وإنما الذي يناسبه ذكر الجحيم وما فيه من مشقة. جاء في (روح المعاني) : "وصرح بوعيدهم ولم يصرح بوعد المؤمنين، لأنه الأنسب بما سِيقَ له الكلامُ والأوفقُ بالغرض والمرام". ثم انظر بعد ذلك إلى هذه السورة المحكمة النسج، كيف وضعت تعبيراتها لتؤدي أكثر من معنى. فـ {لاَ أُقْسِمُ} تحتمل النفي والإثبات. و {حِلٌّ} تحتمل الحالّ والمستَحَلّ والحلال. و {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} تحتمل العموم والخصوص من آدم وذريته أو إبراهيم وذريته أو الرسول وآبائه. وغير ذلك على وجه العموم. و"الكبد" تحتمل المكابدة والمعاناة، وتحتمل القوة والشدة، وتحتمل استقامة الجسم واعتداله وغير ذلك. و {أَيَحْسَبُ} تحتمل العموم والخصوص، فهي تحتمل كل إنسان، وتحتمل إنساناً معيناً تشير إليه الآية. و {أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً} تحتمل أكثر من معنى، فهو قد يكون أنفقه في المفاخر والمكارم والمباهاة. وتحتمل الإنفاق في عداوة الرسول، وتحتمل غير ذلك. وتحتمل الكذب فلم ينفق شيئاً، وإنما هو ادعاء محض. و"اللَّبد" تحتمل الجمع وتحتمل المفرد، فعلى الجمع تكون جمع (لُبدة) كنقطة ونقط، وخطوة وخطى. وعلى المفرد تكون صفة كَحُطَم ولُكَع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 و"النجدان" يحتملان طريقي الخير والشر، ويحتملان الثديين وكلاهما هدانا ربنا إليهما. و (لا) في قوله: {فَلاَ اقتحم العقبة} تحتمل النفي والدعاء، وتحتمل المضي والاستقبال. و {العقبة} تحتمل أموراً كثيرة، ذكر قسم من المفسرين: أنها في الآخرة. وقال آخرون: هي في الدنيا. وقيل: هي جبل في جهنم، وقيل: هي عقبة بين الجنة والنار. و {فَكُّ رَقَبَةٍ} يحتمل العتق وغيره من فك المغارم والديون وغيرها. و {أَصْحَابُ الميمنة} تحتمل أصحاب جهة اليمين. وأصحاب اليمين، وأصحاب اليُمن ضد الشؤم. و {المشأمة} كذلك. فانظر كيف وضعت تعبيراتها للاتساع في المعاني. والملاحظ في هذه السورة أن فيها خطوطاً تعبيرية ومقامية واضحة أشرنا إليها. منها: خَطُّ المكابدة التي تدل عليه الآية {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} . وخط العموم والاتساع في المعنى وهو الذي بَيَّناه آنفاً. وخط الاجتماع الذي ذكرناه في قوله: {أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً} . وخط الصبر الذي دل عليه قوله: {وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} . وخط المرحمة الذي دل عليه قوله: {وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة} . فانظر أيّ إحكامٍ في النسج، وأيّ دقة في التعبير هذا الذي بين الدفتين! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 مراجع الكتاب - الإتقان في علوم القرآن لجلال الدين السيوطي، ط3، 1370هـ - 1951م، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر. - أساليب القسم في اللغة العربية، كاظم فتحي الراوي، مطبعة الجامعة، بغداد، 1397هـ/ 1977م. - أنوار التنزيل، القاضي البيضاوي، المطبعة العثمانية 1305هـ. - البحر المحيط لأبي عبد الله بن يوسف الشهير بأبي حيان، ط1، سنة 1328هـ، مطبعة السعادة بمصر. - بدائع الفوائد لابن القيم، إدارة الطباعة المنيرية. - البرهان في علوم القرآن، لبدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، ط1، 1376هـ/ 1957م. دار إحياء الكتب العربية. - تاج العروس شرح القاموس لمحمد مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدي، منشورات مكتبة الحياة، بيروت، تصوير الطبعة الأولى بالمطبعة الخيرية، بمصر سنة 1306هـ. - التبيان في أقسام القرآن، لابن القيم، دار الكتب العلمية، بيروت، 1982م/ 1402هـ. - التعبير القرآني، د. فاضل صالح السامرائي، دار عمار للنشر والتوزيع، عمان - الأردن 1998م. - التفسير القيم لابن القيم، جمع محمد أويس الندوي، مطبعة السنة المحمدية، 1386هـ/1973م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 - التفسير الكبير لفخر الدين الرازي، المطبعة البهية، مصر. - تفسير ابن كثير، طبع بدار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه. - حاشية السيد الشريف ابن الحسن الجرجاني على الكشاف، طبعت مع الكشاف. - الخصائص لابن جني، تحقيق محمد علي النجار، مطبعة دار الكتب المصرية. - درة التنزيل وغرة التأويل للخطيب الإسكافي، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت ط1، 1393هـ/ 1973م. - روح المعاني في تفسير القرآن الكريم لشهاب الدين السيد محمود الألوسي، إدارة الطباعة المنيرية، دار إحياء التراث العربي. - شرح شافية ابن الحاجب لرضي الدين الاستراباذي، تحقيق محمد محيي الدين وجماعة ط1، 1358هـ/1939م، مطبعة حجازي بالقاهرة. - شرح المفصل للزمخشري لموفق الدين ابن يعيش، طبع ونشر إدارة الطباعة المنيرية. - فتح القدير للشوكاني، ط1، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1340هـ. - القاموس المحيط لمجد الدين الفيروز أبادي، ط5، شركة فن الطباعة، مصر. - كتاب سيبويه مصور على طبعة بولاق، نشر مكتبة المثنى ببغداد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 - الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، لجار الله الزمخشري، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، بمصر، سنة 1368هـ/ 1948م. - لسان العرب لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور المصري، مصور على طبعة بولاق. - معاني الأبنية في العربية، الدكتور فاضل صالح السامرائي، ط1، دار عمار للنشر والتوزيع، عمان، الأردن. - معاني القرآن لأبي زكريا يحيى بن زياد الفراء، مطبعة دار الكتب المصرية للتأليف والترجمة، 1374هـ/ 1955م. - معاني النحو، الدكتور فاضل صالح السامرائي، ط1، مطابع دار الحكمة للطباعة والنشر الموصل، دار الفكر، عمان، الأردن. - مغني اللبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام الأنصاري، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. - المفردات في غريب القرآن لأبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني، طهران. - ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل، لأبي جعفر بن الزبير الغرناطي، تحقيق الدكتور محمود كامل أحمد، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، 1405هـ/ 1985م. - النهر الماد من البحر المحيط لأبي حيان طبع بهامش البحر المحيط لأبي حيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287