اسم الكتاب: محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء المؤلف: أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى (المتوفى: 502هـ) الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم - بيروت الطبعة: الأولى، 1420 هـ عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء الراغب الأصفهاني اسم الكتاب: محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء المؤلف: أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى (المتوفى: 502هـ) الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم - بيروت الطبعة: الأولى، 1420 هـ عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الجزء الاول بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الراغب الأصفهاني وكتابه «محاضرات الأدباء» بقلم: الدكتور عمّر الطبّاع تعدّدت ينابيع عرفانه، وتنوّعت مناهل علومه وموارد آدابه، وتشعّبت مذاقاته الفكريّة، حتّى شملت جملة ثقافات عصره الأصيلة والدخيلة، فكان طويل الباع في آداب العربية- لغة وبيانا ورواية وقصصا وشعرا ومثلا- كما كان عميق الاطلاع في المعارف الدينيّة الإسلامية- حديثا وفقها وعقيدة وتفسيرا-. ولئن توزّعت ملكاته بين هذين الاتجاهين الرئيسين من اتجاهات التراث فقد كان مشدودا إلى جداول شتّى من ثقافات اليونان والهند وفارس، والتي كانت قد تآلفت بأسباب التمازج الحضاري والتفاعل البيئي، وبفضل النّقلة وحركة النقل الواسعة، لتناسب بقوّة وزخم في خضم نهر المعارف العربية الدافق والذي كان يتّسع ويمتد ويعمق غوره، وتصطخب أثباجه ولججه، منذ مشارف دولة العبّاسيين على اختلاف أعصرها، وتعدّد أصقاعها، حتّى زمن السلاجقة وحملة الصليبيين، بين بدايات القرن الخامس ونهايات القرن السابع الهجريين. ذاك هو العلّامة الفذّ الباحث والمؤلف والمصنّف المعروف ب «الراغب الأصفهانيّ» . هو الحسين بن محمّد بن المفضّل، باتفاق جلّ المؤرخين، أو الفضل في بعض النّصوص والروايات. وذهب السيوطي إلى أن اسمه هو الفضل بن محمّد. وقد اشتهر بلقبه الراغب الأصفهانيّ في المصادر والمراجع القليلة التي عنيت بأخباره وآثاره، كما كنّي بأبي القاسم. ولعلّ السيوطي في «بغية الوعاة» ، والذهبي في «طبقات المفسّرين» ، في القديم، وبروكلمن في «دائرة المعارف الإسلامية» وجرجي زيدان في «تاريخ آداب اللغة العربية» حديثا، هم الذين ألقوا الضوء على شخصية الراغب ونتاجه مما دفعنا إلى التساؤل عن أسباب إغفال سيرته ودرسه من قبل مؤرخين مرموقين كبار، من أمثال ياقوت وابن العماد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الحنبلي وغيرهما، في الوقت الذي رحبت فيه موساعاتهم أو معاجمهم بأعلام أقلّ منه نباهة وأقصر، في حقل التأليف، باعا. بسبب هذا الصدوف عن احتضان الراغب الأصفهاني الرجل والعالم، وجدنا أنفسنا نفتقر إلى كثير من الأرقام والأخبار التي من شأنها تحديد المحطّات الهامة في تاريخ حياته، والخطوط الرئيسة من سيرته، بين الولادة وعهد الطلب وعهد الأستاذية، لمعرفة كبار شيوخه وبالتالي تلامذته، وغير ذلك من وقائع تلك الحياة وروابطها الاجتماعية والسياسيّة. وأيّا كانت طبيعة المعطيات الكامنة وراء افتقادنا آثار أقدام الراغب الأصبهانيّ فوق رمال عصره، فنحن نستطيع أن نرسم صورة لكثير من معالم تلك الأقدام الضائعة في ضوء أحداث القرن الخامس الهجري والإحاطة بظروفه وأحواله على كافة الصعد سياسيا واجتماعيا وفكريا: لقد شهد عصر الراغب الأصفهانيّ، من الناحية السياسية حدثين كبيرين في فترتين متباعدتين: أما الأول فهو ظهور مملكة السلاجقة في أواسط تركستان والغرب لتشتمل منذ نهاية العقد الثالث من القرن الخامس أي حوالي سنة 430 هـ (1038 م) على رقعة واسعة من البلدان، من أرض الصين وأفغانستان في شرقي آسيا إلى كردستان والعراق والشام لجهة الغرب. أما الحدث الثاني الذي أشرنا إليه فهو حملة الصليبيين التي انطلقت من أوروبا غربا إلى بيت المقدس في فلسطين مكتسحة الشام من أعاليها وصولا إلى مصر. ويتضح للمتأمل في حياة الراغب أنها ظلّلت جميعا بحكم السلاجقة ولكنّها لم تعاصر حرب الصليبيين إلا في السنوات الاثنتي عشرة التي سبقت وفاته، ومعلوم أن الراغب مات سنة 502 هـ (1108 م) ، وأن دولة الصليبيين أرسيت مدامكها الأولى سنة 492 هـ (1098 م) . ولئن كان التمهيد لكتاب من آثار الراغب لا يسمح لنا بأن نتبسط في درس ظروف بيئته العامّة والخاصّة إبّان القرن الخامس الهجري، إلا أننا نقف عند بعض الوقائع الكبرى في سياق العصر انطلاقا من بدايات العقد الخامس أي في حدود السنة 444 هـ، ولا ندري هل كان الراغب آنذاك قد أبصر نور الحياة أم أن ولادته كانت بعد هذا التاريخ؟ ففي السنة المذكورة كما يذكر الذهبي في تاريخه «1» ذرّت الفتن المذهبية قرنها في بغداد، ولا سيّما في الكرخ، وجرت تصادمات بين فئات متناوئة فكان قتال وحملات ومناوشات وشبّت نيران ووقعت الضحايا من كل فريق. وفي هذا العام بالذات لم تقتصر الفتن على داخل البلاد بل بدأت الغارات على جهات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 شتّى من العراق بين السلاجقة الغزّ وأنصار الغزنويّ. وكان من نتائج هذه الحروب تقدّم الطلائع السلجوقية نحو الحواضر العراقية. وفي العام 440 رافق وفاة أبي العلاء في المعرّة دخول المصريين إلى حلب بعد أن عجز صالح بن مرداس عن الثبات، والبلاد تعاني قحطا وأزمات اجتماعية، كما حصدت الأوبئة في بلاد ما وراء النهر نحو مليون ونصف من أهاليها. وفي حدود السنة 456 بسط السلطان طغرلبك السلجوقي ملكه على العراق بعد بلاد الريّ ونيسابور، وانتصر للشافعيّة، كما حلّ ألب أرسلان من سلاطين سلجوق على هراة وتقدّمت جيوشه إلى أذربيجان كما غزا العديد من حصون الروم قبل عودته إلى أصبهان. ومن أبرز مظاهر الفكر في سياق حياة الراغب الأصفهاني قيام المدرسة النظامية ببغداد وانتداب مشاهير العلماء للتدريس فيها. ونظامية بغداد، هي التي احتضنت الغزالي يافعا في عهد الطلب وعالما قطبا في عهد الأستاذية. وفي السياق عينه امتدت الحركة الإسماعيلية إلى الشام واشتد الصراع بينهم وبين السلاجقة بين كرّ وفرّ في العديد من النواحي والمدن، بينما كانت جيوش الفرنج تستولي على مدن الساحل بين طرابلس وبيروت. وفي السنة التي مات فيها الراغب كان الملك بغدوين يحاصر مدينة صور. وصادف موته موت الإمام أبي حامد الغزالي. ولئن كان عصر الراغب قاتما في العديد من النواحي العامّة السياسية والإدارية والاجتماعية ولا سيما من حيث اتساع رقعة الفتن الدينية، فهو في جانب آخر كان عصر ازدهار علمي وأدبي، من أبرز معالمهما قيام المدارس النظاميّة ونبوغ عدد كبير من العلماء والباحثين واهتمام الأدباء بالتأليف في شتّى حقول الأدب، وظهور المعاجم التاريخية والجغرافية والأدبيّة. عاصر الراغب الأصبهاني من الشعراء أبا العلاء المعري (449 هـ 1057 م) وابن سنان الخفاجي (466 هـ 1073 م) ، وابن حيوس (473 هـ 1080 م) من شعراء الشام؛ والطغرائي (514 هـ 1120 م) من شعراء العراق وأعالي الجزيرة، وابن الهبارية (509 هـ 115 م) وأبو إسحاق الغزاليّ (524 هـ 1129 م) وابن عبدون (520 هـ 1126 م) ، وابن خفاجة من شعراء الأندلس. ومن معاصريه الذين كانوا أقطاب العلوم اللغوية والأدبية: التبريزي (502 هـ 1108 م) ، والحريري صاحب المقامات (516 هـ 122 م) ، وابن الشجري الشريف أبو السعادات (542 هـ 1147 م) ، وعبد القاهر الجرجاني (471 هـ 1078 م) ، والزوزني شارح المعلّقات (486 هـ 1093 م) ، والميداني صاحب مجمع الأمثال (518 هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 1124 م) ، وأبو القاسم الزمخشري الموسوعي (538 هـ 1141 م) صاحب التصانيف البارعة في اللغة والبيان والتفسير والحديث، وغير هؤلاء العشرات من المؤرخين وأرباب اللغة وكبار النحاة في أقطار العالمين العربي والإسلامي، وهو ما لا يتسع هذا المجال لتعدادهم والتنويه بآثارهم ومآثرهم. كان من الطبيعي أن يتحفنا الراغب الأصفهاني بعدد لا يستهان به من المؤلّفات والتصانيف في العديد من حقول الفكر والأدب، بمؤثّرات شتّى تمخضّت عن التفاعل العميق، بين الأقاليم الإسلامية آنذاك، وهو الامتزاج الذي كان يتجاوز نطاق الإدارة والسياسة إلى ضرب من التلاقي الثقافي النشيط والتكامل الحضاري الدائب، اللذين تمخّض عنهما العدد الهائل من الدراسات والأبحاث والمختصرات، فضلا عن المعاجم، وبالتالي دوائر المعارف والموسوعات. ليس بعيدا أن يكون الزمن قد أضاع في ثناياه عددا من تآليف الراغب، لأنه إذا فات أقطاب التاريخ الأدبي الالتفات إلى شخصيّته أو حملهم على إهماله باعث من عصبيّة أو ذريعة من حميّة مذهبية أو دينيّة، فليس ببعيد أن تطمس أعماله بجريرة الرغبة في تقليص أثره وحجمه. ولم يكن التأريخ في أي حقبة من الزمن في منأى عن مثل تلك الأهواء والميول والأغراض، المخالفة للتاريخ كعلم، والتي هي من أغلاط المؤرخين التي نبّه إليها العلماء وعلى رأسهم ابن خلدون في مقدّمته الشهيرة. وفي اعتقادي أن الراغب الذي نسب عند فريق إلى مذهب المعتزلة، قد أجحف حقّه من قبل الدارسين الذين كانوا يرفعون راية السلفيّة ويحاربون ما اعتبروه بدعة في الاجتهاد وحكموا عليه بالبطلان، ولا ينفي ما ذهبنا إليه كون بعض العلماء أمثال الرازي في كتابه «أساس التقديس» قد قال بأن الراغب من المحافظين وأنه كان من أهل السنة. وبعد جلاء هذه الظاهرة والتنبّه إلى احتمال وقوع الراغب ضحية مغالطات المؤرخين وخروجهم عن أسس الموضوعية والصدق، نشير إلى أنّ ما ذكر من آثار أبي القاسم موضوع هذه التوطئة يمكن إدراجه في جدولين من جداول مفردات التراث الأدبي والديني، عنيت ما هو ملحوظ في باب المخطوطات، وما هو موصوف في باب المطبوعات. فمن كتبه التي لا تزال مخطوطة: أ- حلّ متشابهات القرآن. ب- تحقيق البيان وهو كتاب في اللغة والحكمة «1» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 د- كتاب في الاعتقاد هـ- كتاب في أدب الشطرنج، محفوظ في قاشان، تحت عنوان: [170/94 L Menzel isl LL] . أما كتب الراغب المطبوعة، كما وردت في قاموس تراجم «الأعلام» للزركلي، فهي: أ- الذريعة إلى مكارم الشريعة. ب- جامع التفاسير. ج- المفردات في غريب القرآن. د- تفصيل النشأتين. هـ- كتاب «محاضرات الأدباء» الذي تجدّد دار الأرقم اليوم طبعته، بعد مرور نحو قرن على نشر مختصره بالقاهرة عام 1902، ولنا عودة ثانية إلى هذه المطبوعة. وبالرجوع إلى ترجمة الراغب في دائرة المعارف الإسلاميّة، يطلعنا بروكلمن على تفاصيل أشمل وأكثر دقّة تتصل بمجموعة هذه المؤلفات، حرصنا على إثبات ما رأيناه ضروريا منها، لمزيد من الإحاطة بعلم الراغب وأدبه. ولهذا نحن نضع بين يدي الباحث الإلماعات التالية: أ- يعتبر بروكلمن أن طليعة الدراسات التي قام بها الراغب كانت تدور حول تفسير القرآن الكريم وتعاليمه في التهذيب وهي «رسالة منبهة على فوائد القرآن» قيل إن البيضاوي نقل عنها في التفسير المعروف باسمه. ويرجّح بروكلمن أن الرسالة المذكورة هي عينها التي طبعت بالقاهرة سنة 1329 هـ (1911 م) ذيلا لكتاب «تنزيه القرآن عن المطاعن» لعبد الجبّار، وهي كذلك الرسالة التي تعرف باسم «مقدّمة التفسير» . ب- أما كتاب «مفردات ألفاظ القرآن» فهو من المعاجم التي ترتّب القرآن على حروف الهجاء، ولهذا الكتاب مخطوطات شتّى في استانبول [ (L Le Monde Oriental LL (7/106- 127) ] ، وفي بنكيبور برمز L Cat LL (18/1484) . وهذا الكتاب مطبوع في القاهرة سنة 1322 هـ (1907 م) بعنوان «مفردات في غريب القرآن» ، على هامش كتاب ابن الأثير المعروف باسم «النهاية» . ويشير إلى بروكلمن إلى أن الراغب أشار في مقدمة كتابه هذا إلى كتاب آخر كان يخطط له بعنوان: «في مترادفات القرآن» . ج- ويفهم من سياق ترجمة الراغب في دائرة المعارف الإسلامية أن كتاب «الذريعة إلى مكارم الشريعة هو المعنيّ بكتاب الراغب الكبير في الأخلاق وأنه لنفاسته وأهمية مضامينه، كان الإمام أبو حامد الغزالي «يحمل دائما نسخة» منه. ولهذا الكتاب مخطوطات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 محفوظة في المتحف البريطاني وفي مكتبة استانبول «1» ، فضلا عن طبعته الصادرة في القاهرة 1299 هـ (1882 م) . د- ويعتقد بروكلمن أن كتاب «تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين» - الذي طبعه طاهر الجزائري في القاهرة، نقلا عن مخطوظ بيت المقدس الموجود في المكتبة الخالدية (تحت رقم 72) ، مماثل في موضوعه، وبالتالي غير بعيد في مضمونه عن الكتاب أعلاه، وهو الذريعة إلى مكارم الشريعة. وتبقى لنا إلمامة وافية بكتاب الراغب الذي نقدّم له وهو «محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء» . كان الراغب الأصفهاني، مثقفا متوازن الأبعاد الثقافية والفكريّة، وكانت شخصيته كمؤلف ذات مرتكزات ثلاثة فهو في الآن نفسه الفقيه والمتكلّم والأديب. ولهذا خاض في مسائل الشريعة والعقيدة والأخلاق، ومزج الأدلة الدينيّة بالأدلة العقلية وكتابه «تحقيق البيان» المنوّه به في مقدّمة «كتاب الشريعة» كما يقول بروكلمن يعتبر كتابا في اللغة والكتابة والأخلاق والعقائد والفلسفة وعلوم الأوائل. إلا أن أهم أثر للراغب الذي من شأنه الكشف عن شخصية الأديب الناقد فهو كتابه «محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء» وهو أشبه بالكتاب الموسوعي الغنيّ بالشفافيّة الأدبيّة والذوق الشعري، وروح الكاتب الذي يجيد أساليب التصنيف وطرق العرض والتبويب، والذي لا تحوجه المنهجيّة العلميّة ولا أداة التقسيم المنطقي؛ يستمدها- ولا ريب- من زاد معرفي واسع، وإلمام بمصادر شتّى أدبيّة وفلسفيّة. وخير دليل على هذه المقولة ما أورده الراغب نفسه في مقدّمة كتابه ذاكرا أنه استجاب في وضعه لرغبة من ينعته بقوله: «سيّدنا» ، دونما تحديد أو تركيز أو وصف. ولا نستيطع نحن التكهن بصاحب السيادة الذي أحبّ أن يختار له الراغب هذه الفصول «في محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء» من «نكت الأخبار وعيون الأشعار» ، ليغدو الكتاب «صيقل الفهم ومادة العلم» . والدّارس للمقدمة التي صدّر بها الراغب كتابه، والمتأمل في أبواب الكتاب وفصوله والتي استعاض فيها عن التقسيم المألوف بمصطلح «الحدّ» ، فجعل كتابه «خمسا وعشرين حدا» جامعة لمسائل العقل والعلم والجهل والسيادة والعدل والأخلاق والقرابة وأنواع المروءات والعرفان والعقوق، انطلاقا إلى الصناعات ومسائل الإيمان ومرابع العطاء والجود، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وما يدور في فلكها من الكلام على الأطعمة والمشارب، تخلصا إلى الندماء ومجالس اللهو والغناء، انعطافا إلى مراتع الوجدان في دائرة الغزل والهوى والعشق، دون أن يسقط من ثنايا كتابه فضيلة الشجاعة وما كان يدور في فلكها من مواقف الحرب والصلح والثأر ودفع الديات عند العرب، معرّجا إلى موضوع الزواج وحيثيّاته وسياسة الرجل المرأة ومسائل الغيرة والطلاق. ويستكمل الراغب فيما تبقى من هاتيك الحدود كلّ ما يمسّ واقع الإنسان في بيته وديانته فيتحدث عن الرياش والملابس والعبادات ويخوض في مسائل العقيدة فيشتمل عرضه على قضايا الإيمان والزهد والتصوف والنبوّة مرورا بالإسلام والقرآن وأسباب التنزيل. ويتبع شؤون الحياة بالكلام على الموت، ويجول عبر الزمان والمكان فيلوّن كتابه بزخارف شيّقة تنساب عبر فصول الطبيعة ونباتها وأزاهرها وحيوانها من وحش وطير وهوام، ثم تراه يذهب بعيدا فيحدث عن الأفلاك والنجوم والسحب انتهاء إلى جملة من النوادر والحكم. فكتاب «المحاضرات» وجه يكاد يكون فريدا في بابه بين كتب الطرائف والحكايات، لأنه يمتاز بالشمولية والعمق وتلفّه روح العلم وتهيمن عليه هواطل من معطيات الوجدان والعقل. إنّه بحقّ سفر جامع بين الجدّ واللهو والأخبار والملح الأدبية وكأن الراغب يحدّد به صفات النديم وثقافته إذ يقول: «ومن لا يتحلّى في مجلس اللهو إلا بمعرفة اللغة والنحو كان من الحصر صورة ممثلة أو بهيمة مهملة. ومن لا يتتبع طرفا من الفضائل المخلدة على ألسنة الأوائل كان ناقص العقل. فالعقل نوعان: مطبوع ومسموع، ولا يصح أحدهما إلا بالآخر» . وكأني بكتاب المحاضرات كما أراده الراغب، قمة أدب المؤانسة والمجالسة حتى عصره وفي ضوئه وضع شهاب الدين الأبشيهي كتابه «المستطرف في كل فن مستظرف» وفي بابه نجد «طرف الألباب وتحف الأحباب» لليافعي و «طرف المجالسة وملح المؤانسة» لابن المرابط وعشرات التصانيف المماثلة. والكتاب فضلا عمّا تقدّم معرض فكري شيّق لم يدع مفردة من مفردات الواقع الإنساني، إلا تتبعه في دواوين الشعراء وكتب الأمثال وخواطر الحكماء والأدباء، وهو يتميّز بالطلاوة والإيجاز والبعد عن الهذر، مع أمانة في العرض، وروح واقعية، تجعله في منأى عن أي إسفاف أو تبذل، وبعيدا أيضا عن التلفيق أو التصنع فهو لا يتستر على عيب، ولا يتردد في سوق الشواهد على ما فيها أحيانا من الركة أو السخرية أو الابتذال والبذاءة، ما دامت ترمي إلى الإمتاع والمصارحة والمكاشفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 إن كل إسهاب في وصف مضامين كل حدّ من ماهيات تلك الفصول يصبح ضربا من اللغو والإطالة الباعثة على الإملال، ما دام الكتاب بين أيدينا وهو خير مترجم عن أدب صاحبه وأسلوبه وذائقته الفنيّة وعلو كعبه في العلوم والآداب والخبرة في طبائع الإنسان وملكاته وما فيه من الكياسة والظرف والملاحظة النفسيّة. إن النسخة التي انطلقنا منها في تحقيق جزئي هذا الكتاب ترتقي إلى العام 1326 هـ (1908 م) ، وقد تكبّدنا في قراءتها وتصويبها والتغلّب على عثرات الطبع فيها- وهنات الطباعة القديمة وإهمال الضوابط على اختلافها- الكثير من العناء، وإلى درجة الإعياء، وبالرغم من المثابرة والمصابرة والرجوع إلى عشرات المصادر الخاصّة بالشعر لتذليل مواطن الإبهام والغموض المتفشيّة في نسخة الكتاب، لا يسعنا مع ذلك، إلا الاعتذار عمّا يكون قد فاتنا من تقصير أو ضبط أو تحديد لبعض العبارات والشواهد. وفيما خلا ما تقدّم يبقى كتاب المحاضرات في حلّته الجديدة- وإخراجه وطريقة عرضه وتقسيم كل حدّ من حدوده وإبراز مقاطع كل منها وعناوينها. تجعل منه- ملاذ كلّ قارىء محبّ للأدب ومتذوّق لفنون القول وضروب الكلم وأغراضه. إنّ هذا الكتاب الموسوعة، هو بحق نزهة للعقل والقلب على السواء وزاد لا ينضب من علم الأوّلين وأشعارهم وحكمهم وأمثالهم ومعارفهم. ولئن كانت ألف ليلة وليلة إحدى قمم السرد الشيّق والحكايات الطريفة الجامعة بين الواقع والخيال فكتاب الراغب- «المحاضرات» - رحلة مماثلة ولكنها في عالم الوعي والحقائق والأمثولات والعبر، فهو يضع بين يدينا الأشياء وأضدادها والفكر ونقائضها، ويترك لنا البحث عمّا هو أكثر صدقا وواقعية. لعلّ أمثل ما نقوله في ختام هذا التصدير لتبرير عدم ترددنا عن إحياء قديم التراث الذي يظلّ قادرا على مواكبة الحداثة بما فيه من الإبداع والأصالة على ما في هذه الرسالة من صعاب كلمة العماد الأصفهاني إذ يقول: رأيت إنه لا يكتب إنسان كتابا في يومه إلا قال في غده: لو غيّر هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن ولو قدم هذا لكان أفضل ولو ترك هذا لكان أجمل وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر. إن الكمال لله وحده، وحسب المرء أن يكون صادقا فيما يعمل وفي هذا كلّ الرضى والعزاء، لأن العطاء مشفوعا بالطموح إلى الأفضل، أجدى من النكوص مع التزمّت، وهذا هو معيار الارتقاء الحقيقيّ، ولله الحمد وعليه التّكلان. بيروت في: 18/2/1999 م 2/10/1419 هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 بسم الله الرّحمن الرحيم فاتحة الكتاب بقلم: الراغب الأصفهاني قال الشيخ أبو القاسم الحسين بن محمّد المفضّل الراغب، رحمه الله تعالى: الحمد لله الذي تقصر «1» الأقطار أن تحويه، وتعجز الأستار أن تخفيه، حمدا يقتضي تضاعف نعمائه «2» ويمتري ترادف آلائه «3» . وصلّى الله على من أوضح به الإعلام، وشرع بلسانه الإسلام، منار الهدى وخيار الورى «4» . وبعد: فإن سيّدنا- عمّر الله بمكانه مرابع الكرم، ومجامع النّعم-، أحبّ أن أختار له ممّا صنّفت من نكت «5» الأخبار، ومن عيون الأشعار، ومن غيرهما من الكتب، فصولا في محاضرات الأدباء، ومحاورات الشّعراء والبلغاء، يجعله صيقل الفهم «6» ومادة العلم. ففعلت ذلك إيجابا له إذ قد جعل مراعاة الأدب شعاره ودثاره «7» ، ومحاماة الفضل إيثاره «8» واختياره، وجعل زمام حسبه بكفّ أدبه، وسلك في زماننا طريقا قلّ سالكوه- طرق العلاء قليلة الإيناس «9» . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وقد ضمّنت ذلك طرفا من الأبيات الرائقة، والأخبار الشائقة، وأوردت فيه، ما إذا قيس بمعناه: يكون منه مكان الروح من جسد ... والبدر من فلك والنجم من قطب فإنه ظرف «1» ملىء طرفا «2» ، ووعاء حشي «3» جدا وسخفا، من شاء وجد منه ناسكا «4» يعظه ويبيكه، ومن شاء صادف منه فاتكا «5» يضحكه ويلهيه: فالجدّ والهزل في توشيح لحمتها ... والنبل والسّخف والأشجان والطرب وأعوذ بالله أن أكون ممّن مدح نفسه وزكّاها «6» ، فعابها بذلك وهجاها، وممّن أزرى «7» بعقله، لإعجابه بفعله، فقد قيل لا يزال المرء في فسحة من عقله، ما لم يقل شعرا أو يصنف كتابا. وأولى من يصرف همّته إلى مراعاة مثل هذا الكتاب، من تحلّى بطرف من الآداب، فيصير به طليق اللسان، ذليق البيان «8» ، فكم من أديب تتقاعد بداهة المقال «9» ، في كثير من الأحوال، فلا يجد من فهمه مساعفة «10» ، ولا من علمه مكاتفة «11» ، فيرى في العيّ مثل باقل «12» ، وإن كان في الغزارة سحبان وائل «13» . وقد قيل: خير الفقه ما حاضرت به، ومن لا يتحلّى في مجلس اللهو، إلا بمعرفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 اللغة والنّحو، كان من الحصر «1» صورة مثيلة، أو بهيمة مهملة. ومن لا يتتبع طرفا من الفضائل، المخلّدة عن ألسنة الأوائل، كان ناقص العقل. فالعقل نوعان: مطبوع ومسموع، ولا يصلح أحدهما إلا بالآخر. وقد تحرّيت فيما أخرجته من كلّ باب غاية الاختصار والاقتصار، وأعفيته من الإكثار والإهذار «2» ، لئلا تعاف ممارسته ومدارسته، لكن عظم هذا الكتاب بعض العظم، لكثرة فصوله وتحقيق تفاصيله. وقد جعلت ذلك حدودا وفصولا وأبوابا. وذكرت جملة الحدود والفصول في أوّل الكتاب، ليسهل طلب كل معنى في مكانه. ووضعت كلّ نكتة في الباب الذي هو أليق بها، وإن كان كثير من ذلك يصلح استعماله في أمكنة سهّل الله علينا ما يحمد عقباه «3» ، ووفّقنا في جميع أمورنا لما يرضاه، وجعل خير أعمالنا ما قرب من آجالنا، إنه عليم قدير. نعم المولى ونعم المصير. الحدّ الأول: في العقل والعلم والجهل، وما يتعلّق بها. الأول: العقل والحمق وذمّ اتباع الهوى «4» . الثاني: الحزم والعزم وما يضادّهما، والظنّ والشكّ والتثبّت «5» ، والعجلة. الثالث: المشاورة والاستبداد بالرأي. الرابع: العلم والعلماء مدحا وذما، والحفظ والنسيان. الخامس: التعليم والتعلّم، وما يتعلق بهما. السادس: البلاغة «6» وما يضادّها. السابع: النطق والسماع والمقال والسكوت. الثامن: المذاكرة والمجادلة «7» . التاسع: الشّعر والشّعراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 العاشر: الكتابة والكتّاب. الحادي عشر: التصحيفات «1» . الثاني عشر: آلات الكتابة. الثالث عشر: الصّدق والكذب. الرابع عشر: السرّ. الخامس عشر: النّصح. السادس عشر: المواعظة والمتّعظون، والآمرون بالمعروف، والقصّاص والمفتون. السابع عشر: الخطباء وقرّاء القرآن. الثامن عشر: الفراسة «2» والقيافة «3» . التاسع عشر: تأويل الرؤيا «4» . العشرون: جمل علوم الأمم ورموز العرب. الحدّ الثاني: في السّيادة وذويها وأتباعها: الأول: السيادة والولاية. الثاني: أحوال أتباع السلاطين. الثالث: القضاء «5» والشهادة. الرابع: الحجاب والحجّاب والغلمان. الحدّ الثالث: في الإنصاف والظّلم، والحلم، والعفو، والعقاب، والعداوة، والحسد، والتّواضع والتكبّر: الأول: الإنصاف والظّلم. الثاني: مدح الحلم وكظم «6» الغيظ، والرحمة والعفو، والاستغفار والاعتذار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 الثالث: ذمّ الحلم ومدح العقاب. الرابع: العداوات. الخامس: الحسد. السادس: التّواضع والتكبّر. الحدّ الرابع: في النّصرة والأخلاق، والمزح والحياء، والأمانة والخيانة، والرفعة والنذالة الأول: الجوار والنّصرة. الثاني: الأخلاق الحسنة والقبيحة. الثالث: المزح والضّحك حمدا وذمّا. الرابع: الحياء «1» والوقاحة. الخامس: الأمانة والخيانة السادس: المسابقة إلى المعالي، والرفعة والمجد. السابع: النّذالة والتأخّر عن المكارم والمثالب «2» ، وصيانة النّفس والفتوّة والمروءة. الحدّ الخامس: في ذكر الأبوّة والبنوّة ومدحهما وذمّهما والأقارب الأول: البنون والبنات. الثاني: ممادح «3» الأبوة ومذامها ووصف القبائل. الثالث: الدعوة. الرابع: الأقارب. الحدّ السادس: في الشكر والمدح والذم والاغتياب والأدعية والتهنئة والهدية الأول: في الشّكر. الثاني: المدح ومستحقّوه، والهجو وذووه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الثالث: الغيبة «1» والنميمة «2» . الرابع: التحيّة والأدعية والتّهنئة. الخامس: الدّعاء على الإنسان. السادس: الهدايا. السابع: الطبّ والمرض والعيادة «3» . الحدّ السابع: في الهمم والجدّ والآمال الأول: الهمم «4» الرفيعة والوضيعة. الثاني: الجدّ. الثالث: الأماني والآمال. الحدّ الثامن: في الصّناعات والمكاسب، والتقلّب والغنى والفقر. الأول: الحرفة «5» . الثاني: المبايعة. الثالث: الدّين ومتعلّقاته. الرابع: الإيمان. الخامس: الاكتساب والإنفاق. السادس: مدح الغنى وذمّ الفقر. السابع: الزهد ومدح الفقر وذمّ الغنى. الحدّ التاسع: في العطاء والاستعطاء «6» الأول: قصد أولي الأفضال. الثاني: السّؤال. الثالث: الوعد والإنجاز والمطل «7» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الرابع: الشّفاعات. الخامس: البخل بالأموال. الحدّ العاشر: في الأطعمة والأكلة «1» ، والقرى «2» وأوصاف الأطعمة الأول: ما جاء في أوصاف الأطعمة. الثاني: أحوال الأكل والأكلة والتطفّل «3» . الثالث: الدّعاء إلى الدعوات. الرابع: الأجواد بالقرى. الخامس: في الجود والأجواد. السادس: البخلاء بالقرى. الحدّ الحادي عشر: في الشرب والشّراب وأحوالهما وآلاتهما الأول: الشّرب والشّراب. الثاني: الندام والنّدماء «4» والسقاة.. الثالث: وصف المجالس وأمكنة الشّرب. الرابع: آلات الشرب والمجالس. الخامس: الغناء والمغنّون والملاهي. السادس: آلات الملاهي. السابع: آلات القمر. الحدّ الثاني عشر: في الإخوانيات الأول: الإخوان وأحوالهم. الثاني: محبّة المعاشرين. الثالث: الزيارة والمزور. الحدّ الثالث عشر: الغزل ومتعلقاته الأول: أوصاف الهوى وأحوال العشّاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الثاني: التذكّر. الثالث: التّوديع والفراق. الرابع: الهجران. الخامس: البكا ووصف الدّموع. السادس: الشّوق والحنين «1» . السابع: السهر وطول الأزمنة. الثامن: الوشاية «2» والعذل «3» . التاسع: ستر الهوى وكشفه. العاشر: معاشرة الحبيب ومكاتبته. الحادي عشر: مزاورة المحبوب وملاقاته، والنّظر إليه والأمنية فيه. الثاني عشر: الطّيف «4» . الثالث عشر: السلوّ «5» . الرابع عشر: فنون مختلفة من الغزل. الحدّ الرابع عشر: الشجاعة وما يتعلق بها الأول: الشجعان وأحوالهم. الثاني: التهدّد «6» . الثالث: الأسلحة والمتسلحة. الرابع: طلب الثأر والدّية «7» . الخامس: التحذير من الحرب وطلب الصلح. السادس: الهزيمة. السابع: التلصص «8» . الثامن: الحبس والقيد والضّرب ونحوها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الحدّ الخامس عشر: في التزوج والأزواج، والطّلاق والعفّة والتديّث «1» الأول: النكاح والطّلاق، وأحوال الأزواج وسياستهنّ. الثاني: العفّة. الثالث: الغيرة والتّديّث. الحدّ السادس عشر: في المجونات «2» والسخف «3» الأول: الإجازة واللواطة «4» . الثاني: الأبنة «5» والتخنّث «6» والدبيب «7» والقيادة «8» . الثالث: ذكر السوءتين «9» والجماع «10» . الرابع: السحق «11» والدّلك «12» . الخامس: الضراط والفسو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الحدّ السابع عشر: خلق الناس وأسماؤهم الأول: خلقة «1» الإنسان مستحسنها ومستقبحها. الثاني: محاسن المحبوب. الثالث: مقابح خلق النّسوة. الرابع: الشّيب والشباب وذكر المعمّرين «2» . الخامس: الأسامي والكنى والألقاب «3» . الحدّ الثامن عشر: في الملابس والفرش الأول: الملابس وذووها. الثاني: البسط والفرش وآلات المنزل. الحدّ التاسع عشر: في ذمّ الدنيا، وانكشاف النّوب الأول: ذمّ الدنيا ونوبها «4» . الثاني: انكشاف «5» الشدائد. الحدّ العشرون: في الدّيانات والعبادات الأول: الوحدانية والتّقوى، والإيمان والتوبة، والورع «6» والتصوّف «7» ومتعلّقاتها. الثاني: المذاهب «8» المختلفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الثالث: الأنبياء والمتنبئون «1» . الرابع: أحوال القرآن ونزوله وفضيلته. الخامس: العبادات من الطهارة والصّلاة والزّكاة والصوم والحجّ. السادس: الأدعية. الحدّ الحادي والعشرون: في الموت وأحواله الأول: الموت وأحواله. الثاني: الغموم والصبر والتّعازي والمراثي. الحدّ الثاني والعشرون: الأسماء والأزمنة والأمكنة والمياه والأشجار والنيران الأول: الملوان والسماء والنجوم. الثاني: الأزمنة والسّحاب والأمطار والمياه، وما يتعلّق بذلك. الثالث: الربيع والخريف والأزهار والأشجار والنّبات. الرابع: الأمكنة والأبنية. الخامس: المفاوز «2» . السادس: السّفر. السابع: الحنين إلى الأوطان. الثامن: النّيران. الحدّ الثالث والعشرون: الملائكة والجنّ الأول: الملك «3» . الثاني: إبليس والجن والشياطين. الحدّ الرابع والعشرون: في الحيوانات الأول: الخيل والبغال والحمير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الثاني: النّعم «1» . الثالث: الوحشيات «2» . الرابع: الطّيور. الخامس: الهوام «3» . الحدّ الخامس والعشرون: في فنون مختلفة وهو آخر الحدود وإذ قد أتينا على ذكر الحدود والأنواع فلنبدأ، مستعينين بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 الحدّ الأوّل في العقل والعلم والجهل وما يتعلّق بها (1) فيما جاء في العقل والحمق «1» وذمّ اتباع الهوى ما يحدّ به العقل وبنوه والحمق وذووه قيل: العقل الوقوف عند مقادير الأشياء قولا وفعلا وقيل النظر في العواقب وقال المتكلّمون اسم لعلوم إذا حصلت للإنسان صحّ تكليفه. وقيل: العاقل من له رقيب على جميع شهواته. وقيل: من عقل نفسه عن المحارم، ولذلك لم يصح وصف الله تعالى به. والحمق قلّة الإصابة ووضع الكلام في غير موضعه، وقيل: فقدان ما يحمد من العاقل. مدح العقل وذمّ الحمق قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما اكتسب ابن آدم أفضل من عقل يهديه إلى هدى، أو يرده عن ردى. وقيل: الحمق يسلب السلامة ويورث الندامة والعقل وزير رشيد وظهير سعيد، من أطاعه أنجاه، ومن عصاه أرداه. وقيل: لو صوّر العقل لأضاء معه الليل ولو صوّر لأظلم معه النهار. وقال المتنبّي: لولا العقول لكان أدنى ضيغم ... أدنى إلى شرف من الإنسان حاجة الفضائل إلى العقل قيل: العقل بلا أدب فقر، والأدب بغير عقل حتف. وقيل: بلوغ شرف المنزلة بغير عقل أشفاء على الهلكة. وقيل: من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه، كان حتفه في أغلب خصال الخير عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 ذمّ من له أدب بلا عقل وصف أعرابيّ رجلا، فقال: هو ذو أدب وافر وعقل نافر: فهبك أخا الآداب أيّ فضيلة ... تكون لذي علم وليس له عقل وقيل: ازدياد الأدب عند الأحمق، كازدياد الماء العذب في أصول الحنظل، كلّما ازداد ريا ازداد مرارة. حاجة العقل إلى الأدب عاقل بلا أدب كشجاع بلا سلاح. العقل والأدب كالروح، والجسد بغير روح صورة، والروح بغير جسد ريح. وقيل: العقل بغير أدب كأرض طيّبة خربة، وأن العقل يحتاج إلى مادة الحكمة، كما تحتاج الأبدان إلى قوتها من الطعام. ضياع العقل بفقد التقوى قيل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن إنسان عبادة، قال: كيف عقله؟ فإن قالوا عاقل، قال: ما أخلقه أن يبلغ؛ وإن قالوا ليس بعاقل، قال: ما أخلقه أن لا يبلغ. وقال الحسين: ثلاثة تذهب ضياعا: دين بلا عقل، ومال بلا بذل، وعشق بلا وصال. وقيل: لا تعتدّوا بعبادة من ليس له عقدة من عقل. فضل اجتماعهما قال معاوية، لرجل حكيم مسنّ: أيّ شيء أحسن؟ فقال: عقل طلب به مروءة، مع تقوى الله وطلب الآخرة. عزّة العقل كل شيء إذا كثر رخص إلا العقل فإنه كلما كثر كان أغلى. ولو بيع لما اشتراه إلا العاقل لمعرفته بفضله. أوّل شرف العقل أنه لا يشترى بالمال. قلّة العقل وذويه قيل لبهلول: عدّ لنا المجانين، فقال: هذا يطول، ولكنّي أعد العقلاء. ومثله وإن لم يكن من بابه- أن رجلا كتب كتابا وعرضه على آخر، فقال: فيه خطأ كثير، فقال الكاتب: علّم على الخطأ لأصلحه، فقال: بل أعلّم على الصواب فهو أسهل. وقيل لرجل: ما جماع العقل؟ فقال: ما رأيته مجتمعا في أحد فأصفه وما لا يوجد كاملا لا يحدّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 فضل مصاحبة العقلاء قال الزهري: إذا أنكرت عقلك، فاقدحه بعاقل. وقال: عدوك ذو العقل أبقى عليك، وأرعى من الوامق «1» الأحمق. تبرّم العقلاء بصحبة الجهّال قيل: العاقل بخشونة العيش مع العقلاء أسرّ منه بلين العيش مع السّفهاء وقيل: قطيعة الجاهل تعدل صحبة العاقل: لم يبل ذو الجهل الذي ... دارت عليه صروف دهره ببليّة أشجى له ... من جاهل يزري بقدره «2» يمضي حكومته عليه ... بجهله وجواز أمره النّهي عن مصاحبة الجاهل قال لقمان: لا تعاشر الأحمق وإن كان ذا جمال؛ وانظر إلى السيف ما أحسن منظره. وقال الجاحظ: لا تجالس الحمقى، فإنه يعلق بك من مجالستهم من الفساد، ما لا يعلق بك من مجالسة العقلاء دهرا، من الصّلاح. فإنّ الفساد أشد التحاما بالطّباع. وقيل: العاقل يضلّ عقله بمصاحبة الجاهل. استعمال العقل والجهل مع ذويهما قيل: العاقل يعامل الإنسان على خليقته، ويجاري الزمان على طريقته: فكن أكيس الكيسى إذا كنت فيهم ... وإن كنت في الحمقى فكن مثل أحمق «3» وقال آخر: أحامقه حتّى يقال سجيّة ... ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله «4» ذمّ عاقل متجاهل قيل: عظمت المؤنة «5» في عاقل متجاهل، وجاهل متعاقل. وددت أني مثلك في ظنّك، وأن أعدائي مثلك في الحقيقة. قال المتنبيّ: ومن ذا الذي يدري بما فيه من جهل ... يرى النّاس ضلالا وليس بمهتد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 صعوبة مداواة الأحمق لكلّ داء دواء يستطبّ به ... إلا الحماقة أعيت من يداويها «1» وقال المتنبيّ: ومن البليّة عذل من لا يرعوي ... عن جهله وخطاب من لا يفهم «2» روي أن عيسى عليه الصلاة والسلام، أتى بأحمق ليداويه، فقال: أعياني مداواة الأحمق ولم يعيني مداواة الأكمه «3» والأبرص «4» . وقال الحجّاج: أنا للعاقل المدبّر أرجى منّي للجاهل المقبل. وقيل: أنك تحفظ الأحمق من كل شيء إلا من نفسه، وتداويه إلا من حمقه. تعب العاقل واستراحة الجاهل قيل لحكيم: من أنعم الناس عيشا؟ فقال: من كفى أمر دينه، ولم يهتم لأمر آخرته. قال أبو علي كاتب بكر: من رزق الحمق فذو نعمة ... آثارها واضحة ظاهره يحطّ ثقل المرء عن نفسه ... والفكر في الدنيا وفي الآخره وقال آخر (المتنبّي) : ذو العقل يشقى في النّعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشّقاوة ينعم موصوف بالعقل كان ابن المقفع والخليل «5» يحبّان أن يجتمعا. فاتفق التقاؤهما، فاجتمعا ثلاثة أيام يتحاوران. فقيل لابن المقفع: كيف رأيته؟ فقال: وجدت رجلا عقله زائد على علمه. وسئل الخليل عنه، فقال: وجدت رجلا علمه فوق عقله. قال بعض العلماء: صدقا فإن الخليل مات حتف أنفه في خص «6» وهو أزهد خلق الله، وتعاطى ابن المقفع ما كان مستغنيا عنه حتى قتل أسوأ قتلة. قال الصنوبري: فإن يلتمس يوما حجاكم فإنّكم ... جبال الحجا لكنّكم أبحر الجدوى «7» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وقال آخر: فإن يك حائلا لوني فإنّي ... لعقل غير ذي سقط وعاء «1» موصوف بالحماقة والجهل سئل أعرابي عن رجل، فقال: لو كان في بني إسرائيل ووقعت قصة البقرة ما ذبحوا غيره. وقيل: فلان ليس له من عقله فاه ولا من نفسه واعظ. وقيل: أحمق من دغة ومن رخمة «2» وفي الرخمة: إنك من طير الله فانطقي، يقال ذلك كناية عن الحمق خامري أم عامر. وقيل: ليس مع فلان من العقل إلا ما يوجب حجة الله عليه إذا أمر به إلى النار. وقيل: فلان مخدوع من عقله فلا تستعن به: ليس يدري من الجهالة ماذا ... دور البعر في بطون الجمال وقال آخر: ربّ ما أبين التباين فيه ... منزل عامر وعقل خراب وإذا قيل: فلان سليم الصدر، أو جامح في المسجد أو هو من أهل الجنة، فهو كناية عن الحمق. تفضيل الجدّ «3» على العقل قيل: استأذن العقل على الجدّ، فلم يأذن له، وقال: أنك تحتاج إليّ وأنا لا أحتاج إليك. وافتخر العقل، فقال له الجدّ: أمسك فما لك نفاذ «4» ما لم أصحبك. وقيل لأعرابي: فلان أحمق مرزوق، فقال هذا هو الرجل الكامل. قال: وهيهات الحظوظ من العقول قال آخر: وما لبّ اللبيب بغير حظّ ... بأغنى في المعيشة من فتيل «5» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 صعوبة اجتماع العقل والجد ّ قيل: من زيد في عقله نقص من حظّه. وما جعل الله لأحد عقلا وافرا إلا احتسب عليه من رزقه. وقال شاعر في المعنى: وخصلة ليس فيها من يخالفني ... الرزق والجهل مقرونان في قرن «1» كون الجدّ من جملة العقل روى في الخبر، أن الله تعالى إذا أراد أن يزيل نعمة عبد، فأوّل ما يسلب منه عقله. وفي كتاب كليلة السبب المانع. حظّ العاقل، هو السبب لحظّ الجاهل. وسئل بعضهم العقل أفضل أم الجدّ؟ فقال: العقل من جملة الجدّ. موصوف بالجنون وكأنّه من دير هرقل مفلت ... جرد يجرّ سلاسل الأقياد «2» قال آخر: به ما شئت من حمق ... ومن جهل ومن هوج «3» قال آخر: به طائف من جنّة غير معقب قال آخر: كأنّه من شهود الجنّ محتضر ... وقد رأى عقله منه على سفر ويقال: فلان سمين الجهل مهزول العقل. كون الهوى غالبا للهدى قال عامر بن الظرب: الرأي نائم والهوى يقظان فإذا هوي العبد شيئا نسي الله، ثم تلا قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ «4» . - العقل صديق مقطوع والهوى عدوّ متبوع. - كم من عقل أسير في يدي هوى أمير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وقيل: الهوى شريك العمى واتباع الهوى أوكد أسباب الردى. قال منصور الفقيه: إنّ المرآة لا تريك ... خدوش وجهك في صداها وكذاك نفسك لا تريك ... عيوب نفسك في هواها النهي عن اتّباع الهوى قال الله تعالى: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «1» . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعص هواك والنساء، وأطع من شئت. وقيل للناس: في قصة يوسف عليه الصّلاة والسّلام آيات أعظمها قوله تعالى: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ «2» وقال بعض الحكماء: إذا اشتبه عليك أمران فانظر أيهما أقرب من هواك مخالفة فالصواب في مخالفة الهوى. قال: من أجاب الهوى إلى كلّ ما يد ... عو إليه داعيه ضلّ وتاها النهي عن اتّباع هوى غيرك قال الله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ «3» . وقال: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ «4» . وقال: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ «5» . وقال بعضهم لرجل: أني أهوى أن تقتل فلانا، فقال له: إني لا أدخل النار في هوى غيري وإن كنت أدخلها في هواي. ذمّ من اتبع هواه قال الله تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ «6» . وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه. وقيل: اتباع الهوى أوكد أسباب الردى. ووقّع «7» عبد الله بن طاهر إلى عامل له: نفسك قد أعطيتها مناها ... فاغرة نحو مناها فاها «8» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وقيل: إن قدمت هواك على عقلك لم تصب رشدا في حياتك، ولا أمنا بعد وفاتك. وأنشد: إنّ الهوان هو الهوى جزم اسمه ... فإذا ألقيت هوى لقيت هوانا «1» حمد مخالفته قال الله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى «2» . وبعث ملك إلى عابد مالك لا تخدمني وأنت عبدي. فقال: لو اعتبرت لعلمت أنك عبد عبدي. قال: كيف؟ قال: لأنك تتبع الهوى فأنت عبده وأنا أملكه فهو عبدي. فقال: صدقت. وقيل: سلطان من ملك الهوى فوق سلطان من ملك الدنيا. ذمّ من يجهل نفسه قال أبو علي الورّاق: آفة الناس قلّة معرفتهم بقدر أنفسهم. قيل لبزرجمهر: أيّ العيوب أعظم؟ قال: قلّة معرفة المرء بنفسه. وقال المتنبّي: ومن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه ما لا يرى وقال سقراط: لا شيء أضرّ بالإنسان من رضاه عن نفسه، فإنه إذا رضي عنها اكتفى باليسير فعابه كل خطير. مدح من يعرفها قال أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه: لن يهلك امرؤ عرف قدره. وقيل: أجمع كلمة قول الحكيم: أفضل العقل معرفة المرء بنفسه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من أراد الله به خيرا فقّهه في الدين وعرّفه عيوب نفسه. وقيل في قوله تعالى: وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا «3» : معناه عرّفناهم عيوب أنفسهم. وقوف المرء على عيب نفسه قيل: لحكيم ما أصعب الأشياء؟ قال: معرفة الإنسان عيب نفسه، والإمساك عن الكلام في ما لا يعنيه. وقيل: قد يعرف نقص غيره من لا يعرف نقص نفسه، ولا يعرف نقص نفسه من لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 يعرف نقص غيره. فآكل الثوم لا يجد نتن نفسه. الحثّ على تدبّر معايبك قال لقمان عليه السلام: لا تدع النظر في مساويك كلّ وقت، لأنّ ترك ذلك نقص من محاسنك. وقيل: كن في الحرص على تفقّد عيوبك كعدوّك. الحثّ على قذع «1» النفس قال الحسن رضي الله عنه: أقذعوا هذه النفوس فإنها طلعة. وقال حكيم: لا ينبغي لحكيم أن يطلب طاعة غيره وطاعة نفسه عليه ممتنعة. وقال أبو ذؤيب: والنّفس راغبة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ إلى قليل تقنع «2» وقيل: العاجز من يعجز عن قذع نفسه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بأشدّكم من ملك نفسه عند الغضب. النهي عن الركون إلى النفس قال الجنيد رحمه الله: لا تسكن إلى نفسك وإن دامت طاعتها فإنّ لها خدائع؛ وإن سكنت إليها كنت مخدوعا. وقيل: من رضي عن نفسه سخط الناس عليه. المسرور بأن عرف عيوبه قال عمر رضي الله عنه: رحم الله امرا أهدى إلينا عيوبنا. وقالت الحكماء أنت لا ترى عيب نفسك، فسل من ترضى عقله ونصحه يعرّفك. وقال رجل لمسعر: أتحبّ أن تهدى إليك عيوبك؟ فقال أمّا من ناصح فنعم، وأمّا من شامت فلا. وقيل: ينبغي للرجل أن يكون مرآة أخيه تريه خيره وشرّه. قال الشاعر: أصبحت في هيئة المرآة تخبرنا ... عيوبنا كلّ ما فينا من الكدر «3» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 (2) ما جاء في الحزم والعزم وما يضادّهما، والظنّ والشكّ والتثبت والعجلة ماهية الحزم والعزم قال عبد الملك لعمر بن عبد العزيز: ما العزيمة في الأمر؟ قال: إصداره إذا ورد بالحزم. فقال: وهل بينهما فرق؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر: ليست تكون عزيمة ما لم يكن ... معها من الرأي المشيد رافع «1» فقال: لله درّك عشت دهرا وما أرى بينهما فرقا. وقيل لبعضهم: ما الحزم؟ قال: التفكر في العواقب. النهي عن الدخول فيما يصعب الخروج منه قال: معاوية لعمرو بن العاص (رضي الله عنهما) : ما بلغ من دهائك؟ قال: ما دخلت في أمر إلا عرفت كيف الخروج منه. فقال: لكنّي ما دخلت في أمر قطّ وأردت الخروج منه. وقيل في الحكمة: إن اتسع لك المنهج، فاحذر أن يضيق بك الخروج. قال الشاعر: وإذا هممت بورد أمر فالتمس ... من قبل مورده طريق المصدر «2» حمد تلقّي الأمر بالجزم قيل: من لم يقدّمه حزمه أخّره عجزه. من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ. خذ الأمر بقوابله، إن رمت المحاجزة فقبل المناجزة. قبل الرمي تملأ الكنائن «3» . قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الإقدام «1» تراش السهام. دمث لنفسك قبل اليوم مضطجعا. اتّق العثار «2» بحسن الاعتبار. قال البحتري: فتّى لم يضيّع وقت حزم ولم يبت ... يلاحظ أعجاز الأمور تعقبا قال آخر: وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبعه اتباعا مدح التفكّر في العواقب قال أزدشير: ليس للأيام بصاحب، من لم يتفكر في العواقب. يا عاقد اذكر حلا، من لم ينظر في العواقب تعرض لحادثات النوائب. قال الشاعر: ومن ترك العواقب مهملات ... فأيسر سعيه أبدا تبار «3» وقيل: الفكرة مرآة تريك الحسنات والسيئات. إقامة العذر باستعمال الحزم قيل: من استشار فيما نزل به صديقه واستخار به، وأجهد رأيه، فقد قضى ما عليه، وأمن رجوع الملامة إليه. وقيل: من أعجب الأشياء جاهل يسلم بالتهوّر، وعاقل يهلك بالتوقّي. قال كشاجم «4» : وعليّ أن أسعى ولي ... س عليّ إدراك النّجاح تفضيل الحزم على الجهل الحيلة أنفع من الغيلة. قال حكيم لابنه: كن بحيلتك أوثق منك بشدّتك فالحرب حرب للمتهوّر، وغنيمة للمتحذّر. وقيل: الاهتداء لوجه الحيلة غنيمة جليلة. قال الموسوي: ولست مقارعا جيشا ولكن ... برأيي يستضيء ذوو القراع «5» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 فضل التدبير وذويه نظام الأمر التدبير، ورأس الأمر التقدير. وقيل: من فعل بغير تدبير، وقال بغير تقدير، لم يعدم من الناس هازئا ولا حيا. وقيل: فلان يعرف من أين تؤكل الكتف «1» ويعرف منابت القصيص، وهما مثلان يقالان في من يعرف وجه الأمر. الحثّ على الاشتغال بما يعنيك عمّا لا يعنيك قيل لبعض الحكماء: ما الحزم؟ قال: حفظ ما كلفت وترك ما كفيت. وقيل للأحنف: بم سدت قومك؟ قال: بتركي من أمرك ما لا يعنيني، كما عناك من أمري ما لا يعنيك. وقال رجل لأفلاطون «2» لم تختمت في يمينك؟ فقال لأعرف المتكلفين، ومن يسأل عمّا لا يعنيه. قال الشاعر: ولا تعترض في الأمر تكفي شؤونه ذمّ تارك ما يعنيه لما لا يعنيه قال ابن هرمة «3» : كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا وقال آخر: هراق «4» الماء واتّبع السّرابا عتب من نصر نفسه لنفع غيره قال الشاعر: يكسي الأنام ويعري إسته ... وينسل من خلفه الأسفل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وقال العبّاس بن الأحتف «1» : صرت كأنّي ذبالة نصبت ... تضيء النّاس وهي تحترق «2» ذمّ الاقتصار على مجرّد التوكّل جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أرسل ناقتي وأتوكل. فقال: بل اعقلها «3» وتوكّل. مرّ الشعبيّ بإبل قد فشا فيها الجرب، فقال لصاحبها أما تداوي إبلك؟ فقال: إن لنا عجوز نتكل على دعائها. فقال: اجعل مع دعائها شيئا من القطران. وفي كتاب كليلة لا يمنع العاقل يقينه بالقدر من توقّي «4» المخوف، بل ليجمع تصديقا بالقدر وأخذا بالحزم. قال الشاعر: والمرء تلقاه مضياعا لفرصته ... حتّى إذا فات أمر عاتب القدرا قال أبو عبيدة لعمر رضي الله عنه، حين كره طواعين الشأم ورجع إلى المدينة، أتفرّ من قدر الله؟ قال: نعم إلى قدر الله. فقال له: أينفع الحذر من القدر؟ فقال: لسنا ممّا هناك في شيء، إن الله لا يأمر بما لا ينفع، ولا ينهى عما لا يضر، وقد قال تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ «5» وقال تعالى: خُذُوا حِذْرَكُمْ «6» . ذمّ طلب الأمر بعد فوته قيل: لبعض الحكماء هل شيء أضرّ من التواني؟ فقال: الاجتهاد في غير موضعه. وقيل: العجز عجزان عجز التقصير وقد أمكن؟ والجدّ في طلبه وقد فات. أخذه الشاعر فقال: تتبّع الأمر بعد الفوت تغرير ... وتركه مقبلا عجز وتقصير «7» وقيل: شرّ الرأي الدبري «8» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 قال الشاعر: أصبحت تنفخ في رمادك بعدما ... ضيّعت حظّك من وقود النّار الأمر بترك التلهف على ما فات قال الله تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ. قيل: أكبر الأدواء للبدن التلهف على ما لا يدرك. إن ليتاوان لو إعناء. إظهار النّدامة والتأسّف قال الشاعر: عضضت أناملي وقرعت سنّي «1» وقال الكسعي وخبره مشهور: ندمت ندامة لو أنّ نفسي ... تطاوعني إذا لقطعت خمسي تبيّن لي سفاه الرأي منّي ... لعمر أبيك حين كسرت قوسي وهذا هو المضروب به المثل في الندامة وإياه عنى الفرزدق بقوله: ندمت ندامة الكسعيّ لما ... غدت منّي مطلّقة نوار وقال صخر بن عمرو: أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان «2» قال آخر: وكنت كناشب في الوحل ينوي ... نهوضا وهو يزداد ارتطاما «3» مدح من لا يندم فيما يباشره قال أبو الأصمع: لا ينهض العجز في أعقاب نهزته «4» ، ولا يصاحب عزما حين يخترم «5» المتنبي: فما تكشّفك الأعداء عن ملل ... من الحروب ولا الآراء عن زلل وقال الموسوي في مدح بعضهم: في قرعه سنّه لا يطمع النّدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 النّهي عن الاعتذار وقيل في المثل: عش ولا تغتر. وقيل: الفرار بقراب أكيس. وقيل: لا تكن كمن أراق الماء واتبع السّراب. الأمر بالإقدام بعد الاتضاح والمدح بذلك قيل: روّ بحزم فإذا استوضحت فاعزم. وقيل: أحزم النّاس من إذا وضح له الأمر صدع فيه. وقيل: أعظم الخطأ العجلة قبل الإمكان، والتأنّي بعد الفرصة. قال الشاعر: وواقف عند الأمر ما لم يضح له ... وأمضي إذا ما همّ من كان ماضيا مدح التجارب التجارب ليس لها نهاية والمرء منها أبدا في زيادة. وقيل: العقل كالسيف والتجربة أشطر. وقيل: التجارب مرائي الغيوب ونواظر العيوب. مدح مجرّب قيل: فلان حلب الدهر بأنقع وهو مؤدم مبشر «1» . قال الشاعر: حلبت الدهر من عسل وصاب ... وذرّيت الزّمان بكل ريح «2» ومدح أعرابي قوما فقال: أدّبتهم الحكمة وأحكمتهم التجارب ولم تغررهم السلامة المنطوية على الهلكة. ذمّ غير مجرّب قيل: فلان غفل لم تسمه «3» التجارب، ولم تفترعه النوائب، وغفل لم تسمه النوب، ولم يعضّ غاربه القتب «4» . وصف إعرابي واليا مغتررا فقال: ما أطول سكر كأس شربها فلان، ولم يخف من عاقبتها الخمّار. المصيب بظنّه قيل: من لم ينتفع بظنّه، لم ينتفع بيقينه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنّ لله عبادا يعرفون النّاس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 بالتوسّم. وقال عليه الصلاة والسلام: اتقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله. وكان عمر (رضي الله) عنه يقال له المحدّث لصحة ظنّه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن يكن في هذه الأمة محدّث فهو عمر. ويقال: فلان ألمعيّ، وقيل: ما تزاحمت الظنون على أمر مستور إلا كشفته. قال الشاعر: إذا ما ظنّ أعرض أو أصابا وقال: نجيح مليح أخو مارق ... يكاد يخبر بالغائب وقال البحتري: وإذا صحّت الرويّة يوما ... فسواء ظنّ امرىء وعيانه «1» وقال الموسوي: ولا علم لي بالغيب إلا طليعة ... من الحزم لا يخفى عليها المغيب مدح الشكّ وسوء الظنّ قيل: بوحشة الشكّ ينال أنس اليقين. وقيل: عليك بسوء الظنّ، فإن أصاب فالحزم، وإن أخطأ فالسلامة. قال الشاعر: وحسن الظنّ عجز في أمور ... وسوء الظنّ يأخذ باليقين وقيل: من أطال الركون قلّ ركونه «2» وقول الله تعالى: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ «3» دلالة على أن جلّه صواب. وقال عبد الملك: فرق ما بين عمر وعثمان إنّ عمر أساء ظنّه فاحكم أمره وعثمان أحسن ظنّه فأهمل أمره. وقيل لبعضهم: أسأت الظنّ، فقال: أن الدنيا لما امتلأت مكاره وجب على العاقل أن يملأها حذرا، وقال أبو محمد الخازن: وما شكّي وإن أكثرت إلا ... محاماة على الشيء اليقين «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ذمّهما قال الله تعالى: اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ، وقال شيخ لرجل: أظنّك كاذبا فقال: أحمق ما يكون الشيخ إذا استعمل ظنّه، وقال: وأضعف عصمة عصم الظّنون وقال المتنبّي: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدّق ما يعتاده من توهّم «1» مدح التغافل سئل حكيم: ما اللبيب؟ فقال: الفطن المتغافل. ولما أمضى معاوية بيعة يزيد قال: يزيد: يا أبت ما أدري أنخدع النّاس أم يخدعوننا بما يأخذون منّا؟ فقال: يا بنيّ من خدعك فانخدعت له فقد خدعته. وقيل: إذا أردت لباس المحبّة فكن عالما كجاهل. وقيل: من تغافل فعقلوه، ومن تكايس فطبطبوه أي العبوا به على الطبطابة. قال الشاعر: ليس الغنيّ بسيّد في قومه ... لكنّ سيّد قومه المتغابي «2» ولأبي فراس وقد أجاد: تغابيت عن قومي فظنّوا غباوتي ... بمفرق أغبانا حصى وتراب «3» من لا يخدع لعقله قال عمرو بن العاص: ما رأيت أحدا كلّم عمر رضي الله عنه إلا رحمته لأنه كان لا يخدع أحدا لفضله، ولا يخدعه أحد لفطنته. وقال أياس بن معاوية: لست بخبّ ولا الخبّ يخدعني «4» وقيل لرجل:- فيك فطنة، فقال: ما ذنبي إذ خلقني الله عاقلا. مدح التثبّت قال الشعبيّ: أصاب متأمل أو كاد، وأخطأ مستعجل أو كاد. وقال عمرو بن العاص: لا يزال المرء يجني من ثمرة العجلة الندامة. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: ما دخل الرفق في شيء إلا زانة «5» ولا الخرف إلا شأنه «6» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 قال الشاعر: لا تعجلنّ فربّما ... عجل الفتى في ما يضرّه وقال الموسوي: وشوكة ضغن ما انتقشت شباتها ... ذهابا بنفسي أن يقال عجول «1» مدح العجلة لأبي العيناء وقد قيل له لا تعجل فالعجلة من الشيطان، فقال: لو كان كذلك لما قال نبيّ الله موسى عليه السلام وعجلت إليك ربّ لترضى. وقيل: المتأنّي في علاج الداء بعد أن عرف الدواء كالمتأنّي في اطفاء النار وقد أخذت بحواشي ثيابه وسأل أبو عليّ البصير ابن منارة حاجة فقال: رح إلى وقت العصر فجاء عند الظهر فقال: ألم أعدك وقت العصر؟ فقال: نعم ولكن رأيت الإفراط في الاستظهار أحمد. ما تحمد فيه العجلة قال معاوية: ما من شيء يعدل التثبت، فقال الأحنف: إلا أن تبادر بالعمل الصالح أجلك تعجل إخراج ميتك وتنكح الكفء ابنتك. مدح انتهاز الفرصة قيل: الهيبة خيبة والفرصة تمرّ مرّ السحاب. وقيل: انتهز الفرصة قبل أن تعود غصة الإفتراض اقتناص «2» . وقيل: الفرصة ما إذا أخطأك نفعه لم يصبك ضرّه. التفكّر في العواقب قيل: إحمد تغنم، ولا تفكّر في العواقب فتهزم. قال الشاعر: إذا حدّثته النفس أمضى حديثها ... وهان عليه ما يرى في العواقب وقيل: من تفكّر في العواقب لم يشجع في النوائب. طلب الأمر بالمداراة قال الأحنف: عجبت لمن طلب أمرا بالمغالبة «3» ، وهو يقدر عليه بالملاينة «4» ولمن طلب أمرا بخرق «5» ، وهو يقدر عليه برفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وقيل لبعضهم: ما الدهاء؟ فقال: قتل العدوّ في لطف. مدافعة العدوّ بالمداراة في كتاب كليلة: «1» لا تسلم من العدو القويّ بمثل التذلّل والخضوع، كما أن الحشيش إنما يسلم من الريح العاصف بانثنائه معها، أينما مالت به الريح ساعدته. أخذه ابن الرومي فقال: كالريح والزرع استكان لمرّها ... وعتت فلم تقدر على تقصيفه «2» كم قد نجا منه الضعيف وما نجا ... منه العنيف بلفّه ولفيفه وتهاتن الجذع الأبي مهزّه ... فأتت عليه ولم ترع لخفيفه «3» ولهذا الباب نظائر في العداوات. الجهل بمستقبل الزّمان قال الله تعالى مخبرا عن النبي عليه السلام: ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير، وما مسّني السوء. قال القطامي: وما يعلم الخير امرؤ قبل أن يرى ... ولا الشرّ حتّى تستبين دوائره وقال آخر: تبين أعقاب الأمور إذا مضت ... وتقبل أشباها عليك صدورها «4» (3) ومما جاء في المشاورة والاستبداد بالرأي الحثّ على مراجعة الأودّاء «5» ومدح المشاورة قال الله تعالى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ «6» وقيل من شاور أهل النصيحة سلم من الفضيحة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: المشاورة حصن من النّدامة وأمن من الملامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وقيل: ما هلك امرؤ عن مشورة. وقيل: الرأي الواحد كالسجيل والرأيان كالحيطتين والثلاثة أمداد لا ينقض. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم الموازرة «1» المشاورة وبئس الاستعداد الاستبداد. الأحمق من قطعه العجب عن الاستشارة والاستبداد عن الاستخارة. من شاور الأودّاء أمن من الأعداء. نصف رأيك مع أخيك فاستشره. الحثّ على مشاورة الحازم اللبيب قال الجاحظ: أحسن ما قيل في المشورة قول بشّار: إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... بحزم نصيح أو نصيحة حازم «2» ولا تجعل الشّورى عليك غضاضة ... فإنّ الخوافي قوّة للقوادم «3» وقوله: ولا كلّ ذي رأي بمؤتيك نصحه ... ولا كلّ مؤت نصحه بلبيب ولكن إذا ما استجمعا عند واحد ... فحقّ له من طاعة بنصيب «4» وقال عبد الله بن معاوية: وإن باب أمر عليك التوى ... فشاور نبيها ولا تعصه «5» وقال عمر رضي الله عنه: الرجال ثلاثة رجل ذو عقل ورأي فهو يعمل عليه، ورجل إذا أحزنه أمر أتى ذا رأي فاستشاره، ورجل جائر بائر «6» لا يأتي رشدا ولا يطيع مرشدا. الحثّ على استشارة الكبار قال زياد لأبي الأسود «7» : لولا أنّك كبرت لاستعملتك واستشرتك، فقال: إن كنت تريدني للصراع فليس في، وإن كنت تريد الرأي فهو وافي. وقيل: زاحم بعود أو دع. وقيل: عليك برأي الشيوخ، فقد مرّت على وجوههم عيون العبر وتصدّعت لاسماعهم آثار الغير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الحثّ على استشارة الصّغار قال هرم: عليكم في المشاورة بالحديث السنّ الحديد الذهن. وقيل: رأي الشيخ كالزند قد انثلم «1» ، ورأي الشاب كالزند الصحيح الذي يوري «2» بأيسر اقتداح. الحثّ على مشاورة العدوّ في كتاب كليلة: لا ينبغي للعاقل أن يترك استشارة عدوّه ذي الرأي فيما يشركه ذلك العدو في نفعه وضرّه. وقيل: استشر عدوّك تعرف مقدار عداوته. من يجب أن تجتنب مشاورته قال قيس لابنه: لا تشاورنّ مشغولا، وإن كان حازما، ولا جائعا، وإن كان فهيما، ولا مذعورا، وإن كان ناصحا، ولا مهموما وإن كان فطنا. فالهمّ يعقل العقل ولا يتولّد منه رأي ولا تصدق منه رويّة. وقيل: لا تدخل في مشورتك بخيلا فيقصّر بفعلك، ولا جبانا فيخوفك، ولا حريصا فيعدك ما لا يرتجي، فالجبن والبخل والحرص طبيعة واحدة يجمعها سوء الظن. وقيل: لا تشاور من ليس في بيته دقيق. وكان كسرى إذا أراد أن يستشير إنسانا بعث إليه بنفقة سنة ثم يستشيره. وقيل لا تشيرنّ على معجب ولا متلوّن «3» ، وخف الله من موافقة هوى المستشير. وقيل: إياك ومشاورة النساء فرأيهنّ إلى أفن «4» وعزمهن إلى وهن. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: شاوروهنّ وخالفوهنّ، وقال: لا تستضيئوا بنار المشرك أي لا تستشيروهم. المستدعي المشورة قال عمر رضي الله عنه: صاحب الحاجة أبله لا يرشد إلى الصواب فلقّنوا أخاكم وسدّدوا صاحبكم. وقال إعرابي: دلّا على حيلة فيها لنا فرج ... إذ الدليل على خير كمن فعلا وقال آخر: خليليّ ليس الرأي في صدر واحد ... أشيرا عليّ اليوم ما تريان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الحثّ على نصيحة مستشيرك قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الرجل لا يزال يزاد في صحة رأيه ما نصح مستشيره، فإذا غشّ مستشيره سلبه الله صحّة رأيه. ولمّا أصاب زيادا الطاعون في يده أحضر له الأطباء فدعا شريحا فقال له: لا صبر لي على شدّته وقد رأيت أن أقطعها فقال شريح: أتستشيرني في ذلك؟ قال: نعم، فقال: لا تقطعها فالرزق مقسوم والأجل معلوم وأنا أكره أن تقدم على ربّك مقطوع اليد، فإذا قال لك: لم قطعتها؟ قلت: بغضا للقائك وفرارا من قضائك. فمات زياد من يومه. فقال: الناس لشريح: لم نهيته عن قطعها؟ فقال: استشارني والمستشار مؤتمن ولولا الأمانة لوددت أن أقطع يده يوما ورجله يوما. وقال يحيى: لا تشيرنّ على عدوّك وصديقك إلا بالنصيحة، فالصديق يقضي بذلك حقّه، والعدوّ يهابك إذا رأى صواب رأيك. من يجب أن يشار عليه إذا استشار قيل: لا تشر على مستبدّ ولا على وغد «1» ، ولا على لحوح «2» ، ولا معجب، ولا على متلّون، وخف الله في موافقة المستشير، فالتماس موافقته لؤم وسوء الاستماع منه خيانة. وقيل: من طلب الرخص من الإخوان عند المشاورة، ومن الأطباء عند المرض، ومن الفقهاء عند الشبه، فقد خدع نفسه. من ضرب لمستشيره مثلا صمم في مشورته شاور المنصور سلم بن قتيبة في قتل أبي مسلم صاحب الدولة فقال: لو كان فيها آلهة إلا الله لفسدتا فقال عيشك، واستشار فيه آخر فقال: ولن يجمع السيفان ويحك في غمد. واستشار معاوية الأحنف في بيعة يزيد فقال الأحنف: أنت أعلم بليله ونهاره وسرّه وإجهاره، فإن كنت تعلمه لله رضا وللأمة صلاحا، فلا تشاور فيه أحدا. وإن كنت تعلم غير ذلك فلا تزوّده الدنيا وأنت صائر إلى الآخرة، وإنما علينا أن نقول سمعنا وأطعنا. الممدوح بأنّه مستشار وقالت امرأة من أياد: المستشار لأمر القوم يجزئهم ... إذ الهنات أهمّ القوم ما فيها وقال أبو تمّام: يطول استشارات التجارب رأيه ... إذا ما ذوو الرأي استشاروا التجاربا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الرغبة في الاستبداد بالرأي قال بعض الحكماء: ما استشرت أحدا قط إلا تكبّر عليّ وتصاغرت «1» له ودخلته العزّة وأدركتني الذلّة. وإيّاك والمشورة وإن ضاقت بك المذاهب. وكانت الفرس والروم مختلفين في الإستشارة. فقالت الروم: نحن لا نملك من يحتاج أن يستشير، وقالت الفرس نحن لا نملك من يستغني عن المشاورة وفضل الفرس لقوله تعالى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ «2» وما زال المنصور يستشير أهل بيته حتى مدحه ابن هرمة بقوله: يزرن امرأ لا يصلح القوم أمره ... ولا ينتحي الأدنين فيما يحاول فاستوى جالسا وقال: أصبت والله. فما استشار بعد ذلك. وقال بعض جلساء هارون «3» : أنا قتلت جعفر بن يحيى، وذلك أني رأيت الرشيد يوما وقد تنفس تنفسا، مفكرا فانشدت في أثره: واستبدّت مرّة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبدّ «4» فاصغى إليه واستعاده «5» ، فقتل جعفرا بعد عن لبث. وقال المهلّب: لو لم يكن في الاستبداد بالرأي إلا صون السر، وتوفير العقل لوجب التمسك بفضله. المتفادي من أن يستشار استشار عبد الله بن عليّ عبد الله بن المقفّع، فيما كان بينه وبين المنصور، فقال: لست أقود جيشا ولا أتقلّد حربا ولا أشير بسفك دم وعثرة الحرب لا تستقال، وغيري أولى بالمشورة في هذا المكان. واستشار زياد رجلا فقال: حق المستشار أن يكون ذا عقل وافر واختبار متظاهر ولا أراني هناك. واجتمع رؤساء بني سعد إلى أكثم بن صيفي «6» يستشيرونه فيما دهمهم من يوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 الكلاب «1» ، فقال: إن وهن الكبر قد فشا في بدني وليس معي من حدة الذهن ما ابتدىء به الرأي، ولكن اجتمعوا وقولوا فإني إذا مرّ بي الصواب عرفته. (4) وممّا جاء في وصف العلم والعلماء مدحا وذما ووصف الحفظ والنسيان عزّ العلم قال الله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «2» ، وقال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ «3» وقال الإمام أبو حنيفة: إن لم يكن العلماء أولياء الله في الأرض فليس لله فيها ولي. قال الأحنف «4» : كلّ عز لم يؤيد بعلم فإلى ذلّ يصير. وقيل: العلم يوطىء الفقراء بسط الملوك. الأدب كالحسب قيل: من نهض به أدبه، لم يقعد به حسبه «5» ، وقيل: شرف الحسب يحتاج إلى شرف الأدب، وشرف الأدب مستغن عن شرف الحسب. وقال الأحنف: من لم يكن له علم ولا أدب لم يكن له حسب ولا نسب. وقال الشاعر: كن ابن من شئت واكتسب أدبا ... يغنيك محموده عن النسب وقال آخر: ما ضرّ من حاز التأدّب والنّهى ... أن لا يكون من آل عبد مناف «6» البالغ بعلمه مبلغ الملوك قيل: لما وقعت الفتنة بالبصرة ورضوا بالحسن اجتمعوا عليه، وبعثوا إليه. فلما أقبل قاموا، فقال يزيد بن المهلّب: كاد العلماء يكونون أربابا، أما ترون هذا المولى كيف قام له سادات العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وقيل: تعلموا العلم فإنه يوطىء المساكين بسط الملوك. ونظر عمر رضي الله عنه إلى رجل في هيئة نفيسة فقال: ألست ابن قيس بالبصرة؟ قال: نعم. ولكني كاتب فقال لله درّ العلم ما زال يرفع أهله. قال الشاعر: العلم يرفع بالخسيس إلى العلا ... والجهل يقعد بالفتى المنسوب «1» قيمة المرء علمه قال أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه: قيمة كلّ امرىء ما يحسنه. وأخذ ابن طباطبا «2» هذا المعنى فقال: حسود مريض القلب يخفي أنينه ... ويضحي كئيب البال عندي حزينه يلوم على أن رحت في العلم دائبا ... أجمع من عند الرواة فنونه فيا عاذلي دعني أغالي بقيمتي ... فقيمة كل النّاس ما يحسنونه «3» فضل العلم على المال قال عبد الملك: اطلبوا معيشة لا يقدر سلطان جائر على غصبها، قيل ما هي؟ قال: الأدب ولصالح بن عبد القدوس: قد يجمع المرء مالا ثم يسلبه ... عمّا قليل فيلقى الذلّ والحربا وجامع العلم مغبوط به أبدا ... فلا يحاذر منه الفوت والطلبا «4» وقيل: العلم ميراث غير مسلوب، وقريب غير مغلوب. وقيل: الفضيلة بكثرة الآداب، لا بفراهة «5» الدواب. وقال الجنيد «6» : من فضيلة العلم على المال أن الله فهم سليمان مسئلة فمّن عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وقال ففهمناها سليمان. وأعطاه الملك ولم يمنّ عليه، بل قال: هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب. من ذمّه وفضل المال عليه قال الشاعر: ما المرء إلا بما يحوي من النّشب «1» وقال آخر: لا تغبطن أديبا ماله نشب ... لا خير في أدب إلا مع النّشب وقال جحظة «2» : إن الزّمان لمن تقدّم في النباهة منقلب وقال البديهي: أكثر المقتفين للعلم والآ ... داب في ذلّة وفي أملاق «3» وصف العلم بأنه يورث الغنى قيل: الأدب يجلب الجمال ويفيد المال. وقيل: من لم يفد بالأدب ما لا استفاد به جمالا. وفي كتاب كليلة: العالم إذا افتقر فعلمه الذي معه يقوّيه كالأسد معه قوّته التي يعيش بها حيث توجه. قال الأصمعي «4» لرجل: ألا أدلك على خليل إن صحبته زانك وإن احتجت إليه مانك، وإن استعنت به أعانك قال: نعم، فقال عليك بالأدب. وصفه بأنه يورث الزهد العلم يزهد في الدنيا الضارّة، ويرغّب في الآخرة السارّة. وقال عمر بن عبد العزيز «5» رضي الله عنه: تعلّموا العلم فإنه عون للفقير أما أني لا أقول يطلب به الدنيا ولكن يدعوه إلى القنوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 قلة الاعتداد بالخلوّ من العلم كان الوليد يلاعب عبد الله بن معاوية بالشطرنج «1» ، فاستأذن عليه ثقفي موصوف بالثروة فستر الشطرنج بمنديل. فلمّا دخل وجلس استنطقه فقال: أحفظت القرآن وشيئا من الفقه، قال: لا، قال: أفرويت شيئا من الآثار والأشعار وأيام العرب قال: لا. فكشف الشطرنج، وقال: شاهك فنحن في خلوة. ودخل حكيم دار رجل خلو من العلم فرأى أثاثا وهيئة فاخرة، وأراد الرجل الداخل أن يبزق بزقة فبزق في وجه الرجل، فقيل له: ما تفعل؟ قال: نظرت فلم أجد في هذه الدار أخسّ منه لخلوّه من المعاني الفاضلة وإنما يرمي بالبزاق إلى أخس المواضع، فلذلك رميت به في وجهه. تلذّذ العلماء بعلمهم كان أبو حنيفة رحمه الله إذا أخذته هزّة المسائل يقول: أين الملوك من لذة ما نحن فيه لو فطنوا لقاتلونا عليه. وقيل: من خلا بالعلم لم توحشه الخلوة، ومن تسلّى بالكتب لم تفته السلوة. وقيل لابن المبارك: من تجالس؟ فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. إني أنظر في كتب آثارهم وأخبارهم. التناسب في العلم قيل لعالم: أي المناسبة أخلد؟، فقال: مناسبة العلم التي غذتها عواطف الشيم. وقيل للنوفلي: ما بلغ من شهوتك للعلم؟، قال: إذا نشطت فلذّتي وإذا اغتممت فسلوتي. قال أبو تمّام: وقرابة الآداب تقصر دونها ... عند الأديب قرابة الأرحام «2» قال الصّولي: إنّ الكتابة والآداب قد جمعت ... بيني وبينك يا زين الورى نسبا «3» وقيل: لا ينبغي للأديب أن يخالط من لا أدب له، كما لا ينبغي للصّاحي أن يناظر السكران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 مدح صيانة العلم وجّه الرشيد إلى مالك بن أنس «1» رحمه الله ليأتيه فيحدثه، فقال مالك إنّ العلم يؤتى فصار الرشيد إلى منزله فاستند معه إلى الجدار، فقال: يا أمير المؤمنين من إجلال الله تعالى إجلال العلم. فقام وجلس بين يديه وبعث إلى سفيان بن عيينة فأتاه وقعد بين يديه وحدّثه. فقال الرشيد بعد ذلك: يا مالك تواضعنا لعلمك فانتفعنا به وتواضع لنا علم سفيان فلم ننتفع به. وفي أمثال العرب أن الثعلب والغراب تحاكما إلى الضب «2» ، فقالا: أخرج وأحكم بيننا. فقال: في بيته يؤتى الحكم. وقال لقمان لابنه: صن علمك فوق صيانة نفسك. وقيل: لم ير أفضل من الخليل «3» في التلطّف عن الكسب بالعلم. كان الناس يأكلون بعلمه وهو في خصّ له. وخرج إلى مكّة، والناس يقولون في الحرمين: قال الخليل، وذكر الخليل، ورجع إلى البصرة ولم يعلم بمكانه. قال الشيخ رحمه الله: ومن ملك نفسه هكذا، فحقيق أن يقال رجل فضل وصدق. وللقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني: ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكن لأخدما ولو أنّ أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظّموه في النفوس لعظّما ولكن أهانوه فهانوا ودنّسوا ... محيّاه بالأطماع حتّى تجهّما «4» نهي العلماء عن التّهافت على باب السّلطان قال بعض العلماء: شرار الأمراء أبعدهم عن العلماء، وشرار العلماء أقربهم إلى الأمراء. ودنا سقاء من فقيه على باب السلطان فسأله عن مسألة فقال: أهذا موضع المسألة؟ فقال السقاء: أو هذا موضع الفقيه؟ وكتب عبد الله بن المبارك رحمه الله إلى ابن علية حين ولي صدقات البصرة «5» : يا جاعل العلم له بازيا ... يصطاد أموال المساكين «6» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 احتلت للدنيا ولذّاتها ... بحيلة تذهب بالدّين فأين ما كنت به واعظا ... من ترك أبواب السّلاطين إن قلت أكرهت فما هكذا ... زلّ حمار العلم في الطين من زان علمه بعمله قال أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه: اعقلوا الخير إذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية فرواية العلم كثيرة ورعايته قليلة. كثرة العلم في غير طاعة الله مادة الذنوب. وقيل: العلم يهتف «1» بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل. ذمّ من شان علمه بتقصير قال النبي صلى الله عليه وسلم: أشدّ الناس عذابا يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه، وقال عليه السلام: أشدّ الناس ندامة عند الموت العلماء المفرطون «2» . وقال صلى الله عليه وسلم: اللهمّ إنّي أعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، وعين لا تدمع، ونفس لا تشبع، وأعوذ بك من شرّ هؤلاء الأربع. كتب الشافعي «3» رضي الله عنه إلى عالم: قد أوتيت علما فلا تطفىء نور علمك بظلمة الذنوب، فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم بنورهم. تفضيل العلم على العمل قال النبي صلى الله عليه وسلم: فقيه واحد أشدّ على الشيطان من ألف عابد. وقال صلى الله عليه وسلم: عمل قليل في علم خير من كثير منه في جهل. وقال الحسن رضي الله عنه: أدركت قوما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: من عمل بغير علم كان ما أفسد أكثر مما أصلح. ذمّ شره العالم وطلب الدنيا بالعلم قال صلى الله عليه وسلم: من إزداد في العلم رشدا ولم يزدد في الدنيا زهدا، لم يزدد من الله إلا بعدا. وروى في الخبر من آتاه الله علما فلم يتنزّه به عن الدنيا كتب بين عينيه الفقير إلى يوم القيامة. قال مالك: قلت للحسن: ما عقوبة العالم؟ قال: موت قلبه. قلت: وما هو؟ قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 طلب الدنيا بعمل الآخرة. قال بعض الأدباء؟ لأن تطلب الدنيا بأقبح ما تطلب به أحسن من أن تطلبها بأحسن ما تطلب به الآخرة. قلّة العلم وكثرة الجهل قال الطائي «1» : أبا جعفر إنّ الجهالة أمّها ... ولو دوام العلم جدّاء حائل وقال علقمة «2» : الجهل ذو عرض لا يستزاد له ... والحكم آونة في النّاس معدوم مدح الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: من حفظ حديثا واحدا من أمر دينه أعطاه الله أجر سبعين صديقا. وقال صلى الله عليه وسلم: من حفظ على أمتى أربعين حديثا، بعث يوم القيامة فقيها. وقال ابن عبّاس: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم ارحم خلفائي فقلت: ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يروون الأحاديث بعدي. ذمّه وذمّ أصحابه؟ قال شعبة: إن هذا الحديث يصدّكم عن ذكر الله، وعن الصلاة فهل أنتم منتهون؟ وقال محمد بن مطيع: رأيت الحسن بن زياد أسوأ الناس صلاة فعاتبته، فقال: ما طلب الحديث أحد إلا ساءت صلاته. وقال عمرو بن الحارث: ما رأيت علما أشرف ولا أوضع أهلا من الحديث وهم شرّ خلف من خير سلف. مدح الإسناد قيل: الإسناد قيد الحديث. وقيل: الحديث من غير إسناد كالجمل بلا زمام وخطام. وصف إعرابي رجلا فقال: ما أحسن حديثه لو أنّ له سلاسل يقاد بها يعني الأسانيد، قال: ونصّ الحديث إلى أهله ... وإن الأمانة في نصّه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وقيل: في قوله تعالى: أو أثارة من علم، أنه الأسانيد. ذمّه طلب رجل من الحسن إسناد حديث فقال: وما تصنع به؟ وقد نالتك عظته وقامت عليك حجته. وقيل لرجل: كتبت حديثا بغير إسناده، قال: إني أريده للعمل لا للتسوّق والتجمّل. وسأل رجل آخر عن إسناد شعر فقال: والله ما تركت الحديث إلا بغضا للإسناد وأنت تسألنيه في الأشعار. مدح النحو النحو نصاب العلم ونظامه وعموده «1» وقوامه ووشي «2» الكلام وحلّته وجماله وزينته. وقيل: النحو يرفع الوضيع ويخفض الرفيع. وكان معلم الرشيد يضرب على الخطأ واحدا وعلى اللحن سبعا. ذمّه نظر بعض الرؤساء إلى ابنه، وهو ينظر في كتاب سيبويه «3» فقال: أفّ «4» لك علم المؤدّبين وهمّة المحتاجين. وقيل: من كثرت عليه العربية أظلمت عليه الرويّة. وقيل: إذا كتبت كتابا فالحن فيه فإنّ العربية مجدودة. وممّا يتّصل بهذا الباب أنّ بعض الفصحاء كان يدخل على بعض عمال البصرة، وهو يعرب «5» في كلامه، فقال له يوما: إن لم تترك الإعراب ضربتك، فقال: إني إذا أشقى الناس، به ضربت صغيرا لأتعلّم وضربت كبيرا لأترك. ذمّ الكثير منه ذكر النحو عند المأمون «6» فقال: علم يغنيك أدناه عن أقصاه. وقال أبو حنيفة: المكثر من النحو كالمكثر من غرس شجر لا يثمر. وقيل: النحو ملح العلم ومتى استكثر من الملح في الطعام فسد. وذكر أهل النحو عند بعض البلغاء فقال: أغزرهم علما أنزرهم فهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 مدح العروض وذمّه قيل: معرفة العروض «1» تسهّل عليك ما تعوّج من الشعر، فإنّه نصابه «2» ونظامه وعموده وقوامه. وعاب النظّام «3» الخليل فقال: تعاطى ما لا يحسنه، ورام ما لا يناله وفتنته دوائره «4» التي لا يحتاج إليها غيره. ودخل أعرابي مسجد البصرة فانتهى إلى حلقة علم، يتذاكرون الأشعار والأخبار، وهو يستطيب كلامهم ثم أخذوا في العروض فلما سمع المفاعيل والفعول ورد عليه ما لم يعرفه فظنّ أنهم يأتمرون به فقام مسرعا وخرج وقال: قد كان أخذهم في الشعر يعجبني ... حتّى تعاطوا كلام الزنج والروم لما سمعت كلاما لست أعرفه ... كأنه زجل الغربان والبوم ولّيت منفلتا والله يعصمني ... من التقحم في تلك الجراثيم وقال ابن طباطبا: كلّ العلوم يزين المرء بهجتها ... إلا العروض فقد شانت ذوي الأدب «5» بي الدوائر دارت من دوارها ... ما لامرىء أرب في ذاك من أرب «6» فاستعمل الذوق في شعر تؤلّفه ... وزن به ما بنوا في سالف الحقب مدح الملح قال الأصمعيّ: نلت بالعلم وصلت بالملح «7» . وقيل: النوادر تفتح الآذان وتفتّق الأذهان. قال أبو عبيدة: الملح مروءة تنفق عند الإشراف، فارتادوا لها وانظروا عند من تضعونها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 مدح الكلام قيل: المتكلمون «1» دعائم الدين ولولا هم لأضلّت الملحدة «2» كثيرا من الناس. وروي أن ملك الصفد كتب إلى الرشيد يسأله أن يبعث إليه من يعلّمه الدين، فدعا يحيى بن خالد فعرض عليه الكتاب، فقال يحيى: لا يقوم لذاك إلا رجلان ببابك هشام بن الحكم وضرار فقال: كلا إنهما مبتدعان «3» فيلقنان القوم ما يفسدهم ويغويهم بالمسلمين، ليس لذلك إلا أصحاب الحديث، فقال يحيى: أصحاب الحديث لا يحسنون وأهل الصفد قد غلب عليهم الثنوية «4» فأتى أبو يوسف ووجه بعض أصحاب الحديث فلما ورد أكله أهل الصفد بالحجج. فقال ملك الصفد: ما أضعف دينكم وحججكم، فضحك صاحب الحديث. فقال الملك: وما هذا الضحك؟ فقال إنا لسنا أصحاب الحجج فإننا مقلّدة وعندنا من له الجدل وعنده الحجج ولا يقوى لهم أحد، وقد أشار بعض المحصلين على صاحبنا أن لا يبعثنا فوقع الغلط عليه. ذمّه قال أبو يوسف: من طلب الدين بالكلام تزندق «5» . وقيل ما تعلم أحد الكلام إلا ساء ظنه بالنّاس. وقيل: من جعل غرضا للجدال أكثر التنقل من رأى إلى رأي. وحكى بعض الصوفية قال: استشرت أبا عبد الله بن حنيف في تعلم الكلام فقال: لا تفعل، فأقلّ ما فيه أنك تسىء عشرة الربّ. فقلت كيف ذلك؟ فقال: لأنك أبدا تقول لو فعل الله كذا لكان جاهلا ولو كان كذا لكان عاجزا، ونحو ذلك مما يجري في كلامهم. مدح الفقه قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أراد الله بعبد خيرا فقّهه في الدّين، وعرّفه عيوب نفسه. وقال صلى الله عليه وسلم: لكل شيء عماد، وعماد هذا الدين الفقه. وقال صلى الله عليه وسلم الأنبياء سادة والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة. وقال صلى الله عليه وسلم: فقيه واحد أشدّ على إبليس من ألف عابد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 مدح الحساب قال الله تعالى: فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ «1» ، وقال الله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ «2» وقيل الحساب ديباج «3» العلم، وقال علي بن زين: لو رفع الحساب لبطلت العلوم ولو رفعت العلوم لم يبطل الحساب. مدح إستخراج المعمّى» وذمّه والحاذق فيه قيل: إستخراج المعمّى يدقق النظر ويصقل الذهن ويفطن القلب. وقيل: إن بعض اليونانيين كتب بلغتهم كتابا إلى الخليل فخلا به شهرا حتى فهمه فقيل له في ذلك، فقال: علمت أنه لا بدّ من أن يفتتح الكتاب باسم الله فبنيت على ذلك فقست عليه وجعلت ذلك أصلا ففتحت ثم وضع كتاب المعمى على ذلك. وقال أبو حاتم: سألت الأصمعي عن المعمّى فقال هو عمى القلب. وقال الجاحظ: ليس المعمّى بشيء قد كان كيسان مستملي أبي عبيدة يسمع خلاف ما يقال، ويكتب خلاف ما يسمع، ويقرأ خلاف ما يكتب، يتعسر «5» عليه إستخراج أخف نكتة «6» من المعمّى. معرفة النسب سئل بعضهم عن علم النسب، فقال: هو علم لا تنفع معرفته ولا يضرّ جهله. وقال رجل لأبي عبيدة: علّمني شيئا من النسب، فقال: ما تستفيد بذلك إلا معرفة المعايب. وقيل: فلان أنسب من دغفل «7» ومن ابن لسان الحمرة. وقال المتنبّي في نبطي «8» عارف بالنسب: وماذا بمصر من المضحكات ... ولكنّه ضحك كالبكا بها نبطيّ من أهل السّواد ... يدرس أنساب أهل العلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وصف فنون من العلم قيل: علم الملوك النسب والخبر والشعر، وعلم السلطان المغازي «1» والسير وعلم التجار الحساب، وعلم الكتاب معرفة الخط وتصريف اللغات. وقيل العلوم ثلاثة: علم الدين لمعادكم «2» وعلم الطب لأبدانكم، وعلم الهندسة لمعاشكم. وقيل تعلّموا الفقه لأديانكم والطب لأبدانكم والنّحو لبيانكم. متبجّح باستيعاب العلم قال ابن المنجّم: أحبّ أن ألقى عديّ بن الرقاع «3» فأقول له: ألست القائل: وعلمت حتى ما أسائل واحدا ... عن علم واحدة لكي أزدادها ثم أريه أنه قد جهل كل علم إلا قوله الشعر الذي يتقدمه عليه غيره ثم أحسن أدبه وأعرك أذنه. ولكشاجم «4» في معناه: وما زلت أبغى الشعر من حيث يبتغى ... وأفتنّ في أفنائه أتعرّفه فقد صرت لا ألقى الذي أستزيده ... ولا يذكر الشّيء الذي لست أعرّفه وهذا من الإعجاب المفرط والجهل بفنون العلم، وكفى دلالة بقلة معلوم الورى قوله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا «5» . جودة الحفظ وذكر الحفّاظ قيل: فلان أحفظ بما يسمعه من الرمل للماء. وهذا أثبت من صدره من الحمد لله. ولمّا نزل قوله تعالى: وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ «6» ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لعلّي سألت الله أن يجعلها أذنك يا عليّ فلم يسمع بعد ذلك شيئا إلا حفظه. وقيل: كان عمرو بن هبيرة «7» يضبط حساب العراق وهو أميّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وقال الشعبي «1» : ما كتبت سوداء في بيضاء إلا حفظتها. وقال: أحفظ كل حديث سمعت والموضع الذي سمعت فيه. وقال الأصمعي «2» : أحفظ اثني عشر ألف أرجوزة. فقال رجل منها البيت والبيتان، فقال: ومنها المائة والمائتان. وورد أبو مسعود الرازي أصبهان «3» ، ويقال أنه أملى عن ظهر قلبه مائة ألف حديث، فلما وصلت كتبه قوبلت بها فلم يعثر منها على سقطة إلا في متن حديثين. وادّعى الخوارزمي «4» أنه حفظ كتاب الأمثال لأبي عبيدة في ليلة، وقيل جرى حديث الحفظ لما كان بأصبهان فقرىء عليه أوراق من حساب البقّالين فأعادها على الترتيب. النسيان وذكر بنيه قيل: فلان لو غابت عنه العافية لنسيها وحكى جراب الدولة أن رجلا كان على عاتقه صبي عليه قميص أحمر، وهو ينادي من وجد صبيا عليه قميص أحمر؟ فقيل: أليس هو على عاتقك؟ فلمسه فقال: أحسنت كنت نسيته. وقال قتادة يوما: ما نسيت شيئا قط، ثم قال في أثره: يا غلام ائتني بنعلي، فقال له الغلام: أليس نعلك في رجلك، وكان قد نسيه. عذر من نسي أجرا قال النبي صلى الله عليه وسلم: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. وقال تعالى في آدم: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً «5» ، وقال تعالى: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ «6» . وسمّي الناسي ابن سهوان ومنه قيل أن الموصين بنو سهوان. قال البحتري: إن كنت أنسيتها فلا عجب ... قد عاهد الله آدما فنسي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وقال آخر: وسميت إنسانا لأنّك ناسي تذكّر الشيء قيل: في المثل ذكرتني الطعن وكنت ناسيا. وقال ابن الرومي في تذكر المتلو بالعود إلى ما قبله وهو بديع في بابه: وتال تلا يوما فأنسي آية ... فأعيت عليه حين رام انتهازها فكرّ على ما قبلها متدبّرا ... فثاب له فكر فأفضى حجازها فشبّهته بابن السبيل تعرضت ... له وهدة فاستصعبت حين رازها فقهقر عنها قيس عشرين خطوة ... فجاش إليها جيشة فأجازها ما يورث النسيان قال أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه: مما يورث النسيان الحجامة في النقرة، والبول في الماء الراكد، وأكل التفاح الحامض، وأكل الكزبرة، وأكل سؤر الفأر، وقراءة ألواح المقابر والنظر إلى المصلوب، والمشي بين الجملين المقطرين، وإلقاء القملة إلى الأرض. وقيل: إن الباقلاء تفسد من الحفظ في يوم ما لا يصلحه البلاذر «1» في سنة. تصنيف الكتب قال الجاحظ: لا يزال المرء في فسحة من عقله ما لم يقل شعرا أو يصنّف كتابا. وقيل من ألّف فقد استهدف فإن أحسن فقد استشرف، وإن أساء فقد استقذف. وقيل: عرض بنات الصلب على الخطاب أسهل من عرض بنات الصدر على ذوي الألباب. جاهل يصنّف كتابا أو يقول شعرا قال الفضل بن سلمة: عجبا منك أبا الهيثم إذ كنت تصنّف وقال أحمد بن أبي طاهر: أظنّ دعوته في الشعر جائزة ... له عليّ كما جازت على النسب وقال آخر: ويوهمنا أنّه شاعر ... كأنّا قدمنا من الباديه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وقال ابن الرومي: كيف لا يشتدّ وسواسي ... حيث أشعارك تدراسي ما اقتنى مثلك دهر ... السوء إلا حين إفلاس التعريض بجاهل قال حجازيّ لابن شبرمة: منّا خرج العلم. فقال: نعم ولكن لم يعد إليكم. وأورد رجل على آخر علما فقال: أتحمل التمر إلى هجر «1» ؟ فقال: إذا قلّ حملها ونزر نخلها. قال الشاعر: يتعاطى كلّ شيء ... وهو لا يحسن شيئا وقال آخر: موّه في ما ادّعاه من حكم ... لكنّ تمويهه على بقر «2» وقال آخر: وقال الطانزون فتى أديب ... فصعّد مقلتيه له وتاها «3» وأطرق للمسائل أي بايه ... ولا يدري وحقّك ما طحاها «4» جاهل غير عارف بجهله قيل: من لا يدري، وهو لا يعلم أنه لا يدري فذاك جاهل فعلّموه. ومن لا يدري وهو يقدر أنه يدري فذاك أحمق فاجتنبوه. قال الشاعر: جهلت ولم تعلم بأنّك جاهل ... ومن ذا الذي يدري بما فيه من جهل وقال آخر: أخالد لم تعلم ولست بعالم ... بأنّك لا تدري وذا غاية الجهل وبضد ذلك تمدح من قال: ما فيّ من فضيلة العلم إلا علمي بأني لست بعالم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 العتب على من يذمّ علما تحدّث يوما شريك بحديث فقال عافية القاضي: لا أعلم هذا. فقال: وهل يضرّ عالما جهل جاهل. وقال المتنبي: وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السّقيم «1» وقال ابن الرومي: عابوا قريضي وما عابوا بمعرفة ... ولن ترى الشمس أبصار الخفافيش «2» ذمّ مستكثر لعلمه معجب بنفسه ذكر النظّام الخليل فقال: توحد به العجب فأهلكه وصوّب له الاستبداد صواب رأيه فتعاطى ما لا يحسنه. وقال إبليس: ثلاث من كنّ فيه أدركت حاجتي منه: من استكثر علمه، ونسي ذنبه، وأعجب برأيه. ويدخل في هذا الباب ما ذكر في قول عديّ بن الرقاع وقد تقدم. ذمّ مدّع للعلم قال كشاجم: تشبّه في النحو بالأخفشين ... فجاء بأعجوبة مطرفه «3» ولم يسمع النّحو لكنّه ... قرا منه شيئا وقد صحّفه فإن لم يكن أخفش الناظرين ... فإنّ الفتى أخفش المعرفه وقال آخر: فما لك بالغريب يد ولكنّ ... تعاطيك الغريب من الغريب «4» وقال أبو العتاهية «5» : أشدّ النّاس للعلم ادعاء ... أقلّهم بما هو فيه علما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وقال الصّولي «1» في نفطويه «2» : يشرع في أكثر العلوم ولا ... يعرف منها أقلّها خطرا من ادّعى ففضحه الامتحان ويدّعي الحفظ للقران ولا ... يقوم بالحمد وحدها نظرا وقيل: لسان الدعوى إذا نطق فضحه الامتحان. وقال الشاعر: كلّ من يدّعي بما ليس فيه ... كذّبته شواهد الامتحان ذمّ من يصيب من غير قصد ذمّ أعرابي رجلا فقال خطؤه بعد اجتهاد وصوابه من غير اعتماد. قال الشاعر: يصيب وما يدري ويخطي وما درى ... وكيف يكون النّوك إلا كذلك «3» الموصوف بالإصابة مرّة والخطأ أخرى قيل في المثل: يشجّ مرة ويأسو أخرى. وقيل: شخب في الإناء وشخب في الأرض، يشوب «4» ويروب» فؤاد خطاء وواد مطر. من سئل فتبلّه قال الشاعر: سألته عن علمه فكأنّما ... سألت عن سكّانه ربعا خلا وقال آخر: كأنّهم عند السؤال جلامد «6» من يروي علما ولا يفهم قال الله تعالى: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً «7» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 قال ابن الرومي: فإن تقل إنّني رويت فكالد ... فتر جهلا بكلّ ما أعتقده محنة العلماء في أيدي الجهّال قال النبي صلى الله عليه وسلم: ارحموا عزيز قوم ذلّ، وغنيا افتقر، وعالما بين جهال. وقيل: إن أردت أن تعذّب عالما فاقرن به جاهلا. وقيل: إن ثمامة بن أشرس لما غضب عليه الرشيد سلّمه إلى خادم يقال له ياسر، وكان الخادم يتفقّده ويحسن إليه حتى سمعه ثمامة يوما يقرأ: ويل يومئذ للمكذبين «1» (بفتح الذال) فقال ثمامة: ويحك المكذّبين هم الأنبياء، اقرأ المكذّبين (بكسر الذال) . قد قيل لي إنك زنديق ولم أصدق. أتشتم الأنبياء؟ ثم هجره وتركه فلم يتفقّده فلما رضي عنه الرشيد وردّه إلى مجلسه، سأله يوما ما أشدّ الأشياء؟ فقال: عالم يجري عليه حكم جاهل. فظنّ الرشيد أنه تعريض به حتى عرّفه خبر الخادم. معاداة الجاهل العالم قال رجل لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر الناس أعداء ما جهلوا، فقال: هذا في كتاب الله، بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولمّا يأتهم تأويله. معاداة العلماء بعضهم بعضا قيل: هلاك العلماء بحسدهم. وقيل: الحسد والملق «2» مذمومان في كل شيء إلا في العلم. قال ابن عباس: لا تقبلوا قول العلماء بعضهم على بعض فإنهم يتغايرون تغاير التيس في الزريبة. وقال الأشجّ: أني لأغار على الحديث كما يغار على الجارية الحسناء. قال أبو تمّام: وما أنا بالغيران من دون جارتي ... إذا أنا لم أصبح غيورا على العلم (5) وممّا جاء في التعلّم والتعليم وما يتعلّق بهما وجوب التعلّم قال النبي صلى الله عليه وسلم: طلب العلم فريضة على كل مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وقال سقراط «1» : من لم يصبر على تعلّم العلم وتعبه صبر على شقاء الجهل. وقال بعضهم: تعلّموا الأدب وإن لم ينلكم حظّ من الدنيا، فلأن يذم فيكم الزمان أحسن من أن يذم بكم. تفضيل بثّ العلم ووجوبه قال النبي صلى الله عليه وسلم: من علم علما فكتمه ألجمه الله تعالى بلجام من نار يوم القيامة. وقال الحسن (رحمه الله) : زكاة العلم تعلّمه. أتى رجل الزهريّ ليحدثه فأبى، فقال: إن الله تعالى لم يأخذ الميثاق على الجهال أن يتعلموا حتى أخذه على العلماء أن يعلموا. قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ «2» . وقيل: ما يتصدق رجل بصدقة أفضل من علم ينشره. وأتى طالب علم باب عالم فقال: أعطني مما أعطاك الله، فأمر له بدراهم، فقال: أنا طالب هدى لا طالب ندى، فعلم أوضح لبسا خير من مال أغنى نفسا. فضل المعلّم والمتعلّم معا قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا خير في من كان من أمّتي ليس بعالم ولا متعلّم. وقيل: الناس عالم ومتعلّم وما سواهما همج. وجوب تعظيم المعلّم قيل: للإسكندر أنك تعظم معلمك أكثر من تعظيمك لأبيك فقال لأن أبي سبب حياتي الفانية ومؤدبي سبب الحياة الباقية. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يقام لأحد إلا لذي علم أو لذي سن أو لذي سلطان. وقيل: لا يستخف أحد بمن تعلم منه علما إلا وضيع خامل أو رفيع جاهل. وعن بعض العلماء لا يتحركن ثلاثة لأحد القاضي في يوم مجلسه والكاتب في وقت أمره ونهيه والمؤدب في مكتبة. وجوب تعظيم المتعلّم قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقّروا «3» من تتعلمون منه، ووقّروا من تعلّمونه. قال أبو العالية: ولا تصعّر خدّك للناس: أي ليكن الفقير والغنيّ عندك سواء في تعلّم العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 اختيار التلامذة وحثّ كلّ إلى تعلّم ما يليق به سأل أفلاطون بعض تلامذته عن مسألة لم تكن تليق بحاله، فقال: لست من أهلها فلكل تربة غرس ولكل بناء أس. وقيل: تصفح طلاب علمك كما تتصفح خطاب حرمك. وكان يونس يختلف إلى الخليل يتعلم منه العروض فصعب عليه تعلّمه، فقال له الخليل يوما: من أي بحر قول الشاعر: إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع ففطن يونس لما عناه الخليل فترك العروض. وقيل اختر كل إنسان للفنّ الذي يستطيبه، فبقدر شهوته يكون نفاذه فيه. منع العلم عن غير أهله قال المسيح عليه السلام: لا تضعوا الحكمة في غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم. وكن كالطبيب الحاذق يضع دواءه حيث يعلم أنه ينتفع به. وفي بعض الكتب يا بني إسرائيل لا تطرحوا الدرّ بين أيدي الخنازير فتطؤه وهي لا تعرفه. وقال الإمام الشافعي (رضي الله عنه) : ومن منح الجهّال علما أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقد ظلم وقيل: ما كلّ تريبة تحتمل القلائد، ولا كلّ ضريبة تستحقّ الفوائد. النّهي عن تعليم الأوغاد، وذمّهم إذا تعلّموا قالت الحكماء: لا تعلمنّ الدنيء علما فيستفيده منك، ويصير به عدوا لك. فلأن يتضع ألف من عليّين أولى من أن يرتفع دنيء واحد. وقيل لبعضهم: أي علم أضر؟ فقال: ما يفاد الأوغاد. وقيل لأبي سنان: تموت وتدخل علمك معك القبر، فقال: ذاك أحبّ إليّ من أن اجعله في إناء سوء. ورأى حكيم رجلا يعلم دنيئا علما فقال له: أتسقي سهما ترمى به يوما. وقال دعبل في أبي تمّام: إن عابني لم يعب إلا مؤدّبه ... فنفسه عاب لمّا عاب آدابه وكان كالكلب أضراه مكلبه ... كيما يصيد له فاصطاد كلابه «1» وقال آخر: أعلّمه الرماية كلّ يوم ... فلمّا اشتدّ ساعده رماني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وكم علّمته نظم القوافي ... فلمّا قال قافية هجاني دنيء استفاد علما فازداد به شرا قال البديهي، وقد أجاد: إذا ما اقتنى العلم ذو شرة ... تضاعف ما ذمّ من مخبره «1» وصادف من علمه قوّة ... يصول بها الشرّ في جوهره وصار عدوّا لإخوانه ... وسيفا حساما على معشره «2» فضل تعليم الأولاد يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: ما منح والد والدا أفضل من أدب حسن. وكانت اليونانية تورث الأبناء الأدب والبنات النسب. وقيل من أدب ولده صغيرا قرّت به عينه كبيرا. وقيل: من أدب ولده أرغم حاسده. حكى أن المنصور بعث إلى من في الحبس من بني أمية يقول لهم: ما أشدّ ما مر بكم في هذا الحبس؟ فقالوا ما فقدنا من تأديب أولادنا. وقيل: لا يحبّ الأب ابنه حتى ينغضه على ترك الأدب. فضل التعلّم في الصّغر قيل: بادروا بتأديب الأطفال قبل تراكم الأشغال. وسمع الحسن رجلا يقول: التعلم في الصغر كالنقش في الحجر فقال الكبير أوفر عقلا منه لكنه أشغل قلبا. وقيل: من لم يتعلّم في الصّغر هان في حال الكبر. وقال الشاعر: هل الحفظ إلا للصبيّ فذو النّهى ... يمارس أشغالا تشرد بالذّكر فضل التعلّم في الكبر قيل لأنوشروان: أيحسن بالشيخ أن يتعلّم؟ قال: إن كانت الجهالة تقبح منه فالتعلم يحسن به، فقيل: وإلى متى يحسن منه؟ فقال: ما حسنت به الحياة. وقيل: لحكيم ما حدّ التعلم فقال حدّ الحياة، أي يجب له أن يتعلم ما دام حيا. وقال شيخ للمأمون: أقبيح بي أن أستفهم؟ فقال: بل قبيح بك أن تستبهم. الأحوال التي تحصل بها العلوم قيل: لا يصير الإنسان عالما إلا بخمس غريزة محتملة للعلم، وعناية تامّة وكفاية قائمة، واستنباط «3» لطيف، ومعلم فصيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وقيل: لا تستطيع أن تعي العلوم السنيّة، حتى تمحو من ذهنك الأمور الدنيّة. الأوقات المرتضاة للدّرس قيل: انظروا في العلم بالليل، فالقلب بالنهار طائر وبالليل ساكر، أي ساكن. وقيل لبعضهم: لم اخترت الغدوة للدرس؟ فقال: لأن العقل أجمّ «1» لقرب عهده بالصمت، وبعد جوارحه من المعاصي. من سهل عليه التعلّم قيل: إذا كانت الطبيعة نقيّة، اكتفت بالأذكار، وغنيت عن التكرار. وقيل: فلان يكتفي باللحظ ويستغني عن اللفظ. من عسر عليه التعلّم قال الله تعالى: لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا «2» . وقال بعض الحكماء: صقلك سيفا ليس له جوهر من سنخه خطأ، وحملك الصعب المسنّ على الرياضة عناء، وبثّك الحبّ في أرض سبخة ترجو نباتها جهل. وقال أبو تمام: السيف ما لم يلف منه صيقل ... من سنخه لم ينتفع بصقال «3» وقال الخليل (رحمه الله) لبليد: ما أجد لقفل بلادتك مفتاحا. تعسّر تعلّم الكبار نظر رجل إلى فيلسوف يؤدب شيخا فقال: ما تصنع؟ قال: اغسل مسبحا لعله يبيض. قال: ومن العناء رياضة الهرم «4» وقال آخر: أدب الكبير من التعب ... كبر الكبير عن الأدب وقال آخر: إن الرياضة لا تجدي لدى الشّيب وأسلم بعض الولاة هرما إلى كتاب ليتعلم شيئا من القرآن، وكان إذا تعلّم شيئا نسي ما قبله، فوجه إليه أن ابعث إليّ من يتسلم منّي ما أحفظه، أوّلا فأوّلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 من يعلّم من هو أعلم منه قيل: كمستبضع التمر إلى هجر، وكمعلمة أمها البضاع «1» . وقيل: تعلّمني بضبّ أنا حرّشته، وقيل: فلان يقرأ سورة يوسف على يعقوب عليهما السلام. وقال المتنبي: فآجرك الإله على عليل ... بعثت إلى المسيح به طبيبا ويقال: أنا منه كحاقن «2» الإهالة إذا كنت عارفا به. الحثّ على الحفظ دون الاعتماد على الكتب قيل: إذا فقد العالم الذهن قلّ على الأضداد احتجاجه وكثر إلى الكتب احتياجه. وقيل: لا خير في علم لا يعبر معك الوادي ولا يعمر بك النّادي. وقال محمد بن بشير: ليس بعلم ما يعي القمطر ... ما العلم إلا ما وعاه الصّدر «3» وله أيضا: إذا لم تكن حافظا واعيا ... فجمعك للكتب لا ينفع وقال آخر: غدوت بتشمير وجدّ عليهم ... فمحبرتي سمعي ودفترها قلبي ضبط العلم بالكتابة قيل: قيّدوا العلم بالكتابة، وقال سقراط: ما بنته الأقلام لم تطمع في دروسه الأيام. وقيل: العلم يندّ فاجعلوا الكتب له حماة والأقلام عليها رعاة. العلم عقود فاجعلوا الكتب لها نظاما. وقيل: اكتبوا ما تسمعونه من الحكم ولو في بياض النواظر بأطراف الخناجر. وصف المثبت لكلّ ما يسمع قال أعرابي في رجل يكتب كل ما يسمع: أنت حتف الكلمة الشّرود «4» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وقال آخر: ما أنت إلا الحفظة ... تكتب لفظ اللفظة قال الأصمعي: قال لي أعرابي رآني أكتب ما أسمع وأستحسن لا تدع شيئا إلا نمصته أي نتفته. السؤال عمّا يجهل يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: العلم خزانة مفتاحها السؤال. وقال أنس: السؤال يعمر العلم. وقيل: لا تسل رياء ولا تتركه حياء. وقيل: سل سؤال الحمقى واحفظ حفظ الأكياس «1» . وقيل لدغفل: بم أدركت هذا العلم؟ فقال بلسان سؤول وقلب عقول. وقال الشاعر: شفاء العمى طول السؤال وإنّما ... تمام العمى طول السكوت على الجهل الحثّ على الأخذ من الصّغير والكبير قال النبي صلى الله عليه وسلم: الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها قيّدها. وقيل: خذ الحكمة ممّن تسمعها منه، فرب رمية من غير رام وحكمة من غير حكم. وقيل: لا يمنعنّك ضعة القائل «2» عن الاستماع إليه، فربّ فم كريه مجّ «3» علما ذكيا وتبر صاف في صخر جاس «4» . وسمع الكنديّ كلمة من مخنّث فكتبها، فلاموه على ذلك فقال: ربّ لسان خنث نتج لفظا فحلا، والجوهرة النفيسة لا يشينها سخافة غائصها ولا دناءة بائعها. وقال بزرجمهر: أخذت من كل شيء أحسن ما فيه حتّى من الكلب ذبّه «5» عن حريمه ومن الخنزير بكوره «6» في مقاصده. وقال ابن السكيت لرجل: أتراك أحطت بما لم أحط به، فقال وما أنكرت. وقد قال الهدهد- وهو أخس الطيور- لسليمان: أحطت بما لم تحط به. مدح من يقول لا أدري سئل الشعبيّ عن مسألة فقال: لا أدري. فقيل: ألا تستحي من قولك هذا وأنت فقيه العراقيين؟ فقال: إن الملائكة لم تستحي إذ قالت سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وقيل لأبي عمرو: ومثله، فقال: أقبح من هذا أن أقول فأخطىء وأروي فلا أروي. وقال شاعر: إذا ما انتهى علمي تناهيت عنده ... أطال فأملى أم تناهى فقصّرا وقال الحسين (رضي الله عنه) : لو أن العالم كلّ ما قال أحسن وأصاب، لأوشك أن يجنّ من العجب، وإنما العالم من يكثر صوابه. وقال بعض الفقهاء: العلم ثلاثة: كتاب ناطق، وسنة قائمة، ولا أدري فيقتضي اجتهادا. ذمّ من يقول ذلك سئل رجل عن شيء، فقال: لا أدري، ولا أدري نصف العلم فقيل له: لكنه النصف الأخس. وقال آخر: مثل ذلك فقيل له: فقله مرتين تحز العلم كله. وقال آخر ذلك فقيل له: لكن أبوك بالنصف الآخر تقدم. صعوبة جانب العلم قال الخليل (رحمة الله عليه) : العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلّك، ثم أنت في إعطائه إياك بعضه مع إعطائك إياه كلّك على خطر. وقيل: لا يتأدّب الرجل حتّى يتجنب الفراش الوطيء «1» والدثار الدفيء. وقيل: لا يدرك العلم من لا يطيل درسه، ولا يكدّ نفسه. وقيل لبعض العلماء: ذللت طالبا فعززت مطلوبا، فقال: من ذلّ طلبه عزّ أدبه. وقال أرسطاطاليس: طالب العلم كالغائص في البحر، لا يصل إلى الجواهر الكريمة إلا بالمخاطرة العظيمة. ترفيه النّفس في طلبه قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. وقيل: دار القلب فإذا نشط فأودعه، وإذا فتر فتودعه. وقيل: روّحوا الأذهان كما تروّحون الأبدان، فإنّ العقل المكدود «2» ليس لرؤيته لقاح ولا لرأيه نجاح. وقيل: نفسك مطيتك إن رفهتها اضطلعت، وإن تحاملت عليها انقطعت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 الحرص على الاستكثار منه وعزّه إذا كثر قال صلى الله عليه وسلم: منهومان لا يشبعان: منهوم في العلم، ومنهوم في المال. وقيل: الشره في المال دناءة وفي العلم نباهة. وقيل: كل شيء يعزّ حين ينزر والعلم يعزّ حيث يغزر. اتساع القلب بازدياد العلم قال أبو نواس: ما رأيت شيئا إلا قليله أخف من كثيره، إلا العلم فإنه كلما كان أكثر كان أخف محملا. وقيل: كلّ إناء يفرغ فيه شيء يضيق، إلا القلب فإنه كلما أفرغ فيه علم اتسع. وقال أنوشروان: قلب العالم كبيت فيه مصباح لا يضيق عن تظاهر النور فيه، بل يتسع للنظر ويزيد في الضياء. الترغيب في اختيار النّكت قيل: العلم أكثر من أن يحوى، فخذوا من كل شيء أحسنه، وقيل: حلّ طبعك بالعيون والفقر، فالشجرة لا يشينها قلّة الحمل إذا كانت ثمرتها نافعة. وقال ابن عباس (رضي الله عنهما) : العلم كثير فارعوا أحسنه. أما سمعتم قول الله تعالى فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه؟ قال الشاعر: قالوا خذ العين من كلّ فقلت لهم ... في العين فضل ولكن ناظر العين تناول طرف من كلّ نوع قال يحيى بن خالد: انتق من كلّ علم طرفا، فمن جهل شيئا عاداه، واكره أن تكون عدوّا لشيء من الآداب. وقيل: إذا أردت أن تكون عالما فاقصد فنا واحدا، وإذا أردت أن تكون أديبا فخذ طرفا من كل فن. وقيل: من لا يعلم إلا فنا واحدا من العلم سمّي الخصيّ من العلماء. تقديم تعلم ما لا يستغنى عنه قال المأمون: العلم لا يدرك غوره «1» ولا يسبر قعره، فابدؤا بالأهم فالأهم بالفرض قبل النفل «2» ، إن الأهم المقدّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وقيل: ضيّع الناس الأصول بتركهم الأصول. النهي عن الخوض في فنون من العلم قيل: ازدحام العلم في السمع مضلّة للفهم. وقيل: إذا رأيتم رجلا يريد تعلم أنواع العلوم فداووه. وقيل: من رام أن ينتحل فنون العلم استخفّ بنحيزته «1» ، ووقف الناس على غميزته «2» . قال الشاعر: تعلّمت حتّى من كلاب عواءها ... لعمري لقد أسرفت في طلب العلم كثرة العلم قال الحسن (رضي الله عنه) : ما ترك قول الله تعالى:- وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا - عالما يظن أنّ علمه كثير. وقيل لفيلسوف: إلى أين بلغت في العلوم؟ قال: إلى الوقوف على القصور عنها. زهد من يقرب من العلماء في العلم قيل: أزهد الناس في العالم جاره. وقيل: العالم كالجمة من البئر، يأتيها البعداء، ويزهد فيها القرباء. وقيل لرجل: كيف غلبت البرامكة؟، فقال: بتطراف الغرباء والملالة من القرباء. وقال أنوشروان: رأيت في منامي رجلا يعدو والماء خلفه يناديه، فعبّر بأنه رجل يفرّ من العلم وعالم يناديه ليفيده وهو يمنع منه. حمد التأديب قال أمير المؤمنين علي رضي عنه: النّاس عالم ومتعلم، وما سواهما همج. فدلّ ذلك على تفضيل التأديب، وجميع ما تقدم من عموم فضل التعليم فدلالة على فضل المؤدبة. وقال ابن ثابت: إن المؤدبة ولدوا بنجم الملوك حاسبون حسابهم. وسأل الرشيد يوما: من أكرم الناس خدما؟ قيل: أمير المؤمنين فقال: لا، بل أكرمهم خدما الكسائيّ فقد رأيته يخدمه الأمين والمأمون وليّا عهد المسلمين وليس لي من الخدم مثلهما. وقال خالد بن صفوان لمؤدب: أنت أنظفنا وصيفا وأحضرنا رغيفا. ذمّ التأديب وكونه نقصا لذوي الفضل كلّف إسماعيل بن علي عبد الله بن المقفع أن يجلس مع ابنه في كل أسبوع يوما، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 فقال: أتريد أن أثبت في ديوان النوكي؟ وقال سعيد بن سلم: قصدت الكوفة فرأيت ابن المقفع فرحّب بي، وقال: ما تصنع ههنا؟ فقلت: ركبني دين فأحوجت إلى الإزعاج. فقال: هل رأيت أحدا؟ فقلت: ابن شبرمة وعرّفته حالي، فقال: أنا أكلّم الأمين ليضمّك إلى أولاده فيكون لك نفع. فقال: أف لذلك أيجعلك مؤدبا في آخر عمرك، أين منزلك؟ فعرّفته فأتاني في اليوم الثاني وأنا مشغول بقوم يقرؤون عليّ ومعه منديل فوضعه بين يدي، فإذا فيه أسورة مكسورة ودراهم متفرّقة مقدار أربعة آلاف درهم، وحينئذ» زمان المنصور وفي الدراهم ضيق. فأخذت ذلك ورجعت به إلى البصرة واستعنت به. قال الشاعر: كفى المرء نقصا أن يقال بأنّه ... معلّم صبيان وإن كان فاضلا وقال آخر: إنّ المعلّم حيث كان معلّم ... ولو ابتنى فوق السّماء سماء وصايا المؤدّبين في الأولاد أوصى هشام بن عبد الملك سليمان الكلبيّ، لما اتخذه مؤدّبا أنّ ابني هذا هو جلدة «2» ما بين عينيّ، وقد ولّيتك تأديبه فعليك بتقوى الله، وأداء الأمانة فيه، بخلال أوّلها أنك مؤتمن عليه، والثانية أنا إمام ترجوني وتخافني، والثالثة كلّما ارتقى الغلام في الأمور درجة ارتقيت معه. وفي هذه الخلال ما يرغبك في ما أوصيك به. إنّ أول ما آمرك به أن تأخذه بكتاب الله وتقرئه في كل يوم عشرا يحفظه حفظ رجل يريد التكسب به ثم روّه من الشعر أحسنه. ثم تخلّل به في أحياء العرب، فخذ من صالح شعرهم هجاء ومديحا، وبصّره طرفا من الحلال والحرام والخطب والمغازي، ثم أجلسه كل يوم للنّاس ليتذكر. وقال عتبة بن أبي سفيان لمؤدب ولده: ليكن أوّل إصلاحك لولدي إصلاح نفسك فإنّ عيونهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنته والقبيح ما استقبحته. علّمهم كتاب الله وروّهم من الحديث أشرفه، ومن الشعر أعفّه ولا تكرههم على علم فيملّوه ولا تدعهم فيهجروه، ولا تخرجهم من علم إلى علم. حتى يحكموه، فازدحام العلم في السّمع مضلّة للفهم. وعلّمهم سير الحكماء وهدّدهم وأدّبهم دوني، ولا تتكل على كفاية منك، واستزدني بتأثيرك أزدك إن شاء الله تعالى. وضرب أبو مريم مؤدّب الأمين والمأمون الأمين بعود فخدش ذراعه فدعاه الرشيد إلى الطعام فتعمّد أن حسر عن ذراعه فرآه الرشيد. فسأله، فقال: ضربني أبو مريم فبعث إليه ودعاه قال فخفت فلما حضرت، قال: يا غلام وضّئه فسكنت وجلست آكل، فقال: ما بال محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 يشكوك فقلت قد غلبني خبثا وعرامة «1» قال: اقتله فلأن يموت خير من أن يموق «2» . الحثّ على تفقّد المؤدب قيل: أولى من تبذل له ثراك من أفادك علاك وصقل حجاك «3» . قال الشاعر: إن المعلّم والطبيب كلاهما ... لا ينصحان إذا هما لم يكرما فاصبر لدائك إن جفوت طبيبه ... واصبر لجهلك أن جفوت معلّما ووقّع الصاحب لبعض المؤدّبة إلى من تقاعد بمشاهرته: الكلب يرفع نفسه ويجلّها مع خسّته من أن يفيت مؤدّبا مستوجبا من أجرته وسمع مؤدّب يلقّن صبيّا: وإذ قال لقمان «4» لابنه: وهو يعظه يا بنيّ لا تقصص رؤياك على أخوتك فيكيدوا لك كيدا وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدا. فقيل له: ما هذا؟ فقال: إن أباه يدخل مشاهرة شهر في شهر، وأنا أدخله من سورة إلى سورة، لئلا يحصل على شيء كما لا أحصل أنا على شىء. نوادر المعلمين فيما يقرأ عليهم الصبيان قرأ صبيّ على معلم: وإنّ عليك اللعنة يا شيخ، وأخذ يكرر ويقف. فقال: عليك وعلى والديك. فقال الصبيّ: ليس فيه وعلى والديك، لكنه عليك هل ألحقه به؟ وقرأ آخر على معلّم: اخرج منها فإنّك رجيم. فقال: ذلك أبوك الكشحان. وقرأ آخر على معلّم: ما لنا في بناتك من حقّ وأخذ يكررها كالمستفهم، فقال: لا ولا كرامة لك. نوادرهم فيما يقرأ عليهم من التصحيفات «5» قرأ صبي على معلم إنّي أريد أن أنكحك، فقال: هذا إذا قرأت على أمّك القحبة. وقرأ آخر: عليها ملائكة غلاظ شداد يعصون الله ما أمرهم ولا يفعلون ما يؤمرون. فقال: هؤلاء أكراد لا ملائكة. وكان معلّم يلقّن صبيا «عبس وتولّى» ، فكان يقول: أبس وتولّى. فضربه المعلم فقال: عاه فقال: حوّل العين من ههنا إلى ثمّ وخلّصني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وقرأ آخر: وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصل، فقال يا ابن الفاعلة لعلك تشتهي البصيلة. ما وصف من لواط المعلمين وفد سعيد بن عبد الرحمن على هشام «1» ، وهو صبي وضيء الوجه فبعث به هشام إلى عبد الصمد مؤدب ولده الوليد ليؤدّبه. فراوده عن نفسه فخرج من عند المؤدب مغضبا ودخل على هشام وهو يقول: إنّه والله لولا أنت لم ... ينج منّي سالما عبد الصّمد فقال وما ذاك؟ قال: أنّه قد رام منّي خطّة ... لم يرمها قبله منّي أحد قال وما ذاك؟ فقال: رام جهلا بي وجهلا بأبي ... يولج العصفور في خيس الأسد «2» فطرد عبد الصمد عن داره. وحدّث الأحيمر النحوي وكان مؤدّب الأمين اتخذ عليه بعد حمّاد عجرد «3» ، وكان حماد اتخذ عليه بعد نفي قطرب «4» قال: كان سبب نفيه أن حمادا كان يتعشّق الأمين ويطمع أن يتخذ عليه مؤدبا فلم يتأتّ له ذلك حتى استوى الأمر على قطرب، فاحتال حمّاد وكتب هذين البيتين وناولهما بعض الخدم على يد مجهول: قل للأمير جزاك الله صالحة ... لا يجمع الدهر بين السخل والذيب «5» السخل غرّ وهمّ الذيب غفلته ... والذيب يعلم ما في السخل من طيب فلما قرأهما الرشيد نفى قطربا واتخذ حمّاد عجرد، وجعل عليه ثمانين من الرقباء فخاف قطرب لما وسم بهذه السمة فهرب إلى الكرج، والتجأ إلى أبي دلف فحسن حاله. ودخل المأمون ديوان أحمد بن يوسف فصادف حوله مردا حسانا فقال: أسد رابض حواليه أسد ... ليس ينجو من الأسود الظباء وقال خلف الأحمر لمعلمه وهو في الكتاب وقد راوده عن نفسه: أتترك في الحلال مشق صاد ... وتأتي في الحرام مدار ميم «6» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 حماقة المعلّمين قال يعقوب الدورقي: إن الله أعان على عرامة الصبيان، ب حماقة المعلمين . وقال سهل بن هارون «1» لم أر قاضيا ولا عدلا معلم كتاب، لا في تافه حقير ولا في ثمين خطير. وقال الشاعر: وكيف يرجّى العقل والرأي عند من ... يروح على أنثى ويغدو على طفل وقال آخر: أنت ألحى معلّم وطويل ... حسبنا ربّنا ونعم الوكيل وقال الجاحظ: المعلمون على ضربين: منهم من ارتفعوا عن أولاد العامّة إلى تعليم أولاد الملوك والمرشّحين للخلافة كالكسائي وقطرب وحماد وعبد الصمد، فهؤلاء لا تجوز عليهم الحماقة، وإن لكلّ قوم حاشية وجهالا وسفهاء. ما وصف من ذكاء الصبيان وكيسهم في الكتاب قال مؤدب يزيد بن عبد الملك: لم لحنت؟ فقال: الجواد يعثر. فقال المؤدب: أي والله ويضرب حتى يستقيم. فقال يزيد: وربما يرمح «2» سائسه فيكسر أنفه. ويروى عن ابن السكيت قال: أحضرت لاتخذ على المعتز بالله، فقلت له: بأي شيء نبدأ اليوم. فقال: بالخروج. فقلت: نعم. فعدا من بين يدي وعثر على المرمر، فقال: يموت الفتى من عثرة بلسانه، وليس يموت المرء من عثرة الرجل. فقلت للمتوكل: جئتم بي لتأديبه وهو آدب منّي. فأمر لي بعشرة آلاف درهم. قال أبو محمد يحيى- وكان مؤدب المأمون في صغره- صلّيت يوما قاعدا فأخطأ المأمون فقمت لأضربه، فقال: أيها الشيخ أتطيع الله قاعدا وتعصيه قائما فكتب بهذا إلى الرشيد فأمر لي بخمسة آلاف درهم. وحكي أنه بدر من أبي عمر الصباغ إلى الصاحب جفاء وكان مؤدبه، فقام من عنده وكتب إليه: أودعتني العلم فلا تجهل ... كم مقول يجني على مقتل وأنت إن علمتني سوقة ... والسيف لا يبقي على الصّيقل فاتصل ذلك بأبي الحسين بن سعد فتعجب منه وكتبه وقال: ابن ثمانين يكتب شعر ابن عشر ثم تلا: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا «3» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 أمارة نجابة «1» الصبيان قيل لأعرابي: ما أمارة النجابة في صبيانكم؟ قال: إذا كان أعنق «2» أشدق أحمق. فأقرب به من السودد «3» . وقال الزبرقان: أكيس صبياننا العريض الورك السبط «4» الغرّة، الطويل الغرلة «5» ، الأبله العقول. وقال بزرجمهر لكسرى، وعنده أولاده: أي أولادك أحب إليك؟ قال أرغبهم في الأدب، وأجزعهم من العار وأنظرهم إلى الطبقة التي فوقه. وروى ابن عباس (رضي الله عنهما) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: عرامة الصبيّ في صغره زيادة في عقله إذا كبر. وقال معاوية: طيّروا الدم في وجوه الصبيان، فإن بدا في وجوههم الحياء وإلا فلا تطمعوا فيهم. صبيّ استدلّ بعقله على كبر همّته قيل: أول ما عرف من سودد خالد القسري أنّه مرّ في بعض طرق دمشق راكبا، وله عشر سنين فوطىء فرسه صبيا فوقف عليه فرآه لا يتحرك فانتهى إلى أول مجلس مرّ به، فقال: إن حدث بهذا الغلام حدث فأنا صاحب الجناية ولم أعلم. ومرّ عمر رضي الله عنه بصبيان يلعبون وفيهم عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، فعدا الصبيان ووقف عبد الله فقال له عمر: ما لك لا تذهب مع الصبيان؟ فقال: يا أمير المؤمنين لم أجن إليك فأخافك، ولم يكن في الطريق ضيق فأوسعه لك. فقال عمر: أي شيطان يكون هذا؟ وكان عبد الملك صغيرا فأربى عليه صبيّ فضربه، فقيل له: لو شكوته إلى عمّك لانتقم منه. فقال: أنا لا أعدّ انتقام غيري انتقاما. وقال السري الرفاء يصف غلاما بعلو الهمة: لا تعجبنّ من علوّ همّته ... وسنّه في أوان منشاها إنّ النّجوم التي تضيء لنا ... أصغرها في العيون أعلاها من تكلّم عند الخلفاء وهو صغير فارتفع بذلك شأنه أوفد أبو موسى الأشعري زيادا على عمر رضي الله عنه، وكان يكتب له، وهو حين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 بلغ. فلمّا جاء وجده من الكيس بمحل. فقال له عمر: اعتزل عملك. فقال زياد: أعن خيانة؟ قال: لا، ولكني أكره أن أحمّل الناس فضل عقلك ومنطقك. قال: إذا لا أبالي. دخل محمد بن عبد الملك ابن صالح على المأمون حين قبض على ضياعهم وهو صبي أمرد «1» ، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. قال: من أنت؟ قال: سليل نعمتك وابن دولتك وغصن من أغصان دوحتك، أتأذن لي بالكلام؟ قال: نعم. فتكلم بكلام حسن فقضى حاجته. نظر المأمون إلى الحسن بن رجاء وهو صبي في ديوانه، فقال: من أنت؟ قال: الناشىء في دولتك المتقلّب في نعمتك وتخريج أدبك الحسن بن رجاء. فقال المأمون: بالإحسان في البديهة تفاضلت العقول وأمر برفعه عن محلّه. وفي بعض كتب الفرس أن كسرى أراد كاتبا لأمر أعجله فلم يوجد غير غلام صغير يصحب الكتاب فدعاه، فقال: ما اسمك؟ قال: مهر ماه. قال: اكتب ما أملى عليك فكتب قائما أحسن من غيره قاعدا. ثم قال له: اكتب في هذا الكتاب من تلقاء نفسك ففعل وضمّ إلى الكتاب رقعة فيها: إن الحرمة التي أوصلتني إلى سيدنا لو وكلت فيها إلى نفسي لقصرت أن أبلغ إليها فإن رأى أن لا يحطّني إلى ما هو دونها فعل. فقال كسرى: أحب مهر ماه أن لا يدع في نفسه لهفة يتلهف عليها بعد إمكان الفرصة. وقد أمرنا له بما سأل. وذكر أن عمرو بن عتبة أعتق غلاما له فقام إليه وصيف له فقال: اذكرني ذكرك الله فاستصغره فقال ويلك أنك لم تخرف بعد. فقال: إن النخلة قد تجتنى زهوا قبل أن تصيرمعوا. قال: قاتلك الله قد استعتقت قد وهبتك لواهبك لي. وصف بلادة الصبيان في التعلّم كان معلّم يضرب صبيّا، فقيل له: لم تضربه؟ فقال أنه يترك الصواب الهيّن ويأتي الخطأ الصعب، فإذا هو يقرأ: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ «2» ويقرأ: فيؤخذ بالنواهض «3» والأقدام. وحكي أن مؤدبا ادّعى أنه علّم صبيا النحو والفرائض، فامتحنه أبوه فقال له: كيف تقول ضرب زيد عمرا؟ قال: كما تقول فقال له: فما إعرابهما؟ قال زيد رفع بفعله وما بقي فللعصبة. وأمر آخر معلما أن يعلمه الفرائض فامتحنه يوما، فقال له: ما تقول في رجل مات وخلف ابنتين وابنا، فقال: أما الابن فيسقط، فقال: نعم إذا كان مثلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وسلّم أشعب في البزازين فقيل له بعد سنة إلى أين بلغت في معرفة البز، قال: أحسنت النشر وأرجو أن أتعلم الطي. (6) ومما جاء في البلاغة وما يضادها ما حدّ به البلاغة قيل: البلاغة ما اجتيازه فساده. وقيل: الإيجاز من غير عجز والإطناب من غير خطل. وسئل آخر فقال: أن لا تخطىء ولا تطىء. وسأل المأمون الحسن بن سهل عن ذلك، فقال: ما فهمته العامة ورضيته الخاصّة. وسئل عنه بعض اليونانيين، فقال: تصحيح الأقسام واختيار الكلام. وسئل حكيم عن البليغ، فقال: ما إذا أخذ شبرا كفاه، وإن أخذ طومارا «1» ملاه. ما حدّ به الإيجاز ووصفه سئل بعضهم فقال: اللمحة «2» الدالة قال جعفر بن يحيى البرمكي: إن استطعتم أن تكون كتبكم توقيعات، فافعلوا. ووقّع محمد بن طاهر أيام الفتنة إلى الكتاب: لتدقق الأقلام ويختصر الكلام. فالقراطيس «3» لا ترام. وقيل: من أطال الحديث فقد عرض أصحابه للسآمة «4» وسوء الاستماع. وقيل:- الكلام إذا طال اختلّ وإذا اختلّ اعتلّ، وقال منصور الفقيه: ولا تكثرن فخير الكلام القليل الحروف الكثير المعاني وقيل: خير الكلام ما قلّ ودلّ ولم يطل فيملّ. كلمات موجزة ذكر ذلك يطول، ولكن لا بدّ من ذكر أحرف تكون أمثلة. سئل جعفر بن يحيى عن أوجز كلام فقال: قول سليمان عليه السلام إلى ملكة سبا أنه من سليمان، وأنه بسم الله الرحمن الرحيم، أن لا تعلوا عليّ وائتوني مسلمين، فجمع في ثلاثة أحرف العنوان والكتاب والحاجة وإظهار الدين وعرض الرشاد إلى المكتوب إليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وكتب المعتصم إلى ملك الروم جوابا عن كتاب تهدّده فيه: الجواب ما ترى لا ما تسمع، وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار، والسلام. وأمر المأمون عمرو بن مسعدة أن يكتب كتاب عناية موجزة فكتب: كتابي كتاب واثق بمن كتب إليه، معتنى بمن كتب له، ولن يضيع بين الثقة والعناية موصله. الإيجاز والإطناب «1» في محلّيهما قيل لأبي عمرو بن العلاء: لم كانت العرب تطيل؟ قال: ليسمع منها. قيل: فلم توجز؟ قال: ليحفظ عنها. وقد قال الشاعر في هذا المعنى: يرومون بالخطب الطّوال وتارة ... وحي الملاحظ خيفة الرّقباء وقال ابن قدامة: البلاغة ثلاثة مذاهب: المساواة، وهي مطابقة اللفظ والمعنى لا زائدا ولا ناقصا. والإشارة وهي أن يكون اللفظ كاللمحة الدالّة والتذييل وهو إعادة الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد، ليظهر لمن لم يفهمه، ويتأكد عند من فهمه. وقال شاعر: يكفي قليل كلامه وكثيره ... ثبت إذا طال النّضال مصيب وأمر يحيى بن خالد كاتبين أن يكتبا في معنى، فأوجز أحدهما وأطال الآخر، فقال للموجز، لمّا نظر في كتابه: لم أجد موضع مزيد. وقال للمطيل: لم أجد موضع نقصان. وقال جعفر بن يحيى: إذا كان الإيجاز كافيا كان الإكثار هذرا «2» ، وإذا كان التطويل واجبا كان التقصير عجزا «3» . استقباح إعادة الحديث قيل: الحديث الرجيع «4» كالحدث والرجيع. وقيل: إذا أعيد الحديث ذهب ضوؤه ورونقه. قال ابن السماك لجارية له تصغي إلى كلامه: كيف تجدين كلامي؟ قالت: ما أحسنه إلا أنك تكثر ترداده قال إنما أردده ليفهمه من لم يفهمه قالت إلى أن يفهمه من لم يفهمه ملّه من قد فهمه. وقيل لرجل يعيد كلاما لغبي: قد ثقل كلامك على الذكيّ قبل حصوله في قلب الغبي. ذمّ إطالة الحديث: قيل: من أطال حديثه فقد عرض أصحابه للسآمة» وطول الاستماع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وقال سقراط لرجل: أنساني أول كلامك بعد العهد بآخره، وفارق آخره فهمي لتفاوته. وخطب رجل خطبة نكاح «1» فأخذ يطيل فقام بعض الحاضرين فقال: إذا فرغ الخطيب فبارك الله لكم، فإني على شغل. الموصوف بالفصاحة سمع إعرابي الحسن يتكلم، فقال: هو فصيح إذا لفظ، نصيح إذا وعظ. وقال: ملقّن ملهم فيما يحاوله ... جمّ خواطره جوّاب آفاق وقيل: انتهت الفصاحة إلى أربع: عليّ وابن عباس وعائشة ومعاوية رضي الله عنهم. قال الشعبي: ما رأيت أحدا يتكلم فيحسن إلا أحببت أن يسكت إلا زيادا فإنّه لم يخرج قط من حسن إلا إلى ما هو أحسن منه. وقال يحيى بن زياد: فلان أخذ بزمام الكلام فقاده أحسن مقاد «2» وساقه أحسن مساق فاسترجع به القلوب النافرة واستصرف له الأبصار الطامحة. وقيل: كلام كنظم الجمان «3» وروض الجنان فكأنه من كل قلب ينظم. وقال أبو تمام: من السحر الحلال لمجتنيه ... ولم أر قبله سحرا حلالا وقالت الخنساء «4» : كأن كلام النّاس جمّع حوله ... فأطلق في إحسانه يتخيّر فضيلة اللسان قال العباس رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: فيم الجمال؟ قال: في اللسان، وقيل: ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة. وذكره بعضهم فقال: لله درّه من عضو ما أصغره وأكثر ضرّه ونفعه. وقيل: مروءتان ظاهرتان الفصاحة والرياش «5» . موصوف لسانه بالصرامة قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت رضي الله عنه ما بقي من لسانك فضرب به أرنبته وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 والله لو وضعته على شعر لحلقه أو على صخر لفلقه قال الله تعالى: سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ «1» ، ووصف أعرابي رجلا فقال: أدقّ من ورقة وألين من سرقة. قال الغساني: له بين فكّيه لسان كأنّه ... حسام دقيق الشفرتين عتيق وقال آخر: وللسّيف أشوى وقعة من لسانيا «2» وقال آخر: وحسبت أنّ لسانه من عضبه وصف كلام بالسلاسة «3» قيل: لو كان الكلام طعاما لكان هذا إداما كلام يقطر عسله هذا. والله نثر نغم أحسن من نثر نغم، كلام كالوبل في المحل. وتكلّم المأمون بكلام حسن في مسألة ثم قال لبعض ندمائه: كيف كان الكلام في هذه المسألة؟ قال: كان والله كغيث وقع على أرض عطشة. فقال: جوابك هذا أحلى لدي من الأمن بعد الخوف. وقال المتنبّي: إذا ما صافح الأسماع يوما ... تبسّمت الضمائر والقلوب قال ابن المقفع: ما زالت ينابيع حكمه تترقرق في معابر الآذان حتّى ملأت القلوب عقولا. اللفظ الحسن إحدى النفاثات في العقد. وقيل في وصف كلام: إنه يحطّ الجندل «4» ويثقب الخردل «5» ، وأنه لدون السحر وفوق الشعر. لفظ ساعد المعنى في الجودة مدح أعرابي رجلا فقال: كان ألفاظه قوالب لمعانيه. قال الشاعر: تزين معانيه ألفاظه ... وألفاظه زائنات المعاني وقيل: خير الكلام ما كان لفظه بكرا ومعناه فحلا. وقال شاعر: نرى حلل البيان منشرات ... تخير وسطها صور المعاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 مدح كلام وسط خير الكلام ما لا يكون عاميا سوقيا ولا عربيا وحشيّا. وقيل: الإيغال «1» في البلاغة معجزة، والخروج عن كلام أهل الزمان هجنة. قال أبو الأسود الدؤلي لابنه: يا بنيّ إذا كنت في قوم فلا تتكلّم بكلام من لم يبلغه سنّك فيستثقلوك، ولا بكلام من هو دونك فيستحقروك. مفاضلة الرواية والبديهة قال معاوية لعمرو بن العاص: أنا آدب منك، فقال: أنت للرويّة وأنا للبديهة وبينهما بون «2» . وقال ابن الرومي: نار الرويّة نار غير منضجة ... وللبديهة نار ذات تلويح وقد يفضّلها قوم لعاجلها ... لكنّه عاجل يمضي مع الرّيح فضل البديهة وما يحاضر به قيل: خير الفقه ما حضرت به، ولا خير في علم لا يعبر معك الوادي ولا يعمر بك النادي. وقال الحطيئة: فهذا بديه لا كتحبير قائل ... إذا ما أراد القول دوره شهرا وقال المتنبي: أبلغ ما يطلب النجاح به الطب ... ع وعند التعمّق الزلل النهي عن التشادق والتقعّر وذمّهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أبغضكم إليّ الثرثارون المتفيهقون «3» المتشدّقون «4» . وقال: صلى الله عليه وسلم إياك والتشادق. وقال بشر بن المعتمر «5» إيّاك والتقعر «6» فإنّه يسلمك إلى التعقيد، فيستهلك معانيك، ويمنعك من مراميك. وقال تشقيق البيان من شقاشق الشيطان. وقال النبي صلى الله عليه وسلم شعبتان من النفاق البذاء «7» والبيان، وشعبتان من الإيمان: الحياء والعيّ «8» ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وهذا إنما هو لمن جاوز المقدار أو قصّر عنه وكفاك ما قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يبغض البليغ يتخلّل بلسانه تخلل البقرة بلسانها. وأنشد العجّاج: أمسى الغواني معرضات صددا وأعرابي حاضر فقال: تنحّ عن سننه، وإلا تسقط منه كلمة فتشدخك «1» ، وما أجود ما قال ابن أبي طاهر: إن خير الكلام ما ليس فيه ... عند من يفهم الكلام كلام ذمّ عييّ متقعّر قيل: أعيا العيّ بلاغة بعي. وقال محمد بن وهيب: تشبهت بالأعراب أهل التعجرف ... فدلّ على مثواك قبح التكلّف لسان عرابيّ إذا ما صرفته ... إلى لغة الإعراب لم يتصرّف وقال أبو الأسود لابن صديق له: ما فعلت امرأة فلان التي كانت تساره وتضاره وتماره «2» فقال: طلقها فتزوج بها فلان فخطيت وبظيت فقال أبو الأسود: ما معنى بظيت فقال: كلام لم تدر من أي بيض خرج وفي أي عش درج فقال: إن ما لا أعرفه فاخبأه كما تخبأ الهرة خرءها. من ارتكب أمرا طلبا للسجع خرج عبادة إلى عبادان فقيل: ما الذي جاء بك؟ فقال: لا جمع بين عبادة وعبادان. وكان علي بن رستم خرج إلى بغداد وأسلم فكتب إلى أهله: كتابي إليكم من مدينة السلام عن سلامة وإسلام فقال: أخوه ما خرج أخي وأسلم إلا طلب أن يكتب هذه المسجعة «3» . ما حدّ به العيّ وذمّه قال أكثم العي أن تتكلم بفوقما تقتضيه حاجتك، وقيل: العي معنى قليل يحويه لفظ كثير، وقيل: العي داء دواؤه الخرس، وقيل: لاعي «4» ولا شلل، وتكلم رجل عند معاوية وكان ذا عيّ فقال عمر: وسكوت الألكن «5» نعمة فقال معاوية: وكلام الأحمق نقمة، وقال النمر بن تولب «6» : أعذني ربّ من حصر وعيّ ... ومن نفس أعالجها علاجا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 الآفات المعترضة للسان من العي ّ اللثغة تغيير في القاف والسين واللام والراء، والتمتمة التتعتع «1» في التاء، والفأفاة في الفاء، واللفف إدخال حرف في حرف وإياه عني الشاعر بقوله: كأن فيه لففا إذا نطق والتلجلج «2» يقارب ذلك والحبسة ثقل في الكلام والعقلة اعتقال اللسان والحكلة نقصان آلة النطق حتى لا تعرف معانيه إلا بالاستدلال وأصله في الفحل إذا عجز عن الضراب «3» ، وقيل: لا يصفو كلام من يكون منزوع الثنيتين. ما يعرض في بعض اللغات من العي ّ كشكشكة تميم وهو قلب كاف المؤنث شيئا نحو، فعيناش عيناها وجيدش جيدها، وكسكسة بكر وهي قلبها، سينا وعنعنة تميم كقوله: ظننت عنك ذاهب والعجرفة جفاء في الكلام، واللخلخانية تعرض في أعراب الشجر وعمان والطمطمانية لغة في حمير كقولهم طاب امهواء، أي طاب الهواء. استعمال كلّ كلام مع الجنس المخصوص به قيل: الكلام بذلة ومدخر فمن تكلم وقت البذلة بالمدخر أتعب نفسه، ومن تكلم وقت المدخر بالبذل هجن نفسه. من خاطب عاميّا بتفاصح وتذلق اشترى رجل من أصحاب يعقوب الكندي جارية فاغتاظت عليه، فشكاها إلى يعقوب، فقال: جئني بها لأعظها. فجاء بها إليه فقال: يا لعوبة ما هذه الاختيارات الدالات على الجهالات؟ أما علمت أن فرط الاعتياصات «4» من الموبقات «5» على طالبي المودّات، الباذلين الكرائم المصونات موذنات بعدم المعقولات؟ فقالت الجارية: أما علمت أن هذه العثنونات «6» المنشرات على صدور أهل الركاكات، محتاجات إلى المواسي الحالقات؟ فقال يعقوب: لله درّها فلقد قسّمت الكلام تقسيما فلسفيا، فاشدد يديك بها. فلم يستوحش من سفاهتها لما أوردت الكلام مسجّعا موزونا. وقال نحوي لصاحب بطيخ: بكم تانك البطيختان اللتان بجنبهما السفر جلتان، ودونهما الرمانتان، فقال: بضربتان وصفعتان ولكمتان، فبأيّ آلاء ربّكما تكذبان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وصار أبو علقمة إلى كواز فقال: أعندك جرّة لا فقداء ولا دناء ولا مغربلة الجوانب، خضرة نضرة قد مسّها النار، إن نقرت عليها طنّت، وإن أصابتها ريح غنّت، ولكن بدرهم. فقال الكواز: دعني من شتمك يا ماصّ بظر أمّه. الأحوال الدّالة على العيّ من العي البهرة، وفتل الأصابع، ومسّ اللحية، ولذلك قال: مليء ببهر والتفات وسعلة ... ومسحة عثنون وفتل الأصابع وقال ابن المقفع: من علامة العيّ النكث في الأرض، والإطراق من غير فكرة. المحتبس في كلامه قال الشاعر: كأنّ في فيه لقمة عقلت ... لسانه فالتوى على حنق محرّك رأسه توهّمه ... قد قام من عطسة على شرق وقال آخر: كأنّ فيه لففا إذا نطق ... من طول تحبيس وهمّ وأرق وقال آخر: ديافيه قلف كأنّ خطيبهم ... سراة الضّحى في سلحه يتمطّق ويقال: هو عياياء طباقاء. اعتذار محتبس في كلامه قال بعضهم: نحن حيّ فعال ولسنا بحيّ مقال. ونحن بأدنى مقالنا عند أحسن فعالهم. وقال بعض وفد خراسان: إنا ببلاد نأت عن العرب، شغلتنا الحرب عن الخطب. واعتذر رجل لحبسة فقال: يعزب البيان ويعتقم الصواب وإنما اللسان مضغة من الإنسان يفتر بفتوره إذا نكل، ويثوب بانبساطه إذا ارتجل. وقيل لأعرابي: أين فصاحتك؟ فقال: لحقت بمواطنها بنجد. وقال شاعر: ارفق بعبدك إنّ فيه بلادة ... جبلية ولك العراق وماؤه المقام الذي لا يستنكف فيه من العيّ والحصر سئل ابن داود: متى يكون البليغ عييا؟ فقال: إذا سأل عما يتمنّاه وشكا حبّه إلى من يهواه، ثم أنشد: بليغ إذا يشكو إلى غيره الهوى ... وإن هو لاقاه فغير بليغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وقال بعضهم: موطنان لا آنف من الحصر فيهما، إذا شكوت إلى محبوبي عشقي، وإذا سألت حاجة لنفسي. المحسن في كلامه ابتداء والمسيء انتهاء تكلّم ابن ثوابة ثم غلط في آخره فقال أبو العيناء: ترفعت حتى خفتك ثم تخفّضت حتى عفتك. وتكلم رجل فأحسن ثم أعاد فأساء، فقال له أعرابي أنك تسترجع محاسنك. وصف كلام غير مفهوم قال الله تعالى:- حكاية عن فرعون- أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ «1» . قال الشاعر: قلت لمّا بدا يجمجم في القو ... ل ويهذي كأنّه مجنون» أنت حقا شبيه ما ذكر الله ... مهين ولا يكاد يبين وقال محمد بن صالح: يهوي إليّ بأقوال يلفّقها ... فلا أعي منه شيئا وهو يسمعني «3» يلقى صداي صفير الطير من فمه ... مخاطبا وهو إنسان يكلّمني المستقبح إنشاده قال عبد الله بن معاوية: يزين الشعر أفواه إذا نطقت ... بالشعر يوما وقد يزرى بأفواه «4» وقال أبو خليفة: كأنّ الشعر من فيه إذا تمّت ... قوافيه كنيف قد خرى فيه ذمّ من يطول سكوته عيّا قال الشاعر: يا صنما في الصّمت لا في الحسن ووصف رجل آخر فقال: يصلح لصدور المجالس، ونظم المحافل ما لم يكن كلام. كلمات لأهل العي ّ قال الحجّاج لأبي الجهمة النخّاس: أتعيب الدواب المعيية من جند السلطان؟ فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 شركتنا في هوازها وشركتنا في مدانيها وكما يجىء يكون. قال الجاحظ: طلبت بعض أصدقائي في داره فلم أجده فقلت لجاريته: إذا حضر صاحبك فقولي له: إن الجاحظ كان بالباب. قالت: نعم الجاحد «1» بالباب، قلت: قولي الحدقيّ «2» قالت: نعم الحلقيّ، فقلت: عليك بالأول. المتكلّم بكلام غير متّسق دق رجلان على باب نحوي فقيل: من؟ فقال أحدهما: أنا الذي اشترى عبد الله كلم الآجر. وقال الآخر: أنا الذي أبو يعقوب الجصاص عقد طاق باب هذه الدار. فقال صاحب الدار: انصرفا فما أرى لكلاميكما صلة. وقال رقبة بن مصقلة: ما أعجزني شيء كما أعجزني رجل قام إليّ يوما وقد دخلت المسجد، فقال: إني رأيتك فشبهتك بي فأعجبني ذلك لك وأنا فيه متفكر بعد ولا أدري ما معنى كلامه. من جارى غيره فلحن فأجابه بمقتضى كلامه قال رجل لأعرابي: كيف أهلك؟ قال صلبا، أراد كيف أهلك؟ وقال الوليد لرجل: من ختنك؟ قال: الحجّام. فضحك القوم وخجل الوليد، وإنما أراد أن يقول من ختنك؟ ومرّ رجل بدار ميت فقال من المتوفّي؟ فقال له رجل: الله فقال له: يا كافر الله يموت؟ فقال: لعلك تريد المتوفّى. من سئل عن نحو فأجاب بمقتضى اللغة قيل لرجل: هل ينصرف إسماعيل؟ قال: نعم إذا صلى العشاء فما قعوده؟ وتعرّض بعضهم للطائي حين أنشد: وهنّ عوادي يوسف وصواحبه فقال: إن يوسف لا ينصرف فقال: اصفعه حتى ينصرف. وقال نحوي لأعرابي قال أعجبني القصر، بم يرفع القصر؟ فقال: بالآجر والجصّ، وقيل لأعرابي أتجرّ فلسطين فقال إني إذا لقوي فقيل أتهمز إسرائيل؟ فقال إني إذا رجل سوء. وقيل: أتهمز الفأرة؟ فقال الهرة تهمزها. وحكي أن جماعة عند محمد بن بحر اختلفوا في بناء سراويل، فدخل البرقي فقال فيم كنتم؟ فقالوا: في بناء سراويل فما عندك فيه؟ قال مثل ذراع البكر أو أشدّ. وحكي أن أبا سعيد السيرافي سأل أبا الحسن الموسوي وهو صغير: إذا قلت رأيت عمرا فما علامة النصب فيه؟ فقال بغضه لأمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 من أنكر لحنا بنادرة مرّ رجل بأديب فقال: كيف طريق البغداد؟ قال بالحذاء. ثم مرّ به آخر، فقال له: كيف طريق كوفة، فقال: من ههنا وبادر فمع ذلك المار ألف ولام تحتاج إليهما وهو مستغن عنهما فخذهما منه. وقال رجل لأبي العيناء أتامر بشيأ فقال نعم بتقوى الله وحذف الألف من شيأ. وكان رجل يسقي صديقا له صرفا «1» ويغني له: يديرونني عن سالم وأديرهم ... وجلدة ما بين الأنف والعين سالم فقال: أحب أن تجعل ماك من البيت في القدح. من اعتذر عن لحنه «2» بعذر مستملح «3» قصد رجل الحجّاج فأنشده: أبا هشام ببابك ... قد شمّ ريح كبابك فقال: ويحك لم نصبت أبا هشام فقال الكنية كنيتي إن شئت رفعتها وإن شئت نصبتها. وكتب محمد الأمين، فيما أظن على ظهر كتاب: عشقت ظبيا رقيقا ... في دار يحيى بن خاقا وكتب تحته: اردت خاقان وخاقان مولى لي، إن شئت أثبت نونه وإن شئت أسقطته. وقال رجل لآخر ما اشتريت؟ قال: عسل. فقال: هل لا زدت في عسلك ألف، فقال: وأنت هلا زدت في ألفك ألفا «4» . من أنكر لحنا بطبعه سمع أعرابي مؤذنا يقول: أشهد أنّ محمدا رسول الله بالنصب، فقال: الأعرابي فعل ماذا؟ فهذا علم بطبعه أنه لم يأت بخبر أنّ. وسمع رجل آخر يقرأ وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر بفتح الكاف والفاء فقال: لا يكون هذا فقالوا: كفر، فقال: أما هذا فنعم. المتأذّى بلحنه قدم رجل على زياد فقال: إن أبونا مات، وأخينا وثب على مال أبانا فضيّعه. فقال زياد: الذي ضيّعته من لسانك أضر عليك مما ضيعه أخوك من مالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ومرّ عثمان (رضي الله عنه) برماة يسيؤن الرمي، فقال: ما أسوأ رميكم فقال بعضهم: نحن متعلمين. فقال كلامكم أسوأ من رميكم. ودخل الخليل على مريض نحوي وعنده أخ له فقال للمريض: افتح عيناك وحرّك شفتاك إن أبو محمد جالسا. فقال الخليل: أرى أن أكثر علة أخيك من كلامك. وسمع الأعمش إنسانا يلحن فقال: من هذا الذي يتكلم وقلبي منه يتألم. المتفادي في كلام الكبار عن كلام فيه إيهام دخل سعيد بن مرة على معاوية فقال له: من أنت؟ فقال: أنت سعيد، وأنا ابن مرة. وقال السفاح للسيد الحميري: أنت السيّد؟ قال أنا ابن أبي وأمير المؤمنين هو السيّد. وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قيس بن سعد: أنت أكبر أم أنا؟ فقال: رسول الله أعزّ وأكبر وأنا أقدم منه في المولد. وقال عمرو بن عثمان لطويس: أيّنا أسنّ؟ قال: لقد شهدت زفاف أمّك المباركة على أبيك الطيّب، فلم يجعل الطّيب صفة للام تفاديا من سوء ظنّ فيه. وفي ضدّ ذلك ما روي أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لرجل: أتبيع هذا الثوب؟ فقال: لا عافاك الله. فقال: لقد علمتم لو تعلمون قل: لا، وعافاك الله. وتكلّم بعض أهل زماننا عند الصاحب فسأله عن شيء فقال: لا أطال الله بقاءك فقال: قل لا، وأطال الله بقاءك فقال: بعضهم ما رأينا واوا أحسن موقعا من واوك. (7) ومما جاء في مفاضلة النطق والسكوت والمقال والسماع تفضيل النطق على السكوت قيل لزيد بن عليّ: الصمت خير من الكلام، فقال: لعن الله المساكتة فما أفسدها للسان وأجلبها للحصر، والله المماراة «1» أسرع في هدم العيّ من النار إلى يبيس العرفج «2» . واختصم رجلان إلى سعيد بن المسيب في النطق والصمت فقال: بماذا أبين لكما ذلك؟ فقالا بالبيان فقال: إذا الفضل له. وقيل لبعضهم: الصمت مفتاح السلامة، فقال ولكنّه قفل الفهم. قال الشاعر: خلق اللسان لنطقه وبيانه ... لا للسكوت وذاك حظّ الأخرس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 فإذا جلست فكن مجيبا سائلا ... إنّ الكلام يزين ربّ المجلس الحثّ على الإكثار من الكلام قال حكيم: لولا سوء العادة لأمرت فتياني أن يماري بعضهم بعضا. وقال العتابي: أقدر الناس على الكلام من عوّد لسانه الركض في ميادين الألفاظ. طول الصمت حبسة «1» وترك الحركة عقلة. وقال أبو عطاء: أقلّبه كيلا يكلّ بحبسة ... وأبعثه في كلّ حقّ وباطل تفضيل الصمت قال النبي صلى الله عليه وسلم: رحم الله عبدا صمت فسلم، أو قال خيرا فغنم، فجعل الصمت أفضل لأن السلامة أصل والغنيمة فرع. قال الشاعر: أقلل كلامك واستعذ من شرّه ... إنّ البلاء ببعضه مقرون «2» وقال آخر: مت بداء الصّمت خير ... لك من داء الكلام تفضيل كل واحد منهما في أوانهما والتمدّح بهما قيل لبعضهم: السكوت أفضل أم النطق؟ فقال: السكوت حتّى يحتاج إلى النطق، فإذا احتيج إلى النطق فالسكوت حرام. وقيل ليونس بن حبيب «3» : السكوت أفضل أم الكلام؟ فقال: السكوت عن الخنا أفضل من الكلام بالخطأ، وقيل: الضراط في أوانه خير من الكلام في غير زمانه. قال الشاعر: والصمت أزين بالفتى ... من منطق في غير حينه «4» وقيل: ربما كان الصمت أبلغ من الإبلاغ في النطق مع عدم إصابة الفرصة. قال ابن الرومي: ناهيك من صمت بلا عيّ به ... وكذاك من لسن بغير سفاه «5» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 ملكت سكينته عليه أمره ... فكأنه ساه وليس بساه وقال ابن علقمة: صموت في المجالس غير عيّ ... جدير حين ينطق بالصّواب ذمّ الإكثار من الكلام قيل: من أكثر أهجر. المكثار كحاطب الليل، من أطلق لسانه بكل ما يحبّ كان أكثر مقامه حيث لا يحبّ. وقال الجريمي: وخير حال الفتى في القول أقصدها ... بين السبيلين لا عيّ ولا هذر وقال أياس لخالد بن صفوان: لا ينبغي أن نجتمع في منزلك لأنّك تحبّ أن لا تسكت، وأنا أحبّ أن لا أسمع. الحثّ على ترك فضول الكلام قال النبي صلى الله عليه وسلم: رحم الله من أمسك الفضل من قوله. قال عبد الله بن الحسين لابنه: استعن على الكلام بطول الفكر، في المواطن «1» التي تدعو نفسك إلى الكلام، فإن للقول ساعات يضرّ خطؤها، ولا ينفع صوابها، وقيل: من حسب كلامه من عمله قلّ كلامه إلا فيما يعنيه. وقال عبد الله بن طاهر لبعض منادميه: يا هذا أما أقللت فضولك أو أقللت دخولك؟ وقيل: فضل النظر يدعو إلى فضل القول. الحثّ على السكوت مطلقا قيل: إن كانت العافية من مالك فسلّط السكوت على لسانك. الصمت داعية المحبّة، الصمت زين العاقل وستر الجاهل. قال الشاعر: لو كان من فضّة تكلّم ذي ... النطق لكان السكوت من ذهب الحثّ على تدبّر الكلام قبل إيراده «2» قال الحسن: لسان العاقل من وراء قلبه، فإذا أراد الكلام رجع إليه فإن كان له تكلم به وإلا تركه، ولسان الجاهل قدام قلبه يتكلّم بما عرض له. وقيل: من لم يخف الكلام تكلّم ومن خافه تبكم. قال الشاعر: تأمّل فلا تستطيع ردّ مقالة ... إذا القول في زلّاته فارق الفما «3» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وقال بعضهم: ذر الرأي الفطير، والكلام القضيب، فلا يطيب الخبز إلا بائتا. التّحذير من جناية اللسان سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس النّار، فقال: الأجوفان البطن والفم. وقيل فيما روي عنه: وهل يكبّ الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم. وكان لقمان عبدا أسود لبعض أهل الأيلة فقال له مولاه: اذبح لنا شاة وائتنا بأطيب مضغة فأتاه باللسان. فقال له: اذبح لي أخرى وائتني بأخبث مضغة فأتاه باللسان، فقال له في ذلك، فقال: ما شيء أطيب منه إذا طاب، ولا أخبث منه إذا خبث. وقيل: لم يستر من الجوارح «1» شيء كما ستر اللسان، فإنّ عليه طبقتين وسترين. وقيل لحذيفة: لم أطلت سجن لسانك؟ فقال: لأنه غير مأمون الضرر إذا أطلق. وروي عن أبي بكر رضي الله عنه، أنه كان يمسك بلسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد. قال الشاعر: كم في المقابر من قتيل، لسانه ... كانت تهاب لقاءه الأقران متكلّم بكلام أذى إلى هلاكه بينما المنذر «2» في بعض متصيّداته إذ وقف على رابية فقال بعض أصحابه: أبيت للعن لو أن رجلا ذبح على هذه الرابية إلى أيّ موضع عسى أن يسيل دمه؟ فقال: أنت والله المذبوح لننظر ذلك، وأمر به فذبح. ومر ببهرام طائر بالليل فصاح فرماه بسهم فأصابه فقال: لو سكت الطائر لكان خيرا له. التثبّت في الجواب والتسرّع فيه سأل يهودي النبي صلى الله عليه وسلم مسألة، فمكث عليه السلام ساعة ثم أجابه عنها، فقال اليهودي: ولم توقفت فيما علمت؟ قال: توقيرا للحكمة. وقيل: من إمارة الحكيم التروّي في الجواب بعد استيعاب الفهم. وقيل: من علامة الحمق سرعة الجواب وطول التمنّي والاستغراب في الضحك. وقال رجل لإياس ليس فيك عيب غير أنّك تعجل بالجواب، فقال: كم أصبع في يدك؟ فقال: الرجل خمس، فقال: لقد عجلت أيضا، فقال: هذا علم قد قبلته فقال إياس وأنا أعجل أيضا في ما قد قبلته علما. الحثّ على حسن الاستماع، والممدوح به قيل: تعلّم حسن الإستماع، كما تتعلم حسن المقال، ولا تقطع على أحد حديثا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وقيل: استمع، فسوء الإستماع نفاق. وقيل للسائل: على السامع ثلاث أمور: جمع البال، وحسن الإستماع، والكتمان لما يقتضي الكتمان. وقيل: أساء سمعا فأساء إجابة. وقال فيلسوف لتلميذ له: أفهمت؟ قال: نعم. قال: كذبت لأن دليل الفهم السرور ولم أرك سررت. وقيل: نشاط القائل على قدر فهم السامع. وقيل: من سعادة القائل أن يكون المستمع إليه فهيما. وقيل فلان في الاستماع ذو أذنين «1» وفي الجواب ذو لسانين «2» . قال الشاعر: إذا حدّثوا لم يخش سوء استماعهم ... وإن حدّثوا قالوا بحسن بيان وقال رجل: أذني قمع لمن يحدّثني. النّهي عن محادثة من ساء استماعه قيل: من لم ينشط لاستماع حديثك ما رفع عنه مؤنة الإستماع. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: حدث الناس ما حدجوك بأسماعهم، ولحظوك بأبصارهم، فإذا رأيت منهم إعراضا فأمسك. وقيل: لا تطعم طعامك من لا يشتهيه. وقيل حدث حديثين امرأة فإن لم تسمع فأربع، أي كفّ. الحثّ على إزدياد السّماع على المقال سمع بقراط «3» رجلا يكثر من الكلام، فقال له: إن الله تعالى جعل للإنسان لسانا واحدا وأذنين، ليسمع ضعف ما يقول. تفضيل السماع على المقال كان أعرابي يجالس الشعبي «4» فأطال الصمت، فسأله عن ذلك، فقال: أسمع فأعلم، واسكت فأسلم. وقيل لأعرابي: لم لا تتكلم؟ فقال: حظّ لسان الرجل لغيره وحظّ سمعه له. وقال محمد بن المنكدر: لأن أسمع أحبّ إليّ من أن أنطق، لأن المستمع يتّقي ويتوقّى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 الحثّ على التصامم عن الخنا والتمدّح به. قال محمود الورّاق: وسمعك صن عن سماع القبيح ... كصون اللسان عن النّطق به وقال أبو تمّام: أذن صفوح ليس يفتح سمّها ... لدنيئة وأنامل لم تقفل «1» وقال آخر: فتى عزلت عنه الفواحش كلّها وقال آخر: عيّ عن الفحشاء أما لسانه ... فعفّ وأما طرفه فكليل «2» وقال الموسوي: إذا العدوّ عصاني خاف حديدي ... وعرضه آمن من هاجرات فمي «3» وله أيضا: ولا أعرف الفحشاء إلا بوصفها ... ولا أنطق العوراء والقلب يعرب (8) ومما جاء في المذاكرة والمجادلة فضل المذاكرة في العلوم قال الله تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ «4» وقال النبيّ: لقّحوا عقولكم بالمذاكرة واستعينوا على أموركم بالمشاورة. وقال ابن المقفع: لا تخل قلبك من المذاكرة فيعود عقيما ولا تعف طبعك من المناظرة فيعود سقيما. وقال الحسن رضي الله عنه: حادثوا هذه القلوب فإنّها سريعة الدّثور «5» ، وقال المأمون: لا تتقد مصابيح الأذهان، إلا بصفو مواردها. وقيل: من أكثر مذاكرة العلماء، لم ينس ما علم واستفاد ما لم يعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 المستكثر بمناظرته الفائدة قال رجل لآخر: مناظرة مثلك في الدّين فرض، والاستماع منك أدب، ومذاكرتك تلقيح للعقل. وقال عمر بن عبد العزيز: ما كلّمني أسديّ إلا تمنيت أن يمدّ في حجته لتكثر منه فائدتي. الممدوح بإجادة المناظرة مدح أعرابي رجلا فقال: يفتح ببيانه منغلق الحجّة، ويسدّ على خصمه واضح المحجّة. وقيل: أورد فلان ما لا ينكره الخصم، ولا يدفعه الوهم، وما رأيت أسكن نورا وأبعد غورا وآخذ بأذن حجة منه. قال الشاعر: إذا قال بذّ القائلين مقاله ... ويأخذ من أكفائه بالمخنق «1» قال العجير: من النّفر المدلين في كلّ حجّة ... بمستحصد من حوله الرأي محكم «2» وقال آخر: يتقارضون إذا التقوا في مجلس ... نظرا يزلّ مواقع الأقدام كان ذلك من قول الله تعالى: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ » . وقال البحتري: أحضرته حججا لو اجتلبت بها ... عصم الجبال لأقبلت تتنزّل وقال أبو مسلم: يجوب ضباب معاني الكلام ... بحذف الصّواب لدى المجمع وقال بشر بن المعتمر «4» لأبي الهذيل عند المأمون بعد مناظرة كانت بينهما: كيف رأيت وقع سهمي؟ فقال: حلوة كالشهد ولينة كالزبد فكيف ترى سهامنا؟ فقال: ما أحسنت بها قال: لأنها لاقت جمادا. صعوبة الجدال قال ابن الراوندي: ما التّصدي للحراب والقضاب ومبارزة الأبطال بأصعب من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 التصدّي للجواب لمن أمّك بالسؤال، وقال: تحت كلّ «لم» «1» أسد ملم. نظر يزل مواقع الأقدام وسئل الشعبي عن مسألة فقال: زيادات وبر لا تنساب، ولا تنقاد لو نزلت بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لأعضلت. الدافع باطل خصمه بحقّه قيل: لا تدفع الباطل بالغلبة إذا أمكنك أن تدفعه بالحجّة. وقال ابن عباس عجبا لمن يطلب أمرا بالغلبة، وهو يقدر عليه بالحجّة، فالحجّة دين يعقد به الطاعة، وسلطان الغلبة يزول بزوال القدرة. وقال ثعلبة: ولربّ خصم جاحدين ذوي شذا ... تقذى صدورهم بهتر هاتر «2» لقد ظأرتهم على ما ساءهم ... وخسأت باطلهم بحقّ ظاهر «3» وقال آخر: ألا ربّ خصم ذي فنون علوته ... وإن كان ألوى يشبه الحقّ باطله وهذا معنى قول العتابي «4» : البلاغة تصوير الباطل في صورة الحقّ. المشاغب من يشاغبه قال أبو الأسود: فشاغبته حتّى ارعوى وهو كاره ... وقد يرعوي ذو الشغب بعد التّحامل «5» فإنّك لم تعطف إلى الحقّ جائرا ... بمثل خصيم عاقل متجاهل وقال آخر: وما خصم الأقوام من ذي خصومة ... كمثل بصير عالم متجاهل القائم في المناظرة مقام الغيب وقال شاعر: ومشهد قد كفيت الغائبين به ... في مجمع من نواصي النّاس مشهود «6» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 فرجته بلسان غير ملتبس ... عند الحفاظ وقلب غير مردود وقال حسّان «1» : كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع ... لذي حاجة في القول جدّا ولا هزلا الموصوف بإنصاف النظّار لديه والسكون في مجلسه قال أبو تمّام: ثبت الخطاب إذا اصطكّت بمظلمة ... في رحله ألسن الأقوام والركب لا المنطق اللخي يزكو في محافله ... يوما ولا حجّة الملهوف تستلب «2» وقال المتنبّي: الفاصل الحكم عيّ الأوّلون به ... والمظهر الحقّ للساهي على الذهن «3» وكان أبو الشمر إذا ناظر لم يحرّك يديه ولا رأسه، ولا منكبيه حتّى كان كلامه يخرج من صدع صخرة. وقال الأنصاري: مجالسهم خفض الحديث وقولهم ... إذا ما قضوا في الأمر وحي المحاجر وقال المتنبّي: وإذا هو لا يستبّ خصمان عنده ... ولا الصوت مرفوع بجدّ ولا هزل وهذا منقول من قول الآخر: واستبّ بعدك يا كليب المجلس المدفوع عن حجّة قويّة لا تعرف لغموضها قال ابن الرومي: غموض الحق حين تذبّ عنه ... يقلّل ناصر الحقّ المحقّ يضلّ عن الدقيق عقول قوم ... فتحكم للمجلّ على المدقّ وقيل ما دقّ من الكلام يعجز عنه كثير من الأنام، فينسب إلى الإحالة وإن كان في غاية الجلالة، ولذلك قال أبو تمّام: فصرت أذلّ من معنى دقيق ... به فقر إلى فهم جليل «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 مدح الراجع إلى الحقّ في المناظرة قال عمر رضي الله عنه: الرجوع إلى الحقّ خير من التمادي «1» في الباطل. وقيل: المبطل مخصوم، وإن خصم والمحق فالج، وإن خصم. وقال عمر رضي الله عنه يوما: أيّها الناس ما هذه الصدقات التي أحدثتم لا يبلغني أن أحدا أتجاوز صداق النبي صلى الله عليه وسلم إلا استرجعته منه فقامت إليه امرأة فقالت: ما جعل الله ذلك إليك يا ابن الخطاب، إن الله تعالى يقول: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً ، فقال عمر: أما تعجبون من إمام أخطأ وامرأة أصابت. ناضلت أميركم فنضلته. وقال الشعبيّ: إنّي لأستحي أن أعرف الحق فلا أرجع إليه. وقيل لم ير أذعن للحجة إذا لزمته من عمرو بن عبيد. المستمرّ على خطأه وقد بان له الصواب قال عمارة: أني لأمضي على الخطأ إذا أخطأت أهون عليّ من نقض وإبرام في مجلس واحد. وقال بعضهم: نعم المركب اللجاج بعد الحجاج. ذمّ من تشكّك في الضروريّات قيل: من شكّ في المشاهدات فليس بتامّ العقل. قال المتنبي: وليس يصحّ في الأفهام شيء ... إذا احتاج النّهار إلى دليل «2» حكى المتكلّمون أنّ جماعة يلقّبون السوفسطائية، يقولون: لا نعرف لشيء حقيقة، ويقولون لمّا كان أحدنا يرى الشيء في رقدته فيتصور له بصورة ما يشاهده في يقظته، ونرى الصورة في الماء ثم لا حقيقة لها، لم يمتنع أن لا يكون لما نعاينه «3» ونشاهده حقيقة. وذكر بعض العلماء أنه لم يكن قطّ على هذه الصفة أحد وأن السوفسطائية أنما هو شيء من توليدات المتكلمين ومنحولاتهم. ذمّ القاصر عن المناظرة قال الله تعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ «4» ، وقيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 لبعضهم: كيف رأيت فلانا في المناظرة؟ فقال: عييا غبيا، وقال ابن أبي الطاهر في المبرّد: يفرّ من المناظر إن أتاه ... ويرمي من رماه من بعيد «1» ونحوه، ما قيل: فلان إذا تباعد ضبح ضبوح الثعلب، وإذا حضر قبع قبوع القنفذ. ذمّ المراء «2» في المناظرة روي في الحديث من تعلّم العلم لأربعة دخل النار ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء، أو يأخذ به من الأمراء، أو يستميل به وجوه الناس إليه. قال ابن عباس لمعاوية (رضي الله عنهما) : هل لك في مناظرتي في ما زعمت؟ قال: وما تصنع بذلك؟ فأشغب بك وتشغب بي فيبقى في قلبك ما لا ينفعك ويبقى في قلبي ما يضرّك. وقيل: الناس رجلان: عالم فلا تماره، وجاهل فلا تجاره. وقال زيد بن جندب: ما كان أغنى رجالا ضلّ سعيهم ... عن الجدال وأعناهم عن الشّغب وقيل: إذا تشاجرت الخصوم طاشت الحلوم «3» ونسيت العلوم. وقيل: من ترك المراء فهم وعلم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ما ضلّ قوم بعد إذ هداهم الله إلا بالجدل، وقال سفيان: ما ابتدع قوم إلا أعطوا الجدل. الحثّ على السؤال على غير التعنت قيل: إذا جالست عالما فسل تفقّها لا تعنّتا. وقال مسهر: سألت مالكا عن شيء، فقال: لا تسألني عمّا لا تريد فتنسى ما تريد. وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لرجل وقد أكثر من سؤاله تعنتا: اتركوني ما تركتكم. وقال عليه الصلاة والسلام: إن بني إسرائيل هلكوا بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. النّهي عن المناظرة ما أمكن قال ابن المقفع: لا تعرضنّ عقلك على النّاس، فإذا اضطرك أمر فكن كصاحب الشطرنج، بيني أمره على القائمة فإن وجد ضربة غريبة انتهزها، وإيّاك أن تبتدىء في مجلس لم تسبر عقول أصحابه، فبين العقول بون بعيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 ذمّ الجلبة وخوض الكلّ في الكلام قيل: لا يميل إلى الجلبة واللّجاج إلا من عجز عن الغلبة بالحجاج. وقال المأمون لهاشمي حضر مجلسه فناظره وشغب: لا ترفعنّ صوتك يا عبد الصمت ... إنّ الصواب في الأسدّ لا الأشدّ «1» وقال عمر بن عبد العزيز لرجل كان يكثر الصياح والجلبة: اخفض الصوت فلو نيل خير برفع الصوت لأدركه الحمير والكلاب. وكان أحمد بن الخصيب إذا ناظر شغب وجلب، وربّما رفس من يناظره، فقال فيه بعض المحدثين، يخاطب الخليفة المنتصر: قل للخليفة يا ابن عمّ محمّد ... أشكل وزيرك إنّه ركّال «2» قد نال من أعراضنا بلسانه ... ولرجله عند الصّدور مجال وهذا يقارب ما روي أنّه شكا إلى المأمون من بعض قضاته، أنه يعضّ الخصوم، فوقّع ليشنق. وأنشد الأصمعيّ: حديث بني قرط إذا ما لقيتهم ... كنز والدّبا في العرفج المتقارب وقال مسلم بن عبّاس: كأنّ بني رالان إذ جاء جمعهم ... فراريج يلقى بينهنّ سويق الحثّ على المخالفة ودفع الصواب بالخطأ قالت إعرابية لابنها: إذا جلست مع القوم، فإن أحسنت أن تقول كما يقولون، وإلا فخالف تذكر ولو كان بتعليق أير حمار في عنقك. وقال أعرابي: إذا لم يكن لك في الخير اسم فارفع لك في الشر علما، وقال بعضهم: خالف تذكر، فقالوا: إنما هو تنكر، فقال: هذا أول الخلاف. ذمّ مخالف ألدّ في كلّ صواب قال الله تعالى: وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا «3» وقال تعالى: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ «4» وقال تعالى: فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ «5» . وقال الشاعر: رقيع خصيم في الصّواب كأنّه ... برد على أهل الصّواب موكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وقال ديمقراطس: عالم معاند خير من جاهل منصف، فقال تلميذه: الجاهل لا يكون منصفا، والعالم لا يكون معاندا. وقيل: كثرة الخلاف حرب وكثرة الموافقة غشّ. المستأذن في سؤال مسألة قال ابن شبرمة لأياس بن معاوية: أتأذن لي في مسألة ألقيها إليك؟ فقال إياس: استربت بك حين استأذنت، فإن كنت لا تسوء جليسا، ولا تشين «1» مسؤولا فهاتها. وقال أبو العيناء: لعبيد الله: أسأل أم أسكت؟ فقال: إن سألت أفدت وإن سكت كفيت. شروط المناظرة اجتمع متكلّمان، فقال أحد هما: هل لك في المناظرة؟ فقال: على شرائط أن لا تغضب، ولا تعجب، ولا تشغب، ولا تحكم، ولا تقبل على غيري وأنا أكلمك، ولا تجعل الدعوى دليلا، ولا تجوز لنفسك تأويل آية على مذهبك إلا جوزت إلى تأويل مثلها على مذهبي، وعلى أن تؤثر التصادق، وتنقاد للتعارف وعلى أنّ كلامنا يبني مناظرته على أن الحقّ ضالته والرشد غايته. وقال أبو يعقوب الخطابي لجلسائه: إنّما اجتمعتم للأدب لا بجوار ولا نسب، فوفوه حقّه ولا تثلبوا أحدا. فمن ثلب ثلب وإيّاكم والمراء في الأديان فإنها مفسدة بين الإخوان، ونقص عند أهل الزمان. وعليكم بالأصول، ولا تكثروا فتملوا واستريحوا إلى ما يوافق من الأدب، فإنه غض أبدا غير مملول، ولا تتجاوزوا في النّحو قدر الحاجة، فغاية الحاذق فيه معروفة. وقيل: كان يعقوب الخطابي إذا جلس إليه أصحابه يقول: اعفونا من ثلاث وخوضوا بعد فيما شئتم: من ذكر السلف، وأن تقولوا فلان خير من فلان، ومن ذكر القدر. مدح الجواب الحاضر «2» قال مسلمة بن عبد الملك: ما أوتي العبد بعد الإيمان بالله شيئا أحبّ إليّ من جواب حاضر، لأن الجواب إذا كان بعد نظر وتفكّر، لم يكن بشيء. ألم تسمع قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ «3» إلى قوله: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ «4» ، وقال عمرو ابن العاص: ما اتقيت جواب أحد من الناس غير جواب ابن عبّاس (رضي الله عنه) ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 لبداهته. وقال الحجّاج: من لم يخف الجواب تكلّم، ومن خافه تبكّم. قال الشاعر: ما أحرّ الكلام يرحمك الله ... ولكنّ أحرّ منه الجواب إضجاع القسيّ، والاعتماد عليها في الخطاب وما جاء من الأجوبة الجيّدة فهي مذكورة في أمكنتها المختصّة بها. كانت العرب إذا اجتمعت للمناظرة والمفاخرة يضجعون قسيّهم ويعتمدون عليها. وقال الحطيئة في مرثية: أم من لخصم مضجعين قسيّهم ... ميل خدودهم عظام المفخر وقال: إذا اقتسم النّاس فضل الفخار ... أطلّنا على الأرض ميل العصا (9) ومما جاء في وصف الشعر والشعراء الرخصة في نسج الشعر وإنشاده قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: أهجهم وروح القدس معك. وقد مدحه غيره شاعر فحباه وأجازه «1» . وكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما شاعرين وعليّ رضي الله عنه أشعر منهما، ولما قال الجعديّ فيه صلى الله عليه وسلم: بلغنا السما عن جدّنا وجدودنا ... وإنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إلى أين؟ فقال: إلى الجنّة يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم: لافضّ فوك. وروى أبو الغطريف الأسدي عن جدّه قال: عدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه، فسمعته يقول: لا بأس بالشعر لمن أراد انتصافا من ظلم واستغناء من فقر، وشكرا على إحسان. وعاب بعض النّاس الشعر عند ابن عبّاس، وكان قد قام إلى الصلاة فقال: إن يصدق الطّير ننك لميسا ثم قال عقيبه: الله أكبر ودخل في الصلاة. وقال أبو بكر رضي الله عنه كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وشاعر عنده ينشده، فقلت له: أشعر وقرآن؟ فقال هذا مرّة وهذا مرّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 جواز إجازة الشّعراء قال النبي صلى الله عليه وسلم: إعطاء الشعراء من برّ الوالدين. وقال صلى الله عليه وسلم في شاعر مدحه وعاتبه في بعض ما فعله: اقطعوا لسانه يعني بالعطية. وأعطى الزهري شاعرا، فقيل له في ذلك، فقال: إن من ابتغاء الخير اتقاء الشر. وحرم الشعراء الحجّاج في أوّل مقدمه العراق، فكتب إليه عبد الملك: أجز الشعراء فإنهم يجتبون «1» مكارم الأخلاق ويحرضون «2» على البرّ والسخاء. قال الشاعر: صونوا القريض فإنّه ... مثل المياسم في المواسم «3» الشعر جامعة المفا ... خر والمحاسن والمكارم منفعة الشّعر قال الحجّاج للمساور بن هند لم تقول الشعر، فقال: اسقي به الماء وارعى به الكلأ، وتقضى لي به الحاجة. وإن كفيتني تركته. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الشعر يسكن به الغيظ، وتطفأ به النائرة، ويتبلغ القوم ويعطى به السائل. وقال: نعم الهدية للرجل الشريف الأبيات يقدّمها بين يدي الحاجة يستعطف بها الكريم ويستنزل بها اللئيم. وقال عبد الملك تعلّموا الشعر ففيه محاسن تبتغى ومساوىء تتقى. وقال ابن الروميّ: وما المجد لولا الشعر إلا معاهد ... وما النّاس إلا أعظم نخرات وقال أبو تمّام الطائيّ: ولولا خلال سنّها الشعر ما درت ... بغاة العلا من أين تؤتى المكارم» ذمّ نسجه والتكسّب به قال الله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ «5» ، وقال صلى الله عليه وسلم: لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا، خير له من أن يمتلىء شعرا. وقال صلى الله عليه وسلم: شرّ الناس من أكرمه الناس اتقاء لسانه. وقيل: لا تؤاخي شاعرا فإنه يمدحك بثمن، ويهجوك مجانا. وسئل بعضهم عن حوك الشعر فقال: هو أسرى «6» مروءة الدني وأدنى مروءة السري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وسئل عوف بن أمية السكوتي عن نسج الشعر فقال: إن جددت كذبت، وإن هزلت أضحكت، فأنت بين كذب وإضحاك. وقيل للبيد: لم لا تقول الشعر؟ فقال: في سورة البقرة وآل عمران شغل عن الشعر: الكلب والشاعر في منزل ... فليت أنّي لم أكن شاعرا هل هو إلا باسط كفّه ... يستطعم الوارد والصادرا وقال: ما أجد آكلا للسحت «1» ، ولا أوضع ولا أطمع وأطبع، وأقلّ نفسا من شاعر متكسب بشعره. وقال الحسن رضي الله عنه في الفرزدق «2» حين أوعده بالهجاء: هذا الذي جعل إحدى يديه سطحا والأخرى سلحا، فقال: إن أصلحتم سطحي وإلا رميتكم بسلحي. ولما حبس عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحطيئة بسبب الزبرقان ثم عفا عنه، قال: إياك والشعر فأخرج لسانه وقال: ما لأولادي كاسب غيره «3» . قال عمر: فلا تهجهم. فقال: إن لم أهجهم لم يفرقوني «4» فلا يعطوني. قال: فاذهب فبئس الكسب كسبك. تعظيم الشعر مرّ الفرزدق بمؤدّب، وكان ينشد عليه صبيّ، قول الشاعر: وجلا السيول عن الطلول كأنّها ... زبر تجدّ متونها أقلامها «5» فنزل وسجد فقال المعلم: ما هذا؟ فقال هذه سجدة الأشعار نعرفها كما تعرفون سجدة القرآن. ولما قدم أبو تمّام على الحسن بن رجاء، فأنشده قصيدته فيه حتى انتهى إلى قوله: لا تنكري عطل الكريم من الغنى ... فالسيل حرب للمكان العالي «6» قام قائما، وقال: والله ما سمعتها إلا وأنا قائم، لما تداخله من الأريحية فلما فرغ قال: ما أحسن ما جلوت هذه العروس. فقال أبو تمام: لو أنها من الحور العين لكان قيامك أوفى مهر لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ما استحبّه الأكابر من فرص الشّعر قال معاوية لعبد الرحمن بن الحكم: إنك قد لهجت بالشعر فإيّاك والتشبيب «1» بالنساء فتعرّ شريفة؛ والهجاء فتهجّن كريما أو تثير لئيما؛ وإيّاك والمدح فهو كسب الأنذال. ولكن افخر بمآثر قومك وقل من الأمثال ما تزين به نفسك وتؤدب به غيرك، وإن لم تجد من المدح بدّا فكن كمالك المرادي حين مدح فجمع في المدح بين نفسه وبين الممدوح، فقال: أحللت رحلي في بني ثعل، إنّ الكريم للكريم محلّ. قال الشاعر: أشغل قريضك بالنس ... يب وبالفكاهة والمزاح «2» يا مادح القوم اللئا ... م وطالبا نيل السّماح «3» مدح جماعة من الشّعراء وتفضيل بعضهم على بعض ذكر امرؤ القيس عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ذاك رجل مذكور في الدنيا منسيّ في الآخرة، يجيء يوم القيامة وبيده لواء الشعراء يقودهم إلى النار. قال الأصمعي: ما رأيت خمسة من العلماء قط إلا وأربعة منهم يقدّمون امرأ القيس ولا أربعة إلا وثلاثة منهم يقدّمونه. وسئل بعضهم من أشعر العرب: فقال: امرؤ القيس إذا ركب «4» ، والأعشى إذا طرب «5» وزهير إذا رغب «6» ، والنابغة إذا رهب «7» . وكان أبو عمرو يكثر وصف النابغة الذبياني وطبعه وحسن ديباجته، ويقدّمه بعد امرىء القيس. وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: قال: لي عمر رضي الله عنه، وأنا أسايره: أنشدني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 لأشعر شعرائكم، فقلت: من هو؟ فقال: هو زهير. إنه لا يعاظل «1» بين الكلام ولا يتّبغ حوشيّه «2» ، ولا يمدح الرجل إلا بما يكون في الرجال، قال ابن سلام: لم يبق في وصف الشعر شيئا، إلا أتى به في هذا الكلام. وكان معاوية يسمّي الأعشى «صناجة العرب» «3» يعني أنه يطرب إطرابها. وقال محمد بن سلام: سألت عمر بن معاذ التيمي عن أشعر الناس، فقال: أوس بن حجر «4» وأبو ذؤيب «5» فقلت: أليس النبي صلى الله عليه وسلم يقول يجىء امرؤ القيس يوم القيامة وبيده لواء الشعراء؟ فقال: اللواء إنما يكون مع دون الأمير. وذكر قوم جريرا والفرزدق، فقال بعضهم: جرير كان أنسبهما وأسهبهما. وسئل آخر عنهما فقال: جرير يغرف من بحر «6» ، والفرزدق ينحت من صخر «7» . فقال الذي يغرف من بحر أشعر، وقال مروان بن أبي حفصة: ذهب الفرزدق بالفخار وإنّما ... حلو الكلام ومرّه لجرير ولقد هجا فامضّ أخطل تغلب ... وحوى اللهى بمديحه المشهور كلّ الثلاثة قد أبرّ بمدحه ... وهجاؤه قد سار كلّ مسير الممدوح بإجادة نسجه والتمدّح بذلك، والحثّ عليه ذكر عند أبي بكر رضي الله عنه الشعراء، فقال: أشعر الناس النابغة أحسنهم شعرا، وأعذبهم بحرا وأبعدهم غورا. وقول عمر رضي الله عنه في زهير من هذا الباب وقد تقدم آنفا. وقيل: فلان إذا قال أسرع، وإذا مدح رفع وإذا هجا وضع. وسئل البحتري عن أبي تمام، فقال مدّاحة نواحة «8» ، عديّ بن الرقاع: وقصيدة قد بتّ أجمع بينها ... حتى أقوّم ميلها وسنادها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 نظر المثقّف في كعوب قناته ... حتّى يقيم ثقافه منآدها «1» وقال يزيد بن الحكم، متهكما بحمزة بن بيض: إنك لأستاذ الشعر. فقال: إني لأدق الغزل وأصفق النسج وأرق الحاشية. ويقال: شعر مخشوب إذا كان جديدا لم يثقف. وقال ابن مقبل: إني لأرسل القوافي عوجا، فتأتيني وقد ثقفتها. وقيل: استجيدوا القوافي فإنها جراز «2» الأشعار. الموصوف بالسّلامة من الشّعر قال أبو تمّام: يودّ ودادا أنّ أعضاء جسمه ... إذا أنشدت شوقا إليها مسامع وقال إبراهيم بن رجاء: يطيب بأفواه الرماة سماعها. وقال الناشي: إنما الشعر من تحصل من قب ... ل ظهور الأقوال في الأذكار فأتى لفظه يطابق معنا ... هـ بحسن الإيراد والإصدار مطمع مؤيس قريب إلى الفه ... م بعيد الأغوار ضاحي القرار وقيل لمعتوه: ما أجود الشعر؟ فقال: ما دلّ صدره على عجزه. ولم يحجبه شيء دون بلوغه. شاعر رديء النّسج أنشد رجل شعرا فقال لصاحبه: كيف تراه؟ فقال: سكر لا حلاوة له. وأنشد عمارة شعر أبي العتاهية فمجه «3» سمعه وقال: هو أملس المتون قليل العيون. وما كان مثله من الشعر يسمى مغسولا. وأنشد رجل أعرابيا شعرا وقال: هل تراني مطبوعا؟ فقال: نعم على قلبك. وأنشد رجل الفرزدق شعرا وقال: كيف تراه؟ فقال لقد طاف إبليس بهذا الشعر في الناس فلم يجد أحمق يقبله سواك. وقال شاعر: وأبو الدفاتر لا يزال يجيئنا ... بقصيدة قد قالها من دفتر وقال آخر: وبات يدرس علما لا قران له ... قد كان ثقّفه حولا فما زادا «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وقال ابن أبي عيينة: أقمت حولا على بيت تقوّمه ... فلم تصب وسطا منه ولا طرفا شعر رديء النّسج أنشد ابن الأعرابي: وشعر كبعر الكبش فرّق بينه ... لسان دعيّ في القريض دخيل «1» وقال العجاج «2» في ابنه: إنه يقول الشعر وابن عمه، وفي مثل هذا الشعر. قال بعضهم: وبعض قريض الشعر أولاد علّة ... يكدّ لسان النّاطق المتحفّظ وقال ابن الحجّاج «3» : فمن كان يحوي العطر دكان شعره ... فشعري بيتا مستراح ومخرج وقال الجماز: كأنّ أشعاره إذا انتقدت ... أنصاف كتب ليست بمؤتلفه نهي المسيء عن نسجه قيل لابن المقفع: لم لا تقول الشعر؟ قال: لأن الذي أرتضيه لا يجيبني، والذي يجيبني لا أرتضيه. وعرض رجل على أديب شعرا فقال: أخبأه كما تخبأ الهرة خرءها. وقال شاعر: لا تعرضنّ الشعر ما لم يكن ... علمك في أبحره بحرا فلا يزال المرء في فسحة ... من عقله ما لم يقل شعرا وقال الوائلي: وحاطب ليل في القريض زجرته ... وقلت له قول الفصيح المجامل إذا أنت لم تقدر على درّ لجّه ... فدعه ولا تعرض لحصباء ساحل «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 مفاضلة البديهة والرويّة ومدح الطّبع قال ابن الرومي في الحكم بينهما: نار الرويّة نار غير منضجة ... وللبديهة نار ذات تلويح وقد يفضلها قوم لعاجلها ... لكنّه عاجل يمضي مع الريح وقال معاوية لابن العاص «1» : أنا آدب منك، فقال: أنا للبهدية وأنت للرويّة «2» ، وبينهما بون «3» . وممّا يؤكد تفضيل البديهة قول العبديّ في وصف البلاغة: أن تصيب فلا تخطىء وتعجل فلا تبطىء. وقيل: خير الفقه ما حاضرت به. وقال الحطيئة: فهذا بديه لا كتحبير قائل ... إذا ما أراد القول زوّره شهرا واجتمع ابن مناذر وأبو العتاهية، فقال أبو العتاهية: كم بيتا تقول في اليوم؟ قال: مقدار عشرة أبيات. فقال أبو العتاهية: فأنا أقول مائتين. فقال: فإنك تقبل من شيطانك نحو: ألا يا عتبة الساعة، أموت الساعة الساعة، ولو أني أقول مثل ذلك لقلت ألوفا. قال المتنبّي: أبلغ ما يطلب النجاح به الطب ... ع وعند التعمّق الزلل المعتذر لرفض طريقة من النسج قيل لنصيّب «4» : إنك لا تحسن الهجاء، فقال: من ذا الذي لا يحسن مكان عافاه الله أخزاه الله، ولكنّي رأيت الناس ثلاثة رجال: رجلا لم أسأله فلا ينبغي أن أهجوه، ورجلا سألته فمنحني وهو الممدوح، ورجلا سألته فلم يعط. فنفسي أحق بالهجاء إذ سوّلت لي أن أسأله. وقال عبد الملك للعجّاج: بلغني أنك لا تحسن أن تهجو، فقال: من يقدر على تشييد أمكنة يمكنه إخرابها، فقال: ما يمنعك من ذلك؟ قال: أن لنا عزّا يمنع من أن نظلم، وحلما يمنع من أن نظلم، فعلام الهجاء؟ فقال: كلامك أشعر من شعرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 قال جرير: ما عشقت قط ولو عشقت لشببت، فإذا سمعت العجوز بكت على ما فات من شبابها، وإني لأرى الرجز مثل آثار الخيل في الثرى، ولولا أن سبق إليه غيري لأكثرت منه. وقيل لأبي يعقوب: شعرك في مراثي الحسن ليس كشعرك في مدحه، فقال: أين شعر الوفاء من شعر الرجاء. المهجوّ بأنه ينتحل الأشعار قال أبو هفان: إذا أنشدكم شعرا، فقولوا أحسن الناس. ونظر أبو تمّام إلى سليمان بن وهب، وقد كتب كتابا، فقال: كلامك ذوب شعري. وعرض رجل على ابن الجلاب قصيدة للمتنبي وادعى أنه قالها، فقال ابن الجلاب: هذه للمتنبي. فقال الرجل: هي قصيدتي ومسودّتها عندي. فقال ابن الجلاب: فمبيضتها للمتنبي عندي. وقال الصاحب لرجل عرض عليه شعرا: لو حللت عقاله لحق بأربابه. وقال أبو محمد بن المنجم: أنشدت أبا القاسم الزعفراني قول الصاحب. رقّ الزجاج وراقت الخمر، (البيتين) فقال: لعن الله قائلهما فقد سرقهما من أبي نواس، فقلت: هما للصاحب. فقال: لعن الله أبا نواس فقد سرقهما من مولانا الصاحب. فقلت كيف سرق أبو نواس من مولانا الصاحب فقال: دعنا من هذا ما سرق إلا منه. السالب غيره شعرا قهرا وقف الفرزدق على الشمردل فاستنشده شعرا فأنشده: وما بين من لم يعط سمعا وطاعة ... وبين تميم غير جزّ الغلاصم «1» فقال: والله لتتركنّ لي هذا البيت، أو لتتركن عرضك، فقال: خذه لا بارك الله لك فيه. وقال رؤبة: خرجت مع أبي فقال في الطريق أبوك راجز وجدّك وأنت مفحم فأنشدته: كم قد حسرنا من عذرة عنس حتى أتيت على آخرها، فقال: اسكت فضّ الله فاك. فلما انتهينا إلى سليمان أنشده إيّاها فأمر له بعشرة آلاف درهم. فقلت له في ذلك، فقال: سر فأنت أرجز الناس. فسألته أن يجعل لي نصيبا مما أعطى فأبى. ودخل ابن زهير على معاوية فأنشده: لعمرك ما أدري وإنّي لأوجل ... على أيّنا تعدو المنية أوّل (الأبيات) وهي في الحماسة فقال له معاوية: عهدي بك لا تشعر. فما لبث أن دخل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 معن، فأنشده هذه الأبيات. فالتفت معاوية إلى ابن زهير فقال: كيف انتحلتها فقال: إن معنا أخي من الرضاع وأنا أحقّ بهذا الشعر منه. التوارد في الشّعر وادعاء ذلك التوارد أن يتفق الشاعران في معنى، من غير أن يسمع أحدهما بمقالة الآخر. وسئل أبو عمرو بن العلاء «1» رحمه الله تعالى: كيف يتفق الشاعران؟ فقال: عقول رجال توافت على ألسنتها. ولأحمد بن أبي طاهر يعتذر لشعر ادّعى البحتري أنه سرقه منه: الشعر ظهر طريق أنت راكبه ... فمنه منشعب أو غير منشعب وربّما ضمّ بين الركب منهجه ... وألصق الطنب العالي إلى الطنب وقال آخر وقد أتى سلطانا يمدحه فحرمه وزعم أنه مسروق: وهبني سرقت الشعر ثمّ مدحته ... أما كان يؤتيني عليه جزائيا وقال أبو المضاء: لو أنّ جريرا جاءه في زمانه ... وأنشده شعرا لقال تنحّلا وقال أبو تمام في مدح شعر غير مسروق: منزّهة عن السّرق المورى ... مكرمة عن المعنى المعار شعر أعاده قائله في غير الممدوح أنشد أبو القاسم بن أبي العلاء يوما شعرا كاتب به رئيسا وكنّا سمعناه منه قبل. فعوتب في ذلك فقال: أنا نظمته أقلّد به من أشاء. وكان قد وقع إلى أبي الفضل بن العميد قصيدة المتنبي التي أولها: أغالب فيك الشوق والشوق أغلب «2» فلما ورد عليه مدحه بها وبدل قوله: أبا المسك هل في الكأس فضل أناله ... فإني أغنّي منذ حين وتشرب «3» فجعله أبا الفضل. فلما أنشدها استطال وتكبر وأظهر إعجابا بها فقال أبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 الفضل لبعض ندمائه أخرج هذه القصيدة لينخفض فلما رآها تبسّم وخجل. شعر يدلّ على همّة قائله وحاله قال المأمون يوما لمن حضره: أنشدوني بيتا لملك يدل عليه بيته وإن لم يعرف، فأنشد: أمن أجل أعرابية حلّ أهلها ... جيوب الفلا عيناك تبتدران فقال: ما يدل هذا على أنه لملك، بل يجوز أن يكون هذا لسوقة من أهل الحضر. ثم قال: الدالّ على ذلك قول يزيد بن عبد الملك: اسقني من سلاف ريق سليمى ... واسق هذا النديم كاسا عقارا «1» فإشارته إلى النديم تؤذن بأنه ملك. وقوله: لي المحض من ودّهم، ويغمرهم نائلي. وقال صالح بن حسان، للهيثم بن عدي: أعلمت أن النابغة الذبياني كان مخنّثا؟ فقال: ما علمت ولا سمعت. قال: فكيف قلت؟ قال لقوله: سقط النّصيف ولم ترد إسقاطه، (البيتين) والله ما يحسن هذه الإشارة إلا مخنّث. فسمع ذلك رجل من قيس فقال: بل صاحبك الأعشى «2» هو المخنّث حيث يقول: قالت هريرة لما جئت زائرها ... ويلي عليك وويلي منك يا رجل النابغ في الشّعر بعد أن كان مكديا قال السيّد الحميري «3» : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، كأنه في حديقة سبخة فيها نخل طوال، وبجنبها أرض كأنها كافورة، ليس فيها أشجار، فقال لي: أتدري لمن هذه النخيل؟ فقلت: لا. فقال: لامرىء القيس، فاقلعها واغرسها في هذه ففعلت. فلما أصبحت أتيت ابن سيرين فقصصت رؤياي عليه، فقال: أتقول الشعر؟ قلت: لا. فقال: أما أنك ستقول مثل شعر امرىء القيس، إلا أنك تقوله في قوم طهرة فما انصرفت إلا وأنا أقول الشعر والنابغتان سمّيا بذلك لأنهما عاشا دهرا لا يقولان شعرا ثمّ نبغا فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 تسهيل قول الشّعر على ذي آلته عمل سقراط بيتين، فقيل له: ما أحسن ما قلت. فقال: إن حفر بئر بقرب قناة يجري منها الماء، سهل. قال البديهي: وأرى القوافي لا تصير مطيعة ... إلا إلى المثرين من أدواتها والطبع ليس بمقنع إلا إذا ... حصلت إضافته إلى آلاتها وقال آخر: وما الطبع مغن وحده في نظامه ... ولا العلم من حدّ الطّباع بنائب إذا لم تكن مجموعة أدواته ... فأيسر مبناه كنسج العناكب وقيل: أصح الشعر وأسهله ما يقوله من بعثه أنف «1» أو دخله كلف «2» . من تداخله لسماعه الأنفة والحميّة كان بالمدينة فتى يتعشق امرأة، فوعدته يوما، فلمّا اجتمعا غنّت مغنية بهذا الصوت: من الخفرات لم تفضح أخاها ... ولم ترفع لوالدها شنارا «3» فأبت إلا الخروج فرجعت إلى منزلها، وبعثت إلى الرجل ألف دينار، وقالت: إن رغبت في فاجعل هذا مهري واخطبني من أبي. ودخل رجل على أبي دلف فاستماحه فقال له: أتسأل وجدّك يقول: ومن يفتقر منّا يعش بحسامه ... ومن يفتقر من سائر النّاس يسأل فقال: نعم، وتضجّر. فلقي وكيلا لأبي دلف يأتي بمال فسلبه. واتصل الخبر بأبي دلف «4» فقال: أنا الذي علمته هذا فدعوه. وهذا الباب من جنس منفعة الشعر. شعر سائر قال أبو العتاهية: في كلّ أرض قرى من منطقي مثلا ... بين المشاهد أو يبكي به وتر وقال الطرمي: لقد سار لي شرقا وغربا قصائد ... تغبّر حسنا في وجوه القصائد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وقال المتنبّي: أبقى على كنف الأيام من كنفي ... رضوى وأسير في الآفاق من مثل وقال الكندي: يقصر عن مداها الريح جريا ... وتعجز عن مواقعها السّهام تناهب حسنها حاد وشاد ... فحثّ بها المطايا والمدام «1» وقال المسيّب «2» : ترد المياه فلا تزال غريبة ... في القوم بين تمثّل وسماع وقال النّابغة: أوابد كالسّلام إذا استمرّت ... فليس يردّ فدفدها التمنّي «3» شعر أثّر في المقول فيه فرفعه أو وضعه كان بنو قريع متى قيل لهم أنف الناقة استحيوا، حتى قال فيهم الحطيئة: قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوّي بأنف النّاقة الذنبا فصاروا بعد ذلك يتبجّحون «4» به ويقولون نحن من أنف الناقة. ونمير «5» كانوا يتبجّحون باسمهم حتى قال فيهم الشاعر: فغضّ الطرف إنّك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا فكانوا بعد إذا سئلوا قالوا: من بني عامر. وقال جرير: والتغلبيّ إذا تنحنح للقرى ... حكّ استه وتمثّل الأمثالا فقالوا لو طعنوا بعد هذا في أستاههم ما حكّوها. مفاضلة قصار الشعر وطواله قيل لعقيل: لم لا تطيل الشعر؟ فقال: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق. وقيل لآخر ذلك، فقال: يكون أحوك، وعلى أفواه الرواة أعلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وقالت مليكة بنت الحطيئة: يا أبت كنت ترغب عن القصار فصرت ترغب فيها، فقال: لأنها في الآذان أولج «1» وعلى الفكر أروج والنّاس إليها أحوج. وقيل لآخر مثل ذلك فقال: حسبك غرة لائحة وسمة واضحة. وقال آخر: إذا مدحتم فأقصروا وإذا هجوتم فأطيلوا فالشرّ لا يملّ. وقال الصاحب: إن عبّاد إذا أطال قصّر وإذا قصر لم يقصّر. اعتذار من أكدى «2» في شعره أو نادرته قال عبد الملك لعديّ بن أرطاة: لم لا تقول الشعر؟ فقال: كيف أقوله وأنا لا أشرب ولا أطرب ولا أغضب. وقال الفرزدق: ربّما أتت عليّ ساعة وقلع ضرس أهون عليّ من قول بيت. وقال عبيد: حال الجريض «3» دون القريض «4» ، واستأذن الغالبي على عبّاد فأذن له، فأنشده: لما أنخنا بالوزير ركابنا ... مستعصمين بجوده أعطانا من لم يزل للنّاس غيثا ممرعا ... متخرّقا في جوده «5» ... وأنسي القافية. فجعل يردّد، فقال عبّاد: قل: كشجانا أو قرنانا وخلصّني فتذكّر وقال: في جوده معوانا. وتبع رجل جماعة من الشعراء دخلوا على سلطان فلما أنشدوه قال للرجل: ما عندك؟ قال: أنا من الغاوين. فقال: ما معنى ذلك؟ قال: قال الله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ «6» فأنا غاو تبعتهم، فضحك منه وأعطاه. اشتمال الشعر على نقاية ونفاية قال أبو عمرو بن العلاء: شعر بشّار سباطة الملوك فيها قطعة ذهب، وما شئت من رماد، والسباطة الكساحة، وأنشد بعضهم: يا عائب الشعر مهلا ... فعيبك الشعر عيب الشعر كالشّعر فيه ... مع الشّيبة شيب وقال بعضهم في وصف شاعر: ثوب بواف ومطرف بآلاف. وقال شدّاد الأعرابي: مثل الشعر مثل الإبل، فيها الكرام والخساس يسدّ بعضها خصاص بعض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وقيل لجرير: ما تقول في الجعديّ «1» ، فقال: سوق خلقان «2» ترى ثوبا يروعك وثوبا تستهجنه عينك. وقيل: إذا كان الكلام كلّه منقّى لم تبن فيه اللمعة والنكتة، ولذلك لم يستعذب الناس شعر صالح بن عبد القدوس «3» ، لما كان كلّه حكما. وقال المتنبّي: وفي الشعر ما تهوى النفوس إستماعه ... وفي الشعر ما قد ضمّه حبل حاطب ضنّ الشاعر برديء شعره قال عبد الله بن طاهر: آفة الشاعر البخل، لأنه يقول خمسين بيتا وفيها بيت رديء فلا يحتمل قلبه أن يسقطه. وقيل: الشاعر كالصيرفيّ يجتهد في أن يروّج ما في كيسه من الزيوف. اعتذار من قصّر عن مساجلة . قال العتّابي: ولا عار إن قصّرت دون مبرّز ... شأى الناس قبلي سعيه وشآني «4» وإنّي كمن جارى جوادا بمقرف ... قوائمه مشكولة بحران «5» وممّا يحسن أن يتمثّل به هنا قول الدارمي «6» : كلانا شاعر من قول صدق ... ولكنّ الرّحى فوق التفال قائل شعر ذكر أنه استعاره من المقول فيه قال أحمد بن أبي الخصيب: وإنّي وإن أحسنت في القول مرّة ... فمنك ومن إحسانك امتار هاجسي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 تعلمت ممّا قلته وفعلته ... فأهديت حلوا من جناي لغارس وقال ابن طباطبا: لا تنكرنّ إهداءنا لك منطقا ... منك استفدنا حسنه ونظامه فالله عزّ وجلّ يشكر فعل من ... يتلو عليه وحيه وكلامه وحكي أن الصّاحب «1» دخل على عضد الدولة بهمدان، وعضد الدولة مكب على دفتر يقرأه فقال: يا أبا القاسم هذه رسالة لك في بعض فتوحنا نحن نأخذها بأسيافنا وأنت تجمّلها بأقلامك، فقال: المعنى مستفاد من مولانا وإن كانت الألفاظ لخادمه. ثم أنشده: وأنت أكتب منّي في الفتوح وما ... تجري مجيبا إلى شأوي ولا أمدي «2» فقال: لمن البيت؟ فقال: لعبدك أبي إسحاق الصابىء. وكان الصابىء محبوسا ببغداد فأمر بالإفراج عنه والخلعة عليه فكان ذلك سبب خلاصه وتقدّمه. كلام نثر صار شعرا من غير قصد كتب عقال بن شبة: للأمير المسيّب بن زهير ... من عقال بن شبّة بن عقال فاتفق منه شعر. وحضر الصاحب الحسن بن سعد، فرأى على عنوان كتاب: أبو الحسين أحمد بن سعد. فقال هذا شعر ثم قال: قل: إلى الهمام الأريحيّ الفرد ... أبي الحسين أحمد بن سعد «3» فقال أبو الحسين: علمت بعد ثمانين سنة أن كنيتي واسمي واسم أبي شعر، وعلى ذلك كتب عبد الله الخازن على عنوان كتابه: حضرة الصاحب الجليل أبي القا ... سم كافي الكفاة إسماعيلا وقال رجل لمناد: يا صاحب المسح تبيع المسحا «4» فقال صاحبه: تعال إن كنت تريد الربحا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 فسمع أبو العتاهية ذلك فقال: قد قالا شعرا وهما لا يدريان. ما جاء من لفظ القرآن والخبر موزونا من ذلك قوله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ «1» ، وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ «2» وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا النبيّ لا كذب، أنا ابن عبد المطلب وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحرّض أصحابه على حفر الخندق ويقول: والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا، فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا. وكان أصحابه يجيبونه: أنك لولا أنت ما اهتدينا. متناد في مدح أو هجو أول على ضدّه مدح أعرابي نبطيا فقال: إن أبا الهيجاء أريحيّ ... للريح في أثوابه دويّ فقال النبطيّ: عنى أني أفسو. فقال الأصمعي: انظروا كيف ضاع هذا البيت. وسمع بعضهم قول الحطيئة «3» : يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل «4» فقال هذا بيت قواد. وأنشد قول الأخطل «5» : وإني لقوّام مقاوم لم يكن ... جرير ولا مولى جرير يقومها فقال جرير: صدق ما قمنا بين يدي قيس لأخذ قربان ولا لأداء جزية بين يدي سلطان. شعر لا يدرى أمدح هو أم هجاء دفع أعرابي ثوبا إلى خيّاط، فقال الخياط: لأخيطنه خياطة لا تدري أقباء هو أم دواج، فقال: لأقولن فيك شعرا لا تدري أمدح هو أم هجاء. وكان الخياط أعور. ثم أنشد: خاط لي زيد قبا ... ليت عينيه سوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 فلم يدر أدعا له أم دعا عليه. ولما أنشد النابغة النعمان قوله: تخفّ الأرض ما غبت عنها ... ويبقى ما بقيت به ثقيلا غضب، وقال: لا أدري أمدحني أم هجاني؟ فأتى زهير فأخبره فقال حق له أن يغضب ولكن قل بعده هذا البيت: أظنّك مستقرّ العزّ منها ... فتمنع جانبيها أن تزول «1» فأتاه فأنشده ذلك فرضي، وقال: أما الآن فنعم. من قصّد مديحا، فاتّفق منه هجو جاء شعرور إلى زبيدة «2» فمدحها فقال: أزبيدة بنت جعفر ... طوبى لزائرك المثاب تعطين من رجليك ما ... تعطي الأكفّ من الرغاب فوثب إليه الخدم ليضربوه فمنعتهم، وقالت: إنه قصد مدحا وأراد ما يقول الناس شمالك أجود من يمينه، فظنّ أنه إذا ذكر الرّجل كان أبلغ وقد حمدنا ما نواه وإن أساء فيما أتاه. ومدح شاعر أميرا فقال: أنت الهمام ابن الهما ... م الواسع ابن الواسعه فقال: من أين عرفتها قال قد جرّبتها، فقال: أسوأ من شعرك ما أتيت به من عذرك. شاعر مغلوب بشعر ركيك أتى أبو الشمقمق بشّارا «3» فقال: يا أبا معاذ أعطنا شيئا وصل إليك من السلطان، فقال: أتسألني وأنا شاعر؟ فقال: نعم إني مررت بالصبيان وهم يقولون: إنّما بشّار فينا ... مثل تيس في سفينه فرفع مصلاه عن ثمانمائة درهم وأعطاها له، وقال له: لا تكن راوية للصبيان بعد هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وقال دعبل «1» : وردت قمّ وكان لي على أهلها رسم، فاتفق أن جاءني شعرور فأخذ يناكدني ويؤذيني، فازدريت به وزجرته فذهب وهجاني فقال: في إست دعبل بلابل ... ليس يشفى لقابل ليس يشفيه منه غير ... أير بغل بكابل فلهج الصبيان بذلك وصاروا يصيحون خلفي إذا رأوني ففررت من قمّ استحياء وما عاودتها بعد. معرفة نقد الشّعر «2» قال أبو عمرو: انتقاد الشعر أشدّ من نظمه، واختيار الرجل الشعر قطعة من عقله. وقيل: إنما يعرف الشعر من دفع إلى مضايقه. وقيل: كن على معرفة الشعر أحرص منك على عقله. وقيل: كن على معرفة الشعر أحرص منك على حوكه. وقال الفرزدق: لا يكون الشاعر متقدّما حتى يكون باختيار الشعر أحذق منه بعمله. وقال أبو أحمد بن المنجم: ربّ شعر نقدته مثل ما ين ... قد رأس الصيارف الدينارا وقال الأهوازي: ويزعم أنه نقّاد شعر ... هو الحادي وليس له بعير وقال آخر: قد عرفناك باختيارك إذا كا ... ن دليلا على اللبيب اختياره عذر من يعرف الشعر ولا يصوغه قيل لابن المقفع: لم لا تقول الشعر؟ فقال: أنا المسنّ أسنّ الحديد ولا أقطع. وقيل لأديب: أشاعر أنت؟ فقال: لا، ولكني بهم خابر. وقال الشاعر: وقد يقرض الشعر البكيّ «3» لسانه ... وتعيي القوافي المرء وهو خطيب وقيل لأبي عبيدة: لم لا تقول الشعر مع غزارة علمك وجودة فهمك؟ فقال: لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الذي يجيبني لا أرتضيه، وما أرتضيه لا يجيبني. ولبعضهم في المعنى: أبى الشعر إلا أن يفيء رديئه ... عليّ ويأبى منه ما كان محكما فيا ليتني إذ لم أجد حوك وشيه ... ولم أك من فرسانه كنت مفحما مذاهب النّاس في نقده مذاهب الناس في ذلك مختلفة. فمنهم من يميل إلى ما سهل، فيقول: خير الشعر ما لا يحجبه شيء عن الفهم. وقال آخر: خير الشعر ما معناه إلى قلبك أسرع من لفظه إلى سمعك. ومنهم من يقول: ما كان مطابقا للصدق وموافقا للوصف كما قيل: وإن أحسن بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا وسئل ذو الرّمة عن أشعر الناس فقال: من خبث جيّده وطاب رديئه. ومنهم من يميل إلى ما انغلق «1» معناه وصعب استخراجه، كشعر ابن مقبل والفرزدق. وكثير من النحويين لا يميلون من الشعر إلى ما فيه إعراب مستغرب ومعنى مستصعب. وقال يزدان المتطبب أن أبا العتاهيّة أشعر الناس لقوله: فتنفست ثم قلت نعم حبا ... جرى في العروق عرقا فعرقا فقال له بعض الأدباء: إنما صار أشعر الناس عندك من طريق المجسة «2» والعروق. مراتب الشّعراء والشعر قال الجاحظ: يقال للمجيد فحل، ولمن دونه مفلق، ثم شاعر ثم شويعر ثم شعرور. وقيل: أقسام الشعر أربعة: ضرب حسن لفظه ومعناه، وإذا نثر لم يفقد حسنه وذلك نحو: في كفّه خيزران ريحه عبق ... من كفّ أروح في عرنينه شمم يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلّم إلا حين يبتسم وضرب حسن لفظه وحلا معناه نحو: ولمّا قضينا من منى كلّ حاجة ... ومسّح بالأركان من هو ماسح أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطيّ الأباطح وضرب جاد معناه وقصّر لفظه نحو: خطاطيف حجن في حبال متينة ... تمدّ بها أيد إليك نوازع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وضرب قصر معناه ولفظه نحو: إن محلا وإن مرتحلا ... وإن للسفر ما مضى مهلا وقيل: الأشياء كلها ثلاث طبقات جيد ووسط ورديء. فالوسط من كل شيء أجود من الرديء عند الناس إلا الشعر، فإن رديئه خير من وسطه. ومتى قيل شعر وسط فهو عبارة عن الرديء. وقيل: الشعر ثلاثة أصناف: شعر يكتب ويروى، وشعر يسمع ويكتب، وشعر لا يكتب ولا يوعى «1» . كثرة الشعر في الناس قال إبراهيم الموصليّ: لولا أني أعلم أنّ الشعر من شرّ الكلام لقلت الشعر أكثر من النثر. وقال أبو تمّام: ولو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت ... حياضك منه في العصور الذواهب ولكنّه صوب العقول إذا انجلت ... سحائب منه أعقبت بسحائب وقيل: الشعر أكثر من الكلام البليغ. فقد تجد عشرة آلاف شاعر ولا تجد خطيبا. المستحسن الإنشاد دخل أبو تمّام على إسحاق المصعبيّ فقال له: رأيت المخزوميّ آنفا وهو ينشد شعرا، فقال: أيها الأمير نشيد المخزومي يطرق بين يدي شعره، وشعري يطرق بين يدي نشيدي. ومدح رجل آخر بحسن الإنشاد فقال: هو صنّاجة الشعر. وقال الفرزدق لعبّاد العنبري: حسن إنشادك يزين الشعر في فهمي. وقيل: إذا أنشدت المديح ففخّم، أو المراثي فحزّن أو من النسيب فأخضع، أو من الهجاء فسدّد وبالغ. المستقبح الإنشاد قال عبد الله بن معاوية: يزين الشعر أفواه إذا نطقت ... بالشّعر يوما، وقد يزري بأفواه وقال أبو خليفة: كان الشعر من فيه ... إذا تمّت قوافيه كنيف قد خرى فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 (10) ومما جاء في الكتابة والكتّاب واضعو اللغات والخط ّ قيل: اللغات توقيفية «1» لقوله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها «2» . وقيل: أوّل ذلك اصطلاح «3» ثم يجوز أن يكون الباقي توقيفا. وقال الكلبيّ: وضع الخطّ ثلاثة نفر: مرامر بن مرة بن ذروة، وأسلم بن شدوة، وعامر ابن حدرة. فمرامر وضع الصورة، وأسلم فصّل ووصل، وعامر أعجم وأشكل. وقيل: وضعه قوم من طسم «4» وهم أبجد وهوّز وحطّي وكلمن وسعفص وقرشت على أسمائهم. ثم وجدوا حروفا أخر وسمّوها الروادف وهي: ثخذ ضظغ. ولهم أربعة حروف لا يعدونها في أبي جاد، وتلك حروف المدّ واللين، ونون الغنّة في نحو منذر وجندل. وأول من خاطب ب: أطال الله بقاءك، عمر بن الخطاب، قاله لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما. وأول من قال: جعلني الله فداءك عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وأول من قال: جعلت فداءك عليّ عليه السلام. وأول من كتب في صدر الكتاب مراسله أن يصلّي على محمد، يحيى بن خالد البرمكيّ «5» . اتفاق الحروف مع النّجوم عدد الحروف العربية عدد منازل القمر، ثمانية وعشرون. وغاية مبلغ الكلمة مع الزيادة سبعة على عدد النجوم السبعة. وصورة الزوائد اثنا عشر على عدد البروج. وأربعة عشر تندرج مع لام التعريف، مثل منازل القمر التي تستتر تحت الأرض وأربعة عشر فوقها وهذا اتفاق صحيح. أسامي المترجمين نقل ديوان الفارسيّة إلى العربية صالح بن عبد الرحمن، فقال له رجل من الفرس: كيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 تكتب دهيوده وبنجيوده؟ فقال: عشير ونصف عشير. فقال: وكيف تكتب أندى؟ قال أيضا. فقال: قطع الله أصلك من الدنيا، كما قطعت أصل الفارسية، وقال لقومه اطلبوا مكسبا غيره. وممّن نقل العلوم الكبار ابن بطريق وابن ناعمة وأبو فروة وابن المقفع وأرسطو طاليس وأفلاطون من متقدّمي الحكماء ومستخرجي العلوم. أجناس الكتابة قال الكلبيّ «1» كتابة الأمم نوعان: أحدهما يبتدأ باليمين، وهي العربية والعبرانية. والثاني من اليسار، وهو اليونانية والرومية. وكل كتابة من اليسار فهي مفصولة وكتابة الصين نقوش تصوّر. وحكي أن ملك الروم قال ما حسدت العرب على شيء كحسدي على أشكال خطوطهم. مرافق الخط ّ قيل: الخطّ لسان اليد وهو الطلسم الأكبر، وقيل: الخط هندسة روحانيّة ظهرت بآلة جسمانية. وقيل: العلم شجر، والخطّ ثمر. وفضّل بعضهم الخطّ على اللفظ، فقال: الخطّ للقريب والبعيد، واللفظ للقريب فقط. وفضّل جالينوس اللفظ فقال: الخطّ كلام ميت واللفظ كلام حيّ. اختلاف الخطوط وتشابهها قيل: من أعجوبة الخطوط كثرة اختلافها مع اتفاق أصولها، كاختلاف الأشخاص مع اتفاقها في الصنعة. وعجب بعض الكتاب من إلحاق القافية «2» بالولد بالشبه، فقال له قائف. أعجب من هذا ما يبلغنا من تمييزكم الخطوط وإلحاق كل بصاحبه. وحكي أن رجلا ادّعى على آخر بخطّ له معه فجحد المدعى عليه خطّه فتحاكما إلى سليمان بن وهب. فأحضر الخطّ وأملى على الرجل كتابا طويلا ردّد فيه الحروف، فتصنّع الرجل في كتابته فأبت سجيته في أحرف إلا أن تأتي كما جرت به عادته، فتبيّن لسليمان كذبه. فاستقصى عليه حتى اعترف بخطّه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 مدح الكتابة جعل الله تعالى كتبة الملائكة كراما كاتبين. حيث يقول: كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون. وقال تعالى: بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ «1» قيل: بلغت الكتابة بقوم مبلغ الملوك وأعطتهم أزمة الخلافة. ونال الخلافة أربعة من الكتاب: عثمان وعليّ ومعاوية وعبد الملك. وسأل أعرابي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا له حتى انتهوا إلى ذكر معاوية، فقالوا: كان كاتب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: فلج «2» وربّ الكعبة فإن الأمور بيد الكتاب. قال الشاعر: ما النّاس إلا الكتبه ... هم فضّة في ذهبه قد أحرزوا دنياهم ... بشعبة من قصبه وقال ابن الحجّاج: وشمول كأنّما اعتصروها ... من معاني شمائل الكتّاب وقيل: كل صناعة تحتاج إلى ذكاء، إلا الكتابة فإنها تحتاج إلى ذكاءين: جمع المعاني بالقلب، والحروف بالقلم. ولذلك قيل بالفارسية: ديبر، أي له ذكاآن. وقال الجاحظ: لم أر مثل طريقة الكتاب، فإنهم اختاروا من الألفاظ ما لم يكن وحشيا ولا ساقطا سوقيا، وقال: إنما عذب شعر النابغة لأنه كان كاتبا وكذلك زهير. ذمّ الكتّاب قال الجاحظ في ذمّهم: ما قولك في قوم أوّل من كتب منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالفه في كتابه، فأنزل الله فيه آيات، فهرب إلى جزيرة العرب فمات كافرا. ثم استكتب معاوية فكان أوّل من غدر وحاول نقض عرى الإسلام في أيامه، ثم كتب عثمان لأبي بكر مع طهارة أخلاقه فلم يمت حتى أدّاه عرق الكتابة إلى ذم من ذمه من أوليائه. ثم كتب لعمر رضي الله عنه، زياد بن أمية فانعكس شرّ مولود، وكتب لعثمان رضي الله عنه مروان بن الحكم، فخانه في خاتمه وأشعل حربا في مملكته. وقال بعضهم، وقد جلس في ديوان: أخلاق حلوة وشمائل معشوقة ووقار أهل العلم وظرف أهل الفهم، وإذا سبكتهم وجدتهم كالزبد يذهب جفاء لا يستندون إلى وثيقة ولا يدينون بحقيقة. فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون. قال كشاجم: بأبي وأمّي أنت من مستجمع ... تيه القيان ورقّة الكتاب «3» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وقال ابن المعتزّ: وما كاتب بالكفّ إلا كشارط «1» ذمّ عجزة الكتّاب قال الحجام الأهوازي يهجو الكتّاب: تعيس الزّمان لقد أتى بعجاب ... ومحا رسوم الظرف والآداب وأتى بكتاب لو انبسطت يدي ... فيهم رددتهم إلى الكتّاب وقال آخر: دعيّ في الكتابة يدّعيها ... كدعوة آل حرب في زياد «2» ولما ولي الفضل بن مروان ديوان الخراج وموسى بن عبد الملك ديوان الضياع، قال محمد بن يزيد المراعي: أرى التدبير ليس له نظام ... وأمر النّاس ليس بمستقيم فديوان الضّياع بفتح ضاد ... وديوان الخراج بغير جيم وذمّ رجل آخر فقال فيه: من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم عدم الكتابة والعجز عن تقويم الشعر. من يسدّ كتابه مسدّ السّلاح والعساكر قال ابن الرومي: في كفّه قلم ناهيك من قلم ... نيلا وناهيك من كفّ به اتّشحا يمحو ويكتب أرزاق العباد به ... فما المقادير إلا محا ووحى وقال المتنبيّ: يا من إذا ورد البلاد كتابه ... قبل الجيوش ثنى الجيوش تحيّرا ورسائل قطع العداة سخاءها ... فرأوا قنا وأسنّة وسنوّرا «3» وفي وصف القلم باب يجري هذا المجرى. وممّا هو كالمضادّ لهذا الباب ما روي أن عكلا «4» أغارت على إبل لبني حنظلة «5» فاستغاثوا بإسحاق بن إبراهيم، فكتب إلى عامل كتابا، فخرج صاحب الكتاب وخرق الكتاب وقال: جعلتم قراطيس العراق سيوفكم ... ولن يقطع القرطاس رأس المكابر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وقلتم خذوا البرّ التقيّ فإنّه ... أقلّ امتناعا واتركوا كلّ فاجر فرحنا بقرطاس طويل وطينة ... وراحت بنو أعمامنا بالأباعر «1» وقال البحتري: فلا غرّني من بعده عزّ كاتب ... إذا هو لم يأخذ بحجزة رامح ذمّ الكتابة إذا تولّاها النساء قال عمر رضي الله عنه جنّبوهنّ الكتابة. وقال دقنس الفيلسوف وقد رأى جارية تتعلّم الكتابة: تسقي سهمها سما لترميك به يوما. وقال السامي: ما للنساء وللكتا ... بة والعمالة والخطابه هذا لنا ولهنّ منّا ... أن يبتن على جنابه «2» سمع جرير شعرا فسأل عن قائله. فقيل: امرأة فلان. فقال: إذا زقت الدجاجة زقاء الديك فاذبحوها. شكوى التأخّر في الكتابة حتّام لا أنفكّ حارس سلّة ... ادعى فاسمع مذعنا وأطيع وأكلف العبء الثقيل وإنّما ... يبلى به الأتباع لا المتبوع فعليهم ثقل الأمور وحملها ... وعلى الرئيس الختم والتوقيع نقص الأميّ وفضله قال أميّ: كان النبي صلى الله عليه وسلم أميّا، فقيل له: أما علمت أنه كان لي منقبة «3» ولك مثلبة «4» ؟ وقال المأمون: لأحمد بن يوسف: وددت أن يكون لي خطّ كخطك، فقال: يا أمير المؤمنين لو كان في الخطّ حظّ ما أحرمه الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم. وكانت أم سلمة تقرأ ولا تكتب ومحمّد بن الوليد المازني يكتب ولا يقرأ، وكان يتنافس فيما يكتب بيده. وولي عمر بن هبيرة العراق فكان يحفظ جمل حسابها ولا يكتب. كتاب الرجل منبىء عن عقله قال زياد: ما قرأت كتابا قطّ لرجل إلا عرفت مقدار عقله فيه. وقال طريح بن إسماعيل: عقول الرجال في أطراف أقلامها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وقال يزيد بن المهلّب لابنه، حين استخلفه على خراسان «1» : إذا كتبت كتابا فأكثر النظر فيه، فإنما هو عقلك تضع عليه طابعك، وإن كتاب الرجل موضع عقله، ورسوله موضع رأيه. بقاء الخط ّ قال بعض الشّعراء وما من كاتب إلا استبقى ... كتابته وإن فنيت يداه فلا تكتب بخطّك غير شيء ... يسرّك في القيامة أن تراه وقال الخليل: كتبت بخطّي ما ترى في دفاتري ... عن النّاس في عصري وعن كلّ غابر ولولا عزائي أنّه غير خالد ... على الأرض لاستودعته في المقابر فضل الخطّ المستحسن قيل في قوله تعالى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ «2» إنّه الخطّ الحسن. قال الشاعر: أضحكت قرطاسك عن جنّة ... أشجارها من حكم مثمره مسودّة سطحا ومبيضّة ... أرضا كمثل الليلة المقمره ونظر الحسن بن رجاء إلى خطّ حسن فقال: خطّك منتزه الألحاظ ومجتنى الألفاظ فلان فصيح القلم. ونظر أعرابي إلى إسماعيل وهو يكتب بين يدي المأمون، فقال: ما رأيت أطيش من قلمه وأثبت من حكمه. وقال ابن المعتزّ: إذا أخذ القرطاس خلت يمينه ... تفتح نورا أو تنظم جوهرا وقيل لبعضهم: كيف ترى إبراهيم الصولي؟ فقال: يولّد اللؤلؤ المنثور منطقه ... وينظم الدرّ بالأقلام في الكتب وتحاكم إلى الحسن بن سهل صبيّان في خطّيهما، فقال لأحدهما: خطّك تبر مسبوك «3» ، وقال للآخر: خطّك وشي محوك «4» ، وقد تسابقتما إلى غاية فوافيتما في نهاية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 من حسن خطّه وخدّه وصف أحمد بن أبي خالد جارية كاتبة فقال: كان خطّها أشكال صورتها ومدادها سواد شعرها، وقرطاسها أديم وجهها، وقلمها بعض أناملها، وبيانها سحر مقلتها. وقال: بخطّ كأن الله قال لحسنه ... تشبّه بمن قد خطّك اليوم فائتمر وقال الصاحب: غزال يفتن النّاس ... مليح الخدّ والخطّ فهذا النمل في العاج ... وهذا الدرّ في السّمط ذمّ الخطّ القبيح قيل: رداءة الخطّ إحدى الزمانتين «1» . قال الحسن المغربي: جزعت من قبح خطّي ... وفيه وضعي وحطي «2» رجعت من بعد حذقي ... إلى كتابة حطي وقال علي بن محمد العلويّ: أشكو إلى الله خطّا لا يبلّغني ... خط البليغ ولا حظّ المرجينا وقال يحيى بن علي: مع خط كأنّه أرجل البطّ ... أو الشرط في طلى الفتيان وقال ابن المستنير وقد سئل عن خطّ وزير ليس بالجيد، رأيت حظّه أحسن من خطّه. الخطّ الدقيق والجليل كتب رجل لصاحبه كتابا دقيقا، فقال: ما خاطبتني ولكن عوذتني. وقال الناشىء: كتبت إليكم أشتكي حرقة الهوى ... بخطّ ضعيف والخطوط فنون فقلت حكاني في نحول ودقّة ... كذاك خطوط العاشقين تكون ورأى محمد بن سعيد كتابا بخطّ دقيق، فقال: هذا كتاب من يئس من طول حياته. التثبّت في الكتابة والإسراع فيها قيل التثبّت في الابتداء بلاغة وبعده عيّ «3» وبلادة. وكان ابن المقفع كثيرا ما يقف إذا كتب فقيل له في ذلك، فقال: إنّ الكلام يزدحم في صدري فأقف لتخيّره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وقيل سرعة اليد محمودة ما أمنت نقصا أو سقطا «1» . حمد الشكل وذمّه قيل: حلّوا عواطل الكتب بالتقييد، وحصّنوها من شبه التصحيف والتحريف. وقيل: إعجام الكتاب يمنع من استعجامه، وشكله يمنع من إشكاله. قال الشاعر: وكأنّ أحرف خطّه شجر ... والشكل في أضعافه ثمر قال أبو تمّام، وقد ضرب بعضهم المثل في هذا الباب، بقوله: إذا ما قيّدت رتكت وليست ... إذا ما أطلقت ذات انطلاق «2» وعرض خطّ على عبد الله بن طاهر، فقال: ما أحسنه لولا أنّه أكثر شونيزه. ونظر محمد بن عباد إلى أبي عبيد وهو يقيّد بسم الله فقال: لو عرفته ما شكلته. الوصيّة بتقويم حروف في الكتابة قال الحسن: من كتب اسم الله فحسّنه، أحسن الله إليه. وكان يزيد بن ثابت يكره أن يكتب بسم الله من غير السين فإذا رآه كذلك محاه. ورأى محمّد بن عيسى كاتبا كتب عيسى وردّ الياء إلى خلف، فقال: لا تكتب كذا فأيسر ما فيه أن الياء إذا كان إلى قدّام كان إقبالا، وإذا كان إلى خلف كان إدبارا. وقيل أرّخوا ذوائب «3» الخطوط يعني ما كان من نحو الياء والنّون. وقيل: المدّ في حرفين سوء التقدير. وقيل إذا اجتمع واوان وجب الفصل، والفصول حلى «4» الكتاب وجودة القراطيس شفاء القلم. وقال أمير المؤمنين عليه السلام: ألق دواتك وأطل سنّ قلمك، وفرّج بين السطور، وقرمط «5» بين الحروف. معرفة كتابة بإشارة روي أنّ هشام بن عبد الملك كان يسايره أعرابيّ فقال له: انظر ما على ذلك الميل، فجاء الأعرابي وتأمله وقال: رأيت شيئا كرأس المحجن «6» متّصلا بحلقة يتبعها ثلاث كأطباء الكلبة كأنها رأس قطاة بلا منقار. فعرف هشام أنه يصفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وأضلّ رجل بعيرا فقال لأعرابي: هل رأيت بعيرا سمته جعفر؟ فقال: ما أعرف جعفرا، ولكن رأيت بعيرا سمته محجن وسابورة وحلقة وهلال متصل بعضه ببعض، فقال: هاهوذا. وقال مشمشة المخنّث للصولي: اكتب مشمشة يقرأ عليك السلام، فقال: قد كتبت. فقال أرنيه فإن في اسمي دخالة «1» الأذن فقال: فعجبت من جودة تشبيهه. تشبيهات بعض حروف المعجم دعا أبا النجم بعض أصدقائه فعاد عنه سكران فقال: أقبلت من عند زياد كالخرف ... تخطّ رجلاي بخطّ مختلف كأنّما يكتتبان لام الألف وقال عبد السلام الحمصيّ: كأنّ قافا أديرت فوق وجنته ... واختطّ كاتبها من فوقها ألفا وقال أبو نواس في حباب الكأس: خلته في حببات ال ... كاس واوات صغارا وقال بعضهم في وصف بخيل: كأنّه جلمان من حيث جئته، وجدت لا، وفي تشبيه الشارب قال: فجاء كنصف الصاد من خطّ كاتب. تتريب الكتب قال النبي صلى الله عليه وسلم: اتربوا الكتب فإنّه أنجح للحوائج. وكان الفرزدق كتب وصيّة وأعتق عبدا عن دبر فترب الكتاب «2» العبد، فقال: استنجحت الحاجة واستعجلت المنيّة لي يا ابن الفاعلة، احذفوا اسمه من الوصيّة. رفع رجل قصة إلى عبد الله بن طاهر وقد أكثر عليها من التراب، فوقّع فيها إن ضمن لنا من الصابون ما ينقّي ثيابنا من تراب كتابه ضمنا له قضاء حاجته. الكتابة في الأنصاف والظهر قال الشاعر: أنت لما ابتدأت تكتب في الأن ... صاف خفنا من قلّة الإنصاف «3» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وكتب أحمد بن يوسف إلى صديق له: كتبت إليك في الظهر تفاؤلا بأن يظهرك الله على من ناواك «1» . ويجعلك ظهرا لمن والاك. قال الشاعر: العذر في الظهر عند الحرّ منبسط ... إذا رأى سطوات الدّهر بالنعم لو كان يصلح خدّي ما جرى قلمي ... إلا عليه على أن المداد دمي وقال آخر: كتب القراطيس لذي حشمة ... وكتب ما بالظهر للنّاس المكتوب على الحواشي قال بعضهم: اطلبوا النكت في الفواشي والحواشي «2» . وقيل: التعليق في الحواشي كالشنوف «3» في آذان الأبكار. الحك ّ قيل: من كثر شكّه جاد حكّه. وقال علي بن عيسى لجماعة من الكتّاب، رأى في كتابتهم حكّا كثيرا: ما زلتم تغلطون وتحكّون حتى حذقتم بالحك. ورأى الصاحب حكّا كثيرا في حساب دفع إليه، فقال: أرى فيه تأثير السكين أكثر من تأثير القلم. قال الشاعر: حذقك بالحكّ دليل على ... أنّك في الكتب كثير الخطأ النّظر في كتاب الغير قال الفضل بن الربيع: كنت أقرأ في كتاب، وإلى جانبي رجل من أهل المدينة، فجعل ينظر فيه: فلمحته وقلت: ما تصنع ويحك؟ قال: بلغني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: من نظر في كتاب أخيه بغير إذنه فإنما يتطلع في النار، ولنا أشياخ قد تقدّموا فقلت لعليّ أرى أعظمهم. وكتب بعض الكتّاب كتابا وإلى جنبه رجل يتطلع، فكتب فيه: ولولا أنّ ابن الزانية فلانا يتطلّع عليّ فيما أكتبه، لشرحت كثيرا مما في قلبي، فقال الرجل: يا سيدي ما كنت أتطلع عليك، فقال: يا بغيض فإذا من أين علمت ما كتبت فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 ترشّش المداد على الثوب قال محمد بن مهران: لا تجزعنّ من المداد ولطخه ... إنّ المداد خلوق ثوب الكاتب «1» وقال الحسن بن وهب: وما شيء بأحسن من ثياب ... على حافاتها سمة المداد «2» وقال آخر في نقيض هذا: يدلّ على أنّه كاتب ... سواد بأظفاره راسب «3» فإن كان هذا دليلا لنا ... فإسكافنا كاتب حاسب «4» التاريخ كان الرسم أن يؤرخ بكل وقت تحدث فيه حادثة ظاهرة مشهورة. فالروم كانت تؤرخ بملك ذي القرنين وهو الإسكندر. والفرس كانت تؤرخ بأعدل ملك كان يتفق له، إلى أن باد ملكهم يزدجرد فهم يؤرخون منه. والعرب بمشاهير الحوادث كنزول إسماعيل مكّة، وعام الفيل، وهجرة النبي صلى الله عليه وسلم. وعليها استقر الحكم إلى الآن. وأول من أرّخ بذلك في الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه. العنوان الرسم أن يكتب اسم الكاتب ضئيلا والمكتوب إليه فحلا جسيما. ورأى طاهر بن الحسين رقعة لابنه، إلى المأمون وعليه عبده عبد الله، فقال: يا بنيّ ابدل هذه اللفظة شيئا آخر فإني سميتك عبد الله فلا تشرك معه في ملكه غيره. ووقّع المهدي في كتاب رجل كتب عليه عبده لا أعلمنّ أحدا ينسب نفسه إلى مخلوق مثله على عنوان، فإنه ملق كاذب لا يقبله إلا مفتون أو مأفون. الختم قيل في قوله تعالى: فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ «5» ، أي مختوم. وفي قوله تعالى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ «6» ، أي مختوم. وقال ابن عباس (رضي الله عنهما) : الكتاب بلا ختم يسمى أقلف وهو استهانة بالمكتوب إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وقال عمر (رضي الله عنه) : طينة خير من ظنّة. وقيل: الختم ختم، وقيل: التصفّح قبل الختم والختم بعد العنوان. وسأل بعض الأدباء رئيسا أن يختم كتابه فقال: يا أيّها الملك المنفّذ ... أمره شرقا وغربا امنن بختم صحيفتي ... ما دام هذا الطين رطبا واعلم بأنّ جفافه ... مما يعيد السهل صعبا وكتب بعضهم إلى رئيس: تختم كتبك لأنها مطايا البرّ «1» ، وأنا لا أختمها لأنها حوامل شكر. القصّة والتّوقيع قال الصاحب لرجل رفع إليه قصّة وهو يكثر الكلام: هذا رفع القصص لا رفع القصص «2» . وجاء رجل يطلب منه توقيعا بالجواز، فقال: يكتب جواز لحيته على طريق فقحته. وقيل التوقيع إلى ذوي الأقدار موق «3» . مدح الورّاقين وذمّهم قيل لا تقعدنّ في السوق إلا إلى ورّاق أو زرّاد، فهما مباينان للأوغاد. وقال عبدوس الحكيم: لا تكوننّ وراقا لآلئيا فإن الدفاتر للعلماء والجواهر للملوك وهذان الصنفان في الناس قليل. وقال الجاحظ في ذمّهم: لم أر شرا من الورّاقين مع أن صناعتهم نسخ الأخبار لذوي الآداب والألباب «4» ، وورّاق المصاحف شر. وقال: نبئت أن شيخا منهم خثر عليه الحبر، فبال في المحبرة وكتب به المصحف والماء منه غير بعيد. وقال ورّاق: عرضي أرقّ من الزجاج ومجالي في طلب الرزق أضيق من المحبرة ووجهي في الناس أشدّ سوادا من الحبر. وقيل لورّاق: ما تشتهي؟ فقال قلما مشاقا وحبرا برّاقا وجلودا رقاقا والله سبحانه أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 (11) ومما جاء في التصحيفات النّهي عن أخذ العلم من الصحفي قيل لا تأخذوا العلم من صحفي، ولا القرآن من مصحفي، وهجا بعضهم أبا حاتم فقال: إذا أسند القوم أخبارهم ... فإسناده الصحف والهاجس وقال أبو نواس في مرثية خلف «1» : أودى جماع العلم مذ أودى خلف ... فليذم من العياليم الخسف رواية لا يجتنى من الصحف المهجّو بكثرة التصحيف قيل: كيسان يمسخ على لسانه العلم ثلاث مرات، فإنه يكتب في ألواحه خلاف ما يسمع، وينقل من ألواحه إلى الدفتر، خلاف ما يكتب، ثم يقرأ من الدفتر خلاف ما يكتب. وقال شاعر: ولم يسمع النحو لكنّه ... قرا منه شيئا وقد صحّفه «2» تصحيفات متوالية إلى ما لا معنى له وجد معلم يلقن صبيا: عفت الديار محلّها قمقامها ... بمنى بأبد غولها فرجامها «3» وإنما هو: عفت الديار محلّها فمقامها ... بمنى تأبّد غولها فرجامها قال الجاحظ: ومررت بمعلّم وهو يلقن صبيا: يا أبا الفياش جثى ... اخرج الفتيان غثا لبش في الأرض أباس ... شزنوا أيلج مثا فقلت: بالعبرانية هذا؟ قال: لا، هو بالعربية. فلما تأمّلته إذا هو مكتوب: يا أبا العباس حبى ... أخرج الفتيان عنّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ليس في الأرض أناس ... شربوا أملح منّا فقلت: أيها المعلم أنّك ضائع بهذا البلد. قال: نعم قدور ومزاريق «1» . ورئي صبيّ يقرأ على معلم: والشيخ لا يبرك أجلافه ... حتى يوارى في ثرى دمسه فإذا هو: والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه «2» تصحيفات في القرآن مستهجنة «3» سمع رجل يقرأ: ربّنا إنّك من تدخل النار فقد أخزيته بالراء. فقال بعضهم أخراه: ولكن بلفظ أحسن من هذا. وقال رجل في مجلس الشافعي رضي الله عنه: كيف يقرأ بشوال يعجنك أو بشوال يعجبك؟ فقيل: ليس في القرآن شيء من ذلك. فقال الشافعي: دعوه لي إنما هو بسؤال نعجتك. وقال الجاحظ: سمعت من يقرأ ض والقرآن «4» وقرأ آخر وفرش مرقوعة «5» . وقرأ آخر إن السموات والأرض كانتا ريقا «6» . وقرأ آخر: نبية «7» من ربكم وقرأ آخر ومريم بنت عمران التي أخصيت «8» فرجها. تصحيفات في الحديث مستقبحة قرأ بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم بلع قديدا، وإنما هو بلغ قديدا. وقرأ آخر كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره النوم إلا في القدر وإنما هو الثوم. وقرأ آخر على القباب المحدث لا يدخل الجنة قباب. فقال أعيذني بالله إنما هو قتات. فقدم القارىء إليه وعرك أذنه وقال ما صنع المسكين حتى لا يدخل الجنة؟ وقرأ آخر كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب العسل يوم الجمعة وإنما هو الغسل. وقرأ آخر: غمّ الرجل ضيق أبيه وإنما هو عمّ الرجل صنو أبيه. وقرأ آخر: لا يرث جميل إلا بثينة وإنما هو لا يرث حمل إلا ببيّنة. وقرأ آخر: إن أردت أن تنعظ فادخل المقابر وإنّما هو تتعظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وقال أبو بكر أحمد بن كامل: حضرت شيخا، فقال عن رسول الله عن جبريل عن الله عن رجل، فقلت: من هذا الذي يصلح أن يكون شيخ الله يروي عنه؟ فإذا هو عزّ وجلّ. وقرأ محدّث كان النبي صلى الله عليه وسلم يغسل خصى الحمار. فقيل له: وما أراد بذلك؟ فقال التواضع. وإنما هو حصى الجمار. من صحّف وتأوّل برقاعته قرأ بعضهم: فأوجس في نفسه جيفة، فقيل: هو خيفة. فقال: لا، بل لأنه توضأ ولم يغسل استه. وقرأ آخر في روضة يخبزون. فقال: اخشكا رام جواري فقال: ما أرادوا ففيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين. وقرأ آخر ما سأل به جبيرا «1» . فقال: من جبير؟ فقال: والد سعيد. وقرأ رجل على محمد بن حبيب من شعر الراعي، تعود ثعالب السرقين منه، فقال: إنما هو ثعالب الشرفين منه فقال: إن الثعالب أولع شيء بالسرقين فقال: أتصحيف وتفسير! تصحيف فيه نادرة قرأ رجل على ابن مجاهد بل عجنت ويسجرون. قال: أحسنت فمع العجن سجر التنور. وقرأ صبيّ على معلم أني أريد أن أنكحك، فقال هذا إذا قرأت على أمك. وقرأ آخر وأما الآخر فتصلب، فقال: هذا إذا قرأت على أبيك الكشحان، وغنّى رجل. خليلي هبا نصطبح بسماد فقال اصطبح به وحدك، إنما هو بسواد. تصحيف أفضى إلى مضرّة كتب الوليد بن عبد الملك إلى والي المدينة: أحص من قبلك من المخنثين فونم الذباب على الحاء فقرأ الكتاب أخص. فقال العامل: لعلّه أحص فقال الكاتب: على الحاء نقطة كسهيل، فخصى جماعة منهم ولكل واحد نادرة. وكتب صاحب الخبر بأصبهان إلى محمد بن عبد الله بن طاهر فلانا يعني قائدا كبيرا له خزلجية، ويجلس مع النساء فكتب إلى العامل ابعث إلي فلانا وخزلجيته. فقرأ الكاتب: وجزّ لحيته، فأخذه وحلق لحيته وأشخصه «2» فلمّا أبصره رأى آية فضحك وخلاه. وكان حيّان بن بشير يملي أن عرفجة أصيب يوم الكلاب وكان مستمليه يعرف ملحه، فقال: إنما هو الكلاب بالضم، وحبست أنا من أجله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 تصحيف أفضى إلى فائدة كان نعيم بن زيد واليا على الهند، وفي حبسه رجل، يقال له حبيش فجاءت أمه إلى الفرزدق، وسألته أن يتشفّع فيه. فكتب إليه كتابا فلم يدر أخنيش أو حبيش، فأمر أن يطلق كل محبوس اسمه شيء من ذلك. فأطلق بذلك عدة. وأنشد رجل الأصمعي، «كليني لهم يا أميمة باضت» «1» ، فقال له الأصمعي: أما علمت أن كل ناجمة الأذنين تحيض وكل سكاء الأذنين تبيض؟ فقال أبو الحسين الكوفي: لم أر تصحيفا أجلب للفائدة منه. وغنت جارية للرشيد: أظلوم إن مصابكم رجلا ... أهدى السّلام تحيّة ظلم فقال الكسائي: إنما هو مصابكم رجل. فقالت الجارية: إني أخذت هذا الشعر عن أنحى الناس وآدبهم أبي عثمان المازني بالبصرة (هكذا) فقال الرشيد: ليكتب إلى العامل بالبصرة بإطلاق نفقة المازني وإشخاصه فلما أشخص ودخل إلى الرشيد، سأله عن حاله: ألك ولد؟ قال: نعم بنيّة فقال: وما قالت لك قال أنشدتني: أيا أبتا لا ترم عندنا ... فأنا بخير إذا لم ترم قال وبماذا أجبتها، قال قلت: ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاح فسأله عن البيت المغنّى به فقال إنما هو رجلا وخبران إنما هو ظلم. فقال أجدت وأصبت فأعطاه مالا وأكرمه وردّه إلى البصرة مكرّما. إدعاء تصحيف أدّى إلى خلاص أتى عبد الملك بخارجيّ فأمر بقتله، وقال ألست القائل: ومنا حصين والبطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب فقال إنما قلت: أمير المؤمنين، أي يا أمير المؤمنين فأطلقه. وأحضر جعفر بن سليمان الهاشمي خطابي المقدم الهذيلي وفيه: يا ابن الزواني من بني معاوية ... أنت لعمري منهم ابن الزانية فقال: إنما قلت: يا ابن الرواثي وأنت ابن الراثية أي اللواتي ينحن على موتاهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وحكي أن علوية الشاعر اجتمع عليه الصوفية، وقالوا له أنت أنشدت: طاب لنا الرفض بغير حشمه فقال: إنما قلت: طاب لنا الرقص فرضوا عنه وانصرفوا. تغيير كتابة قليلة يغير بها المعنى خرج توقيع عن الرشيد إلى بعض أوليائه، باقطاع مائة ألف وألف دينار إلى الريّ فدفع إلى معين لنسخه وطلب رسما من صاحبه، فامتنع. فزاد المعين ألفا وجعله أو ألف دينار. فلما أخرج وأوصله إلى العامل، قال: لك ما فيه توفير السلطان من أحد هذين. فقال: إنما أمر لي بهما. فاسترجع التوقيع وعاد به إلى الحضرة، فلما رآه الرشيد، ضحك وقال: لعلّك لم ترض الكاتب فأصلحه. وعلّق ستر على باب أم جعفر وكان قد أمر أن يكتب عليه السيدة الميمونة المباركة، فأغفل المطرّز الراء فدخل الرشيد فرآه وقرأ مناكة، فضحك وأمر أن يمزّق. وقال الصاحب: لا ينبغي أن يخاطب النساء بحراستها ونظرها ولا عقلها لأنه لا يؤمن أن يصحف بحراستها وبظرها وعفلها. ودفع المعروف بصخرة دبير قصة إلى الصاحب يستوهب منه شيئا. وفي آخر القصة فعل إن شاء الله فزاد الصاحب فيه ألفا وجعله أفعل إن شاء الله. وقال: خذها فقد وقعت لك. فأخذ صخرة دبير القصة فتأمّلها فلم ير توقيعا، فراجعه مرتين كل ذلك يقول: قد وقعت فيه حتى أراه الصاحب ما أثبته من الألف. من صحّف عند رئيس بما أضحك قرأ بعضهم عند رئيس: جاضرطي، إنما هو حاضرطي. وحضر أحمد بن أبي خالد وزير المأمون يتتبع القصر، فأخذ قصة فقرأ أحمد الثريدي وإنما هو البريدي. فقال المأمون: يا غلام احضر لأبي العباس طعاما فإنه جائع وعزم عليه ليأكل فأكل، ثم عاد فمرّ بقصة فيها فلان الحمصي فقرأ الخبيصي فقال المأمون: يا غلام أظن أن طعامه كان مبتورا عن الحلواء، أحضره خبيصا فأتي بجام فامتنع. فقال: عزمت عليك لتأكلن فأكل ثم لم يعثر بعد. والذي قرأوانا فداؤك من الشّوكله إنما هو من السوء كلّه. والذي قرأ على أمير المؤمنين الخليفة انعظ على أمير المؤمنين إنما هو ابعط أي أبعد. وقال بعضهم: حضرت مجلس قاضي القضاة عبد الجبار فقال له بعض العلوية الكبار: ما هذا الذي يقوله النحار في كتبه الكس بالكسب، أراد الكسب فضحك كل من عنده فأنشد فيه: إذا الغصن لم يثمر وإن كان شعبة ... من المثمرات اعتده النّاس في الحطب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 تصحيفات مستحسنة قرأ الأصمعي على أبي عمرو هذا البيت: وعزرتني وزعمت أنك لاتني بالضيف تأمر ... وإنما هو لابن بالصيف تامر فقال أبو عمرو: إنك في التصحيف أشعر من الحطيئة. وكان حمّاد الراوية، لا يحسن القرآن فقيل له: لو قرأت القرآن، فأخذ المصحف، وقرأ فلم يزلّ إلا في أربعة مواضع. قال: عذابي أصيب به من أساء، وقوله: وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها أباه، ومن الشجر ومّما يغرسون بل الذين كفروا في غرّة وشقاق. من عجم «1» حزفا عمد إلى تصحيفه دفع رجل إلى محمد بن عبد الله قصّة عليها حريت بن الغراس فعجمه، وقال: خريت في الفراش، ووقع تحته بئسما فعلت. ووجّه إلى المأمون رجل، وقيل سابق الحاج فتباطأ الرجل فنقط تحته، وجعله سايق الحاج. وكتب أبو تمام رقعة إلى عبد الملك بن صالح وعليها حببت فنقطه وجعله جنيت. من هجا أو مدح بادّعاء تصحيف هجا أبو نواس أبان اللاحقي فقال: صحفت أمّك إذ سمّتك في المهد أبانا ... قد علمنا ما أرادت لم ترد إلا أتانا. وقال آخر يهجو: رأى الصيف مكتوبا فظنّ بأنّه ... لتصحيفه ضيفا فقام يواثبه وقال المتنبّي: جرى الخلف إلا فيك إنك واحد ... وإنك ليث والملوك ذئاب وإنّك لو قويست صحّف قارىء ... ذئابا ولم يخطىء فقال ذباب كلمات تعسر قراءتها ويعسر تصحيفها استؤمر عبد الله بن طاهر في ابتناء موضع، يقال له لبنا فوقّع له، لبنا لبنا لبنا لبنا لبنا ووقع في رقعة بسبب عزير بن نوح عزير غرير عزير علينا ومن عزير، ووقع أيضا معاوية ابن معاوية ليحيى ليحيا خراج جراح فقد فقد، ووقّع علي بن رستم لرجل: غرك عزك فصار قصار ذلك دلك فاخش فاحش فعلك فعلك نهدا بهذا والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 (12) وممّا جاء في آلات الكتابة فضل القلم ووصفه بأنّه مثبت الحكم قال الله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ «1» وقال تعالى: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ «2» . وقيل: كم من مآثر بنتها الأقلام فلم تطمع في دروسها الأيام، وقيل: القلم قيم الحكم. ونظر المأمون إلى مؤامرة بخطّ حسن فقال: لله درّ القلم كيف يزين وشي المملكة. وقيل: القلم في حساب الجمل نفاع وذلك أن حروف مائتان وواحد، وعدد نفاع مثله في الحساب، وهذا اتفاق ظريف. وصف قلم ممدوح بأنّه يجدي «3» ويزدي «4» وقال شاعر: قلم يمجّ على العداة سمامه ... لكنّه للمرتجين سماء «5» كم قد أسلت به لعبدك ريقة ... سوداء فيها نعمة بيضاء «6» وقال ابن طباطبا: وإذا انتضى قلما ليخطب ... خلت في يمناه نصلا «7» كم ردّ عادية الخطو ... ب وكم أعزّ، وكم أذّلا «8» يجري فيؤمن خائفا ... ويصبّ في الأعداء نبلا «9» وفي وصفه شجاع يمجّ السم والعسل. ولابن ثوابة في وصفه: كالنّار يعطيك من نور ومن حرق ... والدهر يعطيك من همّ ومن جزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وقال أبو الفيّاض الصابىء في الصاحب بن عبّاد: أقال الله للأقدار سيري ... وفي أقلام إسماعيل صيري تفضيل القلم على السّيف قال محمّد بن علي يمدح: في كفّه صارم لانت مضاربه ... يسوسنا رغبا إن شاء أو رهبا «1» السيف والرمح خدّام له أبدا ... لا يبلغان به جدّا ولا لعبا «2» فما رأينا مدادا قبل ذاك دما ... ولا رأينا حساما قبل ذا قصبا «3» وقال ابن الرومي: كذا قضى الله للأقلام مذ بريت ... أنّ السيوف لها مذ أرهفت خدم تفضيله على القلم فاخر السيف القلم فقال القلم: أنا أقتل بلا غرر، وأنت تقتل على خطر. فقال السيف: القلم خادم السيف إن نيل مراده، وإلا فإلى السيف معاده. وقال البحتري: وعادة السيف أن يستخدم القلما وقال المتنبّي: حتّى رجعت وأقلامي قوائل لي ... المجد للسّيف ليس المجد للقلم اكتب بنا أبدا بعد الكتاب به ... فإنّما نحن للأسياف كالخدم وصفه بأنه يكشف عن الضمائر قال بعضهم: القلم يزفّ بنات القلوب إلى خدور الكتب، وقال ابن المعتز: القلم يخدم الإرادة ولا يملّ الإستزاده، يسكت واقفا وينطق سائرا، وقال شاعر: ومكشف السرّ الضمير بلا معاناة «4» السّؤال وقال آخر: نواطق إلا أنّهن سواكت ... يترجمن عمّا في الضمير مكتما وفي وصفه: عجبت لذي سنين والماء نبته ... له أثر في كلّ مصر ومعمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وقال ابن المقفع: القلم بريد القلب، يخبّ «1» بالخبر وينظر بلا بصر، وقال ابن أبي داود: القلم سفير العقل، ورسول الفكر، وترجمان الذّهن. وصفه بأنه أخرس ناطق قال الشاعر: وأخرس ناطق أعمى بصير ... بليغ عند منطقه عييّ متى ترعف مناخره سوادا ... يخبّر عنك بالمعنى المضيّ «2» وقال محمد العلويّ: أخرس ينبيك بأطرافه ... عن كلّ ما شئت من الأمر «3» يذري على قرطاسه دمعة ... يبدي بها السرّ وما يدري «4» كعاشق يخفي هواه وقد ... نمّت عليه عبرة تجري «5» لغز في وصف القلم قال الشاعر وبيت بعلياء الفلاة بنيته ... باسمي مشقوق الخياشيم يرعف وقال آخر: وأجوف يمشي على رأسه ... يطير حثيثا على أملس فهمت بآثاره ما مضى ... وما هو آت ولم يلبس وصف دواة وقلم قال الشاعر: وزنجيّة لم تلدها الإناث ... وفي جوفها من سواها ولد وكتب ابن طباطبا إلى ابن أبي البغل، وبعث إليه قلما أسود وآخر أبيض وسبعة سمرا: هذا ابن سام وبنت حام ... شعبهما اليوم ذو التئام قد أظهرا في الورى ازدواجا ... فامتزج النّور بالظّلام وأنسلا صبية صغارا ... سبعا يوافين في نظام هنّ مدى الدهر مرضعات ... يشتقن ريا إلى الفطام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 اختيار قلّة الأقلام قال الصوليّ لغلام: ليكن قلمك صلبا بين الرقّة والغلظ، ولا تبره عند عقدة فإنّ فيه تعقد الأمور، ولا تجعلنّ في أنبوبه أنبوبة، ولا تكتبنّ بقلم ملتو ولا بذي شقّ غير مستو. أدب بري القلم والاستنكاف منه قيل: ليكن مقطك إذا قططت صلبا، لئلا يتشظّى «1» القلم. وقال عبد الحميد الكاتب: أطل جلفة قلمك وأسمنها، وحرف قطتك وأيمنها. وقيل: تبطين القلم شؤم وحرفه حرف. وقيل: القلم المحرف للرجل المحارف. وأوصى بعضهم كاتبا فقال: أجد قلمك فالقلم الرديء كالولد العاق «2» . وقيل: إذا لم تسمع لقطك صوتا كصوت القسيّ ووقعا كوقع المشرفيّ فأعد القطّ. وقال الصاحب لكاتب في مجلسه: ليس لك في مجلسي إلا القطّ فقط. التمدّح ببري القلم والاستنكاف منه قال الشاعر: دخيل في الكتابة ليس منها ... فما يدري دبيرا من قبيل إذا ما رام للأنبوب بريا ... تنكّب عاجزا قصد السّبيل قال كشاجم: لم ترني قطّ باريا قلما ... في بريه كل مهنة وضعه ما كلّ من يحمل الحسام لكي ... يردي به سنّه ولا طبعه وقال أبو الحسن بن سعد: كنت عند عليّ بن سعد فرأيت له أقلاما رديئة البري، فأخذتها وأحسنت بريها فقال: يا أبا الحسن عليك بالكتابة فإن هذه تجارة. السكّين قيل: السكّين مسنّ الأقلام تشحذها «3» إذا كلّت «4» ، وتلمّها إذا تشعّثت «5» ، وأحسن السكاكين ما عرض صدره وأرهف حدّه ولم يفضل عن القبضة نصابه. وقيل لكاتب: سكّينك ليس بقاطع فقال: هو أقطع من البين «6» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 ولأبي حفص الورّاق كتبه على سكّين: سكيننا من يره سيعجبه ... وقاه ربّي شرّ من يستوهبه وكيد من يسرقه ويغصبه ... ما أظلم اللّيل ولاح كوكبه وقال ابن نباتة: مرهفة تعجز وصف البيان ... للسيف معنى ولها معنيان تخلفه في حدّه تارة ... وتارة تخلف حدّ السّنان ما أبصر النّاظر من قبلها ... ماء ونارا جمعا في مكان مقطّ ومحراك وقال الشاعر: معه مقطّ قد تحلّى سنّها ... شبه الصدود بدا بخلف غرام يحكي سويداء القلوب إذا رمت ... فيها لواحظ شادن بسهام وانضاف محراك إليه كأنّما ... أخذوه قدّ الصارم الصمصام وقال أبو الحسن المشطّب الهمداني: إنّني منفذ إليك مقطّا ... سهرديزا كأير عير مريّ سابغا طوله شديدا قواه ... فاتخذه كنانة لقسيّ استهداء المداد وإهداؤه كتب بعضهم إلى صديق يستمدّ منه مدادا: أنا أشكو إليك من دواتي ... هي عوني وعدّتي وعتادي عطلت من مدادها فاستعاضت ... يقق اللون من حلوك السّواد «1» لم تزل من بنات حام فجاءت ... من بني يافث بغير ولاد أنت للحادثات عدّة صدق «2» ... فترى أن تمدّها بمداد وقال عبدان: هل لك في أن تحوز محمدة ... أنفس من فضّة ومن ذهب زوّد فتاة أتتك رائقة ... بدرّة الفحم لابنة القصب الحبر قال بعض الأدباء: بالحبر تنصاغ حكم الأخبار، وبسواده تتضح شبه الآثار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وقيل لورّاق: أخف رداءة خطّك بجودة حبرك، وقيل: عطّروا كتب علومكم بالحبر، فالحبر غالية والكتاب غانية. وقال الشاعر: وأكرم بحبر بها لجّة ... جواهرها حكم تنثر وقال كشاجم في من أعطاه محبرة: محبرة جاد لي بها قمر ... مستحسن الخلق مرتضى الخلق كأنّما حبرها إذا نثرت ... أقلامنا طلّه على الورق كحل مرته الجفون من مقل ... نجل فأوفت به على يقق خرساء لكنّها تكون لنا ... عونا على علم أفصح النطق لوح الحساب قال كشاجم: نعم المعين على الآداب والحكم ... صحائف حلك الألوان كالظّلم جفّت وخفّت فلم يدنّس لحاملها ... ثوب ولم يخش فيها نبوة القلم لو كنّ ألواح موسى «1» يوم أغضبه ... هارون لم يلقها خوفا من النّدم لوح الهندسة وقال كشاجم: وقلم مداده تراب ... في صحف سطورها حساب يكثر فيه المحو والإضراب ... من غير أن يسوّد الكتاب حتى يبين الحقّ والصّواب ... وليس إعجام ولا إعراب فيه ولا شكّ ولا ارتياب «2» مرفع الدواة قال الشاعر: قرّب البعد مرفع لدواة ... ملجم من حليه بلجام «3» كخوان الطّعام سهّل للآ ... كل منه ما كان صعب المرام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 الاصطرلاب «1» وقال الببغاء «2» : ومستدير معجم التقسيم ... منتسب الأشكال والرّسوم دبّره فكر امرىء حكيم ... فصاغه في صغر التجسيم مساويا للفلك العظيم ... مقتطعا لسائر النّجوم وكتب الصابىء «3» إلى بعض أصدقائه وقد أهدي له اصطرلاب: لم يرض بالأرض يهديها إليك وقد ... أهدى لك الفلك الأعلى وما فيه نفع الكتب وكونها ذات أنس ذكر الجاحظ الكتب فقال: نعم الذخر «4» والعقدة، والجليس والعدّة «5» والمشتغل والحرفة «6» ، ونعم القرين والدخيل والوزير والنزيل، والكتاب هو الأنيس الذي لا يطريك «7» والصّديق الذي لا يغريك، يطيل امتاعك ويشحذ «8» طباعك. وقال ابن المقفع: كلّ مصحوب ذو هفوات والكتاب مأمون العثرات «9» . وقال الرفّاء «10» : اجعل جليسك دفترا في نشره ... للميت من حكم العلوم نشور ومفيد آداب ومؤنس وحشة ... وإذا انفردت فصاحب وسمير وأنشد أبو محمد الخازن لنفسه: فدفتري روضتي ومحبرتي ... غدير علمي وصارمي قلمي وراحتي في قرار صومعتي ... تعلّمني كيف موقع القسم التمدّح بالإنفاق على الكتب والحثّ عليه قيل لابن درّاج، وقد أخرج شعر أبي الشمقمق، في جلود كوفيّة ودفّتين طائفيتين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 لقد ضيّع دراهمه من يجود لشعر أبي الشمقمق. فقال: لا جرم أنّ العلم يعطيكم على قدر ما تعطونه، ولو استطعت أن أكتبه في سواد عيني أو سويداء قلبي لفعلت. وقيل: إذا حويت الكتب فقد أحرزت الأدب والنّشب «1» ، وقال شاعر: تحرّض على تجويد كتبك أنّها ... مناهل ورّاد الحجى والفوائد «2» وقيل: إنفاق المال على كتب الأدب يخلفك عليه لباب الألباب. ذمّ من يجمع الكتب ولم يحفظها قال محمّد بن بشر: أما لو أعي كلّ ما أسمع ... وأحفظ من ذاك ما أجمع ولم أستفد غير ما قد جمعت ... لقيل هو العالم المصقع ولكنّ نفسي إلى كلّ شيء ... من العلم تسمعه تنزع «3» فلا أنا أحفظ ما قد جمعت ... ولا أنا من جمعه أشبع ومن يك في دهره هكذا ... يكن دهره القهقرى يرجع مدح ملازمة الكتب قال أبو عمرو: وما رأيت أحدا في يده دفتر، وصاحبه فارغ اليد، إلا اعتقدت أنه أعقل وأفضل من صاحبه. وكان عبد الله بن عبد العزيز يلزم أبدا المقابر ومعه شيء من الدفاتر، فقيل له في ذلك، فقال: لم أر أوعظ من كتاب وأسلم من الإنفراد. ونظر المأمون إلى بعض أولاده وفي يده كتاب فقال: ما هذا؟ قال بعض ما يشحذ الفطنة ويؤنس الوحشة، فقال: الحمد لله الذي جعل في أولادي من ينظر إليه بأدبه أكثر مما ينظر إليه بحسبه «4» . أحوال إعارة الكتب واستعارتها قال بعض الشعراء: إنّي حلفت بربّ البيت والحرم ... هل فوقها حلفة ترجى لذي قسم أن لا أعير كتابا فيه لي أرب ... إلا أخا ثقة عندي وذا كرم «5» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وقال بعضهم معتذرا عن امتناع إعارته: لصيق فؤادي منذ عشرين حجّة ... وصقيل ذهني والمفرّج من همّي «1» يعزّ على مثلي إعارة مثله ... وآليت لا يفارقه كمّي وقال الشيخ أبو القاسم رحمه الله: كتبت إلى أبي القاسم بن أبي العلاء أبياتا استعير منه شعر عمران بن حطان وضمّنتها أبياتا لبعض من امتنع من إعارة الكتب إلا بالرهن، وأبياتا عارضها بها أبو علي بن أبي العلاء في مناقضة فقلت: يا ذا الذي بفضله ... أضحى الورى مفتخره «2» أصبحت يدعوني إلى ... شعر ابن حطّان شره فليعطنيه منعما ... عارية لأشكره مقتفيا والده ... ألبس ثوب المغفره «3» عارض من أنشده إذ ... رام منه دفتره هذا كتاب حسن ... قدمت فيه المعذره حلفت بالله الذي ... أطلب منه المغفره أن لا أعير أحدا ... إلا بأخذ التّذكره بنكتة لطيفة ... أبلغ منها لم أره فقال والقول الذي ... قد قاله وحبّره «4» من لم يعر دفتره ... ضاقت عليه المعذره يقبّح في الذّكر وفي ... السّماع أخذ التذكره ما قال ذاك الشعر ... إلا ماضغ للعذره فامنن به مصطفيا ... سلوك طرق البرره فأجابني بأبيات منها: حبر شعرا خلّتي ... أنشر منه حبره يريدني فيه على ... خليقة مستنكره مستنزل عن عادة ... عوّدتها مشتهره أن لا أعير أحدا ... لا رجلا ولا مره لا أقبل الرهن ولا ... تذكر عندي تذكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 ولو حوت كفّى بها ... فضل الرّضا والمغفرة كان لشيخي مذهب ... من مذهبي أن أهجره خالفت فيه رسمه ... معفيا ما أثره ولو أتاني والدي ... من بيته في المقبره يروم سطرا لم يجد ... ما رامه وسطّره والغرض في ذلك ما قاله أبو القاسم لا ما خاطبته به أعوذ بالله أن أكون ممّن يزري «1» بعقله، بتضمين مصنّفاته شعر نفسه. معاتبة حابس دفتر «2» كتب كشاجم إلى صديق له: عذرت بحبس دفترنا ... وعهدي بالأديب ثقه ولست أحبّ للأدبا ... ءأن يتأدبوا سرقه وكتب بعض الأدباء إلى صديق له يطالبه بردّ دفتره: ما بال كتبي في يديك رهينة ... حبست على مرّ الزمان الأطول ائذن لها في الإنصراف فإنّها ... كنز عليه إذا افتقرت معوّلي ولقد تغنّت حين طال ثواؤها ... طال الوقوف على رسوم المنزل وقال أبو العبر في سخفيات له: حدّثني لحيان عن موسى الفهاد، عن رجل من أهل جرجرايا، عن شيخ من بادرويا، أن السّفلة من إذا استعار كتابا لم يردّه. قال الشريف ابن طباطبا: إذا فجع الدهر امرأ بخليله ... تسلّى ولا يسلى لفجع الدّفاتر وقال بعضهم في وصف كتاب كليلة ودمنة: إذا افتخر الرّجال بفضل علم ... ومدّت فيه ألسنة طويله ففاخر ما استطعت بما حوته ... بطون كتاب دمنة مع كليلة «3» كتاب يغرق البلغاء فيه ... وألباب الورى منه كليله وكم فيه عجائب كامنات ... على دنيا وآخرة دليله وكم حكم على أفواه طير ... وآداب وأمثال مقوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 يراها الجاهل المأفون هزلا ... وحسبكها لعالمها فضيله «1» (13) ومما جاء في الصدق والكذب الممدوح بالصّدق فلان أصدق من أبي ذرّ «2» وأصدق من قطاة «3» . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أقلّت الغبراء ولا أظلّت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذرّ. وقال الجاحظ: أخبرني فلان وهو والكذب لا يجتمعان في طريق، ولا يقشعرّ من الكذب. قال التنوخي: وألسنهم وقف على الصّدق والرفا ... وأيمانهم وقف على القصد والنعمى «4» وقال جحظة البرمكيّ: وكان صديق الورى ... بالحقّ ينطق عن لسانه وفي المثل: لا يكذب الرائد أهله، لأن كذبه يجتثّ أصله. معيب بالكذب قال رجل لكذّاب: مرحبا بأبي المنذر، فقال: ليس هذا كنيتي. فقال: قد علمت إنما هو كنية مسيلمة «5» ، ولكنّها صفتك: يعرّض بأنه كذّاب. وقيل لرجل: ما تقول في فلان؟ فقال: أنا لا أذمّ مسيلمة. وذم رجل آخر فقال: الكذب أحسن ما فيه، وهذا غاية الذم. وقال رجل لأبي حنيفة «6» (رضي الله عنه) : ما كذبت قطّ؟ فقال: أما أنا فقد شهدت عليك بهذه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وقال رجل: أنا لا أكذب كذبة بألف، فقال صاحبه: أما هذه فواحدة بلا درهم. وقيل: أكذب من يلمع أي السراب. قال الشاعر: أكثر ما يجري على فيه الكذب وقال بعضهم: أسأت نظرا فأطرفت خبرا وقال: جاء فلان نزهات البسابس «1» ، وجاء بالحطب الرطب، أي بمحض الكذب. وقال الرشيد للفضل بن الربيع «2» : كذبت، فقال: يا أمير المؤمنين وجه الكذّاب لا يقابلك، ولسانه لا يخاطبك، يعرّض به، لأن الإنسان لا يقابل نفسه ولا يخاطبها فاستحسن تعريضه فأولاه وما جفاه. وقيل: فلان فيه روغان «3» الثعلب وطبيعة العقعق ولمعان البرق، أي الحيلة والسرقة والكذب. قال الشاعر: كلام أبي مالك كلّه ... صياح الفواخت جاء الرّطب النهي عن الكذب وذمّه قال الله تعالى: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ «4» ، وقال: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ «5» ، وقال: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ «6» . وقيل: الكذب جمّاع النّفاق. وقيل: الكذب عار لازم وذلّ دائم. وقيل: الكذب والحسد والنفاق أثافي. قال الشاعر: لا يكذب المرء إلا من مهانته ... أو عادة السوء أو من قلّة الورع «7» وقيل: ما عزّ ذو كذب، ولو أخذ القمر بيديه، ولا ذلّ ذو صدق، ولو اتّفق العالم عليه. وقال ابن عباس (رضي الله عنهما) : حقيق «8» على الله أن لا يرفع الكاذب درجة، ولا يثبت له حجّة. وقال سليمان بن سعد: لو صحبني رجل وقال لا تشترط عليّ إلا شرطا واحدا، لقلت: لا تكذبني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 النّهي عن رواية الكذب قيل: من حدّث بحديث، وهو يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين، وقيل أحد الشاتمين. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من قال عليّ ما لم أقله أو ردّ شيئا ممّا قلته فليتبوّأ مقعده «1» من النار. وقيل: إيّاك أن تكون للكذب راويا، أو واعيا. النهي عن رواية ما هو بعرض التكذيب قيل: من صفات العاقل أن يحدّث بما لا يستطاع تكذيبه. وقيل: إياك وحكاية ما يستبعد فيجد عدوّك سبيلا إلى تكذيبك. ترك الكذب صعب قيل من استحلى الكذب عسر عليه «2» فطام نفسه عنه. وقيل لرجل: أترك الكذب، فقال: والله لو تغرغرت «3» به وتطعمت حلاوته لما صبرت عنه. وقال يحيى بن خالد: قد رأينا شارب خمر أقلع «4» ، ولصّا نزع «5» ، ولم نر كذّابا رجع. وقيل: كل ذنب يرجى تركه إما بتوبة أو إنابة «6» ما، خلا الكذب، فإنّ صاحبه يزداد به ولوعا على الكبر. مضرّة الكذب قيل: دع الكذب فإنّه يضرّك حيث ترى أنه ينفعك، وعليك بالصّدق فإنه ينفعك حيث ترى أنه يضرّك. وقيل: الحق أبلج والباطل لجلج، إذا كذب السفير بطل التدبير، إذا كذب الرائد هلك الوارد. الصدّق عزّ والباطل ذلّ. من آثر الصدق في مواضع طلبا لجواز كذبه قال خالد بن صفوان: أصدق في صغار ما يضرّك ليجوز لك الكذب في كبار ما ينفعك. وقيل: من عرف بالصّدق جاز كذبه، ومن عرف بالكذب لم يجز صدقه. حثّ الكاذب على التحفّظ قيل: إذا كنت كذوبا، فكن ذكورا. وذكر عثمان البستي عكرمة، فقيل له: ما كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 يكذب، فقال: كان أحمق، من الحسن الكذب. إن الكذوب من يكون متحفّظا. النهي عن سماع الكذب قيل: أجعل قول الكذّاب ريحا لتستريح، وقال أبو تمّام: ومن يأذن إلى الواشين تسلق ... مسامعه بألسنة حداد «1» وقالوا: نزّه سمعك عن سماع الكذب، كما تنزّه لسانك عن التفوّه به. ما أجيز فيه الكذب روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كلّ كذب مكتوب، إلا كذب الرجل في الحرب، فإنها خدعة، أو كذب المرء بين الرجلين ليصلح بينهما، أو كذبه لامرأته ليرضيها. وقيل لفيلسوف: متى يحمد الكذب؟ قال: إذا قرّب بين المتقاطعين. قيل: فمتى يذمّ الصدق؟ قال: إذا كان غيبة. أتى معاوية رضي الله عنه بلصّ، فقال زياد: أصدق. فقال الأحنف: الصدق أحيانا معجزة. قال الشاعر: الصدق أفضل ما نطقت به ... ولربّما نفع الفتى كذبه وقال آخر: طلبنا النفع بالباطل ... إذا لم ينفع الصدق جواز التعريض أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم مردفا «2» أبا بكر عام الهجرة، فقيل لأبي بكر: من هذا قدّامك؟ قال: رجل يهديني السبيل، تعريضا بأنه يهديني سبيل الحق. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: للرجل الذي سأله ممّن أنت؟ فقال: من ماء، وما حكى الله من قول إبراهيم عليه السلام أني سقيم، وقوله: فعله كبيرهم هذا فاسألوهم وما روي عنه أنه قال عن امرأته هذه أختي كل ذلك تعريض. وقيل في قوله تعالى: لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ من معاريض الكلام ولم يكن قد نسي ما عهد عليه «3» . وقال عمر: في المعاريض مندوحة عن الكذب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 المعترف بالتزيّد والتكذيب قال خالد بن صفوان: أني لا أسمع الحديث فلا أحدّث به، حتى أتوبله وأفلفله وأسعتره، وقال: أني لأسمع الحديث مجردا فأكسوه، وممرطا فأريشه. وقيل لحيّان: إنك لتكذب في الحديث. فقال: ما يضرّك كذبه ولا ينفعك صدقه، وما يدور إلا على لفظ جيّد ومعنى حسن. ولو أردته لتلجلج «1» لسانك وذهب بيانك. المعتذر منه قال بعضهم: ونصرة الحق أفضت بي إلى الكذب. قال الشاعر: وزعمت أني قد كذبتك مرّة ... بعض الحديث وما صدقتك أكثر وفي المثل: عند النوى يكذبك الصادق. المتأهب في الكذب تشاجر رجلان في سواد، تراءى من سطح، فقال أحدهما: غراب. وقال الآخر: خفّ. وحلف كل منهما على صدق ما قاله. فدنوا منه فطار، فقال صاحب الغراب: كيف ترى؟ فقال الآخر: امرأته طالق ثلاثا، إن كان إلا خفا ولو بلغ مكة طيرانا. وقال بعضهم لابنه: إكذب على الأموات وباهت مع الأحياء. وقيل لإعرابي: بم غلبت؟ فقال: أبهت بالكذب وأستشهد الموتى. صعوبة سماع الكذب قيل لبعض ندماء السلطان: ما حالكم معه؟ قال: نحن كما قال الله تعالى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ «2» . وكان رجل يكثر الكذب وله غلام يخالفه ويكذّبه، فقال له يوما: كنت في ضيعة لي في حصاد زرع، فرميت طيرا فوجدت في حوصلته رطبة، لم ينضج نصفها. فقال الغلام: استدع السوط ولا تهذ «3» متى يجتمع الحصاد والرطب يا أحمق. ما يجوز أن يكذب المرء فيه في كتاب جاويزان فروخ: محرم على السامع تكذيب القائل إلا في ثلاث: صبر الجاهل على مضض المصيبة، وعاقل أبغض من أحسن إليه، وحماة أحبّت كنّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وقيل: إذا أردت أن تعرف عقل الرجل فحدّثه في خلال حديثك بما لا يكون فإن أنكره فهو عاقل، وإن صدّقه فهو أحمق. وقيل: كذّب بالمحالات «1» ، وأقر بالواجبات، وتوقّف عن الممكنات. ذكر أكاذيب متناهية تكاذب أعرابيان، فقال أحدهما: خرجت مرّة على فرس، فإذا أنا بظلمة فيمّمتها، حتى وصلت إليها. فإذا قطعة من الليل فأنبهتها فما زلت أحمل عليها حتى اصطدتها. وقال الآخر: رميت مرّة ظبيا بسهم فعدل الظبي فعدل السهم خلفه فعلا الظبي ثم انحدر، فانحدر السهم حتى أصابه. وقال رجل لرؤبة: إن حدثتني بحديث لم أصدقك عليه، فلك عندي جارية. فقال: ابق لي غلام يوما فاشتريت يوما بطيخة فلما قطعتها وجدته فيها، فقال: قد علمت. فقال: دبّر لي فرس فعالجته بقشور الرمان فنبت على ظهره شجرة رمان تثمر كلّ سنة. فقال: قد علمت. فقال: لما مات أبوك كان لي عليه ألف دينار، فقال: كذبت يا ابن الفاعلة. فأخذ الجارية. وقال بعضهم: كان لأبي منقاش «2» اشتراه بعشرين ألف درهم، فقيل له: إذا كان من جواهر أو مكللا فقال: ولكن كان إذا نتف به شعرة بيضاء عادت سوداء. وقال رجل: كان أبي زرع سنة السلجم «3» ، وكان يبلغ مساحة كل شجرة جريب «4» أرض. فقال الآخر: كان أبي اتخذ مرجلا «5» في بعض السنين، وكان يعمل فيه خمسون أستاذا، لا يسمع كل واحد منهم صوت مطرقة الآخر، فقال صاحبه: ما أكذبك أي شيء كان يطبخ في ذلك المرجل؟ فقال: السلجم الذي زرعه أبوك. وقالت ليلى لأبيها أرأيت قول أبيك: بجيش تضلّ البلق في حجراته ... بيثرب أخراه بالشأم قادمه كم كنتم يومئذ؟ فقال: حضرتها وكنت أنا وابني ومعنا اثنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 (14) وممّا جاء في السر المنع من إظهار السرّ قبل تمامه قيل: استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان، فإن كلّ ذي نعمة محسود. وقيل: من وهي «1» الأمر إعلامه قبل إحكامه. وقيل: من حصّن سرّه أمن ضرّه. الحثّ على حفظ السرّ قيل: من لم يكتم السرّ فقد استكمل الجهل. وسمع ابن المقفع قول الشاعر: إذا جاوز الاثنين سرّ فإنّه ... يبثّ وتكثير الحديث قمين «2» فقال: أراد بالاثنين الشفتين، ويدلّ على ذلك قول الآخر: فلا تفش سرّك إلا إليك ... فإنّ لكلّ نصيح نصيحا وفي المثل: اجعل هذا في وعاء غير ذي سرب. سرّك من دمك، فانظر أين تريقه. وقيل: من أفشى سرّه كثر المتأمرون عليه. قال الصلتان: سرّ الثلاثة غير الخفي المستوخم عاقبة إفشاء السر ّ لما ولّى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قدامة بن مظعون بدل المغيرة أمره أن لا يخبر أحدا. فلم يكن له زاد فتوجّهت امرأته إلى دار المغيرة، فقالت: أقرضونا زاد الراكب، فإنّ أمير المؤمنين ولّى زوجي الكوفة، فأخبرت امرأة المغيرة زوجها، فجاء إلى عمر رضي الله عنه واستأذن عليه، وقال: يا أمير المؤمنين ولّيت قدامة الكوفة وهو رجل قويّ أمين. فقال: ومن أخبرك؟ قال نساء المدينة يتحدّثن به، فقال: اذهب وخذ منه العهد. من يكره اطلاعه على السر ّ قيل: لا تطلعوا النساء على سرّكم تصلح أموركم. وقيل: ما كتمته عدوّك فلا تطلع عليه صديقك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 المتبجّج بحفظ السرّ قيل لرجل: كيف كتمانك السر؟ قال: قلبي قبره وصدري حبسه. وقال الأحوص «1» : ومستخبر عن سرّ ريّا رددته ... بعمياء من ريّا بغير يقين وقال أبو تمّام: منيع نواحي السرّ منه حصينها وقال المتنبّي: وللسرّ منّي موضع لا يناله ... نديم ولا يفضي إليه شراب وقال ابن نباته «2» : أكاتم قلبي رأي عيني وإنّه ... ليكتم منّي سرّ كلّ خليل الممدوح بحفظه قال الأحوص: كريم يميت السرّ حتّى كأنّه ... عم بنواحي أمره وهو خابر وقال قيس بن الحطيم: كتوم لأسرار الخليل أمينها ... يرى أن بثّ السرّ قاصمة الظّهر وقال كشاجم: ويكاتم الأسرار حتّى أنّه ... ليصونها عن أن تمرّ بخاطره مدح كتمان السر قال قتادة (رضي الله تعالى عنه) : إذا تكلمت بالنهار فانظر من عندك، وبالليل، فاخفض صوتك. وقد نظمه الشاعر بقوله: اخفض الصوت إن نطقت بليل ... والتفت بالنّهار قبل الكلام ودنا رجل من آخر فكلّمه، فقال: ليس ها هنا أحد، فقال: من حق السرّ التداني «3» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 صعوبة حفظ السر ّ قيل: أصبر النّاس من صبر على كتمان سرّه فلم يبده لصديقه. الصّبر على التهاب النار أهون من الصّبر على كتمان السرّ. عيب من لا يحفظ سرّه ويستحفظه غيره وقال الشاعر: إذا ضاق صدر المرء عن سرّ نفسه ... فصدر الذي يستودع السرّ أضيق وقال بشّار: تبوح بسرّك ضيقا به ... وتبغي لسرّك من يكتم وقال دعامة بن يزيد الطائي: إذا ما جعلت السرّ عند مضيع ... فإنّك ممّن ضيّع السرّ أذنب ذمّ مفش سرّه قيل: فلان أنمّ «1» من النسيم على الرياض، ومن العين منها الصفو والكدر، وقيل: وهو أضيع للأسرار من الغربال للماء. قال الشاعر «2» : أغربالا إذا استودعت سرّا ... وكانونا على المتكلّمينا وقال آخر: أمنت على السرّ أمرأ غير حازم ... ولكنّه في النّصح غير مريب أذاع به في النّاس حتّى كأنّه ... بعلياء نار أوقدت بثقوب وقال ابن الرومي: كان سرّي في أحشائه لهب ... فما تطيق له طيا حواشيها الأحوال التي يفشو فيها السر ّ قال يحيى بن خالد: الرجل ينبىء عن نفسه في ثلاثة مواضع: إذا اضطجع على فراشه، وإذا خلا بعرسه «3» ، وإذا استوى على سرجه. وقيل: إذا أردت أن تنزل الرجل عن سرّه، فتوصّل إليه من حال سكره: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 فالسكر يظهر سرّه المكتوما كتم ما لا ينكتم قال الشاعر: وليس الذي فيه خفاء لأمره ... كمن دبّ يستخفي وفي العنق جلجل وقال زهير: مخاز لا يدبّ لها الخفاء وفي المثل: وهل يخفى على النّاس النّهار وقال أبو نواس يصف الخمر: نحن نخفيها ويأبى ... طيب ريح وفيوح المساررة في المحافل قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون الثالث. وكان مالك بن مسمع إذا سارّه إنسان يقول: أظهره فلو كان خيرا لم يكن مكتوما. وهذا من قول زهير: والستر دون الفاحشات ولا ... يلقاك دون الخير من ستر وقال الخبزارزي: إذا أنت ساررت في مجلس ... فإنّك في أهله متّهم فهذا يقول قد اغتابني ... وذا يستريب وذايتّهم الرخصة في إفشاء السرّ إلى الصّديق ليم بعضهم في إفشاء السر، فقال: المصدور «1» إذا لم ينفث جوي «2» والمهجور إذا لم يشك وري «3» . قال الشاعر: ولا بدّ للشكوى إلى ذي حفيظة ... إذا جعلت أسرار نفسي تطلع وقال محمود الورّاق: إذا كتم الصّديق أخاه سرّا ... فما فضل الصّديق على العدوّ؟ وقيل: لا يزال المرء في كربة ووحشة، ما لم يجد من يشكو إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وقال الشاعر: لا تكتمنّ داءك الطبيبا ... ولا الصّديق سرّك الهجوبا «1» وسارر المهدي وكيلا له، والعبّاس بن محمد حاضر، فقال: اسردوني ولو هجم بي نصحك على تلفى لما تركته، وأنشد: بمثلى فاشهد النجوى وعالن ... بي الأعداء والقوم الغضابا وكتب أبو الفضل بن العميد: من كتم عن طبيبه داءه، وستر عنه ظمأه بعيد عليه أن يبلّ عن علله ويعلّ من غلله. المتبجّح بإظهار أسرار أصدقائه قال الشاعر: ولا أكتم الأسرار لكن أنمّها ... ولا أترك الأسرار تغلي على قلبي وإنّ قليل العقل من بات ليلة ... تقلّبه الأسرار جنبا إلى جنب وقال رجل لصديق له: اكتم سرّي الذي أفشيته، فقال: كلا لست أشغل قلبي بنجواك ولا أجعل صدري خزانة شكواك فيقلقني ما أقلقك، ويؤرّقني ما أرّقك، فتبيت بأفشائه مستريحا، ويبيت بحرّه قلبي جريحا، وقال الشاعر: ولا تودع الأسرار قلبي فإنّما ... تصبنّ ماء في إناء مثلم «2» (15) وممّا جاء في النّصح فضل النّصح والحثّ عليه قال النبي صلى الله عليه وسلم: الدّين النصيحة، وقال صلى الله عليه وسلم: من غشّنا فليس منّا، وقال صلى الله عليه وسلم: دعوا الناس يصيب بعضهم من بعض، فإذا استنصحك أخوك فانصحه، وقال أوس «3» : وإن قال لي ماذا ترى يستشيرني ... فلم يك عندي غير نصح وإرشاد الحثّ على قبول النّصح وإن كان مرّا قيل: من أحبّك نهاك، ومن أبغضك أغراك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وقال بعض الحكماء: من أوجرك «1» المرّ لتبرأ، أشفق عليك ممّن أوجرك الحلو لتسقم، وقيل: النصيحة أمن الفضيحة. معاتبة من لم يقبله من لم يقبل رأي أصحابه، وإن حزنوه عاد ضرره عليه، كالمريض الذي يترك ما يصف له الطبيب، ويعمد لما يشتهيه فيهلك. قال الله تعالى حكاية عن صالح: لقد أبلغتكم رسالات ربّي ونصحت لكم، ولكن لا تحبّون الناصحين. وقال أبو ساسان: أمرتك أمرا جازما فعصيتني ... فأصبحت مسلوب العبارة نادما وقال آخر: لو كنت تقبل نصحي غير متّهم ... ملأت سمعك من وعظ وإنذار وقال العرجي: عرضت نصيحة منّي ليحيى ... فقال غششتني والنّصح مرّ ضياع النّصح لمن لا يقبله قال الشاعر: وما خير نصح قيل لا يتقبّل وقال الخبزارزي: إن كان حمدي ضاع في نصحكم ... فإنّ أجري ليس بالضائع وقيل: أخذ رجل ذئبا فجعل يعظه، ويقول: إياك وأخذ أغنام الناس فيعاقبك الله، والذئب يقول خفّف، واختصر فقدامي قطيع من الغنم لئلا يفوتني. وقال الشاعر: لددتهم النصيحة أي لدّ ... فمجّوا النصح ثمّ ثنوا وفاؤا «2» معاتبة من يستنصح النّاس ويستغشّ الناصح وقال عبد الله بن همام: ألا ربّ من تغتشه لك ناصح ... ومؤتمن بالغيب غير أمين وله: وقد يستغشّ المرء من لا يغشّه ... ويأمن بالغيب امرأ غير ناصح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وقال يزيد بن الحكم: تصافح من لاقيته ذا عداوة ... صفاحا وحقد بين عينيك منزور وقال آخر: والعجز أن تجعل الموتور منتصحا «1» وقال آخر: ألا ربّ نصح يغلق الباب دونه ... وغشّ إلى جنب السرير مقرّب وقال آخر: نصحت فلم أفلح وخانوا فافلحوا ... فأنزلني نصحي بشرّ مكان الحثّ على الغش لمن لا يقبل النّصح قال عثمان البستي: إذا نصحت الرجل فلم يقبل منك، فتقرّب إلى الله بغشّه. وقال الشاعر: أغشّ إذا النّصح لا يتقبّل وأنشد الثوريّ: تنحلت آرائي فسقت نصيحتي ... إلى غير طلق للنّصيح ولا هشّ «2» فلمّا أبى نصحي سلكت طريقه ... وأوسعته من قول زور ومن غشّ «3» كون النّاصح متّهما قيل في المثل: المبالغة في النصيحة تهجم بك على عظيم الظنّة. وقال: وقد يستفيد الظنّة المنتصح وشاور المأمون يحيى بن أكثم فكان الرأي مخالفا لهوى المأمون، فقال يحيى: ما أحد بالغ في نصيحة الملوك إلا استغشّوه. قال: ولم يا يحيى؟ قال: لصرفه لهم عمّا يحبّون، إلى ما لعلّهم يكرهون في الوقت، والهوى إله معبود. وصف غاشّ في نصيحة قيل: فلان شولة الناصح، وشولة أمة كانت ترى أن تنصح مواليها وهي تسعى في إهلاكهم. وقال معاوية يوما لعمرو بن العاص: هل غششتني منذ استنصحتك؟ قال: لا، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 ولا يوم أشرت عليّ بمبارزة عليّ وأنت تعلم من هو؟ فقال: كيف؟ وقد دعاك رجل عظيم الخطر كنت من مبارزته إلى أحدى الحسنيين إن قتلته فزت بالملك وازددت شرفا إلى شرف، وإن قتلك تعجّلت من الله تعالى ملاقاة ألشهداء والصديقين، فقال: وهذا أشد من الأول فقال: أو كنت من جهادك في شكّ. فقال: دعني من هذا. قال النابغة: يخبّركم أنّه ناصح ... وفي نصحه ذنب العقرب وقال الموسوي: يروم نصحي أقوام رأوا كيدي ... والعجز أن تجعل الموتور منتصحا هذا من قول حارثة بن بدر: أهان وأقصى ثمّ تستنصحونني ... وأيّ امرىء يعطي نصيحته قسرا «1» وقال لمن يردّ نصيحته: أعاذل إن نصحك لي عناء ... فحسبك قد سمعت وقد عصيت (16) وممّا جاء في الوعظ والمتعظين والآمرين بالمعروف والقصاص والمفتين نهي من لا يتّعظ عن الوعظ قال رجل لأمير المؤمنين عليه السلام: عظني وأوجز، فقال: توقّ ما تعيب. وقال أيضا: لا تأت ما تعيب ولا تعب ما تأتي. وجاء رجل إلى ابن عبّاس رضي الله عنه، فقال: إنّي أريد أن أعظ، فقال: أو بلغت ذلك إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله تعالى فافعل. قال: ما هي؟ قال: قول الله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ «2» وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ «3» وقول العبد الصالح شعيب وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ «4» . أحكمت هذه الآيات. قال: لا، قال: فابدأ إذا بنفسك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وقال ابن كناسة: يا واعظ النّاس قد أصبحت متّهما ... إذ عبت منهم أمورا أنت تأتيها كمن كسا النّاس من عري وعورته ... للنّاس بادية ما إن يواريها «1» الحثّ على الوعظ بالفعال دون المقال قال بقراط: لا تحثّ غيرك على فعل الفضائل ما لم تستكمل فيك فأفعالك تحت على المحاسن أكثر من مقالك. وقال أبو جعفر النيسابوريّ: ليس الحكيم الذي يلقّنك الحكمة تلقينا، إنّما الحكيم الذي يعمل العمل فتقتدى به. وقال أبو هاشم: أخذ المرء نفسه بحسن الأدب تأديب أهله. ومن هذا قول محمود الورّاق: رأيت صلاح المرء يصلح أهله ... ويعديهم داء الفساد إذا فسد وقال عديّ: ونفسك فاحفظها من الغيّ والرّدى ... متى تغوها تغو الذي بك يقتدي «2» التلطّف والملاينة في الوعظ قيل: تصدّى رجل للرشيد، فقال: إني أريد أن أغلظ عليك لي في المقال، فهل أنت محتمل؟ قال: لا، لأن الله تعالى أرسل من هو خير منك إلى من كان شرا منّي، فقال: فقولا له قولا لينا لعلّه يتذكر أو يخشى. وقيل: الواجب لمن يعظ أن لا يعنّف ولمن يوعظ أن لا يأنف. الحثّ على الاتعاظ قيل: من قلّ اعتباره قلّ استظهار من لم يتعظ بغيره وعظ الله به غيره. وقال حكيم: السعيد من وعظ بغيره والشقيّ من وعظ به غيره. وقيل: يا لها من موعظة لو وافقت في القلوب حياة. النّهي عن وعظ من لا يتّعظ وقيل: وعظ من لا يعيرك سمعه، ولا يشحذ وعظك طبعه كمن وضع مائدة لأهل القبور، ورام بخرقة تليين الصخور. وقيل: فلان في وعظه كنافخ في قفص وقاصّ في مقبرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وقيل: لا ينجع الوعظ في القلوب القاسية، كما لا يزكو البذر في الأرض الجاسية «1» . وقيل: صقلك سيفا ليس له سنخ تعب، وبذرك أرضا سبخة «2» نصب. وقيل: من استثقل سماع الحقّ فهو للعمل به أكثر استثقالا. الحثّ على قبول وعظ من ليس بمتعظ قال بعضهم: لا يمنعنّكم سوء ما تعلمون منّا، أن تعملوا بأحسن ما تسمعون منّا. ووقف رجل على ابن عيينة وهو يعظ النّاس فأنشده: وغير تقيّ يأمر النّاس بالتّقى ... طبيب يداوي والطبيب مريض فأنشده ابن عيينة: إعمل بعلمي وإن قصّرت في عملي ... ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: مروا بالمعروف، وإن لم تعملوا به، وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه. وما أحسن ما قال يوسف بن الحسين الرازي في دعائه: اللهمّ أنك تعلم أنّي نصحت للناس قولا، وخنت نفسي، فهب خيانتي لنفسي لنصيحتي للناس. النّهي عن الاقتداء بذوي الزّلات قال المعتمر بن سليمان: إيّاك والاقتداء بزلّات أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فتقول: فلان شرب النبيذ، وفلان سمع الغناء، وفلان لعب بالشطرنج، فيخرج منك فاسق تام. وقيل: من أخذ برخصة كلّ فقيه خرج منه فاسق. كراهية تولّي الفتيا «3» والجلوس للنّاس قال النبي صلى الله عليه وسلم: أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار. وقال صلى الله عليه وسلم: من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض. وقيل لحاتم الأصم: ألا تجلس لنا في الجامع؟ فقال: لا يجلس في الجامع إلا جامع، أو جاهل، ولست بجامع ولا أحب أن أكون جاهلا. وفي أخرى لا يتصدّى إلا فائق أو مائق ولست بالفائق. وقال الحسن رضي الله عنه: إنّ خفق النعال خلف الرجال لا يثبت قلوب الحمقى. ونظر عمر رضي الله عنه إلى أبيّ بن كعب، وقد تبعه قوم فعلاه بالدرّة «4» ، وقال: إنها فتنة للمتبوع ومذلّة للتابع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 قال ابن المبارك: قلت لسفيان: من الناس؟ قال: العلماء. قلت: فمن الملوك؟ قال الزهّاد. قلت: فمن الغوغاء؟ قال: القصّاص. الحثّ على الأمر بالمعروف قال الله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «1» . وقال أبو بكر (رضي الله عنه) : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده عمهّم الله بعقابه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من رأى منكرا فاستطاع أن يغيّره بيده، فليفعل. فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان. وقال خالد بن عبد الله في كلام له: حق على المسلمين التواضع والتناهي عن المعاصي. الموضع الذي يجوز فيه ترك الأمر بالمعروف قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ «2» . وقال أبو أمية الشعباني: سألت أبا ثعلبة الخشني عنها، قال: سألت عنها جبيرا. قال سألت: رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، وإذا رأيت شحّا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كلّ امرىء برأيه فعليك بنفسك ودع أمر العوام. وقال أكثر المتكلمين: لا يجوز ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في كلّ موضع، لكن من علم أو ظنّ أنه ينفذ قوله ولا يناله مكروه إذا قاله، أو فعله، فعليه أن يفعل ذلك، ومتى خاف على نفسه، فعليه أن ينكر المنكر بقلبه دون لسانه. من هزأ بالناس من القصاص كان عيّار يقصّ فأقبل جماعة من المرد، فقال: ها هو قد جاء العدوّ أمنوا، اللهم امنحنا أكتافهم وكبّهم على وجوههم وولّنا أدبارهم وأرنا عورتهم، وسلّط رماحنا عليهم. والناس يؤمنون ولا يدرون. وكان قاص بالغداة يسخر بالناس ويشرب بالعشيّ فقيل له في ذلك، فقال: أنا بالغداة قاص وبالعشي ماصّ. وكان قاصّ يقال له أبو شعيب يقول: ها أنا أبو شعيب قليل العيب، هاتوا ما في الجيب أخبركم بما في الغيب. وجاءه رجل فقال: ما المحبة؟ فقال: هاك سؤالك جاءني في جبّه بلحية كالمذبة ورأس مثل الدبة وعقل لا يساوي حبة يسألني عن المحبّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 الهاذون «1» من القصّاص ألقي إلى أبي مسلم القاصّ خاتم بلا فصّ، فقال: صاحب هذا الخاتم يعطى في الجنة غرفة بلا سقف. وقال قاص: ما من قطرة تسقط من السماء إلا ومعها ملك يضعها في موضعها. ثم يصعد، فقيل: فالقطرة التي تقع في الكنيف يدخل معها الملك؟ فقال: إن في الملائكة كناسين كما في الناس ذوي دناءة وخسة. وقال أبو عقيل: الرعد ملك أصغر من نحلة وأعظم من زنبور، فقيل: لعلّك تريد أصغر من زنبور وأعظم من نحلة، فقال: لو كان كذا لم يكن بعجب. وقرأ رجل في مجلس سيفويه قوله تعالى: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ «2» فقال: دعنا من قرآن الحماشين، وهات قرآن طرسوس يعني الجهاد. وقال قاص: يا قوم اشكروا إذا لم يكن للملائكة نجاسة فكانوا يحزنون علينا، يلطخون ثيابنا. وقال يوما: احذروا الله فإنه ماء تحت التبن، فقيل له: كيف؟ فقال: أهلك عالما في سبب ناقة قيمتها مائتا درهم، وقتل ابن النبي فلم ينتطح فيه عنزان. ربما يأخذ بالقليل ويعفو عن الكثير. وقال آخر: من صلّى ركعتين، فله بيت في الجنّة، فقال نبطي، إن صلّيت خمسين ركعة هل يجعل لي بيت؟ فقال: لا يا عاص إن ذلك لبني هاشم، فأما أنت فيبنى لك جدح بعكر. وقال بعضهم: كان موسى عليه السلام فضوليا. قيل: وكيف قال؟ قيل له: وما تلك بيمينك يا موسى؟ فكان الجواب أن يقول عصا. فقال: هي عصاي (الآية) . فأخذ فيما لا يعنيه. أدعيتهم دعا بعض القصّاص فقال اللهمّ جازفنا ولا تفتش عن ذنوبنا فتفضحنا. وكان بعضهم يقول: اللهم اغفر لنا كلّ نعمة وحسنة، واحشرنا في جملة سيدي أبو عبد الله بن حنبل ولا تغفر للرافضة. من أفتى في مسألة برقاعة ترك طبيب طبّه وقعد فقيها فقيل له: ما تقول في من زعف في صلاته؟ فقال: يحتجم، قيل: فمن قلس في صلاته، فقال: يتناول حبّ أيارج، قيل: ذا طبّ وليس بفقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وقيل لآخر: ما تقول في من خصى نفسه؟ قال: إن قصد الإضرار بامرأته حدّ. وقيل لبعضهم: إن نصرانيا قال: لا إله إلا الله، فقال: يؤخذ بنصف الإسلام، وإن مات دفن بين مقابر المسلمين ومقابر النصارى. وقيل لسيفويه ما تقول في الأضحية؟ فقال: علي لخبير سقطت، سألت عنها شيخا بنصيبين فلم يكن عنده فيها شيء. وقيل له: أتروي عن شريك شيئا؟ فقال نعم. حديثا واحدا قيل ما هو؟ قال: حدثنا شريك عن مغيرة عن إبراهيم مثله قيل مثل أي شيء قال ما أدري هكذا سمعته. من استفتى فيما لا يعرفه فانفصل عنه بحيلة قالت امرأة لرجل: إذا كان مكوك دقيق بدرهم ودانق «1» ، كم يكون بأربعة دراهم؟ فلم يعرف جوابها. فقال: ممّن اشتريت؟ قالت: من فلان قال اقنعي بما يعطيك فإنه ثقة. وسأل رجل في الجامع أبا عقيل مسألة في الحيض فلم يعرفها. فقال يا أحمق أخرج هذه القاذورات والنجاسات من الجامع حتى تخرج منه. وكان بعض القصاص في حديث قتلى بدر، فسئل عن النملة إذا ماتت في الماء، هل يجوز شربه؟ فقال: ما لنا وهذا؟ نحن في النوق لسنا العنوق أي نتكلم في الكبار فلا نخوض في الصغار. من استفتاه أحمق فأجابه بنادرة قال شاميّ لحمزة بن بيض: لم يرفع الكلب رجله إذا بال؟ قال: مخافة أن ينجس سراويله. وسأل رجل الشعبي: كم أمهر إبليس امرأته؟ قال: ذاك أملاك لم أشهده. وقال له إنسان: هل آكل الذباب؟ قال إن اشتهيت فكل. وقيل لآخر: إذا دخلت النهر لاغتسل، ففي أي جانب أفضل أن أقف، فقال في الجانب الذي فيه ثيابك لئلا تسرق. وقيل لآخر: ما تقول في من نام وأيره قائم فجاءت امرأة فقعدت عليه؟ فقال: لا أدري ما أقول، ولكن كان أيرا مرزوقا. وقال أبو حازم: جاء رجل إلى أبي فقال بأي رجل يجب أن يبدأ من يدخل المسجد؟ فقال ما هذا مما يسئل عنه؟ ولكن قد قيل للعروس: ضعي رجلك اليمنى على المال والبنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وقال رجل لمفت بالبصرة: أسلمت ثوبا إلى الحائك فالدقيق على من يجب؟ فقال: الدقيق ولعنة الله على الحائك. من استفتى في سخف فأجاب بمقتضاه قيل لعالم: ما بال عانة المرأة تنبت اكثف، فقال لقربها من السما وتسقى من عسل. وقيل: ما بال أستاههن لا شعر عليها وعلى أستاء الرجال الشعر؟ فقال: لأن أستاه الرجال حمى وأستاه النساء مرعى. وقال عبادة عند المأمون ليحيى بن أكثم: علّمني فرائض الصلب فإني أشتهيها فقال المأمون وتبسم ما تقول في مسألته، فقال: قد أخطأ ما كان يجب أن يسأل عن هذا في الصبا. أما سمع قول الشاعر: فإن من أدبته في الصبا ... كالعود يسقى الماء في غرسه إنما يعلم الحديث بشرط أن يكون وضيئا زكيا سهل الأخلاق فإن كان له ابن بهذا الشرط علمناه، فقال عبادة: لو دخلت في صناعتنا لم يقربك أحد. فقال يحيى: وأنا خارج منها وما بأحد على قوّة. واستفتى ابن فريعة في رجل دخل الحمام وقعد على الحوض ضرط فيه فتحول الماء زيتا فكتب أخلق بذلك أن يكون عبثا باطلا وكذبا وعليهما أن يعلما المبتاع بنجاسة منشئه وقذر مبدئه، ليستعمله في أسرجته «1» دون أطعمته والسلام. (17) وممّا جاء في الخطبة وقراءة القرآن ما يحتاج إليه في الخطبة قيل: يجب أن يكون الخطيب رابط الجأش ساكن الجوارح، قليل اللحظ متخيّر اللفظ جهير الصوت، وأن يضع في صدر كل خطبة من النكاح والعيد والصلح ما يدل على عجزها، وأن يكون فيها آيات وإلا كانت شوهاء، ولذلك قال عمران بن حطان: أول خطبة خطبتها عند زياد، فقال: هذا الفتى أخطب الناس. لو كان في خطبته شيء من القرآن وليس من السنّة التمثل فيها بالشعر. وقال الجاحظ: يجب أن يفرق بين صدر خطبة النكاح، وخطبة العيد وخطبة الصلح، وكانوا يحمدون الجهير الصوت ويذمّون ضئيله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 صعوبة تولّيها قيل لعبد الملك: أسرع إليك الشيب، فقال: كيف لا؟ وأنا أعرض عقلي في كل جمعة على النّاس. وقيل: نعم الشيء الأمارة، لولا قعقعة البريد وصعوبة المنبر. وقيل: إياك والخطبة فإنها مشوار كثير العثار «1» . وقيل: لا يقدم على الخطبة إلا فائق أو مائق «2» . وقال عبد الله القسري: هو مقام لا يقومه إلا أهوج أو قليل الحياء. وقال عمر رضي الله عنه: لا يتصعّدني شيء كما تتصعدني خطبة النكاح. وقيل: إنما صعب عليه لقرب الوجوه من الوجوه ومن صعد المنبر رأى نفسه أرفع فيكون أجسر. وقيل أنه لا يجد من تزكية الخاطب بدا فلذلك كرهه. من ارتج عليه فيها فاعتذر بعذر حسن ارتج على عثمان رضي الله عنه، فقال: إنكم إلى أمير فعّال أحوج منكم إلى أمير قوّال. وارتج على يزيد بن المهلب فلما نزل قال: فإن لا أكن فيكم خطيبا فإنّني ... لسيفي إذا جدّ الوغا لخطيب فقيل: لو قلت هذا على المنبر، لكنت أخطب العرب. وصعد خالد بن عبد الله القسري المنبر فأرتج عليه فقال: إن هذا الكلام يجيء أحيانا، ويعسر أحيانا وربما طلب فأبى وكوبر فعتا. التأنّي لمجيئه أيسر من التعاطي لأبيّه. وقد يختلط من الجريء جنانه وينقطع من الذرب لسانه، وسأعود فأقول. وارتج على أبي العباس السفّاح لما صعد المنبر فنزل ثم صعد، وقال: أيّها النّاس إن اللسان بضعة من الإنسان، يكل بكلاله إذا كلّ ويرتجل لارتجاله إذا ارتجل. ونحن أمراء الكلام بنا تفرّعت فروعه، وعلينا تهدّلت غصونه، ألا وإنا لا نتكلم هذرا بل نسكت معتبرين وننطق مرشدين. من اعتذر بخرافة أو نادرة حضر عبد الله بن عامر على منبر البصرة فاشتد جزعه فقيل: إن هذا مقام صعب فامتحن فيه غيرك. فأمر وازع بن مسعود أن يصعد ويخطب فلما ابتدأ الكلام حصر، فقال: لا أدري ما أقول لكم، ولكنني أشهدكم أن امرأتي طالق فهي التي أكرهتني على حضور الصلاة. ثم أمر آخر فصعد المنبر فارتج ونظر إلى الصلع فقال: اللهمّ العن هذه الصلعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وصعد عتاب بن ورقاء منبر أصبهان يوم النحر، فحضر فقال: لا أجمع عليكم عيّا وبخلا، ادخلوا سوق الغنم، فمن أخذ منكم شاة فهي له وعليّ ثمنها. الأمر بالإغضاء عنه لئلا يدهش صعد أعرابي المنبر فلما رأى الناس يرمقونه صعب عليه الكلام، فقال: رحم الله عبدا قصر من لفظه ورشق الأرض بلحظه ووعى القول بحفظه. وصعد روح بن حاتم المنبر، فلما رفع الناس أبصارهم قال لهم: نكّسوا رؤوسكم وغضّوا أبصاركم، فإن أول مركب صعب. وصف خطيب مصقع طلحة: ركوب المنابر وثّابها ... معنّ بخطبته مصقع «1» وقال قيس بن عاصم: خطباء حين يقول قائلهم ... بيض الوجوه مصاقع لسن «2» وقال آخر: يرمون بالخطب الطوال وتارة ... وحي الملاحظ خيفة الرقباء جماعة من مشاهير الخطباء منهم قيّس بن ساعدة، ولقيط بن معبد، وزيد بن جندب، وصعصعة بن صوحان، وقطري بن الفجاءة، وعمران بن حطان. وتكلّمت الخطباء يوما عند معاوية رضي الله عنه فقال: والله لأرمينّهم بالخطيب الأشدق. قم يا زيد فتكلم. ومن الخطباء القدماء: كعب بن لؤي، وكان يخطب على العرب كافّة. فلّما مات أكبروا موته، وأرّخوا بموته إلى عام الفيل. ومن خطباء اليمن حمير بن الصباح وكان المفضل بن عيسى الرقاشيّ من أخطب الناس، وكان متكلما قاصّا يقعد إليه عمرو بن عبيد. المعتذر بعجزه عن الخطبة قال كعب الأسدي: فإن لا أكن في الأرض أخطب قائما ... فإنّي على ظهر الكميت خطيب وقال لبيد: إذا اقتسم النّاس فضل الفخار ... أطلنا على الأرض ميل العصا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وله: ما إن أهاب إذا السرادق غمّه ... قرع القسيّ وأرعش الرعديد «1» ومن السنة أن يتناول الخطيب سيفا أو قوسا يمسك به نفسه، وقد تقدّم شيء من هذا الباب. ذمّ خطيب قال وائلة الدوسيّ: لقد صبرت للذلّ أعواد منبر ... يقوم عليها في يديك خطيب بكى المنبر الشرقيّ لما علوته ... وكادت مسامير الحديد تذوب وقال منصور بن ماذان: أقول غداة العيد والقوم شهد ... ومنبرنا عالي البناء رفيع لعمري لأن أضحى رفيعا فإنّه ... لمن يرتقي أعواده لوضيع وقال آخر: سلي ببهر والتفات وسعلة ... ومسحة عثنون وفتل الأصابع «2» وقال المصيصي في خطيب: ينشي لنا كلّ جمعة عظة ... يشلي علينا بها الشياطينا «3» فضل قراءة القرآن قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل والنهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه في السر والإجهار. وقال صلى الله عليه وسلم: خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه. ولبعضهم أن الله تعالى جعل القرآن سراجا لا تطفأ مصابيحه، وشهابا لا يخبو زنده، ونورا لا يتغير ذكاؤه، ومن قرأه وتبعه دلّه على المكارم وصدّه عن المحارم، وشفع له يوم القيامة. قال الله تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ «4» وقال تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ «5» وقال صلى الله عليه وسلم: من بلغه القرآن فكأنما شافهته، لقوله تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ «6» وقد ذكرنا أحوال القرآن في باب الديانة مستقصاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 نوادر العرب فيما سمعوه من القرآن قيل لأعرابي اقرأ: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «1» ، فقال: أدخلت يدك في الجراب فأخرجت شيئا فيه صعود وهبوط هات غيرها. وقيل لآخر: ما تقرأ في صلاتك؟ قال أمّ القرآن ونسبة الربّ وهجاء أبي لهب. وقيل لآخر: ما قرأ إمامكم البارحة في صلاته؟ فقال: أوقع بين موسى وهارون شراشر «2» . وسمع آخر رجلا يقرأ: الأعراب أشد كفرا ونفاقا فقال: لقد هجانا. ثم سمعه يقرأ بعده ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر، فقال: لا بأس هجاء ومدح هذا كما قال الشاعر: هجوت زهيرا ثمّ إنّي مدحته ... وما زالت الأشراف تهجى وتمدح وسمع آخر قوله تعالى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ «3» فقال: وأين السلم إليه؟ وسرق أعرابي غاشية سرج، فدخل مسجدا فقرأ الإمام: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ «4» ، فقال: أسكت قد أخذت في الفضول، فقرأ الإمام: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ «5» فقال ها هي غاشيتكم، فلا تخشعوا وجهي. من غيّر حرفا من القرآن فأتى بنادرة لمّا روجع قال الحجّاج لامرأة من الخوارج اقرئي شيئا من القرآن فقرأت: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً «6» فقال: ويحك يدخلون، قالت: قد دخلوا وأنت تخرجهم. وقرأ أعرابي: إنا بعثنا نوحا إلى قومه. فقيل: إنما هو أرسلنا، فقال ما بينهما إلا لجاجك. وقرأ آخر: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «7» فقالوا له: قد غيرت فقال: خذوا أنف هرشى أو قفاها فإنّه ... كلا جانبي هرشى لهنّ طريق بعض ما جعلته العرب قرآنا قرأ أعرابي في صلاته: الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب طويل ومشفروئيل «8» وإنه من خلق ربنا لقليل، الله أكبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وقرأ آخر: ويوسف إذ دلّاه أولاد علّة ... فاصبح في قعر الركيّة ثاويا «1» وصلّى آخر بقوم فقرأ: أفلح من هينم في صلاته ... وأخرج الواجب من زكاته «2» وأطعم المسكين من مخلاته فضحك القوم فالتفت إليهم وقال: أشهد أني أخذته من في «3» مسيلمة. وشهد أعرابي عند أمير فقال المشهود عليه كيف تقبل شهادته وهو لا يحسن شيئا من القرآن فالتفت إليه، وقال اقرأ، فقال: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الاباعد فقال الأمير أنها آية محكمة، فقال المشهود عليه: ما أراه تعلّم هذه الآية إلا الساعة. من ذكر مثلا فاعتقد أنّه من القرآن خطب أبو الفرزدق فقال: قال الله تعالى: لن يعجز القوم إذا تعاونوا. وخطب عتاب بن ورقاء فقال: إن الله تعالى يقول: إنما يتفاضل الناس بأعمالهم. فقيل: ليس هذا قرآنا فقال: ما أظنها إلا آية. وقال بعض الناس: ما أحسن ما قال الله تعالى: اقتلوا السفلة حيث وجدتموهم. فقيل: ليس هذا بقرآن، فقال: ألحقوها به فإنها آية حسنة. وغضب أبو عبّاد الكاتب على بعض كتّابه فرماه بدواة فبلغ المأمون، فقال له: لم فعلت ذلك؟ فقال: أنا ممّن قال الله تعالى فيه: وإذا ما غضبوا هم يستغفرون فقال: ويلك لا تحسن آية فقال: نعم إني أقرأ من سورة ألف آية. ذمّ من قبح قراءته قرأ رجل بحضرة الصاحب رحمه الله: و «العاديات» «4» بأقبح قراءة فتناوم الصاحب تبرما به، فضرط القارىء ضرطة، ففتح الصاحب عينيه وقال: نوّمتني بالعاديات ونبّهتني ب «المرسلات» . وقال المصيصي: نحن في أنكر عيش ... من قراءة ابن حبيش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 يقرأ الحمد فتى في ... خلقه كنة خيش وقال آخر: وكأنما في الحلق منه مجسّة ... أو دبة في سلم تتدحرج وصلّى رجل يقال له يحيى، بأربعة نفر فأكثر اللحن في قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فلما فرغ قال أحدهم: أكثر يحيى غلطا ... في: «قل هو الله أحد» فقال الثاني: قام يصلي قاعدا ... حتّى إذا أعيا قعد فقال الثالث: كأنّما لسانه ... شدّ بحبل من مسد «1» فقال الرابع: يزحر في محرابه ... زحير حبلى بولد «2» ذمّ من أرتج عليه في القراءة ونوادره قام رجل يصلّي خلف إمام، فلما افتتح الصلاة أرتج عليه في الاستعاذة من الشيطان، فأخذ يكرّر الاستعاذة فقال له رجل: إنك لا تحسن القرآن فما ذنب الشيطان يا بارد. وقرأ إمام سورة إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ «3» فلما بلغ قوله: فأين تذهبون؟ أرتج عليه فأخذ يكرر، وخلفه أعرابي، فأخذ حمشه «4» وصفعه، فقال: أما أنا فأريد كلواذاء هؤلاء الكشاخنة لا أعرف مقصدهم. وصلّى رجل بقوم فأخذ يردد: قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي فقال أعرابي: أهلكك الله وحدك. وقرأ الرشيد ليلة: مالي لا أعبد الذي فطرني، فارتج عليه، وأخذ يردده وابن أبي مريم بقربه في الفراش، فقال: لا أدري والله لم لا تعبده؟ فضحك الرشيد وقطع صلاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 (18) ومما جاء في الفراسة والتّراطن والطّيرة والفأل صحّة الفراسة قال النبي صلى الله عليه وسلم: اتّقوا فراسة المؤمن، وقال صلى الله عليه وسلم: المؤمن ينظر بنور الله. قال ابن الرومي: وحبّي الفؤاد يعلمه، العا ... قل قبل السماع بالإيماء وظنون الذكيّ أنفذ في الحق ... ق سهاما من رؤية الأغبياء وقال آخر: لا تسأل المرء عن خلائقه ... في وجهه شاهد من الخبر وقال آخر: وفي بعض القلوب ترى عيون، وقال البحتري: وإذا صحّت الرويّة يوما ... فسواء ظنّ امرىء وعيانه «1» الممدوح بصحّة الفراسة قيل فلان ألمعيّ «2» ، وقال أوس «3» : نجيح مليح أخو مأقط ... نقاب يخبر بالغائب «4» وقال أبو تمّام: يرى الحادث المستعجم الخطب معجما ... لديه ومشكولا إذا كان مشكلا «5» وقال آخر: يخبر ظهر الغيب ما أنت فاعل وقال آخر: يخاطبه من كلّ أمر عواقبه من تفرّس في صبيّ أمرا وكان كما ظنّ رأى بكير بن الأخنس المهلّب وهو غلام، فقال: خذوني به إن لم يفق سراتهم ويبرع حتّى لا يكون له مثل، وكان كما قال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 ونظر رجل إلى معاوية وكان صغيرا فقال: إنّي أظن هذا الغلام سيسود قومه. فقالت هند: ثكلته أمّه إن كان لا يسود إلا قومه. ورأى رجل ابن السكّيت وهو صغير يسأل فيجيب، فقال: إن هذا الغلام ينال خيرا وقد تقدم في الحزم والتعلم مثل هذا. كلمات من الرّطانة «1» بعث امرؤ القيس إلى امرأة تزوج بها بثلاثين شاة وزقّ خمر، فذبح الغلام في الطريق شاة وأكلها وشرب بعض الزقّ فلما أوصلها، قالت له: قل لزوجي إذا أتيته سحيما كان قدر، ثم وإن رسولك جاءنا في المحاق. فلما أتاه الرسول وأخبره، قال: يا عدوّ الله أكلت شاة وشربت من رأس الزقّ فاعترف بذلك. وأسر بنو ساسان رجلا من بني العنبر، فقال: دعوني أرسل إلى قومي ليفدوني. فقالوا: على أن لا تكلم الرسول إلا بحضرتنا. فقال: نعم. وقال للرسول: قل لهم إنّ الشجر قد أورق وإن النّساء قد اشتكت. ثم قال له: أتعقل؟ قال: نعم. فقال: ما هذا الوقت؟ قال: الليل. قال: قل لهم عروا جملي الأصهب واركبوا ناقتي الحمراء، واسألوا حارثا عن أمري. وكان الحارث صديقا له. فذهب الرسول إليهم فدعوا حارثا فسألوه. فقال: قوله الشجر قد أورق، أي تسلّح القوم، واشتكت النساء: أي اتخذت القرب للماء. وقوله: ما هذا الوقت؟ فقال الليل فإنه يقول أتاكم جيش كالليل وقوله عروا جملي الأصهب، أي ارتحلوا عن الصماء واركبوا ناقتي الحمراء أي انزلوا الدهناء. فرحلوا من ساعتهم فصبّحهم القوم فلم يجدوا أحدا وكان العطاردي، لما رجع إلى قومه رمى إليهم بصرّتين في إحداهما شوك وفي الأخرى تراب، فقال قيس بن زهير هذا رجل مأخوذ عليه بالحلف وهو ينذركم عدوا وشوكا. قال الله تعالى: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ «2» . وأسرت طيء غلاما من العرب فقدم أبوه ليفديه فاشتطوا عليه. فقال أبوه عنده: لا والذي جعل الفرقدين يصبحان ويمسيان على جبلي طيىء، ما عندي غير ما عرفتكم، ثم انصرف. وقال: لقد أعطيته كلاما إن كان فيه خير فهمه، كأنه قال الزم الفرقدين على جبلي طيىء ففهم الابن كلامه. فطرد إبلا من إبلهم ليلته، ونجا بها. وكان داريوس ملك فارس، لما سمع بخروج ذي القرنين «3» بعث إليه بدرّة وكرة ياقوتة وجراب سمسم وتابوت مملوء من الذهب. وكتب إليه: إنما بعثت بهذا لا جرب عقلك، فقال له الإسكندر: قد عرفت لماذا بعثت. أما الدرّة فتزعم أنك سوط تشير علي. وقلت يجتمع لي ملكك اجتماع هذه الكرة في يدي. وذكرت أن لك في أمري ضياء كضياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 الياقوتة وبعثت بالتابوت من الذهب تقول: تكون لي خزائنك والسمسم تعلّمني أن عدة جنودك كثيرة ككثرته. ثم إن ذا القرنين أخذ كفا من السمسم بحضرة الرسول فاستفه ومضغه، وقال: قل له جنودك كثيرة، ولكنّي أطحنهم طحنا كهذا السمسم، وبعث معه إليه بجراب من خردل فأخبر الرسول داريوس بما عاين من ذي القرنين، فأعجبه كيده وغضب فأخذ كفّا من الخردل فطرحه في فمه كفعله بالسمسم فلما وجد مرارته وحرافته «1» لفظه، وقال: أشهد أن جنوده في حرافة الخردل، ثم كانت الغلبة لذي القرنين. ولما صالح ملك الهند اشترط عليهم أن يدفعوا إليه حكيما كان فيهم ففعلوا. فاستصحبه ولم يفاتحه. ثم بعث إليه يوما بستوقة «2» مملوءة سمنا، فأخذها الحكيم وغرز فيها إبرا وردها إليه. فبعث إليه يوما آخر مرآة صديئة، فأخذها الحكيم فجلاها وردّها إليه. فقيل لذي القرنين تعجبا من فعلهما: ماذا عنيتما بذلك؟ فقال: إني لما بعثت إليه البستوقة قلت: إني ممتلىء من العلم امتلاء هذه البستوقة من السمن فأراني بغرز الإبر أن الأمر بخلاف ذلك، وأن في زيادات كثيرة، وذكرت له بالمرآة الصديئة، أن نفسي قد صدئت. فأجابني: بأن قال: ذاكر العلماء فالمذاكرة جلاء القلوب. الإشارة بقول يسير إلى معنى كثير كان المأمون رحمه الله غضب على طاهر «3» بعد ما وجّهه إلى خراسان، فكتب إليه بالرجوع. فكتب إليه صديق له كتاب سلام ووقع على حاشيته: يا موسى. فجعل طاهر يتأمل ذلك ولا يدري معناه، حتى ناوله امرأة صحبته جزلة الرأي، فقالت: إنما عنى يا موسى إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك. فأمسك طاهر عن الإقدام وجعل يتقيه حتى طيّب قلبه. النهي عن التكهّن والطيرة روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الطيرة شرك وما منّا من يجده في نفسه، ولكن الله تعالى يذهبه بالتوكل. وقال صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لا ينجو منهن أحد: الظنّ والطيرة والحسد فإذا ظننت فلا تحقق وإذا حسدت فلا تبغ وإذا تطيرت فامض ولا تثن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وقال: من تكهن أو استقسم أو تطيّر طيرة ترد عن سفر، لم ينظر إلى الدرجات العلى يوم القيامة. وروي اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك، ولا رب غيرك، وقال صلى الله عليه وسلم لا عدوى ولا هامة ولا صفر. الرخصة في الطّيرة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: الطيرة في المنزل والمرأة والفرس. وقيل: أخبرت عائشة رضي الله عنها بذلك فغضبت وأنكرت ذلك وطارت شقة في السماء وشقة في الأرض، وقالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال إن يكن شؤم ففي هذه الثلاثة. جواز الفأل كان النبي صلى الله عليه وسلم يتفاءل «1» ويعجبه الفأل الحسن ولا يتطيّر. ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقاربها، سمع مناديا ينادي: يا سالم. فقال لأصحابه: سلمنا فلما دخلها سمع آخر ينادي: يا غانم. فقال: غنمنا. فلما نزل أتى برطب فقال صلى الله عليه وسلم حلالنا البلد، وسمع رجلا يقول: يا حسن. فقال: أخذنا فألك من فيك. ولما خرج من مكّة مرّ بكلبة في ظل شجرة ساقطة أطباؤها «2» نائمة عليها أجراؤها «3» فقال لاصحابه أعطيتم درّها، ووقيتم كلبها. وبعث المشركون إليه سهيلا فقال: أتاكم سهيل وسيسهل أمركم. ووجه سعد بن أبي وقاص إلى عمر رضي الله عنهما رسولا فلما جاءه قال: ما اسمك؟ قال: ظفر. قال: ابن من؟ قال: ابن قريب. فقال: ظفر قريب إن شاء الله تعالى. ولما طلب المغيرة بن شعبة رسول سعد بن أبي وقاص من ملك الفرس يزدجر الجزية، قال: نعطيكم التراب. فقال سعد: نعم الفأل مكنّنا من أرضه. النهي عن التنجيم واختيار الأيام روى أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل في أي يوم أحتجم. فقال: لا تطيروا، فإن الأيام كلّها لله إذا تبيغ «4» بأحدكم الدم فليحتجم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهمّ لا طير إلا طيرك. ولما عزم عليّ كرم الله وجهه، على المسير إلى النهر وإذ أتاه بسام المنجم فقال: لا تسر في هذه الساعة وسر في وقت كذا. قال: ولم؟ قال: لأنك إن سرت فيها أصابك ضرر شديد، وإن سرت في وقت كذا ظفرت. فقال: ما كان محمد صلى الله عليه وسلم يعلم ما ادعيت. وقال: اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وما كان لعمر رضي الله عنه منجّم، ولقد فتح بلاد كسرى وقيصر. وقال عليّ كرم الله وجهه: من تعلم بابا من النجوم فقد تعلم بابا من السحر فإن زاد ازداد. وقال الخليل: أبلغا عنّي المنجّم أنّي ... كافر بالذي قضته الكواكب «1» عالم أنّ ما يكون وما كا ... ن، فحتم من المهيمن واجب «2» وقال الصاحب: خوّفني منجّم أبو خبل ... تراجع المريخ في برج الحمل فقلت: دعني من أباطيل الحيل ... فالمشتري عندي سواء وزحل «3» أدفع عنّي كلّ آفات الدّول ... بخالقي ورازقي عزّ وجلّ أسامي ما تتطيّر به العرب السانح ما ولّاك ميامنه، والبارح ما ولّاك مياسره. قال أبو عبيدة: البارح يتشاءم به أهل نجد، والسانح يتشاءم به أهل عالية، ولذلك قيل: من لي بالسانح بعد البارح. والناطح ما يلقاك بجهته وهو يكره، والكادس ما يجىء من خلفك يقفوك «4» ، وكل ما يتطير به يسمى طير العراقيب. ويتطيرون بالعطاس، ولذلك قال: أو حلت من سلمى بغير متاع ... قبل العطاس ورعتها بوداع المصيب في عيافته خرج لهبي في حاجته ومعه سقاء لبن. فسار صدر نهاره ثم عطش، فأناخ راحلته ليشرب، فإذا بغراب ينعب فأثار راحلته ومضى. فلما أجهده العطش أناخ راحتله ليشرب فنعب الغراب، وتمرّغ في التراب فضرب الرجل سقاءه بسيفه فإذا فيه أسود سالخ وبنو أسد موصوفون بالعيافة «5» . وقال الأصمعي: قيل إن نفرا من الجنّ تذاكروا العيافة من بني أسد فأتوهم، فقالوا: ضلّت لنا ناقة فأرسلوا معنا من يعيف. فقالوا: لغليم منهم انطلق معهم فاستردفه أحدهم فساروا، فلقيتهم عقاب كاسرة إحدى جنحيها، فاقشعر الغلام وبكى. فقالوا مالك؟ قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 كسرت جناحا ورفعت جناحا، وحلفت بالله صراحا ما أنت بانسي ولا تبغي لقاحا. وبعث ازدشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم زاجرا «1» ومصوّرا فقال للزاجر: ازجره وللمصور صوّر صورته، فلم يجد الزاجر شيئا يزجر به، وصوّر المصور صورته وورد بها. فنظر ازدشير إليها ووضعها على الوسادة وقال للزاجر: ما رأيت؟ قال: لم أر شيئا أزجر به عنده. ولكنّي رأيت ها هنا أن الأمر له، لأنك وضعته على وسادتك ومكنته من رياستك. وسمع لهبيّ يعيف رجلا يقول لعمر رضي الله عنه: يا خليفة رسول الله فقال: سمّاه باسم ميت. فلما بلغ مرمى الجمار صكت حصاة صلعة عمر رضي الله عنه، فقال اللهبي: اشعر والله أمير المؤمنين، والله لا يقف هذا الموقف بعدها فقتل عمر رضي الله عنه تلك السنة. وبينا مروان بن محمد «2» ينظر في إيوان له فانصدعت زجاجة من الإيوان، ووقعت منها شمس على منكب مروان، وكان بحضرته عيّاف يستمع إليه مروان، فقال: صدع الزجاج منكر فخرج وتبعه ثوبان مولى مروان فسأله، فقال: صدع الزجاج صدع السلطان ستذهب الشمس عن مروان، بقوم من الترك أو خراسان، ذلك عندي واضح البرهان. فورد عن قريب خبر أبي مسلم «3» صاحب الدعوة. من حكم بتنجيم وافق قوله القضاء كان الفضل بن سهل حكم على نفسه أنه يعيش أربعين سنة، ثم يقتل بين ماء ونار. فعاش هذه المدة ثم قتل في حمام سرخس. ولما مرض الحجّاج دعا منجمه فقال: ويلك انظر ماذا ترى؟ فقال: أرى ملكا يموت ولست هو. قال: وما اسمه؟ قال: كليب. فقال: أنا والله ذلك فقد كانت أمي سمّتني كليبا. وكان نيبخت المنجم لا يحبس «4» عن المنصور «5» فجاءه يوما فقيل له: إنه من المستراح، فقال أخرج عاجلا فخرج، فانخسف المخرج عقب خروجه. من تطيّر من الكرام بكلام سوء سمعه فأصابه من ذلك قال هبة الله بن إبراهيم: دعاني الأمين في الليل التي نزل فيها طاهر بن الحسين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 النهروان، فلما دخلت عليه رأيته مغتمّا فقال: يا عمّ أما ترى هذا الباغي عليّ فقلت: دعه وبغيه، فالبغي يردى صاحبه. فقال: فيم أداوي ما خامرني؟ فقلت: تأمر باحضار أبي نواس فإنه فتّاح لهذه الأبواب، فاستحضره وسأله فقال: إذا ما ضاقك الغمّ ... فضع في الرأس أقداحا «1» فإنّ الهمّ إن طاحت ... به مشمولة طاحا «2» فدعا برطل وجارية تغني، فسألها: ما اسمك؟ قالت: شرّ، وغنّت بقول الشاعر: كليب لعمري كان أكبر ناصرا ... وأكبر حزما منك ضرّج بالدم فرمى بالرطل وأمر بالجارية فالقيت في دجلة، ودعا أخرى فغنّت: هموا غدروه كي يكونوا مكانه ... كما غدرت يوما بكسرى مرازبه «3» فرمى بها أيضا، ودعا بأخرى فغنّت بقول الشاعر: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر «4» بلى نحن كنّا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر «5» فاغتمّ اغتماما عظيما فتطلع على دجلة فإذا برجل يقرأ قضي الأمر الذي فيه تستفتيان. فاستحكم تطيره. فقلت: يا أمير المؤمنين قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التطير فقال: هبني لا أتطير بالشعر أما أتفاءل بالقرآن فما انقضى الأسبوع إلا وقد نزلت به النازلة. من رأى فأل سوء فصرفه إلى حسن بتأويله خرج جعفر بن سليمان إلى المدينة واليا بها فتعلّقت شجرة بلوائه فتطيّر بذلك. فقال من كان معه: هذا عملك تشبّث بك فسرّي عنه. وسار خالد بن يزيد إلى ولاية الموصل فانكسر اللواء فحزن لذلك، فقال أبو الشّمقمق: ما كان مندقّ اللواء لريبة ... تخشى ولا أمر يكون مبدلا لكنّ هذا الرمح ضعف متنه ... صغر الولاية فاستقلّ الموصلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 فبلغ ذلك المأمون فزاد في ولايته قنسرين «1» . ولما صعد قتيبة بن مسلم «2» منبر الريّ «3» سقط القضيب من يده فتطيّر بذلك الناس، فأنشد: فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر وصف الفأل السوء بأنه يصيب من تفاءل به قيل إياك والفأل السوء، فقد قالت الفلاسفة: ما للنوائب رسول أبلغ في قبض الأرواح من الطيرة والفأل السوء. وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: كنت أنا وأمير المؤمنين عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان يحبّ الفأل فلما خرج أنشد: تفاءل بما تهوى يكن فلقلّما ... يقال لشيء كان إلا تكوّنا وقال علقمة: ومن تعرض للغربان يزجرها ... على سلامتها لا بدّ مشؤم من تشوئم به فدفع ذلك عن نفسه خرج هشام بن عبد الملك يوما فلقي أعور، فأمر بأن يضرب ويحبس، وقال: تشاءمت بك. فقال الأعور: إن الأعور يكون شؤمه على نفسه وشؤم الأحول على غيره. ألا ترى أني استقبلتك فلم يصبك شيء، وأنت استقبلتني فنالني منك سوء. وكان هشام أحول فخجل من ذلك وخلّاه. وخرج بعض ملوك الفرس إلى الصيد فاستقبله أعور فأمر بحبسه وضربه، ثم مضى فتصيّد صيدا كثيرا، فلما عاد استدعى بالأعور وأمر له بصلة، فقال الأعور: لا حاجة لي في الصلة، ولكن ائذن لي في الكلام، فأذن له فقال: تلقيتني فضربتني وحبستني وتلقيتك فصدت وسلمت، فأينا أشأم؟ فضحك وأعطاه. الخط ّ كان زاجر العرب يخطّ خطّين فيقول ابنى عيان أسرعا البيان. وقال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ «4» أنها الخط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 الطرق هو نثر الحصى والاستدلال باجتماعه وتفرّقه، كما يعمل صاحب الشعير. وأصل الطرق الضرب، قال الشاعر: لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى ... ولا زاجرات الطّير ما الله صانع «1» وقال حمّاد عجرد: الطرق من الجبت. القيافة قالت عائشة رضي الله عنها: دخل رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تبرق أسارير وجهه من الفرح، فسألته عنه فقال: ألا إن محرز المدلجي رأى زيد بن حارثة وأسامة نائمين في قطيفة «2» ، قد غطيا رؤسهما وبدت أقدامهما، فقال: هذه الأقدام بعضها من بعض. واختصم رجلان في غلام يدّعيه كل واحد منهما، فسأل عمر رضي الله عنه أمه، فقالت: غشيني أحدهما، ثم هررت دما، ثم غشيني الآخر، فدعا عمر رضي الله عنه قائفين فسألهما، فقال أحدهما: أعلن أو أسر قد اشتركا فيه، فضربه عمر رضي الله عنه حتّى اضطجع، ثم سأل الآخر فقال مثل قوله، فقال: ما كنت أرى أن مثل هذا يكون. قال عوسجة ابن مغيث القائف: كنّا سرق خيلنا فعرفنا آثارهم بتميّز أيديهم في العذوق فركبنا في آثارهم حتى ظفرنا بهم. وقيل: فلان في قيافته يعرف أثر الذرّ على الصخر فيعرف أثر الأنثى منها من الذكر. وكانت هند بنت عتبة عند الفاكه بن المغيرة وكان الفاكه من فتيان قريش، وكان له منزل للضيافة يغشاه الناس من غير إذن. فخلا البيت يوما وقال الفاكه ساعة وهند عنده، ثم خرج الفاكه لبعض حاجاته، وأقبل رجل فدخل البيت فلما رآها انصرف فاستقبله فرآهما فارتاب بها فخاصمها، وقال: إلحقي بأهلك. فتكلّم الناس بها. فقال أبوها: أي بنية إن الناس قد خاضوا في أمرك فأصدقيني، فإن كان ما يقولونه حقّا بعثت من يقتل الفاكه سرا فتخلصين. وإن كان باطلا حاكمته إلى بعض كهان اليمن ليبين براءة ساحتك. فحلفت أنها بريئة. فأرسل إليه وقال: حاكمها إلى الكاهن فقد رميتها بداهية. فخرج الفاكه في جماعة من بني عبد المدان وخرجت في نسوة فلما شارفوا البلد، رآها أبوها شاحبة متغيّرة، فقال: مالي أراك شاحبة متنكرة الحال قالت: والله ما ذلك لمكروه عندي، ولكنّي آتي بشرا يخطىء ويصيب، فلا آمنه أن يرميني بداهية من غير أصل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 فيصير ذلك سبّة علينا. فقال أبوها إنا نخبىء له خبيئة، فإن أخبرنا بها استدللنا على علمه واستفتيناه، وإلا تركناه. فأخذوا حبة حنطة وجعلوها في إجليل «1» فرس، فلما انتهوا إليه أنزلهم وأكرمهم، فقالوا: قد جئناك في أمر وقد خبأنا لك خبيئة نختبرك فانظر ما هو؟ فقال: تمرة في كمرة. فقالوا: نريد أبين من هذا. فقال: حبّة في إجليل مهر. فقالوا: صدقت أنظر في أمر هؤلاء النسوة فجعل يدنو من إحداهنّ، ويقول: ليست هذه حتى دنا من هند فضربها على كتفها وقال: والله ما أنت بزانية وستلدين ملكا اسمه معاوية. فقام إليها الفاكه وقبّل رأسها فقالت: أبعد عنّي فو الله لأجتهدنّ أن يكون من غيرك هذا الملك، فأبت حتى طلّقها وتزوج بها أبو سفيان. (19) وممّا جاء في تأويل الرؤيا ما يدلّ على صحّة الرؤيا قال النبي صلى الله عليه وسلم: رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزأ من النبوّة. وروي ذهبت النبوّة فلا نبوّة، وبقيت المبشرات، وقيل: في قول الله تعالى: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ «2» إنها الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له. وقيل: إذا أراد الله بعبد خيرا عاتبه في النوم. ويدلّ على صحة ذلك ما حكى الله تعالى عن يوسف عليه السلام في قوله تعالى: رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «3» ، وما حكى عن رؤيا الرجلين ورؤيا الملك. وقال صلى الله عليه وسلم إن في الهواء ملكا موكلا بالرؤيا، فلا يمرّ بأحد خير ولا شرّ إلا أريه في المنام حفظ من حفظ ونسي من نسي. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثّل بي، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: الرؤيا ثلاثة: رؤيا هي بشرى من الله تعالى، ورؤيا تحذير من الشيطان، ورؤيا يحدّث الإنسان بها نفسه فيراها في المنام. العارف بتأويل الرؤيا كان ذلك من علم يوسف صلى الله عليه وسلم وقد وصفه الله تعالى في قوله تعالى: وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ «4» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وكان أبو بكر رضي الله عنه موصوفا بذلك. وقال الحسن لابن سيرين «1» : تعبّر الرؤيا كأنك من ولد يعقوب، فقال: وأنت تفسّر القرآن كأنّك ممّن شهد التنزيل. وقال ابن شبرمة: ما رأيت أحدا أجرأ على النوم ولا أجبن على اليقظة، من ابن سيرين أي يعبر الرؤيا ولا يجيب عن الفتوى. رؤيا مستغربة قال رجل لابن سيرين: رأيت كأني أخذت حمامة جاري فكسرت جناحها، ورأيت غرابا أسود وقع على سطح بيتي، فقال: أنت تخلف على امرأة جارك وأسود يخلفك في دارك ففتّش عن ذلك فوجده حقا. وقال له رجل: كأني آكل خبيصا في الصلاة. فقال: الخبيص حلال ولا يجوز أكله في الصلاة، أنت تقبّل امرأتك صائما. وقال له آخر: رأيتني أطأ مصحفا. فقال له: في خفّك درهم تطؤه. فتأمّل ذلك فوجده كما قال. وقال له آخر: رأيت كأني أصبّ زيتا في أصل زيتون. فقال له: إنك تنكح أمك فبحث عن ذلك فإذا تحته جارية كان يطؤها أبوه. وقال له آخر رأيتني: كأني أسبح في غير ماء فقال له: إنك تكثر الأماني. وقال له آخر: رأيتني كأني أصيد ثعلبا، فقال: أنت تطلب حيلة. ورأى عبد الله بن جعفر غرابا على منارة النبي صلى الله عليه وسلم فقال سعيد بن المسيّب سيتزوج الحجّاج بابنتك، فتزوج بها الحجّاج بعد، فقيل له: كيف علمت ذلك؟ فقال: المنارة أشرف ما في المدينة والغراب فاسق. وقالت امرأة: رأيت سنبلة تنبت على إصبعي، فقال: سعيد ستأكلين من غزلها. وقال رجل لابن سيرين: رأيتني كأن عيني اليمنى دارت على قفاي فقبلت عيني اليسرى، فقال له: لك ولدان أحدهما يفجر بالآخر. فاستكشف عن ذلك فوجده كما قال. ورأى رجل النبي صلى الله عليه وسلم في منامه فشكا إليه علة كانت به، فقال له: عليك بلا ولا، فاستيقظ الرجل وتحيّر فسأل ابن سيرين، فقال: كل الزيتون فإن الله تعالى يقول: زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ «2» . وقال رجل لسعيد: رأيت في المنام كأني أسلك طريقا، ومتى قعدت كنت أقطع الطريق، وإذا مشيت لم أقطعه. فقال: أنت رجل نسّاج إذا قعدت كسبت، وإذا قمت تبطلت، فكان كما قال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 رؤيا ظاهرها حسن وباطنها مستقبح قالت عائشة لأبي بكر رضي الله عنهما: رأيت كأنّما وقع في حجرتي ثلاثة أقمار. فقال: سيدفن في بيتك ثلاثة من الأخيار. قال أبو عبد الله البريدي الفقيه: جاءني رجل من الشهود، فقال: رأيت في المنام كأن الله تعالى، قد ابتدأ خلق السموات والأرض. فقلت: لعلّ غيرك رآها وسألك أن تفسّرها؟ قال: بل أنا رأيتها. فقال له: تغدو إلى دار القاضي، وتسألني عنها حتى أفسّرها لك بحضرته. فحضر وسأله عنها. فقال: أيها القاضي إن فلانا يسألني عن رؤيا فسله لعلّ غيره رآها. فسأله، فقال: لا بل أنا رأيتها. فقال: إنك رجل تشهد بالزور، لأن الله تعالى يقول: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ «1» فبحث عنه فوجد قد شهد شهادات زور. وحكى عن الصاحب قال: رأيت قابوس في المنام قبيل ما انهزم بجرجان «2» ، كأنه يسألني ويقول: رأيت في المنام كأنما على رأسي قلنسوة، وكأني قلت له: إن القلنسوة رياسة. فقال: إني لأراه هلاكا، لأن القلنسوة بالفارسية كلاه، فإذا قلب فهو هلاك. فانهزم في اليوم الثاني أو الثالث من ذلك المنام. رؤيا ظاهرها قبيح وباطنها حسن قال رجل لابن سيرين: رأيت رجلا مجرّدا في المسجد، فهالني ذلك. فقال: لعلّك رأيت الحسن تجرّد من دنياه فاشبه سره علانيته. ورأى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أنه غرز في يدي عبد الملك ورجليه أربعة أوتاد، فأرسل إلى ابن المنذر فقال: إن صدقت رؤياه غلبه عبد الملك وخرج من صلبه أربعة كلهم خلفاء ورأى عبد الملك أنه بال في محراب النبي صلى الله عليه وسلم أربع مرات، فأوّل على أنه يخرج من صلبه أربعة يتولّون الخلافة. ورأى في منامه كأنه صارع ابن الزبير فصرعه ابن الزبير، فهاله ذلك فبعث سرا إلى ابن المنذر، فقال: هذه رؤيا ملك نازعه ملك وقد خلّى صارعه بينه وبين الأرض. وقال رجل لأبي عمرو الفراء «3» : رأيت كأني قطعت رأسي فوضعته بين رجلي، فقال: أكان لك عمامة فقطّعتها سراويل؟ قال: نعم هو كما قلت. خرافات في الرؤيا قال رجل لسيفويه: رأيت كأن عليّ قميصا رقيقا وجبّة وشي متخرقة، وفي كمّي فلوس، وفي عنقي هاون وإلى جانبي دبّة، إذا نزعت حركتها، فقال: أنامت عيناك؟ ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 أحسن ما رأيت: القميص الرقيق دينك، والجبّة الوشي ضراطك في الصلاة، والفلوس سوف تفلس، والهاون أن تهان، والدبّة أن يدب إليك فتاك. وقال بعضهم: ليست الرؤيا كلّها صحيحة إنما يصحّ بعض دون بعض. فقال بعض السامعين: كذا هو، فإني رأيت في المنام كأني وجدت بدرة عظيمة أحملها فأحدثت من ثقلها. فانتبهت فوجدت الفراش مملوأ من الخرء ولم أجد للبدرة أثرا. وقال صبي لمعلّمه: إني رأيت في المنام كأنّي مطليّ بعذرة، وأنت مطلى بعسل، فقال المعلم: هذا عملك السوء وعملي الصالح ألبسنا الله تعالى فقال الصبي: إسمع تمام الرؤيا فكنت تلحسني وأنا ألحسك. فقال: أعزب قبّحك الله. وقال رجل للصاحب: رأيت في المنام عمر وفي يده سيف، وهو يريد قتلي فقال له: إذا رأيته فقل له العب يمسك. وقال رجل: رأيت في منامي كأني متزر بهاون فقال له معبّر أنك مأبون فلما كشف عن حاله وجد كما قال. (20) ومما جاء في علوم الأمم ورموز العرب فنون العلوم قيل: علوم الأدب عشرة، ثلاثة شهر جانية «1» : الطبّ والهندسة والفروسية، وثلاثة أنوشروانية «2» : ضرب العود ولعب الشطرنج وضرب الصوالجة، وثلاثة عربيّة: الشعر والنسب وأيام الناس. وواحد أبر على كل ذلك مقطعات الحديث والسمر وما يتعاطاه الناس بينهم في المجالسات. وقال بعضهم: رأيت العلوم والامور تدور على أربعة أشياء: نحو يقيم به الرجل لسانه، وطبّ يقيم به بدنه، وحكايات يقيم بها أدبه، وحسن تدبير يتوصل به إلى معاشه. وكان الإسكندر «3» وأرسطوطاليس «4» إذا تسايرا تناظرا في العلم وإذا خليا تشاورا في الملك، وإذا قعدا للشرب تحدّثا في الشجاعة وإذا أرادا الإنصراف إلى مضجعهما تذاكرا الفقه والعفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 علوم العرب علم بديع الشعر، وبلاغة المنطق، وتشقيق اللفظ، وتعريب الكلام، وقيافة البشر، وقيافة الأثر، وصدق الحسّ وصواب الحدس، وحفظ النسب، ومراعاة الحسب، وحفظ المناقب والمثالب، وتعرّف الأنواء، والاهتداء بالنجوم، والتبصّر بالخيل والسلاح واستعمالهما، والحفظ لكل مسموع، والاعتبار بكل محسوس، ويبلغون بالزجر ما يقصر عنه غيرهم. علوم الرّوم لهم الطب والنجوم والألحان وجودة التصوير، حتّى إن أحدهم يصور الإنسان شابا وكهلا، فيجعله بحيث إذا رأى صورته ثم رآه عرفه. ولهم البناء العجيب ولهم من الرأي والنجدة والمكيدة ما لا ينكره من يعرفه. علوم الفرس لهم العقول والأحلام، والسياسة العجيبة، وترتيب العلوم والأمور، والمعرفة بعواقب الأمور. ولهم من اللغات ما لا يحصى كثرة، كالزمزمة والفهلوية «1» والخراسانية والجبلية. علوم اليونانيّة اليونانيون كانوا ذوي أذهان بارعة، ولا يشتغلون بمكاسب الآلات والأدوات والخلال، التي تكون جماما للنفوس. ولهم القبّانات «2» والاصطرلابات «3» ، وآلات الرصد والبركار «4» ، وأصناف المزامير والمعازف، والطب والحساب والهندسة، وآلات الحرب كالمجانيق «5» والغرادات. وكانوا أصحاب حكمة ولم يكونوا عملة. كانوا يصورون الآلة ولا يخرطون الأداة، يشيرون إليها ولا يمسّونها، يرغبون في التعلم ويرغبون عن العمل. علوم الصّين أهل الصين أصحاب الأعمال، كالسبك والصياغة والإفراغ والإذابة والأصباغ العجيبة، والخرط والنحت والتصاوير، والخطّ والنسج ورفق الكف في كل ما تناولوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وكانوا يباشرون العمل ولا يعرفونا الملل لأنهم فعلة، واليونانيون يعرفون العلل، ولا يباشرون العمل لأنهم حكماء. علوم الهند لهم معرفة الحساب والنجوم، والخط الهندي وأسرار الطب، وعلاج فاحش الأدواء «1» ، والرقى وعلم الأوهام، وخرط التماثيل ونحت الصور، وطبع السيوف والشطرنج والحنكلة. وهي وتر واحد يجعل على قرعة فيقوم مقام العود ولهم ضروب الرقص والثقافة والسحر والتدخين. التّرك هم كالعرب، في أنهم أصحاب قيافة ومعرفة بالحروب وآلاتها، وهم أعراب العجم، كما أن العرب أكراد النبط. فصاروا في الحرب كاليونانيين في الحكمة، والصين في الصناعة، وهم في البيطرة «2» والرياضة فوق كل أمة. وأحدهم يركب ظهر فرس فوق ركوبه الأرض يغزو أحدهم بأرماكه «3» ومهورة، فمتى أتعب واحدة ركب أخرى فلا يستريح ولا ينزل إلى الأرض. رموز العرب كانوا إذا استمطروا عمدوا إلى سلع وعشر، فعقدوهما في أذناب البقر، وأضرموا فيها النار وصعدوا بها جبلا يستسقون الله بذلك ولذلك قال أبو الطائي: أجاعل أنت بيقورا مسلعة ... ذريعة لك بين الله والمطر وإذا امتنع البقر عن شرب الماء، ضربوا الثور. يزعمون أن الجنّ تركبه فتمتنع البقر عن الماء، قال الشاعر: لكالثّور والجنيّ يركب ظهره ... فما ذنبه إن عافت الماء مشربا وإذا سافر أحدهم عمد إلى غصن شجرة، فعقد عليه عقدا تسمى رتما. فيقول: إن انحلّ إلى أن أرجع، خانتني امرأتي، وإن لم ينحلّ فدلالة على أنها لم تخن. قال الشاعر: هل ينفعنّك اليوم إن همت بهم ... كثرة ما توصي، وتعقاد الرتم وزعموا أن المرأة المقلاة، إذا وطئت قتيلا شريفا بقي أولادها. ولذلك قال الشاعر: تظل مقاليت «4» النساء يطأنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وزعموا أن من علّق على نفسه كعب أرنب لم يصبه جنّ ولا عين، لأن الأرنب ليس من مطايا الجن لأنها تحيض، فيهرب منه الجن. قال ابن الأعرابي: قلت لأعرابي: من علّق على نفسه كعب أرنب لم يصبه جنان الحي ولا عمار الديار. فقال: أي والله ولا شيطان الحماطة «1» وغول القفر، وتطفأ عنه نيران السعالي «2» . وكانوا إذا خافوا على إنسان الجنون علّقوا عليه خرق الحائض وعظام الموتى. وقالوا: إذا خيف على الصبيّ النظرة يعلّق عليه سنّ ثعلب أو سن هرة يسلم. وقيل: أرادت جنيّة صبيا فلم تقدر عليه، فلما رجعت، قيل لها في ذلك، فقالت: كانت عليه نفرة، ثعالب وهررة، والحيض حيض السمرة. وحيض السمرة شيء يسيل من السمرة، وهي شجرة يزعمون أن الجن يرهبون منه. وقالوا: إذا دخل الرجل قرية فخاف وباءها نهق نهيق الحمار لم يصبه الوباء. وقال عروة بن الورد: لعمري لئن عشرت من خيفة الردى ... نهيق الحمير إنني لجزوع وقالوا: السليم «3» إذا علق عليه حلي النساء، أفاق ولذلك قال النابغة: يسهّد من ليل التّمام سليمها ... لحلي النّساء في يديه قعاقع وقالوا: من خرج به بثر فأخذ إنسان منخلا، أاخذ من كل دار من دور الجيران كسرة وتميرة، فنثرها لكلب، ذهب البثر عنه إلى كلب. وقالوا: إذا طرف أحدهم عين صاحبه أخذ الطارف عين المطروف، فيقول: بإحدى جاءت من المدينة، باثنتين جاءتا من المدينة، بثلاث جئن من المدينة إلى سبع، فتسكن عينه. وقالوا للغلام إذا سقط سنّه فحذفها نحو عين الشمس، وقال أبدليني خيرا منها عادت. ولذلك قال طرفة: بدلته الشمس من منبتها ... بردا أبيض مصقول الأثر قالوا: من ركب فرسا مهقوعا «4» وهو ما به دائرة يقال لها الهقعة فعرق تحته اغتلمت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 امرأته، وقال الشاعر: إذا عرق المهقوع بالمرء أنعظت ... حليلته وازداد حرا عجانها وقالوا: إذا خرج المسافر فالتفت لم يتم سفره، وقال الشاعر: تلفّت نحو الحي حتّى وجدتني ... وجعت من الإصغاء، ليتا وأخدعا وإنما التفت لأنه كان عاشقا، فأحب أن لا يتم سفره ليرجع إلى محبوبه. وكانوا يوقدون خلف المسافر إذا أرادوا أن لا يرجع، ويرمون خلفه بحصاة وروثة، ويقولون: راث خبره وحصن أثره، فإذا أرادوا سرعة رجوعه تناولوا من تحت قدميه، وقال شاعر في امرأة، قالت له واقتصت من أثره: يا ربّ أنت جاره في أثره ... وجار خصييه وجار ذكره وكان إذا أصاب إبلهم العرّ «1» ، كووا الصحيح منها. يزعمون أن الجربي بذلك تبرأ، قال النابغة: كذي العرّ يكوى غيره وهو راتع ومذهبهم في الحامي والبحيرة والسائبة والوصيلة معروف. وإذا بلغت ابلهم الفا فقؤا إحدى عيني الفحل. وإذا زادت عن الألف فقؤا عينه الأخرى. ويسمّون ذلك المفقأ والمعمى. ويزعمون أن ذلك يطرد عنه العين. وقالوا: أيّما امرأة أحبها زوجها أو خدنها، فلم يشق أحدهما ثوب الآخر لم يبق بينهما الحب، ولذلك قال الشاعر: إذا شقّ برد شقّ بالبرد برقع ... دواليك حتّى ليس للثوب لابس «2» وقالوا: الضالّ في المفازة متى لبس ثوبه مقلوبا اهتدى. قالوا: والجمل متى ندّ فذكر بعض آبائه، والناقة إذا ندّت فذكر بعض أمهاتها سكنا، ولذلك قال الشاعر: أبول والوجناء بي تقحم ... قل لي ما اسم أمّها يا علكم «3» وقالوا: من عشق فكوي بين أليتيه سلا. وكان يفعل ذلك بنو عذرة «4» خاصّة. وكان لهم خرزة يقال لها السلوان، إذا شرب حكاكتها العاشق سلا في ما زعموا، قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 الشاعر: لو أشرب السلوان ما سليت ... ما بي غنى عنك وما غنيت وكانوا إذا عضّ أحدا كلب كلب، يسقونه دم كريم، ويقولون إن ذلك يبرئه. ويزعمون أن من لا يطلب بثاره «1» ، يخرج من قبره هامة، فتقول: اسقوني إلى أن يدرك ثاره. وقالوا: إن من مات فحفر له قومه حفيرة فأقاموا فيها بعيرا لا يعلفونه ولا يسقونه، حتّى يموت، يكون ذلك مركبا له إلى عرصات «2» القيامة، ولا احتاج أن يحضر راجلا حافيا. وكان ذلك البعير يسمى بليّة، قال الشاعر: احمل أباك على بعير صالح ... يوم القيامة إنّ ذلك أصوب لا تتركنّ أباك يسعى خلفهم ... تعبا يخرّ على يديه وينكب ومن علوم العامة تزعم العامّة أن الفأرة كانت يهودية طحانة، تسرق الدقيق، فمسخها الله تعالى فأرة. وسهيل كان عشارا فمسخه الله كوكبا. والوزغة «3» كانت تنفخ نار إبراهيم عليه السلام فلعنها الله. والخنزير تولّد من عطسة الفيل. والهرّ تولّد من عطسة الأسد. وإذا كسفت الشمس يقولون يا ربّ خلّصها وإذا أراد أحدهم أن يبوّل بالليل بصق أولا وإذا طنّت ذبابة كبيرة، قالوا: بشّرك الله بخير. وإذا أصلح بزره عضّ خرقة أو خشبة يقول حتى لا يكذب عليّ وإذا دخل الذباب ثياب أحدهم يزعمون أنه يمرض، وإذا احتكّ طرف أنفه يقولون يأكل اللحم وإذا احتكّ وسطه يقولون يأكل السمك. ويقولون اختلاج العين يدل على رؤية من لم يره منذ حين، وأسفله يدل على البكاء وهذا باب كبير وكثير منه يجىء مفصلا في أبواب مختلفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 الحدّ الثاني في السيّادة والولاية (1) السيادة والولاية ما ذكر في حدّ «1» السيادة والسيّد قيل: لحكيم: ما السودد؟، قال: اصطناع العشيرة واحتمال الجريرة «2» ، وقال غيره: حمل المكاره وابتناء المكارم، وقيل: بذل الندى وكفّ الأذى ونصرة المولى وتعجيل القرى «3» . وقيل للاحنف: ما السيّد؟ قال: من حمق في ماله وذلّ في نفسه وعني بأمر عشيرته. وقيل: من إذا حضر هابوه، وإذا غاب ما اغتابوه. وقيل: من أورى ناره وحمى ذماره «4» ، ومنع جاره، وأدرك ثاره. الأحوال الشاقّة التي تبلغ بها الرئاسة قال بعضهم، لرجل من بني شيبان: بلغني أن السودد فيكم رخيص، فقال: أما نحن فلا نسود إلا من أوطأنا «5» رحله وأفرشنا عرضه، وأخد منّا نفسه وبذل لنا ماله. فقال: وأبيك إذا فهو فيكم غال. وقال أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه: إنما يستحق السيادة من لا يصانع ولا يخادع ولا تغرّه المطامع. وقيل للأحنف: بم سدت؟ قال: بالخلق السجيح «6» والكفّ عن القبيح، وتجنّب الدنيّ وترك اللسان البذيّ. وقال معاوية لعرابة الأوسي: بم سدت قومك؟ فقال: لست بسيّدهم ولكني رجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 أعطيت في نائبتهم، وحملت عن سفيههم، وشددت على يد حليمهم، وعطفت على ذي الخلّة منهم. فمن فعل فعلي فهو مثلي ومن قصّر عنّي فأنا أفضل منه. ومن تجاوزني فهو أفضل منّي. وقال الأحنف: من كان فيه أربع خصال ساد قومه غير مدافع، من كان له دين يحجزه «1» ، وحسب يصونه وعقل يرشده، وحياء يمنعه. وقيل: من أحب الرئاسة صبر على مضض السياسة. قال الشاعر: أترجو أن تسود ولا تعنّي ... وكيف يسود ذو الدعة البخيل وقال الخبزارزي «2» : فقل لمرجي معالي الأمور ... بغير اجتهاد طلبت المحالا «3» جماع أحوال يجب للرؤساء تجنّبها وأحوال يلزمهم فعلها قال معاوية رضي الله عنه: لا ينبغي للملك أن يكون كذابا، لأنّه إن وعد خيرا لم يرج، وإن أوعد شرّا لم يخف ولا غاشّا لأنه لم ينصح، ولا تصح الولاية إلا بالمناصحة. ولا حديدا لأنه إذا احتدّ هلكت رعيته، ولا حسودا لأنه لا يشرف أحد فيه حسد، ولا يصلح الناس إلا بأشرافهم. ولا جبانا لأنه يجترىء عليه عدوّه وتضيع ثغوره. وقال بعضهم: أكره المكاره في السيّد، وأحبّ أن يكون عاقلا متغافلا. كما قال أبو تمام الطائي: ليس الغبيّ بسيّد في قومه ... لكنّ سيّد قومه المتغابي وقال ذو القرنين لأرسطوطاليس، لما أراد الخروج: عظني بما أستعين به في سفري. فقال: اجعل تأنيك أمام عجلتك، وحيلتك رسول شدّتك، وعفوك ملك قدرتك. وأنا ضامن لك قلوب الرعية. إن لم تخرجهم بالشدّة عليهم، ولم تبطرهم بفضل الإحسان إليهم. الحثّ على تسويد الكبار «4» قال قيس بن عاصم لبنيه: إذا متّ فسوّدوا كباركم ولا تسوّدوا صغاركم، فيحقر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 الناس كباركم فتهونوا. وردّ على النبي صلى الله عليه وسلم إخوة فتكلّم أصغرهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كبّروا كبروا. وفي ضده قيل السودد مع السواد، وقيل من لم يسد قبل الأربعين لم يسد بعدها. وصف صغار سادوا باستحقاق لما ولّى المأمون يحيى بن أكثم «1» قضاء البصرة، وكان من أبناء نيف وعشرين سنة، أراد بعض أهل البصرة أن يعيّره بذلك ويضع منه، فقال: كم سنّ القاضي؟ فقال: سنّ عتاب بن أسيد حين ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة فجعل جوابه احتجاجا. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص «2» وسنّه دون العشرين، وولّى الحجّاج محمد بن أبي القاسم، قتل الأكراد بفارس، فأبادهم ثم ولاه السند والهند فأحمد أثره، وسنه سبعة عشر سنة، فقال فيه الشاعر: قاد الجيوش لسبع عشرة حجة ... يا قرب ذلك سوددا من مولد وقال السري الرفّاء «3» : لا تعجبوا من علوّ همّته ... وسنّه في أوان منشاها إنّ النجوم التي تضيء لنا ... أصغرها في العيون أعلاها من طاعته واجبة ورئاسته مستحقّة قال الله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «4» ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إسمعوا وأطيعوا، ولو ولي عليكم عبد حبشي مجدع. وقال عليّ بن الجهم: أغير كتاب الله تبغون شاهدا ... لكم يا بني العبّاس بالمجد والفخر كفاكم بأن الله فوّض أمره ... إليكم وأوصى أن أطيعوا أولي الأمر وقال البحتري: مفروضة في رقاب النّاس طاعته ... عاصيه من ربقة الإسلام منخلع «5» وقال أبو العتاهية: أتته الخلافة منقادة ... إليه تجرّر أذيالها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 فلم تك تصلح إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها كون الإنسان رئيسا حيثما كان قال المتنبّي: إن حلّ في فرس ففيها ربّها ... كسرى تذلّ له الرقاب وتخضع أو حلّ في روم ففيها قيصر ... أو حلّ في عرب ففيها تبّع أسامي ملوك كلّ صقع خزحير صاحب أفريقية، كسرى صاحب فارس، قيصر صاحب الروم، يغفور صاحب الصين، البهراج صاحب الزنج، خاقان صاحب الترك، زنبيل صاحب الخرز، أصفر صاحب علوا، كابيل صاحب النوبة، أصبهيد صاحب الجبل، أمير المؤمنين والخليفة والإمام صاحب المسلمين، تبّع صاحب حمير، ويقال لهم الأقيال والعباهلة، حكى ذلك الجاحظ. المجمع على سيادته قال أبو تمّام: لو أن إجماعنا في فضل سودده ... في الدين لم يختلف في الأمّة اثنان وقال نهار بن قوسعة: قلّدته عرى الأمور نزار ... قبل أن تملك السراة العجوز المزري رئاسته بغيره قال عبد الملك، وقد ذكر عنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قلّلوا من ذكره فهو طعن على الأئمة وحسرة على الأمة. وقال رجل لمالك بن طوق: أصبحت والله ناصحا متبعا فاضحا لكل وال قبلك، بحسن سيرتك متبعا لكل وال بعدك لقصوره عنك. رئيس يتلوه رؤساء قال عليّ بن الجهم «1» : كأنه وولاة العهد تتبعه ... بدر السماء تلته الأنجم الزهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وقال أحمد بن أبي طاهر: كأنّ عليّا وأبناءه ... هلال تحفّ به الأنجم أخذ ذلك من جرير حيث يقول: كالبدر حفّ بواضحات الأنجم أمير الأمراء قال المتنبيّ: وقد رأيت الملوك قاطبة ... وسرت حتّى رأيت مولاها وقال آخر: ولو جمع الأئمة في مقام ... تكون به لكنت لهم إماما وقال ابن الرومي: سادة الناس كالجبال وأنتم ... كالنجوم التي تفوق الجبالا وقال الخوارزمي: إلا حركا لي أبرويز بن هرمز ... وقولا له قم تلق أعجوبة قم «1» تطلع إلى الدنيا لتعلم إنّما ... ملكت من الدينار مقدار درهم من هو رأس القوم وروحهم قيل: الملك كالرأس وأعوانه كالجوارح «2» صلاحها بصلاحه. قال منصور النمريّ: الناس جسم وإمام الهدى ... رأس وأنت العين في الرأس وقال الماني: لو يكتب الناس أسماء الملوك إذا ... أعطوك موضع بسم الله في الحسب وقال إبراهيم بن هرمة: وجدتك من قيس إذا القوم حصلوا ... مكان نياط القلب بين الأضالع «3» وقال الفرزدق: منّا الكواهل والأعناق تقدمها ... والرأس منّا وفيه السمع والبصر وسئل بعضهم عن رئيسهم كيف هو؟ فقال: هو فينا مكان الروح في الجسد. وقيل: هو الذروة وهم الزمع «4» ، هو الرأس والناس الذنابى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وصف قوم كلّهم رؤساء قال أحمد بن طاهر: كلّهم سيد فمن تلق منهم ... قلت هذا أولى بحلّ وعقد وقال العرندس: من تلق منهم تقل لاقيت سيّدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري «1» من المرؤوس فيهم رئيس غيرهم قال ابن أذينة: سمين قريش بائع منك لحمة ... وغثّ قريش حيث كان سمين وقال حجر بن خالد: يسود ثنانا من سوانا وبدؤنا ... يسود معدّا كلّها ما تدافعه «2» قوم توورثت فيهم السّيادة قال طريح: مثل نجوم السّماء أن أفلت ... منها نجوم بدت نظائرها «3» وقال آخر: إذا مقرم منا ذر حدّ نابه ... تخمّط فينا ناب آخر مقرم «4» وقال أبو تمّام: رأيتهم ريش الجناح إذا مضت ... قوادم منها بشّرت بقوادم «5» مصدر متابع وقال وهب الهمداني: صدر المجالس حيث كا ... ن لأنّه صدر المجالس وقال آخر: إذا ابتدر الباب المهيب رأيته ... يدفّ جناحيه الكهول الجحاجح» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وقال المسيّب: تبيت الملوك على رغمها ... وشيبان إن غضبت تعتب وقال عمرو بن هداب: كنا نعرف سودد سلم بن قتيبة، بأنه كان يركب وحده ويرجع في عدة. وكان ملك بن مسمع صاح يوما فوافى بابه عشرون ألف مدجّج، وسأل عبد الملك عنه، فقيل: لو غضب لغضب لغضبه مائة ألف، يبذلون له أنفسهم وأموالهم، ولا يسألونه: فيم غضب؟ فقال: هذا وأبيك السودد. ولم يكن في الإسلام أكثر عقد لواء من أبي موسى «1» رضي الله عنه، ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي؛ ومن روح ابن حاتم ولاه السفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد «2» . الموصوف بأنّه ناصر الدولة قال رؤبة «3» في أبي مسلم «4» : ما زال يأتي الأمر من أقطاره ... على اليمين وعلى يساره مشمّر ما يصطلى بناره ... حتى استقرّ الملك في قراره وقال كثير «5» : أبوك حمى أميّة حين مالت ... دعائمها وأصحر للضّراب وكان الملك قد نصلت يداه ... فردّ الملك منه في نصاب قال المنصور يوما للمهدي: ما أيدت بما أيد به من كان قبلي. أيّد معاوية بزياد وأيّد عبد الملك بالحجّاج. قال: فقلت قد أيّدت بمن فوقهما، فقال تعني أبا مسلم؟ قلت: نعم. قال: قد كان كذلك لكن خيّرنا بين أن يقتلنا أو نقتله فاخترنا قتله. من انقادت الأيّام لطاعته قال عصابة: ما زال تجري على الدنيا حكومته ... حتّى لقد ظنّ كلّ أنّه الفلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وقال أبو الشيص «1» : ملك كان الموت يتبع قوله ... حتّى يقال تطيعه الأقدار من كان القضاء يجري بأمره قال شاعر: كان القضاء بما هويت كفيلا قال التنوخيّ: يكون كما شاء والقضاء كأنّه ... بأمرهم في الخلق سار وواقع وقال المثقّب «2» : ولو علم الله الجبال عصينه ... لجاء بأمراس الجبال يقودها فقير متولّ للريّاسة قال حسّان بن ثابت: ويسود مقترنا على الإقلال وقال لآخر: يسوّد ذا المال القليل نواله ... مروءته فينا وإن كان مصرما «3» من نال السيادة بنفسه قال المأمون: خمسة ملكوا الأقاليم برأيهم وشجاعتهم: الإسكندر نهض من الروم فملك الأقاليم السبعة، وأزدشير ردّ ما انتشر من ملك أقليم بابل على حداثة سنة، وبهرام جور نهض في ثلاثمائة فارس، فقتل خاقان، وأنوشروان أتى دار مملكة أبيه فملكها، وأبو مسلم نهض لدعوتنا وهو ابن ثمانية عشر سنة، وقيل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ملك الدنيا أربعة مؤمنان وكافران. فالمؤمنان سليمان وذو القرنين، والكافران نمرود «4» وشدّاد بن عاد «5» . عقد البيعة أول من عقد البيعة «6» لغيره أبو بكر رضي الله عنه، لعمر بن الخطّاب رضي الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 عنه. وعقد معاوية البيعة ليزيد ابنه، وهو معروف، ولما قعد للبيعة دخل رجل فقال: اعلم أنك لو لم تولّ هذا أمر المسلمين لأضعتهم. فقال للأحنف: لم لا تقول؟ فقال: أخاف الله أن كذبت وأخافك إن صدقت. فقال: جزاك الله عن الإسلام خيرا. ولما شاور السفّاح سعد بن عمر والمخزومي في عقد البيعة لعمّه دون أخيه، قال له: أحدثك بحديث، كنت مع مسلمة بن عبد الملك بالقسطنطينية فبلغه وفاة سليمان وولاية عمر بن عبد العزيز الخلافة فجزع جزعا شديدا. فقلت: لا تجزع لموت سليمان ولكن اجزع لخروج الأمر من ولد أبيك إلى ولد جدّك فأمسك السفّاح وعقد البيعة للمنصور. وال مراع لرعيّته وصف أعرابي واليا فقال: كان إذا ولى طابق بين جفونه، وأرسل العيون «1» على عيونه. فهو شاهد معهم غائب عنهم. فالمحسن آمن والمسيء خائف. وقيل من دبّر حاشيته ضبط قاصيته «2» . وقال إبراهيم الموصلي: أصبحت راعينا وحارس أمرنا ... والله من عرض الردى لك حارس صلاح الرعيّة لصلاح الرّعاة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لن تهلك الرعية، وإن كانت ظالمة مسيئة، إذا كانت الولاة هادية مهدية. وقيل: زمانكم سلطانكم، فإذا صلح سلطانكم صلح زمانكم. وقيل: صنفان لو صلحا صلح الناس الفقهاء والأمراء. وقال بزرجمهر إذا همّ الإمام بظلم ارتفعت البركة. وروي في الخبر إذا جار السلطان في ناحية ضرى «3» سباعها. وقيل إذا رضي الراعي بفعل الذئب لم تنبح الكلاب على الغريب. وقيل: أتى عمر رضي الله عنه بتاج كسرى، فقال: إن الذي ردّ هذا لأمين. فقال رجل: يا أمير المؤمنين أنت أمين الله فإن أديت أدّوا، وإن ربعت «4» ربعوا. قال صدقت. قال الشاعر: ونفسك فاحفظها من الغيّ والردى ... متى تغوها يغو الذي بك يقتدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 صلاح الولاة بصلاح الرعيّة قال عبد الملك: إنكم لتسومون منّا فعل أبي بكر وعمر، ولستم تعملون بعمل رعيتهما، فأعان الله كلا على كل. وكتب المهدي في جواب كتاب جاءه بشكوى عامل أن الله لا يغير ما بقوم، حتى يغيّروا ما بأنفسهم. وقيل: شيئان صلاح أحدهما بصلاح الآخر: الرعية والسلطان. خصب الزمان وطيبه بعدل الولاة وجدبه بجورهم قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الأرض لتزين في عين الخليفة إذا كان عليها إمام عادل. وتقبح في أعينها إذا كان عليها إمام جائر. وروي أن أبرويز «1» نزل بامرأة متنكرا فحلبت بقرة لها، فرآى لبنا كثيرا، فقال للمرأة: كم يلزمك في السنة لهذه البقرة للسلطان؟ قالت: درهم واحد. قال: وأين ترتع وبكم منها ينتفع؟ قالت: ترتع في أرض السلطان، ولي منها قوتى وقوت عيالي. فتفكّر في نفسه، وقال: إن الواجب أن تجعل إتاوة على الأبقار فلأصحابها نفع عظيم. فما لبث أن قالت المرأة أوّه إن سلطاننا همّ بجور. فقال لها أبرويز: ولم؟ قالت إن درّ البقرة انقطع، وإنّ جور السلطان مقتضى لجدب الزمان، كما أن عدله مقتضى لخصب الزمان. فأقلع أبرويز عمّا همّ به وتاب مما خطر بقلبه، وكان بعد ذلك يقول إذا همّ الإمام بجور ارتفعت البركة. وقال سقراط: ينبوع فرح العالم الملك العادل، وينبوع حزنهم الملك الجائر. وقال الفضيل بن عياض: لو كان لي دعوة مستجابة لم أجعلها إلا في الإمام، لأنه إذا صلح أخصبت البلاد وأمن العباد. فقبّل ابن المبارك رأسه وقال: من يحسن هذا غيرك؟ وكان رجل يساير عاملا فمرّ بقصر خرب عليه زوجا بوم، والذكر يصرصر «2» للأنثى، فقال العامل للرجل: ما يقول هذا البوم؟ فقال: إن أمنّتني أخبرتك بما يقولان؟ فقال: أنت آمن. قال: إن الذكر خطب الأنثى، فقالت: لا أجيبك حتى تجعل مهري عشرين قرية خربة. فقال الذكر: إن بقي لنا هذا العامل سنة أمهرتك خمسين قرية. فغضب العامل وقال: لولا أني أمنّتك لعاقبتك. وقيل: عدل السلطان خير من خصب الزمان، وسلطان عادل خير من مطر وابل. تفويض كلّ أمر إلى المستصلح له قال الإسكندر لأرسطوطاليس: أوصني في عمّالي، قال: انظر إلى من كان له عبيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 فأحسن سياستهم فولّه الجند، ومن كانت له ضيعة فأحسن تدبيرها فولّه الخراج. قدم جماعة من فارس إلى المهديّ يشكون عاملهم، فقالوا للوزير: وليت علينا رجلا إن كنت قد عرفته ووليته علينا فما خلق الله رعية أهون عليك منا، وإن كنت لم تعرفه فما هذا جزاء الملك وقد سلّطك الله على سلطانه. فدخل الوزير على المهديّ فأخبره وخرج فقال: إن هذا رجل كان له علينا حق فكافأناه، فقالوا: كان مكتوبا على باب كسرى العمل للكفاءة من العمّال، وقضاء الحقوق على بيت المال، فأمر بعزل ذلك العامل عنهم. تفضيل الفاجر الكافي على الضّعيف التقيّ قال عمر رضي الله عنه: أعضل «1» بي أهل الكوفة، إذا ولّيت عليهم الفاجر القوي فجّروه، وإذا وليت المؤمن الضعيف هجّنوه. فقال المغيرة المؤمن الضعيف له إيمانه وعليك ضعفه، والفاجر القويّ لك قوّته وعليه فجوره. قال: صدقت وولاه الكوفة. وكان يقول: أبدا أشكو إلى الله بلادة الأمين ويقظة الخائن. وقدم أهل السوس «2» على المنصور يشكون عاملا، فاستحضره واستخفّ به، فقال: القوم وأشدّ من الخيانة يا أمير المؤمنين. فاستوى جالسا، وقال: ما هو؟ قالوا: لم يسجد لله سجدة قط ظاهرة منذ ولي السوس. فقال: ما أبالي أن لا يصلّي داخلا وخارجا، إذا هو أدّى الأمانة. تفويض الأمر إلى أهل الذمّة ورد على عمر رضي الله عنه كتاب، فقال لأبي موسى الأشعري: ادع كاتبك يقرأه على الناس، فقال إنه نصراني لا يدخل المسجد. فقال استعملت على أمانة المسلمين نصرانيا، فقال: يا أمير المؤمنين لنا أمانته وله ديانته. فقال: لا تقرّبوهم وقد أبعدهم الله ولا تؤمنوهم وقد خوّنهم الله. وشكا رجل عاملا فقال: وضع والله الموحد، ورفع الملحد أوحش المسجد وآنس البيعة. تفويض الأمر إلى الكافي «3» وإن كان خائنا قيل: فوّض الأمر إلى الكافي، وإن كان خائنا، فالمضيع شر من الخائن. لأن التضييع من طبع الجهل، ولا حيلة في الجهل. والخيانة معصية وذنب، ويمكن التوبة منه. وقيل لا حاجة في الأحمق وإن كان أمينا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 الاستعانة بالموثوق به وإن لم يكن كافيا قيل: لا تستنصحن غاشّا وإن كان كافيا، فمن استعان بأمين ربح عدم التهمة. وأراد المأمون أن يشخص عبد الله بن طاهر إلى ناحية، وقال له: استخلف. فاطرق فقال له المأمون: مالك تتفكر؟ فقال: إن استخلفت من يستقل بخدمتك خفته، وإن استخلفت من اثق به لم آمن تقصيره. فقال: استعمل من تثق به وأنا أقوّمه. الصّبر على خيانة الولاة قيل: لا مال لمن لم يصبر على خيانة الوكلاء وتضييع الولاة. وكان مروان بن الحكم «1» له غلام وكلّه بأمواله، فقال: له يوما: أظنّك تخونني؟ فقال: قد يخطىء الظنّ اتخذتني في مدرعة «2» صوف ولم أملك قيراطا، وأنا اليوم أتصرف في ألوف، وأتبختر في خزوز إني أخونك وأنت تخون معاوية، ومعاوية يخون الله ورسوله. المنع من تفويض الأمر إلى القرّاء قال عدي بن أرطاة لعالم: دلّني على قوم من القراء أولّهم، فقال: إنهم ضربان ضرب طلبوا الأمر لله، وأولئك لا حاجة لهم في لقائك وضرب طلبوا بذلك الدنيا فما ظنك بهم إذا وليتهم. فعليك بأهل البيوتات المستحيين لا حسابهم. ولما ولى مروان بن محمد أرسل إلى رجل ليوليه فرأى له سجادة مثل ركبة البعير، فقال: يا هذا إن كان ما بك من عبادة الله فما يحلّ لنا أن نشغلك، وإن كان من رياء فما يجوز لنا أن نستعملك. تفويض الأمر إلى من يتفرّس فيه الخير قال أبو بكر في عمر رضي الله عنهما لما عهد له: إني استعملت عليكم عمر فإن بر وعدل فذاك علمي به، ورأيي فيه. وإن جار وبدل فلا علم لي بالغيب، والخير أردت، ولكل امرىء ما اكتسب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. واستشار عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في قوم يولّيهم، فقيل: عليك بأهل القدر الذين أن عدلوا فذلك ما رجوت فيهم، وإن قصّروا قال الناس قد اجتهد عمر. نهي الوالي عن تفويض الأمر إلى ذريّته، وعذر من فعل ذلك قال بعضهم: إياك والاستعانة بالأقارب، فتبلى كما بلي عثمان رضي الله عنه. واقض حقوقهم بالمال لا بالولاية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 قال أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه لبعض ولاته، لم وليت أقاربك؟، قال: لأني أعلم أخبارهم ولانهم يبقون علي، وعلى حالهم لدي. حثّ السّلطان على كفاية من يولّيه قال بعض الأكاسرة: إذا استكفيت رجلا فأسن «1» رزقه وقوي عضده «2» وأطلق بالتدبير يده. ففي إسنان رزقه حسم طمعه، وفي تقوية يده ثقل وطأته على أهل العدوان، وفي إطلاق التدبير له أخافته عواقب أموره. وقال المنصور يوما لجنده: صدق القائل أجع كلبك يتبعك. فقال بعضهم: كلا فربما يلوح له غيرك برغيف فيتبعه ويدعك، فقد قيل منع خيرك يدعو إلى صحبة غيرك. فقال: صدقت. وقال أبرويز لا توسعنّ على جندك فيستغنوا عنك ولا تضيقنّ عليهم فيضجوا منك، أعطهم عطاء قصد وأمنعهم منعا جميلا، ووسّع على قومك في الرجاء ولا توسّع عليهم في العطاء. السياسة بالخشونة والعسف قال الحجّاج دلّوني على رجل أستعمله على الشرطة، وأريده رجلا دائم العبوس طويل الجلوس، سمين الأمانة أعجف الخيانة، يهون عليه سبال في الشفاعة. فقيل له: عليك بعبد الرحمن التميمي. فاستحضره وولاه. فقال: لا أقبلها إلا أن تكفيني عيالك وحاشيتك. فدعاهم وقال: من طلب إليه منكم حاجة برئت الذمة منه. فتولّى، فكان لا يحبس إلا في دين، وإذا أتى بشاهر سلاح قطع يده، وإذا أتى بنقّاب «3» نقب بطنه، وإذا أتى بنبّاش دفنه حيا، وإذا أتى بمتهم ضربه ثلاثمائة سوط، فربما أقام أربعين يوما لا يؤتى بمتهم. وصعد الحجّاج المنبر يوما فقال: إنّي أريد الحجّ وقد استخلفت عليكم ابني وأوصيته بخلاف ما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم في الأنصار، حيث أوصى أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم ألا وإني أوصيته أن لا يتجاوز عن مسيئكم، ولا يقبل من محسنكم ألا وإنكم لتقولون بعدي: لا أحسن الله له الصحبة. وإني معجل لكم الإجابة لا أحسن الله عليكم الخلافة. وقيل: خير الملوك من أشبه النسور ومعناه سلطان يأكل الرعية خير من سلطان تأكله الرعية. وسأل عبد الرحمن بن عوف عمر رضي الله عنهما أن يلين للناس، فقال: الناس لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 يصلح لهم إلا هذا. ولو علموا ما لهم عندي، لأخذوا ثوبي من عاتقي. السياسة بالرّغبة والهيبة كان أنوشروان يوقّع في عهود الولاة: سس خيار الناس بالمحبة، وامزج للعامة الرهبة بالرغبة. وسس «1» السفلة بمجرد الهيبة. ولما وفد سعد العشيرة في مائة من أولاده على ملك حمير، سأله عن صلاح الملك، فقال: معدلة شائعة وهيبة وازعة «2» ، ورعية طائعة ففي المعدلة حياة الأنام، وفي الهيبة نفي الظلام، وفي طاعة الرعية حسن الإسلام. وقال زياد: ما غلبني معاوية في شيء من السياسات، إلا في واحدة. استعملت رجلا على قرية فكسر خراجها ولحق بمعاوية. فكتبت إليه أن ابعثه إليّ، فكتب ليس ينبغي أن نسوس الناس سياسة واحدة. إذا وليت القطاة فحق أن لي الليانة، لكن إذا هرب هارب من باب وجد بابا يدخله والسلام. وقال أنوشروان إن هذا الأمر لا يصح له إلا لين في غير ضعف وشدة في غير عنف «3» . ودخل أبو معاذ على المتوكل حين استخلف فأنشده: إذا كنتم للنّاس أهل سياسة ... فسوسوا كرام النّاس بالرفق والبذل وسوسوا لئام النّاس بالذلّ يصلحوا ... على الذلّ، إن الذل يصلح للنّذل السياسة بالملاينة أوصى عمر بن عبد العزيز واليا، فقال: عليك بتقوى الله فانها جماع الدنيا والآخرة. واجعل رعيتك الكبير منهم كالوالد، والوسط كالاخ، والصغير كالولد. فبّر والدك وصل أخاك وتلطّف بولدك. وقال بعضهم: الحبس يحبس المال والقيد يقيّده، والتسهيل يسهّله. فاستعمل الرفق يرج «4» مالك. ولّى أمير المؤمنين رجلا فقال: لا تضربنّ أحدا سوطا ولا تتبعنّ له رزقا ولا كسوة لشتاء أو صيف، ولا دابة يعملون عليها. فقال: يا أمير المؤمنين إذا أرجع إليك كما ذهبت. فقال: وإن رجعت كما ذهبت. إنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وروي أن عمر رضي الله عنه أتي بمال كثير فقال لعماله: إني أظنّكم قد أهلكتم الناس، فقالوا: لا والله ما أخذنا إلا عفوا صفوا بلا وسط. وقال معاوية لمروان: من ترى للعراق؟ فقال من لا يمسح الحلوب «1» ، حتى يجمع الدرّة، ولا يدنى بالعلبة حتى يمسح الصرّة. الحثّ على ترك التتبّع والرسوم الجائرة كتب بعض الوزراء إلى عامل: سوق السعادة عندنا كأسدة وألسنتهم لدينا معقولة ولم نرد هذه الناحية لاحياء العظام الناخرة، ولا لتتبع الرسوم العافية. عامل الناس بما في ديواننا فإنّها أيام قلائل فإما ذكر الأبد أو خزي الأبد. وتجنّب أن تكون، كما قال جرير: وكنت متى حللت بدار قوم ... حللت بخزية وتركت عارا وقيل: لا ينبغي للوالي أن ينقض سنّة «2» ... اجتمعت عليها الألفة وصلحت عليها العامة. وأخرج أبو علي بن رستم عاملا إلى بعض النواحي، وكان في القرية حمام كثير فعدّه وأخذ واحدة منها وشقّ حوصلتها وعدّ الحبوب الموجودة فيها واحتسب بذلك. فقال: إن كل حمامة تأكل في السنة من الحنطة كذا. وألزمهم ذلك فكتب أبو علي إليه كتابا وفي آخره هذا الشعر: عجبت من نفسي ومن إشفاقها ... ومن طرادي الطير عن أرزاقها في سنة قد كشفت عن ساقها ... والموت في عنقي وفي أعناقها والأبيات لرؤبة قالها وقد تولى طراد الطير عن زرع له. وكتب إلى أنوشروان عامل له بناحية يعلمه جودة الريع «3» بها، ويستأذنه في الزيادة على الرسم. فأمسك عن إجابته. فعاوده العامل في ذلك، فكتب إليه: قد كان في تركي إجابتك عن كلامك ما حسبتك تنزجر به عن تكلّف ما لم تؤمر به. فإذ قد أبيت إلا تماديا في سوء الأدب فاقطع إحدى أذنيك. واكفف عمّا ليس من شأنك. فقطع العامل إحدى أذنيه ائتمارا له. حثّ الولاة على مراعاة الديانة قال أزدشير «4» : الدين والملك أخوان لا غنى بأحدهما عن الآخر. فالدين أس والملك حارس، والبناء ما لم يكن له أس مهدوم، والملك ما لم يكن له حارس فضائع. حثّ السلطان على اعتبار ظاهر الرعيّة دون بواطنهم قال بعض الملوك: أنا أملك الأجساد، لا النيّات. وأحكم بالعدل لا بالرضا، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وقال معاوية الناس أعطونا سلطانا وأعطيناهم أمانا، وأظهروا لنا طاعة تحت حقد، وأظهرنا لهم حلما تحت غضب. قال الشاعر: لقد أحلك من يعصيك ظاهره ... وقد أطاعك من يعصيك مستترا حثّ الوالي على اكتساب مودّة الرعيّة كتب أرسطوطاليس إلى الإسكندر: أملك الرعية بالإحسان إليها تظفر بالمحبة منها. فإنّ طلبك ذلك باحسانك أدوم بقاء منه باعتسافك «1» ، واعلم أنك إنما تملك الأبدان فتخطّها إلى القلوب بالإحسان، واعلم أن الرعية إذا قدرت أن تقول، قدرت أن تفعل. فأحسن قولها تأمن فعلها. وقال علي بن عبد الله بن عباس: تطلب محبة الرعية فطاعة المحبة أفضل من طاعة الهيبة. السّياسة بالعمارة كان يقال أسوس من «2» زياد. قيل إنه ركب يوما بالسوس فرأى عمارة حسنة فخاف أهلها أن يزيد في خراجها، فالتفت إليهم وقال بارك الله عليكم فقد وضعت عنكم مائة ألف لما رأيت من عمارة بلدكم. قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لله درّ زياد، سعى أهل العراق سعي الأم البرّة، وجمع منهم المال جمع الذرة فاغناهم وحباهم بحسن التدبير. وقيل: من طمع في وفور الارتفاع بغير العدل فهو يهزأ بنفسه. ذمّ جامع للمال تارك للعمارة حول عامل لأنوشروان من الأهواز «3» فضل ثمانين درهم على الغبرة القائمة، فسأله أنوشروان عن ذلك فقال: وجدت في أيدي قوم فضولا فاخذتها منهم. فقال: ردّ هذا المال لمن أخذته منهم، فإن مثلنا في ذلك إن أخذناه كمثل من طيّن سطحه بتراب أساس بيته، فيوشك أن يكون ضعف الأساس وثقل السطح مسرعين في خراب بيته. ولما عزل عثمان رضي الله عنه عمرو بن العاص عن مصر، وولّى عبد الله بن أبي سرح، دخل عليه عمرو، فقال له عثمان: أشعرت أن اللقاح بعدك درّت ألبانها؟ فقال: نعم ولكنّكم أعجفتم «4» أولادها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وقال الحجّاج لبعض الدهاقين «1» من الريّ ما بال بلدكم قد خرب؟ فقال: لأن عمالكم استعملوا فيها قول شاعركم: لا تكسع الشول بأغبارها ... إنّك لا تدري من الناتج «2» واصبب لأضيافك ألبانها ... فإنّ شر اللبن الوالج النّهي عن المقاطعة قبل المأمون السواد من إسحاق بن إبراهيم سنين، فانقضت قبالته «3» فسأله أن يجددها. فجلس المأمون فقال أيها الناس أني قبلت السواد من إسحاق ثلاث سنين وانقضت، وسأل أن أقبله ثلاثا مستأنفة فهل له من شاك أو متظلم؟ فقام شيخ فقال يا أمير المؤمنين إن الله تعالى جعلنا في يدك أمانة ولم يجعلنا قبالة فإن رأيت أن تقبلنا من أحد فافعل. فقال: لا قبلت بعد هذا. وقيل المقاطعة تقطع. الحثّ على مراعاة أهل الخراج قال زياد: أحسنوا إلى أهل الخراج فانكم سمان ما سمنوا. قال جعفر بن يحيى: الخراج عمود السلطان، وما استفزر بمثل العدل ولا استنزر بمثل الجور. نفع الأنصاف وكونه سبب العمارة . قيل: لا يكون العمران حيث يجور السلطان. وقال عمرو بن العاص: سلطان عادل خير من مطر وابل، وعدل قائم أجدى من عطاء دائم، وسبع حطوم خير من وال غشوم. عدل السلطان خير من خصب الزمان. وكتب عامل إلى عمر بن عبد العزيز: إن مدينتنا قد خربت. فقال: اعمرها بالعدل ونظّف طرقها من الظلم والسلام. وقال أنوشروان: حصّن المملكة بالعدل، فهو سور لا يغرقه ماء ولا تحرقه نار ولا يهدمه منجنيق. ورفع إلى كسرى أن مع فلان مالا عظيما يرجح على ما في بيت المال، فوقّع: ماله مالنا وخصب الزمان خصبنا. محافظة الطرق كان المنصور يقول: لا أبيت على تضييع الطريق فهو قوام الملك، ولا على إذلال حاكم فهو عزّ الملك. وقال بزرجمهر «4» : عزّ الملك بأربعة أشياء: حراسة منازل الرعية في الأمصار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وحفظ طرقها في الأسفار، ومنع عدوها عن حريمها، وإعزاز قضاتها، وقال المتنبّي: إذا طلبت ودائعهم ثقات ... دفعن إلى المحاني والرّعان «1» فماتت فوقهن بلا صحاب ... تصيح بمن يمر: ألا تراني وصيّة الكبار بتحرّي الإنصاف كان كسرى يقيم رجلين عن يمينه وشماله إذا قعد للنظر في أمور الناس. فكان إذا زاغ «2» ، حرّكاه بقضيب كان معهما، وقالا له، والرعية يسمعون: أيها الملك انتبه أنت مخلوق لا خالق، وعبد لا مولى. ليس بينك وبين الله قرابة. أنصف الناس وانظر لنفسك. ودخل أسقف نجران على مصعب، فكلّمه بشيء أغضبه فرماه بمحجن. فقال الأسقف: إن لم يغضب الأمير، حدّثته بحديث، فقال: حدّث. فقال: في الإنجيل ليس للإمام أن يظلم وبه يلتمس العدل، ولا أن يسفّه ومنه يطلب الحلم فاعتذر منه وندم. مدح العفّة والأمانة والحثّ عليهما قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ «3» . إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها. وقال تعالى: فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ «4» وقال: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ «5» . وقال عليه الصلاة والسلام: لا إيمان لمن لا أمانة له. وقال أعرابي اللهم إني أعوذ بك من الخيانة فبئست البطانة. وقال بعضهم: إذا لم تكن خائنا فبت آمنا. وقال الجاحظ: سقى الله قبر الأحنف، حيث يقول الزم الصحة يلزمك العمل. وقيل: من أحرز العفاف لم يعدم الكفاف «6» . وقال معاوية رضي الله عنه: من ولّيناه أمرا فليلزم الرفيعين: الأمانة والعدل. منع الوالي عن قبول الهديّة قال النبي صلى الله عليه وسلم: الهدية تذهب السمع والبصر، وقال: إذا دخلت الهدية من الباب خرجت الأمانة من الكوّة. وبلغ أنوشروان أن بعض عماله قبل هدية، فأحضره فلمّا دخل عليه، قال: هل قبلت الهدية؟ فقال: نعم، فقال: إن قبلتها لتستكفيه شيئا لم تكن تستكفيه لو لاها، إنك لخائن. وإن قبلتها ولم تكافئه إنك للئيم. ولئن كافأته بسطت لسان رعيتك عليك ذمّا. فمن أتى صنيعا لا يخلو من هذه الثلاثة رغبنا عنه، وعزله. وقال الحجاج لوال: لا تقبل الهدية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 فصاحب الهدية لا يرضى بعشر أمثالها مع الشنعة، ثم اسلخ ما بين أقفائهم إلى عجب ذنبهم فانهم يرضون عنك. مدح من لا يتكسّب في ولايته ولا ينفق اجتمع عند المنصور يزيد بن أسيد ومعن بن زائدة وعدة من الأماثل، فقال معن: ولاني أمير المؤمنين موضع كذا، فحملت إليه كذا وكذا، وأنت ولاك أرمينية «1» فبعثت إليه بمشربة طبخ. فقال يزيد: يا أمير المؤمنين أيما أحب إليك الضنين بأمانته «2» أو الجواد بخيانته؟ فقال المنصور: بل الضنين بأمانته. وولّى مصعب جد الأصمعي الأهواز فعاد ولم يكن له إلا درهمان. فقيل له ذلك، فقال: ما وجدت إلا مسلما له ما لي، وعليه ما عليّ أو ذميا له ذمة واجبة عليّ فلم أدر أين أضع يدي. ودخل عمير بن سعد على عمر لما رجع إليه من ولاية حمص، وليس معه إلا جراب وإداوة، وقصعة وعصا، فقال عمر: ما الذي أرى بك من سوء الحال؟ فقال: أو لست تراني صحيح البدن معي الدنيا بحذافيرها. فقال: وما معك؟ قال: جرابي أحمل فيه زادي وقصعتي أغسل فيها ثوبي ورأسي، وإداوتي فيها ماء سقيتي ووضوئي، ومعي عصاى إن لقيت عدوّا دافعته بها وما بقي فتبع لما معي. قال: صدقت. قال بعض الخراسانية: فعاش خمسين عاما في ولايته ... وجاع يوم ثوى في لحده خدمه وهذا البيت يمكن أن يكون مدحا وأن يكون ذما. تحريض الوالي على الاكتساب كتب أبو العيناء «3» إلى صديق له تولّى عملا: أما بعد فإني لا أعظك بموعظة الله تعالى، لأنك غنيّ عنها ولا أخوفك إياه لأنك لا تخافه، ولكنّي أقول ما قاله الشاعر: أحار بن عمر وقد وليت ولاية ... فكن جرذا فيها تخون وتسرق وباه تميما بالغنى إنّ للغنى ... لسانا به المرء الهيوبة ينطق «4» واعلم أن الخيانة فطنة، والأمانة خرفة، والجمع كيس، والمنع صرامة. فاذكر أيام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 العطلة في حال الولاية، ولا تحقرنّ شيئا صغيرا، فالذود «1» إلى الذود إبل، والولاية رقدة فتنبّه قبل أن تنبه. وأخو السلطان أعمى عن قليل سوف يبصر، وما هده الوصية كما أوصى به الحكماء، ولكنّي رأيت الحزم في أخذ العاجل وترك الآجل. من أريد عزله فاحتال أن يقرّ على ولايته كتب معاوية إلى عمرو بن العاص وإلى المغيرة «2» ، أن يقدما عليه. فقدم عمرو من مصر والمغيرة من الكوفة. فقال عمرو للمغيرة: ما جمعنا معاوية إلا ليعزلنا. فإذا دخلت فاشك إليه الضعف، واستأذنه أن تأتي الطائف. وأنا أسأله مثل ذلك فسيظنّ أنا نريد به شرا، فسيردنا إلى العمل. فدخل المغيرة فسأله أن يعفيه وأن يأذن له في الذهاب إلى الطائف، ثم دخل عمرو فسأله مثل ذلك فقال معاوية لقد تواطأتما على أمر وهممتما بشر ارجعا إلى عملكما. ولما استخلف سليمان بن عبد الملك تهدّد الحجّاج بالعزل فكتب إليه الحجاج: يا سليمان إنما أنت نقطة من مداد، فإن رأيت في ما رأى أبوك وأخوك كنت لك كما كنت لهما، وإلا فأنا الحجّاج. وأنت نقطة إن شئت أثبتك وإلا محوتك فأقرّه على عمله. وكان معاوية عزل عمرا عن مصر بأبي الأعور السلمي، وكتب إليه على يده، وقال: ائته وادفع إليه الكتاب وأخرجه. فلما انتهى إلى مصر علم عمرو سبب مورده، فقال لوردان غلامه: احتل عليه. فقال: نعم. فلما دخل، وأراد أن يناوله الكتاب حلف أن لا يأخذ الكتاب أو يأكل فقعد للأكل مع عمرو. فاحتال وردان وسرق كتبه. فلما فرغ وطلب الكتاب لم يجده. فقال: إن أمير المؤمنين عزلك بي. فقال: هات الكتب فلم يجدها، فاضطرب. فكتب عمرو في الوقت إلى معاوية وأرضاه، فلما سمع بخبره ضحك وأمر برد أبي الأعور إليه. وقدم عمر رضي الله عنه الشام فتلقاه معاوية في موكب عظيم، وكان عمر على حمار هزيل، فلم يعرفه معاوية، وجازه حتى نبّه. فنزل له فاعرض عنه عمر، وقال: قد صرت صاحب الموكب وذوو الحاجات تقف على بابك. قال: نعم، فقال: ونعم أيضا؟ فقال: إنني ببلد يكثر فيه جواسيس العدوّ ولا بد مما يرهبهم من آلة السلطان، فإن أمرتني فعلت وإن نهيتني انتهيت. فقال عمر رضي الله عنه: لا آمرك ولا أنهاك، والله لئن صدقت لقد فعلت فعل أريب، ولئن كذبت فقد اعتذرت عذر أديب. فقال أبو عبيدة: ما أحسن ما صدر عما أوردته فقال عمر رضي الله عنه لحسن مصادره وموارده جشّمناه ما جشّمناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 اعتذار طالب رئاسة تعذّرت عليه قال رجل عند معاوية: عجبا لعليّ كيف طلب الخلافة؟ فقال معاوية: اسكت فما كان في خطبتها، إلا كما قال الشاعر: لئن كان أدلى دلوه فتعذّرت ... عليه وفاتت رائدا فتخطّت فما رغبة عنه تخطّت حباله ... ولكنّها كانت لآخر حطّت وقيل لرجل خطب ولاية من أمير: ما ولّاك الأمير؟ فقال ولّاني ظهره وأعطاني منعه وحماني نفعه. وربّ ساع لم يدرك المنى، وحال بينه وبين مطلوبه القضاء. مدح الإمارة والرخصة في الولاية روي أن رجلا ذمّ الإمارة عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: نعم الشيء الإمارة، لمن أخذها بحقها. وقال بعضهم: لولا الحظ في الولاية لما قال نبيّ الله يوسف عليه السلام لكافر: إجعلني على خزائن الأرض أني حفيظ عليم. وقال بزرجمهر: أغبط الناس الملك الحازم المظفر. وقيل: حبّذا الإمارة ولو على الحجارة. وقيل لبعضهم: ما السرور؟ قال: رفع الأولياء وحطّ الأعداء، وطول البقاء مع القدرة والنماء. وقيل لآخر: فقال اللواء المنشور، والجلوس على السرير، والسلام عليك أيها الأمير. مدح الاشتغال وذمّ الفراغ قيل: العطلة موت الحال، وطالت عطلة دينار ثم عرض عليه شغل، فشاور الموبذ في ذلك، فقال: اعلم أن العطلة سكون، والحياة حركة، فإن استطعت أن تخرج من حيز الأموات إلى حيز الأحياء فافعل. وقيل: إذا كان الشغل مجهدة فالفراغ مفسدة. وقال أكثم: ما يسرني أني مكفي كل أودي. فقيل له: ولم؟ قال: أكره طاعة العجز وذلك أن مع الكفاية العجز والبلادة، ومع الحاجة الفطنة والشهامة. ذمّ الولاية والتزهيد فيها روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمّه العباس رضي الله عنه: يا عمّ نفس تحييها خير من إمارة تحصيها. وقال صلى الله عليه وسلم: ستحرصون على الإمارة ثم تكون حسرة وندامة يوم القيامة. فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة. ولما ولي أبو بكر رضي الله عنه خطب الناس فقال: أن أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك. فرفع الناس رؤوسهم، فقال: ما لكم إن الرجل إذا صار ملكا زهّده الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 فيما في يده ورغبه فيما في يد غيره، وانتقصه شطر أجله وأشرب قلبه الإشفاق. فهو يحسد على القليل ويتسخّط الكثير. فهو كالدرهم والسراب الخادع، جذل الظاهر حزين الباطن. فإذا وجبت نفسه ونضب عمره حاسبه الله فاشد حسابه وأقل عفوه. وقال مطرف: لا تنظروا إلى خفض عيش السلطان ولين لباسه ولكن انظروا إلى سرعة ظعنه «1» وسوء منقلبه «2» . وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما ملك أحد قطّ إلا شوطر عقله وضوعف بلاؤه وحزنه. ولمّا ولى محارب القضاء قيل للحكم بن عتيبة: ألا تأتيه؟ قال: ما أصابته عند نفسه مصيبة فأعزيه ولا نالته نعمة فأهنئه وما كنت زوّارا له من قبل فآتيه. وقال بعض الولاة لبهلول: كيف تجدك؟ قال: بخير ما لم أتولّ شيئا من أمور المسلمين. قال: أتحب أن تكون صحيحا؟ قال: لو كنت صحيحا لنزعت نفسي إلى طلب الدنيا، فهذا أصلح لي. أرجو أن أكسب الأجر وأن يحط الله عنّي الوزر «3» . وقيل لأعرابي أيسرك أن تكون خليفة وتموت أمتك؟ قال: لا، لأنها تذهب الأمة وتضيع الأمّة. النهي عن طلب الرئاسة قال رجل لبشر الحافي: أوصني. قال: الزم بيتك، فترك طلب الرئاسة رئاسة. وقال ابن مسهر: ما بينك وبين أن تكون من الهالكين إلا أن تكون من المعروفين. وكان سفيان يتمثّل بقول الشاعر: حبّ الرئاسة داء لا دواء له ... وقلّ ما تجد الراضين بالقسم وقال آخر: وأكثر هالك في النّاس تلقى ... فرأس هلاكه طلب الرئاسة وقال آخر: بلاء النّاس مذكانوا ... إلى أن تنهض السّاعه «4» طلاب الأمر والنهي ... وحبّ السمع والطّاعه قساوة قلب من تولّى رئاسة كان عبد الملك بن مروان يسمّى حمامة المسجد، للزومه المسجد الحرام. فلما أتاه الخبر بخلافته، كان المصحف في حجره «5» ، فوضعه وقال: هذا فرق بيني وبينك. وقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 إنّي كنت أتحرّج أن أطأ نملة وأن الحجّاج يكتب إلي في قتل فئام «1» من الناس فما أحفل «2» بذلك. وقال له الزهري يوما: بلغني أنك شربت الطلاء فقال: أي والله والدماء. وقال: عجبا للسلطان كيف يحسن، وإذا أساء وجد من يزكيه ويمدحه؟ وفي كتاب الهند: السلطان ذو غدوات وبدوات ونزوات، أي أنه سريع الإنصراف كثير البذاء «3» هجوم على الأمور. تكدّر عيشه قيل: لا أحد أمرّ عيشا وأكدّ تعبا وأطول فكرة، من الملك العارف بالمعاد المتيقن بالثواب والعقاب، قال الشاعر: يا ربّ أفئدة بنار همومها ... تكوى فتشقى في جسوم ناعمه وقيل: لا تنظروا إلى خفض عيش السلطان ولين لباسه، وانظروا إلى سرعة ظعنه ومكنون حزنه وسوء منقلبه. من أظهر الندامة عند الموت من الكبار لما ثقل رأى عبد الملك غسالا فقال: وددت أني كنت غسالا لا أعيش إلا بما كسبت يوما فيوما. فذكر لأبي حازم، فقال: الحمد لله الذي جعلهم يتمنون عند الموت ما نحن فيه. ولا نتمنى عنده ما هم فيه. وكان يقول: بعنا الدنيا والآخرة بغفوة. ممتنع من الولاية في الخبر، نودي لقمان أني أجعلك خليفة في الأرض. فقال: إن أجبرني ربّي فسمعا وطاعة، وإن خيّرني اخترت العافية. فولّاه الحكمة، وصرفت الخلافة إلى داود عليه السلام. فكان إذا رآه داود، قال: وقيت الفتنة يا لقمان. وقيل لبعضهم: ما يمنعك من الإمارة؟ قال حلاوة رضاعها ومرارة فطامها. وبعث هشام إلى إبراهيم بن جبلة فقال: أنا قد عرفناك صغيرا، وخبرناك كبيرا، ورضينا سيرتك. وقد رأيت أني أشركك في عملي وقد ولّيتك خراج مصر. فقال: أما الذي عليه رأيك، فالله يجزيك، وأما أنا فما لي بالخراج بصر، فضحك وقال: لتلينّ طائعا أو كارها فتركه حتى سكنت سورة غضبه، ثم قال: إن الله تعالى يقول: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها «4» فما غضب حيث أبين ولا أكرههن إذ كرهن فأنت حقيق «5» أن لا تغضب ولا تكره فغضب وتركه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 ولما أراد عمرو بن هبيرة تولية أياس القضاء قال له: أني لا أصلح لأني عيي دميم حديد، فقال أما الحدة فالسوط يقوّمك، وأما الدمامة فإني لا أحاسن بك، وأما العيّ فإنك تعبر عما تريده فولاه. حثّ الوالي على ادّخار الإحسان قال جعفر بن محمد: كفّارة عمل السلطان الإحسان إلى الإخوان. وقال بعضهم لوال: بادر بإحسانك الليالي ... فليس من غدرها أمان وقيل: أحسن والدولة تحسن إليك، وأنشد: إذا هبت رياحك فاغتنمها ... فإنّ لكل خافقة سكون «1» ولا تزهد عن الإحسان فيها ... فما تدري السكون متى يكون وقيل: اجعل زمان رخائك «2» عدة لزمان بلائك «3» . وقيل: تودّد الرجل في علو مرتبته ذب «4» للشماتة أيام سقطته. واستعمل عمر رضي الله عنه رجلا، فقال: إن العمل كبير فانظر كيف تخرج منه. ذمّ مغترّ بولايته وصف أعرابي واليا فقال: ما أطول سكر كأس شربها فلان. ولما يخاف من عاقبتها أشد سكرا. ولئن كانت الدنيا مشغولة به ليوشك أن تكون فارغة منه، حيث لا يرجى له أو به ولا تقبل له توبة. وذكر الأصمعي أن قول الشاعر: أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف غبّ ما يأتي به القدر وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر كأنما أخذ من قوله تعالى: حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً «5» . ودخل الأنباري الشاعر على الصاحب بالأهواز، وكان نازلا في دار ابن بقية، فلم يعرفه الصاحب ولم يلتفت إليه، فانشأ يقول: اسمع مقالي ولا تغضب عليّ فما ... أبغي بذلك لا بذلا ولا عوضا في هذه الدار في هذا الرواق على ... هذا السرير رأيت الملك فانقرضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 فقال له: من أنت؟ فانتسب له، فاقبل عليه وأكرمه وخوّله. وقال البسامي: فلا يغرركم نعم توالت ... فإنّ الدهر حال بعد حال تهديد وال بعزله: قال إبراهيم بن العباس الصوليّ: أبا جعفر خف نبوة بعد دولة ... وعرّج قليلا عن مدى غلوائكا «1» فإن يك هذا اليوم يوما حويته ... فإنّ رجائي في غد كرجائكا وقال جحظة: قد نلتم منحة ما نالها بشر ... وحزتم نعمة ما حازها ملك فليت شعري أمقدار تعمدكم ... بما أتاكم به، أم خولط الفلك ونظر الفضل بن مروان في رقاع «2» الناس فإذا رقعة فيها: تعززت يا فضل بن مروان فاعتبر ... فقبلك كان الفضل والفضل والفضل ثلاثة أملاك مضوا لسبيلهم ... أبادهم الأقياد والحبس والقتل وإنّك قد أصبحت في النّاس ظالما ... ستودي كما أودى الثلاثة من قبل يعني الفضل بن يحيى، والفضل بن الربيع، والفضل بن سهل. وقال رجل لبعض الولاة: ما أنت إلا أن يزيلك القدر عن القدرة فتحمل على المذلّة والحسرة. تمنّى العزل له تبرّما به لما ولي أبان بن عثمان المدينة «3» ، كان يطوف ليلة فسمع قائلا يقول: اللهمّ اعزل عنّا أبانا، فقال له أبان وهو لا يعرفه: ما فعل لك أبان؟ فقال: استطالت ولايته فمللتها، فقال: ويحك إنما له ستة أشهر، فقال: بدون هذا نفع الملك. وسمع المهدي إنسانا يدعو عليه فقال: يا هذا هل أسأت إليك قط؟ قال: لا ولكني مللتك. فقال: أو لم أتول منذ شهرين فقال: أو لم يكن في ذلك ما يمل، إني لأمل كنيتي فأغيرّها في الشهر مرتين. من رغب في العزل عن ولايته كتب بعض العمال إلى واليه وقد ولاه موضعا يقال له شير: ولاية الشير عزل ... والعزل عنه ولاية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 فولّني العزل عنه ... إن كنت بي ذا عنايه أصير بالعزل عنه ... إلى غنى وكفايه واستعفى رجل من ولاة عبيد الله بن طاهر فوقّع في قصته: يعفى ولا يستكفى وينفى إلى يافا «1» . من هدّده واليه بالعزل وقّع يحيى بن خالد إلى عامل: كثر شاكوك وقلّ شاكروك، فإما اعتدلت وإما اعتزلت. ووقّع إلى آخر: أنصف من وليت أمره وإلا أنصفه منك من ولي أمرك. ووقّع المأمون لآخر: لو استقامت لك الطريقة، لرضيت الخليقة، فإن لم تدع فيهم القذل «2» راعينا فيك العزل. ووقّع إلى أحمد بن هشام في رقعة متظلم: اكفني أمر هذا وإلا كفيته أمرك والسلام. تمنّي زوال مملكة خسيس قال البسّامي: ألا يا دولة السفل ... أطلت المكث فانتقلي ويا ريب الزّمان أفق ... نقضت الشرط في الدّول وقال أبو تمّام الطائي: كانت شماتة شامت عارا فقد ... أضحت به تنضو ثياب العار «3» وقال جحظة: سألت الله تعميرا طويلا ... ليبهجني بخطب يعتريكم «4» أخاف بأن أموت وما أرتني ... صروف الدهر ما أهواه فيكم «5» وقال أبو عطاء: يا ليت جور بني مروان عاد لنا ... وأن عدل بني العبّاس في النّار من شمت النّاس بعزله قال أبو العيناء في ابن حمدان: لئن فضحته القدرة، لقد جمّلته النكبة «6» . وقال لموسى ابن فرخشاه. الحمد لله الذي أذلّ عزّتك وأذهب سطوتك، وأزال مقدرتك، فلئن أخطأت فيك النعمة لقد أصابت فيك النقمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وقال البحتري: ففرحة النّاس بإدباره ... كغيظهم كان بإقباله وقال القاسم بن طوق: رزقت سلامة فبطرت فيها ... وكنت تخالها أبدا تدوم وقد ولّت بدولتك الليالي ... وأنت ملعن فيها ذميم فبعدا لا إنقضاء له وسحقا ... فغير مصابك الخطب الجسيم ولما قبض المعتصم على الفضل بن مروان قعد للعامة فوجد قصة فيها: يا فضل لا تجزعنّ ممّا بليت به ... من خاصم الدهر جاثاه على الرّكب خنت الإمام وهذا الخلق قاطبة ... وجرت حتّى أتى المقدار في الكتب جمعت شتّى وقد أديتها جملا ... لانت أخسر من حمّالة الحطب «1» ودخل أبو العيناء على أحمد بن أبي دؤاد، فقال: ما جئتك مسليا ولا معزيا. ولكن أحمد الله فيك إذ حبسك في جلدك، وأبقى لك عينا تنظر بها إلى زوال النعمة عنك. وقال محمود الوراق: خنازير ناموا عن المكرمات ... فانبههم قدر لم ينم فيا قبحهم عند ما خوّلوا ... ويا حسنهم في زوال النّعم من تحامل الناس عليه لنكبته وعزله لما عزل المنصور بن عمران عن القضاء، جعل الناس يسبّونه. وكان فيهم رجل يلجّ في أذاه فقال له: يا هذا أسأت إليك قطّ؟ قال: لا. قال: فما حملك على هذا الذي تأتيه؟ قال: سمعت الناس يشتمونك فساعدتهم، فأنشد المنصور: غير ما طالبين وترا ولكن ... مال دهر على أناس فمالوا «2» ولما نكب على بن عيسى، جفي جفاء عظيما وهجره الناس قاطبة، ثم لما رشّح للولاية تزاحم الناس عليه، فأنشأ يقول: ما النّاس إلا مع الدنيا وصاحبها ... فحيثما انقلبت يوما به انقلبوا صعوبة العزل قيل: العزل طلاق الرجال. وسئل بعض الحكماء: ما أشد ما يمرّ على الإنسان؟ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 فقال بعضهم: فقر في سفر، وقال بعضهم: مرض في غربة. فقال: أشدّ من ذلك عزل مع نكبة. وكان ليوسف ابن عمر جارية حظيّة، وكانت على رأسه، فأتاه كتاب فلمّا قرأه تغيّر لونه، فقالت: أيها الأمير هذا كتاب عزل. قال كيف دريت؟ قالت: لتغيّر في وجهك قلما عهدته. وقد كان يعزل عنها خوف الحبل، فقالت: كيف أجزت العزل لي وهذا طعمه؟ فقال: إذا لا أعاود ذلك. من لم يبال بالعزل قال زياد: إن الأحنف قد بلغ من الشرف ما لا تنفع معه الولاية ولا يضرّه العزل، وقال أحمد بن طاهر: ما وضع العزل منك قدرا ... ولا تعالى عليك وفرا وقال ابن طباطبا: لقد سرّني أن الصيانة وفّرت ... عليك بعزل كان فيه رضاكا تسلية معزول أراد الرشيد أن يعزل الفضل بن يحيى عن خاتمه ويصيّره إلى أخيه جعفر، فكتب إليه: قد رأى أمير المؤمنين أن ينقل خاتمه من يمينك إلى شمالك، فأجابه الفضل: ما انتقلت عنّي نعمة صارت إليك، ولا خصصت بهادوني. قال ابن المفجع: لم يعزلوا الأعمال عنه وإنّما ... عزلوا العفاف به عن الأعمال وقال أبو تمام: وما كنت إلا السيف جرّد للوغا ... فأحمد فيه ثم صار إلى الغمد «1» ونحوه، ما كتب به بعضهم: ما عزلت عن الديوان ولكن عزل عنك. فأنت المهنأ وهو المعزّى. وقد كنت محتاجا إلى العزل ليعرف الجور من العدل. قال: وإن العزل غاية كل وال. قال أبو هفان: لأنت في العزل على غضّه ... أنبل من غيرك في الأمر وقال آخر: وكلّ نار لها اتّقاد ... لا بدّ يوما لها خمود «2» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 رفيع معزول بدنيء قال ابن بزدويه الأصبهاني- لمّا عزل أبو علي بن رستم، وقلّد أبو الحسن، وأبو مسلم- يخاطب عليّ بن عيسى: أيا ابن عيسى سمتنا ... مقابح الحوادث بعاملين أخرقين عابس وعابث ... طيرين أرسلتهما عززهما بثالث ولمّا عزل وكيع عن رئاسة بني تميم قال بعضهم: عزلت السباع وولّيت الضباع فصار الأمر إلى الضياع. ولبعضهم في مثله: أي حق رفع، وأي باطل وضع. بدّل لعمرك من يزيد أعور وقال ابن أبي الرعد: فإن تك قد عزلت فلا عجيب ... ضياء الشمس يعزله الظّلام وقال كناس لما عزل علي بن عيسى وولّي مكانه ابن الفرات: أخذوا المصحف «1» ووضعوا مكانه طنبورا «2» . من يقرب عزله من ولايته قال الشاعر: فإنك في زمن دهره ... كيوم ودولته ساعتان وقال ابن حجّاج: يوم الخميس بعثت بي ... وصرفتني يوم الأحد فالنّاس قد غنوا علي ... كما خرجت من البلد ما قام عمرو في الولا ... ية ساعة حتّى قعد وقال آخر: رأينا لأبواب ابن بلبل ساعة ... من الدّهر إقبالا تطلع فارتحل أشبهه نقش العروس تخضّبت ... فلما مضى الأسبوع من عرسها نصل «3» تذمّم من ولى أمرا صغيرا بعد أن تولّى كبيرا قيل: عنوق «4» بعد نوق، وحور بعد كور. وقال المتنبّي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 ومن ركب الثور بعد الجوا ... د أنكر أظلافه والغبب «1» وكان أبو عماد النميري تولّى أمورا كبارا، فأتى سلطانا يسأله أن يولّيه أمرا، فولاه أمانة قرية، فسرق ما في البيدر. فقال: أنا باز أضرب الكر ... كي والطير العظاما وإذا ما أرسل البا ... زي على الصّقر تعامى أخذ ذلك من قول الآخر: والصقر يحقر عن طراد الدّخل «2» وقيل لبعض من كان في خطبة أمر كبير فامتنع عليه فرضى بصغير: طلبت زلالا ثم شربت رنقا «3» ، فأنشد: ومن يبتغ العذب الزلال ويمتنع ... من الشرب من سؤر الكلاب تعطّبا إذا المرء لم يقدر له ما يريده ... رضي بالذي يقضى له شاء أم أبى ذمّ متول بغير استحقاق قال موبذ: بلوغ شرف المنزلة بغير استحقاق، إشفاء على الهلكة. وأتى عبادة دينار بن عبد الله وقد وليّ مصر، فقال: يا فرعون أرفع رأسك وانظر إلى من ندب لولاية مصر. قال ابن بسّام: كيف تستوثق الأمور وتصفو ... ومدار الدنيا على ابن الفرات «4» وصف عاجز في ولايته في الحديث أن الله يبغض السلطان الركيك «5» . وورد كتاب صاحب أرمينية على السفّاح بأن الجند قد شغبوا ونهبوا. فكتب إليه: اعتزل أمرنا فلو عدلت لم يشغبوا ولو قريت لم ينهبوا. واستعمل المنصور رجلا على خراسان «6» فاتته امرأة في حاجة، فلم تر عنده غنى. فقالت: أتدري لم ولّاك أمير المؤمنين؟ قال: لا. قالت: لينظر هل يتم أمر خراسان بلا وال. ووقّع جعفر إلى عامل له: إنك كثير الشكاية قليل النكاية، جرىء في ميدان العلل بطىء في ميدان العمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وقال الشاعر: وأحمد يا قوم لو أمره ... إليّ لألزمته راوية وولّى ابن هبيرة رجلا ماسبذان «1» فقال: اكتم أمرك حتى ترد إلى عملك. فخرج إلى همدان. فلما بلغ قيل لم يرد علينا ما دلّ على ولايتك. فأخرج عهده فإذا هو إلى صاحب ماسبذان، فكتب إلى ابن هبيرة إني عطلت ما بين سب وبين هم لما رأيت في آخره ذان. فضحك لما قرأ الكتاب وقال: أنا أولى الناس بأن أؤدب إذ ولّيت مثله واعتمدت جهله. ذمّ وال خسيس وقال ابن لنكك «2» قل للوضيع أبي رياش لا تبل ... ته كل تيهك بالولاية والعمل ما ازددت حين ولّيت إلا خسّة ... فالكلب أنجس ما يكون إذا اغتسل وقال المتنبّي: كرم الأعمال لا يغنيك والنفس قليله ... ليس في النذل ولو خوّل ملك الأرض حيله وقال الطرمّاح «3» : إذا ما ابن جدّ كان ناهز طيىء ... فإنّ الذرا قد صرن تحت المناسم من لا يستضرّ بعزله ولا ينتفع بولايته قال أبو العيناء لصاعد: نحن في دولتك محرومون وفي عطلتك محرومون. وقيل له: ما حالك مع فلان مذ تولّى فقال: أنا معه غير جندب، يعني قول الشاعر: وإذا تكون كريهة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب «4» وأنشد لأبي الفتح بن أبي جعفر بيتين قالهما في الأستاذ الرئيس لما قبض على بن أحمد بن العباس، فأغير على داره: أيوجب عدل أهل العدل أني ... أعدّ مع الجناة بلا جناية أشارك معشرا في صرف دهر ... هم ما شاركوني في الولاية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وقد أحسن المسهل بن كميت حيث يقول: إذا نحن خفنا في زمان عدوّكم ... وخفناكم إن البلأ لراكد ذاهب عنه أمره قيل لرجل زال ملكه: ما كان سبب زوال ملكك؟ فقال: تدبير الأمر بالهوى «1» وتأخير عمل اليوم إلى غد، وقيل ذلك لآخر، فقال: قلّة التيقّظ واشتغالنا باللذّات عن التفرّغ وثقتنا بعمّالنا حتى ظلموا رعيّتنا، فقلّ دخلنا وبطل عطاء جندنا. فقلّت طاعتهم لنا فقصدنا الأعداء فعجزنا عن مدافعتهم. متولّي رئاسة بغير إستحقاق قال رجل لسعدان: سوّدك القوم لجهلهم بك، فسيّد الجاهلين غير شريف وإن سوّدوك للفقر إليك فأنت كما قال: خلت الديار فسدت غير مسوّد ... ومن الشقاء تفرّدي بالسودد «2» وقال محمّد بن يزيد: ومن انتكاس الأمر أن ... صارت ولاة الأمر ضبّه «3» وشتم مجنون رجلا فقال له: أتشتمني وأنا سيّد قومي؟ فقال المجنون: وإن بقوم سوّدوك لفاقة ... إلى سيّد لو يظفرون بسيّد «4» وقال آخر: وكلام مثلك في الخطو ... ب من العجائب والكبائر «5» وصف عسوف في ولايته حكى رجل ولاية عامل فقال: كان يجبي خراج «6» الوحش، ويأخذ جزية السمك ويطلب زكاة الملائكة، ويلتمس جمع الريح ويروم القبض على الماء وحصر الحصى وتحصيل الهباء. ولئن كانت النعمة عظمت على قوم خرج عنهم لقد عظمت المصيبة على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 قوم نزل فيهم، وسئل رجل عن وال فقال: هو. كما قال الشاعر: وكان إذا أناخ بدار قوم ... أبو حسان أورثهم خبالا «1» وقال عمر رضي الله عنه: لا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام وخرقه. وتظلّم أهل الكوفة إلى المأمون في وال كان عليهم فقال المأمون: لا أعلم في عمّالي أعدل وأقوم منه. فقام رجل فقال: إن كان عاملنا بهذا الوصف فحق أن تعدل بولايته فتجعل لكلّ بلد منه نصيبا لتسوّي بالعدل بينهم. فإذا فعل أمير المؤمنين ذلك لا يصيبنا منه أكثر من ثلاث سنين. فضحك وعزله. وقال المنصور يوما: من بركتنا على المسلمين أن الطاعون رفع عنهم في أيامّنا، فقال بعض الحاضرين: ما كان الله ليجمع علينا ولا يتكم والطاعون. وبلغ من تمرّد يوسف بن عمر أنّه نادى أن لا يضرب «2» أحد في دار الضرب درهما ينقص عن العيار حبّة، فما فوقها، إلا ضربته ألف سوط فضرب مائة رجل فقالوا: ضرب مائة ألف سوط في حبّة. وعدّ في سيئات الحجاج أنّه قتل صبرا مائة ألف وعشرة آلاف رجل سوى من قتل في عساكره. ومات في الحبس ثمانون ألفا منها ثلاثون ألف امرأة. وقال عمر بن عبد العزيز «3» رضي الله عنه: لو جاءت يوم القيامة الفرس بأكاسرتها والروم بقياصرتها وجئنا بالحجّاج لغلبناهم به. ذمّ إمارة الصّبيان والنّساء لما مات كسرى، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، به، قال: من استخلفوا؟ فقالوا: بنيّته بوران. قال: لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة. وقال أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه: سيأتي على النّاس زمان لا يقرب فيه إلا الماحل «4» ، ولا يظرف فيه إلا الفاجر، ولا يضعف فيه إلا المنصف، يتخذون الفيء مغنما، والصدقة مغرما «5» ، فحينئذ يكون سلطان النساء ومشاورة الإماء وإمارة الصبيان. وقيل: إنّ البوم أراد التزوج، وكان الهدهد دلالا فأتاه وقال: إنهم ضمنوا لك خمس قرى عامرة وخمس قرى غامرة «6» . فقال: لا حاجة لي في العمران. فقال: خذها فولايتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 إلى امرأة وما تولت امرأة أرضا إلا خربت، فقبلها، وقال: صدقت. وقيل: إذا أراد الله بقوم سوءا جعل أمرهم إلى صبي أو امرأة. قال الشاعر: إن ملكا تسوسه ... أمّ موسى وفاطمه لجدير بأن ترى ... ربة البيت لاطمه «1» وقال ابن بادان: ما للنسا وللعما ... لة والخطابة والكتابة هذا لنا ولهنّ م ... نّا أن يبتن على جنابة ولابن بسّام في متقدم بامرأة: نلت ما نلت يا دنيء بأمّ ... هي أعطتك رؤية الأمراء فإذا عدّت الصنائع يوما ... كنت فيها صنيعة البظراء «2» وكان بالريّ «3» مجنون فقال يوما لفولاذ بن مناذر لما هرب من شيراز «4» : يا متخلّف كان يجب أن تداوي كسّ الدولة وبظر الملّة، وتدخل إليها فتشيل رجليها حتى كان يستوى أمرك. قال شاعر: إن الأمور إذا أضحت يدبّرها ... أمّ وطفل وسكران ومجنون كمنذرات الورى أن لا فلاح لمن ... يرجو النجاح وإن الملك مغبون «5» مدح الوزارة وذمّها قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من أحد أعظم أجرا من وزير صالح يكون مع إمام فيأمره بذات الله. وقال صلى الله عليه وسلم ما من أحد من المسلمين ولي أمرا فأراد الله به خيرا إلّا جعل معه وزيرا صالحا إن نسي ذكّره وإن ذكر أعانه. وقيل: ثبات المملكة بقدر هيبة وزرائها، وقيل: لا يطمع الملك الضعيف الوزير، في ثبات ملكه. وقال بعض الملوك لحكيم: أيّ الأعوان أحق بقرب الوسيلة؟ فقال: الوزير الصالح الناصح اللبيب الذي ارتفاعه بارتفاع ملكه وهلاكه بهلاكه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وقيل: لا تغتر بمناصحة الأمير إذا غشّك الوزير وإذا صادقك الوزير فلا يهولنّك الأمير. انقياد الأمير للوزير وذمّه بذلك قيل: الاستسلام للوزير هو العزل الخفي، وقال نصر بن سيار: إذا لم يشرف الأمير على أموره فليعلم إن أغش الناس له وزيره، وقال أبو الشيص: في الملك لا يصرف الأمر دونه الوزراء مدح وزير صالح. قال بشّار «1» : وقل للخليفة إن جئته ... نصيحا ولا خير في المتّهم إذا أيقظتك حروب العدا ... فنبّه لها عمرا ثمّ نم وقال أبو نواس: قولا لهارون إمام الورى ... عند احتفال المجلس الحاشد أنت على ما بك من قدرة ... فلست مثل الفضل بالواجد وقال ابن الرومي: ظفرت يداك من الوزير بقيّم ... يؤتى نصيحته بلا استكراه أما ظهارته فسلطانية ... وله بطانة مخبت أواه «2» ذمّ اجتماع وزيرين وقال البسّامي فقدتكم يا بني الجاحده ... أفي كل يوم لكم آبده متى سمع الناس فيما مضى ... وزيرين في دولة واحده «3» وقال الظاهري: وزيران أمّا بالمقدم منهما ... فخبل وبالثاني يقال جنون متى تلق ذا أو تلق ذاك لحادث ... تلاق مهينا لا يكاد يبين «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 وقال عبد الملك لما أراد الخروج إلى مصعب وقد نهاه بعض نسائه: كفى فلا يجتمع فحلان في شول «1» ولا قمران في سماء، ولا سيفان في غمد. ويروى للمهلب «2» في معناه: ولو صلح التشارك لم تضايق ... ولكن لم يسع أسدين غيل «3» تولّي دنيء الوزارة كان ابن بلبل خاملا وكان يؤاجر في أيام صغره حتى يحكى أنه حمل ليلة إلى موضع فاجتمع عليه عدة، فلم يزالوا يقلبونه إلى الصباح حتى قال: أما فيكم رحيم يتركني انعس نعسة. قال البسّامي: كيف ترجو رحمة الله ولا تخشى الحجاره ... والذي كنّا عرفناه قديما بالإجاره حائز الأمر علينا بتوليّه الإماره وقال آخر: وزير ما يفيق من الرقاعة ... يولّى ثم يعزل بعد ساعة «4» وقال المصيصي: أنا مذ صرت وزيرا ... طاب شتمي للوزاره وقال آخر في مثله: أعيذك بالرحمن من شرّ خائن ... له قلم زان وآخر سارق «5» وقال وزير أميّ تولّى شجاع بن القاسم وزارة المستعين وحرص كلّ الحرص على أن يتعلّم الكتابة فما تهيأ له وكان يحضر معه كاتبا يلقنه فيفهم عنه جلّ ما في الكتب، فيعرضه على المستعين. (2) ومما جاء في أحوال أتباع السلاطين وجوب اتباع السلاطين قال الله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «6» فقرن طاعتهم بطاعته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وقيل: لا تتقرّب الرعية إلى الأئمّة بمثل الطاعة، ولا العبد إلى المولى بمثل الخدمة، ولا البطانة بمثل حسن الاستماع. وقال الحجاج: والله إن طاعتي أوجب من طاعة الله تعالى، لأن الله تعالى يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «1» وجعل فيه مثوبة «2» وطاعتي لا مثوبة فيها، وقيل: سعادة الرعية في طاعتهم لملكهم: ورفع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الدرة على سعيد بن عامر فقال: لا يسبق سيلك مطرك، لو أمرت قبلنا، وإن عاتبت أعتبنا، وإن عاقبت «3» صبرنا، وإن غفرت شكرنا. فقال: ما على المسلمين أكثر من هذا وأمسك عنه. وجوب ملاينة السلطان ومداراته قال الله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى «4» وقال تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «5» وتعلّق رجل بالرشيد وهو يطوف بالبيت فقال: أني أريد أن أكلّمك بكلام فيه بعض الغلظة «6» فقال: لا ولا نعمي إن الله بعث من هو خير منك إلى من كان شرا مني. فقال: فقولا له قولا ليّنا، وقال الأحنف «7» : السلطان من تأبى عليه إذ رآه ومن لان له تخطّاه، وقيل: لتكن مداراتك للسلطان مداراة المرأة القبيحة للزوج المبغض لها فإنها لا تدع التصنّع له في كلّ حال، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: إذا بليت بالسلطان فخرّق دينك بالملقى والروغان «8» ورقّعه بالكفارات والاستغفار. الحثّ على مصابرة السلطان عادلا كان أو جائرا قال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا كان الإمام عادلا فله الأجر وإذا كان جائرا فله الوزر «9» ، وعليك الصبر. وجوب تعظيمه ومدح فاعل ذلك قال ابن عباس «10» رضي الله عنه: السلطان عزّ الله في الأرض فمن استخفّ به نابته نائبة فلا يلومنّ إلا نفسه. وقيل: إذا جعلك السلطان أبا فاجعله ربا. وقيل: إياك ورفع الصوت على السلطان، فمن رفع الصوت عليه فقد خلعه. قال الله تعالى: لا تَرْفَعُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ «1» ، وقال حكيم لابنه: أياك أن تصحب السلطان بالجراءة عليه، والتصغير لقدره، والتهاون بأمره، ولتكن صحبتك له كصحبتك للأسد الضاري، والفيل المغتلم «2» ، والأفاعي القاتلة، وقالت الحكماء: من حقّ من هازله السلطان وضاحكه ثم دخل عليه أن يدخل عليه دخول من لم يجر بينهما أنس قطّ وأن لا يترك الأحلال له، فإنّ أخلاق الملوك ليست على نظام. استعمال الوقار في مجلس السلطان كان أبو القاسم الكعبي المتكلّم في مجلس أمير خراسان، فسقط من السطح طست فتزلزلت منه عرصة «3» الدار فلم يلتفت أبو القاسم إلى الأمير، فقال الأمير: لا يصلح لوزارتي إلا هو، وأراد عبد الملك أن يجرب الحجّاج فأمر بأن يدخل في سراويله عقارب، فكانت تلدغه ولم يشتغل بها عن محادثة عبد الملك. ترك عظيم غير السلطان في مجلسه دخل أبو مسلم على السفاح «4» وسلم عليه فطرح له متكأ وأبو جعفر «5» قريب منه فقال السفاح: يا أبا مسلم هذا المنصور. فقال: يا أمير المؤمنين هذا موضع لا يقضى فيه غير حقّك. وجوب الأعضاء في مجلس السلطان قيل: أهدي إلى ملك الهند ثياب وحلى، فدعا بامرأتين وخيّر أحظاهما عنده بين اللباس والحلي. وكان وزيره حاضرا، فنظرت المرأة إليه كالمستشيرة فأشار بعينه إلى اللباس، ولحظه السلطان فاختارت الحلى لئلا يفطن الملك للإشارة ومكث الوزير أربعين سنة كاسرا عينه ليظنّ الملك أن ذلك عادته، وقيل: من داخل السلطان فيحتاج أن يدخل أعمى ويخرج أخرس. المتجنب الكلام الموهم في مخاطبة السلطان قال الله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً «6» (الآية) ، وقال الله تعالى: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ «7» ، وذمّ قوما من سفهاء بني تميم أتوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: أخرج إلينا فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ «1» ، ومدح قوما فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى «2» ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: للعباس أنا أكبر أم أنت؟ فقال: أنت أكبر وأنا أسنّ. ودخل السيد الحميري على المأمون فقال له المأمون: أنت السيد فقال: بل أنا العبد وأنت السيد. وقال سعيد بن عثمان للطوسي: أيّنا أسن؟ فقال: لقد شهدت زفاف أمك المباركة إلى أبيك الطيب لئلا يوهم أمرا. المنكر عليه لفظه مع سلطان قال بعض أصحاب المأمون لرجل نزل له: يقول لك أمير المؤمنين: اركب. فقال: لا يقال لمثله اركب بل يقال له: انصرف. دخل أبو الحسن المدائني على المأمون فلمّا خرج قال له: رجل عرفني ما جرى بينك وبين أمير المؤمنين فقال: لست بموضع ذلك لأنّك لم تميز بين أن تقدّم ذكر أمير المؤمنين وبين أن تقدّم ذكري. وكان الحسن اللؤلؤي يحضر مجلس المأمون ويجاريه الفقه «3» فنعس المأمون، فقال اللؤلؤي أنعست يا أمير المؤمنين؟ فقال المأمون: سوقي والله يا غلام خذ بيده فجاء الغلام فاقامه، فبلغ ذلك الرشيد فقال متمثلا: وهل ينبت الخطيّ إلا وشيجه «4» وقال الأصمعي للرشيد في شيء سأله عن الخبير سقطت فقال: أسقطك الله على رأسك. النهي عن التفوّه بما يظنّ فيه تعريض دعا المنصور جماعة من القراء فقال لأحدهم: اقرأ، فقرأ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ «5» فغضب وقال لآخر: اقرأ فقرأ: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ «6» فغضب وأخرجه ثم قال لآخر: اقرأ فقرأ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «7» فأمر له بصلة، وقال المأمون لقارىء عنده: اقرأ فقرأ: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ «8» فأمر أن يجرّ برجله. دخل أبو النجم على هشام فأنشده: الحمد لله الوهوب المجزل «9» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 فلما انتهى إلى قوله: وصارت الشمس كعين الأحول قال هشام: أبي تعرّض يا ابن اللخناء «1» ، اخرجوه بعينيك وطرده. وأنشد البحتري محمد بن يوسف: لك الويل من ليل تطاول آخره، فقال: بل الويل والحرب لك. واستنشد أبو دلف راشدا الكاتب بعض ما يرثي به أيره فأنشده: ألا ذهب الأير الذي كنت تعرفه فقال: بل أمك التي كانت تعرفه. النهي عن الوقيعة في السلطان سمع أعرابي إنسانا يقع في السلطان فقال: يا فلان إنك غفل وكأني بالضاحك لك باك عليك. ودخل خالد بن صفوان على بلال بن أبي بردة حين ولي البصرة فلمّا ولي قال: سحابة صيف عن قليل تقشع «2» ، فقال بلال: أما أنها لا تنقشع حتى يصيبك منها شؤبوب «3» بر، ولما عزل أحمد بن عثمان عن أصفهان قال له رجل في وقت خروجه: الحمد لله الذي اراحنا من بغضك، فأمر بحبسه وقال لشهود كانوا معه: اشهدوا أن هذا في حبسي بحقّ، فكان كلما ورد قاض وفتش عن أمر المحبسين لم يعرف ذلك الحقّ الذي حبس به فبقي على ذلك زمانا حتى توصل إلى تنجيز «4» كتاب كتب منه بعد حين فأطلق، وقيل: ثلاثة ليس من حقها أن يحتملها السلطان: الطعن في الملك وإفشاء السر والخيانة في الحرم. الإرجاف «5» بالسلطان كان بعض الناس أرجف بعزل سلطان فأخذه وضربه فلما خلّى عنه عاد إلى أصحابه وقال: أما عرفتم تحقيق قولي لولا ذلك لما نكاه الخبر به فخلّاه، وقال: لو ترك الأرجاف في موضع لتركه هنا، وخرج جماعة إلى السلطان يطلبون شغلا فلم يجدوا فقال: بعضهم تقوتوا الأرجاف وانتظروا الدول وقيل: الأراجيف تلقيح الفتن. قال شاعر: أراجيف الأنام مخبرات ... بأمر كائن لا شك فيه «6» التحذير من مقاربة السلطان قيل للعتابي «7» : لم لا تقصد السلطان فتخدمه؟ فقال: لأنى أراه يعطي واحدا لغير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 حسنة ولا يد، ويقتل الآخر بلا سيئة ولا ذنب. ولست أدري أيّ الرجلين أنا ولست أرجو منه مقدار ما أخاطر به وهو الذي قال لامرأته: أسرّك أنّي نلت ما نال جعفر ... من الملك أو ما نال يحيى بن خالد قالت: بلى. فقال: وإن أمير المؤمنين أغصّني ... مغصّهما بالمرهفات البوارد «1» قالت: لا. فقال: ذريني تجئني منيتي مطمئنة ... ولم أتجشّم حول تلك الموارد فإن جسيمات الأمور مشوبة ... بمستودعات في بطون الأساود قال أبو القاسم الدمشقي: إن الملوك بلاء حيثما حلّوا ... فلا يكن لك في أكنافهم ظلّ «2» إن جئت تنصحهم ظنّوك تخدعهم ... واستثقلوك كما يستثقل الكلّ فاستغن بالله عن أبوابهم أبدا ... إن الوقوف على أبوابهم ذلّ وقيل: احذر السلطان فإنه يغضب غضب الصبي ويأخذ أخذ الأسد، وقيل: إياكم والسلطان فإنه فم الأسد وحمة «3» الأسود. واتصل رجل بالمنذر بن ماء السماء «4» ونادمه فنهاه صديق له عن ذلك وخوّفه منه فلم يلتفت إلى قوله ولم يسمع قوله فغضب المنذر عليه يوما فقلته. فقال فيه ذلك الصديق: إنّي نهيت ابن عمار وقلت له ... لا تأمنن أحمر العينين والشّعر إن الملوك متى تنزل بساحتهم ... تطر بثوبك نيران من الشّرر التحذير من الدخول في أمر السلطان قيل: العاقل من طلب السلامة من عمل السلطان فإنه أن عف جنى عليه العفاف عداوة الخاصة، وإن بسط يده جنى عليه البسط ألسنة العامة. إن قال محمد بن السماك لصديق استشاره وقد دعي إلى الدخول في عمل السلطان: يا أخي إن استطعت أن لا تكون لغير الله عبدا ما وجدت من العبودية بدا فافعل. وقال عيسى بن موسى لعبد الرحمن بن زياد: ما يمنعك من زيارتي؟ قال: إن أتيتك فأكرمتني فتنتني وإن جفوتني حزنتني، وليس عندك ما أرجوه ولا عندي ما أخافك عليه. وقيل: إذا لم تكن من قربى الأمير فكن من أعدائه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 حمد الانقباض «1» عن السلطان قال الأحنف: لا تنقبضوا عن السلطان ولا تتهالكوا عليه فإن من أشرف له أذراه ومن تضرع له تخطاه. وقيل: انقبض عن السلطان ما أمكنك فالسلطان ذو عذاب وبدوات، وهو في قلة وفائه لاصحابه وسخاء نفسه عمن فقد منهم مثل البغي والمكتب، كلما ذهب واحد جاء آخر. كان النعمان دعا بحلّة «2» وعنده وفود العرب وقال: احضر وفي غد فإني ملبس هذه الحلة أكرمكم فحضر القوم إلا أوسا فقيل له: لم تأخرت؟ فقال: إن كنت المراد فإني أدعي وإن كان المراد غيري فأجمل الأشياء أن لا أكون أنا حاضرا فلما جلس النعمان ولم ير أوسا بعث إليه فقال: احضر وأنت آمن فأحضره وألبسه الحل. النهي عن الإدلال «3» على السلطان قيل: الدالة تفسد الحرمة وتهدم المنزلة، وقال هشام: إنّ فلانا أدل فأمل وأوجف «4» فأعجف «5» ولم يدع ليرجع إليه مرجعا وقد مضى في الأخوانيات مثل ذلك. مخالطة السلطان قيل: جاور ملكا أو بحرا. وقيل: لم يعر من النوك من لم يخدم الملوك، وقيل: من كان وضيع الهمة لم يصبر لدى الملوك على الخدمة. وقال عبد الله: من نزع عنا «6» لم ينتفع بنا، وقيل لبعضهم: لا تصحب السلطان، فمثل السلطان مثل القدر من مسه سوّده. فقال: لئن كان خارج القدر أسود فداخلها لحم كثير وطعام لذيذ. المتبجّح بمعاضدة «7» السّلطان قال الرشيد ليزيد بن مزيد: في لعب الصوالج: كن مع عيسى بن جعفر، فأبى، فغضب الرشيد وقال: أتأنف أن تكون معه؟ فقال: حلفت على أن لا أكون على أمير المؤمنين في جد ولا هزل، فسكن. قال بعض الخلفاء لجرير: أني أعددتك لأمر، فقال: إن الله تعالى قد أعدّ لك مني قلبا معقودا بنصيحتك، ويدا مبسوطة بطاعتك، وسيفا مشحوذا على عدوّك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وقال بعضهم: أنا أطوع لك من الردي وأذلّ لك من الحداء. خطب عبد الملك يوما وحث الناس على قتال ابن الزبير، فقام عدي بن أرطاة فقال: إنّا لا نقول ما قال قوم موسى لموسى عليه السلام: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكنا نقول إنا معكم مقاتلون. التمدّح بمتابعة السلطان أنشد سلم بن قتيبة قول حطابط: أسود فأكفى أو أطيع المسوّدا فقال: ما أدري أي هذين أشرف؟ فقال بعض أهل المجلس: هذا فإنه إذا مات السيد يكون مكانه ولو هارّه «1» وشارّه «2» ما كان ليجعل مكانه. فقال: صدقت. قال حاتم: أسود ذا الفعال ولا أبالي ... على أن لا أسود إذا كفيت وقال آخر: لعمرك ما إن أبو مالك ... بواه ولا بضعيف قواه إذا سسته سست مطواعة ... ومهما وكلت إليه كفاه الانخراط في سلك السلطان في جدّه وهزله دخل الشعبي «3» على بشر بن مروان «4» وفي حجره عود فقال الشعبي: أصلح المثنى قال بشر: أتعرف؟ قال: نعم ولك عندي ثلاث الستر لما أرى والشكر لما يكون منك والدخول في ما لم يجمع على تحريمه. ودخل شاب من بني هاشم على المنصور فأجلسه ودعا بغدائه وقال للفتى: ادن، فقال: تغدّيت فلما قام دفع الربيع في قفاه وأخرجه، فجاء عمومته يشكون من الربيع إلى المنصور، فقال: إنّ الربيع لا يقدم على مثل ذلك إلا وفي يده حجة فليدع وليسأل فسئل، فقال دعاه أمير المؤمنين إلى طعامه، فقال: قد تغديت فإذا ليس عنده أن التغدي مع أمير المؤمنين أيسر ما فيه سد الجوعة، ومثله لا يقومه المقال دون الفعال. وقيل: السلطان سوق والناس يجلبون إليها ما ينفق فيها. الممتنع من أداء المال إلى السلطان ولي بعض العمال كورة «5» فاحضر رجلا كان معروفا بكسر الخراج فقدم إلى عونين «6» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 ينتفان سباله إلى أن يؤدي الخراج فقال الرجل: أؤديه اليوم، قال: وخراج أهل بيتك قال: افعل قال: وخراج شركائك، فنظر إلى العونين وقال: انتفا على بركة الله فإنّ الرجل أحمق، ولما طلب يوسف بن عمر خالدا القسري قال قد علمت أن الذي تطلبه ليس بحاضر وإنه لمتبدد عند الناس، فاجمع الناس لي وائذن لي في الخروج إليهم لا كلّمهم واسأل من عنده شيء ليرده. فأمر بأن يخرج إلى الناس فخطب خطبة وقال: أيها الناس قد علمتم ولايتي وسيرتي وإنما كنت عاملا لهشام وماله عندي تبعة وها هو قد سلط على يوسف بن عمر وطالبني بمال فليبلغ الشاهد منكم الغائب أن من عنده وديعة فهو منها في حل، وكل مملوك لي فهو حر ومن أسديت إليه صنيعا فأنا نادم على تقصيري حيث لم أضعه له وقال شاعر: وقولا لهذا المرء ذو جاء ساعيا ... هلمّ فإن المشرفيّ لقاضب «1» المتغيّر على السّلطان لفظا بعث يزيد عبد الله الأشعري إلى ابن الزبير «2» فقال له: إن أول أمرك كان حسنا فلا تفسده بآخره. فقال عبد الله رضي الله عنه ليس ليزيد في عنقي بيعة فقال: ولو كان له في عنقك بيعة كنت تفي بها. قال: أي والله فالتفت إلى الناس فقال: معشر الناس قد بايعتم ليزيد وهو يأمركم بالرجوع عن بيعته، وهو لا يرتضي الرجوع عنها. فقالوا لابن الزبير: كيف رأيت هذا الخلع الخفي. وقال معاوية لامرأة من الخوارج: أخرجي المال من تحت استك «3» فقالت لمن حضر: أسألكم بالله أهذا من كلام الخلفاء. المتهّدد بالخروج عن الطاعة والمتبجّح بذلك قال عبد الملك: عجبا لخالد بن عبد الله وليته البصرة وأمرته أن يجرد السيف ويمنع المال فبذل المال وأغمد السيف. فقال عبد الرحمن بن حسان: لو جرّد السيف لوجد سيوفا مجردة ولو منع المال لوجد أيديا منازعة. قال الفرزدق: ولا نلين لسلطان يكايدنا ... حتى يلين لضرس الماضغ الحجر «4» قال الأوسي: وما زلنا حجا حجة ملوكا ... تدين لنا الملوك ولا ندين قال المتنبي: تعزّز لا مستعظما غير نفسه ... ولا قابلا إلا لخالقه حكما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 الحثّ «1» على مصابرة السلطان قيل: من لزم باب السلطان بصبر جميل، وكظم «2» الغيظ، واطرح الأنفة وصل إلى حاجته، حكي أنه وجد مكتوب على باب هراة بدر پادشاه كاربرآيد آخر الأمر دادن نك زدايد أي إنما يرتفع الأمر على باب الملوك بالبذل والعقل والتثبت. فكتب بعضهم تحته من كان معه هذه الثلاثة فهو مستغن عن السلطان ونحو ذلك ما روي أن أبا العيناء عتب على بغا فتقضاه فقال بغا: أما علمت أنّ من طالب السلطان احتاج إلى عقل وصبر ومال، فقال: لو كان لي عقل عقلت عن الله أمره ونهيه، أو صبر صبرت عن السلطان حتى يأتيني رزقي، أو مال لاستغنيت به عن بابك والوقوف بجنابك. وقيل: من صحب السلطان احتاج إلى الصبر على قسوته صبر الغواص على ملوحة ماء بحره. أمارات السلاطين لندمائهم إذا أرادوا نهوضهم كان لكلّ ملك أمارة يستدلّ بها أصحابه إذا أراد أن يقوموا عنه فكان أردشير إذا تمطى قام سمارة وكان كيشاسف يدلك عينيه ويزدجرد يقول شب بشدو بهرام يقول خرج خسفاذ وسابور يقول حسبك يا إنسان وابرويز يمد رجليه وقباذ يرفع رأسه إلى السماء وأنوشروان «3» يقول قرّت أعينكم. وكان عمر يقول: قامت الصلاة وعثمان يقول العزة لله، ومعاوية يقول: ذهب الليل، وعبد الملك. يقول: إذا شئتم والوليد يقلي المخصرة «4» والرشيد يقول سبحان الله والواثق يمسّ عارضيه، وحكي عن بعض البخلاء أنه سئل ما أمارتك لقيامنا قال: قولي يا غلام هات الطعام. شب بشد معناه الليل حرّم وزان سكر معناه المسرور وطيب الوقت ومستريح الحال وخسفاد معرب خوش باد سابور معرب شاهبور وكيشاسف معرب كشتاسب بضم الكاف الفارسية وهو من الكيانية كما في ص 34 من أول تتمة المختصر ابرويز معرب برريز يزدجر معرب يزدكر دكان ظالما فلذا تقول له الفرس بزه كار والعرب تقول له يزدجرد الأثيم قباذ معرب قباد قاله محمد عارف وكيل جميعة المعارف. (3) ومما جاء في القضاء والشهادة مدح القضاء وذمّه قال النبي صلى الله عليه وسلم: القضاة ثلاثة: اثنان في النار وواحد في الجنة فاللذان في النار أحدهما من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 يقضي ولم يعلم والآخر من يعلم فيقضي بغير الحق وأما الذي في الجنة فهو الذي يعلم ويقضي بالحق، وقال صلى الله عليه وسلم: إن مع القاضي ملكين يسددانه ويوفقانه فإن عدل أرشداه وأعاناه وإن جار قذفاه في النار. وقيل: المذموم من القضاة من سعى في طلبه، وقال صلى الله عليه وسلم: لعبد الرحمن ابن سمرة: يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فانك إن سألتها وكلت إليها وإن سئلتها أعنت عليها، وقال صلى الله عليه وسلم: من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: شكت بقعة من الأرض إلى ربها أنها جعلت حشا فأوحى الله إليها أما ترضين أني لم أجعلك بقعة قاض. وكان ابن شبرمة يقول: يا جارية هاتي غذائي لأخرج إلى بلائي. الممتنع من تولّي القضاء أمر المنصور أبا حنيفة «1» رحمه الله أن يتولى القضاء فقال: لا أصلح لذلك فقال: إنك تصلح، فقال: إن كنت صادقا فلا يجوز لك أن توليني وإن كنت كاذبا فقد فسقت فقال: والله لتلين. فقال: والله لا وليت فقال حاجبه: أمير المؤمنين يحلف وأنت تحلف فقال: أمير المؤمنين أقدر على الكفارة مني. قيل لما مات عبد الرحمن بن أذينة ذكر أبو قلابة للقضاء فهرب حتى أتى الشأم فوافق ذلك عزل قاضيها فهرب حتى أتى اليمامة فقيل له في ذلك فقال: ما وجدت مثلا للقاضي العالم إلا مثل رجل سابح وقع في بحر، فكم عسى يسبح حتى يغرق. الممدوح بترك الميل والعفّة والحلم اختصم إلى زياد رجلان فقال أحدهما: إن هذا يدل بحرمة له عندك، فقال: صدق وسأجزيه بما ينفعه من ذلك، إن كان الحقّ له عليك آخذك به وإن كان الحقّ لك عليه أقضى عليه، ثم أقضى عنه من مالي، وولّى إسماعيل بن أحمد قاضيا عفيفا فكلفه يوما أن يقبل رجلا لم يكن عنده عدلا فامتنع عليه فقال له: ما أثقلك من بين القضاة! فقال: اعزلني إن كنت ثقيلا، فقال: قد عزلتك، فتناول القاضي قلنسوته من على رأسه فجعلها في كمّه وخرج، فندم إسماعيل على ذلك فرده وسأله أن يتولى فأبى عليه ولما استعفى شريح الحجاج من قضاء العراق قال: والله لا أعفيتك أو تدلّني على من إذا غضب على الخصوم رجح به حلمه عن الهجوم، ومن إذا دعاه كثرة المال لم ينهضه إليه سوء الحال فقال: أدلّك على شريف عفيف يمنعه شرفه من التسلّط عليه وتحجبه عفته عن التملّق «2» قال: من هو؟ قال: ابن أبي موسى الأشعري فاحضره وولاه، قال الزهري: ثلاث إذا كن في القاضي فليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 بقاض: إذا كره اللوائم وأحب المحامد وخاف العزل، وبه ألمّ الشاعر في قوله: سيان في الحكم شاكيه وشاكره ... من الأنام وهاجيه ومطريه كون الحاكم مرضيا ومسخوطا قيل لشريح رحمه الله: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت ونصف النّاس عليّ غضبان، وقال رجل لشريح: قضيت عليّ بالجور «1» وليد خلنّك الله النار قال: إذا يدخلها سبعة قبلي من ولّاني ومن علّمني هذا الحكم ومن جاء بك مدعيا والشاهدان والمزكيان. حثّ الحاكم على التسوية بين الناس قال الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ «2» وقال أيضا: فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ «3» وقال: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ «4» وقال أبو وائل: سمعت عمارا يقول في بعض القضاة: كان كافرا، فقلت: ما تقول؟ فقال: إن الله تعالى يقول: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ «5» وقال بعضهم: رضى الناس غاية لا تدرك فتحرّ الخير بحمدك، ولا تكره سخط من يرضيه الباطل. وكان زيد بن ثابت يقضي لعمر رضي الله عنه بالمدينة فتقدم إليه عمر مع أبي في حدّ تنازعاه فخرج إليهما، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ههنا ههنا ثم توجهت اليمين على عمر فقال زيد لأبي، أعف أمير المؤمنين من اليمين، فقال له عمر ما زلت جائرا منذ اليوم السلام عليك يا أمير المؤمنين وههنا ههنا واعف أمير المؤمنين. وكتب عمر رضي الله عنه إلى قاض: احكم بين أهل الحق بالحق ينفعك يوم الحق. وقيل: لا ينبغي للحاكم أن يسمع شكية أحد الخصمين دون الآخر وفي المثل: من يأت الحكم وحده يفلح. وقال سلمة بن حوشب: نبّئت أن حكّموك بينهم ... فلا يقولنّ بئسما حكما إن كنت ذا عرفة بشأنهم ... تعرف ذا حقهم ومن ظلما «6» ولا تبال من المحقّ من المبطل ... لا إلة ولا ذمما «7» فاحكم فأنت الحكيم بينهم ... إن يعدّدوا الحقّ يابسا صنما «8» واصدع أديم السواد بينهم ... على رضا من رضي ومن رغما حثّ الحاكم على تقليل الكلام عزل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قاضيا وقال: بلغني أن كلامك أكثر من كلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 الخصمين وكان أبان يقلّل من الكلام فقيل له في ذلك: فقال: إنّ من كان كلامه حكما فحق عليه أن يتبلم «1» ولا يتكلّم إلا فيما يعنيه. من استعمل دهاء في أمر أودع رجل آخر مالا وحج، فلما رجع طلبه منه فجحده، فأتى إياسا «2» فأخبره فقال له إياس: هل علم أنك أتيتني؟ قال: لا قال: فانصرف واكتم أمرك وعد إليّ بعد يومين. فدعا أياس المودع وقال له: قد حضر مال وأريد أن أدفعه إليك فحصّن منزلك وأحضر قوما ثقات يحملونه. ودعا أياس صاحب المال فقال له: امض إلى صاحبك واطلب منه المال وقل له: إن لم تردّه شكوتك إلى القاضي. فذهب الرجل وطلب ماله فرده عليه فأخبر إياسا بذلك فضحك، واختصم رجلان إلى القاضي شريح في ولد هرة فقال أحدهما: هي ابنة هرتي، وقال الآخر: كذلك، فقال شريح: ضعوها قدامها فأيهما هرت وأزبأرّت «3» وفرّت فليست لها وأيهما قرّت واسبطرّت «4» فهي لها فقرت إحداهما فدفعها إليه. من لا يغضي «5» في الحكم على حقّ أتى المأمون برجل وجب عليه حدّ، فأمر بضربه فقال: قتلت. قال: الحق قتلك. قال: ارحمني، قال: لست بأرحم ممّن أوجب الحدّ عليك. وقال خالد بن صفوان لبعض الولاة: جزاك الله خيرا فقد سوّيت بين الناس حتى كأنّك من كل أحد وكأنك لست من أحد. وقال بعضهم: غصبني بعض قواد الأتراك ضيعة أيام المعتز «6» فتظلمّت فلم ينصفني فلمّا ولي المهتدي جلس يوما للمظالم فتظلمت إليه فأحضر خصمي فقضى لي عليه، فقلت: جزاك الله خيرا فأنت كما قال الأعشى: حكّمتموه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الزاهر «7» لا يأخذ الرشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر فقال: أمّا شعر الأعشى فلا أدري ولكني قرأت قوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ «8» فبكى أهل المجلس كلّهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 حثّ الحاكم على الاجتهاد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: بم تحكم؟ قال: بكتاب الله تعالى. قال: فإن لم تجد فيه، قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد فيها. قال: أجتهد برأيي. وأراد معاوية رضي الله عنه أن يستعمل عبد الرحمن بن خالد فقال: كيف تعمل؟ قال: اعمل برأيك ما لم يجاوز الحزم فإن جاوزه عملت برأيي، فولّاه. حثّ الحاكم على الصّلح فيما يشتبه كتب عمر رضي الله عنه، إلى معاوية: عليك بالصلح ما لم يبن فيه فصل القضاء، وكتب إلى أبي موسى الأشعري: الصلحجائز بين المسلمين إلا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا. وصالح ابن الزيات عاملا على مال فطالبه به فقال: أظلم وتعجيل؟ فقال ابن الزيات: أصلح وتأجيل؟ من قطع الحكومة بالتهوّر ولي أعرابيّ ناحية فخطب: ألا أني لا أوتي بظالم ولا مظلوم إلا أوجعتهما عقوبة، فتعاطى رعيته بينهم الأنصاف ولم يترافعوا إليه في حق ولا باطل حذرا من عقوبته، وكان بعض الولاة إذا اشتبه عليه حكم، حبس الخصمين حتى يصطلحا. ويقول: دواء اللبس «1» الحبس. من عارض الحاكم في حقّ إدعاه عليه حتى أدركه منه قال ابن الزيات «2» لرجل ادعى عليه في مجلس الحكم وقال: غصبني وكيلك ضيعة لي وحازها إلى أرضك. فقال ابن الزيات: تحتاج فيما تقوله إلى شهود وبينة وأشياء كثيرة. فقال الرجل: الشهود هي البينة وأشياء كثيرة هي منك فأمر برد ضيعته، وناظره رجل في شيء فقال له: أخرج من داري. فقال: ما هي بدارك إنما هي دار أمير المؤمنين وأنت عبده فقال: نعم هي لأمير المؤمنين فأخرج منها صاغرا «3» ، فقال الرجل: قد بذلها أمير المؤمنين للعامة وجعلها مجمع الخصوم ومنصف المظلوم فلا أبرح إلا بنصفة، فقال: صدقت وأنصفه. وتظلّم رجل من وكيل كسرى بأنه أخذ ضيعة له فقال له كسرى: قد أكلت ارتفاعها أربعين سنة فدعه يأكله سنتين، فقال الرجل: فسلم ملكك إلى بهرام «4» جور يأكله سنة فقد أكلته سنين كثيرة، فأمر بضرب رقبته فقال: أيها الملك دخلت بمظلمة وأخرج بمظلمتين فأمر برد ضيعته وأرضاه، وادعى رجل على آخر بحضرة قاض فطالبه بالشاهدين وقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 مالك سبيل إلى ما تدعيه إلا بشاهدين، فقال الرجل: متمثلا بهذا البيت: وبايعت ليلى في خلاء ولم يكن ... شهودي على ليلى عدول مقانع فتلطف القاضي في أخذ إقرار المدعي عليه وألزمه الحقّ. من انقاد للحكم من السّلاطين قد تقدم خبر عمر مع أبيّ ابن كعب رضي الله عنهما وكان عليّ رضي الله عنه تحاكم مع رجل، فشهد له قنبر، فقال شريح: يا أمير المؤمنين خادمك وفي عداد عيالك لا شهادة له، فقال علي وما أنت وهذا، اعتزل عملنا، فعزله، ثم رأى أنه أصاب، فردّه من الغد. وجلس المأمون يوما للمظالم فدفع إليه رقعة فيها مظلمة من أمير المؤمنين فقال لصاحبها: ما ظلامتك؟ قال: ثلاثون ألف دينار. إشترى سعيد وكيلك مني جواهر بها ولم يوف ثمنها لي. فقال: كلامك هذا محتمل يجوز أن يكون وفره ويجوز أن يكون اشتراه لنفسه ويجوز أن يكون أخذ مني الثمن ولم يدفعه إليك، فقال الرجل: أنت أولى «1» الناس بالإنصاف، إحملني على سنّة النبي صلى الله عليه وسلم البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه وقد عدمت البيّنة «2» ، فقال: نعم، ودعا بيحيى قاضيه فلما دخل قال له: اقض بيننا فقال: لا أفعل. إنك لم تجعل دارك مجلس قضائي فقال: قد جعلت، فأذن للعامة فخرج المأمون ومعه غلام يحمل مصلّى فطرحه له فقال يحيى: لا تأخذ على خصمك شرف المجلس فدعا له بمثله فادعى الخصم، فقال يحيى: ألك بيّنة؟ قال: لا فابعد البيّنة. قال يمينه فقال للمأمون: أتحلف؟ قال: نعم فاستحلفه فحلف ثم قال المأمون: أدفع إليه ما ادعاه والله ما حلفت فجرة ولكن خوفا من الرعية لئلا يقدروا أني منعته بالاستطالة. نهي الحاكم عن قبول الهدية قال الله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ «3» وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لعن الله الراشي والمرتشي. وتخاصمت امرأة من قريش ورجل إلى عمر وكانت المرأة اهدت إلى عمر فخذ جزور «4» وقالت أفصل القضاء بيننا كما يفصل الجزور، فقضى عمر عليها وقال: إياكم والهدية. وقال بعضهم كنت في طريق مكة فإذا أعرابي يختصم إليه الناس فيقضي بينهم بالحق فلما تفرقوا قلت: هل أخذت العلم عن أحد؟ قال: لا. قلت: فما هذا الفهم؟ قال بوفق الله. قلت: أرأيت لو تحاكم إليك اثنان فأهدى إليك أحدهما أكنت تقضي له فقال: إذا لا ينزل التوفيق وقد تقدم من ذلك أخبار في باب الولايات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 من مال إلى أحد الخصمين لأجل هدية اختصم رجلان إلى حاكم فدنا منه أحدهما وقال: قد وجهت إلى دار القاضي فراريج كسكرية وحنطة بلدية وشهدة رومية فقال القاضي بصوت رفيع: قم يا بارد إذا كانت لك بينة غائبة فانتظرها ليس هذا مما يسار فيه، وقيل: الحاكم شيطان ونعم الرقى الرشا. وتحاكم رجلان إلى المغيرة الثقفي قاضي الحجاج فاهدى أحدهما منارة والآخر بغلة فرأى صاحب المنارة ظلع «1» القاضي مع صاحبه فأراد أن يذكر القاضي فقال: أمري أضوأ عند القاضي من سراج على منارة عظيمة ففطن القاضي لقوله فقال: اسكت فإن البغلة رمحت المنارة فأطفأت نورها. وقال قاض: إذا ما صبّ في القنديل زيت ... تحوّلت القضية للمقندل حثّ متحكّم على اعطاء الرشوة قال ابن طباطبا: يا خليلي يا أبا الغيث درّك ... نصب القاضي لك اليوم شرك طلب البرطيل فابذله له ... يسكت القاضي وإلّا ذكرك لا يهولنّك دنيّته ... أعطه من رشوة ما حضرك «2» المهجوّ بأخذ الرشوة ذكر أعرابيّ حاكما فقال: يقضي بالعشوة «3» ويطيل النشوة ويقبل الرشوة. قال ابن طباطبا في أحمد بن عثمان البري: وفينا عاملا عدل وجور ... هما حلفا انبساط وانقباض فوالى حربنا في وصف قاض ... وقاضينا عقاب ذو انقضاض واتفق أن وافى أصبهان عليلا، فاحتجب أياما وحضر فيل فكثرت النظارة عليه فمنع عنه الناس إلا ببذل. فقال ابن طباطبا: شيئان قد حار الورى فيهما ... بأصبهان الفيل والقاضي «4» ليس يرى هذا ولا ذا فكم ... من ساخط منّا ومن راض الفيل يرشى عند سنديه ... فأين سنديك يا قاضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 قال البسامي: إذا أهل الرشا صاروا إليه ... فأحظى القوم أوفرهم بضاعه «1» فلا رحم يقرّبهم إليه ... سوى الورق الصحبح ولا شفاعه وليس بمنكر هذا لديه ... لأنّ الشيخ أفلت من مجاعه قاض مستول على المواريث جاءت امرأة إلى قاض فقالت: مات زوجي وترك أبويه وولدا وامرأة وأهلا وله مال فقال: لأبويه الثكل، ولولديه اليتم، ولامرأته الخلف، ولأهله القلة، والذلة والمال يحمل إلينا حتى لا تقع بينكم الخصومة. المهجوّ من القضاة باللواطة «2» قال المأمون ليحيى بن أكثم يعرّض «3» به: من الذي يقول؟ قاض يرى الحدّ في الزناء ولا ... يرى على من يلوط من باس «4» فقال: يا أمير المؤمنين هو الماجن أحمد بن أبي نعيم الذي يقول: أميرنا يرتشي وحاكمنا ... يلوط والرأس شرّ ما راس لا أحسب الجور ينقضي وعلى ال ... أمة وال من آل عبّاس فقال: هذا ينبغي أن ينفى إلى السند، وقال آخر: ألا لله درّك أيّ قاض ... سبته المرد بالحدق المراض وقال عبدان: لنا قاض له وجه ... على أخذ الرشا عابس ولكن أيره أير ... يدقّ الرطب واليابس المهجوّ متهم بالابنة «5» أو الكشح «6» لما استولى الناصر على طبرستان، فوض إلى عبد الله بن المبارك القضاء وكان يرمى بالابنة فقال: يا أمير المؤمنين أنا أحتاج إلى رجال أجلاد يعينونني. فقال: قد بلغني ذلك وقال بعضهم: أنا أعرف للقاضي ... الذي يقضي بسامرّا غلاما أشقر اللون ... يجرر رمحه جرّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 يشدّ البغل في الخان ... ويلقى خرجه برّا وقالت امرأة لزوجها: لأشكّونك إلى القاضي. فقال الرجل: الحل على حرام ثلاثا إن لم أكن نكت القاضي. فولولت المرأة وذهبت إلى القاضي وقصّت عليه القصة. فقال: ارجعي إلى داره فقد كان عارما «1» في صغره فقالت: ناكك وربّ الكعبة. قال ابن عروس: وخبرت أنّك قاضي البلاد ... فسبحان من حكمه يعدل وكيف يدير أمر البلاد ... فتى أمر منزله مهمل كفى من تواضعه أنّه ... لسائسه أبدا أسفل المهجوّ متّهم بالجهل قال الصاحب في قاض: يخبط العشواء ويحكم حكم الورهاء «2» ويناسب أخلاق النساء. ورفع إلى المأمون في قاض أنّ فلانا يعضّ الخصوم، فوقّع ليشنق، ونحوه كان أحمد بن الخصيب إذا ضجر ممن يناظره رفسه فقال فيه شاعر يخاطب المتنصر: قل للخليفة يا ابن عم محمد ... أشكل وزيرك أنّه ركّال قد نال من أعراضنا بلسانه ... ولرجله عند الصدور مجال قال المصيصي: أفّ لقاض لنا وقاح ... أضحى بريئا من الصّلاح وليس في الرأس منه شيء ... يدور إلا أبو رياح من يحكم وهو الظالم قال شاعر: والخصم لا يرتجى النجاح له ... يوما إذا كان خصمه القاضي «3» وقال آخر: ومن المظالم أن ولّي ... ت على المظالم يا فزاره «4» وحكي أن ملكا خرج له خرّاج عجز الأطباء عن معالجته، فقال يوما: إنكم تغشونني، فإن داويتموني وإلا قتلتكم، فأجمعوا على أن يقولوا: إنّ دواءك أن تأخذ صبيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 من أبناء العشر، فيأخذ أحد أبويه رأسه والآخر رجليه وتذبحه على جرحك فتشرب دمه بطيب نفس منهما. وقالوا: قد تحققنا أنه لا يوجد. فقال: اطلبوا من يأتيني بابن هكذا فأمر فنادوا في البلدان. فاتفق أنّ رجلا كان إذا ولد له ولد وبلغ عشر سنين يموت لا محالة وكان فقيرا وكان له ابن شارف العشر. فقال لامرأته: تعالي نحمل هذا الابن إلى الملك ونأخذ المال، فإنّ هذا يموت لا محالة. فرضيا بذلك وحملاه إليه وأخذ أحدهما برأسه والآخر برجليه وأخذ الملك السكين فلما همّ بذبحه ضحك الصبي، فقال الملك: ممّ تضحك وأنت مقتول فقال: رأيت الصبي أجنى الخلق عليه، أمه ترضعه وتقيه بنفسها ثم أبوه يحميه وإذا كبر فالملك يتولى أمره وقد رأيتكم ثلاثتكم اجتمعتم على قتلي، فإلى من المشتكى؟ فتوجع الملك لقوله ورمى بالسكين فانفجر جرحه لما دهمه وبرأ، فخلى سبيل الصبي وتبّناه، وقال رجل لقاض لئن هملجت «1» إلى الباطل إنك عن الحق لقطوف. النّهي عن التعرّض للقضاة قيل: لا تعادوا القضاة فيختاروا عليكم الأقاويل ولا العلماء فتضع عليكم المثال. المفتتن منهم بامرأة تحاكمت إليه خاصمت امرأة صبيحة زوجها إلى الشعبيّ «2» ، فمرت بالمتوكل الليثيّ في منصرفها وقد قضى لها على زوجها، فقال: فتن الشعبيّ لمّا ... رفع الطرف إليها فتنته ببنان ... وبخطّي حاجبيها فقضى جورا على الخصم ... ولم يقض عليها كيف لو أبصر منها ... نحرها أو ساعديها «3» لصبا حتى تراه ... ساجدا بين يديها «4» فولع الناس بهذه الأبيات وتناشدوها، حتى اضطر الشعبيّ إلى الاستعفاء من القضاء. وقدّم رجل امرأة حسنة النقيبة «5» إلى القاضي فقال: يعمد أحدكم إلى المرأة الكريمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 فيتزوجها ثم يسيء إليها. ففطن الرجل بحال القاضي فعمد إلى نقابها فاسفره فرأى القاضي وجها وخشا «1» فحكم عليها. وقال: قومي لعنك الله كلام مظلوم ووجه ظالم، فقال زوجها: قومي إلى رحلك أم حاتم ... قد كدت تسبين فؤاد الحاكم بنطق مظلوم ووجه ظالم طرف من سخافة القضاة اختصم رجلان إلى قاض، كلّ واحد منهما يقول: امرأتي أحسن فتقامرا وأحضرهما لديه. فقال القاضي لاحدهما: لأن أنيك امرأتك في استها أحبّ إليّ من أن أنيك امرأته في فرجها. وتقدّم رجل مع خصمه إلى قاض، وقال: هذا جاء عام الأول فخرق ثيابي وضربني، وجاء العام وفعل ذلك أيضا. فقال القاضي: هذه سنّة قد جرت له كل سنة. وجاءت امرأة مع زوجها إلى قاض وقالت: أنه لا يضاجعني، فقال الرجل: أنا عنين، فقالت المرأة: إنّه يكذب، فقال القاضي أخرج أيرك لأمرسه فتناول القاضي غرموله وأخذ يمرسه ولا يتحرك وكان القاضي أعور دميما فقالت المرأة: أيها القاضي لو رأى ملك الموت وجهك لمات من قبحه، إدفعه إلى غلامك ليمرسه وكان غلامه صبيحا فقال القاضي: يا غلام تعال واغمز أيره، فجاء الغلام وأخذه فما طفق أن امتدّ واشتدّ، فقالت: أعط القوس باريها «2» ، فقال القاضي: يا كشحان دونك وامرأتك ولا تطمع في نيك غلمان القضاة. وجاءت امرأة إلى قاض وقالت: إن زوجي إذا قدمت إليه المائدة قلب الخوان وأكل على ظهرها. فقال القاضي: دعيه يأكل كيفما أراد. فقالت: إنما عنيت أنه لا يأخذ في الطريق المستوي. فقال: دعيه يمشي كيف شاء، فالأرض كلها لله. فقالت: إنما عنيت أنه ينيكني في استي يا أحمق، فقال: طيب والله فقالت: قطع الله ظهرك من بين القضاة. وكان بحمص قاض يحكم اليوم في شيء بحكم، وفي غد يحكم في مثله بخلافه، فقيل له في ذلك فقال: القضاء بخوت «3» وأرزاق، من رزق شيئا أخذه. وأراد أعمى أن يتزوج بامرأة، فأحضرها مجلس القاضي فقال: كم مهرها؟ قال: أربعمائة، فقال للمرأة: كشفي عن وجهك، فكشفت فقال إنها تساوي أكثر من ذلك، فإنها صبيحة، فقال الأعمى: إن كان للقاضي زيادة فبارك الله له فيها فإنه أولى بها، وجاءت امرأة القاضي مع زوجها تطلب نفقتها منه، فقال الزوج: أيها القاضي هذه مغنية ومتى كانت نيّاحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 فنوّاحة، وليس لي كسب. فقال للمرأة: التزمي نفقته يا فاعلة. فقالت: وهل في الحكم هذا؟ قال: نعم لو كنت مكانه لنكتك وأخذت جذرك، فقال الرجل فديتك يا جوهر القضاة فافعل الساعة. وكان بلال بن أبي بردة أول من جار في الحكم وكان يتقاضى إليه الرجلان فيقضي لأحدهما بلا بينة ويقول: وجدته أخفّ على قلبي من صاحبه. من ردّ القاضي شهادته فعارضه بما عدل به شهد معلم عند سوّار «1» فقال: لا أجيز شهادتك. قال: ولم؟ قال: لأنك تأخذ على كتاب الله تعالى الأجرة، فقال: وأنت تأخذها على القضاء، فقال: أنا أكرهت، فقال: هب أنك مكره على القضاء هل أكرهت على أخذ الأجرة، فأجاز شهادته. وشهد آخر عند سوار بسبة. فقال: من أين علمت؟ قال من حيث علمت أنك سوار بن عبد الله. وشهد قوم عند شبرمة بقراح فيه نخل فسألهم كم فيه من جذع؟ قالوا: لا ندري، فأراد أن يرد شهادتهم فقال أحدهم: أيها القاضي كم من أسطوانة في هذا المسجد؟ فقال: لا أدري. فقال: كيف وأنت تحكم فيه منذ كذا سنة، فاجاز شهادتهم. من ردّ القاضي شهادته بلطف قال المهدي لشريك وعنده عيسى بن موسى: إن شهد عندك هذا هل تقبل شهادته؟ وأراد أن يوقع بينهما. فقال شريك من شهد عندي سألت عنه فإن زكّي أجزت شهادته وعيسى لا أسأل عنه غير أمير المؤمنين فإن زكاه قبلته وهذا عكس على السائل. كما حكى عن أبي حنيفة رحمه الله قال: كنا نأتي حمادا فلا ننصرف عنه إلا بفائدة. فقال يوما: إذا وردت على أحدكم مسألة معضلة «2» فليجعل جوابها منها فما رأيت قوله شيئا. حتى دخلت يوما دار المنصور، فخرج الربيع وسألني ممتحنا أفتني في رجل أمرني أمير المؤمنين بقتله، أعليّ في طاعته حرج، فذكرت قول حماد فقلت: أليس يأمرك أمير المؤمنين بحق رآه قال: نعم. فقلت: افعل فكل حق يأمرك به لا حرج عليك فيه. وشهد الفرزدق عند قاض فقال: قد أجزنا شهادة أبي فراس فزد في شهودك فلما انصرف الفرزدق قيل له: قد رد شهادتك فقال: وما يمنعه من ذلك وقد قذفت ألف محصّنة «3» . وأتى وكيع أياس بن معاوية ليشهد عنده فقام إليه وقال: ما جاء بك يا أبا المطرف؟ قال: أقيم شهادة لجار لي فقال: حاشاك أن تشهد كما يشهد الموالي والتجار والسقاط. قال صدقت فانصرف عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 من ردّت شهادته لبلهه «1» قال سوار: لا أعلم أحدا أفضل من عطاء السلميّ ولو شهد عندي بفلس ما أجزت شهادته لأنه ليس بحازم. وقال كثير من الفقهاء: لا نقبل شهادة الوهم والأبله لا شهادة له. من عارض من الخصوم الحاكم في الشاهد عليه فردّ شهادته شهد رجل عن شريح فقال المشهود عليه: أتقبل شهادته وإن أحبّ الأشياء إليه الخبز واللحم، فتوقف في إمضاء شهادته. فقيل له: لم توقفت؟ فقال: أنه يعني أنه يشهد بأكلة. وشهد رجل عند سوّار بمال على آخر فقال: سوّار تارس أم رامح؟ فقال تارس، فقال ذاك شرّ له سأعيد المسألة عنه. وإنما أراد أنه مأبون فتعجّب الحاضرون من حيلة الرجل وفطانة سوّار لمراده. الممتنع من إقامة شهادة زور استشهد محمد بن الفرات أيام وزارته علي ابن عيسى بغير حق، فلم يشهد له. فلما عاد إلى بيته كتب إليه: لا تلمني على نكوصي عن نصرتك بشهادة زور فإنه لا اتفاق على نفاق ولا وفاء لذي مين «2» واختلاف، وأحرى بمن تعدّى الحق في مسرتك إذا رضي أن يتعدى الباطل في مساءتك. وكان المتنبّي أشار إلى هذا المعنى بقوله: لقد أباحك غشا في معاملة ... من كنت منه بغير الصدق تنتفع شهود زور قال سهل بن دارم: كان بالبصرة شيوخ يشهدون بالزور وشرط بعضهم درهم وآخرون يشهدون وشرطهم أربعة. وآخرون شرطهم عشرون درهما. فسألت عن ذلك، فقال: أصحاب الدرهم يشهدون ولا يحلفون، وأصحاب الأربعة يشهدون ويحلفون، وأما أصحاب العشرين فيشهدون ويحلفون ويبهتون. وكان شيخ في المعدلين يشهد بطفيف «3» يهدى إليه فجاءه رجل بدرهمين وسأله شهادة فقال: ما ضربت المشط بأقل من خمسة ولكني أسامحك. قال الشاعر: ما للعدول أراني الله جمعهم ... في مرجل مطبق في جوف تنّور قوم إذا غضبوا كانت سيوفهم ... قطع الشهادة بين القوم بالزّور قال عبد الصمد المعدل «4» : وكيف تخشى شهادات يقوم بها ... ثلاثة شاهدا زور ومجنون «5» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وقال بعضهم: الناس كلّهم عدول إلا العدول. وصف قلانسهم قال المصيصي: كأنّ دنية عليها ... غراب نوح بلا جناح وقال آخر: ترى قلانسهم كالرمح طعنتها ... تخفى جراحتها في جنب مغرور الشهادة على الزنا حقّ الشهود على الزنا أن يكونوا أربعة ذكورا يصرّحون ولا يكنون لقوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً «1» (الآية) ، وحضر أبو بكرة وزياد مع غيرهما فشهد ثلاثة على المغيرة بن شعبة «2» بالزنا عند عمر رضي الله عنه. فلمّا أقبل زياد قال عمر: إني أرى لك وجها وضيئا وأرجو أن لا يفضح الله بك رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت أفخاذا مجتمعة ونخيرا يعلو ويسطع ولا أعلم ما وراء ذلك فضرب عمر أبا بكرة وصاحبيه الحدّ. التعريض بالشهادة بذلك استشهدوا أعرابيا على رجل وامرأة فقال: رأيته قد تقممها «3» يحفزها بمؤخرها ويجذبها بمقدمها ويخفى على المسلك. وقال آخر: رأيته قد تبطنها ورأيت خلخالها سافلا وسمعت نفسا عاليا ولا علم لي بشيء بعد ذلك. وشهد رجل على آخر فقال الحاكم: إنّك قد رأيته وهو يدخل ويخرج فقال: لو كنت جلدة استها ما أمكنني أن أشهد به كذلك. تثبّت الحاكم في الإقرار بما فيه حدّ أتى ما عز بن مالك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني زنيت، فقال: لعلك مسست أو لمست أو غمزت، فقال: لا بل زنيت. فأعادها عليه ثلاث مرات فلما كان في الرابعة رجمه. وأتى أبو الدرداء «4» رضي الله عنه بامرأة قد سرقت، فقال: أسرقت قولي: لا. وأتى زياد بلصّ وعنده الأحنف فانتهره فقالوا: صدق الأمير. فقال الأحنف: الصدق أحيانا معجزة. فقال زياد: جزاك الله خيرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 المقرّ عند الحاكم بجهله قال محمد بن رباح القاضي: تقدم إليّ قثم مع ابن أخيه، فادعى عليه خمسة آلاف دينار. فقال قثم: نعم له علي ذلك لكن من أي طريق؟ فقلت: قد أقررت له بالمال فإن شاء فسّر الوجه، وإن شاء لم يفسر. فقال ابن أخيه: أشهد أنه بريء منها إن لم أثبتها فقلت: وأما أنت فقد أبرأته إن لم يثبت ذلك فما رأيت أضعف منهما في الحكم. وجرى في كلام رجل عند حاكم ما فيه إقرار، فقضى عليه، فقال أتقضي عليّ بغير شاهد؟ فقال: قد شهد عليك من تقبل شهادته عليك، من أبوه أخو عمك. وقدم رجل غريما له إلى قاض فقال: لي على هذا ألف درهم، فقال المدعي عليه: صدق ولكن سله أن ينظرني أياما فلي عقار ومال غائب إلى أن أبيع العقار وأسترد المال الغائب فادفعه إليه، فقال المدّعي: كذب ماله قليل ولا كثير وإنما يريد أن ينفلت منّي. فقال الخصم: اشهد أيها القاضي قد أقرّ بعسرتي «1» فقال القاضي: صدقت وخلّى سبيله «2» . ذمّ موالاة باب القضاة قيل: إذا رأيت الرجل على باب القاضي من غير حاجة فاتهمه، وكتب بعضهم إلى عامل له: ابعث إليّ بمائة رجل كلهم يستحقون القتل لأجرب عليهم سيوفا ابتعتها فإن لم تجدهم في حبسك فتمّم من أصحاب القاضي فإنهم يستحقون القتل. واستعان رجل بالمأمون أيام الرشيد في أن يقبل شهادته فوقّع في قصته من رام الشهادة بمعونة السلاطين فليقمها على قضاة الشياطين. وقال يحيى بن أكثم «3» للمأمون: يا أمير المؤمنين إن فلانا يلتمس أن أقبل شهادته، فقال: يا يحيى قد أسقط على لسانه عدالته. (4) ومما جاء في الحجاب والحجّاب والغلمان الحثّ على تسهيل الإذن قال ميمون بن مهران: كنت عند عمر بن عبد العزيز فقال لآذنه: من بالباب؟ قال: رجل أناخ الآن. زعم أنه ابن بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن له، فلما دخل قال: حدّثني فقال: حدثني أبي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ولي شيئا من أمور المسلمين ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 حجب عليه، حجب الله عنه يوم القيامة، فقال عمر رضي الله عنه لحاجبه: الزم بيتك فما رئي بعدها على بابه حاجب. وقال: لا شيء أضيع للمملكة وأهلك للرعية من شدّة الحجّاب للوالي، ولا أهيب للرعية والعمال من سهولة الحجاب. لأن الرعية إذا وثقوا بسهولة الحجاب أحجموا عن الظلم، وإذا وثقوا بصعوبته هجموا على الظلم. وقيل: يحجب الوالي لسوء فيه أو لبخل منه ثم أنشد: والسّتر دون الفاحشات ولا ... يلقاك دون الخير من ستر وصايا الحجّاب قال زياد لحاجبه: أني ولّيتك هذا الباب وعزلتك عن أربع، هذا المنادي إذا دعاني إلى الصلاة فلا سبيل لك عليه، وعن طارق ليل فسر ما جاء به ولو جاء بخير ما كنت من حاجته في ذلك الوقت، وعن هذا الطبّاخ إذا فرغ من طعامه فإن الطعام إذا أعيد عليه الطعام فسد، وعن رسول صاحب الثغر «1» فإنه إن أبطأ ساعة ربّما يفسد أمر سنة. ولما استخلف المنصور ولي الخصيب على حجابته فقال له: إنك بولايتي عظيم القدر وبحجابتي عريض الجاه. فبقها على نفسك ابسط وجهك للمستأذنين وصن عرضك عن تناول المحجوبين فما شيء أوقع في قلوبهم من سهولة الحجاب والأذن وطلاقة الوجه. وقال الرشيد لحاجبه: احجب عنّي من إذا قعد أطال وإذا سأل أحال ولا تستخفنّ بذي الحرمة وقدّم أبناء الدعوة. الحثّ على تشديد الأذن قال أزدشير لابنه: لا تمكن الناس من نفسك، فاجرأ الناس على السباع أكثرهم معاينة لها. وقيل: لا بد للسلطان من وزعة «2» ، وقيل لبعض السلاطين: لم لا تغلق الباب وتقعد عليه الحجاب فقال: إنما ينبغي أن أحفظ أنا رعيتي لا أن يحفظوني. الحثّ على إصلاح الحاجب والبوّاب ووصف ما يجب أن يكونوا عليه من الأحوال قال يزيد بن المهلب لابنه: استظرف الكاتب واستعقل الحاجب. وقال عبد الملك لأخيه: تفقد كاتبك وحاجبك وجليسك فالغائب يخبره عنك كاتبك والوافد عليك يعرفك بحاجبك، والخارج من عندك يعرفك بجليسك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وقال يحيى بن المعلى: كن على منهاج معرفة ... إن وجه المرء حاجبه «1» فبه تبدو محاسنه ... وبه تبدو معايبه وقال آخر: ولبّ المرء يعرف بالغلام «2» الممدوح بسهولة الحجاب سهل الحجاب مؤدّب الخدّام، وقال آخر: يلوذ به راج «3» وخاش «4» وكلّهم ... له مدخل سهل عليه ومخرج وقال آخر: فبابك ألين أبوابهم ... ودارك مأهولة عامره وكلبك آنس للمعتفين ... من الأم بابنتها الزاهره «5» من طلب تسهيل الأذن من الزوّار وعاتب قدم أديب على أمير فكتب رقعة ودفعها إلى حاجبه ليوصلها، وفيها: إذا شئت سلّمنا فكنّا كريشة ... متى تلقها الأرياح في الجوّ تذهب فقال للحاجب: قل له قد خففت جدا فكتب أخرى وفيها: وإن شئت سلّمنا وكنّا كصخرة ... متى تلقها في حومة الماء ترسب فقال للحاجب: قل له قد ثقّلت جدا فكتب أخرى وفيها: وإن شئت سلّمنا فكنّا كراكب ... متى يقض حقا من لقائك يذهب قال: أما هذا فنعم وأذن له، قال أبو تمّام: مالي أرى القبة الفيحاء مقفلة ... عنّي وقد طالما استفتحت مقفلها كأنها جنّة الفردوس معرضة ... وليس لي عمل زاك فأدخلها قال جعفر المصري: فتفضّل علي بالإذن إن جئت فإني ... مخفّف في اللقاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 ليس لي حاجة سوى الحمد والشكر ... فدعني أقرئك حسن الثناء من ترك الزيارة لصعوبة الحجاب أتى أبو الدرداء «1» رضي الله عنه باب معاوية فاستأذن عليه فلم يؤذن له فقال: من يغش «2» سدة السلطان يقم ويقعد ومن وجد بابا غلقا وجد إلى أخيه بابا فتحا. فعاد عنه ولم يدخل بعد ذلك إلى سلطان. قال محمد بن عمران: سأترك هذا الباب ما دام إذنه ... على ما أرى حتى يخفّ قليلا إذا لم نجد يوما إلى الإذن سلّما ... وجدنا إلى ترك المجيء سبيلا قال أبو سليمان الضرير: من أراد السلام ليس سواه فلماذا يذلّ عند الحجاب؟ سأقعد في بيتي فإني أميره ... وآخذ أمري مكرها باشدّه فأبوابك اسددها عليّ بأسرها ... فمثلي لا يرضى بهذا لعبده «3» وحجب بعض الهاشميين فرجع مغضبا فردّ فلم يرجع، وقال: ليس بعد الحجاب إلا العذاب، لأن الله تعالى يقول: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ «4» . هجاء من حجب تعريضا: ولم جئت مشتاقا على بعد شقّة ... إلى غير مشتاق ولم ردّني بشر وما باله يأبى دخولي وقد رأى ... خروجي من أبوابه ويدي صفر «5» قال الخوارزمي «6» : أيا عمرو رويدك من حجاب ... فلست بذلك الرجل الجليل ولا تبخل بهذا الوجه عنّا ... فليس بذلك الوجه الجميل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 من حجب فشتم وهجا بالبخل قال مالك بن طوق «1» : دخل عليّ يوما مجنون ونحن نأكل، فأكل معنا ثم جاء يوما آخر فحجب فرآني يوما مع أماثل البصرة فقال: عليك إذنا فإنا قد تغدّينا ... لسنا نعود وإن عدنا تعدّينا يا أكلة سلفت أبقت حرارتها ... داء بقلبك ما صمنا وصلّينا «2» فما أتى عليّ يوم أشد منه حزنا. وقال آخر: كلما جئناك قالوا ... نائم غير مفيق لا أنام الله عينيك وإن كنت صديقي وقال بعض البغداديين: حجابك الصعب سهل ... إذا دهتك مصيبه فلا عدمت رزايا ... مطيعة مستجيبه من يتّخذ حاجبا مع سوء حاله قال بعض الشعراء: يا أميرا على جريب من الأر ... ض له تسعة من الحجّاب «3» قاعد في الخراب يحجب عنه ... ما رأينا بحاجب في خراب تخويف من يشدّد الحجاب مرّ زاهد ببعض القصور، ورأى حجّابا على بابه فسأل عنه، فقيل هو لسالم بن فلان، رجل كثير المال عريض الجاه وقد مرض فاحتجب عن الناس، فقال: وما سالم من وافد الموت سالما ... وإن كثرت حجّابه وكتائبه ومن كان ذا باب منيع وحاجب ... فعمّا قليل يهجر الباب حاجبه «4» هجاء بوّاب: سأهجر بابا أنت تملك أمره ... ولو كنت أعمى عن جميع المسالك فلو كنت بوّاب الجنان تركتها ... ويمّمت عنها مسرعا نحو مالك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 قال ابن الحجّاج «1» : ففي است من تحجبه والذي ... توصله أيضا وتعنى به المظهر رضاه بصعوبة الأذن استأذن أبو سفيان على عثمان رضي الله عنهما فحجبه فقيل له: يحجبك أمير المؤمنين فقال: لا عدمت من قومي من إذا شاء حجبني. وقال أبو العيناء للقاسم بن عبيد الله: لا أعدمني الله من حجابك والوقوف ببابك. قال أبو تمّام: ليس الحجاب بمقص منك لي أملا ... إن السماء ترجّى حين تحتجب وقال آخر: إنيّ لأغتفر الحجاب لماجد ... أمست له منن عليّ رغاب فالحرّ مبتذل النوال وإن بدا ... من دونه ستر واغلق باب ذكر من لا يحجب قال شاعر: من النّفر البيض الذين إذا انتموا ... وهاب رجال حلقة الباب قعقعوا وقال آخر في ضده: قوم إذا حضر الملوك وفودهم ... نتفت شواربهم على الأبواب من اعتذر من السّلاطين عن الحجاب أتى رجل مسترفد باب معن فحجبه فكتب إليه: إذا كان الجواد له حجاب ... فما فضل الجواد على البخيل فوقّع تحته: إذا كان الكريم قليل مال ... ولم يعذر تستّر بالحجاب كتب إلى مطيع «2» بن أياس حمّاد الراوية «3» : هل لذي حاجة إليك سبيل ... لا يطيل الجلوس في من يطيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 فلما قرأ البيت كتب إليه: أنت يا صاحب الكتاب ثقيل ... وكثير من الثقيل القليل وقيل: الركوب إلى باب السلطان بعد الظهر ثقل وسوء أدب، وكتب بعض السلاطين إلى صاحب له يزوره بالعشيّات: أعيذك من زورة بالعشيّ ... تحطّ وتذهب قدر النّبيل «1» فإمّا رجعت بذلّ الحجاب ... وأما حللت محلّ الثقيل النهي عن دخول الدور بغير إذن قال الله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها «2» وقال الله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ «3» وقال صلى الله عليه وسلم: من أطلع في بيت بغير أذن ففقئت عينه فهو هدر. وروي أن من اطلع في بيت فقد دمر، أي حكمه حكم الداخل وقال صلى الله عليه وسلم: إنما جعل الاستئذان لأجل النظر وقال عمر رضي الله عنه: من ملأ عينيه من قائمة بيت قبل أن يؤذن له فقد فسق. وقال صلى الله عليه وسلم: إذا استأذن أحدكم فلم يؤذن له فلينصرف. الحثّ على تأديب الغلمان قيل: لا يتأدب العبد بالكلام إذا وثق بأنه لا يضرب. وأمر محمد بن الجهم أن يضرب غلامه ضربة وجيعة فقيل له في ذلك فقال: الواحدة الوجعية تملأ صدره من التضاعيف وإذا كان خفيفا أحسن ظنه بالكثير قال المتنبي: اجعل عبيدك أوتادا تشجّجها ... لا يثبت البيت حتى يقرع الوتد قال الحكم بن عبد الله: العبد لا يطلب العلاء ولا ... يعطيك شيئا إلّا إذا رهبا مثل الحمار الموقع الظهر لا ... يحسن مشيا إلا إذا ضربا الحثّ على الإحسان إلى الخدم روي في الحديث: اتقوا الله في خولكم «4» فإنهم اشقاؤكم لم ينحتوا من جبل ولم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 ينشروا من خشب، أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون، واستعينوا بهم في أعمالكم فإن عجزوا فأعينوهم فإن كرهتموهم فبيعوهم، ولا تعذبوا خلق الله، وآخر وصية أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة وما ملكت أيمانكم. وقال أبو بكر رضي الله عنه. لا يدخل الجنّة سيّء الخلق. الحثّ على مداراتهم والتغافل عنهم سمع الموبذ في مجلس أنوشروان ضحك الغلمان، فقال: أما تهاب هؤلاء الخدم؟ فقال أنوشروان: إنما يهابنا أعداؤنا، وقال بزرجمهر: إنما نداري خدمنا ونحن ملوك على رعيتنا وخدمنا ملوك على أرواحنا، ولا حيلة لنا في التحرّز عنهم. وقيل: مما يدل على كرم الرجل سوء أدب غلمانه. وقيل: من حسن خلقه سوء أدب غلمانه. ذمّ مؤتمر لغلامه قال البحتري «1» : إن الشريف إذا أمور عبيده ... جازت عليه فأمره مرتاب «2» قال آخر: ولست أحبّ الأديب الظريف ... يكون غلاما لغلمانه من يحمد استخدامه قيل: أجود المماليك الصغار لأنهم أحسن طاعة وأقلّ خبثا منهم وأسرع قبولا. وقيل: استخدم الصغير حتى يكبر والعجمي حتّى يفصح وقال قتيبة: لا تشتر غلاما مولدا هو حرّ حتى تقوم بيّنة أنّه حرّ. ذكر الصّلحاء والأكياس من الخدم قال كسرى: العبد الصالح خير من الولد لأن العبد لا يرى استقامة أمره إلا بحياة سيّده، والابن لا يرى ذلك إلا بموت أبيه، وقال رجل لمملوك: اشتريك فأعتقك. قال: لا. قال: فلم؟ قال: كيف تتخذني عبدا بعد أن اتخذتني مشيرا. ومن خيار العبيد لقمان وبلال الحبشي. ووصف البوشنجي غلاما فقال: يعرف المراد باللحظ ويفهمه باللفظ، ويعاين في الناظر ما يجري في الخاطر، يرى النصح فرضا يجب أداؤه، والإحسان حتما يلزم قضاؤه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 إن استفرغ في الخدمة جهده خيّل إليه أنه بذل عفوه. أثبت من الجدار إذا استمهل وأسرع من البرق إذا استعجل. قال الرشيد لإسحاق الهاشمي: أخبرت أن لك غلاما فصيحا، فقال: ها هو بالباب. ثمّ دعاه فقال: إن مولاك قد وهبك لنا. قال: فما زلت وما تحولت. فقلنا: ما معنى قولك فقال: ما زلت لك منذ كنت غلامه وما تحولت عنه إذ صرت لك، فأمر له بصلة وأحسن إليه. من أعتق من صلحاء العبيد حكي أنّ ابن عمر رضي الله عنه مرّ براعي غنم مملوك فقال: أتبيعني شاة من غنمك؟ قال: ليست هي لي، فقال: أين العلل وأراد أن يمتحنه فقال: فأين الله؟ فاشتراه وأعتقه. فقال الغلام: اللهم إنك رزقتني العتق الأصغر فارزقني العتق الأكبر، وأعتق عمرو بن عقبة غلاما له كبيرا فقام إليه عبد صغير فقال: اذكرني يا مولاي ذكرك الله بخير فقال إنك لم تخرف، فقال: إن النخلة قد تجني زهوا قبل أن تصير معوا «1» قال: قاتلك الله لقد استعتقت وحسنت وقد وهبتك لواهبك، كنت أمس لي واليوم مني، سبي فيلسوف وأراد رجل شراءه فقال له لماذا يصلح؟ قال: للحرية. ذمّ العبيد قيل: ليس عبد بأخ لك. قال ابن سعد: العبد لو كانت ذؤابة رأسه ... ذهبا لكان رصاصة رجلاه قال المتنبي «2» : أنوك من عبد ومن عرسه ... من حكّم العبد على نفسه «3» فلا ترج الخير عند امرىء ... مرّت يد النخّاس في رأسه «4» أراذل الخدم كان لبعضهم مملوك يتشطر وكان إذا قال له صاحبه: هات الدواة، قال: مرحبا بجعفر البرمكي. وإذا قال: ناولني ثوبي. قال: قيصر يلبس وإذا قال: اغسل ثيابي. قال: يونس النبي كان خيرا منك. لبس القرع، وآدم عليه السلام لبس ورق التين، وأنت لا تلبس ثوبا وسخا. وإذا قال: اذهب إلى السوق. قال: خذلني «5» الله إن ذهبت حتى آكل كبابا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وأتناول شرابا، فجاء صاحبه يوما وهو بين شطار، فقال: من هؤلاء؟ قال: فتيان الخلد يحبونني قبل رؤوسهم. فقال: أنت حر لوجه الله إن شئت. فقال: يا أحمق لو شئت لهربت منذ زمان. فحمله إلى النخاس فقال له النخاس: ما اسمك؟ قال: كنيتي أبو علي. قال: ما تحسن؟ قال: أعلم الجراحات السقيمات والسليمات وأعلّم البنين الإجارة والبنات التقحب «1» . أنا أخبث من قرد وأنوم من فهد وأروع من ثعلب وأنقب من جرذ وأسرق من سنّور وألصّ من عقعق «2» . فقال النخّاس: بكم أبو علي الكثير المحاسن؟ فقال: بما شئت. فقال النخاس: بعشرين درهما، فقال صاحبه: إنه يقع عليّ بجملة، فقال العبد: انظر إلى أخي القحبة كانني خير من يوسف بن يعقوب وقد باعه إخوته بثمانية عشر درهما ومع أخي القحبة فضل درهمين، فباعه منه. فالتفت أبو علي إلى النخّاس وقال: أم من لا يندمك ألف قحبة. وقال الجاحظ: اشتريت عبدا بمائة درهم فاسترخصته فتعشيت سمكا ونمت فاستدعيت منه ماء، فقال: أسكت، تأكل السمك وتشرب عليه الماء ليتولّد منه كذا وكذا، وامتنع فلما اشتد عطشي قمت وشربت فقال: يا مولاي احمل معك حتى أشرب أنا أيضا. وقال رجل لعبد: أشتريك، فقال لا. لأني آكل فارها وأمشي كارها. وقيل لآخر: فقال: أنا إذا جعت أبغضت قوما وإذا شبعت أحببت نوما، وقال: رجل لغلامه: إذهب إلى المنزل واحمل الشمع لأعود به إلى البيت، فقال: أنا لا أجسر تعال معي حتى أحمله فانصرف معك. وذكر دغفل النسابة المماليك، فقال: هم عز مستفاد وغيظ في الأكباد، قال اليعقوبي: لي حمار وغلام ... وهما يغتلمان فحماري يعشق الأتن ... وذا رخو العجان لو بهذا عفّ هذا ... لاستراح الثّقلان الغلام المتعاطى معه قال رجل لغلام صديق له وقد شاخ ما حالك؟ قال: مولاي ينيكني منذ كذا وكذا سنة بالحجة، وذلك أنه يفعل في كل يوم، فإذا قلت يا مولاي قد شخت يقول يا بغيض من أمس إلى اليوم. وقال رجل لغلام له قد التحى: أخرج من داري، فقال: رد إلي ما أخذت منّي خدّا أملس وفقحة «3» ضيقة. وحلف رجل على غلام لأضربّنك، فاستعفاه الغلام، فقال: أتراني أعصي الله فيك، فقال: طالما عصيت الله في تعاطيك معي فخجل الرجل من أصحابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 المسيء إلى خدمه قال رجل لأعرابي: ما تصنعون في عبيدكم حتى يقال في الدعاء عليهم باعك الله في الأعراب؟ قال: نجيع كبده ونعري جسده ونطيل كدّه ونكثر جلده. اشترى أعرابي عبدا فقيل: أنه يبول في الفراش فقال: إن وجد في دارنا فراشا فليبل فيه. وكان لرجل عبد يأكل الحوّاري «1» ويطعمه الخشكار، فباعه فاشتراه آخر يأكل الخشكار ويطعمه الشعير، فباعه فاشتراه آخر يأكل الشعير ويطعمه النخالة فاستباعه «2» ، فاشتراه آخر كان يجيعه وإذا قعد بالليل وضع السراج على رأسه فلم يستبعه، فقيل له في ذلك فقال: أخشى إن باعني أن يضع المشتري الفتيلة في حدقتي «3» . من ذكر أنّ لا غلام له قال ابن الحجّاج: إذا قدموا خيلهم للركوب ... خرجت فقدمت لي ركبتي وفي جملة الناس غلمانهم ... وليس سواي في جملتي ولا لي غلام فادعو به ... سوى من أبوه أخو عمّتي والعرب تقول العبد من لا عبد له. ذمّ الخصيان قالت أعرابية لخصيّ: اسكت فمالك حزم الرجال ولا رقّة النساء. قال المتنبّي: لقد كنت أحسب قبل الخصي ... بأن الرؤوس مقر النهى فلما نظرت إلى عقله ... رأيت النّهى كلّها في الخصى قال أبو نعامة: لا تطلبنّ إلى خصيّ حاجة ... يوما فمالك عنده من خير «4» واكشف له عن رأس أيرك إنه ... لا شيء آثر عنده من أير «5» قال الجاحظ: كلّ حيوان ذي ريح منتنة فإنه متى خصي زال نتنه وصنانه «6» كالتيس والهر، غير الإنسان فإنه يزداد نتنا وصنانا. وكل شيء إذا خصي دقّ عظمه واسترخى لحمه إلا الإنسان فإنه تطول عظامه وتلتوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 النّهي عن إظهار العورة «1» لهم أجمع الفقهاء أنّ حكم الخصيان حكم الفحول فلا يجوز أن تكشف لهم النساء. ودخل معاوية رضي الله عنه على امرأته بنت بجدل ومعه خصيّ، فاستترت منه، فقال معاوية: إنه خصيّ فقالت: إن مثّلتك به لا تحلّ مني ما حرمه الله. وكان إسحاق بن مسلم العقيلي عند المنصور فمرّ به خادم وضىء الوجه فقال: أي ابنيك هذا؟ قال: هذا خادم في دار النساء. قال: أتشك أنّ شمّ هذا وضمّه أحب إلى المرأة من شمّك وضمّك فأتاه من ذلك أمر عظيم ومنعه بعدها من دخول الحرم. حمد اتخاذ الخصيان قيل لأبي العيناء: لم اتخذت خصيا أسود؟ فقال أمّا الأسود فلئلا أتّهم به، وأما الخصيّ فلئلا يتهم بي. قال أحمد بن يوسف في وصفهم: مبرؤن من الشعر اللبيد ومن ... حمل الأيور وإخراج المناتين «2» وكالنّساء إذا ما رمت خلوتهم ... وكالليوث لدى الهيجاء تحميني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 الحدّ الثالث في الإنصاف والظلم والحلم والعفو والعقاب والعداوة والحسد والتواضع والكبر وما يتعلق بذلك (1) فمما جاء في الإنصاف والظلم عزّ الحق وذلّ الباطل قال الله تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وقال تعالى: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ قال ابن المعتز إن للحق أن يتضح وللباطل أن يفتضح. وقيل: الحق حقيق أن ينهج سبيله ويتضح دليله. وقال المنتصر يوما: والله ما عز ذو باطل ولو طلع القمر من بين عينيه ولا ذل ذو حق ولو اتفق العالم عليه، وقيل: للباطل جولة ثم يضمحل وللحق دولة لا تنخفض ولا تذل وقيل: الحق أبلج والباطل لجلج. وقيل: الحق من تعداه ظلم ومن قصر عنه ندم. مدح العدل قال أنوشروان: العدل سور لا يغرقه ماء ولا تحرقه نار ولا يهدمه منجنيق «1» . وقيل: عدل قائم خير من عطاء دائم. وقيل: لا يكون العمران حيث لا يعدل السلطان. وقيل لحكيم: ما قيمة العدل؟ قال: ملك الأبد. وقيل: قيمة الجو رذل الحياة. وقيل: العدل يسع الخلق والجور يقصر عن واحد. ذمّ الظّلم والنهي عنه قال الله تعالى: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ «2» وقال: وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ «3» وقال الله تعالى: ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ «4» وقال الله تعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ «5» وقال: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «6» وفي الخبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 بئس الزاد إلى المعاد ظلم العباد. وقيل: الظلم مرتعه «1» وخيم وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: الظلم ظلمات يوم القيامة. ويقال: ليس شيء أقرب من تعيير نعمة وتعجيل نقمة من الإقامة على الظلم، وقيل: في قول الله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ «2» وعيد للظالم وتعزية للمظلوم. وقيل: على الظالم أن يكون وجلا «3» وعلى المظلوم أن يكون جذلا «4» . كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عامل له: إذا دعتك قدرتك على ظلم الناس فاذكر قدرة الله عليك. ودخل رجل على سليمان بن عبد الملك فقال: اذكر يا أمير المؤمنين يوم الأذان. فقال: وما يوم الأذان؟ قال: اليوم الذي قال الله تعالى فيه: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ «5» فبكى سليمان وأزال ظلامته. وكان حفص بن عتاب «6» لقيه الرشيد فأقبل عليه يسائله فقال في أثناء ذلك: نامت عيونك والمظلوم منتبه ... يدعو عليك وعين الله لم تنم «7» وقال عبد الله بن أبي لبابة: من طلب عزا بباطل أورثه الله ذلا بإنصاف وحقّ. التحذير من دعوة المظلوم قال النبي صلّى الله عليه وسلم: اتقوا دعوة المظلوم فإنها مجابة. وقال بعضهم: دعوتان أرجو إحداهما وأخاف الآخرى دعوة مظلوم أعنته وضعيف ظلمته. وقيل: احذروا دعوة المظلوم فإنها لينة الحجاب. وقال صلّى الله عليه وسلم اللهم إني أعوذ بك من أن أظلم أو أظلم. سرعة معاقبة الظّالم قال الله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ «8» وروي عن أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه أنه قال: ما أحسنت إلى أحد قط ولا أسأت إليه. فرفع الناس رؤسهم تعجبا فقرأ: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها «9» . سمع ابن عباس رضي الله عنهما كعب الأحبار يقول: من ظلم خرب بيته. فقال تصديقه في القرآن فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا، وقيل: الظلم أدعى شيء إلى تغيير نعمة وتعجيل نقمة وقال صالح المريّ: دخلت إلى دار المادراي فاستفتحت ثلاث آيات من كتاب الله تعالى إستخرجتها حين تذكرت الحال فيها قوله تعالى: فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا «10» وقوله تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ «11» وقوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا «1» فخرج إليّ أسود من ناحية الدار. فقال: هذه سخطة؟ المخلوقين فكيف سخطة وروى جعفر بن محمد عن أبيه قال: إذا أراد الله أن ينتقم لوليه انتقم من عدوه بعدوه وإذا أراد الله أن ينتقم لنفسه انتقم بوليّه من عدوه. المتفادي من ظلم الضّعاف قال معاوية «2» : إني لاستحي أن أظلم من لا أجد له ناصرا عليّ إلا الله. وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: إنّ أبغض الناس إليّ أن أظلم من لم يستعن عليّ إلا بالله. أفحش الظلم ظلم الضعيف قال شاعر: وإني لأعطي النّصف من لو ظلمته ... أقرّ وطابت نفسه لي بالظّلم قيل: من عمل بالعدل في من دونه رزق العدل ممن فوقه. نهي الوالي والقادر عن الظلم قيل: لا ينبغي للإمام أن يكون جائرا ومن عنده يلتمس العدل، ولا للعالم أن يكون سفيها ومن عنده يلتمس العلم والحلم. وقيل: إذا ظلمت من دونك عاقبك من فوقك، قال ابن الرومي «3» : وإن الظلم من كلّ قبيح ... وأقبح ما يكون من النبيه «4» وله: ارهب من الأقران قرنا ما له ... إلا العواقب والعقوبة ناصر والظلم من ذي قدرة مذموم التسكين من المظلوم بما له من العقبى «5» قيل: في قوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ «6» أعظم تعزية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 للمظلوم وابلغ تحذير للظالم على مدارجة العقوبة وإن تنفست مدته. وقيل لعمر رضي الله عنه: كان الرجل في الجاهلية يظلم فيدعو على من ظلمه فيجاب عاجلا ولا نرى ذلك في الإسلام، فقال: كان هذا جزاء بينهم وبين الظلم وإنّ موعدكم الآن الساعة والساعة أدهى وأمرّ. وقيل: إنما تندمل من المظلوم جراحه إذا انكسر من الظالم جناحه. الظلم في أخذ الأرض قال النبي صلّى الله عليه وسلم: من ظلم قيد شبر من أرض طوقه من سبع أرضين يوم القيامة. قال أحمد بن واضح: يا قابض الضّيعة من نسوة ... ضعفا وإيتام لسلطانه يجأرن بالليل إلى خالق ... إغاثة الملهوف من شأنه لا يأخذ الضيعة ذو قدرة ... يريد أن تبقى لصبيانه ومما يقرب من السخف في هذا أن رجلا كان له قطعة من أرض بجنب أرض لرجل، فكان يضم كل سنة قطعة منها إلى أرضه. فقال له يوما: ما هذا النقصان في أرضنا؟ فقال: أما سمعت قول الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها «1» قال: فما هذه الزيادة في أرضك؟ قال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، قال: فمن أين أوتيت الفضل وأوتيت النقص في ذلك؟ فقال: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم. التحذير من معاونة الظالم روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: من أعان ظالما سلطه الله عليه. وقال المأمون لبعض ولاته: لا تظلم لي فيسلطني الله عليك. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس للظالم عهد فإن عاهدته فانقضه فإن الله تعالى يقول: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ «2» . وسمعت بعض العلماء يقول: ما ظلمت أحدا قطّ لغيري فإنى إذا ظلمت ظلمت نفسي. ويشبه ذلك ما يحكى أن عاملا عزل عن عمله بغيره، فقال المولى لمن ولى مكانه: أعرني دواتك لأكتب منها حرفا فقال: لا فإني لا أستحل معاونة الظلمة، ولا أحب أن يكتب من دواتي ظالم. فقال: ألم تك تكتب منها آنفا؟ فقال: إني أحرق بالنار نفسي لنفسي ولا أحرقها لغيري. وقيل لأبي مسلم صاحب الدولة: قد قمت مقاما لا يقصر بك عن الجنة في إزالة دولة بني أمية وإقامة شعار بني العباس. فقال: لخوفي من النار أولى من طمعي في الجنة فإني أطفأت من بني أميّة جمرة ألهبت بها نيرانا لبني العباس وسأحرق بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 المتفادي من أن يظلم أو يظلم كان من دعاء النبي صلّى الله عليه وسلم إذا خرج من بيته: بسم الله وبالله أنّي أعوذ بك من أن أزل أو أضلّ أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل عليّ، وقال بعضهم: لنا عز يمنع من أن نظلم وحلم يمنع من أن نظلم. الموصوف بالظّلم قيل: فلان أظلم من حية لأنها لا تحفر الجحر بل تسلب غيرها جحره فتدخله. ويقال أظلم من ذئب، قال: وأنت كذئب السوء إذ قال مرّة ... لعمروسه والذئب غرثان خاتل «1» أأنت الذي من غير شيء سببتني ... فقال متى ذا؟ قال ذا عام أوّل فقال ولدت العام بل رمت غدرة ... فدونك كلني ما هنا لك مأكل وقيل: أعدى من الدهر ومن التمساح ومن الجلندي وهو فيما قيل اسم الملك الذي قال الله تعالى فيه: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً «2» . وقال: أعرابي لئن هملجت إلى الباطل أنك عن الحق لقطوف. وقيل: الفتنة عرس الظالم. المتبجّح بالظّلم قيل لأعرابي: أيما أحب إليك أن تلقى الله ظالما أو مظلوما؟ فقال: ظالما قيل: ويحك ولمه؟ قال: ما عذري إذا قال لي: خلقتك قويا ثم جئت تستعدى، وقيل لأعرابي: ولد له ابن جعله الله برا تقيا فقال بل جعله جبارا عصيا يخافه أعداؤه ويؤمله أولياؤه. الممدوح بكونه مظلوما لمن هو دونه وقع الرشيد في قصة رجل: الشريف من يظلم من فوقه ويظلمه من دونه فانظر أي الرجلين أنت. قال محمود الورّاق: ما زال يظلمني وأرحمه ... حتى رثيت له من الظلم «3» وقال ابن الزهير: تحمّل بعض الظلم أبقى للأهل والمال. قال الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 ولا تحم من بعض الأمور تعزّزا ... فقد يورث الذّل الطويل تعزّز وقال الأحنف: كم جرعة من الظلم تجرعتها مخافة ما هو أعظم منها. الرخصة في المجازاة بالظلم قال الله تعالى في مدح ذلك: وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا «1» وقال تعالى: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ «2» وقال بعضهم لسلطان: إني وإن خشنت في المال فقد عذر الله المظلوم إذا جهر بالسوء طلبا للنصفة من ظالمه حيث قال: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم. وقال جرير: إنّي لا أبتدي، لكن أعتدي. من لا يبالي بأن يظلم قيل: أهون مظلوم سقّاء مروّب. وقيل: أهون مظلوم عجوز معقومة قال شاعر: وظلم النهشلي من السواء «3» من لا يبالي بأن يظلم قال أبو فراس «4» : وبعض الظالمين وإن تعدّى ... شهيّ الظلم مغفور الذنوب ولبعض الصوفية «5» : دع الحبّ يصلى بالأذى من حبيبه ... فكلّ الأذى ممّن يحبّ سرور تراب قطيع الشّاء في عين ذئبها ... إذا سار في آثارهنّ ذرور «6» وقال آخر: وقد يؤذى من المقة الحبيب تحسّر من ظلمه دنيء أو لئيم وتعزّيه في المثل لو ذات سوار لطمتني. قال الفرزدق: فوا عجبا حتّى كليب تسبّني ... كأنّ أباها نهشل أو مجاشع «7» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 قال أبو فراس: ما للرجال من الذي ... يقضى به الله امتناع ذدت الأسود عن الفرا ... ئس ثم تفرسني الضباع «1» قال أبو سعيد بن نوقة وقد أجاد ما شاء: ولا غرو إن يبلى شريف بخامل ... فمن ذنب التنّين ينكسف البدر اختيار ركوب القتل على التزام الظّلم قال محمد بن وهب: فتى يتّقي أن يخدش الذمّ عرضه ... ولا يتّقي حدّ السيوف البواتر «2» قال المتلمس: فلا تقلن ضيما مخافة ميتة ... وموتنّ بها حرّا وجلدك أملس قال أبو فراس: أرى ملء عيني الردّى وأخوضه ... إذا الموت قدّامي وخلفي المعايب «3» وله: والموت عند طروق الضّيم مورود قال ابن نباتة: لأصحبت الحياة إن صحبتني ... في الملمّات مهجة تستضام الممتنع من احتمال الظّلم قال الزبرقان: قد رامني الأقوام قبلك ... فامتنعت من المظالم قال خالد بن زهير: فإن كنت تبغي للظلامة مركبا ... ذلولا فإنّي ليس عندي بعيرها قال آخر: فلان لا يسأم خطّة الخسف ... ولا يحمل على مركب العنف قال: لا يعلف الضيم ذو مجد وذو شرف ... ولا يبيت بوادي الخسف مذموما «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وقال: كأنّه من حذار الظلم مجنون قال آخر: ولا ألين لغير الحق أسأله ... حتى يلين لضرس الماضغ الحجر وقد أحسن الذي قال: من ظلمني مرة فالله ينتقم لي منه ومن ظلمني مرتين فالله ينتقم له منّي. عادة النّاس ظلم من استضعفوه قال ابن عائشة «1» : تراهم يغمزون من استركّوا ... ويجتنبون من صدق المصاعا قال المتنبّي: والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعلّة لا يظلم «2» قال رجل عبسيّ: إن المحكّم ما لم يرتقب حسبا ... أو يرهب السيف أو حد القنا حنفا ظالم متظلّم في المثل يلدغ العقرب وتصيء «3» قال الخبزارزي: ظلمت سرا وتستعدي علانية ... ألهبت نارا وتستعفي من اللهب قال الشعبي: حضرت مجلس شريح فجاءته امرأة تخاصم زوجها باكية، فقلت: ما أظنها إلا مظلومة. فقال: إن إخوة يوسف جاؤوا أباهم عشاء يبكون وهم ظالمون. ذمّ ممتنع من قبول الإنصاف قيل: ما أعطي أحد قط النصف فأبى إلا أخذ شرا منه. وقال الأحنف: ما عرضت النصفة على أحد فقبلها إلّا تداخلني منه هيبة ولا ردّها أحد إلا طمعت فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 (2) مدح الحلم وكظم الغيظ وفضل الرحمة والعفو والاستعفاء والاعتذار حدّ الحلم قيل: الحلم تجرع الغيظ. وقيل: الحلم دعامة العقل وقال الأفوه الأودي: الحلم محجزة عن الغيظ. وقيل: ليس الحليم من ظلم فحلم حتى إذا قدر انتصر ولكن الحليم من ظلم فحلم فإذا قدر غفر. وقالت الفلاسفة: الحلم فضيلة النفس يكسبها الطمأنينة لا يحرّكها الغضب بسهولة وسرعة. سأل عليّ رضي الله عنه فقال: الحلم والأناة. توأمان ينتجهما علو الهمة. وقيل لعمر بن الاهتم: من أشجع الناس؟ قال: من رد جهله حلمه. وقال سفيان: ما تقلد امرؤ قلادة أحسن من حلم فهو محمود عاجله وآجله ورأى حكيم من ملك ترفأ، فقال: ليس التاج الذي يفتخر به علماء الملوك فضة ولا ذهبا لكنه الوقار المكلّل بجواهر الحلم. وأحمق الملوك بالبسطة عند ظهور السقطة من اتسّعت قدرته. قال شاعر: لن يدرك المجد أقوام ذوو كرم ... حتّى يذلّوا وإن عزوّا لأقوام ويشتموا فترى الألوان مسفرة ... لا خوف ذلّ ولكن فضل أحلام «1» الآخذ نفسه بالحلم من الملوك دفع أزدشير بن بابك ثلاثة كتب إلى رجل يقوم على رأسه وقال له: إذا رأيتني قد غضبت فادفع إليّ الأول، فإن لم أندم فالثاني ثم الثالث وكان في الأول أمسك فلست بإله، وإنما أنت جسد يوشك أن يأكل بعضه بعضا. وفي الثاني إرحم عباد الله يرحمك الله. وفي الثالث احمل عباد الله على حقه. الحثّ على تكلّف الحلم واستعماله قيل: إذا لم تحلم فتحالم فقلّ من تشبّه بقوم إلّا كان منهم. قال: تحلّم عن الأدنين واستبق ودّهم ... فلن تستطيع الحلم حتى تحلما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 الممدوح بالحلم قال حسان «1» : أحلامنا تزن الجبال رزانة ... وتزيد جاهلنا على الجهّال «2» قال ابن هرمة: ولو وزنت رضوى ببعض حلومهم ... لشالت ولو زيدت عليه تضارع «3» قال أبو فراس: يجني الخليل وأستحلي جنايته ... كيما يدلّ على حلمي وإحساني «4» قال المتنبي: وأحلم عن خلّي وأعلم أنّني ... متى أجزه حلما عن الجهل يندم «5» من اجتهد في إغضابه فحلم بايع رجل آخر على أن يغضب الأحنف فجاءه فخطب إليه أمه. فقال: لسنا نردك انتقاصا بحسبك ولا قلة رغبة في مصاهرتك، ولكنها امرأة قد علا سنها وأنت تحتاج إلى امرأة ودود ولود، تأخذ من خلقك وتستمد من أدبك، ارجع إلى قومك وأخبرهم أنك لم تغضبني. خطب آخر إلى معاوية أمه. فقال: ما الذي رغبّك فيها وهي عجوز؟ فقال: بلغني أنها عجوز عظيمة العجز، فقال: لعلك خاطرت أن تغضب سيد بني تميم قال: نعم. قال: ارجع فلست به. فضل كظم الغيظ قال الله تعالى: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ «6» ومر النبي صلّى الله عليه وسلم بقوم يربعون حجرا فقال: ألا أخبركم بأشدكم من ملك نفسه عند الغضب، وقال صلّى الله عليه وسلم: من كظم الغيظ وهو يقدر على أن ينفذه خيّره الله في أي حور شاء، وقيل: الكظم يدفع محذور الندم كالماء يطفىء حر الضرم. كظم يتردد في حلقي أحب إلى من نقص أجده في خلقي. قال: وأفضل حلم حسبة حلم مغضب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 ما يسكّن به الغضب قيل: من غضب قائما فقعد سكن غضبه وإن كان قاعدا فاضطجع سكن والعجم تقول: من غضب فليستلق. قال أبو بكر بن عبد الله: أطفئوا نار الغضب بذكر نار جهنم، وقيل: أذكر قدرة الله إذا غضبت. قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ «1» فقيل: الطيف من الشيطان حرّ الغضب. من أغضب من الكبار فصبر قام رجل إلى عمر بن عبد العزيز فكلّمه بكلام أغضبه، فقال: أردت أن يستفّزني الشيطان، فإياك ومعاودة مثله، عافاك الله. أمر محمد بن سليمان برجل أن يطرح من القصر كان قد غضب عليه، فقال الرجل: اتّق الله. فقال: خلوا سبيله فإني كرهت أن أكون من الذين قال الله تعالى فيهم: وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ «2» . ذمّ الغضب قيل لحكيم: أيّ الأحمال اثقل؟ فقال: الغضب. وروى أن إبليس لعنه الله. قال: مهما أعجزني ابن آدم فلن يعجزني إذا غضب لأنه ينقاد لي فيما أبتغيه ويعمل ما أريده وأرتضيه. وقيل لأبي عباد: أيما أبعد من الرشاد السكران أم الغضبان؟ فقال: الغضبان: لا يعذر أحد في طلاق ولا ماثم يجترمه وما أكثر ما يعذر السكران. وسئل ابن عباس رضي الله عنه عن الغضب والحزن أيّهما أشدّ؟ فقال: مخرجهما واحد واللفظ مختلف فمن نازع من يقوى عليه أظهره غضبا ومن نازع من لا يقوى عليه كتمه حزنا، ومن هنا أخذ المتنبي قوله: وحزن كلّ أخي حزن أخو الغضب من غضب في غير مغضب قال بعض الحكماء: إذا كانت الموجدة «3» من علّة كان الرضا مفقودا. وقيل: من غضب من غير ذنب رضي من غير عذر. وقيل: من فاته الدين والمروءة فرأس ماله الغضب. عذر من كان منه غضب قال الشافعي «4» رضي الله عنه: من استغضب ولم يغضب فهو حمار، ومن استرضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 ولم يرض فهو جبار، وقيل: من لم يغضب من الجفوة لم يشكر أخا النعمة. وقيل: فلان يملك حالتيه أي غضبه ورضاه. الحثّ على ترك الغضب المؤدّي إلى الاعتذار قال حكيم: إياك وعزة الغضب فإنها تصير «1» بك إلى ذلّ الاعتذار. قال الشاعر: ولا تحكم من بعض الأمور تعزّزا ... فقد يورث الذلّ الطويل تعزّز وقال آخر: ولرّب ممتعض هو المتذّلل «2» وقال آخر: متى ترد الشفاء لكل غيظ ... تكن مما يغيظك في إزدياد سرعة الغضب وبطؤه قيل: أسرع الناس رضا أسرعهم غضبا، كالحطب أسرعه خمودا أسرعه وقودا. وكان بعض الناس يقول: أعوذ بك من غضب من لا يكاد يغضب، وأعوذ بك من غضب امرأة قادرة وذي قوة قاهرة. الحثّ على ملأمة النّاس قال أبو العتاهية «3» : ساهل النّاس إذا ما غضبوا ... وإذا عزّ أخوك فهن قال محمود الورّاق: دار الصديق إذا استشاط تغضّبا ... فالغيظ يخرج كامن الأحقاد «4» ولربّما كان التغضّب باحثا ... لمثالب الآباء والآجداد النّهي عن مراجعة السفيه ومدح فاعل ذلك قال الله تعالى: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً «5» قال الشاعر: لا ترجعنّ إلى السّفيه خطابه ... إلا جوّاب تحيّة حيّاكها فمتى تحرّكه تحرّك جيفة ... تزداد نتنا ما أردت حراكها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وقال رجل للأحنف: إن قلت واحدة لستمعن عشرا. فقال: أنت إن قلت عشرا لم تسمع واحدة. وألحّ رجل على الأحنف بالشتم فلما فرغ قال: هل لك في الغذاء فإنك مذ اليوم تحدو بأحمال ثقال، وشتم سفيه حكيما وهو ساكت فقال: إياك أعني. فقال: وعنك أغضي. قال: وبعض انتقام المرء يردي بعقله ... وإن لم يقع إلا بأهل الجرائم وقيل لبعضهم وقد كان من صاحب له ذنب إليه: هلّا جازيت فقال: الصقر يحقر عن طراد الدّخّل «1» قال شاعر: شاتمني عبد بني مسمع ... فصنت عنه النّفس والعرضا ولم أجبه لاحتقاري له ... من ذا يعضّ الكلب إن عضّا ولهذا باب في موضع آخر. الحثّ على التصامم عن القبيح والتمدّح بذلك قال المهلب «2» : إذا سمع أحدكم العوراء فليطأطىء لها تتخطّاه، وأسمع رجل آخر وهو ساكت فقال: إني وإياك كما قال زهير: وذي خطل في القول يحسب أنه ... مصيب فما يلمّم به فهو قائله وقال حاتم: وكلمة حاسد من غير جرم ... سمعت فقلت مرّي فانفذيني عنيت بها كأن قيلت لغيري ... ولم يعرق لها يوما جبيني «3» قال السموأل اليهودي «4» : ربّ شتم سمعت فتصاممت ... وعيّ تركته فكفيت قال البحتري: وأحبس عن تعريض عرضي لجاهل ... وإن كنت في الإقدام أطعن في الصّف «5» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 الحثّ على الرحمة ومدح ذويها قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إرحم من في الأرض يرحمك من في السماء وقال صلّى الله عليه وسلم: من لا يرحم الناس لا يرحمه الله، وقال عليه الصلاة والسلام: لا تنزع الرحمة إلّا من قلب شقيّ. وقال: من كرم أصله لان قلبه وقيل: من أمارات الكرم الرحمة ومن أمارات اللؤم القسوة. الحثّ على العفو مطلقا قال الله تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ «1» وقال تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى » وقال تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ «3» وأدب نبيه صلّى الله عليه وسلم فقال: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ «4» . فلّما علم أن قد قبل أدبه. قال: وإنك لعلى خلق عظيم. وقال الأحنف: إياكم وحمية الأوغاد. قيل وما حميتهم؟ قال: يرون العفو مغرما والبخل مغنما، وقيل لبعضهم: هل لك في الإنصاف أو ما هو خير من الإنصاف؟ قال: وأيّ شيء خير من الإنصاف؟ قال: العفو فالانصاف ثقيل، وسئل الجنيد رحمه الله عن الفتوة فقال: العفو بدلالة قوله تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا «5» ، وقيل: العفو عن المذنب زكاة النفس. قيل: من كرم الأخلاق أن تغفر الذنب من شكر الموهوب العفو عن الذنوب الاحتمال قبر العيوب. قال البحتري: إذا أنت لم تضرب عن الحقد لم تفز ... بشكر ولم تسعد بتقريظ مادح «6» استطابة العفو ولذّته قيل: لذة العفو أطيب من لذة التشفيّ «7» لأن لذّة العفو يتبعها حمد العاقبة، ولذة التشفي يتبعها غمّ الندامة، وقيل للإسكندر: أيّ شيء أنت به أسر مما ملكت؟ قال: مكافأة من أحسن إليّ بأكثر من إحسانه وعفوي عمّن أساء بعد قدرتي عليه. ما يستحسن في الكبار من الحلم وما يستقبح قال معاوية رضي الله عنه وقد أغلظ له رجل: إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين السلطان، وقال المأمون الحلم يحسن بالملوك إلا في ثلاثة: قادح في ملك ومتعرّض لحرمة ومذيع لسر. وقال السفّاح: الحلم يحسن إلا ما أوضع الدين وأوهن السلطان. الحثّ على درء الحدّ قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ادرؤا الحدود بالشبهات، وقال عمر رضي الله عنه: لأن يخطىء الإمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 في العفو خير له من أن يخطىء في العقوبة. قال إبراهيم النخعي: لئن أعطّل مائة حد قد ثبتت أحبّ إليّ من أن أقيم حدا قد ثبت. حثّ القادر على العفو قال أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه: إذا قدرت على العدوّ فاجعل العفو شكر قدرتك. ظفر الإسكندر ببعض الملوك فقال له: ما أصنع بك؟ قال: ما يجمل بالكرام أن يصنعوه إذا ظفروا، فخلّى سبيله ورده إلى مملكته. ولما ظفر أنوشروان ببزرجمهر «1» قال: الحمد لله الذي أظفرني بك فقال: كافىء من أعطاك ما تحب بما يحب. قالت عائشة رضي الله عنها: إذا ملكت فاسجح «2» . وقيل: المقدرة تذهب الحفيظة، وقيل ليوسف «3» عليه السلام: بعفوك عن إخوتك عند قدرتك رفع قدرك. ذمّ المتشفيّ من الغيظ قال معاوية رضي الله عنه: العقوبة الأم حالات ذي القدرة. وقال حكيم: من شفى غيظه لم يجب شكره. وقال: التشفيّ طرف من الجزع فمن رضي أن لا يكون بينه وبين الظالم إلّا ستر رقيق وحجاب ضعيف فلينتصف، وقال شاعر: متى ترد الشفاء لكلّ غيظ ... تكن ممّا يغيظك في ازدياد متى لم تتّسع أخلاق قوم ... يضيق بها الفسيح من البلاد مدح من صفح عن قدرة قال شاعر وأعظم النّاس أحلاما إذا قدروا وقيل: عفو العزيز أعزّ له وعفو الذليل أذلّ له وقال آخر: ما أحسن العفو من القادر ... لا سيّما عن غير ذي ناصر قال أشجع: يعفو عن الذنب العظي ... م وليس يعجزه انتصاره صفحا عن الباغي علي ... هـ وقد أحاط به اقتداره «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 قال المتنبي: فتى لا تسلب القتلى يداه ... ويسلب عفوه الأسرى الوثاقا «1» الممدوح بأنه إن شاء صفح وإن شاء انتقم قال الأعشى: يقوم على الرغم في قومه ... فيعفو إذا شاء أو ينتقم وقال كثير: حليم إذا ما نال عاقب مجملا ... أشدّ العقاب أو عفا لم يثرّب «2» قال علي بن الجهم «3» : يعاقب تأديبا ويعفو تطوّلا ... ويجزي على الحسنى ويعطي فيجزل وقال آخر: تسطو بعدل وتعفو إن عفوت به ... فلا عدمناك من عاف ومنتقم الحثّ على إقالة من سلم ظاهره قيل: لا تعتد بما لم تسمعه أذناك فإن السيد إذا حضر هيب وإذا غاب اغتيب. وقال بعض الملوك: إنما نملك الأجساد دون النيات ونحكم بالعدل لا بالهوى ونفحص عن الأعمال لا عن السرائر «4» . قال البحتري: إذا عدوّك لم يظهر عداوته ... فما يضرّك إن عاداك إسرارا «5» وقال آخر: إذا دحسوا بالكره فاعف تكرّما ... وإن حبسوا عنك الحديث فلا تسل «6» فإنّ الذي يؤذيك منه استماعه ... وإن الذي قالوا وراءك لم يقل العفو عمّن سلم باطنه قد يهفو «7» المرء ونيته سليمة ويزلّ «8» وطريقته مستقيمه، قال إبراهيم بن المهدي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 ما إن عصيتك والغواة تمدّني ... أسبابها إلا بنيّة طائع قال ابن طباطبا: أرى زلّتي كفرا فهل لي توبة ... وكم كافر بالله راج لغفرانه فإن كنت في الكفر الذي جئت مكرها ... فما زال قلبي مطمئنا بإيمانه «1» قال الفرزدق: فلست بمأخوذ بلغو تقوله ... إذا لم تعمّد عاقدات العزائم ذمّ من لا يقيل العثرة قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بشراركم من أكل وحده وضرب عبده ومنع رفده. ألا أخبركم بشر من ذلكم من لا يقبل معذرة ولا يقيل عثرة. قال شاعر: موقّح الوجه قليل الصّفح ... كلامه مثل عصى الطّلح «2» أي معوج. عتب من يحفظ الذنب بعد تقادمه قال البحتري: تناس ذنوب قومك إنّ حفظ الذ ... ذنوب إذا قد من الذّنوب وقيل: الآثام تدرسها الأيام. وجوب العفو عن المعترف الاعتراف يزول به الاقتراف «3» . لا عتب مع إقرار ولا ذنب مع استغفار. المعترف بالجريرة مستحق للغفيرة، قال محمد بن جابر: إذا ما امرؤ من ذنبه جاء تائبا ... إليك فلم تغفر له فله الذّنب وقيل: التوبة تغسل الحوبة. الحثّ على العفو بعد الإقرار قال عمرو بن كلثوم لصديق له أنكر ذنبا: إمّا أن تقرّ بذنبك فيكون إقرارك حجّة لنا في العفو وإلّا فطب نفسا بالانتصار منك. فإن الشاعر يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 أقرّ بذنبك ثم اطلب تجاوزنا ... عنه فإنّ جحود الذنب ذنبان «1» قيل: يجب للحازم أن لا يتقدّم غفرانه تعريف الجاني ما جنى لئلا ينسب عفوه إلى الغفلة وكلال حدّ الفطنة. سوء الاعتذار دليل على الإصرار قال: لا ترجع رجعة مذنب ... خلط احتجاجا باعتذار وقال آخر: فلا أنت أعتبت في زلّة ... ولا أنت أغليت في المعذرة «2» حسن العفو عن المصر ّ سمع حكيم رجلا يقول: ذنب الإسرار أولى بالاغتفار. فقال: صدق الله ليس فضل من عفا عن السهو القليل، كمن عفا عن العمد الجليل. مستعف مقرّ بالذنب قال ابن المعتز «3» في كلام له: تجاوز عن مذنب لم يسلك بالإقرار طريقا حتى اتخذ من رجائك رفيقا، وقال الفضل بن مروان لرجل عاتبه: بلغني أنك تبغضني فلم ينكر الرجل، وقال: أنت كما قال الشاعر: فإنك كالدّنيا نذمّ صروفها ... ونوسعها ذمّا ونحن عبيدها «4» قال أبو فراس: إن لم تجاف عن الذنو ... ب وجدتها فينا كثيرة لكن عادتك الجميلة أن تغض على الجريرة «5» . أتى المنصور برجل أذنب فقال: إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان فإن أخذت في غيري بالعدل فخذ فيّ بالإحسان، فعفا عنه. قال شاعر: إنّ للاعتذار حظّا من العف ... ويراه المقرّ بالإنصاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 ولعمري لقد أجلّك من جا ... ءمقّرا بذلّة الإعتراف قال الرفّاء: فإن تعف عنّي تعف عن غير جاحد ... لما كان والإقرار بالذنب أروح وقال آخر: صفحا فلو شقّ قلبي عن صفيحته ... لظلّ يقرأ منه الخوف والندم وقال آخر: فلست بأوّل عبد هفا ... ولست بأوّل مولى عفا «1» استعفاء من خلط إقرارا بإنكار ما أعرف تقصيرا فابلغ ولا ذنبا فاعتب ولكني أقول: هبني أسأت كما زعم ... ت فأين عاقبة الأخوّه وإذا أسأت كما أسأ ... ت فأين فضلك والمروّه «2» قال ابن نوقة: وهبني- وما أجرمت- أجرمت. كلّ ما ... أتاك به الواشي فجد باحتماله وقال ابن باذان: لئن أسأت فأين إحسانك ... وإن أفرطت فأين افضالك؟ وقال آخر: أقررت بالجرم على أنّني ... لست بمخليك من العربده وقال الشعبي لابن بسرة، وقد كلمه في قوم حبسهم: إن حبستهم بالباطل فالحقّ يخرجهم وإن حبستهم بحق، فالعفو يسعهم. فأمر بإطلاقهم. معتذر مع إنكار قال رجل لمعن: ما على المذنب أكثر من الرجوع فهل على من لم يذنب أكثر من الاعتذار. قال ولما حبس الرشيد عبد الملك بن صالح قال: إنّ الملك شيء مانويته ولا تمنّيته ولو أردته لكان أسرع من السيل إلى الحدور والنار إلى يبس العرفج «3» ولكن لما رآني بالملك قمينا «4» وإن لم أترشح له في سرّ ولا جهر ورآه يحنّ إلى حنين الأم الوالهة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 إلى ولدها عاقبني عقاب من سهر في طلبه فإن حبستني على أني أصلح له ويصلح لي فليس ذلك ذنبا فأتوب منه، وقال الرشيد لرجل يرمى بالزندقة: لأضربنّك حتى تقرّ بالذنب، فقال هذا خلاف ما أمر الله تعالى به، لأنّه أمر أن يضرب الناس حتى يقرّوا بالإيمان وأنت تضربني حتى أقرّ بالكفر فخجل وعفا عنه. قال التنوخي: إن كان إقراري بما لم أجنه ... يرضيك عنّي قلت إنّي ظالم معتذر بتكذيب نفسه خرج النعمان «1» متنكرا فمرّ برجل فقال له: أتعرف النعمان؟ قال أليس ابن سلمى؟ قال: نعم. قال: طالما أمررت يدي على فرجها. فلحقته خيله فقال: كيف؟ قلت: قال أبيت اللعن والله ما رأيت شيخا أكذب ولا ألأم ولا أوضع ولا أعض لبظر أمه منّي. فضحك وخلّاه فأنشد اليشكري: تعفو الملوك عن العظيم من الذّنوب لفضلها ... ولقد تعاقب في اليسير وليس ذاك لجهلها لكن ليعرف فضلها ... ويخاف شدّة نكلها انقطع عبد الملك عن أصحابه فانتهى إلى إعرابي فقال: أتعرف عبد الملك؟ قال: نعم جائر بائر «2» . قال: ويحك أنا عبد الملك قال: لا حيّاك الله ولا بيّاك ولا قربك. أكلت مال الله وضيّعت حرمته. قال: ويحك أنا أضرّ وأنفع. قال: لا رزقني الله نفعك ولا دفع عنّي ضرك فلما وصلت خيله علم صدقه، فقال: يا أمير المؤمنين اكتم ما جرى فالمجالس بالأمانة. مستعف سأل أن ينخدع له قال ابن الرومي: فسامح وليّك إنّ الكري ... م قد يتخادع للخادع وقال: وما بك من غفلة إنّما ... لفرّط الحياء وفرط الكرم وكان جعفر بن سليمان عثر برجل سرق درة فباعها؟ فلما بصر بالرجل استحيا فقال له: ألم تكن طلبت هذه الدرة مني فوهبتها؟ فقال الرجل: نعم فخلّى سبيله. وبلغني أنّ ركن الدولة كان يوما في الدار بحيث لا يرى فدخل فراش فرأى طاسا من ذهب ولم يكن بقربه أحد، فتناوله وخرج، فرآه ركن الدولة ولم يعلم به فلما استقصى عليه الخدم قال: دعوه فإن من أخذه لم يأخذه على أن يرده ورائيه لا يريد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 أن يذكر. فبعد ذلك كان الفراش يصبّ ماء على يديه وعليه ثياب فاخرة فقال ركن الدولة: هذه الثياب من ذلك الطاس، وكان الفراش جلدا فقال نعم أيها الأمير: وغير ذلك من أثر النعم، فعفا عنه. الحثّ على استبقاء نعمة بإقالة عثرة قال ابن الرومي: لا تطيّر وسنا عن مقلة ... أنت أهديت لها حلو الوسن» قال ابن نوقة: أترضى بإلزام الدنيئة خادما ... رجا في ذراكم أن ينال المعاليا «2» وقال روح بن ذنباع «3» : لا تشمتنّ بي عدوا أنت رقمته ولا تسوءنّ بي صديقا أنت سررته ولا تهدمنّ ركنا أنت بنيته. استعفاء من زعم أن ذنبه كان خطأ أو نسيانا قال النبي صلّى الله عليه وسلم: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان. وقال غلام هاشميّ أراد عمّه أن يجازيه بسهو منه: يا عم إنّي قد أسأت وليس معي عقلي فلا تسىء ومعك عقلك. قال أبو تمّام: فإن يك سخط عمّ أو تك هفوة ... على خطإ منّي فعذري على عمد «4» قال عليّ بن الجهم: ألم تر عبدا عدا طوره ... ومولى عفا ورشيدا اهدى ومفسد أمر تلافيته ... فعاد وأصلح ما أفسدا قال المتنبّي: وعين المخطئين هم وليسوا ... بأوّل معشر خطئوا فتابوا وما جهلت أياديك البوادي ... ولكن ربّما حفي الصّواب المتمدّح بذلك اعتذر رجل إلى المنتصر فقال: أتراني أتجاوز بك حكم الله حيث يقول: لَيْسَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 عَلَيْكُمْ جُناحٌ «1» فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً «2» . قال الحسن بن وهب: وعندي إغضاء وعفو عن الذي ... يزلّ إذا ما لم يكن ذاك عن عمد مستعف سأل أن يقوّم ويؤدّب قال أحمد بن أبي فنن: أحين كثّرت حسّادي وساءهم ... جميل فعلك بي أشمتّ حسّادي فإن تكن هفوة أو زلة سلفت ... فأنت أولى بتقويمي وإرشادي «3» مستعف سأل العفو لفرط خوفه قال علي بن الجهم: فعفوك عن مذنب خاضع ... قرنت المقيم به المقعدا إذا ادرع الليل أفضى به ... إلى الصّبح من قبل أن يرقدا «4» مستعف اتكل على سالف حرمته قال هاشمي للمأمون: من حصل له مثل دالتي، ولبس ثوب حرمتي، ومت بمثل قرابتي، واسلف مثل مودّتي، أقيل له أعظم من عثرتي، وغفر له فوق زلّتي، فقال: صدقت وعفا عنه. قال شاعر: أيذهب يوم واحد إن أسأته ... بصالح أيّامي وحسن بلائيا «5» وكفى بالحثّ على ذلك قول الله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ «6» . الاستعفاء لمذنب من قوم محسنين قال إبراهيم الصولي: أساءوا وفيهم محسنون فإن تهب ... لمحسنهم أهل الإساءة يصلحوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 متوصل إلى العفو بمراجعة أو حجة غضب عبد الملك على رجل فلما أتى به. قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال: لا سلم الله عليك. فقال: ما هكذا أمر الله تعالى إنما قال تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها «1» وقال: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ «2» فعفا عنه. وكان عمر رضي الله عنه يعس ليلة فسمع غناء رجل من بيت فتسوّر عليه فرآه مع امرأة يشربان الخمر. فقال: يا عدوّ الله أرأيت أن يسترك الله وأنت على معصية، فقال: يا أمير المؤمنين لا تعجل إن كنت عصيت الله في واحدة فقد عصيت في ثلاث قال الله تعالى: وَلا تَجَسَّسُوا «3» وقد تجسست وقال: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها «4» وقد تسوّرت علي وقال: ولا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها «5» وقد دخلت بغير سلام. فقال عمر رضي الله عنه: أسأت فهل تعفو؟ فقال: نعم وعليّ أن لا أعود. من توصّل إلى العفو بذمّ نفسه كان جعفر بن أمية خرج مع مصعب «6» بن الزبير وكان صديقا لعبد الملك، فلما أتى به بعد قتل مصعب قال عبد الملك: لا أنعم الله بك، خرجت مع مصعب؟ قال: نعم قال: ونعم أيضا فلا أنعم الله بك. قال: إني أعرف نفسي بالشؤم فاردت أن أصيب مصعبا بشؤمي، فضحك وخلّاه. وأتى الحجّاج برجل من أصحاب ابن الأشعث «7» فقال له: أفيك خير إن عفوت عنك؟ فقال: لا. قال: ولمه؟ قال: لأني كنت خاملا فرفعتني وألحقتني بالناس فخرجت مع ابن الأشعث لا لدين ولا لدنيا ومعي الحماقة التي لا تفارقني أبدا ولا أفلح معها سرمدا. فضحك منه وخلّى سبيله. من توصّل إلى العفو بحيلة أتى معن بن زائدة «8» بأسرى فأمر بضرب أعناقهم، فقام غلام منهم فقال: أنشدك الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 أيها الأمير أن لا تقتلنا ونحن عطاش. فقال: اسقوهم، فلما شربوا قال: ناشدتك الله إن قتلت ضيفانك، قال: أحسنت فخلّى سبيلهم. همّ الأزارقة «1» بقتل رجل فقال: أمهلوني لأركع فنزع ثوبه واتزر ولبّى وأظهر الإحرام، فخلّوا سبيله لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ «2» . ولما غشى أمير المؤمنين علي كرّم الله وجهه عمرو بن العاص طرح نفسه على الدابة وتلقاه بعورته. فأعرض عنه وقال: قبحك الله، ولما أتى عمر رضي الله عنه بالهرمزان «3» أراد قتله فاستسقى ماء فأتى بقدح فامسكه بيده فاضطرب وقال: لا تقتلني حتى أشرب هذا الماء، فقال: نعم، فألقى القدح من يده، فأمر عمر رضي الله عنه بأن يقتل فقال: أو لم تؤمني وقلت لا أقتلك حتى تشرب هذا الماء؟ فقال عمر: قاتله الله أخذ أمانا ولم نشعر به. مستعف ذكر فرط خوفه من الوعيد قال مروان «4» بن أبي حفصة أبيت وجنبي لا يلائم مضجعا ... إذا ما اطمأنّت بالجنوب المضاجع قال سلم الخاسر: لقد أتتني من المهديّ معتبة ... تظلّ من خوفها الأحشاء تضطرب قال أبو تمّام: أتاني عائر الأنباء تسري ... عقاربه بداهية نآد «5» فيا خبرا كأنّ القلب أمسى ... يجرّ به على شوك القتاد «6» قال البحتري: عذيري من الأيام رقّقن مشربي ... ولقينني نحسا من الطير أشأما وألبسنني سخط امرىء بتّ موهنا ... أرى سخطه ليلا مع الليل مظلما «7» من هرب خشية العتاب فاعتذر لذلك قال شاعر: لئن أخفى حذاري عنك شخصي ... لما أرسلت من كفّي خيلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 ولم أهرب على ثقة وعلم ... بأنّي إن رميت أفوت نبلك ولكنّي هربت على يقين ... بأنك معمل في الحكم فضلك المتوصّل إلى العفو بمغالظة القول أتى مخرق بنساء، فطلبن أن يعفو عنهن فأبى، فقالت امرأة منهنّ: أطال الله سهادك وأخمد رمادك فما قتلت إلا نساء أعلاهن ندى وأسفلهن دما، ما أدركت من قتلنا ثارا ولا محوت عن نفسك به عارا. فأمر بتخلية سبيلهن غيرها، وقال: إنّي لأخشى أن تلد مثلها. وأتى الحجاج بأسارى «1» فقال أحدهم: لا جزاك الله عن السنة خيرا، قال: كيف؟ قال: إنّ الله تعالى يقول: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ «2» فإمّا منا بعد وإمّا فداء، فلا مننت ولا فاديت، فقال الحجاج: خلّوا سبيلهم. وقالت امرأة في جملة أسري: قبّحك الله فلئن أسأنا في الذنب فما أحسنت في العفو. فقال: أف لهذه الجيف أما كان فيهم من يقول مثل هذا. وأمر بتخلية من بقي منهم. المتوصّل إلى العفو بتذكّر الله ومناشدته غضب رجل على مولاه فقال: أسألك بالله إن علمت أني لأطوع لك منك لله فاعف عنّي، عفا الله عنك، فعفا عنه. وقال رجل لأمير غضب عليه: أسألك بالذي أنت أذلّ بين يديه غدا منّي بين يديك إلا ما عفوت عنّي، فعفا عنه. وقال آخر لأمير يضربه: اضرب بقدر ما تعلم أنك تجشّمه «3» عند القصاص يوم الجزاء «4» ، فعفا عنه. من استعفى واستوهب جميعا جنى غلام للحسن بن علي رضي الله عنهما فأمر بعقابه فقال: يا مولاي إن الله تعالى قد مدح قوما فكن منهم، فإنه يقول: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ «5» فقال: خلوا سبيله قال وقد قال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ «6» قال: أنت حر لوجه الله ولك من المال كذا. واستعفى رجل من مصعب بن الزبير فعفا عنه فقال: اجعل ما وهبت لي من حياتي في خفض، فأعطاه مائة ألف، فقال الرجل: إنّي قد جعلت نصفها لابن قيس الرقيّات لقوله: إنّما مصعب شهاب من الله تجلّت عن وجهه الظّلماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 فقال له مصعب: هذا لك وعلينا أن نعطيه ذلك، قال المتنبّي: فاغفر فديتك وأحبني من بعدها ... لتخصّني بهدّية منها أنا «1» وقال: رددت مالا ولم تمنن عليّ به ... وقبل مالي قدما قد حقنت دمي المتوصّل إلى العفو بدفع الوقت أتي عبيد الله بن زياد» بخارجيّ فأمر بقتله، فقال: إن رأيت أن تؤخّرني إلى غد فأمر بتأخيره فقال: عسى فرج يأتي به الله إنّه ... له كلّ يوم في خليقته أمر فعفا عنه. وغضب المأمون على علي بن الجهم «3» فقال: لآخذن مالك ولاقتلنك أقتلوه. فقال أحمد بن أبي «4» دؤاد: إذا قتلته فمن أين تأخذ المال يا أمير المؤمنين؟ قال: من ورثته، فقال: حينئذ تأخذ مال الورثة وأمير المؤمنين يأبى ذلك. فقال: يؤخّر حتى يستصفى ماله. وانقضى المجلس وسكن غضبه وتوصل إلى خلاصه. قال شاعر: وإذا ابن عمك لجّ بعض لجاجه ... فانظر به غده ولا تستعجل المتوصّل إلى ذلك بالتثبّت إلى حين التبيّن قال الله تعالى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ «5» ، وقيل: لوال: تأنّ فإن التأني من الوالي صدقة. وغضب الرشيد على رجل فقال له جعفر: غضبت لله فاطع الله في غضبك بالوقوف إلى حال التبين كما غضبت له. وقال الشعبيّ لعبد الملك: إنّك على إيقاع ما لم توقع أقدر منك على ردّ ما أوقعت. فأخذ هذا المعنى شاعر، فقال: فداويته بالحلم والمرء قادر ... على سهمه ما دام في يده السّهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 التثبّت في العقوبة نصف العفو قال المتنبّي: ترفّق أيّها المولى عليهم ... فإنّ الرفق بالجاني عتاب نهي العافي عن التثريب رضي بعض الملوك عن رجل ثم أخذ يوبّخه. فقال: إن رأيت أن لا تخدش وجه رضاك بالتثريب «1» فافعل. وقيل: ما عفا عن الذنب من قرّع به «2» . وقيل: العفو مع العذل «3» أشد من الضرب على ذي العقل. فرّب قول أنفذ من صول وعفو أشد من انتقام، قال ابن نوقة: إن كنت تعفو فاعف عفو مهنىء ... إحسانه إنّ الكريم وهوب قل قول يوسف حين قال لإخوة ... جاؤه معتذرين لا تثريب أو لا فعاقبني فليس بمنكر ... من مثلك التقويم والتأديب وفيمن يعاقب ثم يعاتب، قال شاعر: إذا عوقب الجاني على قدر جرمه ... فتعنيفه بعد العقاب من الرّبا «4» معاتبة من صفح ثم ندم قال ابن طباطبا: كان جرى بيني وبين رجل كلام واحتملت عنه، ثم ندمت فرأيت في المنام كأنّ شيخا أتاني فأنشدني: أندمت حين صفح ... ت عمّن قد أساء وقد ظلم لا تندمن فشرّنا ... من أتبع الخير الندم ذمّ من اعتذر فأساء قيل في المثل: عذره أشد من جرمه، رب أضرار أحسن من اعتذار. وقال آخر: أنسيتنا باعتذارك كلّ عثارك وقيل بث من عذرك ثم من ذنبك. قال الخبزارزي: وكم مذنب لمّا أتى باعتذاره ... جنى عذره ذنبا من الذّنب أعظما قال ابن الحجّاج: لي صديق جنى عليّ مرارا وكثّرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 ثمّ لمّا عتبته ... غسل البول بالخرا قال عليّ بن عبد العزيز الجرجاني: ربّ ذنب ينمى على العذر حتّى ... يبصر الاحتجاج عنه يشينه كمقال الجريء يزداد قبحا ... كلّما ازداد منهم تحسينه النهي عن الذنب المفضي إلى الاعتذار قيل: إياك وما يسبق إلى القلوب إنكاره وإن كان عندك اعتذاره، فما كل من يحكي عنك وينكر تطيق أن توسعه عذرا وقيل من وثق بحسن العذر وقع في الذنب. قال قال الموسوي: ومن قيّد الألفاظ عند نزاعها ... بقيد النّهى أغنته عن طلب العذر النّهي عن العذر قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إياكم والمعاذير فإنّها مفاجر. وقال أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه: امسك عن الاعتذار واستمسك بالاستغفار. وكتب الحجاج إلى بعض من اعتذر إليه أن يعلم الله ذلك من نيتك تكف المقال. صعوبة الاعتذار والحثّ على تركه قال عليّ بن الجهم: إنّ دون السّؤال والاعتذار ... خطّة صعبة على الأحرار فارض للمذنب الخضوع وللقا ... رف ذنبا مضاضة الأعتذار «1» قال الزبير وهو في نهاية الحسن: تعالوا نصطلح وتكون منّا ... معاودة بلا عدّ الذّنوب فإن أحببتم قلتم وقلنا ... فإن القلب أشفى للقلوب نهي من لم يذنب عن العذر إيّاك والعذر عما لم تجنه فالمعتذر من غير ذنب يوجب على نفسه الذنب. وقيل: أحقّ منزلة بالاجتناب منزلة العذر لأنه يقف مواقف تهمة وقلّما سلم من ظنّة «2» . وقيل: الإغراق في العذر يحقق التهمة كما أن الافراط في النصيحة يوجب الظنّة. الاعتذار من ترك الاعتذار قال بعضهم: سكوتي عن التفسير لاعترافي بالتقصير. وقال آخر: لست أعتذر إليك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 من الذنب إلا بإقلاع عنه. وكتب كاتب: إن تركت الأعتذار فلما قال الشاعر: إذا لم يكن للعذر وجه مبين ... فإن اطراح العذر خير من العذر «1» وقيل للمطيع «2» وقد بلغ المهتدي «3» عنه شيء أنكره: إن كان ما بلغك حقا فما تغني المعاذير وإن كان كذبا فما تضرّ الأباطيل. الممتنع من العذر عن حقّ أورده سأل الحجاج أعرابيا عن أخيه محمد بن يوسف: كيف تركته؟ فقال: تركته سمينا عظيما. قال: إنما سألت عن سيرته، قال: ظلوما غشوما. قال: أما علمت أنه أخي؟ قال: نعم ما هو بك أعزّ منّي بالله فأمر بضربه، فقيل له: اعتذر إليه. فقال: معاذ الله أن أعتذر من حق أوردته. وخطب الحجاج يوما فأطال، فقام رجل فقال: الصلاة والوقت لا ينتظرك والرب لا يعذرك فأمر بحبسه فأتاه قومه وزعموا أنه مجنون فإن رأى أن يخلي سبيله فقال: إن أقر بالجنون خلّيته. فقيل له ذلك فقال: معاذ الله لا أزعم أن الله ابتلاني وقد عافاني. فبلغ ذلك الحجّاج فعفا عنه لصدقه. ودخل رجل على سلطان وكان قد أذنب فقال: بأي وجه تلقاني؟ فقال: بالوجه الذي ألقى به الله، فإن ذنوبي إليه أكثر وعقوبته أكبر. فعفا عنه ووصله. تأسّف من يعاتب من غير ذنب قال شاعر: قد يلام البريء من غير ذنب ... وتغطّى من المسيء الذّنوب وقال آخر: إذا كنت ملحيا مسيئا ومحسنا ... فغشيان ما تهوى من الأمر أكيس «4» وقال البحتري: إذا محاسني اللاتي أدلّ بها ... كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر! وفي المثل: ربّ ملوم لا ذنب له. قال شاعر: وكم من موقف حسن أحيلت ... محاسنه فعدّ من الذّنوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 من اعتذر بتكذيب الواشي قال زهير بن بلال: وذي حنق أغراه بي غير ناصح ... فقلت له: وجه المحرّش أقبح «1» قال أبو تمام: ومن يأذن إلى الواشين يسلق ... مسامعه بألسنة حداد قال ابن الحجاج: قل للذي جهّز بالسّعي بي ... بضاعة عادت بخسرانه يا ذا الذي لا بدّ من صفعه ... يوما ومن تعريك آذانه لو حدّثت كسرى به نفسه ... صفعته في جوف إيوانه قلّة الاعتذار بقول الواشي قال شاعر: دع الناس ما شاؤوا يقولون، إنني ... لأكثر ما قالوا عليّ حمول وما كلّ من أسخطته أنا معتب ... ولا كلّ ما يروى عليّ أقول من ذكر إرضاء صاحبه قال العتابي «2» : فهل أنا مغض في هواك وصابر ... على حدّ مصقول الغرار بن قاضب ومنتزع عمّا كرهت وجاعل ... رضاك مثالا بين عيني وحاجبي وقال آخر: لو أسخطتك حياتي ... قتلت نفسي لترضى (3) ومما جاء في ذمّ الحلم ومدح العقاب النهي عن الملاينة حيث لا تنفع قال شاعر: بالرفق مارس ولاين من تخالطه ... وغالظنّ إذا لم ينفع اللين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 قال سعد بن ناشب: وفي اللين ضعف والشراسة هيبة ... ومن لا يهب يحمل على مركب وعر «1» وقيل: الكريم يلين عند استعطافه واللئيم يقسو عند استلطافه. النهي عن الحلم إذا كان يلحق منه مذلّة قال سالم بن وابصة: إنّ من الحلم ذلا أنت عارفه ... والحلم عن قدرة فضل من الكرم قال قيس بن زهير «2» : وقد يستجهل الرجل الكريم وقال آخر: وفي الحلم ضعف والعقوبة هيبة ... إذا كنت تخشى كيد من عنه تصفح إذا الحلم لم ينفعك فالجهل أحزم قال المتنبي: وحلم الفتى في غير موضعه جهل وله: من الحلم أن تستعمل الجهل دونه ... إذا اتّسعت في الحلم طرق المظالم دفع الجهل بالجهل قال هدبة: ما إن نفى عنك قوما أنت تكرههم ... كمثل وقمك جهّالا بجهّال وقال آخر: ولي فرس للحلم بالحلم ملجم ... ولي فرس للجهل بالجهل مسرج «3» وما كنت أرضى الجهل خدنا ولا أخا ... ولكنّني أرضى به حين أحوج «4» وقيل: الشرّ لا يدفعه إلا الشر والحديد بالحديد يفلح. من حلم وقتا ونهى عن الاغترار به قال بعضهم: فلا يغررك طول الحلم منّي ... فما أبدا تصادفني حليما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 قال المتنبّي: وأطمع عامر البقيا عليها ... وترّفها احتمالك والوقار «1» وصف الحلم بأنه مضرّ مذلّل قيل: الشهرة بالملاينة والخير شرّ من الاشتهار بالغلظة والشر لأن من عرف بالخير اجترأ عليه الناس، ومن عرف بالشّر هابه الناس وتجنّبوه. وقيل: آفة الحلم الذلّ وقيل للأحنف: ما الحلم؟ فقال: الرضا بالذل. كون الحلم مغريا قال معاوية: ما ولدت قرشية خيرا منّي فقال ابن زرارة الكلابية: بل ما ولدت شرّا لهم منك فقال: كيف؟ قال: لأنك عودتهم عادة يطلبونها ممّن بعدك فلا يجيبونهم إليها فيحملون عليهم كحملهم عليك، وكأنّي بهم كالزقاق «2» المنفوخة على طرقات المدينة. وقال الأحنف لرجل: ليت طول حلمنا عليك لا يدعو جهل غيرنا إليك. النهي عن إكرام اللئام قال يزيد بن معاوية لأبيه: هل ذممت عاقبة حلم؟ قال: ما حلمت عن لئيم وإن كان وليا إلا أعقبني ندما، ولا أقدمت على كريم وإن كان عدوا إلا أعقبني أسفا. قال شاعر: متى تضع الكرامة في لئيم ... فإنّك قد أسأت إلى الكرامه وقد ذهبت صنيعته ضياعا ... وكان جزاء فاعلها النّدامه «3» وقيل: الكريم يستصلح بالكرامة واللئيم بالمهانة. قال المتنبي: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا «4» فوضع الندى في موضع السيف بالعلى ... مضرّ كوضع السيف في موضع النّدى وقيل: استعمال الحلم مع اللئيم أضر من استعمال الجهل مع الكريم. الاستخفاف بمن لا يصلحه الإكرام إذا لم تنفع الكرامة فالإهانة أحزم. وقيل: من لا يصلحه الطالي أصلحه الكاوي من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 كان الإكرام مفسده لم تكن الزيادة فيما يفسده له مصلحة. جنّب كرامتك اللئام فإنك إن أحسنت إليهم لم يشكروا وإن نزلت بهم شدة لم يصبروا. قال شاعر: سأحرمكم حتّى يذلّ صعابكم ... فانجع «1» شيء في صلاحكم الفقر قال آخر: إنّ اللئيم إذا رأى ... لينا تزايد في خسرانه لا تكذبنّ فصلاح من ... جهل الكرامة في هوانه الاستعانة بالجهل عند الحاجة إليه أكرموا سفهاءكم فإنهم يكفونكم النار والعار، وبينما ابن عمر رضي الله عنهما جالس إذ أقبل أعرابي فلطمه فقام إليه رجل فجلد به الأرض، فقال ابن عمر: ليس بعزيز من ليس في قومه سفيه. وقيل: اجعل لكلّ كلب كليبا يهرّ دونك، فالعرض يصان بمثل سفيه يصول «2» وحاد يقول: لا بدّ للسؤدد من أرماح ... ومن سفيه دائم النباح قال الأحنف: ومن يحلم وليس له سفيه ... يلاقي المعضلات من الرّجال وقال آخر: ولا يلبث الجهّال أن يتهضّموا ... أخا الحلم ما لم يستعن بجهول الرخصة في عقاب المجرم والحثّ عليه قال الله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ «3» وقال: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ «4» ، وجاء أعرابيّ إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: أتخاف عليّ جناحا إن ظلمني رجل فظلمته؟ فقال ابن عباس: وإن تعفوا أقرب للتقوى ولمن انتصر بعد ظلمه، فأولئك ما عليهم من سبيل. وقال الشعبي: يعجبني الرجل يكافىء بالسيئة السيئة، فإذا سيم هوانا «5» أبت له الأنفة إلا المكافأة. فبلغ قوله الحجّاج فقال: لله درّه «6» . أيّ نفس بين جنبيه. وقال الجاحظ: من قابل الإساءة بالإحسان فقد خالف الربّ في تدبيره، وظنّ أن رحمته فوق رحمة الله تعالى والناس لا يصلحون إلا على الثواب والعقاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وضرب الحجّاج رجلا فقال: اعتديت أيّها الأمير فقال: لا عدوان إلا على الظالمين. ووقّع «1» إبراهيم بن العباس: إذا كان للمحسن من الحق ما يقنعه وللمسيء من النكال ما يقمعه بذل المحسن الحق له رغبة، وانقاد المسيء له رهبة. حثّ القادر على العقاب قبل فوته قيل: صمّم إذا أيقنت أنك عاقره «2» ، وقال بعض الغسانيين يحرض الأسود بن المنذر على قتل أعدائه: ما كلّ يوم ينال المرء فرصته ... ولا يسوغه المقدار ما وهبا فأحزم الناس من إن نال فرصته ... لم يجعل السبب الموصول مقتضبا لا تقطعن ذنب الأفعى وترسلها ... إن كنت شهما فأتبع رأسها الذّنبا دخل الأبرش على هشام لما غضب على خالد القسري فقال: يا أمير المؤمنين أقلّ خالدا عثرته» وتدارك بحلمك هفوته فقال: مضى السهم حتّى لا يريد سوى الحشا ... فصادف ظبيا في الحديق راتعا «4» وكتب يحيى بن خالد إلى الرشيد من الحبس: إن كان الذنب خاصا فلا تعمم بالعقوبة في سلامة البري ومودة الولي. فكتب إليه: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ «5» . وقال عبد الصمد للمنصور: لقد هجمت بالعقوبة حتى كأنك لم تسمع بالعفو. فقال: لأن بني مروان لم تبل رممهم وآل أبي طالب لم تغمد سيوفهم، ونحن بين أقوام قد رأونا بالأمس سوقة واليوم خلفاء فليس تتمهد الهيبة في صدورهم إلا باطراح العفو واستعمال العقوبة. وقال لما قتل أبا مسلم: لقد شاركت عبد الملك في قول كثير: يصدّ ويغضي وهو ليث خفية ... إذا أمكنته فرصة لا يقيلها التبجّح «6» بقسوة القلب وقلّة الرحمة كان محمّد بن عبد الملك بن الزيات يقول: رقة القلب من خور «7» الطبيعة. ولما أمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 الواثق بتعذيبه وبحبسه في تنور من الحديد وإطباقه عليه قال لمعذبه: ارحمني. فردّ الخبر إلى الواثق فقال: أين قول لا تكون الرحمة إلا من خور، ثمّ تمثل بقوله: فلا تجز عن من حسنة سنة أنت سرّتها ووقع في قصة رجل دعني من ذكر الرحمة والاشفاق فما هما إلا للنسوان والصبيان. قال المتنبّي: يدخل صبر المرء في مدحه ... ويدخل الإشفاق في قلبه المتمدّح بأنه يقابل الإساءة بمثلها قال شاعر: اعلم بأنّك ما أسديت من حسن ... إليّ أو سيء أوفيتك الثّمنا قال مسلم بن الوليد «1» : فإن يك أقوام أساؤا فأحسنوا ... إليّ فإنّي بالجزاء لراصد قال الحارثي إذا عفا لم يكن في عفوه من ولا يكدر نعماه، إن سطا عاتب ذا جرم بقدره لا يتعداه. أخذ البريء بجرم السقيم قال الله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً «2» . قال الحارث بن حلزة «3» : عننا باطلا وظلما كما يع ... ترّ عن حجرة الربيض الظّباء «4» وقال آخر: كذي العرّ يكوى غيره وهو راتع «5» وقال آخر: كالثور يضرب لما عافت البقر ووقف رجل على الحجّاج فقال: أصلح الله الأمير جنى جان في الحيّ فأخذت بجريرته وأسقط عطائي. فقال الحجّاج: أما سمعت قول الشاعر: جانيك من يجني عليك وقد ... يعدي الصّحاح مبارك الجرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 ولربّ مأخوذ بذنب صديقه ... ونجا المقارف صاحب الذّنب فقال: أعز الله الأمير كتاب الله أولى ما اتبع. قال الله تعالى: مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ «1» فقال الحجاج: صدقت يا غلام رد اسمه وأثبت رسمه وسن عطاءه. وقال الحسن رضي الله عنه: عقر الناقة رجل واحد ولكن عم القوم بالعذاب لما رضوا بفعله. وقيل لرجل ما فعلت حتى ضربك السلطان؟ فقال: وإن امرأ يمسي ويصبح سالما ... من النّاس إلا ما جنى، لسعيد عذر من بدر منه سخط قال البحتري: إذا أحرجت ذا كرم تخطّى ... إليك ببعض أخلاق اللئام عذر من عاتب على صغير قال رجل من بني يشكر: تعفو الملوك عن العظيم من الذّنوب لفضلها ... ولقد تعاقب في اليسير وليس ذاك لجهلها لكن ليعرف فضلها ... ويخاف شدّة نكلها «2» فضل غلبة الخصم بالحجّة دون البطش قال معاوية رضي الله عنه عجبت لمن يطلب أمرا بالغلبة وهو يقدر عليه بالحجّة ولمن يطلبه بخرق وهو يقدر عليه برفق. ولمّا ظهر ماني الزنديق في أيام سابور بن أزدشير ودعا الناس إلى مذهبه، فأخذه سابور قال له نصحاؤه: اقتله، قال: إن قتلته من غير أن قطعته بالحجة قال عامة الناس بقوله، ويقولون ملك جبار قتل زاهد ولكني أحاجه فإذا غلبته بالحجة قتلته، ففعل ثم حشا جلده تبنا وصلبه. (4) وممّا جاء في العداوات الاحتراس من غرس العداوة قيل: لا تشتر عداوة رجل واحد بمودة ألف رجل. وفي كتاب كليلة لا ينبغي للعاقل أن تحمله ثقته بقوته على أن يجتر العداوة كما لا يجب لصاحب الترياق أن يشرب السم اتكالا على أدويته. وقيل: توسّد النار وافتراش الأفاعي أقل غائلة ممن أوجس عداوتك فيروح بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وقيل: احذر معاداة الرجال فالناس رجلان عاقل فأحذر ختله «1» وأحمق فاحذر حمقه. وقال عبد الله بن الحسن بن الحسين رضي الله عنهم لابنه: إتّق معاداة الرجال فانك لا تعدم مكر حليم أو مفاجأة لئيم. وقيل: الأحقاد مخوفة وأخوفها ما كان في أنفس الكبار فإنهم يرون الطلب الوتر «2» مكرمة. وقال بعضهم في التحذير من العداوة: سيعلم إسماعيل أنّ عداوتي ... له سمّ أفعى لا يصاب دواؤها النهي عن الاعتذار بالعداوة إذا ظهر الود ّ قيل: العدوّ المبطن للعداوة كالنحل تمج الدواء وتجتنب الداء. قال سديف بن ميمون يحرض بني العباس على بني أمية: لا يغرّنّك ما ترى من رجال ... إنّ تحت الضّلوع داء دويّا فخذ السيف واطّرح السوط حتّى ... لا ترى فوق ظهرها أمويّا وله: أنزلوها بحيث انزلها الل ... هـ بدار الهوان والأتعاس ذلّها أظهر التودّد منها ... وبها منكم كحزّ المواسي قال المتنبي: فلا يغررك ألسنة موال ... تقلّبهنّ أفئدة أعادي وكن كالموت لا يرثي لباك ... بكى منه ويروى وهو صاد «3» وقال آخر: تعلم أنّ أكثر ما تنادي ... وإن ضحكوا إليك هم الأعادي «4» وفي كتاب كليلة: لا يغرّ العاقل سكون الحقد في القلب ما لم يجد محركا كالجمر المكنون، ما لم يجد حطبا. والعداوة إذا وجدت فرصة اشتعلت فلا يطفئها شيء دون النفس. النهي عن السّكون إلى من يخافك من خاف شرك أفسد أمرك ومن خاف صولتك ناصب دولتك، قال معاوية: من خاف اساءتك اعتقد مساءتك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 النهي عن السّكون إلى من تقدّم منك له إساءة قيل: إذا أوحشت الحرّ فلا ترتبطه فإذا ارتبطته فلا توحشه. لمّا قدم عبد الملك المدينة خطب فقال: والله ما تحبونا ولا نحبكم ونحن أصحاب يوم الحرة وإنما مثلنا، كما قال النابغة «1» : أبى لك قبر لا يزال مواجها ... وضربة فأس فوق رأسي ناقره «2» وحديث ذلك أن العرب زعمت أن حية كانت في بيت رجل فقتلته فترصدها أخوه ليقتلها طالبا بثأره فقالت له الحية: صالحني على أن اؤدى إليك كل يوم دينارا ففعل. فلما كثر ماله تذكر دخله فأعد فأسا وترصدها فرماها وأشواها، فقطع ذنبها فافلتت وندم الرجل لما لم ينل ثأره، وفاته ما كان يناله فدعاها يوما إلى المراجعة على أن يصالحها فقالت: لا يقع الصلح بيننا ما رأيت قبر أخيك وأرى أثر الفأس في ذنبي. وحكي أن رجلا كان له عبد سندي فتعرض لامرأته فعلم الرجل بذلك فأخذه وجبهه «3» ثم تحوّب «4» لذلك فداواه. فلما برأ اتفق إن غاب الرجل يوما فعمد السندي المحبوب إلى ابنين كانا لسيده فأخذهما وصعد السور فلما بصر بالرجل قال: والله إن لم تجب نفسك كما جببتني لاقذفهما من السور ليموتا، وإن نفسي لأهون من شربة ماء. فلما رأى الرجل منه الجدّ جبّ نفسه فرمى العبد بالابنين من السور، وقال إن جبّك نفسك قصاص لما جببتني وقتل ابنيك زيادة أعطيتكها. التحذير من عدوّ قاهر قيل: أحذر الناس أن يحذر عدوّ قاهر وسلطان جائر. وقيل: إيّاك ومعاداة من أن أرادك بسوء أرداك «5» ، وإن أردته بسوء لم توجع إلّا حشاك، وقيل: لا تعاد من غيظك عليه غيظ الأسير على القد. النهي عن الاستعانة بمن ظلمته قيل: العدوّ عدوان عدوّ ظلمته وعدو ظلمك، فإن اضطرك الدهر إلى أن تستعين بأحدهما فاستعن بالذي ظلمك فإنه أحرى «6» أن يعينك وإن الذي ظلمته موتور «7» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 النهي عن استصغار العدو ّ قيل: لا تستصغرّن أمر عدوك إذا جاريته لأنك إن ظفرت به لم تحمد وإن ظفر بك لم تعذر. الضعيف المحترس من العدوّ القوي أقرب إلى السلامة من القوي المغتر بالعدوّ الضعيف. وقيل: العدو المحتقر ربما اشتد كالغصن النضر بما صار شوكا، وقيل: لا تأمنن العدوّ الضعيف إن تورطك فالرمح قد يقتل به وإن عدم السنان والزجّ «1» ، قال شاعر: لا تحقرّني فربّما نفذت ... في ردم يأجوج جيلة الجرذ «2» قال الموسوي الفيل يضجر وهو أعظم ما رأيت من البعوض. وفي المثل إذا عز أخوك فهن وإذا لم تغلب فاخطب. لا يتقى العدو والقوي بمثل الخضوع واللين فمثل ذلك كمثل الريح العاصف، تقلع الأشجار العظام لتأبّيها عليها، ويسلم منها النبات اللين لتمايله معها، قال سليمان بن وهب: غرّك الدهر بما تهوى فهن ... وإذا ما أخشن الدّهر فلن «3» لا تعاسره وخذ ميسوره ... وتفنّن معه في كل فن «4» قال المأمون لأبي دلف: شد ما استحذيت للحسن بن رجاء. فقال: يا أمير المؤمنين ذلك بما وهبت له من القدرة وصحبه من حداثة الغرارة. وكانت الطاعة تعارض الانتصار منه وخفت أن يكون من قدرته ما يعنيك بي فلا أجد لذلك عوضا فسلمت قال ابن نباتة «5» : وإذا عجزت عن العدوّ فداره ... وامزج له إن المزاج رفاق «6» فالنّار بالماء الذي هو ضدها ... تعطي النضاج وطبعها الإحراق «7» حمد المداجاة طلبا للفرصة قيل لابن القرية: ما الدهاء؟ فقال: تجرع الغصه، وتوقع الفرصة، وقيل: من تمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 الأدب أن تستر العداوة إلى وقت الفرصة لئلا يستسلح لذلك. قال أمير المؤمنين علي كرّم الله وجهه: انكى الأشياء لعدوك أن لا تعلمه أنك اتخذته عدوا. وقيل: لا يكونّن سلاحك على عدوك أن تكثر ثلبه وقصبه فإنك تخبر عن حزمه وعجزك، ولكن دامجه حتى تبادره بالكظم وتساتره بالختل. قال التنوخي: إلق العدّو بوجه لا قطوب به ... يكاد يقطر من ماء البشاشات فأحزم الناس من يلقى أعاديه ... في جسم حقد وثوب من مودّات وقيل: إذا لم تجد لشفرتك محزا فلا تضعها في صلابة فتكلها. المتبجّح باظهار الليان وإبطان العداوة قال عبد الملك بن مروان لما قتل عمر والاشدق سكنته ليقلّ منه نفره، فاصول صولة حازم مستمكن. قال حميد الأكاف: وإني ليلقاني العدوّ مواصلا ... فيحسبني منه أبرّ وأوصلا أجرّ له ذيلي لأدرك فرصتي ... ويحسبني في جرّ ذيلي مغفّلا قال المتنبي: وجاهل مدّه في جهله ضحكي ... حتّى أتته يد فرّاسة وفم وقال آخر: أجامل أقواما حياء وقد أرى ... صدورهم باد على مراضها «1» وصف عدوّ يكاشرك إذا حضرك قال عمرو بن جابر الحنفي: يكاشرني وأعلم أنّ كلانا ... على ما ساء صاحبه حريص «2» قال عمرو بن أم عاصم: كلّ يداجي على البغضاء صاحبه ... ولن أعالنهم إلا كما علنوا» قال المثقب: إن شرّ الناس من يكشر لي ... حين ألقاه وإن غبت شتم «4» قال ابن الرومي: يبيح لي صفحة السلّامة والسّلم ويخفي في قلبه مرضا «5» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 وقال المتنبي: أبدو فيسجد من بالسّوء يذكرني ... ولا أعاتبه صفحا وإهوانا وقيل لأعرابي: كيف فلان فيكم؟ فقال: إذا حضر هبناه وإن غاب اغتبناه «1» . قال: ذاك هو السيد فيكم. من نظره ينبىء عن عداوته وقال زهير: الودّ لا يخفى وإن أخفيته ... والبغض تبديه لك العينان «2» وقال آخر: ستور الضمائر مهتوكة ... إذا ما تلاحظت الأعين «3» وذكر أعرابي قوما فقال: ما زالت عيون العداوة تتجهم فتمجها أفواههم وأسباب المودة تخلق من قلوبهم فتخرس عنها ألسنتهم حتى ما لعداوتهم مزيد. العداوة المستورة والتحذير منها قال الشاعر: وفينا وإن قيل اصطلحنا تضاغن ... كماطر أوبار الجراب على النشر «4» وقال آخر: وقد ينبت المرعى على دمن الثّرى ... وتبقى حزازات النّفوس كما هيا وقال أبو نواس: كمن الشنآن فيه لنا ... ككمون النّار في حجره وقال المتنبي: وإنّ الجرح ينفر بعد حين ... إذا كان البناء على فساد وقيل هدنة على دخل وجماعة على أقذاء. قال شاعر: ومستخبر عنّا يريد لنا الرّدى ... ومستخبرات والعيون سواجم «5» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 وفي كتاب كليلة: لا تأمنن عدّوك على مكنون سرّك فكمون عداوته ككمون الجمر في الرماد إذا وجد فرصة اشتعل. ثبات العداوة الجوهريّة في كتاب كليلة: ليس بين العداوة الجوهرية صلح وإن اجتهد فالماء وإن أطيل إسخانه فليس يمتنع من إطفاء النار إذا صبّ عليها. وحكي أنّ أعرابيا أخذ جر وذئب فربّاه بلبن شاة عنده، وقال: إذا ربيته مع الشاة يأنس بها فيذبّ عنها ويكون أشد من الكلب ولا يعرف طبع أجناسه، فلما قوي وثب على شاته فافترسها، فقال الأعرابي: أكلت شويهتي ونشأت فينا ... فما أدراك أنّ أباك ذيب «1» وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: الودّ والعداوة يتوارثان، وقيل: لكل حريق مطفىء فللّنار الماء وللئيم العداوة وللحزين الصبر وليس للحقد الغريزي دواء. المسرّة بوقوع المعاداة بين أعدائك في كتاب كليلة: من حق العاقل أن يرى معاداة بعض عدوه لبعض ظفرا حسنا. ففي اشتغال بعضهم ببعض خلاصه منهم وفي الأدعية المجمع عليها: اللهمّ أخذل الكافرين وأوقع بينهم العداوة والبغضاء. دنىء يعاديك بلا سبب قال عبد الصمد: ربّ من يشجيه أمري ... وهو لم يخطر ببالي قلبه ملآن من ذكري وقلبي منه خال قال الموسوي: واتعب من ناداك من لا تجيبه ... وأغيظ من عاداك من لا تشا تأسّف من يعاديه لئيم أو دنيء قال علي بن الجهم: بلاء ليس يشبهه بلاء ... عداوة غير ذي حسب ودين يبيحك منه عرضا لم يصنه ... ويرتع منك في عرض مصون ولما حاصر المنصور ابن هبيرة بعث إليه ابن هيبرة أن يبارزني فقال: لا أفعل فقال ابن هبيرة «2» لأشهرنّ امتناعك ولأعيّرنك به فقال المنصور مثلنا ما قيل: إن خنزيرا بعث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 إلى الأسد وقال قاتلني فقال الأسد لست بكفؤى ومتى قتلتك لم يكن لي فخر وإن قتلتني لحقني وصم «1» عظيم. فقال لأخبرنّ السباع بنكولك «2» فقال الأسد: احتمال العارفي ذلك أيسر من التلطخ بدمك، وفي عذر من يخاصم دنيئا ويدافعه قول المتنبي: إذا أتت الإساءة من وضيع ... ولم ألم المسيء فمن ألوم؟ الحثّ على العداوة بالفعل لا القول قيل: غضب الجاهل في قوله وغضب العاقل في فعله. وولي أبو مسلم رجلا ناحية فقال له: إياك وغضبة السفلة فإنها في ألسنتها وعليك بغضبة الأشراف فإنها تظهر في أفعالها. الحثّ على إماتة الحقد أرسطوطاليس «3» استعدّ لإهماد «4» لهب العداوة بالاناة قبل تلّهب ناره فإن إطفاءه قبل انتشاره سهل يسير، وقيل: ما أحسن بالرجل أن يحسن مداراة عدوه حتى يطفىء سورة «5» ناره وقال بعض أصحاب المأمون يوما إن عجيف بن عنبسة خبيث النية رديء السريرة «6» ، وأراك قد قربت مجلسه. فقال: والله لأحسنن إليه ولا تفضلن عليه حتى أكون أحب الناس إليه. فلم يزل يختصه حتى صار يبذل دونه مهجته. مدح الحقد وذويه وصف أعرابي حقودا فقال: يحقد حقد من لا ينحلّ عقده ولا يلين كيده، وقال يحيى لعبد الملك ابن صالح: إنك حقود فقال: إن كان الحقد عندك بقاء الخير والشر إنهما عندي لثابتان، فلما قام قال يحيى ما رأيت من احتج للحقد حتى حسنه سواه وقيل لرجل: أنك لحقود، فقال: وإن امرأ لم يحقد الوتر لم يكن ... لديه لذي النعماء جزاء ولا شكر قال ابن الرومي: وما الحقد إلا توأم الشكر في الفتى ... وبعض السجايا ينتسبن إلى بعض إذا الأرض أدّت ريع ما أنت زارع ... من البذر فيها فهي ناهيك من أرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 قال الأخطل: شمس العداوة حتى يستقاد لهم «1» ذمّ الحقد وذويه قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ترفع أعمال العباد فترفع إلى الله في كل جمعة فيغفر للمستغفرين ويرحم المترحّمين ويترك أهل الحقد لنيتهم. وقيل للأحنف: من أسود الناس فقال: الأخرق في ماله المطرّح لحقده. أسباب العداوات شكا رجل إلى سهل بن هارون عداوة رجل فقال: العداوة تكون من المشاكلة والمناسبة والمجاورة واتفاق الصنائع فمن أيّها معاداته لك وقال رجل لآخر إنّي أخلص لك المودة، فقال: قد علمت. قال كيف علمت وما معي من الشاهد إلا قولي. قال إنك لست بجار قريب ولا بابن عم نسيب ولا بمشاكل في صناعة، وقيل لمشيب بن شبة: ما بال فلان يعاديك فقال لأنّه شقيقي في النسب وجاري في البلد ورفيقي في الصناعة، وقيل: كل عداوة لعلة فإنها تزول بزوال العلة وكل عداوة لغير علّة فإنها لا تزول. عداوة الأقارب قيل: عداوة الأقارب كالنار في الغابة. ما النار في الفتيلة بأحرق من تعادى القبيلة. وقيل: عداوة الأقارب كلسع العقارب. قال: إن الأقارب كالعقارب بل أضرّ من العقارب. وسئل بعضهم عن بني العم فقال: هم أعداؤك وأعداء أعدائك، ولهذا باب في الأقارب. من لا يبالى بعداوته قال الأعشى «2» : ألست منتهيا عن نحت أثلتنا ... ولست ضائرها ما أطّت الإبل «3» كناطح صخرة يوما ليوهنها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل وقال كشاجم: تبارزني ونفسك في رصاص ... وكم يبقى على النّار الرّصاص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وقال الحجاج: أهل العراق أهل الشقاق والنفاق ومساوىء الأخلاق. ثلث من الدين مارق وثلث منافق وثلث سارق. والله لو عاديتموني لما ضررتموني وما مثلي ومثلكم إلا كما قيل: فرأيك لو أبغضتني ما ضررتني ... ولو رمت نفعا ما وسعت لذلك (5) ومما جاء في الحسد حدّ الحسد قيل: الحسد أن تتمنى زوال نعمة غيرك والغبطة أن تتمنى مثل حال صاحبك وقال صلّى الله عليه وسلم المؤمن يغبط والمنافق يحسد. وقيل: الحسد خلق دنيء وقال ابن المعتز: الحسد من تعاطى الطبيعة واختلاف التركيب. وقيل: الحسد داعية النكد. استعظام الحسد من بين الذّنوب قال ابن السماك: إن الله تعالى أنزل سورة جعلها عوذة لخلقه من صنوف الشر فلما انتهى إلى الإعاذة من الحسد جعلها خاتما إذ لم يكن بعده في الشر نهاية الحسد أوّل ذنب عصى الله به في السماء والأرض. قال ابن المقفع: الحسد والحرص دعامتا الذنوب فالحرص أخرج آدم عليه السلام من الجنة والحسد نقل إبليس من جوار الله تعالى. وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: رفع البركة عن خمسة عن الناكث والباغي «1» والحسود والحقود والخائن. وقال صلّى الله عليه وسلم: الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. النهي عن الحسد روي أن سليمان عليه السلام: سأل الله تعالى أن يعلمه كلمات ينتفع بها، فأوحى إليه أني معلّمك ستّ كلمات لا تغتابن عبادي وإذا رأيت أثر نعمتي على عبد فلا تحسده. فقال: يا رب حسبي أنا لا أقوم بهاتين من حسد من دونه قل عدوه ومن حسد من فوقه أتعب نفسه. كون الحسد ضارّا لصاحبه قال علي كرم الله وجهه: ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من الحاسد: نفس دائم وعقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 هائم وحزن لازم وقال أيضا لله در الحسد ما أعدله يقتل الحاسد قبل أن يصل إلى المحسود. وقيل: الحسود لا يسود. وقال الجاحظ: من العدل المحض والإنصاف الصريح أن تحط عن الحاسد نصف عقابه لأن ألم جسمه قد كفاك مؤنة شطر غيظك. وقيل: لا راحة لحسود ولا وفاء لملول الحسود غضبان على القدر والقدر لا يعتبه. ولمنصور الفقيه: ألا قل لمن بات لي حاسدا ... أتدري على من أسأت الأدب أسأت على الله في حكمه ... إذا أنت لم ترض لي ما وهب وجد على بساط لملك الروم البخيل مذموم، والحسود مغموم، والحريص محروم. وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن الحسد والنكد «1» أيهما شر؟ فقال: الحسد داعية «2» النكد بدلالة أن إبليس حسد آدم عليه السلام فصار حسده سبب نكده فأصبح لعينا بعد أن كان مكينا «3» . صعوبة إرضاء الحاسد قال معاوية: كل الناس يمكنني أن أرضيه إلا الحاسد فإنه لا يرضيه إلا زوال نعمتي. وقيل: لزاذان فروح: أيّ: عدو لا تحب أن يعود صديقا؟ قال: الحاسد الذي لا يرده إلى مودتي إلّا زوال نعمتي. قال المتنبي: سوى وجع الحسّاد داو فإنّه ... إذا حلّ في قلب فليس يحول «4» وقال الببغا: ومن البليّة أن تداوي حقد من ... نعم الإله عليك من أحقاده وصف الحسد بأنه أعظم عداوة قال أبو العيناء: إذا أراد الله أن يسلّط على عبده عدوّا لا يرحمه، سلط عليه حاسدا. وقال بعضهم: ما ظنك بعداوة الحاسد وهو يرى زوال نعمتك نعمة عليه. صعوبة شماتة الحساد سأل بعض الملوك جماعة من الحكماء عن أشد ما يمرّ على الإنسان، فقال بعضهم: الفقر، وقال آخرون: الفقر في الغربة، وقال غيرهم الغربة مع المرض. ثم أجمعوا على أن أشد من ذلك كله شماتة العدو ثم أجمعوا على أن أشد من ذلك كله رحمة العدو للمرء من نكبة تناله. فقال: وحسبك من حادث بامرىء ... ترى حاسديه له راحمينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 قال ابن أبي عيينة: كلّ المصائب قد تمرّ على الفتى ... وتزول غير شماتة الحسّاد قال الخبزارزي «1» : شماتتكم لي فوق ما قد أصابني ... وما بي دخول النار بل طنز مالك «2» الحسد يظهر فضل المحسود قال البحتري: ولن يستبين الدهر موضع نعمة ... إذا أنت لم تدلل عليها بحاسد وقال أبو تمّام: وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود «3» وفي مثله: يبين فضل الشيء من عاداه «4» وقال: فضل الفتى يغري الحسود بسبّه ... والعود لولا طيبه ما أحرقا «5» الفضائل مقتضية «6» للحسد قيل: لا يفقد الحسد إلا من فقد الخير أجمع، فمنبع الحسد مقرّ النعمة. قال شاعر: وحذاء كل مروءة حسّادها «7» قال البحتري: وليس يفترق النعماء والحسد وقال آخر: وترى الكريم محسّدا لم يجترم ... شتم الرجال وعرضه مشتوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 ومرّ قيس بن زهير ببلاد بني غطفان فرأى ثروة فكره ذلك، فقال له الربيع ألا يسرّك ما يسرّ الناس؟ فقال: إن مع الثروة التحاسد والتخاذل ومع القلة التحاشد والتناصر، وقيل لبعض المهالبة: ما أكثر حسادكم؟ فقال: إن العرانين تلقاها محسدة ... ولن ترى للئام الناس حسّادا «1» قال ابن المعتز: المجد والحسّاد مقرو ... نان، إن ذهبوا فذاهب وإذا ملكت المجد لم ... تملك مودّات الأقارب قال الموسوي: عادات هذا الدهر ذمّ مفضل ... وملام مقدام وعذل جواد المحسود لفضله قال شاعر: حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم «2» كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدا وبغضا إنّه لدميم «3» قال ابن المعتزّ: ومن عجب الأيام بغي معاشر ... غضاب على سبقي إذا أنا جاريت يغيظهم فضلي عليهم ونقصهم ... كأنّي قسمت الحظوظ فحابيت الدعاء للإنسان بأن يكون محسودا قال شاعر: لا ينزع الله عنهم ما له حسدوا وقال آخر: لا زلت عرض قرير العين محسودا وقال آخر: لا زال مكتسيا سربال محسود وقال آخر: ولا برحت نعماك داء حسودها «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 وقيل في الدعاء: حسد حاسدك. وقال بعض أهل اللغة: ولا يقال حاسد حسدك لأنه يصير دعاء للحاسد. ذمّ من لا يحسد قال: ولن ترى للئام النّاس حسّادا الحارثي: وأسوأ أيام الفتى يوم لا يرى ... ما أحدا يزري عليه وينكر «1» دنيء يحسد سريّا قال مروان بن أبي حفصة «2» : ما ضرّني حسد اللئام ولم يزل ... ذو الفضل يحسده ذو والتّقصير قال أبو تمّام: لكلّ كريم من ألائم قومه ... على كلّ حال حاسدون وكشّح «3» من يحسد الذين تصل إليهم نعمه قيل: توصل رجل إلى إبليس فقال له: لي إليك حاجة إنّ لي ابن عم ذا ثروة وله إحسان كثير إلي وتوفر علي ولي بماله نفع بيّن، ولكنّي أريد أن تزيل نعمته، وأن افتقرت بفقره. فقال إبليس لاصحابه من أراد أن يرى من هو شر منّي فلينظر إليه. وقيل لرجل: أتحسد فلانا وهو يواليك ويكرمك. فقال نعم حتى أصير مثله أو يصير مثلي قال المتنبي: وأظلم أهل الأرض من بات حاسدا ... لمن بات في نعمائه يتقلّب قال ابن الرومي: يا من يعادي السماء إن رفعت ... كلّ خيرها تحتها ودع نكدك «4» المكذب بأفعاله قول الحساد يكذّب قول الحاسدين سماحتي ... وصبري إذا ما الأمر عضّ فأضجعا قال لبيد: بنو عامر من خير حي علمتم ... وإن نطق الأعداء زورا وباطلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 تبكيت الحاسد وحثّه على أن يفعل فعل محسود لينال منزلته قال البحتري: لا تحسدوه فضل رتبته التي ... اعيت عليه وافعلوا كفعاله قال السري الرفّاء: نالت يداه أقاصي المجد الذي ... بسط الحسود إليه باعا ضيّقا أعدوه هل للسّماك جريرة ... في أن دنوت من الحضيض وحلّقا أم هل لمن ملأ اليدين من العلا ... ذنب إذا ما كنت منه مملقا «1» استراحة من لا يحسد وطيب عيشه الفضل لمن نبذ الحسد وأراح الجسد ولزم الجدد «2» قال البحتري: مستريح الأحشاء من كلّ ضغن ... بارد الصدر من غليل الحسود «3» قال الأصمعي: رأيت أعرابيا أتى عليه عمر كثير، فقلت: أراك حسن الحال في جسدك. قال: نعم تركت الحسد فبقيت نفسي. وهذا من قول سقراط: الحسد يأكل الجسد. قال الفضيل: لا يستريح قلبك حتى يترك كلّ الدنيا. وقيل: من دعته نفسه إلى ترك الدنيا فلينظر هل يحسد أحدا فإن حسد كان تركه عجزا لأنه لو زهد فيها ما حسد عليها. الممدوح بأنه لا يحسد وقف الأحنف على قبر الحارث بن معاوية فقال: رحمك الله كنت لا تحقر ضعيفا ولا تحسد شريفا. قال التنوخي: فما نشرت أعراضهم عن معائب ... ولا طويت منهم قلوب على حقد وأنّى يكون الحقد والنّاس دونهم ... ولا حقد إلا أن يكون على ندّ «4» من جلّ عن أن يحسد أو يعادى قال ابن الرومي: ما أنت بالمحسود لكن فوقه ... أن المبين الفضل غير محسّد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 فتحاسد القوم الذين تقاربت ... طبقاتهم وتقاربوا في السؤدد فإذا أبرّ أميرهم وبدا لهم ... تبريزه في فضله لم يحسد «1» وقال أبو تمّام: وسمحت في الدّنيا فما لك حاسد الحثّ على التحرّز «2» من حسد السلطان قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إنّ الرجل إذا ملك زهّده الله فيما في يده ورغّبه فيما لغيره وأشرب قلبه الإشفاق. فهو يحسد على القليل ويتسخط الكثير. لما فرغ جعفر ابن يحيى من بناء قصره صار إليه وجوه أصحابه وفيهم مؤنس بن عمران وكان رجلا كاملا فاستحسنوه، ومؤنس ساكت. فقال جعفر: لم لا تتكلم؟ فقال: فيما قالوه كفاية. فألحّ عليه أن يقول شيئا فقال مؤنس: أتصبر على الحق والصدق. قال نعم فقال: إن خرجت ومررت بدار لبعض أصحابك تشبهها أو تفوقها، ما أنت قائل؟ قال: قد فهمت فما الرأي؟ فقال له: تأتي أمير المؤمنين وتقول: إني قد بنيت هذا القصر للمأمون واتبعه من الكلام ما أنت أعلم به. فسأله الرشيد عن خبره فقال له ذلك، وقال له: إني استعملت لكل بيت من الفرش ما يليق به، فزال عن قلب الرشيد ما خامره. وقال الشعبي: وجهني عبد الملك إلى ملك الروم فلما انصرفت دفع إلي كتابا مختوما فلما قرأه عبد الملك رأيته تغيّر وقال: يا شعبي أعلمت ما كتب هذا الكلب، قلت: لا. قال: إنه كتب لم يكن للعرب أن تملك إلا من أرسلت به إلي. فقلت: يا أمير المؤمنين إنّه لم يرك ولو رآك لكان يعرف فضلك، وإنه حسدك على استخدامك مثلي. فسرّي عنه، وقيل: إذا أردت أن تسلم من حسد سلطانك فعم عليه مجامع شأنك. ما لا يستقبح فيه الحسد قال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا حسد إلا في اثنين رجل آتاه الله ما لا ثم أنفقه في حقّ، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها. وقال أرسطوطاليس: الحسد حسدان محمود ومذموم فالمحمود أن ترى عالما فتشتهي أن تكون مثله أو زاهد فتشتهي مثل فعله والمذموم أن ترى عالما أو فاضلا فتشتهي أن يموت. المتبجّح بكونه حسودا اجتمع ثلاثة نفر فقال أحدهم لصاحبه: ما بلغ من حسدك؟ قال: ما اشتهيت أن أفعل بأحد خيرا قط. فقال الثاني: إنك رجل صالح أنا ما اشتهيت أن يفعل أحد بأحد خيرا قط. فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 الثالث: ما في الأرض أفضل منكما، أنا ما اشتهيت أن يفعل بي أحد خيرا قط. وقال عبد الملك للحجاج: صف نفسك فليس العاقل إلّا من عرف نفسه. فقال: أنا حديد حقود حسود. حمد الغبطة وذمّها روي في الخبر: المؤمن يغبط «1» والمنافق يحسد. وروي أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم سئل: أيضرّ الغبط؟ قال: نعم كما يضرّ الورق الخبط «2» . (6) ومما جاء في التواضع والكبر ما حدّ به التواضع والكبر قيل لبعضهم: ما التواضع؟ قال: أخلاق المجد واكتساب الود. فقيل ما الكبر؟ قال: اكتساب البغض، وقيل لأزدشير: ما الكير؟ فقال: اجتماع الرذائل لم يدر صاحبها أين يضعها فيصرفها إلى الذم. فضل التواضع والحثّ عليه قال النبي صلّى الله عليه وسلم: طوبى لمن تواضع التواضع أحد مصائد الشرف، من لم يتضع عند نفسه لم يرتفع عند غيره وفي الثمل تواضع الرجل في مرتبته زبّ للشماتة عند سقطته، وقيل: من وضع نفسه دون قدره رفعه الناس فوق قدره ومن رفعها عن حده وضعه الناس دون قدره، وقيل لبزرجمهر: هل تعرف نعمة لا يحسد عليها؟ قال: نعم التواضع فقيل: هل تعرف بلاء لا يرحم صاحبه؟ قال: نعم الكبر. فضل كبير متواضع قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يجلس على الأرض ويأكل على الأرض ويعتقل الشاة ويجيب دعوة المملوك ويقول: لو دعيت إلى كراع «3» لأجبت. وكان يحيى بن سعيد خفيف الحال فاستقضاه أبو جعفر فلم يتغير فقيل له: في ذلك فقال: من كانت نفسه واحدة لم يغيره المال. ولما ورد المرزبان على عمر رضي الله عنه فاورد باب داره وقرع بابه فقيل: أنه قد خرج آنفا فكانوا يسألون عنه فيقولون مر من ههنا آنفا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 فاستحقر «1» المرزبان أمره، إلى أن انتهى إليه وهو نائم في ناحية المسجد فلما رفع رأسه امتلأت نفس المرزبان منه رعبا فقال: هذا والله الملك الهنىء لا يحتاج إلى حراس ولا إلى عدد وقال عمر رضي الله عنه حين نظر إلى صفوان مبتذلا لأصحابه هذا رجل يفر من الشرف والشرف يتبعه، وقال معاوية لرجل: من سيّد قومك؟ فقال: الجاهم الدهر إليّ فقال بمثله من التواضع يحل الشرف، وقال عمر رضي الله عنه أريد رجلا إذا كان في القوم وهو أميرهم كان كبعضهم فإذا لم يكن أمير فكأنه أميرهم، قال أبو تمام: متبذل في القوم وهو مبجّل ... متواضع في الحيّ وهو معظّم «2» وقال آخر: متواضع والنبل يحرس قدره ... وأخو التواضع بالنباهة ينبل قال الخوارزمي: عجبت له لم يلبس الكبر حلّة ... وفينا إذا جزنا على بابه كبر ذمّ التكبر والنهي عنه قال الله تعالى: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ «3» وقال تعالى: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ «4» ، وقال: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ «5» ، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: إن الله يقول الكبر إزاري «6» والعظمة ردائي، من نازعني واحدا منهما ألقيته في النار، وأخذ أبو نواس هذا المعنى فقال: حذّرتك التيه لا يعلقك ميسمه ... فإنّه ملبس نازعته الله وقال بزرجمهر: وجدنا التواضع مع الجهل والبخل، أحمد عند العقلاء من الكبر مع الأدب والسخاء. فانبل بحسنة غطّت سيئتين، وأقبح بسيئة غطت على حسنتين. كم من صلف أدى إلى تلف، العجب لابن آدم لم يتكبر وقد جرى في مجرى البول مرتين. أخذ ابن الرومي ذلك فقال: كيف يزهو من رجيعه ... أبا الدهر ضجيعه قال: منصور الفقيه، يا قريب العهد بالمخرج لم لا تتواضع، ويروى عن النبي صلّى الله عليه وسلم لا يبغى على الناس إلّا ولد بغى أو من فيه عرق سوء، وقيل: ما تاه إلّا وضيع ولا فاخر إلا سقيط ولا تعظم إلا لقيط «7» وقيل: دع الكبر فمتى كنت من أهل النبل لم يضرك التبذّل ومتى لم تكن من أهله لم ينفعك التبتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 ذكر السبب الداعي إلى التكبّر قال المأمون «1» : ما تكبّر أحد إلّا لنقص وجده في نفسه ولا تطاول إلّا لوهن أحسنّ من نفسه قال أحمد بن أسماعيل: رأيت الرياسة مقرونة ... بلبس التكبّر والنخوه ذمّ متكبّر لولاية نالها قيل: من نال منزلة فابطرته دل على رداءة أصله وعنصره. قال أحمد بن أبي طاهر: وتاه سعيد أن أفيد ولاية ... وقلّد أمرا لم يكن من رجاله وأدبر عنّي عند إقبال حظّه ... وغيّر حالي عنده حسن حاله وضاق علي حقّي بعقب اتساعه ... فأوسعنه عذرا لضيق احتماله وقال سفيان رحمه الله: السفل إذا تمولوا استطالوا وإذا افتقروا تواضعوا والكرام إذا تموّلوا تواضعوا وإذا افتقروا استطالوا. قال صالح بن عبد القدوس: تاه على إخوانه كلّهم ... فصار لا يطرف من كبره «2» أعاده الله إلى حاله ... فإنّه يحسن في فقره «3» المبغيّ عليه منصور قال الله تعالى: ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ «4» ، وقال تعالى: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ «5» وقال صلّى الله عليه وسلم: ما رأيت أسرع هلاكا من البغي، وقال صلّى الله عليه وسلم: ذنبان عجل عقوبتهما: البغي وقطيعة الرحم. قال يزيد بن الحكم: البغي يصرع أهله ... والظلم مرتعه وخيم «6» ذمّ متكبّر بخيل أو دنيء قال النبي صلّى الله عليه وسلم: البخل والكبر لا يجتمعان في مؤمن. وقيل: من استطال بغير تطوّل وامتنّ بغير منّة فقد استعجل المقت. قال عليّ بن الجهم: جمعت أمرين ضاع الحزم بينهما ... تيه الملوك وأفعال المماليك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 قال أبو بكر بن الزبير: يا قليل القدر موفور الصلف ... والذي في التيه قد حاز السرف «1» كن لئيما وتواضع تحتمل ... أو سخيّا يحتمل منك الصلف وقيل: أنف في السماء واست في الماء. ومن هذا النحو قول الجعدي: بالأرض أستاههم عجزا وأنفهم ... عند الكواكب بغيا يا لذا عجبا ذمّ فقير متكبر قيل: أبغض الناس ذو عسر يخطر في رداء كبر، قال الشاعر في ذم آخر: فخر بلا حسب عجب بلا أدب ... كبر بلا درهم هذا من العجب ذمّ الفخر وذويه قال الله تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً «2» وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ «3» ونظر النبي صلّى الله عليه وسلم إلى رجل بخرازاره فقال: أرفع إزارك فإنه أبقى وأنقى وأتقى فقال: يا رسول الله إنّه مروءة. فقال أليس: لك بي أسوة وكان إزاره صلّى الله عليه وسلم إلى انصاف ساقيه. نظر مطرف إلى المهلب وعليه حلة يسحبها فقال: ما هذه المشية التي يبغضها الله؟ فقال: أو ما تعرفني؟ قال: بلى أولك نطفة «4» مذرة وآخرك جيفة قذرة «5» وأنت بين ذلك حامل عذرة «6» فلم يعد إلى تلك المشية، ونظر الحسن رضي الله عنه إلى رجل يخطر في ناحية المسجد، فقال: انظروا إلى هذا ليس فيه عضوا إلّا ولله عليه نعمة وللشيطان فيه لعبة. ذمّ من ضرع ذلّة بعد التكبّر قال شاعر: رفع الكلب فاتّضع ... ليس في الكلب مصطنع بلغ الغاية التي ... دونها كلّ ما ارتفع إنّما قصر كلّ شي ... ءإذا طار أن يقع لعن الله نخوة ... صار من بعدها ضرع مدح متواضع بسرعة المشي والتجوز في الأكل كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسرع المشي فقيل له في ذلك فقال: هو أنجح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 للحاجة وأبعد من الكبر أما سمعت قول الله تعالى: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ «1» ، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يأكل على الأرض فقيل له في ذلك فقال: إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد. المتواضع بالقيام بحوائج النّاس وتحمّل أثقالهم كان النبي صلّى الله عليه وسلم يمشي مع الأرملة يقضي حاجتها ولا يستنكف «2» ، واشترى رجل شيئا فمر بسلمان وهو أمير المدائن فلم يعرفه فقال: احمل هذا معي يا علج «3» ، فحمله وكان من يتلقاه يقول ادفعه إليّ أيها الأمير فيقول: لا والله لا يحمله إلا العلج والرجل يعتذر إليه ويسأله أن يردّه عليه وهو يأبى حتى حمله إلى مقرّه. المتواضع في قيامه بأمر عياله اشترى أمير المؤمنين رضوان الله عليه تمرا بدرهم فحمله في ملحفته فقال له بعض أصحابه: دعني أحمله، فقال: أبو العيال أحق أن يحمله. ورؤي بعض الكبار وبيده بطن شاة فقال له رجل: ادفعه إليّ فإنه يزري «4» بك، فقال: ما نقّص الكامل من كماله ... ما جرّ من نفع إلى عياله وكان أبو هريرة رضي الله عنه يحمل الحزمة من الحطب وهو خليفة مروان، وكان يقول: وسّعوا للأمير. حمد تعظيم الكبار قدم قيس بن عاصم على النبي صلّى الله عليه وسلم وكان سيد أهل الوبر فبسط له رداءه ثم قال: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه. وروي أن مجوسيا دخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخرج صلّى الله عليه وسلم من تحته وسادة حشوها ليف وطرحها له وأقبل عليه يحدّثه، فلما نهض قال عمر رضي الله عنه: إنّه مجوسي، فقال عليه الصلاة والسلام: قد علمت ولكن جبريل عليه السلام يأمرني أن أكرم كلّ كريم قوم إذا أتى، وهذا سيد قومه. وقال الشعبي: ركب زيد بن ثابت فدنا منه عبد الله بن العباس رضي الله عنهم ليأخذ بركابه فقال: ما تفعل يا ابن عم رسول الله؟ فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأمرائنا فقال زيد ارني يدك فأخذها وقبلها وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبيّنا. النهي عن التصدّر في المجالس قال زياد لابنه: إياك وصدر المجالس فإنه مجلس قلعة. قال الأحنف: ما جلست مجلسا خفت أن أقام منه لغيري ولهذا باب في غير هذا الموضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 حمد تصديرك صاحبك دخل سالم بن مخزوم على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: فتنحى له عن الصدر فقيل له في ذلك فقال: إذا دخل عليك من لا ترى لك عليه فضلا فلا تأخذ عليه شرف المنزلة. مدح معرفة الرجل قدر نفسه قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: لن يهلك امرؤ عرف قدره. وقال الشافعي رضي الله عنه: أنفع الأشياء أن يعرف الرجل قدر منزلته ومبلغ عقله ثم يعمل بحسبه. وقد تقدّم من ذلك صدر في باب العقل. ذمّ اعجاب المرء بنفسه قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ثلاث مهلكات: شحّ مطاع وهوى متبّع وإعجاب المرء بنفسه. وقيل: عجب المرء بنفسه أحد حساد عقله. وقال الشاعر: ما النّاس عندك غير نفسك وحدها ... والناس عندك ما خلاك بهائم وقال أعرابي لرجل معجب بنفسه يسرني أن أكون عند الناس مثلك في نفسك وعند نفسي مثلك عند الناس. وقال إبليس: إذا ظفرت من ابن آدم بثلاث لم أطالبه بغيرها إذا أعجب بنفسه واستكثر عمله ونسي ذنبه. ذكر من عظم إعجابه وصلفه حكي عن ابن ثوابة أنه قال لغلامه: اسقني ماء، فقال: نعم فأمر بصفعه فقيل له: في ذلك فقال: إنما يقول نعم من يقدر أن يقول لا، وليس لهذا هذه المنزلة. ودعا يوما أكّارا يكلمه. فلما فرغ دعا بماء وتمضمض به استقذارا لمخاطبته وكان جذيمة «1» الأبرش لا ينادم أحدا استعظاما. وقال: إنما ينادمني الفرقدان «2» . فكان يشرب كأسا ويصب لهما كأسين في الأرض واستأذن نافع بن جبير بن مطعم على معاوية فمنعه الحاجب فهشم أنفه، فقال له معاوية: أتفعل هذا بحاجبي؟ فقال له: وما يمنعني وأنا بالمكان الذي أنا به من أمير المؤمنين. فقال له أبوه: فض الله فاك إلا قلت وأنا بالمكان الذي أنا عليه من عبد مناف. معتذر لعجبه وعزّته قيل لأياس بن معاوية: ما فيك عيب غير أنك معجب، فقال: أيعجبكم ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 أقول؟ قالوا نعم قال: فأنا أحق أن أعجب به محمد بن عمران، يقولون ذو كبر ولو خص بعضهم، ببعض خصالي ما استفاق من الكبر، قيل لخالد بن يزيد بن معاوية: لم تطعم الأرض من فضل ثيابك؟ فقال: أكره أن أكون كما قال علي بن عبد العزيز: قصير الثياب فاحش عند بيته ... وشرّ قريش في قريش مركبا وقال يمنّي ليزيد بن مزيد وعليه برد «1» يمنى يسحبه لم يعرق جبينك في نسجه فلذلك تسرف في بذله، فقال: عليكم نسجه وعلينا سحبه. وقال رجل للحسن: ما أعظمك في نفسك فقال: لست بعظيم ولكن عزيز من قول الله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ «2» البديهي في معناه: وما أنا مزهر ولكنّني فتى ... أبت لي نفس عزة أن أزيلها الممتنع من التذلّل لكبير ومتكبّر عليه قال عدي بن أرطاة وهو أمير لوكيع بن أبي الأسود: سوّ عليّ ثيابي فقال: ذكرتني الظعن «3» وكنت ناسيا، في خفي ضيق فليمده الأمير حتى أنزعه. فقال له عديّ إن الجليس ليلقى من جليسه أكثر من هذا. فقال: يا عدي إذا عزلت عنا فكلفنا أكثر من هذا أما وأنت ترى لك علينا بسطة فلا الموسوى يذكر والده وامتناعه من تقبيل يد بعض السلاطين: فتى تاه عن بسط الملوك وقد عنت ... عليها جباه من رجال وآنف «4» زمام علا لو غيره رام جرّه ... لساق به حاد من الذّل معنف «5» متكبّر على ذي كبر سئل الحسن عن التواضع فقال: هو التكبر على الأغنياء. وأتى سليمان بن عبد الملك طاووسا فلم يكلمه، فقيل له في ذلك فقال: أردت أن يعلم أن في عباد الله من يستصغر ما يستعظم ذلك من نفسه. أنشد المبّرد: إذا تاه الصديق عليك كبرا ... فته كبرا على ذاك الصّديق فإيجاب الحقوق لغير راع ... حقوقك رأس تضييع الحقوق «6» وعلى هذا قال بعضهم: ما تكبر عليّ أحد قط إلا تحول داؤه في أن قابلته بفعله. وقال بعضهم: ما تاه أحد عليّ أكثر من مرة واحدة لأني تركته بعد ذلك وأعرضت عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 من ترك حقّه إشفاقا من وصمة «1» تلحقه اختصم الأصبهيد صاحب طبرستان والمصمعان صاحب دباوند في شيء، فكتب إلى الحجّاج أن يوجه رجلا يحكم بينهما، فوجه أياسا إليهما، فلما صار بالمنصف بعث إليهما فحضر الأصبهيد على سريره وألقى للمصمعان وسادة فقال أياس للأصبهيد: أنت ظالم وقد عرفت ذلك منك. قال فيم؟ قال: العدل أن تساويه في الحكم فقال: إذا أدع حقى ولا أساويه في المجلس فترك حقه وعاد إلى مكانه. وقال الرشيد يوما لجلسائه: إن عمارة قد ذهب في التيه كلّ مذهب وأحب أن أضع منه، فقيل له لا شيء أوضع للرجال من منازعة الرجال والرأي أن يؤمر رجل ليدعي أفضل ضيعة له أنه غصبه إياها، ففعل ذلك، فلما دخل عمارة قام الرجل فتظلم منه وشنّع عليه، فقال الرشيد: أما تسمع ما يقول الرجل؟ فقال من يعني؟ فقال الرشيد: يعنيك أنك غصبته كذا فقم واجلس معه مجلس الحكم. فقال: إن كانت هذه الضيعة له فلست أنازعه فيها وإن كانت لي فقد جعلتها له. فانقطع كلام الرجل فلما انصرف قال عمارة لرجل كان معه: من هذا المدّعي فإذا أنه لم يملأ عينه منه فأخبر الرشيد بذلك. فقال: سوّغنا «2» تيهه له بعد ذلك. النهي عن الإفراط في التّواضع قال ابن المقفع: الإفراط في التواضع يوجب المذلّة، والإفراط «3» في المؤانسة يوجب المهانة. وقيل: من التواضع ما يضع. عذرخ من تواضع لدنىء مهابة قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إنّ من شرار الناس من أكرمه الناس اتقاء شرّه كان أبو العباس ضم المنصور إلى حميد بن قحطبة فقال له يزيد بن حاتم: أترضى بمتابعة حميد؟ فقال: اسجد لقرد السّوء في زمانه ... وداره ما دام في سلطانه «4» وفي المثل الحمى أضرعتني «5» لك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 الحدّ الرابع في النصرة والأخلاق والمزاح والحياء والأمانة والخيانة والرفعة والنذالة (1) الجوار والنّصرة الحث على مراعاة الجار قال الله تعالى: وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ «1» وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه وقال صلّى الله عليه وسلم: من كان له جيرة ثلاثة كلهم راضون عنه غفر له. وقيل: عليكم بحسن الجوار فإن السباع وعتاق الطير في الهواء تحامى على من يجاورها. وقيل: الكريم يرعى حق اللحظة ويتعهد حرمة اللفظة. وقال جعفر بن محمد: حسن الجوار عمارة الديار. وقال زهير: وجار البيت والرّجل المنادي ... أمام البيت عقدهما سواء «2» الأمر بكفّ الأذى عنه قال النبي صلّى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذين جاره. وقيل: ليس من حسن الجوار ترك الأذى، ولكن من حسن الجوار الصبر على الأذى. وفي الخبر من آذى جاره أورثه الله داره. وقيل: من آذى جاره خرّب الله داره. الناصر من استجار به كان أبو سفيان إذا نزل به جار قال يا هذا إنك قد اخترتني جارا واخترت داري دارا فجناية يدك على دونك وإن جنت عليك يد فاحتكم علي حكم الصبيّ على أهله، وكان أبو حنبل يقال له مجير الجراد، وذلك أنه نزل عليه جراد بفنائه فعدا الحي إليه فقال لهم: إلى أين؟ فقالوا أردنا جيرانك جرادا نزل بفنائك. فقال أما إذا سميتموه جاري فلا تصلون إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 أبدا فأمر قومه أن يسلّوا سيوفهم ويمنعوه. وفيهم يقول الشاعر: ومنّا ابن مرّ أبو حنبل ... أجار من النّاس رجل الجراد وقال مروان: هم يمنعون الجار حتّى كأنّما ... لجارهم بين السّماكين منزل «1» وقال نهشل: وجار منعناه من الضّيم والعدا ... وجيران أقوام بمدرجة النمل وقال ابن نباتة: ولو يكون سواد الشعر في ذممي ... ما كان للشّيب سلطان على القمم «2» قال الحطيئة: قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم ... شدّوا العناج وشدّوا فوقه الكربا «3» المستنصر ذويه على أعاديه وتوائب لياليه كتب عثمان رضي الله عنه إلى عليّ كرم الله وجهه حين حصر: فإن كنت مأكولا فكن أنت آكلي ... وإلّا فأدركني ولمّا أمزّق «4» قال أحمد بن أبي فنن: هل أنت منقذ شلوي من يدي زمن ... أضحى يقّد أديمي قدّ منتهس «5» دعوتك الدعوة الأولى وبي رمق ... وهذه دعوتي والدّهر مفترسي قال ابن الحجّاج: يا راعي السّرب يحميه ويحرسه ... إن الذئاب قد استولت على الغنم فعافني بتلافي العين من سقم ... لم يبق منّي سوى لحم على وضم «6» حتى أقول لريب الدهر كيف ترى ... تعصّب السادة الأحرار للخدم نصرة قريب وإن كان عدوا قيل: الحفائظ تحلل الأحقاد قال: عند الشدائد تذهب الأحقاد وهذا باب مستقصى في الأقارب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 ناصر مستنصره وإن لم يكن بينهما معرفة روي أن حاتما كان بأرض عنزة فناداه أسير يا أبا سفانة أكلني الأسار والقمل، فقال: ويلك ما أنا في بلاد قومي وما معي شيء، وقد أسأت إذ نوّهت باسمي. فاشتراه وقال: خلوا سبيله واجعلوني في القيد مكانه حتى أؤدي فداءه فجعل مكانه وبعث إلى قومه فاتوه بالفداء. وفي المثل: ربّ أخ لك لم تلده أمك. المبادرة إلى نصرة مستنصره قيل: لا تسأل الصارخ واسأل ما له بعض بني العنبر: لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النّائبات على ما قال برهانا «1» قال السري: ملك إصاخته لأوّل صارخ ... وسجال أنعمه لأوّل طالب قال عمرو بن مخادة: دعوت إلى ما نابني فأجابني ... كريم من الفتيان غير مزلج «2» قال المتنبّي: سبقت إليهم مناياهم ... ومنفعة الغوث قبل العطب قال الصنوبري «3» : يا خير مستصرخ لنائبة ... يضيق بالعالمين قطراها من تحمّل من جاره الضرّاء ووفّر له السرّاء قال زهير: وجار سار معتمدا علينا ... أجاءته المخافة والرجاء ضمنّا ما له فغدا سليما ... علينا نقصه وله النّماء قال شبيب بن البرصاء: وجاراتنا ما دمن فينا عزيزة ... كأروى ثبير لا يحلّ اصطيادها «4» يكون علينا نقصها وضمانها ... وللجار إن كانت تريد ازديادها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 مدح من كرم جاره ومستنصروه قال شاعر: وعزّت جوار عصبة أنت جارها قال أبو تمّام: وليس امرؤ في النّاس كنت سلاحه ... عشية يلقى الحادثات بأعزلا ترى درعه حصداء والسيف قاضبا ... وزجّيه مسهومين والسوط معولا «1» قال السري الرفاء: ما عذر من بسطت يمينك كفّه ... أن لا ينال بها السها والمرزما «2» قال المتنبي: إذا شدّ زندي حسن ذاتك في يدي ... ضربت بنصل يقطع الهام مغمدا وقال آخر: إذا كانت الأحرار أصلي ومنصبي ... ودافع عنّي حازم وابن حازم عطست بأنف شامخ وتناولت ... يداي الثريّا قاعدا غير قائم قال ابن الحجاج «3» : وكيف يخشى صولة الذئب من ... قد جعل السبع له عدّة «4» الحامي جاره الحابيه ماله قال ابن الرومي: هم أمّلونا في هضاب غيومهم ... ندى ورعونا بالقنا والقنابل قال السري الرفاء: أمّن في ظلّه رعيّته ... خوف أعاديه حين عاداها أهّلها في نواله وغدا ... مشتملا بالحسام يرعاها الحامي جاره والمبيح ماله قال ابن الرومي: هو المرء أما ماله فمحلّل ... لعاف وأمّا جاره فحرام «5» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 وقال آخر: فنحن حلال في حريمك للغنى ... ونحن على الأيّام فيه حرام الراعي مال جاره من النوب والسرّاق كانوا يقولون جار كجار أبي دؤاد وذلك أنه إذا مات له بعير أو شاة أخلفه وإذا مات له قريب وداه، قال شاعر: إذا نزل الشتاء بدار قوم ... تجنّب دار قومهم الشتاء قال الفرزدق: الضامنون على المنيّة جارهم ... والمطعمون غداة كلّ شمال «1» قال المتنبّي: يذمّ على اللصوص لكلّ تجر ... ويضمن للصّوارم كلّ جان «2» المستجير بمن أمّنه من النّوب قال أبو نواس: أخذت بحبل من حبال محمّد ... أمنت به من طارق الحدثان «3» تغطّيت من دهري بظلّ جناحه ... فعيني ترى دهري وليس يراني فلو تسأل الأيام ما اسمي ما درت ... وأين مكاني ما عرفن مكاني قال ابن أبي فنن: كبا الدهر بي فاستلّني من جيرانه ... وقد كنت لاقيت المنية أو كدت «4» وحكّمني في ماله وجياده ... وخيّرني بين الحكومة فاخترت مدح الناصر صاحبه وإن كان ذا عذر في المثل، الفحل يحمي شوله معقولا، والخيل تجري على مساويها. قال شاعر: يفرّ جبان القوم عن أمّ نفسه ... ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه الحثّ على نصرة واقع في محنة قال بعض البلغاء: لتكن معاونتك أخاك بمهجتك عند البلاء أكثر من معاونتك إياه عند الرخاء. وقيل: أفضل المعروف نصرة الملهوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 حامي الحرم قال عنترة: أبينا أبينا أن تضبّ لثاتكم ... على مرشفات كالظّباء عواطيا «1» وقال آخر: فأيقن كلّنا أن سوف تحمي ... جرامتها بشوكتها النّخيل «2» الحامي حرمه المبيح حرم غيره قال الأخنس بن شهاب: وحامي لواء قد قتلنا وحامل ... لواء منعنا والسيوف شوارع قال طفيل «3» الغنوي: أبحنا روضة ولنا رياض ... تقطع دون مطلعها النفوس قال جرير «4» : أبحت حمى جرير بعد نجد ... وما شيء حميت بمستباح المؤثر نفع غيره على نفع نفسه قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر «5» : أبى دهرنا إسعافنا في نفوسنا ... وأسعفنا من نجلّ ونكرم فقلنا له نعماك فيهم أتمها ... ودع أمرنا إنّ الأهم المقدم قال عمارة «6» : ينسى مضرّته لنفع صديقه ... لا خير في شرف إذا لم ينفع «7» نصر كل امرىء لشكله قال: إن الكريم للكريم محلّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 وفي كتاب كليلة إذا عثر الكريم لم يستقل إلا بكرام كالفيل إذا وحل لم يقلعه إلا الفيلة قال جرير: إن الكريمة ينصر الكرام ابنها الحثّ على التظاهر لن يعجز القوم إذا تعاونوا فبالساعد يبطش الكف، قال شاعر: إنّ السّهام إذا تبدّد جمعها ... فالوهن والتكسير للمتبّدد «1» قال يامض الكلابي: ألم تر أن جمع القوم يخشى ... وإن حريم واحدهم مباح وأنّ القدح حين يكون فردا ... فيهصر لا يكون له اقتداح تولى نزار بن محمد التجيبي البصرة فرفع إليه رجل يقول بخلق القرآن، فأمر بحبسه، فاستعان الرجل بإسماعيل الصفار، وكان أحد شيوخ المعتزلة بالبصرة فكلّم غير واحد من أجلاء البصرة فلم يجيبوه. ثمّ أن إسماعيل طاف على المعتزلة وجمعهم وقال: قد جرأ عليكم إذ رآكم متفرقين فاتى بهم دار نزار بن محمد وقال: لم حبست فلانا قال: إنّه يقول: القرآن مخلوق. قال فكلّنا ممن يقول بقوله فأما تحبسنا معه أو تطلق صاحبنا فقوله في ذلك قولنا. فنظر نزار فإذا فتنة تثور فرأى إطلاقه، وترك التعرّض لهم في مذهبهم. وصف متظاهرين قال أبو فراس: وإنّي وإيّاه كعين وأختها ... وإني وإيّاه ككفّ ومعصم قال بعض القدماء من جهينة «2» : فإنّا وكلبا كاليدين متى تقم ... شمالك في الهيجاء تعنها يمينها «3» ذمّ جار السوء في بعض الأدعية. أعوذ بالله من جار السوء عينه تراني وقلبه يرعاني، إن رأى حسنة كتمها وإن رأى سيئة أذاعها. وعرض على أبي مسلم فرس جواد فقال: لمن بحضرته: لم يصلح هذا الفرس؟ فقيل: للغزو، فقال: لا، إنما يصلح أن يركبه الرجل فيفرّ به من جار السوء. وقيل له: ما الداء العياء؟ فقال: الجار السوء إن قاولته بهتك وإن غبت سبعك. وقيل لبعضهم: لم بعت دارك؟ فقال: لأبيع جاري. وقيل: الجار قبل الدار ثم الرفيق قبل الطريق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 ذمّ من لا يصون جاره قال الحطيئة «1» : لمّا بدا لي منكم ذات أنفسكم ... ولم يكن لجراحي فيكم آس «2» أزمعت ياسا مبينا من جواركم ... ولن ترى طاردا للحرّ كالياس قال المتنبّي: رأيتكم لا يصون العرض جاركم ... ولا يدرّ على مرعاكم اللبن جزاء كلّ قريب منكم ملل ... وحظّ كلّ محبّ منكم ضغن «3» وقال رجل لابن الزيات: أمتّ إليكم بجواري، فقال نسب بين حيطان، نظم ذلك بعضهم فقال: أرى الجوار نسبا بين الجدر ... والعطف والرقة حينا والخور «4» طباع نسوان وصبيان غرر ذمّ من لا نصرة لديه قال إبراهيم بن العباس: وإني إذا أدعوك عند ملمّة ... كداعية بين القبور نصيرها «5» قال ريقان: فما دار عمّي لي بدار خفارة ... ولا عهد عمّي لي بعهد جوار قال عامر: فجارك عند بيتك لحم ظبي ... وجاري عند بيتي لا يرام «6» وقال آخر: تركوا جارهم يأكله ... ضبع الوادي ويرميه الشّجر «7» وسأل سليمان بن علي خالد بن صفوان عن ابنيه فقال كيف تحمد جوارهما فأنشد: أبو مالك جار لها وابن برثن ... فيا لك جاري ذلّة وصغار «8» وفي المثل: لا حرّ بوادي عوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 المستنصر بمن يضرّه في المثل: كالمستغيث من الرمضاء «1» بالنار، قال شاعر: ربّ من ترجو به دفع الأذى ... سوف يأتيك الأذى من قبله «2» وقال ابن الرومي: كمتّق لفح نار يستعدّ له ... بالجهل در عين من قار وكبريت وله: كان كمن خاف حريقا واقعا ... فزاد فيه حطبا على حطب قال إبراهيم بن العباس: اتخذتكم درعا وترسا لتدفعوا ... نبال العدا عنّي فكنتم نصالها وله في أولاده: خلتكم عدّة لصرف زماني ... فإذا أنتم صروف زماني «3» المستنصر بمن لا نصرة لديه في المثل: مقعد استعان بدف، ذليل عاذ بقرملة، عبد صريحه أمة. قال شاعر: بعثتك عاجلا فلبثت حولا ... متى يأتي غياثك من تغيث «4» وقال آخر: لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصّان بالماء اعتصاري «5» وقال آخر: كنت من كربتي أفرّ إليهم ... فهم كربتي فأين الفرار؟ «6» تأسّف من خذله ناصره قال اليزيدي: إذا كنت تجفوني وأنت ذخيرتي ... وموضع حاجاتي فما أنا صانع «7» ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 وقال آخر: بأيّ نجاد تحمل السيف بعد ما ... قطعت القوى من محمل كان باليا «1» ذلّة من لا ناصر له قدمت امرأة مكة وكانت ذات جمال، فأعجبت ابن أبي ربيعة فآذاها، فلما أرادت الطواف قالت لأخيها: إصحبني فصحبها، فإذا ابن أبي ربيعة تعرض لها بمقال فرأى أخاها فانزجر، فأنشأت: تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتّقي مريض المستنفر الحامي قال عدي: وفي كثرة الأيدي عن الظّلم زاجر ... إذا خطرت أيدي الرجال بمشهد «2» وقيل: اللؤم إحراز المرء نفسه وإسلامه عرسه. المستعين بغيره في أمر قال شاعر: أعيين هلّا إذا أتى قدر ... كنت استغثت بفارغ العقل أقبلت ترجو الغوث من قبلي ... والمستغاث إليه في شغل معاتبة متباطىء عن النّصرة قال أبو الشمردل: ومن يفرد الإخوان في ما ينوبهم ... ثنته الليالي مرة وهو مفرد «3» قال عديّ التميمي: ألا هبلتك أمّك يا عديّ ... أتقعد لا أفكّ ولا أصول «4» ولو كنت الأسير ولا تكنه ... إذا علمت معدّ ما أقول عذر متباطىء عن ذلك قال شاعر: أيّ عذر يكون أوضح في إبطاء ... نصر من قلّة الإمكان «5» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وقيل للجاحظ: لم خذلت ابن الزيات «1» وهربت منه لمّا أصابته المحنة؟ فقال: خفت أن يقال ثاني اثنين إذا هما في النار وذلك أنّ ابن الزيات عوقب في تنور من حديد حتى مات. وفي الأخوانيات وذكر الأقارب أبواب تليق بهذا الفصل. (2) ومما جاء في الأخلاق الحسنة والقبيحة الحثّ على حسن الخلق ومدح ذلك قال الله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ «2» قيل ما عفا لك من محاسن أخلاق الناس وقال تعالى: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «3» وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم ويقارب ذلك ما قيل لفيلسوف، هل من جود يتناول به الخلق فقال: نعم أن تحسن الخلق وتنوي لكل أحد الخير. وقال صلّى الله عليه وسلم: إنّ أحبّكم إليّ أحاسنكم أخلاقا الموطؤن أكنافا «4» الذين يألفون ويؤلفون وقال صلّى الله عليه وسلم: حرّم الله النار على كل هين، لين سهل قريب. وقال لأبي الدرداء: ألا أدلك على أيسر العبادة وأهونها على البدن. قال: بلى يا رسول الله فقال: عليك بالصمت وحسن الخلق فإنك لن تعمل مثلهما. وقيل: في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق. وقال مكحول: المؤمنون هينون لينون كالجمل الأنف إن قدته إنقاد وإن أنخته «5» على صخرة استناخ، قال شاعر: ما لم يضق خلق الفتى ... فالأرض واسعة عليه وقال آخر: لو أنني خيّرت كلّ فضيلة ... ما اخترت غير مكارم الأخلاق الممدوح بحسن الخلق سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلّى الله عليه وسلم فقالت: أو ما تقرؤن القرآن: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «6» وقيل: فلان على خير ما تبنى عليه الضرائب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 وقال البحتري: سلام على تلك الخلائق إنّها ... مسلّمة من كلّ عار ومأثم «1» قال أبو الفرج الأصبهاني «2» : خلائق كالحدائق طاب منها ... النسيم وأينعت منها الثّمار وقيل: صفاء الأخلاق من نقاء الأعراق. النهي عن سوء الخلق قال النبي صلّى الله عليه وسلم: من ساء خلقه عذب نفسه. وقال عليه السلام: خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق. وقيل: سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الصبر العسل. وقال الأحنف: الداء الدوي الخلق الرديء «3» واللباس البذي، بئس الملبوس العبوس وقيل: ليس لسيء الخلق توبة لأنه كلما خرج من ذنب دخل في آخر لسوء خلقه. المذموم بسوء الخلق صحب رجل رجلا سيء الخلق فلما فارقه قال: قد فارقته وخلقه لم يفارقه وقال أعرابي لرجل: أنك شكس الخلق دائم القطوب. قال عمرو بن كلثوم: وكنت امرأ لو شئت أن تبلغ المنى ... بلغت بأدنى غاية تستديمها ولكنّ فطام النفس أثقل محملا ... من الصّخرة الصّماء حين ترومها «4» وقيل: لا مداراة للخلق السيء القبيح كالشجرة المرة لو طليت بالعسل لم تثمر الأمر أو كذنب الكلب لو أدخلته القالب سنين لعاد إلى إعوجاجه. المتمدح بمصابرة سيء الخلق قال رجل لأحمد بن أبي خالد لقد أعطيت ما لم يعط رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: لئن لم تخرج من ذلك لا ضرّبنك. فقال الرجل: إن الله تعالى قال لنبيه ولو كنت فظّا غليظ القلب لا نفضّوا «5» من حولك وأنت فظّ ونحن لا ننفض من حولك. وقال شعيب بن حرب خطبت امرأة فأجابتني فقلت: إني سيء الخلق. فقالت: أسوأ خلقا منك من يلجئك إلى سوء الخلق. وقال حبيب لرجل سيء الخلق: إن استطعت أن تغير خلقك وإلا فليسعك من أخلاقنا ما ضاق به ذرعك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 صعوبة ترك العادة والرجوع عنها قيل: للعادة على كل إنسان سلطان، وكل امرىء جار على ما تعوّدا، وقيل: لكل كريم عادة يستعيدها، وقيل: اللسان متقاضيك ما عودته. قال المتنبي: وتأبى الطّباع على الناقل. وقالت الحكماء العادة طبيعة ثانية. نفي العيب عن تعاطي ما كان خلقا قال بعض القدماء: ظلمت امرأ كلّفته غير خلقه ... وهل كانت الأخلاق إلا غرائزا «1» قال الخبزارزي: يعاب الفتى فيما أتى باختياره ... ولا عيب في ما كان خلقا مركّبا المتخلّق يرجع إلى شيمته قال عمر رضي الله تعالى عنه من تخلّق للناس بما ليس خلقا له شأنه الله وفي كتاب كليلة: الطبع المتكلّف كلما زدته تثقيفا زادك تعقيفا «2» . وقيل: كل إناء يرشح بما فيه. وقال إن التخلق يأبى دونه الخلق. قال ذو الإصبع «3» : ومن يبتدع ما ليس من خيم نفسه ... يدعه ويغلبه على النفس خيمها «4» قال زهير «5» : ومهما تكن عند امرىء من خليقة ... وإن خالها تخفى على النّاس تعلم «6» وقال آخر: وللنفس أخلاق تدلّ على الفتى ... أكان سخاء ما أتى أم تساخيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 الحثّ على ملازمة العادة الحسنة قال أبو عبد الله بن حنيف: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المنام وعليه قميص محلول الأزار فسلم عليّ فقال: يا أبا عبد الله من عرف طريقا من الخير فسلكها ثم رجع عنها، عذّبه الله تعالى عذابا لم يعذّب به أحدا من العالمين، فانتبهت وأنا أقرأ، ومن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين. وقال جعفر بن محمد وقد ليم في جوده: إنّ الله عوّدني عادة وعوّدته عادة فأخاف أن يقطع عني عادته إن قطعت عادتي. الحثّ على لين الكلام وطلاقة الوجه قال الله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً «1» وقال: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً «2» وقال: وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً «3» وقال: فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً «4» وقيل: من لانت كلمته وجبت محبته. قال سفيان بن عيينة: بنيّ أن البرّ شيء هيّن ... وجه طليق وكلام ليّن وقال طلاقة الوجه عنوان الضمير بها يستنزل الأمل البعيد: وقيل: حسن البشر اكتساب الذكر. البشاشة مصيدة المودة. الحثّ على مداراة النّاس عن النبي صلّى الله عليه وسلم: مداراة الناس صدقة وقيل: ثلثا التعايش مداراة الناس. وقال إبراهيم بن يسار: ما يسرني ترك المداراة ولي حمر النعم. قيل لم قال: لأن الأمر إذا غشيك فشخصت له أرداك وإذا تطأطأت له تخطاك. وقيل: داروا الناس تسلموا وقال معاوية: لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت لأنهم إذا جذبوها أرسلتها وإذا أرسلوها جذبتها: دار الصّديق إذا استشاط تغيّظا ... فالغيظ يخرج كامن الأحقاد حثّ من حسن خلقه أن يحسّن خلقه نظر فيلسوف إلى غلام حسن الوجه يتعلم العلم فقال: أحسنت إذ قرنت بحسن خلقك حسن خلقك. وقال جالينوس «5» : ينبغي للرجل أن ينظر إلى وجهه في المرآة فإن كان حسن الوجه جعل عنايته أن يضمّ إلى جمال وجهه كمال خلقه وكمال نفسه وإن رأى صورة سمجة تحرّز من أن يكون ذميم الخلق والخلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 مدح من حسن خلقه وخلقه قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ما أحسن الله خلق أحد وخلقه فاطعمه النار. ووصف خالد بن صفوان رجلا فقال: يقري العين جمالا والأذن بيانا. قال ابن الرّومي: كلّ الخلال التي فيكم محاسنكم ... تشابهت فيكم الأخلاق والخلق «1» كأنّكم شجر الأترج طاب معا ... حملا ونورا وطاب العود والورق محياه قد زرت عليه شمائله، وقال أحمد بن يوسف لرجل: ما أدري أي حسنيك أبلغ ما وليه الله تعالى من تسوية خلقك وكمال خلقك أو ما وليته لنفسك من تحسين أدبك وكمال مروءتك. الاستدلال من حسن الوجه على حسن الخلق قال قتادة: ما بعث الله تعالى نبيّا إلا بعثه حسن الخلق حسن الوجه. وقيل لابن دلير المنجم: ما الدليل على أن المشتري «2» سعد؟ فقال: حسنه. وقالت الفلاسفة: قلّ صورة حسنة تتبعها نفس رديئة: منظره ينبيك عن مخبره. نقش الطوالع مقروء من الطين كفاك منظره إيضاح مخبره. في حمرة الخد ما يغني عن الخجل. حثّ من قبح وجهه على تحسين خلقه تقدم ما قال جالينوس في ذلك وقال الأوقص: قالت لي أمي: خلقت خلقة قبيحة لا تصلح معها لمجالسة الفتيان في بيوت القيان، فعليك بالأخلاق التي ترفع الخسيسة وتتم النقيصة فنفعني الله تعالى بكلامها فتعلّمت العلم فأدركت به. وقال الأحنف لابنه وكان دميما: إنّك جميل فكن فطنا. ذمّ من حسن منظره وقبح مخبره نظر فيلسوف إلى رجل حسن الوجه خبيث النفس، فقال: بيت حسن وفيه ساكن نذل ورأى آخر شابا جميلا، فقال: سلبت محاسن وجهك فضائل نفسك. قال الشاعر: خلق ممثّلة بغير خلائق ... ترجى وأجسام بلا أرواح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 وقال آخر: فإنّكم ومدحكم بجيرا ... تراه العين أخضر ذا رواء «1» لك النفس التي ترجو المعالي ... وتمنع بالمرارة والإباء وقال آخر: قلت وجوه المصر حتّى إذا ... كشفتهم كشّفت إستاها وقال غيره: ألم تر أنّ الماء يخلف طعمه ... وإن كان لون الماء في العين صافيا «2» وقال غيره: لا تجعلنّ دليل المرء صورته ... كم مخبر سمج من منظر حسن «3» وقال غيره: فلا تجعل الحسن الدليل على الفتى ... فما كلّ مصقول الحديد يماني «4» ذمّ من قبح خلقه وخلقه استعرض المأمون الجند فمر به رجل دميم فاستنطقه فرآه ألكن «5» ، فأمر بإسقاطه وقال: إن الروح إذا كانت ظاهرة كانت وسامة وإذا كانت باطنة كانت قصاحة وأراه لا ظاهر له ولا باطن. وفي المثل أحسن ما في خالد وجهه وفيه ستعلم الشاهد بالغائب. قال الشاعر: مخبره أقبح من وجهه ... ووجهه بالقبح مشهور وقال آخر: قد رأيناك فما أعجبتنا ... وبلوناك فلم ترض الخبر الاستدلال بقبح الوجه على قبح الصّنيع قالت العرب: ليس على وجه الأرض قبيح إلا وجهه أحسن شيء منه. قال شاعر: يدلّ على قبيح الفعل منكم ... وأصلكم وجوهكم القباح وقيل: أحسن ما في القبيح وجهه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 من قبح منظره وحسن مخبره لما عاد الحجاج من محاربة الخوارج قال: اطلبوا لي فاضلا أخرجه إلى عبد الملك، فأتوه برجل دميم المنظر حسن المخبر، فلما رآه عبد الملك استبشع منظره فاستنطقه فملا أذنه صوابا، فتعجب منه عبد الملك وأنشد متمثلا: وإن عرارا أن يكن غير واضح ... فإني أحبّ الجون ذا المنكب العمّ «1» فقال: يا أمير المؤمنين أتدري لمن هذا الشعر؟ قال: نعم هو لعمرو بن شاس في ابنه عرار فقال: أنا عرارابته فتعجب عبد الملك من مطابقة القول الحال فأمر له بمال وأوصى به إلى الحجاج وكلّم علي بن الهيثم عمر رضي الله عنه في حاجة وكان أعور دميما فلما تكلم فأحسن، صعّد عمر رضي الله عنه فيه النظر وصوّبه وقال: لكل أناس في جميلهم خبر: ألم تسل الفوارس من سليم ... بنضلة وهو موتور يشيح «2» رأوه فازدروه وهو خرق ... وينفع أهله الرّجل القبيح فلم يخشوا مصالته عليهم «3» ... وتحت الرغوة اللبن الصّريح واستعان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه برجل كريه المنظر فوجده حسن المخبر، فقال: ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا. وقال بعضهم: فلان دميم الخلق كريم الخلق ولئن أمرّت «4» أوراقه لقد حلا مذاقه. تفاوت أخلاق النّاس الناس أشكال وشتّى في الشيم ... وكلّهم يجمعهم بيت الأدم «5» الناس في اختلافهم في خلقهم كاختلافهم في خلقهم قال شاعر: وتفاضل الأخلاق إن حصّلتها ... في النّاس حسب تفاضل الأجناس قال غيره: الناس أخلاقهم شتّى وإن جبلوا ... على تشابه أرواح وأجساد قال خالد بن صفوان: الناس أخياف منهم من هو كالكلب لا تراه الدهر إلا هرارا «6» على الناس، ومنهم كالخنزير لا تراه الدهر إلا قذارا، ومنهم كالقرد يضحك من نفسه. وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 سلمان الفارسي «1» رضي الله عنه: الناس أصناف أربعة أسد وذئب وثعلب وضأن. فأما الأسد فالملوك يأكلون الناس أكلا، والذئب التجار يختلسون، والثعلب القراء المخادعون، وأما الضأن فالمؤمن ينتهشه كل من رآه. وقال بعضهم الناس أخياف «2» علق «3» مضنة «4» لا يباع وعلق مظنة لا يبتاع. وقال بعضهم الناس في أخلاقهم كما قال أبو العتاهية: من لك بالمحض وليس محض ... يخبث بعض ويطيب بعض التمدّح بمخالفة النّاس والحثّ عليه قال الشاعر: أنا كالمرآة ألقى ... كلّ وجه بمثاله وقال آخر: متخلّق من حسن كلّ خليقة ... كعطارد في طبعه المتمازج وقال آخر: أحامقه حتّى يقال سجيّة ... ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله وقال آخر: فكن أكيس الكيسى إذا كنت فيهم ... وإن كنت في الحمقى فكن مثل أحمقا «5» ذمّ متفاوت الخلق متلوّن هو ذو لون مختلف الفعال وقال الأحنف لأن ابتلي بألف جموح لجوج أحّب إليّ من أن ابتلي بمتلون واحد: فتى شان أخلاقه بلقة ... ففيهنّ بيض وفيهنّ سود «6» أديب جواد جميل الرّجاء ... فصيح بليغ كريم مجيد وقد شان تحسينه أنّه ... عجول حديد حقود حسود وقال رجل: إنه ليبلغ من مللي أن أغيّر كلّ شهر كنيتي مرتين. وقال خالد بن صفوان إنّه ليبلغ من مللي أن أتبرم بنفسي فأتمنّى أن يؤخذ مني رأسي فلا يرد إليّ إلا في كل أسبوع. وقال الجاحظ: التلوّن أن يكون سرعة رجوع المرء عن الصواب كسرعة رجوعه عن الخطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 الحثّ على تخلية المتلوّن إذا كان ذو لون حؤول من الهوى ... موجّهة في كل صوب ركائبه فخلّ له وجه الفراق ولا تكن ... مطيّة رحّال كثير مذاهبه اللجوج قيل: اللجاج «1» أن يكون ثبات العزم على إمضاء الخطأ كثبات العزم على إمضاء الصّواب. قال النافع: ألجّ لجاجا من الخنفساء ... وأزهى إذا ما مشى من غراب «2» (3) وممّا جاء في المزاح والضّحك مدحا وذّما النهي عن المزاح والتخويف منه روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: إيّاك والمزاح فإنه يذهب ببهاء المؤمن ويسقط مروءته ويجرّ غضبه. وقيل: المزاح مجلبة للبغضاء مثلبة «3» للبهاء مقطعة للأخاء. وقيل: إذا كان المزاح أوّل الكلام كان آخره الشتم واللكام «4» . سأل الحجّاج ابن الفرية عن المزاح فقال: أوله فرح وآخره ترح وهو نقائص السفهاء مثل نقائص الشعراء. المزاح فحل لا ينتج إلا الشر. وقال مسعر بن كدام: أما المزاحة والمراء فدعهما ... خلقان لا أرضاهما لصديق «5» المزاح أسباب النّوك. وقيل: لا تمازح صغيرا فيجترىء عليك ولا كبيرا فيحقد عليك، ونحوه قول الشاعر: فإيّاك إيّاك المزاح فإنّه ... يجري عليك الطفل والدنس النّذلا وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: لا يكون المزاح إلا من سخف أو بطر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 وقيل: المزاح يبدي المهانة ويذهب المهابة والغالب فيه واتر. والمغلوب ثائر. وقيل: لا تفاكه أمة ولا تبل على أكمة، وقيل: احذر فلتات المزاح فسقطة الاسترسال لا تقال. النهي عن مزاح من لا تجوز مباسطته قيل: لا تمازح الصبيان فتهون عليهم: لا تعرضنّ بمزح لامرىء طبن ... ما رامه قلبه أجراه في الشفة «1» فربّ مخرمة بالمزح جارية ... مشبوبة لم يرد إنماؤها نمت «2» حمد الاقتصاد في المزح روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم، كان يمزح ولا يقول إلا حقا، وقال تعالى في صفة المؤمنين: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً «3» وقال سعيد «4» بن العاص لابنه اقتصد في مزاحك فالافراط به يذهب البهاء ويجرىء عليك السفهاء وتركه يقبض المؤانسين ويوحش المخالطين قال خالد بن صفوان: لا بأس بالمفاكهة تخرج الرجل من حال العبوس. وقال رجل لابن عيينة: المزاح سبة فقال بل سنة لمن يحسنه: يا ساعتي في مجوني ... قد طبت فيك وطبت إنّي إذا ضاق صدري ... قطعت بالسّخف وقتي وقيل الناس في سجن ما لم يتمازحوا، وقد ينفس عن جدّ الفتى اللعب. بعض ما روي عن الأماثل في المزاح روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان من أفكه الناس. قالت له عجوز من الأنصار: يا رسول الله أدع لي بالجنة فقال صلّى الله عليه وسلم إن الجنة لا يدخلها عجوز فبكت المرأة وضحك النبي صلّى الله عليه وسلم وقال: أما سمعت قول الله تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً «5» وقال لأخرى: زوجك في عينه بياض فرجعت إلى زوجها فأخبرته، فقال أما ترين بياض عيني أكثر من سوادها. وقال صلّى الله عليه وسلم لصبي: يا أبا عمير ما فعل النغير «6» ؟ وجاء رجل إلى أمير المؤمنين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 رضي الله عنه فقال: إني احتملت على أمي، فقال: لتقم في الشمس وليضرب ظلّك الحدّ. وقال صلّى الله عليه وسلم لجاريته وقد وضأته فلما نهض اعتمد عليها، فقال: انظري لا تضرطي. وقال ابن عمر رضي الله عنهما لخادمه: خلقني خالق الكرام وخلقك خالق اللئام. النهي عن الغضب من المزح قال ابن سيرين رضي الله عنه ليس بحسن الخلق الغضب من المزح. الممدوح بأن فيه الجد والهزل في موضعهما إذا جدّ عند الجدّ أرضاك جدّه ... وذو باطل إن شئت ألهاك باطله وقال آخر: الجدّ شيمته وفيه فكاهة ... طورا ولا جدّا لمن لا يلعب «1» قال آخر: أهازل حيث الهزل يحسن بالفتى ... وإنّي إذا جدّ الرجال لذو جدّ وقال بعضهم: لأعدمتك مزينا بجدك مجلس الحفلة وبهزلك مجالس البذلة. هو الظفر الميمون إن راح أو غدا ... به الركب والتلعابة المتحبّب «2» عذر من كان منه ضحك وهو مهموم وربّما ضحك المكروب من عجب ... السّن تضحك والأحشاء تضطرم «3» وقال آخر: وقد يضحك الموتور وهو حزين النهي عن كثرة الضحك وذمّه قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إياك وكثرة الضحك فإنها تميت القلب وتورث النسيان، وقال عبد الله بن أبي دؤاد: فشا الضحك في أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ «4» عن الثوري عظموا العلم ولا تكثروا الضحك فتمجه القلوب وكثرة الضحك من الرعونة، وضحك إسحاق بين يدي المأمون حتى فتح فاه، فأمر بأن يؤخذ سيفه ومنطقته ويدفع إليه منديل الشراب، وقال: الشراب أليق بك فقال أقلني مرة يا أمير المؤمنين فأقاله، فما رؤي بعد ذلك ضاحكا. ومرت معاذة العدوية على شبان عليهم الصوف وهم يضحكون فقالت: سبحان الله لبس الناسكين وضحك الغافلين. قال كعب: أن الله يبغض المضحاك من غير عجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 النّهي عن تعاطي ما يضحك قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك القوم، ويل له ويل له. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن الرجل يتكلم بالكلمة يضحك بها الناس فيذل أبعد ما بين السماء والأرض، وقيل لأبي العيناء: فلان يضحك منك فقال: إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون. إيراد جدّ في مسلك هزل قيل: جديدة في لعيبة، وقال خالد بن صفوان رماني بأصلب من الجندل ونشقني بأحرّ من الخردل، ثم قال أني أمازحك. لي صاحب ليس يخلو ... لسانه من جراحي يجدّ تمزيق عرضي ... على طريق المزاح «1» (4) ومما جاء في الحياء والوقاحة قال النبي صلّى الله عليه وسلم: الحياء شعبة من الإيمان ومن لا حياء له فلا إيمان له وفسر قوله تعالى: وَلِباسُ التَّقْوى «2» بالحياء وقال: أبى عليك بالحياء والأنفة فإنك إن استحييت من الغضاضة «3» اجتنبت من الخساسة، وإن أنفت من الغلبة لم يتقدمك أحد في مرتبة. وقيل: أحي حياءك بمجالسة من يستحى منه، وقيل: من جمع بين الحياء والسخاء فقد أجاد الخلة إزارها ورداءها. الممدوح بالحياء في وصف النبي صلّى الله عليه وسلم أنّه كان شديد الحياء، وكان أشدّ حياء من العذراء في خدرها «4» ، وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه. وسأل يحيى ابن خالد رجلا عن ابنه فقال تركته وماء الحياء يتحدر من أسارير وجهه، وسيول الجود سائلة من فروج أنامله ولآلىء العلم متناثرة من ميازيب «5» منطقه. قال شاعر: ترك الحياء بها رداع سقيم «6» قال المتنبّي: وأوجه فتيان حياء تلتمّوا ... عليهنّ لا خوفا من الحرّ والبرد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 وليس حياء الوجه في الذئب شيمة ... ولكنّه من شيمة الأسد الورد «1» وقال مروان بن أبي حفصة: يكاد يخرج في ديباج أوجههم ... خوف المذلّة حتى ينفطرن دما من مدح بالحياء في السّلم والوقاحة في الحرب قال شاعر: كريم يغضّ الطرف فرط حيائه ... ويدنو وأطراف الرماح دوان «2» وقال آخر: يتلقّى النّدى بوجه حييّ ... وسيوف العدا بوجه وقاح «3» قال الموسوي: يجري الحياء الغضّ من قسماتهم ... في حين يجري في أكفّهم الدّم «4» من يستحي من النّاس دون نفسه وربّه قال كعب: استحيوا من الله في سرائركم كما تستحيون من الناس في علانيتكم. وقيل من يستحي من الناس ولا يستحي من نفسه فلا قدر لنفسه عنده. قال رجل للنعمان: أوصني فقال إستح من الله كما تستحي من رجل من عشيرتك وفي ضد ذلك: إذا كان ربّي عالما بسريرتي ... فما النّاس في عيني بأعظم من ربّي ذمّ الوقاحة قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إنّ مما أدرك الناس من كلام النبوّة. إذا لم تستح فاصنع ما شئت. قال شاعر في معناه: إذا لم تخش عاقبة الليالي ... ولم تستحي فاصنع ما تشاء وفي معناه أيضا: إذا لم تصن عرضا ولم تخش خالقا ... وتستح مخلوقا فما شئت فاصنع وقيل إذا لم تستح فقل، وإذا لم تخش فقل: الفاقة خير من الصفاقة «5» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 هجاء وقح قيل: فلان يعد الحياء جنّة والوقاحة جنّة، هو أوقح من الدهر، وجه صلب ولسان خلب. قال شاعر: يا ليت لي من جلد وجهك رقعة ... أقدّ منها حافرا للأشهب قال منصور بن ماذان: الصخر هش عند وجهك في الوقاحة ومن الأبيات الرائقة الرائعة التي لا أرتاب لها: أن يعجزوا أو ينجلوا ... أو يغدروا لم يحفلوا «1» وغدوا عليك مرجّلين ... كأنّهم لم يفعلوا قال الناجم: لك عرش مثلّم «2» من قوار ... ير ووجه ململم من حديد مدح الوقاحة قال علي رضي الله عنه: قرنت الخيبة بالهيبة والحياء بالحرمان والفرصة تمرمر السحاب. قال شاعر: إذا رزق الفتى وجها وقاحا ... تقلّب في الأمور كما يشاء ولم يك للأمور ولا لشيء ... يعالجه له فيه عناء «3» وقال معاوية لعبد الله بن جعفر «4» رضي الله عنهم: ما اللذة؟ فقال: ترك الحيا واتباع الهوى. الشّاكي حياءه قال العتابي: فيّ خصلتان اعتقلتاني عن كثير من المنافع حصر مقيد بالحياء وعزة نفس شبيهة بالجفاء. قال أبو الأسود «5» : وأعطيت حظّا من حياء وأشتكي ... من العجز ما لم يبد للنّاس عائبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 وقال آخر: لساني وقلبي شاعران كلاهما ... ولكنّ وجهي مفحم غير شاعر قال العبّاس بن الأحنف: من راقب النّاس مات غمّا ... وفاز باللذّة الجسور (5) الأمانة والخيانة الحثّ على الأمانة والنهي عن الخيانة قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها «1» وقال: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً «2» وقال: وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ «3» وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا إيمان لمن لا أمانة له. ومن دعائه عليه السلام: أعوذ بك من الخيانة فبئست البطانة. وقال الجاحظ: سقى الله قبر الأحنف حيث يقول: الزم الصيحة يلزمك العمل. وقال: إذا لم تكن خائنا فبت آمنا. وقيل: أفحش الزمانة عدم الأمانة إذا ذهب الوفاء نزل البلاء وإذا مات الاعتصام عاش الانتقام. خيانة الناس أقبح الإفلاس وقال معاوية: إلزم الرفيعين: الأمانة والعدل. الحثّ على الوفاء ومدحه قال الله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ «4» وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «5» وقال: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها «6» وقيل إذا ذهب الوفاء نزل البلاء وإذا ظهرت الخيانات استمحقت «7» البركات. وقيل: الوفاء من شيم الكرام والغدر من همم اللئام. وقيل في قوله تعالى: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ «8» ، لا تلبس ثيابك على الغدر. مدح ذوي الوفاء قال الله تعالى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا ... وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ* «9» ، قال شاعر: ولم توقد لها بالغدر نار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 قال المسيّب بن عيسى: أنت الوفيّ فما تذمّ وبعضهم ... يوفى بذمّته عقاب الملاع «1» وقال أعرابي: فلان لا يشكره الخنى «2» ولا يشكوه الوفا. قال التنوخي: عظائم لو أنّ السموءل خافها ... لخان امرأ القيس الوكيد من العهد «3» من التزم مكروها في التزام الوفاء قيل: أكرم الوفاء ما كان عند الشدّة وألأم الغدر ما كان عند الثقة، كان السموأل أودعه امرؤ القيس دروعا، فقصده الملك وأخذ ابنه وقال: إن دفعت الدروع إليّ وإلّا ذبحت ابنك، فقال: أجّلني يوما. فجمع عشيرته واستشارهم فكلّ أشار بأن يدفع إليه. فلما أصبح قال: ليس إلى دفعها سبيل، فافعل ما بدا لك. فذبح الملك ابنه. فوافى السموأل بالدروع الموسم ودفعها إلى ورثة امرىء القيس، فقال «4» : وفيت بأدرع الكندي إنّي ... إذا ما خان أقوام وفيت «5» وفيه قال الأعشى وهي أبيات جيّدة رائقة «6» : كن كالسّموأل إذ طاف الهمام به ... في جحفل كسواد الليل جرّار بالأبلق الفرد من تيماء منزله ... حصن حصين وجار غير غدّار «7» قد سامه خطّتي خسف فقال له ... قل ما بدا لك إني سامع حار» فقال ثكل وغدر أنت بينهما ... فاختر وما فيهما حظّ لمختار فشكّ غير طويل، ثمّ قال له ... أقتل أسيرك إنّي مانع جاري «9» وعمير بن سليم الحنفي كان يقصده السواقط «10» فلا يتعرض لقصّاده، وكان مرداس في سجن عبيد الله بن زياد فقال له السجّان: أنا أحب أن أوليك حسني، فإن أذنت لك في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 الانصراف إلى دارك أتدلج «1» علي؟ فقال: نعم، فكان يفعل ذلك به. فلما كان ذات يوم قتل بعض الخوارج صاحب شرطة زياد، فأمر زياد أن يقتل من في الحبس من الخوارج وكان مرداس خارجا، فقال أهله: اتّق الله في نفسك فإنّك مقتول إن رجعت، فقال: ما كنت لألقى الله غادرا وهذا جبار ولا آمن أن يقتل السجان فرجع، وقال للسجّان: تساقط «2» إليّ ما عزم صاحبك عليه من قتل أصحابنا فبادرت لئلا يلحقك مكروه، فقال السجّان: خذ أي طريق شئت فانج نجّاك الله. الوفيّات من النساء قال أبو عبيدة: لم تف امرأة لزوجها إلّا قضاعيتان نائلة بنت الفرافصة امرأة عثمان رضي الله عنه، وذلك أنه خطبها معاوية لما قتل عثمان فدعت بفهر «3» ، فقلعت ثنيتها «4» وقالت: أني رأيت الحزن يبلى فلم آمن أن يبلى حزنى فتدعوني نفسي إلى التزوّج وامرأة هدبة فإنها حين قتل زوجها قطعت أنفها وكانت حسنة الأنف لئلا يرغب فيها. قلّة الوفاء في النّاس ووصف عامّتهم بالغدر قال تعالى: وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ «5» وكان يحيى بن خالد إذا اجتهد في يمينه يقول: لا والذي جعل الوفاء أعز ما يرى. وكان يقول هو أعز من الوفاء، وقيل لحكيم أي أصناف الناس أقل وفاء فقال أهل الأمانة والوفاء. قال موسى العلوي: وخان الناس كلّهم ... فلا أدري بمن أثق قال المتنبّي: غيري بأكثر هذا الناس ينخدع ... إن قاتلوا جبنوا أو حدّثوا شجعوا أهل الحفيظة إلا أن تجرّبهم ... وفي التجارب بعد الغيّ ما يزع «6» قال أبو فراس: بمن يثق الإنسان فيما ينوبه ... ومن أين للحرّ الكريم صحاب وقد صار هذا الناس إلا أقلّهم ... ذئابا على أجسادهنّ ثياب وله: أبغي الوفاء بدهر لا وفاء له ... كأننّي جاهل بالدّهر والنّاس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وله: نعم دعت الدنيا إلى الغدر دعوة ... أجاب إليها عالم وجهول وقال آخر: والمنتمون إلى الوفاء جماعة ... إن حصّلوا أفناهم التحصيل وقال الموسوي: أبى النّاس إلّا ذميم الفعال ... إذا جرّبوا وقبيح الكذب ذمّ الغدر وذويه قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ «1» وقال تعالى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ «2» ، وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه الغدر مكر والمكر كفر. وقيل: الخيانة خزي وهوان، وقيل: من عامل الناس بالمكر كافأوه بالغدر. قال شاعر: لقد غدرت وعيب الغدر مشتهر وكانت العرب إذا غدر منهم غادر يوقدون له بالموسم نارا وينادون عليه، يقولون ألا أن فلانا غدر ولذلك قال الغادرة الغطفاني: اسمى ويحك هل سمعت بغدرة ... رفع اللواء بها لنا في المجمع وقيل: حجّ وفاء زهير المازني في الجاهلية ورأى في منامه كأنه حاض، فقص رؤياه على قس بن ساعدة فقال: إنك غدرت أو غدر بعض عشيرتك. فلّما قدم على أهله وجد أخاه قد غدر بجار له فعقله، وقال علام سمّيت وفاء إذا رضيت الغدر. رجوع الغدر إلى صاحبه وسرعة إدراك عقوبته قال أمير المؤمنين كرم الله وجهه: ثلاث هنّ راجعات إلى أهلها: المكر «3» والنكث «4» والبغي «5» ، ثم تلا قوله تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ «6» وقال: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ «7» وقال: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ «8» ، وقيل: ربّ حيلة كانت على صاحبها وبيلة. وقيل: رب حيلة أهلكت المحتال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 قال امرؤ القيس: ويغدو على المرء ما يأتمر وقال آخر: وكم من حافر لأخيه ليلا ... تردّى في حفيرته نهارا وقيل: من حفر مغواة «1» وقع فيها، وقيل: من عاد إليه مكره عاد الرمي على النزعة، وقيل أربع من أسرع الأعمال عقوبة: من عاهدته ورأيك أن تفي له ورأيه الغدر، ومن سعى على من لم يسع عليه، ومن قطع رحم من يواصله، ومن كافأ الإحسان باساءة. الموصوف بالغدر قال أعرابي: إنّ الناس يأكلون أماناتهم لقما وفلان يحسوها حسوا ويقال فلان أغدر من الذئب. قال شاعر: هو الذئب أو للذّئب أوفى أمانة وقيل الذئب يأدو الغزال أي يختله. واستبطأ عبيد الله بن يحيى أبا العيناء فقال: أنا والله ببابك أكثر من الغدر في آل خاقان. قال حسّان: إن تغدروا فالغدر فيكم شيمة ... والغدر ينبت في أصول السّخبر «2» وقال الخبزارزي: ولم تتعاطى ما تعودت ضدّه ... إذا كنت خوّانا فلم تدّعي الوفا وقال الباذاني في أبي دلف وكان نقش خاتمه الوفاء: الغدر أكثر فعله ... وكتاب خاتمه الوفا وقيل كان بنو سعد يسمون الغدر كيسان ويستعملونه وفيهم يقول اليمين: إذا ما دعوا كيسان كانت كهولهم ... إلى الغدر أدنى من شبابهم المرد «3» التعريض بمن كان منه غدر قال المنصور لإسحاق بن مسلم العقيلي عند قتله ابن هبيرة: ما كان أعظم رأس صاحبك. فقال: نعم وأمانته كانت أعظم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 وكان لعبد الملك صديق يختصه، فغاب عنه غيبة قتل عبد الملك فيها عمرو بن سعيد بعد أن أمنه. فلما قدم قال له يوما: ما تقول في قتل عمرو بن سعيد؟ فقال: اعفني. فقال: أقسمت عليك لتقولنّ. فقال لو قتلته يا أمير المؤمنين وأنت كان حي جميلا. فقال أو ما تراني حيا قال ليس بحي من أقام نفسه مقاما لا يوثق به، والله لا يخرج عليك بعدها خارجى إلا وبلغ الغاية في معاداتك، وإن بذلت له كل أمانة. فقال عبد الملك: لو سبق إلى إذني لم أصنع ما صنعت، ولقد صدق من قال نصف عقلك مع صاحبك. قال جحظة «1» : وأمّنتني ثمّ عاقبتني ... فكان أمان أبي مسلم مدح سوء الظنّ بالنّاس قيل: ما الحزم؟ قال: سوء الظن بالناس. وقال ببغاء «2» البغدادي: وأكثر من تلقى يسرّك قوله ... ولكن قليل من يسّرك فعله وقد كان حسن الظنّ بعض مذاهبي ... فأدبّني هذا الزمان وأهله «3» وقد تقدم هذا الباب. ذمّ من ساء ظنّه قيل لبعضهم: ما ظنّك بالناس؟ قال: ظنّي بنفسي. قال المتنبّي: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدّق ما يعتاده من توّهم وقيل: أخفض الناس «4» من لا يثق بأحد ولا يثق به أحد. النهي عن الوقوف موضع التّهمة قال النبي صلّى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقومّن مقام التهمة. وقيل: من وقف موقف التهمة لم يكن له أجر الغيبة. من جعل نفسه عرضا للتهم فلا يلومنّ من أساء به الظن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 حقيقة النّفاق قيل: حقيقة النفاق أخلاف السرّ والعلانية واختلاف القول والعمل، وقال صلّى الله عليه وسلم: علامة المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان. ذمّ ذي الوجهين «1» قال الأحنف: إنّ ذا الوجهين خليق أن لا يكون عند الله وجيها. قال صالح بن عبد القدوس «2» : قل للّذي لست أدري من تلوّنه ... أناصح أم على غشّ يداجيني إنّي لأكثر ممّا سمتني عجبا ... يد تشجّ وأخرى منك تأسوني «3» تذمّني عند أقوام وتمدحني ... في آخرين وكلّ منك يأتيني النهي عن الاستعانة بخائن قيل: من استرعى الذئب ظلم. قال شاعر: إن العفيف إذا استعان بخائن ... كان العفيف شريكه في المأثم «4» قال آخر: إذا أنت حمّلت الخؤون أمانة ... فإنّك قد أسندتها شرّ مسند وقال آخر: إن العفيف إذا تكنّفه الظنين هو الظنين وقال علي رضي الله عنه: من تتّهمه فلا تأتمنه ومن تأتمنه فلا تتّهمه. عذر من استعان بخائن سهوا قال أبو تمّام: هذا النبّي وكان صفوة ربّه ... من بين باد في الأنام وقار «5» قد خصّ من أهل النّفاق عصابة ... وهم أشدّ أذى من الكفّار «6» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 واختار من سعد لعين بني أبي ... سرح لوحي الله غير خيار «1» الحثّ على نقض عهد الغادر قال بعض العلماء: حقّ على من جعل لغادر عهدا أن ينقضه، لأن الله تعالى يقول: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ «2» وقال الأعمش: نقض العهد مع من لا عهد له وفاء بالعهد. الحثّ على الغدر والتبجّح به قال شاعر: خرق على الناس وخرق لهم ... فإنّما الدّنيا مخاريق» وقال مسعود الأسدي: قالوا غدرت فقلت جير فربّما ... نال العلى وشفى الغليل الغادر «4» وقال العباس بن الأحنف: ملّني واثقا بحسن وفائي ... ما أضرّ الوفاء بالإنسان (6) وممّا جاء في المسابقة إلى المعالي والرفعة والمجد وصيانة النفس والمروءة والفتوة وتعظيم الأماثل الممدوح بأن مجاريه إلى العلاء تأخّر عنه مدح كاتب رجلا قال: فلان طالت إلى المساعي خطاه وبذّ «5» بشأوه «6» من ساعاه وجاراه. وخطب عمر رضي الله عنه أبا بكر وفضّله، فقال: وإنه كان كما قال الشاعر: من يسع كي يدرك مسعاته ... يجتهد الشّدّ بأرض فضاء والله لا يدرك أيامه ... ذو مئزر ضاف ولا ذو رداء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 وفي المثل فلان لا يشقّ غباره «1» . وكتب كاتب: لسنا لاحقيك إذا ابتدأت ولا سابقيك إذا كافأت. وسئل مجنون: كيف رأيت بني فلان مع من فاخر؟ فقال: كانوا ومن عاداهم من البشر ... كأنما أجريت خيلا وبقر وقال سلم الخاسر: جاراك قوم فلم ينالوا ... مداك والجري لا يعار «2» وقال المتنبّي: من تعاطى تشبّها بك أعيا ... هـ ومن دلّ في طريقك ضلّا «3» وقال البحتري: في فتية طلبوا غبارك إنّه ... وهج ترفع من طريق السؤدد قال ابن الرومي: رجحتم على أكفائكم إذا وزنتم ... وهل يستوي الآلاف والعشرات قال أبو تمّام: محاسن أقوام متى تقرنوا بها ... محاسن أقوام تكن كالخبائث «4» من يبكّت مساميه ومباريه وقال بشّار: أيها الجاهل المباهي بريدا ... ليس بدر السماء منك بدان «5» وقال أبو تمّام: ويا أيّها السّاعي ليدرك شأوه ... تزحزح قصيّا أسوأ الظّنّ كاذبه «6» بحسبك من نيل المكارم أن ترى ... عليما بأن ليست تنال مناقبه «7» وقال آخر: نحيت بيربوع لتدرك دارما ... ضلالا لمن منّاك تلك إلا مانيا سعيت شباب الدهر لم تستطعهم ... أفالان لمّا أصبح الدهر فانيا قال الموسوي: يريد المعالي عاطل من أداتها ... وهيهات من محصوصة طيرانها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 حثّ من يحسد فاضلا أن يفعل فعله رأى الحسن قوما يتهافتون على جنازة بعض الصالحين، فقال: مالكم تتهافتون على ما لا يجدي عليكم؟ ها هي الاسطوانة التي كان يلزم إلزموها تكونوا مثله. قال أسجع: يريد الملوك مدى جعفر ... ولا يصنعون كما يصنع وقال ابن المعتز: يا طالبا للملك كن مثله ... تستوجب الملك وإلّا فلا وأنشد أبو العيناء: إذا أعجبتك خلال امرىء ... فكنه يكن منك ما يعجبك «1» الموصوف بأنه نال السّماء رفعة قال تميم بن مقبل: نالوا السماء فأمسكوا بعنانها ... حتى إذا كانوا هناك استمسكوا «2» قال صاحب البصرة: ملكنا السماء بأحسابنا ... ولولا السماء ملكنا السما أخذه من قول النابغة الجعدي: بلغنا السماء نجدة وتكرّما ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا وأنشد ذلك النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: إلى أين؟ فقال: إلى الجنة فقال صلّى الله عليه وسلم: لافضّ فوك، وقال الفرزدق: فلو أن السّماء دنت لمجد ... ومكرمة، دنت لهم السماء النازل ذروة الشرف قال شاعر: سما فوق صعب لا تنال مراتبه وقال حسّان: سموت إلى العليا بغير مشقّة ... فنلت ذراها لا دنيئا ولا وغلا «3» قال ابن الرومي: تدلّوا على هام المعالي إذا ارتقى ... إليها أناس غيرهم بالسّلالم «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 وقال غيره: على قمّة المجد المؤثّل جالس «1» المبادر إلى تناول المكرمات يستحسن في هذا المعنى قول الشمّاخ «2» : إذا ما راية رفعت لمجد ... وقصّر مبتغوها عن مداها وضاقت أذرع المثرين عنها ... سما أوس إليها فاحتواها وقال ابن الرومي: سجايا إذا همّت بخير تسرّعت ... إليه وإن همّت بشّر تناءت «3» وصف أعرابي رجلا فقال: هو وسّاع إلى الخير قطوف عن الشر وعكس ذلك شاعر: فقال: هو في الخير قطوف ... وهو في الشرّ وساع المختصر طريق المكرمات قال البحتري: له طريق إلى العليا مختصر قال ابن طباطبا: كأنّه من سموّ همّته ... يأتي طريق العلا فيختصر قال الرفّاء «4» : قلت إذ برز سبقا في العلا ... إلى المجد طريق مختصر المتدرع للعلا قال شاعر: ألبسه الله ثياب العلا ... فلم تطل عنه ولم تقصر قال أشجع «5» : مكارم ألبست أثوابها ... كلّ جديد عندها بال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 قال الأخطل «1» : وأقسم المجد حقّا لا يحالفهم ... حتّى يحالف بطن الراحة الشعر وقيل: المجدّد ثأره والكرم شعاره. من انتهى إلى العلا ابتداء منه قال أحمد بن أبي طاهر: خلائقه للمكرمات مناسب ... تناهى إليه كلّ مجد مؤثّل «2» قال أبو تمّام: ما أنشئت للمكرمات سحابة ... إلا ومن أيديهم تتدّفق الموصوف بأنه يحمي المكرمات قال أعرابي لقوم: أنتم والله حضان الشرف وقال رجل لآخر لو وجد الكرم في يد غيرك لعلم أنه ضالة لك. قال أبو شراعة: مولى المكارم يرعاها ويعمرها ... إن المكارم قد قلّت مواليها «3» قال أبو تمّام: قوم تراهم غيارى دون مجدهم ... حتّى كأنّ المعالي عندهم حرم قال أبو تمّام: مضوا وكأنّ المكرمات لديهم ... لكثرة ما أوصوا بهنّ شرائع «4» قال آخر: يحمي شريعة مجد غير مورود من ارتفع بيت شرفه قال شاعر: فأما بيتكم إن عدّ بيت ... فطال السمك وارتفع الفناء «5» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 وأما أسّه فعلى قديم ... من العاديّ إن ذكر البناء قال أبو تمّام: له نبعة فرعها في السماء ... وفي هامة الحوت أعراقها قال أبو فراس: لنا بيت على عنق الثريّا ... بعيد مذاهب الأطناب سام «1» تظلّله الفوارس بالعوالي ... وتفرشه الولائد بالطّعام وقال آخر: له قبّة في المجد رأس عمادها المتدرّع للمعالي قال الراعي «2» : فمن يفخر بمكرمة فإنّا ... سننّاها لأيدي الفاعلينا قال ابن الرومي، وقد أحسن: هم المبدعون بديع العلى ... إذا كان غيرهم المتّبع وما الدين إلا مع التّابعين ... ولكنّما المجد للمبتدع قال أبو تمام، وقد أحسن: فمهما تكن من وقعة بعد لا تكن ... سوى حسن ممّا فعلت مردّد محاسن أصناف المغنّين جمّة ... وما قصبات السّبق إلا لمعبد «3» قال المتنبّي: يمشي الكرام على آثار غيرهم ... وأنت تخلق ما تأتي وتبتدع «4» وقال أرسطوطاليس للإسكندر: أمّا مناقبك فقد نسخها تواترها فصارت كالشيء القديم يتأسى به كالبديع بتعجب منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 المتثبّت بالمعالي والخادم لها قال أبو الشيص «1» : عشق المكارم فهو معتمد لها ... والمكرمات قليلة العشّاق قال المتنبّي: تلد له المروءة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذّ له الغرام ومن هنا أخذ الصاحب قوله: اشبب لكن بالمعالي اشبب ... وانسب لكن بالمكارم أنسب قال أبو تمّام: خدم العلى فخدمنه وهي التي ... لا تخدم الأقوام ما لم تخدم العديم النظير والشبيه وصف أعرابي رجلا فقال ما نطف «2» فحل بمثله، قال: ما ولدت مثلك أرحام النساء وقال آخر: إنّ الزمان بمثله لعقيم قال المتنبّي: ليس له عيب سوى أنه ... لا تقع العين على شبهه وليس ذلك بعيب وإنما هو كقول النابغة: ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهنّ فلول من قراع الكتائب «3» قال علي بن عبد العزيز: جملة القول أنّ مثلك لا يمكن في مثل دهرنا تكوينه قال أبو نواس: خلقت بديعا لا يقال كأنّه ... تعالى ولم يسمع بمثلك سامع قال آخر: ولم تقع عين على مثله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 قال ابن سكّرة في الصّابي: خرجت أطلب شيئا لا وجود له ... ومن غدا يطلب المفقود لم يجد شبه الكريم أبي إسحاق في كرم ... ما ليس في الظنّ هل يسطاع في بلد من اشتغاله كسب المعالي قال البحتري: إلى فارغ من كلّ شغل يشينه ... فإن يشتغل بالمجد طاب اشتغاله قال المتنبّي: ويشغلهم كسب الثّناء عن الشغل من يتزايد في المجد على مرور الدهر قال شاعر: وجدتك أمس خير بني معّد ... وأنت اليوم خير منك أمس قال أبو الهول: ما كنت في غاية إلا سبقت ولا ... طال المدى بك إلّا زدت إحسانا من لا يحصى مجده وقال أبو شراعة: وحزت بهم لا بل بنفس ابن حرّة ... مآثر يحصى دون إحصائها الرّمل قال دعبل: معاليه يحصى قبل إحصائها القطر الموصوف بان تجمّع فيه عالم لفضله عقيل يصول إذا استجير به نفير، قال أبو نواس: متى تخطى إليه الرجل سالمة ... تستجمع الخلق في تمثال إنسان وله: ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد قال المتنبّي: نسقوا لنا نسق الحساب مقدما ... وأتى فذلك إذ أتيت مؤخّرا من يستحقر في جنبه أجلّاء الناس قال بكر بن النطاح: ما النّاس إلا ملك واحد ... غير خشارات ......... «1» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 قال رشتة بن الأبيض: الناس عند علي حين تذكرهم ... كالشّوك يذكر بين الورد والآس قال ابن العوّام: فنحن السنام والمناسم غيرنا ... ومن ذا يسوّي بالسنام المناسما «1» وذلك مأخوذ من قول الآخر: ومن يسوّي بأنّف الناقة الذنبا قال أبو السعداء: النّاس أيام الشهو ... ر وأنت فيهم يوم عيد «2» من تتزيّن به الدنيا وصف أعرابي رجلا فقال لئن عابه كونه في الزمان لقد تزين الزمان بكونه فيه. قال الجريمي: تحلّت به الدنيا فغطّت عيوبها ... وأمست به الدنيا تجّل وتحمد قال المتنبّي: أنت الذي بجح الزمان بذكره ... وتزيّنت بحديثه الأسمار «3» وقال أبو الفضل بن العميد: أمدح بيت قول المتنبي: الدهر لفظ وأنت معناه قال الشيخ رحمه الله وأنا استحسن قول الشاعر: فما أحسن الدنيا وفي الدار خالد ... وأقبحها لمّا تجهّز غازيا قال ابن الرومي: يا زينة الدين والدنيا إذا احتفلا ... وأظهرا ما أعداه من الزين من تنافست فيه الأيّام قال نصيب: وقد تغايرت الأيام فيك فما ... تنفكّ تسني لها الحذيا وتحتشد «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 قال أبو تمّام: يشتاقه من كماله غده ... ويكثر الوجد نحوه الأمس قال ابن الرومي: تنافس الناس في أيّام دولته ... فما يبيعون ساعات بأعوام ومن الأقوال المشهورة: فلان لا يحجب في العلم ... (أي لا يخفى مكانه) وقال شاعر: وهل يخفى على الناس النهار قال ابن الرومي: شمس الضحى أبرع من أن تطمسا «1» وقال آخر: إنّي إذا خفي الرجال وجدتني ... كالشّمس لا تخفى بكلّ مكان قال ابن هرمة «2» : إذا خفي القوم اللئام رأيتني ... مقارن شمس في المجرّة أو بدر «3» وكان علي بن الحسين رضي الله عنهما يطوف بالبيت فرآه يزيد. فقال: من هذا؟ فقال له الحارث بن الليث: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحلّ والحرم «4» اعتذار من لم يعرف قال رجل لسقراط ذكرتك عند فلان فلم يعرفك فقال: يضرّه أنه لا يعرفني، لأنه لا يجهل مكان ذي العلم إلّا خسيس. وقال محمد بن الزيات لبعض أولاد البرامكة: من أنت ومن أبوك؟ فقال: أما أنا فالذي تعرفني وأما أبي فالذي لم يعرفك ولا أباك. قال المتنبي: وإذا خفيت على الغبيّ فعاذر ... أن لا تراني مقلة عمياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 وصف الإنسان بأنّه لا يخلو من العيب قيل لبعض الفلاسفة: من الذي لا عيب فيه؟ فقال: الذي لا يموت. وقال الأحنف: الشريف من عدّت سقطاته، أي الرجل المهذب. قال شاعر: ومن ذا الذي ترضي سجاياه كلّها ... كفى المرء نبلا أن تعّد معايبه ولهذا باب آخر في الإخوانيات. الحثّ على إكرام النفس عند المذلّة قال عمرو بن العاص: المرء حيث يجعل نفسه إن صانها «1» ارتفعت، وإن قصّر بها اتّضعت. قال بعضهم: وما المرء إلّا حيث يجعل نفسه ... ففي صالح الأخلاق نفسك فاجعل قال حاتم: ونفسك أكرمها فإنك إن تهن ... عليك فلن تلقى لها الدهر مكرما «2» قال صالح بن عبد القدوس: إذا ما أهنت النفس لم تك مكرما ... لها بعد ما عرّضتها لهوان أنشد غلام أبي عبيده: ولا تهن للصّديق مكرمة ... نفسك حتّى تعدّ من خوله يحمّل أثقاله عليك كما ... يحمل أثقاله على جمله وإنما يعني بذلك الهوان الذي هو العسف لا الهون الذي قالت العرب فيه إذا عز أخوك فهن. قال صلّى الله عليه وسلم: سيد القوم خادمهم. الممدوح بصيانة النفس قال بعضهم: جعلت الدنيا دون عرضى فآثرها لدى ما صانه وأهونها على ما شانه، ووصف آخر رجلا فقال: اشترى بالمعروف عرضه ومن الأذى فلو كانت الدينا له فأنفقها صيانه لنفسه لاستقلها. قال ابن نباتة «3» : لبست من الحوادث كلّ ثوب ... سوى ثوب المذلّة والهوان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 مدح إهانة النفس حيث تحمد مدح أعرابي رجلا فقال: كان يهين نفسا كريمة لقومه ولا يبقي لغد ما وجد في يومه. قالت الخنساء «1» : نهين النفوس وهون النفو ... س يوم الكريهة أوفى لها ويروى عن الشافعي رضي الله عنه: أهين لهم نفسي لأكرمها بهم ... ولن تكرم النفس التي لا تهينها ما جاء في الفتوّة قيل: الفتوة طعام موضوع ونائل مبذول وبشر مقبول وعفاف معروف وأذى مكفوف، وجاء جماعة إلى حسان فقالوا من الفتى؟ فقال: إن الفتى لفتى الهواجر والثرى ... وفتى الطّعان ومدره الحدثان «2» ذاك الفتى إن كان كهلا أو فتى ... ليس الفتى بمنعم الشبان المروءة قال معاوية لقرشي: ما المروءة؟ قال إطعام الطعام وضرب الهام. وقال ذلك لثقفي فقال: هي تقوى الله وإصلاح المعيشة. فقال لعمرو اقض بينهما. فقال: أما ما قال القرشي فهو المروءة وقد أجاد الثقفي ولم يصب ولكن من بدأ بكلام حسن زيّن بذلك سائر كلامه. وإن المروءة أن تعطى من حرمك وتعفو عمن ظلمك. وقال عبد الله بن عباس المروءة أن تحقق التوحيد وتركب المنهج السديد وتستدعى من الله المزيد، وقيل جماع المروءة في قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ «3» . وقيل لعمرو بن العاص ما المروءة؟ فقال: العفة عما حرم. وقيل للأحنف ذلك فقال: أن لا تعمل في السرّ ما يستحيا منه في العلانية. وقيل له مرة أخرى فقال: اجتناب الريب «4» فإنه لا ينبل مريب، وإصلاح المال فلا مروءة لمحتاج، والقيام بحوائج الأهل فلا مروءة لمن يحتاج قومه إلى غيره، وقيل: لآخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 فقال مواطأة القلب اللسان، وقيل الحسب «1» إحصاء المكارم والنسب إحصاء الآباء. جواز تقبيل اليد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: لا يحلّ لأحد أن يقبّل يد آخر إلا رجلا من أهل بيتي أو يد عالم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: صنع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى رجل معروفا فقبل يد رسول الله صلّى الله عليه وسلم خمس مرات، ولما قدم عمر بن الخطاب الشأم، قبّل أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه يده ثم تناول رجله ليقبلها فقال: مه «2» أما هذا فلا. ودخل عطية بن عبد الرحمن الثقفي فمثل بين يدي مروان ابن محمد فاستأذنه أن يقبل يده، فقال: القبلة من المسلم ذلّة ومن الذميّ خدعة. لا حاجة لي في أن نذل أو تخدع. مد المأمون يده لأعرابي ليقبلها فتناولها بكمه فقال: أتقذر لها؟ فقال: لا بل أتعزز بها. من منع من ذلك أو امتنع قالت امرأة لأبي مسلم: ناولني يدك أقبلها فقد نذرت، فقال: عليك بالحجر الأسود تصيبين أجرا وتقضين نذرا. ودخل عقال بن شبة على هشام وأراد أن يقبل يده فقال: لا يفعل هذا من العرب إلا هلوع «3» ولا من العجم إلا خضوع «4» . وقيل لما أفضت الخلافة إلى أبي العباس السفاح وفدت عليه قريش فأمروا بتقبيل يده، حتى دخل إبراهيم بن محمد العدوي فقال: يا أمير المؤمنين لو كان تقبيل اليد يزيد في القربة منك لأخذت بخطّي منه. وانك لغني عمّا لا أجر فيه لك وفيه منقصة لنا فأقره ولم ينقصه من حظوظ أصحابه شيئا. الممدوح بأنّه مقبّل اليد والرجل قال إبراهيم الصولي: لفضل بن سهل يد ... تقاصر عنها المثل «5» فباطنها للنّدى ... وظاهرها للقبل «6» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 أخذه ابن الرومي فقال: فامدد إليّ يدا تعوّد بطنها ... بذل النوال وظهرها التقبيلا قال الخوارزمي: تعاورت الشفاه الكم عنها ... ونافست الشفاه بها الخدودا وله: يقبّل رجليه رجال أقلّهم ... تقبّل في الدست الرفيع أنامله وفي ضده يقول الهنادي لبعض بني هاشم: يا قبلة ذهبت ضياعا في يد ... ضرّ الإله بنانها بالنّقرس ودخل أبو العميثل على طاهر بن الحسين متمدحا وقبل يده فقال: ما أخشن شاربك يا أبا العميثل. فقال: أيها الأمير إن شوك القنفذ لا يضر ببرثن الأسد. فضحك وقال إن هذه الكلمة أعجب إليّ من كل شعر. فأعطاه للشعر ألف درهم ولكلمته هذه ثلاثة آلاف درهم. المقبّل أرضه قال المتنبّي: تقبّل أفواه الملوك بساطه ... ويكبر عنها كمّه وبراجمه «1» قال أبو القاسم بن أبي العلاء: يقبّل صيد النّاس سدّة بابه ... ويعظم عنه أخمص وركاب لدى ملك قد خطّ في كلّ جبهة ... كتابة رقّ والمداد تراب «2» قال أحمد بن إبراهيم: سجدنا للقرود رجاء دنيا ... حوتها دوننا أيدي القرود فما بلت أناملنا بشيء ... رجوناه سوى ذلّ الخدود من يقام له وينزل إليه وجواز ذلك وكرامته قال شاعر: فلا تعجب لإسراعي إليه ... فإنّ لمثله شرّع القيام قال إبراهيم الصولي: إذا ما بدا والقوم فوق سروجهم ... تناثرت الأشراف منهم على الأرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 وقال آخر: وترى النّاس هيبة حين يبدو ... من قيام وركّع وسجود وقال آخر: يأتي الجوانب لا يراجع هيبة ... والسائلون نواكس الأذقان «1» الممدوح بأنواع من المكارم قال عمرو بن عتبة في أمر وقع بين بني أمية وبين غيرهم إنّ لقريش درجا يزلق عنه أقدام الرجال وأفعالا تخضع لها رقاب الأموال، وألسنا تكلّ عنها الشفار المحدّدة «2» وغايات تقصر عنها الجياد المسومة لو احتفلت الدنيا لم تتزيّن إلّا بهم. وقال عمرو بن معدي كرب «3» في مدح قوم: نعم القوم عند السيف المسلول والخير المسؤول والطعام المأكول، وذكر إدريس بن معقل أبا مسلم فقال: بمثله يدرك الثأر وينفى العار ويؤكّد العهد ويبرم العقد ويسهل الوعر ويخاض الغمر ويفلّ الناب ويفتح الباب ومدح أعرابي رجلا فقال: كان للإخوان وصولا وللأموال بذولا وكان الوفاء به كفيلا. ووقف أعرابي على قبر عامر ابن الطفيل فقال: لقد كنت سريعا إذا وعدت، بطيئا إذا أوعدت وكانت هدايتك هداية النجم وجراءتك جراءة السهم. وأخبر بعض الحكماء عن صاحب له فقال: عظمه في عيني صغر الدنيا في عينه. كان خارجا من سلطان بطنه فلا يشتهي ما لا يجد ولا يكثر إذا وجد وخارجا من سلطان فرجه فلا يستخف له رأيا ولا بدنا. قال امرؤ القيس: أفاد وجاد وساد وقاد ... وذاد وعاد وزاد وأفضل قال ديك الجن «4» : أنّ العلى شيمي والبأس من نقمي ... والمجد خلط دمي والصّدق حشو فمي قال مسلم بن عقيل «5» : يذكرنيك الخير والشر والذي ... أخاف وأرجو والذي أتوّقع وقال آخر: يذكّرنيك الجود والبخل والنهى ... وقول الخنى والحلم والعلم والجهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 فألقاك عن مذمومها متنزّها ... وألقاك في محمودها ولك الفضل تشبيه الممدوح بجماعة مختلفة في معان مختلفة قال رجل للمهدي: إنّك ليوسفيّ العفو إسماعيلي الصدق شعبيّ الرفق سليماني الملك داوودي الفضل «1» ، وحكى محمد الأنماطى الفقيه يوما قال: قد تغدينا يوما عند المأمون، فكان كلما وضع لون يقول: من به كذا فليأكل هذا ومن به كذا فليجتنبه. فقال يحيى بن أكثم: لله درك يا أمير المؤمنين فإنا إن خضنا في الطّب «2» فأنت جالينوس، وإن ذكرنا النجوم فأنت هرمس «3» أو العلم فأنت علي بن أبي طالب، أو السخاء فأنت حاتم «4» ، أو الصدق فأنت أبو ذر «5» ، أو الكرم فأنت كعب بن مامة أو الوفاء فأنت السموأل «6» . فقال المأمون: للإنسان: فضل على غيره بالنطق والفهم ولولا ذلك لم يكن لحمه أطيب. قال أبو تمام: إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس قيل: فلان فيه ورع ابن سيرين وعقل مطرف ودهاء معاوية وحفظ قتادة، وقيل له بذل هاشم وعز كليب وضبط عائشة وبرّ عثمان وشجاعة عتيبة ومكر قيصر قال الطائي: أصبحت حاتمها جودا واحنفها ... حلما وكيسانها علما ودغفلها قال الرستمي: سماحة كعب في رزانة أحنف ... ونجدة عمرو في وفاء ابن ظالم قال السريّ الرفاء: أوفى وكان محلّقا ومضى وكا ... ن مزلقا وسطا وكان محرقا «7» تشبيه الممدوح بأشياء مختلفة في معان مختلفة. قال أبو تمّام: له كبرياء المشتري وسعوده ... وسورة بهرام وطرف عطارد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 قال مسلم: كأنّه قمر أو ضيغم هصر ... أو حيّة ذكر أو عارض هطل «1» قال وهب الهمداني تلقاه في الظلماء والهيجاء والمحل المجيع كالغيث والليث المحامي والعقيلة والصديع قال البحتري: كالغيث في أخذامه والغيث في ... أرهامه والليث في إقدامه إن كنت تنكر ما أقول فجاره ... أوباره أو حاكه أو سامه قال ابن طباطبا: كالبدر إذ يجري وكالليل إذ ... يسري وكالصّارم إذ يفري «2» قال محمد بن وهيب: تحكي أفاعيله في كلّ نائبة ... والغيث والليث والصمصامة الذّكرا قال الخوارزمي: ستلقى به بدرا وبحرا وضيغما ... وسيفا وإنسانا وطودا وفيلقا «3» قال أبو طالب المأموني: جبال الحجا أسد الوغا غصص العدا ... شموس العلا سحب النّدى أنجم الفضل الممدوح بمعنى واحد في أحوال أو جوارح مختلفة قال المتنبيّ: طويل النجاد طويل العماد ... طويل القناة طويل اللسان حديد اللحاظ حديد الحفاظ ... حديد الحسام حديد الجنان قال الخوارزمي: سريع اللسان سريع السنان ... سريع البنان سريع القلم الممدوح بأنّه لو كان كذا لكان خيره قال أبو عمرو بن العلاء لو كانت ربيعة فرسا لكان شيبان غرّتها. قال شاعر: لو كنت ماء كنت من مزنة ... أو كنت نجما كنت سعد السعود «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 وقال آخر: فلو كنت ماء كنت ماء غمامة ... ولو كنت نوما كنت تعريسة الفجر «1» ولو كنت لهوا كنت تعليل ساعة ... ولو كنت ليلا كنت من ليلة القدر قال الكندي: ولو خلق الناس من دهرهم ... لكانوا الظلام وكنت النهارا «2» ضرب من المدح يقال فيه يا كذا: يا مشربا سائغا بلا كدر ... يا سمرا ممتعا بلا سهر قال كشاجم: يا عوضا من فائت ... لم يحتسب منه عوض يا دعة وراحة ... من تعب ومن مضض (7) ومما جاء في النذالة والتأخر عن المكارم حدّ السفلة ووصفها قال معاوية: السفلة من ليس له فعل موصوف ولا نسب معروف، وقيل هو الذي لا يعيبه ما صنع له وقيل هو الذي لا يبالي بما يقول وبما يقال له، وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى هو الذي يعصى الله تعالى. وقال أبو ناظرة: أيا سفلة الناس والأصدقاء ... ويا سفلة الكسب في المأكل ونحوه لابن الحجّاج: وسخ الثوب والعمامة والبر ... ذون والوجه والقفا والغلام وقيل: المروءة التامة مباينة العامة، وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: ما لله عز وجل على العاقل بعد الإسلام نعمة أفضل من مباينة العامة بالفهم والعقل. مضرّة اجتماع السفلة والغاغة يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلم نعوذ بالله من قوم إذا اجتمعوا غلبوا وإذا تفرقوا لم يعرفوا، وقيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 في قول الله تعالى: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ «1» أي من السلطان أو من تحت أرجلكم أي من السفل، أتى أمير المؤمنين كرّم الله وجهه برجل ذي جناية فرأى ناسا يعدون خلفه، فقال: لا مرحبا بوجوه لا ترى إلا عند كل سوء. وقال معاوية لصعصعة بن صوحان: صف لي الناس. فقال: خلق الناس أطوارا «2» طائفة للسيادة والولاية وطائفة للفقه والسنة وطائفة للبأس والنجدة ورجرجة «3» بين ذلك، يغلّون السعر ويكدّرون الماء، إذا اجتمعوا ضروا وإذا تفرقوا لم يعرفوا. من تصاحبه النّذالة قال الشاعر: أناخ اللؤم وسط بني رباح ... مطيّته فاقسم لا يريم «4» كذلك كلّ ذي سفر إذا ما ... تناهى عند غايته مقيم قال جحظة: كم سألنا عن النذالة واللؤ ... م فكانا في داره راتبين الموصوف بالذلّة قيل: هو أذل من النقد ومن القردان تحت المناسم ومن الوتد: وكنت أذلّ من فقع بقاع ... يشجج رأسه بالفهر واجي «5» أي وأجىء فلين الهمزة ويقال هو أذل من الحذا. المتبجّح بالإساءة والنّذالة قيل: شر الناس الذي لا يتوقى أن يراه الناس مسيئا ومن هنا أخذ الشاعر: أحقّ النّاس في الدنيا بعيب ... مسيء لا يبالي أن يعابا وقال بعضهم: فلان لا يستحيى من الشر ولا يحب أن يكون من أهل الخير لا يقعد مقعدا إلا حرمت الصلاة فيه ولو أفلتت كلمة سوء لم تضم إلا إليه ولو نزلت لعنة لم تقع إلا عليه. تشاجر رجلان فقال: كل واحد منهما أنا ألام فتحا كما إلى رجل فقال: قد حكمتماني فأخبراني بأخلاقكما فقال أحدهما: ما مربي أحد إلا اغتبته ولا أئتمنني أحد إلا خنته وقال آخر أنا أبطر الناس في الرخاء وأجبنهم عند اللقاء وأقلهم عند الحياء فقال الرجل: كلاكما لئيم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 وألأم منكم الحطيئة فإنه هجا أباه وأمّه ونفسه ومن أحسن إليه هجا أباه. فقال: لحاك الله ثم لحاك أبا ... وما ألحاك من عمّ وخال «1» وقال يهجو نفسه: أرى لي وجها شوّه الله خلقه ... فقبّح من وجه وقبّح حامله وقال فيمن أعطاه: سئلت فلم تبخل ولم تعط طائلا ... فسيّان لا لوم عليك ولا حمد «2» الموصوف بالشرية ذم أعرابي قوما فقال: ما زال فيهم خميرة سوء يبقيها الماضي للباقي حتى أورثوها فلانا فعجنها بيده ثم أكلها بفمه. وقال الصاحب رحمه الله في بعض أهل الزمان فلان راية «3» الشر. المقصّر في المكارم والمعالي قال إبراهيم بن رجاء: يمدّ بنو كليب للمعالي ... سواعد لم تزل عنها قصارا «4» وقال آخر: متى جرت الكودان في الرّهان وقال آخر: لن يلحق الفرس الحمار الموكف «5» وقال آخر: وابن اللئيم معقل باللؤم يغمر وقال آخر: جرى طلقا حتّى إذا قيل سابق ... تداركه عرق اللئيم فبلّدا وقال آخر: جرى المداكي حسرت عنه الحمر «6» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 وقال آخر: وابن اللبون إذا ما لزّ في قرن ... لم يستطع صولة البذل القناعس «1» وقال غيره: إنّك كالجاري إلى غاية ... حتّى إذا قاربها قام قال أبو الهداهد الأصفهاني: لهم عن كلّ مكرمة حجاب ... فقد تركوا المكارم واستراحوا السابق إلى الملاوم المتأخر عن المكارم قال هشام بن قيس: إذا ما سوءة دارت رحاها ... وجدتهم لا سواها ثقالا قال الطرماح «2» : تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل المكارم ضلّت قال البسامي: هو في الخير قطوف ... وهو في الشرّ وساع وقال آخر: إذا نهض الناس للمكرمات ... وقاموا إليها جميعا قعد قال الباذاني: يداك يد تطول إلى المخازي ... وعن طلب العلا أخرى قصيره «3» وقال آخر: رأوا في اللؤم رخصا فاشتروه ... ويمنعهم عن الكرم الغلاء «4» وقال آخر يهجو امرأة: تكره ذكر الله في بيتها ... وهي إلى الحشّاء مشتاقه إن ذكر الخير فما إن لها ... من جمل فيه ولا ناقه مقدامة في الشرّ سبّاقة ... وفي تقى الله على السّاقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 ذمّ من يتكلّف إدراك ما لا يدركه ذكران قصارا كان يعمل على شاطىء نهر وكان يرى كركيا يجيء كلّ يوم فيلتقط من الحمأة دودا ويقتصر في القوت عليه. فرأى يوما بازيا قد ارتفع في الجو فاصطاد حماما فأكل منها بعضا وترك في موضعه البعض وطار فتفكر الكركي في نفسه. وقال: مالي لا أصطاد الطيور كما يصطاد وأنا أكبر جسما منه. فارتفع في الجو وانقض على الحمام، فأخطأه فسقط في الحمأة فتلطخ ريشه ولم يمكنه أن يطير فأخذه القصار وحمله إلى منزله فاستقبله رجل فقال: ما هذا قال: كركي يتصقر. وكان المتنبي ألم بهذا المعنى في قوله: ومن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه ما لا يرى وفي المثل: - أطرق كرى أن النعام في القرى ونحو ذلك قول يربوع: - بخست بيربوع لتدرك دارما ... ضلالا لمن منّاك تلك الأمانيا وقد تقدّم ذلك. الحكم بين فاضل ونذل سئل أبو العيناء عن رجلين فقال: وما يستوى البحران هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج. وسئل أبو ثور عن حماد بن زيد بن درهم وحماد بن سلمة بن دينار فقال: بينهما في القدر ما بين جديهما في الصرف، وقال أعرابي: فلان يدعي الفضل على فلان ولو وقع في ضحضاح معروفة لغرق شاعر. وهل يقاس ضياء الشمس بالقمر! قال محمد بن منادر: ومن يجعل الوجه مثل القفا ... وعالية الرّمح كالسّافل وفي المثل: مذكية تقاس بالجذاع «1» وفيه: ليس قطا مثل قطي وقال سبيع التميميّ: أسوّيك بالمرء الذي لست مثله ... وكيف يسوّى صالح القوم بالرّذل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 تفضيل رجل على آخر في الفضل في المثل: ماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدان، وفتى ولا كمالك. في كل شجرة نار واستمجد المرخ «1» والعفار «2» . قال حسان بن ثابت للحارث بن أبي الشمر: أبيت اللعن إنّ النعمان بن الحارث يساميك وو الله إن قفاك أحسن من وجهه، وشمالك خير من يمينه، وإن عدّتك أحضر من عدة وغدك أوسع من يومه، وكرسيك أرفع من سريره وأمّك أشرف من أبيه. من يغبط أو يحسد فاضلا أن يفعل مثله رأى الحسن رضي الله عنه قوما يتزاحمون على جنازة بعض الصالحين فقال: مالكم تتهافتون عليه افعلوا فعله تكونوا مثله. قال أبو العميثل: يا من يؤمّل أن تكون خصاله ... كخصال عبد الله أنصت واسمع فلأنصحنّك في المروءة والذي ... حجّ الحجيج إليه فأقبل أودع اصدق وعفّ وبرّ وانصر واحتمل ... واحلم وكفّ ودار واصبر واشجع أخذ ذلك من قول عروة بن الزبير: يا أيّها المتمنّي أن يكون فتى ... مثل ابن زيد لقد خلّى لك السبلا أعدد نظائر أخلاق عددن له ... هل سبّ من أحد أو سبّ أو بخلا «3» وأنشد أبو العيناء في معناه: إذا أعجبتك خلال امرىء ... فكنه يكن منك ما يعجبك «4» فليس على الجود والمكرمات ... إذا جئتها حاجب يحجبك الحكم بين نذلين سئل أبو العيناء عن رجلين فقال: هما الخمر والميسر ائمهما أكبر من نفعهما، وتفاخر رجلان في الكرم وتراضيا بأبي العيناء فحكماه فقال: أنتما كما قال الشاعر: حمارا عبادي إذا قيل نبنا ... بشرّهما يوما يقول كلاهما وفي المثل كثير ويرعو، وكل عير خير. وقيل زندان في وعاء وقيل زندان في رقعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 وقيل سواسية كأسنان الحمار. وعكس هذا المعنى الصنوبري «1» فأتى بأجود لفظ وأوضح معنى، فقال: أناس هم المشط استواء لدى الوغا ... إذا اختلف الناس اختلاف المشاجب عذر من ذكر فاضلا ونذلا معا قال بعض الكبار لرجل: أتذكرني مع فلان وفلان فقال: قد ذكر الله النار والجنة وفرعون مع موسى وآدم مع إبليس فلم يهن بذلك أولياءه ولم يكرم به أعداءه. اختيار أراذل وصف أعرابي قوما فقال: هم كلاب وفلان من بينهم سلوقي وهم حنظل وهو هبيد «2» . وإن في الشر خيارا وليس العاقل من يعرف الخير من الشر وإنما العاقل من يفرّق بين الشرين. قال محمود: ذممتك أولا حتّى إذا ما ... بلوت سواك عاد الذمّ حمدا ولم أحمدك من خير ولكن ... رأيت سواك شرّا منك جدّا فعدت إليك مختلا ذليلا ... لأني لم أجد من ذاك بدّا كمجهود تعاظم أكل ميت ... فلمّا اضطرّ عاد إليه شدّا من لا يفرح بموته ولا يسر بحياته قال شاعر: إذا كنت لا ترجى لدفع ملمّة ... ولم يك في المعروف عندك مطمع «3» ولا أنت ممّن يستعان بجاهه ... ولا أنت يوم الحشر ممّن يشفع «4» فعيشك في الدنيا وموتك واحد ... وعود خلال من وصالك أنفع ذكر أحمد بن الخطيب عند أبي العيناء فقال: إن دنوت منه عرّك «5» وإن بعدت منه ضرك. فبلغ كلامه أحمد فقال: تفسيره أن حياته لا تنفع وموته لا يضرّ. وقيل لرجل: مات فلان فقال: من لم تنفع حياته لم تجزع وفاته: فبعدا لا انقضاء له وسحقا ... فغير مصابه الخطب العظيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 من لا يستحضر في المحافل ولا يعرج عليه الأماثل وقال الأخطل: أما كليب بن يربوع فليس لهم ... عند التفاخر إيراد ولا صدر «1» مخلفون ويقضي النّاس أمرهم ... وهم بغيب وفي عمياء ما شعروا الآكلون خبيث الزاد وحدهم ... والسائلون بظهر الغيب ما الخبر؟ وقيل: هادته وغيبته سواء «2» وقال آخر: كزائدة الابهام خلف الرواجب «3» وقال آخر: كزائدة النّعامة في الكراع قال عبدان: خرجنا غداة إلى نزهة ... وفينا زياد أبو صعصعه فستة رهط به خمسة ... وخمسة رهط به أربعه قال سحيم بن موسى: عن المكارم تنفى طيىء طردا ... نفي الزيوف أبتها كفّ منتقد «4» المتعري من الإنسانية وصف أعرابي رجلا فقال: ليس فيه من الآدمية ألا أنه يسمى آدميا. وقال فتى لأبيه: مالي إذا أخذتم في الأشعار والأخبار تسلط على المنام. فقال: لأنك حمار في مسلاخ «5» إنسان. ويقال فلان حارض بن حارض لمن لا خير فيه. ذم من لا يبالي بما ارتكب وصف أعرابي رجلا فقال: يهون عليه عظام الذنوب ويحسن في عينه قباح العيوب ولو كان في بني آدم سباخ أنه لمن سباخهم. قال المري: قوم إذا خرجوا من سوءة ولجوا ... في سوءة لم يخبّوها بأستار وقيل: من الأبيات الرائعة المعجبة التي لا أرباب لها قول الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 أن يغدروا أو يجبنوا ... أو يبخلوا لا يحفلوا وغدوا عليك مرجلين كأنّهم لم يفعلوا الموصوف بكثرة المساوىء قيل: مدفع المعائب ومجمع المثالب لو قذف على الليل لونه لانطمست نجومه. الأخطل: قوم تناهى إليهم كلّ فاحشة ... وكلّ مخزية سبّت بها مضر «1» قال أبو تمّام: مساو لو قسمن على الغواني ... لما أمهرن إلا بالطّلاق «2» وقال زبينا النصراني: لي صاحب لست أحصي من محاسنه ... شيئا صغيرا ولا أحصي مساويه وليس فيه من الخيرات واحدة ... وأكثر السوء لإبل كلّه فيه قال ابن الرومي: معايب النّاس وسوآتهم ... قد جمعت لي منك في شخص قال ابن أبي عيينة: جمعت خصال الردي جملة ... وبعت خصال النّدى جملة وقال آخر: فما لك في الخير من خلّة ... وكم لك في الشرّ من خلّة «3» قال ابن الحجّاج: مقابح فيك شتّى ... أوصافها لا تحّد ذمّ من لا يصلح لخير ولا شرّ قال بعضهم: فلان أملس ليس فيه مستقر لخير ولا شر، فقيل ذلك ميت الأحياء وقال حاجب بن زرارة ما هو برطب فيعصر ولا بيابس فيكسر، قال شاعر: مسيخ مليخ كلحم الحوار ... فلا أنت حلو ولا أنت مرّ «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 كأنّك ذاك الذي في الضّروع ... بقادم أضرتها المنتشر وسمع رجل آخر يقول: أنت لم تأت قط بخير، فقال: إن لم آت بخير فقد أتيت بشر. وقد قيل إذا لم ترفع في الخير شعارا فارفع في الشر شنارا، ثم أنشد: إذا أنت لم تنفع فضرّ فإنّما ... يرجى الفتى كيما يضرّ وينفع وهذا ضد قول القائل: خمول الذكر أسنى ... من الذكر الذّميم قال مروان بن أبي حفصة «1» : وما فعلت بنو مروان خيرا ... ولا فعلت بنو مروان شرّا قال أبو الفرج الأصبهاني: كأنّه التيس قد أودى به هرم ... فلا لحم ولا عسب ولا ثمن «2» وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن رجل فقال: هو فصل لا حر ولا برد وهو عوسجة لا ظل ولا ثمر، وقال أبو علي ابن عبدوس الشيرازي: هم الكسوب فلا أصل ولا ثمر ... ولا نسيم ولا ظلّ ولا زهر ذمّ من لا يضرّ ولا ينفع قيل: فلان إن دنوت منه عرّك وإن تباعدت عنه ضرك، شرّه يفيض وخيره يغيض: وشرّك في البلاد يسيل سيلا ... وخيرك رمية من غير رام «3» هو كالسمرة التي قلّ ورقها وكثر شوكها وصعب مرتقاها لا كالكرمة، التي حسن ورقها وطاب ثمرها وسهل مجتناها «4» . لا يؤمن خباله «5» ولا يرجى نواله «6» حديثه غثّ «7» وكلامه رثّ «8» عيال في الجدب عدو في الخصب قليل الخير جمّ الضير «9» . قال ابن الحجّاج: أعيذكم بالله من عصبة ... تباع مجّانا ولا تشترى فإنّكم من حيث ما استنشقت ... روائح الآمال فيكم خرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 وفي المثل يا عبرى مقبلة ويا سهري مدبرة وقيل أغيرة وجبنا: يا ليت حظّي من نداك الصافي ... والخير أن تركتني كفافي وقال آخر: ليت حظّي من أبي كرب ... سدّ عنّي خيره خبله وقال آخر: فراشة الحلم فرعون العذاب وإن ... تطلب نداه فكلب دونه كلب من يرضى منه أن يكفّ شرّه قيل: أسوأ ما في الكريم أن يمنعك نداه وأحسن ما في اللئيم أن يكفّ عنك أذاه، قال المتنبي في معناه: إنّا لفي زمن ترك القبيح به ... من أكثر النّاس إحسان وإجمال ذمّ من يعادي أولياءه دون أعدائه قيل لمعاوية: ما النذالة؟ قال: الجراءة على الصديق والنكول «1» عن العدو. وذم أعرابي رجلا فقال: هو أقل الناس ذنوبا إلى أعدائه وأكثرهم تجرؤا على أصدقائه وأوليائه وكتب بعضهم عدوه بمعزل عنه وصديقه على وجل منه إن شهد عافه وإن غاب عنه خافه وفي الأقارب باب يقرب من هذا. من أخلف فيه الظنّ لنذالته قال أبو علي البصير كان ظنّي بك الجميل فألفي ... تك من كلّ ما ظننت بعيدا قيل لجعيفر: أن اقصد فلانا وسله. فقال: إنه قطوف عن الخيرات لا يثمر شجرة ولا يميه حجره. فقيل ليس كما تظنه فأتاه فلم ير منه طائلا فقال: له: يا فتى أخلف فيه الظ ... نّ من كلّ فنون لم يكن ظنّي بك ال ... خير ولكن خدعوني الموفي على كلّ لئيم قد كان لأم طفل لفّ في خرق، وقيل هو ألام من الذئب وفي ضده قيل هو أكرم من الليث ولؤم الذئب أنه يأخذه ما يعن له وإن كان شعبان والأسد يتلطف عن ذلك إذا شبع وقيل: لئيم راضع وذلك من باب البخل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 من لا يبالي بغضبه قيل لرجل: فلان غضب عليك. فأنشد: إذا غضبت تلك الأنوف لم أرضها ... ولم أطلب العتبى ولكن أزيدها قال ابن الرومي: غضبت وطلت من سفه وطيش ... تهزهز لحية في قدّ رفش فما افترقت لغضبتك الثريّا ... ولا اجتمعت لذاك بنات نعش وفي المثل: غضب الخيل على اللجم، ومما يضرب به المثل في ذلك قول المتنبي: وغيظ على الأيام كالنّار في الحشا ... ولكنّه غيظ الأسير على القدّ «1» وقيل: فلا سلّ من تلك الصدور قتادها قال أبو علي البصير: أبو جعفر كالناس يرضى ويغضب ... ويبعد في كلّ الأمور ويقرب ولكن رضاه ليس يجدي قلامة ... فما فوقها إذ سخطه ليس يرهب «2» ويقرب من ذلك قولهم ما أبالي ما نهي من ضبك وما نضج وعكس هذا الباب قول جرير: إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت النّاس كلّهم غضابا «3» وضيع ارتفع قيل: إذا استنسر البغاث «4» حلت الأحداث، وقيل إذا ذهبت العتاق ارتفعت الدقاق «5» ، وجاء ما لا يطاق. وقال أزدشير ما شيء أسرع في انتقال الدول من رفع وضيع إلى مرتبة شريف. قيل السفل إذا تعلموا تكبروا وإذا تمولوا استطالوا، والكرام إذا تعلموا تواضعوا وإذا افتقروا صالوا، وقيل لأن يسقط ألف من العلية خير من أن يرتفع واحد من السفلة. الاغتياظ لوضيع تعرض لرفيع لما ولي زياد البصرة خطب فقال: إني رأيت خلالا ثلاثا نبذت إليكم، منهن النصيحة لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 يأتيني شريف بوضيع لم يعرف شرفه إلا عاقبته ولا هل بحدث لم يعرف فضل سنه إلا عاقبته ولا عالم بجاهل عنته إلا عاقبته، فإنّما الناس أشرافهم وذوو سنهم وعلماؤهم، ووجد في كتب العجم أنّ بازيار الأبرويز أطلق شاهينه «1» على طائر فاخطأه فانقض على عقاب تراءت له فضربها ضربة أبان رأسها من جسدها، فأخذ البازيار الشاهين والعقاب وأتى به الملك ليعلمه بفعل الشاهين رجاء أن يسرّه بذلك وينال به مالا، فلما أخبره أخذ الشاهين من البازيار فقطف رأسه ثم التفت إلى وزرائه وأوليائه وقال يتكايدني أن أرى يدا دنيئة تسلّطت على يد رفيقة. وضيع يتعرض لرفيع لعجزه قال الأعشى: كناطح صخرة يوما ليوهنها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل قال كشاجم: تبارزني ونفسك من رصاص ... وهل يبقى على النّار الرصاص «2» من افتخر بما ليس عنده قيل لأبي عبيدة: أن الأصمعي قال: بينا أبي يساير سلم بن قتيبة على فرس قال أبو عبيدة: سبحان الله المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زورو والله ما ملك أبوه دابة إلا في ثوبه. وقيل فخر البغي يخدج زينتها فلان يفخر بغير نداه ويبجح «3» بما في بطن سواه، قال طاهر بن الحسين: محارب يفرحون بعزّ قيس ... كما فرح الخصيّ بمن يقود وقيل: تجشّى لقمان من غير شبع. وقيل: ليس هذا بعشك فادرجي. وقيل: من فاته الدين والمروءة فرأس ماله العصيبة والتبجح بمال غيره، ورؤي رجل من نظارة السباق وقد سبق فرس وهو يظهر النشاط وفرط السرور والابتهاج، فقيل له أهو لك فقال: لا ولكن لجامه لي. وللمتنبي في نفي المفاخرة بما لغيره عن نفسه: وما أسرّ بما غيري الحميد به ... ولو حملت إليّ الدّهر ملآنا وقال الأجدع الهمداني وهو مما يتمثل به فيمن يتبجح بفعل لم يفعله بعد: وكيف افتخار القوم قبل لقائهم ... إلا أن ما بعد اللقاء هو الفخر الموصوف بأنواع من المعائب سئل بعضهم عن رجل فقال: هو غث في دينه، قذر في دنياه، رثّ في مروءته سمج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 في هيئته منقطع إلى نفسه راض عن عقله، بخيل بما وسع الله عليه من رزقه، كتوم لما آتاه الله من فضله حلاف لجوج لا ينصف إلا صاغرا ولا يعدل إلا راغما، لا يرفع عن منزلة إلا ذلّ بعد تعززه فيها. وقال بعضهم فلان قليل الخير جم الضير عسيف السير كذوب الوعد خؤوف العهد قليل الرفد، وقال آخر هو صغير القدر قصير الشبر ضيق الصدر كثير الفخر ولئن كان للإنسان سبخ أنه لمن سبخ بني آدم، وذكر أعرابي رجلا فقال: لو أفلتت مخزنية لم تصل إلا إليه ولو نزلت لعنة لم تكن إلا عليه وقال إبراهيم بن المدبر في رجل له كبد مخنث وجسد نائحة وشره قواد، وذلّ قابلة وملق داية وبخل كلب وحرص نباش «1» وقحة مصلحى ونتن جورب ووحشة قرد، قال ابن الحجاج: نسيم حشّ وريح مقعدة ... ونفث أفعى ونتن مصلوب «2» وقال ابن ثوابة لأبي العيناء أما تعرفني؟ فقال: أعرفك ضيق العطن «3» لئيم الوطن نؤوما على الذقن. قال شاعر: النّاس من كدّتيك في تعب ... فم بذيء وفقحة غلمه «4» والأصل نذل والدّين ذو دخل ... والأب فدم والأم متّهمه «5» قال بعض الأدباء: أرى فيك أخرقا ولست بقائف ... ولكنّها لم تخف في متحدّث «6» شمائل تيّاس وخفّة حائك ... وتقطيع طبّال وطيش مخنّث المشهور بالشؤم يضرب المثل في الشؤم بقدار وطويس ووافد عاد فأما قدار فعاقر ناقة صالح عليه السلام، وأما طويس فإنه كان يقول ولدت يوم توفي النبي صلّى الله عليه وسلم وفطمت يوم مات أبو بكر رضي الله عنه، وبلغت الحليم يوم قتل عمر رضي الله عنه، وتزوجت يوم قتل عثمان رضي الله عنه، وولد لي يوم توفي علي رضي الله عنه. ووافد عاد هو الذي بعثوه إلى الحرم ليستسقى لهم، فمر بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهرا يشرب الخمر وتغني له الجرادتان، ثم أتى جبال مهرة فقال: اللهم إني لم أجىء لفائت فأوديه، ولا لأسير فأفاد به ولا لمريض فأداويه، اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه فعرضت لهم سحابة أهلكتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 وقيل أشأم من قاشر لفحل أرسل في إبل فماتت عن آخرها. وقيل هو من قولهم أبعث إليهم سنة قاشورة، تحتلق المال احتلاق النورة، وأشأم من داحس والغبراء وخبرهما مشهور. قال محمد بن حازم: لقاؤك للمبكر فال سوء ... ووجهك أربعاء لا تدور «1» وقال عمرو بن لحا: جريت ليربوع بشؤم كما جرى ... إلى غاية قادت إلى الموت داحس وقال إبراهيم بن سبأ: شؤمه يفلق الصخور فلو زا ... ر أبانا لهدّ ركني أبان «2» وقال مخنث لآخر: يا وجه البوم وعين الزقوم «3» ومقراض الآمال وجلم الآجال وقال الشاعر: يا سعد إنّك قد حجبت ثلاثة ... كلّ عليه منك وسم لائح وأراك تخدم رائعا لتبيده ... فارفق به فالشّيخ شيخ صالح وصف العائن بعينه ذكر بعض العلماء إن العين حق وإن النبي صلّى الله عليه وسلم أثبته، والهند والفرس تتدين به وكذلك اليونانيون. ويذكرون أنه بخار ينفصل من العين والجوف فيدخل في المعيون ولهذا كرهوا الأكل بين يدي السباع والكلب والسنور ورأوا أن يشغلوا السباع عند أكلهم بشيء يرمى به لئلا ينفصل بخار رؤيته فيؤثر في المعيون. قالوا ومثل تأثير العائن في المعيون نظر الرجل إلى العين المحمرة فتحمر عينه، والطامث تدنو من إناء اللبن لتسوطه «4» فتفسده. وصعد سليمان بن عبد الملك المنبر يوم الجمعة وقد غلّف لحيته بالغالية. وقال أنا الملك الشاب فأصابته عين فما جمع بعدها. وكان المعدل بن غيلان العبدي شديد العين، دخل يوما على جعفر بن سليمان فاستحسن أكله فعانه. فاقشعرّ جلده فقال: لدمني المعدل بعينه فخرج عبد الله ابن جعفر ليقتله فطار واستخفى، وكتب إلى جعفر لو كنت أخشى أن أعينك قلعتها أتعين عيني نورها وكان ابن الزبير ومعاوية يتسايران فأبصرا راكبا من بعيد، فقال ابن الزبير: هو فلان فلما قدم كان إياه، فقال معاوية: ما أحسن هذه الحدّة مع الكبر. فقال: برك يا أمير المؤمنين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 فسكت فقال ابن الزبير: ما أحسن هذه الثنايا واطرأ هذه الوجه. فقال معاوية: برك فسكت فافترقا فشكا ابن الزبير عينه ثم شارفت الذهاب وسقطت ثنيتا معاوية فالتقيا بعد ذلك بسنة فقال معاوية: يا أبا بكر أينا أشوه فقال رجل: معين أصابته العين وشأنه ومشوه وشقذ شديد الإصابة بالعين. المذموم بأنه لو كان كذا لكان شره دخل أبو الأسود على ابن عباس رضي الله عنهما يجر رجله فقال: لو كنت بعيرا كنت ثقالا. فقال له أبو الأسود: ولو كنت راعي البعير لما بلغته الكلأ ولما حفظته من الضيعة وقيل لام بهلول كيف ترين ابنك؟ فقالت: قبحه الله لو كان داء ما برىء منه. قال: لو كنت ريحا كانت الدّبورا ... أو كنت غيما لم تكن مطيرا «1» أو كنت ماء لم تكن نميرا ... أو كنت بردا كنت زمهريرا أو كنت مخا كان مخّا ريرا «2» وقال آخر: لو كنت ماء لم تكن بعذب ... أو كنت سيفا لم تكن بعضب «3» أو كنت لحما كنت لحم كلب ضرب من الذمّ يقال يا كذا يا طيرة الشؤم ويا فأل التلف ... يا سوء كيل وغلاء وحشف «4» قال أبو نواس: يا غراب البين في الشؤ ... م وميزاب الجنابه «5» يا كتابا بطلاق ... وعزاء بمصابه يا مثالا من هموم ... وتباريح كآبه قال الناجم: يا قوة اليأس ويا ضعف الأمل ... يا كلّ مكروه وكرب وبخل يا حيرة المملق أعيته الحيل ... يا زحل الدهر ومرّيخ الدول «6» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 الحدّ الخامس في الأبوّة والبنوّة ومدحهما وذمّهما (1) فممّا جاء في البنين والبنات نفع الولد وحمده قال الله تعالى: آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً «1» وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا مات الرجل انقطع عمله إلّا من ثلاث: صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له. وقال حكيم في ميت: إن كان له ولد فهو حي وإن لم يكن له ولد فهو ميت؟ والعرب تسمّي من لا ولد له صنوبرا، ولهذا قالوا إن محمدا صنوبر، وقيل لحكيم: ما منفعة الولد؟ فقال: يستعذب به العيش ويهون به الموت. وقيل: خير ما أعطى الرجل بعد الصحة والامن والعقل ولد موافق من زوجة موافقة قال: ومتعة العيش بين الأهل والولد قال ابن أبي فنن في وصف شراب: أطيب في الأنف إذا ... جاءتك من ريح الولد وقيل لبعضهم: أيّ ريح أطيب؟ فقال: ريح ولد أربه وبدن أحبه. وفي الحديث: ريح الولد من رائحة الجنّة. قيل لبزرجمهر: ما السعادة؟ قال: أن يكون للرجل ابن واحد فقال: الواحد يخشى عليه الموت. قال: لم تسألني عن الشقاوة. مضرّة الولد وذمّه قيل: لبعض الزهاد ألا تزوجت فريما يكون لك، خلف فقال: كفى بالتزهيد فيه قوله تعالى: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ «2» وقوله: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ «3» وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: الولد مبخلة مجبنة مجهلة. وقيل: قلة العيال أحد اليسارين. وقيل: قلة العيال كنز لا ينفد. وسئل حكيم عن ولده فقال: إن عاش كدّني وإن مات هدّني. وبشّر حسن البصري بابن فقال: لا مرحبا بمن إن كنت غنيا أذهلني وإن كنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 فقيرا أتعبني، ولا أرضى كدى له كدا ولا سعي له في الحياة سعيا، أهتم بفقره بعد وفاتي حين لا ينالني به سرور، ولا يهمه لي حزن، واصحر يوما فرآى صيادا فقال: ما أكثر ما يقع في شبكتك، قال كل طير زاق. فقال الحسن: هلك المعيلون. قال ابن عباس رضي الله عنهما لرجل معه ولده: إن عاش فتنك وإن مات أحزنك وقد أحسن المتنبي في قوله: وما الدهر أهل أن يؤمّل عنده ... حياة وأن يشتاق فيه إلى النسل وقيل: النكد كل النكد من رماه الأبد كل عام بولد. كون الولد مكسبا لأبويه بأفعاله قال النبي صلّى الله عليه وسلم: أنت ومالك لأبيك وقال صلّى الله عليه وسلم أولادكم كسبكم فكلوا من أموالهم. وناول عمر رضي الله عنه رجلا شيئا فقال له: خدمك بنوك فقال: بل أغناني الله عنهم. شفقة الأبوين على الولد كان النبي صلّى الله عليه وسلم يخطب فطلع الحسن رضي الله عنه يتخطى الناس فسقط فنزل النبي صلّى الله عليه وسلم فتناوله ثم رجع فقال: والذي نفسي بيده ما علمت كيف نزلت صدق الله عز وجل إنما أموالكم وأولادكم فتنة. وضرب رجل وطولب بمال فلم يسمح به فأخذ ابنه وضرب فجزع فقيل له في ذلك فقال: ضرب جلدي فصبرت وضرب كبدي فلم أصبر. قال شاعر: وإنّما أولادنا بيننا ... أكبادنا تمشي على الأرض «1» من كره الموت شفقة على ولده قال شاعر: يقرّ بعيني وهو ينقص مدّتي ... مرور الليالي كي يشبّ حكيم مخافة أن يغتالني الموت قبله ... فينشو مع الصّبيان وهو يتيم وقال آخر: لقد زاد الحياة إليّ حبا ... بناتي إنهنّ من الضعاف مخافة أن يذقن اليتم بعدي ... وأن يشربن رنقا بعد صاف متحمل تعبا لأولاده قال شاعر: والله لولا صبية صغار ... وجوههم كأنّها أقمار لمّا رآني ملك جبار ... ببابه ما طلع النّهار ونحو هذا قولهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 لولا أميمة لم أجزع من العدم ... ولم أقاس الدجا في حندس الظّلم «1» الأبيات وهي مذكورة في الحماسة. قال حطان بن المعلي: لولا بنيّات كزغب القطا ... رددن من بعض إلى بعض لكان لي مضطرب واسع ... في الأرض ذات الطّول والعرض وقال معاوية رضي الله عنه لولا يزيد لا بصرت رشدي. محبّة الولد وملاعبته كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقبل الحسن فقال الأقرع بن حابس: إنّ لي عشرة من الأولاد فما قبلت واحدا منهم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: فما أصنع إن كان الله نزع الرحمة من قلبك. قال موسى عليه السلام: يا رب أي الأعمال أحب إليك؟ قال الطاف الصبيان فإنهم فطرتي وإذا ماتوا أدخلتهم جنتي. وقال كسرى لغيلان «2» أي الأولاد أحب إليك؟ فقال: الصغير حتى يكبر والغائب حتى يقدم والمريض حتى يبرأ. كان عبد الله بن عمير يدخل معه سبعون ذكرا المقصورة فقيل له كيف حبك لجماعتهم؟ فقال: تفرق حب الأول عليهم وهذا من غريب الحب. محبّة الأب للابن وبغض الابن له قال زيد بن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم لابنه: إنّ الله رضيني لك فأوصاك بي وحذرنيّ منك. وأجمعوا أن الولد البار أبر من الوالد لأن برّ الوالدين طبيعة وهذا واجب والواجب أبدا ثقيل. كتب إبراهيم بن داحة إلى أحد أبويه: جعلني الله فداءك. فكتب إليه لا تكتب بمثل هذا فأنت على يومي أصبر مني على يومك. إعجاب المرء بابنه قيل: زين «3» في عين والد ولده ونحوه، وإن لم يكن من بابه من يمدح العروس إلا أهلها. قال أبو تمّام الطائي: ويسيء بالإحسان ظنّا لا كمن ... هو بابنه وبشعره مفتون وقيل: شكت الخنفساء إلى أمها استقذار «4» الناس إياها وإن من دنا منها يبزق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 عليها، فقالت لها: إنهم لحسنك ونظافتك ينفثون عليك مخافة العين، أعيذك بالله. وقال أعرابي: يا ربّ مالي لا أحبّ حشوده ... وكلّ خنزير يحبّ ولده اعجاب المرء بأبيه في المثل: كلّ فتاة بأبيها معجبة. وقيل: من يطل أير أبيه ينتطق به. وحضر صالح العباسي مجلس المنصور وكان يحدثه ويكثر من قوله أبي رحمه الله، فقال له الربيع: لا تكثر الترحم على أبيك بحضرة أمير المؤمنين، فقال له: ألومك فإنك لم تذق حلاوة الآباء. فتبسم المنصور وقال هذا جزاء من تعرض لبني هاشم. وقال أبو العيناء: ما أخجلني أحد كما أخجلني ابن صغير لعبد الرحمن بن رجاء قلت له يوما أيبيعك أبوك منّي فإني أريد ابنا مثلك، فقال: البيع لا يمكن إن شئت أحمل أبي على امرأتك لتأتيك بولد مثلي. ومرّ الأخطل بالفرزدق وهو صبي فقال: أيسرّك أن أكون أباك فقال: ولكن يسرني أن تكون أمي ليأكل أبي من أطايبك. تفضيل كبار الولد وصغاره قيل: من سرّه بنوه ساءته نفسه وبذلك ألم الشاعرى فقال: نشا بنيّ فكان مثلى ... يلبس ما قد نزعت عنّي «1» فسرّني ما رأيت منه ... وساءني ما رأيت منّي وقال: إنّ بنيّ صبية صيفيّون ... أفلح من كان له ربعيّون وقيل: كان بين عمرو بن العاص وبين ابنه عبد الله اثنا عشر سنة في السن ولا يعلم أحد كان بينه وبين أبيه هذا القدر. فأما من بينه وبين أبيه أربع عشرة سنة فعددهم كثير. وقال حماد بن إسحاق بن إبراهيم كان أبي أكبر مني بأربع عشرة سنة وأنا أكبر من ابني بأربع عشرة سنة والموفق أكبر من المعتضد بأربع عشرة سنة. وقال أنوشروان لرجل هرم: رآه يعمل هلا أدلجت؟ فقال: أدلجت ولكني أضللت والخبر مذكور في فصل النكاح وقيل ابنك ريحانك سبعا وخادمك سبعا ثم يصير عدوا ظاهرا أو شريكا مظاهرا وقيل لرجل أبطأ في التزوج فقال: أريد أن أسبق أولادي في اليتم قبل أن يسبقوني في العقوق. فضل الابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 قيل: ابنك ابن بوحك أي الذي ولدته نفسك لا من تبنيته، ونحوه ابنك من دمى عقبيك أي من نفست به. وقال بعض العرب أن ابنك ابنك وابن أخيك ابنك وابن عمّك ابنك، وابنك ابن بوحك مصطبحا بصبوحك. وفي ضدّه ربّ ابن لم تلده. المادح ولده مدحا حسنا كتب المأمون إلى طاهر بن الحسين: صف لي ابنك، فقال: ابني: إن مدحته ذممته وإن ذممته ظلمته، إلا أنه نعم الخلف لسيّده من بعده إذا اخترمت عبده منيته. فكتب إليه المأمون يا ذا اليمينين لم ترض بمدحه حتّى أوصيت به. وقال له يوما: أخبرني عن ابنك فقال: قدح في كفّ مثقف ليوم رهان أمير المؤمنين. وقيل لرجل صف ابنك، فقال: ولد الناس ابناء وأولدته أبا يحسن ما أحسن ولا أحسن ما يحسن. مدح أعرابي ابنه فقال: يا حبّذا روحه وملمسه ... أملح شيء ظلا وأكيسه الله يرعاه لي ويحرسه أولاد سخنت أعين آبائهم لتخلّفهم مات لعبد الملك ابن فجاء له آخر فعزّى أباه به، فقال: يا بني مصيبتي فيك أقدح في بدني من مصيبتي في أخيك. فقال: أمي أمرتني بذلك. فقال: يا بني إذا كانت الأبناء قرة أعين الوالدين فأنت قرة عين الشامتين. وبعث رجل ابنه ليشتري حبلا فقال: اجعله عشرين ذراعا فقال: في عرض كم؟ قال في عرض مصيبتي فيك يا بني. وقال أبو حنيفة: لشيطان الطاق وكان له ابن معتوه: إنك في بستان من ابنك. فقال: ذاك لو كان ابنك. وقيل: لصبيّ لم لا تتعلم الأدب؟ فقال: أخاف أن أكذب والدي لأنه قال لي أنك لا تفلح أبدا. وكان للمبرّد «1» ابن متخلف فقيل له يوما غطّ سوءتك «2» فوضع يده على رأس ابنه. من كثرت أولاده فأنجب قيل: كان لعبد الله بن عمير سبعون ذكرا كلهم يطيقون حمل السلاح، وكانت فاطمة بنت الحوشب الإنمارية يقال لها أم الكملة وأم البنين بنت عامر ابن فارس ولدت عامر بن ملك وطفيل الخيل ومعاوية بن ملك معوذ الحكماء وسقط للمهلب لصلبه إلى الأرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 ثلاثمائة ولد وكان الرجل في الجاهلية إذا ولد له سبعة ولد تقنع وتمّ شرفه. وكان يقال فلان من المقنعين فمنهم حذيفة من بني بدر وعيينة وعلقمة بن الأحوص. وقال عبد الملك للفرزدق أي الحي «1» أكثر؟ فقال تميم: فقال: وأين طيىء؟ فقال: يا أمير المؤمنين لو أن نساء تميم بلن على جبل طيىء لغرقوا، فقال: صبي من طيىء كان حاضرا: يا أمير المؤمنين لو إنا سددنا مبال نساء تميم لكان يفضل كمر كثير. المشبه أباه وغير المشبهه قيل: من سعادة المرء أن يشبهه ابنه. وقيل: فلان ينظر عن عين أبيه ويبطش بيديه، وقال سعيد بن صمصمة يرقص ابنه: أحبّ ميمون أشدّ حبّ ... أعرف منه شبهي ولبّي ولبّه أعرف منه ربّي «2» وقال قال بعض بني عبس: وإنّا نرى أقدامنا في نعالهم ... وآنفنا بين اللحى والحواجب وقال آخر: والله ما أشبهني عصام ... لا خلق منه ولا قوام محبّة البنات وتفضيلهن قال محمد بن جعفر بن محمد: البنات حسنات والبنون نعم والحسنات مثاب عليها والنعم مسؤول عنها وقال المدائني: قال وهب بن منبه من يمن المرأة أن تلد الأنثى قبل الذكر، إنّ الله بدأ بالإناث فقال: يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور، دخل عمرو بن العاص على معاوية وعنده بنية له يلاعبها. فقال له: انبذها «3» عنك يا أمير المؤمنين، فو الله انهن يلدن الأعداء ويقربن البعداء ويؤدين الضغائن «4» فقال معاوية: لا تقل فما ندب الموتى ولا تفقّد المرضى ولا أعان على الحزن مثلهنّ. وولدت لأعرابية بنيّة، فقالت: وما عليّ أن تكون الجاريه ... تكنس بيتي وتردّ العاريه تمشّط رأسي وتكون الفالية ... وترفع الساقط من خماريه «5» حتّى إذا ما بلغت ثمانية ... رديتها ببردة يمانيه «6» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 زوّجتها مروان أو معاوية ... أصهار صدق للمهور غاليه وقال آخر: بنيّتي ريحانة أشمّها ... فديت بنتي وفدتني أمّها وكان لمعن بن أوس ثمان بنات ويقول ما أحب أن يكون لي بهن رجال وفيهن قال: رأيت رجالا يكرهون بناتهم ... وفيهنّ لا تكذب نساء صوالح وفيهنّ والأيام يعثرن بالفتى ... عوائد لا يمللنه ونوائح كراهة البنات قال الله تعالى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ «1» وبشّر الأحنف بابنة فبكى فقيل له في ذلك فقال: وكيف لا تأخذني العبرة وهي عورة هديتها سرقة وسلاحها البكاء ومهنؤها لغيري. وولدت لأعرابي جارية اسمها حمزة فهجر أمها وبنته فسمع أمها يوما ترقصها وتقول: ما لأبي حمزة لا يأتينا ... غضبان أن لا نلد البنينا وإنّما يكره ما أعطينا فرجع إلى منزله وصالحها وطابت نفسه بها. وقال الحسين رضي الله عنه والد بنت متعب ووالد بنتين مثقل ووالد ثلاث فعلى العباد أن يعينوه. وقال الزهري كانوا لا يرون على صاحب ثلاث بنات صدقة ولا جهادا والعرب لم تكن تأكل طعام صاحب البنات وقال: إذا ما المرء شبّ له بنات ... عصبن برأسه عنتا وعارا «2» وسأل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه نصيبيا عن حاله فقال: كبر سنّي ورق عظمي وبليت ببنات نفضت عليهنّ من لوني فكسدن علي، فبكى عمر رضي الله عنه من قوله. فائدة موتها وتمنّيه قال النبي صلّى الله عليه وسلم نعم الختن «3» القبر وقال دفن البنات من المكرمات ونظر أعرابي إلى بنت تدفن فقال: نعم الصهر صاهرتم. وكانوا إذا هنؤا بها قالوا أمنكم الله عارها وكفاكم مؤنتها وصاهرتم قبرها وقيل تقديم الحرم أفضل النعم وموت الحرة أمان من المعرّة، قال: ولم أر نعمة شملت كريما ... كعورته إذا سترت بقبر «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 وقال إسحاق بن خلف: تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا ... والموت أكرم نزال على الحرم قال: وما ختن فينا أعف من القبر. تمنّي موت الأولاد قال أعرابي كان له أولاد: النّاس يعطون أموالا وميسرة ... وأنت أعطيتني يا ربّ صبيانا خذهم إليك فكلّ صار في خلق ... وأنت أعطيته يا ربّ عريانا قد كنت كلّفتهم في أمّهم ثمنا ... فخذهم عاجلا يا ربّ مجّانا وأد البنات «1» كانت العرب تئد البنات إلى أن جاء النبي صلّى الله عليه وسلم فنهى عن ذلك وأنزل الله تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ «2» ، ودخل قيس بن عاصم على النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: إني وأدت اثنتي عشرة بنتا فما أصنع؟ فقال: اعتق عن كل موؤدة نسمة. فقال له أبو بكر رضي الله عنه: فما الذي حملك على ذلك وأنت أكثر العرب مالا؟ قال مخافة أن ينكحهن مثلك. فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال هذا سيد أهل الوبر. وقال قيس ما ولدت لي ابنة إلا وأدتها سوى بنية ولدتها أمها وأنا في سفر فلما عدت ذكرت أنها ولدت ابنة ميتة، فأودعتها أخوالها حتى كبرت، فادخلتها منزلي متزينة فاستحسنتها فقلت من هذه؟ فقالت هذه ابنتك. وهي التي أخبرتك أنني ولدتها ميتة، فأخذتها ودفنتها حيّة وهي تصيح وتقول أتتركني هكذا؟ فلم أعرج عليها فقال: صلّى الله عليه وسلم: من لا يرحم لا يرحم. سياسة الولد وتأديبه قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا بلغ أولادكم سبع سنين فمروهم بالطهارة والصلاة، وإذا بلغوا عشرا فأضربوهم عليها وإذا بلغوا ثلاثة عشر ففرقوا بينهم في المضاجع. وقيل لاعب ابنك سبعا وعلمه سبعا وجالس به إخوانك سبعا يتبين لك أخلف هو بعدك أم خلف. حقّ الولد على الوالد قال النبي صلّى الله عليه وسلم: من حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويحسن كنيته وأدبه وأن يعفه إذا بلغ وقال صلّى الله عليه وسلم: حق الولد على الوالد أن يعلمه كتاب الله والسباحة والرمي. وقال رجل لأبيه يا أبت إن أعظم حقك علي لا يذهب بصغير حقي عليك وأن الذي تمت به إليّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 أمت بمثله إليك ولست أزعم أنهما سواء، ولكن لا يحل الاعتداء. حقّ الوالدين على الولد والحثّ على مراعاته قال الله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً «1» وقال تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ «2» ولو علم الله أدنى من أف لنهى عنه. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم إنّ الوالد باب من أبواب الجنة فاحفظ ذلك الباب. وقال رجل للنبي صلّى الله عليه وسلم إني أريد الغزو فقال عليه الصلاة والسلام: أحي أبواك قال نعم قال ففيهما فجاهد وقال عليه الصلاة والسلام: لآخر: هل لك من أم. قال نعم قال الزمها وإن مفتاح الجنة تحت رجليها. وقال الحسن حق الوالد أعظم وبرّ الوالدة ألزم. حقيقة برّهما سئل الحسن رضي الله عنه عن برّ الوالدين فقال: أن تبذل لهما ما ملكت وتطيعهما في ما أمراك ما لم يكن معصية، والدلالة على ذلك قوله تعالى: وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً «3» . وصف بررة قيل لعلي بن الحسين رضي الله عنهما: إنّك من أبر الناس بوالدتك ولسنا نراك تأكل معها قال إني أخاف أن أسبقها إلى شيء سبقت عينها إليه فأعقّها بذلك، وقيل لعمرو بن ذر لما مات ابنه: كيف برّه بك قال ما ماشيته قط بالنهار إلا مشى خلفي ولا بالليل إلا مشى أمامي ولا رقي سطحا أنا تحته. وقيل كان أعرابي يحمل أمه على ظهره ويطوف بها وينشد: أحمل أمّي وهي الحمّاله ... ترضعني الدرة والعلاله ولا يجازي أحد فعاله وقيل: في المثل أبرّ من الهرة. وصف عققة قيل الولد: العاق إن مات نغصّك وإن عاش نقصّك. وقال بعضهم لابن له عاق أنت كالإصبع الزائدة إن تركت شانت وإن قطعت آذت، وقيل: أعظم الأسف سوء الخلف العقوق ثكل من لا يثكل. قيل لأعرابي كيف ابنك؟ قال هو عذاب رعف به الدهر وبلاء لا يقاومه الصبر وفائدة لا يجب بها الشكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 وكان لمنازل بن فرعان ابن يقال له خلنج فعق والده فقدمه إلى والي اليمامة فقال: تظلّمني حقّي خلنج وعقّني ... على حين كانت كالحني عظامي «1» لعمري لقد ربيّته فرحا به ... فلا يفرحن بعدي امرؤ بغلام قال فأراد الوالي ضربه فقال الابن للوالي: لا تعجل على هذا منازل بن فرعان الذي يقول فيه أبوه: جزت رحم بيني وبين منازل ... جزاء كما يستنزل الدين طالبه (الأبيات) : وهي في الحماسة فقال الوالي: يا هذا عققت وعققت. قال: إنّ بنيّ خيرهم كالكلب ... أبرّهم أولعهم بسبّي «2» فليتني كنت عقيم الزب ... وليتني متّ بغير عقب «3» وقيل: في المثل أعق من ضب. احتجاج عاقّ لعقوقه قيل لبعض الفلاسفة: لم تعق والديك؟ قال لأنهما أخرجاني إلى الكون والفساد، وقال العتبي لابن له صغير: يا بنّي أعرف وصية الله إياك بي. فقال: يا أبت وأنت أعرف وصيته إياك بي. واستجز الأولى بالأخرى وضرب رجل أباه فقيل له: أما عرفت حقه؟ قال لا لأنه لم يعرف حقي قيل فما حق الولد على الوالد قال أن يتخير أمه ويحسن اسمه ويختنه ويعلمه القرآن ثم كشف عن عورته فإذا هو أقلف «4» وقال اسمي برغوث ولا أعلم حرفا من القرآن وقد استولدني من زنجية فقيل للوالد احتمله فإنك تستاهل. المعارض أبويه فيما ادعيا من حقوقهما عليه بسخف جفا جحا أمه فقالت هذا جزائي وقد حملتك في بطني تسعة أشهر فقال: ادخلي في استي حتى أحملك سنين وخلصيني وقالت امرأة لابنها هذا جزائي وقد أرضعتك سنين فقال: ارتجعي عن دورقين لبنا دورقين مخيضا واعفيني. المناقض أباه فيما ادّعى عليه من فساد أمه غضب الرشيد يوما على المأمون فقال: يا ابن الزانية فقال المأمون: الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك. وقال أبو العيناء مثل ذلك لابنه فقال: لقد كنت والله أحفظ لأهلك من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 أبيك لأهله. وعيّر رجل ابنه بأمه فقال: هي والله خير لي منك لأنها أحسنت لي الاختيار فولدتني من حر وأنت أسأت الاختيار فولدتني من أمه. المعارض أباه في السب ّ كان لحنظلة النميري ابن عاق يقال له مرة، فقال: له يوما: يا مرة إنك لمر، فقال: أعجبتني حلاوتك يا حنظلة، فقال: إنك خبيث كاسمك فقال: أخبث منّي من سماني به، فقال: كأنك لست من الناس فقال: من أشبه أباه فما ظلم. فقال: ما أحوجك إلى أدب. فقال: الذي نشأت على يده أحوج إليه منّي، فقال: عقمت أم ولدتك. فقال: إذ ولدت من مثلك. فقال: لقد كنت مشؤوما على اخوتك دفنتهم وبقيت. فقال: أعجبني كثرة عمومتي. فقال: لا تزداد إلا خبثا. فقال: لا يجتني من الشوك العنب. وقال عبد الله بن صفوان لابنه يا لكع. فقال: أما يشبه الرجل أباه فمهما كان من حسن وقبيح فمنك تولده وفعلك جالبه. وقال رجل لابنه ما أطيب الثكل يا بني فقال: الابن اليتم أطيب منه يا أبت. اختيار الأمّهات للأولاد قال أبو الأسود لبنيه: أحسنت إليكم قبل أن ولدتم وبعده قالوا كيف أحسنت قبل الولادة؟ فقال: لأني اتخذت أمهاتكم من حيث لا تعابون به. قال شاعر: حميت على الأولاد اطهار أمّهم ... وبعض الرجال المدّعين جفاء وقال آخر: تخيرتها للنسل وهي غريبة ... فجاءت به للنّسل خرقا سميدعا «1» تأثير أجناس الأمهات في الأولاد سئل بعضهم عن ولد الرومية فقال: صلف معجب بخيل. قيل: فولد الصقلبية. قال: طفس «2» زنيم «3» ، قيل فولد السوداء قال: شجاع سخي، قيل فولد الصفراء قال: هم أنجب أولادا وألين أجسادا وأطيب أفواها، قيل فولد النوبية قال: فاسق زان، قيل فولد العربية قال: أنف حسود، قيل فولد اليهودية قال: دغل قذر، قيل فولد الفارسية قال: مكر وخديعة. وقيل لم نر أما حمقاء أنجبت إلّا أم النعمان بن المنذر وأم هشام ابن عبد الملك، قال: فلو كنتم لمكيسة أكاست ... وكيس الأم يعرف في البنينا وقال عبد الله بن زياد لم يكن جنين في بطن حمقاء تسعة أشهر إلا خرج مائقا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 ضواية الولد من بنات العم ّ روي في الخبر اغتربوا لا تضووا. قال شاعر: وقد يضوى وليد الأقارب «1» ونظر عمر رضي الله عنه إلى قوم من قريش صغار الأجسام فقال: ما لكم صغرتم؟ قالوا قرب أمهاتنا من آبائنا قال صدقتم اغتربوا فتزوجوا في البعداء فانجبوا. قال شاعر: ليس أبوه بابن عمّ أمه وقال آخر: أنذر من كان بعيدا لهم ... تزويج أولاد بنات العم فليس ناج من ضوى وسقم وقال العتبي: تزوج أهل بيت بعضهم في بعض فلما بلغ البطن الرابع بلغ بهم الضعف إلى أن كانوا يحبون حبوا لا يستطيعون القيام ضعفا. وفي ضده قال أزدشير: تزوجوا في الأقارب فإنه أمس للرحم وأثبت للنسب وهذا مبنيّ على مذهب المجوس. أولى الأبوين بتفقّد الولد تنازع أبو الأسود الدؤلي وامرأته في ابن لهما وكل واحد منهما يقول أنا آخذه، فقال: أبو الأسود حملته قبل أن حملته ووضعته قبل أن وضعته، فقالت امرأته حملته خفّا وحملته ثقلا ووضعته شهوة ووضعته كرها. وكان حجري فناءه وبطني وعاءه وثديي سقاءه. فدفع الولد إلى أمه. الرضاعة قال النبي صلّى الله عليه وسلم: يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة. قالت عائشة رضي الله عنها: دخل علي ابن أبي القعيس «2» فاستترت منه فقال: تستترين مني وأنا عمك قالت من أين قال أرضعتك امرأة أخي قلت إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل. فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فحدثته فقال: إنه عمك فليلج عليك وقال صلّى الله عليه وسلم: لا تحرم المصة ولا المصتان ولا الإملاجة «3» ولا الإملاجتان. مدّة الرضاع سنتان وإذا فطم الصبيّ قبل ذلك يقال له مختل قال الله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ «4» لمن أراد أن يتم الرضاعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 وقال الصاحب في سبطه عباد الحسنى وكان أبلغ أنه فطم قبل حين الفطم: يا ربّ لا تخلني من صنعك الحسن ... يا ربّ حطّني في عبادك الحسن إن كان قد فطموه قبل موعده ... لا بأس فهو رضيع المجد لا اللبن وله: لئن فطموه عن رضاع لبانه ... لما فطموه عن رضاع المكارم «1» تأثير الرضاع في الأولاد والحثّ على اعتباره نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن رضاع الحمقاء، وقال لا تسترضعوا الحمقاء فإن الولد ينزع إلى اللبن. وقال عبد الملك إياك وحضانة الرعناء ورضاعة الورهاء. وقال رجل في وصف آخر نسبة إلى الرعونة كيف لا يكون أرعن وقد أرضعته فلانة وو الله أنها كانت تزق الفرخ فأرى الرعونة في طيرانه. وقيل أن الحسن البصري رحمه الله عليه كانت أمه تغشى أم سلمة رضي الله عنها على ثديها فدرت عليه من لبنها فورث منه علمه وفصاحته وإنما قالت العرب لله دره إشارة إلى أنه أرضعته من أورثته الفضائل لا الرذائل. اليتم قال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا يتم بعد حلم واليتيم من الناس من فقد أباه، ومن البهائم من فقد أمه، والعجمي من الناس من فقد أمه واللطيم من فقد أبويه، وقال صلّى الله عليه وسلم: ما بيت بر ولا مدر أكرم من بيت فيه يتيم، قتادة في قوله تعالى: فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ «2» ، أي ينتهره. بلوغ الصبيان بلوغ الصبي بالاحتلام أو استتمام خمس عشرة سنة، وبلوغ الجارية الحيض أو استكمال خمس عشرة سنة، والإنبات بلوغ في الكفار دون المسلمين. وقال أمير المؤمنين لا يلقح الغلام حتى يتفلك «3» ثدياه ويسطع ابطاه. (2) وممّا جاء في ممادح الأبوة ومذامّها اعتبار الأب قيل: نجل الجواد جريه يتقيّل «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 وقال آخر: وابن السّرى إذا سرى أسراهما «1» وقال آخر: ألا إنّ غصن الدّوح للدّوح تابع وقال عدي بن أرطاة لأياس: دلّني على قوم من القرّاء أوليهم، فقال: القراء ضربان ضرب يعملون للدنيا فما ظنك بهم وضرب يعملون للآخرة فلا يعملون لك ولكن عليك بأهل البيوتات الذين يستحيون لا حسابهم قولهم. قال الحسن رحمه الله لعمر بن عبد العزيز عليك بذوي الأحساب فإنهم إن لم يتقوا استحيوا وإن لم يستحيوا تكرّموا. الممدوح بأنه من أصل شريف مدح أعرابيّ رجلا فقال: ذاك من شجر لا يخلف ثمره ومن ماء لا يخاف كدره. قال مصعب: كأنّك جئت محتكما عليه ... تخيّر في الأبوّة ما تشاء وقال آخر: هم حلّوا من الشّرف المعلّى ... ومن حسب العشيرة حيث شاؤوا «2» قال أبو تمّام: نسب كان عليه من شمس الضّحى ... نورا ومن فلق الصّباح عمودا وقال آخر: نمته بدور ليس فيهنّ كوكب ودخل بعض أولاد ابن الزبير على سليمان بن محمد فجلس على نمرقة «3» فاغتاظ من ذلك، وقال من أجلسك ههنا قال صفية بنت عبد المطلب فسكن غضبه. من تمنّى كلّ قوم كونه منهم لشرفه قال الفرزدق: أرى كلّ قوم ودّ أكرمهم أبا ... إذا ما انتمى لو كان منّا أوائله قال مسلم: وكم عائب لي ودّ أني ولدته ... وإن كرمت أعراقه وزكا الأصل المسابق أباه في ابتناء علاه قال الربيع جلس المنصور يوما فقال: من يصف صالحا ابني وقد رشحه لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 يوليه بعض أموره فكلهم هاب المهدي فقال: شبة بن عقال لله دره ما أفصح لسانه وأمضى جنانه وأبلّ ريقه وأسهل طريقه وكيف لا يكون كذلك وأمير المؤمنين أبوه المهدي أخوه ثم أنشد: هو الجواد فإن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا أو يسبقاه على ما كان من مهل ... فمثل ما قدما من صالح سبقا فقال المنصور «1» : ما رأيت مثل مخلصه مدحه وأرضاني وسلم من المهدي «2» . قال زهير: وما يك من خير أتوه فإنّما ... توارثه آباء آبائهم قبل قال الأحنف: إنّ زهيرا ألقى على المادحين فضول الكلام بهذا البيت. ذكر أشراف توالوا في الخبر الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلوات الله عليهم ليس في الأرض خمسة أشراف متناسقة كتب عنهم الحديث إلا جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم الرضوان، ولا أربعة إلا محمد بن علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنهم وكان قيس بن عبادة بن دلهم بن حارثة بن أبي خزيمة بن ثعلبة بن طريف سبعة أجواد يتلو بعضهم بعضا ليس بينهم فرق ولا فضل. المشابه أباه في علاء ابتناه شنشنة أعرفها من أخزم «3» قال عمرو بن سراقة: ومكرمة كانت سجيّة والدي ... فعلّمنيها والدي فعلمتها وقال شاعر: وإنّ امرأ في الفضل أشبه جدّه ... ووالده الأدنى لغير ظلوم قال أبو الغمر: تشابهوا في العلا حتّى كأنّهم ... لم يفتقد لهم ميت ولا افترقوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 وقيل: أصل راسخ وفرع شامخ. محمد بن وهيب: وليس بديعا بأن تحتذي ... مذاهب آسادها الأشبل ونحوه لعماءة بن عقيل: وهل يشبه الأشبال ألا أسودها وقال بعض المحدثين: أنت غصن من ذلك المنبت الزا ... كي ونصل من ذلك الفولاذ من مكارمه تدلّ على كرم سلفه قال أبو تمّام: فروع لا ترّف عليك إلا ... شهدت بها على طيب الأروم وفي الشّرف الحديث دليل صدق ... لمختبر على الشرف القديم قال أبو هفان: لا تنظرنّ إلى امرىء ما أصله ... وانظر إلى أفعاله ثمّ احكم «1» المستغني بنفسه عن شرف آبائه دخل البحتري على بعض العلوية فسأله حاجة بعد حاجة، فأجابه إلى كل ما التمس فأثنى عليه فقال: بعض من حضر كيف لا يعطى وهو من منصب الفضل، فقال: لا توجبنّ لكريم أصلك منة ... لو كنت من عكل لكنت كريما «2» قال دعبل: لو لم تكن لك أجداد تنوبهم ... إلا بنفسك نلت النجم من كثب قال عامر بن الطفيل: وإني وإن كنت ابن فارس عامر ... وفي السرّ منها والصّميم المهذّب فما سوّدتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب قال المتنبيّ: ويغنيك عمّا ينسب النّاس أنه ... إليك تناهى المكرمات وتنسب وله: خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل «3» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 من تشرّف به آباؤه ولم يتشرّف بهم قال الفرزدق: وإن تميما كلّها غير سعدها ... زعانف لولا عزّ سعد لذلّت فقيل لقد وضع من قومه أكثر مما رفع من نفسه. قال علي بن جبلة: فما سوّدت عجلا مآثر قومه ... ولكن به سادت على غيرها عجل فغير عليه هذا المعنى وقيل غض عن حسبه ونقص من شأن نفسه واقتدى المتنبي به فقال: لا بقومي شرفت بل شرفوا بي ... وبنفسي فخرت لا بجدودي أنشد الحسن يوما: لولا جرير هلكت بجيله ... نعم الفتى وبئست القبيله فقال الحسن: أمدحه أم ذمه فقيل مدحه وذم قومه فقال: ما مدحة من ذم قومه وما فضل الولد على الوالد بأحسن من قول المتنبي حيث يقول: فإن تكن تغلب العلياء عنصرها ... فإن في الخمر معنى ليس في العنب وقوله أيضا: فإنك ماء الورد إن ذهب الورد من ازداد شرف آبائه به ولو علم الشيخان أدّ ويعرب ... لسرت إذا تلك العظام الرمائم قال الخوارزمي: هو ابن الرئيس والعميد كليهما ... وفوقهما قدرا وإن كان منهما وقد يوقد الزندان نار المقابس ... فتضحي من الزّندين أعلى وأعظما «1» قال ابن الرومي: وكم أب قد علا بابن ذرى شرف ... كما علت برسول الله عدنان يسمو الرجال بآباء وآونة ... يسمو الرجال بأبناء وتزدان من زان شرف أبيه بفعله قال شاعر: زانوا قديمهم بحسن حديثهم ... وكريم أخلاق بحسن وجوه «2» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 قد زيّنوا أحسابهم بسماحهم ... لا خير في حسن بغير سماح «1» المزيّن أباه والمتزيّن به قال أبو تمّام: وحسب امرىء أنت امرؤ آخر له ... وحسبك فخرا أنّه لك أوّل وقال الخبزارزي: فطوبى لقوم أنت فارع أصلهم ... وطوباك إذ من أصلهم أنت فارع «2» المتزيّن بمكانه النّاس قاطبة قال المتنبيّ: تشرّف عدنان به لا ربيعة ... وتفتخر الدّنيا به لا العواصم وقال آخر: يا زينة الدّين والدّنيا إذا احتفلا ... وأظهرا ما أعداه من الزّين لا اعتداد بمن شرف أصله ولم يشرّف بنفسه قال الأحنف: من فاته حسب بدنه فلا حسب له. وقيل: الشرف بالهم العالية لا بالرمم «3» البالية. وقال أبو وائل لرجل شريف الأصل دنيء النفس: ما أحوج عرضك إلى أن يكون لمن يصونه فيكون فوق من أنت اليوم دونه. وقال أرسطوطاليس: إذا كان الإنسان خسيس «4» الأبوين شريف النفس كان خسة أبويه زائدا في شرفه وإذا كان شريف الأبوين خسيس النفس كان شرف أبويه زائدة في خسته. وقال الصاحب: شرف نفسي خير من شرف رمسي وعصامي خير من عظامي يعني قول النابغة: نفس عصام سوّدت عصاما ويعني بعظامي قول الآخر: إذا ما الحيّ عاش بعظم ميت ... فذاك العظم حيّ وهو ميت وقال ابن الرومي: وما الحسب الموروث لا درّ درّه ... لمحتسب إلا بآخر مكتسب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 إذا الغصن لم يثمر وإن كان شعبة ... من المثمرات اعتدّه الناس في الحطب «1» وقال ببغاء: إذا المرء لم يبن افتخارا لنفسه ... تضايق عنه ما ابتنته جدوده ولا خير في من لا يكون طريفه ... دليلا على ما شاد قدما تليده «2» وقال آخر: وما ينفع الأصل من هاشم ... إذا كانت النّفس من باهله «3» عذر من شرفت نفسه ولم يشرف أصله وقال سقراط: لرجل عيره بحسبه حسبي مني ابتدأ وحسبك إليك انتهى. وقال آخر: قومي عار عليّ وأنت عار على قومك، وطعن في حسب رجل آخر فقال: لئن يكون حسبي عيبا عليّ أصلح من أن أكون عيبا على حسبي، وقيل: لئن يكون الرجل شريف النفس دنيء الأصل أفضل من أن يكون دنيء النفس شريف الأصل، ألا ترى أن رأس الكلب خير من ذنب الأسد. عذر دنيء قصّر عن أفعال آبائه الأشراف قيل لرجل: من ولد بشر بن مروان وكان مأبونا إن أباك كان سهما من سهام المسلمين وسيفا لآل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: وأنا جعبة من جعابهم وغمد لسيوفهم. قال الأصمعي رحمه الله: دخلت خضراء روح بن زنباع فإذا أنا برجل من ولده يفسق به في موضع كان أبوه يهب فيه المال ويضرب فيه أعناق الرجال، فقلت يا فضيحة. هذا موضع كان أبوك يهب فيه، فأنشد: ورثنا المجد عن آباء صدق ... أسأنا في ديارهم الصّنيعا إذا الحسب الرفيع تعاورته ... ولاة السّوء أوشك أن يضيعا وقيل لحكيم: كان أبوك أجمل منك وأعقل وأفضل فقال: لأني كنت به ولم يكن بي فهو أولى بالكمال مني. وخطب أبو العذري إلى رجل من بني تميم ابنته، فقال: لو كنت مثل أبيك زوّجتك. فقال: لو كنت مثل أبي لم أخطب إليك. قيل لرجل من الأعراب: ما أشبهت أباك، فقال: لو أشبه كلّ رجل أباه كنا كآدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 من أخذ سوء خصال أبيه قيل لرجل: كان أبوك أقبح الناس خلقا وأحسنهم خلقا، وكانت أمك أحسن الناس وجها وأقبحهم خلقا، فأخذت قبح أبيك وسوء خلق أمك، فيا جامعا مساوىء أبويه. وقال آخر: إنما أنت كالبغل يأخذ أسوأ خصال الفرس والحمار. وكان عمارة بن عقيل قال: والله لأتزوجن امرأة جميلة يخرج ولدها على جمالها وفطنتي، فتزوج برعناء «1» فجاءت بابن في رعونتها ودمامته. ذمّ من قصّر عن آبائه ذمّ رجل آخر فقال: هو مزبلة بين جبلين أي دنىء من رفيعين. وقال علي بن الجهم: فإن تكن منهم بلا شكّ فللعود قتار «2» وقال آخر: فإن قلتم كعب أبونا وأمّنا ... فأيّ أديم ليس فيه أكارع «3» وقال آخر: لئن فخرت بآباء لهم شرف ... لقد صدقت ولكن بئسما ولدوا وقال آخر: إذا انتسبوا ففرع من قريش ... ولكنّ الفعال فعال عكل «4» وقال أبو خالد، يهجو خالد بن يزيد المهلبي ويمدح أباه، ولم يجتمع هذان المعنيان لأحد كما اجتمعا له: أبوك لنا غيث نعيش بسيبه ... وأنت جواد لست تبقي ولا تذر «5» وله فيه: أيا عجبا نبعة أنبتت ... خلافا وريحانة بقلة «6» وله: خالد لولا أبوه ... كان والكلب سواء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 وقال الحارثيّ في معناه: شريف بجدّيه وضيع بنفسه ... لئيم محيّاه كريم المركب «1» وأخذه أبو تمّام فقال: يا أكرم الناس آباء ومفتخرا ... وألأم النّاس مبلوّا ومختبرا ونظر رجل إلى ابن دنىء عن أب شريف، فقال: سبحان الله من قائل: يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ «2» ، ونظر خالد بن صفوان إلى لئيم النفس كريم الأبوين، فقال: فلا يعجبنّ الناس منك ومنهما ... فما خبث من فضّة بعجيب ذمّ من شأن آباءه الكرام بلؤمه قال إبراهيم بن العباس: لئن لحقت بأبناء الكرام به ... لقد تقدّم أبناء اللئام بكا وقال أبو حنش: لئن كان معن زان شيبان كلّها ... لقد شان روح كلّ آل مهلّب «3» من لم يعتدّ بشرف النفس ما لم يضامه أبوه سمع عمر بن أبي ربيعة قول القائل: كن ابن من شئت واتّخذ أدبا ... يغنيك موروثه عن النّسب فقال اسكت فلا فخر، ثم أنشأ يقول: لا فخر إلا فخار منتخب ... يسمو بأمّ كريمة وأب من يخزى من ذكر آبائه سئل رجل عن نسبه، فقال: أنا ابن أخت فلان، فقال أعرابي: الناس ينتسبون طولا وأنت تنتسب عرضا. قال أبو محمد الترمذي: قلت وأدغمت أبا خاملا ... أنا ابن أخت الحسن الحاجب وقال دعبل: سألته عن أبيه ... فقال دينار خالي فقلت دينار من هو ... فقال والي الجبال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 ولعبد الله بن سليمان في فصل إلى إسماعيل بن بلبل وإن من كان بلبلا أبوه لجدير أن يفضّ فوه «1» ليخرس عن تشقيق الكلام وتزويق الكتب بالكذب والآثام. من نسب أبوه إليه قال عبدان: أرى الآباء ينتسبون جهلا ... إلى الأبناء من فرط النّذاله ونازع عبد الله بن مسعدة عمرو بن هبيرة، فقال: يا واحد ابن واحد عرفت بأبيك فنسبت إليه وعرف أبوك بك فنسب إليك. من لا يعتدّ بأبيه قال الأخطل: فإذا وضعت أباك في ميزانهم ... قفزت حديدته إليك فشالا «2» ولبعض شعراء أصبهان ويعرف بمحمد بن عبد الله بن كسبر: تبجّح بالكتابة كلّ وغد ... فقبحا للكتابة والعماله أرى الآباء نسبتهم جميعا ... إلى الأبناء من فرط النّذاله كون الابن جاريا مجرى الأب العصا من العصية هل تنتج الناقة إلا لمن لقحت له. قال زهير: وما يفعلوا من فعل صدق فإنّما ... توارثه آباء آبائهم قبل وهل ينبت الخطيّ إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النّخل وقال الربيع اليهودي: وفي أرومته ما ينبت العودا وقال الأعشى: العود يعصر ماؤه ... ولكلّ عيدان عصاره هل تلد الحيّة إلا حيّة وقال الحميري: كيف تأتيك بخير ... بيضة من بيض حيّة أشبه الفرخ أباه ... والعصا من العصيّه «3» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 وقيل: فلان لا أصل له ولا فصل، فالأصل الوالد والفصل الولد. وقال ظفر بن الحرث العبدلي: وإنّ أحقّ الناس أن لا تلومه ... على الشرّ من لم يفعل الخير والده إذا المرء ألفى والديه كليهما ... على اللؤم فاعذره إذا خاب رائده «1» قوم تشابهوا في اللؤم قال كثيّر عزة: سواء كأسنان الحمار فما ترى ... لذي كثرة منهم على ناشىء فضلا وقال آخر: إذا ما قلت أيّهم لأيّ ... تشابهت المناكب والرؤوس وقال آخر: بلوناهم واحدا واحدا ... وجدناهم الكلّ كالواحد فلا ذرأ الربّ ولدانهم ... ولا بارك الربّ في الوالد «2» وقال آخر: وان امرأ في اللؤم أشبه جدّه ... ووالده الأدنى لغير ظلوم من لؤم نفسه وأصله قيل في المثل: الكمأة لا أصل ثابت ولا فرع نابت. وقال جرير: فرع لئيم وأصله غير مغروس «3» وقال معاوية رضي الله عنه: السفلة من ليس له نسب معروف ولا فعل موصوف. من لؤم أبواه إذا ذكر الإنسان بغاية اللؤم، قيل: هو عبد قن وهو المملوك الأبوين. قال شاعر: أب غير محمود السّجيّات سفلة ... ووالدة فيها الحديث يطول «4» وقال آخر: أب كثرت في العالمين فضائحه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 من ذكر أن الشرف بالتّقى قال الله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ «1» قال بعض العارفين ما أبقى الله بهذه الآية لاحد شرف أبوّة. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رأى رجلا يقول أنا ابن بطحاء مكة، فوقف عليه فقال: إن كان لك دين فلك شرف وإن كان لك عقل فلك مروءة وإن كان لك علم فلك شرف، وإلا فأنت والحمار سواء. وقيل: كان الشرف في الجاهلية بالبيان والشجاعة والسماحة، وفي الإسلام بالدين والتقى. وأما الأبوة فلا أبوة. قال شاعر: لعمرك ما الإنسان إلّا بدينه ... فلا تترك التّقوى اتّكالا على الحسب فقد زيّن الإيمان سلمان فارس ... وقد وضع الشّرك الشريف أبا لهب «2» كون الشريف من شرّفه السّلطان اصطنع كسرى أنوشروان رجلا لم يكن له نسب فقيل له في ذلك، فقال: اصطناعنا إياه نسب له. وفد حاجب بن زرارة على كسرى فاستأذن عليه، فقال: كسرى لحاجبه: سله من هو، فقام رجل منهم فلما مثل بين يديه، قال له: من أنت؟ قال: سيد العرب، قال: ألست زعمت أنك رجل منهم؟ قال: منذ أكرمتني وأجلستني صرت سيدهم فحشا فاه لآلىء. ما اختصّ به كل قبيلة من فضيلة قال النبي صلّى الله عليه وسلم: الأئمة من قريش وقال: الناس تبع لقريش في الخير والشر، وقال: لا يقومنّ أحد لأحد إلا لهاشمي. قال يونس: ما في أسد إلا خطيب أو شاعر أو قائف أو زاجر أو فارس، وقال: ليس في هذيل إلّا شاعر أو رام أو شديد العدو. وقال معاوية: من لم يكن من بني هاشم جوادا ومن بني العوام شجاعا ومن بني مخزوم ذا أباء وأبهة ومن بني أمية حليما لم يشبه أباه. وقال محمد بن إسحاق: ما فتش أحد من بني المطلب إلا عن خصلتين بأس وكرم. وقيل لرجل ممن أنت؟ فقال: من قوم إذا عشقوا ماتوا، قيل: فأنت إذا من بني عذرة «3» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 المعرّض بهجاء قبيلة قصد شويعر أبا دلف يمدحه، فقال أبو دلف: ممن أنت؟ قال: من تميم قال: الذي يقول فيهم الشاعر: تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا فقال: نعم بتلك الهداية جئتك، فخجل أبو دلف وخوله وشارطه أن يستر ذلك عليه. ومازح معاوية الأحنف بن قيس، فقال: ما الشيء الملفّف في البجاد «1» ، فقال الأحنف: السخينة «2» يا أمير المؤمنين، أراد معاوية قول الشاعر: إذا ما مات ميت من تميم ... فسرّك أن يعيش فجىء بزاد بسمن أو بتمر أو بخبز ... أو الشيء الملفّف في البجاد وأراد الأحنف ما يعير به قريش من أكل السخينة. ولقي شريك النميري تميما فقال له التميمي: يعجبني البازي، فقال: خاصة إذا اصطاد القطا. أراد التميمي قول الشاعر: أنا البازي المطلّ على نمير وأراد شريك قوله: تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا وكان سنان النميريّ يماشي عمرو بن هبيرة الفزاري وهو على بغلة، فقال: غضّ من بغلتك فقال: إنها مكتوبة. أراد ابن هبيرة قول الشاعر: فغضّ الطرف إنّك من نمير وأراد سنان قول الأخطل: لا تأمننّ فزاريا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار «3» ومرّت أعرابية بجماعة من بني نمير فرمقوها، فقالت: يا بني نمير ما أخذتم بقول الله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ «4» ، ولا بقول جرير: فغضّ الطرف إنّك من نمير ودخل محاربي على هلالي وكان على حافة غدير فيه ضفادع، فقال: ما تركتنا البارحة شيوخ بني محارب أن ننام، فقال: إنها أضلت برقعا فكانت في بغائه، أراد الهلالي قول الشاعر: تنقّ بلا شيء شيوخ محارب ... وما خلتها كانت تريش ولا تبري «5» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدلّ عليها صوتها حيّة البحر وأراد المحاربي قول الشاعر: لكلّ هلالي من اللؤم جبّة ... ولابن يزيد برقع وقميص ورأى بعضهم على قيسيّ بردا، فقال: إنكم لتغالون بالبرود أراد قول الشاعر: المشتري الفسو ببرد حبره «1» وعرض ابن هبيرة على ضبيّ يلاعبه فصّ فيروزج فخجل منه، أراد به قول الشاعر: ألا كلّ ضبيّ من اللؤم أزرق هجو القبائل روي أن رجلا عطش في مفازة فانتهى إلى خباء فعدت صبية فأقبلت عليه بماء ولبن، فسألها عن قبيلتها فقالت: من بني عامر. فقال: الذي يقول فيهم الشاعر: لعمرك ما تبلى سرائر عامر ... من اللؤم ما دامت عليها جلودها «2» فتعثرت الصبية كمدا فكسرت الإنائين، وقالت: يا عماه ممن أنت؟ قال: من تميم. قالت: الذي يقول فيهم الشاعر: تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا فقال: بل أنا من بالهة. فقالت: إذا ولدت حليلة باهليّ ... غلاما زاد في عدد اللئام فقال: بل أنا من بني أسد، فقالت: ما سرّني أنّ أمّي من بني أسد ... وأنّ لي كلّ يوم ألف دينار قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمّهم بولي على النّار فقال: بل أنا من بني عبس، فقالت: إذا عبسية ولدت غلاما ... فبشّرها بلؤم مستفاد فقال: بل أنا من قيس، فقالت: إذا قيسية عطست فنكها ... فإنّ عطاسها سبب الوداق «3» فقال: بل أنا من كلب، فقالت: إذا كلبيّة خضبت يداها ... فزوّجها ولا تأمن زناها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 فقال: أنا من ثقيف، فقالت: أضلّ الناسبون أبا ثقيف ... فما لهم أب إلّا الضلال فقال: بل أنا من خزاعة، فقالت: باعت خزاعة بيت الله إذ سكرت ... بزقّ خمر وأثواب وأبراد فقال بل أنا من جرم، فقالت: إذا ما اتّقى الله الفتى وأطاعه ... فليس به بأس وإن كان من جرم «1» فقال: بل أنا من حنيفة، فقالت: أكلت حنيفة ربها ... زمن التقحّم والمجاعه «2» فقال: بل أنا من عبد القيس، فقالت: علامة عبد القيس لا ينكرونها ... أعاصير من فسو عليهم تفتر «3» فضجر الرجل، فقال: أنا من إبليس، فقالت: عجبت من إبليس في تيهه ... وخبث ما أظهر من نيّته تاه على آدم في سجدة ... وصار قوّادا لذريّته «4» فقال: اعفيني، فقالت: إلى لعنة الله إذا نزلت بقوم فلا تجحد إحسانهم. خرج قتيبة متنزّها فلقى أعرابيا فقال: له ممّن الرجل؟ فقال: من عبد قيس، فقال: نسب مهزول. فقال الأعرابي: ممن أنت؟ فقال: من باهلة، فقال: وا ويلاه واهولاه أمثلك يقول نسبي مهزول وأنت بين الدعة والخمول. فقال له قتيبة: يا أعرابي أيسرك أنك أمير وأنك باهلي، فقال: لا ولا خليفة الله في أرضه. فقال: ولك حمر النعم، فقال: لا ولا ما طلعت عليه الشمس. فقال: وإنّك تدخل الجنة فاطرق ثم رفع رأسه فقال: إن كان ولا بد فعلى أن لا تعلم بذلك أهل الجنة فضحك قتيبة ووصله. وسأله أعرابي عن نسبه، فقال: من باهلة فقال: أعيذك بالله. وقال آخر لأعرابي: أنا مولى باهلة، فأخذ الأعرابي يتمسح به ويقول: ما أبلاك الله بذلك إلا وجعلك من أهل الجنة. وتساب رجلان فقال أحدهما: يا ابن الزانية فقال الآخر: يا باهلي فقضى له، وقيل له ربأت عليه. سأل أعرابي عبد الملك وقد رآه متنكرا ممن أنت؟ قال: من بني أمية، فقال: أنتم في الجاهلية مربون في التجارة وفي الإسلام تعادون أهل الطهارة، سيدكم حمار وأميركم حبار، إن نقصتم عن أربعين لم تدركوا بثار وإن بلغتموه كنتم بشهادة الرسول من أهل النار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 وفخر على خالد بن صفوان ناس من بني الحارث بن كعب عند السفاح، فقال له السفاح: ألا تتكلم يا خالد؟ فقال: أخوال أمير المؤمنين وعصبته وما عسى أن أقول لقوم كانوا بين ناسج برد ودابغ جلد وسائس قرد وراكب عرد «1» ، دل عليهم هدهد وملكتهم امرأة وغرقتهم فأرة. فقال الجاحظ وقد بلغه مقاله: لئن تفكر في هذا الكلام وأعده إنه لرواية كبير، ولئن حضره حين حرك فما له في العالمين نظير. وقال عمر بن عبد العزيز لحميري قومك الذين قالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم، فقال: وقومك الذين قالوا فامطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فتبسم عمر رضي الله تعالى عنه. من افتخر بنسبه فاعترض عليه بما أخجله قال قرشي لشريك: ألا ترى إلى حسن ما قال الله تعالى فينا: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «2» فقال شريك قد قال في موضع آخر: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ «3» . وقال علويّ لرجل: إنك تحتاج أن تدعو لي كل يوم خمس مرات تقول اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، فقال: إني أقول معه الطيبين الطاهرين، فأخرجك منهم. ودخل رجل من ولد قتيبة الحمام وبشّار في الحمام، فقال: يا أبا معاذ وددت أنك مفتوح البصر فترى استي فتعلم أنك كذبت في قولك: إذا أعيتك نسبة باهليّ ... فرفّع عنه حاشية الإزار «4» على أستاه سادتهم كتاب ... موالي عامر وسم بنار فقال بشار: فأنت من سادتهم أو من سفلتهم، فقال: بل أنا من سادتهم فقال: أخطأت، إنما قلت على أستاه سادتهم وأنت من سفلتهم لا من سادتهم. من افتخر بأب مطعون فيه فعورض بتعريض أو تصريح قال بلال بن أبي بردة لأبي الأسود: أنا ابن الحكمين. فقال: أما أحدهما ففاسق وأما الآخر فمخدوع مائق. أنشد ذو الرمّة بلالا: وحق لمن أبو موسى أبوه ... يوفّقه الذي نصب الجبالا فقال ابن أبي علقمة: والله ما وفق الله أبا موسى نفسه فكيف يوفق ابنه. تفضيل العلوية على سائر النّاس قال منصور لجعفر بن محمد: نحن وأنتم في رسول الله سواء. فقال: لو خطب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 إليكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وتزوج منكم لجاز له، ولا يجوز أن يتزوج منا فهذا دليل على أنا منه وهو منا. وقال المأمون لعلوي: ما فضلكم علينا في العرب من رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقال: إنه عليه الصلاة والسلام يدخل على حرمنا ولا يدخل على حرمكم. وقال عمر بن عبد العزيز يوما وقد قام من عنده علي بن الحسين من أشرف الناس، فقيل: أنتم لكم الشرف في الجاهلية والخلافة في الإسلام، فقال: كلا أشرف الناس هذا القائم من عندي، فإن أشرف الناس من أحب كل إنسان أن يكون منه ولا يحب أن يكون من أحد وهذه صورته. الممدوح بأنه من عترة الرسول قال أبو الغمر: تبوّأ من بيت النبوة مفخرا ... علا في السّماء فوق قطب الكواكب يخاطب فيه الروح بالوحي جدّه ... وقدّك هما من مرسل ومخاطب «1» وقال بشّار: دم النبيّ مشوب في دمائهم ... كما يخالط ماء المزنة الضّرب «2» وقال عبد الله بن موسى: أنا ابن الفواطم من هاشم ... نماني عليّ وبنت النّبي إليّ تناهى فخار الورى ... وكلّهم لي بحقّ ولي الحجّة في أنهم أبناء الرسول صلّى الله عليه وسلم قال الحجّاج ليحيى: أنت تزعم أن الحسن والحسين أبناء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: نعم. قال: والله لأقتلنك إن لم تأت بآية تدل على ذلك، فقال: نعم، إن الله تعالى يقول: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ «3» إلى قوله: وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى «4» وهو ابن مريم، وقد نسبه إليه. فقال الحجّاج: أولى لك قد نجوت، ولما أنزل الله تعالى آية المباهلة دعا النبي صلّى الله عليه وسلم الحسن والحسين فدعا بهما إلى المباهلة، ولما قدم على البصرة اتخذ الأحنف طعاما فحضره فقعد على سرير والحسن عن يمينه والحسين عن يساره، وجاء محمد بن الحنفية فلم يكن له على السرير موضع فقعد ناحية فتغيّر لذلك، فقال: أمير المؤمنين له: إنهما ابنا رسول الله وأنت ابني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 ذمّ علويّ كتب أبو الحسين بن طباطبا إلى الكادوشي: لن تحلب الشاة أفاويقها ... أو يخلع التيس عليها الرّسن «1» فاحذر على ثغرك من منعظ ... يقطع عن ضرعك عرق اللبن «2» فكتب إليه الكادوشي: أبا حسن أيما حاجة ... دعتك إلى شين هذا النّسب تصون بعرضك عرض اللئام ... كأنّك تحلّهم عن نشب «3» وتعنق في سبل المنكرا ... ت ظلما لتنصر أهل الريب «4» لذاك الخلافة لم ترضكم ... ولا نصرتكم عليها العرب تحللت بالسبّ لما رأيت ... أديمك صحّ ومن سبّ سب «5» فإن لم نجد فيك من مغمز ... سلكنا إليك طريق الكذب ولولا النبيّ عليه السلام ... ولولا عليّ لقيت العجب وقال المتنبيّ: بها علويّ جدّه غير هاشم وله: إذا علويّ لم يكن مثل طاهر ... فما هو إلا حجّة للنواصب «6» وقال الخوارزمي: كأن الله لم يخلقه إلا لتنعطف القلوب على يزيد، وقال ابن الحجّاج علوي من أجله رحم الله معاوية، وقال بعضهم في ذم جعفري وبكري: إن كان جعفرهم طيار أجنحة ... فإن أولادهم فينا مقاصيص وإن تقولوا إلى الطيّار نسبتنا ... فالتمر ينبت في أضعافه الشّيص «7» قال أحمد بن يزيد: تعدّى بكري على أبي في مجلس، فاحتمله وقال: احتملته كرامة لأبي بكر، فقال ما أمكنك أن تقول فيّ فقل، فقال أبي: لا بارك الله في البكري أن له ... أبا خيار أو سعيا غير مختار ثان لراكبه رجليه معتمل ... أبوه ثاني رسول الله في الغار «8» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 أبوك يعلو إلى الفردوس سلّمة ... وأنت مقتحم تهوي إلى النّار وكان ثوباه من فضل ومن كرم ... وأنت ثوباك من خزي ومن عار استنكاف العرب من الهجنة صار أعرابي إلى سوّار القاضي، فقال: إن أبي مات وتركني وأخي فخط خطين ناحية وترك هجينا فخط آخر ناحية بعيدا من الأولين فكيف يقسم المال، قال: المال بينكم أثلاثا. فقال الأعرابي لا أحسبك فهمت فأعاد عليه الفتيا، فقال: المال بينكم سواء. فقال: أيأخذ الهجين كما نأخذ؟ قال سوار: نعم. فغضب الأعرابي وقال: أعلم أنك قليل الحالات بالدّهناء فقال: لا يضرّني. وجاء أعرابي إلى المهدي في طريق مكة فقال يا أمير المؤمنين أنا عاشق بنت عمّ لي وقد أبى أن يزوجنيها، فقال: لعله أكثر منك ما لا قال: لا. قال: فما القصة؟ قال: ادن منّي يا أمير المؤمنين، فضحك المهدي وأصغى إليه برأسه، فقال سرا: أنا هجين. فدعا عمه وقال: لم لا تزوج ابن أخيك؟ فقال إنه هجين، فقال: إن ذلك لا يضره، أخوة أمير المؤمنين كلهم هجناء. زوجه فقد أصدقت عنه عشرة آلاف درهم. قال الجاحظ: قلت لعبيد الكلابي وكان فصيحا فقيرا أيسرّك أن تكون هجينا ولك ألف جريب، قال: لا أحب اللؤم بشيء قلت فإن أمير المؤمنين ابن أمة قال أخزى الله من أطاعه، قلت: نبيا الله محمد وإسماعيل كانا ابني أمة، قال: لا يقول هذا إلا قدري. قلت: فما القدري، قال: لا أدري. قال شاعر: لا أرضع الدهر إلا ثغر واضحة ... لواضح الجسم يحمي بجور الجار ذلّة الموالي عندهم والاستخفاف بهم كانت العرب إلى أن عادت الدولة العباسيّة إذا أقبل العربي من السوق ومعه شيء فرأى مولى دفعه إليه ليحمله معه فلا يمتنع ولا السلطان يغير عليه. وكان إذا لقيه راكبا وأراد أن ينزله فعل، وإذا رغب أحدهم في مناكحة مولاة خطب إلى مولاها دون أبيها وجدّها. وكان نافع بن جبير إذا مرت به جنازة فيقال عربي يقول يا قوماه، وإن قيل مولى يقول مال الله يأخذ ما يشاء، ويدع ما يشاء ولا يقولون للمولى كريم ولا حسيب وإنما يقولون فاره «1» . مناقب أولاد السّراري «2» قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ليس قوم أكيس من أولاد السراري لأنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 يجمعون عزّ العرب ودهاء العجم. عاتب هشام زيد بن علي وقال: بلغني أنك تريد الخلافة، وكيف تصلح لها وأنت ابن أمه، فقال: كان إسماعيل ابن أمة وإسحاق ابن حرّة فأخرج الله من صلب إسماعيل خير ولد آدم. فقال هشام: إذا لا تراني إلا حيث تكره. كانت أم علي بن الحسين عليهما السلام جيهان شاه بنت يزدجرد أخذها الحسين من جملة الفيء، وقال له أمير المؤمنين: خذها فستلد لك سيدا في العرب سيدا في العجم سيدا في الدنيا والآخرة. ولما فتح قتيبة بعض بلاد العجم أخذ إحدى بنات يزدجرد فقال يوما لبعض جلسائه: أترى ابن هذه يكون هجينا؟ فقالت امرأة: نعم من قبل الأب. عذر الهجناء سابق عبد الملك بين بنيه فجاء الوليد سابقا وسليمان مصليا ومسلمة مكيثا «1» وكان ابن أمة، فقال عبد الملك: لله در الأعور الشني حيث يقول: نهيتكم أن تحملوا هجناءكم ... على خيلكم يوم الرهان فتدركوا «2» وما يستوي المرآن هذا ابن حرّة ... وهذا هجين بضعه متشرّك «3» قعدن به خالاته فخذلنه ... ألا إن عرق السوء لا بدّ يدرك فقال مسلمة بيني وبينك الشني، أليس هو القائل: وكائن ترى فينا من ابن سبية ... إذا لقي الأبطال يطعنهم شزرا فما زادها فينا السباء نقيصة ... ولا احتطبت يوما ولا طبخت قدرا «4» وقال آخر: لا تزرينّ فتى من أن يكون له ... أمّ من الروم أو سوداء عجماء فإنّما أمهات النّاس أوعية ... مستودعات وللأحساب آباء «5» أصناف الموالي الناس ثلاثة أصناف عرب وعجم وموال. فالعرب قسمان: ولد إسماعيل بن إبراهيم وقحطان بن عابر وهم هجان وهو الخالص وهجين وهو الذي أمه أعجمية حرّة كانت أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 أمة، فإذا تردد فيه أعراق العجم فهو المعلهج، وأما الفلنقس فهو الذي أمه أمة وخاله عبد، والمكركس الذي أمه أمة وكذلك جدته وجدة أمه. وإذا أحدقت به الإماء فحيوس من الحيس وهو الخلط، وإذا وصفوا الإنسان بغاية اللؤم قيل قن، وهو المملوك الأبوين وعبد العصا لكل ذليل وعبد مملكة وكعبيد ذي الكلاع باليمن، وعبيد ابن الأشعث بن قيس من أهل نجران الذين حكم عمر رضي الله عنه بأن يردوا أحرارا بلا عوض، وعبيد الأعتاق من سباهم النبي صلّى الله عليه وسلم من هوازن وفزارة وبني المصطلق وسمّاهم بذلك لأنه سار بهم كسيرته في سبايا غيرهم. ومن الموالي مولى السائبة وهذا كان في الجاهلية، وهو الذي سيب نذرا إلى الآلهة فلا يمنع من ماء ولا كلأ ولا يورث ولا يعقل عنه وصار خليعا. كون الموالاة قرابة قال النبي صلّى الله عليه وسلم مولى القوم منهم. وقال صلّى الله عليه وسلم الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يورث. وقيل: الرجل لأبيه والمولى من مواليه. وقيل: المعتق من فضل طينة المعتق. وروي أن سلمان أخذ من بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلم تمرة من تمر الصدقة فوضعها في فيه فانتزعها النبي صلّى الله عليه وسلم من فمه، فقال إنما يحلّ لك من هذا ما يحلّ لنا. وقال عمر رضي الله عنه: أبو بكر سيدنا أعتق بلالا سيدنا فأجراه مجراه في السودد. وكان المهدي يمشي وبين يديه عمارة بن حمزة فقال له رجل: من هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال هذا أخي وابن عمي عمارة، فلما ولى الرجل، قال عمارة: انتظرت أن تقول ومولاي، فانقض يدي من يدك فتبسم المهدي وقال: إنّا بنو هاشم موالينا أحب إلينا من أهالينا. وكان لرجل عبد عامل فأراد أن يستخلفه، فقال: لست استأثر عليكم ولأن أكون عبد أحب إليّ من أن أكون عربيا لا حقا. فضلاء الموالي قال عمر رضي الله عنه لو كان سالم مولى حذيفة حيّا لاستلحقته. ولّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أسامة بن زيد على المهاجرين والأنصار، وولّى عليهم أبو بكر رضي الله عنه سالما يوم اليمامة. وقال أبو بكر حين أرادوه على البيعة: علام تبايعون ولست بأقواكم ولا أتقاكم أقواكم عمر وأتقاكم سالم. قال الله تعالى: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ «1» يعني بقوله أفمن يلقى في النار أبا جهل، وبقوله أم من يأتي آمنا عمار بن ياسر. فضيلة العجم قال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا تسبّوا فارسا فما سبّه أحد إلا انتقم الله منه عاجلا وآجلا. وحضر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 عند النبي صلّى الله عليه وسلم مجوسي حسن الهيئة وضيء الوجه فجعل تحته وسادة حشوها قزو وأكرمه، فلما نهض قال عمر رضي الله عنه هذا مجوسي. فقال: قد علمت ولكن أمرني جبريل عليه السلام أن أكرم كريم كل قوم. قال سليمان بن عبد الملك: العجب لهذه الأعاجم كان الملك فيهم فلم يحتاجوا إلينا، فلما ولينا لم نستغن عنهم. وقال أيضا: ألا تتعجبون من هذه الأعاجم، احتجنا إليهم في كل شيء حتى في تعلم لغاتنا منهم. قال المأمون: الشرف نسب، فشريف العرب أولى بشريف العجم من وضيع العجم بشريفهم، وشريف العجم أولى بشريف العرب من وضيع العرب بشريفهم، وهذا كلام شريف. ورأى النبي صلّى الله عليه وسلم في المنام كأنه ردفه غنم سود فردفتها غنم بيض ما يرى السود فيها لكثرتها، فأخبر النبي صلّى الله عليه وسلم بذلك أبا بكر رضي الله عنه، فقال: السود العرب ويسلمون والبيض العجم يسلمون بعدهم حتى ما يرى فيهم العرب لكثرتهم، فقال صلّى الله عليه وسلم: بذلك أخبرني الملك سحرا. الممدوح بكونه من العجم قال بشّار: نمت في الكرام بني عامر ... فروعي وأصلي قريش العجم وأنشد الموبذ «1» : أنا ابن المكارم من آل جم ... وطالب إرث ملوك العجم لنا علم الكابيان الذي ... به نرتجي أن نسود الأمم «2» فقل لبني هاشم أجمعين ... هلمّوا إلى الخلع قبل النّدم وعودوا إلى أرضكم بالحجاز ... وأكل الضّباب ورعي الغنم فإنّي لأعلو سرير الملوك ... بحدّ الحسام ورأس القلم وقال أبو سعيد الرستمي: بهاليل عزّ من ذؤابة فارس ... إذا انتسبوا إلا من عرينة أو عكل «3» هم راضة الدّنيا وسادة أهلها ... إذا افتخروا لا راضة الشاء والإبل «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 المستنكف والمزرى بهم سمع أعرابي يقول لآخر أترى هذه العجم تنكح نساءنا في الجنة، فقال الآخر: نعم أرى ذلك بأعمالهم الصالحة، فقال: توطأ رقابنا والله قبل ذلك. وكان ناسك يقول: اللهم اغفر للعرب خاصة وللموالي عامة، وأما العجم فهم عبيدك والأمر إليك. وقال زياد «1» للأحنف: أرى هذه الحمراء قد كثرت وكأني أنظر إلى وثبة منهم على العرب وعلى السلطان، وقد رأيت أن أقبل شطرا وأدع شطرا لإقامة الشرف وعمارة الطرق. وقال ابن الحجّاج: لا تغترر أنّك من فارس ... في معدن الملك وديوانه لو حدّثت كسرى بذا نفسه ... صفّعته في جوف إيوانه «2» ذمّ النبط وأهل الرساتيق روي في الخبر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال إذا تفيهقت الأنباط ونطقت بالعربية وتعلمت القرآن فالهرب الهرب منهم، فإنهم أكلة الربا ومعدن الشر وأهل غش وخديعة. قال ابن عباس رضي الله عنهما لو كان الشيطان أنسيا ما كان إلا نبطيا. وقال شاعر: نبط إذا عرك الهوان بهم ... ذلوا وإن أكرمتهم ضغنوا «3» ورفع إلى المأمون أن رجلا شكا جارا له وقال: واسيرة عمراه ذهب العدل منذ مات عمر، فاستحضره وسأله فذكر ما يشكو منه فقال له: من أين أنت؟ قال: من أهل ناتية وهم نبط، فقال المأمون: إن عمر كان يقول من كان جاره نبطيا فاحتاج إلى ثمنه فليبعه فإن كنت تطلب سيرة عمر فهذا حكمه ثم أمر له بألف درهم وأمر صاحبه أن ينصفه. ولمّا نزل الحجاج واسطا نفى النبط عنه وكتب إلى عامله بالبصرة وهو الحكم بن أيوب، يقول: إذا أتاك كتابي فانف من قبلك من النبط فإنهم مفسدة للدين والدنيا، فكتب إليه قد نفيت النبط إلا من قرأ منهم القرآن وتفقه في الدين. فكتب إليه الحجاج: إذا قرأت كتابي فادع من قبلك من الأطباء ونم بين أيديهم ليقفوا «4» عروقك فإن وجدوا فيك عرقا نبطيا فاقطعه والسلام. وأمر بعض الملوك عاملا له أن يصيد شر طائر ويشويه بشر حطب ويبعثه على شر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 رجل، فصاد رخمة وشواها ببعر ودفعها إلى خوزي، فقال الخوزي: أخطأت في كل ما أمرك به الملك. صد بومة واشوها بدفلى وادفعها إلى نبطي ولد زنا. ففعل الرجل وكتب به إلى الملك، فقال الملك: أصبت ولكن كفى أن يكون الرجل نبطيا لا يحتاج إلى ولد زنا فليس يزداد النبطي بذلك شرا فقد بلغ بجنسه الغاية. قيل إذا جاء الرستاقي «1» بسلة فارغة ومعدة جائعة فاضرب الباب في وجهه. وقال أبو الحسن علي بن أحمد بن العباس لم يظلم أحد كما ظلم أهل الرستاق لأنهم غرسوا الخشب وليست تكسر إلا على ظهورهم. ذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه روى عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: الأكراد جيل الجن كشف عنهم الغطاء، وإنما سموا الأكراد لأن سليمان عليه السلام لما غزا الهندسبى منهم ثمانين جارية وأسكنهن جزيرة فخرجت الجن من البحر فواقعوهن فحمل منهم أربعون جارية فأخبر سليمان بذلك فأمر بأن يخرجن من الجزيرة إلى أرض فارس فولدن أربعين غلاما فلما كثروا وأخذوا في الفساد وقطع الطرق فشكوا ذلك إلى سليمان فقال أكردوهم إلى الجبال فسموا بذلك أكرادا. (3) ومما جاء في الدعوة النهي عن ادّعاء غير الأب قال الله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ «2» . وقال صلّى الله عليه وسلم: ملعون ملعون من انتسب إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه. وقال عليه الصلاة والسلام: الولد للفراش وللعاهر الحجر ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قبول شهادة الزنيم «3» . المعرّض بنسبه لقي مزيد رجلا فقال له ممن أنت؟ قال قرشي والحمد لله. فقال: الحمد لله في هذا الموضع ريبة. قال أبو نواس: إذا ذكرت عديّا في بني ثعل ... فقدم الدال قبل العين في النّسب «4» وقال أحمد بن أبي سلمة: حنفي كما زعم ... وبريء من الكرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 زد على الفاء نقطة ... وارفع النّون بالقلم «1» وقال زياد لرجل: يا دعيّ، فقال: الدعوة قد تشرف بها المدعي علي فكيف غير بها. التعريض بمن لا يشبه أباه أو ذويه خلقة قال عبد الملك لعبيد الله بن زياد: بلغني أنك لا تشبه أباك قال إني والله أشبه به من الماء بالماء والتمرة، بالتمرة ولكن إن شئت أنبأتك بمن لا يشبه أباه. قال: من هو. قال: من لم يولد لتمام ولم ينضج في الأرحام ولم يشبه الأعمام، يعرض بعبد الملك. فقال: ومن هو، قال: سويد بن هجوف فقال لسويد: أكذا أنت قال نعم. قال دعبل: إن بني عمرو لأعجوبة ... تعجز عن وصفهم الفكره أبوهم أسمر في لونه ... وهؤلاء لونهم شقره أظنّه حين أتى أمّهم ... صيّرفي نطفته مغره «2» وقال آخر: كأنّهم خبز كتّاب وبقّال وقال وهيب الهمداني: ألوانهم إليك عن ... أنسابهم معتذره كان بأصبهان مجنون يعرف بابن المستهام، فقيل لأحمد بن عبد العزيز إنه مليح ذو نوادر، قال فاستحضره فلما تأمله قال: في اختلاف الوجوه من آل عجل ... لدليل على فساد النساء فأراد أن يبطش به ثم كف عنه مخافة أن يتحدث الناس بقوله فيكثر. التعريض بمن لا يشبه أباه فعلا دخل أبو الحسن بن طباطبا على أحمد بن عثمان البري، وكان هجاه أبو الحسن بأهاجي كثيرة، فقال له: بلغني أنك تشعر وتجيد فقال كذا يقول الناس. فقال له تعريضا: أشعرت أن قريشا لم تكن تجيد الشعر. وقال مروان بن أبي الجيوب في عليّ بن الجهم، وقد أجاد تعريضا إلى الغاية: لعمرك ما جهم بن بدر بشاعر ... وهذا على ابنه يدّعي الشعرا ولكن أبي قد كان جارا لأمّه ... فلما ادّعى الأشعار أفهمني أمرا التعريض بالرجل أن ابنه من زانية اختصم إلى معاوية رضي الله عنه في غلام ادعى، فقال: ائتنوني غدا أقض بينكما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 فلما أتوه أخرج حجرا دفعه إلى المدعي، يعني بذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلم وللعاهر الحجر، فقال له الرجل: أنشدك بالله هلّا قضيت بقضائك في زياد. فقال معاوية: قضاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم أولى بأن يتبع من قضائي. دخل ابن مكرم على أبي العيناء مهنئا له بابن ولد له، فوضع عنده حجرا، فلما خرج قيل: لأبي العيناء: فقال: لعن الله هذا أما تعلمون ما عنى، إنما أراد قول النبي صلّى الله عليه وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر. ورأى عنده منجّما فقال ما يصنع هذا، قال إنه يعمل طالع مولد ابني، قال: فسله قبل هل هو ابنك حقيقة. قال أبو علي البصير: أتانا أبو العيناء بابن مزور ... سنحكم فيه عادلا غير جائر نهنّئه في أسبوعه وملاكه ... فإن مات عزّينا سعيد بن ياسر وله فيه: لأبي العيناء أولاد ... دهم في النّاس آيه فأبو القوم سعيد ... وأبو العيناء دايه وقيل لرجل ولدت امرأة فلان بعد الزفاف بخمسة أشهر، فقال: كان إناؤها ضاربا. وقيل لآخر مثله، فقال: إنه بنى جدارا على أس غيره. وقال رجل من أولاد زياد لآخر يا ابن الزانية، فقال: لا تسبني بشيء به شرفت «1» . من راجع قاذفه بدعوة بأحسن تعريض كان بين يزيد بن معاوية وبين إسحاق بن طلحة بن عبيد الله كلام بين يدي معاوية، فقال يزيد: يا إسحاق إن خيرا لك أن يدخل بنو حرب كلهم الجنة، فقال إسحاق: وأنت والله لخير لك أن يدخل بنو العباس كلهم الجنة، فأنكر يزيد ولم يدر ما عناه، فلما قام إسحاق قال معاوية: أتدري ما عناه إسحاق، قال يزيد: لا، قال: فكيف تشاتم رجلا قبل أن تعلم ما يقال لك وفيك أنه عنى ما زعم الناس أن أبا العباس أبي وكانت هند اتّهمت به وبغيره، ولذلك لما جاءت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم تبايعه فتلا عليها الآية، فلما بلغ قوله ولا يزنين، قالت: وهل تزني الحرة؟ فنظر النبي صلّى الله عليه وسلم إلى عمر وتبسم. وخاصم غيلان رجلا من ولد زياد، فقال له الزيادي يا دعيّ، فأنشد يقول: بثينة قالت يا جميل أربتنا ... فقلت كلانا يا بثين مريب فبلغ قولهما ابن عائشة، فقال: والله إن غيلان في التمثل بهذا البيت أشعر من جميل. وشاتم أعرابي ابنه، فقال: لست بابني، فقال الابن: أنا والله أشبه بأبيك ولأنت كنت أغير على أمي من أبيك على أمك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 من احتمل عيبا لتصحيح نسبه نافر لهبي «1» رجلا من ولد عمرو بن العاص فعابه بسورة إِنَّا أَعْطَيْناكَ «2» ، وعاب اللهبي بسورة تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ «3» ، فقال اللهبي: إنك لو علمت ما لأولاد أبي لهب من الدرك في سورة تبت لم تفه بها، لأن الله تعالى صحح نسبهم بقوله: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ «4» وأنهم من نكاح لا من سفاح ونفى بني العاص بقوله عتل بعد ذلك زنيم، والزنيم المنتسب إلى غير أبيه. قال العودي مضيت يوما في حاجة مع يحيى بن أكثم فاختصر بين طريقا لم أعرفها، فقلت له: أنا ابن بجدة «5» هذه البلدة ومن لا يبرحها ولا أعرف هذا الطريق، قال لأن قول الشاعر لم يلحقك: تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا فاحتمل هذا الهجاء تصحيحا لنسبه المعروف بأنه عجمي أو نبطي متعرّب قال بشّار: أرفق بعمرو إذا حرّكت نسبته ... فإنّه عربيّ من قوارير وقال آخر: عربيّ في مجان ... نبطيّ في الحقيقه وقال مخلد المولي: أنت عندي عربيّ ... ليس في ذاك كلام عربيّ عربيّ ... عربي والسّلام شعر أجفانك قيصو ... م وشيح وثمام «6» المدعي أكارم العجم لبعضهم: يصيح لكسرى حين يسمع ذكره ... بصمّاء عن ذكر النبيّ صدوف ويعجبه أخبار كسرى وذكره ... وما هو في أعلاجهم بشريف وقال جحظة: وأهل القرى كلّهم ينتمون ... لكسرى ادعاء فأين النّبيط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 ذمّ مدّعي العلوية قال محمد بن وهب: فتى لما رأى الأنساب عزا ... تناول غير نسبة والديه ويرضى أن يقال له شريف ... ومن يرضى إذا كذبوا عليه ذمّ من يدّعي نسبا مرغوبا عنه قال حمّاد عجرد في بشّار بن برد: نسبت إلى برد وأنت لغيره ... فمنك لبرد نكت أمك من برد وهذا البيت في الهجاء من الأبيات النادرة العجيبة، وقيل إن بشارا لما سمع ذلك قال: تهيأ لحمّاد في هذا البيت بهجائي خمسة معان أرادها جرير في الفرزدق فلم يستكملها، حيث يقول: لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وضغا البغيث جدعت أنف الأخطل «1» وقال أبو محمد البريدي في الأصمعي: ابن لي دعيّ بني أصمع ... متى كنت في الأسرة الفاضله ومن أنت؟ هل أنت إلا امرؤ ... إذا صحّ أصلك من باهله المتقلّب في الدّعوة قال دعبل: كل يوم لأبي سعد على الأنساب غاره ... فهو يوما في تميم وهو يوما في فزاره «2» وقال أبو نواس: لهم في بيتهم نسب ... وفي وسط الملا نسب من ادّعى نسبا لاستفادته جاها أو نشبا وقال خالد التمار: عصام بن فيض باللجين وبالذّهب ... ولبس الكسا والزعفران الذي يهب «3» ودار بناها في ثقيف ومسجد ... يرجى عصام أن يعدّ من العرب وقال دعبل: ليهنك دولة حدثت ... فأحدث عزّها نسبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 من نسبه مقصور عليه قيل: فلان نفع بقاع، ليس له فعل موصوف ولا نسب معروف. قال شاعر: كالودّ بالقاع لا أصل ولا ورق «1» وقال الجاحظ: نسب الخمار مقصو ... ر إليها منتهاه وقال آخر: يقول سهل والدي صاعد ... فقل لسهل من أبو صاعد؟ للناس آباء وما ينتمي ... سهل إلى أكثر من واحد وقال آخر: ليس له ما خلا اسمه نسب ... كأنّه آدم أبو البشر من صار مدّع بين جماعة خبر زياد بن أبيه معروف جعيفران: ما جعفر لأبيه ... ولا له بشبيه هذا يقول بنيّ ... وذا يخاصم فيه والأمّ تضحك منهم ... لعلمها بأبيه من نفى عنه الدعوة خسة قال ابن الزيات لابن أبي دؤاد في مناظرته: ما أنا بدعي. فقال: صدقت ما دونك أحد فتستنزل إليه ولا فوقك من يقبلك فتنتمي إليه. وقال رجل بين يدي أبي عبيدة: إن الأصمعي دعيّ. فقال: كذبت لا يدّعي إلى أصمع أحد. وقال شاعر: فما أنفيك كي تزداد لؤما ... لا ألأم من أبيك ولا أذلّا المتشكّك في أمه فضلا عن أبيه قال عبدان، وهو من الأبيات الجيدة المشهورة: صحح لنا والدة أولاد ... وأنت في حلّ من الوالد وقال آخر: إذا أقمت لنا أما فصح لها ... وأنت في حرج إن جئتنا بأب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 وقال آخر: إذا الأدعياء ادعوا والدا ... وجدناك مدّعيا والده وقال مساور الوراق: ابن عبد العزيز أدغم فيه ... شبه من شرار كلّ قبيله صدره من محارب ويداه ... من غني ورأسه من بجيله «1» ذكاء ولد الزنا وفرعنته قال قدامة: أولاد الزنا أنجب لأن الرجل يزني بشهوة ونشاط فيخرج الولد كاملا، وما يكون عن حلال فعن تصنع للرجل إلى المرأة. قال ابن بوسة الأصبهاني: إني إذا ما رأيت فرخ زنا ... فليس يخفى عليّ جوهره لو في جدار يخطّ صورته ... لماج في كفّ من يصوّره (4) وممّا جاء في الأقارب فضل صلة الرحم وذم قطيعته قال الله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ «2» وقال النبي صلّى الله عليه وسلم يقول الله: أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمى فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته. وقال عبد الله بن أبي أوفى: كنا مع النبي صلّى الله عليه وسلم فقال لا يجالسنا قاطع رحم فقام شاب فأتى خالة له، وكان بينه وبينها شيء فأخبرها بقول النبي صلّى الله عليه وسلم فاستغفرت له واستغفر لها، ثم رجع والنبي صلّى الله عليه وسلم في مجلسه فأخبره فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: إن الرحمة لا تنزل على قاطع رحم. وقال صلّى الله عليه وسلم: الرحم منماة للعود مثراة للمال منسأة «3» في الأجل. وقال جعفر بن محمد: صلة الرحم تهون الحساب يوم القيامة، ثم تلا قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ «4» وتذاكر واصلة الرحم فقال أعرابي: منسأة في العمر مرضاة للرب محبة في الأهل. وقيل: الصلة بقاء والقطيعة فناء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 حثّ الأقارب على التظاهر دعا أكثم بن صيفي أولاده عند موته، فاستدعى بضمامة من السهام وتقدم إلى كل واحد أن يكسرها فلم يقدر أحد على كسرها، ثم بددها، وتقدم إليهم أن يكسروها فاستسهلوا كسرها، فقال: كونوا مجتمعين ليعجز من ناواكم عن كسركم كعجزكم. وفي ذلك شعر: إن القداح إذا اجتمعن فرامها ... بالكسر ذو حرد وبطش أيّد «1» عزت فلم تكسر وإن هي بددت ... فالوهن والتكسير للمتبدد وقال عبد العنبري: إذا ما أراد الله ذلّ قبيلة ... رماهم بتشتيت الهوى والتخاذل المراعي رحمه والمحامى عليه قال بعض بني أسد: وأستنفذ المولى من الأمر بعد ما ... يزلّ كما زلّ البعير عن الدحض «2» وأمنحه مالي وودّي ونضرتي ... وإن كان محنيّ الضلوع على بغضي وقال بعضهم: ومولى جفت عنه الموالي كأنّه ... من البؤس مطليّ به القار أجرب رئمت إذا لم ترأم البازل ابنها ... ولم يك فيها للملبسين محلب «3» تفضيل الأقارب على الأباعد وإن عادوا لما استخلف يزيد بن المهلب ابنه بجرجان، قال له: انظر إلى هذا الحي من اليمن فكن لهم كما قال العباس: فقومك إن المرء ما عاش قومه ... وإن لامهم ليسوا له بأباعد ونحوه قول بعضهم: أدناك أدناك وإن رفضك وقلاك «4» وقال بعض بني قيس: وآخ لحال السلم إن شئت واعلمن ... بأن سوى مولاك في الجور أجنب «5» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 ومولاك مولاك الذي إن دعوته ... أجابك طوعا والدماء تصبّب وقال آخر: لعمري لرهط المرء خير بقية ... عليه وإن عالوا به كلّ مركب «1» استبقاء الأقارب لدفع الأباعد قال النعمان بن حنظلة: وإني لأستبقي امرأ السوء عدّة ... لعدوة عريض من القوم جانب «2» أخاف كلاب الأبعدين وهرشها ... إذا لم تهارشها كلاب الأقارب وقال هبيرة المري: ولا تهجر كلابك واصطنعها ... لتطعمها كلاب الأبعدينا وله: وذوي ضباب مظهرين عداوة ... قرحى القلوب معاودي الأفناد «3» ناسيتهم نقصاهم وتركتهم ... وهم إذا ذكر الصّديق أعادي كيما أعدّهم لأبعد منهم ... عدّ السلاح إلى ذوي الأحقاد تفضيل بعض الأقارب على بعض قيل لامرأة أسر الحجاج زوجها وابنها وأخاها: اختاري واحدا منهم، فقالت: الزوج موجود والابن مولود والأخ مفقود، أختار الأخ. فقال الحجّاج عفوت عن جماعتهم لحسن كلامها. ذمّ الأقارب قال بعضهم: الأب رب والعم غم والأخ فخ والولد كمد والأقارب عقارب. قال شاعر: إنّ الأقارب كالعقار ... ب أو أضرّ من العقارب وقال آخر: يقولون عزّ في الأقارب إن دنت ... وما العزّ إلا في فراق الأقارب تراهم جميعا بين حاسد نعمة ... وبين أخي بغض وآخر عائب وقال أبو نواس: وما أنا مسرور بقرب الأقارب ... إذا كان لي منهم قلوب الأباعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 تفضيل بعيد موال على قريب معاد قال مقاتل: صديق موافق خير من ولد مخالف، ألم تسمع قول الله تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ . وقيل: القرابة تحتاج إلى المودة والمودّة تستغني عن القرابة: ربّ بعيد كأخ ناصح ... وابن أب منهم الغيب وقال الزبيري: لمغترب يسرّ بحسن حالي ... وإن لم تدنه منّي قرابه أحبّ إليّ من ألفي قريب ... تبات صدورهم بي مسترابه «1» وقال بشار: ربّما سرّك البعيد وأصلا ... ك القريب النسيب نارا وعارا «2» وقال يزيد بن الحكم: ولقد يكون لك الغريب ... أخا ويقطعك القريب التذمّم لترك الأقارب واتّباع الأباعد قال الحارث بن ظلامة: سفهنا باتّباع بني بغيض ... وترك الأقربين لنا انتسابا سفاهة قارص لما تروّى ... هراق الماء واتّبع السرابا ذم من نفعه للأباعد دون الأقارب قال ابن الأحوص: من النّاس من يغشى الأباعد نفعه ... ويشقى به حتّى الممات أقاربه «3» وقال آخر: وما خير من لا ينفع الأهل عيشه ... وإن مات لم تجزع عليه أقاربه وقال آخر: فتى هو لابن العمّ كالذئب إن رأى ... لصاحبه يوما دما فهو آكله ذمّ من يناوىء ذويه ويضرع لأعاديه ذمّ أعرابي رجلا، فقال: هو أقل الناس ذنوبا إلى أعدائه وأكثرهم تجرؤا على أصدقائه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 وأقربائه. وقيل لمعاوية رضي الله عنه ما النذالة، فقال: الجراءة على الصديق والنكول عن العدو. وقال الجعدي: ألا إن قومي أصبحوا مثل خيبر ... بها الداء لكن لا يضرّ الأعاديا وقال بيهس الضبيّ: إذا ما ألقى العدوّ فثعلب ... وعلى الأقارب شبه ليث ضيغم وقال الغطفاني: جهلا علينا وجبنا عن عدوّهم ... لبئست الخلّتان النكل والجبن «1» وقال زياد الأعجم: تلين لأهل الغلّ والغمّ منهم ... وأنت على أهل الصفاء غليظ وقال أيوب: تصول على الأدنى وتجتنب العدا ... وما هكذا تبنى المكارم يا يحيى وأنت كفحل السّوء يبدأ بأمّه ... ويترك باقي الخيل سائمة ترعى «2» وقال كشاجم: وتراه يكرم من نأى ... عنه ويؤذي من حضر كالشّمس تنحس من دنا ... منها وتسعد من نظر عذر من يكره بعيدا ويطرح قريبا إن يعجب الأقوام أني عندهم ... من دون ذي رحم بها يتوصّل فبنو أمية والفرزدق صنوهم ... نسبا وكان وصالهم لا يقبل عداوة الأقارب وتعسّر إزالتها أعداؤكم اكفاؤكم والأقارب عقارب وأمسهم بك رحما أشدهم لك لدغا. وقال جاويذان: فروخ ثلاث لا يستصلح فسادهم بشيء من الحيل: العداوة بين الأقارب، وتحاسد الأكفاء، والركالة في الملوك. وكان ابن هبيرة يقول: اللهمّ احفظني من عداوة الأقارب. وقال طرفة بن العبد: وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهنّد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 ويروى عداوة ذي القربى. قال الهيثم النخعي: بني عمّنا إن العداوة شرّها ... ضغائن تبقى في نفوس الأقارب وقال ببغاء: للظّلم بين الأقربين مضاضة ... والدلّ ما بين الأباعد أروح «1» فإذا أتتك من الرّجال قوارض ... فسهام ذي القربى القريبة أجرح من يتحامل على ذويه إذا رآهم في محنة قال عامر بن لقيط: لعمرك إني لو أخاصم حيّة ... إلى قعفس ما أنصفتني قعفس فما لهم طلسا إليّ كأنّهم ... ذئاب الفضا والذئب بالليل أطلس «2» وقال عدي النبهاني: أعان على الدّهر إذ حلّ بركه ... كفى الدهر لو وكّلته بي كافيا «3» وقال آخر: وكنت كذئب السوء لما رأى دما ... يصاحبه يوما أحال على الدم الحميّة للأقارب وإن كانوا أعداء في المثل: آكل لحمي ولا أدعه لآكل. وقيل: الحفائظ تذهب الأحقاد لا يعدم الجوار من أمه حية. قال شاعر: لكلّ امرىء حالان بؤس ونعمة ... وأعطفهم في النّائبات أقاربه وقال حريث بن جابر: إذا ظلم المولى فزعت لظلمه ... فحرّك أحشائي وهرّت كلابيا «4» وقيل لأعرابي: ما تقول في ابن العم، فقال: عدوّك وعدوّ عدوّك. ولما مات عبادة بن الصامت، رضي الله عنه بكى عليه أخوه أوس بن الصامت فقيل له: أتبكي عليه وقد كان يريد قتلك فقال حركني للبكاء عليه ارتكاضنا في بطن وارتضاعنا من ثدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 التجافي عن ذنوبهم ومداواة عداوتهم قال الشعبي: لا يكون الرجل سيدا حتى يكون مستعملا قول الشاعر: وإنّي للبّاس على المقت والقلى ... بني العمّ منهم كاشح وحسود «1» أذبّ وأرمي بالعصا من ورائهم ... وابدأ بالحسنى لهم وأعود وقال سالم بن وابصة: ونيرب من موالي السّوء ذي حسب ... يقتات لحمي وما تشفيه من قرم «2» داويت صدرا طويلا غمره حقدا ... منه وقلّمت أظفارا بلا جلم «3» وقال محمد بن عبد الأزدي: ولا أدع ابن العم يمشي على شفا ... وإن بلغتني من أذاه الجنادع «4» والأبيات كلها. قال الموسوي: لويت إلى ودّ العشيرة جانبي ... على عظم داء بيننا وتفاقم وقلّمت أظفاري وكنت أعدّها ... لتمزيق قربى بيننا ومحارم وأوطأت أقوال الوشاة أخامصي ... وقد كان سمعي مدرجا للنّمائم «5» تأسّف من جنى عليه أقاربه فلم يكنه الانتصاف منهم قال المتلمّس: فلو غير أخوالي أرادوا نقيصتي ... جعلت لهم فوق العرانين ميسما وما كنت إلا مثل قاطع كفّه ... بكفّ له أخرى فأصبح أجذما يداه أصابت هذه حتف هذه ... فلم تجد الأخرى عليه مقدما فاطرق إطراق الشّجاع ولو يرى ... مساغا لنابيه الشجاع ليمّما «6» وقال ذو الأصبع: لولا أواصر قربى لست تحفظها ... ورهبة الله في من لا يعاديني إذا بريتك بريا لا انجياب له ... إنّي رأيتك لا تنفكّ تبريني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 من جازى أقاربه بذنوبهم فتأسّف لذلك قال العديل العجلي: ظللت أساقي الهمّ إخوتي الألى ... أبوهم أبي عند المزاح وفي الجدّ كفى حزنا أن لا أزال أرى القنا ... يمجّ نجيعا من ذراعي ومن عضدي «1» وإني وإن عاديتهم وجفوتهم ... لتألم ممّا عضّ أكبادهم كبدي وقال قيس بن زهير: فإن أك قد برّدت بهم غليلي ... فلم أقطع بهم إلّا بناني «2» وقال آخر: فإن تك حين تبلغهم بجرم ... وإن ظلموا لمحترق الضمير الحثّ على معاقبة من يعادي من الأقارب قال أوس بن حبنا التميمي: إذا المرء أولاك الهوان فأوله ... هوانا وإن كانت قريبا أواصره «3» وقال غيره: إذا مولاك كان عليك عونا ... أتاك القوم بالعجب العجيب فلا تخنع إليه ولا تردّه ... ورام بنفسه عرض الجنوب فما لك كالقلى في غير جدّ ... إذا ولّى صديقك من طبيب من تبجّح بمعاداة ذويه قال أرطاة بن سهية: ونحن بنو عمّ على ذات بيننا ... ذراني فينا بغضة وتنافس ونحن كصدع العسّ إن يعط شاعبا ... يدعه وفيه عيبه متشاخس «4» وتمثل يزيد بن معاوية لما بلغه قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما بقول الفضل بن العباس بن عتبة: مهلا بني عمّنا مهلا موالينا ... لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا (الأبيات) وهي في الحماسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 ذمّ من يتطاول على ذويه في الرّخاء ويضرع لهم في اللأواء «1» قال علمس بن عقيل: فأما إذا عضّت بك الحرب عضّة ... فإنّك معطوف عليك رحيم وأما إذا آنست أمنا ورخوة ... فإنّك للقربى ألدّ خصوم «2» وقال شاعر: إذا أخصبتم كنتم عدوّا ... وإن أجدبتم كنتم عيالا «3» الشاكي ظلم مولاه وحده قال شاعر: إذا ما ابتنى المجد ابن عمّك لم تعن ... وقلت ألا يا ليت بنيانه هوى تملّا من غيظ عليّ فلم يزل ... به الغيظ حتّى كاد في الغيظ ينشوى وقال عبد الله بن طاهر: أخي مالك لا تنفكّ عن ترتي ... كأن أعضاءنا لم تغذ من جسد ذمّ عشيرة بدّد الجهل شملهم وقال أبو يعقوب الجريمي: كانوا بني أم ففرّق شملهم ... عدم العقول وخفّة الأحلام وقال علاق بن مروان: وكانت بنو ذبيان عزّا وإخوة ... فطرتم وطاروا يضربون الجماجما وجوب تعظيم الأخ الأكبر حضر عند النبي صلّى الله عليه وسلم أخوة، فتكلم أصغرهم فقال عليه السلام: كبروا كبروا. وقيل لحكيم معه أخ أكبر منه، أهذا أخوك، فقال: بل أنا أخوه. وكان بين الحسن والحسين رضى الله عنهما كلام فقيل للحسين ادخل على أخيك فهو أكبر منك، فقال: إني سمعت جدي صلّى الله عليه وسلم يقول أيما اثنين جرى بينهما كلام فطلب أحدهما رضا الآخر كان سابقه إلى الجنة، وأنا أكره أن أسبق أخي الأكبر فبلغ قوله أخاه فأتاه عاجلا وأرضاه. وصف أخوين مختلفين في الكيس والبلّة من الأخوين اللذين كانا لأب وأم وتفاوتا في العقل جدا علي وعقيل ابنا أبي طالب، أمهما فاطمة الأسدية. ومعاوية وعتبة ابنا أبي سفيان، أمهما هند بنت عتبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 وصف أخوين وضيع ورفيع قال الأصمعي: لم يقل أحد في تفضيل أخ على أخ وهما لأب وأم مثل قول ابن المعتز لأخيه صخر: أبوك أبي وأنت أخي ولكن ... تفاضلت المناكب والرؤوس «1» وقال ابن أبي عيينة: داود محمود وأنت مذمّم ... عجبا لذاك وأنتما من عود فلربّ عود قد يشقّ لمسجد ... نصف وسائره لحشّ يهود «2» وقال الموسوي: تفرّد بالعلياء عن أهل بيته ... وكلّ يهدّيه إلى المجد والد وتختلف الأثمار في شجراتها ... إذا شرقت بالماء والماء واحد وقال السيد الحميري: فإن قلتم أبونا عبد شمس ... فإن الزنج من أولاد نوح هما عرقان من أصل جميعا ... ولكن ليس نبع مثل شيح «3» وقال أبو العواذل: عليّ وعبد الله ينميهما أب ... وشتّان ما بين الطبائع والفعل ألم تر عبد الله يلحى على النّدى ... عليّا ويلحاه عليّ على البخل «4» وقال رجل لأخيه لأهجونّك، فقال: كيف تهجوني وأنا أخوك لأبيك وأمك. فقال: غلام أتاه اللؤم من شطر نفسه ... ولم يأته من شطر أم ولا أب عذر من صارم أخاه وباعده وجفاه كتب الفضل بن سهل إلى المأمون أما بعد فإن المخلوع وإن كان قسيم أمير المؤمنين في النسب واللحمة فقد فرق كتاب الله بينهما، فيما اقتص علينا من نبأ نوح، قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح. فلا صلة لأحد في معصية الله ولا قطيعة ما كانت القطيعة في ذات الله والسلام وقيل لأعرابي لم تقطع أخاك شقيقك، فقال: أنا أقطع الفاسد من جسدي الذي هو أقرب إليّ منه فكيف لا أقطعه إذا فسد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 وصف أخوة متفاوتة في الخلقة قال مخنث لأبي عباد وكان قبيحا ومعه أخ صبيح: ما أمّك إلا شجرة البلوط تحمل سنة بلوطا وسنة عفصا، أخذه ابن طباطبا فقال: أمّ أبي عيسى وإسحاق غدت مرتهنه ... بصورة قبيحه جدا وأخرى حسنه متى تسل عن قصة إبنيها تقل يا ابن هنه ... أنا التي تشبهها البلوطة الممتحنه تحمل بلّوطا سنة ... وتحمل العفص سنه لقد أتت بحجّة ... لله درّ الفطنه وقال آخر: أما رأيت بني بدر وقد حفلوا ... كأنّهم خبز بقال وكتّاب هذا طويل وهذا حنبل جحد ... يمشون خلف عمير صاحب الباب «1» ما يجب أن يكون عليه فضلاء الأقارب قال عبد الملك لغيلان: أخبرني عن أفضل البنين، فقال: السار البار المأمون منه العار. قال: فأفضل البنات، قال: المتعجلة إلى القبر المفيدة أباها سنا الأجر. قال: فأفضل الإخوان، قال: الشديد العضد الكريم المشهد الذي إذا شهد سرّك وإذا غاب برّك. قال: فأفضل الأخوات، قال: التي لا تفضح أخاها ولا تكسو عارا أباها. فقال عبد الملك: لله أم درّت عليك. فضيلة الخؤولة وكونها كالأبوة يروى أن الأسود ابن وهب خال رسول الله صلّى الله عليه وسلم استأذن عليه فبسط له رداءه، فقال الأسود: حسبي أن أجلس على ما أنت عليه، فقال صلّى الله عليه وسلم: اجلس فإن الخال والد، فأجلسه عليه. وقال عمر رضي الله عنه: لئن بقيت لأسوّينّ بين طرفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى إذا قيل: بنو هاشم قيل: بنو زهرة، فإن الله اختارهم له من قبل أمه كما اختار بني هاشم من قبل أبيه. وقال الحجّاج لابن معمر: إنك تزعم أن الحسن والحسين رضي الله عنهما ابنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: نعم، قال: والله لأقتلنك. فقال ابن معمر: أليس الله يقول ومن ذريته داود وسليمان إلى قوله وزكريا ويحيى وعيسى وإنما عيسى ابن مريم ابن بنت، فقال: نجوت. ذمّ الخؤولة وإنّها ليست بنسب قال حسّان بن وعلة: إذا كنت في سعد وأمّك منهم ... غريبا فلا يغزرك خالك من سعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 فإنّ ابن أخت القوم مصغ إناءه ... إذا لم تزاحم خاله بأب جلد «1» وتقدم شاب إلى عبد الله بن الحسين فقال: إن جدّي أوصى بثلث ماله لو لد ولده وأنا من ولد بنته والوصي ليس يعطيني منه، فقال: لا حق لك فيه، أما سمعت قول الشاعر: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهنّ أبناء الرّجال الأباعد المدّعي قرابة بعيدة قال رجل لآخر: لست ترعى حقى وبيننا قرابة فقال من أين؟ قال: إن أباك كان قد خطب أمي فلو تم الأمر لكنت أنا أنت، فقال هذه والله رحم ماسة. وتعرض رجل لهشام وادعى أنه أخوه، فسأله من أين ذلك؟ قال من الأم فأمر بأن يعطى درهما، فقال: لا يعطى مثلك درهما، فقال: لو قسمت ما في بيت المال على القرابة التي ادعيتها لم ينلك إلا دون ذلك. وقال ابن مقرع في زياد: وأشهد أن آلك في قريش ... كآل السقب من ولد الحمار وفي شعر آخر: كآل السقب من آل النّعام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 الحدّ السادس في الشكر والمدح والحمد والذم والاغتياب والأدعية والتهنئة والهدية والمرض (1) فمما جاء في الشكر حقيقة الشّكر قيل: الشكر ثلاثة: شكر لمن فوقك بالطاعة قال الله تعالى: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً «1» ، ولمن فوقك بالإفضال قال الله تعالى: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ «2» ، ولنظيرك بالمكافأة «3» قال الله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها «4» . وقيل: الشكر ثلاث منازل، ضمير القلب وثناء اللسان والمكافأة بالفعل. وقال عمر بن عبد العزيز: ذكر النعم شكر. إيجاب الشكر قال النبي صلّى الله عليه وسلم: من كان عليه يد فليكافأ عليها فإن لم يفعل فليثنين عليه فإن لم يفعل فقد كفر النعمة. وقيل: إذا قصرت يدك بالمكافأة فليطل لسانك بالشكر. قال شاعر: أعليّ لوم إن مدحت معاشرا ... خطبوا إلى المدح بالأموال «5» يتزحزحون إذا رأوني مقبلا ... عن كلّ متكامن الإجلال ذمّ الكفران خطب نصر بن سيار فقال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم من أنعم على قوم فلم يشكروه فدعا الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 عليهم استجيب له فيهم، اللهم إني قد أحسنت إلى آل سام فلم يشكروه اللهم فاذقهم حر الحديد فما دار عليهم الحول حتى قتلوا جميعا. وقال الله تعالى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ «1» إذا قلّ الشكر حسن المن. روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال لعن الله قاطعي سبل المعروف فقيل: من هم؟ قال: من أزهد في المعروف لكفران النعمة. الحثّ على استزادة النّعمة وارتباطها بالشكر قال الله تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ «2» وقال عمر رضي الله عنه: أهل الشكر في مزيد من الله تعالى لهذه الآية، قيل: لا زوال للنعمة إذا شكرت ولا بقاء لها إذا كفرت. الشكر نسيم النعم، النعمة وحشية فاشكلوها بالشكر. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: أوطد الناس نعمة أشدهم شكرا، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: أشكر لمن أنعم عليك وأنعم على من شكرك فإنه لا زوال للنعمة إذا شكرت ولا بقاء لها إذا كفرت وإذا كانت النعمة وسيمة فاجعل الشكر لها تميمة. وقال ابن المقفع: استوثقوا عز النعم بالشكر. وقيل: النعم إذا شكرت قرت وإذا كفرت فرت. قال ابن سقلاب: رأيت البحتري فقلت ما خبرك فأنشد بديهة: يزيد تفضّلا وأزيد شكرا ... وذلك دأبه أبدا ودأبي الحثّ عن الإسداء إلى من لا يشكر قال عمرو بن مسعدة قيل: لا تصحب من يكون استمتاعه بمالك وجاهك أكثر من امتاعه لك بشكر لسانه وفوائد عمله. وقيل: اصنع المعروف إلى من يشكره ويذكره واطلبه ممن ينساه. من تكفّل لمسترفده بشكره قال دعبل: لأشكرنّ لنوح فضل نعمته ... شكرا تصادر عنه ألسن العرب وقال البحتري: فإن أنا لم أشكرك نعماك جاهدا ... فلا نلت نعمى بعدها توجب الشّكرا وقال عمارة بن عقيل: فلأشكرنّك بالذي أوليتني ... ما بلّ ريقي للكلام لساني وقال أبو تمّام: لئن جحدتك ما أوليت من حسن ... إنّي لفي اللؤم أحظى منك في الكرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 ولبعض المتأخرين: لأملأنّ لسان الشّكر فيك فقد ... أطلقته بفعال ملؤه كرم من لم يردعه خوفه عن شكر المحسن إليه بعث المنصور إلى شيخ من بطانة هشام فاستحضره وسأله عن تدبير هشام وأحواله، فأقبل الشيخ يقول: فعل رحمه الله، وقال: يوم كذا رحمه الله، فقال المنصور قبّحك الله أتطأ بساطى وتترحّم على عدوّي، فقال الشيخ: إن نعمة عدوك لقلادة في عنقي لا ينزعها إلّا غاسلي، فقال المنصور: ارجع إلى حديثك فإني أشهد أنك غرس شريف وابن حرة. ولما قتل مسلمة بن عبد الملك يزيد بن المهلب أمر بأن يحضر الشعراء ليقولوا في ذلك، فلم يألوا أن ذكروه بأقبح ما قدروا عليه ما خلا رجلا من بني دامر فإنه قال: لا أذم رجلا لا أملك ربعا ولا مالا ولا أثاثا إلا منه ولو قطعت إربا إربا، ولقد رثيته بأحسن ما يرثى به رجل، فأنشد أبياتا رائعة فجزاه سليمان خيرا، وقال: إذا اصطنع فليصطنع مثل هذا. المظهر عجزه عن شكر المنعم عليه قال أبو الوفاء: أيادي لا أستطيع كنه صفاتها ... ولو أن أعضائي جميعا تكلّم وقال بعضهم: شكري لا يقع من نعمه المتظاهره ... موقع النقطة من الدائره وقال شاعر: ولو أنّ لي في كلّ منبت شعرة ... لسانا يبثّ الشكر فيك لقصّرا وقال آخر: وأسكتتي نعمى كأنّي مفحم ... ولم أر مثلي مفحما وهو مقول «1» وقال آخر: أيادي منهم ليس يبلغها الشّكر وقال الغسّاني: أثقلت بالشّكر كلّ عاف ... فراقب الله في الرّقاب «2» وقال آخر: ما زلت تحسن ثمّ تحسن عائدا ... وأعود شاكر نعمة فتعود فتزيدني نعما وأشكر جاهدا ... فكذاك نحن تزيدني وأزيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 وقال آخر: فإن يك أربى عفو شكرك عن يدي ... أناس فقد أربى نداه على شكري «1» المستنكف آلاء معطيه عجزا عن شكره وقال المتنبّي: ولم نملل تفقدك الموالي ... ولم نذمم أياديك الجساما ولكن الغيوث إذا توالت ... بأرض مسافر كره الغماما وقال محمد بن أبي عمران: رويدك لا تعنف عليّ واعفني ... على حسب أقضي ما أطيق من الشكر وقد أجاد أبو نواس في هذا المعنى: أنت امرؤ جلّلتني نعما ... أوهت قوى شكري فقد ضعفا لا تسدينّ إليّ عارفة ... حتّى أقوم بشكر ما سلفا «2» وقد أبدع البحتري في هذا المعنى، حيث يقول: أخجلتني بندى يدي وسوّدت ... ما بيننا تلك اليد البيضاء وقطعتني بالجود حتّى إنّنّي ... متخوّف أن لا يكون لقاء وله أيضا: أيها أبا الفضل شكري منك في نصب ... أقصّر فمالي في جدواك من أرب «3» لا أقبل الدّهر نيلا لا يقوم له ... شكري ولو كان مسديه إلى أبي وقال العثماني في الصاحب: وفدنا لنشكر كافي الكفاة ... ونسأله الكفّ عن برّنا «4» فقال العلوي قد كفيت فإن الصاحب صار لا يعطي شيئا. من لا يخفي أياديه أياد تتضوع ونعم تسطع وآلاء تتطلع. قال الشمردلي: أياديك لا تخفى مواقع صوبها ... فتعفو إذا ما ضيّع الحمد والشكر وهل تستطيع الأرض من بعد ما انطوت ... على ريّها إنكار ما فعل القطر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 وقال نصيب: فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب «1» وقال آخر: هب الروض لا يثني على الغيث نشره ... أمنظره تخفى مآثره الحسنا وقال أبو الحسين الحسني: وكيف بكفراني صنائعه التي ... إذا جحدت يوما أقرّ بها جلدي ذكر الحال بأنّها منبئة عن المقال في المثل: لسان الحال أفصح من لسان الشكر. وقال الجاحظ: نحن نزخرف باللسان والناس يقضون بالعيان وفي أمرنا أثر ينطق عنا ويتكلم إذا سكتنا. وقال الموسوي: وإذا سكتّ فإنّ أنطق من فمي ... عنّي يد المعروف والإحسان المسلف شكره قبل النّعم وقال محمد بن عمران: شكرتك قبل الخير أن كنت واثقا ... بأني بعد الخير لا شكّ شاكر عتبك من شكرته ولما يستوجب وقال مسلم: فما من يد قدمتها كنت مثنيا ... عليك ولكنّي هززتك للمجد وإن شئت ألقيت التفاضل بيننا ... وقلنا جميلا واقتصرنا على الحمد وقال آخر: وشكر الفتى من غير عرف ولا يد ... ولا منّة توليه هزة عاتب «2» وقال الصاحب: وإذا الصديق أدام شكري للّتي ... لم آتها إلّا على التّقدير أيقنت أن العتب باطن أمره ... فسكّت محتشما على التقصير وقال آخر: إذا ما المدح صار بلا ثواب ... من الممدوح كان هو الهجاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 وقال دعبل: لا يقبلون الشكر ما لم ينعموا ... نعما يكون لها الثناء تبيعا وقيل: من رضي بالثناء قبل الاستحقاق تبين ضعف عقله. الحثّ على الشكر بقدر الاستحقاق قال أمير المؤمنين رضي الله عنه الثناء من غير الاستحقاق ملق «1» والتقصير عن الاستحقاق عيّ وحسد. وقال رجل لابن الأعرابي: إن نصيبا يقول إنما تمدح الرجال على قد ثوابها، فقال: إن العرب تقول: على قدر ريحكم تمطرون. شكر من همّ بإحسان وإن لم يفعله من لم يشكر على حسن النية على إسداء العطية، وكتب الصاحب: إن شكرت فاشكر النية لا العطية، قال شاعر: لأشكرنّك معروفا هممت به ... إن اهتمامك بالمعروف معروف ولا أذمّك إن لم يمضه قدر ... فالشيء بالقدر المحتوم مصروف ثقل الحمد وتفضيله على الرفد قال محمود: فما بلغت أيدي المنيلين بسطة ... من الطول إلا بسطة الشكر أطول ولا رجحت في الوزن يوما صنيعة ... على المرء إلا منّة الشكر أثقل وقال آخر: تبهج لي بعرف تشتريه ... بشكرك أنه بالشكر غال وقال أبو تمّام: والحمد شهد لا ترى مشتاره ... يجنيه إلا من نقيع الحنظل «2» غل لحامله ويحسبه الذي ... لم يوه عاتقه خفيف المحمل «3» ومن باب ثقل الشكر ما روى عن بعض الصالحين، وقد قيل له: مالك لا تطلب الدنيا، فقال: من خاف السؤال عن الشكر طابت نفسه عن المال. المستغني عن رفد من استغنى عن الشّكر قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: لئن طبت نفسا عن ثنائي إنني ... لأطيب نفسا عن نداك على عسري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 وقال أبو العتاهية: ما فاتني خير امرىء وضعت ... عنّي يداه مؤونة الشّكر ذمّ من كفر نعمة قال الله تعالى: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ «1» وقال: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «2» وقيل: من لم يشكر الناس لم يشكره الله، وأخذه البحتري فقال: فمن لا يؤدي شكر نعمة خلّه ... فأنّى يؤدي شكر نعمة ربّه وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة قال لعبد هل شكرت فلانا فيقول: يا رب علمت أنك المنعم فشكرتك، فيقول الله تعالى: لم تشكرني إذا لم تشكر من أجريت ذلك على يده. وقيل: إذا وقع الكفر وجب المن. وقال الخبزارزي: من لم يلاق كرامات الرجال له ... بالشكر أصبح في طرق الهوان لقى «3» وقال أبو تمّام: شر الأوائل والأواخر ذمّة ... لم تصطنع وصنيعة لم تشكر وقيل: هو أكثر من ناشرة، وكان قد أخذه همام بن مرة من أمه وأرادت أن تئده فلما بلغ سعى في قتل همام، وقيل: من لم يحمد صاحبه على حسن العطية كيف يحمد على حسن النية. (2) ومما جاء في المدح ومستحقيه والهجو وذويه وصف الثناء بالبقاء والترغيب فيه فسر قول الله تعالى: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ «4» بأنه الثناء الحسن، وقال تعالى: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ «5» أي يقال له هذا أطول الناس عمرا أعمهم بالخير ذكرا، في الثناء الباقي على الدهر خلف من نفاد العمر. وقال الأسدي: وإنّي أحب الخلد لو أستطيعه ... وكالخلد عندي أن أبيت ولم ألم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 وقال آخر: وبقاء الذكر في الأحياء للأموات عمر وقال الروم: ما فني من بقي ذكره. وقيل لبزرجمهر حين كان يقتل: تكلم بكلام نذكره، فقال: الكلام كثير ولكن إن أمكنك أن تكون حديثا حسنا فافعل. قال شاعر في معناه: وكن أحدوثة حسنت فإني ... رأيت الناس كلّهم حديثا وقال آخر: أرى النّاس أحدوثة ... فكوني حديثا حسن ولما جعل ابن الزيات في التنور، قال له خادمه: يا سيدي قد صرت إلى ما صرت وليس لك حامد. قال: وما نفع البرامكة صنيعهم. قال: ذكرك لهم الساعة. فقال: صدقت وقال: حب الثناء طبيعة الإنسان التحذير من ألسنة الشعراء وذمّهم قيل: اتقوا ألسنة الشعراء فإنها سمة لائحة، وأنشد: وللشعراء ألسنة حداد ... على العورات موفية دليله إذا وضعت مكاويهم عليها ... وإن كذبوا فليس لهن حيله ومن عقل الفتى أن يتقيهم ... ويدفعهم مدافعة جميلة فضل الشكر على الوفر والحمد على الرّفد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابنة هرم: ما وهب أبوك لزهير فقالت أموالا فنيت وأثوابا بليت وأشياء انتسيت، فقال عمر رضي الله عنه: لكن ما أعطاكموه زهير لا يفنى ولا ينسى وكتب أرسطوطاليس إلى الإسكندر أن كل عقيلة يأتي عليه الدهر فيخلق أثره ويميت ذكره إلا ما رسخ في القلوب من الذكر الحسن يتوارثه الأعقاب. التخويف من فعل يورث قبح الذكر قال بعضهم: فلان حافظ من اليوم أعقاب الأحاديث في غد. قال عوف بن محلم: فتى يتّقي أن يخدش الذمّ عرضه ... ولا يتّقي حد السيوف البواتر وقال أبو لحاد: حذار الأحاديث التي يوم غيّها ... عقدن بأعناق الرجال المخازيا «1» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 حثّ محبّ الحمد على أسداء النعم قال حكيم: من أحب الثناء فليصبر على بذل العطاء وليوطن نفسه على الحقوق المرة على احتمال المؤونة. وقال شاعر: ما أعلم النّاس أن الجود مكسبة ... للحمد لكنّه يأتي على النّشب «1» وقال: أي أحدوثة تحب فكنها فضل استقبال الإنسان بممادحه خياركم من ملئت مسامعه من حسن الثناء وهو يسمع وشراركم من ملئت مسامعه من قبح الثناء وهو يحذر. وقال خالد بن سالم دخلت عليّ أسامة بن زيد فأثنى عليّ ثناء حسنا، ثم قال لي: إنما حملني على أن أمدحك وجهك لأني سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: إذا مدح الإنسان في وجهه ربا الإيمان في قلبه، وقال رجل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: إني أحب أن أمدح، فقال: وما عليك أن تعيش حميدا وتموت فقيدا. وروي عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: ما أحد أحب إليه المدح من الله عزّ وجلّ فقد مدح نفسه وأمر العباد بمدحه. كراهية ذلك سمع النبي صلّى الله عليه وسلم رجلا يثني على آخر فقال: قطعت مطاه «2» لو سمع ما أفلح. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: المدح ذبح. وقيل إن الإطراء يدعو إلى الغفلة. ولما جرح عمر رضي الله تعالى عنه أثنى عليه الناس، فقال: المغرور من غررتموه لو أن لي ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من هول المطلع. وقيل: استحياء الكريم من المدح أكثر من استحياء اللئيم من الذم. وأثنى رجل على هشام بن عبد الملك فقال: إنا نكره المدح، فقال: لست أمدحك ولكني أحمد الله فيك. استحسان المدح بين الإخوان واستقباحه قيل: إذا قدم الإخاء سمج الثناء. قال كشاجم: ومستهجن مدحي له إن تأكدت ... لنا عقد الإخلاص والحقّ يمدح وما بي الذي في القلب إلا تبيّنا ... وكلّ إناء بالذي فيه يرشح «3» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 التحذير ممّن يمدحك في وجهك تصنّعا قيل: أعوذ بالله من صديق يطري وجليس يغري. وكان رجل يكثر الثناء على أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه، وعلم من قلبه خلاف قوله، فقال له: أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك. قال الجاحظ: شر الشكر ثناء المواجه لك المسرف في مدحك وخيره ثناء الغائب عنك المقتصد في وصفك. وصف العتابي رجلا بالمداهنة، فقال: ذلك إن وجد مادحا مدح وإن وجد قادحا قدح وإن استودع سرا افتضح. قال أبو فراس: ولا تقبلنّ القول من كل قائل ... سأرضيك مرأى لست أرضيك مسمعا التحذير ممّن يتجاوز الحدّ في مدحك قيل: كن ممن أفرط في تزكيتك أحذر ممن أفرط في الزراية بك. وقيل: من مدح الرجل بما ليس فيه فقد بالغ في ذمه. وفي المثل: من حفنا أو رفنا فليقتصد. وقيل: من أحب أن يمدح بما ليس فيه استهدف للسخرية. من وضع نفسه وكره الثناء لما ولي أبو بكر رضي الله عنه خطب فقال: إني وليتكم ولست بخيركم فلما بلغ الحسن قوله قال: بلى ولكن المؤمن يهضم نفسه. وقال الفضيل: لو شممتم رائحة الذنوب مني ما قربتموني، وأثنى على زاهد فقال: لو عرفت مني ما عرفت من نفسي لأبغضتني. قال المتنبيّ: يحدّث عن فضله مكرها ... كأنّ له منه قلبا حسودا «1» ما يقول الفاضل عند مدح الناس له كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يقول إذا مدح: اللهم أنت أعلم مني بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيرا مما يحسبون واغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون. وقيل لأعرابي: ما أحسن الثناء عليك، فقال: بلاء الله عندي أحسن من وصف المادحين وإن أحسنوا وذنوبي إلى الله أكثر من عيب الذامين وإن أكثروا. النهي عن المدح قبل الاختبار قيل: لا تهرف قبل أن تعرف. وقيل: لا تحمدنّ أمة عام شرائها ولا حرة قبل بنائها. وقال رجل لعمر رضي الله عنه: إن فلانا رجل صدق فقال: هل سافرت معه أو ائتمنته، قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 لا. فقال: إذا لا تمدحه فلا علم لك به لعلك رأيته يرفع رأسه ويخفضه في المسجد «1» . عتب من يمدح نفسه قيل: خطب معاوية خطبة حسنة فقال: هل من خلل فقال رجل: من عرض الناس خلل كخلل المنخل فاستدعاه، وقال: ما ذاك الخلل فقال: إعجابك به ومدحك له. وقيل لحكيم: ما الذي لا يحسن وإن كان حقا قال مدح الرجل نفسه. وقال معاوية لرجل: من سيد قومك فقال: أنا، فقال له: لو كنت كذلك لم تقله. وسئل الشاعر الأهوازي كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت والله أظرف الناس وأشعر الناس وآدب الناس، فقال السائل: اسكت حتى يقول الناس ذلك، فقال: أنا منذ ثلاثين سنة انتظر الناس وليسوا يقولون ومدح أعرابي نفسه فعوتب في ذلك، فقال: أكله إليكم إذا لا تقولون أبدا. الرخصة في ذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلم: أنا سيد العرب ولا فخر. وحكى الله تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام أنه قال: إني حفيظ عليم ولم يستقبح ذلك من الشعراء، إذ قالوه نظما. عذر من يحوج إلى مدح نفسه ومن عرّض بذلك قد أحسن ابن الرومي في ذلك حيث يقول: وعزيز عليّ مدحي لنفسي ... غير أني جشّمته للدّلاله «2» وهو عيب يكاد يسقط فيه ... كلّ حرّ يريد يظهر حاله ووصف للمنصور مشير بن ذكوان فأمر بإشخاصه إليه، فلما دخل قال له: أعالم أنت؟ فقال: أكره أن أقول نعم وفيه ما فيه أو أقول لا فأكون جاهلا، فأعجب المنصور بجوابه وألزمه المهدي. وسأل المأمون عبد الله بن طاهر عن ابنه، فقال ابني: إن مدحته ذممته وإن ذممته ظلمته إلا أنه نعم الخلف لسيده من عبده إذا اخترمته منيته. من عجز الشعراء عن استيعاب مدحه قال المالكي: جهدت ولم أبلغ مداك بمدحة ... وليس مع التقصير عندي سوى العذر وفي شعر آخر: وليس على من كان مجتهدا عتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 وقال آخر: يزيد على شأوي زياد وجرول ... وقد غودر ابن العبد في نظمه عبدي وقال أشجع: مدحناهمّ فلم ندرك بمدح ... مآثرهم ولم نترك مقالا وقال المتنبيّ: وقد وجدت مكان القول ذا سعة ... فإن وجدت لسانا قائلا فقل «1» وقال ابن الحجّاج: هو البحر إن حدثت عن معجزاته ... ضعفت عن استغراق تلك العجائب وإن رام شعري بأن يحيط بوصفه ... أحاط بشعري العجز من كلّ جانب من كثرت ممادحه سهل الشعر على مادحه قيل للفرزدق: أحسن الكميت في الهاشميات، فقال: وجد آجرا وجصّا فبنى. كتب بعضهم: فتحت شيمه على المداح مستغلقات الكلام. وقال آخر: جود آل المهلب تراهم أهدافا للمديح. قال أحمد بن أبي طاهر: إذا نحن حكنا الشعر فيك تسهّلت ... علينا معانيه وذلّت صعابها فما انتظمت إلا عليك عقودها ... وما انتشرت إلا عليك ثيابها وقال ابن الرومي: كرمتم فجاش المفحمون لمدحكم ... إذا رجزوا فيكم أبيتم فقصّدوا «2» كما أزهرت جنّات عدن وأثمرت ... فأضحت وعجم الطير فيها تغرّد وله: عجبت لمن يهديه للشعر مدحكم ... وتنطقه أيامكم وهو مفحم وقال نصيب الأصغر: ما لقينا من جود فضل بن يحيى ... ترك النّاس كلّهم شعراء فأجمعوا على جودته، وأنه لا عيب فيه إلا أنه منفرد. ولعابدة المهلبيّة: فيا يوما أديل الموت فيه ... وقال السّيف للشعراء قولوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 من أحيا بأفضاله طريقة الشعر. قال أبو تمّام: ملك إذا ما الشعر حار ببلدة ... كان الطريق لطرفه المتحيّر «1» وله: وحياة القريض إحياؤك الجو ... د فان مات الجود مات القريض وقال المتنبّي: يا أيها المحسن المشكور من جهتي ... والشكر من قبل الإحسان لا قبلي وقالت عابدة المهلبية: إليّ إليّ أيتها القوافي ... سيغلي مهرك الملك الجليل ويروى للخوارزمي: خذي ثأر الكساد من اللّيالي ... لكل صناعة يوما مديل «2» وقيل لذي الرمّة: لم خصصت بلالا بمدحك؟ قال: لأنه وطأ مضجعي وأكرم مجلسي فاستولى بذلك على شكري ومدحي. المستفاد منه ما يمدح به قال أحمد بن إسماعيل: وإني وإن أحسنت في القول مرة ... فمنك ومن إحسانك امتارها جسمي «3» وقال آخر: تعلّمت ممّا قلته وفعلته ... فأهديت حلوا من جناي لغارس وقال ابن طباطبا: لا تنكرنّ إهداءنا لك منطقا ... منك استفدنا حسنه ونظامه والله عزّ وجلّ يشكر فعل من ... يتلو عليه وحيه وكلامه وقال آخر: إن جدّ معنى فمن جدواه معتصر ... أو جلّ لفظا فمن علياه مهتصر «4» المعني بكلّ مدح حسن متى ما أقل في آخر الدهر مدحة ... فما هي إلا في ليالي المكرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 قال المتنبيّ: فظنّوني مدحتهم كثيرا ... وأنت بما مدحتهم مرادي من يليق به مدحه قال المتنبّي: وأصبح شعري منهما في مكانه ... وفي عنق الحسناء يستحسن العقد وقال ابن الرومي: خذها هديا ولم أنكحكها عزبا ... يا ابن الوزير وكم أنكحت من عزب وقال عليّ بن عبد العزيز: وأرى المديح إذا عداك نقيصة ... فأعافه ولو أنّه في حاتم «1» فإذا امتدحت سواك قال الشعر لي ... لم ترع حقّي إذ أبحت محارمي من يستطاب مدحه قال أبو تمّام: عذبت ممادحه بأفواه الورى ... فثناؤه ينتاب كلّ مكان «2» وقال المتنبّي: ألذّ من الصّهباء بالماء ذكره ... وأحسن من يسر تلقاه معدم المجمع على مدحه ذكر أعرابي رجلا فقال: كأن الألسن والقلوب ريضت له فما تعقد إلا على ودّه ولا تنطق إلّا بحمده. وقيل: غاية المدح أن يمدحك من لا معرفة له بك ضرورة إلى مدحك، وأن يسلفك حسن الثناء من عسى أن لا يصل منك إلى نفع. وقال البحتري: وأرى الخلق مجمعين على فضلك ... من بين سيّد ومسود عرف الجاهلون فضلك با ... لعلم وقال الجهال بالتقليد وقال ابن أبي طاهر: وما أنا في شكري عليّا بواحد ... ولكنّه في الفضل والجود واحد من لا يجد أحد عن مدحه محيصا قال أبو عمر: وغاية المدح أن يمدحك من لا يريد مدحك وغاية الذم أن يذمك من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 لا يريد ذمك، وكتب بعضهم: الجاحد فضلك كمن سمى النهار ليلا والشمس ظلا. قال ابن الرومي: يا من إذا قلت فيه صالحة ... عند عدو أقرّ واعترفا وقال آخر: ليس يستطيع أن يقول المعادي ... فيك إلا الذي يقول الموالي وقال السلامي: فما عثرت لكم تهم الأعادي ... على خلق ولا خلق قبيح من مدحه صدق غير منحول قال الأحوص: وما أثني من خير عليك فإنّه ... هو الحق معروفا كما عرف الفجر وقال ابن الرومي: إذا امتدحوا لم ينحلوا مجد غيرهم ... وهل ينحل الأطواق ورق الحمائم «1» وكتب بعضهم: مما يبسط لسان مادحك أمنه من تحمل الإثم فيه وتكذيب السامعين. من يتزيّن بممادحه المدح والمدّاح قال ابن الرومي: أنت زنت القلائد الزّهر قدما ... ضعف ما زانت القلائد جيدك وقال الرفاء: إذا القوافي بذكره اشتملت ... عطّرها ذكره وحلّاها وقال آخر: وتزينت بصفاته المدح وقال آخر: على تطيب بريّاها مدائحنا ... كالمسك تأخذ منه الريح أعرافا «2» المستغني عن المدح لكثرة فضله كتب بعضهم: إذا أنا تعاطيت مدحك فكالمخبر عن ضوء النهار الباهر والقمر الزاهر وهل يخفى ذلك على الناظر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 قال البحتري: جلّ عن مذهب المديح فقد ... كاد يكون المديح فيه هجاء «1» وقال المتنبّي: تجاوز قدر المدح حتّى كأنّه ... بأكثر ما يثنى عليه يعاب من ذكر أن أحدا لا يستغني عن الشّكر وقال شاعر: فلو كان يستغني عن الشكر ماجد ... لعزّة ملك وارتفاع مكان لما أمر الله العباد بشكره ... فقال اشكروا لي أيّها الثقلان «2» مدحك محسنا لم ينلك إحسانه قال أبو تمّام: وحسبي أن أطري الحسام إذا مضى ... وإن كان يوم الروع غيري حامله «3» وقال عمارة بن عقيل: أرى الناس طرّا حامدين لخالد ... وما كلّهم أفضت إليه صنائعه ولن يترك الأقوام أن يحمدوا الفتى ... إذا كرمت أعراقه وطبائعه المعتذر إلى رئيس لمدحه غيره كان ابن الزيات عاتب أبا تمام في مدحه سواه فاعتذر إليه بقوله: أما القوافي فقد عضلت عذرتها ... فما يصاب دم منها ولا سلب «4» ولو منعت من الأكفاء أيّمها ... ولم يكن لك في إظهارها أرب «5» كانت بنات نصيب حين ضنّ بها ... عن العوالي ولم تحفل بها العرب «6» وقال بعض الأكابر لأبي هفان مالك لا تمدحني، فقال: لسان الشكر تنطقه العطايا ... ويخرس عند منقطع النوال «7» تبكيت من يذمّ من لا يستحق الذم قام رجل في أيام صفّين إلى معاوية رضي الله عنه، فقال: اصطنعني فقد قصدتك من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 عند أجبن الناس وأبخلهم وألكنهم، فقال: من الذي تعنيه؟ قال: علي بن أبي طالب. فقال: كذبت يا فاجر. أما الجبن فلم يك قط فيه وأما البخل فلو كان له بيتان بيت من تبر وبيت من تبن لأنفق تبره قبل تبنه، وأما اللكن فما رأيت أحدا يخطب ليس محمدا صلّى الله عليه وسلم أحسن من عليّ إذا خطب. قم قبّحك الله ومحا اسمه من الديوان. وقف رجل على شيرويه فقال: الحمد لله الذي قتل أبرويز على يديك وملّكك ما كنت أحقّ به منه وأراحنا من عتوّه ونكده، فقال للحاجب: احمله إليّ. فقال له: كم كان رزقك؟ قال: ألفان، قال: والآن، قال: ما زيد شيء. قال: فما دعاك إلى الوقوع فيه وإنما ابتداء نعمتك منه ولم نزد لك. وأمر أن ينزع لسانه من قفاه. بخيل راغب في مدح بلا صلة قال الغفالي: عثمان يعلم أن المدح ذو ثمن ... لكنّه يبتغي حمدا بمجّان والناس أكيس من أن يمدحوا رجلا ... حتّى يروا عنده آثار إحسان وقال علي بن الجهم: أردت شكرا بلا برّ ومرزية ... لقد سلكت طريقا غير مسلوك وقال البحتري: خطب المديح فقلت خلّ طريقه ... ليجوز عنك فلست من أكفائه أخذه أبو تمّام حيث يقول: تزحزحي عن طريق المجد يا مضر عذر من يغتاب مسيئا قال المتوكل لأبي العيناء: إلى كم تمدح الناس وتذمهم؟ فقال: ما أحسنوا وأساؤوا، وذلك دأب الله عزّ وجلّ رضي عن عبد فمدحه. وقال: نعم العبد أنه أواب، وغضب على آخر فزناه فقال: ويلك وكيف زناه؟ قال: إنه قال في الوليد عتل بعد ذلك زنيم، والزنيم هو الداخل في القوم وليس منهم، ثم أنشد: إذا أنا بالمعروف لم أثن صادقا ... ولم أذمم الحيس اللئيم المذمّما «1» ففيم عرفت الخير والشر باسمه ... وشق لي الله المسامع والفما وقال ابن أبي عيينة: أنا ما عشت عليه ... أسوأ النّاس ثناء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 إنّ من كان مسيئا ... لحقيق أن يساء تذمّم من مدح لئيما فحرمه قال أعرابي وقد مدح رجلا فخيّبه: إن فلانا تعدّى بلؤمه من تسمى باسمه ولئن خيبني فلرب قافية قد ضاعت في طلب كرمي. ومدح بشار المهدي بشعر فخيبه، فقيل له: لعلك لم تستجد المدح، فقال: لو مدحت بشعري ذلك الدهر لم أخش صرفه على حر ولكن أكذب في العمل وأخيب في الأمل، وأنشد: إنّي مدحتك كاذبا فأثبتني ... لما مدحتك ما يثاب الكاذب قال ابن الرومي وقد هجا كبيرا أمل منه كثيرا فأجازه حقيرا: أتيتك مادحا فهجوت شعري ... وكانت هفوة منّي وغلطه لذلك قيل في مثل سخيف ... جزاء مقبّل الوجعاء ضرطه ولابن ربذة: مدحت الغالبيّ بمدح صدق ... فقابل مدحتي بجريب حنطه فإن لاقيته يا صاح يوما ... فحيّ سباله عنّي بضرطه «1» قال أبو هشام الباهلي: لكلّ أخي مدح ثواب يعده ... وليس لمدح الباهليّ ثواب مدحت ابن سلم والمديح مهزة ... فكان كصفوان عليه تراب ومدح أعرابي رجلا فلم يعطه، فقال المادح: إنه أباحني عرضه فتنزهت له. وقال أبو الهول: هززتك للعلى فكبوت عنها ... كبوّ البغل طال به التعنّي «2» وقال آخر: ولم ألبسك ثوب الفخر إلا ... وجدتك قد خريت على الطّراز وقال آخر: ألا في سبيل الله سعي سعيته ... فمرّ ضياعا لا ثواب ولا يد فخيبة آمالي وعصيان خالقي ... وكفّارة الزّور الذي كنت أنشد متى يستحقّ الأجر من ظلّ عاكفا ... على صنم يعنو له ثمّ يسجد «3» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 ومدح مخنث رجلا فذمه الرجل، فالتفت إلى القوم وقال أكذب عليه ويكذب عليّ، ليعلم أينا أكذب. من ردّ إليه مدحه مدح ابن الرومي بعض الكتاب بشعر وتردد إليه طالبا جائزته، فدفع شعره إلى غلامه وقال: أمدح به غيري فلست أرغب فيه، فقال: رددت عليّ شعري بعد مطل ... وقد دنّست ملبسه الجديدا «1» وقلت امدح به من شئت غيري ... ومن ذا يقبل المدح الرّديدا وما للحيّ في أكفان ميت ... لبوس بعد ما امتلأت صديدا «2» من استردّه لمّا حرم الجدوى قال ابن الرومي: ردّوا عليّ صحائفا سوّدتها ... فيكم بلا حقّ ولا استحقاق وله: إن كنت من جهل حقّي غير معتذر ... وكنت من ردّ مدحي غير متّئب «3» فأعطني ثمن الطرس الذي كتبت ... فيه القصيدة أو كفّارة الكذب «4» من لا يليق به المدح قال البحتري: خطب المديح فقلت خلّ طريقه ... ليجوز عنك فلست من أكفائه وقال منصور بن باذان: نبت المدائح عن طبائعه ... ولقد يليق بوجهه القذف وقال سلم الخاسر: فإن تعطني جرم لأني أمتدحتها ... فما علمت جرم لها مادحا قبلي «5» ومدح أبو خليفة رجلا فلم يكن منه ما يحب، فقال: لله در الكميت حيث يقول: وقرّظتكم لو أن تقريظ مادح ... يواري عوارا من أديمكم النغل «6» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 وقال أبو نواس لما مات جعفر بن يحيى. لا يكون في الدنيا أكرم منه هجوته وقلت فيه: فلست وإن أطنبت في مدح جعفر ... بأوّل إنسان خرى في ثيابه فأمر لي بعشرة آلاف درهم وقال اغسل بهذا ثيابك التي خريت فيها. قال الموسوي: مدحتهم فاستقبح المدح فيهم ... ألا ربّ عنق لا يليق به العقد من لا يستحقّ الهجو لخسّته ودناءته قال أبو مسلم لأصحابه: أي الإعراض أدنأ، فقال بعضهم: عرض بخيل. فقال: رب بخيل لم يكلم عرضه أدنأ الأعراض عرض لم يرتع فيه حمد ولا ذم. وقيل للفرزدق: وضعت كل قبيلة إلا تيما فقال: لم أجد حسبا فأضعه ولا بناء فأهدمه. وقال ابن مناذر لرجل: مالك أصل فأحقره ولا فرع فأهصره. وقال رجل للنمري: اهجني. قال: إنما يهجو مثلك مثلك، وقال: إنّي لأكرم نفسي أن أكلّفها ... هجاء جرم وما يهجوهم أحد ماذا يقول لهم من كان هاجيهم ... لا يبلغ النّاس ما فيهم وإن جهدوا قال مسلم: أمّا الهجاء فدقّ عرضك دونه ... والمدح فيك كما علمت جليل فاذهب فأنت طليق جدّك إنه ... جدّ عززت به وأنت ذليل «1» وقال المتنبّي: فلو كنت امرأ يهجي هجونا ... ولكن ضاق فتر عن مسير «2» أخذه من قول الراعي: لو كنت من أحد يهجى هجوتكم ... يا ابن الرّقاع ولكن لست من أحد من لا يهتزّ لمدح ولا يغتمّ لهجو قال رجل لحكيم: لا أبالي مدحت أم هجيت، فقال: استرحت من حيث تعب الكرام. وقيل: من لا يبالي سخط الكرام وشكية الأحرار فطوقه سوءة الحمار. وقيل: ليعد ميتا من لم يهتز لمدح ولا يرتمض من ذم. قال ابن الرومي: فما يرتاح للمدح ... ولا يرتاح للذّم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 وله: لا يبالي الشتم عرض ... كلّه شتم وذمّ وقال إبراهيم بن المدبر: أحقّ النّاس كلّهم بعيب ... مسيء لا يبالي أن يعابا وقال أبو نواس، وقد تبجح بقلة مبالاته وبما يقال فيه، ويعني بذلك في باب تعاطيه الخسارة: جريت مع الصّبا طلق الجموح ... وهان عليّ مأثور القبيح من يشرّف بالهجو قال أبو نواس: أصبح فضل ظاهر التّيه ... وذاك مذ صرت أهاجيه كم بين فضل منذ هاجيته ... وبينه قبل هجائيه من يصدق هاجيه ويكذب مادحه قال مثقال: ما قلت فيك هجاء خلته كذبا ... إلا بدت لك سوآت تحقّقه وقال ابن الرومي: خير ما فيهم ولا خير فيهم ... أنهم غير آثمي المغتاب «1» وقال منصور بن باذان: أبا دلف يا أكذب النّاس كلّهم ... سواي فإنّي في مديحك أكذب ونظر رجل إلى أبي هفان يحدث آخر فقال: فيم تكذبان؟ فقالا: في مدحك. من لا يأثم هاجيه ورد في الحديث: اذكروا الفاسق بما فيه. وقيل: لا غيبة للفاسق. قال عبدان: وقالوا في الهجاء عليك إثم ... وليس الإثم إلا في المديح لأنّي إن مدحت مدحت زورا ... وأهجو حين أهجو بالصحيح المهجوّ بكلّ لسان ذكر أعرابي قوما، فقال: قد سلخت أقفاؤهم بالهجاء ودبغت جلودهم باللؤم. لباسهم في الدنيا الملامة وزادهم في الأخرى الندامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 الداعي على هاجيه وعائبه نظر الفرزدق إلى رجل ذي عمة، فقال: قبحت العينان تحتّ العمّة فقال: بل قبّح الهاجي وناك أمّه قال البسامي: من هجاني من البريّة طرّا ... وسعى في مساءتي أو لحاني «1» فاللواتي عليه حرمهنّ الله ... في سورة النساء زواني وقال أخو دعبل: بنيت قافية قيلت تناشدها ... قوم سأترك في أعراضهم ندبا «2» ناك الذين رووها أمّ قائلها ... وناك قائلها أمّ الذي كتبا ذمّ قبيح الكلام قيل: قبيح الكلام سلاح اللئام. وسمع المهلب رجلا يسبّ آخر، فقال: اكفف فو الله لا ينقى فوك من سهكها «3» أبدا. وقال يزيد: إياك وشتم الأعراض فإن الحرّ لا يرضيه من نفسه شين. النهي عن المشاتمة وذمّ الغالب منهما قال النبي صلّى الله عليه وسلم: البذاء لؤم وصحبة الأحمق شؤم. وقال ابن عامر: دعوا قذف المحصّنات تسلم لكم الأمهات. وقيل: المبتدىء شاتم نفسه والبادىء أظلم. وشتم رجل حكيما فقال: اسكت فلست أدخل في حرب الغالب فيها شرّ من المغلوب. وقال أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه: ما تسابّ اثنان إلّا غلب ألأمهما. قال شاعر: وإنك قد ساببتني فغلبتني ... هنيئا مريئا أنت بالسّب أحذق «4» وقيل: ما تسابّ اثنان إلا انحط الأعلى مرتبة الأسفل. وقال حذيفة بن بدر لرجل: أيسرّك أن تغلب شر الناس، قال: نعم. قال: لن تغلبه حتّى تكون شرا منه. نازع رجل المهلب فأربى عليه فقيل: لم أمسكت عنه، فقال: كنت إذا أردت إجابته رغبت في غلبة اللئام، وكان إذا سبني تهلل وجهه واستنار لونه وتبجّحت نفسه، فإن ظفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 فبفضل القحّة ونبذ المروءة وخلع ربقة الحياء وقلة الاكتراث بسوء الثناء. الحثّ على قطع مادّة الذمّ بالسّكوت عنه قيل: من سمع كلمة كرهها فسكت عنها انقطعت، وإلا سمع أكثر منها. وما أحسن ما قال الشاعر: وتقلق نفس المرء من أجل شتمة ... فيشتم ألفا بعدها ثمّ يصبر وقيل: إذا سمعت كلمة تؤذيك فتطأطأ لها تتخطاك. قال شاعر: كلّما خفت من لئيم جوابا ... فأطلت السّكوت عنه غممته وشتم الحسن رجل وأكثر، فقال: أما أنت فما أبقيت شيئا وما يعلم الله أكثر. ذمّ من ينزّه عن سبّه قيل: ذمّ من كان خاملا إطراء، وشتم رجل آخر فلم يرد عليه، فقيل له في ذلك، فقال: أرأيت لو نبحك كلب أتنبحه أو رمحك حمار أكنت ترمحه. وقال آخر: قد ينبح الكلب النّجوما وقال آخر: وما كلّ كلب نابح يستفزّني ... ولا كلّما طنّ الذّباب أراع وقال شاعر: شاتمني عبد بني مسمع ... فصنت منه النّفس والعرضا ولم أجبه لاحتقاري له ... من ذا يعضّ الكلب إن عضّا وقال عليّ بن الجهم: بلاء ليس يشبهه بلاء ... عداوة غير ذي حسب ودين ينيلك منه عرضا لم يصنه ... ويرتع منك في عرض مصون «1» ونحو ذلك ما قال جرير لذي الرمة: هل لك أن تهاجيني؟، فقال: لا، إن حرمك قد هتكتهن الأشعار فما فيهن مرتع. قال شاعر: أو كلّما طنّ الذّباب زجرته ... إنّ الذّباب إذا عليّ كريم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 وقيل لنصيب: ألا تهجو فلانا وقد حرمك، فقال: إنما كان ينبغي أن أهجو نفسي حيث سألته، فقيل: ويحك قد هجوته بأشد هجاء؟ قال أبو علي بن عروس الشيرازي: ومتى هجيت فقد مدحت لقد غلا ... سوم البعوضة إن رماها الصائد وقال عبد الله بن خلف: دناءة عرضك حصن منيع ... يقيك إذا شاء منك الضّبيع «1» فقل لعدوّك ما تشتهي ... وأنت الرفيع المنيع الوضيع من لا يخاف لكونه ممتنعا بغيره قيل: وقف جدي على سطح فمر به ذئب فأقبل الجدي يشتمه، فقال الذئب: لست تشتمني وإنما يشتمني المكان الذي تحصّنت به. قال منصور بن باذان: لو كنت أجسر أن أقولا ... لشفيت من نفسي الغليلا لكن لساني صارم ... ملئت مضاربه فلولا «2» وقال آخر: وما جهلت مكان الآمريك بذا ... يا من هويت ولكن في فيّ ماء «3» إجابة من عابك تعريضا بما عابك به كتب ابن مكرم إلى أبي العيناء: لست أعرف طريقا للمعروف أحزن ولا أوعر من طريقه إليك لأنه ينضاف إلى حسب دنيء ولسان بذيء وجهل قد ملك عنانك، فكتب إليه أبو العيناء في أسفل رقعته: وأنت رعاك الله فينا فإنّما ... مدحت بفضل ضعفه فيك يوجد فعدّوه أبلغ من الأول. قال ابن مكرم لأبي العيناء: يا مخنّث، فقال: وضرب لنا مثلا ونسي خلقه. وقال ابن ثوابة لرجل: يا مأبون، فأنشد: كلانا يرى الجوزاء يا جمل إن بدت ... ونجم الثريّا والمزار بعيد وقال رجل لآخر: يا دعيّ، فقال: عبد شمس أبوك وهو أبونا ... لا نناديك من مكان بعيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 وقال رجل لآخر: يا ابن الفاعلة، فقال له ذاك: يا ابن الصالحة، أكذب حتى أكذب، وعلى هذا المعنى قال: ثالبني عمرو فثالبته ... فأثم المثلوب والثالب قلت له خيرا وقال الخنى ... كلّ على صاحبه كاذب «1» وقال رجل لشاعر: إنك تغتاب المحصنات، فقال: إذا لا بأس على عيالك منّي. تعريضات عن الأجوبة في الذمّ بالنثر والنظم لما قال كعب الأشتر لزياد الأعجم: وأقلف صلى بعد ما كان أمة ... يرى ذاك في دين المجوس حلالا فقال زياد: لا جزيت أمه خيرا ... فقد أخبرته أني أقلف ولما قال جرير لابن الرقاع: يقصر باع العامليّ عن العلا ... ولكنّ أير العامليّ طويل قال ابن الرقاع: أأمك كانت أخبرتك بطوله ... أم أنت امرؤ لم تدر كيف تقول فقال: لم أدر كيف أقول. ولما قال أرطأة بن سهية للربيع بن قعنب: لقد رأيتك عريانا ومؤتزرا ... فما دريت أأنثى أنت أم ذكر فقال الربيع: لكن سهية أدرى يوم زرتكم ومرّ الفرزدق بباب المكاري، فقال: وكم من هن يا باب ضخم حملته ... على الرجل فوق الأخدريّ المراكب «2» فقال باب: قد حملت النوار فيمن حملت فقال الفرزدق: غلبني والله. ولما قال مسكين الدارمي: ناري ونار الجار واحدة ... وإليه قبلي ينزل القدر قالت امرأته: نعم، لأن القدر والنار للجار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 ولما قال إبراهيم بن هرمة: لأمنع العود بالفصال ولا ... أبتاع إلّا قريبة الأجل «1» قال المزبد: صدق ابن الخبيثة فإنه يشتري شاة الأضحية فيذبحها من ساعته. وتبجّح رجل فقال: إن أبي ممّن قال فيهم شاعر: يقوم القعود إذا أقبلوا فقال له: صدقت، لأنه كان بين يديه حمل شوك. من قصد مدحا فاتفق منه هجو عيب على جرير قوله: تعرضت تيم لي عمدا لأهجوها ... كما تعرّض لإست الخارىء المدر «2» فقيل: جعل نفسه إست الخارىء ولو هجى بهذا لكان كثيرا. وقد تقدم في هذا المعنى باب في كتاب الشعر. التهديد بالهجاء لما هجا جرير حنيفة بقوله: إن اليمامة أضحت لا أنيس بها ... إلا حنيفة تفسو في مناحيها لقيه عطية بن دعبل الحنفي، فقال يا جرير: إنك قد عرفت نصرة الفخم وإن لي سيفا يختصم الجزور فو الله لئن عدت لهجاء قومي لأسيلنه منك بشرطين، فقال: لا أنطق بعد هذا فاعف هذه المرة. وتهدد الفرزدق رجلا بالهجاء فقال له: قل واصدق فقال: إذا أقول خيرا. قال أبو القاسم بن أبي العلاء: دع الفضائح تخفى ... والليث في الغيل رابض وله: لا تخرجني من خيسي فتنكرني ... وتؤذي النّاس أحياء وأمواتا «3» كأنني بك قد ضيّعت موعظتي ... وجئتني نادما والأمر قد فاتا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 (3) وممّا جاء في الغيبة والنّميمة حقيقة الغيبة قال محمد بن عبيدة: الغيبة أن تغتابه إذا أقلع لا أن تغتابه وهو مقيم على فسقه، ولذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ليس للفاسق غيبة. وقال عليه الصلاة والسلام: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فقد بهته. وقيل: ما قلته في وجه الرجل ثم تقوله من ورائه فليس بغيبة. وقال بعض الفقهاء: الغيبة أن تذكر الإنسان بما فيه من العيب من غير أن تحوج إليه، وفي ذلك احتراز مما يقول الشاهد عند الحاكم. ذمّ الغيبة والنميمة وفضل تركهما قال الله تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ «1» فما رضي بأن جعله آكلا لحم أخيه حتى جعله ميتا. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: الغيبة أشدّ من الزنا لأن الله تعالى يتوب على الزاني ولا يغفر الغيبة إلا بتحليل صاحبها. وقال علي بن الحسين رضي الله عنهما إياك والغيبة فإنها أدم كلاب النار. وقال قتيبة لرجل يغتاب آخر: لقد تلمظت بمضغة طالما لفظها الكرام، الغيبة مرعى اللئام وجهد العاجز. وقال المأمون: حسبك من السعاية أن ليس في الدنيا صدق مذموم غيرها. وقال تعالى: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ «2» ، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا يدخل الجنة قتات «3» ، وقال: النميمة تفطر الصائم وتنقض الوضوء، وقال: من قلّ ماله وكثر عياله وحسنت صلاته ولم يغتب المسلمين كان معي يوم القيامة كهاتين. وقال: عذاب القبر من ثلاثة من الغيبة والنميمة والبول. وقيل: الساعي غاش وإن قال: قول المتنصح. وقال ابن أكثم: القول بالمحاسن في المغيب فريضة على كل ذي نعمة. وقال المأمون لابنه العباس: قلّم أظفارك من جليسك فأخس الناس من دمّى جليسه بظفره، قال ولله در القائل: لا أخدش الخدش بالجليس ولا ... يخشى جليسي إذا انتشبت يدي «4» من امتنع أن يجعل مغتابه في حل ّ قال رجل لابن سيرين: قد نلت منك فاجعلني في حلّ، فقال لا أحل ما حرم الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 عليك. وقيل للحسن: إن الحجّاج كان يذكرك بسوء، قال: علم ما في نفسي له فنطق وعلمت ما في نفسي له فسكت، وكل امرىء بما كسب رهين. من سمحت نفسه بأن يجعل في حل ّ كان أبو الدرداء رضي الله عنه إذا خرج يقول: اللهم إني قد تصدّقت بعرضي على عبادك، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم ذلك. وقال كثيّر: هنيئا مريئا غير داء مخامر ... لعزّة من أعراضنا ما استحلّت «1» وقيل لرجل: فلان شتمك واغتابك، فقال: هو في حلّ. فقيل: اتحل من يغتابك وبه يقل ميزانك، فقال: لا أحب أن أثقل ميزاني بأوزار إخواني. من قلّت مبالاته بمن اغتابه قيل لفيلسوف: فلان يشتمك بالغيب، فقال: لو ضربني بالسياط في الغيب لم أبال به، قال: وإنّ الذي يؤذيك منه استماعه ... وإن الذي قالوا وراءك لم يقل قال المتوكل لأبي العيناء: ما بقي أحد إلا اغتابك، فقال: إذا رضيت عنّي كرام عشيرتي ... فلا زال غضبانا عليّ لئامها وقيل للأحنف: فلان اغتابك، فقال: ربّ من يعيبه امرؤ ... وهو لم يخطر ببالي قلبه ملآن من غيظي ... وقلبي منه خال وقيل لأعرابية: فلانة تقع فيك، فقالت: دعوها فشكاتها وسكاتها عندي سواء. وقيل لرجل: فلان يغتابك، فقال دعني يرفضي الله بذلك، فمن أكثرت فيه الوقيعة رفعه الله فإن بني أمية لعنوا عليا على المنابر فما زاده الله إلا رفعة. وحكي عن ببغا الشاعر البغدادي أنه قيل له: إن فلانا يغتابك، فقال: لا ضير أنه أراد أن يمتحن ودّي. وقيل: لآخر ذلك، فقال: ولم يمح من نور النبيّ أبو جهل ذمّ ناقص يغتاب فاضلا قيل: كفى بالمرء شرا أن لا يكون صالحا، وهو يقع في الصحالين. قال شاعر: عثيثة تقرض جلدا أملسا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 وقال المتنبّي: وإذا أتتك مذمّتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأنّي كامل وقال الموسوي: عادات هذا الدّهر ذمّ مفضل ... وملام مقدام ونقص جواد وكأنه من قول الآخر: وما زالت الأشراف تهجى وتمدح ونحوه قول الآخر: إنما الغيبة تلقيح الشّرف من رمى غيره بعيبه رمتني بدائها وانسلت عير بجير بجره، نسي بجير خيره. وقيل: أتبصر القذاة في عين أخيك وتدع الجذع المعترض في حلقك. اغتياب المرء غيره يدلّ على عيبه قيل: من وجدتموه عيّابا وجدتموه معيبا، لأنه يعيب الناس بفضل عيبه، وفي ذلك قال: ويأخذ عيب المرء من عيب نفسه ... مراد لعمري ما أراد قريب قال أبو العيناء: ما قطعني أحد كما قطعني المهدي، فإنه قال: بلغني أنك تغتاب الناس، فقلت له: يبطل ما قيل في شغلي بعيبي، فقال: والله ذاك أشد لغيظك على أهل العافية، أعرف الناس بعوار الناس المعور. تشهّي الغيبة واستطابتها قال قتيبة لرجل يغتاب آخر: لقد تلمظت بما يعافه الكرام، فقال: لو تلمظت به ما صبرت عنه. وقال رجل لبنيه: إذا اجتمعتم فعليكم حديث أنفسكم ودعوا الاغتياب، فقال أحدهم: نحن نحتاج في هذه السنة إلى كذا وكذا ونفعل ونصنع كذا وكذا، فقد فرغنا من حديثنا فبماذا نشتغل؟ وقيل: الغيبة فاكهة النساك والقرّاء. وقصد رجل ابن عمه مسترفدا لحق له فأحسن إليه فلما عاد سئل فقال: منعني التلذذ بالغيبة والشكوى. ونحوه قول الآخر: فقضت حاجتي معجلة ... فجعتّني بلذّة الشّكوى من اغتاب فاغتيب قيل: من رمى الناس بما فيهم رموه بما ليس فيه، وقيل: بحثك عن عيوب الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 يدعو إلى بحثهم عن عيوبك، وقال آخر: ومن دعا النّاس إلى ذمّه ... ذمّوه بالحقّ وبالباطل وقال الكلوشي: تحللت بالسبّ لما رأيت ... أديمك صحّ ومن سبّ سبّ فإن لم نجد فيك من مغمز ... سلكنا إليك طريق الكذب وقال الشطني: لا تكشفنّ مساوىء النّاس ما ستروا ... فيهتك الله سترا عن مساويكا النهي عن استماع الغيبة قال عمرو بن عبيد لرجل يستمع إلى آخر يغتاب: ويلك نزّه أذنك عن استماع الخنا كما تنزه لسانك عن النطق به. قال شاعر: وسمعك صن عن سماع القبيح ... كصون اللسان عن النّطق به وقال آخر: والسامع الذمّ شريك له ... والمطعم المأكول كالآكل وقال: الفضيل الرجل يقول سبحان الله وأخشى عليه بذلك النار وهو الذي يستمد بذلك الغيبة إذا سمعها وقيل: إذا رأيت من يغتاب الناس فاجهد جهدك أن لا يعرفك، فاشقى الناس به معارفه. قال إبراهيم بن المهدي: من نمّ في النّاس لم تؤمن عقاربه ... على الصّديق ولم تؤمن أفاعيه «1» الممدوح بصيانة مجلسه عن الغيبة مدح بعضهم رجلا فقال: ينزه مجالسه عن الغيبة ومسامعه عن النميمة. قال كعب الغنوي: إذا ما تراآه الرجال تحفّظوا ... فلم تنطق العوراء وهو قريب «2» ومثله قول البهلول: نبئت أن النار بعدك أوقدت ... واستبّ بعدك يا كليب المجلس «3» الحثّ على التثبّت فيما يسمع من السعاية وشي برجل إلى بلال فلما أتى به، قال: قد أتاك كتاب من الله في أمرنا فاعمل به، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 قال الله تعالى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ «1» ، فقال: صدقت. وأبلغ ملك عن رجل منكرا فأمر بقتله، فقال: إن قتلتني ومن سعى بي كاذب يعظم وزرك، وإن تركتني وهو صادق قلّ وزرك، وأنت من وراء ما تريد، والعجلة موكل بها الزلل فأمر بإبقائه والفحص عن أحواله. قال كثيّر: وإن جاءك الواشون عنّي بكذبة ... فروها ولم يأتوا لها بحويل «2» فلا تعجلي يا عزّ أن تتبيّني ... بنصح أتى الواشون أم بحبول «3» من سأل صاحبه أن لا يصغي إلى الساعي لما أراد عند الملك بن صالح الهاشمي الخروج إلى الشأم استدعى حوائجه من جعفر بن يحيى، فقال: أسألك أن تكون لي كما قال ابن الدّمينة: فكوني على الواشين لداء شغبة ... كما أنا للواشي ألدّ شغوب «4» فقال له جعفر أكون كما قال الآخر: وإذا الواشي أتى يسعى بها ... يقع الواشي بما جاء يضرّ من بكّت الساعي به ودلّ على بطلان قوله سعى رجل بالليث بن سعد إلى والي مصر فأحضره، فقال: إن رأيت أن تسأله أمرا ائتمنته عليه فخانه أم كذب بقوله فالخائن والكاذب لا يقبل قولهما. ووشى واش إلى زياد بن همام وقال: إنه هجاك فاحضره واعلمه، فقال: كلا. فقال: أخبرني بذلك الثقة، فقال: الثقة لا يكون نماما فأحضر الساعي وجبهه بذلك، فقال: وأنت امرؤ ما ائتمنتك خاليا ... فخنت وإما قلت قولا بلا علم فأنت من الأمر الذي كان بيننا ... بمنزلة بين الخيانة والإثم وقال الواثق لأحمد بن أبي دؤاد: فلان قال فيك كذا، فقال: الحمد لله الذي أحوجه إلى الكذب فيّ ونزّهني عن الصدق فيه. من ردّ السعاية على السّاعي وبكّته كان الفضل بن سهل يبغض السعاة، فإذا أتاه ساع، يقول: إن صدقتنا أبغضناك وإن كذّبتنا عاقبناك وإن استقلتنا أقلناك. ودخل رجل على عبد الملك، فقال: هل من خلوة فأقبل عبد الملك على أصحابه، وقال: إذا شئتم، فقاموا. فقال له عبد الملك: اسمع لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 تمدحني في وجهي فإني أعرف بنفسي منك ولا تكذبني فليس لكذوب رأي ولا تسعين بأحد إليّ، فقال الرجل: أأنصرف، قال إذا شئت، فقام وانصرف. ووقع عبد الله بن طاهر في قصة ساع سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين؟ ورفع رجل قصة إلى أنوشروان أن رجلا من العامة دعاه إلى منزله فأطعمه طعام الخاصة فوقّع في قصته قد أحمدنا فعلك فيما تأتيه وذممنا صاحبك لسوء اختياره لمن يؤاخيه. ووقّع طاهر بن الحسين في رقعة متنصح: قد سمعنا ما كره الله فانصرف لا رحمك الله. ووقّع السفاح في قصة ساع: أنت ظاهر السعاية قليل النكاية. وسعى إلى عبد الملك بن مروان في عبد الحميد فوقّع: أقلّوا عليه لا أبا لابيكم ... من اللوم أو شدّوا المكان الذي سدّا وقال الواثق لأحمد بن أبي دؤاد: ما زال القوم في ثلبك إلى الساعة، فقال: يا أمير المؤمنين لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم، والله وليّ جزائه وعقابك من ورائه فما الذي قلت لهم، قال قلت: وسعى إليّ بعيب عزّة نسوة ... جعل الإله خدودهنّ نعالها وقال الموسوي: وأوطأت أقوال الوشاة أخامصي ... وقد كان سمعي مدرجا للنمائم «1» قلّة التخلّص من اغتياب النّاس وذمّهم سأل بعض الأنبياء ربه عزّ وجل أن يدفع عنه ألسنة الناس باغتيابه وذمه، فقال: هذه خصلة لم أجعلها لنفسي فكيف أجلعها لك. وقيل: ليس إلى السلامة من ألسنة الناس سبيل فانظر إلى ما فيه صلاحك فالزمه. قال شاعر: إذا كنت مليحا مسيئا ومحسنا ... فغشيان ما تهوى من الأمر أكيس «2» ذمّ ناقل الغيبة قيل: الرواية أحد الشاتمين، وقيل من بلّغك فقد سبك، قال: مبلغك السوء كباغيه لكا وقيل لحكيم: فلان عابك بكذا، فقال: لقد لقيتك نفحتني بما استحى الرجل من استقبالي به. وقيل: ما ضرّت كلمة ليس لها مخاطب. ويدخل في هذا الباب قول الشاعر: وأنت امرؤ ما ائتمنتك خاليا البيتين وقد تقدما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 وكان أبو ضمضم إذا قعد للحكم يقوم بإزائه رجل يعلق نوادره فعلم بذلك أبو ضمضم فرماه يوما بلوح في يده فشجّه، فقال له بعضهم: ما أصاب فقال استرق السمع فاتبعه شهاب ثاقب. الموصوف بالنّميمة قال الله تعالى: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ . وقيل: فلان أثم من الزهر. قال ابن الرومي: أنمّ بما استودعته من زجاجة ... ترى الشيء فيها ظاهرا وهو باطن وقال آخر: قد كان صدرك للأسرار جندلة ... ضنينة بالذي تحوي نواحيها «1» فصار من بثّ ما استودعت جوهرة ... رقيقة تستشف العين ما فيها وأنكر بعضهم لمحة جليس له فنسبه إلى النميمة، فقال: ما نطقت ولكن رمقت وربّ عين أنمّ من لسان وطرف، أشد من سيف وأوجع من حتف، وقال الرشيد لأبي عمرو الشفافي: فلان نم بك فقال: يا أمير المؤمنين إن فلانا لو كان بينك وبين الله واسطة لسعى بك إليه. وقال أعرابي: فلان بنميمة منمنمة وسخيمة مسخمة. قال العباس بن الأحنف: أناس أمناهم فنمّوا حديثنا ... فلمّا كتمنا السرّ عنهم تقوّلوا من قول أبي ذهل: أمنا أناسا كنت قد تأمنينهم ... فزادوا علينا في الحديث وأوهموا وقالوا لنا ما لم نقل ثم أكثروا ... عليّ وراحوا بالذي كنت أكتم من اغتاب غيره فرآه اغتاب أعرابي رجلا فالتفت فرآه، فقال: لو كان خيرا ما حضرته. ويقال لمن حضر إذا ذكر غائبا نزه: اذكر الكريم وافرش له اذكر الكلب وهيىء له العصا. الحثّ على التحرّز ممّا يقتضي الغيبة قال الحسن رضي الله عنه: من دخل مداخل التهمة لم يكن له أجر الغيبة. وقيل: من عرّض نفسه للتهمة فلا يلومنّ من أساء به الظن واغتابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 من لا يحرّم اغتيابه قال النبي صلّى الله عليه وسلم: للفاسق غيبة، وقال: اذكروا الفاسق بما فيه. وقال: لا غيبة لثلاثة فاسق مجاهر وإمام جائر ومبتدع فاجر. نوع من ذلك روي فيما أظن عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: سعى رجلان بمؤمن آل فرعون إليه وقالا إن فلانا لا يقول إنك ربه، فأحضره فرعون وقال للساعيين: من ربكما فقالا: أنت، وقال للمؤمن: من ربّك فقال: ربّي ربهما، فقال: سعيتما برجل على ديني لأقتله، لأقتلنكما، وأمر بهما فقتلا، فذلك قول الله عز وجل: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ . جرى بين عتبة بن رؤبة وبين بشار شيء، فقال عتبة: أتقول لي كذا وأنا شاعر ابن شاعر ابن شاعر؟ فقال: أقول لك ذلك ولو كنت من الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. (4) وممّا جاء في التحية والأدعية والتهنئة الحثّ على التحيّة ووصف فضلها قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا التقيتم فابدؤا بالسلام قبل الكلام، ومن بدأ بالكلام فلا تجيبوه وقال صلّى الله عليه وسلم: بلوا أرحامكم ولو بالسلام. وقال بعضهم: بثوا السلام فهو رفع للضغينة بأيسر مؤنة واكتساب أخوة بأهون عطية. قال شاعر: كيف أصبحت كيف أمسيت ممّا ... يزرع الودّ في قلوب الكرام عنى تحية فقال هدية فلانا وقال رجل لآخر: أبلغ حسنة ومحمل خفيف. الحثّ على الجواب روي أن التحية نافلة والجواب فريضة ويدل على ذلك قوله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها «1» . ومر رجل بقوم فسلم فلم يردّوا عليه، فقال: يا عجبا ممن خولتهم نافلة فمنعوا عني واجبا. وسلم نصراني على الشعبي فقال: وعليك السلام ورحمة الله، فقيل: أتقول ذلك لنصراني؟ فقال: أليس في رحمة الله يعيش؟ وقال صلّى الله عليه وسلم: أطعموا الطعام وأفشوا السلام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 ذمّ من بخل بالتحيّة وعذره أنشد ثعلب: ومالك نعمة سلفت إلينا ... فكيف نراك تبخل بالسّلام وقال كشاجم: إذا كاتبوا صادقوا في الدعا ... كان دعاءهم مستجاب وأنشد المبرّد: إذا لم تجد بجميل الكلام ... فما الذي بعده تبذل؟ وقال آخر: يا جوادا بالثّراء ... وبخيلا بالدّعاء فتفضّل يا أخا ... الفضل بتفخيم الثّناء وسلم آخر على رجل بسوطه فلم يجبه، فقيل له في ذلك، فقال: سلم عليّ بالإيماء فرددت عليه بالضمير: لقد مرّ عمرو على مجلسي ... فسلّم تسليمة خافيه لئن تاه عمرو بفضل الغنى ... لقد فضّل الله بالعافيه وقيل: من بدأ بغيضا بالسلام فهو أبغض منه. وقال ابن المقفع: لا تكوننّ نزر الكلام والسلام ولا تتهافتن بالبشاشة والهشاشة، فإن أحدهما كبر والآخر سخف. وقال الشعبي: انتهت التحية إلى قولهم وبركاته. ولقي رجل أبا العيناء فقال أطال الله بقاءك وأدام عزك وتأييدك، فقال: هذا العنوان ما هو. وقال المتنبي في عذر تخفيف السلام: أقلّ سلامي حبّ ما خفّ عنكم ... واسكت كيما لا يكون جواب مواضع التسليم جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم عليه فقال صلّى الله عليه وسلم: إذا أتيتني على هذه الحال فلا تسلم عليّ، فإنك إن فعلت لم أرد عليك وقال صلّى الله عليه وسلم: إذا أتى أحدكم المجلس فليسلم، فإن قام والقوم جلوس فليسلم فإن الأولى ليست بأحق من الآخرى. أتى أبو معكم الأسدي النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يقول أبو معكم صادقا ... عليك السلام أبا القاسم فقال صلّى الله عليه وسلم: إن عليك السلام تحية الموتى وكذا يقال للميت نحو، عليك سلام الله قيس بن عاصم. ودخل الحسن بن الكناني على عبد الله بن جعفر فأنشد: عليك السلام أبا جعفر ... ولست بهر لدى المحضر فقال: أخطأت حييتني بتحية الموتى، وقد أمكنك أن تقول: سلام عليك أبا جعفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 قال: ألا طرقتنا آخر الليل زينب ... عليك سلام هل لما فات مطلب فقلت لها حيّيت زينب خدنكم ... تحيّة موتى وهو في الحيّ يشرب ذمّ تحية من لا نفع لديه قال شاعر: وما مرحب إلا كريح تنسّمت ... إذا أنت لم تخلط نوالا بمرحب «1» وقال آخر: إذا كان ردّ المرء ليس بزائد ... على مرحبا أو كيف أنت وحالكا فلم يك إلا كاشرا ومواريا ... فأفّ لودّ ليس إلا كذلكا «2» التسليم دخل رجل على أمير المؤمنين كرّم الله وجهه فقال: السلام عليك سلاما تتصل آماله بسمعك أبدا ما بقيت من وليك بطوع قلبه وصادق ودّه، ومن عدوك برغم أنفه وذل خدّه. في التّلبية لبيك إذ دعوتني لبّيكا ... أحمد ربّا ساقني إليكا حمد المصافحة والحثّ عليها قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا لقي المؤمن المؤمن فصافح أحدهما الآخر تناثرت الخطايا بينهما كما يتناثر ورق الشجر. وكان صلّى الله عليه وسلم إذا صافحه إنسان لم ينزع يده حتى يكون هو الذي ينزع يده وقيل: المصافحة تزيد في المودّة. قال شاعر: تصافحت الأكفّ وكان أشهى ... إلينا أن تصافحت الخدود نعيش إذا التقى كفّ وكفّ ... فكيف إذا التقى جيد وجيد وقال آخر: وصافحت من لاقيت في البيت غيرها ... وكلّ الهوى منّي لمن لا أصافح وقال القصاني: قد أحدث النّاس ظرفا ... أربى على كلّ ظرف كانوا إذا ما تلاقوا ... تصافحوا بالأكفّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 فأحدثوا اليوم لثم ال ... خدود واللثم يشفي فصرت ألثم خدّي ... هـ من طريق التحفّي «1» بقية باب حمد المصافحة والحثّ عليها قيل لرجل من قريش: كيف حالك؟ فقال: حال من يهلك ببقائه ويسقم بصحته ويؤتى من مأمنه. قال الربيع الحاجب لأبي العتاهية: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت والله في مضيق ... هل من دليل إلى طريق ولها باب في غير هذا الموضع. جواب من سئل من الصالحين عن حاله فشكا علّة أو حالة منكرة قيل لأبي عمرو بن العلاء رضي الله عنه: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت، كما قال الربيع الفزاري: أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمضرا «2» وقيل للحسن بن وهب: قال: أصبحت على النشاط كالّ «3» القريحة صدىء الذهن ميت الخاطر من سوء اختيار الزمان وتغيّر الإخوان. وقيل لمحارب بن دثار، فقال: كما قال الأعشى: ولكن أراني لا أزال بحادث ... أعادي التي لم تمس عندي وأطرق «4» وقيل لأبي العالية السامي: كيف أنت؟ فقال: على غير ما يحب الله وغير ما أحب وغير ما يحب إبليس، لأن الله يحب أن أطيعه وأنا أعصيه، وإبليس يحب أن أتعاطى ضروب الخسارة ولست كذلك، وأنا أحب أن يكون لي ثروة وصحة وليس كذلك. وقال أبو حزابة ليزيد بن المهلب: كيف الأمير؟ فقال: كما تحب. فقال: لو كنت كذلك لكنت قائما مقامي وكنت قاعدا محلّك. الدعاء بالرحب والسّعة قال رجل للأصمعي: مرحبا وأهلا وسهلا، فقال: أرحب الله بلدك وأهلّ رحلك وسهل أمرك. وقال رجل لخالد بن صفوان: مرحبا بك، فقال: رحب واديك وعزّ ناديك. الدعاء بإطالة البقاء قيل: ليس في الدعاء مثل أطال الله لك البقاء وأدام لك العلاء، ومثل ذلك: عش ما شئت كما شئت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 وقال المتنبّي: بقيت بقاء ما تبني فإنّي ... أراه بقاء يذبل أو أبان وقال آخر: فلا زالت الشمس التي في سمائه ... مطالعة الشمس التي في لثامه «1» ولا زال تجتاز البدور بوجهه ... فتعجب من نقصانها وتمامه «2» وقال عمارة: فذا العرش زد في عمره من صلاتنا ... وأعمارنا حتّى يطول له العمر وقد نسب قوم: أطال الله بقاءك وجعلني فداءك إلى الإحالة. وقد روي أن أول من خاطب بذلك أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه. التفدية قال ابن بوقة: أفديك بل أيّام عمري كلّها ... يفدين أيّاما عرفتك فيها وله: نفسي فداؤكما وقلت في الورى ... للسيّد المخدوم نفس الخادم «3» وقال آخر: بنفسي أنت لا بأبي فإنّي ... رأيت الجود بالآباء لؤما وقال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: جعلني الله فداء نعلك، فقال: إذا يطيل الله هوانك وقال يعقوب بن الربيع: فلو أنني إذ كان وقت حمامها ... أحكّم في عمري لشاطرتها عمري «4» فحلّ بنا المقدار في ساعة معا ... فماتت ولا أدري ومتّ ولا تدري وقال الخوارزمي: أطال الله أعمار المعالي ... وذاك بأن يطول لك البقاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 ولا زالت تمدّ إليك كفّ ... بضاعتها ثناء أو دعاء وإن رضي الزمان بمثل روحي ... فداء عنك فهي لك الفداء وقال أبو سعيد الرستمي: وقاك بنو الدنيا جميعا صروفها ... جميعا فإن الجفن من خدم النّصل وقال آخر: فداؤك مالي فهو منك ومهجتي ... فإنّك قد أقررتها في جوانحي «1» قال إبراهيم الصولي: إن قولهم قدّمني الله قبلك مأخوذ من قول الأقرع بن حابس: إذا ما أتى يوم يفرّق بيننا ... بموت فكن أنت الذي تتأخّر وقال منكة الطبيب الهندي ليحيى بن خالد البرمكي: لو أمكنني تخليف الروح عندك لفعلت، وهذا يجوز على سبيل الدعاء له. الدعاء بصبّحك الله بخير كانت العرب تتحيا في الجاهلية بقولهم: صبّحك الله بخير فاخر ... ولحم طير وشراب خازر «2» قبل طلوع الشمس للمسافر صبّحك الافلاح بكل خير ونجاح، صبحك الخير وجنّبك الضير وقوّى منك الأير. وقال رجل لآخر: كيف أصبحت؟ فقال بخير، فقال: هلا قلت: أحمد الله وأستغفره فكان أوله شكرا وآخره عبادة، صبحتك الأنعمة بطيّبات الأطعمة. الدعاء بكبت العدا والحسّاد والإعاذة من شماتتهما قال أعرابي: أراك الله في عدّوك ما يعطفك عليه وقالت امرأة لرجل كبت الله كلّ عدو لك إلا نفسك، وإنما أرادت بذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلم: أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك، أعاذك الله تعالى مما يقلق قلب الصديق ويضحك سنّ العدو، أعاذك الله من خيبة الرجاء وشماتة الأعداء وزوال النعمة وفجاءة النقمة. قال الصاحب لا زال أعداؤه في قل وذل وأمر منحل مضمحل وقال الخوارزمي: ولا زالت عداك بكلّ أرض ... لهم من سوء ظنّهم نذير قصير نهارهم خوف طويل ... بهم وطويل عمرهم قصير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 وقال المتنبّي: وأراك دهرك ما تحاول في العدى ... حتّى كأنّ صروفها الأقدار «1» الدعاء ببلوغ الأمل قال شاعر: أنالك ربّك ما تأمله ... وحقّ لك الله ما تسأله قال الموسوي: ظفرت بما اشتهيت من الليالي ... وأعطيت المراد من الأماني الدعاء بأن جعل الله له النعم وأدامها عليه زادك الله كما زاد نابك وأعطاك أكثر مما أعطانا منك، وقال ابن القرية: لا زلت في رحب من البال وثروة من المال في غبطة وسرور وبعد من المكروه والشرور. أعطاك تعالى حتى ترضى وزادك بعد الرضا وتوفر لك من سعته ما لا تهتدي لمسألته ولا يحيط قلبك بمعرفته، وجعل ذلك موصولا بالثواب المدّخر للمحسنين. أنعم الله عليك بما يعجز عنه شكرك ولا أبلاك بما يضيق عنه صدرك، منحكم الله منحة لا تغار ليست بجداء ولا نكراء ولا ذات داء جعل الله نعمك هبة مخلّدة لا عارية مستردة. قال المتنبّي: أتمّ سعدك من لقاك أوله ... ولا استردّ هبات منك معطيها وقال عليّ بن الجهم: أتم الله نعمته علينا ... فإنّ تمامه نعم علينا الدعاء بزيادة النعماء والعلاء قال المتنبّي: إن كان فيما نراه من حسن ... فيك مزيد فزادك الله «2» وقال أبو تمّام: إسمع أقامت في ديارك نعمة ... خضراء ناعمة ترفّ رفيفا «3» وقالت عنان جارية الناطفي: نعم إذا النعم انتقلن تخيّمت ... وإذا نفرن عدت عليك ألوفا «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 وقال آخر: أيا رب زده نعمة وكرامة ... على غيظ أعداء وإرغام حاسد الدعاء بأن يقيه الله من الفقر ويجعل له سعة من اليسر جعل الله لك في الخير جدا ولا جعل معيشتك كدّا، أعاذك الله من القنوع والخضوع والخنوع، أعاذك من بطر الغنى ومذلة الفقر، جعل الله لك رزقا واسعا وجعلك به قانعا، وهب الله من غناه ما لا يقدر عليه سواه. قال رجل لمسروق بن الأجدع: أعاذك الله من خشية الفقر وطول الأمل ولا جعلك ردية السفهاء وشينا على الفقهاء. وقال أعرابي: رزقك الله من غير طلب شديد ولا سفر بعيد، جعلك الله في الرزق حولا لغيرك. الدعاء بالتّوفيق والإعاذة من الشّرور فرّغك الله لما له خلقك ولا شغلك بما تكفل به لك. وقال سعيد بن المسيب: مرّ بي صلة بن أشيم فقلت: ادع لي، فقال لي: رغبك الله في ما يبقى وزهدك في ما يفنى أعاذك من هيجان الحرص وسورة الغضب وغلبة الحسد ومخالفة الهدى وسنة الغفلة وإيثار الباطل على الحق، وأعاذك من سوء السيرة واحصاء الصغيرة ومن شماتة الأعداء والفقر إلى غير الاكفاء ومن عيشة في شدة وميتة من غير عدة ومن سوء المآب وحرمان الثواب وحلول العقاب. وقال أعرابي: أعاذك الله من هول المطلع وضيق المضطجع وبعد المرتجع. وقال آخر: أعانك الله على الدنيا بالسعة وعلى الآخرة بالمغفرة. قال المتنبّي: فلا تنلك الليالي إن أيديها ... إذا ضربن كسرن النّبع بالغرب «1» ولا تعزّ عدوا أنت قاهره ... فإنّهنّ يصدن الصّقر بالخرب «2» وقال ابن الرومي: فزادكم بالمدح كلّ قصيدة ... ولا قصدتكم بالمراثي القصائد وقال أبو محمد الخازن: لا زال ألسنة القريض نواطقا ... تخدمن مجدك بالثّناء الأفصح تهنئة بولاية أهنىء بك العمل الذي وليته ولا أهنئك به، لأن الله تعالى أصاره إلى من يورده موارد الصواب ويصدره مصادر الحجّة. لما استخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه دخل عليه شاب من الأنصار، فقال: ما طيبتك الخلافة ولكن طيّبتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 وما زينتك الولاية بل زينتها، فأنت كما قال: وتزيدن أطيب الطيب طيبا وقال إبراهيم بن العباس: ما حددت لك من نعمى وإن عظمت ... إلا يصغرها القدر الذي فيكا لا زلت مستحدثا نعمى تسرّ بها ... على الليالي ولا زلنا نهنّيكا «1» وقال ابن الرومي: قل لك الملك ولو أنه ... مجموعة فيه الأقاليم «2» والله يبقيك لنا سالما ... يأتيك تبجيل وتعظيم وقال أبو الغمر: ليهنك الفتح مشفوعا حسا وزكا ... وصاحبتك الليالي غضّة ضحكا تهنئة بنيروز قال شاعر: أنعم بنيروزك وابهج به ... متّعت ألفا مثله بعده «3» أهدي بعض الأدباء يوم نيروز وردة وسهما ودينارا ودرهما فقال: لا زلت كالورد لذيذ المنسم ... ونافذا مثل نفاذ الأسهم في عزّ دينار ونجح درهم تهنئة بمهرجان قال المهلّب بن مالك: جاءك المهرجان يختال طلقا ... في هواء صاف وفي زعفرانه نلت فيه الذي به نال افريدون من رغم حاسد وهوانه تهنئة بزفاف نهى النبي صلّى الله عليه وسلم أن يقال بالرفاء والبنين، وكان يقول: بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينما بخير. وهنأ ابن القرية الحجّاج، فقال: أقرّ الله عينك ورزقك ودها وولدها وجعلك الباقي بعدها. قال ابن الرومي: سيدة زفت إلى سيّد ... أبدلنا اليسر من العسره ألّف بالتوفيق شملاهما ... في نعمة تمّت وفي خيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 عمّره الله وأبقى له ... ركنيه من عزّ ومن قدره تهنئة بولد قال شبيب بن شبة للمهدي: أراك الله في بنيك ما رأيته في أبيك. وقال رجل عند الحسن: ليهنك الفارس، فقال: لعله يكون بغالا، قل شكرت الواهب وبورك لك في الموهوب ورزقت رشده وبلغ أشده. ونظر رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى رجل معه صبي فقال: أهذا ابنك؟ قال: نعم. قال: أمتعك الله به. وقال إسحاق الموصلي للفضل بن الربيع: مدّ لك الله الحياة مدّا ... حتّى يكون ابنك هذا جدّا ثم يفدّى مثلما تفدى ... أشبه منك سنّة وقدّا وقال الرفّاء: تملّ فارسك المذكور في شيم ... بمثلها الذكر الصمصام مذكور «1» وافى ومولده الوافي يخبرنا ... بأنه ناصر للمجد منصور فعاش ما نشر الديجور حلّته ... وما انطوى بضياء الفجر ديجور «2» حتّى تراه وقدح السيف في يده ... مثلم وسنان الرّمح مأطور «3» تهنئة بابنة كانوا يقولون: أمّنكم الله منها العار وكفاكم منها المؤونة. قال الصاحب: إيّاك أن تنكر الإناث فكم ... أنثى غدت في فخارها ذكرا الدعاء للمسافر قال النبي صلّى الله عليه وسلم لرجل أراد سفرا: اللهم أطوله البعيد وهوّن عليه العسير. وكانوا يقولون: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل. قال السري الرفاء: الله جارك ظاعنا ومقيما ... وظهير نصرك حادثا وقديما «4» إن تغن كان لك النجاح مصاحبا ... أو تثو كان لك السرور نديما «5» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 وقال المتنبّي: وإذا ارتحلت فشيّعتك سلامة ... حيث اتجهت وديمة مدرار «1» وصدرت أغنم صادر عن مورد ... مرفوعة لقدومك الأبصار وقال الخبزارزي: رعاه الله حيث غدا وسار ... وأعقبه الغنيمة والإيابا وقال أبو المعافاة: ردّك الله إلينا سالما ... بعد غنم واغتباط وظفر الدعاء للقادم من سفر قال أبو العتاهية : لا زلت من غنم إلى راحة ... تقدّم يا خير فتى قادم وقال ابن الرومي: لا زلت من غنم إلى ... دعة وأمن قادما «2» وله: قدوم سعادة وقفول يمن ... هو البشر المخفّف كلّ حزن وقيل لما دخل النبي صلّى الله عليه وسلم المدينة كان نساؤها يقلن: طلع البدر علينا ... من ثنيّات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع تهنئة بالصوم قال الصنوبريّ: نلت في ذا الصّيام ما ترتجيه ... ووقاك الإله ما تتّقيه أنت في النّاس مثل ذا الشهر ... في الأشهر بل مثل ليلة القدر فيه «3» تهنئة بالعيد قيل: قبل الله منك الفرض والسنّة واستقبل بك الخير والنعمة. وقال ابن خلاد: بأسعد طالع عيّدت يا من ... بطلعته سعادة كلّ عيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 وقال المتنبّي: هنيئا لك العيد الذي أنت عيده ... وعيد لمن سمّى وضحّى وعيّدا «1» ولا زالت الأعياد لبسك بعدها ... تسلّم مخروقا وتعطى مجدّدا وقال آخر: البس النعماء ما أو ... مض برق في غمام واصلا عيدا بعيد ... ودواما بدوام تهنئة بخلعة قال أبو بكر الصولي: خلع خلعت بها قلوب عداكا ... ملأت سرورا كلّ من يهواكا لا زلت تلبس كلّ يوم مثلها ... أبدا على إرغام من عاداكا «2» ووقاك ربّ النّاس ما تخشاه من ... عنت الزّمان وظلمه وكفاكا «3» تهنئة بدار قال ابن الرومي: دار أمن وقرار ... واعتلاء واقتدار أسست والطير باليمن وبالسّعد جوار ... خير دار حلّ فيها خير أرباب الدّيار ... وقديما وفق الله خيار الخيار وقال القاضي علي بن عبد العزيز: ليهن ويسعد من به سعد الفضل ... بدار هي الدنيا وسائرها فضل دعاء لتناول شيء من لحيته نزع رجل من لحية الحسن قذاة، فقال: لا بك السوء، وقال آخر: لا عدمت ربك نافعا. وتناول بعضهم من لحية رجل شيئا فقال: صرف الله عنك السوء. فقال إليك لا عاد. ورأى الفتح شيئا في لحية المتوكل فلم يمد يده إليه ولا قال له شيئا، بل قال يا غلام هات مرآة أمير المؤمنين فجيء بها ونظر فيها فأخذه بيده. وعلى العكس من هذا الباب قال الأصمعي: نزع رجل من لحية آخر شيئا فقال: نزع الله ما بك من نعمة. وتناول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 بشّار من لحية رجل شيئا فقال: لا يمنعني أن أقول صرف الله عنك السوء إلا مخافتي أن يذهب الله بوجهك إنه سوء. ومن هذا الباب قال أبو الأسود: لا يفض الله فاك أي لا يجعله فضاء بذهاب الأسنان. وقال بعضهم: طاب طيبك وعاش حبيبك ولا زال خير ينوبك. وقال رجل لآخر: رحمك الله فقال له مجيبا له: يغفر الله لي ولكم، فقال ما أنصفتنا آثرناك على أنفسنا بالدعاء وجعلتنا علاوة على نفسك. دعاء مكروه المبدأ دعا رجل لسلطان فقال: لا صبّحك الله إلا بخير فأمر بأن يصفع، وقال: من آخذني باحتمال قبيح ابتداء سلامه والصبر على انتظار تمامه. ولما أنشد أبو مقاتل الضرير الراعي يهنئة بمهرجان: لا تقل بشرى ولكن بشريان أمر بطرده، وقال: أعمى ينشد يوم المهرجان لا تقل بشرى. وقال رجل لبعض الخلفاء في كلام نفاه: لا أطال الله بقاءك، فقال: قد علمتم لو تعلمتم ألا قلت: لا وأطال الله بقاءك، وعنى بذلك ما روي أن رجلا قال بلعضهم: لا وأطال الله بقاءك، فقال: ما رأيت واوا أحسن موقعا من هذا الواو. وقال رجل لآخر: كيف أنت؟ فقال: كبر ضعفي، فقال قوّى الله ضعفك، فقال: اسكت إذا يزيد في علتي، قل: قوّاك الله على ضعفك. ويقرب من ذلك ما حكي أن رجلا تعرض للصاحب فقال: أنا قاضي شلنبة وأدعو أبدا على مولانا، فقال: ادع على نفسك. فقال: لا بل على مولانا، وقدر أن ذلك زيادة في الدعاء، فقال الصاحب: زادنا في البر. (5) ومما جاء في الدعاء على الإنسان حذق اللئيم بالسّباب وعجز الكريم عنه قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: ما تساب اثنان قط إلّا غلب ألأمهما. أخذه الشاعر، فقال: وإنّك قد ساببتني فغلبتني ... هنيئا مريئا أنت بالسبّ أحذق «1» ونازع رجل المهلب فأربى عليه، فقيل له: لم سكتّ عنه؟، قال: استحييت من سخف المسابة ورغبت عن غلبة اللئام، وكان إذا سبني تهلل وجهه واستنار لونه وتبجحت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 نفسه فإن غلب فبفضل القحة ونبذ المروءة وخلع ربقة الحياء وقلة الاكتراث بسوء الثناء. ما جعلته العرب تعجّبا من الشّتّم تقول العرب: قاتله الله. قال ابن الأعرابي: إذا قيل قتله الله لا يكون إلا شتما وإذا قيل قاتله الله يكون تعجبا. وماله، لا عد من نفره وتربت يداه وثكلته أمه وهوت أمه كل ذلك يستعمل على طريق التعجب واستعظام القول فيه، ولهذا قال بعض الشعراء: أسب إذا أجدت القول ظلما ... كذاك يقال للرجل المجيد الحثّ على التعريض بالشتم دون التصريح قال أبو عمرو بن العلاء: أحسن الشتم ما يتذاكره ذوو المروآت في مجالسهم ولا يتحاشى من روايته أهل الأديان. من شتم كثيرا معرّضا غير مصرّح سأل رجل بعض الكبار شيئا فاعتذر إليه بفقر ناله، فقال: إن كنت كاذبا فجعلك الله صادقا وإن كنت محجوبا فجعلك الله معذورا. كتب هشام إلى ملك الروم: من هشام أمير المؤمنين إلى ملك الطاغية، فكتب إليه ما ظننت أن الملوك تسب وما الذي يؤمنك أن أكتب إليك من ملك الروم إلى الملك المذموم هشام الأحول المشؤوم. كان محرز الكاتب إذا رأى ابن شاهين قال: حيّاك الله وجها ألقاك به وهو لا يفهم، فلما أكثر، قيل له: إنما عنى نفسه بما يقوله، فقال: دعوه لي فلما رآه وقال له ذلك، قال: لا حيا الله وجها أراك به، فضحك محرز وقال: آمين. قال بعضهم: سلام ساقط الميم ... على وجهك بالحاء لنا في البيت خروف ... فكل منه بلا فاء وقال ابن الحجّاج: وزنته ألفين يا ليته ... أصبح في تصحيف ألفين أي في القبر. وسأل أمير المؤمنين بعض الناس فقال: هل سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: عليّ مني كهرون من موسى، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، فقال: كبرت سنّي ونسيته، فقال: إن كنت كاذبا فضربك الله ببيضاء لا تواريها العمامة فصار ذا برص إلى أن مات. من تملح في شتم كبير خرج المهدي إلى الصيد فتفرد مع غلام فرأى أعرابيا، فقال: إني أريد أن أضحك من هذا الأعرابي فأتاه الغلام فقال: أجب أمير المؤمنين فقال مالي ولأمير المؤمنين؟ فزناه وشتمه. فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين هذا شتمني. فقال المهدي: يا غلام اعطه دانقا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 فقال الأعرابي أدية فريتكم دانق يا أمير المؤمنين، قال: نعم، قال: فأنت زان وابن زانية وابن زان خذ درهما ومر في حفظ الله. وقال هشام: من يسبني ولا يفحش وهذا المطرف له، فقال له أعرابي: هاته يا أحول، فقال: خذه قاتلك الله. وقال البوشجان: حضرت مجلس المبرّد فسمعنا نفاشا يقول في حر أم أصفهان، فقال أبو العباس: هذا قد شتمكم على قول الله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «1» أي أهلها. الدعاء على إنسان بالمرض قال أعرابي لرجل: إن كنت كاذبا فبعث الله عليك داء ليس له دواء. وقال آخر: رماه الله من الداء بما يصير به رحمة للأطباء. وقيل: ماله خرب وحرب وذرب، معنى ذرب فسدت معدته. ماله وراه الله الورى سعال يقيء منه الدم، قال عبد بني الحسحاس: وراهنّ ربّي مثل ما قد ورينني ... وأحمى على أكبادهن المكاويا وقيل: بفيه الثرى وحمى خيبرا. فإنه خيسرى ابن خاسر أبرد الله مخّه، أي أهزله. ماله ال «2» وغل وسل كساه الله عصابة رمد ورداء نكد وإزار جذام. الدعاء عليه بفقدان الجوارح جذعه الله جذعا مرعبا، ... أشل الله عشره فلا استقلّت أبدا ... سوطا من الأرض يده وقالت جارية الناطفي: فليت من يضربها ظالما ... تيبّس يمناه على سوطه الدّعاء عليه بذهاب المال شرب باردا وجلب قاعدا. أي لا كان له لبن حتى يشرب الماء القراح، وعوّض من الإبل غنما يحلبها قاعدا ونحوه. أباد الله رواغيه وأبقى ثواغيه. رماه لله بقرع الفناء وصفر الإناء. قرع مراحه وساف ماله. لا طلبته الخيول ولا تكاءدته المحول، أي لا جعل الله له مالا تطلبه الخيول للغارة أو يتكاءه «3» جدب الزمان. فعلى هذا حمل قول الشاعر: وجنّبت الجيوش أيا زينب ... وجاد على منازلك السّحاب الدعاء عليه بالهلاك رماه الله حيث لا يرى بفاقرة الثرى، أي الأفعى. كقولهم: رماه الله بأفعى عادية ورماه الله ببليّة لا أخت لها، وتقول: ثل عشره وجذ ثدي أمه وهوت أمه، وزال زواله ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 عد من نفره، رماه الله بثالثة الأثافي ورياح عاصفة وسيول جارفة. ويقال: مالكم تفاقدتم فجع الله به وادا ودودا واشمت به حاسدا حسودا، وسلّط عليه هما يضنيه وجارا يؤذيه وعدوا يرديه، أقام الله عليه ناعيه وأشمت به أعاديه. قالت امرأة: ارم بسهمين على فؤاده ... واجعل حمام نفسه في زاده «1» وفي معنى أفقدنيه الله فقدت خيالك لا من عمى ... وصوت كلامك لا من صمم قال الحميري: ربّ قد أعطيتناه ... وهو من شرّ عطاء فارجعنه ربّ عنّا ... بإزار ورداء الدعاء بإزالة الدولة قال أبو هفّان: أزال الله دولتهم سريعا ... فقد ثقلت على عنق الزّمان وقال جحظة البرمكي: سألت الله تعميرا طويلا ... ليبهجني بخطب يعتريكم «2» أخاف بأن أموت ولن تريني ... صروف الدّهر ما أهواه فيكم الدعاء على ظاعن ودعت امرأة زوجها ورمته بروثة ونواة وحصاة، وقالت: راث خبرك وتناءت دارك وانحصى أثرك، ثم أنشدت: اتبعته إذ رحل العيس ضحى ... بعد النواة روثة حيث انتوى «3» للروثة الريث وللنأي النّوى وقال علي بن عاصم: أمّا وقد ضمّه الفرار ... فلا يضمنّه القرار ولا اطمأنت به الفيافي ... ولا استقرّت به الدّيار وقال ابن حازم: وداع دون أوبته النّشور ... ونأي لا يقربه مسير «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 وقال غير ميمون ولكن ... بأنكد ما يدور وما يطير وقال أبو هفّان: في عذاب يطلب الطا ... لب من أدناه موته ونحوس قاطعات ... لك عما قد نويته الدعاء على متزوّج قال بعضهم: المتزوج بالبيت المهدوم والطائر المشؤوم والرحم المعقوم. قال أبو الفرج الكاتب: بالرّزايا والطائر المنكوس ... كان يوم الزفاف والتعريس «1» واصل الله باتصالك هذا ... نكبات مبيدة للنفوس «2» دخلت رجلها دخول قدار ... وطويس ومنشم والبسوس «3» وتبدلت بالجلاء جلاء ... وبرحب الديار ضيق الحبوس «4» الدعاء على باني دار قال البسّامي: شدت دارا خلتها مكرمة ... سلط الله عليها الغرقا وأرانيك فقيرا وسطها ... وأرانيها صعيدا زلقا «5» أنواع مختلفة قال أبو الوليد الكناني: بلوناهم واحدا واحدا ... فكلّهم شأنهم واحده فلا ذرأ الربّ أولادهم ... ولا بارك الربّ في الوالده «6» وقال أعرابي: وصاحب قلت ولم أسمه ... لما به من مقته وغمّه لعن الإله ثعلة بن سافر ... لعنا عليه يشقّ من قدّامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 وقال أبو الأشعث الهمداني وقد سرق له أضحية: يا سارق الكبش رجلاه وجبهته ... في صدع أمّك بالقرنين والذنب «1» هلا سرقت جزاك الله لعنته ... من الموالي ولم تسرق من العرب سمع ذو الرمة رجلا يقول: على فلان لعنة الله، فقال: لم يرض بواحدة حتى شفعها بأخرى، ومعنى ذلك أنه اعتقد في قوله لما سمعه مفتوحا أنه مرفوع مثنى كقولك. هذان عبد الله. قال شاعر: وما دعوت عليه قطّ ألعنه ... إلا وآخر يتلوني بآمين «2» سقط مخنث من جبل فغشي عليه، فلما أفاق قال: يا جبل ما أصنع بك أضربك لا يوجعك، أشتمك لا تبالي، ولكن بيني وبينك يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش. ومن كلام أبي العبر: استودعك الله حائطا مائلا وكنيفا سائلا. وقع بين أنس بن مالك وامرأته شرّ فقال لامرأته: لأدعون الله عليك، فقالت: قد دعوته على الحجّاج فما زادت رقبته إلا غلظا. حكى الصاحب أن أبا علي بن مثوبة كان إذا شتم إنسانا في غضب عظيم يقول: يا قواد يا قواد ترقال هذه الزيادة لم تسمع إلا منه. قال لرابية الأسدية: فمن لامني في حبّ نجد وأهله ... فليم على مثل وأوعب جادعه «3» وقال معاذ الدهلي: لحى الله أدنانا إلى اللؤم زلفة ... وألأمنا أمّا وأسقطنا جدا «4» قال الأصمعي: كان النساء يقلن للشيخ إذا سعل وريا وقحابا، وللشاب عمرا وشبابا. القحب السعال. حكي عن يهودي بأصبهان أنه كان إذا أتاه جندي فيقول: يا أخا القحبة، يقول: لما سمعت صوتك علمت أنه هو، وقال له غلامه. إن هذا يقول يا ديوث، فقال: الديوث إيش يعمل ههنا يعرض به. وقال إنسان امرأته قحبة، فقال: أليست أختا لك أليست بنتا لك. قال له إنسان: امرأته قحبة، فقال: خلالت هوذا أي أنها امرأتك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 (6) وممّا جاء في الهدايا الحثّ على الإهداء وذكر فضيلته قال النبي صلّى الله عليه وسلم: تهادوا تحابّوا، وقال: الهدية تسلّ السخيمة. وقال عمر رضي الله عنه: نعم الشيء الهدية بين يدي الحاجة. وفي الخبر: إذا قدم أحدكم من سفر فليهد إلى أهله وليطرفهم، وإن حجارة. وقيل: أسكفة الباب تضحك من الهدية، وقيل: الهدية هداية. قال: ما من صديق وإن تمّت صداقته ... يوما بأنجح في الحاجات من طبق لا تكذبنّ فإنّ النّاس مذ خلقوا ... عن رغبة يعظمون النّاس أو فرق «1» أما الفعال ففوق النجم مطلبه ... والقول بوجد مطروحا على الطّرق وقال آخر: إذا أتت الهديّة دار قوم ... تطايرت الأمانة من كواها «2» وقيل: الهدية بضاعة تيسّر الحاجة، ومن صانع بالمال لم يحتشم. قال الغاضري لأصحابه: أي راكب أحسن؟ فقال بعضهم تمرة على زبدة، فقال: لا بل هدية على حمال. ومن أمثال الفرس: الهدية تغالط العقول. الحثّ على قبول الهدية قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إن الهدية رزق الله فمن أهدى إليه شيء من غير سؤال ولا إسراف فليقبله فإنما هو رزق ساقه الله إليه، وقال: من سألكم بالله فاعطوه ومن استعاذكم فأعيذوه ومن أهدى إليه كراع فليقبله. وقال: لو أهدي إليّ كراع لقبلت، ولو دعيت إلى كراع لأجبت. الحثّ على المقابلة قال الله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها «3» ، فسّره بعضهم بالهدية وجعل الثواب بها واجبا وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها ما هو خير منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 أنشدني بعضهم: رأيت النّاس طرّا في الهدايا ... كبيع السوق خذ منّي وهات طلب الهدية ومعاتبة من تركها روي أن رجلا أهدى إلى الحسن والحسين رضي الله عنهما ولم يهد إلى ابن الحنفية فأنشأ أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يقول: وما شرّ الثّلاثة أم عمرو ... بصاحبك الذمي لا تصحبينا «1» وكتب رئيس إلى بعضهم: لا تهدين ما يجحف بحالك فإنه لا يزيد في مالي ولا يمنعك من ملاطفتي بيسير، واللطف استعظامك لمكاني فالكثير منك يسير واليسير عندنا كثير والسلام. قال المعيطي: أتاني أخ من غيبة كان غابها ... وكنت إذا ما غاب أنشده الركبا «2» فجاء بمعروف كثير فدسّه ... كما دسّ راعي السوء في حضنه رطبا فقلت له: هل جئتني بهدية ... فقال: بنفسي قلت: أطعمتها الكلبا هي النفس لا أرثي لها من ملمة ... ولا أتمنّى إن نأيت لها قربا الهديّة مشتركة قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا أتى أحدكم بهدية فجلساؤه شركاؤه فيها. وكان الهيثم بن عدي يحدث بهذا الحديث فما تمم حتى طلعت هدية فقال: ما خلا هذه. نهي الولاة عن قبول الهديّة صعد النبي صلّى الله عليه وسلم المنبر فقال: ما بال أقوام استعملتهم على الصدقات فيجيء أحدهم فيقول هذا ما لكم وهذا أهدي إليّ، هلّا جلس في حفش أمه فينظر أيهدى إليه، والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقّه إلا لقي الله يحمله فليأتين أحدكم وعلى رقبته بعير له رغاء بقرة لها خوار وشاة لها ثغاء، ثم رفع يده وقال: اللهم قد بلغت. وروي: إياكم والهدية فإنها ذريعة الرشوة. ولعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي. قال الشيخ وقد ذكرت خبر أنوشروان مع غيره في مثل هذا الباب في الولايات. الممتنع من أخذ الهديّة سأل رجل الخيزران حاجة فاستبطأها فأهدى إليه هدية، فكتب إليه: إن كان ما وجهته ثمنا لرأيي فيك فقد بخستني في القيمة وإن كان استزادة بها استغششتني في النصيحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 وقال المدائني: أهدى رجل إلى مجوسي هدية فاغتم لذلك فقيل له، فقال: لئن ابتدأني بها فإنه يدعوني إلى أن أتقلد منه، ولئن كافأني على معروف عنده إنه ليروم أخذ ذلك، فمن أي هذين لا أجزع. وطلب عبد الله بن جعفر لأزادمرد حاجة من أمير المؤمنين رضي الله عنه فأهدى إليه أزادمرد أربعين ألف درهم فامتنع عبد الله من أخذها، وقال: إنّا أهل بيت لا نأخذ على معروفنا ثمنا وأهدى عبد الله بن السري إلى عبد الله بن طاهر لما ولاه مصر مائة وصيفة مع كل واحدة بدرة وبعثها إليه ليلا، فردها وكتب إليه: لو قبلت هديتك ليلا قبلتها نهارا وما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون. من لان بعد شدة لأخذ هديّة مرّ زياد بأبي العريان بالبصرة، فقال: من هذا؟ فقالوا: زياد بن أبي سفيان، فقال ما أعرف في ولد أبي سفيان زيادا، فبلغه ذلك، فوجه إليه دنانير ثم مر به، فقال: من هذا فقالوا زياد بن أبي سفيان، فقال لقد ذكرني شمائل أبي سفيان، فبلغ ذلك معاوية رضي الله عنه، فكتب إليه: ما لبثتك دنانير رشيت بها ... إن لونتك أبا العريان ألوانا لله در زياد منذ قدمها ... كانت له دون ما يخشاه قربانا «1» فكتب له: ابعث لنا صلة تحيا النفوس بها ... قد كدت يا ابن أبي سفيان تنسانا من يسد خيرا يجده حيث يجعله ... أو يسد شرا يجدّه حيثما كانا أما زيّاد فلا أنسيت نسبته ... ولم أرد بالذي حاولت بهتانا «2» ولما ولي الحسن بن عمارة المظالم، قيل ذلك للأعمش فقال: ظالم ولي المظالم، فأهدى إلى الأعمش رزمة ثياب فجعل يقول من بعد: إن الحسن كريم وحر سخي. وكان رؤبة له حكومة فلم يكن يبلغ مراده فيها فأهدى إلى الحاكم شيئا فنال ما رام، فقال: لما رأيت الشفعاء بلدوا ... أسوتهم برشوة فقردوا «3» وسهل الله بها ما شدّدوا وكان بعض الولاة يخاشن بعض عماله فأرضاه بما أهداه، فسألته كيف حالك مع فلان؟ فقال: قد سد ابن بيض الطريق وخبره معروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 استرداد ظروف الهدايا وتركها قال الغنوي: استديموا الهدايا برد الظروف، وقال إسحاق بن إبراهيم: كنت مع الرشيد بالكوفة في شهر رمضان، فقال لموسى بن عيسى: يا أبا عيسى. حلواؤنا عليك، وكان يوجه إليه كل ليلة عشر صحاف. فلما كان بعد عشر ليال قطعها، فقال له الرشيد أصغوت فقطعت الحلواء، فقال: ما قطعها غيرك إن أنصفت. قال: كيف؟ قال: إن من يأخذها منا لا يريد صحفة ولا منديلا ولا طبقا، قال: بئس ما عمل إن الهدايا تستدام برد الظروف فإذا صرت المتقاضي وأنت القاضي فلا تحتشم أحدا في استرداد الظروف. للصاحب وقد أهدى دنانير على طبق فضة فكتب بأبيات فيها: والظرف يوجب أخذه مع ظرفه الاعتذار من إهداء شيء طفيف كتب بعضهم: سهل لي سبيل الملاطفة فأهديت هدية من لا يحتشم إلى من لا يستغنم. كتب أحمد بن يوسف: للهدية معنيان كلاهما يوجب القبول، وإن قل. وقيل: إن كان لك عند المهدي يد فلا تستقصر بمزيدك وإن كان مبتدئا، فالتفضل لا يستقل الهدية. أظرفها أخفها وأقلها أنبلها. وكتب آخر قدمت المعذرة في إهداء ما اتسعت به المقدرة. وروي أن سليمان عليه الصلاة والسلام مرّ بعش قنبرة فأمر الريح أن تتجنب عشها الذي فيه فراخها. فجاءت القنبرة لما نزل سليمان فرفرفت على رأسه وألقت جرادة هدية له لما فعل، فقال سليمان: هي مقبولة فكل يهدي على قدر وسعه. ومما يروى لأبي يوسف القاضي: علينا بأن نهدي إلى من نحبّه ... وإن لم يكن في وسعنا ما يشاكله «1» ألم ترنا نهدي إلى الله ماله ... وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله وقال دعبل: هذي هدية عبد أنت ملبسه ... ثوب الغنى فاقبل الميسور من خدمك وقال الخبزارزي: تفضّل بالقبول على أنّي ... بعثت بما يقلّ لعبد عبدك أهدى بعض الأدباء إلى المعتز شيئا، وكتب إليه: لا يعيب العبد أن يهدي إلى سيده القليل من نعمته عنده ولا السيد أن يقبل ذلك وإن كان الكل له والسلام. المقتصر في الهديّة على الشّكر قال المازني: أظرف من اعتذر للفقر واقتصر على الشكر في الإهداء أحمد بن إبراهيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 كتب إليه ابن ثوابة: إنّي جعلت هديّتي ... في المهرجان إليك شكري لمّا تعذّر واجب ... فسح التعذر فيه عذري فإذا مررت بذكر من ... جاءت هديّته ببرّ فادر على اسمي دارة ... واكتب عليه أتى بعذر وقال محمد بن أبي حكيم: رأيت كثير ما يهدي قليلا ... لعبدك فاقتصرت على الدّعاء وقال آخر: وافق المهرجان والعيد منّي ... رقّة الحال وهي داء الكرام «1» فاقتصرنا على الدعاء وفيه ... عون صدق على قضاء الذّمام «2» المقتصر على إهداء النفس اقتصد المتوكل فلم يبق أحد من جواريه وحشمه إلا أهدى إليه، فأخبرت قبيحة بذلك، وكانت معشوقته فتزينت ودخلت عليه فأنشدته: طلبت هديّة لك باحتيال ... على ما كان من حسّي وبسّي «3» فلمّا لم أجد شيئا نفيسا ... يكون هديّتي أهديت نفسي فقال المتوكل: نفسك والله أحب إليّ. قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: حبيبي فصدت العرق من أجل علّة ... فلم تهد لي فيه وصالا مجدّدا فأهديت نفسي يوم فصدي بوصلها ... إليك فخذها كي تكون لك الفدا استهداء النفس كتب أبو العباس بن رشيد إلى صديق كان مشغوفا به: النّاس يهدون إلى المفتصد ... أحسن ما يلقونه في البلد فاهد لي وجهك يا سيّدي ... فإنّه أحسن شيء يرد المهدي شيئا معينا أهدى أبو عبادة الوزير إلى المأمون مصحفا في يوم مهرجان ووافق أول يوم من شهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 رمضان فكتب إليه عدلت عن هدايا السلطان إلى التيمّن بالقرآن وما يرضى الرحمن فوقع في رقعته فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ «1» . وأهدى أحمد بن يوسف إلى المأمون هدايا وكتب إليه رقعة، فلم يستظرف من هديته شيئا إلّا قوله في رقعته هذا يوم جرت فيه العادة بالطاف العبيد للسادة. وبعث إبراهيم بن المهدي بجراب ملح وجراب أشنان وكتب معهما: قصرت البضاعة عن بلوغ الهمة فكرهت أن تطوى صحف البر خالية من ذكرى، فبعثت بالمبدوء به لبركته والمختوم به لنظافته والسلام. وشرب الرشيد دواء فأهدت إليه الخيزران جارية بكرا معها جام، كتب عليه: إذا خرج الإمام من الدواء ... وأعقب بالسّلامة والشّفاء فليس له دواء غير شرب ... بهذا الجام ينزع بالطّلاء وفضّ الخاتم المهدي إليه ... فهذا العيش من بعد الدواء وأهدى رجل إلى آخر قلنسوة ونعلا وخاتما فقال لقد أشواني فلان بكسوته أي أصاب شواي. ذكر الهديّة بأنها أمارة لفضل صاحبها أو نقصه قيل: يعرف فضل المرء بفضل هديته وسخافته بسخافة بره. وقيل: ثلاثة تدل على عقول أربابها الهدية والرسول والكتاب. وقد حكى الله تعالى عن بلقيس أنها قالت وإني مرسلة إليه بهدية فناظرة بما يرجع المرسلون، فجعلت جواب الهدية دلالة. قال كشاجم: إنّ هدايا الرجال مخبرة ... عن قدرهم قلّلوا أو احتفلوا «2» المهدي هدية سخيفة أهدى أبو رهم السدوسي إلى قينة كان يتعشقها زنبيل بصل، فقال فيه ابن المعدل: قالت جبل ماذا العمل هذا الرجل حين احتفل أهدى بصل. أهدى رجل إلى إسماعيل الطالبي فالوذجة عتيقة قد زنخت، وكتب معها إني اخترت لعملها سكر السوس والعسل الماذي والزعفران الأصفهاني، فكتب إليه: برئت من الله إن كانت هذه الفالوذجة قد عملت إلا قبل أن يوحى ربك إلى النحل. وأهدى أبو علي البصير إلى أبي العيناء كرينجان قد كتب على كل واحدة منها ادخلوها بسلام آمنين، فردها أبو العيناء وقد كتب عليها فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن. وكان رجل قد شغف بصبي فأهدى إليه، كلبا فقال أبو شبل: وما رأت عيني ولا قيل لي ... إن فتى مستهترا صبّا «3» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 لمّا دنا من وصل أحبابه ... أهدى إلى أحبابه كلبا «1» قال الصولي: أهدى إليّ هديّة مذمومة ... وأذمّ منها عندنا مهديها وكأنّما هي في سماجة منظر ... تحكيه في قبح كما يحكيها «2» الممتنّ بهديّة أهداها أهدى رجل إلى الأعمش بطيخة، فلما أصبح قال: يا أبا محمد كيف كانت البطيخة، قال: طيبة. ثم أعاد عليه ثانيا وثالثا فقال: إن خففت من قولك وإلا قئتها. وأهدى أبو الهذيل إلى أستاذ له ديكا فكان بعد ذلك إذا خاطبه أرّخ بديكه، فيقول إنه كان يوم أهديت إليك الديك وإنه كان قبل الديك بكذا وبعد الديك بكذا. وقدم زياد على معاوية وأهدى إليه هدايا كثيرة فأعجب بها معاوية، فلما رأى زياد سروره بذلك قال: يا أمير المؤمنين إني دوخت لك العراق وجبيت لك برها وبحرها وغثها وسمينها وحملت لك لبها وسروها، فقال له يزيد: أما إذا فعلت ذلك فقد نقلناك من ولاء ثقيف إلى شرف قريش ومن عبيد إلى أبي سفيان، وما أمكنك تدويخ العراق إلا بنا. فقال معاوية: حسبك فداك أبوك ووريت زناده فيك. الشاكر المهدي إليه أتتنا هدايا منه أشبهن فضله ... ومنّ عليّ منعما متفضّلا ولو أنه أهدى إليّ وصاله ... لكان إلى قلبي ألذّ وأوصلا (7) وممّا جاء في الطبّ والمرض والعيادة قيل: حد الطب دفع الضد بالضد، وقيل: هو معرفة الداء وتلقيه بالدواء. وأصل الطب العلم والطبيب صار اسما للعالم بمداواة أبدان الناس. وقيل: هو استدامة الصحة ومرمة السقم. وقال عبد الله بن المعتز: المرض حبس البدن والهم حبس الروح. مدح طبيب حاذق حكي أن سلمويه طبيب المأمون، وكان قد أسنّ وذهب بصره، كان دخل على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 المأمون يتكىء على صبية تقوده، فلما قام المأمون قام ثم رجع، فرجع سلمويه إلى حضرته واتكأ على تلك الصبية، فقال للمأمون: هذه الصبية كانت بكرا وخرجت من عندي الساعة وعادت ثيبا فاستخبرها «1» ، فقالت: إن العباس ابن أمير المؤمنين دعاني إلى نفسه لما خرجت فافتضني، فقال له المأمون: وكيف علمت ذلك؟ فقال: كنت أخذت مجستها فوجدتها قوية ثم جسستها فوجدت نقصانها فعلمت ذلك، فتعجب المأمون من حذقه ونحو ذلك في التنجيم. حديث الفيلسوف الذي كان ينام على سرير فنام عليه ذات يوم فأنكره وقال: إما أن تكون السماء قد انحدرت أو الأرض قد ارتفعت، فتأمّل فإذا قد جعل تحت قائمة السرير شيء ارتفع به عن الأرض. ومن الحذق البيّن ما حكي أن عمرو بن الليث زلقت رجله فانخلعت إحدى فخذيه فنام على الفخذ الوجعة واستحضر المجبرين، وجعل يعرض على واحد واحد الفخذ الصحيحة ويئن إذا مست، وكان يقول: بهذا نختبرهم إلى أن حضر المعروف بابن المغازلي فلما جسها أنّ عمرو، فقال ابن المغازلي: ما هذه الجلبة ما بك من قلبة، وإن فخذك أصح من فخذ الظليم. فعرض عليه الفخذ الأخرى فقال أما هذه فنعم، فعلم عمرو أنه حاذق، فقال: إن مداواتها صعبة لأنها تحتاج إلى إشالة الرجل وأنا استسمج ذلك ولكنني أحتال له، فعمد إلى زق فوضعه بين رجلي عمرو وشد إبهامي رجليه بعضهما إلى بعض وجعل ينفخ في الزق وهو يربو وينتفخ ويرتفع الفخذ بانتفاخه إلى أن امتد الزق ورد العضو إلى موضعه، ثم حل الإبهامين وشده إلى أن برأ. وقال رجل: توجّعت من رجلي مدة وتداويت بكل دواء فلم ينفع فرأيت طبيبا فوصفت ذلك له، قال: انظر فلعل إحدى ركابيك أطول من الآخر فتأملت فإذا هو كذلك، فأصلحته فزال الوجع السري. قال الكندي: أحيا لنا علم الفلاسفة الذي ... أودى فأوضح رسم طب عاف «2» فكأنه عيسى بن مريم ناطقا ... يهب الحياة بأوهن الأوصاف يبدو له الداء الخفيّ كما بدا ... للعين رضراض الغدير الصافي «3» وله: كأنّه من لطف تدبيره ... يجول بين الدم واللحم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 لو غضبت روح على جسمها ... ألّف بين الروح والجسم ذمّ طبيب رأى أفلاطون إنسانا مدعيا للصراع ضعيفا في دعواه ثم تحول طبيبا، فقال له: الآن أحكمت الصراع، تهيأ لصراع من شئت فإنك تصرعه. ترك لافس التصوير وتطبب فقيل له في ذلك فقال: الخطأ في التصوير تدركه العيون وتلحقه العيوب وخطأ الطبيب تواريه القبور. ورأى فيلسوف طبيبا جاهلا، فقال: هذا مستحث للموت. قال الخبزارزي في طبيب اسمه نعمان: أقول لنعمان وقد ساق طبّه ... نفوسا نفيسات على ساكني الأرض أيا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشرّ أهون من بعض مدح الحمية قيل: الحمية طابع الصحة. وقيل للحرث بن كلدة: ما الدواء الأكبر، فقال: الأزم وقيل حمية شهر أيسر من سهر ليلة، وأن تصبر على الحمية شبرا خير من أن تقاسى العلة فترا. وقيل لا تأكل ما تشتهي فيصيرك إلى ما لا تشتهي. وقيل للسري: قد تركت الشهوة، فقال: تركت ما أحب لأستغني عن العلاج بما لا أحب. واحتمى أحمد بن المعدل لعلة به فبرأ، فقال: الحمية صالحة لأهل الدنيا تبرئهم من المرض ولأهل الآخرة صالحة تبرئهم من النار. وقال عمر رضي الله عنه: عزم الرجل بحميته وحزمه بمتاع بيته. وقال المأمون لطبيبه: ما الذي يذهب بأكل الطين، فقال: عزمة من عزمات الرجال، قال صدقت، فتركه بعد ذلك ولم يعاوده، قيل للصاحب يوما: تحتمي وتشرب الأدوية، فقال افعل ذلك بغضا في الحمية وشرب الأدوية. ذمّ الأدوية أيام الصحة وتجاوز الحدّ فيها قيل: ليس الحمية في الصحة بأوجب من التخليط في الصحة. واستوصف العباس أخو المنصور طبيبا فقال له: كلّ في الصحة على الطبيب وفي المرض على مقتضى قول الطبيب. ودخل بيادوق طبيب الحجاج على بشر بن مروان فقال: أما ترى هذه العلة قد طالت بي، فقال: إلى أن أختبرك ولا يكون ذلك إلا على الريق فبكر إليه وأضجعه على الحصير وجسه ما بين أخمص قدمه إلى هامته، ثم قال: أيما أحب إليك الصدق أم الكذب؟ فقال وما حاجتي في الكذب؟ فقال: إنك ميت، فقال أرني أمارة ذلك فدفع إليه قطعة لحم طري وشدها في أبريسم وقال ازدردها ففعل، وتركها ساعة ثم قلعها فإذا عليها دود كثير، فقال: كيف أصابني ذلك وقد قدمت بلدكم وكننت نفسي من الحر والبرد، فقال: منها أتيت فقد نغل جسمك، فالأبدان لا تقوم إلا بالحر والبرد وإن أذياها. فعاش بعد ذلك ثلاثة أيام. وقيل الجوع للحمية أضر على البدن من العلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 صعوبة الحمية ومدح تركها قيل: الحمية إحدى العلتين، فمن احتمى فهو على يقين من المكروه وفي شك من المحبوب. قال عبد الصمد بن المعدّل: وقالوا شفاؤك في حمية ... تعود عليك بها النّضره فأصبحت في بلد مخصب ... ببلقعة جدبة قفره «1» وقال الرشيد للفضل: ما أطيب ما في هذه الدنيا؟ فقال: رفض الحشمة وترك علم الطب، فلا عيش لمحتشم ولا لذة لمحتم. وقيل: من عرف ما يضره مما ينفعه فهو مريض. وقال أفلاطون: الموت موتان طبيعي وإرادي، فالطبيعي مفارقة الروح البدن والإرادي منع الأبدان الشهوات. وقيل: الأبدان المعتادة للحمية آفتها التخليط والأبدان المعتادة للتخليط آفتها الحمية. مدح القليل من الطّعام وذمّ الإكثار اجتمع أربعة من الأطباء عند المأمون عراقي ورومي وهندي وسوادي، فقال: ليصف كل منكم الدواء الذي لا داء معه، فقال الرومي حب الرشاد، وقال الهندي الهليلج الأصفر، وقال العراقي الماء الحار، وقال السوادي وهو أبصرهم حب الرشاد يورث الرطوبة والماء الحار يرخي المعدة والهليلج يرقق البطن، ولكن الدواء الذي لا داء معه أن تجلس على الطعام وأنت تشتهيه. وتقوم عنه وأنت تشتهيه وقيل لطبيب كم آكل فقال خوف الجوع ودون الشبع. مضرّة الشبع فوق مضرّة الجوع قال أبقراط: الإكثار من المنافع شر من الإقلال من المضار. وقال أرسطوطاليس: المطعم والمشرب إذا كثرا على المعدة أطفآ نارها، فجرت الأغذية في البدن غير نصيحة فصار ذلك نقصانا للبدن يورث الفترة كالشجرة إذا كثر ماؤها عفنت وإن قل جفت، وكالسراج إذا قل دهنه أو كثر انطفأ. وقال محمد بن عبد الله بن جعفر: من تغدى وتعشى ولم يأكل فيما بينهما سلم من الأوجاع لقول الله تعالى: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا «2» . وقال بعض الأطباء: أحب الناس إلينا الرغيب البطن لكثرة حاجاتهم إلينا. وقد ذكر بعض هذا الباب في كتاب الأكلة. ما تستدام به الصحة من الأكل والشّرب والصّوم والجماع قال طبيب الحجاج: لا يحفظ الصحة كالأكل بالنهار وتقليل الشرب بالليل وأن لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 يحبس البول والنجو والرياح التي تعرض في البطن من أراد حفظ الصحة فليقلّ الغذاء وغشيان النساء وشرب الماء. ولما احتضر الحارث بن كلدة اجتمع إليه شبان قريش فقالوا أوصنا، فقال: لا يتزوجن أحدكم إلّا شابة، ولا يأكل إلا لحم فتي، ولا يتناولن أحدكم الدواء ما احتملت نفسه الداء، ولا تأكلوا الفاكهة إلا في إبان نضجها. وإذا تغدى أحدكم فلينم عليه نومة وإذا تعشى فليتخطّ على أثر عشائه أربعين خطوة، وعليكم بالنورة في كل شهر فإنها مذيبة للبلغم مهلكة للمرة. وقال أبقراط لما حضرته الوفاة: خذوا جامع العلم مني من كثر نومه ولانت طبيعته ونديت جلدته طال عمره. وقال اسكندر اجمعوا لي الطب في كلمات أتصورها. فقالوا: لا تدخل الفضل على المعدة ولا تمنع نفسك شهوتها فإن النفس تقوى على هضم المشتهي، ولا تنكحن عجوزا ولا تخرج الدم وأنت مستغن عن إخراجه فإنك لا تعل إلا علة الموت. وقيل: راع غذاءك فأنت تحكم به بناءك. أخبر حاتم بن زيد بن المهلب بشيخ قد أتت له مائة وخمسون سنة في اعتدال جسم ونضارة لون استدعاه وسأله، فقال: إن كان لما أرى من هذه الموهبة الجميلة سبب بعد تقدير الله تعالى فما أصفه ما احتملت مهما تبعد على مدافعته، ولا رأيت من زوجة مكروها، ولا اجتمع في بطني طعامان، وإذا شربت شرابا تناولته رقيقا طيبا لا أثمل منه ولا استدعي الطبيعة من غير عارض، وما استدعيت للباه حركة ألا أن يهيج بالطبيعة على القلب وإذا فعلت ذلك أقللت الحركة بقية يومي. وكان جالينوس يقول: اجتنبوا ثلاثة وعليكم أربعة ولا حاجة لكم بالطبيب. اجتنبوا الغشيان والغبيراء والنتن وعليكم بالدسم والطيب والحلواء والحمام. نفع النّوم ومضرّة السهر قال المأمون: قد أصبت دواء يمرىء ولا يؤكل ولا يشرب فقيل ما هو؟ قال: النوم أثر الغداء. وقيل: إذا أكلت فاضطجع على جنبك الأيسر فإن الكبد يقع على المعدة فينضج الطعام فيهضمه. ما تتولّد منه العلل قيل: أضر الأشياء طعام بين شرابين وشراب بين طعامين. وقيل: أضر الأشياء للبدن الفكرة والسهر، وأنهك الأشياء للبدن الخوف. وقيل: ثلاثة تورث الهزال، شرب الماء على الريق والنوم على غير وطاء وكثرة الكلام برفع صوت، وقيل: أربع يهدمن الجسم وربما قتلنه، أكل القديد الجاف والجماع على الامتلاء ومجامعة العجوز وإدخال الطعام على الطعام. وشرب الماء في ثلاثة مواضع متلف: عقيب الخروج من الحمام وأثر الجماع وعلى الإعياء. وقيل: من أدوأ الداء الشرب على اللقمة في الفم وقال طبيب الهند: اجتنبوا ما أخرج الضرع والبحر والنخل تسلموا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 وقال الحارث بن كلدة لأنوشروان: الأكل فوق المقدار يضيق على الروح ساحتها وغشيان المرأة المولية يضعف القوة ويسقم البدن لأنها كالشن البالي ماؤها سم قاتل ونفسها موت عاجل تأخذ منك ولا تعطيك. واجمع علماء الطب على مضرة اللحم الجاف والسمك والبيض البارد، واجمعوا على منفعة النبيذ والسويق والسكنجبين. وقيل: من حم يوما فلا يأكل الكشك سنة، وقيل: كثير الرمان ضار كما أن قليله نافع. من تناول طعاما وتحقّق تولّد علّة منه اجتاز رجل بصديق له محموم فسأله عن سببب علته، فقال: أكلت في هذا الصيف فراخا وعسلا وشربت خمرا صلبا ونمت في الشمس، فقال له: عليّ كل يمين لو كانت الحمى من حملة الشمس ورأتك بهذه الحالة لتركت عملها ووافتك. وقال بعضهم: أكل رجل سمكا وخبزارز ولبنا وشرب عليه ماء كثيرا بجليد ودخل سردابا فجامع ونام هناك فأتى الموت حيه ودق عليهم الباب، وقال تعالوا وانظروا إلى هذا المتخلف وفعله، فإن هذا يموت فيقال اختطفته المنية ولا يعرفون سوء تدبيره وقبح صنيعه. نظر طبيب إلى دهقان يغرس شجرة مشمش فقال له ما تصنع؟ قال: أعمل لي ولك يعني أن الطبيب ينتفع بالمشمش لسوء أثره على آكليه وحاجتهم إلى الطبيب لما يتولد عليهم من الأدواء لأكل الطري منه، وفي هذا المعنى يقول ابن الرومي: إذا ما رأيت الدهر بستان مشمش ... فأيقن يقينا أنه لطبيب يغل له ما لا يغل لغيره ... يغل مريضا حمل كلّ قضيب هيجان الدم ونقصانه قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا تبيغ بأحدكم الدم فليحتجم لئلا يقتله. قال ابن ماسويه: في الفصد ثلاث منافع وثلاث مضار، أما منافعه فإنه يحد البصر ويصفر اللون ويزيد في اللحم، ومضاره أنه يضعف البدن ويجلب الضعف ويقطع الباه، قال جالينوس: الدم في الجسد كالزيت في السراج إذا نفد الدهن طفىء السراج، وقال بختيشوع للمأمون: البدن إلى الدم أحوج منه إلى إخراجه، ألا ترى إلى الطبّاخ الحاذق يجيىء إلى القدر وهي تفور فيأخذ رغوتها ويسكنها بشيء من الماء أو غيره وهي ممتلئة، فكذلك يفعل بالدم. واقتصد المأمون يوما فأراد أن يشرّح وكان قد أتخم فشدوا الرباط عليه فلم يخرج الدم، فقال المأمون: قد عقرتموني فحلوا الرباط واعتزلوا وتشاوروا بظهر الغيب غني فالهيبة قد أدهشتكم، فاعتزلوا يتشاورون فدعا فراشا وأمره بمصه فمصه فخرج الدم. فقال: ادع هؤلاء الحاكة، فلما رأوه أخبرهم بذلك فقالوا لو فعل جالينوس هذا كان عجيبا. تهنئة بالفصد قال ابن رزين الواسطي: أراق الفصد خير دم ... دم الأذهان والفهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 لقد أخطأ الطبيب غدا ... ة فصدك طيّب النسم وراح وفي حديدته ... دم المعروف والكرم قال ابن الرومي: يا فاصدا من يد جلّت أياديها ... وذاق طعم الردى والبؤس شانيها «1» يد الندى هي فارفق لا ترق دمها ... فإن أرزاق طلّاب الندى فيها واقتصد جعفر بن يحيى فكتب إليه الفضل: إذا أنت أسبلت للباسليق ... عيونا من أجفانه الواهيه «2» رأيت اعتدالك يبكي دما ... وتضحك من جنبك العافيه جملة التّداوي قال أبقراط: جملة المعالجة خمسة أضرب، يعالج ما في الرأس بالغرغرة، وما في المعدة بالقيء، وما في أسفل المعدة بالإسهال، وما بين الجلد بالعرق، وما في داخل الجلد بإخراج الدم. وقال جالينوس: يعالج ما في قعر الكبد والطحال والكليتين بإخراج البول، وما في المعدة من ضعف أو تغير مزاج أو فضول زائدة يرقق بالأدوية، إن كانت حرارة بردت وإن كانت رطوبة جففت. من امتنع في مرضه من التّداوي وذكر قلّة غنائه قيل لأبي بكر رضي الله عنه ألا ندعو لك طبيبا، فقال: قد رآني الطبيب وقال أنا فعال لما أريد. ودخل عثمان على ابن مسعود رضي الله عنهما في مرضه. فقال: ما تشتكي؟ قال ذنوبي، قال ما تشتهي؟ قال رحمة ربي، قال ألا ندعو لك طبيبا قال الطبيب أمرضني، قال ألا نأمر لك بشيء قال فما منعني قبل اليوم فلا حاجة لي فيه اليوم، قال تدعه لعيالك قال إني علمتهم شيئا إذا راعوه لم يفتقروا. سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: من قرأ في كل يوم وليلة سورة الواقعة لم يفتقر أبدا. وقيل لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ذلك، فقال: لو علمت أن دوائي في مسح أذني ما مسحتها نعم المذهوب إليه ربي. وقيل للربيع بن خيثم في مرضه: ألا ندعو لك طبيبا فقرأ: وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا قد كان فيهم مرضى وأطباء فلا المداوي بقي ولا المداوى، واستحسن قول الشاعر: إن الطبيب بطبّه ودوائه ... لا يستطيع دفاع مقدور أتى ما للطبيب يموت بالداء الذي ... قد كان يبرىء مثله فيما مضى هلك المداوي والمداوى والذي ... جلب الدواء وباعه ومن اشترى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 وقال المتنبّي: يموت راعي الضأن في جهله ... ميتة جالينوس في طبّه «1» وروي أن موسى عليه السلام قال: يا رب من أين الداء؟ قال من عندي، قال فالدواء قال من عندي، قال فالأطباء ما يصنعون، قال يطيّبون قلوب عبادي حتى تحل عافيتي أو بلائي، وقال ابن نباتة: نعلل بالدواء إذا مرضنا ... وهل يشفي من الموت الدواء ونختار الطبيب وهل طبيب ... يؤخر ما يقدّمه القضاء وما أنفاسنا إلا حساب ... ولا حركاتنا إلا فناء «2» وقال مسلمة ما وعظني شيء بعد القرآن كما وعظني بيتان لعمران بن حطان: لنا كل عام مرضة ثم نقهة ... ونبغي ولا نبغى متى وإلى متى فيوشك يوم أن يوافق ليلة ... يسوقان حتفا راح نحوك أو غدا وصف الحمّى دخل بختيشوع على يحيى بن خالد بعقب حمى، فقال له: توقّ فإن حمى ليلة يبقى في البدن تأثيره سنة، وعنده وكيع فقال صدق، فقال يحيى ما أقرب تصديقك إياه، قال لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: حمى ليلة كفارة سنة فعلمت أن هذا كما قال. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: إن الله تعالى يقول الحمى ناري أسلطها على عبدي فإن لم يشكني إلى عوّاده أبدلته لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه وأخرجته من ذنوبه لهيئة يوم ولد. وقال صلّى الله عليه وسلم: الحمى من قبح جهنم فاطفؤوها بالماء، ويستجاد قول المتنبي: وزائرتي كأنّ بها حياء ... فليس تزور إلّا في الظلام بذلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها وباتت في عظامي إذا ما فارقتني غسلتني ... كأنّا عاكفان على حرام أراقب وقتها من غير شوق ... مراقبة المشوق المستهام «3» حمّ أعرابي في أيام القيظ بمكة فأتى الأبطح وقت الظهيرة، فتعرى وطلى بدنه بالزيت ونام في الشمس وجعل يتقلب فيها، ويقول مخاطبا للحمى: لتعلمن ما نزل بك يا حمى عدلت عن الأمراء وأهل الثراء وجئتني، فعرق وذهبت حمّاه. وقام فسمع قائلا يقول: حم الأمير، فقال: أنا والله بعتها فلعن الله من وشى به عليّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 وقيل: التقى حمتان فسألت إحداهما الأخرى فقالت آتي كل يوم رجلا خريما ناعما فيضجعني على فراش وطيء فأضاجعه في أرغد عيش فأنصرف عنه بأطيب حال، فقالت الأخرى: ويحك إني وقعت إلى كساح قذر متى قصدته يأت بي سبخة فيعركني في التراب فأرجع عنه متربة. فقالت: ويحك تعالي إلى صاحبي لأغاديه أنا وتراوحيه أنت. الرّمد كتب علي بن القاسم رحمه الله: بلغني عن حال رمد عرض له ما أرمد خاطري وأظلم ناظري وأذهلني عن كل مهم وخفف في عيني وقلبي كل ملم. ويستحسن في عين محبوب رمداء قول ابن المعتز: قالوا شكت عينه فقلت لهم ... من شدة الفتك نالها الوصب «1» حمرتها من دماء من قتلت ... والدم في النصل شاهد عجب وقال ابن الحجاج: أنا الفداء لعين بعض أسهمها ... مسكونة بين أحشائي وفي كبدي فيها فتور سقام لا خفاء به ... يجرد السقم في قلبي وفي جسدي كانت تعلّ فؤادي وهي سالمة ... فكيف بي وهي تشكو علة الرمد النقرس كان أبو الفضل بن العميد يكثر برجله النقرس، فقيل له: لا تغتم فإن ذلك يؤذن بطول العمر، فقال: طول العمر هو أن من به النقرس يسهر فيصير ليله نهارا فكأنما يتضاعف عمره، قال شاعر: ألا فاعجبوا من مفلس حلف نقرس ... أما نقرس في مفلس بعجيب «2» وقال المبرد: ذكر أعرابي رجلا قد أثرى فقال تنقرس كأنه سمع أن النقرس يكون مع النعمة، ومنه قول أعرابي: فصرت بعد الفقر والتفلس ... يخشى على الحيّ داء النّقرس وقال ماسرجويه: لا ينقرس الناطفي في رجله والشطرنجي في يده. الحبون دخل شبيب بن شبة إلى ابن هبيرة، فقال: ما حبسك عنا؟ فقال: علة منعت الحركة ولم توجب العيادة حتى خرج علي، فقال ابن هبيرة: إن لحما شديدا أعاد قيحا وصديدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 لأهل أن يعاد صاحبه. وقيل: حبنك يؤذن بمالك، وقال بعض الأدباء: إنما يؤذن بمالك بفتح اللام أي يقتضي أن يقال أي شيء لك. قال شاعر: وبي دمّل في كلّ يوم يزورني ... فيقلق أحشائي ويسهر مقلتي يقول لي العوّاد مال وصحة ... فيا ليتهم آبوا بمالي وصحتي «1» وقال أبو حكيمة: أيحسدني إبليس داءين أصبحا ... برأسي ورجلي دمّلا وزكاما فليتهما كانا وأزيده ... زمانة أير لا يطيق قياما «2» الجرب في الخبر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: لا دعوى فقيل: إن البعير يجرب في القطيع فيجرب بجربه الإبل كلها، قال فمن أجرب الأول. ويسمى الجرب حبيبات الطرب. وقيل: صاحب الجرب شاكر لأنه أبدا يقول قد ذهب، قال الصنوبري: الشيب عندي والإفلاس والجرب ... هذا هلاك وذا شؤم وذا عطب وقال عبدان: ومستخبر حالتي إذ رأى ... أقض على جنبي المضجع فقلت مجيبا له إنّني ... لضرّي كما قال لي أسجع «3» إذا الليل ألبسني ثوبه ... يقلّب فيه فتى موجع الزّكام روي أنه قيل: ثلاثة لا يعدن المزكوم والرمد والجرب، وقالت عائشة رضي الله عنها: من لا يعودني في الزكام لا أبالي أن لا يعودني في مرض آخر. وقيل مؤنة أنف المزكوم أعظم من مؤنة استين. ودعا عيسى بن علي بن المقفع إلى الغداء، فقال: لست اليوم بمؤاكل للكرام لأنني مزكوم، والزكمة قبيحة الجوار مانعة من عشرة الأحرار. ويقال: إن الشيطان قال ما حسدت ابن آدم إلا على شيئين الطشاءة والحقوة، أي الزكام والهيضة. قال الوزير الرئيس الكافي الأوحد: ونزلة كنت أحمي وجه موردها ... ففاجأتني على ضرب من الحمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 سدت عليّ طريق الروح منتشقا ... وأسلمتني لأيدي الروع والخدر «1» وأنشأت مزنة في الرأس مضرمة ... ينعق بارقها في السمع والبصر «2» حتّى إذا محضتها مدة قدرت ... مدت بصفو حميم غير ذي كدر ففي شؤني حريق من تلهبه ... وفي الخياشيم ضيق محصد المرر لا الفصد يغني ولا ماء الشعير ولا ... طول احتماء إذا ما هم بالدرر فالحمد لله حمدا لا كفاء له ... على السلامة وقاها من الغير شرب الأدوية المسهلة سئل طبيب كسرى عن دواء المشي فقال: سهم ترمي به في جوفك أخطأ أم أصاب. وقيل: الدواء مثل عدوّ إلى جانبه صديق ترمي العدو فلا تأمن من أن يصيب الصديق. وقيل: الدواء في البطن كالصابون في الثوب ينقيه لكن يخلقه. وقيل لأبقراط: ما بال الإنسان أثور ما يكون بدنا إذا شرب الدواء؟ فقال: مثل ذلك مثل البيت أكثر ما يكون غبارا إذا كنس. وقيل: لا تستعمل الأدوية في ما تنفع فيه الأغذية. وقيل: النفس إذا ألفت الدواء فسدت لأن الدواء يحب أن يطرأ عليها غريبا فتحتشم. الكناية عن الأدوية المسهلة كان ظرفاء البصرة يقولون لشارب الدواء: لم لبست النعل، ويقال: شربت فما أنجاني كناية عنه. وكتب الصنوبري إلى صديق له شرب دواء: نبّني كيف تخطّيك إلى دار الكرامة ... كم جدار هدّ من رعد وكم سحّت غمامه «3» فلم يجبه فكتب إليه ثانيا: ابن لي كيف أصبحت ... وما كان من الحال وكم سارت بك النا ... قة نحو المنزل الخالي فأجابه: كتبت إليك والنعلان ما إن ... أغبهما من السير العنيف فإن رمت الكتاب إليّ فاكتب ... على العنوان يوصل في الكنيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 الحقنة كان كرتكين أمير بغداد أمره الطبيب بالحقنة، قال: يوضع في إسته (كذا) فقال: في إست من؟ فخاف الطبيب، فقال: في إستي أيّد الله الأمير. وكان عين الدولة أصابه مغص فأشير عليه بالحقنة فأبى وتفادى منها فلما اشتد به الوجع، قال: يا قوم أدخلوا هذا الجذع في إستي وأريحوني فحقن وبرأ. واعتلّ أعرابي فأشير عليه بالحقنة، فقال صديق له: كفى سوءة أنا نراك محبسا ... على شكوة قبحا وفي إستك عودها «1» الحثّ على التّداوي بالأدوية روي في الخبر: تداووا فإن الله ما وضع داء إلا وضع له دواء، إلا الهرم، وقال طبيب لرجل: بم تداوى من حمّاك، قال: بالنشرة «2» ، فقال: إن رأيت أن تغسلها بماء الشعير وتشربه فافعل. وقال رجل لآخر، وكان معه إبل جرب: هلّا داايتها؟ فقال: إن لنا عجوزا صالحة نتكل على دعائها ونستغني به عن الدواء، فقال اجعل مع دعائها شيئا من القطران. التداوي بالقرآن والأدعية وجد ابن أسقع يشكو حلقه فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: عليك بقراءة القرآن. ووجد بعض الصحابة شكوى في بعض بدنه، فقال صلّى الله عليه وسلم: ضع يدك اليمنى عليه وقل بسم الله أعوذ بالله وبقدرته من شرّ ما أجده سبع مرات. ذكر التأنّي في المداواة والمبادرة قيل: حقّ الطبيب أن يتأنى في المداواة فعثرته لا تقال. وقيل: المتأنى في علاج الداء بعد معرفة الدواء كالمتأني في إطفاء النار وقد أخذت بحواشي ثيابه. نوادر الأطباء جاءت امرأة إلى طبيب بقارورة. فقال: ما يجد صاحبها؟ قالت به حرارة وضيق ويبوسة، فقال: ليت ذاك في حرّ امرأتي. وجاءت أخرى ببستوقة فيها ماء، فقال: لو جاز في البستوقة لجاز أن تحمليه في حرك. وشكا رجل إلى طبيب سوء الهضم، فقال: كله مهضوما. وجاء آخر إلى طبيب، فقال أكلت الشعير والرطبة فأصابني مغص، فقال: هذا طعم الحمار فاذهب إلى يحيى البيطار يعالجك. واعتلّ رستاقي «3» فجاء إلى الطبيب فقال له: كل الرائب، فقال: والله إني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 لو عصرت ما انعصر مني إلا الرائب. وقال طبيب لمريض لا تأكل السمك واللحم، فقال له: لو كانا عندي ما اعتللت. شكا عبد الله بن جعفر ضرسه، فقال له عبد الله بن صفوان: إن إبليس يقول دواء الضرس قلعه، فقال: إنما يطيع إبليس أولياؤه. شكا رجل إلى أبي السائب وجع رجله، فقال له: لا تأكل القديد، فقال أنا أحبه، قال: فالوجع أيضا يحب رجلك، وظن خادم أن بشرا المريسي طبيب فعرض عليه ماءه فقال أنا طبيب الأديان لا طبيب الأبدان. سخفيات في الطب ّ نظر عبادة إلى رجل في عينه جرب، فقال: أعطني مائة درهم أصف لك دواء، قال: افعل، فقال: خذ ورق المدر وعروق الحجر واسحقهما واكتحل بهما سبع سنين فإن لم تذهب عينك فخذني به، فرفع رجله وضرط عليه ضرطتين، فقال خذ هذين الدرهمين فإن نفع دواؤك زدناك. وركب بختيشوع يوما مع المأمون فتعلق به مجنون، وقال: أيها الطبيب خذ نبضي فأخذه، وقال ما تشتكي؟ فقال المجنون: أشتكي الشبق «1» ، فقال بختيشوع: خذ مسواك أراك «2» وأدخله من وراك فإنه صالح لذاك، فضرط المجنون وقال: خذ هذا لذاك حتى تجرب دواك فإن كان صالحا زدناك ولا يكون لنا طبيب سواك، فضحك المأمون: شهوة المريض للطّعام قيل للخليل في علته أتشتهي شيئا، قال: لا، وبودي أن أشتهي. وقيل ذاك لآخر: فقال: أشتهي ما لا أجد وأجد ما لا أشتهي. وقيل ذلك لآخر: فقال: أشتهي أن لا أموت. قال أبقراط: المريض الذي يشتهي أرجى عندي من الصحيح الذي لا يشتهي. وقال المتنبي: ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرّ به الماء الزلالا من شكا علته قال أبو نواس، وقيل هو آخر شعر قاله: دبّ فيّ السّقام سفلا وعلوا ... وأراني أموت عضوا فعضوا ليس يمضي من ساعة بي إلا ... نقصتني بمرها بي جزوا «3» لهف نفسي على ليال وأيا ... م تمتّعتهنّ لعبا ولهوا وقيل لعمرو بن العاص في مرضه: كيف تجدك؟ قال: أجدني أذوب ولا أثوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 وأجد نجوي «1» أكثر من رزي «2» ، فما بقاء للشيخ على ذلك. وقيل: ولا بدّ من شكوى إذا لم يكن صبر حمد شكوى العلّة قال بعضهم: دخلت على سفيان وهو عليل فقال: أشتكي كذا وبت البارحة بكذا، فقلت أما تخشى أن تكون هذه شكاية من الله؟ فقال: أنا أذكر قدرته عليّ. ولما مرض أمير المؤمنين دخل إليه الناس فقالوا: كيف تجدك، قال: بشرّ، قالوا: أهذا كلام مثلك، قال أجل إن الله تعالى يقول: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً «3» فالخير الصحة والشر المرض. وقيل: الشكوى تخفف الهم وتزيل الألم. وقيل لآخر: ما تشكو، فقال: تمام العدة وانقضاء المدة. ووجه المتوكل إلى الجاحظ يدعوه، فقال: ما يصنع أمير المؤمنين بشخص ليس بطائل ذي شق مائل ولعاب سائل وفرج مائل وعقل حائل. شكوى العلّة قال المأمون لابنه العباس وقد شكا إليه وجعا في بطنه: يا بني إنك لا تجد مواساة في عرض ما تجده في بدنك ولا يشركك فيه صديقك فلا تشمتن به عدوك. وقال بعضهم لمن يشكو: أتشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك؟. وقيل لسعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، وهو مريض: إن المريض يتفرج إلى الأنين وإلى أن يصف ما به إلى الطبيب، فقال: أما الأنين فو الله إنه لجزع وعار ولا يسمع الله منّي أنيني فأكون عنده جزوعا، وأما الطبيب فو الله لا يحكم غير الله في نفسي فإن شاء قبضها إليه وإن شاء منّ بها عليّ. فضل الصحّة والعافية قيل: شيئان لا يعرف فضلهما إلا من فقدهما الشباب والعافية. وقيل: لا يعرف طعم العافية إلا من نالته يد العلة ولا طعم الرخاء من مسته يد البلاء. وقيل: الدنيا بحذافيرها الأمن والعافية لا تزال غنيا ما دمت سويا. نفع المرض إعتلّ الفضل بن سهل بخراسان ثم برأ فجلس للناس، فهنأوه بالعافية وتصرّفوا في فنون الكلام، فلما فرغوا، أقبل على الناس، فقال: إنّ في العلل نعما ينبغي للعاقل أن يعرفها: تمحيص الذنب والتعرّض للثواب، والإيقاظ من الغفلة والإذكار بالنعمة في حال الصحة، والاستدعاء للتوبة والحضّ على الصدقة. وفي قضاء الله وقدره الخيار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 ودخل الحسن بن علي رضي الله عنهما على عليل، فقال: إن الله قد أقالك فاشكره وذكرك فاذكره. واعتلّ جعفر بن محمد عليهما الرضوان، فقال: اللهمّ اجعله أدبا لا غضبا، وقال عليه السلام: إن المريض تتحات «1» عنه خطاياه كما يتحات ورق الشجر. وذكرت الأدواء عند أبي الدرداء، فقال رجل ما اشتكيت قط، فقال: لا جرم أن ذنوبك لم تحطّ عنك. وجوب عيادة المريض قال النبي صلّى الله عليه وسلم: حق المسلم على المسلم ثلاث: عيادة المريض وتشميت العاطس وتشييع الجنازة. وقال صلّى الله عليه وسلم: من عاد مريضا خاض الرحمة فإذا قعد عنده استنقع فيها، وإذا خرج من عنده خاض الرحمة. وقيل: عيادة المريض يعد ثلاث. وفي الخبر: عودوا مرضاها وشيعوا هلكاها وعزوا ثكلاها. أدب عيادة المريض قيل: سوء العيادة تلقيح العلّة. وقال الفضل بن الربيع: لا تقولوا كيف أمير المؤمنين ولا تسألوه عن حاله فتكلّفوه الجواب، ولعله يثقل عليه الكلام، ولكن اجعلوا مسألتكم الدعاء له، وقولوا بدل كيف يجد أمير المؤمنين نفسه؟، أنزل الله عليه الشفاء والرحمة. قال شاعر: حقّ العيادة يوم بعد يومين ... وجلسة لك مثل اللحظ بالعين «2» لا تبرمنّ مريضا في مساءلة ... يكفيك من ذاك تسآل بحرفين «3» ودخل قوم على السرى السقطي رحمه الله، وهو عليل، فأطالوا الجلوس وقالوا: ادع لنا، فقال: ارفعوا أيديكم وقولوا اللهمّ اجعلنا ممّن علّمتهم عيادة المرضى. ودخل قوم على مريض فأطالوا ثم قالوا أوصنا، فقال أوصيكم أن لا تطيلوا الجلوس عند المريض إذا عدتموه. ودخل ثقيل على مريض فأطال الجلوس، ثم قال: ما تشتكي؟ قال: قعودك عندي: شكاية من لا يعوده إخوانه قال جحظة البرمكيّ: مرضت فلم يكن في الأرض حر ... يشرفني ببرّ أو سلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 وضنّوا بالعيادة وهي أجر ... كأنّ عيادتي بذل الطعام «1» الاعتذار من ترك العيادة . قال شاعر: إن كنت في ترك العيادة تاركا ... حظي فإني في الدعاء لجاهد ولربما ترك العيادة مشفق ... وأتى على غلّ الضمير الحاسد من عاده ممرّضه قال عبد بني الحسحاس: يعدن مريضا هنّ هيجنّ داءه ... إلا إنّما بعض العوائد دائيا وقال آخر: وخبرت ليلى بالعراق مريضة ... فأقبلت من أهلي بمصر أعودها فو الله ما أدري إذا أنا عدتها ... أأبرئها من دائها أم أزيدها مريض عاد صحيحا قال شاعر: إذا مرضنا أتيناكم نعودكم ... وتذنبون فنأتيكم ونعتذر قال العبّاس بن الأحنف: قالت مرضت فعدتها فتبرّمت ... وهي الصحيحة والمريض العائد والله لو أن القلوب كقلبها ... ما رقّ للولد الضعيف الوالد وصف العلّة بأنها تنال الأماثل روي أن الله تعالى يجعل تمحيصا لذنوب أوليائه. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: مثل المؤمن مثل الحزمة من الزرع تفيؤها الريح مرة هكذا ومرة هكذا، ومثل المنافق مثل الأرزة المجدبة على الأرض يكون انجعافها «2» مرة. وقال أبو تمّام: فإن يكن وصب قاسيت صورته ... قالوا رد حلف لليث الغابة الأضم «3» إنّ الرياح إذا ما أعصفت قصفت ... عيدان نجد ولم يعرضن للرتم «4» وقال البحتري: وما الكلب محموما وإن طال عمره ... إلا إنما الحمى على الأسد الورد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 ذكر تباطؤ زوال العلّة دخل سفيان على جار له مخنث فقال له: كيف نجدك؟ قال: جاءتني العلّة باقات والعافية تأتيني طاقات. وقيل: العلّة تحمل على الجمال وتثقل على النمال. حثّ العائد على تنشيط المريض قال يوحنا: بشّروا المريض بالبرء ونشطوه لشرب الدواء ولا تصعبوا عليه العلة فتخاف نفسه ويموت حسه. وقال أبقراط: حدثوا المريض حال من كان في أصعب من علّته فبرأ، ولا تحدثوه عمّن كان في مثل علّته فمات. وقيل: أدب العيادة تشجيع العليل بلطيف اللفظ وحسن الفأل. الحثّ على تخويفه ليتجنّب المضارّ قيل: خوّفوا المريض ليجتنب المضار، فمن خوّفك لتلقى الأمن خير لك ممن أمّنك لتلقى الخوف. وقيل: من أوجرك «1» المرّ لتبرأ خير ممّن أوجرك الحلو لتسقم. ودخل طبيب على مريض قد أصاب إصبعه ريح فشمّها، فقال: إن أكلت اليوم شيئا مت فلما كان من الغد برأ أقيل له في ذلك، فقال: لو لم أخوفه لتجاسر على الأكل فكان يطول عليه. رقيع خوّف مريضا برقاعته عاد رجل مريضا لم يكن به بأس فقال: لا ضير إذا رأيتم المريض هكذا فاغسلوا أيديكم منه، فقد كان أبي به هذا الداء فمات. وعاد آخر عليلا، فقال: ما علّتك؟ قال: وجع الركبة، فقال: إن جريرا يقول بيتا ذهب عنّي صدره، وآخره: وليس لداء الركبتين دواء، فقال: ليتما ذهب عنك عجزه مع نفسك. ودخل آخر على مريض، فقال: آجركم الله، فقيل إنه لم يمت، فقال: يموت إن شاء الله. وقال رجل لمريض: كيف أنت جعلني الله فداءك؟ فقال: على الموت، فقال: إذا لا جعلني الله فداءك فإني قدرت أن في الأمر فسحة. تهنئة من برأ من مرض والدعاء له. قال أشجع: لئن جرحت شكاتك كلّ قلب ... لقد قرت بصحتك العيون «2» وله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 لقد أمسى صلاح أبي عليّ ... لأهل الأرض كلّهم صلاحا «1» قيل لأعرابي برأ من علته: الحمد لله الذي سلمك، فقال: أو يسلم من الموت في عقبه. كتب عبد الله بن المعتز: أذن الله بشفائك وتلقّى داءك بدوائك ومسحك بيد العافية ووجّه إليك وافد السلامة وجعل علتك ماحية لذنوبك مضاعفة لثوابك. وقال ابن المعتز: يا رب أمسك رمق الدنيا به ... واغسله بالصحة من أوصابه «2» وقال أبو تمّام: سقم أتيح له برء فزعزعه ... والرمح ينآد طورا ثم يعتدل «3» قد حال لون فردّ الله نضرته ... والنجم يخمد حينا ثم يشتعل وقال المتنبّي: صحت بصحتك الغارات وابتهجت ... بها المكارم وأنهلّت بها الديم «4» وراجع الشمس نور كان فارقها ... كأنّما فقده في جسمها سقم «5» تفدية المريض قال شاعر: فديناك لو نعطى المنى فيك والهوى ... لكان بنا الشكوى وكان لك الأجر وقال البحتري: بأنفسنا لا بالطوارف والتلد ... نقيك الذي تخفى من السقم أو تبدي «6» بنا معشر العافين ما بك من أذى ... فإن أشفقوا ممّا أقول فبي وحدي «7» وقال آخر: يا ليت علّته بي غير أنّ له ... أجر العليل وإني غير مأجور وقال ديك الجن: يا ليت حمّاه بي كانت مضاعفة ... يوما بشهر وأن الله عافاه فيصبح السقم منقولا إلى جسدي ... ويجعل الله منه البرء عقباه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 من ذكر شدّة ما قاساه بعدما صحّ. وقال عبد الله بن المعتز: أتاني برء لم أكن فيه طامعا ... كمثل أسير حلّ بعد وثاقه فإن كنت لم أجزع من الموت جزعة ... فإني مججت الموت بعد مذاقه «1» تغيّر اللون قال الصولي: لم يسمع أحسن من قول البحتري في صفرة اللون: بدت صفرة في لونه إن حمدهم ... من الدرّ ما اصفرّت حواشيه في العقد وقال أبو تمّام: لم يشن وجهه البهيج ولكن ... جعلت ورد وجنتيه بهارا «2» أنواع مختلفة في الطب ّ اشتكى رجل بطنه فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: إذهب إلى امرأتك واستوهب منها درهمين واشتر بهما عسلا واقرأ عليه القرآن وتناوله، ففعل فبرأ، فقيل له في ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام إن الله تعالى يقول: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً «3» ، وقال في العسل فيه شفاء للناس، وقيل: في الطعام إذا خرج من الجوف قبل سبع ساعات فهو مذموم غير محمود، وإذا بقي بعد أربعة وعشرين ساعة يضرّ. وقيل: كل شيء ينام من الإنسان إلا أربعة الوريد والسحر والمثانة والمعدة. وقال جعفر بن محمد قيل: الطبائع أربع، الدم وهو عبد وربما قتل صاحبه، والبلغم وهو خصم ألد جدل إن خصمته من جانب احتج عليك من جانب، والصفراء وهي مرة كالصبى ومرة كالملك تداوى في الحالين، والسوداء وهي كالأرض إذا رجفت رجف ما فوقها. وقيل: إذا كان الطبيب حاذقا والعليل عاقلا والقيم فهما فأجدر بالداء أن يزول. لسعت عقرب صرم أعرابي، فقيل أين لسعتك؟ فقال: حيث لا يضع الراقي أنفه. ولسعت آخر فقال أعرابي: عندي دواؤه فقيل له: ما هو؟ قال: الصياح إلى الصباح. قيل: فرط الغم والسرور يقتلان، أما الغم فإنه يجمد الدم والسرور يلهبه حتى تعلو حرارته على الحرارة الغريزية. ولما دخل الرشيد طوس اشتدت علته وطبيبه بختيشوع يغدو ويروح عليه ويعطيه الأباطيل ويمنيه الأماني، ويقول: إن علتك من حدّة السفر، فدعا الفضل يوما وقال: أبغني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 رجلا عاقلا من التجار أشاوره في أمري وأفضي إليه بسرّ، فجاءه برجل من أهل طوس «1» فاستنطقه فرآه عاقلا، فقال: أتحفظ السر؟ قال: نعم. فخلا به وقال: خذ هذه القارورة فأت بها جبريل بن بختيشوع فقل له:- هذه قارورة أبي فتأمله فإن كان له دواء فعرّفني وإن لم يكن له دواء فعرفني ليتجهز ويصلح أمره، فذهب إليه بالقارورة. فلما نظر إليها جبريل أقبل على أبيه، وقال: ما أشبه ماءه بماء ذلك الرجل. إن هذا ميت لا محالة، فرجع الرجل وأخبر الرشيد بما قاله، فقال: ويلي على ابن الزانية يا فضل إذهب فاضرب عنقه، يعني الطبيب فأخذه الفضل وحبسه، فقال: أتركني محبوسا عندك ثلاثة أيام فإن عاش فاقتلني، وإلّا فلا تتقلد دمي، ففعل، فمات الرشيد ليلة الثالث. قال أنوشروان لوزيريه يوما أيّ الفراش ألذ؟ فقال أحدهما: ألذ الفراش الخز محشوا، وقال الآخر: ألذ الفراش الحرير محشوا، وكان بين يديه غلام في عدد الحجاب، فقال: أيها الملك أتأذن لي في الكلام؟ فقال: نعم. قال: ألذ الفراش الأمن، قال: صدقت. قال: فما ألذ الطعام، قال: ما لا يهيج على طبيعة علة ولا يعقد في عنق آكله منّة، فقال: أحسنت. فما ألذ الشراب؟ فقال: ما لا يزيل عقلا عن محلّه ولا يهيج على طبيعة شيئا من علله، قال: أحسنت. فما ألذ الريحان، قال: الولد السار ريحان أبيه في حياته وخلف له بعد وفاته، فرفع محله وألحقه بأكابر حشمه. وكان بعض الأصبهانيين أصابه صداع فضمد رأسه بدار صيني وفلفل، فقال له الطبيب: هذا يعمل لرأس يوضع في التنور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 الحدّ السابع في الهمم والجدّ والآمال (1) فما جاء في الهمم الرفيعة والوضيعة مدح رفع الهمّة والحثّ عليه قيل: الهمة تلقح الجد العقيم، وقيل: الهمّة جناح الحظ، وقيل: لا تدور رحى الجدّ إلا بقطب الهمّة وقيمة كل امرىء همّته. وقال عمرو بن العاص: عليك بكل أمر فيه مزلقة ومهلكة أي بجسام الأمور. قال عمر رضي الله عنه: لا تصغرن همّتك فإني لم أر أقعد بالرجل من سقوط همّته. وقال: أحسن ما قال لبيد: أكذّب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل «1» وقيل: ثلاثة لا تدرك إلا برفع الهمة: عمل السلطان، وتجارة البحر، ومناجزة العدوّ. قال ابن نباتة: حاول جسيمات الأمور ولا تقل ... إن المحامد والعلى أرزاق «2» وارغب بنفسك أن تكون مقصّرا ... عن غاية فيها الطّلاب سباق المرء تابع لهمّته المرء حيث يجعل نفسه: إن رفعها ارتفعت وإن قصر بها اتضعت. نظر رجل إلى برذون يستقى عليه، فقال: ما المرء إلا حيث يجعل نفسه لو هملج «3» في سيره ما استقي عليه. قال شاعر: وما المرء إلّا حيث يجعل نفسه ... ففي صالح الأخلاق نفسك فاجعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 ولبعض بني عامر: إذا لم يكن للفتى همة ... تبوّئه في العلا مصعدا ونفس يعوّدها المكرما ... ت والمرء يلزم ما عوّدا ولم تعد همّته نفسه ... فليس ينال بها السؤددا من عظمت همّته وقصّرت موجدته قيل: ذو الهمة وإن حطّ نفسه، تأبى إلا العلو، كالشعلة من النار يخفيها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعا. وقيل: أسوأ الناس من اتسعت معرفته وضاقت مقدرته وبعدت همته، أخذ ذلك المتنبي فقال: وأتعب خلق الله من زاد همّة ... ويقصر عمّا تشتهي النفس وجده «1» وقال ابن نباتة: أرى همم المرء اكتئابا وحسرة ... عليه إذا لم يسعد الله جنده الحثّ على طلب الحسام والاعتزال عن الأنام قال في كليلة: ينبغي لذي المروءة أن يكون إمّا مع الملوك مبجّلا أو مع النساك متبتلا كالفيل إما أن يكون مركبا نبيلا أو في البرية مهيبا جليلا. وقال حكيم: الناس رجلان دنياوي وآخري فالدنياوي صاحب سلطان وذو لسان أو سنان لا يفضي على هوان، والآخري المتباعد من الناس الجاعل بينه وبينهم سدّا ولا واسطة بينهما. وقال معاوية رضي الله عنه لابنه: كن مترفعا عن الناس ومستترا عنهم. الممدوح بعظم الهمّة قال أعرابي: فلان يرمى بهمّته حيث يشير إليه الكرم، يتحسى مرارة الإخوان ويسقيهم عذبه، له همة تناطح النجوم وكرم يشامخ الغيوم. قال أبو الغمر: وهمة نبلت عن أن يقال لها ... كأنّها وتعالت عن مدى الهمم وقال آخر: ولي همم بيني وبين بلوغها ... بحور من الآمال ليس لها جسر وقال المتنبي: له همم لا منتهى لكبارها ... وهمّته الصغرى أجلّ من الدهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 وله: فتى أصاب من الدنيا نهايتها ... وهمة في ابتداآت وتشتيت «1» وقال آخر: صدر رحيب لما يأتي الزمان به ... وهمة تسع الدنيا وما تسع من ضاق به الزمان لعظم همّته قال المتنبيّ: فتى يشتهي طول البلاد ووقته ... تضيق به أوقاته والمقاصد وله: تجمعت في فؤاده همم ... ملء فؤاد الزمان إحداها «2» وقال الموسوي: ضاق الزمان فضاق فيه تقلّبي ... والماء يجعل نفسه في جدول «3» تحمّل المكاره في نيل المكارم: قيل: المكارم موصولة بالمكاره، وقيل: من سما لمكرمة فليتحمّل مكروهها. وقال الخبزارزي: فقل لمرجّي معالي الأمور ... بغير اجتهاد رجوت المحالا وقال أبو تمّام: ما ابيض وجه المرء في طلب العلا ... حتّى يسودّ وجهه في البيد «4» وقيل: إذا لم تتعن لم تتودع وإذا لم تتفجع لم تتمتع. دون نيل المعالي هول العوالي. وقيل للربيع بن خيثم: أتعبت نفسك في العبادة وإصلاح أمر الناس، فقال: راحتها أريد فإن أفره العبيد أكسبهم لمولاه. وقيل لروح ابن حاتم: طال وقوفك في الشمس، فقال: ليطول وقوفي في الظلّ. وقد أجمع حكماء العرب والعجم أنه لم يدرك نعيم بنعيم قط، وما أدرك نعيم إلا ببؤس قبله. قال شاعر: وتحمل المكروه ليس بضائر ... ما خلته سببا إلى محمود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 وقال امرؤ القيس: فلو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال وقال المتنبّي: إذا غامرت في شرف مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت في أمر صغير ... كطعم الموت في أمر عظيم وله: على قدر أهل العزم تأتي العزائم وقال الصاحب: وقائلة لم عرتك الهموم ... وأمرك ممتثل في الأمم «1» فقلت دعيني على غصّتي ... بقدر الهموم تكون الهمم وكتب بليغ: فلان تعب في طلب المكارم غير ضالّ في طرقها، ولا متشاغل عنها: استطابة تحمّل الشدّة للوصول إلى الرفعة قال المتنبيّ: تلذّ له المروءة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذّ له الغرام وقال أبو فراس: تهون علينا في المعالي نفوسنا ... ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر وقال أبو دلف: وليس فراغ القلب مجدا ورفعة ... ولكنّ شغل القلب للهمّ رافع وذو المجد محمول على كل آلة ... وكلّ قصير الهمّ في الحي وادع «2» ذمّ من همته نفسه لمّا قال الحطيئة في الزبرقان: دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي شكاه الزبرقان إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال عمر: ما في ذلك هجاء. فقال: يا أمير المؤمنين إنه عرّاني عما ابتنيته من المعالي فدعا حسّانا وسأله، فقال: ما هجاه ولكنه سلح عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 وقال حاتم: لحى الله صعلوكا مناه وهمّه ... من العيش أن يلفي لبوسا ومطعما «1» وقال آخر: إنّي رأيت من المكارم حسبكم ... أن تلبسوا خزّ الثياب وتشبعوا فإذا تذوكرت المكارم مرّة ... في مجلس أنتم به فتقنعوا وقال ابن سوادة: همهم من هذه كلّه ... في الأكل والشرب وفي الباه أخذ ذلك من قول الأعرابي الذي قال: فلان كالبهيمة تأكل ما جمعت وتنكح ما وجدت، وقال: إذا الفتى لم يركب الأهوالا ... فاسع له وعدّه عيّالا «2» ذمّ من قصّرت همّته عن طلب المعالي ذم إعرابي رجلا، فقال: هو عبد البدن حر الثياب عظيم الرواق صغير الأخلاق الدهر يرفعه وهمته تضعه. قال أبو تمّام: بنو الهمم الهوامد والنفوس ... الخوامد والمروآت النيام وكان لأعرابية ابن تحرضه على الإقامة والاقتصار على المطعم والمشرب، فأنشدها: إذا ما الفتى لم يبغ إلا لباسه ... ومطعمه فالخير منه بعيد وقيل: فلان بطر الدعة بخيل السعة سيء الرعة. قال ابن الأعرابي: فلان يشبعه كراع الأرنب إذا كان دنيء الهمة. ويقرب من هذا الباب ما قاله المنصور للمهدي: أشبع العباس بن محمد فإنّك إن لم تشبعه يأكلك. وأما محمد بن إبراهيم فإنه إذا قدر على فرج امرأته لم يفارقه، وإياك أن تولّي محمد بن سليمان صعود منبر فإنه إن صعده همّ بالخلافة. تذمّم من قصّر في طلب المعالي قال المتنبّي: إلى كم ذا التخلّف والتّواني ... وكم هذا التمادي في التمادي «3» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 وشغل النفس عن طلب المعالي ... ببيع الشعر في سوق الكساد «1» ذمّ إيثار الدّعة والنهي عنه قال: ما لزم أحد الدعة إلا ذلّ، وحب الهوينا يكسب الذل، وحب الكفاية مفتاح العجز. وقال الصاحب: إن الراحة حيث تعب الكرام أودع لكنها أوضع، والقعود حيث قام الكرام أسهل لكنّه أسفل. وقال آخر: فتى بهمّته يلتذّ في دعة ... وراحة ويولي غيره التعبا وقال أبو دلف: ليس المروءة أن تبيت منعّما ... وتظلّ معتكفا على الأقداح ما للرجال وللتنعم إنّما ... خلقوا ليوم كريهة وكفاح «2» قال يزيد بن المهلب: ما يسرني أني كفيت أمر الدنيا كله لئلا أتعود العجز. ذمّ الكسل وتدرع العجز قال الأحنف إياك والكسل والضجر فإنك إن كسلت لم تؤد حقا وإن ضجرت لم تصبر على حق. قال شاعر لا تضجرن ولا تدخلك معجزة ... فالنجح يهلك بين العجز والضجر وقيل: زوّج العجز التواني فنتج بينهما الحرمان. قال ابن المعافى: كأن التواني أنكح العجز بنته ... وساق إليها حين أنكحها مهرا فراشا وطيئا ثم قال له اتكىء ... فقصرا كما لا شكّ أن تلدا فقرا وقال آخر: خاطر بنفسك لا تنتفع بمعجزة ... فليس حر على عجز بمعذور مدح إيثار الدّعة وقصر الهمّة قيل لابن المقفع: لم لا تطلب الأمور العظام؟ فقال: رأيت المعالي مشوبة بالمكاره فاقتصرت على الحمول ضنّا بالعافية، ومنه أخذ العتابي قوله: دعيني تجئني منيتي مطمئنة ... ولم أتجشم هول تلك الموارد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 فإن جسيمات الأمور مشوبة ... بمستودعات في بطون الأساود «1» مدح الخمول مع الغنى قيل لحكيم: من أنعم الناس عيشا؟، فقال: من اتسعت مقدرته وقصرت همته. وقال عبد الملك لأعرابي: تمنّ. فقال: العافية والخمول فإني رأيت الشر إلى ذي النباهة أسرع، فقال: ليتني كنت سمعت هذه الكلمة قبل الخلافة. وقيل لسعد: أرضيت أن تكون مشغولا بأغنامك والناس يتنازعون الملك، فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: إن الله يحبّ الغني التقي الخفي، قال البريدي: وما العيش إلا في الخمول مع الغنى ... وعافية تغدو بها وتروح «2» قال بعضهم: جرّبنا العيش فوجدنا أهنأه أدناه. وقال محمد بن زبيدة: أتروني لا أعرف الإيراد والإصدار، ولكنّ شرب كأس، وشم آس، واستلقاء من غير نعاس أحب إليّ من مداراة الناس. مدح التوسّط في الأمور مدح الله تعالى التوسّط في كلّ الأمور، فقال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ «3» ، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: خير الأمور أوساطها. وقيل: الغلوّ في العلو مؤد إلى وضع الضعة. وقيل: أكثر الخير في الأوساط. قال أبو العتاهية: عليك بأوساط كل الأمور ... وعد عن الجانب المشتبه «4» ذمّ التوسّط قال كشاجم: وقالوا عليك وسيط الأمور ... فقلت لهم أكره الأوسطا إذا لم أكن في ذرا شاهق ... ولا في حضيض وطيء المطا «5» وحاولت في مرتقى هائل ... توسطه خفت أن أسقطا وقيل ممّا يستقبح: معنى وسط ومغن وسط ونادرة وسط وحقيقة الوسط ما لم يكن سنيا ولا دنيئا، كما قال أبو مهدية الأعرابي، وقد سئل عن طعام، فقال: ليس بخسيس ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 نفيس. وقيل لإسحاق الموصلي: قد خبرت فلانا فكيف هو، فقال: ليس في الكمال كما تهوى ولا في التخلف كما تخشى. ذمّ بلوغ النهاية. عند التمام يكون النقصان وبقدر السمو في الرفعة تكون وجبة الوقعة. قال شاعر: إذا تم أمر بدا نقصه ... توقّع زوالا إذا قيل تمّ وفي بعض الأدعية: صرف الله عنك التمام. وقال المأمون لأحمد بن أبي خالد وهو يخلف الحسن بن سهل: رأيت أن استوزرك، فقال: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني ويجعل بيني وبين الغاية منزلة يرجوني إليها المولى ويخشاني لها العدو، فما بعد الغايات إلا الآفات. وما يضاد هذا الباب ما كتب القاسم بن عبد الله الكرخي: ولي فيما جدّد الله من هذه النعمة للوزير من بلوغ النهاية ما استديمها به، قال: انتزعته من كتاب الله تعالى في قوله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي «1» وقد علم أن دين الله بعد نزول هذه الآية لم يزل ناميا عاليا على كل دين، وأنه إنما ضرب بجراته وقهر الأمم شرقا وغربا بعد كماله. (2) وممّا جاء في الجدّ «2» تفضيل الجدّ على الجدّ قيل: جدّك لا كدّك، عارك بجد أودع. وقيل: لا جد إلّا ما أقعص عنك. الجدّ أجدى والجد أكدى. وقيل: مدّ من حظ خير من صاع من عقل وجد. قال البديهي: ليس يجدي عليك سعيّ بجدّ ... لم تيسّر له ملاقاة جدّ «3» وقيل: الحظّ يأتي من لا يؤمه ... ليس بالكدّ بلوغ الراغب وقال آخر: الجدّ أنهض بالفتى من سعيه ... فانهض بجدّ في الحوادث أو دع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 وقال آخر: هل نافعي جدّي وفرط تيقّظي ... إن كان جدّي يا أمامة جاهدا وأنشد محمد بن عمر الورّاق البلخي: إن السعادة أمر ليس يدركه ... أهل السعادة إلا بالمقادير مخزونة عن أناس طالبين لها ... وقد تساق إلى قوم بتيسير وقال عمر للنبي صلّى الله عليه وسلم لما ذكر من أسعده الله من أهل الجنة وأشقاه من أهل النار: ففيم العمل يا رسول الله؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: يا ابن الخطاب إعمل فكل ميسّر لما خلق له. أما أهل السعادة فميسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فميسرون لعمل أهل الشقاوة. تفضيل الجدّ على العقل تقدّم إخوة إلى سوار في ميراث لهم، فقال سوار: خيّروا الأكبر منكم فإنه خلف أبيكم والمنظور إليه دونكم، قالوا: قد فعلنا فأبى الأكبر أن يقبل ذلك، فقال سوار: ما يمنعك، فقال: إني بحظي أوثق مني بعقلي، فأقرع بينهم فخرج سهمه خيرا من سهامهم، فقال: كيف رأيت فقال سوار: استأذن العقل على الحظ فحجبه. وقد تقدم في باب العقل أمثلة لذلك. كون العاقل محدودا والجاهل مجدودا من زيد في عقله نقص من حظه. وقيل: ما جعل الله لأحد عقلا وافرا إلا احتسب عليه من رزقه. قال شاعر: وخصلة قلّ فيها من يخالفني ... الرزق والحمق ملزومان في قرن «1» وقال آخر: خاب امرؤ ظلّ يرجو أن ينال غنى ... بالعقل ما عاش في دهر المجانين وقال المتنبّي: وما الجمع بين الماء والنار في يدي ... بأبعد من أن أجمع الحظّ والفهما معارضة دنيء ساعده القدر: ألا ليت المقادر لم تقدر ... ولم تكن إلا حظّى والجدود فننظر أينا يضحي ويمسي ... له هذي المراكب والعبيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 وقيل لرجل: كيف فلان؟ فقال أحمق مرزوق. وقيل لآخر: فقال عيي غنيّ حظيّ. الجد يحسن القبيح ويقرب البعيد قيل: إذا أقبلت الدنيا على إنسان أعارته محاسن غيره وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه. وقال شاعر: إن المقادير إذا ساعدت ... ألحقت العاجز بالحازم «1» وقيل: السبب الذي يتقدم به المجدود هو السبب الذي يتأخر به المحدود، قال أبو الشيص: يخيب الفتى من حيث يرزق غيره ... ويعطى الفتى من حيث يحرم صاحبه وقال الموسوي: لا تحدثن طمعا وجدّك مدبر ... واطلب مدى الدنيا وجدّك مقبل «2» تعسّر الأمر على من خذله جدّه قيل: إذا لم يساعد الجدّ فالحركة خذلان. وقيل: إذا ولّت الدول صارت الحيل وبالا. قال شاعر: إذا كان جدّ المرء في الشيء مقبلا ... تأتّت له الأشياء من كل جانب وإن أدبرت دنياه يوما توعّرت ... عليه فأعيته وجوه المطالب «3» قال ثمامة: لما أخبر يحيى بن خالد بتغير الرشيد له، كان يحتال في تخليص روحه فأمرني يوما بالحضور معه فاجتمعنا على الرأي، فكلما أتى الرأي نقض عليه آخر حتى أعيانا الأمر، فقام وقال: أفّ لهذه الدنيا كان الرأي يجيئنا على البديهة والأمر مقبل، فصار لا يأتينا على الرويّة والأمر مدبر، ليصنع الدهر ما شاء. وقيل: إذا أراد الله تعالى أن يزيل عن عبده نعمة فأول ما يزيل عنه عقله. قال البديهي: إذا المقادير لم تقبل مساعدة ... على بلوغ المنى لم تنفع الهمم وقال مخنّث: إذا جاء البخت توقف البيضة على أعلى الوتد، وإذا أدبر البخت أسق الهاون في الشمس. تأسّف من جد جدّه ولم يساعده جدّه قال أبو تمّام: ماذا عليّ إذا ما لم يزل وتري ... إن نال في الرمي أغراضي فلم أصب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 وقال آخر: لم أوت ويحك من سعي فلا تلم ... المنع من جانب الأقدار والقسم وقال آخر: تكامل فيّ آلة كل حر ... ولكن لا يساعدني الزمان وقال الموسوي: غرست غروسا وكنت أرجو لحاقها ... وآمل يوما أن تطيب جناتها فإن أثمرت لي غيرها كنت آملا ... ولا ذنب لي إن حنظلت نخلاتها «1» المجدود قال معاوية لما أتاه خبر موت أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه: لا جدّ إلّا ما أقعص عنك. قال شاعر: وكانت قريش يفلق الصخر جدّها ... إذا أقلق الناس الجدود العواثر «2» وقال أبو تمّام: ورثوا الأبوة والحظوظ فأصبحوا ... جمعوا جدودا في العلا وجدودا وقيل إنه لما قال ذلك أجمع الأدباء أنه أشعر أهل زمانه. وقالت عابدة المهلبيّة: ولو أرسلت نبلك ناصلات ... لصارت في الطريق لها نصول التوفيق قال عمر رضي الله عنه: توفيق قليل خير من مال كثير. وقيل لبزرجمهر: أي الناس أفضل؟ فقال: مجتهد في الخير ساعده القدر، وقيل لحكيم: ما الشيء الذي لا يستغني عنه المرء في كل حال؟ فقال: التوفيق. من حرم التوفيق، فأقطع ما يكون إذا اجتهد. وقام إلى الشبلي رجل فقال: بم يبعد المرء من ربّه ويخذل عن أمر؟ فزعق زعقة ثم أنشد: من لم يكن للوصال أهلا ... فكلّ إحسانه ذنوب وقال بعض الصوفية: إن العنايات لا تضرّ معها الجنايات، وأنشد الشبلي: ويقبح من سواك الشيء عندي ... وتفعله فيحسن منك ذاكا سنة التوفيق أجدى من يقظة الرؤية، وقليل النجح خير من كثير من الجهد. بطلان الجدّ والتدبير مع القضاء والقدر قيل: إذا جاء الحين حار العين وإذا جاء القدر عمي البصر. المرء طالب والقضاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 غالب. إذا انقضت المدة لم تنفع العدّة. إذا نزل البلاء ذهبت الآراء. إذا حلت المقادير ضلّت التقادير. وقيل: إذا حل القدر بطل الحذر. لما حجّ أبو مسلم قيل له إن بالحيرة نصرانيا أتت عليه مئتا سنة وعنده علم من علوم الأوائل فقصده، فلما نظر إلى أبي مسلم قال له: قمت بالكفاية ولم تأل في العناية. حتى بلغت النهاية، أحرقت نفسك لمن لا يرحم حسّك، وكأني بك وقد عاينت رمسك، فبكى أبو مسلم، فقال: لا تبك فإنك لم تؤت من حزم وثيق ولا من رأي دقيق ولا من تدبير بارع ولا من سبب قاطع، ولكن ما استجمع لأحد أمله إلا أسرع في تفريقه أجله. قال: فمتى يكون؟ قال: إذا تواطأ الخليفتان على أمر والتقدير في يدي من يبطل معه التدبير. وإذا صرت إلى خراسان فقد سلمت. وهيهات فلولا أن البصر يعمى إذ نزل القدر لكان في ذلك ما يبعث على الاحتيال. انتهى أعرابي إلى أرض، فقيل له: إنها مفعاة «1» فبات على ظهر راحلته فتعلقت حية بنسعة كانت في يده فلسعته، فقال وهو يجود بنفسه: لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتقي ... إذا هو لم يجعل له الله واقيا ولأمير المؤمنين رضي الله عنه: إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأكثر ما يجني عليه اجتهاده «2» وقال آخر: سبق القضاء بكل ما هو كائن ... فليجهد المتقلب المحتال وقال ابن نباتة: وإنّي إذا ما حاجة حال دونها ... نهار وليل ليس يعتوران «3» حملت على سوء القضاء ملامها ... ولم ألزم الإخوان ذنب زماني إذا الله لم يأذن بما أنت طالب ... أعانك في الحاجات غير معان وقيل: القضاء يقرب البعيد ويبعد القريب. قال شاعر: وقد يجلب الشيء البعيد الجوالب وقيل: إذا كان المقدور كائنا فالهم فضل. وكان نقش خاتم أبي العتاهية: سيكون الذي قضي سخط العبد أم رضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 (3) ومما جاء في الأماني والآمال ما يدلّ على جواز التمنيّ قال الله تعالى حكاية عن مريم عليها السلام قالت: يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا «1» فدل أن تمني ما لا يكون محظورا مباح، وقال تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً «2» ، وسمع ذلك رجل من الصالحين، فقال: ليت ذلك تم. طيب الأماني والآمال قيل لبعض من كان يخطب عملا: ما تصنع؟ قال: أخدم الرجاء حتى ينزل القضاء. قيل: ليس سرور النفس بالجدة والمقدرة إنما هو بالأماني والآمال. وقيل لحكيم: أي شيء أدوم إمتاعا؟ فقال: الأماني. وقال رجل من بني الحارث: منّى إن تكن حقا تكن أحسن المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا أماني من سعد حسانا كأنّما ... سقتك بها سعدى على ظمأ بردا وقال آخر: إذا ازدحمت همومي في فؤادي ... طلبت لها المخارج بالتمنّي وقال آخر: في المنى راحة وإن علّلتنا ... من هواها ببعض ما لا يكون ذمّ الأماني وبطلانها قيل: إيّاك والمنى فإنها بضاعة النوكى. الأمل سلطان الشيطان على قلوب الغافلين. الخذلان مسامرة الأماني والتوفيق رفض التواني. قال ابن المقفّع: كثرة المنى تخلق العقل وتطرد القناعة وتفسد الحس. وقال أمير المؤمنين كرم الله وجهه: تجنّبوا المنى فإنها تذهب ببهجة ما خوّلتم وتصغر مواهب الله التي رزقتم. قيل: ثلاث تخلق العقل وفيها دليل على الضعف: سرعة الجواب وطول التمنيّ والإستغراق في الضحك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 قال رجل لابن سيرين: رأيتني كأني أسبح في غير ماء وأطير بغير جناح، فقال: أنت رجل تكثر الأماني. وقيل: المنى والحلم أخوان. إن المنى طرق الضلال. إن ليتا وإن ولو إعناء. قال كثير: وددت وما تغني الودادة أنني ... (البيتين) . وقال محمد بن أميّة: أقطع الدهر بظنّ حسن ... وأجلي كربة لا تنجلي كلّما أملت وجها صالحا ... عرض المكروه دون الأمل وكذا الأيام لا تدني الذي ... أرتجي منك وتدني أجلي «1» وقال البسّامي: أعلّل نفسي بما لا يكون ... كما يفعل المائق الأحمق «2» وقال المتنبّي تمنّ يلذّ المستهام بمثله ... وإن كان لا يغني فتيلا ولا يجدي وقال أبو تمّام: من كان مرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا وقال آخر: إنّ المنى رأس أموال المفاليس وقال أفنون التغلبي: ولا خير في أن يكذب المرء نفسه ... وتقواله للشيء يا ليت ذا ليا أماني من تمنّى أمرا فأدركه اجتمع ابن عمر وعروة بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان بفناء الكعبة، فقال مصعب: هلموا نتمن. فتمنى عروة الفقه وأن يحمل عنه الفقه، وتمنى عبد الملك الخلافة، وتمنى مصعب ولاية العراق وتزويجه سكينة بنت الحسين بن علي وعائشة بنت طلحة، وعبد الله بن عمر الجنة. فنال مصعب وعبد الملك وعروة ما تمنوه، وشهد ابن عمر رضي الله عنهما مدرك ما تمناه وطلبه. وروي أن كعب بن ربيعة بن عامر أتاه آت في المنام فقال: إجمع بنيك ومرهم بالتمنيّ فإنهم يعطون، فجمعهم فقال لعقيل: تمنّ، فقال: العدد والرمي فليس في بني كعب أكثر عددا منهم ولا أرمى. وقال لجعدة: تمنّ، فقال: المال فهم أكثر بني كعب خيلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 وإبلا. وهم أهل رضاخ وضرية والفلج، وقال لقشير: تمنّ، فقال: البقاء والجمال فهم أجمل بني كعب ويكثر فيهم ذو السن وذو الرقية منهم أدرك الإسلام وله مائة وعشرون سنة وله ألف من ولده، هذا يقول: يا أبتاه وذا يقول: يا جداه، وقال لحريش: تمنّ، فقال: النعظ فهم أنكح بني كعب. وقال لخبيب: تمنّ، فقال: المودّة من إخوتي فيما بينهم وأن لا يؤثروا بهم. قال الشيخ أبو القاسم رحمه الله: نسأل الله أن يعطينا منانا بعد أن يوفقنا التمنّي ما فيه مصالحنا. من ذكر قلّة مبالاته بالمنيّة لإدراكه قاصية الأمنية قال الله تعالى مخبرا عن يوسف عليه السلام: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ «1» . وقال قيس بن الحطيم: متى يأت هذا الموت لا تلف حاجة ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها ونحوه: أدركت في الدهر أياما بلغت بها ... رضا الشباب الذي قد كان عاصاني وقال منصور بن طلحة بن عامر: رأيت عبد الله بن طاهر في المنام بعد موته فقلت له: ما خبرك أيها الأمير؟ فقال: من كلّ شيء قضت نفسي لبانتها ... فإذ أتاني رآني قاضيا أجلي «2» وقال زهير بن خباب الكلبي وكان من المعمرين: من كلّ ما نال الفتى ... قد نلته إلا التحيّة طيب إدراك المنى في المثل: أطيب من نيل المنى وإدراك الأمل. وقيل: ليس بعد بلوغ المنى إلا نزول المنيّة. قال الله تعالى: حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً «3» . وقال أبو الفتح بن العميد: إذا المرء أدرك آماله ... فليس له بعد ذا مقترح أماني قوم بحسب أحوالهم قال قتيبة بن مسلم للحصين بن المنذر: ما تتمنى؟ فقال: لواء منشور وجلوس على السرير وسلام عليك أيها الأمير. وقيل لعبد الله بن الأهتم ذلك، فقال: رفع الأولياء وقمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 الأعداء وطول البقاء مع القدرة والنماء. وقيل ذلك للفضل بن سهل، فقال: توقيع نافذ وأمر جائز. وقيل لحكيم: تمنّ، فقال: محادثة الأخوان وكفافا من عيش والانتقال من ظل إلى ظل. وقيل ذلك لمطرف فقال: مركب وطي ومطعم شهي وملبس دفي. وقيل لآخر، فقال: شواء مستنشل وغناء مسترسل ونكاح مستعجل. وقال بعضهم: العيش كلّه في صحة البدن وكثرة المال وخمول الذكر. وقيل لحكيم، قال: هوى وافق حقا. وقيل لرجل، فقال: أن تعطي جوارحك لذاتها. وقيل لأعرابي، فقال: خباء في أرض خلاء وكلب إذا أصابه المطر زاحمني فيه. وقيل لابن سنان فقال: ليل طويل الطرفين أقرن بينهما بذكر الله تعالى. وقيل لمأبون: فقال: لذّة الأبنة وحكّ الجرب فمن حرمهما فقد حرم لذات الدنيا. نعوذ بالله من بعض الأماني. أماني البله قال شاعر: إذا تمنّى مائق أمنية ... تحسبها كائنة مقضيّة قال الأصمعي: قال شيخ من بني العجيف إني تمنيت أن أبني دارا فمكثت أربعة أشهر للدرجة أين أضعها. ومرّ الحجاج ليلة بدكان لبّان وعنده بستوقة فيها لبن. وهو يتمنى ويقول: أنا أبيع هذا اللبن بكذا درهما وأشتري به كذا، ثم أبيعه ثم يكثر مالي ويحسن حالي، وأخطب إلى الحجّاج ابنته فأتزوج بها فتلد لي إبنا فأدخل عليها يوما فتخاصمني، فأضربها برجلي هكذا، ومدّ رجله فكسر البستوقة، فقرع الحجاج بابه واستفتحه فضربه خمسين، وقال: أليس لو ضربت بنتي بوكزة هكذا لفجعتني بها. نوع من الأماني قال الوليد بن عبد الملك لبديح المغني: خذ بنا في الأماني فلأغلبنّك، فقال: والله لا تغلبني فيها أبدا إني أتمنى كفلين من العذاب وإن يلعنني الله لعنا يشن علي من خلفي ومن قدّامي أتتمنى مثله؟ فقال: غلبتني لعنك الله. وقيل لرجل: أيسرك أن يكون لك ألف درهم؟ فقال: نعم وأضرب مائة، فقال: وضرب المائة لمه، فقال: لأنه لا يكون شيء إلا بشيء. وقيل: كان رجل يطلبه الحجّاج فمر بساباط فيه كلب، فقال: ليتني كنت هذا الكلب فأستريح من الغمّ والخوف، فما لبث أن جيء بذلك الكلب وفي عنقه حبل، وقيل: ورد كتاب الحجاج يأمر فيه بقتل الكلاب. وقعد ابن أبي عتيق فقال: ليت لنا لحما فنطبخ سكباجا «1» فما لبث أن جاء جار له بصحفة، فقال أعطونا قليل مرق، فقال إن جيراننا يشمّون رائحة الأماني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 التحذير من طول الأمل قال النبي صلّى الله عليه وسلم: أخوف ما أخوف على أمتي الهوى وبعد الأمل. أما الهوى فيعدل عن الحق وأما طول الأمل فينسى الآخرة. ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل، من جرى في عنان أمله فعاثر «1» لا شك بأجله. الآمال مصائد الرجال. ووجد على حجر مكتوب: يا ابن آدم لو رأيت ما بقي من أجلك لزهدت في طول ما ترجوه من أملك. تبكيت من أطال الأمل أقام معروف الكرخيّ الصلاة فقال لمحمد بن ثوابة: تقدّم، فقال: إن صليت بكم الصلاة لم أتقدم بعده، فقال: وأنت تحدث نفسك بصلاة أخرى نعوذ بالله من طول الأمل فإنه يمنع من خير العمل، من عدّ غدا من أجله فقد أساء. نفع طول الأمل في الورى قال النبي صلّى الله عليه وسلم: الأمل رحمة لأمتي ولولا الأمل ما أرضعت أمّ ولدا ولا غرس غارس شجرا. ومن هذا أخذ الحسين رضي الله تعالى عنه: لو عقل الناس وتصوروا الموت بصورته لخربت الدنيا. وقال مطرف: هذه الغفلة رحمة فلو دخل الناس الخوف من الموت ما انتفعوا بدنياهم. مضرّة انقطاع الأمل قيل: أعظم المصائب انقطاع الرجاء. وقيل لبزرجمهر: ما الذي يشدد البلاء على الناس؟ فقال القنوط والاستبسال، قيل: فما الذي يهوّنه عليهم، قال الرجاء وحسن الظن. قال النظّام: كنا نلهو بالأماني وتطيب أنفسنا بها، فذهبت من بعد وانقطع الأمل. بقاء الأمل والمنى ببقاء الحياة قيل: لا ينقطع رجاء المرء ما لم تنقطع حياته. وقيل: الأمل يساوق الأجل. قال علقمة: والعيش شحّ وإشفاق وتأميل ومثله: العيش إن تجل عنه كلّه تعب ... والمرء إن قرّ عينا كلّه أمل قال بشار: الإنسان لا ينفك من أمل فإن فإنه عوّل على الأماني، فالأمل نفع نسيب، والهوى لا يكون نسيبا وبابه مفتوح لمن يكلّف الدخول فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 تضمن الرجاء للخوف قيل: خوف وقوع المكروه مقرون برجاء السلامة، كل رجاء متضمن للخوف ولذلك استعمل كل واحد منهما موضع الآخر، وقول الهذليّ: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها أي لم يخف. وقيل: لا ينبغي للعاقل أن يسرّ بالرجاء فإنه مشوب بالذعر والسرور به غرور، إن خاب أضعف الأكداء عليه الغم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 الحد الثامن في الصناعات والمكاسب والتقلّب والغنى والفقر (1) فممّا جاء في الحرفة مدح الحرفة وفضلها قال النبي صلّى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: ما المروءة فيكم؟ قالوا: العفة والحرفة. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: خير الكسب كسب اليد لمن نصح. وكان عمر رضي الله عنه إذا نظر إلى رجل سأله أله حرفة فإذا قال: لا، سقط من عينه. ونظر عمر رضي الله عنه إلى أبي رافع وهو يقرأ ويصوغ، فقال: يا أبا رافع أنت خير من تؤدي حقّ الله تعالى وحقّ مواليك. وقيل لأعرابي ينسج: ألا تستحي أن تكون نسّاجا، قال: إنما أستحي أن أكون أخرق لا أنفع أهلي، وحرفة يقال فيها خير من مسألة الناس. وقال صلّى الله عليه وسلم: إن الله يحب التاجر الصدوق والصانع الناصح لأنه حكيم. وقال أبو العتاهية: ولا تدع مكسبا حلالا ... تكون منه على بيان ذمّ السّرقة قيل: لا ترج الخير ممن يكون رزقه من ألسنة الموازين ورؤوس المكاييل يؤتى يوم القيامة بسوقي فيوزن عمله فتميل به الميزان، فيقول حوّلوا إلى الكفة الأخرى ففي الميزان عيب. أصناف الصنّاع وتفضيل بعضها على بعض قيل: الناس أربعة: ذو صناعة وزراعة وتجارة وإمارة، وما سوى ذلك فإنهم يغلون الأسعار ويكدرون المياه. وقال المأمون: السوقيون سفل والصناع أنذال والتجار بخلاء والكتاب ملوك على الناس. كتب الوليد إلى صاحب الساحل: اجعل الحائك والإسكاف في مرتبة والحجام والبيطار في مرتبة، والبزّاز والصيرفي في مرتبة، والمعلّم والخصيّ في مرتبة والنخاس والشيطان في مرتبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 وقيل: ثلاثة أعمال لم تزل في سفلة الناس: الحياكة والحجامة والدباغة. وقال حبيب بن محمد لمالك بن دينار: لو خيرت في الصناعات ما كنت تختار؟ فقال: أكون حدادا فأرى لفح النار لعلّي أتقيها، فقال حبيب: كنت أختار أن أكون حفّارا للقبور. المتولّي صناعة تنافيه قال شريك بن عبد الله: خمسة من الكبائر: عمياء مكتحلة، وسوداء مختضبة وخصي له امرأة، ومخنث يؤم قوما، وإعرابي أشقر. ومن العجائب: منجّم أعمى وأطروش صاحب خبر، وعطار أخشم، ومناد أخرس ومؤاجر أصلع، وجندي محفوف الشارب، وكنّاس متعزز وفيج منقرس ولحياني ينتف لحية كوسج، وديدبان أعمش وحجام قليل الفضول، وإمام أمي وكحال أرمد. وضرب عبد الله بن أبي بكر ملاحا لم يحسن السباحة، وقال: من العجائب ملاح غير سابح. المتولّي صناعة تليق به من تمام آلة القاضي أن يكون لحيانيا، والقاص أن يكون أعمى شيخا بعيد الصوت، والزامر أن يكون أسود، والمغني فاره الدابة برّاق الثوب عظيم الكبر سيء الخلق، والشاعر أن يكون أعرابيا، والداعي إلى الله أن يكون صوفيا. من عمل عمل أبيه كفي نصف المعاش. أنذال من الصناع متبجّح بعضهم على بعض دعا حجّام كناسين يكنسان له كنيفا، فقال أحدهما للآخر: أتدري عند من نعمل؟ قال: لا، قال: نعمل عند حجّام، فقال: الحمد لله الذي أعلمنا ذلك قبل أن نشرب من كوزهم أردت والله أن أرمي بكل ما في جوفي. أطلب لي شيئا أشرب به فضرب يده إلى كوز معه في جوف جرّة ينقلون فيها الخرء، فمسحه بيده وناوله فشرب منه. اجتمع كناسان على كنيف، فقال أحدهما: فيه من الخرء قامة، وقال الآخر: قامة وبسطة، فنزع ثوبه وقفز فيه وغاص ثم أخرج رأسه، وقال: تظنني حائكا. وقع شرّ بين حجّام وحذّاء، فقال: أنت تمشط وتسرج، وأنا أحذو وأنت تشق بمبضع، وأنا بمخصف فما فضلك عليّ؟ ذكر من تولّى صناعة دنيئة من الأكابر قيل: كان طالوت دباغا فآتاه الله الملك على رغم من كره، وكان داود عليه السلام راعى غنم وآتاه الله الملك والحكمة، وموسى راعيا أجيرا لشعيب عليهما السلام، وعيسى عليه السلام صيّاد سمك وهذا باب يكثر أن يتبع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 ذمّ الحاكة قيل: الحمق عشرة أجزاء تسعة في الحاكة. مرّ على أمير المؤمنين كرم الله وجهه رجل فقال له: إلى أين؟ قال: إلى البصرة في طلب العلم، فقال: أتترك عليا وتطلب العلم بالبصرة؟ ثم قال له: ما صناعتك؟ فقال نسّاج فقال رضي الله عنه: من مشى مع حائك في طريق ارتفع رزقه، ومن كلّم حائكا لحقه شؤمه، ومن اطلع في دكانه اصفرّ لونه. فقال قائل: لم يا أمير المؤمنين وهم إخواننا؟ فقال: إنهم سرقوا نعل النبي صلّى الله عليه وسلم وبالوا في فناء الكعبة، وهم تبع الشيطان وشيعة الدجّال، وسراق عمامة يحيى بن زكريا وجراب الخضر وعصا موسى وغزل سارة وسمكة عائشة من التنور، واستدلتهم مريم عليها السلام فدلّوها على غير طريق، فدعت عليهم أن يجعلهم الله سخرية وأن لا يبارك في كسبهم. وقال حائك لعالم: دلّني على عمل أتواضع به، فقال له: ما عمل أوضع من عملك فالزمه. وقال: شهادة الحائك تجوز مع عدلين. وكان النظّام يسمّى العروضي أخضر البطن فكشف عن بطنه وقال: ما ههنا خضرة، فقال: إنه يريد أنه حائك. ويقال فلان أخضر النواجذ «1» ، والبراجم «2» للأكار بمعنى أنه يأكل الكراث ويتناول الخضراوات. في مدحه: لولا الحياكة والذين يلونها ... بدت الفروج ولاحت الأدبار وفي ذم صناعة قليلة النفع يتمثل بقول الشاعر: ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل مدح الحجّام قال النبي صلّى الله عليه وسلم: نعم العبد يقل الدم ويخف الصلب ويجلو البصر. ومن فضلاء الحجّامين أبو ظبية حجّام رسول الله صلّى الله عليه وسلم حجم النبي صلّى الله عليه وسلم، وشرب دمه فاختلط دمه بدمه فخطب إلى الأشراف وزوج من الكرام ومنهم أبو هبة. قال النبي صلّى الله عليه وسلم: يا بني هند إنما أبو هبة رجل منكم فانكحوه وانكحوا إليه. ومنهم عبيد الحجّام بالبصرة وكان أديبا، قيل له: كم يعطيك فلان؟ قال سدوسي، عنى قول الشاعر: فإن تبخل سدوس بدرهميها ... فإنّ الريح طيّبة قبول «3» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 وقال ابن طباطبا: أبو سليمان داود بن بنكلة ... قد فات في الحجم حذقا كل حجّام وزان ذاك بصوت لا يجاوزه ... إلى الفضول سوى نطق بإبهام لطفا ورفقا وحذقا في صناعته ... وخفّة لم تشن منه بإبرام لولا مواقع موساه ومشرطه ... لخلتني منه في أضغاث أحلام وقال محمد بن مسافر: مزيّن حذّفني حاذق ... ليس له في النّاس من شبه ظننت إذ حذّفني أنّه ... أحدث لي وجها سوى وجهي «1» وقال أبو ذرّ البلخي: كأنّما المحجم في كفّه ... شمس نهار آذنت بالغروب يأخذ من مجروحه أرشه ... فيا له من جارح مستثيب «2» كثرة فضول الحجّامين استحضر عبد الله بن سليمان حجاما شيخا يقال له أبو دلحمة، وقال: أنا متبرم بحجامي لكثرة فضوله. فأخذ آلة التحذيف وطفق يشحذ الموسى فنظر الوزير إلى بعض أصحابه، فقال اعط القوس باريها، فقال أبو دلحمة: ما أول هذا البيت أيها الوزير. فقال الوزير: الله أكبر هربت من فضول فوقعت فيما فوقه، وقال ما هو يا أبا دلحمة، فقال: أنشدني الرياشي بمكة: يا باري القوس بريا ليس يحسنه ... أفسدت قوسك أعط القوس باريها وكان أبو دلحمة من الشعراء والفضلاء. وقال الفضل بن الربيع: قال لي الرشيد أطلب لي حجّاما أصمت من الحجر، فقلت: نعم، لي غلام سكيت، فقال: إبعثه إليّ. فدعوت به وأخذت عليه الوصيّة أن لا ينبس ولا ينبض عرقه إذا خدم أمير المؤمنين وأوصيته بأن يتأهب ثم دخلت إلى الرشيد فرأيته يضحك، وقال لي: إن لذلك الحجام شأنا ولا نراه بعد، ثم سألت فراشا مختصا بالرشيد عن خبره، فقال: إنه لما بدأ بالمحجمة قال: يا أمير المؤمنين إني أريد أن أسألك عن شيء فقال له ما هو؟ قال: لم قدّمت الأمين على المأمون والمأمون أسن منه؟ قال: أخبرك بالجواب إذا فرغت، فلم يلبث غير قليل حتّى قال: وأسألك عن شيء آخر، قال الرشيد: هات، قال: لم قبلت جعفر بن يحيى، قال: وهذا أيضا أخبرك به إذا فرغت، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 قال واسألك: لم اخترت الرقة على بغداد وبغداد أطيب منها، قال: نعم أخبرك إذا فرغت. فلما فرغ دعا مسرورا الخادم فقال له: لا تشرب عليه الماء البارد إنه سألني عن ثلاث لو سألني المنصور عنها ما أجبته. ومر المأمون متنكرا بحجّام فسمعه يقول لآخر: سقط هذا المأمون من عيني منذ قتل أخاه، فبعث إليه ببدرة، وقال: إن رأيت أن ترضى عنّي فعلت. وكان كسرى يستصفي الحجّامين في كل سبع سنين، ويقول: إنهم يبطرون إذا أثروا. ذم التكسب به قيل: إنما يقال للحجّام قبيس لأن المسان تحمل إليهم من جبل أبي قبيس: ويقال: إن الحجّامين بقم في بعض الأوقات غضبوا فاجتمعوا وخرجوا من البلد حتى طالت شعور أهلها واضطروا إلى أن خرجوا إليهم وقبلوا الأرض بين أيديهم وحلفوا لهم أن لا يؤذوهم ولا يلقبوهم فرجعوا. وقيل: إن الفرزدق حضر مجلسا فيه بلال بن أبي بردة فجعل بلال يذكره مناقب جدّه، فقال الفرزدق: لو لم يكن له من المنقبة إلا أنه حجم النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: إنه ما حجم قبله ولا بعده. فقال الفرزدق: جدّك والله كان أفضل من أن يجرب الحجم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال شاعر: أبوك أوهى النجاد عاتقه ... كم من كميّ أدمى ومن بطل «1» يأخذ من ماله ومن دمه ... لم يمس من ثاره على وجل «2» وقال منصور بن باذان: كم من رقاب جرحت طائعة ... من غير كفّيك لا ترام حمى «3» ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن كسب الحجّام وقال هو خبيث، وهذا على التنزيه. وروي أنه عليه الصلاة والسلام احتجم وأعطى الحجّام أجره فلو كان حراما لم يعطه. وروي أنه حجمه عبد لبني بياضة فأعطاه أجره صاعا من تمر، وسأل مواليه أن يخفّفوا عنه من ضريبته. ذمّ الإسكاف قيل لمجنون: ما تقول في إسكاف مات وترك أختا وأما؟ فقال: ميراثه للكلاب ونفقته على الدباغين وليس لأمه ولا لأخته إلّا نثر التراب وتخريق الثياب. وقيل: وقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 كليب في كنيف فدعا إسكافا فقال: إدفع يدك إلى أخيك واخرج، فقال: ذرني في الكنيف ولا تصحح علي بذلك أخوتك. وقال الشاعر يعرّض به: أنفذ في الطّعن من كليب ومن ... عمر والزبيدي فارس اليمن الخيّاط قال النبي صلّى الله عليه وسلم: عمل الأبرار من الرجال الخياط ة وعمل الأبرار من النساء الغزل. وقال ابن عباس: كان إدريس عليه السلام خيّاطا وكذلك هود ولقمان عليهما السلام، وكان نوح نجارا. وأتى أعرابي إلى خياط بثوب ليخيطه قميصا فقطعه فعلاه الأعرابي بالهراوة، وقال: ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... فيما مضى في سالف الأحقاب من فعل علج جئته ليخيط لي ... ثوبا فخرقه كفعل مصاب فعلوته بهراوة كانت معي ... ضربا فولّى هاربا للباب أيشقّ ثوبي ثم يقعد آمنا ... كلا ومنزل سورة الأحزاب «1» ذم الندّاف قال رجل لندّاف: لو وضعت إحدى رجليك على حرّاء والأخرى على طور سيناء، ثم أخذت قوس قزح تندف به قطن الغمام في جياب الملائكة ما كنت إلا ندّافا، قال الصاحب: قل لابن ماسويه الفقيه ... يا آنف النّاس من أبيه جمعت ضدّين في مكان ... صنعة حلج وفرط تيه «2» المخاطر بنفسه من الصنّاع في كتاب كليلة: خمس نفر، المال أحب إليهم من أنفسهم: المقاتل بالأجرة وراكب البحر للتجارة وحافر البئر والاسراب، والمدل بالسباحة والمخاطر على السم. وقد تقدم مدح الطبيب وذمه. القين قال جرير: هو القين يدني الكير من صدر إسته ... ويعرف مدّ الكلبتين أنامله «3» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 وقال آخر: القين لا يصلح إلا ما جلس ... للكلبتين والعلاة والقبس «1» الراعي ذمّ قوم الرعاة فنسبوهم إلى الحمق وقالوا: أحمق من راعي ثمانين. وقالوا: لا تشاور راعي الضأن. ومما يدلّ على فضيلتهم قول النبي صلّى الله عليه وسلم: ما من نبي إلا وقد رعى وقد رعيت. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: ما بعث الله نبيّا إلا راعيا، بعث موسى وهارون راعيين، وبعثت وأنا أرعى لأهلي. وشرط صاحب الإبل على الراعي، فقال: عليك أن تهنأ جرباها وتلوط حوضها وتنشد ضالتها وترد نادتها وتستقصي في الرسل ما لم تنهكما حلبا أو تضرّ بنسل، فقال الراعي: نعم، على أن يدي مع أيديكم في الحار والقار ولا تذكر أمي بشرّ ولي مقعد موسع من النار، فقال: هذا لك، فإن خنت فما عليك. قال حذفة: بالعصا أخطأت أم أصبت. وتفاخر راعيان، فقال أحدهما: والله ما اتخذت عصا فيها غير هذه منذ شبت وما انكسرت، فقال الآخر: تعست إن اتخذت فيها عصا غير يدي. ويوصف الراعي بأنه ضعيف العصا أي قليل الضرب بها. قال الشاعر: ضعيف العصا بادي العروق ترى له ... عليها إذا ما أجدب الناس إصبعا الكنّاس قال رجل من الكناس ين لآخر: ويحك ألا تعجب من فلان يزعم أنه كناس ابن كناس؟ فقال: قل له يا ابن الخبيثة مالك والكنس، قد والله بغضوا إلينا هذا العلم، أف وتف من النوكى رجاء أمس. ويقول أنا كناس، أما والله لو شهدنا ونحن نكنس المطابق والسجون فلا نخطىء ما قدرنا بزنبيل واحد ولا نتحاشى من الدخول في كنفها. علم من الكناس ابن الكناس، وكان أبو إبراهيم الكساح رئيس الكساحين، قال له أحمد بن سليمان: احمل مائة سفينة مع المائة التي كنت حملتها قبل، وخذ ثمنها. فقال: تلك المائة كنت قد جعلتها طعمة للأمير. باب مختلف من الصّناعات قيل: من حذق في صناعته احتسب حذقه في رزقه، ولذلك ترى أكثر الحاذقين محرومين. وسمعت بعض العلماء يقول: إنما نرى أكثر الحذاق في صناعتهم يضيق رزقهم لا تكالهم على حذقهم لا يبذلون جهدهم فيما يعملونه، وغير الحاذق يبذل جهده ويفرغ نصحه خشية أن تسترذل صنعته، فيبارك الله فيه بجدّه وجدّه واستفراغ نصحه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 وقال الحسن بن سهل: لا يكسد رئيس صناعة إلا في شرّ زمان ومملكة أنذل سلطان. وقيل: من انتكاس الدهر أن يولى امتحان الصناع من ليس بحاذق في صناعتهم. روي في الخبر: لا بد للناس من عريف والعرفاء في النار، كأنه أخبر عن علم الله تعالى في أكثرهم أنهم يعملون بالمعاصي. فأما العرافة والنقابة فقد كانتا في قوم صالحين يقال: عريف ونقيب ومنكب، والعريف فوق النقيب. نظر حمال إلى راكب، فقال: سبحان من حملك وحملني. وعطس حمّال، فقال: رجل راكب مخمور يرحمك من أخرج العطسة من المضيق، فقال يغفر لك من حملك وجعل على قفاي هذه الكارة الدقيق. (2) وممّا جاء في المبايعات مدح السوق كان النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا دخل السوق يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللهمّ إني أسألك من خير هذه السوق وأعوذ بك من الكفر والفسوق. وقيل: السوق موائد الله فمن أتاها أصاب منها. وقال صلّى الله عليه وسلم لرجل: الزم سوقك. ذمّ السّوق قيل للحسن رضي الله عنه: هلا تصلي فإن أهل السوق قد صلّوا، قال: من يأخذ دينه من أهل السوق، إن نفقت سوقهم أخّروا الصلاة وإن كسدت عجلوها. وقال: أهل السوق ذئاب تحت ثياب. وقال ابن السماك: يا أهل السوق سوقكم كاسد وبيعكم فاسد وجاركم حاسد ومأواكم النار. ذكر أسواق العرب كانت عكاظ ومجنّة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية، فلما جاء الإسلام تأثّموا أن يتجروا في الحج، فأنزل الله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ «1» يعني في مواسم الحج. مدح التجارة وذمّها قال مجاهد في قوله تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ «2» إنها التجارة، وأشراف قريش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 كانوا تجارا، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا خير في التجارة إلا لستة، تاجر إن باع لم يمدح وإن اشترى لم يذم وإن كان عليه دين أيسر الاقتضاء وإن كان له أيسر الاقتضاء وتجنب الحلف والكذب وقال عليه الصلاة والسلام: بعثت مرحمة ومرغمة ولم أبعث تاجرا ولا زارعا، وإن شاور هذه الأمة التجار والزراعون إلا من شح على دينه. وقال صلّى الله عليه وسلم: ما أوحى الله إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحى إليّ أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين، وقال تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها «1» فقرن التجارة باللهو وهو مذموم. الحثّ على التّجارة في جنس دون جنس قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من اتّجر في شيء ثلاث مرات فلم يصب منه شيئا فليتحول إلى غيره. ودخل ناس على عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، فسألهم عن صناعتهم، فقالوا: بيع الرقيق، فقال بئست التجارة ضمان نفس ومؤنة ضرس. وقال ابن المبارك: إياك والتجارة في الإبل فإنها غنم وغرم، وأحب التجارة إلي ما كان بين غنمها وغرمها حجاز من السلامة. وقال بطليموس: لا يكاد الإنسان ينحس في جميع الأشياء ولا يسعد في جميعها فينبغي أن يعرف وجوه منافعه في وجوه شتّى، فمتى دخلت المنحسة في شيء كانت السعادة في شيء. وقيل: شرّ الناس من باع الناس، يعني النخّاسين. وقيل: بيع الرجل صاحبه بالطفيف من الأمر، وقد قال صلّى الله عليه وسلم: التجارة في الرقيق ممحقة. وقال محمد بن واسع رحمه الله: أفضل التجارات لديّ بيع العطر والجوهر والحصر والساج وكل شيء لا يشتريه إلا من في أمواله فضل عن القوت لأن ظلم أصحاب الفضل أهون، وأبغض التجارة إليّ القطن وشراء الغزل فإن ظلم هؤلاء صعب إذا كان داخلا على أقواتهم. فضل الصدق في البيع قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ما أفلس تاجر صدوق. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: التجار فجّار. قيل: يا رسول الله ولم وقد أحل الله البيع؟ فقال: إنهم يحلفون ويكذبون. وقال الجاحظ: رحم الله الأحنف حيث يقول: إلزم الصحة يلزمك العمل. وقال الأشج الصيدلاني: مرّ بي رجل فرأى قلّة الناس عندي وكثرتهم عند غيري، فقال: أتريد أن تكثر مبايعتك ويحسن حالك؟ قلت: نعم، فقال: أصدق واصبر سنة فإن الصدق يستحي لنفسه أن يبطىء عنك أكثر من سنة، ففعلت، فكثر زحام الناس عند حانوتي. ثم مرّ بي فرأى كثرة الناس عندي فقال: إحذر ولا تتكل على ما وهمتهم من الصدق فتدعوك نفسك إلى ضعف ربحك اليوم، فإنك إن عدت إلى الكذب عاد عليك الكساد فلم أزل قابلا لوصيته، ثم مرّ بي بعد سنيات، فقال: قليل الربح مع كثرة الحرفاء أربح من كثره مع قلة الحرفاء. وق د قالوا: الزم الصحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 يلزمك العمل، ولو حلفت أنها كلمة نبي، لرجوت أن لا أحنث، ثم لم أره بعد ذلك فرحمه الله حيا وميتا فقد نصح. وقيل: التاجر الصدوق، مع النبيين والصديقين. ذمّ الحكرة قال النبي صلّى الله عليه وسلم: من احتكر على المسلمين طعامهم ضرب الله ماله بالإفلاس، وعنه صلّى الله عليه وسلم: من احتكر طعاما أربعين يوما فقد برىء من الله ورسوله وقال صلّى الله عليه وسلم: الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون. وفي عهد أزدشير: لا تحبوا الاحتكار فيعمّكم القحط. وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: قلت يا رسول الله ما الحكرة، فقال: الذي إذا سمع بالغلاء فرح وإذا سمع بالرخص اغتم. وقال علي رضي الله عنه: لا أسمع بالكوفة برجل احتكر إلا أحرقت طعامه بالنار أو أنهبته. وكتب الوليد بن مصعب إلى صاحبه بالساحل: تفقد أمر الحناطين فإن زادوا في السعر من غير علة فأنهبهم عوامك فالغلاء من أسباب الفتن. مع الغلاء تكون الشكوى ثم الجلاء ثم الوباء. تحليل البيع وذمّ الرّبا قال الله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا «1» وقال: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ «2» وقال: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ «3» ولعن النبي صلّى الله عليه وسلم: آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه. وقال صلّى الله عليه وسلم: الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله من ستة وثلاثين زنية زناها زان. وقال صلّى الله عليه وسلم: يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه أحد إلا أكل الربا فمن لم يأكله أصابه من غباره. وروي: كل قرض جر منفعة فهو الربا. الحثّ على مراعاة العلم في المبايعة قال أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه: من أتجر بغير فقه فقد ارتطم في الربا. وقال الضحاك: ما من تاجر ليس بفقيه إلا أكل الربا شاء أم أبى. المكروه من البيوع قال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا يبيع أحدكم على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه. وقال صلّى الله عليه وسلم: لا تناجشوا والنجش الزيادة في السلعة من غير حاجة، ونهى عن تلقي الركبان وبيع حاضر لباد. وقال صلّى الله عليه وسلم: لا يحل شراء المغنيات ولا بيعهن ولا تعليمهن، وتلا قول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ «4» . ونهى عن بيع فضل الماء، فقال: من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ منعه الله فضل رحمته يوم القيامة. وقال صلّى الله عليه وسلم: لا يحل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 منع الملح، وكل ذلك مكروه، وإذا فعله إنسان صح بيعه وشراؤه. المحرّم بيعه نهى النبي صلّى الله عليه وسلم: عن ثمن الكلب إلا كلب الصيد، وفي خبر آخر: نهى عن ثمن الكلب والهر وعن مهر البغي. وقال جابر: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم فتح مكة يقول: ألا إن الله حرم بيع الخمرة وبيع الخنازير وبيع الأصنام، فقيل له: أرأيت شحوم الميتة فإنه يدهن به السفن والجلود، فقال صلّى الله عليه وسلم: قاتل الله اليهود إن الله حرم عليهم الشحوم فحملوها وباعوها. وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلم: إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه. وقال صلّى الله عليه وسلم: الورق بالورق والذهب بالذهب والبر بالبر والشعير وبالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح ربا إلا هاء وهاء مثل بمثل، ومن زاد أو ازداد فقد أربى. وأهل الظاهر قصروا الحكم على هذه المذكورات، وغيرهم تعداها، فجعل الشافعي رضي الله عنه العلة فيه الأكل فحرم بيع كل مأكول بجنسه إلّا مثلا بمثل. وأبو حنيفة رحمه الله جعل العلة الكيل فحرّم بيع كل مكيل بجنسه إلا مثلا بمثل. ونهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة وعن بيعين في بيعة وعن بيع وسلف وعن ربح ما لم يضمن وبيع ما لم يقبض. وعن المحاقلة والمزابنة فالمحاقلة بيع البر الموضوع بالأرض والمزابنة بيع ثمر النخل بالتمر يابسا، ورخص في العرايا والعرية بيع ثمر النخل بالتمر يابسا إذا كان دون خمسة أوسق، ونهى عن الثنيا وعن المنابذة وبيع الغنيمة قبل القسمة. وعن بيع المجر وهو أن يباع الشيء بما في بطن الشاة، وعن حبل الحبلة وعن بيع الغرز وعن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها. وفي الحديث: أن عليه السلام نهى عن الكالىء بالكالىء وهو بيع الدين بالدين، ونهى عن بيع أمهات الأولاد، وقال: لا يبعن ولا يوهبن ولا يورثن، يستمتع بها سيدها ما بدا له فإذا مات فهي حرّة. السّلف قال ابن عباس رضي الله عنهما: قدم النبي صلّى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في التمر العام والعامين، فقال صلّى الله عليه وسلم: من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم. وكان صلّى الله عليه وسلم استسلف بكرا فجاءته إبل من إبل الصدقة، قال أبو رافع: فأمرني النبي صلّى الله عليه وسلم أن أقضي الرجل بكره فلم أجد إلا رباعيا، فقال صلّى الله عليه وسلم: أعطه إياه فإنّ خير الناس أحسنهم قضاء. السّهل البيع مر النبي صلّى الله عليه وسلم برجل يبيع شيئا، فقال: عليك بالسماح أول السوق فالرباح في المساح. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أحب الله عبدا سهلا، إذا باع أو ابتاع سمحا إذا قضى أو اقتضى. وقال ابن عون: ما أرسلني الحسن رضي الله عنه في ابتياع شيء له إلا قال: لما عدت بارك الله فيك، ولم يسألني عن ثمنه وما أرسلني ابن سيرين إلا قال حين عدت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 كيف اشتريت؟ وقيل لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: بم بلغ بسارك فقال لم أرد ربحا ولم أشتر عيبا ولم أبع بنسيئة. جواز المماكسة قيل: المماكسة في البيع مكايسة. وكان عبد الله بن جعفر يماكس في درهم ويجود بمال، فقيل له في ذلك، فقال: الغبن في البيع بله وفي الجود كرم. وقيل لآخر مثل ذلك، فقال: الغبن في البيع جود بالعقل وفي السخاء جود بالمال، ولا أسخى بالعقل وقيل: الحر يتغابن في ابتياع الحمد ولا يتغابن في الشراء والبيع. وقيل: من الغباوة السخاء في التجارة. وكان ابن عمر رضي الله عنه لا يرى بأسا بالمماكسة والمكايسة. والهند لا تستحل غرارة الجاهل وتستحل غبن البائع. ذمّ المبالغة في المماكسة قيل: كثرة المكاس من أفعال الخساس. ورأى رجل إبنه يماكس في ابتياع لحم فقال: يا بني تساهل، فمما تضيعه من عرضك أكثر مما تناله من عرضك. وكان الأصمعي مضيقا في معيشته مستقصيا في مبايعته، فقال العتبي: لو بذلت الجنة للأصمعي بدرهم لما رضي واستنقص شيئا. وقال رجل لخياط: خط لي هذا الثواب وسامحني في الأجرة، فقال: أخيطه لك مجانا، فقال زدني. قال: إذا تخرق رقعته لك. ونحو ذلك أن رجلا كان يستأجر غلاما فقال كم تطلب، فقال: أخدمك بملء بطني، فقال: سامحني، فقال: لا أعرف مسامحة في ذلك إلا أن أصوم لك الإثنين والخميس في الأسابيع لتربح غداءهما. وكان ابن بالة ببغداد قد اكترى غلاما كوفيا فاستحضره المزين فحلق رأسه فلما فرغ وتنحى، جاء الغلام الكوفي إلى المزين فقعد بين يديه ليحلقه، فخرج ابن باله وقد حلق المزين بعض رأسه فناداه وقال له: هذا من حسابي أو من حسابك يحلق فقام الغلام على حالته محلوق بعض الرأس، وأخذ المنديل وعدا من بين يدي المزيّن، وحلف بالطلاق أنه لا يحلق رأسه حتى يعود إلى الكوفة. عذر مبتاع مرغوب فيه بفضل ثمن اشترت سكينة شيئا بفضل ثمن، فقيل: غبنت فقالت: ما غبن من بلغ شهوته، وقيل: استكرمت فاربط واشدد يديك بغرزة ولا تنظر إلى كثرة ثمنه. قال شاعر: أشدد يديك به وحز ... هـ فإنه علق مضنّه «1» الحثّ على استجادة ما تشتريه قال عمر رضي الله عنه: إذا اشتريت بعيرا فاشتره سمينا فإن أخطأك الخبر لم يخطئك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 النظر، وقيل: الغبن غبنان غبن الغلاء وغبن الرداءة، فإذا اشتريت فاستجد تربح أحد الغبنين. وقيل لبعضهم: بم كثر مالك؟ فقال: لم أشتر قط غبنا ولا شينا. مدح متظلف «1» عن المبايعة وعن التفكر في الطفيف. قال شاعر يبيع ويشتري لهم سواهم ... ولكن بالسّيوف هم تجار وقال العباس بن المأمون لغلامه: إن رأيت نقلا حسنا فاشتر بنصف درهم، فقال المأمون: لا تفلح إذا عرفت للدرهم نصفا. وطلب الحسن رضي الله عنه ثوبا، فقيل: بثلاثة عشر ونصف، فقال: خذ أربعة عشر فالمسلم لا يشاطر أخاه الدرهم. المتغالي ببيع شيء ساوم مديني نعلا، فقال صاحبها: بعشرة، فقال المديني: لو كانت من جلد بقرة بني إسرائيل ما أخذتها بأكثر من درهم، فقال الحذاء: لو كانت دراهمك من دراهم أصحاب الكهف ما أعطيتكها. باع رجل شيئا مماكسة، فقال البائع لما باعه: لو صبرت لبعت منك بدرهم، فقال المشتري: لو صبرت لاشتريت منك بأضعاف ما اشتريت دنانير. ساوم أشعب رجلا بقوس، فقال: بدينارين، فقال: لو أنها إذا رمى بها الطير في الهواء يسقط مشويا بين رغيفين ما اشتريتها بدينارين. كان رجل ضلّ له بعير فحلف إن وجده ليبيعنه بدرهم فوجده فلم تسمح نفسه أن يبيعه بدرهم، فعمد إلى سنور فعلقه في عنقه وجعل ينادي عليه: الجمل بدرهم والسنور بخمسمائة ولا أبيعهما إلا معا، فقال رجل: ما أرخص الجمل لولا قلادته. ترك مبيع لغلائه كان الفضيل رضي الله عنه إذا أرسل غلامه ليشتري له شيئا فرجع إليه، فقال وجدته غاليا، قال: الحمد لله إذا غلا علينا شيء تركناه. وقال بعضهم: إذا غلا عليّ شيء تركته فيكون حينئذ أرخص ما يكون، قال شاعر: وإذا غلا شيء عليّ تركته ... فيكون أرخص ما يكون إذا غلا وأنشد جحظة هذا البيت مجيزا له: إلا الدقيق فإنّه قوت لنا ... فإذا غلا يوما فقد نزل البلا «2» واشتهت امرأة مزبد يوما عليه جراد فقالت: اشتر لي فإن مدا منه بدرهم. فقال لو جاء الدجال بزلزلة المدينة وأنت ما خض بالمسيح تنتظرين أن تأكلي الجراد وتضعي الحمل ما اشتريته بهذا السعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 من باع نفيسا واشترى خسيسا قال الله تعالى: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ «1» . باع رجل دابة واشترى بها بازيا فقال له أبوه: يا أحمق بعت ما تركبه واشتريت ما يركبك. وباع رجل بستانا واشترى به دابة، فقال له رجل: بعت ما كنت تعلفه السرجين «2» فيعوضك الشعير بما يأكل ويعوضك السرجين. وفي المثل: كالمشتري النافقاء باليربوع وما كل مبتاع من رابح، قال ابن معروف القاضي: يا خاسر الصفقة في سعيه ... وبائعا بالخزف الدرّه «3» كان يباع زرياب بدينار فقال أعرابي: لماذا يصلح هذا؟ فقيل إنه يضغب «4» ضغيب السنور، فقال: اشتر سنورا بنصف درهم يضغب لك أجود من هذا ويصطاد الفأر زيادة. بيع نفيس للحاجة إليه دخل أعرابي بفرس يبيعه، فقيل له: صف فرسك، فقال: ما طلبت عليه قط إلا لحقت ولا طلبت عليه إلا سبقت، فقيل له: فلم تبيعه؟ فقال: وقد تخرج الحاجات يا أمّ مالك ... كرائم من ربّ بهنّ ضنين «5» ذمّ البيع والابتياع نسيئة قيل: إياك أن تتكلم على وجهك في سوقك دون رأس مالك، أو تشتري شيئا بجميع مالك وخير التجارة ما لا يعرف أهلها النسيئة. باع رجل دارا من تركي نسيئة فجاءه يوما متقاضيا فأخذه وصفعه صفعات، فلما انصرف، قيل له: ما استوفيت من ثمن الدار، فقال: صفعات في قفاي. عرضت جارية على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فأحب شراءها ولم يكن عنده ثمنها، فقال البائع: أنا أوخرك، إلى العطاء، فقال: لا أريد لذة عاجلة بذلة آجلة. وعرض على رجل شيء ليشتريه، فقال: ما عندي ثمنه، فقال البائع: أنا أؤخرك، فقال: أنا أؤخر نفسي. بيع مرغوب عنه قال أبو حكيمة في عبد باعه: بعنا تعيسا ولم يحزن له أحد ... قد غاب عنّا فغاب الهمّ والنكد أحسن به خارجا من بين أظهرنا ... لم نفتقده وكلب الدار يفتقد وباع عبيد الله ضيعة له، فقال: قيل لي كيف أنتم قلت بعنا ... ضيعة عدة بشيء قليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 فيه أدنى صون وأدنى نوال ... واسترحنا من طول غمّ الوكيل وله: ومبتاع بعض الملك منّي يقول لي ... وما باعه إلّا نوائب تعتري متى صرت مضطرا لبيع ذخائر ... فقلت له مذ صار مثلك يشتري المغالاة بما لا يقلّ وجوده عاتب محمد بن عبد الملك الزيات أبا تمام في أنه يمدح غيره من السوقة، فقال: رأيتك سمح البيع سهلا وإنّما ... يغالي إذا ما ضنّ بالشيء بائعه فأما إذا هانت بضائع ماله ... فيوشك أن تبقى عليه بضائعه هو الماء إن أجممته طاب ورده ... ويفسد منه أن تباح شرائعه «1» وقال ربيب النصراني: وكلّ شيء غلا أو عزّ مطلبه ... مسترخص ومهان القدر إن رخصا «2» أحبّ شيء إلى الإنسان ما منعا قيل: كل مبذول مملول، وكل ممنوع متبوع. الوزن والكيل قال الله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ «3» (الآية) وقال ابن عمر رضي الله عنهما: أقبل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا معشر المهاجرين لا ينقص قوم المكيال والميزان إلا أخذهم الله بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم. قال عكرمة: أشهد لكل كيال ووزان بالنار إلا القليل منهم، فقيل له: سبحان الله وكيف؟ قال: لأنه لا يزن كما يتزن ولا يكيل كما يكتال. وقال صلّى الله عليه وسلم لقوم شكوا إليه سرعة فناء طعامهم: كيلوا ولا تهيلوا، وقال صلّى الله عليه وسلم لرجل ابتاع منه شيئا: زن وأرجح. مدح الإقالة في البيع والحثّ عليها قال صلّى الله عليه وسلم: من أقال مسلما أقال الله عثرته يوم القيامة. الشريك في البيع قال السائب: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم شريكي، وكان خير شريك لا يشاري ولا يماري. وقال صلّى الله عليه وسلم: لا تزال يد الله على الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خان أحدهما صاحبه رفع البركة عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 الشّفعة في البيع قال النبي صلّى الله عليه وسلم: الجار أحق بصفقته. وقال صلّى الله عليه وسلم: الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها إن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا، وقال صلّى الله عليه وسلم: من كان له شريك في زرع أو نخل فليس له أن يبيع حتى يأذن شريكه، فإن رضي أخذ وإن كره ترك وقال صلّى الله عليه وسلم: إذا أرفت الحدود فلا شفعة، يعني ميزت وبيتت، وقال: الشفعة فيما لم يقسم. الخيار في البيع قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار. وشكا رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه يغبن في البيع، فقال صلّى الله عليه وسلم: إذا ما بعت فقل لا خلابة ثم أنت بالخيار إلى ثلاثة أيام. وقال صلّى الله عليه وسلم: من اشترى شاة مصرّاة فهو بالخيار إن شاء أمسك وإن شاء ردها ومعها صاعا من تمر. ما هو في حكم المستثنى من البيع قال النبي صلّى الله عليه وسلم: من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع. ومن باع نخلا مؤبرا فثمرته للبائع إلا أن يشترطه المبتاع. مدح الدلالين وذمّهم قال بعضهم: نعم المعين على البيع والإبتياع وعلى الألفة والاجتماع الدلالون، ولو أمكن الاستعانة بهم في الفراش لا نتفع بمكانهم. وقيل: آذى بعض الدلالين الأصمعي في شيء، فقال: شر الناس الدلالون لأن أول من دل إبليس حيث قال لآدم: هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى. نوادر لأنذال الباعة جاءت عجوز إلى لحام بالمدينة ومعها درهمان، فقالت: أعطني بهما أطيب لحم وأخبرني باسمك أدعو لك، فأعطاها أخبث لحم، وقال اسمي من يمد، فجعلت العجوز عند الأكل تمد اللحم فلا تقدر على أكله، فجعلت تقول: لعن الله من يمد، فتلعن نفسها وهي لا تعلم. وقال جحظة: رأيت سوقيا ينادي على جدي علقه، يقول: هذا مانع نفسه، فقلت له: ما معنى مانع نفسه؟ فقال: يا سيدي لا يقدر أحد أن يأكل منه لقمتين لسمنه. قال، ورأيت آخر وهو يقول: زبد في أديم. وقال جراب الدولة: رأيت ثلاثة من الهراسين على بقعة وهم يتكايدون في مدح هرائسهم، فواحد أخرج قطعة هريسة علقها بالمغرفة وهو يقول: إنزل ولك الأمان، وآخر يقول: يا قوم إلحقوني أدركوني أجذبها وتجذبني والغلبة لها، والثالث يقول: أنا لا أدري ممن أكل من هريستي لقمتين أسرج ببوله شهرين. وقال رجل للحام: ليس لحمك بسمين، فقال: إن فلانا جالسني ووضع راحته على هذا اللحم وانصرف إلى منزله فجعل ما علق بها في قدر واتخذ منها دعوة، وكان بائع رمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 قشّر رمانا وهو يقول: نزع الأمير قميصه وخرج في غلالة. الكفالة قال النبي صلّى الله عليه وسلم: الزعيم غارم. وكلم رجل آخر في أن يؤخر شيئا على غيره، فقال: إضمن أنت عنه، فقال: أردنا منك سعة المهلة فكفتنا ضيق الضمان. قال الخليل: في الكفالة ست خصال، الندامة والملامة والكفران والخسران والغرامة والقطيعة. وقيل: إن الفرس صورت كل شيء حتى الكفيل ينتف لحيته من الندامة. الحوالة قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا اتبع أحدكم على ملأ فليتبع، ومن غير هذا الباب احتيج أن يكتب على المعتضد كتاب ليشهد فيه العدول، فكتب في صحة من عقله وجواز أمر له وعليه، فقال جعفر بن محمد بن ثوابة: لا يجب أن يكتب هذا للخليفة، فضرب عليه وكتب: في سلامة من جسمه وأصالة من رأيه. الإجارة روي عن فاطمة رضي الله عنها أنها قالت: دخل عليّ يوما وأخذ بيد الحسن والحسين فأخرجهما فجاء النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: أين إبناي، فقلت: أصبحنا وليس في بيتنا شيء نذوقه فدخل عليّ فأخرجهما حتى لا يبكيا، فخرج النبي صلّى الله عليه وسلم في أثرهما فوجدهم في حائط يهودي وعليّ ينزع كل دلو بتمرة والحسن والحسين يلعبان في سربة لليهودي وبين أيديهم أفضل من تمر، فقال: يا علي، ألا تنقلب يا بني قبل أن يشتد عليهما الحر، فقال: إجلس فإني قد أشبعتهما، فجلس حتى اجتمع له شيء من تمر فجعله في حجره، ثم حمل النبي صلّى الله عليه وسلم أحدهما وعليّ الآخر. وروي: ما أكل أحد طعاما خيرا له من أن يأكل من عمل يده. وكان داود عليه السلام لا يأكل إلا من كسب يده. ونهى النبي صلّى الله عليه وسلم أن يستعمل الرجل أجيرا حتى يعلمه أجرته، وقال: من استأجر أجيرا فليعلمه أجرته. وروي في الخبر: بينما نفر يتماشون فأخذهم المطر فأووا إلى غار في جبل فانحطت صخرة على فم الغارة فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالا عملتموها صالحة، فادعوا الله بها لعلّه يفرجها عنا. فقال أحدهم: اللهم إنك تعلم أني استأجرت أجيرا بقفيز أرز فلما قضى عمله سخطه فتركه فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقرا ورعاء، ثم جاء فقال: اتق الله ولا تظلمني حقّي، فقلت له: انطلق إلى هذه البقر ورعائها فخذها، فقال: أتهزأ بي؟ فقلت: أنا لا أهزأ خذها فأخذها، فإن كنت تعلم أني إنما فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنّا ففرج لهم. إعطاء أجرة الأجير قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ث لاثة أنا خصمهم ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى ثم غدر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى عمله ولم يوفه أجره. وكان أبو بكر رضي الله عنه لما استخلف، قال للناس: إنكم شغلتموني عن تجارتي، فافرضوا لي ففرضوا له كل يوم درهمين. استأجر رجل حمالا ليحمل قفصا فيه قوارير على أن يعلمه ثلاث خصال ينتفع بها، فحمل الحمال القفص فلما بلغ ثلث الطرق، قال: هات الخصلة الأولى فقال: من قال لك أن الجوع خير من الشبع فلا تصدقه، فقال: نعم. فلما بلغ ثلثي الطريق، قال: هات الثانية، فقال له: من قال لك أن المشي خير من الركوب فلا تصدقه. فقال: نعم، فلما انتهى إلى باب الدار قال هات الثالثة، فقال: من قال لك أنه وجد حمالا أرخص منك فلا تصدقه، فرمى الحمال القفص على الأرض، وقال: من قال لك في هذا القفص قارورة صحيحة فلا تصدقه. (3) ومما جاء في الدّين ومتعلّقاته ذم الدّين والنهي عنه قيل إن النبي صلّى الله عليه وسلم بعث إلى رجل من اليهود يستسلفه إلى الميسرة، فقال: ليس لمحمد زرع ولا ضرع فأي ميسرة له، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: كذب عدو الله لو أعطانا لأدينا إليه، ولأن يلبس أحدكم ألوانا شتّى خير له من أن يستدين ما ليس عنده قضاؤه. وقال معاذ بن جبل: الدّين شين. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: أعوذ بالله من الكفر والدّين. وقال بعض الحكماء: الدّين رقّك فلا تبذل رقك لمن لا يعرف حقك. وقيل: الدين هدم الدين، وقيل: ما استرق الكريم مالك أفظّ عليه من الدين، وقيل: الدّين غلّ الله في أرضه فإذا أراد أن يذلّ عبدا جعله في عنقه. وسأل فيلسوف رجلا أن يقرضه مالا فرده وذمه. وقال بعض الناس إلى الفيلسوف إنه جبهك بالرد، فقال: ما زاد على أن حمّر وجهي بالخجل مرة واحدة ولو أقرضنيه لصفّر وجهي مرات كثيرة. من مات وعليه دين قال النبي صلّى الله عليه وسلم: من داين الناس بدين في نفسه وفاؤه ثم مات وليس عنده وفاؤه، تجاوز الله عنه وأرضى غريمه بما شاء. ومن داين الناس بدين ليس في نفسه وفاؤه ثم مات وليس عنده وفاؤه اقتص الله لغريمه منه. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضي عنه وقال أبو هريرة رضي الله عنه: جيء بجنازة يوما فوضعت بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلم، فقام ليصلّي عليه، فقيل: إن عليه دينا، فقال صلّوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة رضي الله عنه، على دينه يا رسول الله، ثم خطب فقال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من مات وعليه دين أو ضياع فعليّ ومن ترك مالا فلورثته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 مدح الدّين والرخصة فيه قال النبي صلّى الله عليه وسلم: من أعياه الرزق فليستدن على الله ورسوله. دخل عتبة بن هشام على خالد بن عبد الله القسري، فقال خالد معرّضا به: إن رجالا يدانون في أموالهم فإذا أفنيت أموالهم أدانوا في أعراضهم، فقال عتبة: أصلح الله الأمير إن رجالا تكون أموالهم أكثر من مروآتهم فلا يدانون، ورجالا مروآتهم أكثر من أموالهم، فإذا نفدت أموالهم أدانوا على سعة ما عند الله، فخجل خالد وقال: إنك منهم فيما علمت. وقيل: تعرف مروءة الرجل بكثرة ديونه. وقيل: الدين من مواسم الأشراف. قال المقنع الكندي: يعاتبني في الدّين قومي وإنّما ... ديوني في أشياء تكسبهم حمدا وقال أبو شراعة: والدّين طوق مكارم لا تلتقي ... طرفاه في عنق البخيل الحازم «1» وذلك من قول عمر لزنباع، حين قال له: ما أقدمك المدينة؟ قال: دين عليّ. فقال: الدّين ميسم الكرام. وسأل عمرو بن عبيد عن رجل، فقالوا: إنه استتر لدين حصل عليه. فقال: طالما وفد به الكرام. مدح من أدنت عليه. وقال سعدان: ولو كنت مولى قيس عيلان لم تجد ... على الإنسان من الناس درهما ولكنّني مولى قضاعة كلّها ... فلست أبالي أن أدين وتغرما «2» وهذا أجمع شعر جمع فيه بين مديح وهجاء. وقال ابن الرومي: عليّ دين نبيل أنت قاضيه ... يا من يحملني دينا رجائيه من قضى دينا بدين قال شاعر: إذا ما قضيت الدّين بالدّين لم يكن ... قضاء ولكن كان غرما على غرم وقال آخر: أخذت الدين أدفع عن تلادي ... وكان الدين أدفع للتلاد «3» وقيل لمحمد بن واسع: فلان قد قضى دينه مما كسبه، فقال: ما كان أكثر دينا قط منه الساعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 من أعطى دينا على أن يسترجع قال أبو الأصبع: أيها المسترفدون ... القرض في برد الشتاء «1» ليس قرضي لكم الدهر ... بقرض ذي اقتضاء أنت عندي منه في ... حلّ إلى جن الظّباء «2» فاستعن بالواحد الفر ... د وأخلص في الدّعاء فلعلّ الدهر يأتي ... عن قريب بامتلاء من تقاضى دينا قديما. للبحتري: من أمارات مفلس أن تراه ... موجفا في اقتضاء دين قديم «3» وطلب رجل دينا عتيقا، فقال: دعني من هذا، فهذا دين عتيق. فقال: لعن الله من أعتقه. من أحسن التقاضي قال النبي صلّى الله عليه وسلم: خيركم أحسنكم قضاء. وقال صلّى الله عليه وسلم: خيركم الذي إذا كان عليه دين أحسن القضاء وإذا كان له أحسن الاقتضاء. وقال صلّى الله عليه وسلم: من أدان دينا وهو ينوي أن لا يؤديه إلى صاحبه فهو سارق. قال ابن الرومي: هو دين وأحسن الأمر فيه ... أن يكون القضاء قبل التّقاضي الحثّ عليه قال النبي صلّى الله عليه وسلم: رحم الله امرأ سهل البيع سهل الشراء سهل التقاضي. وقال صلّى الله عليه وسلم: من طلب أخاه فليطلبه في عفاف وافيا أو غير واف. وقال صلّى الله عليه وسلم: كفى بالمرء من الشحّ أن يقول آخذ حقي لا أترك منه شيئا، قال: إنّي وجدتك من قوم إذا طلبوا ... بعد النسيئة دينا أحسنوا الطّلبا «4» وقال آخر: وحسبك من تقاض المرء يوما ... لحاجته الزيارة والحديث الرخصة في التقاضي استسلف النبي صلّى الله عليه وسلم من رجل تمرا فلما جاء يتقاضاه قيل له في ذلك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 دعه فإن لصاحب الحق مقالا، انطلق إلى خولة بنت حكيم فالتمسوا عندها تمرا، فقالت: والله ما عندي إلا تمر ذخيرة. فقال: خذوه فاقضوه، فلما استوف ى قال له: استوفيت، قال: نعم قد أوفيت وأطيبت. فقال صلّى الله عليه وسلم: إن خيار هذه الأمة الموفون المطيبون. ذمّ ماطل دينا قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: مطل الغني ظلم، وقال صلّى الله عليه وسلم: الواجد يحل عرضه وعقوبته، فقيل: عقوبته حبسه وعرضه شكواه. قال: فما بال ديني إذا يحلّ عليكم ... أرى النّاس يقضون الديون ولا أقضي يقال: حل الدين يحل وجب محله وحل يحل حصل. وكتب رجل إلى غريم له: أماطلك العصرين حتّى تملّني ... وترضى بنصف الدّين والأنف راغم «1» فأجابه: ستعطي برغم منك في السجن نادما ... وتشقى بطول الحبس والحقّ لازم وقيل: الأكل سلجان «2» والقضاء ليان. وقيل: الأكل سر يطي والقضاء ضريطي. مرّ بائع زيتون بامرأة فطلبت منه نسيئة، فقال: ذوقي لتعرفي جودته. فقالت: أنا صائمة قضاء عن رمضان العام الماضي، فقال: يا فاعلة أنت تمطلين ربّك هذا المطل وتطلبين منّي الزيتون بنسيئة متى تقضي؟ قال: ومما يتمثّل به في هذا الموضع، قول كثيّر. قضى كلّ ذي دين فوفى غريمه ... وعزّة ممطول معنّى غريمها «3» وقال آخر: من النّاس إنسانان ديني عليهما ... مليان لو شاء القضا قضياني «4» خليلي أما أمّ عمرو فمنهما ... وأما عن الأخرى فلا تسلاني إلى الله أشكو ما ألاقي وأشتكي ... غريما لو أن الدين منذ زمان الحثّ على إنظار المعسر قال الله تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ «5» . وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم: أن رجلا فيما مضى لم يعمل خيرا قط، وكان يداين الناس فيقول لرسوله: خذ ما تيسر ودع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 ما تعسر وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا، فلما هلك، قال الله تعالى له. هل عملت خيرا قط قال: لا، إلا أنه كان لي غلام أقول له خذ ما تيسر ودع ما تعسر لعل الله يتجاوز عنا، فقال الله تعالى لقد تجاوزت عنك. وقال صلّى الله عليه وسلم: من أنظر معسرا ووضع عنه أظلّه الله عزّ وجلّ في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه. وقال صلّى الله عليه وسلم: من يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة. لزم رجل غريما له وهو يقرأ عليه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها «1» ، والغريم يقرأ: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ «2» . وسئل ابن الزيات في رجل له عليه دين أن يصالحه على بعض وينظره به، فقال: إما توفير وتأجيل وإما صلح وتعجيل. المتبجّح بمطل الدين والنّاوي الذهاب به قال بعضهم: أماطله العصّرين حتّى يملّني ... ويرضى بنصف الدّين والأنف راغم وقال عبّاس السليطي: إني وجدّك ما أقضي الغريم وإن ... حان القضاء ولا رقّت له كبدي إلّا عصا رزنت طالّت برايتها ... تنوء ضربتها بالكفّ والعضد «3» وقال، وقد نظر إلى غريم له يحسب ربحه: يلوي بنان الكفّ يحسب ربحه ... ولا يحسب المطل الذي أنا ماطله ومن دون ما يرجو عناء مبرح ... أواخره ما تنقضي وأوائله «4» وذهب رجل إلى صديق له، فقال: أقرضني مائة درهم لأشتري بها شيئا عسى أربح فيه عشرين درهما، فقال: إني أعطيك عشرين درهما وأتخلص. فقال: لا أريد إلا المائة، فقال: حديث من لا يريد أن يرد الدين. العارية قال النبي صلّى الله عليه وسلم: العارية مؤداة. قال بشر: أحق الخيل بالركض المعار. وجلس بعض أصحاب الحديث فقال واحد لآخر: تفضل وأعرني قلما فأعطاه، فقال: وأولني ورقا فدفعه إليه، فقال: ومحبرة فأعطاه، وقال: يا فتى أتنشط للتزوج فإن أمي فارغة. وفي ذم من لا يعير، قال الله تعالى: وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ. الإفلاس قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أيما رجل أفلس وعنده مال امرىء بعينه لم يقبض منه شيئا فهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 أحق بعين ماله، فإن قبض منه شيئا فهو أسوة الغرماء. وقال الحجّاج: لا تجعلوا مالي عند من لا يمكنني استرجاعه منه، فقيل: ومن الذي لا يمكنك استرجاعه منه، قال: المفلس. وقيل لمفلس: يا مرابي، فقال: فأل حسن. وفي المثل: أفلس من طنبور بلا وتر. وقيل لمفلس: هل في كفّك مال، فقال: هو أفرغ من فؤاد أم موسى. وفلس القاضي رجلا فأركبه حمارا وطوّف به ونودي عليه أن لا يبايع فإنه مفلس، فلما أنزل، قال له صاحب الحمار: هات الكراء، فقال له: فيم كنا من أول النهار يا أبله. الحثّ على أخذ الرّهن قال الله تعالى: فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ «1» . وقيل: إن الله تعالى لا يسمع دعاء من له على غيره حق، ولا رهن لديه ولا قبالة له عليه، فيقول: قد أمرتك بالاستيثاق فخالفت. ورهن صلّى الله عليه وسلم درعه بثلاثين صاعا من شعير كان أخذها رزقا لأهله. حكم غلق الرهن وتلفه روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم: لا يغلق الرهن الرهن، من راهنه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه. وروي: الرهن بما فيه وروي عنه صلّى الله عليه وسلم: الرهن مركوب ومحلوب. وقال بعض الشعراء في السخف: أمسى غلامك رهنا لا انفكاك له ... والرهن في الحكم مركوب ومحلوب فالدرّ منه حرام ما نطيف به ... والظهر منه على الأحوال مركوب «2» الراهن آلات داره لفقره قال زياد الأعجم يشكو فقرا: لقد لجّ هذا الدهر في نكباته ... عليّ إلى أن ليس في الكيس درهم وأمست جواليقي برغم طبيعتي ... رهانا عليّ ما في الجواليق يعلم «3» وأخذ ذلك أبو زرعة الكناني، فقال: وسفرتي في السّوق مرهونة ... على الذي يؤكل في السّفرة «4» الرهون الظريفة من السخفاء قيل: تقدم رجل إلى بقال يسأله فامتنع فدنا منه فسارّه فدفع إليه، فقيل له: ما قال لك؟ قال: رهنني طلاق امرأته وذلك أنه حلف بالطلاق أنه يرده غدا. فقال: ما رأيت رهينا مثله قط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 وتقدم فتيان إلى فقاعي «1» فشربوا فقاعا، وقالوا: ما معنا شيء فخذ من كل واحد منا صفعة رهنا، فصفع كل واحد صفعة، فجاؤوه في اليوم الثاني فقالوا خذ حقك ورد الرهن، فقال: حلال لكم، فأبوا إلّا رد الرهن وأخذ الحق فأعطوه حقه وصفعه كل واحد صفعة. (4) ومما جاء في الأيمان النهي عن الأيمان وذمّ من يكثرها قال الله تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا «2» وقال الله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ «3» قال سعيد بن جبير: هو أن يقول الرجل فيما شكّ على يمين وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: اليمين الغموس تدع الديار بلاقع. وقال: اليمين حنث أو مندمة، وأخذه بعض الشعراء فقال: يا أيّها المولي على جهد القسم ... بعض التأنّي لا تسفّه أو تلم «4» وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: الأيمان الكاذبة منفقة للسلعة ممحقة للكسب. وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: الحلف ينفق السلعة ويمحق البركة، والتاجر فاجر إلا من أخذ الحق وأعطاه. قيل: العاقل إذا تكلم بكلمة أتبعها مثلا، والفاجر إذا تكلم أتبع كلامه حلفا. قيل: فلان لو سكن الفالج في لسانه لما نقص حرفا من أيمانه. النهي عن الحلف بغير الله قال النبي صلّى الله عليه وسلم: من كان حالفا فليحلف بالله. وكانت قريش تحلف بآبائهم، فقال صلّى الله عليه وسلم: لا تحلفوا بآبائكم. الرخصة في لغو اليمين قال الله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ «5» وقيل: لغو اليمين أن يقول كان كذا والله ولا والله ونحو ذلك، وروي أن رجلا قال للحسن، وعنده الفرزدق، ما تقول فيمن يقول بلى والله ونعم والله، فقال الفرزدق: أما سمعت قولي في ذلك. فقال الحسن ما قلت، فقال: فلست بمأخوذ بلغو تقوله ... إذا لم تعمّد عاقدات العزائم «6» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 فقال الحسن: أصبت. ثم قيل له: ما تقول في امرأة لها حليل؟ فقال الفرزدق: ألم تسمع قولي: وذات حليل أنكحتها رماحنا ... حلالا لمن يبني بها لم تطلّق «1» فقال الحسن: أصبت. فقال الفرزدق: كنت أراني أشعر منك، فإذا أنا أفقه منك أيضا. وصف الكاذب بكثرة الحلف قيل: علامة الكاذب جوده بيمينه لغير مستحلف، ومنه أخذ المتنبّي: وفي اليمين على ما أنت واعذه ... ما دلّ أنّك في الميعاد متّهم «2» وقال المنصور لعمر بن عبيد: بلغني أن كتاب محمد بن عبد الله الدارمي ورد عليك، فقال: قد ورد له كتاب وما قرأته وأنت تعلم رأيي في الخوارج، فقال له: طيّب نفسي بخلعة، فقال: لا تسمني فإني إن كذبتك تقية لأحلفن تقية. القليل المبالاة بالحلف قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ومن لم يحلف على ماله فلا مال له وادّعى رجل على المأمون مالا فاستحضر قاضيه يحيى بن أكثم فاستحلفه فحلف، ثم أمر للمدعي بما ادعى عليه، فقيل له في ذلك، فقال: حلفت له لئلا يجعل إتقاي ذريعة إلى أن يدعو عليّ، وبذلت المال لئلا يظن أحد أني حلفت لمبالاتي بهذا المال. وادّعى رجل على عمر ما لم يلزمه فحلف له واستحلف أبيّ بن كعب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فحلف كراهة أن يجعل الناس ترك الإيمان مع معرفتهم بالبراءة سنة، فدخل ذلك في شدة الورع. واستحلف عمرو ابن عبيد على درهم ادعاه عليه بعض من أراد عنته، فقال حفص بن سالم: نعطيه نحن ونعفيك منه ونرفع قدرك عن مطالبة مثله، فقال: ما أكره أن أحلف على حق وما كنت لأعينه على معصية. وادعى رجل على عثمان رضي الله عنه مالا واستحلفه فأبى واتقاه بدعواه، فقيل له: هلّا حلفت إذ كان مبطلا، فقال: خشيت أن يوافق حلفي قضاء، فيقال إن ذلك أصابه لجراءته على الحلف. قال المتنبّي: وفاعل ما أشتهي يغنيه عن حلف ... على الفعال حضور الفعل والكرم «3» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 من لم يتحاش من اليمين ولم يبال له حلف مديني على حقّ كان قبله، فقيل له في ذلك، فقال: بالله أدفع ما لا أطيق، وأخذ ذلك ابن الرومي فقال: وإنّي لذو حلف كاذب ... إذا ما اضطررت وفي المال ضيق وهل من جناح على معسر ... يدافع بالله ما لا يطيق ويقال في المثل: جذها جذ العير الصليانة إذا أسرع في اليمين، كأنه اقتلعها اقتلاع العير هذا النبت. جاءت امرأة بزوجها إلى ابن شبرمة فحلف لها، فلما ولي أنشد: ألم تعلمي أني جموح عنانه ... وأنّي لا أعدي عليّ أمير «1» محوت الذي في الصكّ عنّي بحلفة ... سيغفرها الرحمن وهو غفور فسمعها الحاكم فردّه، فعلم الأعرابي أنه أخطأ، فقال: أيها الحاكم أنت أفضل من أن ترجع في قضيتك، فقال: صدقت ولكنني أقضي عنك، وقضى عنه. قال البحتري: سألوني اليمين فارتعت منها ... ليغروا بذلك الارتياع «2» ثم أرسلتها كمنحدر السّيل ... تهاوى من المكان اليفاع «3» وكان الشمّاخ عليه دين فقعد به، فقيل له: إنك تحضر القاضي وتحلف فتروع لذلك، فقال: حاش الله أن أحلف، ولو سيم مني باطل فكيف وعليّ حق لازم، فاغتر خصمه فأحضره وحلفه فحلف وخرج من عند الحاكم، فقال: وجاءت سليم قضّها بقضيضها ... تنفض حولي بالبقيع سبالها يقولون لي إحلف قلت لست بحالف ... أخادعهم عنها لكيما أنالها ففرّجت همّ النفس عنّي بحلفة ... كما قدّت الشقراء يوما جلالها «4» وقال أعرابي: إذا حلّفوني بالغموس منحتهم ... يمينا كسحق الألحمي المحرق «5» وإن حلّفوني بالعتاق فقد درى ... سحيم غلامي أنني غير معتق «6» قال ابن المعتز بودي لو أن لي بيت الخثعمي بألف بيت: وآلت يمينا كالزجاج رقيقة ... وما حلفت إلا لتحنث من أجلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 الحثّ على الحنث وكفّارة اليمين قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا حلف أحدكم على يمين فرأى غيرها خيرا له منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه. وقال أبو العيناء: أتي بابن أبي خالد الذي كان بالسند بين يدي المتوكل، فقال: والله لأضربنه بالسياط، والله لا يشفع فيه أحد إلا ضربت ظهره وبطنه. وكان ابن أبي دؤاد حاضرا فتركه حتى ضربه عشرين سوطا، ثم قال يا أمير المؤمنين في هذا أدب وإن تجاوزت فسرف. فقال له: أما سمعت يميني، فقال: بلى ولكن ما كان أمير المؤمنين ليؤثر غيظه على ما قال نبيه وابن عمه صلوات الله عليه وعلى آله، قال: من حلف على شيء فرأى خيرا منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه، وكفارة أمير المؤمنين مع العفو أقرب إلى الله وأفضل، فعفا عنه وكفّر عن يمينه. سأل بعض الناس بعض الخلفاء حاجة، فقال: حلفت أن لا أفعل. فقال يا أمير المؤمنين: إن لم تكن حلفت بيمين إلا بررتها فما أحب أن أكون أوّل من يؤثمك وإن كنت ربما حلفت فرأيت ما هو خير منها فكفرتها، فلست أحب أن أكون أهون إخوانك عليك، فقال سحرتني وقضى حاجته. الإستثناء في اليمين قال بعضهم لرجل يحلف: قل إن شاء الله فإنه يدفع الخبث ويذهب الحنث وينجز الحاجة ويدرأ اللجاجة. كانت العرب تسمي الاستثناء في اليمين التحليل والمثنوية على ذلك، قال الشاعر: تحلّل أبيت اللعن في قول آثم وقال: وإذا حلفت مماريا فتحلّل «1» وقال تعالى: تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ «2» . وقال النابغة: حلفت يمينا غير ذي مثنويّة «3» وكان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول: إن الاستثناء بعد تراخي الأزمان يصح وكان المنصور دعا أبا حنيفة يوما، فقال الربيع وكان يعاديه هذا: أبو حنيفة يخالف جدك حيث يقول إذا استثنى الرجل في يمين بعد يوم جاز استثناؤه، فقال أبو حنيفة: يا أمير المؤمنين هذا الربيع يزعم أنه ليس لك بيعة في رقبة جندك، قال: كيف؟ قال: يحلفون لك ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون، فتبطل أيمانهم، فضحك المنصور، وقال: يا ربيع إياك وأبا حنيفة، فلما خرجا قال الربيع: كدت تشيط بدمي، فقال أبو حنيفة: أنت أردت أن تشيط بدمي فحصنت نفسي وإياك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 المعاريض «1» في الأيمان قيل: في المعاريض مندوحة على الكذب. وقال عمر رضي الله عنه: إن في المعاريض ما يكفي أن يعف الرجل عن الكذب. وقال أبو الحسن اللؤلؤي: واللاه لا أفعل كذا، ويعني فاعل اللهو، ومالي صدقة يعني ليس لي صدقة. وفي كتاب المنقذ للمفجع الشاعر ما فيه مقنع من معاريض الأيمان. الإيمان بالله من حلف أمير المؤمنين رضي الله عنه: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لا والذي أمن من آمن به، وبالله جهد المقسم، وبالله الذي لا شيء أعظم منه وكل يمين بعد دونه، وأنا أعلم علم اليقين واحلف إن دعيت إلى اليمين الصابي، والله العظيم مالك يوم الدين وأنا غني عن اليمين، إني أعلم ذلك علم اليقين، بالله يمينا حلوة مرة. ومن أقسام النبي صلّى الله عليه وسلم: لا ومقلب القلوب، لا والذي نفسي بيده، قال شاعر: وأقسمت بالرحمن لا شيء غيره ... يمين امرىء برّ ولا أتحلّل «2» قال أبو بكر الصولي: لا أعرف في الأيمان شعرا أعذب من قول البحتري: حلفت بربّ زمزم والمصلّى ... وربّ الحجر والحجر اليماني وبالسّبع الطّوال ومن تولّى ... تلاوتهنّ والسبع المثاني «3» اليمين بالبيت والهدى تقول العرب: وحقّ هذه البنية. قال عويف بن الأحوص: وإنّي والذي حجّت قريش ... محارمه وما جمعت حراء وشهر بني أميّة والهدايا ... إذا حبست تضرّجها الدماء «4» وقال الفرزدق: حلفت بما إليه يؤم ناس ... من الآفاق من يمن ومصر اليمين بالطّلاق أول من استحلف بالطلاق ابن مسلمة، وكان واليا على كرمان، استحلف جنده بالطلاق، فقال بعضهم: رأيت هذيلا أحدثت في طلاقهم ... طلاق نساء لم يسوقوا لها مهرا «5» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 وقيل: أول من استحلف بالطلاق العبّاس بن عبد المطلب استحلف الأنصار ليلة العقبة حين أخذ عليهم البيعة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. طلق رجل امرأته عدد نجوم السماء فجاء إلى ابن عباس واستفتاه، فقال: يكفيك من ذلك الهقعة «1» ، وهي رأس الجوزاء ثلاثة أنجم. قيل لمزيد المديني: لم تكثر الحلف بالطلاق؟ فقال لأني لما تزوجت امرأتي حلفت بالطلاق إني أحلف بالطلاق في كل حقّ وباطل كل يوم، فيميني بالطلاق إمساك لها وإلا بانت «2» . حلف رجل بالطلاق فقدمته امرأته إلى القاضي فسأله عن اليمين فأخبره فجعل القاضي يتفكر، فقال له الرجل: فيم تتفكر؟ قال: أطلب لك مخرجا من اليمين قال قد هون الله عليك: أشهدك أنها طالق سبعين. قال الأصمعي: كان على بعض الأعراب دين ثقيل فتعلق به غرماؤه وكان معدما فساموه أن يحلف لهم بالطلاق أن لا يهرب فحلف لهم بطلاق امرأتين كانتا له ثم هرب، وأنشأ يقول: لو يعلم الغرماء ما مقتي لهم ... ما حلّفوني بالطّلاق العاجل قد ملّتا ومللت من وجهيهما ... عجفاء مرضعة وأخرى حامل «3» وقال ابن الرومي: إذا ما حلف النغل ... ففي أيمانه رخصه «4» وقال منصور بن باذان: يا ذا الذي جعل الطلا ... ق سلاحه عند الحقيقه لا تحلفنّ بطلاق من ... أمست حوافره رقيقه هيهات قد علم الأنا ... م بأنّها صارت صديقه الأيمان بأهل البيت كان حمّاد بن موسى يترفض، وكان له صديق يثق إليه ويوافقه في مذهبه فأودعه حمّاد دراهم وطالبه بها بعد مدة، فجحده فاضطر إلى أن مضى لمحمد بن سليمان وسأله أن يحضره، ويحلف له بحق عليّ بن أبي طالب فإنه يتحرج من ذلك، فقال: أعز الله الأمير، هذا الرجل أجل عندي من أن أحلف له بالبراءة من مختلف في ولايته وإيمانه، ولكني أحلف له بالمتفق على إيمانهما وخلافتهما أبي بكر وعمر فضحك محمد بن سليمان، والتزم بعض ما ادّعى عليه وصالحه على بعض. اعترضت امرأة المأمون، وكان قد غصبها ضيعة، فقالت: ألا أيّها الملك المرتجى ... لريب المنون وصرف الزّمن «5» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 بحقّ النبيّ وحقّ الوصيّ ... وحقّ الحسين وحقّ الحسن وحقّ التي غصبت حقّها ... ووالدها بعد ذا ما اندفن «1» شفعت إليك بأهل الكساء ... فإن لم تشفع شفيعي فمن «2» وكان أهل الكوفة إذا حلفوا يقولون: وحق الثلاثة يعنون النبي وأبا بكر وعمر، فرفع رجل إلى الحسن بن زيد وهو أمير المدينة في ذنب فأمر أن يضرب فقال له: بحق الثلاثة عليك إلا ما عفوت عني، فقال: وحق أحد الثلاثة عليّ وحقي على الإثنين ألا أوجعتك، فبلغ قوله المنصور، فقال: قاتله الله فما أمر نفسه. أيمان الأعراب اختصم أعرابيان في حق فأقبلا إلى وال فوجبت اليمين على أحدهما، فقال المدّعي: كله إليّ أيها الحاكم أحلفه، فقال له: أنت وذاك فدوّر له دائرة في الأرض، وقال: إجلس فيها فجلس، فقال له: جعل الله نومك نغصا وأكلك غصصا ومشيك رقصا ومسحك برصا وقطعك حصصا فأدخلك قفصا وأدخل في إستك هذا العصا، فأبى أن يحلف واتقاه بحقّه. واستحلف أعرابي خصما فقال: قل لا أصحبني الله عصمة ولا سدّ عنّي خلة وأحضرني كل نقمة وأثكلني كل نعمة وصرّد لي المشرب وسلبني الأقرب فالأقرب، إن كان ما ادعيت حقا، فاتقاه بحقّه. اختصم أعرابيان إلى أمير اليمامة فقال أحدهما: إن لي قبل صاحبي حقا فمره يخرج منه فأنكر، فقال الوالي: أحالف أنت؟ قال: نعم، فقال خصمه: دعني من يمينك حتى أحلفه، فقال: قل لا ترك الله لي خفا يتبع خفا ولا ظلفا يتبع ظلفا، وحتني «3» من أهلي ومالي حتّ الورق، وخلعني من أهلي ومالي خلع الخضاب، وأحوجني إلى شرّ خلق الله إن كان لهذا قبلي حق. فقال: لا أحلف واتقاه بما ادّعى عليه. وحلف أعرابي آخر، فقال: قل لا استتبت الله من خطيئة ولا استنجدته لبليّة ولا وفيت له بعهد ولا استجزته أوان جهد، فأتقاه بحقّه. وقال أعرابي لآخر في حق: أتحلف، فقال نعم، فقال: قل ألزمني الله الزلل ولا سدّ عني الخلل، وألبسني القل والملل، وألصق بي الغمّ والعلل، وقطع عني سببه وأصحبني غضبه وأحضرني نقمه وأعدمني نعمه، وكدر لي المشرب وأفقدني الأقرب فالأقرب، إن كان لك عندي حق فاتّقاه ولم يحلف. أيمان الأسخياء وذوي العلاء كان من يمين يحيى بن خالد: لا وعزّة الوفاء وحرمة السخاء. قال الأشتر: بقيت وفري وانحرفت عن العلا ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 وقال أبو علي البصير: أكذبت أحسن ما يظنّ مؤمّلي ... وهدمت ما شادته لي أسلافي وعدمت عاداتي التي عوّدتها ... قدما من الإخلاف والإتلاف وغضضت من ناري ليخفى ضوؤها ... وقريت عذرا كاذبا أضيافي «1» إن لم أصب على عليّ حلّة ... أضحت قذى في أعين الأشراف وقال أبو مسلم الرستمي: إذا فلا رفعت كاسا بنان يدي ... ولا سعت بي لتطلاب العلى قدمي وأثكلتني القوافي رقّتي وغدت ... في نسجها كلمى غفلا بلا علم «2» وقال الأستاذ الرئيس: عققت العلى إن كنت خنتك بالقلا ... وعفت النّدى إن لم أكن ذا جوى يذوي «3» وقال التنوخي: إذا فرأيت العرف في صورة النكر وقال آخر: إذا فلا بلغت نفسي أمانيها وقال آخر: إذا فثكلت سابغتي وسيفي ... غداة وغى وراحلتي وزادي «4» وقال الموسوي: وإلا فلا أمّني النازلون ... ولا جاءني الطارق المجتدي «5» أيمان الشّرب ومتعاطي اللهو قال وهب الهمذاني: لا والذي سنّ للمدامة ولا ... ماء نكاحا بغير طلاق وقال المخزومي: لا والذي قسّم الصهباء من ذهب ... والماء من فضّة ما ساد من بخلا وقال علي الأحول: كفرت إذا بحقوق الصّديق ... وعربدت في الشّرب عند المدام «6» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 أيمان الكهنة وأهل الجاهلية أقسم بالضياء والحلك، والنجوم والفلك، والشروق والدلك «1» . لقد خبأت ثدين فرخ في إعليط مرخ. كانت العرب تتحالف على النار وتتعاقد على الملح، ولذلك قال الشاعر: حلفت لهم بالملح والقوم شهد ... وبالنّار واللات التي هي أعظم وقال الكميت: بهولة ما أوقد المخلفون ... لدى الخائفين وما هوّلوا «2» والهولة نار كانوا يوقدونها ويلقون عليها الكبريت ليستعظم مرآها، ويهابها من أقدم على اليمين، ويخشاها. أيمان النوكة والسفل من أيمان أهل بغداد: أعطيت الله ألف جوالق عهود، ويقولون: أعطيت الله مائة ألف كر مواثيق. كانت أيمان مزبد، وإلا فسلحت في القبلة وحشرت في صورة قرد. قال: بعض أعقاب الأنبياء: ادّعى رجل على آخر طنبورا عند بعض القضاة، فقال: حلفه، فقال القاضي: إن كان عندك الطنبور فأيري في حجرك، فقال: أي يمين هذا، فقال: يمين الطنابيريين. وادّعى رجل على امرأة، فقال الرجل: إن كنت كاذبة فأير القاضي في حرّك فتوقفت المرأة. فقال لها القاضي: قولي وإلا أخرجي من حقه. وادّعى ريحاني شيئا على آخر عند قاض، فقال القاضي له: قل والله الذي لا إله غيره، فقال: ليس هذا من يمين الريحانيين. أمي بظراء إن كان له عندي شيء، فقال القاضي: قم فما أراك إلا صادقا. وحلف مزبد فقال: إن كان كذا فعليّ أن أصعد السماء في حزيران على سلم من الزبد. أيمان الظرفان قال الرصافي: أما وتفتير طرفك الوسن ... وحسن خال بخدّك الحسن «3» وقال الخبزارزي: بمجاري فلك الحسن التي في وجناتك وقال ابن المعتز: وحياة عاذلتي لقد صارمته ... وكذبت بل واصلته وحياته «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 وقال البحتري: وحياة من أهوى فإنّي لم أكن ... أبدا لأحلف كاذبا بحياته أيمان أهل الذمة قال إسحاق الموصلي: وجبت على عون العيادي يمين بحضرة الفضل بن الربيع، وكانت بيننا وحشة، فقلت: ولّني استحلافه، فقال: قد فعلت، فقلت: قل بالذي لا يعبد غيره ولا ندين إلا له وإلا فخلعت النصرانية وبرئت من المعبودية، وطرحت على المذبح حيض يهودية، وقلت في المسيح ما يقول المسلمون إن الله خلقه من غير أب كمن خلقه من تراب، ثم قال له كن فيكون، ولعنك البطريق الأكبر والبطارقة والقمامسة والأساقفة والديرانيون وأصحاب الصوامع عند مجمع الخنازير وتقريب القربان، وعليك لعنة الثمانية عشر أسقفا الذين خرجوا من رومية حتى أقاموا عهود النصرانية، وإلا فشققت الناقوس وطبخت به لحم الجمل يوم الإثنين عند مدخل الصوم وهدمت كنيسة لد وبنيت بحجارتها مستراحا لليهود، وهتكت درع داود وإلا فسقط عليك قربانك من يدك وأخذته من يد يهودي، وأنت حنيف مسلم، وهذه اليمين لازمة لك ولعقبك من بعدك، فقال: والله ما أجوز أن أسمعها فكيف أحلف بها. ومن أيمان اليهود والله الذي لا إله إلا هو منزل التوراة على موسى، وإلا فأنت بريء من اليهودية داخل في الحنيفية، وبرئت من الآيات العشر التي أنزلت على موسى بطور سيناء، وبرأك الله من الأربعة الأخياط التي في كساء هارون أخي موسى، وبرئت من شمعون وشمعى ومن يوم السبت وحقّه، وحرمت الفطير في وقته، وخرقت توراة موسى بأسنانك ومحوت كل آية بلسانك، وعليك المشي إلى بيت المقدس. أنواع من ذلك حلف أعرابي بالمشي إلى بيت الله أن لا يكلم ابنه، فحضرته الوفاة فقيل له كلمة قبل مفارقة الدنيا، فقال: ما كنت قط أعجز عن المشي إلى بيت الله منّي الساعة. كان قوم عليهم دين لأعرابي فقدموا على أن يحلفوا، فقال الأعرابي: يا ربّ إن كان بنو عميره ... قد أجمعوا بحلفة مشهوره فابعث إليهم سنة قاشوره ... تحتلق المال احتلاق النوره «1» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 (5) وممّا جاء في الاكتساب والإنفاق الحثّ على تثمير المال في الصّغر والكبر حكي أن كسرى مرّ بشيخ كبير يغرس فسيلا «1» ، فقال له يا هذا: كم أتى عليك من العمر؟ قال: ثمانون سنة، قال أفتغرس فسيلا بعد الثمانين. فقال: أيها الملك لو اتكل الآباء على هذا لضاع الأبناء. قال كسرى: زه «2» يأخذ أربعة آلاف درهم. فقال: أيها الملك: الفسيل يطعم بعد سنين من غرسه وهذا قد أطعمني في سنته فقال: زه يأخذ أربعة آلاف درهم فقال: أيها الملك: الفسيل يطعم في السنة مرة وهذا قد أطعمني في أوّل السنة مرتين، فقال: زه يأخذ أربعة آلاف درهم، فقال الوزير: إن لم ينهض الملك أردى هذا بحكمته بيت المال. تثمير ذي مال كثير لمال حقير قال سعيد: ولاني عتبة بن أبي سفيان ماله بالحجاز، فقال: تعهد صغير مالي يكبر ولا تجف كبيره فيصغر، فإنه ليس يمنعني كثير ما في يدي من إصلاح قليل مالي، ولا يشغلني قليل ما في يدي عن الصبر على كثير ما ينوبني. وأتى قوم قيس بن عبادة يسألونه حمالة، فصادفوه في حائط له يتبع ممّا يسقط من الثمر فيعزل جيده ورديئه، فقاموا حتى فرغ، فكلّموه في ذلك، فبذل لهم ما أرادوا، فقال بعضهم: صنيعك هذا مناف لترقيح «3» عيشك، فقال: بما رأيتم من فعلي أمكنني أن أقضي حاجتكم. وقال زياد: لو أن لي ألف ألف درهم ولي بعير أجرب لقمت به قيام من لا يملك غيره، ولو أن عندي درهما واحدا فلزمني حق لوضعته فيه. قال الوليد بن يزيد: لأجمعن جمع من يعيش أبدا ولأنفقنّه إنفاق من يموت غدا. التمدح بالتكسّب والحثّ على ذلك قال الله تعالى: وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ «4» ، فدل على وجوب الطلب أو فضيلته. قال الموصلي: عليكم بالتكسب فأوّل ما يبدأ به الفقر دين الإنسان. ولما أقبل النبي صلّى الله عليه وسلم من غزوة تبوك استقبله معاذ فصافحه، فقال: كبنت يداك، قال: نعم أحترث بالمسحاة وأنفقه على عيالي فقبله، وقال لا تمسها النار. وقال بعض الحكماء: لا تدع الحيلة في التماس الرزق بكل مكان فالكريم محتال والدنيء عيال. قال عروة بن الورد: إذا المرء لم يطلب معاشا لنفسه ... شكى الفقر أو لام الصديق فأكثرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا وقيل: هو أكسب من الذر والنمل ومن الذئب. وقيل: فلان يسعى سعي الأم البرّة ويجمع بجهده جمع الذره. تفضيل الكسب على السؤال كان عمر رضي الله عنه إذا نظر إلى فتى وأعجبه، سأل: هل له حرفة فإذا قالوا: لا سقط من عينه. وكان يقول: مكسبة فيها دناءة خير من مسألة الناس. وقال ابن عباس رضي الله عنه: قدم قوم على النبي صلّى الله عليه وسلم فقالوا إن فلانا يصوم النهار ويقوم الليل ويكثر الذكر، فقال: أيكم كان يكفي طعامه وشرابه، فقالوا: كلنا فقال كلكم خير منه. وروى أنس أن رجلا من الأنصار جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وقال: أتيتك من أهل بيت لا أراني أرجع إليهم من الجوع، فقال: أما عندك شيء؟ قال: لا، فأعطاه درهمين وقال له: إذهب فابتع بأحدهما طعاما وبالآخر فاسا واحتطب وبع. فغاب خمسة عشر يوما ثم جاء فقال: بارك الله لي فيما أمرتني به أصبت عشرة دراهم فابتعت لأهلي بخمسة طعاما وبخمسة كسوة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: هذا خير لك من المسألة «1» ، إن المسألة لا تحلّ إلا لأحد ثلاثة دم موجع أو غرم مفظع أو عدم مدقع. وقال إبراهيم عليه السلام: يا رب استحييت من كثرة تصرّفي في طلب الرزق فأوحى الله إليه ليس طلب المعيشة من طلب الدنيا. وقال شاعر: ولا تدع مكسبا حلالا ... تكون منه على بيان تفضيل التكسّب على التوكّل قال حكيم لرجل يجلس إليه: ما حرفتك؟ قال التوكل على ربّي والثقة بما عنده، فقال الحكيم: الثقة بربّك تحرم عليك إصلاح معيشتك، أو ما علمت أن طلب ما تعف به عن المسألة حزم والعجز عنه فشل والفقر مفسد للتقى، متهم للبريء ولا يرضى به إلا الدنيء، وأنشد: فإن قلت يكفيني التوكّل والأسى ... فقد يطلب الرزق الذي يتوكّل وقيل لحكيم: إحذر كل الحذر أن يخدعك الشيطان فيمثل لك التواني في التوكل ويورثك الهوينا بإحالتك على القدر، فإن الله أمرنا بالتوكل عند انقطاع الحيل والتسليم للقضاء بعد الأعذار، فقال: خذوا حذركم، وقال: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: إعقلها وتوكل. وقال عمر لرجل: ما معيشتك؟ قال: رزق الله، فقال: لكل رزق سبب فما سبب رزقك؟ قال أبو تمّام: وصدقت إن الرزق يطلب أهله ... لكن بسيرة متعب مكدود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 وقال الموسوي وقد أحسن في معناه: اعزم فليس عليك إلّا عزمة ... والعجز عنوان لمن يتوكّل أو حمّل اللّوم القضاء فإنه ... عود لأحمال الملام مذلّل «1» الترغيب في طلب المعاش مع مراعاة المعاد قال النبي صلّى الله عليه وسلم: خيركم من لم يدع دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إحرث لآخرتك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا. ينبغي للعاقل أن يكون ظاعنا إلا في ثلاث: تزود لمعاد ومرمة لمعاش ولذة في غير محرم، قال جرير: فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ... ولا غرض الدّنيا عن الدّين شاغله وقال خالد: يا بني، خصلتان لا تبال ما صنعت بعدهما، دينك لمعادك ودرهمك لمعاشك. التّرغيب في اكتساب الحلال قال ابن المبارك: لقيت رجلا بمكة يبيع الخرز وكان أبوه خزازا فسألته عن ذلك، فقال: إن الله لا يسألني هلّا كنت خزازا، وإنما يسألني من أين اكتسبت وفيم أنفقت؟ وقال صلّى الله عليه وسلم: لا يكتسب عبد درهما من حرام فيتصدق به أو ينفقه أو يتركه إلا كان زاده إلى النار. وقال سفيان: عليكم بعمل الأبطال الإكتساب من الحلال والإنفاق على العيال. واستأذن رجل النبي صلّى الله عليه وسلم في الجهاد، فقال: ألك من تعوله؟ قال: نعم، قال: كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعوله. النّهي عن التّواني في التّكسب قال هرم: من التوفيق رفض التواني ومن الخذلان مسامرة الأماني. قال شاعر: وإنّ وطاء العجز أورث خلّة ... وأصلد ما أورى الأكّف القوادح «2» وقال: وما طلب المعيشة بالتمنّي ... ولكن ألق دلوك في الدّلاء وقيل: حبّ الهوينا يكسب النّصبا «3» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 مدح الشغل وذمّ الفراغ قال بزرجمهر: إن يكن الشغل محمدة فالفراغ مفسدة. الراحة للرجال عقلة وللنساء غلمة. واستشار رجل في عمل يتولاه آخر، فقال: إعلم أن الفراغ من شأن الأموات والإشتغال من شأن الأحياء، فإن قدرت أن تكون حيا فافعل. وقال حكيم: لا تفرغ قلبك من ذكر ولا ولدك من شغل، فالقلب الفارغ يبحث عن السوء واليد الفارغة تنازع إلى الإثم. وقال آخر: أحذركم عاقبة الفراغ فإنه شر من السكر. وقال الفضل بن مروان: الكاتب كالدولاب إذا تعطل انكسر. الأمر بالاقتصاد في الطلب قال النبي صلّى الله عليه وسلم: اقتصدوا في الطلب فإن ما رزقتموه أشد طلبا منكم له وما حرمتموه فلن تنالوه ولو حرصتم. وقيل: لا يدرك بالحذق هارب الرزق. قال المرقش الأصغر: أجمل العيش إن رزقك آت ... لا يرّد الترقيح شروى فتيل «1» وقال أبو الشّيص: لكل امرىء رزق وللرزق جالب ... وليس يفوت المرء ما خطّ كاتبه «2» يساق إلى ذا رزقه وهو وادع ... ويحرم هذا الرزق وهو يطالبه وقال أبو تمّام: والحظ يعطاه غير طالبه ... ويحرز الدرّ غير مجتلبه تلك بنات المخاض راتعة ... والعود في كور وفي قتبه «3» وقال آخر: حظك يأتيك وإن لم ترم وقال راشد الكاتب: إذا كانت الأرزاق في القرب والنّوى ... عليك سواء فاغتنم لذة الدّعه «4» وإن ضاق أمر يفرج الله ما ترى ... ألا ربّ ضيق في عواقبه سعه وقال العطوي: لا تحسبنّ طول الرحل ... يزيد في رزق الأجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 ولا مقاما وادعا ... يدفع رزقا قد نزل وقيل: لبعض من تقاعد به الزمان ألق الدلاء وأجذبها ملاء، فقال: كيف أنزع دلوا خان رشاؤها «1» وأسدد سهما زالت أغراضها. الحثّ على السفر في طلب المال قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ «2» . وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: سافروا تغنموا. وسئل ضمرة بن ضمرة عن الفقر الحاضر والعجز الظاهر، فقال: أما الفقر الحاضر فمن لا تشبع نفسه وأما العجز الظاهر فالشاب القليل الحيلة اللازم الحليلة إن غضبت ترضّاها وإن رضيت فداها، يحوم حولها ويطيع قولها. قيل: رأس العجز أن تقيم فلا تريم وأن تخيم فلا تظعن، فمن طلب جلب ومن تبغل تبقل، ومن نام رأى الأحلام. وقيل: الحركة لقاح الجد العقيم. قال أبو تمّام: أراد بأن يحوي الغنى وهو وادع ... وهل يغرس الليث الطلا وهو رابض «3» قال بزرجمهر: السعيد يتبع الغني والشقي يتبع مسقط رأسه، قال شاعر: ذو اللبّ تنزع للرفاهة نفسه ... وترى الشقي نزوعه للموطن أخذه المبرّد: الفقر في أوطاننا غربة ... والمال في الغربة أوطان وقال آخر: وكلّ بلاد أخصبت فبلادي وقال المتنبيّ: وما بلد الإنسان غير الموافق ... ولا أهله الأدنون غير الأصادق «4» إقامة العذر في الطلب قال عروة بن الورد: لتبلغ عذرا أو تصيب رغيبة ... ومبلغ نفس عذرها مثل منجح وقال كشاجم: وعليّ أن أسعى وليس ... عليّ إدراك النّجاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 وقال آخر: قد قضى ما عليه من بلغ الجه ... د وإن لم يصل إلى ما أرادا المتكسّب بسلاحه دخل رجل على أبي دلف فاستماحه وانتسب له، فقال له: أتستميح وجدك القائل: ومن يفتقر منّا يعيش بحسامه ... ومن يفتقر من سائر الناس يسأل فخرج الرجل وجرّد سيفه فاستقبله وكيل لأبي دلف معه مال، فاستلبه وقتله، فاتصل الخبر بأبي دلف. فقال: دعوه، فإني علّمته. وقال بعض الشجعان: التظلل ضرر والاتكال غرر، ولا يكسب الأموال إلا منازلة الأبطال ومصاولة الرجال وتجريد السيوف ومباشرة الحتوف. قال الأعشى: فتى لا يحب الزاد إلا من التّقى ... ولا المال إلا من قنا وسيوف وقال ابن نباتة: شرابهم في الحرب ما تمطر القنا ... وأكلهم ما تجتنيه الصوارم «1» وصف الناس بأنّ تصرفهم في طلب المعاش وقال أبو العتاهية: المرء يغلط في تصرّف حاله ... فلربما اختار العناء على الدّعه كل يحاول حيلة يرجو بها ... دفع المضرّة واجتلاب المنفعه وقيل لفارسي: فيم تقلب الناس، فقال بالفارسية أش نياز واز، أي من الفقر والحرص، قال آخر: كلّ امرىء مشتغل بنفسه ... يطلب ما يطحنه بضرسه النهي عن الاغترار بما في يد الغير قيل: غثّك خير من سمين غيرك. قال شاعر: وإن حدّثتك النفس أنك قادر ... على ما حوت أيدي الرجال فجرّب وقال أبو العتاهية: لا تغضبنّ على امرىء ... لك مانع ما في يديه واغضب على الطمع الذ ... ي استدعاك تطلب ما لديه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 تفضيل الحاضر على المنتظر في المثل: عش ولا تغتر. وقيل: لقمة في فمك أحضر منفعة من فخذ في تنور. معاطاة الموجود خير من انتظار المفقود. الحثّ على حفظ المكتسب قال سقراط: لتكن عنايتك بحفظ ما اكتسبته كعنايتك باكتسابه. قال شاعر: لحفظك مالا قد عنيت بجمعه ... أشدّ من إدراك الذي أنت طالبه وقال آخر: لحفظ المال خير من ضياع ... وطوف في البلاد بغير زاد وقيل: حفظ الموجود أيسر من طلب المفقود، وقيل: احذر نفاد النعم فما كل شارد مردود. الحثّ على حفظ المال لنوب الأيام «1» قال محمد بن غالب: إنّما الدّنيا ضباب قذى ... تكفّ الأحزان عن مطره «2» فاتّخذ للدهر في يسر ... عدة تقضي على عسره وقال البديهي: لا تحسبنّ إدخار المرء قنيته ... لصونه وجهه بل لا، هو الكرم «3» عزّ القناعة بالموجود يمنع من ... ذلّ القنوع، وحفظ العرض مغتنم حفظ المال بالختم عليه قيل: من ختم البضاعة أمن الضياعة. من الكيس ختم الكيس «4» . طينة خير من ظنّة. وقيل: أربعة أشياء لا يستحيا من الختم عليها: المال لنفي التهمة، والجوهر لنفاسته والطّيب للإبدال، والدواء للاحتياط. الحثّ على حسن التدبير والنهي عن التبذير قيل: حسن التدبير نصف الكسب وسوء التدبير داعية البؤس. الإفلاس سوء التدبير. كن مقدرا لا مقترا. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: الرفق في المعيشة خير من بعض التجارة. قال الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 تعالى: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ «1» . وقيل: التبذير إنفاق المال في غير الحق. وسئل سعيد بن جبير رضي الله عنه عن التبذير، فقال: هو أن تنفق الطيب في الخبيث. وقال تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ «2» ولم يأذن في الفضول وقال عزّ من قائل: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا «3» . وقال صلّى الله عليه وسلم: أنهاكم عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال. وقال: ليس في السرف شرف. وقال معاوية: ما رأيت تبذيرا إلّا وإلى جنبه حق مضيع. وقال صلّى الله عليه وسلم: ما عال امرؤ عن اقتصاد. وقال أبو بكر رضي الله عنه: إني لأبغض أهل بيت ينفقون رزق أيام في يوم واحد. وقيل: ما وقع تبذير في كثير إلّا هدمه ولا دخل تدبير في قليل إلا ثمره. وقيل: إنك إن أعطيت مالك في غير الحق يوشك أن يجيء الحق وليس عندك ما تعطي منه. التهكّم على مبذّر قيل في المثل: خرقاء وجدت صوفا. وقيل: من يطل ذيله ينتطق به. وقيل: يطأ فيه. ومن وجد دهنا دهن إسته. وقيل: عبد خلي في يديه، وعبد ملك عبدا. وكان بعض المتخلفين ورث مالا فكان يحمل الدنانير ويأتي الشطّ فيقذف واحدا واحدا في الماء، فقيل له في ذلك، فقال: يعجبني طليته وصوته. وبنى عون العبادي دكانا وسط داره وأسرف في الإنفاق عليه إسرافا متناهيا فليم في ذلك، فقال: ما أصنع بالدراهم إذا. الحثّ على حفظ المال والإستغناء به عن الأنذال كان لسفيان بن عيينة صرة دنانير يحفظها، فقيل له: أتحفظ ذلك وأنت موصوف بالزهد؟ فقال: لئلا أكون مناديل الغمر من الرجال. وقيل لأفلاطون: لم تدخر المال فأنت شيخ؟ فقال: لأن يموت الإنسان ويخلف ما لا لعدوّه خير من أن يحتاج إلى أصدقائه في حياته. وقيل: خلّف للأعداء ولا تحتج إلى الأصدقاء. وقيل لحكيم: لم حفظت الفلاسفة ما في أيديهم؟ فقال: لئلا يقيموا أنفسهم المقام الذي لا يستحقونه، فقد علموا أن لا اتكال على ما في يد الغير. وفي المثل: بق نعليك وابذل قدميك «4» . النهي عن إنفاق جميع المال والرخصة في ذلك روي في الخبر: أن كعب بن مالك أراد أن يتصدق بماله كله، فنهاه النبي صلّى الله عليه وسلم وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 له: إمسك عليك مالك فإنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس. وقال ابن عباس رضي الله عنه حث النبي صلّى الله عليه وسلم ذات يوم على الصدقة، فجاء أبو بكر بماله كله، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: ما أعددت لعيالك فقال الله ورسوله، وجاء عمر رضي الله عنه بنصف ماله، فقال له: ما أعددت لعيالك؟ فقال: الله ورسوله ونصف مالي، فقال صلّى الله عليه وسلم: بين الرجلين ما بين الكلمتين. وسئل الشبلي عمّا يجب في مائتي درهم، فقال: أما من جهة الشرع فخمسة دراهم وأما من جهة الإخلاص فالكل. وقيل للمأمون لا شرف في السرف، فقال: لا سرف «1» في الشرف. الإنفاق على الأهل قال النبي صلّى الله عليه وسلم: نفقة الرجل على أهله صدقة، وقال: خيركم خيركم لأهله، وقال: ابدأ بمن تعول ولا تعجز عن نفسك. وكان أيوب يقول لأصحابه: تعاهدوا أولادكم وأهليكم بالبر والمعروف ولا تدعوهم يطمحوا بأبصارهم إلى ما في أيدي الناس. وقال زيد بن على رضي الله عنه: ثلاث لا يسأل الإنسان عنها: ما ينفقه في مرضه وما ينفقه في إفطاره، وما ينفقه على ضيفه. مدح مفيد مبيد مدح إعرابي رجلا، فقال: هو أكسبكم للمعدوم وآكلكم للمأدوم وأعطاكم للمحروم. وقال الوليد بن يزيد: لأجمعنّ جمع من يعيش أبدا ولأنفقنه إنفاق من يموت غدا. قال أبو تمّام: إذا ما أغاروا فاحتووا مال معشر ... أغارت عليهم واحتوته الصنائع وقال آخر: إذا أسلفتهن الملاحم مغنما ... دعاهن من كسب المكارم مغرم وقال المتنبّي: والسّلم يكسر من جناحي ماله ... بنواله ما تجبر الهيجاء «2» النهي عن إمساك المال قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ينادي مناد كلّ ليلة، فيقول: اللهم اجعل لمنفق خلفا ولممسك تلفا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 وقال صلّى الله عليه وسلم: أنفق بلالا «1» ولا تخش من ذي العرش إقلالا. قال شاعر: وإن أشدّ الناس في الحشر حسرة ... لمورث مال غيره وهو كاسبه ولهذا باب في ابتداء فضل الجود. الحثّ على الإنفاق وقت السعة وإظهار أثر النعمة قال الله تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً «2» (الآية) . وبعث عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجراح وهو أمير الشام مالا، وقال للرسول: أنظر ماذا يصنع فرآه يوسع على عياله، ثم نقص من أرزاقه فقتر عليهم. فقال عمر: رحم الله أبا عبيدة وسعنا عليه فوسع وقترنا عليه فقتر. وسئل الحسن رضي الله عنه عن رجل آتاه الله مالا فأنفق على أهله ما لو أنفق دونه لكفى، فقال: وسع على نفسك وعلى عيالك كما وسع الله عليك فإن الله قد أدب عباده أحسن تأديب. فقال: لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، وما عذب الله قوما وسع عليهم فشكروه ولا غفر لقوم ضيق عليهم فكفروه. وقال صلّى الله عليه وسلم: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ويبغض البؤس والتباؤس. وقال صلّى الله عليه وسلم: من آتاه الله خيرا فلير أثره عليه. ذهاب المال الحرام في الأباطيل قال الحسن رحمه الله: إذا أردت أن تعلم من أين أصاب الرجل المال فأنظر في أي شيء ينفقه، إن الخبيث ينفق في إسراف. وقيل: من درى من أين أخذ درى أين أنفق. التظلف والتذمم لمكسب دنيء قيل في المثل: نفع قليل وفضحت نفسي. تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها. قال شاعر: أصبت صنوف المال من كلّ وجهة ... فما نلته إلا بكفّ كريم وإنّي لأرجو أن أموت فتنقضي ... حياتي وما عندي يد للئيم حكم وجود الضالة سئل النبي صلّى الله عليه وسلم عن ضالّة الإبل، فقال: مالك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر. قيل: فضالة الغنم، قال: هي لك أو لأخيك أو للذئب. وسئل عن اللقطة فقال: إحفظ عفاصها ووكاءها «3» وعرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 وروى جارود بن المعلى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ضالّة المؤمن حرق النار. وقيل: ما يوجد بمكة فلا يجوز الانتفاع به، لقوله صلّى الله عليه وسلم إن الله حرم مكة ما بين لابتيها لا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها إلا لمعروف. وقال عمر رضي الله عنه: إذا وجدتم تمرة ملقاة في الطريق فليلتقطها من هو أحوج إليها. ووجد النبي صلّى الله عليه وسلم تمرة ساقطة، فقال: لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها. (6) وممّا جاء في مدح الغنى وذمّ الفقر منفعة المال دينا ودنيا كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفة والغنى، وقال صلّى الله عليه وسلم: نعم العون على تقوى الله المال. وقال أبو قلابة: الغنى من العافية. نظر أعرابي إلى دينار فقال: ما أصغر مرآك وأكثر منافعك. قال ابن الرومي: لم أر شيئا صادقا نفعه ... للمرء كالدرهم والسيف يقضي له الدرهم حاجاته ... والسيف يحميه من الحيف «1» وقيل: نعم العون على الدين اليسار. وقال شاعر في معناه: ما أرسل الإنسان في حاجة ... أقضى من الدرهم في كمّه وقال آخر: إذا ما خليلي صدّ عني بنبوة ... فدرهمي المنقوش خير خليل «2» قال أحمد بن أبي طاهر: ولا يساوي درهما واحدا ... من ليس في منزله درهم وقال آخر: ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له ... دنانير فيها جمّة ودراهم وقيل في قوله: فأرسل حكيما ولا توصه، إنه الدرهم. وقيل: الدرهم هو الأخرس النجيح «3» . قال وهب بن منبه: الدرهم والدينار خواتيم ربّ العالمين أينما بعث قضى الحوائج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 محبّة النّاس للمال قال عمرو بن العاص لمعاوية: ما أشد حبك للمال، قال: ولم لا أحبه وأنا أتعبد به مثلك، وأبتاع به مروءتك ودينك. وقال بعض الفرس: من زعم أنه لا يحب المال فهو عندي كاذب حتى يثبت صدقه، وإذا ثبت صدقه فهو عندي أحمق. وقيل لابن زياد: لم تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا؟ فقال: هي وإن أدنتني منها فقد أغنتني عنها. وقيل: تقليب الدرهم يوقف الشيب ويزيل الهم والتعب، وقيل: من نقر درهما زرع في قلبه شهوة. تشاحح «1» الناس بالمال قال يونس: لو أن الدنيا مملوءة دراهم على كل درهم مكتوب من أخذه دخل النار لأمست وما على ظهرها درهم يوجد. وقيل: لما ضربت الدراهم والدنانير صرخ إبليس صرخة وجمع أصحابه، فقال: قد وجدت ما استغنيت به عنكم في تضليل الناس فالأب يقتل إبنه والابن يقتل أباه بسببه. وصف أنواع المال وتفضيل بعضها على بعض سئل أبو بكر عن أصناف الأموال، فقال: أما الماشية فإنها تقبل من السنة إذا أقبلت وتدبر معها إذا أدبرت، وأما الرقيق فإنه يغدو عليها ضرّها ونفعها وقليل الضر يأتي على كثير النفع، والصامت مال من لا مال له، لأنه إن أنفقه أتلفه وإن أمسكه أهان به نفسه، وكان كمن لا مال له. وقال: خير المال ما أطعمك ما لا تطعمه. وقال عبد الله بن الحسن: غلّة الدور مسألة «2» وغلّة النخل كفاف «3» ، وغلة الحب غنى. وقيل للأحنف: أي المال أبقى وأوفى؟ فقال: المساكن والأرضون، وقيل في قوله تعالى: وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً «4» إن له غلة شهر بشهر. قيل لمجنون لم صار الدينار خيرا من الدرهم والدرهم خيرا من الفلس؟ فقال: الفلس ثلاثة أحرف والدرهم أربعة أحرف والدينار خمسة. وقيل لآخر: لم صار لون الذهب أصفر؟ فقال لأن طلابه كثير. وقيل لآخر، فقال: لخوف الدفن. وقيل لرجل: لم فضل الدينار على الدرهم؟ فقال: لأن الدينار يؤدي إلى النار والدرهم دار هم، وعذاب الهم عاجل وعذاب النار آجل، وإلى ذلك محيا وممات. ودفع إلى أعرابي دينار فحمله إلى الصرّاف فملأ له يديه دراهم، فقال: ما أصغر منظرك وأعظم مخبرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 وقال أنصاري لابن عبد الرحمن بن عوف: ما ترك أبوك لك من المال؟ فقال: ترك أموالا كثيرة. فقال: ألا أعلمك ما هو خير لك مما ترك أبوك، قال: نعم، قال: إعلم أنه لا مال لعاجز ولا ضياع على حازم والرقيق جمال وليس بمال، فعليك من المال بما يعولك لا بما تعوله. وصف الحيوان من بين المال قيل لابنة الحسن: ما تقولين في مائة من المعز؟ قالت: غنى، قيل: وفي مائة من الضأن قالت: قنى، قيل: وفي مائة من الإبل قالت: منى. قيل: فما تقولين في الحمار قالت: أخزاه الله، مال لا يزكي ولا يذكي. وقيل لرجل: أي مركب إذا كان أكبر كان أنذل «1» ؟ فقال: الحمار. وقيل لآخر: أي المال أحب إليك؟ فقال: الذي يقيم بقيامي ويظعن ويحملني ومالي وداري، يعني الإبل. وعلى عكسه، قول الآخر: وإن اقتناء النوق موق وحرفة ... يبيت على يسر ويغدو على ثكل «2» قدر ما يحمد من المال قال النبي صلّى الله عليه وسلم: نعم المال الأربعون والكثير الستون، وويل لأصحاب المائتين إلا من أعطى في نجدتها، ونحر سمينها ومنح لبونها وأطرق فحلها وأفقر ظهرها. قال خالد بن صفوان: من كان له مال كفافا فليس بغني ولا فقير، لأن النائبة إذا أتت أجحفت بكفافه. ومن كان ماله دون الكفاف فهو فقير ومن كان ماله فوق الكفاف فهو غني. وصف درهم أو دينار ثقيل الوزن كان المتوكل ضرب دراهم وزن كل واحد عشرة، وعلى جانب منه مكتوب: أمازحها فتغضب ثم ترضى ... وكلّ فعالها حسن جميل وعلى الآخر: فإن غضبت فأحسن ذي دلال ... وإن رضيت فليس لها عديل ووجد في خزانة جعفر بن يحيى دنانير، في كل دينار مائة مثقال ومثقال، نقشه: وأصفر من ضرب دار الملوك ... يلوح على وجهه جعفر «3» يزيد على مائة واحدا ... إذا ناله معسر يوسر وأهدى عضد الدولة إلى ركن الدولة دنانير كل دينار منها مائة مثقال، ونقشه: بذكر الله أكرم مستجار ... ضربناه من الذهب النّضار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 جعلنا وزنه مائة فأضحى ... عديم الندّ مفقود النّجار «1» لنهديه إلى الركن المرجّى ... بويه إلى علي ذي الفخار وأمر الصاحب أن يضرب دينار من ألف مثقال، وأهداه إلى فخر الدولة وكتب عليه. وأحمر يحكي الشمس شكلا وصورة ... وأوصافه مشتقّة من صفاته «2» فإن قيل دينار فقد ذكر اسمه ... وإن قيل ألف كان بعض سماته بديع فلم يطبع على الدهر مثله ... وإن ضربت أضرابه ببراته لقد أبرزته دولة فلكيّة ... أقام بها الأفلاك صدر قناته وصار إلى شاهان شاه انتسابه ... على أنه مستصغر لعفاته «3» تأنّق فيه عبده وابن عبده ... وغرس أياديه وكافي كفاته وصفهما إذا كانا خفيفين كان المتوكل أمر أن يضرب له ألف ألف درهم في كل درهم قيراط، لينثره مكان الورد، وأمر بأن تصبغ صفرا وحمرا وخضرا. وكان الدرهم يبقى في الهواء بقاء الورد. قال العبّاس في وصف دينارين خفيفين: جاد بدينارين لي جعفر ... أصلحه الله وأخزاهما «4» وكاد لا كانا ولا أفلحا ... عليهما يرجح ظلاهما قال ابن الرومي في دينار خفيف: كأنّه في الكفّ من خفّة ... مقداره من صفرة الشمس وقيل لرجل: ما أولاك فلان، فقال: درهما كأنما عناه الشاعر بقوله: مرّ بنا والعيون ترمقه ... تجرح منه مواضع القبل «5» وصف مال بالكثرة قيل: هو في خير لا يطير غرابه، ووجد فلان تمرة الغراب. وعنده عائرة عير وله كحل وسواد، والنشب والعرض والطم والرم. وجاء بما صأى وصمت وبالضح والريح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 كون المال موفيا على الحسب والنسب قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إن أحساب أهل الدنيا الذي يذهبون إليه هذا المال، وفي مثل: ربّ حسب دفنه الفقر. قال شاعر: وأجهد الناس من بعنصره ... يزهو على من يزينه النشب «1» وقف إعرابي من بني فقعس يسأل وهو عريان: كساني فقعس وكسا بنيه ... عطاف المجد أن له عطافا «2» فقال له بعض الحاضرين: لو كساك خرقة تواريك لكان أصلح لك. من سوّده ماله قيل: المال يسوّد غير السيد ويقوّي غير الأيد «3» . قال شاعر: الفقر يزري بأقوام ذوي حسب ... وقد يسوّد غير السيد المال وقال عمارة: حيّاك من لم تكن ترجو تحيّته ... لولا الدراهم ما حيّاك إنسان تعظيم النّاس لذي المال قيل للحسن رضي الله عنه: ما بال الناس يكرمون أرباب المال؟ فقال: لأن عشيقتهم عندهم. ومر موسر بالشعبيّ فتزعزع له، فقيل له في ذلك، فقال: رأيت ذا المال مهيبا. وعوتب ابن أبي ليلى لتخفره لغني مرّ به، فقال: إن تعظيم ذوي المال شيء جعله الله في القلوب لا يستطاع دفعه. وقال العطوي: اقصد إلى أيّ ودّ شئت معتصما ... بحبل ودّ فلا ذئب ولا ضبع المال أعضب سيف عند صولته ... من أن يعنّ له في منهل سبع «4» وهذا كقول بعض اللصوص لبعض أصحابه: لا تنقبوا على غني، وكونوا مع الله على المدبر. مصادقة الناس للأغنياء ومعاداتهم للفقراء قيل لبعض العقلاء: كم لك من صديق، فقال: لا أعلم ذلك لأن الدنيا مقبلة عليّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 والأموال موجودة عندي، وإنما أعرف ذلك إذا ولت، ألم تسمع قول طريح: الناس أعداء لكلّ مدقع ... صفر اليدين وإخوة للمكثر «1» ولما استوزر علي بن عيسى ورأى اجتماع الناس عليه، تمثل بقول أبي العتاهية: ما النّاس إلّا مع الدنيا وصاحبها ... فكيف ما انقلبت يوما به انقلبوا يعظّمون أخا الدنيا فإن وثبت ... يوما عليه بما لا يشتهي وثبوا «2» وقال شاعر: إذا مالت الدنيا على المرء رغبت ... إليه ومال الناس حيث يميل ومثله لأبي العتاهيّة: النّاس أخوة نعمة ... لله ما دامت عليكا وقول الآخر: إن الحبيب إلى الإخوان ذو المال وقال آخر: النّاس خلّانك ما لم تفتقر وقيل: إذا أيسرت فكل رحل رحلك وإذا افتقرت أنكرك أهلك. وقيل: العسرة والعشرة لا يجتمعان. زيارة النّاس لذي المال قال بشار: يزدحم النّاس على بابه ... والمنهل العذب كثير الزّحام «3» وقال آخر: إن الغنى يهدي لك الزوّارا وقال آخر: وأيّ الناس زوّار المقلّ؟ الفقر مجمع العيوب قيل: الفقر مجمع العيوب. وقال بعضهم: وجدت خير الدنيا والآخرة في شيئين، وشرّهما في شيئين، خيرهما الغنى والتقى، وشرّهما الفقر والفجور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 قال جرير: ترادفهم فقر قديم وذلّة ... وشرّ الرديفات المذلّة والفقر «1» وقيل: ما روي أجود من قول عروة في ذم الفقر: ذريني للغنى أسعى فإنّي ... رأيت الناس شرّهم الفقير وما من خصلة تكون للغني مدحا إلا وتكون للفقير ذما. إذا كان حليما، قيل: هو بليد، وإذا كان شجاعا قيل: هو أهوج، وإذا كان لسنا قيل: مهذار. ولقد صدق من قال: إن ضرط الموسر في مجلس ... قالوا له يرحمك الله أو عطس المفلس في مجلس ... سبّ وقالوا فيه ماساه فمضرط الموسر عرنينه ... ومعطس المعسر مفساه «2» وقال حسّان: ربّ حلم أضاعه عدم الما ... ل وجهل غطّى عليه النعيم وكان الحسن رضي الله عنه إذا رأى المساكين، قال: هؤلاء مناديل الخطأ. وقيل: الخلّة «3» تقدح في الذهن وتغمز في العقل. خفة الموت في جنب الفقر قيل: القبر ولا الفقر ولا الموت خير للفتى من قعوده ... عديما ومن مولى تدبّ عقاربه «4» وقال آخر: خير حال الفقير عند ذوي ال ... ألباب أن تنطوي عليه القبور وقال ابن طباطبا: قد يصبر الحرّ على السيف ... ويجزع الحرّ من الحيف ويؤثر الموت على حالة ... يعجز فيه عن قرى الضّيف التعوذ من الفقر وكونه كالكفر كان النبي صلّى الله عليه وسلم يتعوذ من الكفر والفقر، فقال له رجل: أيستويان؟ فقال: نعم. كاد الفقر أن يكون كفرا. ودعا رجل لمسروق فقال: جنّبك الله الفقر وطول الأمل. وقال سفيان: كان من دعائهم اللهم زهّدنا في الدنيا ووسعها علينا ولا تزوها عنا وترغبنا فيها. وقالت المجوس: من لا مال له لا عقل له، ومن لا عقل له فلا دنيا له ولا دين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 عدم المجد حيث عدم المال كان طلحة رضي الله عنه يقول: اللهم أرزقني مجدا ومالا فلا يصلح المجد إلا بالمال، ولا يصلح المال إلا بالأفعال. قال المتنبي وقد أخذ هذا المعنى: فلا مجد في الدنيا لمن قلّ ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قلّ مجده وقال هرم بن عمير التغلبي: إني امرؤ هدم الاقتار مأثرتي ... واجتاح ما بثّت الأيام من خطري «1» أرومة عطلتني من مكارمها ... كالقوس عطّلها الرامي من الوتر ومما يناقض هذا الباب قول جرثومة بن مالك: فتى إن تجده معوزا من تلاده ... فليس من الرأي الأصيل بمعوز «2» وقال الأحنف: وإن المروءة لا تستطاع ... لمن لم يكن ماله فاضلا صعوبة الفقر على ذي همّة وجود قيل لحكيم من أشقى الناس؟ فقال من اتسعت معرفته وضاقت مقدرته. وقال أعرابي: لا تنظر إلى هيئتي وانظر إلى همّتي. وقال الطرمّاح: أرى نفسي تتوق إلى أمور ... ويقصر دون مبلغهنّ مالي فنفسي لا تطاوعني لبخل ... ومالي لا يبلغني فعالي وقال المتنبيّ: إلى الله أشكو لا إلى الناس أنني ... أرى صالح الأخلاق لا أستطيعها أرى خلة في إخوة وقرابة ... وذي رحم ما كنت ممّن يضيعها وقال آخر: أرى الدهر يجفوني ونفسي عزيزة ... وليس معي زهد فأسطو على الدّهر صعوبة الفقر على متعودّي اليسر كان النبي صلّى الله عليه وسلم يتعوذ من الحور بعد الكور «3» ، وقال: إرحموا ثلاثة، عزيز قوم ذل وغني قوم افتقر وعالما بين جهال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 وقيل: جهد البلاء أن تزول النعمة وتبقى العالة ثم لا تعدم صديقا مؤنبا وعدوا شامتا وزوجة مختلفة وجارية مستبيعة وعبدا يحقّرك وولدا ينتهرك. وأتى عبد الله بن معاوية بأسير، فقال: هذا هو جهد البلاء، فقال الأسير: كلا جهد البلاء فقر مدقع بعد غنى موسع. صعوبة مقاساة الجوع قتل رجل بصفّين أبا امرأة وابنها وأخاها وعمّها وعشرين من أهل بيتها، ثم أتت تسأله، فقال: ما أظن على ظهر الأرض أبغض إليك منّي، فقالت: بلى، إن الذي ألجأني إليك أبغض إليّ منك، وهو جوع بطني. وأخذ رجل بلجام عبد الملك، فقيل له: ما جرأك، فقال: الجوع شجاع. وقيل: الجائع فقير ضيّق النفس والشبعان واسع الصدر غنيّ النفس. ستر الحال في العسر واليسر قال عبد الملك للهيثم بن الأسود: كم مالك فلم يخبره به. فقيل له في ذلك، فقال: صاحب المال بإحدى منزلتين إن كان كثيرا حسد وإن كان قليلا حقر. وقيل: رضي بالذلّ من كشف ضرّه وبالحسد من كشف يسره. شاك فقره قال الحاركي: من كانت الدنيا له شارة ... فنحن من نظارة الدنيا نرمقها من كثب حسرة ... كأنّنا لفظ بلا معنى «1» قال العطوي: أنا طرح بين خلا ... ت حديدات النّصال «2» بين دين وشتاء ... وعيال واختلال وقال آخر: من رآني فقد رآني ورحلي وقال آخر: ومن عجب أنّ حلف الفسوق ... غنى وقد أعدم الأتقياء وقال مخنث: أنا عظيم البليّة أموت من حبّ رزقي، ويموت هو من بغضي. نادرة ماجن شاكي الفقر شكا بعضهم فقره، فقيل له: احمد الله الذي رفع السماء بغير عمد، فقال: وددت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 أنه وسع رزقي وجعل بين كل ذراع أربع أسطوانات، فليس لي دار يضيقها. سمع صبي فقير امرأة في جنازة تقول: يذهبون بك إلى بيت ليس له غطاء ولا وطاء ولا عشاء ولا غداء ولا سراج، فقال الصبي: يا أبت إنهم يذهبون به إلى بيتنا. وقيل لمزبد: بع قطيعتك، فقال له: ما ملكت قط إلا قطيعة الرحم، قيل له ما عندك من آلة الخبيص، قال: الماء، وقيل له ما أعددت للبرد، قال: الرعدة. متعذر لفقره بأنّ الجود فرق ماله طلب قوم ابن هرمة فلم يجدوه في منزله فقالوا لابنته: أقرينا، قالت: مالنا شيء، قالوا فأين قول أبيك: لا أمتع العود بالفصال ولا ... أبتاع إلا قصيرة الأجل قالت فذلكم الذي منعكم القرى. قال دعبل: قالت سلامة أين المال قلت لها ... المال ويحك لاقى الحمد فاصطحبا الحمد فرق مالي في الحقوق فما ... أبقين ذما ولا أبقت له نشبا «1» وقال جحظة: جاء الشتاء وما عندي له ورق ... مما وهبت ولا عندي له خلع «2» كانت فبدّدها جود ولعت به ... وللمساكين أيضا بالنّدى ولع «3» من نسي فقره بعد زواله قال شاعر: يعيش الفتى بالفقر يوما وبالغنى ... وكلّ كأن لم يلق حين يزايله «4» وقال آخر: كأن الفتى لم يعر يوما إذا اكتسى ... ولم يك صعلوكا إذا ما تموّلا تأسّف من ضيّع ماله ثم احتاج إليه وكان المال يأتينا فكنّا ... نبذّره وليس لنا عقول فلمّا أن تولّى المال عنّا ... عقلنا حين ليس لنا فضول «5» تأسّف من وجد خيرا لم ينتفع به قال القلابي: دخلت على الجاحظ في منصرفي من عند السلطان، وقد حسنت حاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 واشتدّت علته، فسألته، فقال: كنا إذا أردنا لم نجد حتى إذا وجدنا لم نرد. الموصوف بالفقر والجهل وقال شاعر: يظلّ عديم أموال ولبّ ... يرقّ له المكاشح والمعادي «1» وسئل أعرابي عن رجل، فقال: ماله حول ولا معقول ولا مال ولا حال. ذمّ دنيء تموّل إذا أيسر الدنيء ابتلي به ثلاثة، صديقه القديم يفارقه، وامرأته يتسرّى عليها وباب داره يغيّره، وقد نظم ذلك في قوله: إذا استغنى الوضيع ونال جاها ... وأنكر نخوة في النّاس نفسه حبا خلصان إخوته جفاء ... وغيّر بابه وأبان عرسه «2» أخذه من ابن أبي البغل: إذا ما ساقط أثرى تعدّى ... وأنكر قبل كلّ الناس نفسه وغيّر باب منزله وأربى ... على جيرانه وأبان عرسه قال عمرو بن العاص: لأن يسقط ألف من العلية خير من أن يرتفع واحد من السفلة. وقال البحتري: محاريب الدنيا نباهة جاهل ... فلا ترتقب إلا خمول نبيه النهي عن البطر عند الغنيّ وذمّ ذلك قال الله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى «3» . وقيل: البطر يقتضي الفقر والنظر يقتضي العبر. وقيل: أكثر شكر الله على نعمه فالبطر من قلّة الشكر. وقال شاعر: خلقان لا أرضى طريقهما ... خلق الغنى ومذلّة الفقر فإذا غنيت فلا تكن بطرا ... وإذا افتقرت فته على الدّهر «4» وفي كتاب كليلة: لا يبطر العاقل لمنزلة أصابها كالجبل الذي لا تزلزله الرياح الشديدة والسخيف تبطره أدنى منزلة كالحشيش الذي تحركه أدنى الرياح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 وقيل: سوء حمل الغنى أن يكون الفرح مرحا وسوء حمل الفقر أن يكون الطلب شرها. وقيل: حمل الغنى أشدّ من حمل الفقر ومؤنة الشكر أصعب من مشقة الصبر. وقال بعضهم في من لا يبطر ولا يمكنه ستر غناه: تأبى الدراهم إلا كشف أرؤسها ... إن الغنى طويل الذيل ميّاس «1» وقال المرقّش: إن يخصبوا يعيوا بخصبهم ... أو يجدبوا تجديهم الأم «2» وقال الخبزارزي: قد كان في حال محسود فأبطره ... طغيانه فاغتدى في حال مرحوم وقال مسلم بن الوليد: فالكلب إن جاع لم يعدمك بصبصة ... وأن ينل شبعة ينبح على الأثر «3» مدح من لا يبطره اليسر ولا يدقعه الفقر وقال هدبة: ولست بمفراح إذا الدهر سرّني ... ولا جازع من صرفه المتقلّب وقال طرفة بن العبد: إن ننل منفسة لا تلفنا ... ترف الخيل ولا نكبو لضرّ «4» وقال الزبير بن الأسدي: ولا يراني على ما ساء مكتئبا ... ولا يراني على ما سرّ مبتهجا ومثله: فتى إن هو استغنى تحذّق في الغنى ... وإن قلّ ما لا لم يضع سنة الفقر «5» اجتناب عرض الدنيا قيل: العاقل من لا يجزع من قعود الدهر به علما بأن مراتب الأقسام توضع على قدر الأففام. وقيل: وكل الله الحرمان بالعقل، والرزق بالجهل ليعلم العبد أن ليس له من أمر الرزق شيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 وقيل: أبت الدنيا أن تعطي أحدا ما يستحقه، إمّا محطوط عن درجته أو مرفوع فوق قدره. وقيل لأفلاطون: لم لا يجتمع العلم والمال، فقال لعزّة الكمال، قال: ومن الدليل على القضاء وكونه ... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق وقيل: من أعطاه الله عقلا احتسب عليه من الرزق، وقيل لو جعل الله المال للعقلاء مات الجهال، فلما جعله في أيدي الجهال استقلّهم العقلاء واستنزلوهم عنه بلطفهم. وقد تقدم في باب العقل شيء من هذا. علّة ميل الدنيا إلى الأنذال قال سعيد بن المسيب رضي الله عنه: الدنيا نذلة تميل إلى الأنذال. وقال حكيم: إذا أردت أن تزهد في الدنيا فانظر عند من هي. وقال النظّام: مما يدل على لؤم الذهب والفضة كثرة كونهما عند اللئام فالشيء يصير إلى شكله ومن هنا أخذ المتنبي قوله: وشبه الشيء منجذب إليه ... وأشبهنا بدنيانا الطّغام «1» وقال حسان: المال يغشى رجالا لا طباع لهم ... كالسيل يغشى أصول الدندن البالي «2» وقال أبو تمّام: لا تنكري عطل الكريم من الغنى ... فالسّيل حرب للمكان العالي وقال ابن الرومي: رأيت الدهر يرفع كلّ وغد ... ويخفض كلّ ذي رتب شريفه «3» كمثل البحر يرسب فيه حيّ ... ولا ينفكّ تطفو فيه جيفه «4» وكالميزان يخفض كلّ واف ... ويرفع كلّ ذي زنة خفيفه معاتبة الدهر لتقديم جاهل وتأخير فاضل وقال جحظة البرمكي: غلط الدهر بما أعطاكم ... وفعال الدهر جهل وغلط وقال الموسوي: ومما يحلّل ذمّ الزما ... ن إقصاؤه الأفضلين الخيارا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 وقال أبو حاتم: أظنّ الدهر قد آلى فبرّا ... بأن لا يكسب الأموال حرّا «1» لقد قعد الزمان بكلّ حرّ ... ونقص من قواه ما استمرّا وقال أبو تمّام: لقد ساسنا هذا الزمان سياسة ... سدى لم يسسها قطّ عبد مجدّع «2» حلّت نطف منها النكس وذو الحجى ... يداف له سم من العيش منقع «3» فإن نك أهملنا فأضعف بسعينا ... وإن نك أجبرنا ففيم نتعتع «4» وما أحسن ما قال: ليس المقلّ على الزمان براض ... ومن السخف قول التماري «5» وقيل: أرى فقحة الدنيا على معشر تخرى ... فإن أقبلت نحوي رأيت بها خضرا ومن الجيد في هذا قول عابدة المهلبيّة ويروى للمهلبي: ألست ترى استراق الدهر حظّي ... وكيف يفيت في أدب الخمول أأبغي العون منه وهو خصمي ... كما استبكت ضرائرها الثّكول «6» وقال رجل لمنجم: أنظر في نجمي هل ترى لي غنى؟ فقال: دع عنك هذا فإن الدهر مشغول بالسفل فلا يتفرغ إلى أحد. وقيل: الدهر لا يعطي أحدا ما يستحقه إما أن يزيده أو ينقصه. معاتبة القدر في ذلك قال أبو العيناء لرجل سأله: ما بال الركيك الأحمق يرزق والأديب يحرم؟ فقال: لأن هذا الدنيا دار اختبار وأحب الرازق أن يعلمهم أن الأمور ليست لهم، فإن غلات السواد تباع بكف أنموذج فهلا اكتفى في ذلك بنقرة. وقال جحظة: يا ربّ إن الشكوك قد علقت ... أوكارنا والشّكوك تعترض وغد له نعمة مؤثّلة ... وسيّد لا يزال يعترض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 فنحن من قبح ما نشاهده ... من معشر في قلوبهم مرض وقال عبدان: لقوله نحن قسمنا ... بينهم زال المرا «1» ولو تولّى غيره ... قسمة أرزاق الورى جرت حظوظ بيننا ... لكنّنا تحت العرا وقيل: إذا رأيت الجاهل مرزوقا والعاقل منحوسا فاعلم أن بين السماء والأرض أكرادا يقطعون الطرق. وقيل لمدني شكا الفقر: احمد الله فإنه رزقك الإسلام والعافية، فقال: أجل لكن جعل بينهما جوعا تقلقل منه الأحشاء. قال شاعر: يا حجة الله في الأرزاق والقسم ... ومحنة لذوي الأخطار والهمم تراك أصبحت في نعماء سابغة ... إلا وربّك غضبان على النعم «2» وقال آخر: عجبا للناس في أرزاقهم ... ذاك عطشان وهذا قد غرق سؤال الله تعالى الغني بغلظة مقال قال الأصمعي: رأيت بالموقف أعرابيا قد رفع يده إلى السماء، وهو يقول: أما تستحي يا خالق الخلق كلّهم ... أناجيك عريانا وأنت كريم أترزق أولاد اللئام كما ترى ... وتترك شيخا من سراة تميم فقلت له: ما هذه المناجاة؟ فقال: إليك عني فإني أعرف من أناجيه، إن الكريم إذا هز اهتز. فرأيته بعد أيام عليه ثياب حسنة، فقال لي: ألست ترى الكريم كيف أعتب. ودعا أعرابي، فقال: يا رب إن كنت تدع رزقي لهواني عليك فنمرود كان أهون منّي، وإن كنت تدعه لكرامتي عليك فسليمان بن داود كان أكرم مني، فقيل له: أخذت الحبل بطرفيه. (7) وممّا جاء في الزهد ومدح الفقر وذم الغنى حقيقة الزهد والحرص واليقين قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ليس الزهادة في الدنيا تحريم الحلال ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق ممّا في يدك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 سئل حكيم عن الزهد، فقال: أن لا تطلب المفقود حتى تفقد الموجود. وقيل: ظلّف النفس عن الشهوة. وقال سفيان: هو قصر الأمل لا أكل الغليظ ولبس العباء. وقال يونس بن حبيب: هو ترك الراحة. وسئل الجنيد عنه، فقال: خلو الأيدي من الأملاك وخلو القلب من التتبع. وسئل مرة، فقال: ترك ما في الدار على من في الدار. وذكر الزهد عند الفضيل، فقال: هو حرفان في كتاب الله تعالى: لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم. وهذا يوافقه قول من قيل له من الزاهد؟ فقال: من لم يغلب الحرام صبره ولا الحلال شكره. وسئل الجنيد رحمه الله عمّن لم يبق عليه من الدنيا إلا مقدار مص نواة، فقال: المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. وقال يحيى: الزاهد هو الذي بلغ من حرصه في تركها حرص الحريص في طلبها. وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: الزهد ثلاثة، زهد فرض وذلك في الحرام وزهد فضل وذلك في الحلال وزهد سلامة وذلك في الشهوات. وقيل: أصل القناعة والزهد اليقين، فمن أيقن قنع وزهد وقال ذو النون: الزهد الاستخفاف بثلاثة أشياء بالنفس والشيء والخلق فإذا استخف بالنفس عزّ به وإذا استخف بالشيء ملكه، وإذا استخف بالخلق خدمه. اليقين ترك التدبير فيما لا تملك. الحرص طلب ما في يد الغير. وقيل: الحرص تضييع الكثير وطلب القليل. حقيقة التوكّل ووصفه قيل: التوكل هو الاعتماد على الحقّ والتخلّي من الخلق. وقيل: الاستسلام لما قضى. وقيل: الثقة بالله فيما ضمن. وقيل: الاكتفاء بضمانه وإسقاط التهم في قضائه. وقيل للحارث ما علامة المتوكل؟ فقال: أن لا يحركه إزعاج المستبطىء فيما ضمن له من رزقه، فقيل له: هل ينقص من توكله قصده من يسد جوعته، فقال: لا، لأن النبي صلّى الله عليه وسلم خرج فلقيه أبو بكر وعمر، فقال: ما الذي أخرجكما، قالا الجوع، فقال: أخرجني الذي أخرجكما، فدخلوا منزل أبي الهيثم فأكلوا وشربوا. وقيل: التوكّل الانقطاع إلى الله تعالى في إيصال النعماء ودفع البلاء، ثم تلا قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ «1» . خيّر يوسف عليه السلام بين خصلتين، فاختار إحداهما، فقيل له: اخترت فتركناك مع اختيارك فبقي في السجن ما بقي. ذمّ المال قال الله تعالى: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ «2» وقال المسيح عليه السلام: لا خير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 في المال، فقيل: ولم يا روح الله؟ فقال: لأنه يجتمع من غير حلّ. قيل: فإن جمع من حلال؟ قال: لا يؤدي حقّه، قيل: فإن أدى حقّه، قال لا يسلم صاحبه من الكبر والخيلاء، قيل فإن سلم قال: يشغل عن ذكر الله، قيل: فإن لم يشغل، قال: يطول عليه الحساب يوم القيامة. وذكر المال عند أفلاطون، فقال: ما أصنع بما يعطيه الحظّ ويحفظه اللؤم ويهلكه الكرم؟ وقيل لآخر، فقال: ما أصنع بشيء يجيء بالإتفاق لا الإستحقاق، والزهد والجود يأمران بإتلافه والشؤم والبخل يأمران بإمساكه. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس ولا انتعش. وإذا شيك فلا انتقش. وقال أبو الدرداء: أعوذ بالله من تفرقة القلب، قيل وما تفرقة القلب؟ قال: أن يكون للإنسان مال في كل واد. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: من رضي من الله باليسير من الرزق رضي الله منه باليسير من العمل. كثرة المال سبب الهلاك وقال ابن طباطبا: إنّ في نيل المنى وشك الرّدى ... وقياس القصد ضدّ السّرف «1» كسراج دهنه قوت له ... فإذا غرّقته فيه طف «2» وقال ابن الرومي: ألم تر أن المال يهلك أهله ... إذا جم آتيه وسدّ طريقه «3» ومن جاوز الماء الغزير مجمّه ... وسدّ سبيل الماء فهو غريقه «4» وقيل: صاحب الدنيا كدودة القز لم يزدد الأبريسم على نفسه إلّا زاد من الخلاص بعدا. وقال عبد الله بن رؤبة: يرى راحة في كثرة المال ربّه ... وكثرة مال المرء للمرء متعب إذا قلّ مال المرء قلّت همومه ... وتشعبه الأموال حين تشعب كون العدم نعمة وبسط الدنيا نقمة قال الله تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ «5» . وقال تعالى: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ «6» . وفي بعض المناجاة: يا من منعه عطاء. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام، وقال ابن أبي عيينة: لا تشعرنّ قلبك حبّ الغنى ... إنّ من العصمة أن لا تجد كم واجد أطلق وجدانه ... عنانه في بعض ما لم يرد «1» وقال الحسن رضي الله عنه: ما بسط الله على أحد دنياه إلّا اغترارا، ولا طواها عنه إلا اختبارا. وقال بعضهم: نعمة الله علينا فيما طواه عنا أعظم من نعمته علينا في ما بسطه لنا. وقال محمود الوراق: من شرف الفقر ومن فضله ... على الغنى لو صحّ منك النّظر أنك تعصي لتنال الغنى ... ولست تعصي الله كي تفتقر وقال عبدان: تبيّن فضل الفقر عندي على الغنى ... بواحدة فيها عزاء لذي حجر متى متّ لم آسف على فقد نعمة ... يودّ الفتى من أجلها المدّ في العمر صنوف الفقر وما يحمد منه: قيل: الفقر على ثلاثة أقسام، فقر الخلق إلى الله وعدم الأملاك لعرض الدنيا والحرص وهو فقر الناس إلى الناس، وهو الذي استعاذ منه النبي صلّى الله عليه وسلم، والمشار إلى فضله ما حكي عن الجنيد أنه قيل له: متى يكون الفقير مستوجبا لدخول الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام؟ فقال: إذا كان موافقا لله تعالى، يعد فقره نعمة يخاف على زوالها مخافة الغني على زوال نعمته وغناه، مستغنيا بربّه، كما قال تعالى للفقراء: الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ «2» الآية. نفي العار بالفقر كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين. وكان صلّى الله عليه وسلم يستنصر بصعاليك المهاجرين، وقال صلّى الله عليه وسلم: اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء، وقال العطوي: ما الفقر عار إنّما العار الثرا والبخل «3» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 وقال رجل من بني قريع: وكائن رأينا من غني مذمم ... وصعلوك قوم مات وهو حميد وقال أبو تمّام: لا يحسب الإقلال عدما بل يرى ... أن المقلّ من المروءة معدم «1» طيب عيش مؤثر الفقر وعزّته وفضله كان سقراط فقيرا، فقال له بعض الملوك: ما أفقرك؟ فقال: لو عرفت راحة الفقر لشغلك التوجع لنفسك عن التوجّع لي، فالفقر ملك ليس عليه محاسبة. وقيل له: لم لا يرى أثر الحزن عليك؟ فقال: لأني لم أتخذ ما إن فقدته أحزنني. وقال بعض الحكماء: من أحبّ أن تقلّ مصائبه فليقل قنيته للخارجات من يده، لأن أسباب الهمّ فوت المطلوب وفقد المحبوب، ولا يسلم منهما إنسان، لأن الثبات والدوام معدومان في عالم الكون والفساد. وبهذا ألمّ ابن الرومي، فقال: ومن سرّه أن لا يرى ما يسوؤه ... فلا يتّخذ شيئا يخاف له فقدا حكي أنه لما غرقت البصرة أخذ الناس يستغيثون، فخرج الحسن رضي الله عنه ومعه قصعة وعصا، فقال: نجا المخفّون. وقال بعض الزهاد، وقد قيل له أترضى من الدنيا بهذا؟ فقال: ألا أدلك على من رضي بدون هذا؟ قال: نعم، قال: من رضي بالدنيا بدلا من الآخرة. وقيل لمحمد بن واسع رحمه الله: أترضى بالدون، فقال: إنما رضي بالدون من رضي بالدنيا وترك الآخرة. طيب عيش من قنع بما رزق سئل الفرغاني عن الفتوّة، فقال: هو أن يكون في كل وقت بشرطه. وقيل لبزرجمهر أي الناس أقل هما، فقال: ليس في الدنيا إلا مهموم، ولكنّ أقلهم هما أفضلهم رضا وأقنعهم بما قسم. وقيل لبعضهم: من أنعم الناس عيشا؟ فقال: من رضي بحاله ما كانت. وقيل: من رضي بما قسم له كان دهره مسرورا. وقيل لابن عوف ما تتمنى؟ فقال: أستحي أن أتمنى على الله ما ضمنه لي، قال بعض النقّاد: دنيا تخادعني كأنّي ... لست أعرف حالها حظر الإله حرامها ... وأنا احتميت حلالها «2» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 ووجدتها محتاجة ... فوهبت لذّتها لها كون الدنيا عبدا لمن زهد فيها قال زاهد لملك: أنت عبد عبدي لأنك تعبد الدنيا لرغبتك فيها، وأنا مولاها لرغبتي عنها وزهدي فيها. ويقوي ذلك ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أن الله أمر الدنيا فقال: من خدمني فاخدميه ومن خدمك فاستخدميه. وقيل: من زهد في الدنيا ملكها ومن حرص عليها أملكها. وقال الحسن رضي الله عنه: أهينوا الدنيا فو الله لأهنأ ما تكون حين تهان. وقال أبو العتاهية: أرى الدنيا لمن هي في يديه ... عذابا كلّما كثرت لديه تهين المكرمين لها بصغر ... وتكرم كلّ من هانت عليه إذا استغنيت عن شيء فدعة ... وخذ ما أنت محتاج إليه الحثّ على التوكّل في أمر الرزق وترك الحرص قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إن في القرآن آية لو أن جميع الناس أخذوا بها لكفتهم في القناعة. قال الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ «1» . وسئل بزرجمهر عن الرزق، فقال: إن كان قد قسم فلا تعجل وإن كان لم يقسم فلا تتعب. وقال الحسن رضي الله عنه: الحريص الجاهد والقنع الزاهد كلاهما مستوف حظّه، وأكله غير منتقص ما قدر له، فعلام التهافت في النار؟ وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لو توكلتم على الله حقّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا «2» وتروح بطانا «3» . وقيل للحارث كيف قال ذلك والطير تغدو في طلب الرزق وتروح؟ فقال: مهلا إن الطير يأخذ في الحوصلة وأنت لا تقنع بذلك، مع أن الطير لم يخاطب بالضمان منه لرزق ولم ينزل عليه كتاب. وقال سهل بن وهبان: لا تكونوا للمضمون مهتمين. وقال أعرابي لآخر رآه حريصا: يا أخي أنت طالب ومطلوب، يطلبك طالب ولن تفوته وتطلب ما كفيته كأنك لم تر حريصا محروما ولا زاهدا مرزوقا. وقال آخر: إنك لا تدرك أملك ولا تسبق أجلك ولا تغلب على رزقك ولا تعطي حظ غيرك، فعلام تهلك نفسك؟ لكل صباح صبوح ولكل عشاء عشاء. وفي بعض كتب الله: يا ابن آدم لو أن لك الدنيا كلها لم تنل منها إلا القوت فإذا أعطيتك القوت، وجعلت حسابه على غيرك ألم أكن محسنا إليك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 من قلّ تفكّره في أمر الأرزاق وتوكّل على الرزّاق قيل لصوفي من أين رزقك؟ قال: الذي خلق الرحى يأتيها بالطحين. وقيل لآخر، فقال: من كدك على رغم أنفك رب ساع لقاعد. وقيل لزاهد من أين المطعم؟ فقال: من عند المنعم، فقال: هل بالقرب من يأتيك برزق من قوم؟ قال يأتيني به من لا تأخذه سنة ولا نوم. وأتى رجل إلى شقيق البلخي يطلبه، فقالت امرأته قد خرج إلى الجهاد، فقال: وما خلف عليكم؟ فقالت: أرزاق شقيق أو مرزوق؟ فقال: بل مرزوق، فقالت: إن المرزوق خلف علينا الرزاق. يا هذا لا تعد إلينا فتفسد على الله قلوبنا، وسئل آخر فقال: إن الذي شقّ فمي ضامن ... لي الرزق حتّى يتوفّاني وسئل أحمد بن الجلاء عن قوم يدخلون البادية بلا زاد، قال: هم رجال الحق، قيل: فإن هلك أحدهم، قال: الدية على العاقلة. وقال عبد الواحد بن زيد: اجتزت بجبل لكّام «1» فرأيت جارية سوداء عليها جبة صوف، قلت من أين؟ قالت: من عند من لا تخفى عليه خافية، فقلت: إلى أين؟ قالت: إلى من يعلم السرّ وأخفى، فقلت ليس معك زاد، فنظرت إليّ شزرا وقالت: من قصد الله لا يبالي ... بأيّ أرض بها يموت ولم يخامره فسخ عزم ... إن هو أبطأ عليه قوت «2» روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه ذكر عنده أن قوما من اليمن يحجون بلا زاد، فقال: أليس قد قال الله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى «3» . وقيل: عجبا لمن آمن بكتاب الله تعالى ثم رفع بعد سماعه لقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ «4» حاجة إلى غير الله تعالى. تبكيت من يشفق لفقد القوت ويبكي لضر ّ شكا رجل إلى الحسن سوء الحال وجعل يبكي، فقال الحسن: يا هذا كل هذا اهتماما بأمر الدنيا، والله لو كانت الدنيا كلها لعبد فسلبها ما رأيتها أهلا لأن يبكى عليها، قال كشاجم: لا تغد كلّا واجتنب ... أمرا يخاف العبد عاره «5» وإذا عدمت من المآ ... كل كلّها فكل الحجاره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 ذمّ المشتغل برزق مستقبل الزّمان قال أمير المؤمنين رضي الله عنه: لا تجعل همّ يومك لغدك فإن غدك إن كان من أجلك يأتي الله برزقك. وقيل: إذا طالبتك نفسك برزق غد فقل هاتي كفيلا بالغد. وقال شاعر: إن ربّا كان يكفيك الذي ... كان بالأمس سيكفيك غدك وقال آخر: ولا يكن همّكم في يومكم لغد وقال آخر: من كان لم يعط علما في بقاء غد ... ماذا تفكره في رزق بعد غد النهي عن النظر إلى من هو فوقه روي في الخبر: أنظر إلى من هو دونك ولا تنظر إلى من هو فوقك فإنه أجدر أن لا تزدري بنعمة الله. وقال الضحاك: خصلة من وفّق لها وفق لحظة من نظر في دنياه إلى من هو دونه فاستكثر قليل ماله. نهي ذوي عيال عن الاهتمام برزقهم شكا رجل إلى الشبلي عياله، فقال: له إرجع إلى بيتك، ومن لم يكن منهم رزقه على الله فأخرجه من دارك. وقيل لرجل كان كثير الحاشية: لو أخرجت بعضهم لكان يكثر مالك، فهمّ بذلك فرأى ليلة في المنام كان العيال الذين همّ بإخراجهم يدخلون بيته ويخرجون دقيقا يحملونه، فسألهم عن حمل ذلك فقالوا هذا رزقنا نخرجه من دارك إلى من يتكفل بنا، فانتبه وعلم خطأ عزمه فقارّهم وزاد لكل منهم. مدح من لا يدّخر أتى عمر رضي الله عنه بمال فقال: له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لو حبست من هذا المال في بيت المال شيئا لنائبة، فقال: كلمة ما عرض بها إلا شيطان لقنني الله حجتها ووقاني فتنتها، أأعصي الله العام مخافة القابل «1» أعد لهم تقوى الله، قال تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ولتكونن فتنة على من بعدك. قال النابغة: ولست بخابىء لغد طعاما ... حذار غد، لكلّ غد طعام «2» وأخذه الآخر فقال: إن كان عندك رزق اليوم فاطرحن ... عنك الهموم فعند الله رزق غد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 وقال آخر: رزق غد يأتي معه وقال آخر: لأصبرنّ على عسري وميسرتي ... يوما بيوم كما تحيى العصافير نهي من لا عيال له عن الاهتمام بالمعيشة قيل:: لا تهمنّك المعيشة ما كنت وحدك، فإن المرء يعيش بالبقلة كما يعيش بالكسرة، ويروى بالمذقة «1» كما يروى بالضرع «2» . وقيل: قلة العيال أحد اليسارين. طيب عيش من لا مال له ولا عيال وقال أبو حازم: فلا ولد يروعني بسقم ... ولا مال على شرف الثّواء «3» ولا لي صاحب أبكي عليه ... ولا عقب أخلف من ورائي وقال ابن عبد القدوس: الله أحمد شاكرا ... فبلاؤه حسن جميل أصبحت مستورا معا ... في بين أنعمه أجول خلوا من الأحزان خفّ ... الظهر يقنعني القليل حرا فلا منّ لمخلوق ... عليّ ولا سبيل ونفيت بالياس المنى ... عنّي فطاب لي المقيل طيب عيش من عنده قوت يومه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها. وقال سفيان رضي الله عنه: من كان عنده قوت يومه فليس بفقير. وقيل: من أعطي القوت فطلب مالا كمن أعطي السلامة فطلب المال، فإن المال ألم. وقال شاعر: إذا ما أصبنا كلّ يوم مذيقة ... وخمس تميرات صغار جوائز فنحن ملوك النّاس خصبا ونعمة ... ونحن أسود الغيل عند الهزاهز «4» وقال آخر: أراني وقارونا سويين في الغنى ... إذا كان عندي ما يزجى به الوقت «5» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 وقال أبو العتاهية: إذا القوت تأتّى لك وال ... صّحة والأمن وأصبحت أخا حزن ... فلا فارقك الحزن وقال آخر: إذا كان لي قوت بيومي وصحّة ... فلا حال أرجو بعدها أن أنالها ولم أتتبع رتبة إن بلغتها ... أخاف بعزل أو بموت زوالها ذمّ النفس لخوف الفقر والطمع قيل:: أهلك الناس حب الفخر وخوف الفقر. وقال أبو العتاهية: رأيت النفس تحقر ما لديها ... وتطلب كل ممتنع عليها فإن طاوعت حرصك كنت عبدا ... لكلّ دنيئة تدعو إليها «1» تبكيت شيخ يعمر دنياه قال محمود: يا عامر الدنيا على شيبه ... فيك أعاجيب لمن يعجب ما عذر من يعمر بنيانه ... وعمره مستهدم يخرب «2» وقال آخر: عجبت لتغريسي نوى النخل بعدما ... طلعت على الستين أو كدت أفعل وأدركت ملء الأرض ناسا فأصبحوا ... كأهل ديار أدلجوا فتحمّلوا «3» وما الناس إلا رفقة قد تحملت ... وأخرى تقضي حاجها ثم ترحل راحة القنع وعزّته قال الحسن في قوله تعالى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً «4» ، أنها القناعة. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: الزهد في الدنيا يريح البدن والرغبة فيها تكثر الهم والحزن. وقيل لمحمد بن واسع: أوصني، فقال: كن ملكا في الدنيا ملكا في الآخرة. فقال آجله. وكيف لي هذا، قال: ازهد في الدنيا واقنع. وقال بزرجمهر: القنع عزيز في عاجله مثاب في آجله، وقال محمد بن الحنفية رضي الله عنه: ما كرمت على أحد نفسه إلا هانت عليه دنياه. من حصّن شهوته صان قدره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 وقال الموسوي: من كان يرجو نعيما لا زوال له ... فلا تكن هذه الدنيا له شجنا «1» قال وهب: خرج العزّ والغنى يجولان فلقيا القناعة فاستقرا. قال شاعر: بلوغ المنى أن لا تكاثر بالمنى ... ونيل الغنى أن لا تنافس في الغنى ومن كان للدنيا أشدّ تصوّرا ... تجده عن الدنيا أشدّ تصونا «2» وقيل: ثمرة القنع الراحة وثمرة التواضع المحبة. قال الموسوي: وإني لألقى راحتي في تقنع ... وفي طلب الإثراء طول عنائيا «3» وله: حسبي غنى نفسي الباقي فكلّ غنى ... من المغانم والأموال ينتقل وقال ابن نباتة: وإن المرء ما استغنى غنى ... وحاجته إلى الشيء افتقاره غمّ الحريص وتعبه من لم يكن قنعا لم يزل جزعا. الرغبة مفتاح التعب وغاية النصب. وقيل: جعل الله الخير في بيت وجعل مفتاحه الزهد، وجعل الشر في بيت وجعل مفتاحه حب الدنيا. وقال بزرجمهر: الغنى قلة التمنّي والرضا بما يكفي. غمّ الدنيا الحرص عمّا لعلك لا تناله، إياك والحرص فإنه يورد المشارب الكدرة ويسف للمطاعم القذرة. وقال عمر رضي الله عنه: ما كانت الدنيا هم أحد إلا لزم قلبه أربع، فقر لا يدرك غناه وهم لا ينقضي مداه وشغل لا تنفذ أولاه وأمل لا يدرك منتهاه، وقيل: لا تخدم الحرص تعش ذا سرور. واجتاز عبد الله الصفار بسجن فقال لصاحب له: بم حبس من في السجن؟ فقال: لا أدري، فقال: غطى النعيم على قلبك في شيئين التشفّي والشره. ذمّ الحريص وعزّة القنع قال النبي صلّى الله عليه وسلم: حب الدنيا رأس كل خطيئة ومن خطبها تأهب للذل. من قل قنوعه كثر خضوعه. الحر عبد إذا طمع والعبد حر إذا قنع. الطمع طبع من صبر على الخل والبقل لم يستعبد. وقال أبو العتاهية: إذا ما المرء لم يقنع بعيش ... تقنّع بالمذلّة والصّغار «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 بينما فتح الموصلي في أصحابه إذا بصبيين معهما رغيفان، على رغيف أحدهما كامخ وعلى رغيف الآخر عسل، فقال: صاحب الكامخ لصاحب العسل: أطعمني من عسلك، فقال: أطعمك على أن تكون لي كلبا، فقال: أنا كلبك فجعل في فمه خرقة يجرّه بها، فالتفت فتح إلى أصحابه، وقال: لو قنع هذا بكامخه لم يصر كلبا لصاحب العسل. ولقي صاحب سلطان فيلسوفا يلتقط الحشيش ويأكله، فقال له: لو خدمت الملوك لم تحتج إلى أكل الحشيش، فقال: وأنت لو أكلت الحشيش لم تحتج إلى خدمة الملوك. وقيل: يا عجبا من مسكين بقناعته ثري ومن غنيّ بحرصه دنيء. قال عبد الصمد لأبي تمام: لست تنفكّ طالبا لوصال ... من حبيب أو راغبا في نوال «1» أي أخي ما لحرّ وجهك يبقى ... بين ذلّ الهوى وذلّ السّؤال وقال آخر: أذلّ الحرص أعناق الرّجال وقال أبو العتاهية: الحرص داء قد أضرّ ... بمن ترى إلا قليلا طالب الدنيا متحمّل للذلّ قال علي بن الحسين رضي الله عنهما: إنما الدنيا جيفة حولها كلاب فمن أحبها فليصبر على معاشرة الكلاب. ومن ذلك أخذ ابن حجاج: تركت مطالب الدنيا لقوم ... دعتهم للمخازي فاستجابوا وليس الليث من جوع بغاد ... على جيف يطوف بها كلاب «2» ومثله: إنّما الدنيا ومن يص ... بو من النّاس إليها جيفة بين كلاب ... قاتلوا حرصا عليها الحرص فقر حاضر قيل في قول الله تعالى فإن له معيشة ضنكا، إنه الحرص. الحرص فقر واليأس غنى. قد يكثر المال والإنسان مفتقر، وهذا مأخوذ من قول بعضهم وقد سئل: أفلان غني، فقال: لا أدري غناه ولكنه كثير المال. سأل النعمان ضمرة بن ضمرة عن الفقير، فقال: الذي لا تشبع نفسه وإن كان من ذهب حلسه. وحمل رجل إلى إبراهيم بن أدم شيئا، فقال: ألك مال، قال: نعم. قال: أتحب أكثر منه، قال: شديدا، قال: إنك فقير. وأنا لا أقبل الصلة إلا من غني، عنى بذلك ما روي: الغنى غنى النفس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 الحرص عماد كلّ شرّ قال الفضيل: جعل الشر كلّه في بيت وجعل مفتاحه حبّ الدنيا، وجعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا. وقيل: الحرص رأس كل خطيئة. وفي الحديث: إن الصفاة الزلاء التي لا يثبت عليها قدم العلماء الطمع. الحرص يمنع صاحبه التمتّع بما خوّله قيل:: الحريص يشغله طلب ما أمل عن التمتع بما خول، ومن هذا أخذ كشاجم: ومستزيد في طلاب الغنى ... يجمع لحما ما له طابخ ضيّع أموالا بما يرتجي ... والنّار قد يطفئها النافخ «1» الحرص سبب التلف الليث يبعث حتفه كلبه. في كتاب كليلة: من لم يرض بما يكفيه وطلب الفضول، كان كالذباب الذي لا يرضى حتى يطلب الماء السائل من آذان الفيلة فتضربه بآذانها فترديه. وقيل: إن المطامع تنصب الشبكا «2» وقال ابن أبي الأسود: قد دعاه الطمع الكا ... ذب والحرص اللجوج صيد بالحرص وقد يصطا ... د بالحرص الزّنوج قدح الحرص في العقل قيل:: أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع. وقال عمر رضي الله عنه: ما الخمر صرفا أذهب لعقول الرجال من الطمع، ما أعمى النفس الطامعة عن العقبى الفاجعة. وقيل: الحرص والطمع إلهان معبودان. عود حريص على نفسه باللائمة وقال شاعر: ولو أنّي رضيت مقسوم أمري ... لكفاني من الكثير القليل وقال آخر: نسعى وأيسر هذا السعي يكفينا ... لولا تطلبنا ما ليس يعنينا وقال أبو العتاهية: أطعت مطامعي فاستعبدتني ... ولو أني قنعت لكنت حرّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 وقال آخر: رأيت مخيلة فطمعت فيها ... وفي الطمع المذلّة للرّقاب «1» وقال الحارثي: حتّى متى وإلى متى ... طول التّمادي في اللعب لا تستفيق ولا تفيق ولا تمل من الطلب وقال سابق البربري: النفس تكلف بالدنيا وقد علمت ... أن السلامة منها ترك ما فيها وقال أبو جرير السلمي: كلّفني حرصي على الدراهم ... خدمة من لست له بخادم وقال أحمد بن بارس: أجيء به من حلّه وحرامه ... إلى حامد لي فيه أو غير حامد «2» وأشقى به من بينهم بحسابه ... وحظّي من إنفاقه حظّ واحد وأنشد عبد الله الخازن لنفسه: يا نفس يا نفس ثقي ... بالله ربا واتّقي لا تحسبي أنّك إن ... لم تتعبي لم ترزقي واقتصدي واقتصري ... فما أقلّ ما بقي نهي المرء عن جمع ما عساه لا ينفعه قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إن لك في مالك شريكين الحارث والوارث فلا تكن أخس الثلاثة نصيبا. وقال صلّى الله عليه وسلم: إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت أو تصدقت فأمضيت أو لبست فأبليت، وما سوى ذلك فهو للوارث. وقيل لبخيل: لم تحبس المال وتقاسى الشدة؟ فقال: خشية الفقر، فقيل: قد نزل بك الفقر بتضييقك عن نفسك، ومن هنا أخذ المتنبي: ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر وقال العطوي: جمعت مالا ففكر هل جمعت له ... يا جامع المال أياما تفرّقه وقال أبو العتاهية: نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 وقال آخر: نرقع بعض دنيانا ببعض ... ونترك ما نرقعه ونمضي وقال آخر: وما تصنع بالدّنيا ... وظلّ الميل يكفيك «1» التزهيد في الإدخار للوارث والتحسّر على ذلك قال الحسن بن علي رضي الله عنهما: يا بنيّ لا تخلف وراءك شيئا من الدنيا فإنك تخلفه على رجلين: رجل عمل بطاعة الله تعالى فسعد بما شقيت به، ورجل عمل بمعصيته فكنت عونا له على ذلك، وليس أحد بحقيق «2» على أن تؤثره على نفسك أغبن الغبن كدك فيما نفعه لغيرك. وقال أبيّ لأخيه، وكان مثريا بخيلا: يا أخي إن مالك إن لم يكن لك كنت له فلا تبق عليه فإنه لا يبقى عليك، وكلّه قبل أن يأكلك. قال الخليل: لم ير الرجل يجمع المال إلا لثلاثة أنفس، وهم أبغض خلق الله إليه، لزوج امرأته وامرأة ابنه وزوج ابنته. وقيل: المأكول للبدن والموهوب للشكر والمدخر والمحفوظ للعدو. وقيل: لا تكن ممن يفضحه يوم موته ميراثه ويوم حشره ميزانه. وقال جعفر بن يحيى: شر مالك ما لزمك مكسبه وحرمت أجر إنفاقه. وقال أبو الشّيص: يقول الفتى ثمّرت مالي وإنّما ... لوارثه ما ثمّر المال كاسبه يحاسب فيه نفسه بحياته ... ويتركه نهبا لمن لا يحاسبه «3» وقال آخر: بقيت مالك ميراثا لوارثه ... فليت شعري ما أبقى لك المال القوم بعدك في حال تسرهم ... فكيف بعدهم حالت بك الجال ملّوا البكاء فما يبكيك من أحد ... واستحكم القيل في الميراث والقال «4» وقال آخر: هالوا عليه الترب ثم انثنوا ... عنه وخلّوه وأعماله لم ينقض النّوح من داره ... عليه حتّى اقتسموا ماله وقال آخر: إذا كنت جمّاعا لمالك ممسكا ... فأنت عليه خازن وأمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 تؤديه مذموما إلى غير حامد ... فيأكله عفوا وأنت دفين وقال النمر بن تولب: وذي إبل يسعى ويحسبها له ... أخي نصب في سقيها ودؤوب «1» غدت وغدا ربّ سواه يسوقها ... وبدّل أحجارا وجال قليب «2» وقال أبو العتاهية: ومن الحزم أن أكون لنفسي ... قبل موتي فيما ملكت وصيا أوصى رجل أكتب: ترك فلان ما يسؤوه وينوؤه مالا يأكله وارثه ويبقى عليه وزره. وقيل لرجل: أشرف، وكان قد جمع مالا ولم يكن له ولد، فقال: حصلت لغير الولد حسرة الأبد. وكان هشام بن عبد الملك حبس عياض بن مسلم كاتب الوليد بن يزيد وضربه وألبسه المسوح، فلم يزل محبوسا مدة ولاية هشام فلما ثقل هشام، وصار في حد من لا يرجى، أرسل عياض إلى الخزّان أن احفظوا ما في أيديكم، فأفاق هشام وطلب شيئا، فلم يؤت به، فقال: ترانا كنا خزانا لغيرنا. فخرج عياض من الحبس فختم الباب وأمر بهشام فأنزل عن فراشه ومنع أن يكفن من الخزانة، فاستعير قمقم أغلى الماء فيه له، فقال الناس: إن في هذا العبرة لمن اعتبر. قال الموسوي: وما جمعي الأموال إلا غنيمة ... لمن عاش بعدي واتهام لرازقي وفي الحديث: ما أعطى عبد شيئا من عرض الدنيا إلا قيل له خذه وضعفيه حرصا. وقال بعض الحكماء: الدنيا كالماء المالح كلما ازداد الإنسان منه شربا ازداد عطشا. قال محمود الورّاق: أراك يزيدك الإثراء حرصا ... على الدنيا كأنّك لا تموت فهل لك غاية إن صرت يوما ... إليها قلت حسبي قد غنيت وقيل: مريد الدنيا كشارب الخمر قليلها يدعو إلى كثيرها. المستغني بالدنيا عن الدنيا كمطفىء النار بالتبن وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لو أن لابن آدم واديين من ذهب لا بتغى لهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب. وقال أيضا: منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا. وقال بعضهم: غنى النفس ما يكفيك من سدّ حاجة ... فإن زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 وقال ابن نباتة: كلّما يفضل الكاف فضول التحذير من طول الأمل وقرب الأجل كم من مستقبل يوما ليس بمستكمله ومنتظر غدا ليس من أجله، ولو رأيتم الأجل ومروره لأبغضتم الأمل وغروره. وكان الحسن رضي الله عنه إذا نعى له دنيوي، يقول: شقي والله ما بقيت له الدنيا ولا بقي لها، ولو ظهرت الآجال لافتضحت الآمال. من جرى في عنان أمله عثر لا شك في أجل. كم منية جلبت منية. بقاء الأمل وازدياده مدة بقاء الأجل قيل:: الآمال لا تنتهي والحي لا يكتفي. وقيل: المرء ما دام حيا خادم الأمل. وفي الخبر: يهرم ابن آدم ويشب معه إثنان الحرص والأمل. أخذه المتنبي، فقال: وفي الجسم نفس لا تشيب لشيبه ... ولو أنّ ما في الوجه منه حراب «1» يغيّر منّي الدهر ما شاء غيرها ... وأبلغ أقصى العمر وهي كعاب «2» وقيل للمسيح: ما بال المشايخ أحرص على الدنيا من الشبان، فقال: لأنهم ذاقوا من طعم الدنيا ما لم يذقه الشبان. حاجة الحيّ لا تنقطع قال الله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ «3» قيل معناه: يكابد مضايق الدنيا ما دام حيا بعضهم. وحاجة من عاش لا تنقضي، وقال عبدة بن الطبيب: والمرء ساع لأمر ليس يدركه ... والعيش شح وإشفاق وتأميل وأنشد ذلك عمر رضي الله عنه، فأخذ يكرره ويعجب من صحة تقسيمه. وقال آخر: النّفس لا تنقضي مآربها وقال آخر: والمرء تواق إلى ما لم ينل وقال الموصلي: المرء ما عاش لا يزال له ... في نفسه حاجة يطالبها وقال لبيد: إذا المرء أسرى ليله خال أنّه ... قضى عملا والمرء ما عاش عامل «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 قلّة وجود الزّهد سمع بعضهم رجلا يقول: أين الزاهدون في الدنيا الراغبون في الآخرة؟ فقال: إقلب وضع يدك على من شئت، قال: وقلّما تجد الراضين بالقسم وقيل: لم يقسم الله شيئا بين العباد أقل من الزهد واليقين. التخويف من النفس والشهوة والاستعاذة منهما قال ابن عباس رضي الله عنهما: الهوى إله معبود. الخائف من يخاف نفسه أكثر مما يخاف عدوه. قال ابن مسعود رضي الله عنهما: اللهم إني أستعيذك على نفسي عدوّي ولا عقوبة فيها. وقال أعرابي لرجل: كبت الله كل عدو لك إلا نفسك. وقال صوفي: من توهم أن له عدوّا أعدى من نفسه قلّ علمه بنفسه. وقال يحيى بن معاذ رضي الله عنه: من سعادة المرء أن يكون خصمه عاقلا وخصمي لا عقل له، فقيل له ومن خصمك؟ فقال: نفسي، فأيّ عقل لها وهي تبيع الخلود في الجنة بشهوة ساعة. من سامح نفسه فيما تحب أتعب جوارحه وفقد من الراحة حظّه. من كثرت شهوته دامت هفوته. قال شاعر: ولم تتغالب شهوة ومروءة ... فيفترقا إلا وللشهوة الغلب وقال آخر: شهوات الإنسان تكسبه الذ ... لّ وتلقيه في البلاء الطويل الحثّ على قدع «1» النفس قال ابن المقفع: أعظم الجهاد جهاد المرء نفسه، لقول الله تعالى إن النفس لأمارة بالسوء. قال عمر رضي الله عنه: جاهدوا أنفسكم كما تجاهدون أعداءكم. وكان الحجاج يقول على المنبر: إقذعوا هذه النفس فإنها طلعة «2» . وقال الجنيد رحمه الله تعالى: لا تسكن إلى نفسك وإن دامت طاعتها فإن لها خدائع ومتى سكنت إليها فأنت مخدوع. وسئل أنوشروان: أي الأشياء أحق بالإتقاء؟ قال: أعظمها مضرة. قال: فإن جهل قدر المضرة؟ قال: أعظمها من الهوى نصيبا، فالهوى للنفس البهيمة والرأي للنفس الإنسانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 قال بعض الحكماء: قبيح للرجل أن يركب الفرس فيكون الفرس هو الذي يدبر الفارس، وأقبح من ذلك أن تكون هذه النفس التي ألبسناها هي التي تدبرنا لا نحن ندبّرها. قال شاعر: إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال وقال أبو العتاهية: إذا طاوعت نفسك كنت عبدا ... لكلّ دنيئة تدعو إليها وقال عبيد العنبري: يعدّ الفتى أعداءه وصديقه ... ونفس الفتى أعدى عدوّ يحاوله وقال آخر: إذا المرء لم يترك طعاما يحبّه ... ولم ينه قلبا غاويا حيث يمّما «1» قضى وطرا منه وغادر سبّة ... إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما وقال آخر: وأنت إذا أعطيت فرجك سؤله ... وبطنك نالا منتهى الذمّ أجمعا وقد مضى بعض ذلك في موضع آخر. النفس تنبسط إذا بسطت وتنقدع إذا قدعت قال منصور بن عمار: عود نفسك الخير فإن النفس عروف ألوف، واعتبر أنك إذا أصبحت مفطرا طمعت في الغداء وإذا أصبحت صائما يئست منه. قال أبو ذؤيب: والنفس راغبة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ إلى قليل تقنع وقال بعضهم: لا تحدث نفسك بالفقر وطول البقاء ولكن حدثها بالكفاف والفناء، قال أبو العتاهية: إقنع لنفسك ترضها ... واملك هواك وأنت حرّ وقال آخر: وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ... فإن طمعت تاقت وإلا تسلّت «2» مدح قادع نفسه عن الشّهوات قد مدح الله قادع نفسه عن الشهوات، فقال: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى «1» قال أبو حازم: ما احتجت إلى شيء مما يستقرض إلا استقرضته من نفسي. وقال ملك لعابد ما منعك أن تخدمني وأنت عبدي، فقال: لو صدقت نفسك لعلمت أنك عبد عبدي؟ فقال: كيف؟ قال: لأني ملكت الشهوة فهي عبدي وقد ملكتك فأنت عبدها فقال: صدقت. قال أشجع: تجافى عن الدّنيا فقد فتقت له ... خواصرها واستقبلته أمورها وقال آخر: وخلّى عن الدّنيا وقد فرشت له ... محفلة أخلافها لم تصرّم مدح متظلف «2» عن مال غيره متبرع بماله وصف أعرابي رجلا، فقال: هو بماله متبرّع وعن مال غيره متورّع. وقال شاعر: أبو مالك قاصر فقره ... على نفسه ومشيع غناه «3» وقال آخر: وإني لعفّ الفقر مشترك الغنى وقال إبراهيم بن العباس: يعرف الأبعد إن أثرى ولا ... يعرف الأدنى إذا ما افتقرا وقال آخر: فتى إن هو استغنى تخرّق في الغنى ... وإن قلّ مالا لم يضع سنّة الفقر «4» وقال ابن أبي ليلى لابن شبرمة: أما ترى هذا الحائك لا نفتي في مسألة إلا خالفنا فيها، يعني أبا حنيفة رضي الله عنه، فقال: ابن شبرمة: لا أدري حياكته ولكني أعلم أن الدنيا غدت إليه فهرب منها وهربت منّا فطلبناها. ذمّ إظهار الفقر والنهي عنه قيل: أشدّ الأشياء مؤنة الفاقة وأشدّ من ذلك الاستكانة إلى من لا يجبرها. وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: رضي بالذل من كشف ضرّه. وقال حكيم: استتر من الشامتين بحسن العزاء عند النوائب. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: من هداه الله للإسلام وعلمه القرآن ثم شكا الفاقة كتب الفقر بين عينيه إلى يوم القيامة، ثم تلا قوله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 مِمَّا يَجْمَعُونَ «1» . قال بزرجمهر: لم أر ظهيرا على تقلب الدول كالصبر ولا مذلا للحاسد كالتجمّل. وسئل متى يفحش زوال النعمة؟ فقال: إذا زال معها حسن التجمّل. وقال زيد الفوارس: ألم تعلمي أني إذا الدهر مسّني ... بنائبة زلّت ولم أتترس «2» مدح صابر على فقره صائن لنفسه قال كثيّر: إذا قلّ مالي زاد عرضي كرامة ... عليّ ولم أتبع دقاق المطامع قال خليفة بن مر: إنا إذا حطمة حتّت لنا ورقا ... نكابد العيش حتّى ينبت الورق «3» وقال آخر: وكم أزمة للدهر ألقت جرانها ... عليّ فلم تهتك مذلّتها ستري «4» وقال ابن هرمة: وأصرف عن بعض المياه مطيّتي ... إذا أعجبت بعض الرجال المشارع «5» المتسلّي عمّا يذهب له من المال أصيب أعرابي بزرع لم يكن له غيره، وكان بقفر خلاء، فقال: يا رب اصنع ما شئت فرزقي عليك. وقيل: إذا سلمت النفس فالمال هدر. ودخل على علي بن الجهم صديق له، وقد أخذ كلّ ماله وهو يضحك، فقال له في ذلك، فقال: لأن يزول مالي وأبقى أحب إليّ من أن أزول ويبقى مالي. قال شاعر: نعمة كانت على قو ... م زمانا ثم زالت هكذا النعمة والإن ... سان مذ كان وكانت تسلب النعمة أو يخ ... رج منها إن أقامت البيت الأخير كالخبر المتقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 عفّ الفقر مشترك الغنى قال جرير: وإني لعفّ الفقر مشترك الغنى ... سريع إذا لم أرض داري انتقاليا وقال عمرو بن سراقة: ولست بولّاج البيوت لفاقة ... ولكن إذا استغنيت عنها ولجتها «1» وقال ابن أبي فنن: ليس لي في العلا شريك ولا الفق ... ر، ولي في الثّراء ألف شريك ولهذا باب في الأخوانيات. مدح صابر على الجوع قيل لبعضهم: إنك قد أطلت جوعك فكيف ترى ذلك، فقال: نعم الغريم الجوع كلما أعطى شيئا رضي. وقال الخبزارزي: يطوي إذا ما الشحّ أبهم فعله ... بطنا من الزاد الخبيث خميصا «2» وقال آخر: إذا مطعمي كان ذا غصّة ... غسلت يدي منه قبل اكتفائي وقال آخر: لأكلة بجريش الملح تأكله ... ألذّ من ثمرة تحشى بزنبور «3» وذكر بعض ذلك في فصل الأكل. فقير عرض عليه مال فتزهّد فيه لما رجع الرشيد عن الحج كان قد نذر أن يتصدق بألف دينار على أحق من يجده، فدفع يوما ألف دينار إلى بعض ثقاته وأمره أن يطلب فقيرا مستحقا فيعطيه، فأخذ يطوف في الأسواق فإذا رأى فقيرا مستحقا للإعطاء، قال: لعلّي: أجد أفقر منه، فانتهى بالعشي إلى عريان محلوق الرأس في خربة، فقال في نفسه: لا أجد أفقر من هذا. فقال: يا فتى خذ هذا المال واستغن به، فقال: لا حاجة لي فيه، قال: أحب أن تأخذه، قال: إن كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 ولا بد فثم حجّام حلق رأسي ولم يكن معي شيء فادفعه إليه، قال: فقصدت الحجام فامتنع من أخذه، فقلت: هو ألف دينار، فقال: ما حلقت رأسه إلا للثواب فلا آخذ عليه أجرة. قال: فعدت وما وجدت أكرم منهما وأهون منّي، فأخبرت الرشيد بأمرهما فبعثني في طلبهما فكأن الأرض ابتعلتهما ولم أظفر بهما. ولما حجّ الرشيد دخل على الفضيل فوعظه بما وعظه، وأراد الخروج، فقال: يا فضيل هل عليك دين؟ فقال: نعم، دين ربي لو يحاسبني عليه. فالويل لي إن حاسبني عليه، والويل لي إن ناقشني، فقال الرشيد: إني أسألك عن دين العباد، فقال: عندنا بحمد الله خير كثير لا نحتاج معه إلى ما في أيدي الناس، قال: هذه ألف دينار فاستعن بها، فقال: يا حسن الوجه أدلك على النجاة وتكافئني بالهلاك، اسأل الله التوفيق فلما خرج عاتبته بنيّته، فقالت: لو أخذتها فاستعنا بها، فقال: إن مثلي ومثلكم مثل قوم كان لهم بعير يكدونه ويأكلون من كسبه فلما كبر وسقط عن العمل نحروه فأكلوه. ومر الإسكندر ببلد كان ملكه سبعة ملوك من صلب واحد ففنوا، فقال لأهله: هل بقي من نسل الأملاك السبعة أحد؟ قالوا: نعم، رجل يكون في المقابر فقصده، وقال: ما دعاك إلى ملازمة المقابر؟ فقال: أردت أن أعزل عظام الملوك من عظام عبيدهم فوجدت عظامهم سواء. قال: فهل لك أن تتبعني فأحيي لك شرف آبائك إن كان لك همّة، قال: إن همتي عظيمة إن كانت بغيتي عندك، قال: وما بغيتك؟ قال: حياة لا موت فيها وشباب لا هرم معه، وغنى لا فقر بعده، وسرور لا يغيره مكروه، فقال: لا أقدر على ذلك، فقال: إمض لشأنك ودعني أطلب بغيتي ممّن عنده ذلك. قال الإسكندر: هذا أحكم من رأيت. وقف أعرابي على محمد بن معمر، وكان محمد جوادا، فسأله، فخلع خاتمه ودفعه إليه، فلما ولّى قال: يا أعرابي لا تخدعنّ عن هذا الفصّ فإن شراءه على مائة دينار، فمضغ الأعرابي الخاتم وقلع فصه، وقال دونكه فالفضة تكفيني أياما، فقال: هذا والله أجود مني. التّحذير من مخالطة الأغنياء قال أبو الدرداء عن النبي عليه الصلاة والسلام: إياكم ومجالسة الأموات، قالوا ومن الأموات؟ قال: الأغنياء وقال الثوري: إياكم وجيران الأغنياء وقراء الأسواق وعلماء الأمراء. وقال خباب في قول الله تعالى ولا تعد عيناك عنهم، نزلت في الفقراء. وقال عمر رضي الله عنه: لا تدخلوا بيوت الأغنياء فإنها مسخطة للرزق. وقال سوار لأولاده: لا تعاشروا المهالبة فإنكم إذا رأيتم نعمتهم تسخطتم ما قسم لكم. وقيل: لا تصحب غنيا فإنك إن ساويته في الإنفاق أضرّ بك وإن تفضّل عليك استذلّك. ووقف بعض المجانين على قوم لهم بعض يسر، فقال: سلامة الدّين والدّنيا فراقكم ... وحبّكم آفة الدّنيا مع الدين وجاء أبو محمد السمرقندي إلى الفضيل، ومعه أولاد البرامكة وعليهم قمص لها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 جربانات عراض، فسألوه أن يحدثهم فامتنع، فقام مغضبا، فقال الفضيل: ردّوه فردّوه، فقال: بلغنا أن عيسى صلوات الله عليه قال: تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي وتقربوا إليه بالتباعد عنهم والتمسوا رضاه بسخطهم، فقيل: يا روح الله فمن نجالس؟ فقال: من تذكركم الله رؤيته ويزيد في علمكم منطقه وترغبكم في الآخرة مجالسته، قم فقد حدثتك. متزهّد اضطرارا لا اختيارا قيل لرجل: أزهدت؟ فقال: زهدي اضطراري. قال الموسوي: زهدت وزهدي في الحياة لعلّة ... وحجّة من لا يبلغ الأمل الزهد وله: قالوا أتقنع بالدّون الخسيس وما ... قنعت بالدّون بل قنّعت بالدّون «1» أخي من باع دنياه وزخرفها ... بصوفة كان عندي غير مغبون «2» وقال ابن الرومي: أنا الرجل المدعو عاشق فقره ... إذا لم تكارمني صروف زماني «3» وقال بعضهم: إذا المرء لم يقدر له ما يريده ... تحمّل ما يقضى له شاء أم أبى وهذا نحو: إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون. اعتبار ديانة المرء بزهده في المال وحرصه عليه روي في الخبر: لا تنظروا إلى صوم الرجل وصلاته وانظروا إلى طمعه إذا أشرف. وفي عكس ذلك، قيل لعمر بن عبد العزيز: فلان عفيف عن الدراهم، فقال: الشيطان أعف منه لا يمس قط درهما ولا دينارا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 الحدّ التاسع في الاستعطاء والعطاء (1) فمّما جاء في قصد أولي الآمال المأمول مقصود. شكا الفضل بن سهل إلى الزبير بن بكار كثرة من يقتفي بابه للحوائج، فقال: لا عليك، إن أحببت أن لا يلتقي ببابك إثنان فاعتزل ما أنت فيه من عمل السلطان، فإن نعم الله جاءت بهم إليك، ثم أنشده: من لم يواس النّاس من فضله ... عرّض للإدبار إقباله «1» فقال: صدقت وبررت. وسأل رجل عن فضل بعض الأكابر، فقال: أما ترى إزدحام الناس على بابه وكثرة قصاده وطلابه. قال أشجع: على باب أبي منصور ... علامات من البذل جماعات وحسب البا ... ب فضلا كثرة الأهل وقال بعضهم: يزدحم النّاس على بابه ... والمنهل العذب كثير الزّحام الممدوح بكثرة القصّاد قال زهير: قد جعل المبتغون الخير في هرم ... والسائلون إلى أبوابه طرقا وقال حسّان: يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السّواد المقبل «2» وقال أعرابي: قصدت فلانا فوجدت بابه كعرصة المحشر «3» يهوي إليه كل معشر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 فداره مجمع العفاة ومربع المكرمات حاضرة الجود والحسب. وقال وهب الهمداني: فتى داره معمورة بعفاته ... ومجلسه بالمكرمات منجد «1» وقال الجاحظ: كان العلماء يستجيدون بيت الأعشى: لعمري لقد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار في يفاع تحرق «2» تشبّ لمقرورين يصطليانها ... وبات على النّار النّدى والمحلّق «3» حتى قال: الحطيئة: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد «4» فحينئذ فضلوا هذا وصار لحسنه ناسخا لبيت الأعشى. من دعا العفاة إليه كثرة الثناء عليه دخل رجل على أبان بن الوليد، فقال: أصلح الله الأمير أحفيت إليك الركاب وقطعت العقاب وأخلقت الثياب، فقال أبان: ما دعاك إلى ذلك، أقرابة أم جوار أم عشرة متقدمة أم وصلة متأكدة، فقال: لم يكن من ذلك شيء، ولكني سمعت الناس ينشدون بيتا قلته فيك فعلمت فيك خيرا، وهو: وما شيم لي برق وإن كان نازحا ... فيخلف إذ بعض البوارق خلّب «5» فأمر له بجمال ومال، ولما قصد ذو الرمّة بلال بن أبي بردة وأنشده: سمعت النّاس ينتجعون غيثا ... فقلت لصيدح انتجعي بلالا «6» وصيدح اسم ناقته. قال: يا غلام أعلفها قتا ونوى. وقال بشار: دعاني إلى عمر جوده ... وقول العشيرة بحر خضمّ ولولا الذي خبّروا لم يكن ... لأحمد ريحانه قبل شمّ وقال الموسوي: دعاني إليك العزّ حتّى أجبته ... ومن طلبته جمّة الماء أوردا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 قصد من يتلقّى زائره النجاح قال بعضهم: أتينك لم يزجرن دونك سانحا ... ولا بارحا إلا وهنّ سعود «1» وقال المتنبيّ: ولو سرنا إليه في طريق ... من النيران لم نخف احتراقا وقال القاضي علي بن عبد العزيز: كلّ الزمان إذا أفضى تصرّفه ... إليك وقت نزول الشمس في الحمل «2» وقال ابن أبي طاهر: بلغت مرادي واطمأنّت بي النّوى ... وقال لي الورّاد أعشبت فانزل وقال أعرابي: كلّ أيامه توالت علينا ... بسعود بلغننا ما نوينا لم يكن دهره كما قيل في الأمث ... ال يوم لنا ويوم علينا من أطمع مخلفيه في نوال من يعتفيه قال أبو عثمان المازني: أشخصني الواثق، فلما دخلت عليه سألني عن اسمي، فقلت: بكر بن محمد، فقال: هل لك من ولد، قلت: نعم بنيّة قال: فما قالت لك حين فارقتها، قال: أنشدتني بيت الأعشى: فيا أبتا لا ترم عندنا ... فإنا بخير إذا لم ترم «3» أرانا إذا أضمرتك البلا ... د نجفى ويقطع منّا الرحم «4» قال فبم أجبتها، قلت: ببيت جرير: ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنّجاح فقال: أعطوه ألف دينار. وقال أبو نواس: تقول التي من بيتها خفّ مركبي ... عزيز علينا أن نراك تسير أما دون مصر للفتى متّطلب ... بلى إن أسباب الغنى لكثير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 ذريني أكثر حاسديك برحلة ... إلى بلد فيه الخصيب أمير «1» فتى يشتري حسن الثناء بماله ... ويعلم أن الدائرات تدور «2» فما جازه جود ولا حلّ دونه ... ولكن يسير الجود حيث يسير من يهين أو يكرم مركوبه إذا بلغ مطلوبه وقال الشمّاخ: إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فأشرقي بدم الوتين «3» قد استقبح الناس هذا المعنى، وقالوا: بئسما جازاها. وهذا مثل ما قال النبي صلّى الله عليه وسلم للمرأة التي ركبت بعير النبي صلّى الله عليه وسلم وتخلصت به، فقالت: يا رسول الله إني نذرت إن خلصني الله به لأنحرنّه، فقال صلّى الله عليه وسلم: بئسما جازيته لا نذر في مال غيرك. وقال أبو نواس معارضا للشمّاخ: أقول لناقتي إذ بلّغتني ... لقد أصبحت عندي بالثمين فلم أجعلك للغربان نحلا ... ولا قلت أشرقي بدم الوتين وقال آخر: وإذا المطيّ بنا بلغن محمّدا ... فظهورهنّ على الرجال حرام قرّبننا من خير من وطىء الثّرى ... فلها علينا حرمة وذمام «4» من ذكر أنه تحمّل تعبا في قصد معتفاه دخل رجل على معاوية، فقال: هززت ذوائب الرحال إليك إذ لم أجد معولا إلّا عليك، أمتطي إليك بعد النهار واسم المجاهل بالآثار، يقودني نحوك رجاء ويسوقني إليك بلاء، والنفس مستبطئة والاجتهاد عاذر إذا بلغتك فقط، فقال: إحطط رحالك وقوّ آمالك وكن على ثقة بالإنصاف والإسعاف. وقدم وفد بني تميم على عبد الملك وفيهم عمرو بن عتبة، فقال: يا أمير المؤمنين نحن من نعرف وحقّنا لا ينكر، وجئناك من بعيد ونمت بقريب وما تعطينا من خير فنحن أهله، وما ترى من جميل فأنت أصله، فضحك عبد الملك، وقال: يا أهل الشأم هؤلاء قومي وهذا كلامهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 الرّاغب عن كلّ نعمة دون بلوغ مجتداه وقال طريح: قصدتك عاريا من كلّ منّ ... لكل الخلق في كلّ المعاني فلو دنياي قابلني غناها ... بغيرك ما ثنيت لها عناني «1» وقال سعد بن ضمضم: أظل أدعو باسمه ودونه ... قوم كرام رغبة تركتهم تخيّروا فاخترته عليهم ... وما بهم بأس ولا ذممتهم وقال ابن الرومي: جعلت على ملوك الأرض طرّا ... محار مطيّتي وعليه حبسي «2» وقال المتنبيّ: قواصد كافور توارك غيره ... ومن ورد البحر استقلّ السواقيا «3» فجاءت بنا إنسان عين زمانه ... وخلّت بياضا خلفها ومآقيا فتأتّى له أجود معنى بقوله إنسان عين زمانه لجودة المعنى، ثم لموافقة كون ممدوحه أسود، وله يخاطب ناقته: أمّي أبا الفضل المبرّ أليّتي ... لأيمّمنّ أجلّ بحر جوهرا «4» تركت دخان الرمث في أوطانها ... طلبا لقوم يوقدون العنبرا «5» ومثله للأسدي: إليك أمير المؤمنين رحلتها ... من الطلح تبغي منبت الزرجون «6» وقال الموسوي: أتيت وفي كفّي خطام نجيبة ... مدفّعة في كلّ قرب إلى بعد «7» فما خدعتها روضة عن مسيرها ... ولا لمع معسول تطلع من ورد «8» إذا لحظت ماء جذبت زمامها ... وقلت ارغبي بالقل عن مورد ثمد «9» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 وقال آخر: كرام نقصت النّاس لمّا بلغتهم ... كأنّهم ما جفّ من زاد قادم قصد من طاب في فنائه الزمان والحياة وقال ابن الرومي: أريد مكانا من كريم يصونني ... وإلّا فلي رزق بكلّ مكان وقال المتنبيّ: وما رغبتي في عسجد أستفيده ... ولكنّها في مفخر أستجدّه «1» وله: إذا نلت منك الجاه فالمال هيّن ... وكلّ الذي فوق التّراب تراب «2» من قصد سلطانا سائلا لقومه أتى عبد العزيز بن زرارة باب معاوية، فلما أذن له وقف بين يديه، فقال: يا أمير المؤمنين دخلت إليك بالأمل واحتملت جفوتك بالصبر، ورأيت قوما أدناهم منك الحظ وآخرين باعدهم منك الحرمان، فليس للمقرب أن يأمن ولا للمبعد أن ييأس. وقال زياد بن أبيه: أشخصت قوما إليك الرغبة وأعقدت آخرين عنك المعاذير، وقد جعل الله في سعة فضلك ما يجير المتخلف ويكافىء الشاخص، والخير دليل على أهله، والخصب منتجع في مظانّه. وقيل: أصاب القوم مجاعة في عهد هشام فدخل إليه وجوه الناس من الأحياء، وفي جملتهم درواس بن حبيب العجلي وعليه جبة صوف مشتمل عليها بشملة قد اشتمل بها الصماء، فنظر هشام إلى حاجبه نظر لائم في دخول درواس إليه، وقال: أيدخل عليّ كل من أراد الدخول. وكان درواس مفوّها فعلم أنه عناه، فقال درواس: يا أمير المؤمنين ما أخلّ بك دخولي عليك ولقد شرفني ورفع من قدري تمكني من مجلسك، وقد رأيت الناس دخلوا لأمر أعجموا عنه، فإن أذنت في الكلام تكلّمت، فقال هشام: لله أبوك تكلّم، فما أرى صاحب القوم غيرك، فقال: يا أمير المؤمنين تتابعت علينا سنون ثلاث، أما الأولى فأذابت الشحم، وأما الثانية فأكلت اللحم، وأما الثالثة فانتقت المخ ومصت العظم، ولله في أيديكم أموال، فإن تكن لله فأعطفوا بها على عباد الله، وإن تكن لهم فعلام تحبسونها عنهم، وإن تكن لكم فتصدقوا بها عليهم فإن الله يجزي المتصدقين ولا يضيع أجر المحسنين. فقال هشام: لله أبوك ما تركت واحدة من ثلاث، وأمر بمائة ألف دينار فقسمت في الناس، وأمر لدرواس بمائة ألف درهم، فقال: يا أمير المؤمنين ألكل رجل من المسلمين مثلها، قال: لا ولا يقوم بذلك بيت المال، فقال: لا حاجة لي فيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 يبعث على ذمّك، فلما عاد إلى داره أمر بذلك فبعث إليه فقسم تسعين ألف درهم في تسعة من إحياء العرب، وحبس عشرة آلاف درهم فبلغ ذلك هشاما، فقال: لله دره إن صنيعة مثله تبعث على الاصطناع. من رغب في الإيناس والبسط منه قال العتابي: دخلت على المأمون فسلمت فاجلسني، وقال لي: تكلّم. فقلت: يا أمير المؤمنين الإيناس قبل الإبساس، قال: إن ذلك من أقل ما نوحيه قال: ثم أقبل على أحمد بن هشام يحدّثه فلما اطمأن بي المجلس ذهبت لأتكلم، فقال المأمون: إن أحب شيء إلينا اليوم أن نبسطك بالحديث النادر والكلام الطيّب والعشرة الرضية، فو الله لقد أعطاني من نفسه ما لم يعط أحد ممن شاهدت وعاشرت. من قصد سلطانا فحثّه على اصطناعه وقال ابن الرومي: زني القوم حتّى تعرفي عند وزنهم ... إذا رفع الميزان كيف أميل وقال جرير، وهو أبياته الرائقة وأشعاره الجيدة: إذا سرّكم أن تمسحوا وجه سابق ... جواد فمدّوا وابسطوا من عنانيا «1» ألا لا تخافا نبوتي في ملمّة ... وخافا المنايا أن تفوتكما بيا «2» وقال المتنبيّ: فكن في اصطناعي محسنا ومجرّبا ... يبن لك تقريب الجواد وشدّه «3» إذا كنت في شكّ من السيف فابله ... فإما تنفيه وإما تعدّه «4» وما الصّارم الهنديّ إلا كغيره ... إذا لم يفارقه النّجاد وغمده «5» من عاتب صاحبه في قلّة معرفته بفضله وقال ابن الرومي: قوّمتني غير قيمتي غلطا ... شاور ذوي الرأي تعرف القيّما وقال ابن نباتة: أشدد يديك بي الغدا ... ة فإنّني علق المضنّه «6» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 وقال آخر: ليس له ناقد فينقده ... وآفة التبر ضعف منتقده «1» وقال آخر: ومثلك ليس يجهل حقّ مثلي ... ومثلي لا تضيعه الكرام (2) وممّا جاء في السؤال الإستغناء بالله عن الناس قال أعرابي: اطلب الرزق من حيث كفل لك فالمتكفل به أمين، ولا تطلبه من طالب مثلك لا ضمان لك عليه. وشكا رجل ضيقا، فقال له الحسن: شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك. وقال هشام لرجل في بيت الله: سلني، فقال: لا أسأل في بيت الله غيره. وقال شاعر: لا تسل النّاس وسل من أنت له وسأل بعض الزهّاد صديقا له شيئا لشدة الأمر به، فأعطاه صديقه وقال: يا أخي في ثقتك بحسن عائدة الله عليهم كفاية لهم، فقال: لا حاجة لي بالمال فقد استغنيت بهذا المآل. التّحذير من سؤال الناس قال النبي صلّى الله عليه وسلم: المسألة كدوح أو خدوش أو خموش في وجه صاحبها. وقال صلّى الله عليه وسلم: إن أحدكم يخرج بمسألة من عندي متأبطا وما هي إلا النار، فقال عمر رضي الله عنه: ولم تعطيه وهي له نار، فقال: يأبون، إلا أن يسألوا ويأبى الله لي البخل. وقيل: إياك وطلب ما في أيدي الناس فإنه فقر حاضر. قال ابن المقفع: السخاء سخاآن سخاؤك بما في يدك وسخاؤك بما في يد غيرك وهو أمحض في الكرم وأبعد في الدنس، ومن جمعهما فقد استكمل الفضل. وقيل: من لم يستوحش من ذلّ السؤال لم يأنف من ذلّ الردّ. وقيل: جلّ في عينك من استغنى عنك، قال: متى ترغب إلى النّاس ... تكن للنّاس مملوكا وقال آخر: إنّ الغنى عن لئام النّاس مكرمة ... وعن كرامهم أدنى إلى الكرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 ولعابدة المهلبية: لا تسألنّ المرء ذات يديه ... فيحقّرنّك من رغبت إليه المرء ما لم ترزه لك مكرم ... فإذا رزأت المرء هنت عليه «1» وقال آخر: استغن ما استطعت عن أخيك ولو ... أعشب كلّ البلاد عن مطره «2» وقيل: إياك والمسألة فإنها آخر كسب المرء. قال أحدهم: وذقت مرارة الأشياء جميعا ... فما طعم أمرّ من السؤال وقال آخر: ذلّ السؤال وثقل الشّكر ما اجتمعا ... إلا أضرّا بماء الوجه والبدن وقال المخزومي: ما أبعد المكرمات عن رجل ... على نوال الرّجال يتّكل وقال آخر: إن السّؤال يريد وجه حديد ومما يدخل في هذا الباب قول النبي صلّى الله عليه وسلم: ما أتاك من هذا المال وأنت غير مشرف عليه ولا سائل فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك. النّهي عن سؤال من تعوده . قال شاعر: فإن كنت لا بدّ مستطعما ... فمن غير من كان يستطعم «3» وقال آخر: ولا تطلبنّ المال ممّن أفاده ... حديثا ومن لم يورث المال وارثه «4» وقيل: إدخالك اليد في فم التنين أسهل من سؤال دنيء تعوّد المسألة. ولعابدة المهلبية: إذا ما طلبت نوال الفتى ... وقد نالك الدهر من شدّه فلا تسألنّ فتى كالحا ... أصاب الرياسة من كدّه «5» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 عذر من سأل سائلا قال ابن بابك: إنّي إذا شئت أن أكدي ... حوشيت كديت من مكد «1» تشفعت حرمّة التّساوي ... وكان ردّي من التعدّي أصبحت لا عند لي ولكن ... ما عند مولاي فهو عندي وقال آخر: شاعر يطلب رزقا ... من أخي شعر مكد جعل الريح إلى الر ... يح فتى يطلب رفدي «2» إنّ ذا عندي بديع ... خاض فيه النّاس بعدي وقال أبو تمّام: ومفحم يأخذ من شاعر «3» التّحذير من سؤال اللئام قال أعرابي: أشدّ الأشياء مؤنة إخفاء الفاقة وأشدّ من ذلك السؤال إلى من لا يجبرها. قال أعرابي لصاحبه: نهيتك عن مسألة قوم أرزاقهم في ألسنة الموازين ورؤوس المكاييل، فمن جعل صرما له من الدوانيق فعطيّته لا تكون فوق القراريط. وقال آخر: نهيتك أن تريق ماء وجهك بسؤال من لا ماء في وجهه. لا شيء أوجع للأحرار من الاضطرار إلى مسألة الأشرار. وقيل: لحيي المدينية: ما الداء العياء؟ فقالت: حاجة الكريم إلى لئيم لا يجدي عليه. وقال خالد بن صفوان: أشد من فوت الحاجة طلبها إلى غير أهلها. وقال الأعشى: حسب الكريم مذلّة ونقيصة ... أن لا يزال إلى لئيم يرغب وقال آخر: وإني لأرثي للكريم إذا غدا ... على حاجة عند اللئيم يطالبه وقال البديهي: ومن الذلّ والبلاء إذا اضط ... رّ كريم إلى سؤال لئيم وقال آخر: ومن طلب الحاجات في دون أهلها ... يجد دونها بابا من اللؤم مغلقا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 وقيل: إذا سألت بخيلا مؤنة أدركت الحرمان والعداوة. تحمّل المكاره تفاديا من السّؤال قال أبو عمرو بن العلاء اجتزت بكناس ينشد: إذا أنت لم تعرف لنفسك قدرها ... هوانا لها كانت على النّاس أهونا فلا تسكننّ الدهر مسكن ذلّة ... تعدّ مسيئا فيه إن كنت محسنا فقلت: سبحان الله أتنشد مثل هذا وتتعاطى مثل هذا الفعل، فقال: إن إنشادي لمثله أصارني إلى هذا فرارا من ذل السؤال. وقال الأصمعي: مررت بكناس وهو ينشد: جنّباني ديار سعدى وليلى ... ليس مثلي يحلّ دار الهوان فقلت: وأي هوان فوق هذا، فقال: مه، ذلّ سؤال مثلك. إن كنس ألف كنيف أهون من وقوف على مثلك. وقيل لرجل كان يعمل في المعادن: ما أشد عملك. فقال: استخراج الماء من الجبال أهون من إخراجه من أيدي الأنذال. ذمّ قوم يجب تجنّب سؤالهم قال سلم: لا تطلب حاجتك إلى كذّاب فلعل حاجتك قريبة فيبعدها أو بعيدة فيقربها؛ ولا إلى رجل له إلى صاحبك حاجة، فإنه يجعل حاجتك وقاية لحاجته، ولا إلى أحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك. وقال أبو عبّاس الكاتب: لا تنزل حوائجك مجيد اللسان ولا بالمتسرّع إلى الضمان، فالعجز مقصور على المتسرع ومن وثق بجودة لسانه ظنّ أن فضل بيانه مما ينوب عن إفضاله. وقيل: إياك ومسألة الموقح الممرن وذي اللسان البيّن، وعليك بالحصر البكي وبذي الحياء الرضي، فمثقال من شدة الحياء والعي أنفع في الحاجة من قنطار من سليط. وعليك بالشمم الذي إذا عجز أيأس وإن قدر أطمع. وقال عمر رضي الله عنه: لا تستعن على حاجتك إلا بمن يحب نجاحها لك. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تسألن حاجة بالليل ولا تسألن أعمى، فإن الحياء في العينين. الحثّ على الإجمال في الطّلب قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: لم يعد المرء ما قسم له فأجملوا في الطلب، فإن في القناعة سعة وكفا عن كلفة لا تحل. وقيل: اطلبوا الحاجات بعزّة الأنفس فإنّ بيد الله قضاءها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 التّزهيد في نوال يتوصّل إليه بسؤال قيل: السؤال وإن قلّ ثمن لكل نوال وإن جلّ. قال شاعر: ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله ... عوضا وإن نال الغنى بسؤال «1» وإذا السّؤال مع النّوال قرنته ... رجح السّؤال وخفّ كلّ نوال التّزهيد في إحسان يتوصّل إليه بهوان وقال ابن الرومي: إذا أنا نالتني فواضل مفضل ... فأهلا بها ما لم تكن بهوان فأما إذا كان الهوان قرينها ... فبعدا لها ما ينقضي لأوان ومن ذا الذي يلتذّ شهدا بعلقم ... أبت لهواتي ذاك والشفتان أريد مكانا من كريم يصونني ... وإلّا فلي رزق بكل مكان وكان يجري على أبي العيناء رزق فتأخّر عنه فتقاضاه مرارا ثم تركه، وقال: لا حاجة لي فيه فهو رقّ لا رزق، وبلاء لا عطاء ومحنة لا منحة. ذمّ الإلحاح قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إن الله يبغض من عباده البذي الفاحش السائل الملحف. وفي كتاب الهند: لا يكثرن الرجل على أخيه المسألة، فإن العجل إذا أفرط من مص أمه نطحته ونحّته. وقيل: كل إلحاف شين إلا مسألة رب العالمين. ودخل علوي على أبي السائب فنظر إلى إبريق، فقال: هبه لي، فقال: لست أستغني عنه، فقال: هب لي هذا الآخر فقال: هو من جهاز أمي أتبرك به، فقال: هب لي تلك المنارة، فقال أبو السائب: صلى الله على المسيح حيث لم يترك على أمته ولدا يؤذيهم. جلس بعض أصحاب الحديث إلى رجل فقال: تفضّل بقلم، فناوله، قال: وورقة فأعطاه، فقال: قدّم لي المحبرة فأولاه، فقال: يا فتى أتنشط للتزوج فإن أمي فارغة. الحثّ على ردّ الملحّ من ثقل عليك بنفسه وعمل بسؤاله فولّه إذنا صمّاء وعينا عمياء. من ألحّ في السؤال رزق الحرمان. قال بشّار: وليس للملحف مثل الردّ ووقّع بعض الكبار في قصة ملحّ مكثر للسؤال: دع هذا الضرع يدرّ لغيرك كما درّ لك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 إعطاء الملحّ للتبرّم به قال أعرابي لمعاوية وقد أضجره: قد تحلب الناقة العلبة وهي ضجور، فقال معاوية: وقد تكسر الإناء وتدق أنف حالبها، فقال الأعرابي: وقد تثني أهلها رقبتها فتدرّ لبنها، فضحك وأعطاه. استماح أعرابي خالد بن عبد الله فألحف وأبرم، فقال خالد: أعطوه بدرة يدخلها في حر أمه، فقال: وأخرى لإستها يا سيدي لا تبقى فارغة. فضحك، وقال: أخرى لإستها. وسأل الأصمعي حاجة ألحّ فيها، فقال: أرحني واسترح منّي فإني ... ثقيل محملي ذرب لساني «1» وقال أبو سعيد الموسوي في معناه: أزح علّتي واصرف إلى النّار طلعتي ... فما كلّ وقت رؤيتي بمري «2» الحثّ على ترك تجاوز الحدّ في السؤال من سأل فوق قدره فقد استوجب الردّ، ومن لم يرجّ إلا ما هو مستحق له فإلى الرفد. قيل: إذا أردت أن تطاع فاسأل ما يستطاع، قال: الشاعر: إنّك إن كلفتني ما لم أطق ... ساك ما سرّك منّي من خلق «3» التّرغيب في سؤال السّلاطين قيل: مسألة الرجل السلطان ومسألة الابن أباه لا تنقصه ولا تشينه. وقال شاعر: وإذا ابتليت ببذل وجهك سائلا ... فابذله للمتكرّم المفضال التّرغيب في سؤال الصّباح دون القباح قال النبي صلّى الله عليه وسلم: اعتمد لحوائجك الصّباح الوجوه، فإن حسن الصورة أول نعمة تلقاك من الرجل. وروي عنه عليه الصلاة والسلام: أطلبوا الحوائج عند حسان الوجوه. وسئل ابن عائشة عن هذا الحديث، فقال: معناه أطلبوها من الوجوه التي تحسن بالإنسان أن يطلب منها. ونظر ابن عبّاس إلى رجل حسن الوجه، فقال: أنت شرط النبيّ إذ قال يوما ... أطلبوا الخير من حسّان الوجوه وقال البحتري: من حسّن الله وجهه وسجا ... ياه وأعطاه كلّف الكلفا «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 سؤال الشبان دون الشيوخ قال حكيم: طلب الحوائج عند الشبان أسهل منها عند الشيوخ، ألا ترى أن يعقوب عليه السلام لما سأله بنوه أن يستغفر، قال: لهم سوف أستغفر لكم ربّي، وقال يوسف عليه السلام: لا تثريب «1» عليكم اليوم. قال يحيى بن خالد: إذا كرهتم الرجل من غير سوء أتاه إليكم، فاحذروه وإذا أحببتموه من غير خير سبق منه إليكم فارجوه. تفضيل سؤال كريم فقير على غني لئيم قال الرفّاء: صرفت عن الكثير الوفر طرفي ... وها أنا للقليل الوفر راج وكم من نطفة عذبت وكانت ... أحبّ إليّ من بحر أجاج «2» عيّ من سأل لنفسه شيئا كلّم أعرابي خالد بن عبد الله وتلجلج في كلامه، فقال: لا تلمني على الاختلاط فإن معي ذلّ الحاجة ومعك عز الاستغناء. وقال سعيد بن العاص: موطنان لا أعتذر من العيّ فيهما إذا سألت حاجة لنفسي وإذا كلمت جاهلا. وقيل: سار الفضل بن الربيع إلى أبي عباد في نكبته يسأله حاجة فأرتج عليه، فقال له: يا أبا العباس بهذا اللسان خدمت خليفتين، فقال: إنّا تعوّدنا أن نسأل لا أن نسأل. الحثّ على ترك الاستنكاف من السؤال قال رجل لآخر: قد وضع منك سؤالك، فقال: لقد سأل موسى والخضر عليهما السلام أهل قرية فأبوا أن يضيفوهما، فو الله ما وضع هذا من نبيّ الله وعالمه فكيف يضع منّي؟ قيل لزرعة: متى تعلمت الكدية والسؤال، قال: يوم ولدت منعت الثدي فصحت وبكيت فأعطيت الثدي فسكت. الحثّ على استعمال الوقاحة قال بعض المكدين: مكتوب على باب الجنة من صبر عبر. وقيل: الهيبة خيبة. وقال شاعر: هيبة الإخوان مقطعة ... لأخي الحاجات عن طلبه فإذا ما هبت ذا أمل ... مات ما أمّلت من سببه «3» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 وكان مكتوبا على عصي ساسان: الكسل شؤم والمتميز مذموم، والحركة بركة والتواني هلكة، وكلب طائف خير من أسد رابض. قال أشجع: ليس للحاجات إلا ... من له وجه وقاح وقال سلم الخاسر: من راقب الناس مات غمّا ... وفاز باللّذة الجسور «1» الحثّ على المطالبة وقال أبو تمّام: وخذهم بالرقى إن المهارى ... يهيجها على السير الحداء «2» وقال آخر: حرّكه فالأشجار في تحريكها ... تجني جناها والقلوب تقلّب وقال ابن الرومي: نذكّر بالرقاع إذا نسينا ... ونذكّر حين تمطلنا الكرام فإن الأمّ لم ترضع صبيّا ... مع الإشفاق لو سكت الغلام «3» الحثّ على معاودة السؤال قال عمر رضي الله عنه: إذا سألتمونا حاجة فعاودونا فيها، فإنما سمّيت القلوب لتقلبها. وقال عبد الملك في خطبته: لا يمنعنّ رجلا سأل اليوم شيئا فمنعته أن يسأل غدا فإن الأمور بيد الله لا بيدي. ودخل بعض الطالبين على إسحاق بن إبراهيم فسأله حاجة فمنعه، فأنشد الطالبيّ: لا ييئسنّك من كريم نبوة ... ينبو الفتى وهو الجواد الخضرم «4» فإذا نبا فاستبقه وتأنّه ... حتّى يفيء بها الطباع الأكرم وقيل: إذا سألت كريما حاجة فدعه وسوّم نفسه، فإنه لا يفكر إلا في خير، وإذا سألت لئيما حاجة فعافصه ولا تدعه يتفكر فيتغير. وقال بعضهم في ضد ذلك: إذا سألت لئيما حاجة فأجّله حتى يروّض نفسه ويطابق ما قاله قول الشاعر: يعالج نفسا بين جنبيه كزّة ... إذا همّ بالمعروف قالت له مهلا «5» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 الاعتذار لتأكيد السّؤال قال أبو تمّام: لو رأينا التوكيد خطة عجز ... ما شفعنا الأذان بالتثويب «1» وقال ابن الرومي: قد يحث الجواد غير بطيء ... ويهز الحسام غير كهام «2» وقال بشّار: هززتك لا أني وجدتك ناسيا ... لأمري ولا أنيّ أردت التقاضيا ولكن رأيت السيف من بعد سلّه ... إلى الهزّ محتاجا وإن كان ماضيا عذر من سأل لئيما وأخذ منه قيل للأعمش: كيف تصنع إذ كان لك إلى لئيم حاجة؟ قال: آتيه كما آتي الحش «3» ، ومنه قال الشاعر: وعند الضرورة آتي الكنيفا وقال المتنبيّ: غير اختيار قبلت برّك بي ... والجوع يرضي الأسود بالجيف «4» وقال أبو تمّام: وخذ القليل من اللئ ... يم إذا أبى أهل الكرم فالليث يفترس الكلا ... ب إذا تعذّرت الغنم قال ابن شادان: دخلت مع جماعة من الصوفيّة على الشبلي رحمه الله فبعث إلى بعض المياسير يسأله ما ينفقه عليهم، فقال للرسول: قل له يا أبا بكر أنت تعرف الحق فلم لا تطلب منه. فقال الشبلي: عد إليه، وقل له: الدنيا سفلة أطلبها من سفلة مثلك، وأطلب من الحقّ الحق، فوجه إليه بمائة دينار. وفي المثل: خذ من جذع ما أعطاك. اللّطافة في المسألة قيل: اللطافة في المسألة أجدى من الوسيلة، قال: إحلب لبونك إبساسا وتمرية ... لا يقطع الدرّ إلّا عنف محتلبه «5» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 ومثله: وإذا جفوت قطعت عنك وسائلي ... والدر يقطعه جفاء الحالب تواطأ أبو دلامة مع أمّ دلامة على أن يأتي هو المهدي فينعيها، وتأتي على الخيزران فتنعيه. فأتى أبو دلامة المهدي وهو يبكي، وأنشد: وكنّا كزوج من قطا في مفازة ... لدى خفض عيش مورق ناضر رغد «1» فأفردنا ريب الزمان بطرفه ... ولم نر شيئا قط أوحش من فرد فقال له: ما بالك؟ فقال: ماتت أم دلامة وإني لاحتاج إلى تجهيزها فأطلق له مالا. وأتت أم دلامة الخيزران وقالت: إن أبا دلامة مضى لسبيله، فاغتمّت وأمرت لها بمال وأعطتها ثيابا وطيبا. ثم لما دخل المهدي على الخيزران قالت له يا أمير المؤمنين: إن أبا دلامة مضى لسبيله أبقى الله أمير المؤمنين، وأمّ دلامة كانت عندي الساعة فأعطيتها التجهيز لزوجها. فقال المهدي: إن أم دلامة مضت لسبيلها وكان عندي أبو دلامة الساعة وأعطيته نفقة تجهيزها، فعلما أنهما احتالا فضحكا واستدعياهما وخوّلاهما شيئا وضحكا منهما. وقال رجل لآخر: لو مت أنا ما كنت تفعل؟ قال: كنت أكفنك وأدفنك، قال: فاكسني الساعة ما تكفنني به وإذا متّ فادفني عريانا. من عرّض بسؤاله أو تلطّف فيه أكل شعبة مع زياد وهو يتأمله وكان يأكل أكلا ذريعا «2» ، فقال له زياد: كم لك من الولد؟ فقال: تسع بنات أنا أجمل منهن وهن آكل منّي، فقال: ما أحسن ما استعطيت لهن فأثبتهن في العطاء. ساير رجل بعض الولاة، فقال له الوالي: ما أهزل برذونك، فقال: يده مع أيدينا، فوصله. عرض عمرو بن الليث عسكره فمرّ به رجل تحته دابة مهزولة، فقال: أتأخذون المال وتسمنون به فقاح «3» نسائكم، فقال: أيها الأمير لو نظرت إلى فقحة امرأتي لوجدتها أهزل من كفل دابتي، فضحك منه وأمر له بزيادة عطائه. وكان لأبي الأسود جبّة خزّ قد تقطّعت، فقال له معاوية: ما تملّ لبسها؟ فقال: ربّ مملول لا يستطاع فراقه، فأمر له بمال. قال أبو جعفر الورّاق للصاحب: إن جرذان داري يمشين بالعصار هزالا، فقال: بشّرهن بمجيء الحنطة. وكان أبو الحسن الورّاق قصد سيف الدولة في جملة الشعراء فناوله درجا يوهم أنه شعر له، فنشره سيف الدولة، فقال: ليس فيه شيء مكتوب، فقال: سيدنا يكتب فيه لعبده، فضحك وأمر له بمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 وقسم عبد الله بن عبيد مالا بين بنيه، فقال له عبد صغير: فأعطني أوّلا، فقال له: ولمه، قال: لأن الله تعالى يقول المال والبنون زينة الحياة الدنيا، فبدأ بالمال وأنا مالك، فأعطاه وقدّمه. وسأل أعرابي عبد الملك، فقال له: سل الله، فقال: سألته فأحالني عليك، فضحك منه وأعطاه. المستغني بالسّلام عن السؤال قال أميّة بن أبي الصلت: أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إنّ شيمتك الحياء «1» إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرّضه الثناء وقال ابن الرومي: يا من إذا التعريض صافح نفسه ... أغنى العفاة به عن التصريح «2» وقال آخر: وإذا طلبت إلى كريم حاجة ... فلقاؤه يكفيك والتسليم وإذا رآك مسلّما عرف الذي ... حملته وكأنّه ملزوم وقال الريّاشي: وحسبك من تقاضي المرء يوما ... لحاجته الزيارة والحديث وقال آخر: وإذا المجد كان عوني على المر ... ء تقاضيته بترك التقاضي «3» وقال المتنبيّ: أخفّ سلامي حب ما خفّ عنكم ... وأسكت كيما لا يكون جواب وفي النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتي بيان عندها وخطاب «4» المتوصّل بسؤال حاجة إلى أخرى في المثل: أعن صبوح تفرقوا. وقال شاعر: وحاجة دون أخرى قد سجحت بها ... جعلتها للذي أخفيت عنوانا «5» وقال آخر: وأرضع حاجة بلبان أخرى ... كذاك الحاج ترضع باللبان «6» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 وقيل: سرين في خريزة لحاجتين في حاجة. وخيّر رجل بين شيئين فقال: كلاهما وتمرا. وقال بعض الخلفاء لأبي دلامة: سل، فقال: كلبا أصيد به، فقال أعطوه. قال: ودابّة أركبها إذا خرجت أصطاد، فقال: أعطوه. قال: وغلاما يخرج معي إذا ركبت يمسك كلبي، قال: أعطوه، قال: وجارية تصلح ما أصيده، قال أعطوه، فقال: كلب ودابة وغلام وجارية لا بدّ لهم من دار تأويهم ولا بدّ لهم مما يمونهم، فقال تقطع له ضيعة، فقال: يا أمير المؤمنين أعطني يدك أقبلها، فقال دع هذا، فقال: ما منعت عيالي شيئا أشدّ فقدا عليهم من هذا. النّهي عن ردّ الرّاغب إليك قال شريح: من سأل حاجة فقد عرض نفسه على الرقّ، فإن قضاها المسؤول استعبده بها، وإن ردّه رجع حرا، وهما ذليلان، هذا بذلّ اللؤم وهذا بذل السؤال. وقال سعيد بن العاص: ما رددت أحدا عن حاجة إلا تبينت العزّ في قفاه والذلّ في وجهي، وقيل: من قضى حاجة سائله اجتمع معه في العزّ وإن حرمه اجتمع معه في الذلّ. النّهي عن خيبة من أراق ماء وجهه لسؤالك من انتجعك مؤملا فقد أسلفك حسن الظنّ بك. وأدخل ابن السماك رجلا إلى الفضل بن الربيع، فقال: إن هذا بذل لك ماء وجهه فأكرم وجهك عن ردّه. قال أبو تمام: ما ماء كفّك إن جادت وإن بخلت ... من ماء وجهي إذا أفنيته عوض الحثّ على استرقاق الأحرار قيل: العجب لمن يشتري العبيد بالأموال ولا يشتري الأحرار بالنّوال والإفضال. وقيل: ليس للأحرار ثمن إلا الإكرام فأكرمهم تملكهم. الحثّ على اصطناع المعروف وإن لم يشكر قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يزهدنّك في المعروف كفر من كفر، فإنه يشكرك عليه من لم تصطنعه إليه. الحثّ على اصطناع المعروف وإن لم يسأل قيل: لا تلجىء الآمل إلى كدّ المسألة ولا تكلّفه خشوع التضرّع. وسئل خالد بن يزيد: ما الجود؟ قال: أن تعطي من سألك، فقال ابنه: يا أبت هذا هو الكد إنما الجود أن تعطي من سألك ومن لم يسألك. وقيل لرجل: سل، فقال: إني أكره أن أعطي ثمن السؤال. وقال محمد بن أبي عمران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 أجرني من ذلّ السؤال واعفني ... فكلّ عزيز في السؤال ذليل وقال العماني: أنت تسقي والربيع ينتظر ... وخير أنوار الربيع ما ابتكر «1» الحثّ على تعجيل السؤال وقال بعضهم «2» : جعلت فداك لم أسأ ... لك ذاك الثوب للكفن سألتكه لألبسه ... وروحي بعد في البدن وقيل: أهنأ المعروف أعجله. وقال بعض الناس: إذا أوليتني نعمة فجعلها فإن النفس مولعة بحب العاجل، وإن الله تعالى قد أخبر عما في نفوسنا، فقال: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ «3» . وقال مروان بن أبي حفصة: فما نحن نخشى أن يخيب دعاؤنا ... لديك ولكنّ أهنأ العرف عاجله «4» الحثّ على تعجيل الرّفد أو الرد قيل: من الظفر تعجيل اليأس من الحاجة إذا أخطأك قضاؤها. وقيل: السراح من النجاح. وقال بعضهم: أنت ذو أناة أعجز عن الصبر عليها، فوعد نجيح أو يأس مريح. وسأل رجل طائيا، فمنعه. فقال له: لم تجد جوادا حاتميا، فقال: إن لم أجد جوده فقد منعت منه، حيث يقول: أماري فأما مانع فمبين ... وإما عطاء لا ينهنه الزّجر «5» وقال آخر: أرحني بيأس أو بتعجيل حاجة ... فكلتاهما للمرء روح منعم «6» ولا تك كالعذراء يوم نكاحها ... إذا استؤذنت في نفسها لم تكلّم وقيل: إن بعض الناس أقام بباب بعض الملوك مدة فلم يحظ منه بشيء، فكتب أربعة أسطر في رقعة: الأول الأمل والضرورة أقدماني عليك، الثاني ليس على العدم صبر، الثالث الرجوع بلا فائدة شماتة الأعداء، والرابع إما نعم مثمرة وآمالا ميئسة، فكتب تحت كل سطر: زه يعطى لكل منها أربعة آلاف درهم. من سأل وذكر أنّ النعمة لا تغني في غير وقتها . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 قال البحتري: وأعلم بأن الغيث ليس بنافع ... للمرء ما لم يأت في إبّانه «1» وله: وإذا العليل أبلّ ممّا يشتكي ... لم يرج منه مثوبة العوّاد «2» وله: يرجى الطبيب لساعة الأوصاب سؤال من بعدت داره عن مسؤوله وقال ابن الرومي: لا تجشّمنّ أهلي إليك وفادة ... ليعد إليهم برّك الوفاد «3» يسري السحاب إلى البعيد بغيثه ... فيظلّ منه وادعا ويجاد ولأنت أولى أن تجود لمجدب ... عفوا ولم تشدد له أقتاد «4» سؤال من قرب ارتحاله قال بعضهم: جعلت فداك قد وجب الذمام ... وطال بي التلبّث والمقام وقد أزف الرحيل إلى بلادي ... فرأيك لا عدمتك والسّلام وقال المتنبيّ: لقد نظرتك حتّى حان مرتحلي ... وذا الوداع فكن أهلا لما شيتا «5» من استزاد قال المتنبيّ: أبا المسك هل في الكأس فضل أناله ... فإنّي أغنّي منذ حين وتشرب «6» وهبت على مقدار كفّي زماننا ... ونفسي على مقدار كفّيك تطلب إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية ... فجودك يكسوني وشغلك يسلب «7» «8» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 من سأل وذكر أنّ مسؤوله أهل لذلك قال أحمد بن أبي طاهر: أتيتك لم أطمع إلى غير مطمع ... كريم ولم أفزع إلى غير مفزع وقال علقمة: وفي كلّ شيء قد خبطت بنعمة ... فحق لناس من نداك ذنوب «1» الحثّ على إتمام النّعمة العرف إذا لم يستتم كالبرد ما لم يعلم، ولا يحسن العرف إلا بتمامه ولا يروق الهلال إلا بتمامه. وقيل: أتبع الدلو الرشاء والفرس لجامه. وقيل: تمام الربيع الصيف. وقال أبو تمّام: إن ابتداء العرف مجد سابق ... والمجد كلّ المجد في استتمامه هذا الهلال يروق أبصار الورى ... حسنا وليس كحسنه لتمامه وقال ابن الرومي: لا تصنعنّ صنيعة مبتورة ... فإذا اصطنعت إلى الرجال فتمّم لا تطعمنّهم فتقطع عنهم ... أشبع إذا أطعمت أو لا تطعم وأمر المنتصر وهو أمير الحجاز بشيء فهمّ الوكيل بمصارفته، فقال: والله لصرفي أحسن من مصارفتي، فلم يصارفه واستحسن في المطالبة بأمر تأخر فاختلت به الحال. قال المتنبي: فإن فارقتني أمطاره ... فأكثر غدرانها قد نضب «2» تربية النّعمة عند المصطنع إليه قال حكيم: ما ربّيت غير رجلين، رجل له عندي يد فأخاف كفرانه ورجل لي عنده يد فأخاف إفساده. وقيل: رب المعروف أشد من ابتدائه. وقيل: الإبتداء بالصنيعة نافلة وربّها فريضة. وقيل: من لم يربّ معروفه فكأنما لم يصطنعه. من رغب إلى مسؤوله في الجري على العادة في إعطائه قال ابن الحجّاج: نفسي تقي نفسك ما تشتكي ... لمثل هذا اليوم أعددتكا فاجر على العادة في برّ من ... يجري على العادة في شكركا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 قال أحمد بن أبي طاهر: جعلت فداك قد أنسيت ذكري ... وقد أسقطت من ديوان برّك «1» قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: ما أحسن الحسنة في أثر السيئة وأقبح السيئة في أثر الحسنة، وأحسن من هذا وأقبح من ذاك الحسنة في أثر الحسنة والسيئة في أثر السيئة. من سأل وذكر أنه يعذر مسؤوله إن لم يعطه وقف قيس بن خفاف البرجمي على حاتم، فقال: إني حملت دماء وعوّلت فيها على مال وآمال، فقدمت مالي وكنت من أكبر آمالي، فكم من حق قضيت وكم من هم كفيت، وإن حال دونك حائل لم أذمم يومك ولم أيأس من غدك. وكتب أبو العيناء إلى ابن أبي دؤاد: مسّنا وأهلنا الضرّ وبضاعتنا المودّة والشكر، فإن تعطنا فأنت أهل لذلك وإن لم تعطنا فلسنا ممّن يلزمك في الصدقات، فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون. قال أبو نواس: فإن تولني منك الجميل فأهله ... وإلّا فإني عاذر وشكور وقال ابن الرومي: وإن عاق القصائد نداك عنّي ... فلست أراك في منعي مليما وما غيث إذا يجتاز أرضا ... إلى أخرى بمعتد لئيما من سأل وذكر أنه غير عاذل لمّا دخل الحجاج مكة، قال لأهلها: أتيناكم وقد غاض الماء لكثرة النوائب فاعذرونا، فقال رجل: لا عذر الله من عذرك وأنت أمير المصرين وابن عظيم القريتين، فقال: صدقت، واستقرض مالا من التجار ففرّقه فيهم. قال أبو تمّام: فلو حازرت شول عذرت لقاحها ... ولكن حرمت الدرّ والضرع حافل «2» وقال ابن الرومي: أنّى يكون ربيعي ممرعا غدقا ... إن لم يكن هكذا والشمس في الحمل «3» وقال البسامي: ولست أقول إن قصرت فيما ... أؤمله عذرت فذاك كذب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 فكم من مرّة قد ضاق رزقي ... فأنكبني المنى والربّ ربّ النّهي عن الاعتذار بالشغل اعتذر رئيس إلى سائل بقلّة فراغه، فقال: لا بلغني الله يوم فراغك فقضى حاجته في الوقت. قال أبو علي البصير: لا تصيّر شغلك اليو ... م اعتذارا لمطالك إنّما يحمد أن تف ... رغ في وقت اشتغالك لو تفرغت من الشغ ... ل استوينا في المسالك «1» من سأل وذكر أنّ إعطاءه ومنعه يظهران في الورى وقال شاعر: بأي الخصلتين عليك أثني ... فإنّي عند منصرفي سؤول أبالحسنى وليس لها ضياء ... عليّ، فمن يصدّق ما أقول؟ أم السوأى ولست لها بأهل ... وأنت لكلّ مكرمة فعول «2» وقال آخر: ماذا أقول إذا انصرفت وقيل لي ... ماذا أفدت من الجواد المفضل فاختر لنفسك ما أقول فإنّني ... لا بدّ مخبرهم وإن لم أسأل الرّاضي بأخذ الطفيف بعد سؤال الكثير قال أعرابي لمعاوية: استعملني على البصرة، قال: ما أريد بعاملها بدلا، قال: أقطعني البحرين، قال: مالي إلى ذلك سبيل، قال فمر لي بألف درهم فأمر له، فقيل له: قد أشططت أولا ثم انحططت آخرا، فقال: لولا طلبي كثيرا ما أعطاني قليلا. وقال خالد بن عبد الله لأعرابي قال فيه: أخالد بين الحمد والأجر حاجتي ... فأيّهما تأتي وأنت جواد سل ما بدا لك، فقال: مائة ألف درهم، قال أسرفت، قال: ألف درهم، قال خالد: ما أدري أمن إسرافك أتعجب أم من حطك، فقال: إني سألتك على قدرك، فلما أبيت سألت على قدري، فقال: إذا والله لا تغلبني على معروفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 ذمّ طالب كثيرا بعد أن حرم صغيرا سأل رجل معاوية شيئا فمنعه، فسأله ما هو أكبر منه، فقال معاوية: طلب الأبلق العقوق فلما لم ينله أراد بيض الأنوق «1» ، وقال: شرّ ما رام امرؤ ما لم ينل ويقاربه: تسألني برامتين سلجما «2» الحثّ على أخذ القليل عند تعذّر الكثير خذ ما طف لك واستطف، خذ ما قطع البطحاء، خذ من جذع ما أعطاك صيدك لا تحرمه الجحش لما بذل الاعيار «3» . الحثّ على إعطاء القليل قال الله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ «4» وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا يمنعكم من معروف صغره. قال ابن عباس: من حقر حرم. قال: ما استغرب الناس أفضالا ولا شهروا ... من حاتم غير جود بالذي يجد وقال عبد الله بن جعفر: لا تستح من إعطاء القليل فإن المنع أقل منه. وقال البحتري: لا تحقرنّ صغير الخير تفعله ... فقد يروي غليل الحائم الثمد «5» وقيل: زوج من عود خير من قعود. من خيّر فتلطّف في الاختيار مدح مطيع بن إياس معن بن زائدة، فقال له: إن شئت أجزناك وإن شئت مدحناك، فاستحيا مطيع أن يختار الثواب وكره العدول إلى المدح، فقال: ثناء من أمير خير كسب ... لصاحب مغنم وأخي ثراء ولكنّ الزمان أطال دائي ... وما مثل الدراهم من دواء وقال بعض الخلفاء لعاف: احتكم، فقال: يد أمير المؤمنين أبسط من لساني بالمسألة فأجزل له العطية. قال المتنبي: ما لنا في النّدى عليك اختيار ... كلّ ما يمنح الشريف شريف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 ودخل أشعريّ «1» على الرشيد وسأله، فقال: احتكم، فقال: أشعري يحتكم بعد أبي موسى، فضحك منه وأجازه. من سأل وذكر أنه أمر بذلك في المنام. كتب بعضهم إلى أبي سليمان: رأيت في النوم أنّي مالك فرسا ... ولي وصيف وفي كمّي دنانير فقال قوم لهم فهم ومعرفة ... خيرا رأيت وللمال التياسير أقصص منامك في دار الأمير تجد ... تفسير ذلك وللأحلام تفسير فوقّع أبو سليمان: أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين. ودخل أعرابي على تمّار بالكوفة. فقال: رأيتك في النّوم أطعمتني ... قواصر من تمرك البارحه «2» فقلت لصبياننا ابشروا ... برؤيا رأيت لكم صالحه قواصر تأتيكم بكرة ... وإلا فتأتيكم رائحه فقل لي نعم إنها حلوة ... ودع عنك لا إنها مالحه فأعطاه قوصرة تمر، وقال: أحبّ أن تتركني من هذه الرؤيا، فإن رؤيا يوسف صدقت بعد أربعين سنة. السّائل حاجة زعمها صغيرة قال رجل لابن عبّاس رضي الله عنهما: أتيتك في حاجة صغيرة، فقال: هاتها فالحر لا يصغر عن كبير أخيه ولا يكبر عن صغيره. وقال رجل لعمارة: أتيتك في حويجة، فقال أطلب: لها رجيلا. وقال آخر مثله، فقال: دعها حتى تكبر. تأسّف من حرمه رزاق قال البحتري: سحاب خطاني جوده وهو مسبل ... وبحر عداني فيضه وهو مفعم «3» وبدر أضاء الأرض شرقا ومغربا ... وموضع رحلي منه أغبر مظلم أأشكو نداه بعد أن وسع الورى ... ومن ذا يذمّ الغيث إلا مذمّم «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 وقال منقذ الهلالي: علام أرى من ضروب الغيو ... ث حولي وأحرم أمطارها وقال الحسين الخليع: أنا في ذمّة السّحاب والظما ... إن هذا لوصمة في السّحاب «1» وقال آخر: أيا عجبا لبحر ظلّ يسقي ... جميع الناس لم يبلل لهاتي «2» من سأل أن لا يؤذى إن لم يعط قال العجّاج: يا ليت حظّي من نداك الصّافي ... والحظّ أن تتركني كفافي وقال آخر: فإن زوى عنّي الجمار طلعته ... فلا تصبني بخدّي شوكة السّعف «3» وقال المتنبيّ: ليت العهاد الذي عندي صواعقه ... يزيلهنّ إلى من عنده الدّيم «4» معاتبة من يقول نذرت أو حلفت أن لا أعطي. قال بعضهم: فقل لأبي عمرو متى تبلغ العلا ... وفي كلّ معروف عليك يمين وقال البحتري: فإن قلت نذر أو يمين تقدمت ... فأيّ جواد حلّ في ماله النذر «5» تعريض السائل بمن خيّبه كتب أبو السائب إلى صديق يستميحه، فاعتل بأنه فقير: إن كنت كاذبا فجعلك الله صادقا وإن كنت محجوجا فجعلك الله معذورا. وتعرضت امرأة للمنصور في طريق مكة فحرمها، فأنشدت: إذا لم يكن فيكنّ ظلّ ولا جنى ... فأبعدكنّ الله من سمرات «6» وسأل أعرابي على باب فقال له صبي من الدار: بورك فيك، فقال له: قبح الله هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 الفم، فقد تعلم الشر صغيرا. ووقف سائل على قوم، فقال أحدهم صناعتنا واحدة، فقال القائل: فأنا قواد فهل أنتم قوادون. وكان أبو الأسود يأكل على باب داره تمرا، فوقف عليه أعرابي، فقال: شيخ هم غابر ماضين ووافد محتاجين أكله الفقر وتداوله الدهر، فناوله تمرة، فزجّ بها الأعرابي في وجهه، وقال: جعلها الله حظك عنده وألجأك إليّ كما ألجأني إليك، ليبلوك بي كما بلاني بك. وقف فقير على باب المافروحى بالأهواز فأعطوه لقمة صغيرة، فقال: هذا الدواء كيف يشرب؟ وأعطي سائل مبطنة صغيرة، فقال رحم الله من تممها جبة. وينشد في من ينسى حاجتك قول الشاعر: إذا لم تكن حاجاتنا في نفوسنا ... لإخواننا لم تغن عنها الرتائم «1» ونحوه: إذ الموصوفون بنو سهوان اجتمع يحيى بن زياد وحمّاد عجرد وبشار على طعام، فوقف سائل بالباب، فقال: يا مسلمين، فقال يحيى: فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون. فقال: إرحموني، فقال: حمّاد: قد رحمناك. فقال إسمعوا كلامي، فقال بشّار: لقد أسمعت لو ناديت حيّا ... ولكن لا حياة لمن تنادي سأل متكفف الأصمعي، فقال: لا أرتضي لك ما يحضرني، فقال: أنا أرتضيه، فقال: هو بورك فيك. قال: ألم ترني أبغضت ليلى وذكرها ... كما أبغض المسكين بورك فيكا وقال: سائل لعبادة: إرحمني، فقال: قد رحمتك، فقال: تصدّق عليّ، فقال حاجتين في حاجة لا يكون. سأل رجل متكففا، فقال: الصنعة واحدة، فقال: أنا أقود على بنتي وأحمل الكلاب على أمي، لا شك أن الصنعة واحدة. حكايات عن متكفّف فصيح قال المازني: وقف علينا أعرابي، فقال: رحم الله أمرأ يمجّ أذنه كلامي وقدم معذرة لسوء مقامي، فإن الفقر يدعوني إلى إخباركم والحياء يمنعني من سؤالكم، فقلت له: ممن الفتى؟ فقال: إن سؤالا الإكتساب يمنع من الانتساب. وقف أعرابي على حلقة الحسن البصري، فقال: رحم الله امرأ أعطى من سعة، وواسى من كفاف وآثر من قوت، فقال الحسن: ما ترك أحدا منكم حتى سأله. وقال الأصمعي: وقفت علينا أعرابية، فقالت: أتأذنون في الكلام فإنه فرج من وساوس الهموم ودليل على ضمائر القلوب؟ فقال بعضنا: أما بما يحسن به الاستماع في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 العاجل وتخفّ به المؤنة في الآجل فنعم، فقالت: اللهم غفرا فإن هذه شريطة لا يتعلق بها الوفاء، قال: فناولتها درهما فرفعته إلى السماء بين أنملها، وقالت: اللهمّ إنه قد كان في كيسه متمهدا وفي معاشه متصرفا فأتجر به إليك، اللهمّ فلا تجزه على قدر البضاعة ولكن على قدر الصبر على مكروه السؤال. وقالت أعرابية تتكفف «1» : يا قوم طرائد زمان وفرائد حدثان ولحمان، وضم بذتنا الرجال وانتشر منّا الحال، فهل من مكتسب للأجر أو راغب في الذخر. وقالت أعرابية: سنة جردت وحال أجهدت وأيد جمدت فرحم الله من رحم. وكان آخر يقول: من حملني على نعلين فكأنما حملني على ناقة. (3) وممّا جاء في الوعد والإنجاز والمطل ما يجد به الوعد والوعيد والإنجاز والخلف قيل: الوعد قول الرجل أفعل كذا، ويقال في الخير والشر. يقال: وعدته خيرا وشرا وإطلاقه بالخير أولى، والإيعاد في الشرّ لا غير. وقيل: يقال أوعدت فلانا ومتى ذكرت الشر معه قلت وعدته بلا ألف، والإنجاز مطابقة الفعل ما سبق منك من القول، والخلف هو أن تعد بخير ثم لا تفعل. وقال محمد بن الحسين رضي الله عنه: الخلف أن تعد ومن نيتك أن لا تفعل، فأما إذا وعدت ومن نيتك أن تفعل فليس بخلف. وقال عمر بن عبد العزيز: أربع إذا قلتها متى وعدت ثم لا تفعل لم تكن مخلفا: إن شاء الله، ولعل وأنظر، وأرجو. النّهي عن التسرّع إلى الوعد قال المهلب: يا بني إياك والسرعة عند المسألة بنعم فمدخلها سهل ومخرجها وعر، واعلم أن لا وإن قبحت فربما أروحت، فإذا سئلت ما قدرت عليه فاطمع ولا توجب وإذا علمت معذرة فاعتذر، فالاتيان بالعذر الجميل خير من المطل الطويل. وسأل رجل الفضل بن الربيع، فقال: أكره أن أقول نعم فأكون ضامنا، وأن أقول لا فأكون ميئسا، ولكن ننظر فسيسهل الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 النّهي عن تكثير الوعد قيل: من كثر وعده ووعيده اجترأ عليه صديقه وعدوّه. وقيل للمهلّب: بم سدت؟ فقال: بإيثاري فعل ما أحمد بن على بذل الوعد. الحثّ على الإنجاز أو ترك الوعد قال المثقّب: لا تقولنّ إذا ما لم ترد ... أن تتم الوعد في شيء نعم فإذا قلت نعم فاصبر لها ... بنجاح الوعد إن الخلف ذم إن «لا» بعد «نعم» فاحشة ... فبلا فابدأ إذا خفت النّدم وقال الموسوي: إيّاك أن تسخو بوعد ... ليس عزمك أن تفي به عتب من يعد ويمطل لا خير في وعد مبسوط وإنجاز مربوط، وفي وعد يقظان وإنجاز وسنان «1» . ذكر إعرابي رجلا، فقال: أوله طمع وآخره يأس، وما هو إلا كالسراب يخلف من رجاه ويغم من رآه. وقال حكيم: مطل السائل أقبح من مطل الغريم، لأن الغريم إنما يسلف بفضل، والكريم لا يسأل إلا من جهد الحر يتقاضى بالوعد نفسه، واللئيم يجتهد أن يطيل حبسه. قال أبو تمّام: إني أخاف وأرتجي عقباك أن ... تدّعي بموعدك المطول الملحفا «2» هبّت رياحك لي جنوبا سهوة ... حتّى إذا أورقت صارت خرفا «3» ما عذر من كان النوال طبيعة ... في راحتيه أن يجود تكلّفا وقال أبو مسهر الرملي: فيّ احتشام وفيك تقصير ... والصبر ما بين ذاك تعذير تقدّم القول حين تسأل في الحا ... جة والفعل فيه تأخير وقال العتابي: لحسن اعتذار المرء أوقى لعرضه ... من الذمّ من توكيد وعد يماطله ذمّ من يماطل ثم يخلف كان أعرابي يفتح مواعده بالمطل ثم يختمها بالخلف، وقال أبو تمام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 عداة كريعان السراب إذا بدت ... تبشّر عن مين وتطوى على مطل «1» وقال آخر: وقد كان منّاني ثلاثة أشهر ... بوعد ووافت بعد ذلك معاذره» من يحلف على وعده ثم يخلف قال بعضهم: فلان يحلف على وعده ثم يخلف، ويؤلي «3» لك ثم لا يواليك، أي يحلف لك ثم لا يعطيك. وقال شاعر: وليتك لم تحلف لنا حين تخلف وقال عبد الرحمن بن معاوية: ألا لا تحلفن لنا يمينا ... فأكذب ما تكون إذا حلفتا وقال المتنبي: وفي اليمين على ما أنت واعده ... ما دلّ أنّك في الميعاد متهم مطل يتبعه هبة خسيسة قال ابن الرومي: قال ابن الرومي: فلا يك ما تجديه كالبقل خسة ... وكالنخل تأخيرا فما ذاك بالعدل «4» وقال آخر: من الحيف تخفيف النّوال ومطله ... فعجّل خسيسا أو فأجّل موفرا وكن نخلة تلوي وتسني عطاءها ... وإلا فكن عفصا أقلّ وأيسرا «5» من لا يتناهى مطله وعد أبو الصقر أبا العيناء بشيء فتقاضاه فقال: غدا، فقال له: إن الدهر كله غد، فهل عندك وعد يخلو من المعاريض؟ فقال رجل حاضر قد استعمل المعاريض قوم صالحون حدثنا فلان عن فلان، فقال أبو العيناء: من هذا الذي يحدث في حرماننا بالأسانيد؟ قال ابن الرومي: أرفه ما أرفه في التقاضي ... وليس لديك غير المطل نقد «6» إذا انجاز وعدك كان وعدا ... فيكفيني من الوعدين وعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 650 وله: فعلام أمنع واجبا ... وعلام أمطل سرمدا قال ابن وهب: كان ميعاده الخميس وقد مر خميس لوعده وخميس آخر: إلى كم تمنّيني بعود وإنّما ... خراب بيوت المملقين بعود وقال ابن أبي فنن: يقول لنا في الجمعة السبت موعد ... وهل جمعة إلا ومن بعدها سبت وقال الخوارزمي: إذا أضحى فموعده مساء ... وإن أمسى فموعده ضحاء من خاف أن يموت قبل قضاء حاجته لفرط مطله قيل لمزبد: إصبر فالفرج قريب، فقال أخاف أن يجيء الفرج فلا يراني. وقال معاوية ابن أبي أيوب: أعلى الصراط تريد رعية حرمتي ... أم في الحساب تمنّ بالإنعام وقال ابن الرومي: طال المطال متى الوفاء فلا خلو ... د فحاجة أو برد يأس ينقع واعلم بأني لا أسرّ بحاجة ... إلا وفي عمري بها متمتع وقال آخر: مواعد منك لا يقضي القضاء لها ... أخاف أن ينقضي من قبلها أجلي ووعد رجل أبا العيناء دابة فأخّرها، فكتب إليه: إن كانت الدابة التي وعدتني بها دابة الأرض فقد مضى خبرها مع منسأة سليمان، وإن كانت دابة الصفا انتظرنا خبرها مع سابق الحاج، وإن كانت من دواب الدنيا فقد جاز عمر وعدك عمر الدواب، فهيء لي غيرها، وإن كانت دابة تدفعها إليّ في الآخرة فإن الله تعالى يقول: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ «1» . ذمّ من لا يعد ولا يفي قيل: من بذل لك حلو مقاله ومر نواله فهو العدو بعينه، أحسن العدّة وأطال المدّة. وقيل: لسانه عامر بالوعد وكفه غامر عن الرفد، وأنشد: علام قلت نعم حتّى إذا وجبت ... أتبعت لا بنعم ما هكذا الجود وقيل لأبي العيناء: كيف تركت فلانا مع قومه؟ قال يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا. وقال أعرابي: أما الكلام فما أوسع له فمكم وأما الفعال فرجلي معه في إست أمكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 651 قال أبو الشمقمق: الصدق في أفواههم علقم ... والإفك مثل العسل الماذي «1» وكلّهم في بخله صادق ... وفي النّدى ليس بأستاذ وقال أعرابي ليزيد بن مزبد: عداتك ريح يا يزيد بن مزبد ... وأنت على اسم الله فاختة البلد «2» وقال آخر: بدل الوعد للإخلاء سمحا ... وأبى بعد ذاك بذل العطاء فغدا كالخلاف يورق للع ... ين ويأبى الإثمار كلّ الإباء «3» وقال آخر: يا من إذا ما سألناه استهلّ لنا ... وإن سكتنا يخلي علّة الطلب لولا الثمار التي تزكو منافعها ... ما فضّل النّاس تفّاحا على غرب «4» وقال آخر: يعد الوعد ولكن ... دونه لمع السّراب وقال آخر: يباري الرّياح بمثل الريا ... ح من كاذبات مواعيده تقبّل الإنجاز قال الصاحب: سأنجز الوعد حتى ترى الطلّ وإبلا «5» والهلال بدرا كاملا. ولو علمت أبناء تغلب ما الذي ... أريد لها ما استعظمت ما أنيلها الحثّ على إنجاز الوعد السّابق قال بعضهم: حقيق على من أزهر بقول أن يثمر بفعل. وقف بعضهم على أبي دؤاد، فقال: حتّى متى أنا موقوف على وجل ... بين السبيلين لا ورد ولا صدر فقضى حاجته. قال بعضهم: أورقت نعمك فليثمر كرمك. ومما فيه جفوة وغلظة ما أنشده الصاحب عن بعض مجان بغداد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 652 أبا أحمد لست بالمنصف ... ومثلك إن قال قولا يفي فأنجز فديتك ما قد وعدت ... وإلا هجوت وأدخلت في النعمة الممطولة في حكم الممنوعة قال الكندي: كلّ برّ يشوبه كدر المط ... ل حقيق بأن يكون عقوقا «1» وقال آخر: لا تقضينّ حاجة أثخنت صاحبها ... بالمطل منك فتضحي غير محمود وقال آخر: ليس يستوجب شكرا رجل ... نلت منه الخير من بعد سنه إستقباح مطل قادر قال ابن الرومي: ألا ليت شعري لم مطلت مثوبتي ... ولم تؤت من بخل ولم تؤت من عسر وقال آخر: ما أقبح المطل من أخي كرم ... وعيب من قلّ عيبه شنع وقال جحظة البرمكي: إذا كانت صلاتكم رقاعا ... تخطط بالأنامل والأكفّ «2» ولم تكن الرقاع تجرّ نفعا ... فها خطي خذوه بألف ألف «3» وقال العطوي: هذي رقاعكم بالرفد وافدة ... وليس فيها بحمد الله توفير أمضيت عزمك في تضييع حرمتنا ... فليس عندك في التقصير تقصير الحامد مطل واعده قال ابن الرومي: ولم يمطل جواد قطّ إلا ... أتاك جداؤه ضخم السّواد «4» إذا ما حامل جرت بحمل ... أجلّت شخصه عند الولاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 653 وقال المتنبيّ: ومن الخير بطء سيبك عنّي ... أسرع السحب في المسير الجهام وله: وإن تأخّر عنّي بعض موعده ... فما تؤخّر آمالي ولا تهن وهو الوفيّ ولكنّي ذكرت له ... مودّة فهو يبلوها ويمتحن «1» الممدوح بإنجاز الوعد فلان يعد وعد من يخلف وينجز إنجاز من يحلف. قال أبو تمّام: يقول قول الذي ليس الوفاء له ... عزما وينجز إنجاز الذي حلفا وفي المثل: أنجز حر ما وعد لم يشنه مطل، ورفد لم يشبه منّ، وبرّ لم يمازجه ملق، وودّ لم يخالطه مذق «2» . أعمار موعده قصار تنقضي ... مثل العطايا في أكفّ عداته قال بشّار: كأنّ حقوق النّاس حين ضمنتها ... قذى في حقوق العين منّي أواربه «3» وقال آخر: أعمار أعدائهم إذا قصدوا ... أقصر من وعدهم إذا سئلوا الممدوح بإنجاز الوعد دون الوعيد قيل: إن وعد وفى، وإن أوعد استثنى. قال شاعر: وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي وقال آخر: وعيد عقيم ووعد ولود «4» وقال ابن الرومي: إن خلف الوعيد ليس بعار ... إنّما العار كلّه خلف وعدك الممدوح بإنجازهما قال ابن هرمة: إذا ما أبى شيئا مضى كالذي أبى ... وما قال إنّي فاعل فهو فاعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 654 وقال أبو تمّام: قوم إذا وعدوا أو أوعدوا غمروا ... صدقا ذوائب ما قالوا بما فعلوا وقيل: وعد الكريم نقد وتعجيل، ووعد اللئيم مطل وتعليل. الموفي بوعيده دون وعده يخلف الوعد ويوفي بالوعيد. قال ابن طباطبا: وفيّ بما أوعدني ... وما وفى بما وعد وقال آخر: لها كلّ يوم موعد غير ناجز ... ووعد إذا ما رأس حول تخرّما فإن أوعدت شرّا أتى دون وقته ... وإن وعدت خيرا أراث وأعتما «1» المظهر رضاه بالوعد وإن لم يتبعه إنجاز قال العبّاس: وإني ليرضيني الذي غيره الرّضا ... وتقنع نفسي بالمواعيد والمطل وقال آخر: هلا تعلّلني بوعد كاذب وقال كشاجم: ألا لا أرى شيئا ألذّ من الوعد ... ومن أمل فيه وإن كان لا يجدي وقال الموسوي: وما ضرّهم إن لم يجودوا بمقنع ... من النيل لو منّوا قليلا وسوّفوا «2» وقال النظّام: كنا نلهو بالأماني، ونتمثل في هذا الباب، بقول المتنبيّ: أرد لي جميلا جدت أو لم تجد به ... فإنّك ما أحببت فيّ أتاني وقال بعضهم: كان الناس يفعلون ولا يقولون، ثم صاروا يقولون ولا يفعلون، والآن ليسوا يقولون ولا يفعلون. عذر من أخلف وعدا سأل رجل أبا عمرو بن العلاء حاجة فوعده، ثم لم ينجزه، فقال: أخلفت. فقال أبو عمرو: فمن أولى بالغم؟ قال الرجل: أنا، فقال: بل أنا لأني وعدتك فأبت بفرح الوعد وأبت بهمّ الإنجاز، ثم عاق القدر عن بلوغ الإرادة فلقيتني مدلا ولقيتك محتشما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 655 وقال أحمد بن أبي طاهر: قد كنت أنجز دهرا ما وعدت إلى ... أن أتلف الدهر ما جمعت من نشب «1» فإن أكن صرت في وعدي أخا كذب ... فنصرة الصّدق أوفت بي إلى الكذب الحثّ على المطل قال أحمد بن علويه: إذا شئت أن تبلي أمرأ ببليّة ... وتحرمه سيب العطايا السوابغ «2» فعده وماطله فإنّك بالغ ... به في الأذى والضرّ أقصى المبالغ وقال سهل بن هارون: إن الضمير إذا سألتك حاجة ... لأبي الهذيل خلاف ما أبدي فامنحه روح اليأس ثم امدد له ... حبل الرجاء بمخلف الوعد حتّى إذا طالت شقاوة جدّه ... بتردّد فاجبهه بالردّ «3» المتبجّح بالمطل وخلف الوعد وقال أبو نواس: وأشمط ولّاج إليّ ورائح ... رجاء نوال لو أعان بجود «4» وإنّي وإياك القرينان نصطلي ... من المطل نارا غير ذات خمود «5» فإن كنت لا عن سوء رأيك مقلعا ... فدونك فاستظهر بنعل حديد فعندي مطل لا يطير غرابه ... عتيد ولا يدعى له بوليد «6» وقال الصّاحب: والله ما وافى بحق قاضيا ... بل جاءني لمبرّتي متقاضيا والمال في يومي تعذّر ورده ... فليحضرني إن أراد القاضيا كان محمد بن بشير ولي فارس، فأتاه شاعر فمدحه، فقال: أحسنت، وأقبل على كاتبه وقال: أعطه عشرة آلاف درهم، ففرح الشاعر، فقال: أراك قد طار بك الفرح بما أمرت لك يا غلام اجعله عشرين ألفا، فلما خرج، قال الكاتب: جعلت فداك هذا كان يرضيه اليسير فكيف أمرت له بهذا المال، فقال: ويحك وتريد أن تعطيه ذلك. إنما قال لنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 656 كذبا سرّنا وقلنا له كذبا سره، فما معنى بذل المال؟ أما قول بقول فنعم، وأما بذل بقول فمحال. كثرة مسألة مماطل قال العبّاس بن الأحنف: ومتى لا تملّ مطلي فإنّي ... مغرم لا أملّ طول التقاضي وقال محمد بن بشير: إصبر لمرّ قضاء الحقّ معترفا ... فقد صبرنا لطول الحقّ مذ حين وقال آخر: أناجز لي في ذا العام موعدكم ... أم موعد هو منظور إلى قابل وقيل: أنفق ما يكون التعب إذا وعد كذّاب حريصا. إن كان ينفع رقية أو رقعة ... فلسوف أملؤكم رقى ورقاعا ومن نوادر هذا الفصل، قيل لبعضهم: كيف حالك مع فلان؟ فقال: لا أحصل منه إلا على دقّ الصدر والجبهة، فقيل: كيف؟ قال: إذا سألته دقّ صدره ويقول أفعل، وإذا عاودته وتقاضيته دقّ جبهته، ويقول: لا قوة إلا بالله نسيت. ويقارب هذا ما حكى عن الفضل عن مرداس أنه قيل له: قد تقطع صدر قميصك وركبته دون الباقي، قال: نعم، إني أقعد بالباب فيمرّ بي المار فيقول: سل السلطان لي كذا وافعل كذا، فأدقّ صدري إيجابا، ويأتي آخر فيقول: مات فلان أو حدث كذا فأدق ركبتي اغتماما. (4) وممّا جاء في الشفاعات حثّ ذي الجاه على الشفاعة لذي الحاجة قال الله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها «1» وقال صلّى الله عليه وسلم: إن الله يسأل العبد عن جاهه كما يسأله عن ماله وعمره، فيقول جعلت لك جاها فهل نصرت به مظلوما أو قمعت به ظالما أو أغثت به مكروبا. وقال صلّى الله عليه وسلم: أفضل الصدقة أن تعين بجاهك من لا جاه له. وقال: الشفاعة زكاة ونصرة اللسان فوق نصرة السنان. وكان زياد يقول لأصحابه: إشفعوا لمن وراءكم فليس كل من أراد السلطان وصل إليه، ولا كل من وصل استطاع أن يكلّمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 657 قال أبو تمّام: وإذا امرؤ أسدى إليّ صنيعة ... من جاهه فكأنّها من ماله وقال آخر: فرضت عليّ زكاة ما ملكت يدي ... وزكاة جاهي أن أعين فأشفعا من سأل سأل غيره يشفع له سأل رجل آخر أن يشفع له فقال: صل جناحي فالشفيع جناح الطالب. قال ابن الرومي: ليس من كنت ربحه ببعيد ... من سماء يبلّه ببلال «1» وكذاك الكريم سآل حاجا ... ت سواه وليس بالتسآل «2» وقال ابن الحجّاج: يا سيّدي كم منية نلتها ... منك كما أهوى وأخرى بكا لولاهما أصبحت مستضعفا ... في قبضة الدّهر ومستهلكا فامنن بإصلاح اختلالي الذي ... إليك من شدّته المشتكى وقال أحمد بن المعدل: قلت لبعض أصدقائي كن شفيعي إلى فلان، فقال: أنت لا تحتاج إلى شفيع، معك من الحذاء والسقاء ما تروى بهما الماء وتأكل من لبّ الشجر. مدح متشفّع معط مدح أعرابي رجلا، فقال: تهب لي من مالك وتستوهب لي بجاهك، فأنت قليب «3» مرّة ورشاء مرة، ومنه أخذ أبو تمّام، فقال: ممطولي بالمال والجاه ... لا ألقاك إلا مستوهبا أو وهوبا فإذا ما أردت كنت رشاء ... وإذا ما أردت كنت قليبا «4» وقيل لشعبة: أفنيت مالك وأخلقت جاهك في حوائج الناس، فقال أصونهما للتراب، قال الخبزأرزي: خرق يجود بماله وبجاهه ... والجود كلّ الجود بذل الجاه شفيع مشفع قال الخبزأرزي: شفيعك لو في الروح والمال كلّه ... يشفع لم يكبر له أن يشفعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 658 وقال آخر: ما تبالي وذا شفيعك لو كن ... ت كعاد في غيّها وثمود ذاك لو كان في المعاد شفيعا ... رضي الله عن جميع العبيد مدح شفيع لم يشفع إذا الشافع استقصى لك الجهد كلّه ... وإن لم ينل نجحا فقد وجب الشكر نفي العار عمّن يعطي بشفاعة قال ابن الرومي: لن يعيب السحاب أن تتولّى ... منه أيدي الرّياح حلّ العزالي» المتشفّع بكرم مسؤوله قال عبد الله بن جعفر: إن أحقّ من تشفعه من توسل إليك بالأمل. وقال شاعر: مالي سواك شفيع أستعين به ... إلا رجائي وإفراديك بالأمل وقال آخر: ولو أن لي في حاجة ألف شافع ... لما كان فيهم مثل جودك شافع وقال جحظة: ومالي حق واجب غير أنّني ... إليكم بكم في حاجتي أتوسّل وقال أبو سعيد الأصبهاني: قصدتك عاريا من كلّ منّ ... لكل الخلق في كلّ المعاني وقال رجل لجعفر بن يحيى: أمت إليك بذمام الأمل وحسن الظنّ وأدل بقرابة العلم، فقال: ما ذكرت موجب حقا وعاقد فرضا ورحم العلم أمسّ قرابة وألطف ظؤرة «2» . المتشفّع بامرأة كان لعبد الله بن الزبير حاجة إلى معاوية رضي الله عنهما، فلم يجبه، فاستعان ببعض نسائه فقضى حاجته، فعيّر بذلك. فقال: إذا تعذرت الأمور من أعاليها طلبناها من أسافلها. وقال البحتري: إذا ما أعالي الأمر لم تعطك المنى ... فلا بأس باستنجاحها بالأسافل وقال الهذلي: إذا جئته في حاجة فارش عرسه ... وأرض ابنه تستغن عن كلّ شافع «3» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 659 وقال الفرزدق: أما البنون فقد ردّت شفاعتهم ... وشفعت بنت منظور بن ريّانا ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزرا ... مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا كون المحسن محبّبا إلى المحسن إليه: قال الفزاري: ولم أر كالمعروف أما مذاقه ... فحلو وأما وجهه فجميل وقال المتنبيّ: وأحسن وجه في الورى وجه محسن ... وأيمن كفّ في الورى كفّ منعم «1» وقال الموصلّي: أرى النّاس خلان الجواد ولا أرى ... بخيلا له في العالمين خليل كون المحسن إليه محبّبا إلى المحسن قيل لبعضهم: أي الناس أحب إليك؟ قال من أولاني معروفا، قيل: فإن لم يكن؟ قال من أوليته معروفا. وقيل: أكرم الناس من كثرت أياديّ إليه. وقام رجل من مجلس خالد بن عبد الله، فقال خالد: إني لأبغض هذا الرجل وماله إلي ذنب، فقال رجل: أوله خيرا تحببه فأولاه معروفا، فما لبث أن كان من المحظيين عنده. وقال رجل لهشام: إن الله تعالى جعل العطاء محبّة والمنع مبغضة، فأعنّي على حبّك. وقيل للفرزدق: إنك لتمدح آل المهلب وتحبّهم بعد أن لم تكن على ذلك، فقال: أما علمت أن إعطاء اللها «2» يفتح اللها ويغرس الهوى. حثّ من آتاه الله نعمة على حفظها بإسداء الصّنيعة قال النبي صلّى الله عليه وسلم: من اتصلت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه، فمن لم يحتمل تلك المؤن عرض لزوال تلك النعم. أخذه الشاعر، فقال: من لم يواس النّاس من فضله ... عرّض للإدبار إقباله وقيل: اجعل معروفك حرزا من بداية الغرر وبوادر الغير، وقال خالد بن عبد الله: حوائج الناس إليكم نعم من الله عليكم فلا تملّوا النعم فتتحول نقما، وأفضل الأموال ما أكسب أجرا وأورث ذكرا. قال دعبل: قال العواذل أودى المال قلت نعم ... ما بين أجر ألقاه ومحمدة «3» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 660 أرزاق ربّ لأقوام يقدرها ... من حيث شاء فيجريهن في هبة صعوبة الجود في النّفوس قيل لحاتم: كيف تجد الجود في قلبك؟ فقال: إني لأجده كما يجده الناس ولكن أحمل على خطط الكرام. وقال البحتري: وأشقّ الأفعال أن تهب الأنفس ما ... أغلقت عليه الأكفّ وقال الجريمي: ودون النّدى في كلّ قلب ثنيّة ... لها مصعد حزن ومنحدر سهل «1» كون السّماحة كالشّجاعة قيل: من جاد بماله فقد جاد بنفسه وإن لم يجد بها فقد جاد بما لا قوام لها لا به. ووصف رجل خالد بن عبد الله القسري بالشجاعة، فقال بعض من حضره: إن خالدا لم يلق حربا قط، فقال: الصبر على السخاء أشد من الصبر في الهيجاء. وقال ابن أبي خالد: لا تعدّن نفسك شجاعا حتى تكون جوادا، فإنك إن لم تقو على أن تقاتل نفسك على البخل لا تقدر على عدوك بالقتل. إن الجواد على بذل الندى البطل. وقيل: السخي شجاع القلب والبخيل شجاع الوجه. وقال أبو تمّام: وإذا رأيت أبا يزيد في ندى ... الوغا ووغى ومبدىء غارة ومعيدا أيقنت أنّ من السماح شجاعة ... تدمي وأنّ من الشجاعة جودا وقال البديهي: وإذا اختبرت علمت غير مدافع ... أن السماح سجيّة الأبطال كون البخل منافيا للخصال المحمودة قال النبي صلّى الله عليه وسلم: شرّ ما في الإنسان شح هالع «2» وجبن خالع. وروي عنه صلّى الله عليه وسلم: أي داء أدوى من البخل. وسمع رجل يقول: الشحيح أغدر من الظالم، فقال: لعن الله الشحيح ولعن الظالم، فإن خصلتين خيرهما الظلم لخصلتا سوء. وقال كسرى لجلسائه: أي شيء أضرّ فأجمعوا على الفقر، فقال: الشحّ أضر منه لأن الفقر قد ينفرج والشحّ لا يفارق. وقيل: من أيقن بالخلف جاد بالنشب، وذلك من قول النبي صلّى الله عليه وسلم منع الموجود سوء الظن بالمعبود. ومن هذا أخذ الفضل بن سهل فيما حكى عنه أنه قال: رأيت جملة البخل سوء الظن بالله وجملة السخاء حسن الظن بالله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 661 وقال بعضهم: ذريني فإنّ البخل يا أمّ هيثم ... لصالح أخلاق الرجال سروق حثّ القادر على مبادرة اصطناع المعروف قال شاعر: بادر بمعروفك آفاته ... فبنية الدنيا على القلعه «1» وازرع زروعا ترتضي ريعها ... يوما فكلّ حاصد زرعه وقال أحمد بن أبي بكر صاحب خراسان: أحسن فقد أحسن الزمان ... وصحّ منه لك الضمان بادر بإحسانك الليالي ... فليس من غدرها أمان وقال محمد بن غالب: وما اسطعت من بذل أكرومة ... فلا يمنعنّك عنها التّواني فإنّك في زمن دهره ... كيوم ودولته ساعتان الحثّ على الإعطاء في العسر واليسر: قالت امرأة لابنها: إذا رأيت المال مقبلا فانفق فإنه يحتمل، وإذا رأيته مدبرا فانفق فذهابه فيما تريد أجدى من ذهابه في ما لا تريد. قال الشاعر: لا تبخلنّ بدنيا وهي مقبلة ... فليس ينقصها التبذير والسّرف فإن تولّت فأحرى أن تجود بها ... فالشكر منها إذا ما أدبرت خلف «2» وقال آخر: لا ينفع البخل مع دنيا مولية ... ولا يضرّ مع الإقبال إنفاق الحثّ على إعطاء فقير يرجى غناه عسى سائل ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سؤلا أن يكون له غد «3» وقال آخر: ارفع ضعيفك لا يسؤوك ضعفه ... يوما فتدركه العواقب قد غني وقال وهب بن منبه: اتخذوا عند المساكين يدا فإن لهم دولة يوم القيامة. الحثّ على سبق الوارث في إعطاء المال وإنفاقه في الخبر: إن لك في مالك شريكين الحارث والوارث، فلا تكن أعجز الثلاثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 662 أخذه الشاعر، فقال: مالك للدهر غير شكّ ... إن لم تبادر به انتكاثه «1» أو لنسيب قريب رحم ... إن متّ أضحى له وراثه أنفقه من قبل ذين تغنم ... ولا تكن أعجز الثلاثه وقال الحسن بن عليّ رضي الله عنهما: يا بني لا تخلف وراءك شيئا فإنما تخلفه لأحد رجلين، رجل عمل فيه بطاعة الله فيسعد بما شقيت به، ورجل عمل بمعصيته فكنت عونا له. وليس أحد هذين حقيقا على أن تؤثره على نفسك. قال أبو الشيص: يقول الفتى ثمّرت مالي وإنّما ... لوارثه ما ثمّر المال كاسبه يحاسب فيه نفسه في حياته ... ويتركه نهبا لمن لا يحاسبه وقال آخر: إنما مالي ما أنفقته ... والذي أتركه للورثة وقال آخر: أبقيت مالك ميراثا لوارثه ... فليت شعري ما أبقى لك المال القوم بعدك في حال تسرّهم ... فكيف بعدهم حالت بك الحال «2» وقال أبو العتاهية: ومن الحزم أن أكون لنفسي ... قبل موتي فيما ملكت وصيّا النّهي عن ادّخار المال للإعقاب. قيل لعمر بن عبد العزيز: أوص بابنك، فقال: أوصيت به إلى من أنزل الكتاب وهو يتولى الصالحين. وكان محمد بن كعب أصاب مالا، فقيل له ادخره لولدك من بعدك، فقال: لا والله أدخره لنفسي وأدخر ربي لولدي. أخذه محمود، فقال: وقالوا ادّخر ما حزته وجمعته ... لعقبك إن الحزم أدنى من الرّشد «3» فقلت سأمضيه لنفسي ذخيرة ... وأجعل ربّي الذخر للأهل والولد الحثّ على إنفاق المال وأنه لا يبقى قال حاتم: أماوي إن المال غاد ورائح ... ويبقى من المال الأقاويل والذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 663 وقال ثوبة: ومن يبق مالا عزة وصيانة ... فلا الشحّ مبقيه ولا الدهر وافره وقال بشّار: أخالد إن الجود يبقى لأهله ... جمالا ولا تبقى الكنوز على الكدّ «1» وقال آخر: رأى المال لا يبقى فأبقى به حمدا قلّة الاعتداد بموت من لا ينتفع به قيل: من لا يعتد بحياته لم يتوجع لمماته. قال ابن مقبل: وأيسر مفقود وأهون هالك ... على الحيّ من لا يبلغ الحيّ نائله طيب عيش من عاش غيره فنائه قيل للمغيرة بن شعبة من أحسن الناس عيشا، فقال: من عاش غيره في خير عيشه. وقال آخر: أفضل الناس عيشا من عاشت الرجال في فضله. المال لا ينفع من خلّفه قال أبو كدوا: ليست بباكية إبلي إذا فقدت ... صوتي ولا وارثي في الحيّ يبكيني قال ضمرة: هل تخمشنّ إبلي على وجوهها ... أم تعصبنّ رؤوسها بسلاب «2» وقال حاتم: أماويّ ما يغني الثّراء عن الفتى ... إذا حشرجت نفس وضاق بها الصّدر «3» المال لا يقي من الموت قال حاتم: أعاذل إن الجود ليس بمهلكي ... ولا يخلد النفس الشحيحة لؤمها وقال سوادة: ذريني فإن البخل لا يخلد الفتى ... ولا يهلك المعروف من هو فاعله وقال المخبّل: إني وجدّك ما تخلدني ... مائة يطير عفاؤها أدم «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 664 قلّة نفع المال ما لم ينفق قال هبيرة السلوليّ: وما الفرق بين المال لولا امتهانه ... وبين الحصى المجموع أو كثب الرمل المتبجّح بإنفاق ماله لتصوّر مماته وقال بعضهم: ولقد علمت لتأتينّ عشيّة ... لا بعدها خوف عليّ ولا عدم وأزور بيت الحقّ زورة ماكث ... فعلام أحفل ما تقوض وانهدم فلأتركنّ الساملين حياضهم ... ولأحبسنّ على مكارمي النعم «1» وكتب روح إلى خالد بن عبد الله القسري يحثه على الإمساك، فأجابه وقال: خوفتني مما يجوز كونه والسلامة منه ونهيتني عن فعل ما أوجب الحق، وما أنا ممن يترك ما أوجبه الحق لما خوف منه ظن. من لا يكفّه قول العذّال عن إنفاق المال قال أبو أسد: أرادت لتثني الفيض عن عادة النّدى ... ومن ذا الذي يثني السّحاب عن القطر «2» وقال المتنبيّ: وما ثناك كلام الناس عن كرم ... ومن يسدّ طريق العارض الهطل «3» وقال آخر: فنفسك ولّي اللوم عاذل وانطحي برأسك إن كان الصّفا وذريني «4» من عادته البذل يقال إنه لما مات حاتم تشبه به أخوه، فقالت له أمه: لاتتعبن فيما لا تناله، فقال وما يمنعني وقد كان شقيقي وأخي من أمي وأبي، فقالت: إني لما ولدته كنت كلما أرضعته أبي أن يرضع حتى آتيه بمن يشاركه فيرضع الثدي الآخرة وكنت إذا أرضعتك ودخل صبي بكيت حتى يخرج، قال شاعر: يلام أبو الفضل في جوده ... وهل يملك البحر أن لا يفيضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 665 وقال آخر: باتت تلوم وتلحاني على خلق ... عوّدته عادة والخير تعويد وقال آخر: وإني امرؤ عوّدت نفسي عادة ... وكلّ امرىء جار على ما تعوّدا وقال الموسوي: دعي عذلي فليس العذل يجنى ... به ما أثمرت شيمي وعادي وقال آخر: إذا كنت شمسا نورها من طباعها ... فكيف بأن نلقاك غير منير من لا يترك عادته في الجود وإن دفع إلى ضيق كانت أخت حاتم سخية لا تبقي شيئا، فحظّر عليها إخوتها وحبسوها حتى ذاقت طعم الجوع والفقر، فظنّوا أنها قد وجدت ألم الضيق والفقر، فأطلقوها ودفعوا إليها صرمة فأتتها سائلة، فقالت: دونك الصرمة، لقد غضّني من الجوع ما لا أمنع بعده سائلا أبدا، ثم أنشأت: لعمري لقدما عضّني الدهر عضّة ... فآليت أن لا أمنع الدهر جائعا وقال آخر: وإن مسّه الإقواء والجهد زاده ... سماحا وإتلافا لما كان في اليد «1» ولما أسنّ ابن جذعان أخذ بنو تميم على يده، فكان إذا أتاه سائل يقول: أدن مني فيلطمه، ويقول: أطلب من قومي قصاص لطمتي، ولا ترض بدون كذا، فيفعل فترضيه بنو تميم. قال سلم: وكلّ فخر إذا فاخرت مطّرح ... وكلّ جود إذا ما جدت مغمور وقيل: يغمر ضحضاحه غمرات الأجواد وتستر نفحاته بحور الامجاد «2» وقال المتنبيّ: وهب الملوك وسدتهم بمواهب ... درّ الملوك لدرّها أغبار وله: وإن جاد قبلك قوم مضوا ... فإنّك في الكرم الأوّل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 666 من فضل في الجود على الورى قال الشاعر: لو أدرك العصر من كعب ومن هرم ... وحاتم جود كفّيه لما ذكروا وقال الغساني: لو أنّ عين زهير أبصرت حسنا ... وكيف يصنع في أمواله الكرم إذا لقال زهير حين يبصره ... هذا الجواد على العلّات لا هرم وقال الفرزدق: لو أن كعبا أو حاتما نشرا ... كانا جميعا في بعض ما يهب من لو قسّط جوده على الورى لجادوا قال منصور بن الفقيه: لو أنّ ما فيه من جود يوزعه ... على الخلائق عادوا كلّهم سمحا قال ابن الرومي: خلائق لو فضّت على النّاس كلّهم ... محاسنها لم يبق في الأرض مشتم من يحاكي بعطائه القطر والبحر كأنّ فيض يديه قبل مسألة ... باب السماء إذا ما بالحياء انفتحا وقال ابن الرومي: وأنت كالبحر لا كفاء له ... في بعد غور وقرب مغترف وقال آخر: وما الغيث إلا مثل كفّك في المحل وقال آخر: أغنيت ما أغنى المطر وقال الغسّاني: مطرت أنامل راحتيه فوائدا ... هانت علينا بعدها الأمطار وقال بشّار: إذا القطر لم يغزر علينا سماؤه ... بأرض وثقنا من سمائك بالغزر من سماؤه تقطر المال قال أبو نواس: كلّ يوم له عليّ سماء ... ثرّة تستهلّ بالعقيان «1» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 667 وقال سلم الخاسر: وفي يديه سماء غير مقلعة ... بالجود صوب عزاليها الدنانير «1» من فضّل على البحار والسّحاب قال الغسّاني: قوم إذا مطرت سماء نوالهم ... ذمّ الأنام سحائب الأمطار وقال آخر: البحر يغرق في بحور سخائه وقال علي بن الجهم: ولو قرنت بالبحر سبعة أبحر ... لما بلغت جدوى أنامله العشر «2» وقال المتنبيّ: ولما تلقّاك السحاب بصوبه ... تلقّاه أعلى منه كعبا وأكرم «3» من يستحي منه السّحاب ويحسده قال الأمويّ: يجود فتستحيي السحاب إذا رأت ... نداه وتخطّيه الغيوث المواطر وقال التنوخي: إذا انبسطت بالمكرمات أكفّهم ... رأيت الحيا من سيبهنّ قد استحيا «4» وقال آخر: ويحسد كفّيه ثقال الغمائم المهين لماله وقال ابن هرمة: يداه يمينان لم تجمدا ... ولم تأخذا عادة الأشمل وقال آخر: أنا الرجل الذي كلتا يديه ... يمين في صروف النّائبات «5» الباذل بكلتا يديه قال ابن الرومي: ولم أر مالا جاره مثل عزّهم ... يروح ويغدو وهو نهب مقسّم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 668 وقال آخر: وليس لمالي دون حقّ كريمة ... يعزّ وما فيه عليّ كريم وقال المتنبيّ: ويحتقر الدنيا احتقار مجرّب ... يرى كلّ ما فيها وحاشاك فانيا وقال بكر بن النطاح: فتى شقيت أمواله بسماحه ... كما شقيت قيس بأرماح تغلب «1» من لا يرى الإعطاء حتما وقال بشّار: كأنّ لهم دينا عليه وما لهم ... سوى جود كفّيه عليه حقوق وقال أبو تمّام: ترى ماله نصب المعالي فأوجبت ... عليه زكاة الجود ما ليس واجبا من يبسط الآمال قال أبو تمّام: ألبستني حلل الغنى فلبستها ... وجعلت آمالي لهنّ ذيولا وله: ويحكّم الآمال في الأموال وقال البحتري: ثنى أملي فاختاره عن معاشر ... يبيتون والآمال فيهم مطامع المتلقّي سؤاله بطلاقة وجهه قيل: بسط الوجه يقوم مقام البذل، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم ببسط الوجه وحسن الخلق. وفي كتب الفرس: لأن تلقي الأحرار بالبشاشة ويحرموا، أحسن من أن يلقوا بالفظاظة ويعطوا، فانظر إلى خلّة أفسدت مثل الجود فاجتنبها وإلى خلّة عفت عن مثل البخل فالزمها. قال أحمد بن أبي فنن: بسطت له وجها طليقا إلى النّدى ... وشرّ الوجوه ما يعبسه البخل وقال كاتب: لما سألته تهلّل واهتز هزّ المهند وابتسم إبتسام الروض عن زهره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 669 وقال بشّار: وتأخذه عند المكارم هزّة ... كما اهتزّ تحت البارح الغصن الرّطب «1» وقال آخر: وليس بسعّال إذا سيل حاجة ... ولا بمكبّ في ثرى الأرض ينكت» وقال أعرابي: سألت فلانا فما عبس ولا خنس «3» ولا حبس. وقيل لآخر: أحسن من أريحية الباذل. من آثار آلائه ظاهرة قال سلم الخاسر: لنعمان آثار علينا مبينة ... كما بيّنت آثار غيب مسائله وقال أبو تمّام: وصنيعة لك قد كتمت جزيلها ... فأبى تضوّعها الذي لا يكتم «4» ومثله لأبي نواس: نحن نخفيها ويأبى ... طيب ريح فيفوح من أخذ مواهبه بزين قال بعضهم: إذا أعطى القليل فتى شريف ... فإنّ قليل ما يعطيه زين وإن تكن العطيّة من دنيء ... فإنّ كثيرها عار وشين «5» وقال أحمد بن ثور: فضع الزيارة حيث لا يزري بها ... كرم المزور ولا يخيب الزّور «6» من هو هشّ العود وريق عودهم أبدا رطيب ... إذا ما اغبرّ عيدان اللئام وقال آخر: ألم يك رطبا يعصر القوم ماءه ... وما عوده للكاسرين بيابس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 670 الخصيب الفناء قال بعضهم لعاف: نزلت بواد ممطور وفناء معمور، فحطّ رحلك فقد صادفت أهلك. قال الحطيئة: إذا نزلوا بمحلّ روّضوه ... بآثار كآثار الغيوم «1» وقال ابن الرومي: أنخت بحيث تبيضّ الأيادي «2» ... وتسودّ المطابخ والبرام «3» من علّم الناس الجود وأعداهم حسن صنيعه قال بعض الأعراب: قدم علينا الحكم بن المخزومي ولا مال لنا، فأغنانا عن آخرنا، فقلت له: كيف؟ فقال: علمنا مكارم الأخلاق فعاد أغنياؤنا على فقرائنا فصرنا كلنا أجوادا. وكان عبد الله بن العباس يسمّى معلم الجود لسخائه وحثّه على ذلك قولا وفعلا. قال شاعر متمثلا معاتبا لصاحبه: فلو كنت تطلب شأو الكرام ... فعلت كفعل أبي البحتري تتبع إخوانه في البلاد ... فأغنى المقلّ عن المكثر وقال ابن الرومي: حبّبت كفّه النوال إلى النا ... س جميعا وكان غير حبيب وقصد أبو العريان بعض الأكابر فكساه وأولاه مالا، فخرج ووزع على أصحابه، وقال: لمست بكفّي كفّه أبتغي الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفّه يعدي فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى ... أفدت وأعداني فأفسد ما عندي من الجود عبده ورقيقه قصد أعرابي خالد بن يزيد، فقال إني امتدحتك ببيتين فهل تسمعهما، فقال: إن أحسنت فنعم ولك ثواب، فأنشد: سألت النّدى والجود حرّان أنتما ... فقالا جميعا إننا لعبيد فقلت ومن مولاكما فتطاولا ... جميعا وقالا خالد ويزيد فاهتزّ طربا لهما، وأمر له بصلة سنيّة. قال دعبل: الجود يعلم أنّي منذ عاهدني ... ما خنته وقت ميسوري ومعسوري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 671 من سكن الجود كفّيه وصف رجل آخر، فقال: الجود معتكف عليه والفضل مقترن بكفّيه. وقال آخر: كفّه بالجود سائلة وبالمعروف شائلة «1» وقال مسلم: هانت الدّنيا عليه ... فهي نهبى في يديه «2» يصبح الجود ويمسي ... عاكفا في راحتيه «3» من حلّ بحلوله الجود قال أبو نواس: فما جازه جود ولا حلّ دونه ... ولكن يسير الجود حيث يسير وقال نصيب: وإنّ خليليك السماحة والنّدى ... مقيمان بالمعروف ما كنت توجد وقال أشجع: وإنّ وجود الجود في كلّ بلدة ... إذا لم يكن يحيى بها لغريب المعطي قبل أن يسأل قيل: أكرم الناس معطي من لا يرجوه ولا يعفوه، وقيل: فلان دواء الفقر، إن سئل أعطى وإن لم يسأل ابتدأ. وقال خالد بن يزيد لابنه: السخاء أن تعطي كل من سأل، فقال: يا أبت هذا هو الكدّ، السخاء أن تعطي قبل أن تسأل. وقال مسلم بن قتيبة: إني لأعجز عن مكافأة من رآني لحاجته أهلا، فقال أبو عطاء: أيها الأمير فاجعل فضلك ابتداء حتى ترفع عن نفسك ثقل المكافأة. قال مسلم: أعطاك قبل سؤاله ... فكفاك مكروه السؤال وقال أبو علي البصير: كفاني ولم أستكفه متبرّعا ... فتى غير ممنون العطاء ولا نزر وقال البلاذري: نالني معروفه مبتدئا ... وكفاني جوده أن أسأله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 672 وقال البحتري: مواهب ما تجشّمنا السؤال لها ... إنّ الغمام قليب ليس يحتفر وقال أبو تمّام: أعطي ونطفة وجهي في قرارتها ... تصونها الوجنات الغضّة القشب لن يكرم الظّفر المعطى وإن أخذت ... به الرغائب حتّى يكرم الطّلب من يكتفي في سؤاله بالتّعريض قال ابن الرومي: يا من إذا التعريض صافح سمعه ... أغنى العفاة به عن التّصريح وقال المتنبيّ: ومثلك من كان الوسيط فؤاده ... فكلّمه عنّي ولم أتكلّم المغني سائله عن سؤال غيره سئل بعض الأدباء عن جعفر بن يحيى بعد ما قتل، فقال: تركني مقطوع الآمال زاهدا بعده في طلب الأموال. قال ابن الرومي في معناه: سألتك إغنائي عن النّاس كلّهم ... فأغنيتني عنهم وعنك جميعا وقال أبو تمّام: لم يدعني وفي يميني فضل ... لندى غيره ولا في شمالي وقال ابن نباتة: لم يبق جودك لي شيئا أؤمله ... تركتني أصحب الدّنيا بلا أمل ولعابدة المهلبيّة: بحمدك لا بحمد النّاس أضحى ... وكيلي ليس يقنعه وكيل وكانوا كلّما كالوا وزنّا ... فصاروا كلّما وزنوا نكيل وكنت وناقص وزني فأضحى ... مفاعيلن مفاعيلن فعول من يصير سائله مسؤولا بما يعطيه مدح أعرابي رجلا، فقال: يعود عليه المجتدي مجديا ومستعطي رفده معطيا والمنتجع منه منتجعا. قال أبو تمّام: وكم لحظة أهديتها لابن نكبة ... فأصبح منها ذا عفاة ونائل «1» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 673 وله: وما يلحظ العافي جداك مؤمّلا ... سوى لحظة حتّى يؤوب مؤمّلا من لا يردّ سائله قال أعرابي في مدح رجل: لم ينظر قط إلى محروم. قال ابن خارجة: لا أرد سائلا فإنما هو كريم أسد خلته أو لئيم أشتري عرضي منه. وقال أبو علي البصير: فتى لا يفيد المال إلا لبذله ... ولا يتلقّى صفحة الحقّ بالعذر وقال حاتم: أماوي أني لا أقول لسائل ... إذا جاء يوما حلّ في مالنا نذر «1» وقال النّمر بن تولب: ولا رحلي بمخزون عليه ... إذا جاري استعار، ولا ردائي المحقق رجاء آمليه قضى رجل حاجة أعرابي، فقال: وضعتني من كرمك بحيث وضعت نفسي من رجائك. قال أبو تمّام: رجعت المنى خضراء تثني غصونها ... علينا وأطلقت الرجاء مكبلا وله: همّ سرى ثم أضحى همّه أمما ... راحت رجاء وباتت وهي في نشب «2» وقال الخوارزمي: كنّا وردنا وكلّنا أمل ... ثمّ صدرنا وكلّنا نعم «3» وقال البحتري: ولئن كفيت مهمها ... فلمثلها أعددت مثلك «4» من لا يقطع نواله عمّن غضب عليه كان العبّاس بن محمد يجري على رجل شيئا فغضب عليه، وكان ابنه كتب إطلاقات رفعت إليه، فترك اسم المغضوب عليه، فقال: فأين ذكر رزق فلان؟ فقال: إنك قد كنت غضبت عليه، فقال: يا بني غضبي لا يسقط هبتي، إن أباك لا يغضب في النوال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 674 وسئل بعض الصوفيين: لم وصف الله تعالى بخير الرازقين، فقال: لأنه إذا كفر أحدهم لا يقطع رزقه. وكان محمد بن سليمان يجري على رجل شيئا، فغضب عليه فقطعه، ثم رضي عنه فردّه، فأبى الرجل أن يقبله، وقال: إني كنت أظن أن إعطاءه مكرمة، فأما وقد صار غضبه يقطعه فلا حاجة لي فيه. من عطاؤه لا ينقطع قال الأعشى: وليس عطاء اليوم مانعه غدا وقال ابن الرومي: نوالك كالسيل المسهل بعضه ... لبعض طريق الجري في السّهل والوعر وقال آخر: كلّما عدنا لنائله ... افتررنا جوده جذعا «1» وقال آخر: وما كان نفعك لي مرّة ... ولا مرتين ولكن مرارا وقال الحطيئة: وما أجم المعروف من طول كره ... وأمرى بأفعال الندى وافتعالها «2» المتجنّب لفظ المنع قال بعضهم: فلان خلقت نعم للسانه قبل أن خلق لسانه، فاجتنب «لا» ولزم «نعم» . وقال لبيد: وبنو الديّان أعداء للا ... وعلى ألسنهم ذلّت نعم وأنشد عبد الرحمن الكندي: لو قيل للعبّاس يا ابن محمّد ... قل لا، وأنت مخلّد ما قالها فقال: ليس يجب أن يقول الإنسان في كل شيء نعم، وكان الوجه أن يستثني. ثم قال: هجرت في القول لا إلا لنائبة ... تكون أولى بلا في اللفظ لا بنعم ويستحسن قول الآخر: لا فرق في ناطق بالشرك عندهم ... وناطق في جواب السائلين بلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 675 وقال العتبي: ما قال لا إلّا لعذّاله ... وهو بها عن سائل أعجم «1» من هو مقصد العفاة قيل: أطيب الناس عيشا من كثرت عفاته «2» وعاش الناس في كنفه، وقيل: فلان داره مجمع عفاته ومربع عطياته. قال أبو نواس: ترى النّاس أفواجا على باب داره ... كأنّها رجلا دبى وجراد «3» وقال وهب الهمداني: فتى داره معمورة بعفاته ... ومجلسه بالمكرمات منجد وقال أشجع: على باب ابن منصور ... علامات من البذل جماعات وحسب البا ... ب فضلا كثرة الأهل وقال بشار: يطوف العفاة بأبوابه ... كطوف الحجيج ببيت الحرم وقال البديهي: وللجود حسن أيّ وقت بذلته ... وأحسنه ما كان في زمن المحل باعث رفده إلى تارك قصده قال الحجّاج يوما: قلّ عفاتنا، فقال رجل: أصلح الله الأمير إنك أكثرت خير البيوت فاستغنى الناس بما يصل إليهم عن الترحال، فسرّ الحجاج، وقال: بارك الله فيك وأحسن إليه. أنشد مروان بن أبي حفصة قول الشاعر: إذا جئت أعطاني وإن أنا لم أجىء ... أتاني من جدواه ما كنت أرتجي فقال مروان قد قلت أحسن من هذا، بعث إليّ عبد الله بن طاهر عشرين ألفا فقلت فيه: لعمري لنعم الغيث غيث أصابنا ... ببغداد من أرض الجزيرة وابله «4» ونعم الفتى، والبيد بيني وبينه ... بعشرين ألفا صبّحتنا رسائله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 676 وقال ابن الرومي: ويشرك أدنى الأرض في صوبه القصوي «1» وقال آخر: لا أشتكي البدر على بعده ... لقد أضاءت لي آفاقه وقال عمارة: لعمرك ما النائي البعيد بنازح ... إذا قربت ألطافه ونوائله «2» وما ضرّنا أن السماك محلّق ... بعيد، إذا جادت علينا هو اطله «3» من أعطى الغنيّ والفقير روي في الخبر: أعطوا السائل ولو جاء على فرس، وقال صلّى الله عليه وسلم: كل معروف صدق لغني أو فقير. وقيل لبعضهم: ما الجود؟ فقال: أن تعطي الغني والفقير ولا تخص ولأحمد بن أبي طاهر: ونداه مثل الغيث جاد لمجدب ... وعر، وحلّ على المحلّ الممرع «4» وقال المتنبيّ: ويد لها كرم الغمام لأنّه ... يسقي العمارة والمكان البلقعا «5» المستشهد على فرط جوده بعفاته وزمانه قال الخطيم: وإن تلق ندماني تخبرك أنّني ... وكاء لكيس لم أعد منه بالفقر «6» وقال ديك الجن: سلا هل كمجدي أو كفخري لفاخر ... وعندكما من قبل إن تسألا خبر وقال المتوكل الليثي: فإن يسأل الله الشهود شهادة ... تنبىء جمادى عنكم والمحرّم «7» بأنكما خير الحجاز وأهله ... إذا جعل المعطي يملّ ويسأم من يباري الرياح قال عبد الله بن أبي السمط: أعطى أبو دلف والريح عاصفة ... حتّى إذا وقفت أعطى ولم يقف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 677 وقال آخر: يكلون الرياح إذا تبارت ... ويمتثلون أفعال السّحاب «1» المعطي بلا شفاعة قال ابن الرومي: النائل المعطي بغير وسيلة ... كالماء مغترفا بغير رشاء «2» وقال آخر: أفردته برجائي أن يشاركني ... فيه الوسائل أو ألقاه بالكتب من شارك في ماله عفاته قال ابن الرومي: وامدح فتى حظّه منّ ومأثرة ... كحظّ ناظرنا من وجهه الحسن وقال أبو تمّام: لو كنت شاهد بذله لشهدت لي ... بوراثة أو شركة في ماله من لا يبقي مالا. كأنّ عليه أن يفرّق ماله ... ألية مبرور الألية محترز «3» وقال المتنبيّ: عجبا له حفظ العنان بأنمل ... ما حفظها الأشياء من عاداتها» وله: لو كان ضوء الشموس في يده ... أضاعه جوده وأفناه «5» وقال آخر: يقول أناس لو جمعت دراهما ... وكيف ولم أخلق لجمع الدّراهم أبى الله إلا أن تكون دراهمي ... مدى الدّهر نهبى بين عاف وغانم «6» وقال أعرابي: حسن الحديث ضعيف خيط الدرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 678 من لا تجب عليه زكاة لإنفاقه ماله قال بكر بن النطاح: وما وجبت عليّ زكاة مال ... وهل تجب الزكاة على الفقير وقال رجل من بني عذرة: والله ما بلغت للجود ماشيتي ... حدّ الزكاة ولا إبلي ولا مالي من ماله ماله معدّ للبذل قال البحتري: فتى لا يريد الوفر إلا ذخيرة ... لمأثرة تزداد أو مغرم يعرو «1» وقال عليّ بن الجهم: ولا يجمع الأموال إلا لبذلها ... كما لا يساق الهدي إلا إلى النّحر «2» من لا يبخل بروحه ولا ماله لو سئل مدح رجل آخر، فقال: كيسه محلول وماله مبذول، يطعمك نفسه إن أوكلتها ويسقيك روحه إن شربتها، ومنه أخذ بعض بني غطفان: ولو لم أجد لنزيلي قرى ... قطعت له بعض أطرافيه وقال بكر بن النطاح: ولو لم يكن في كفّه غير روحه ... لجاد بها فليتق الله سائله وقال الكميت: وتبتذل النفس المصونة نفسه ... إذا ما رأى حقّا عليه ابتذالها وقال أبو هفّان في معناه، وإن كان في وصف الضيافة: ولو نزل الأضياف ليلة لا قرى ... لأطعمتهم لحمي وأسقيتهم دمي وقال ابن نباتة: وحكّمني حتّى لو أنّي سألته ... شبابي وقد ولّى به الشّيب ردّه المنخدع المتباله في ابتذال ماله قيل: الكريم هو المنخدع عن ماله حتى يحكم فيه الطمع ويستعمل في ماله الخدع. وقيل لبعضهم: ما الشرف؟ فقال: الإنخداع عن المال. ولا تجد أحدا يتغافل عن ماله إلا وجدت له في قلبه فضيلة لا تقدر على دفعها، وقد أدّبنا نبيّنا صلّى الله عليه وسلم بقوله: رحم الله سهل البيع سهل الشراء وهذا خلاف قول الناس: المغبون غير محمود ولا مأجور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 679 وقد قال صلّى الله عليه وسلم: ألا أدلّكم على شيء يحبّه الله ورسوله، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: التغابن للضعيف. قال شاعر: ممّن يغرّ على الثّناء فيمدح وقال البحتري: وإذا خادعته عن ماله ... عرف المسلك فيه فانخدع وله: وقد يتغابى المرء في عظم ماله ... ومن تحت برديه المغيرة أو عمرو «1» وله: إذا معشر صانوا السماح تعسّفت ... به همّة مجنونة في ابتذاله وتخطّى أبو تمّام ذلك حتى استقبح قوله، فقال: ما زال يهذي بالمكارم والعلى ... حتى ظننّا أنه محموم والهذيان والحمى مستقبح ذكرهما في المدح، قال المنذر الغساني يوصي ابنه: آمرك بالذل في نفسك والإنخداع في مالك. من عيبه إفراطه في الجود فتى كملت أخلاقه غير أنّه ... جواد فلا يبقي من المال باقيا وقال كشاجم: ما فيهم عيب سوى الإ ... فراط في الجود فقط وقال أبو هفان: عيب بني مخلد سماحتهم ... وأنّهم يتلفون ما ملكوا وقيل للحسن بن سهل، وقد كثر عطاؤه على اختلال حاله: ليس في السرف خير، فقال: ليس في الخير سرف. وقال المأمون لمحمد بن عباد: إنك متلاف، فقال: منع الجود سوء الظن بالمعبود. وفي الزهد أخبار من ذلك. الساتر عطيّته روي أن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ملك أربعة دراهم، فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية، فنزل فيه قوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً «2» الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 680 وقال المتنبيّ: ستروا النّدى ستر الغراب سفاده ... فبدا، وهل يخفى الرباب الهاطل «1» ؟ ووصف أعرابي رجلا، فقال إذ أعطى شكر وإذا أعطى ستر. المسرور بما يعطيه لمّا دخل الفضل بن يحيى الرقّة، قال لو كلائه: أحصوا منزل من يغنيه ألف درهم فاحصوا ثلاثمائة منزل فوجه إليهم ثلاثمائة ألف درهم، ثم وضع له الطعام، فقال: ما أكلت طعاما أهنأ منه اليوم، وقد علمت أني أغنيت ثلاثمائة بيت. قال أبو تمّام: لو يعلم العافون كم لك في النّدى ... من لذّة وقريحة لم تحمد «2» وقال زهير: تراه إذا ما جئته متهلّلا ... كأنّك تعطيه الذي أنت سائله وقال الأعشى: يرى البخل مرّا والعطاء كأنّما ... يلذّ به عذبا من الماء باردا وقال أبو تمّام: ونغمة معتف يرجوه أحلى ... على أذنيه من نغم السّماع وقال معاوية يوما لجلسائه: ما بقي من لذاتكم؟ فقالوا: ضروب من القول، فقال ذلك لوردان مولى عمر، فقال: النظر في وجه كريم أصابته من دهره جائحة فاصطنعت إليه، فقال معاوية: أنا أحق بهذه منك، فقال: أحق بها من سبق إليها وأنت أقدر عليها فافعل. ودخل هشام بن عروة على المنصور، فشكا إليه دينا، فأعطاه عشرة آلاف درهم، فقال: يا أمير المؤمنين روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال من أعطى عطية وهو طيب النفس بورك للمعطي والمعطى منها، أفنفسك طيبة بها، قال: نعم. من اشتغاله بالعطاء قال بعضهم: فتى لا تراه الدهر إلا ونفسه ... تجود بخير أو تهمّ بخير وقال آخر: لا يعدّ المال إلا وهبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 681 وقال دعبل: يعدّ ما أنفق من ماله ... غنما وما وفّره غرما وله: فتى لا يرى المال إلا العطاء ... ولا الكنز إلا اعتقال المنن من لا يعدّ ماله إلّا ما وهبه قال النبي صلّى الله عليه وسلم: أفضل الصدقة جهد من مقل. وقال بعض الصوفية: ليس السخاء أن تعطي الواجد العادم إنما السخاء أن تعطي العادم الواجد قال شاعر: إذا تكرّمت أن تعطي القليل ولم ... تقدر على سعة لم يظهر الجود بثّ النوال ولا يمنعك قلّته ... فكلّ ما سدّ فقرا فهو محمود وقال آخر: ليس العطاء من الفضول سماحة ... حتّى تجود وما لديك قليل وقيل: لم يحرم من قصد له. من يكثر العطاء وإن قلّ ماله قال ابن هرمة: وينال بالمال القليل تبرّعي ... فما يضيق بها ذراع المكثر وقال العرندس: ولم يك أكثر الفتيان مالا ... ولكن كان أرحبهم ذراعا وقال آخر: ما كان عارا إذا ضيف تضيفني ... ما كان عندي إذا أعطيت مجهودي جهد المقلّ إذا أعطاك نائله ... ومكثر من غنى سيّان في الجود وقال معن بن زائدة: طلبني المنصور فهربت منه متنكرا، فلقيني أسود فتعلق بي وقال: أنت طلبة أمير المؤمنين، فقلت: إتق الله فإني غريب، فقال: دعني من هذا، فقلت: إنك إن أتيته بي لا تنتفع منه بكثير نفع، فدونك هذه الجواهر فقيمتها ألوف دنانير، فقال: دعني من ذا أنت موصوف بالجود، هل أعطيت مالك كلّه أو نصفه أو ثلثه، فقلت: لا، فقال: أنا مشاهرتي كل شهر عشرون درهما ومالي على ظهر الأرض ما قيمته مائة درهم، وها أنا قد وهبت لك هذه الجواهر ووهبتك لنفسك لتعلم أن لله عبادا أسخى منك، ففارقته وأنا بعد في طلبه. من أعطى الكثير لمن يرضيه القليل سوّى حجّام شارب الحسن فأعطاه درهمين، فقيل: إنه كان يكتفي بدانق، فقال: لا تدنقوا يدنق عليكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 682 ومرّ يزيد بن المهلّب بأعرابي في خروجه من السجن، فسأله شيئا، فقال لغلامه: ما معك؟ قال: مائة دينار، فقال: أعطه، فقال الغلام: هذا يرضيه اليسير، فقال: أنا لا يرضيني إلا الكثير. قال: إنه لا يعرفك، قال: أنا أعرف نفسي. وأثنى أعرابي على رجل فقال: ما زال يعطيني حتى ظننت أنه يودعني وما ضاع مال أورث حمدا. المحكّم سائله في ماله قال التنوخي: إن جاءهم سائل يبغي نوالهم ... أعطوه من مالهم ما شاء واقترحا وقال ابن نباتة: وحكّمني حتّى لو أني سألته ... شبابي وقد ولّى به الشّيب ردّه ودخل الغافري على الحسن بن عليّ رضي الله عنهما، فقال: إني عصيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: بئس ما صنعت، كيف؟ قال: لأن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: لا يفلح قوم ملكت أمرهم امرأة وقد ملكت عليّ امرأتي، أمرتني أن أشتري عبدا فاشتريته فأبق منّي، فقال: اختر إحدى ثلاث إن شئت فثمن عبد، فقال: قف ههنا ولا تتجاوزه، فقد اخترته فأعطاه ذلك. من جاد بالعرض دون العرض قال أبو شراعة: عرض مصون وتراث منتهب وقال ابن الرومي: قريب النوال بعيد المنال ... ومسكنه شرف ممتنع «1» كمثل السحاب نأى شخصه ... ولم ينأ منه صيّب همع «2» وقال يعقوب التمّار: حمى أعراضه ضنّا وشحّا ... وصيّر ماله نهبا مباحا الصّائن عرضه بماله قيل: فلان منع الناس من عرضه، بما نشر عليهم من فضله. وقال آخر: خير العروض وقاية الأعراض وقال آخر: وما أنال المال صان الجاها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 683 وقال أحمد بن أبي طاهر: العرض ليس يصونه مال إذا ... ما المال عند حقوقه لم يبذل وقال آخر: لا يقي بالإحسان مالا ولكن ... يجعل المال جنّة الإحسان «1» المبتاع الحمد بالمال ذهاب المال في حمد وأجر ... ذهاب لا يقال له ذهاب وقال مجنون: وما اشتريت بمال قطّ مكرمة ... إلا تيقنت أنّي غير مغبون وفرّق علي بن موسى الرضى ماله بخراسان كلّه في يوم عرفة، فقال له الفضل بن سهل: ما هذا المغرم؟ فقال: بل هو المغنم لا تعدن مغرما ما ابتعت به أجرا وكرما. من يعطي طوعا ويتأبّى خسفا خبر الدهقان الذي طالبه بالمال قد تقدم في خبر السلاطين. وقيل: فلان لا يسمح بالغلب ولا يدرّ على الغضب. وقال معن بن أوس: ونأبى فلا نعطي على الخسف درّة ... ميسا ولكن بالتودّد نختل «2» وقال البحتري: حرون إذا عازرته في ملمّة ... فإن جئته من جانب الذلّ أصحبا «3» وقال المتنبي: وأنتم فئة تسخو نفوسكم ... بما يهون ولا تسخون بالسلب «4» إعطاء المستحقّ وغيره والشاكر والكافر قيل: لأن أخطىء باذلا أحب إليّ من أن أصيب مانعا. وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: لا يزهدنّك في المعروف كفر من كفره، فإنه يشكرك عليه من لم يصطنع إليه. قال بعضهم: يد المعروف غنم حيث كانت ... تضمّنها كفور أو شكور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 684 فعند الشاكرين له جزاء ... وعند الله ما كفر الكفور وقال محمود: سأمنح مالي كلّ من جاء عافيا ... واجعله فرضا على الفرض والفرض فإما كريم صنت بالجود عرضه ... وأما لئيم صنت عن لؤمه عرضي وقال آخر: لا يذهب العرف بين الله والنّاس الحثّ على منع اللّئام ومن يستضرّ بإعطائه قيل في التوراة: مكتوب من صنع معروفا إلى غير أهله كتب له خطيئة. وقال بزرجمهر: المصطنع إلى اللئيم كمن طوق الخنزير تبرا وقرّط الكلب درا وألبس الحمار وشيئا وألقم الحية شهدا. وقيل: من أشبع لئيما فقد ضرى عدوا عاتيا وسبعا عاديا. وقيل: اللئيم يزداد بالعرف خبالا كما يزداد المريض من كثرة الطعام وبالا. قال أبو بجيلة: متى تسد معروفا إلى غير أهله ... رزئت ولم تظفر بحمد ولا أجر وقال آخر: ومن يصنع المعروف في غير أهله ... يلاقي كما لاقى مجير أمّ عامر وقال آخر: هم سمّنوا كلبا فأتلف بعضهم ... ولو أخذوا بالحزم ما سمّنوا كلبا وقال آخر: ليس في منع غير ذي الحقّ بخل من لا يبخل في حقّ يلزمه ولا يسرف فيما يخوّله قيل للمنبوذ: إنك بخيل، فقال: ما أحمد في حق ولا أذوب في باطل. وقيل لفيلسوف: متى يكون قليل النوال موفيا على الكثير؟ فقال: إذا كان قليله في الحقوق وكثيره في الإسراف. وقيل لمعاوية: ما الجود؟ فقال: إصابة موضع البذل والمنع. وقيل: السخاء أن تأخذ الشيء من حل وتضعه في حق. قال الراعي: فلست إن نابني حقّ بمنتكر ... فيه ولا برم تعيى به السّبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 685 الممدوح بمنع العطاء غير مستحقّه. قيل: إذا المال لم يوجب عليك عطاءه ... صنيعة تقوى أو خليل تخالقه «1» منعت وبعض المنع عزم وقوّة ... ولم يبتذلك المال إلا حقائقه المشارك ذويه في ما يملكه ويحويه صادف رجل موسرا يصحبه معسر، فسأل الموسر عن صاحبه، فقال: هو أخي، فقال له: ولم أنت غني وهو فقير؟ أما سمعت قول عبد الله بن معاوية: وإذا أصبت من القوافل رغبة ... فامنح عشيرتك الأدنى فضلها «2» وأحسن بقول الآخر: بدا حين أثرى بإخوانه ... فقلّل منهم شياة العدم «3» وعرفه الحزم صرف الدهور ... فبادر بالعرف قبل النّدم «4» وقال عمرو بن الأطنابة: كريم رأى الإقلال عارا فلم يزل ... أخا طلب للمال حتّى تموّلا فلمّا أفاد المال عاد بفضله ... على كلّ من يرجو جداه مؤمّلا «5» وقال أبو عمر القاضي: وتركي مواساة الأخلاء بالذي ... تحوز يدي ظلم لهم وعقوق وقيل: لا تعدنّ غنيا من لم يكن غناه مشتركا. الإعطاء في حال السّكر والصّحو لما كان السكر قد يذر البخيل كريما، كرهوا مدح المرء بأنه يسخو في حال السكر، فغضوا من قول عمرو: إذا ما الماء خالطها سخينا واستجادوا قول امرىء القيس: ينال جودك في صحو وفي سكر «6» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 686 وقد استجيد قول زهير: أخو ثقة لا يهلك الخمر ماله ... ولكنّه قد يهلك المال نائله أي ليس ممن يعطى لسكره ولكن يعطي لسخائه. وقيل: ليس ينفق ماله في شرب الخمر ولكنه في البذل. قال البحتري: تكرمت من قبل الكؤوس عليهم ... فما استطعن أن يحدثن فيك تكرّما وقال المتنبيّ: لا تجد الخمر في مكارمه ... إذا انتشى خلّة تلافاها «1» عذر سخيّ بخل في بعض الأحوال قال الحسن بن علي رضي الله عنهما لرجل سأله شيئا، فلم يمكنه: لو أمكنني لكان الحظ فيه لنا دونك، فإن حرمنا شكرك فلا تحرمنا سعة عذرك. قصد رجل الحسن بن سهل في حالة عسره فاستماحه، فلم ينل منه مطلبه فعاتبه، فقال الحسن: الجود طبعي ولكن ليس لي مال ... وكيف يسمح من بالدين يحتال وشيمتي في العطايا لا تزايلني ... وليس ما أشتهي يأتي به المال واستبطأ دعبل أبا دلف، فبعث إليه دنانير، وكتب معها: أعجلتنا فأتاك عاجل برّنا ... قلا ولو أمهلتنا لم تقلل فخذ القليل وكن كأنّك لم تسل ... ونكون نحن كأنّنا لم نسئل ومدح البحتري طاهر بن محمد، فبعث إليه دنانير، وكتب معها بأبيات منها: والشريف الظريف يسمح بالعذ ... ر إذا قصّر الصديق المقلّ فكتب إليه البحتري: وإذا ما جزيت شعرا بشعر ... يبلغ الحقّ فالدنانير فضل دخل بعض الطالبيين على إسحاق الموصلي فأطال الجلوس، فلما خف الناس كلّمه في حاجة، فقال: ما إلى ذلك سبيل. فسكت قليلا ثم عاوده، فقال له كذلك، فقال: لا ييئسنّك من كريم نبوة ... ينبو الفتى وهو الجواد الخضرم «2» فإذا أبى فاستبقه وتأنّه ... حتى يفيء به الطباع الأكرم فاهتز لكلامه، وقال: قد عاد الطباع الأكرم وخوّله. وفي المثل: بيتي يبخل لا أنا. وقال وال لرجل كان يكثر سؤاله: دع الضرع يدرّ لغيرك كما درّ لك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 687 ووقّع عبد الحميد في رقعة مستميح كان قد برّه مرارا: قد نفد ما عندنا لمثلك فارغب إلى من لا ينفد ما عنده. عذر من أعطى قليلا أتى رجل زياد بن أبي سفيان سائلا، فأعطاه درهما، فقال: صاحب العراقين يعطيني درهما، فقال: إنّ من بيده خزائن السموات والأرض ربما رزق أخص عبيده التمرة واللقمة وما يكثر عندي أن أصل رجلا بمائة ألف درهم ولا يصغر أن أعطي سائلا رغيفا، إذا كان رب العالمين يفعل ذلك. ورفع حشم جعفر بن يحيى إليه قصة يستزيدونه أرزاقهم، فقال لعمرو بن مسعدة، فكتب إليه: قليل دائم خير من كثير منقطع، فقال جعفر: أي وزير بين جنبيه. عذر من أفقره الجود قصد جماعة ابن هرمة فخرجت بنية له فاعتذرت، فقالوا: أليس أبوك الذي يقول: لا أمنع العود بالفصال ولا ... ابتاع إلا قريبة الأجل فقالت: نعم. هذه العادة منه تركتكم بلا قرى. قال جحظة: جاء الشتاء وما عندي له ورق ... فيما عددت ولا عندي له خلع كانت فبدّدها جود ولعت به ... وللمساكين أيضا بالنّدى ولع وقال أبو الشمقمق: الجود أفلسهم وغيّر حالهم ... واليوم إن سئلوا النوال تمحّلوا «1» وسأل رجل آخر شيئا فاعتذر إليه فقال السائل: العذر الصادق مع النية الجميلة يقومان مقام النجح. أنواع مختلفة من باب الجود قال ابن الرومي: يعطي وينمي الله أمواله ... والبحر لا ينضبه النزح «2» ومما روي في الخبر: أن لله ملائكة تنادي كل صباح ومساء اللهمّ اجعل لمنفق خلفا ولممسك تلفا. وقال البحتري فيمن سامحه بخراجه: وكنت إذا ما رمت عندك حاجة ... على كند الأيام هان علاجها «3» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 688 فلم لا أغالي بالضّياع وقد دنا ... عليّ مداها واستقام اعوجاجها إذا كان لي تربيعها واغتلالها ... وكان عليه عشرها وخراجها «1» وقال شرحبيل للرشيد: أعطني عطية تشبهك أو تشبهني، فقال: فوقك ودوني فأولاه مالا، والعطايا تختلف أسماؤها فالحذياء للمبشر والحذية للعدل والبسلة للراقي، والحلوان للكاهن، والنشوع للساحر، والزبد للدلال، والشبر للنكاح والعزير ثمن المرعى، والجعل للشرط. (5) وممّا جاء في البخل بالأموال حقيقة البخل سئل الحسن رضي الله عنه عن البخل، فقال: هو أن يرى الرجل ما أنفقه سرفا وما أمسكه شرفا. وقال آخر: البخل جلباب المسكنة. وقيل للأحنف: ما اللؤم؟ فقال: الاستفضال على الملهوف، فقيل: وما الجود؟ فقال: الاحتيال للمعروف. ذمّ البخل وتعظيمه على كلّ الذّنوب قيل لإبليس: من أحب الناس إليك؟ فقال: عابد بخيل. قيل: فمن أبغض الناس إليك، قال فاسق سخيّ فينجيه سخاؤه. وقيل: من بخل بمال في واجب ذهب ضعفه في باطل. وقيل: السخي حرّ لأنه يملك بماله والبخيل لا يستحق اسم الحرية، لأنه يملكه ماله. وقال بشر بن مروان: لو أن أهل البخل لم ينلهم من بخلهم إلا سوء ظنهم بربهم في الخلف لكان عجيبا. وقيل: أعجب ما في البخيل أنه يعيش عيش الفقراء ويحاسب حساب الأغنياء. قال شاعر: إن البخيل فقير غير مأجور وقال الديسق اليربوعي: إذا ذو المال ضنّ بما لديه ... وأشفق فهو محتاج فقير كثرة البخل وقلّة الجود في الناس لما قال أبو العتاهية: إطرح بطرفك حيث شئ ... ت فلن ترى إلا بخيلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 689 قيل له: بخّلت الناس كلهم، فقال: كذّبوني بواحد. قال كشاجم: إجتنب النّاس طريق النّدى ... كأنّما قد أنبت العوسجا «1» وهذا مأخوذ من قول بعضهم، وقد سمع رجلا يقول: تجنّب الناس طريق الندى، فقال: ذاك طريق نبت فيه العوسج: أكلّ وميض بارقة كذوب ... أما في الدّهر شيء لا يريب وشاع البخل في الأشياء حتّى ... يكاد يشحّ بالريح الهبوب فكيف أخصّ باسم العيب شيئا ... وأكثر ما أشاهده معيب وقال ابن نباتة: كيف السبيل إلى الغنى ... والبخل عند النّاس فطنه؟ معاتبة من يرجو لئيما قيل: من أمل فاجرا فأدنى عقوبته أن يحرمه. وسأل أعرابي رجلا فحرمه، فقال له أخوه: نزلت بواد غير ممطور ورجل غير مسرور، فارتحل بندم أو أقم بعدم. ذم العبّاس بن الحسين بعض الوزراء، فقال: الذليل من اعتزى إليك والفقير من أملك. وقيل: كدمت غير مكدم «2» ، نفخت لو تنفخ في فحم، هيهات تضرب في حديد بارد. وقال رجل: إني أقصد فلانا راجيا نداه، فقال له صاحبه: ترجو النّدى من إناء قلّما ارتشحا ... كالمستذيب لشحم الكلب من ذنبه «3» وقال أبو العتاهية: وإنّ من يرتجي نداك كمن ... يحلب تيسا من شهوة اللبن وقال بعضهم: أمن دار الكلاب تروم عظما ... لقد حدّثت نفسك بالمحال وقال إسماعيل القراطيسي: لقد أحللت حاجاتي ... بواد غير ذي زرع وقال أبو تمّام: ومالي من ذنب إلى الرزق خلته ... سوى أملي إيّاكم للعظائم ونحوه: سجدنا للقرود رجاء دنيا ... حوتها دوننا أيدي القرود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 690 فما بلّت أناملنا بشيء ... علمناه سوى ذلّ السّجود وقال المتنبيّ: تظنّ ابتساماتي رجاء وغبطة ... وما أنا إلّا ضاحك من رجائيا «1» من لا ينال خيره ولا يرجى فضله قال الصاحب بن زرارة في أخيه صاعد: هو والله ليس برطب فيعصر ولا بيابس فيكسر، ما عنده خلّ ولا خمر، سواء هو والعدم. وكان عبد الملك يقال له رشح الحجر لبخله. وشاتم أعرابي رجلا فقال: إنكم لتقصرون العطاء وتعيرون النساء وتبيعون الماء، ما عنده فائدة ولا عائدة، ولا رأي جميل ولا إكرام دخيل. وقالت امرأة لزوجها: والله ما يقيم الفأر في دارك إلا حبّ الوطن. وقيل في رجل: بئس منتجع المجدب. قال شاعر: وبحر السراب يفوت الطّلاب ... فقل في طلابك جئنا به وقال المتنبيّ: ولا يدرّ على مرعاكم اللبن «2» وقال أبو هفّان: سواء إذا ما زرتهم في ملمّة ... أزرتهم أم زرت من في المقابر وقيل لأبي العيناء: كيف وجدت فلانا لما قصدته؟ قال: وجدته لا يعود إليه حرّ. وقصد رجل سلطانا فلما رجع، قيل له: ما ولّاك؟ فقال: ولّاني قفاه وأولاني منعه وحماني نفعه. من تأبى نفسه السّماحة قال شاعر: يعالج نفسا بين جنبيه كزّة ... إذا همّ بالمعروف قالت له: مهلا «3» وقال آخر: كأنّما يعطيك من بصره وقال سعيد بن عبد الرحمن: أبي لك فعل الخير رأي مقصر ... ونفس أضاق الله بالخير باعها إذا هي حثّته على الخير مرّة ... عصاها وإن همّت بشرّ أطاعها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 691 المتلقّي سائله بلفظ المنع قيل: فلان مشجب، من أي النواحي أتيته وجدت لا. وقال عمرو بن عبيد لرجل قد أكثر من لا: أيها الرجل أقلّ من لا فليس في الجنة لا. قال أعرابي: وجدت فلانا أخرس بنعم فصيحا بلا. بخيل متكبّر قال النبي صلّى الله عليه وسلم: خصلتان لا يجتمعان في مؤمن، البخل وسوء الخلق. قال خلف الأحمر: أناس تائهون لهم رواء ... تغيم سماؤهم من غير وبل «1» وقيل: ربّ صلف تحت راعدة. وقال أحدهم: أتجمع بخلا فاحشا وتكبّرا ... وما جرّ ذما كالتكبّر والبخل فلو كان عفى البخل منك تواضع ... أو الكبر جود كنت من ذاك في وعل «2» وقد تقدّم بعض ذلك في الكبر. من عادته البخل قيل لثمامة: أي الناس أبخل؟ فقال: لم أر الديكة في بلد إلا وتأخذ بمناقيرها ما تلتقطه فتلقيه قدّام الدجاج إلا ديكة مرو، فإنها تسلب الدجاج ما في مناقيرها من الحبوب، فعلمت أن البخل في طباعهم. وقال بعضهم: من لم يأت الخير صغيرا لم يأته كبيرا، أما سمعت قول الشاعر: إذا المرء أعيته المروءة ناشئا ... فمطلبها كهلا عليه شديد وقال ابن العميد: البخل مستحسن في شيمة الخوز «3» ذمّ من لا يعطي إلّا على الخسف قال أبو نعامة: جلّ الناس لا ترشح أناملهم إلا بعسف وعنف. هذا محمد بن علي بن عصمة صرت إليه أطوارا أقتضيه، فكان يعد ويماطل، فأتيته يوما فقلت: أتسمع بيتا حضر، قال: هات، فقلت: محمد بن علي بن عصمة بن عاصم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 692 فقال: هذه نسبتنا، فقلت: جليل فضل كريم ... من أهل بيت كرام فقال أحسنت، فقلت: أتسمع بيتا أم تنجز الوعد؟ فقال: غدا، فقلت: فاسمع. لكنّه مستهام بأخذ أير الغلام فقال: آه آه ويلك يا غلام أعطه وأرحنا منه. قال بعضهم: العبد لا يطلب العلاء ولا ... يعطيك شيئا إلا إذا رهبا مثل الحمار الموقع الظهر لا ... يحسن مشيا إلا إذا ضربا وقال آخر: رأيتك مثل الجوز يمنع خيره ... صحيحا ويعطي نفعه حين يكسر وقال شاعر: صاحب لي ليس فيه ... خصلة أشكرها له سمجا شخصا ومخبو ... را وتفصيلا وجمله ومريدا من جفاه ... ومهينا من أدلّه فهو كالدينا ... ر لا يكرم إلّا من أذلّه بخيل أعطى عطيّة لطمع قيل لأعرابي: أعطاك فلان، فقال: نعم أعطاني طلب الثواب وصانع المعروف لعاجل الجزاء، كملقي الحب للطير ليصيده به لا لينفعه. ومن هنا أخذ المتنبي تعريضا بكافور. ومن قد ظنّ نثر الحبّ جودا ... وينصب تحت ما نثر الشّباكا المصطنع إلى الأراذل دون الأفاضل قال ابن الرومي: تنبّه للأنذال يرفع أمرهم ... وأصبح عن أهل المروءة ساهيا وقال آخر: صنائعه لدى الأنذا ... ل تنبي أنّه سفله وقال آخر: وابن اللئيمة للئام وهوب بخيل متشبّه بالأسخياء كان لبعض الموسرين أخ لا يواسيه، فقيل له: لو واسيت أخاك كان أشبه بك من هذا البخل الذي استشعرته، فقال: والله ما أنا ببخيل. لو ملكت ألف ألف لوهبت له الساعة خمسمائة درهم، ثم التفت إلى القوم، فقال: يا قوم رجل يهب لأخيه في مجلس واحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 693 خمسمائة درهم يقال له بخيل. قالوا: والله أنت أجود من يمشي على قدم. قال جحظة: وممخرق يصف السما ... ح ونفسه نفس بخيله «1» وقيل للماجشون كيف رأيت أهل العراق؟ فقال: ما شئت من رجل بخيل ... يأوي إلى عرض دخيل يأتي الجميل بقوله ... وفعاله غير الجميل المتعجّب من بخيل سمح وقتا بطفيف تعجّبت لما ابتدا بالجميل ... وما كان يعرف فعل الجميل فأطلع لي كوكبا كالسّهى ... قليل الضياء سريع الأفول وما كان إعطاؤه سوددا ... ولكنّها غلطة من بخيل قال الخليل بن أحمد في سليمان، وقد ذكر له إنسان أنه جاءه فأعطاه شيئا: وخصلة يكثر الشيطان إن ذكرت ... منها التعجب جاءت من سليمانا لا تعجبنّ لخير جاء من يده ... فكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا «2» وقال أبو تمّام: ربّما أمكنت جناها السحوق «3» وقال الموسوي: ومبخل أعطى القليل وربّما ... سمحت حروف التاء للتمتام من أعطى للتهوّر قال شاعر: لا تمدحنّ حسنا في الجود إن مطرت ... كفّاه يوما ولا تذممه إن رزما «4» فليس يبخل إبقاء على نشب ... ولن يجود بفضل المال معتزما لكنّها خطرات من وساوسه ... يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما ردّ عطيّة خسيسة قصد أعرابي أبا الغمر، فسأله فأعطاه درهمين، فردهما إليه، ثم قال: رددت لبحر درهميه ولم يكن ... ليدفع عن فاقتي درهما عمرو فقلت لبحر خذهما واصطرفهما ... وأنفقهما في غير حمد ولا أجر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 694 أتمنع سؤال العشيرة بعد ما ... تسمّيت بحرا واكتنيت أبا الغمر؟ وكان ربيعة مدح العباس بن محمد بقوله: لو قيل للعبّاس يا ابن محمّد ... قل لا وأنت مخلّد ما قالها فأعطاه بعد مطل كثير دينارين فوهب ربيعة ذلك لصاحب دواته، وقال: خذ هذه الرقعة وأوصلها، وكتب فيها: مدحتك مدحة السيف المحلّى ... لتجري في الكلام كما جريت فهبها مدحة ذهبت ضياعا ... كذبت عليك فيها وافتريت وصف غني لا يعطي ولا ينفق قيل: فلان سمين المال مهزول النوال. وقيل: بطر الدعة بخيل السعة. وقيل لجعفر بن محمد إن منصورا لا يلبس منذ صارت الخلافة إليه إلا الخشن ولا يأكل إلا الخشن، فقال: ويحه مع ما يكون له من السلطان وجبي له من الأموال، قالوا: إنما يفعل ذلك بخلا، فرفع يده إلى السماء، فقال: الحمد لله الذي حرمه من دنياه ما ترك من أجله دينه. وقيل: إنه كان أعد اثني عشر ألف عدل من الثياب، فأخرج يوما ثوب خز، وقال: يا ربيع إقطع منه جبة لي وقلنسوة، وبخل أن يأتي بثوب آخر، فلما أفضت الخلافة إلى المهدي أنهبها الغلمان. قال البسامي: لقد أوتيت من ملك عظيم ... فما آتيت إنسانا فقيرا وقال آخر: ولو يكون على الخزّان يملكه ... لم يسق ذا غلّة من مائه الجاري وقال آخر: ألا ليت شعري آل خاقان هل لكم ... إذا ما سلبتم نعمة الله ذاكر فأما وأنتم لابسون ثيابها ... فما لكم والحمد لله شاكر المزداد بالثّراء بخلا أحسن ابن الرومي في قوله: إذا غمر الماء البخيل وجدته ... يزيد به يبسا وإن ظنّ يرطب وليس عجيبا ذاك منه فإنه ... إذا غمر الماء الحجارة تصلب وكان ذلك ممّا روي في الخبر: أن الله إذا سأله عبد شيئا يقول خذه وضعفيه حرصا. قال ابن الحجّاج: أناس كلّما ازدادوا علاء ... تناهوا في نفوسهم استفالا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 695 من لا يفرج عمّا يقع في أنامله فلان لا تندى أنامله ولا ترجى فواضله، ألين من كفيه الحجر، هو نزر العرف جامد الكف: كأنّما خلقت كفّاه من حجر ... فليس بين يديه والنّدى عمل وقال آخر: وهل للصّفا العادي ماء إذا عصر «1» هو نكد الحظيرة أي مانع لما في يديه. قال شاعر: لو عبر البحر بأمواجه ... في ليلة مظلمة بارده وكفّه مملوءة خردلا ... ما سقطت من كفّه واحده وقال البحتري: جدّة يذود البخل عن أطرافها ... كالبحر يدفع ملحه عن مائه «2» وقال الفرزدق: فتى ماله كالبحر يمنع صاديا ... من الريّ منه وكدره أجاجه «3» وقال الزبرقان: طوى كلّ معروف وأحضر دونه ... عقارب أخشى لسعها وأفاعيا الرّاجع في هبته والقاطع لصلته قال النبي صلّى الله عليه وسلم: الراجع في هبته كالعائد في قيئه، وهذا مما يستدل به على تحريم الرجوع في الهبة بأنه حرام. كما أن أكل المتقيء حرام. قال ابن الرومي: لا تكن كالدّهر في أفعاله ... كلّما أعطى عطاياه رجع وقال البحتري: أعطى القليل وذاك مبلغ قدره ... ثم استردّ وذاك مبلغ رأيه وأجرى بعض الكبار على أعرابي شيئا قطعه عنه، فقال فيه: إن الذي شقّ فمي ضامن ... لي الرزق حتّى يتوفّاني حرمتني نفعا قليلا فما ... زادك في نفعك حرماني وقال ابن هرمة: كممكنة من درّها كفّ حالب ... ودافقة من بعد ذلك ما حلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 696 السّالب مستعطيه قيل في المثل: طلب القرن فجدعت أنفه، وقال بشّار: فصرت كالهبتي غدا يبتغي ... قرنا فلم يرجع بأذنين «1» وقيل: سقط العشاء به على سرحان «2» وقال آخر: كمبتغي الصّيد في عريسة الأسد «3» الصّائن ماله بعرضه والممنوع من سؤاله. قيل: أبخل الناس بماله أجودهم بعرضه. من صان نفسه أهان فلسه. وقيل: كان جحا إذا جلس كشف إسته ورفع عنه ثوبه، فقيل له في ذلك، فقال: جلدة الإست أبقى من الثوب. وهذا نحو المثل: إبق نعليك وابذل قدميك. قال أبو تمّام: أضحوا بمستن سبل الذمّ فارتفعت ... أموالهم في هضاب المطل والعلل «4» وقال ابن الرومي: لا تطالبه بالثّواب فما رز ... ء ثواب من مثله بحلال المقتّر على نفسه والتارك لشهوته قال شاعر: ولو يسطيع لتقتيره ... تنفّس من منخر واحد وقال آخر: يحبّ المديح أبو خالد ... ويفزع من صلة المادح كبكر تودّ لذيذ النّكاح ... وتخشع من صولة النّاكح الضّنين بمال غيره والسّمح به قيل فلان يمنع درّه ودرّ غيره. الحرّ يعطي والنذل يألم قلبه. وقيل البخيل يمنع ماله ويغضب على الجواد إذا رأى ابتذاله. قال أبو تمّام: وإن امرأ ضنّت يداه على امرىء ... بنيل يد من غيره، لبخيل وقال آخر: سبط البنان بما في رحل صاحبه ... جعد البنان بما في رجله قطط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 697 الموصوف بالسّكوت عند السّؤال قال بعضهم: فلان مرتز نكدكز «1» . وقال بعضهم: كأنّهم عند السؤال جلامد «2» وقال آخر: إن اللئيم إذا سألت بهرته ... عند السّؤال وقلّ منه المنطق وأتى بعض الشعراء رجلا فسأله فما زاده على التنحنح والتحوقل، فقال: فلا حول إلا بالإله وقوّة ... إذا قلتها دلّت على طرق البخل وإنّي لأرجو ان أفوز بأجرها ... كما قلتها بعد التنحنح من أجلي الحزين الهارب مخافة أن يسأل قال بعضهم: مخافة أن يرجى نداه حزين وقال جحظة: إذا ذكر النّاس التطول أرعدت ... فرائصه خوفا لذكر التطوّل «3» وقال بشّار: إذا سلّم المسكين طار فؤاده ... مخافة سؤال واعتراه جنون وقيل: فلان يبغض نعمة الله عليه مخافة أن يستماح. المتلقّي عافية بقطوب وجهه ذم أعرابي رجلا، فقال: رآني فخالني في نداه راغبا ولجدواه طالبا، فقرب من حاجب حاجبا. كأنّما وجهه بالخلّ منضوح وقيل لامرأة: كيف وجدت فلانا لما اعتفيته، فقالت: تلقّاني بوجه مكفهرّ ... كأنما عليه أرزاق العباد وقال آخر: وعنون لي إطراقه عن قطوبه «4» وقال آخر: طعم النّدى عندهم حامض وقال شاعر: كالح الوجه كان مصّ حماضا ... وسما تعبيسه ذوق حماض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 698 وأصل ذلك من قول الأعشى: يزيد يغضّ الطرف دوني كأنما ... زوى بين عينيه عليّ المحاجم «1» المتلقي عافيه ببشاشة من غير جدوى: قيل لرجل: ما رأيت من فلان، فقال: برقا بلا مطر وورقا بلا ثمر. وجه كريم وفعل لئيم. وقال أبو العيناء لعبيد الله بن سليمان: أيّد الله الوزير لي منك قرب الولي وحرمان العدو. وقال ابن الرومي في معاتبة بعض الرؤساء: لولا الثمار التي ترجى منافعها ... ما فضّل الناس تفّاحا على غرب «2» ولجحظة: وبأحسنت لا يباع الدقيق وقال أبو العتاهية: إن السلام وإن الردّ من رجل ... في مثل ما أنت فيه ليس يكفيني المعتذر إلى سائله ببشاشة من غير جدوى سأل أبو العيناء رجلا شيئا فاعتذر إليه وحلف أنه صادق في اعتذاره، فقال: من كان الصدق حرمان صديقه ماذا يكون كذبه؟ وسأل رجل آخر فاعتذر بأحسن اعتذار، فقال: يعبر عن اللئيم لسانه وعن الكريم فعاله. واعتذر آخر، فقال السائل: إن كنت كاذبا فجعلك الله صادقا وإن كنت معتذرا فجعلك الله معذورا. وهذا مأخوذ من قول الآخر: لا جعل الله حظ السائل منك عذرة صادقة. قال الجريمي: لا ينهضون إلى مجد ولا كرم ... ولا يجودون إلا بالمعاذير المحلف إذا سأل الحارم إذا سئل قال أعرابي: فلان إذا سأل ألحف، وإذا سئل سوّف، وإذا حدث حلف، وإذا وعد أخلف، ينظر نظر الحقود ويعتذر اعتذار الحسود. وقيل: إذا سئل أقنط وإذا سأل أفرط. وقال آخر: لم أر أحصر يدا منه بالنوال ولا أطول لسانا منه بالسؤال «3» ، إن سئل فجحد وإن سأل فحرب. إن سئل أرز «4» وإن سأل انتهز. هو بالإنجاح إذا سأل واثق، وبالرد إذا سئل حاذق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 699 وقال شاعر: وأخ إن جاءني في حاجة ... كان بالإنجاح منّي واثقا وإذا ما جئته في مثله ... كان بالردّ بصيرا حاذقا يعمل الفكرة في ردّي بها ... قبل أن أفرغ منها ناطقا وممّن تلطّف لردّ سائل . كان لسعيد بن خالد قصر بإزاء قصر عبد الملك، فقال له عبد الملك: إن لي إليك حاجة فقال مقضية، قال: إجعل لي قصرك. قال: هو لك، فقال عبد الملك: فلك خمس حاجات مقضية، فقال سعيد: أولها أن ترد عليّ قصري، قال: فعلت فما بعد ذلك، قال: أنت في حل من الأربع. وقال رجل لآخر: إن لي إليك حاجة، قال: بشرط، أن تقضي قبلها لي حاجة، فقال لك ذلك، قال: حاجتي أن لا تسألني حاجة، قال: قد فعلت. من ردّ سائله بشتم أو سفاهة سأل أعرابي شيخا من بني أمية وحوله مشايخ، فقال: أصابتنا سنة ولي بضعة عشر بنتا، فقال الشيخ: وددت أن الله ضرب بينكم وبين السماء صفائح حديد، فلا تقطر عليك قطرة، واضعف بناتك أضعافا وجعلك بينهن مقطوع اليد والرجل، ما لهن كاسب سواك، ثم صفر بكلب له فشدّ عليه وقطع ثيابه، فقال السائل: ما أدري ما أقول لك إنك لقبيح المنظر سخيف المخبر فأعضك الله ببظور أمهات من حولك. ودخل رجل إلى محمد بن عبد الملك، فقال: لي بك سببان، الجوار وسوء الحال، وذلك داع إلى الرحمة، فقال: أما الجوار فبين الحيطان والرحمة من أخلاق الصبيان، اخرج عني. فما مضى عليه أسبوع حتى نكب. ذمّ من ينسب بخل نفسه إلى القدر خطب معاوية ذات يوم فقال: إن الله تعالى يقول: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ «1» فلم نلام نحن؟ فقام إليه الأحنف، فقال: إنا والله ما نلومك على ما في خزائن الله تعالى، ولكن نلومك على ما أنزل الله علينا من خزائنه فأغلقت بابك دونه، فسكت معاوية. وقال بعض الشعراء: إذا أعطاك قصّر حين يعطي ... وإن لم يعط قال أبى القضاء يبخل ربّه سفها وجهلا ... ويعذر نفسه فيما يشاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 700 المحسن للبخل المحتجّ له قيل لخالد بن صفوان: مالك لا تنفق ومالك عريض؟ قال: الدهر أعرض منه. قيل له: كأنك تؤمل أن تعيش أبدا؟ قال: لا، ولا أخاف أن أموت في أوله. قال الجاحظ: قلت لبعض الأغنياء البخلاء أرضيت أن يقال لك إنك بخيل؟ قال: لا أعدمني الله هذا الاسم، لأنه لا يقال بخيل إلا لذي مال، أعطني المال وادعني بما شئت من الأسماء. من وهب ماله في عمله فهو أحمق ومن وهبه في عزله فهو مجنون. وقيل لأبي الأسود: أنت ظرف علم ووعاء حلم غير أنك بخيل، فقال: وما خير ظرف لا يمسك ما فيه. وقيل: من لم يمنع لم يكن له ما يعطي. قال: وللبخل خير من سؤال بخيل. وقيل: الشحيح أعذر من الظالم. وقال المنصور: الناس يزعمون أني بخيل وما أنا ببخيل، ولكني رأيت الناس عبيد المال فحظرت ذلك عليهم ليكونوا عبيدي. وعمل سهل بن هارون كتابا في مدح البخل وأهداه إلى الحسن بن سهل، وطلب منه ثوابا، فوقع على ظهره: قد جعلنا ثوابك ما حسنته وأمرت به. قال الموسوي في عذر فاضل بخيل: لا غرو إن كنت حرا لا تفيض ندى ... فالبحر غمر ولكن ليس بالجاري ذمّ ممتنّ بالإعطاء قيل: المنّة تهدم الصنيعة. وقيل لأعرابي: فلان يزعم أنه كساك، فقال: المعروف إذا منّ به كدر، ومن ضاق قلبه اتسع لسانه. وقيل لآخر في المعروف إذا أحصى، قال: إنّ الذين يسوغ في أعناقهم ... طعم يمن عليهم للئام وقال آخر: أفسدت بالمنّ ما قدّمت من حسن ... ليس الجواد إذا أسدى بمنّان وقيل لرجل: هل لك في ندى فلان؟ فقال: لا خير في ثمرة مقترنة بزنبور. ومن ذا الذي يلتذّ شهدا بعلقم ... أبت لهواتي ذاك والشفّتان «1» وقيل: شوى أخوك حتى إذا أنضج رمد، وقول الله تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ «2» ، قال فتقديره يقولون إنما نطعمكم، قال مجاهد لم يكن ذلك منهم مقالا وإنما أخبر عما كان لهم اعتقادا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 701 دعا المنصور طبيبا للخيزران، وكانت قد اشتكت عينها، فقال: إن هذه في عينها شوكة سنبل فانتزع من عينها، فإذا هو شيء طار من السنبل ولصق بعينها وتراكبت الأكحال التي تعالج بها فزال الألم في الوقت، فأعطاه عشرة آلاف درهم، فلما دفعها إليه ندم. فأوصاه فقال: إحفظها فإنها مال له خطر، فقال: نعم، وفارقه فاستردّه، وقال: إياك أن تنفق منها شيئا حتى تتفق ضيعة تشتريها بها، فقال: نعم وفارقه، ثم استرده فأوصاه فقال: إن رأيت يا أمير المؤمنين فاختمها بختمك حتى ألقاك بها يوم القيامة على الصراط بختمك، فضحك وخلاه. النّهي عن الامتنان قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إياكم والامتنان بالمعروف، فإن ذلك يبطل الشكر ويمحق الأجر، ثم تلا قول الله تعالى: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى . وقيل: تمام البذل ترك المنّ، وقال بعضهم: لا تمنّ بالمعروف فالمعروف إذا ذكر كدر، وإذا أنسي أمر. تعداد المنة من ضعف المنة. وقيل: المنة تهدم الصنيعة وتسترد النعمة فنزه منتك عن الامتنان، وسأل رجل آخر حاجة فجعل يؤنبه، فقال: أترى أن تقيم ترك التأنيب مقام قضاء الحاجة. أنواع منه قال المتنبي: وما كلّ بمعذور ببخل ... ولا كلّ على بخل يلام وقال نصيب الصغير: متى يجتمع يوما حريص ومانع ... فليس إلى حمد هناك سبيل وقال آخر: ولو عليك اتكالي في الطّعام إذا ... لكنت أول مدفون من الجوع أحقر الناس البخيل لكي يستغنوا عن ماله. وسأل ابن عباس إنسانا حاجة فرده، فقال: أبوك لم يرد حاجة أحد جودا. كان قد أتاه قوم يستعبرون كلبا لينزوه على كلبتهم، فقال: لا ينزو عليها غيري إيجابا لكم. وقيل: أتاك ريان بلبنه إذا أعطى ما يفضل منه. قال أبو علي المحمودي: أعزّ عليّ من أبويّ عندي ... ومن نفسي أعزّ عليّ فلسي فلولا الفلس هنت على صديقي ... ولم تكرم على الأطماع نفسي وله: ومتّ على الدّرهم المنقوش موت فتى ... يرى الممات عليه أكرم الكرم ولولا غناك لكنت الكلب عندهم ... فإن أبيت فجرّب واشق بالنّدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 702 وقال آخر: لا لوم في القصد على ذي حبا ... يكرّم ما يكرّم من أجله «1» وقال آخر: لا أحسبنّك بعد الموت تنفعني ... وفي حياتي ما زوّدتني زادي ومن أمثالهم: لأيّ يوم يخبّىء المرء السعة وقال آخر: إذا فات في الدنيا الذي بك أرتجي ... فنفعك عنّي في المعاد قليل وقال محمد بن يزيد، كتبه إلى من استعان به في أمر فلم يجد عليه: أترضى لي بأن أرضى ... بتقصيرك في أمري لعلّ الله أن يصنع ... لي من حيث لا تدري فألقاك بلا شكر ... وتلقاني بلا أجر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 703 الحد العاشر في الأطعمة (1) فممّا جاء في أوصاف الأطعمة الخبز قيل: الخبز يسمّى جابرا وعاصم بن حبة، كما قيل: التمر بنت نخيلة. وقال أعرابي عيّر بعمل تعاطاه. فلا تلوماني ولوما جابرا ... فجابر كلّفني الهواجر «1» وقيل لأعرابي: الخبز أحب إليك أم التمر؟ فقال: التمر طيب، وما عن الخبز صبر. وقيل لبعضهم: ما طعم الخبز؟ قال: طعم أدامه، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: أكرموا الخبز، فإن الله تعالى سخّر له ما في السموات والأرض. السّويق عاب عائب السويق عند الطفاوية، وكانت امرأة أدركت أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم فقالت: لا تفعل فإن السويق طعام المسافر والعجلان والحزين والسمنة والنفساء والمريض. وقيل: هو يرفو الضعيف ويشدّ فؤاد السقيم وفقاره ويجلو البلغم ومسمونه يصفّي الدم، إن شئت كان ثريدا وإن شئت كان خبيصا. حمد اللّحم وذمّه قيل: أطيب اللحم عوده أي ما عاد منه بالعظم، وقيل: اللحم أقل الطعام نجوا «2» . وقيل: من لم يأكل اللحم أربعين يوما نقص عقله. وقيل: من تركه أربعين يوما ساء خلقه. وقال بعض الأطباء: عجبا لمن أكله الخبز واللحم وشربه ماء الكرم «3» ، ثم اقتصد في تناولها كيف يموت. واستقبل عمر رجلا ثلاثة أيام على الولاء وقد اشترى لحما فعلاه بالدرة، وقال: إن الله تعالى يبغض قوما لحميين، عاقب بين اللحم وغيره. وقيل: إياكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 704 وهذه المجازر فإن لها ضراوة كضراوة الخمر. وقال المسيح: ألحم «1» تأكل لحما، أف لهذا عملا. وسئل بعض الرهبان عن تركه أكل اللحم، فقال: إنا رأينا الغوائل تتولّد من أكل اللحم، ألا ترى أن أكلة اللحم من السباع هي أشد ضررا من أكلة الحشيش. السكباج والزّيرباج يقال للسكباج: الخليّة والمخللة والشمقمقة والصفصاف لغة ثقيف، وسمّوه أم القرى. ولم يكن يطلق السكباج «2» أن يطبخ في أيام الفرس إلا بخاتم من الملك وسئل بعضهم عنه، فقال: إنه يشفي العرم ويفتق الشهوة ويقدم في الثرائد وتزيّن به الموائد، تجيدها الخاصة ولا تغلط فيها العامّة. قال الحجاج لطباخه: اتخذ لنا صفصفاة «3» وأكثر فيجنها «4» ، فلم يدر الطباخ ما عناه، فسأل ابن القرية، فقال: اتخذ سكباجة وأكثر سدابها. وقال المنصور يوما لحظيّة له: إلى كم نأكل السكباج، يعرّض بها، فقالت: يا أمير المؤمنين هو مخ الأطعمة لا يملّ حارّها ولا يكره باردها، فاستحيا منها. قال عبد الملك بن محمد بن إسماعيل: وسكباجة تشفي السقام بطيبها ... على أنّها جاءت بلون سقيم إذا زارها أيدي الرجال تزاحمت ... كأيدي نساء في ظلال نعيم وقال بعضهم: فتنتنا بريحها السكباجة ... فتركنا من أجلها ألف حاجة وأكل أعرابي القريش، فقيل له: ما أكلت قال: الفالوذج «5» إلا أنكم هضمتموه بعد. وقال بعضهم: قدم طاهيك زير باجه ... وهي على الدّهر خير باجه صبيغة الزعفران تحوي ... أطايب الفرخ والدجاجه وقدم إلى طفيلي سكباجة بلا زعفران، فقال: ما لها خرجت متفضلة بلا لباس. الثّريد قيل لأعرابي: أي الطعام أطيب؟ فقال: ثريدة دكناء من الفلفل رقطاء من الحمص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 705 ذات حفافين من الصبغ، لها جناحان من العراق أضرب فيها ضرب الولي السوء في مال اليتيم. قال حسّان: ثريد كأنّ السمن في جنباته ... نجوم الثريّا أو عيون الضياون «1» قال الأصمعي: قلت لأعرابي هل لك في ثريدة؟ قال نعم: ثريدة محمومه ... في ضحفة مكمومه قد ألحفت رقاقا ... وكللت عراقا «2» المرق قيل: المرق أحد اللحمين، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا طبخ أحدكم اللحم فليستكثر من المرق، فمن عدم اللحم أكل المرق، فهو أحد اللحمين، قال: وأكثر الشّرب إن لم يكثر اللبن وأهدى صالح بن عميرة إلى سعيد بن سلم جوذابة، فكتب إليه: بعثت إليّ بجوذابة ... فأين التي جاء جوذابها «3» فقال لابن أخيه أجبه، فكتب إليه: بعثنا إليك بجوذابة ... وحاز الأوزّة أصحابها الشّواء قال ابن الرومي: وسميطة صفراء دينارية ... ثمنا ولونا زفّها لك حزور «4» ظلنا نقشر جلدها عن لحمها ... فكأنّ تبرا عن لجين يقشر «5» ويقاربه في صفته: شديد اصفرار الكشيتين كأنما ... يطلى بورس بطنه وشواكله «6» وقال ابن طباطبا: لا أنس لم أنس قبل الحشر مائدة ... ظلنا لديك بها في أشغل الشغل إذ أقبل الجدي مكشوفا ترائبه ... كأنّه متمطّ دائم الكسل قد مدّ كلتي يديه لي فأذكرني ... بيتا تمثّلته من أحسن المثل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 706 كأنّه عاشق قد مدّ بسطته ... يوم الفراق إلى توديع مرتحل وقدّم إلى بعضهم جدي خشب لم ينضج، فقال: كأنه شريحة من قصب. قال ابن طباطبا يذمّه: قد أتينا به عواري ضلوع ... هي في الوصف والمدار سواء حار فهمي فلست أدري أمدرا ... ة بدت أم شريحة أم شواء وقدّم لأبي على القسري مرّة شواء غير نضيج، فقال: هذا لا تعمل فيه العوامل. وقال بعض القدماء في سفود عليه لحم: وذي شعب شتّى كسوت فروجه ... بغاشية يوما مقطّعة حمرا وينشد في غير النضيج عبدة بن الطيب: لما نزلنا رفعنا ظلّ أخبية ... وفاز للحم بالقوم المراجيل وردا وأشقر لم ينهبه طالبه ... ما غير القلي منه فهو مأكول القديد حمل إلى أعرابي لحم مقدّد صلب، فقال: ما هذا لحم مقدّد بل حبل ممدّد. البيض والعجّة قال ابن أبي البغل: وصفّ على الكانون بيض كأنّه ... فرائد درّ سلّ من صدف البحر كما اصطفّ أرجاء الندى وصائف ... على دستبيد قد تملّى من الخمر «1» أكل بعضهم بيضا مع سلطان يأكل الصفرة ويؤثره بالبياض، فقال الرجل: سقى الله العجّة ما أعد لها. وكتب منصور الفقيه إلى جار له يستدعي منه بيضا لابنه: لأبي الفضل إذا هـ ... مّ بما يهوى لجاجه فله عندك مطلو ... ب ومأمول وحاجه درّة ليست من البح ... ر ولكن من دجاجه البرزماورد قيل: البرزماورد نرجس الموائد، وقد أحدثته الفرس في بعض الحروب واستخفّوا حمله في المعازل، وسموه رزماورد. هو طعام أفاده الحرب، ثم قيل بزم أورد. وقيل: سمي زماورد وسمي المهيأ والميسر، قال الشاعر: كلّ الميسّر من راسين يا سكني ... لا يستطاع ولا سيفان في غمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 707 البقل قال أبو نواس: مائدة بلا بقل كشيخ بلا عقل، ومجلس بلا ريحان كشجرة بلا أغصان. الخل ّ قال النبي صلّى الله عليه وسلم: نعم الإدام الخلّ، وقال: ما أقفر بيت فيه خلّ. الأرز كان الحسن بن سويد يأكل مع المأمون، فقدم الأرز، فقال: الأرز يزيد في العمر. فقال المأمون: كيف؟ فقال: ذكر أطباء الهند أن الأرز يرى المنامات الحسنة، ومن رأى مناما حسنا كان في نهارين، فاستحسن المأمون منه ذلك. وجرى ذكر البهطّة «1» في مجلس إبراهيم التيمي القاضي، فقال رجل حضر لإقامة شهادة: ما هو؟ فقيل: الأرز باللبن، فقال: لا أشتهيه. فسكت ثم قال: وما أظن عاقلا يشتهيه. فقال إبراهيم: أما الأولى فقد احتملناها وأما الثانية فلا محتمل عليها، فأخر شهادته. وكان بعض شعراء الزمان عند عضد الدولة، فقدم البهطة، فقال: صفها فعجز عن ذلك، فقال عضد الدولة: وبهطة تعجز عن وصفها ... يا مدّعي الأوصاف بالزّور كأنّها في الجام مجلوة ... لآلىء في ماء كافور وقال آخر: ولست أحبّ الرزّ إن قلّ طبخه ... فكيف أحبّ الرزّ وهو مسخن الطباهجة «2» قال ابن الرومي: طباهجة كأعراف الديوك ... تروق العين من شرط الملوك هلمّ إلى مساعدتي عليها ... فلست لمثل ذلك بالتّروك الهريسة روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أن نبيا من أنبياء الله تعالى شكا ضعفا في بدنه ووجعا في صلبه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 708 فأوحى الله تعالى إليه أن أطبخ اللحم بالبرّ وكل، فإني قد جعلت القوة فيهما قال ابن الرومي: هلمّ إلى من عذبت طول ليلها ... بأضيق حبس في تنّور تعذّب وقال آخر: وقد ضربت حدّين وهي بريئة ... فقوموا إلى دفن الشهيدة تؤجروا وقيل: الهريسة أوطأ فراش هيء لنبيذ. وللخوارزمي: هل تنشطون لتنوريّة خنقت ... من أول الليل حتّى قلبها يجف كأنّها وهي فوق الجام قد غرقت ... في دفنها، قمر بالشمس ملتحف أو درهم فوقه الدينار منطبق ... أو لوح عاج على الزرياب مكتنف «1» وقال أبو طاهر المأموني: درّ نثير أسلاكه قطع ... في ماء ورد وصندل نقعا «2» الرؤوس كان الثوريّ يعجب بالرؤوس ويسمّيها مرة عرسا لما تجمع من الألوان المختلفة الطيّبة، ومرّة الجامع، ومرّة الكامل ويقول: هو شيء واحد ذو ألوان عجيبة وأطعمة مختلفة. وقيل لأعرابي: تحسن أكل الرؤوس؟ فقال: نعم، أبخص عينيه وأقلع أذنيه وأفك لحييه وأشجّ شدقيه وأرمي بالعظم إلى من هو أحوج إليه منّي. ودعا بعضهم آخر إلى دعوته، وقال: عندي رغف خوّارة ورؤوس فوّارة. ودعي رجل إلى أكل الرؤوس، فلما قام قال: أطعمكم الله من رؤوس أهل الجنة. وقال ابن الرومي: هام وأرغفة وضاء ضخمة ... قد أخرجا من فاحم فوّار كوجوه أهل الجنّة ابتسمت لنا ... مقرونة بوجوه أهل النّار الدّماغ والمخّ قيل: أضرّ الأطعمة للبدن الدماغ، فإنه يعلق بالمعدة ويتغرى ما بين غضونها، فلا يدخلها غداء ولا دواء إلا زلق عنها. والعرب تكره أكل المخ وتتعير به، وذلك قول الشاعر: ولا ننتفي المخّ الذي في الجماجم قال الأصمعي: كان أعرابي في يده عظم وعنده ثلاثة بنين، فقال للأكبر: إن أعطيتك هذا العظم ما تصنع به؟ قال: أتعرّقه حتى لا أدع لذرّ فيه مقيلا، قال الأوسط: أتعرّقه حتى لا يدري أهو لعامنا أم لعام أول، فقال الأصغر: أتعرّقه ثم أتمشّشه ثم أدقّه فأستفه، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 709 خذه، فأنت صاحبه. وقال في صفة جدب: وبات شيخ العيال يصلب أي يطبخ العظم فيخرج الدسم ويسمى ذلك الصلب. المضيرة قيل: شكا نبيّ من الأنبياء إلى الله تعالى ضعفه، فأوحى إليه أن أطبخ اللحم ب اللبن وكله تقو. قال بعض الشعراء: مضيرة تنتمي في طيب نكهتها ... وفي الصّفاء إلى مسك وكافور كأنّما البصل الثّاوي بصفحتها ... فرائد فرشت في صحن بلّور المصليّة قال ابن أبي البغل: ومصليّة أما مجال وشاحها ... فقرع وأما خصرها فثريد كأن هبير اللحم في جنباتها ... قطا جثم وسط الفلاة ركود الشيراز لا أحمد المراقصي ما يبيض به ... إذا اعتصرناه أصناف الشواريز ما متعة العين في خدّ تورده ... يزهى إليك بخال فيه مركوز أشهى إليك من الشّيراز قد وضحت ... في صحن وجنته خيلان شونيز «1» الكشك قال بعضهم: أمّ ذا الكشك زانيه ... إن طبخناه ثانيه وقيل: من حمّ يوما واحدا فلا يأكلن الكشك سنة، ونزل رجل بأعرابي فكان كل يوم يقول لامرأته: قومي ائتني بخبز وما رزق الله، فكانت تأتيه بالخبز والكشك، فقال يوما ذلك، فقال لها الضيف: هاتي الخبز ودعي ما رزق الله. الكامخ دفع إلى إعرابيين رغيفان بينهما كامخ، فقال أحدهما: خرء ورب الكعبة، فذاقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 710 الآخر واستطابه، فقال: نعم، ولكنه خرء الأمير. وقال آخر: لا يفرق بين الكامخ والخرء إلا بالذوق. وأضيف أعرابي فأطعم الكوامخ مرارا، فاستفتح الصلاة خلف الإمام، فقرأ الإمام حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير، فقال الأعرابي: والكوامخ فلا تنسها. وقال النيختي: أتتني سكرجة لونها ... يرفّ كبلّورة صافيه مضمنة من وضيء الطعام ... لما يذكر العيشة الراضيه فلم أدر هل ضمّنت كامخا ... من الطّيب أم ضمّنت غاليه وقال آخر ضده: شيب رأسي وحنى أعظمي ... طول ائتدامي الخبز بالكامخ فهو إلى نفسي من بغضه ... يعدل سمّ الأسود السالخ «1» اللبن قال الله تعالى: وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ «2» لم يتغير طعمه. وقال: من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين. وقيل: اللبن أحد اللحمين، وسموه شحما لما كان من الشحم يتولد. وقيل لرجل الحليب أحب إليك أم الرائب، فقال: الرائب، فإنه على كل حال بات مع اللحم ليلة. وقيل: ما غص أحد باللبن قط لقوله تعالى: لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ «3» . وفي الحديث: أن البقر لحومها داء وألبانها شفاء، وقال صلّى الله عليه وسلم: عليكم بألبان البقر فإنها ترم من كل الشجر. وقيل: ما رغى من اللبن أطيب من المصرح، وقيل: إن الرثيئة مما يغثا الغضب. قال ذو الرمة: كان إذا نزل بنا نزيل، قلنا له الحليب أحب إليك أم المخيض، فإن قال المخيض، قلنا: عبد من أنت، وإن قال الحليب، قلنا: ابن من أنت وقال شاعر: إذا شئت عناني على رحل فتية ... الحضجر يداوي بالبدور كبير «4» يعني أنه يمخض له. وقيل لبعضهم: الحليب أحبّ إليك أم الرائب، فقال: هو أكرم وأطيب من أن ينفى له حال. الجبن قال خالد بن صفوان لجاريته: أطعمينا جبنا فإنه يشّهي الطعام ويدبغ المعدة ويهيج الشهوة، فقالت: ما عندنا، فقال: ما عليك فإنه يقدح في الأسنان ويلين البطن وهو من طعام أهل الذمة. فقال بعض أصحابه: بأي القولين نأخذ؟ فقال: إذا حضر فبالأول وإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 711 غاب فبالثاني. وكتب كسرى إلى واليه: ابعث إليّ بشرّ إنسان على شرّ دابة مع شر طعام، فبعث إليه بخوزي على خنزير معه جبن. قال شاعر: إنما الجبن آفة الجسم سقما ... وعلى القلب كربة الأوهام «1» بدّلوها بلقمتي سكباج ... أو شواء مفصل من عظام السمك قال أعرابي: كل من السمك القذال ودع منه المبال وقال آخر: كل ما تفلس ودع ما تملس، وقدم إلى جعفر بن يحيى سمك، فقال: هذا إن لم يكفن بخبيص ويقبر بنبيذ فالحذر منه. وقال طبيب الهند: اجتنبوا ما يخرج من الضرع والبحر. قال أبو طالب المأموني: ماويّة فضّيّة لحمها ... ألذّ ما يأكله الآكل يضمّها من جلدها جوشن ... مدبل فهو لها شامل «2» تعيشها اللجّة ما خيمت ... بها كما يتلفها الساحل لو نلت من فضّتها عسجدا ... بقليها ما ضافني نازل «3» الباذنجان في الخبر: كلوا القرع واجتنبوا الباذنجان. قيل لأعرابي: ما تقول في الباذنجان، قال: لونه لون بطون العقارب وأذنابه كأذناب المحاجم وطعمه طعم الزقّوم، فقيل: إنه يحشى باللحم ويقلى بالزيت فيكون طيبا، فقال: لو حشي بالتقوى وقلي بالمغفرة وطبخته الحور العين وحملته الملائكة ما كان إلا بغيضي. وقيل لآخر: ما تقول في باذنجان عملته بوران، فقال إن شققته مريم وطبخته سارة وقدمته فاطمة لا رغبة لي فيه. وحكي أن الشبلي رئي يوما على الجسر، وكان يوما مطيرا، فقيل له: إلى أين؟ فقال: بلغني أن فلانا يعيب الباذنجان فأريد أن أمرّ عليه فأخاصمه. وقال الوأواء الدمشقي: أتانا بمقلي بورانه ... وشيرازه من لبان الغنم «4» وقد شنّج القلي منه الجلود ... كتشنيج أوجه سود الخدم وقال آخر: كرة من المسك الذكيّ تضمّنت ... من تحت مسك لؤلؤا مقشورا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 712 وقال عبد العزيز: وسود تروّت بالدّهان فأبدلت ... بتوريدها لونا من النّار أكلفا «1» كأفواه زنج تبصر الجلد أسودا ... وتبصر إن فرّت لجينا مؤلفا «2» كخلق حبيب خاف إكثار حاسد ... فأظهر صرما وهو يعتقد الوفا «3» المزور قال أحمد بن حمدون: قلت الطعام فقالوا من مزورة ... فقلت زور وليس الزور من وطري هاتوا أطايب ثور فائق سمنا ... كالفيل قدّا وإن عدّوه في البقر وسكبجوها ووفّوها توابلها ... وزعفروها وصفّوها عن الغير «4» وقدّموها على بيضاء صافية ... كأنّما خرطت من دارة القمر فمن نجا فدفاع الله سلّمه ... ومن مضى فإلى الفردوس أو سقر «5» وقال ابن سكرة: قد صرت كالزور في أكلي مزورة ... فإنّها كاسمها بين الورى زور خذ الحقائق واترك ما تزوّره ... فالحق متّبع والزور مهجور ولا تؤخّر لذيذ الأكل خوف أذى ... فليس في الموت تقديم وتأخير طعام يعاد على مائدة واحدة قال ابن طباطبا: أرزّ جاء يتبعه أرزّ ... هو الإيطاء يتّخذ اتّخاذا «6» فإيطاء القريض كما علمنا ... وإيطاء الطّعام كمثل هذا الملح قال أمير المؤمنين رضي الله عنه: من ابتدأ غداءه بالملح أذهب الله عنه سبعين نوعا من الداء، منها الجذام والبرص. وقال الخوارزمي: فهو بقل وروضة وجوارشن وأدم وزاد حامل زاد وقال المأموني: لا تدن منّي الملح إن شبته ... من الأبازير بألوان «7» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 713 فوجهه أبرص ذو نمشة ... بين ثآليل وخيلان وهاته من غير خلط له ... إدام زهّار ورهبان العسل قيل: أجود العسل الذهبي الذي إذا قطرت منه على الأرض قطرة استدارت استدارة الزئبق ولم يتغبش ولم يختلط بالتراب. وقيل: أجوده ما يلطخ على الفتيلة ثم توقد فيها النار فتعلق. وكتب هشام إلى عامله: أن ابعث إليّ بعسل من عسل خدار من النخل الأبكار من المستشار الذي لم تقر به نار. وقيل لرجل: ما تشتهي؟ فقال جنى النحل وجنى النخل. فقيل له: أيهما أحب إليك؟ قال: أشفاهما وأنقاهما وأبعدهما من الداء وأدناهما من الشفاء، وجعله الله تعالى في الجنان اللطيف بلا تفل، الخفيف بلا ثقل. وقال ديموقراطيس، وقد سئل عما يزيد في العمر، فقال: من أدام أكل العسل ودهن جسمه زاد الله في عمره. الحلواء قال بختيشوع: الحلواء كلّها، حقّها إن تؤكل بعد الطعام، لأن للمعدة ثورانا عقيب الامتلاء كثوران الفقاع، فإذا صادفت الحلاوة سكنت. وقول الناس إن في المعدة زاوية لا يسدها إلا الحلاوة على أصله، قال: والآكل إذا اشتهى الحلاوة ثم فقدها وجد في حواسه نقصا. الفالوذج والخبيص قال سفيان: لا بد للعاقل في كل أربعين يوما من خبيصة تحفظ عليه قوّته. كل طعام بلا حلو فهو خداج «1» ، وقال رجل في مجلس الأحنف: ما شيء أبغض لي من الحلواء، فقال: ربّ ملوم لا ذنب له. وسمع الحسن قائلا يعيب الفالوذج، فقال: لباب البرّ بلعاب النحل بسمن الماعز، ما عاب هذا مسلم قط. وقال أعرابي: وددت أن الموت والفالوذج اعتلجا في صدري. وبعث رجل إلى مزبد فالوذجا قليل الحلاوة، فقال: ينبغي أن يكون هذا عمل قبل أن يوحي ربك إلى النحل. وقيل: ذهبت بهجة الخبيص منذ عمل من عسل. وأتى يزيد بن الوليد بفالوذج فجعل الغاضري يأكل ويسرع، فقال يزيد: أرفق، فالإكثار منه يقتل. فقال الغاضري: منزلي على طريق المقابر، وما رأيت جنازة قيل إن صاحبها مات من أكل الفالوذج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 714 اللوزينج قيل لبعض الناس: إن التمر يسبح في البطن، فقال: إذا كان التمر يسبح في البطن فإن اللوزينج يصلّي فيها التراويح. وقيل: اللوزينج قاضي قضاة الحلاوات. قال شاعر في وصفه: مستكثف الحشو ولكنّه ... أرقّ جسما من نسيم الصّبا يخال من رقّة خرشائه ... شارك في الأجنحة الجندبا «1» لو أنّه صوّر من خبزه ... ثغر لكان البارد الأشنبا «2» وقيل لآخر: ما تقول في لوزينجة قد رقّ قشرها وغرقت في سكرها ودهن لوزها، فقال: فما أشدّ الوصف إذا عدم الموصوف. العصيدة قال بعض الأغفال: وقدم من قبل الخبيص عصيدة ... مغشى أعاليها بمنثور سكّر ترى الجمر أثناء العصيدة كامنا ... فتحسب مسكا بين إقطاع عنبر «3» ورئي مخارق، وهو يدور حول قدر يتخذ فيها عصيدة، ويقول بلحن عجيب: أنت يا ذات الأثافي ... أسمعينا غليانك فبنشّك ونشيشك ... طاب عنبرك وبابك إنما قتلي لنفسي ... واجتهادي لمكانك القطائف قال كشاجم: قطائف مثل أضابير الكتب ... كأنّها إذا تبدّت من كثب كوائر النحل بياضا وثقب وقال آخر: ألذّ شيء على الصّيام ... من الحلاوات في الطّعام قطائف نضّدت فحاكت ... فرائد الدرّ في النّظام منوّمات على جنوب ... في الجام كالصّبية النيّام «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 715 التّمر قال النبي صلّى الله عليه وسلم: من تصبّح بسبع تمرات عجوة لم يصبه يومه ذلك سم ولا سحر وقال صلّى الله عليه وسلم: أول ما يفطر به الرطب و التمر وأول ما تأكل النفساء الرطب والتمر، لأن الله سبحانه وتعالى قال لمريم: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا «1» . وقال شيخ: ما وضع الناس في أفواههم شيئا أطيب من عجوة، ووصف أعرابي تمرا، فقال: تمرات جرد فطس يغيب فيهن الضرس، كأن نواها ألسن الطير تضع التمرة في فمك فتجد حلاوتها في كعبك. وقال أعرابي: ضفنا فلانا فأتى بتمر كأعنان الوردان يوحل فيه الضرس. وقيل: خير التمر ما غلظ لحاه ورقّ سحاه ودقّ نواه. قال النابغة يصفه: صغار النوى مكنوزة ليس قشرها ... إذا طار قشر التمر عنها بطائر وقال آخر: وكنت إذا ما قرّب الزاد مولعا ... بكلّ كميت جلده لم يؤسف مداخلة الأقراب غير ضئيلة ... كميت إذا خفت مزادة مخلف وقال آخر: يا حبّذا التمرة ما أحلاها ... تدمن الفقحة من ذكراها «2» وقال الحجّاج يوما لجلسائه: ليكتب كل واحد منكم أطيب طعام وليدفعه إليّ، فكتب كلهم: التمر والزبد، وقال سوار لرجل حضر الشهادة، بم تشهد، فقال: شهدت بأن التمر بالزبد طيّب ... وإن الحبارى خالة الكروان فقال أما الأول فإني أشهد به أيضا. أكل التمر قال بعضهم: لم أنتفع بأكل التمر إلا مع الزنج وأهل أصفهان، فالزنج لا تختار وأنا أختار، وأهل أصفهان يأخذون قبضة فإلى أن يفرغوا من أكلها لم يأخذوا من غيرها وأنا أختار كما أحب. وقيل: فلان برم قرون أي لا يخرج مع أصحابه ويأكل تمرتين تمرتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 716 الرّطب قال ابن هبيرة: أي لقمة مخلوقة غير مصنوعة، وصرف غير ممزوجة أطيب، فقال بعضهم البيضة، وقال بعضهم: التمرة، فقال: هلا قلتم رطبة. قال المتوكل يوما للفتح: الحلواء أطيب أم الرطب ؟ فقال يد الله أصنع. وقال الثوري: ما أعنف رجلا يبيع ثيابه أيام الرطب فيشتريه بها. ذاكر الرشيد عيسى بن جعفر، أي الرطب أطيب؟ فقال الرشيد: القريتا، وقال عيسى: السكر، فأرسلوا إلى الأصمعي، فسأل الأصمعي الرسول عمّا دعي له فقال الرسول: كان كذا، فلما دخل سألاه، فقال: هذا لا يخفي أن القريتا أجود. إنّا كنا بالبصرة صبيانا نلعب بالنوى، فنجعل نوى القريتا دنانير ونوى السكر دراهم، فنعطي نواة من قريتا ونأخذ عشرين من سائر النوى، فضحك الرشيد وأمر له بصلة. العنب قيل: أجود العنب ما غلظ أعمده وأخضر عوده وسبط عنقوده. وقال أبو حنيفة الدينوري عن بعض أهل دمشق: إنه وزن حبة عنب مجلوبة من قرية يقال لها قرية العنب، فكان وزنها عشرة دراهم، وإن العنقود منها يملأ السلة. قال ابن الرومي: ورازقي مخطف الخصور ... كأنّه مخازن البلّور قد ضمنت مسكا إلى السّطور ... وفي الأعالي ماء ورد جوري لم يبق منه وهج الحرور ... إلا ضياء في ظروف نور لو أنّه يبقى على الدّهور ... قرط آذان الحسان الحور وقال الصاحب: وحبة من العنب ... من المنى متّخذه كأنّها لؤلؤة ... في وسطها زمرّده وله: حسبتها من بعد تمييزي لها ... لؤلؤة قد ثقبت من جانب الخوخ قال الطيلساني: وخوخة أعطيتها هشّة ... بيضاء مثل اللبن المخض كأنّها كفّ امرىء شدّها ... قبضا لضرب منه أو عضّ وقال آخر: كأنّه الزبد إذا ما التوى ... بالعسل الماذيّ في صحنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 717 وقال الصنوبريّ: كوجنة ألبست خلوقا ... فزال عن بعضها الخلوق «1» الرّمان قال النبي صلّى الله عليه وسلم: نعم الشيء الرمان ، ما من رمانة إلا وفيها حبة من الجنة، من أكلها نورت قلبه وأذهبت عنه الوسواس. وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: كلوا الرمان بشحمه فإنه دباغ المعدة. وقال الواسطي. رأيت رمّانة من فوق دوحتها ... ولونها ببديع الحسن منعوت فالقشر حقّ لماض ضمّ رائحة ... والشحم قطن له والحبّ ياقوت «2» أبو طالب المأموني: حقّ خليع ناصع دهنه ... مستودع حمر اليواقيت وله في وصفه عند تفتيته: الجام أرض وبناني حيا ... تمطر منه بردا أحمرا «3» وقال ابن شاه: ورمانة شبهتها إذ رأيتها ... بثدي كعاب أو بحقّة مرمر منمنمة صفراء نضّد حولها ... يواقيت حمر في ملاء معصفر لها قشر عقيان ورأس مشرق ... وأغصان خيري وأوراق عبهري «4» التّين قال كشاجم: أهلا بتين جاءنا ... مبتسما على طبق كسفرة مضمومة ... قد جمعت بلا حلق «5» وقال البحتري: وتين كأطراف الثّدي معسل وقال كشاجم: سفر جمعن من الحرير الأصفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 718 الزبيب خطب أعرابي امرأة، فطلب سكّرا للنثار فرآه غاليا، فاشترى زبيبا فنثره، وقال: ولما رأيت السكّر العام قد غلا ... وأيقنت أنّي لا محالة ناكح نثرت على رأسي زبيبا وصحبتي ... وقلت كلوا، كلّ الحلاوات صالح وقال بعضهم: حوى زقّين من عسل مصفّى ... نسينا عند طيبته الرّضابا «1» وهاب الاغتصاب عليه منّا ... فأنشأ فيه تدبيرا عجابا أرانا فوق عاتقه سنانا ... وأودع بينها خشبا صلابا وله: خذ عسلا في زبرجد جعلوا ... له صماخا يصون ما فيه «2» وقال المأموني: وذات احمرار صادق اللون خلتها ... أرتنا بأعكان لها شطب النّصل «3» قد انتحلت لونا من النّحل ناصعا ... ليعلم ما تحويه من عسل النّحل الكشمش قال المأموني: وكشمش كخرز ... للنظم لم يثقب تتلى بها الكاس لما ... بينهما من نسب كأنّه أوعية ... يحملن ذوب الضّرب «4» أو لؤلؤ حلّي أع ... لاه بماء الذّهب الطين سئل بعض الفقهاء عن أكل الطين، فقال: لا يجوز، لأن الله تعالى قال: كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا «5» ولم يقل كلوا الأرض. وقيل لرجل: كل من هذا الطين، فقال: أو بلغك أن في بطني ركنا أو ثلمة يجب سدّها. وكان المأمون مولعا بأكله، فسأل ابن بختيشوع عن دوائه، فقال: عزمة من عزمات الرجل فآلى على نفسه أن لا يعاود تناوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 719 الموز قال ابن الرومي: إنما الموز حين يمكن منه ... كاسمه مبدلا من الميم فاء وكذا فقده العزيز علينا ... كاسمه مبدلا من الزاي تاء فلهذا التأويل سمّاه موزا ... من أفاد المعاني الأسماء وله مثله في طيب الطعم: يكاد من موقعه المحبوب ... يدفعه البلع إلى القلوب الجوز واللّوز قال ابن الواسطي في وصفه: قطع العاج لفّفت في حرير ... أحمر في مداهن من ساج «1» وقال المأموني: ومحقق التدوير يبعد نفعه ... من كفّ من يجنيه ما لم يكسر درع يسوغ لآكليه يضمّه ... صدف تكوّن جسمه من عرعر «2» متدرّع في السّلم فوق غلالة ... درعا مظاهرة بثوب أخضر وله في اللوز: ومستجنّ عن الجانين ممتنع ... بجنّة لم يحكها كفّ نسّاج «3» درّ تكوّن من عاج تضمّنه ... في البرّ لا البحر أصداف من العاج الفستق قال الصنوبريّ: من الفستق الشاميّ كلّ مصونة ... تصان عن الأحداث في بطن تابوت زبرجدة ملفوفة في حريرة ... مضمّنة درّا مغشّى بياقوت وقال ابن الواسطي: مثل الزمرّد في حرير أخضر ... قد ضمّه صدف من العاج الحسن الشاهبلوط قال ببغا: وشاهبلوط تناهى واستتم ... كخرز من سبح لم ينتظم «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 720 كأنّه لمّا تراءى من أمم ... في صحّة التشبيه أظلاف الغنم «1» العنّاب قال بعضهم: بنادق قد خرطت ... من العقيق الأحمر الأجاص قال بندار: إجّاصة تحكي إذا حدّ النظر ... في شكلها سود صغيرات الأكر محزوزة ولا يرى فيها أثر المشمش قال رجل طبيب لرجل يغرس مشمشا: ما تصنع؟ فقال: أغرس شجرة تثمر لي ولك، فأخذ هذا المعنى ابن الرومي، فقال: إذا ما رأيت الدهر بستان مشمش ... تعلم يقينا أنه لطبيب يغلّ له ما لا يغلّ لأهله ... يغلّ مريضا حمل كلّ قضيب «2» وقال آخر: كأنّها بوتقة أحميت ... يجول فيها ذهب ذائب «3» الفرصاد «4» قال بعضهم: وجني فرصاد كأنّ متونه ... برش على ياقوتة حمراء السّفرجل قال أبو علي بن أبي العلاء في وصفه: نصف السفرجل ثدي ... والنّصف يحسب سرّه فمن أحبّ رآه ... فما يغادر ذرّه «5» وقال آخر: إن السّفرجل ريحان وفاكهة ... يحظى المشمّ بها والذوق والنظر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 721 يحكي وديكة تبر بل لهيب لظى ... شبّت ضحى وشعاع الشمس منتشر «1» وقال ابن طباطبا: سفر جلة حذفوا راءها ... تجم الفؤاد لقول النّبي وقد ذكر ما يضارع ذلك مع ذكر الأشجار والنبات في حده. جهل العرب بطيبات الأطعمة كانت العرب لا تعرف طيّبات الأطعمة، إنما كان طعامهم اللحم يطبخ بماء وملح، حتى أدرك معاوية رضي الله عنه الإمارة، فاتخذ ألوان الأطعمة. قال أبو بردة: كانوا يقولون من أكل الخبز الحواري سمن، فلما فتحنا خيبر أجهضناهم عن خبزهم فقعدت عليه آكل وأنظر في أعطافي هل سمنت. وقال خالد بن عمير العطوي: شهدت فتح الأيلة فوجدنا سفينة مملوءة جوز، فقال رجل: ما هذه الحجارة؟ ثم كسروا واحدة، فقالوا: طعام طيّب. وقال بعضهم: أصابوا أجربة من الكافور فقالوا هاء الملح فذاقوه، وقالوا: لا ملوحة لهذا الملح، ففطن ناس من أهل الخبرة فجعلوا يعطونهم جرابا من الملح ويأخذون جرابا من الكافور. وقدّم إلى أعرابي خبز عليه لحم فأكل اللحم وترك الخبز، وقال: خذوا الطبق. وقدّم فالوذج إلى أعرابي فقيل له ما هذا؟ قال: الرمان المعلق. قاذورات أطعمة العرب كانت بنو أسد يأكلون الكلاب، ولذلك قال الفرزدق: إذا أسدي جاع يوما ببلدة ... وكان سمينا كلبه فهو آكله ويأكلون الهبيد، وهو الحنظل المالح، وقال بعضهم: نزلت برجل فأضافني فأتى بحيّة فشواها فأطعمنيها، ثم أتى بماء منتن فسقانيه، فلما أردت الإرتحال قال: ألا أقمت، طعام طيّب وماء نمير. وكانوا يأكلون في الجدب العلهز وهو الحلم الكبار يدق مع الوبر. وكان أحدهم يتناول الشعر المحلوق فيجعله في حفنة من الدقيق ثم يأكله مع ما فيه من القمل. ولذلك قال شاعرهم: بني أسد جاءت بكم قمليّة ... بها باطن من داء سوء وظاهر ومن طعامهم الفظّ وهو ماء الكرش. وقيل لأعرابي ما تأكلون؟ فقال: نأكل ما دب ودرج إلا أم حبين، فقال: لتهن أم حبين العافية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 722 قال أبو نواس: ولا تأخذ عن الأعراب طعما ... ولا عيشا فعيشهم جديب وكان رؤبة يأكل الفأر، فقيل له ألا تستقذره، فقال: هو والله ما يأكل إلا فاخرات متاعنا. وبنو تميم يعيّرون بأكل الضبّ. قال أبو نواس: إذا ما تميميّ أتاك مفاخرا ... فقل عدّ عن ذا كيف أكلك للضّب أكل قاذورات على غلط قال الأصمعي: دنوت من بعض الأخبية في البادية فسقيت لبنا في إناء، فلما شربته، قلت: هل كان هذا الإناء نظيفا؟ فقيل: نعم، إنا نأكل منه بالنهار ونبول فيه بالليل، فإذا أصبحنا سقينا الكلب فيه فلحسه ونقاه. فقلت: لعن الله هذه النظافة ولعنكم من قوم متقذّرين. قال: ونزلت على امرأة فنظرت إلى قطع من القديد منظومة في خيط فأمعنت في أكله، فأقبلت المرأة، فقالت: يا هذا ليس ما أكلت مما يؤكل، فقلت ما هو، قالت: إني امرأة خاتنة أختن جواري الحيّ، فكلما خفضت واحدة نظمت خافضتها في هذا الخيط لأعرف عددهن، فتقيّأت استبشاعا. وقعد رجل في سفينة وركب معه يهودي قد احتضن سلّة قديد فاستولى عليها الرجل، وأخذ يأكلها حتّى لم يبق إلا عظيمات. فلما أراد الخروج إلى البرّ، رأى اليهودي السلّة فارغة فسأل عنها، فقيل: إن هذا الرجل أكل ما فيها فولول، وقال أكلت أبي؛ فسئل عن ذلك، فقال: كان أبي أوصى أن يدفن ببيت المقدس فلما مات قددناه ليسهل حمله، فأكله هذا. الموصوف بالطّيب يقال: ألذ من زبد بندسيان «1» وأحلى من الشهد وأزكى من الورد وأشهى من إنجاز الوعد. أحلى من المنّ والسلوى، ألذ من نظر المعشوق في وجه عاشق بابتسام. قال آخر: وألذ من أنغام خلة عاشق ... زارته بعد تمنّع وشماس «2» أعذب من الماء الزلال. أطيب من قبلة الحبيب على غفلة الرقيب. طعام تضنّ به العين عن الفم. وقال رقبة بن مصقلة في صفة دعوة: جاؤونا بخوان كالقاع في بياض الفضة عليه رقاق كقباطي مصر، ورغف كدارة القمر وبقول كوشي السندس، وخلّ كذوب العقيق، ثم جاؤوا بفالوذج كأن الزئبق الجاري ينبع من خلله للجريان على وجهه، ترى نقش الدرهم من تحته ظاهرا يذوب قبل التطعم ويبتلع قبل التينع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 723 الموصوف بالنّتن أنتن من الجيفة، ومن ريح الجورب، ومن العذراء، ومن مرقات النعجة، أي ما تمرق من شعرها أي ما ينتف. كنى الأطعمة وأسماؤها الأعلام عند الصّوفيّة قد أكثر الناس من ذلك وذكرت منه طرفا هو أقرب: الخبز أبو جابر، والسكباج أم القدور، والقلية زلزل المغني، والطباهج الزرزر الصناج، والمضيرة الشيخ اليهودي أبو الزئبق، البقل أبو زحام بلا منفعة، الخل أبو عامر الغضبان، الخيار أبو الأخضر البندق، القثاء أبو القرون، البصل أبو قمصان، الدجاج أم حفص، الفروج بنات المؤذن، السكر أبو شيبة الخوزي. أنواع من ذكر الأطعمة كان النظّام إذا خلط كلامه في ذكر الأطعمة ببعض الفاكهة يقول: الزيت نصراني والخل يهودي، واللبن والزبيبان نصرانيان راهبان. وعلى لون صبغهما صبغوا ثيابهم. وقيل: الصحناة والتفشيل يهوديان، والسمن مسلم. من تعود أكل الطعام وإن كان ضارا لم يضره بل ينفعه، حتى أن السم من تعود أكله لم يضره. والطعام الجيد النافع للعامة إذا أكله من كان مستغربا له غير عاهده يضرّه. وقد ذم الأطباء ما يخرج من الضرع. وقريش تعودت أكلها وانظر كيف كرمها وسخاؤها وعقولها ودهاؤها. ومرّ جالينوس مع تلامذته ببقلة فسألوه عنها فقال: هي سم ساعة فإذا رجل يأكلها ولا تضرّه فسألوه، فقال: هذا غداء لنا، فقال جالينوس: هل لك في مصاحبتي فأحسن إليك؟ فقال الرجل: بلى، فصاحبه زمانا يأكل ما يأكلونه ثم عرض عليه ذلك البقل، فأكله فمات لوقته. قال أبو طالب المأموني في السكنجبين: ومستنتج ما بين خلّ وسكّر ... دوائي من دائي به وشفائي رأيت به في الكاس أعجب منظر ... مذاب عقيق فيه جامد ماء (2) وممّا جاء في أحوال الأكل والأكلة والتطفل الرّخصة في تناول المباحات قال الله تعالى: لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا «1» وقال: وَكُلُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 724 وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا «1» . وقال: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ «2» وقال تعالى: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ «3» وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: اعمل صالحا وكل طيبا والبس لينا. وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: كل ما شئت وألبس ما شئت ما أخطاك إسراف ومخيلة. ورغّب الله تعالى آدم في الخلود في الجنة، فقال: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى » . فبدا باشتراط الشبع. ومرّ عمر رضي الله عنه بشاب فاستسقاه ماء فخاض له عسلا فلم يشرب، وقال: إني سمعت الله تعالى يقول أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا، فقال الفتى: إنها والله ليست لك أقرأ ما قبلها ويوم يعرض الذين كفروا على النار، فشربها عمر رضي الله عنه، وقال: كل الناس أفقه من عمر. واجتمع فرقد السنجي والحسن على مائدة، فأتي بجام خبيص فأبى فرقد أن يأكل، وقال: أخاف أن لا أؤدي شكر الله تعالى عليه، فقال الحسن: كل فلنعمة الله عليك في الماء البارد أعظم منها في الخبيص. قال الشيخ أبو القاسم رحمه الله: فانظر إلى فقه الحسن وفهمه وإلى ضعف رأي فرقد مع إسلامه، واعتبر بهما قول النبي صلّى الله عليه وسلم: فضل العلم أحب إليّ من فضل العبادة، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد. غسل اليدين قبل الطّعام دعي سلمان رضي الله عنه إلى طعام فلما دخل توضأ للصلاة فصلّى، ثم قدم الطعام فاستدعى الماء وغسل يده، فقيل: ألم تغسلها آنفا، فقال: نعم، ولكني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من غسل يده قبل الطعام وبعده أكل في سعة من رزقه. وقال الحسن رضي الله عنه: غسل اليد قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللّمم «5» . وامتنع رجل من غسل اليد للطعام عند موسى الرضا، فقال: أغسلها فالغسلة الأولى لنا والثانية لك، فإن شئت فاتركها. وغسل رجل يده عند المأمون ومدّ يده إلى رأسه فأمر بإعادة غسلها، ثم مدّها إلى لحيته فأمره بإعادته. وقال: لا يلي غسل اليد للطعام إلا الطعام. وقدّم إلى مالك بن أنس رضي الله عنه حيث يراه المهدي الماء ليغسل يده للطعام، فقال: هذا بدعة، فقال المهدي: يا أبا عبد الله البدعة تعتبر في الشرّ، فأما أبواب الخيرات فإحداثها سنة. وغسل رجل يده مرارا فلم تذهب عنها الدسومة. فقال: كاد هذا الدسم أن يكون لنا نسبا وصهرا. وامتنع أعرابي من غسل اليد بعد الطعام فسئل عنه، فقال: فقد رائحته كفقده. وكان أعرابي عند سعيد بن مسلم فقعد للطعام فقتل قملة، فقيل له: أغسل يدك، فقال: لا ضير ما بقي على يدي الأخرى شأوها. وكان أعرابي يفلّي ثوبه ويأكل ويحبق «6» فقيل له: أما تستحي ويحك، فقال: وما أنكرت، أدخل حديثا وأخرج عتيقا وأقتل عدوا. وكان عبد الله بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 725 سلمان يبطىء في غسل اليدين ويقول: يجب أن تكون مدته مدة زمان الأكل. ذكر الله على الطّعام قيل: إذا جمع الطعام أربعا فقد كمل، إذا كان حلالا وكثرت عليه الأيدي وسمّي الله في أوله وحمد في آخره. وقال طاوس: من سمّى الله على طعامه لم يسأله عن نعيمه. وقيل: ذكر الله على الطعام شفاء يبرىء من الداء، وذكر الناس داء لا يقبل الشفاء. وقيل: إذا أكلتم فسمّوا وأدنوا، أي أذكروا الله وكلوا مما بين أيديكم. وكان ابن عباس إذا وضع الطعام يقول: بسم الله عنّي وعن كل آكل معي. وكان سعيد بن جبير إذا فرغ من الطعام يقول: اللهم قد أشبعت وأرويت وطيبت فهنئنا برحمتك. وقال بعض القصاد: يا معشر الناس إن الشيطان إذا سمّي الإنسان على الطعام والشراب لم يأكل معه، فكلوا خبز الذرة والمالح ولا تسمّوا ليأكل معكم، ثم اشربوا الماء وسمّوا الله حتى تقتلوه عطشا. حمد الأكل من جانب الصّحفة وعذر ذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إن البركة تنزل في وسط الصحفة فكلوا من جوانبها ولا تأكلوا من وسطها. وقال أنس بن مالك: كل بيمينك وتناول مما يليك. وأكل أعرابي مع بعض السلاطين، فقال: كل ممّا يليك، فقال: رأيت جانبك أمرع ومن أجدب انتجع. وأكل أعرابيان على مائدة، فمدّ أحدهما يده، فقال له الآخر: كفّ يدك، فإن لك في ما بين يديك مقنعا، فقال: إني من قوم إذا أجدبوا انتجعوا، فقال له: ويلك وهل على مائدة أمير المؤمنين جدب، ثم مد الآخر يده، فقال له صاحبه: كفّ يدك، فقال: إني من قوم إذا أخصبوا تخيّروا فاستحسن عبد الملك كلامه، وأمر له بصلة. وأكل أعرابي من بني عذرة مع معاوية، فمدّ يده إلى ثريدة بين يدي معاوية، فقال معاوية: أخرقتها لتغرق أهلها، فقال الأعرابي: ولكن سقناه إلى بلد ميت، فضحك معاوية وأمر له بجائزة. وكان أبو علي بن حمدون في مجلس وعند القوم نقل «1» فمد يده إلى ما بين يدي صديق له، فقيل له: ما تفعل؟ فأنشد: وأحيانا على بكر أخينا ... إذا ما لم نجد إلا أخانا وكان الهائم الشاعر على مائدة عليها جدى فجعل يجرّ الجدي الذي كان يليه ولم ينجر، وكان الجانب الذي عليه اللحم يلي قوما آخرين، فقال: ففينا غواشيها وفيهم صدورها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 726 أوقات الطّعام المحمودة والمذمومة سئل طبيب أي أوقات الطعام أحمد، قال: أما من قدر فإذا جاع، ومن لم يقدر فإذا وجد. الغداء والعشاء قيل: العشاء متخمة وتركه مهرمة، وقال بقراط: من تعوّد العشاء ثم تركه التبس عليه طبعه. وقال عمر رضي الله عنه لابنه: لا تخرج يا بنيّ من منزلك حتّى تأخذ حلمك يعني حتى تتغدى. دعا الحجّاج رجلا إلى غدائه. فقال: قد أكلت، فقال له الحجاج: إنك لتباكر الغداء، فقال الرجل: لخلال ثلاث إن نوجيت لم يوجد من فمي خلوف، وإن شربت شربت على ثفل، وإن حضرت قوما أكلت ومعي بقية من عرضي. وقيل: خبر الغداء بواكره فقيل: أمحمود ذلك في كل وقت؟ فقال: نعم إذا كان شتاء فلطول الليل وإذا كان صيفا فلبرد الماء وقلّة الذباب. واستدعى رجل الغداء، فقيل له: اصبر حتى تطلع الشمس فقال: أنتظر بغدائي قادما من وراء خراسان. وقيل: خير الغداء بواكره وخير العشاء سوافره، أي أن تأكل وعليك ضوء. وسأل رجل الحسن عمّن يأكل مرة، فقال: أكل الصالحين، فقيل: مرتين. فقال غداء وعشاء أكل التجّار، فقيل: ثلاث مرات، فقال: ذاك حمار يبنى له آريّ «1» . ذمّ الشّبع والإكثار من الأكل وحمد الإقلال منه قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إياكم والبطنة فإنها مفسدة للبدن مورثة للسقم مكسلة عن العبادة. وقال صلّى الله عليه وسلم: الرغب شؤم، وقيل: الموت جوعا خير من الحياة شبعا. وقال ذو الرياستين: ما عجبت لإتفاق الأطباء على ثلاث كلمات، قال طبيب الروم: كل قليلا ولا تكن عليلا. وقال طبيب فارس: كل قصدا لا تلق من الكظّة جهدا، وقال طبيب الهند: كل قدرا لا تضيق به صدرا. وقيل: صحة الجسم قلة الطعم، وصحة الروح اجتناب الإثم. وجاء رجل إلى أبي مسلم فقال: أعطيك دواء تأكل معه ما شئت فلا يضرّك، فقال: لا حاجة لي فيه فقبيح بالإنسان أن يدخل المستراح في كل يوم أكثر من مرة، وقبيح به أن يحن في الشهر أكثر من مرة. وقال الخليل: أثقل ساعاتي ساعة آكل فيها. وقال مالك بن دينار: وددت أن رزقي حصاة أمصها فقد ضجرت من كثرة تردادي إلى الخلاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 727 وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ «1» . وقال صلّى الله عليه وسلم: ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان ولا بد فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس. وفي كتاب كليلة ودمنة: ليعد من البهائم من همّته بطنه وفرجه. وكانت العرب تسمي الشبع أبا الكفر. وقيل: إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة. البطنة تذهب الفطنة. قيل: لا تسكن الحكمة بطنا مليء طعاما. من الكرم تنزيه القرم. وقيل: الشبع داعية البشم والبشم داعية السقم والسقم داعية الموت، ومن مات هذه الميتة فقد مات ميتة لئيمة. قال الحسن: مسكين ابن آدم صريع الشبع أسير الجوع. قال شاعر: وإن امتلاء البطن في جسد الفتى ... قليل غناء، وهو في الجسم صالح وقال طرفة في عمرو بن هند: ويشرب حتّى يغمر المحض قلبه ... وإن أعطه أترك لقلبي مجثما «2» وباع مالك بن دينار جارية فزارته يوما، فقال: كيف ترين مواليك؟ فقالت: ما أكثر خير بيوتهم، فقال: أخبرتني عن عمران حشوشهم. وقال يحيى بن معاذ: من أكل حتى شبع عوقب بثلاث، يلقي الغطاء على قلبه والنعاس على عينيه والكسل على جسمه. وقال بشر الحافي:- من ضبط بطنه فقد ضبط الأعمال الصالحة كلّها. وقال بشر بن الحارث: لا تعوّد نفسك الشبع من الحلال فتدعوك إلى الحرام. وسأله رجل عن غسل الجمعة، فقال: أغسل بطنك يكفيك عن غسل بدنك. واشتهى أبو مسلم الهريسة، فقال لطبّاخه: اشتهيت هريسة فاتخذها أجود ما يكون، فلما قدمت إليه أمر بأن ترفع ولم يأكل، ثم قال له من بعد اتخذ هريسة فاتخذها وقدمها إليه فلم يأكل، وتقدم إليه ثالثا فعملها وقدمها فلم يأكل، فقال الطبّاخ: أيها الأمير لقد أجدت حتى لا غاية، فما الذي يحجزك عنها؟ قال: رأيت نفسي قد شرهت إلى تناولها فكرهت أن تغلبني شهوتي. وقيل: لا تجعلوا بطونكم خزائن الشيطان يضع فيها ما أحب. حدّ الشّبع قيل لأعرابي سأل ما حدّ الشبع، هو الامتلاء من الطعام حتى لا تشتهيه، فقال: وهل يكون ذلك إلا في الجنة. وقال أعرابي: اللهم إني أسألك ميتة كميتة عرفجة، فقيل كيف مات؟ قال: أكل بزخا وشرب مشعلا والتف في كسائه ومات فلقي الله شبعان ريان دفآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 728 حمد الطّوى وذمّه قال المغيرة بن شعبة: علّموا أولادكم الخفاف احملوهم على الطوى، لأن من اتبع أمرا لزمه، ومن أكثر من تركه أجمه «1» . وقال الحارث بن كلدة: يى خير الدواء الأزم «2» وشر الدواء إدخال الطعام على الطعام. قيل ليوسف عليه السلام: لم تجوع وأنت على خزائن الأرض؟ فقال: أخاف أن أشبع فأنسى الجائع. وقيل: ترك الأكل يضيق الأمعاء. الصّابر على الجوع قال: ولقد أبيت على الطّوى وأظلّه ... حتّى أنال به لذيذ المطعم وخرج أبو خراش في سفر فعدم الطعام أياما، فمر بامرأة، فقال: هل من طعام فأتته بعمروس «3» . فقالت: إذبحه فذبحه وسلخه ثم شواه، فلما وجد رائحة الشواء قرقر بطنه، فقال: أتقرقر من رائحة الشواء يا ربّة البيت هل من صبر؟ فأتته بصبر فاقتحمه وأتبعه بماء ثم ارتحل، ولم يأكل، وقال: وإني لأثوي الجوع حتّى يملّني ... فيذهب، لم تدنّس ثيابي ولا عرضي وقال آخر: وأغتبق الماء القراح وأنتهي ... إذا الزاد أمسى للمزلّج ذا طعم «4» مخافة أن أحيا برغم وذلة ... وللموت خير من حياة على رغم الصّائن بطنه عمّا يلزم منة أو مذمّة قيل: أحسن بيت في هذا المعنى قول نهشل: أغرّ كمصباح الدجنّة يتّقي ... قذى الزاد حتّى يستفاد أطايبه وقال: إذا مطعمي كان ذا غصّة ... غسلت يدي منه قبل اكتفائي وقال آخر: ألبان إبل تعلّة بن مساور ... ما دام يملكها عليّ حرام وطعام عمران بن أوفى مثلها ... ما دام يسلك في البطون طعام إنّ الذين يسوغ في أعناقهم ... زاد يمنّ عليهم للئام قال بعضهم: اكتريت من جمّال، فكان يحدو بنا بقول الشاعر: أبلج بين حاجبيه نوره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 729 فلما بلغ قوله: إذا تغدّى رفعت ستوره أمسك حتى بلغنا المنزل، فقلنا: لم لم تكن تنشد قبل هذا؟ فقال: تفاديا من أن تحسبوني أعرّض بزادكم. حمد الرّضا بما يتسهّل قال النبي صلّى الله عليه وسلم: كفى بالمرء عيبا أن يتسخّط ما قرب إليه. وقيل: كل في شهوة أهلك. قال الأصمعي: رأيت إعرابية تأكل قشور الرمان، فقلت: ما هذا؟ قالت: أدفع به الجوع، فإن الجوع إذا دفعته بشيء اندفع. قال شاعر: تنافس في طيب الطعام وكلّه ... سواء إذا ما جاوز اللهوات وقال ابن الرومي: ومتى شرهت فإنّ أيسر لذّة ... لك إن نظرت مع السلام كافية وقال آخر: وما هي إلا جوعة إن سددتها ... فكلّ طعام بين جنبيك واحد وقال آخر: وما أكلة إن نلتها بغنيمة ... ولا جوعة إن جعتها بغرام وقال بعضهم: لقيت أعرابيا، فقلت من أين؟ فقال: من البادية من جبل ضربة، أرض لا نبتغي بها بدلا ولا عنها حولا، في أرغد عيش وأنعم معيشة، فالحمد لله على ما بسط من السعة ورزق من حسن الدعة، أو ما سمعت قول قائلنا: إذا ما أصبنا كلّ يوم مذيقة ... وخمس تميرات صغار هوامز «1» فنحن ملوك النّاس خصبا ونعمة ... ونحن أسود الغاب وقت الهزاهز «2» وكم متمن عيشة لا ينالها ... ولو نالها أضحى بها جدّ فائز الشّاكي عدم المآكل قيل لرجل: بم تسحرت البارحة؟ فقال: باليأس عن الفطور الليلة. وقيل لرجل: ما تأكل، قال: الخبز والزيت، فقيل: أتصبر عليهما، فقال: ليتهما صبرا عليّ. قال جرير: تكلّفني معيشة آل زيد ... ومن لي بالمرقّق والصّناب «3» وقال أعرابي لامرأته: لو كان عندنا تمر وسمن لطلبنا دقيقا واستعرنا طنجيرا واتخذنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 730 عصيدة. والعرب تسمي الجوع أبا عمرة. قيل لأعرابي: أتعرف أبا عمرة؟ قال: كيف لا أعرفه وكبدي مخيمة على أمعائه والصفر. وقيل: هو حية في البطن تعضّ إذا جاعت صاحبها. قال أعرابي: مالي عهد بعضاض ولا مضاغ ولا لماج ولا شماج منذ زمان. وقيل: نزل به أبو عمرة وهو كناية عن الجوع، وقال: حلّ أبو عمرة وسط حجرتي استطابة الجائع الطعام قيل لأبي العملس: أي الطعام أطيب؟ فقال: طعام لقي الجوع بطعم وافق الشهوة. قيل: فما ألذ الأشربة؟ قال: شربة ماء تضيع بها غلّتك. وقال محمد بن جعفر: العين طليعة المعدة. وكان مكتوبا على مائدة أنوشروان: ما طعمته وأنت تشتهيه فقد أكلته، وما طعمته وأنت لا تشتهيه فقد أكلك. وقيل: أحدّ شيء ضرس جائعة. من جسمه ينبىء عن جودة أكله في المثل: أفواهه هجاسة. قيل: يريك البشر ما أجاد مشفر. وقيل لرجل: ما أسمنك؟ فقال: أكلي الحار وشربي القار والإتكاء على الشمال. وقيل لآخر، فقال: قلة الفكرة وطول الدعة والنوم على الكظّة. وصف الأكلة من الأكلة سعد القراقر، الذي قيل فيه: أجوع من كلب حومل. ودرواس الذي يقول: الغداء غذاء والغبوق دواء والقليل حمض والجاشرية خفض. وزهمان الذي قيل فيه في بطن زهمان زاده. أكل سليمان بن عبد الملك أربعين دجاجة وثمانين كلية بشحومها وثمانين جردقة «1» ، وأحضر الإجاص فأحصى له ثمانمائة نواة. وكان هلال بن مشعر التيميّ أكل فصيلا وأكلت امرأته فصيلا، فلما تضاجعا لم يصل إليها، فقالت: تصل إليّ وبيننا جملان. وقال سالم بن قتيبة: عددت للحجاج أربعا وثمانين لقمة في كل لقمة رغيف فيه ملء كف من سمك طري. وكان معاوية يأكل حتى يتربّع، ثم يقول: إرفع ما شبعت حتى مللت. قال ابن أبي الأسود: كأنّما في فيه أحجار الرّحا ... وكأنّما في جوفه تنّور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 731 وقال آخر: أقلّ ما يأكله أقلّه ... لا يحمل النيل ولا يقلّه ووصف أعرابي رجلا، فقال: هو أكلة «1» وكلة تكلة «2» . وقال آخر: كأنّه برذونة رغوث «3» وقال آخر: قرضابة طرفاه الدهر في تعب ... ضرس طحون وفرج يفسد الدّينا «4» وقال آخر: خبّ جبان وإذا جاع بكى ... ولا يوارى فرجه إذا اصطلى «5» ويأكل التمر ولا يلقي النّوى ... كأنّه غرارة ملأى خنا «6» وقال آخر: أيا آكل من نار ... ويا أشرب من رمل وكان بلال بن أبي بردة أكولا، وفيه يقول الحسن رضي الله عنه: يتكي على شماله ويأكل غير ماله، حتى إذا كظّه الطعام يقول: إبغوا لي هاضوما. وقيل: وهل تهضم إلا دينك. وقيل لرجل: كيف أكل فلان، فقال كما لا يحبه لبخيل. ويتمثل في هذا الباب بقول جرير: كالحوت لا يلهيه شيء يلهمه ... يصبح ظمآن وفي البحر فمه وفي الجشاء، لابن عيينة: وتصبح تقلس عن تخمة ... كأن جشاءك عن فجله المسرع اللّقم قال شاعر: ما بين لقمته الأولى إذا ازدردت ... وبين أخرى تليها قيس أظفور «7» وقال آخر: يدارك اللقم ولا يخشى الغصص ... تلقّما يقطع أزرار القمص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 732 وقال آخر: فلان إذا أكل شدق وعلق وحملق أي لقمة في فمه وأخرى في يده وأخرى يرمقها بعينه. وقيل: فلان برم قرون لمن لا يدخل في الميسر ثم يأكل تمرتين تمرتين. وروي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا أكل طعاما فرفع إلى فيه لقمة لم يأخذ غيرها حتى ينقي فاه منها. المعظّم اللّقم قال شاعر: أعددت للقم بنانا مجرما ... وضرس ناب كالرّحا محرفا ومعدة تغلي وبطنا أكنفا ... حولا دكيكا ما يذوق علفا «1» وقال أعرابي: يحشو زوايا بطنه إذا اضطّرم ... لقما كأمثال جلاميد الأكم «2» وقال البحتري: وكأن الفتى يطمّ ركابا ... قد تهورن أو يسد بثوقا «3» وقال آخر: يلقم لقما ويغدى زاده ... يرمي بأمثال القطا فؤاده وقال آخر: ترى كلّ محلول الإزار كأنّما ... يطيّن سطحا أو يلقم ناضحا «4» وقيل: فلان إن أكل لفّ وإن شرب اشتف. قال شاعر: وكأنّما صوت التطعّم منهم ... قبل يفوه بهنّ صوت شفاه وقال آخر: كأن ذوبه في الحلق لمّا ... يهمهم صوت رعد في سحاب الأكل بالملعقة أكل أعرابي بملعقة شيئا فاحترق فمه، فقال: أبعدني الله أن أحكم على فمي غير يدي، فإنها رائد حق ونذير صدق، وكره الأكل بالملعقة مع الغير، فإن إدخالها في الفم وإعادتها إلى الصحفة مستقبح. وكان بعض أهل المروآت يضع بين يديه ملاعق فإذا التقم بواحدة لم يعد إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 733 المملوء فمه من الطّعام سلّم رجل على أعرابي، وكان في فمه لقمة، فلما بلعها قال: حياك من خلا فوه. وقال حميد الأرقط: أتانا وما داناه سحبان وائل ... بيانا وعلما بالذي هو قائل فما زال عنه اللقم حتّى كأنّه ... من العيّ لما أن تكلّم باقل «1» من أكل ما اشتهاه ولم يخف عقباه حضر أعرابي طعام أمير فأكل معه، فأحضر الفالوذج، فقال الأمير: إن أكلت هذا حززت رأسك، فنظر مليا ثم رأى تركه خسرانا، فمد إليه يده وقال: أوصيك بصبيتي خيرا. مرّ أعرابي بقوم وعندهم طعام، فقال: ما هذا؟ قالوا: زقوم «2» ، قال طيّب، والله لأساعدنكم على أكله. استدعاء الطّعام قال الأصمعي: أضفت أعرابيا فلما أكلنا. قلت يا جارية: أطعمينا تينا فنسيته، فقلت له بعد ساعة أتحسن شيئا من القرآن، قال: نعم، فقلت: إقرأ، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم والزيتون وطور سينين، فقلت وأين التين، فقال: نسيته أنت وجاريتك من ذلك الوقت. دخل رجل على قوم يشربون فناولوه أقداحا، وكان جائعا، فقال للمغنّي غنّ: خليليّ داويتما ظاهرا ... فمن ذا يداوي جوى باطنا فعلم صاحب الدار أنه جائع، فقال غنّ له: من يسأل النّاس يحرموه ... وسائل الله ما يخيب ودخل آخر على قوم، فقالوا له: أي صوت أحب إليك؟ فقال: صوت المقلى. ودعي ابن حجاج إلى دعوة مع جماعة فتأخر عنهم الطعام، فقال لصاحب الدعوة: يا ذاهبا في داره آتيا ... من غير ما معنى ولا فائدة قد جنّ أضيافك من جوعهم ... فاقرأ عليهم سورة المائدة وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما في دعوة، فاستبطأ الطعام، فقال: ائتونا بالخوان نأنس به إلى أن يحضر الطعام. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: إن الملائكة لا تزال تصلي على أحدكم ما دامت مائدته موضوعة. ودخل أعرابي على رجل بين يديه سلّة فيها طعام، فقال: ما هذا؟ قال: بظر أمك. فقال: أعضضن به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 734 ودخل الشعبيّ على أبي عمرو فتطاولا، ثم قال الشعبي: أعندك تحفة؟ فقال: نعم، أي التحفتين أحب إليك، أتحفة إبراهيم أم تحفة مريم. فقال: تحفة إبراهيم عهدي بها الساعة يعني اللحم. ولكن ائتني بتحفة مريم فأتاه بالرطب. وقيل لأعرابي: ما تشتهي؟ فقال: حرف جردق وعرق مرق. وقال بعض أهل الكوفة: دخل عليّ جعيفران، فقال له: هل من طعام؟ فقلت: سلق بخردل، فقال: فاشتر بطيخا، فقلت للجارية: قدّمي الطعام واذهبي فاشتري بطيخا، فقدمت الطعام وذهبت وتباطأت، فقال جعيفران: سلقتنا وخردلت ... ثمّ ولّت وهرولت وأراها بواحد ... وافر الأير قد خلت فخرجت في طلبها، فإذا بالسائس قد خلا بها في الدهليز كما وصف. الاحتجاج للتطفّل والتبجّح به عوتب طفيلي، فقال: كلكم طفيليون لكنكم تجهلون أنكم تؤدون الأعمال من غير أن تدعوا إليها، وسواء تطفل على طعام أو على تمنية. وقال طفيلي، وقد عوتب: قد تطفل بنو إسرائيل على الله فقالوا ربنا أنزل علينا مائدة من السماء، وقيل لطفيلي: لا يحلّ لك أن تأكل من طعام لم تدع إليه، فقال: هذا خلاف قول الله تعالى، حيث قال: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ «1» إلى قوله: وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ «2» إلى قوله: أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ «3» وقد قال الله عز وجل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ «4» . وقال طفيلي: إن لم أدع ولم أجىء وقعت وحشة، ثم أنشد: نزوركم لانكفائكم بجفوتكم ... إن المحبّ إذا لم يستزر زارا وقال آخر: لا أرى التطفيل إلا ... في فتى حرّ كريم وقال علي البصري: أحسن الإخوان إن خفت ... من الإخوان جفوه طرحك الحشمة عنهم ... وتجي من غير دعوه وقال آخر: قد أتيناك زائرين خفافا ... وعلمنا بأنّ عندك فضله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 735 إن تجدنا كما تحبّ وإلا ... فاحتملنا فإنّما هي أكله المهجوّ بالتطفّل وذمّه قيل: فلان أطفل من ليل على نهار، وألزم للخوان من منديل الغمر، يأكل لمّا ويوسع الحي ذما. قال ابن طباطبا: ولو نشر النبيّ لكنت منه ... مكان أبي هريرة غير مين» ألح زيارة ليلفّ زادا ... معدّا لابن فاطمة الحسين وقال آخر: لو يسمعون بأكلة أو شربة ... بعمّان أمسى جمعهم بعمّان وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: من مشى إلى طعام لم يدع إليه مشى فاسقا وأكل حراما. وكان أبو دلف العجلي كتب من الكرخ إلى محمد بن فاخر بأصبهان: إني أريد أن ألم بك يوما فأضيفك وأرى أصبهان، فهيأ ابن فاخر وأنفق مالا جمّا، وكان بأصبهان شويعر بينه وبين ابن فاخر عداوة، فكتب رقعة ودفعها إلى من تصدّى لأبي دلف لما قرب من أصبهان، فقرأها، فإذا فيها: جئت في ألف فارس ... لغداء من الكرج ما على المرء بعد ذا ... في دنا النفس من حرج فانصرف أبو دلف راجعا، وأفسد على محمد ما كان هيأه. قال ابن بشر فيمن أكل وحمل: أكلوا حتّى إذا شبعوا ... حملوا الفضل الذي تركوا إحتمال المشقّة فيه قال أبو الجهم: كم لطمة في حرّ وجهك صلبة ... من كفّ بوّاب سفيه ضابط حتّى وصلت فنلت أكلة ضيغم ... متضمّخ بدم وأنف ساقط «2» فسمعها طفيلي، قال: نعم، من طلب عظيما خاطر بعظيم. الشّديد الطمع قيل: هو أطمع من أشعب، وكان قيل لأشعب: ما بلغ من طمعك؟ فقال: ما زفّت عروس إلا كنّست بأبي ورششته، طمعا أن تحمل إلى داري، وما سارر أحد أحدا إلا ظننته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 736 يأمر لي بشيء. وقيل الطفيلي: ما بلغ من طمعك؟ فقال: ما سألتني عن هذا إلا وفي نيتك أن تعطيني شيئا. حثّ المتطفّل على الوقاحة رأى طفيليّ آخر فقال له: هلّا حضرت دعوة فلان، فقال: لا يجتمع التطفيل والحياء، أما سمعت قول الشاعر: لا تستحينّ من القري ... ب ولا من الفظّ البعيد ودع الحياء فإنّما ... وجه المطفل من حديد «1» نوادر المتطفّلين سمع طفيلي خشخشة الإبريق فأمسك عن الطعام، فقيل له في ذلك، فقال: حتى يسكن هذا الإرجاف. وقيل لآخر: ما بال وجهك أصفر؟ فقال: للفترة بين القصعتين أخاف أن يكون الطعام انقطع. وقيل لآخر: ما تحفظ من القرآن، قال قوله تعالى: آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً «2» وقيل لآخر: اشتر لنا لحما، فقال: لا أحسن الشراء، فقيل له أوقد النار، قال: أنا كسلان، فقيل له أطبخ قال: لا أحسن الطبخ. فلما غرف الطعام، قيل: له تقدم فكل، فقال: أكره أن أكثر مخالفتكم. وحضر طفيلي باب دعوة فمنعه البواب، فقام ينظر من صير الباب إلى الأطعمة، وأنشد: ومالك منها غير أنّك نائك ... بعينيك عينيها وهل ذاك نافع وأكل أعرابي عند قوم، فلما أراد الخروج قيل له: هل تعود إلينا؟ فقال: ليس مثل السوء لي، ولكن الكلب لا يدع خائطا شبع منه. وقال طفيلي لقوم يحضرون دعوة: إجعلوني لحقا بين سطرين. أكل فضالة المائدة روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم: من أكل من فضالة ما يسقط من المائدة لم يزل في سعة من الرزق ما كان، ووقي هو وولده وولد ولده الحمق. وقيل: مهور الحور العين أكل فتات المائدة. الخلال قال جعفر بن سليمان: لا بد من الخلال «3» وهو مخربة للأسنان. ودخل رستاقي على قوم يأكلون فأطعموه فلما فرغوا أعطوه، فأخذ يتأملهم ظنا منه أنهم يريدون قلع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 737 أسنانهم، فأخرج مسلة معه فقلع ضواحكه والتفت إليه، وقال: أنتم بعد في حفر أصل واحدة، وها أنا قد نزعت أربعا. وأكل طبري مع قوم فلما فرغوا دفعوا إليه خلالا فظنه مما يؤكل فأكله فنظر الغلام إليه فلم ير الخلال معه، فدفع إليه آخر، فقال الطبري: قد أكلت واحدا ولا أشتهي غيره. أنواع من هذا الفصل قال النبي صلّى الله عليه وسلم: إذا صنع خادم أحدكم طعاما فليجلسه معه أو يناوله، وقال: لا تأكلوا في غربال ولا منخل، فإنه يمحق البركة ولا يشبع. وأتى صلّى الله عليه وسلم بطعام شديد الحرارة، فقال: ما كان الله ليطعمنا النار أقروه حتى يبرد، فإن الطعام الحار ممحوق البركة وللشيطان فيه شرك. قال البحتري: تنازعنا المدامة وهي صرف ... وأعجلنا الطبائخ وهي نار (3) وممّا جاء في الدعاء إلى الدعوات أسماء الدّعوات المأدبة، والمأدبة الدعوة والوليمة عند الأملاك، والعرس عند البناء بالأهل، والخرس للولادة، والأعذار للختان، والنقيعة للقدوم من سفر، وكذلك السفرة والوكيرة، والحيرة للبناء، والوضيمة للمأتم، والعقيقة لأول ما يؤخذ من شعر الولد، والنقرى التخصيص في الدعوة، والجفلى التعميم فيها «1» . قال بعض الأدباء العارفين بالفارسية: ليس في اللغة الفارسية شيء من أسماء هذه الدعوات. الحثّ على اتخاذ الدّعوة والإجابة إليها. قال النبي صلّى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أو لم ولو بشاة. وقال صلّى الله عليه وسلم: لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إليّ ذراع لقبلت. وروي أن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم كانوا إذا اجتمعوا لم يتفرّقوا إلا عن ذواق «2» . وقال صلّى الله عليه وسلم: إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك. وفي حديث آخر فإن كان مفطرا فليأكل وإن كان صائما فليصلّ، أي ليدع لهم بالبركة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 738 وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما إذا ادعي إلى طعام يحضر، فإن كان مفطرا أكل وإلا قال كلوا بسم الله ويذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: الصائم إذا أكل عنده سبّحت أعضاؤه. المستدعي صاحبه زاعما أنّ به يتمّ السرور كتب أبو الفرج الدمشقي إلى صديق له: شهد الله أنّ كلّ سرور ... غبت عنه فليس لي بسرور وقال آخر: نحن في أطيب الحبور ولكن ... ليس إلّا بكم يتمّ السرور عيب ما نحن فيه يا أهل ودّي ... أنكم غبتم ونحن حضور فأعّدوا المسير بل إن قدرتم ... أن تطيروا مع الرّياح فطيروا وقال الصولي: حضر السرور وعيبه ... أن لست مسعدنا عليه وقال آخر: ائتنا إن عندنا بعض من أنت ... له وامق من الأصحاب «1» وأناس فيهم وفيهم ولكن ... ليس بدّ من القذى في الشّراب من دعا صديقه ووصف له طعامه وشرابه كتب جحظة إلى صديق له: لنا يا أخي فرحة وافرة ... وقدر موفّرة حاضره وراح تريك إذا صفّقت ... سنا البرق في الليلة الماطره «2» ومسمعة لم يخنها الصّواب ... وزامرة أيّما زامره «3» وما شئت من خبر نادر ... ونادرة بعدها نادره فواف وإن كنت يا ابن الكرام ... وحاشاك في الساعة الآخره وكتب الوزير العباس إلى نديم له: أيّها الكوفيّ شيخي ... قم بنا نحو الدويره فلنا فضلة سكبا ... ج لدينا في قديره ومدام من دم الكر ... مة باتت في ذكيره «4» وإذا ما ارتاحت النفس ... من الراح قطيره «5» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 739 فضجيعي ساعدا عم ... رو وشيخي مع عميره ودعا رجل صديقا له، فقال ما عندك؟ قال: مرقة طيبة ونفس تستطيب أكلها، فقال: مثلك يجاب. وكتب أبو سعد بن نوقة إلى أبي مسلم بن بحر، وراسله برسول يكنّى أبا بكر: إن كنت تأكل ما حضره ... فاحضر فإنّك منتظر والساعة اقتربت لفر ... ط الجوع وانشقّ القمر «1» ورسولنا بكتابنا ... هذا الظريف أبو بكر وبإذنه حرّكت منه ... الكاف كيلا ينكسر «2» وقال محمد بن باج: عندنا قدر لذيذ ... ليس للقدر شريك ونبيذ من زبيب ... وغزال يستنيك فائتنا نأكل ونشرب ... ثمّ نخلو فننيك وقال آخر: وماذا ترى في برمة بقرية ... وأخذ بأطراف الحديث المنمّق كتب ابن مكرم إلى أبي العيناء: عندنا سكباج يرعف المجنون وحديث يطرب المحزون وإخوانك الملحدون، فلا تعلوا عليّ وائتون. فكتب إليه أبو العيناء إخساؤا فيها ولا تكلمون. من دعا أصحابه ووصف لهم من الأطعمة ما لم يف به قال الأعمش لجليس له: أتشتهي جديا سمينا وأرغفة باردة وخلا حاذقا؟ فقال: أي والله قال: فانهض معي. فحمله إلى داره وقدم إليه خبزا يابسا وبقلا وخلا. قال: فأين الجدي والأرغفة؟ قال: لم أقل لك هما عندي وإنما قلت تشتهيه. والمسمّى بابن العباس الأبله قال لبعض من استقبله: هل لك في قديد هش وخبز لين وخبيص ملبق، قال: أي والله قال: إذهب إلى السوق فاشترها فإني قد اشتهيتها وها أنا أعود إلى دارك لآكلها. قال العطوي: دخلت على أبي سعيد المخزومي وهو بين بابين وعلى أحدهما: نعم النديم نديم لا يكلّفني ... ذبح الدجاج ولا ذبح الفراريج يرضى بقدرين من برّ ومن عدس ... وأن تشهّى فزيتون بطيبوج «3» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 740 فقلت قد رضيت بزيتون واعفيتك من القدرين، فقال: إقرأ ما على الحائط الآخر فإذا عليه: إشرب على الخير والريق ... لبعدنا الآن من السوق لا تطلبنّ الخبز من بيتنا ... فإنّما تنفخ في البوق «1» من دعا أخاه فاستعجله قال كشاجم في أبيات كتب بها إلى صديق له يدعوه: فكن جوابي ولا تركن إلى عذر ... فإن ركنت إلى شيء أتيناه فقد تيقنت أني ما التمست أخا ... مساعدا قط إلا كنت إيّاه وكتب أبو مسلم بن بحر إلى أبي سعيد بن نوقة: تلقّاك يومك بالأسعد ... وأعطيت سؤلك في أحمد فبادر إليّ وقيت الرّدى ... وهب لي صلاتك في المسجد «2» وقال آخر: جعلت فداك قد حضر الطعام ... وصاحت من تأخّرك المدام فإما جئتنا عجلا وإلا ... أخذنا في اغتيابك والسلام وقال منصور: كتبت والكاس في يمناي مترعة ... وأحسن النّاس يلهينا ويسقينا ونحن في مجلس حلّ السرور به ... خلوين من ثالث حتّى توافينا فكن جواب كتابي والسّلام فما ... أراك تدركنا إلا مجانينا وقال آخر: كن جوابي إذا قرأت كتابي ... لا تردّنّ للكتاب جوابا أعفني من نعم وسوف ولي شغ ... ل، وكن سيّدا دعي فأجابا معاتبة متباطىء قال بعض الناس: دعاني رجل إلى وليمة في يوم جمعة فمضيت إلى الجامع وتشاغلت فجئته مع العتمة، فقال لي: يا هذا عصيت الله في هذا اليوم ثلاث مرات، مضيت إلى الصلاة قبل النداء، وقد قال الله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ «3» . وقال الله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 741 فأقمت إلى العتمة، وعصيت الرسول، حيث قال: الداعي مستغيث فأغيثوه، فأخجلني. قال كشاجم: تأخّرت حتّى كددت الرسول ... وحتّى سئمت من الانتظار وأوحشت إخوانك المسعدين ... وفجعتهم بشباب النهار وأضرمت بالجوع أحشاءهم ... بنار تزيد على كلّ نار فإن كنت تأمل أن لا تذمّ ... فأنت وحقّك عين الحمار وكتب الصاحب إلى أبي الحسن العلوي في أبيات، وكان قد عاد إلى داره لشغل ووعد أن يعود إليه، فلم يعد: لم ملت في العود إلى التقصير ... كما يقال حوصلي وطيري «1» الحثّ على ترك من تباطأ أو تأخّر قال ابن المعتز: إذا ما تأخّر من قد دعوت ... فدعه وما اختار من أمره ولا تشربنّ بتذكاره ... ولكن تثاءب على ذكره وقال آخر: إن الفتوّة كلّها ... في أكل ما يتلهوج؟ فإذا تعجّل خمسة ... من ستة قد أزعجوا فدع انتظارك واحدا ... لجماعة قد زوّجوا إن البطيء عن الدعا ... ءإلى الإجاعة أحوج المعتذر لتأخّره عن من دعاه كتب المهلّبي إلى صديق دعاه فلم يمكنه الحضور: لولا شغيل عاقني ... بالقرب حاول عن مزارك لأتيت نحوك مسرعا ... ولصرت من غلمان دارك فبحق طرفك وافتنا ... نك والمهذّب من نجارك «2» إلا مننت وقلت لي ... إنّي وهبتك لاعتذارك وقال ابن طباطبا: أبسطوا العذر في التأخّر عنكم ... شغل الحلي أهله أن يعارا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 742 فضل المجيب الدّعوة على داعيه قال ناصر الدولة، وقد دعاه إنسان إلى دعوته: من دعا فأبينا ... فله الفضل علينا فإذا نحن أجبنا ... رجع الفضل إلينا ودعا بعض الناس أديبا فامتنع، فقيل له في ذلك، فقال: إنه دعاني مرة فأجبته فلم يشكرني عليه. قال شاعر: أتاني رسولك يبغي الحضور ... فخليت من كنت في دعوته وجئتك يا سيّدي مسرعا ... كأنّي نوالك في سرعته وقال ابن الحجاج في أبيات له: جئت بلا وعد لأنّي فتى ... يضجرني التسويف والوعد معاتبة من شرب الدّواء فلم يدعه قال أبو القاسم بن أبي سعد الأصبهاني: أبا فرج عش سعيدا لنا ... ودمت وبلغت أقصى المنى أسأت إلينا وأوحشتنا ... وكنت قديما فتى محسنا وللبيت مصراعه المستفيض ... ولو لاك جئت به معلنا فبيّن لنا العذر فيما أتيت ... وصل جمعنا واغتنم شكرنا الدّاعي من لا يدعوه كان بدمشق شاعران يتعاشران، وأحدهما مكثر عن الآخر ولا يدعوه إلى منزله، فكتب إليه: أبدا تحصل عندي ... ثم لا أحصل عندك «1» إن تناصفني وإلا ... أبت يا طائي وحدك «2» ذكر بعض الكتاب أنه كان يعاشر سوقيا فاتفق أن دعاه يوما، قال: فلما تمكنت اشتغل عني صاحب الدعوة فعثرت برقعة بخطه فيها: فلان دعاني مرتين ودعوته ثلاث مرات فعليه دعوة، وقد ذكرنا على هذا أسامي كل من يعاشرنا، فلما انتهيت إلى اسمي فرأيته قد حصل له على دعوات، فخرجت وقلت: عليّ أن لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 743 أتناول طعامك حتى أرد ما عليّ، قال: فقلت في ذلك: أرى الدعوات قد صارت فروضا ... ولا أدعو فيلقاني بغيضا وقال آخر: إذا كنت تدعوني لأدعوك مثله ... ففعلك منحول إلى فعل تاجر «1» الحثّ على تجديد الإرسال إلى من دعوته والتعريض إذا ما كان بينك في عشي ... وبين أخ من الإخوان وعد فجدّد بالغداة له رسولا ... فإن حوادث الأيام تغدو «2» ومثله: إذا صاحب لك واعدته ... ليوم اجتماع من الجمعة فقوّ عزيمته في الوفا ... بتذكرة لك في رقعة واجتمع قوم في دار ليلة فأرادوا الصبوح، فقال المغني: دعوا صاحب الدار لي فإني أحمله على أن يحتبسكم، فغنّى: ومعرس طلب الصبوح وإنني ... لفتى يوافقني الصّباح وحسنه «3» فقال الرجل لجاريته: القوم أرادوا الاصطباح فما الحيلة؟ فقالت الجارية: دعهم لي وأخذت العود، وغنت: ودار ندامى عطّلوها وأدلجوا ... بها أثر منهم جديد ودارس «4» فانصرف القوم. (4) وممّا جاء في الأجواد بالقرى قيل لأعرابي: ما القرى؟ فقال: نار يعلو شرفها وخيمة يوطأ كنفها. وقال آخر: نلقى النزيل بالوجه الجميل. وقيل: بذل القرى فوق بذل الندى. الحثّ على الإضافة قال الله تعالى في مدح قوم: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً «5» وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 744 النبي صلّى الله عليه وسلم: أطعموا الطعام وأفشوا السلام وصلوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام، وقال صلّى الله عليه وسلم: إذا نزل الضيف بقوم نزل برزقه وإذا ارتحل عنهم ارتحل بذنوبهم. وقال: أيّما مسلم أضاف فأصبح الضيف محروما، فحق على كل مسلم نصرته حتى يأخذ قرى ليلته من زرعه أو ماله. وقال أنس بن مالك: كلّ بيت لا يدخله ضيف سبعة أيام لم تدخله الملائكة. ومرّ قتيبة بعذرة فقال: إن من يبخل يصير حاله إلى هذا البخيل. وقيل لبعضهم: ما الكرم؟ فقال: طعام مبذول ونائل موصول ووفاء لا يحول. وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: لأن اختبز صاعا أو صاعين فأدعوا إليه نفرا من إخواني أحب إليّ من أن أعتق رقبة. حثّ الشّافع المشفوع إليه على الاصطناع كلّم علي بن الحسين رضي الله عنهما عاملا في رجل، فقال: أنا لا أكلمك في ما يوهي دينك ويوتغ «1» أمانتك، ولكن الحر القادر إذا أراد أن يحسن أحسن. وقال الواثق يوما لأحمد بن أبي داود، تضجرا بكثرة حوائجه! قد اختلت بيوت المال بطلباتك للائذين بك والمتوسلين إليك، فقال: يا أمير المؤمنين هي نتائج شكرها متصل بك وذخائر أجرها مكتوب لك، ومالي من ذلك إلا أن أخلد المدح فيك، فقال: أحسنت، وشفعه. وكتب الصاحب في فصل: والفتى إن أراد نفع أخيه ... فهو يدري في أمره كيف يسعى (5) وممّا جاء في الجود والأجواد ما حدّ به الجود والأجواد قيل للأحنف: ما السخاء؟ قال: الاحتيال للمعروف، قيل: فما اللؤم؟ قال: الاستقصاء على الملهوف. وقيل: السخي من كان بماله متبرعا وعن مال غيره متورّعا. وقيل: لصوفي من الجواد من الناس؟ فقال: الذي يؤدي ما افترض عليه. وقيل للحسن رضي الله عنه من السخيّ؟ فقال: الذي لو كانت الدنيا له فأنفقها لرأى عليه بعد ذلك حقوقا. وقال بعضهم: الناس أربعة: جواد وهو الذي يعطي حظ دنياه وآخرته، وبخيل وهو الذي لا يعطي واحدا منهما، ومسرف وهو الذي جعل ماله لدنياه، ومقتصد وهو الذي أعطى كلّا بقدره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 745 كون السّخاء واقيا من النّقم قال الله تعالى: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ «1» ، وقال تعالى: وما تفعلوا من خير فلن تكفروه «2» وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة، وقال: عليكم باصطناع المعروف فإنه يقي مصارع السوء، وقال صلّى الله عليه وسلم: السخاء شجرة من أشجار الجنّة أغصانها متدليّة في الدنيا فمن أخذ بغصن من أغصانها أدّاه إلى الجنة، والبخل شجرة من أشجار النار فمن أخذ بغصن من أغصانها أداه إلى النار. وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: إنما أمهل فرعون مع ادعائه الربوبية لسهولة إذنه وبذل طعامه. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: صاحب المعروف لا يقع، وإن وقع وجد متكأ وقيل لحكيم: ما الذي يشبه من أفعال العباد فعل الله؟ فقال: الإحسان إلى الناس. كون المحسن محبوبا عند الله ورسوله قال النبي صلّى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على شيء يحبه الله ورسوله، قالوا بلى، قال: التغابن «3» للناس. وقال صلّى الله عليه وسلم: تجافوا عن ذنب السخي، فإن الله تعالى آخذ بيده. وقال: السخي قريب من الله قريب من الناس، والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس. وقال صلّى الله عليه وسلم: سادة الناس في الدنيا الاسخياء وفي الآخرة الاتقياء. وقال: الخلق كلّهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله. وقالت عائشة رضي الله عنها: جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها. وقيل: من بذل دراهمه أحبه الناس طوعا أو كرها. وقيل: من غزر عوارفه كثر معارفه. وقيل لحكيم: هل شيء خير من الدراهم والدنانير قال معطيهما، ابن علقمة: ولا تسأل الأضياف من هم فإنّهم ... هم النّاس من معروف وجه ومنكر من لا يتعلّل على معتفيه قال معاوية بن جعفر: بل لا نقول إذا تبؤأ منزلا ... إن المحلّة شعبها مكدود» إذ بعضهم يحمي مراصد بيته ... عن جاره وسبيلنا مورود «5» وقال آخر: أضفت ولم أفحش عليه ولم أقل ... لأحرمه إن الفناء مضيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 746 من لا يعلق بابه على معتفيه قيل: أمدح بيت قالته العرب، قوله: يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السّواد المقبل «1» وقال الرستمي: ولم يغلّقوا أبوابهم دون ضيفهم ... ولا شتموا خدّامهم ساعة الأكل إذا تغدّى رفعت ستوره وقال آخر: وإذا حضرنا الباب عند غدائه ... أذن الغداء لنا برغم الحاجب ولما عرس جعفر بن يحيى بابنه علي بن عيسى بن ماهان، جعل الطعام في الشوارع، فكلّ من شاء أكل، وجعلت الغوالي «2» في مراكن من ذهب فمن شاء تطيب ومن شاء أخذ وانصرف. وكان عبيد الله بن عباس رضي الله عنهما يسمّى معلم الجود، وهو أول من وضع الموائد على الطريق وكانت نفقته كل يوم خمسمائة دينار. النّازل الرّوابي والأطراف وقال أبو فراس: لنا بيت على عنق الثريّا ... رفيع مذاهب الأطناب سامي «3» تظلله الفوارس بالعوالي ... وتفرشه الولائد بالطّعام «4» وقال ابن هرمة: أغشى الطريق بقبّتي ورواقها ... وأحلّ في نشز الربا فأقيم «5» قيل للحسن رضي الله عنه كيف نزلت بالأطراف، فقال: هي منازل الأشراف يتناولون من أرادوا بالقدرة عليه ويتناولهم من أرادهم بالحاجة إليهم. المبادر إلى حمل الضّيف قال شاعر: وقمت إليه مسرعا فغنمته ... مخافة قومي أن يفوزوا به قبل فأوسعني حمدا وأوسعته قرى ... وأرخص بحمد كان كاسبه الأكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 747 المسرور بمجيء الضّيف وشاكره عليه قال دعبل: الله يعلم أنّني ما سرّني ... شيء كطارقة الضيوف النزّل ما زلت بالترحيب حتّى خلتني ... ضيفا له والضيف ربّ المنزل وله: نغمات الضّيف أحلى عندنا ... من ثغاء الشاء أو تلك الوغا «1» وقال آخر: لم يطيقوا أن يسمعوا فسمعنا ... فصبرنا على رحى الأسنان صوت مضغ الضيوف أحسن عندي ... من غناء القيان بالعيدان وقال الحرمازي: لضيفي على الطّول ما دام نازلا ... عليّ وفوق الطول ما استوطن الرحلا «2» المحتشد لأضيافه قال بعضهم: فتى لا تعد الرسل تقضي ذمامه ... إذا نزل الأضياف أو تنحر الجزر وقال بعضهم: دعا فأحسن قرانا وبرح حتى لم يبق في داره ما يتفقدنا به مرة أخرى. وقيل لبعض ما اتخذ دعوة: أسرفت، فقال: ليس في الشرف سرف. وقال الحسن فيما ظن لرجل أو لم أسرف فليس في الطعام سرف. قال كشاجم: كأنّ الزائرين إذا أتوه ... مفاجأة أتوه على تعاد «3» الحثّ على ترك التكلّف وتعجيل الحاضر قال النبي صلّى الله عليه وسلم: هلاك بالرجل أن يدخل عليه النفر من أصحابه فيحتقر ما في بيته أن يقدم إليهم، وقال: لا أحب المتكلفين. دعي أمير المؤمنين إلى دعوة فقال: على أن لا تحتشد ما ليس عندك ولا تحتبس ما عندك. وقال بكر المزني: إذا أتاك ضيف فلا تنتظر به ما ليس عندك وتمنعه ما هو عندك، قدم إليه ما حضر. وقيل: الضيف إلى القليل العاجل أحوج منه إلى الكثير الآجل، أما سمعت قول الله تعالى: فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ «4» وقال تعالى: إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ «5» ، وقال بعض العلوية: إذا طرقت فما حضر ... وإذا دعوت فلا تذر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 748 عذر من قدّم ما حضر نزل ضيف بأعرابية فقدمت له خبزا يابسا ولبنا حامضا، فذمّها وقال: ألم تر أن المرء من ضيق عيشه ... يلام على أخلاقه وهو معذر وما ذاك من لؤم ولا من ضراعة ... ولكنّه إن يطبل الدهر يزّمر «1» وقال آخر: إذا أنت لم تشرك رفيقك في الذي ... يكون قليلا لم تشاركه في الفضل وقال آخر: أقلّ عارا إذا ضيف تضيّفني ... ما كان عندي إذا أعطيت مجهودي جهد المقلّ إذا أعطاك نائله ... ومكثر من غنى سيّان في الجود عذر من لم يقدر استضاف قوم ابن هرمة فخرجت بنيّة له فصرفتهم واعتذرت إليهم، فقالوا لها: أليس أبوك القائل: لا أمنع العود بالفصال ولا ... أبتاع إلّا قريبة الأجل قالت: هذا الفعل هو الذي ترككم بلا قرى. وقال رجل لمن سأله فلم يعطه فعاتبه: بيتي يبخل لا أنا. عتب من لم يرض بما حضر قال شقيق: دخلنا على سلمان، فقدم إلينا شيئا، وقال: لولا أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهانا أن نتكلف للضيف لتكلّفت لكم. فجاءنا بخبز وملح فاقترحنا عليه السعتر فذهب بمطهرته، فلما أكلنا، قال أحدنا: الحمد لله الذي قنعنا بما رزقنا، فقال سلمان: لو قنعكم لم تكن مطهرتي «2» مرهونة. وقيل: ليس بكريم من لم يقنع بما حضر. مدح من آثر على نفسه أو أهله نزل ضيف على أنصاري، وكان عنده شيء طفيف فأحضره، وأطفأ السراج ليأكل الضيف فلا يشاركه فيه، فلما أصبح قال النبي صلّى الله عليه وسلم: عجب ربكم تعالى البارحة منكم فأنزل الله عز وجل: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ «3» وقال صوفي لآخر: كيف يعمل فقراؤكم، قال: إذا وجدوا أكلوا وإذا عدموا صبروا، فقال: هذا فعل الكلاب إن الفقير منّا إذا عدم صبر وإذا وجد طعاما آثر به غيره. وقال مالك بن دينار يوما: ما أكلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 749 العام رطبة، وكان حوله سبعمائة في تلك السنة لحطمة نالتهم. قال شاعر: وزاد رفعت الكفّ عنه تكرّما ... إذا ابتدر القوم القليل من العقل وقال آخر: كريم مكان الكفّ من ذي إنائه ... إذا قلّ زاد القوم من جانب اليد وقال آخر: سأقدح من قدري نصيبا لجارتي ... وإن كان ما فيها كفافا على أهلي المساعد ضيفه في مؤاكلته قال النبي صلّى الله عليه وسلم لبعض نسائه: آكلي ضيفك، فالضيف يستحي أن يأكل وحده. وكان ملوك الهند يؤاكلون أضيافهم وملوك الفرس يأكلون بعدهم. قال بعضهم: حسن أكل الفتى يدلّ على إينا ... سه ضيفه وبسط أكيله وتراه يفلّ منه ويدعو ... ذاك أضيافه إلى تبخيله وقال آخر: وزاد وضعت الكفّ فيه تأنّسا ... وما فيه لولا أنسة الضّيف من أكل المساعد رفقاءه بذات يده قال بعضهم: وإني إذا ما ضمّني السير والسّرى ... جعلت مطايا الرحل منّا تعاقبا فأوسع ركبان الفيافي مزاودي ... وما زال مأدومي لصحبي تناهبا «1» أأوب وقد نفضت ما في حقائبي ... جميعا إذا ردّ اللئام الحقائبا وقال أرطأة بن سهية: وما دون ضيفي من تلاد تحوزه ... لي النفس إلا أن تصان الحلائل الحثّ على إكرام الضّيف قال النبي صلّى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، وقال صلّى الله عليه وسلم: ليس مني من بات شبعان وضيفه بطنه طاو. وقال عمرو بن الأهتم: وجاري لا يهيننّه وضيفي ... إذا أمسى وراء البيت كور «2» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 750 وقال آخر: والضيف أكرمه فإن مبيته ... حق ولاتك لعنة للنزل مدح القائم بخدمة الضّيف قال الله تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ «1» ، قيل: وصفهم بذلك لأنه قام بخدمتهم بنفسه. قال المقنع: وإني لعبد الضيف ما دام نازلا ... ولا فيّ إلا تلك من شيمة العبد وقال: وعبد للصّحابة غير عبد وقال جحظة البرمكي: يا أمّ طارق ليل قد ألمّ بنا ... استغنمي أجره فالأجر مغتنم كوني له أمة فيما يحلّ له ... ورفّهيه ففي ترفيهه كرم ونزل ضيف بجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، فتخفّف هو وغلمانه عند نزوله وعاونوه في حلوله، فلما أراد الإرتحال عنهم لم يعنه غلام، فشكاهم، فقال: إن غلماننا لا يعينون على الإرتحال عنّا. الاستقصاء على الأكيّل مدحا وذمّا قال ابن عون: ما رأيت أسخى بالطعام من الحسن وابن سيرين. وكان الحسن رضي الله عنه يقول: الطعام أهون من أن يحلف عليه، وكان ابن سيرين يحلف بقول: أقسمت لتأكلن. قال دعبل: كيف احتيالي لبسط الضيف من حصر ... عند الطّعام فقد ضاقت به حيلي وقدّم رجل إلى الشعبي طعاما فقصّر في أكله، فقال: قصرت، فقال: يا هذا أما أن تحلف علينا أو تدعنا. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما من داخل إلا وله حيرة فابدأوه بالسلام، وما من مدعو إلى طعام إلا وله حشمة فابدأوه باليمين. محادثة الأكيّل كره قوم الحديث على المائدة واستحبه قوم، ومن صاحب الدعوة أحسن، ولذلك قال الشاعر: صادف أنسا وحديثا ما اشتهى ... إنّ الحديث طرف من القرى «2» وقيل: محادثة الإخوان تزيد في لذة الطعام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 751 وقال أحمد بن أبي طاهر: وأكثر ما ألذّ به وألهو ... محادثة الضّيوف على الطّعام وقيل: من أكثر الكلام على طعامه غش بطنه، وثقل على إخوانه. مضاحكة الأضياف قال شاعر: أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ... ويخصب عندي والمحلّ جديب وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ... ولكنّما وجه الكريم خصيب وقال أعرابي: نقريهم الوجه ثمّ البذل يتبعه ... لا نترك الجهد منّا قلّ أو كثرا «1» وقال آخر: أبسط وجهي للضيوف النزّل ... والوجه عنوان الكريم المفضل فضل الاجتماع على الأكل شكا رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم قلّة البركة في طعامهم، فقال: لعلكم تتفرقون على طعامكم، قال نعم، قال: اجتمعوا عليه واذكروا اسم الله لديه. وقال صلّى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بشراركم، من أكل وحده وضرب عبده ومنع رفده. وكانت العرب تعد التفرد بالأكل احتقاب وزر «2» حتى أنزل الله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً «3» ، وقال أبو أمامة في قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ «4» أنه الذي يأكل وحده، قال شاعر: إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلا فإنّي لست آكله وحدي وقال عبد الله بن المعتز في اجتماع الأيدي على الطعام: كأن أكفّ القوم في جفناته ... قطا لم ينفره عن الماء صارخ «5» من نحر سمان الإبل للضّيف وصف أعرابي رجلا فقال: نحر لنا ذا سديف مسرهد «6» ونيء غير مصرد، فقدّمه في جفان كالجوابي «7» وقدور كالخوابي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 752 قال العجير السلوي: وإن ابن عمّي لابن زيد وأنه ... لبلال أيدي حلّة الشول بالدم «1» وقال ابن المعتز: والسيف راعى إبلي في المحل ... يسلمها إلى قدور تغلي يرقل فيها بالوقود الجزل ... لرقالها في السير تحت الرحل «2» وقال المتنبي: تفري صوارمه الساعات عبط دم ... كأنما الساع قفّال ونزّال «3» من نحرها له لمّا قلّ لبنها قال لبيد: إذا ما درّها لم يقر ضيفا ... ضمن له قراه من الشّحوم وقال عوف بن الأحوص: إذا الشّول راحت ثم لم يغد حملها ... بألبانها ذاق السنان عقيرها «4» الخائف إبله النّحر قال أبو هرمة: وكانت تطير الشول عرفان صوته ... ولم تمس إلا وهي خائفة العقر «5» وقال أبو فراس: وتصبح الكوم أشتاتا مروعة ... لا تأمن الدهر إلا من أعاديها «6» من لا يبقي إلله لحسنها عن النّحر قال بعضهم: إذا أخذت بزل المخاض سلاحها ... تجرّد فيها متلف المال كاسبه» وقال البسامي: ترى إبل البخيل لها سلاح ... تهاب وما لإبلي من سلاح تناوح إن رأت شخصا غريبا ... يوافي عند هبّات الرياح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 753 الموقد ناره للأضياف قيل لأعرابي: ممن أنت؟ قال: ممن لا يزجر وفودهم ولا يسر وقودهم. وقيل لآخر مثله، فقال: ممن يهتدي برأيه الصحب ويستدل بناره الركب. وقال آخر: لهم نار وارية الزناد «1» قديمة الولاد تضيء لها البلاد ويحيى بها العباد. وقال مضرس: وإني لأدعو الضيف بالضرّ بعد ما ... كسا الأرض نضّاح الجليد وجامده «2» وقال آخر: له نار تشبّ بكلّ قاع ... إذا النيران ألبست القناعا وقال ابن مطرود: أوقد النار بالفضا حين لم ير ... ض نباح الكلاب للأضياف وقال كعب الأشعري: رفعوا الوقود على الجبال ترفّعا ... أن يستدلّ عليهم بنباح وقال ابن ميادة: وناراه نار يجذب الضيف ضوؤها ... وأخرى يصيب المجرمين سعيرها وأما قول الآخر: متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا «3» فلم يتبجح إلا بوجود الحطب والنار في اللفظ، وقد أحسن القائل: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد المتبجّح بأنّ كلابه تسرّ بمجيء الضّيف قال جرير: حبيب إلى كلب الكريم مناخه ... يفيض إلى الكوماء والكلب أبصر «4» وقال آخر: وكلبك أبصر المعتفين ... من الأمّ بابنتها الزاهدة وقال عبد الأعلى العبدي: فللكلب لمّا أن هداه إلى القرى ... نصيب وللنّور الدليل نصيب وقال ابن هرمة: ويدلّ ضيفي في الظلام على القرى ... إشراف ناري أو نباح كلابي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 754 حتّى إذا واجهته وعرفته ... فديته ببصابص الأذناب «1» وقال آخر: يبصبص كلبنا إن جاء ضيف ... ويقتل إن ترمرم بالهرير «2» المتبجّح بأنّ كلابه لا تهرّ على الضّيف قال حسّان بن ثابت: يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السّواد المقبل «3» وقال آخر: وما يك فيّ من عيب فإنّي ... جبان الكلب مهزول الفصيل قال الأصمعي لبعض الأعراب: ما تعرفون من مكارم الأخلاق؟ قال: تضيء نارنا للضيف ولا تنبح كلابنا، ونقريه وجوهنا قبل طعامنا. قال الفرزدق: وإنّي سفيه النّار للمبتغي القرى ... وإنّي حليم الكلب للضيف يطرق فجمع بين سفه النار وهو فرط التهابها وحلم الكلب، وذلك بديع. البارز قدره قال بعض بني غطفان: قد وري بصحراء منصوبة ... ولا تمنع الضيف أسجافيه «4» وقال حاتم: لا تستري قدري إذا ما طبختها ... عليّ إذا ما تطبخين حرام وقال الراعي: إني أقسم قدري وهي بارزة ... إذ كلّ قدر عروس ذات جلباب «5» العظيم قدره قال حسّان: رأيت قدور الصاد حول بيوتنا ... قنابل دهما في المباءة صيما «6» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 755 وقال آخر: نصبنا له جوفاء ذات ضبابة ... من الدهم مبطانا طويلا ركودها «1» ولما قال مضرس: وقدر كحيزوم النّعامة أحمشت ... بأجذال خشم زال عنها هشيمها «2» سمع ذلك زياد الأعجم، فقال: وما حيزوم النعامة لعن الله هذه من قدر، فما أحسبها تشبع آل مضرس، فقيل له: فكيف تقول أنت؟ قال أقول: وقدر كجوف الليل أحمشت غليها ... ترى الفيل فيها طافيا لم يفصل لو أن بني حواء حول رمادها ... لما كان منهم واحد غير مصطل غليان القدر قال الفرزدق: كأن المجال الغرّ في حجراتها ... عذارى بذت لمّا أصيب حميمها «3» وقال دعبل: وباتت قدرنا طربا تغنّي ... علانية بأعضاء الجزور «4» وقال الكميت: كأن هرير الغلي في جنباتها ... تغيّظ غيرن عند بعض الضرائر «5» وقال الشاعر: وقدور على اليفاع ينادي ... الضيف منها تغيّظ الغليان «6» وقد زاد هذا الشاعر حيث زعم أن غليان قدره يدعو أضيافه، وإن كان فيه غلو معن بن زائدة في وصفه: إذا اختلفت أوصالها فكأنّما ... يزعزعها من شدّة القلي أفكل «7» وقال آخر: كأن صياح الغلي في سجراتها ... بغايا عليهنّ الحلي يقعقع «8» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 756 وقال عامر بن الصلتان: كأنّ تتابع الغليان فيها ... فوارس عامر تبغي قراعا العظيم الجفان قال الأعشى: يروح على آل المحلّق جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق «1» وقال السفاح بن بكيرة: الماليء الشّيزى لأضيافه ... كأنّها أعضاد حوض بقاع وقال أبو خراش: نقاتل جوعهم بمكلّلات ... من الفرنيّ يرعبها الجميل «2» المكثر مرقه لمّا قلّ لحمه قال زيد الفوارس: وسّع بمدّك ماء اللحم تقسمه ... وأكثر الشرب إن لم يكثر اللبن وقيل: أكثروا المرق، فإنه أحد اللحمين. المرخص لحمه مطبوخا قال شبيب بن البرصاء: وإنّي لأغلي اللحم نيئا وإنني ... لممّن يهين اللحم وهو نضيج وقال بعض بني ضبة: أرى ذاك في عيني قبيحا وللفتى ... سوى الجار ربح في التجارة واسع (6) وممّا جاء في البخلاء بالقرى بخيل بالطّعام متجوّز قال ابن الحسن العصفوري: لا تكارم تشبّها بالكرام ... ليس تخفى الوجوه عند الطّعام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 757 من لا يحتشد لضيفه إلّا بعد حضوره قال شاعر: خاف الضياع على شيء يعجله ... من المآكل إن أصحابه ثقلوا فما يقلّ على العجلان برمته ... حتّى يرى أنّهم في الدار قد حصلوا «1» وحكى عن بعض البخلاء أنه رؤي في داره جمل قد نبر وجعل سميطا، وهو يجول في داره، قال فسألته عنه، فقال: إنا دعونا قوما فخفنا أن يتأخروا فجعلنا الجمل على هذا لكي إن حضروا سهل إصلاحه وإن تأخروا لم يلحقنا ضرر بذبحه. من قلّ في دعوته الطّعام أكل رجل مع بعض الهاشميين فكان على مائدته أرغفة متبدّدة، فلما فرغ من رغيفه، قال: يا غلام فرسي، فقال الهاشمي: وما تصنع به قال أركبه إلى ذلك الرغيف. وقال وهب بن شاذان: مات في عرس سليما ... ن من الجوع جماعه مات أقوام وقوم ... علموا فيه القناعه لم يكن ذلك عرسا ... إنما كان مجاعه وقال بعضهم: من ضاف فلانا استغنى عن الكنيف وأمن التخمة. قال محمد بن يوسف: أبني سعيد إنكم من معشر ... لا يعرفون كرامة الأضياف قرنوا الغداء إلى العشاء وقرّبوا ... زادا لعمر أبيك ليس بكاف بينا كذلك جاءهم كبراؤهم ... يلحّون في التبذير والإسراف وأضاف رجل أعرابيا فلم يأته بشيء يأكله، حتى غشى عليه من الجوع، فأخذ يقرأ عليه القرآن، فقال: لخبز يا أخي عليه لحم ... أحبّ إليّ من حسن القرآن تظلّ تدهده القرآن حولي ... كأنّي من عفاريت الزّمان «2» من لا تمسّ يد ضيفه طعامه. قال شاعر: أما الرغيف لدى الخوا ... ن فكالحمام لدى الحرم ما أن يحسّ ولا يم ... سّ ولا يذاق ولا يشم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 758 وقال المصيصي: يضع الطعام وليس إلا شمّه ... علقت روائحه بأنف الزائر فعلى جليسك غسل عينيه إذا ... رفع الخوان مع الهجاء السائر وقال جحظة: طوبى لمن يشبع من خبزكم ... فهو على مهجته آمن من شبع وضيفه جائع قال فضالة: وحسب الفتى لؤما إذا بات طاعما ... بطينا وأمسى ضيفه غير طاعم وقال آخر: وشبع الفتى لؤم إذا جاع صاحبه قال الأعشى في علقمة: تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا «1» فقال علقمة: فضحني والله، اللهم أخزه إن لم يكن صادقا. من يؤذي ولا يقري قال بعضهم: إن يوقدوا يوسعونا من دخانهم ... وليس يدركنا ما تنضج النّار وقال آخر: لا يرتجي الجار خيرا في بيوتهم ... ولا محالة من شتم وإلغاب «2» المنفرد عن أصحابه بالأكل قال بعضهم: يروغ ويأكل في جفنة ... وأكباد ضيفانه جائعه «3» وقيل للجماز: من يحضر مائدة الهبيرا، فقال: أكرم خلق الله الكرام الكاتبون. واصطحب رجلان، فقال أحدهما للآخر: تعال حتى نأكل معا، وقال: معي خبز ومعك خبز، فلولا أنك تريد الشر لأكلت وحدك. وقيل لآخر: ألا تأكل معنا؟ فقال: الجماعة مجاعة. قال الشاعر: الآكلون خبيث الزّاد وحدهم ... والسائلون بظهر الغيب ما الخبر «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 759 ومر رجل بآخر يأكل فسلم عليه فقال له: هلمّ. فهمّ الرجل أن يقعد معه، فقال الآكل: رفقا أما عرفت هذا ما هو؟ فقال: ما هو؟ قال: عليّ أن أقول هلمّ، وعليك أن تقول هنيئا، حتى يكون كلاما بكلام. فقام الرجل، فقال: قد أعفيتك من التسليم ومن تكليف الرد، فقال: قد أعفيت نفسي إذا من هلمّ. قال شاعر: وجيرة لا ترى في النّاس مثلهم ... إذا يكون لهم عيد وإفطار أن يوقدوا يوسعونا من دخانهم ... وليس يدركنا ما تنضج النّار المستأثر بسنى الطّعام على الضّيف قيل: كان مالك بن المنذر يقدم إليه ثريدة بلقاء ما يليه منها حواري، وما يلي الناس خشكار، فقال شاعر: أمير يأكل الفالوذ فردا ... ويطعم ضيفه خبز الشّعير وقال أبو بكر بن أبي سعيد لأبي الفضل بن العميد وقد استبد بأكل طعام دون ندمائه: أيها الأستاذ هذا من الصفايا، أراد به قول الشاعر: لك المرباع منها والصّفايا «1» وقال: وقد قدّم طعام فمدّ أبو الفضل سبط العميد يده فتناوله، فقال: أنت كما قال: أبوك لنا غيث نعيش بسيبه ... وأنت جراد لست تبقي ولا تذر «2» من حرد لتناول أكيله ما بين يده أكل أعرابي مع سليمان بن عبد الملك، فتناول الأعرابي من بين يديه شيئا فأكله، ثم مدّ يده فتناول شيئا آخر، فقال سليمان: كل ممّا يليك، فقال: أو ههنا حمى، فقال: خذها لا هنأ لك المرتع. وأكل صعصعة مع معاوية فأخذ شيئا من بين يديه، فقال معاوية: انتجعت، فقال: من أجدب انتجع ومن لم يعد الجواب انقطع. وأكل آخر مع معاوية فجعل يمزق جديا على المائدة ويمعن في أكله، فقال معاوية: إنك تحرد عليه كأن أمه نطحتك، فقال الرجل: وإنك المشفق عليه كأن أمه أرضعتك. ذمّ من لا يظفر بخبزه قيل لرجل: كيف وجدت فلانا؟ قال: كان بي الجوع فانتظرت الطعام فأبطأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 760 حتى درسته بمضغ اللبان مخافة النسيان. قال ابن باذان: قد علمنا أنّ في دا ... رك ما يكفي قبيله ورأينا عرض بستا ... نك والفرش النبيله غير أن الجنّ لا تق ... در في خبزك حيله وقال شاعر: لو دخلت منزله ذرة ... لم تجد الذرة ما تأكل وقال آخر: قد فرّ من منزله فأره ... وعاذ بالجيران مسترزقا «1» هو مأخوذ من قول امرأة لزوجها: والله ما تقيم الفأرة في دارك إلا لحب الوطن. وقال أبو نواس: وما خبزه إلا كعنقاء مغرب ... تصوّر في بسط الملوك وفي المثل «2» وقال آخر: وخبزك غير منقطع التّراب وقال بعضهم: خبزه في الهواء لا يوصل إليه إلا بسلم من زبد في يوم صائف. الصّغير الأواني ذمّ رجل آخر، فقال: غضائره «3» مساق وألوانه أواق. وقال آخر: فلان دعواته ولائم وأقداحه محاجم وكؤوسه محابر ونوادره بوادر. قال أبو نواس: رأيت قدور الناس سودا من الصلى ... وقدر الرقاشيين زهراء كالبدر» يبينها للمعتفي بفنائهم ... ثلاث كحظّ الثاء من نقطة الحبر ولو جئتها ملأى عبيطا مجزلا ... لأخرجت ما فيها على طرف الظّفر «5» وقال معن بن زائدة: وقدر ككف القرد لا مستعيرها ... يعار ولا من ذاقها يتدسّم الصّغير الرغفان قال الخوارزمي: كأنّ رغفانه إذا وضعت ... عشور نقط كتبن في ورق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 761 وقال البسامي: أتانا بخبز له حامض ... شبيه الدراهم في حليته يضرس آكله طعمه ... وينشب في الحلق من خشنته «1» فلمّا تنفّست عند الخوان ... تطاير في الجوّ من خفته من يصعب عليه كسر رغفانه قال اليزيدي: سيان كسر رغيفه أو كسر عظم من عظامه. ونحوه: كأنّما كلّ لقمة أكلت ... منزوعة من يديه مختلسه قال جحظة: ولمّا كسرت له جردقا ... ومن ذا يطيق له كسر جردق «2» تغيّر لي عن جميع الوداد ... فصار جريرا وصرت الفرزدق «3» الصّائن طعامه الباذل عرضه وأهله قال شاعر: وبات رخيصا عنده صون عرضه ... ورغفانه في النّاس جدّ نوال «4» وقال وهب: قد كان يعجبني لو أن غيرته ... على جرادقه كانت على حرمه وقال عبدان: رغيفك في الأمن يا رستمي ... يحلّ محل حمام الحرم فلله درّك يا سيّدي ... حرام الرغيف حلال الحرم وقيل لبخيل: إنك تكرم خبزك وتهين لإكرامه نفسك، فقال: كيف لا أفعل ذلك والخبز هو الذي أخرج حواء وآدم وإبليس والطاوس من الجنة بسببه؟ المعيّر ضيفه بكثرة أكله والمانع قال رجل لبعض الكبار: لم لا تدعوني لدعوتك؟ فقال: لأنك جيد المضغ شديد البلع، إذا أكلت لقمة هيأت أخرى، فقال: أتريدني إذا أكلت لقمة أن أصلّي ركعتين بين كل لقمتين. وصنع أعرابي طعاما ودعا إليه صديقا فلما أراد أن يمدّ يده، قال له: مهلا لا تصفعها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 762 ولا تشرمها ولا تقعرها، أي لا تأكل من أعلاها ولا تخرقها ولا تأكل من أسفلها. وقال بعضهم لآخر: لم لا تدعوني؟ فقال: لأنك تعلق وتشدق وتحدق، أي أن تحمل واحدة في يدك وأخرى في شدقك وتنظر إلى أخرى بعينك. مرق قليل الدّسم واللّحم تغذى الجماز عند هاشمي فمرّ الغلام بصحفة فقطر منها قطرة على ثوب الجماز، فقال الهاشمي: ائته بطست يغسلها، فقال الجماز: دعه فمرقتكم لا تغير الثياب، أي لا دسم لها. قال جحظة: قدّم سكباجة مزوّرة ... أحمض من وجهه إذا أكلت وقال ابن سكرة: أكلت بالأمس جزورية ... تخبر عن خسّة أربابها للحم فيها أثر دارس ... كأنّما مرّ على بابها «1» وكان رجل في دعوة، فأخذ عراقا فلم يجد عليه لحما فوضعه، وأخذ آخر، فقال صاحب الدار: ألعب بعسك. ووجد آخر قدرا كثيرة العظام، فقال: أطبخت الشطرنج أو أسنان الزنج. وقال آخر: أقدر هذه أم قبر؟ من يصعب عليه أكل طعامه وقال عباد: كأنّما الآكل من خبزه ... يقلع منه شحمة العين وقال آخر: يرى أنّه من بعض أعضائه أكلي وقال أحمد بن أبي طاهر: لو لم تكن حركات المضغ تؤلمه ... لكان أكثر خلق الله إخوانا وأكل أشعب عند زياد الحارثي مضيرة فأمعن فيها، فقال: ليس لأهل السجن من يصلّي بهم التراويح في رمضان فليحمل أشعب ليصلّي بهم، فقال أشعب: الطلاق لي لازم لا أذوق المضيرة، فاستحيا زياد وتركه. بعث رجل إلى امرأته بلحم طفيف فطبخته لونا فلما جاء قدمته إليه، فقال: كم طبخت؟ قالت: لونا واحدا، فقال: أنت طالق، قد كانت لي امرأة قبلك إبعث إليها بجرادة فتطبخ منها سبعة ألوان غير القديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 763 ذمّ المتأمّل أكيله أكل أعرابي مع معاوية فرأى معاوية في لقمته شعرة، فقال: خذ الشعرة من لقمتك، فقال: وإنك لتراعيني مراعاة من يبصر معها الشعر، والله لا آكلتك بعدها. وقال بعضهم: فلان عينه دولاب لقمة أكيله. وقال حاتم: وللموت خير من زيارة تاجر ... يلاحظ أطراف الإكيل على عمد الشّاتم غلمانه على الطّعام قال أبو نواس: رأيتك عند حضور الطّعام ... سريعا إلى العبد والعبده وتحشد حتّى يخاف الأكيل ... شراك عليه من الجعده «1» وقال جحظة: إن كنت تهوى أن أزو ... رك أو حننت إلى الزّيارة فدع الشتيمة للغلا ... م إذا دنوت من الغضاره «2» المغلق بابه عند الأكل قال بعض المبخلين لغلامه: هات الطعام وأغلق الباب، فقال يا مولاي: هذا خطأ أغلق الباب أولا ثم أقدم الطعام، فقال: إذهب فأنت حرّ لعلمك بأسباب الحزم. قال بعضهم: قوم إذا أكلوا أخفوا كلامهم ... واستوثقوا من رتاج الباب والدّار «3» وقال جحظة: القاطعين مخافة الإ ... نفاق أسباب الصّديق وقال الرقاشي: تراهم خشية الأضياف خرسا ... يقيمون الصّلاة بلا أذان «4» المعتذر إلى أضيافه لبخله قيل: المعذرة طرف من البخل، وقال زيد الأرانب لما سئل عن خزاعة، قال: جوع وأحاديث. وقال جرير: والتغلبيّ إذا تنحنح للقرى ... حكّ إسته ومثّل الأمثالا وقال: رميت الأخطل ببيت لو نهشته الأفعى في إسته ما حكّه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 764 المانع كلبه والدّافن ناره خشية الطرّاق قال الحطيئة: دفعت إليه وهو يكعم كلبه ... ألا كلّ كلب لا أبا لك نابح وقال زياد الأعجم: وما ترك الكلب النباح مخافة ... على زادهم لكن على النفس يحذر وقال عقبة بن مرداس: نيرانهم محجوبة ونساؤهم ... مبذولة وصحيحهم مكلوم «1» وقال آخر: كأن كلابهم والليل داج ... كهول لا يحبّون السفاها «2» وقال آخر: قوم إذا النيران شبّت للقرى ... بالت بناتهم على النّيران وقال آخر: قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم بولي على النّار الآكل في وقت يأمن فيه الزّوّار قال رجل: إنا لا نأكل إلا نصف الليل، فقيل لمه، قال: يبرد الماء وينقمع الذباب ونأمن فجأة الداخل وصرخة السائل. النّظيف المطبخ والطّبّاخ قال شاعر: مطبخ داود من نظافته ... أشبه شيء بصرح بلقيس «3» ثياب طبّاخه إذا اتسخت ... أنقى بياضا من القراطيس وقال البسامي: مطبخه قفر وطبّاخه ... أفرغ من حجام ساباط «4» البخيل بالماء قال أبو الشيص: شرابك في السّماء إذا عطشنا ... وخبزك عند منقطع التراب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 765 وما روحتنا لتذبّ عنّا ... ولكن خفت مرزية الذباب «1» وقال آخر: الماء في منزله طرفة ... يشربه الضيف بمقدار «2» المقتّر على نفسه بخلا قال بعض البخلاء: ترك الغداء للعشاء ربح العشرة عشرة. قال ابن الرومي: يقتّر عيسى على نفسه ... وليس بباق ولا خالد ولو يستطيع لتقتيره ... تنفّس من منخر واحد وقيل: أهل الكوفة إذا عتق عندهم التنور وتكثّر دققوه وجعلوه في الفتيت لما تشرب من الخبز. وقيل: إن بعض البخلاء حقن فلما حركه الطبع دعا بطست فقعد عليه، وقال للغلام: ضف هذا الدهن للسراج. وقال رجل لغلامه: اشتر من لحم وأطبخه سكباجا لأعتقك، ففعل فأكل المرق وترك اللحم، فلما كان اليوم الثاني، قال: أطبخه مضيرة ففعل، فأكل المرق وترك اللحم، فلما كان اليوم الثالث، قال: أطبخه قلية ففعل، فقال له العبد: يا سيدي أعتق هذا اللحم واتركني رقيقا، فلقد آذيتني من كثرة ما أعذبه بالنار. وكان بعض الكبار توضع على مائدته كل يوم دجاجة فلا تؤكل بل ترفع، ثم تسخن في اليوم الثاني. وتقدم فتترك بحالها، فقال بعض الحاضرين: دجاجتنا هذه من آل فرعون تعرض على النار غدوّا وعشيّا. المتبجّح بجفائه للضّيف قال شاعر: وأجبه ضيفي حين يحتلّ ساحتي ... بسيفي ولا أرضى بما يفعل الكلب وقال آخر: وأنا لنجفو الضيف من غير عشرة ... مخافة أن يضرى بنا فيعودا «3» وقال آخر: أعددت للضّيفان كلبا ضاريا ... عندي وفضل هراوة من أرزن «4» ومعاذرا كذبا ووجها باسرا ... وتشكّيا عضّ الزمان الألزن «5» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 766 الحد الحادي عشر في الشّرب والشّراب (1) فما جاء في الشّرب سبب تحريم الخمر أصل ذلك أن رجلا من جلّة المهاجرين سكر فصلّى بالناس، وغلط في القراءة فأنزل الله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ «1» فشربوها بعد ذلك في غير وقت الصلاة، ثم شرب أنصاري فشجّ رأس صاحب له بلحيي جمل فنزل: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ «2» ، فقالوا انتهينا يا ربنا وتركوا شربها في كل وقت. وقيل: إنما حرمت لأن حمزة رضي الله عنه كان في شرب فسكر فاجتب سنان مشارفين لأمير المؤمنين على أناخمها إلى جانب حجرته، فدخل عليه النبي صلّى الله عليه وسلم فلامه، فقام ثملا محمرّ العينين، وقال: هل أنتم إلا عبيد وأبناء عبيدنا، فعرف النبي صلّى الله عليه وسلم فكرّ على عقبيه. ما يدلّ على تحريم الخمر قال الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ «3» وهذا أول ما نزل في تحريم الخمر، ثم قال: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ «4» ثم قال: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ «5» وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: حرمت الخمرة بعينها والسكر من كل شراب، وقيل للنبي صلّى الله عليه وسلم ألا نبيعها، فقال: ألا إن الله لعن الخمر وغارسها وشاربها وعاصرها ومعتصرها وساقيها وحاملها وبائعها وآكل ثمنها وقد أجمع المسلمون على تحريمها. تحريم النّبيذ قال النبي صلّى الله عليه وسلم: كل مسكر حرام، وقال: كل مسكر خمر، وقال: ما أسكر كثيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 767 فقليله حرام. وروي أن إبليس لما لعن، قال: يا ربّ اجعل لي شرابا، فقال: شرابك كل مسكر. وروي أنه نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة: العنب والتمر والبر والشعير والعسل، ونهى عن الفصيخ «1» . وقال: ما خمّرته فهو خمر. تحليله قال النبي صلّى الله عليه وسلم: حرمت الخمرة بعينها والمسكر من كل شراب. وسمعت بعض العلماء يحتج في ذلك بقوله تعالى: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً «2» فأخبر على سبيل الامتنان علينا باتخاذ السكر منه، وأخبار لا يصح فيها النسخ. ورفع إلى النبي صلّى الله عليه وسلم رجل شرب مسكرا، فأمر به فضرب، فقال: ألا أبلغ رسول الله عنّي ... بأنّي ما سرقت ولا زنيت شربت شريبة لم تبق عرضا ... ولا أنا لذّة منها قضيت فقال صلّى الله عليه وسلم: لو علمت ما ضربته. استحضر عيسى بن موسى ابن عياش وابن إدريس فسألهما عن النبيذ، فقال ابن عياش: حلال، وقال ابن إدريس: حرام، فقال ابن عياش: أدركنا أبناء الصحابة والتابعين بهذه المدة يشربونها في الولائم حلالا كانت أو حراما، وبكاؤنا على أصل الدين أشد من بكائنا على النبيذ. سئل بعض القدماء عن نبيذ العسل، فقال: حرام، فقيل لم؟ قال: لأنكم لا تؤدون شكرها. وقال بعضهم: سقاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه نبيذا شديدا، وقال: إنا نأكل لحوم هذه الإبل فنشرب عليها النبيذ الشديد ليقطعها في بطوننا. وأتي النبي صلّى الله عليه وسلم بنبيذ فشمّه وقطب وجهه ثم ضربه بالماء، وقال: إن هذا الشراب سيغتلم ويشتد فما عليكم فافعلوا به هكذا. وقال حفص بن غياث: كنت عند الأعمش وعنده نبيذ فاستأذن قوم من أصحاب الحديث فسترته بمنديل فكرهت أن أقول لئلا يراه الداخلون، فقلت: لئلا يقع فيه الذباب، فقال: هيهات هو أمنع جانبا من ذلك. قال النخعي: كانت الرواية كل سكر حرام فزادوا فيه الميم، وليس ما قاله بصحيح. نوادر في تحليله قال ابن أبي ليلى لأبي حنيفة: أيحل النبيذ وبيعه وشراؤه؟ قال: نعم، قال: أفيسرك أن أمك نباذة. فقال أبو حنيفة: أيحل الغناء وسماعه؟ قال: نعم، قال: أفيسرك أن أمك مغنية؟ ووضع رجل بالكوفة على باب المسجد نبيذا بين يديه وجعل ينادي: من يشتري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 768 رطلا بدرهم بتحليل أبي حنيفة، فقال له أبو حنيفة: يا رجل إنك فعلت قبيحا، فقال: ألست حللته؟ قال: صدقت ومن الحلال انك تجامع امرأتك ولو استحضرتها الجامع وجامعتها لاستقبح ذلك. ولقي أبو حنيفة سكران، فقال له السكران: يا أبا حنيفة يا ابن الزانية إني شربت النبيذ، فقال: ما أحسنت حيث أحللت النبيذ حتى شربه مثلك. قال شاعر: رأيه في السّماع رأي حجازي ... وفي الشرب رأي أهل العراق وقال بعضهم: أباح أهل الحرمين الغناء وحرموا النبيذ وأباح أهل العراق النبيذ وحرموا الغناء، فأوجدونا السبيل إلى الرخصة فيهما عند اختلافهما إلى أن يقع الاتفاق. قال بعضهم: من ذا يحرم ماء المزن خالطه ... في جوف باطية ماء العناقيد «1» إنّي لأبغض تحريم الرّواة لها ... فيها ويعجبني قول ابن مسعود يعني ما رواه من قول النبي صلّى الله عليه وسلم: تمرة طيبة وماء طهور. وقال إبراهيم بن محمد بن إسماعيل: النبيذ من المستضعفين في الأرض يتركه من يتركه ويأتي ما هو أعظم منه. استباحة الخمر مرّ عمرو بن معدي كرب بعينة بن حصن فأطعمه تمرا، ثم قال: أسقيك لبنا، أو ما كنا نتنادم عليه في الجاهلية، فقال: أليس قد أمرنا بتحريمها، فقال عيينة: كلا إن الله تعالى قال: فهل أنتم منتهون، فقلنا: لا، فسكت وسكتنا، فقال عمرو: هاتها فأنت أفقه منّي. قال بعضهم: الخمر من الجنة، لأن الله تعالى يقول في صفة أهل الجنة إنهم يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، والخمر تذهب الحزن. قيل لأياس بن معاوية ما تقول في الكرم والتمر والماء هي حلال أو حرام؟ فقال: حلال، فقيل لم حرم الخمر وإنما يتخذ من ذلك؟ فقال: أرأيت لو صبّ عليك ماء وتراب وتبن أكان يوجعك؟ قال: لا، قال: فلو جمع ذلك كله وجعل لبنة وضرب به رأسك أليس يوجعك. وقال ابن الرومي: أباح العراقيّ النّبيذ وشربه ... وقال: حرامان المدامة والسّكر وقال الحجازي: الشرابان واحد ... فحلّ لنا من بين قوليهما الخمر سآخذ من قوليهما طرفيهما ... وأشربها لا فارق الوازر الوزر تعظيم السّكر واختلاف الناس فيه قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: ما ذنب أعظم من السكر، وذلك أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 769 العبد يذنب فيتصور له ذنبه، ويعلم أن الله ربه، وإذا سكر نسي ذنبه ولم يعرف ربه، وشرّ الذنوب ما فرق بين العبد وبين معرفة ربه. وروي أن إبليس قال: مهما أعجزني ابن آدم فلن يعجزني إذا سكر أن آخذ بزمامه فأقوده حيث أشاء، وأحمله على ما أريد. قال شاعر: وإن أمرأ يبتاع سكرا بصحّة ... لفي سكرة تغنيه عن ذلك السّكر «1» حدّ السّكر قيل لبعضهم: ما حد السكر ؟ قال هو أن تعزب عنه الهموم ويظهر سرّه المكتوم. وقيل: حده أن يحسن عندك ما كان قبيحا، وأخذ ذلك أبو نواس، فقال: إسقني حتّى تراني ... حسنا عندي القبيح وله: لا تلمني على التي فتنتني ... وأرتني القبيح غير القبيح وصف سكران انتهى المأمون إلى يحيى بن أكثم فرآه ثملا نائما في الرياحين، فقال له: قم، فقال: رجلي لا تطاوعني، فقال: خذ، فقال: كفيّ لا تواتيني، فقال فيه: وصاحب ونديم ذي محافظة ... سبط البنان بشرب الرّاح مفتون «2» ناديته ورواق الليل منسدل ... تحت الظلام دفين في الرّياحين فقلت: قم قال: رجلي لا تطاوعني ... فقلت: خذ، قال كفّي لا تواتيني إنّي غفلت عن السّاقي فصيّرني ... كما تراني سليب العقل والدّين وقال ابن المعتز: مشوا إلى الرّاح مشي الرخّ وانصرفوا ... والرّاح تمشي بهم مشي الفرازين «3» وقال أبو الوفاء: حتى يروح السكر فينا وقد ... قام مقام الشّكل والعقل وقال آخر: مزة تترك عقلي ... ذاهبا في التّرّهات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 770 وقال ابن طباطبا: جعلت أسيرا في يد الراح موثقا ... فأقبلت أمشي مشية المتقاعس «1» تماكس رحلي في خطا استزيدها ... ولم أك في إتراعها بالمماكس» وقيل لسكران: نبعث معك من يحفظك، فقال: لا أريد، فما مضى من عقلي في خفارة ما بقي: لو يرى النّاس في المدامة رأيي ... لم يبيعوا ببدرة عنقودا وقال أبو محجن: إذا متّ فادفنّي إلى جنب كرمة ... تروّي عظامي بعد موتى عروقها ولا تدفننّي بالفلاة فإنّني ... أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها وقال عبد العزيز بن مسلم العقيلي: رأيت قبره بأرمينية تحت شجرات كرم فذكرت قوله، فتعجبت من الاتفاق الواقع له. وقال إسحاق الموصلي: اشرب هديت علانيه ... أمّ المروءة زانيه اشرب فديتك وأسقني ... حتّى أنام مكانيه ودع التستّر والريا ... ءفما هما من شانيه وقال أبو الهندي: يا خليليّ إجعلا لي كفنا ... ورق الكرم وقبري المعصره إنّني أرجو غدا من خالقي ... بعد شرب الراح حسن المغفرة وله: أنا الشيخ الخليع فسيبوني ... لكم إسلامكم وعليّ كفري من شرب مع إقراره بتحريمها قيل لبعضهم: لم لا تترك النبيذ؟ قال: لا أدعه حتى يكون أسوأ عملي. قال أبو العيناء: جمعني ورسول ملك الروم مجلس المتوكل، وقد أحضر الشراب، فقال الرسول: مالكم حرم عليكم الخمر ولحم الخنزير فشربتم الخمر وتركتم لحم الخنزير، فقلت: إن لحم الخنزير لما حرم وجد خير منه الحملان والجدي فاستغني عنه، والخمر لم يوجد خير منها فكان يستغنى به عنها. قال عبيد الله بن عبد الله بن سلام: وقد يشرب الإنسان ما لا يحلّه ... وتحسن أحيانا له الشبهات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 771 وقال أبو نواس: فخذها إن أردت لذيذ عيش ... ولا تعدل خليلي بالمدام فإن قالوا حرام قل حرام ... ولكنّ اللذاذة في الحرام وله: لا تسقني الدّهر ما كنت لي سكنا ... إلا التي نصّ بالتحريم جبريل إن كان حرّمها الفرقان بعد، فقد ... أحلّها قبل توراة إنجيل الحثّ على الكناية عن ذكرها قال ابن باذان: ألا فاسقني صهباء من حلب الكرم ... ولا تسقني خمرا بعلمك أو علمي «1» وقال أبو نواس: أثن على الخمر بآلائها ... وسمّها أحسن أسمائها «2» الإستغناء بها عن مباشرة الأعمال ومصاحبة السّلطان قال عبد الصمد: يبيت ونفسه من كلّ شيء ... سوى تدبير لهو مستريحه وقال يعقوب بن الربيع: إذا كان عندي قوت يوم وليلة ... من الرّاح ينفي الهمّ عنّي إذا اتسع فلست تراني سائلا عن خليفة ... ولا عن وزير للخليفة ما صنع حفظ المدام عن اللّئام قال بعضهم: وددت أن الكأس بألف والحر في وجه الأسد حتى لا يشرب إلا كريم ولا ينكح إلا شجاع. قال أبو نواس: أجلّ عن اللئام الرّاح حتّى ... كأنّ الراح يعصر من عظامي وله: ووقّر الكاس عن سفيه ... فإنّ حقّا له الوقار وكان ابن الرومي في مجلس فيه ثقيل بغيض، فعرض الكاس عليه فامتنع ولام ابن الرومي، فقال له ابن الرومي: يا لائمي في الرّاح غير مقصر ... لا زال رأيك سيّئا في الرّاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 772 فأقلّ ما في ترك مثلك شربها ... توفيرها وطهارة الأقداح وقال ابن باذان: صرف الكاس عن دناة لئام ... همّهم للشّقاء جمع الكنوز الحثّ على مسابقة الزّمان بتناول المدام وتعاطي اللّذّات قال العتابي: بادر إلى اللذات مهما أمكنت ... بورودهنّ بوادر الآفات كم من مؤخّر لذّة قد أمكنت ... لغدوّ ليس غد له بموات حتّى إذا فاتت وفات طلابها ... ذهبت عليها نفسه حسرات تأتي المكاره حين تأتي جملة ... وترى السرور يجيء في الفلتات «1» وقد أحسن المتنبي في هذا المعنى، حيث يقول: ذر النفس تأخذ وسعها قبل بينها ... فمفترق جاران دارهما عمر «2» وقال آخر: بادر فإنّ الزمان غرّ ... من قبل أن يفطن الزّمان وقال آخر: وبادر فإنّا للخطوب فرائس وقال ديك الجن: خذ من زمانك ما صفا ... ودع الذي فيه الكدر فالعمر أقصر مدة ... من أن يمحق بالغير «3» وقال أبو الفرج الدمشقي: وتغنم الغفلات من ... دهر يجود على الكرام وقال الخبزارزي: وذر الهموم نسيئة ... وتعجّل اللذات نقدا وليزيد بن معاوية: ومن عرف الأيام معرفتي بها ... يبادر باللذات قبل العوائق «4» وقال آخر: وخذ من الدّنيا ولذّاتها ... فإنّما نحن بها عارية «5» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 773 وقال الصاحب: حضرت الوزير المهلبي يوما وقد جاءه خادم عمر المطيع، وفي يده رقعة وفيها: غنّي لنا بيتان وهما: عرّج على الخمر وحاناتها ... واسقنا في وسط جنّاتها وعلّل النفس ولو ساعة ... فإنّما الدّنيا بساعاتها فاجعلهما أربع أبيات، فقال لي: تفضل، فقلت: والرّوح في الرّاح إذا اتبعك ... بهاكها يا خشف أو هاتها «1» وقينة تسبي بأصواتها ... نأخذ من أطيب أوقاتها الحثّ على اعتبار الوقت في المسرّات دون ماضيه ومؤتنفه قال أبو العتاهية: ليس فيما مضى ولا في الذي لم ... يأت من لذّة لمستجلبيها إنّما أنت طول عمرك ما عمر ... ت في السّاعة التي أنت فيها وقال يزيد المهلبي: أعجز النّاس مضيع يومه ... وهو لا يعلم ما يأتي غده وقال ابن الحجاج: خذ الوقت أخذ اللص واسرقه واختلس ... فوائده بالطّيب أو بالتّطايب ولا تتعلل بالأماني فإنّها ... مطايا أحاديث النّفوس الكواذب «2» الحثّ على مبادرة الشّيب بتناول المسرّات والخمور قال عبد الله بن السمط: بادر شبابك أن يغتاله الزّمن ... واقض ما أنت قاض والصّبا حسن وقال ابن الجهم: فبادر بأيام الشّباب فإنّها ... تفوت وتقضي والغواية تنجلي وقال أبو علي: أعط الشباب نصيبه ... مادمت تعذر بالشّباب وقال المتنبّي: أنعم ولذّ فللأمور أواخر ... أبدا إذا كانت لهنّ أوائل ما دمت من أرب الحسان فإنّما ... روق الشباب عليك ظلّ زائل للهو آونة تمرّ كأنّها ... قبل يزوّدها حبيب راحل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 774 ولهذا باب في الشيب والشيب من شرب على الكبر كان إسماعيل بن حمدون يصطبح ويغتبق خمسين سنة، ثم ترك النبيذ فعمي فعاود عادته في الشرب، فقيل له، فقال: لا يجتمع عمى وظمأ. وقال أبو نواس: قالوا كبرت فقلت ما قصّرت يدي ... عن أن تخبّ إلى فمي بالكاس «1» وقال اليعقوبي: هل لك في عذل ابن ستين درك ... شيخ إذا ما غمّه العذل فتك فهو خليع في الضّلال منهمك استقباح الشّرب بالمشايخ قال بعضهم: أبعد ستين قد ناهزتها حججا ... أحكّم الراح في عقلي وجثماني يا قبح معتجر بالشيب من كبر ... راحت تميل به أعطاف سكران «2» وقال آخر: أمن بعد ستين ناهزتها ... أعلّل قلبي بإطرابه ترك الشّرب قبل الكبر وقال بعضهم: لا أجمع الحلم والصهباء قد سكنت ... نفسي إلى الماء من ماء العناقيد لم تنهني كبرة عنها ولا فند ... لكن صحوت وغصني غير مخضود «3» مخالفة اللّوّام في تناول المدام قال أحمد بن أبي طاهر: اسقنيها برغم من لام فيها ... من نصيح وعاذل وحسود وقال ابن المعتز: خليليّ طوفا بالمدام وبادرا ... بقيّة عمري والسّلام على مثلي ألا إنّما جسمي لروحي مطيّة ... ولا بدّ يوما أن تعرّى من الرحل «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 775 أيا عاذلي هلا اشتغلت بسامع ... كما أنا مشغول بكاسي عن العذل وقال البسامي: خلّ عنّي لست من أربي ... أربي في الكاس والطّرب «1» دونك العذب الزّلال ولي ... سعة في صفوة العنب وقال آدم بن عبد الله بن مروان: قل لمن يلحاك فيها ... من فقيه أو خليل أنت دعها وارج أخرى ... من شراب سلسبيل الحثّ على مدافعة الهموم بالشّراب والتّبجّح بذلك قال ابن المعتز: خلّ الزمان إذا تقاعس أو جمح ... واشك الهموم إلى المدامة والقدح ودع الزّمان فكم لبيب حاذق ... قد رام إصلاح الزّمان فما صلح وقال ابن الرومي: سأعرض عمّا أعرض الدّهر دونه ... وأشربها صرفا وإن لام لائم «2» نوادر السّكارى سقط سكران، فجاء كلب يلحس فاه، فجعل يقول: أخوكم ومولاكم وصاحب سرّكم ... ومن قد نشا فيكم وعاشركم دهرا وسقط آخر في مستراح مملوء، فجعل يقول: أأصحابنا ما للقعود هنا معنى وقال العتابي: كان في دارنا سكران فقعد على مصلى وسلح فيه، فأخذت بيده إلى المستراح فنام فيه، فقالت جاريتي: يا عجبا، كل شيء منه مقلوب، خرأ حيث ينام الناس ونام حيث يخرأ الناس. الخمّار الخمّار يداوي بالخمرة، ولذلك قال أبو نواس: وداوني بالّتي كانت هي الدّاء وذلك من قول الأعشى: وكاس شربت على لذّة ... وأخرى تداويت منها بها ومات الأعشى في بيت خمارة فارسية، فقيل لها: ما كان سبب موته؟ فقالت: منها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 776 بها يكشتش، أي قتله قوله في هذا البيت. وكان المتنبي ينادم أبا الفوارس بن فهد فانصرف من عنده ليلة، وقد أثخن سكرا، فلما أصبح أتاه الرسول يدعوه، فقال: وقد متّ أمس بها موتة ... ولا يشتهي الموت من ذاقه وقال آخر: كصريع الخمر داوى ما به ... من خمار بعقار فانتشى من ذمّها بأنّها ت زيل العقل حضر نصيب عند عبد الملك بن مروان فدعاه إلى الشراب، فقال: إني لم أصل إليك بنفسي ولا بحسن صورتي، وإنما قربت منك بعقلي، فإن رأى الأمير أن لا يحول بيني وبينه فعل. وقيل لأعرابي: لم لا تشرب؟ فقال: لا أشرب من يشرب عقلي. وروي أن ابن أبي شيبة مر بغلام يلعب بالتراب، فقال: لا تفعل يا أحمق، فقال الغلام: الأحمق من يشتري الحمق بماله فيدخله رأسه ويقيء في جيبه ويسلح في ذيله، ويصبح محمرا ويمسي مصفرا. وقيل للعباس بن مرداس: لو شربت النبيذ لازددت جراءة، فقال: ما كنت لأصبح سيد قومي وأمسى سفيههم، وأدخل جوفي ما يحول بيني وبين عقلي. وقيل لأعرابي لم لا تشرب؟ فقال: لأنه يفني مالي ويغير عقلي. وعلى هذا الحديث وإن لم يكن من صريح المعنى، قال بشر المريسي: دخلت على بعض أصدقائي، فقلت: مر جاريتك تسقني نبيذا، فقال: أخاف أن تأتمر، ثم قال: إسقيه، فلما شربت، قال: تفكرت في أمرك فرأيت النبيذ يزيل العقل ولم أجد لك عقلا أخاف أن يزيله، قال شاعر: سآلة للفتى ما ليس في يده ... ذهّابة بعقول القوم والمال وقال المحكم بن هشام لابنه، وكان مولعا بالشراب: يا بني، دع الشراب فإنما هو قيء في شدقك وسلح على عقبك أو حدّ في ظهرك. من تركها تفاديا من ذمّ الناس قال بعضهم: تركت كثيره لله تعالى إجلالا وقليله للناس جمالا. وعوتب بعضهم على تركه، فقال: لو علمت أن الماء ينقص من مروءتي ما ذقته. قال الوليد للحجاج: هل لك في الشراب؟ فقال: لا يا أمير المؤمنين وليس بحرام ما أحللته، ولكني أمنع أهل عملي منه وأخاف أن أخالف قول العبد الصالح، وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، فأعفاه. وسأل المنصور أبا بكر الهذلي عن النبيذ، فقال: تمادت فيه السفهاء حتى كرهته العلماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 777 ذمّها بأنها تدعو إلى الفسق قال الله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ «1» مرت أعرابية بقوم يشربون نبيذا فسقوها فلما شربت أقداحا اعترتها أريحية، فقالت: أيشرب هذا نساؤكم، قالوا: نعم، قالت: إذا زنين ورب الكعبة، فما يدري أحدكم من أبوه. قال جحظة: لم يبلغ الشيخ إبليس إرادته ... حتى تكاثف في عنقوده العنب سئل عبد الله بن إدريس عن الشرب، فقال: إشرب ما لا يشربك. قدر الشّرب وزمنه قال المأمون: إشرب النبيذ ما استبشعته، فإذا استطبته فدعه. سئل أبو محمد بن عبد الله عن شرب الربيع، فقال: ربيع أهل المروآت وميدان اللذات، وفي إدمانه ذهاب الفطنة وفي تركه فقد السرور. قيل: فما تقول في محادثة الرجال؟ قال: روضة لا يجف نورها وغدير لا ينضب ماؤه وجوهر لا يصلح إلا للملوك، قال شاعر: شرب النبيذ على الطّعام ثلاثة ... فيها الشّفاء وصحّة الأبدان وقيل: القدح الأول يكسر العطش والثاني يمرىء الطعام والثالث يفرح النفس، وما زاد على ذلك فضل. وقال قتيبة لقاضي مرو: بلغني أنك تشرب، قال: أجل، قال: فكم تشرب قال: ما بل الثفل «2» وطيب النفس وأغنى عن الماء. قال فما أبقيت منه؟ قال: أكثره وأخبثه التكاءة على الشمال ومنادمة الرجال والاختلاف إلى المبال «3» وقال بعض الظرفاء: للنبيذ حدّان، حدّ لا هم فيه وحدّ لا عقل فيه، فعليك بالأول واتق الثاني، وقال ابن المقفع: سأشرب ما شربت على طعامي ... ثلاثا ثم أتركه صحيحا فلست بقارف منه أثاما ... ولست براكب منه قبيحا ذمّ إدمانها قال بعض الطرفاء: أربعة أشياء إن أفرط فيها الرجل أهلكته واستهوته، إدمان الخمر وحب النساء وشهوة الصيد والمماراة. وفي الخبر: لا يدخل الجنة مدمن خمر. الحثّ على استيفاء شربها أو تركها قال ابن شبرمة لكاتبه: أتشرب؟ النبيذ؟ قال: القدحين والثلاثة، فقال: والله ما شربته شرب من يلتذ به ولا تركته ترك من يتحرج منه. وقيل في جواب هذا: المثل: إشرب شرب فتوة أو أترك ترك مروءة. وقيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 778 لبعضهم: كم تشرب، قال: مقدار ما أفسد به ديني، وقيل ذلك لآخر، فقال: مقدار ما أقوى به على ترك الصلاة. من أظهر رغبته فيها وقلّة صبره عنها روي أن الحسن بن زيد رضي الله عنه لما ولي المدينة، قال لابن هرمة: لست كمن باع دينه رجاء مدحك أو خوف ذمك، فقد رزقني الله بولادة نبيه صلّى الله عليه وسلم الممادح وجنّبني المقابح، وإن من حقّه عليّ أن لا أغضي على تقصير في حق ربه، وأنا أقسم لئن أتيت بك سكران لأضربنك حدا للخمرة وحدا للسكر، ولأزيدن لموضع حرمتك بي، فليكن تركك ذلك لله، تعن عليها ولا تدعها للناس فتوكل إليهم، فقال ابن هرمة: نهاني ابن الرسول عن المدام ... وأدّبني بآداب الكرام وقال لي إصطبر عنها ودعها ... لخوف الله لا خوف الأنام وكيف تصبّري عنها وحبّي ... لها حبّ تمكّن في عظامي أرى طيب الحلال عليّ خبثا ... وطيب النفس في خبث الحرام كان أبو الهندي مولعا بالخمر، فقال له أبوه: إنها تورث السقم وتقل الطعم وتنحف الجسم، فقال: كلا إنها جوهرة قد امتزج فيها عرضان حمرة البهرمان وصفرة العقيان قد وصفها الله تعالى باللذة لشاربيها في القرآن، فرسّخ بذلك محبتها في الأبدان تجمع ما شت من شمل الإخوان. وكان حارثة بن بدر مشتهرا بالشراب. وكان غلب على زياد فقيل لزياد: إنك تتهم لمصاحبته، فقال: كيف لي بأطراح من يسايرني مذ دخلت العراق، يصطك ركابه في ركابي ولا تقدمني فنظرت إلى قفاه، ولا تأخر عني فلويت عنقي له، ولا أخذ الشمس عليّ في الشتاء، ولا الظل في الصيف؛ ولا سألته عن علم إلا ظننت أنه لا يحسن غيره، فلما مات زياد جفاه إبنه عبيد الله، فقال له: أيها الأمير ما هذا الجفاء وقد عرفت مكاني من أبي المغيرة؟ فقال: إن أبا المغيرة لم يكن ليلحقه عيب وأنا حدث، ولا آمن أن تشم منك رائحة الخمرة إن جالستني، فأتهم فأتركها، وكن أول داخل وآخر خارج، فقال: أنا لا أتركها لمن يملك ضرّي ونفعي، أفأتركها لك. قال: فاختر إذا ما شئت من عملي فاختار رامهرمز، وقال: إن شرابها موصوف فلما توجه إليها استقبله جماعة، فيهم إياس بن إياس فأنشده: أحار بن بدر قد وليت ولاية الأبيات وتقدمت. من رغب فيها غير مفكّر في دين ولا مروءة قيل للفرزدق: أي الأشربة أحب إليك؟ قال: أقربها من الثمانين يعني الخمر. وقال عبيد الله بن زياد للأحنف: أي الأشربة أطيب؟ فقال الخمر، قال: وما يدريك ولست من أصحابها؟ قال: رأيت من أحلت له لا يتعداها ومن حرمت عليه يتناولها، فلذلك عرفت طيبها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 779 دخل أبو العيناء على المتوكل فقال: هل لك في الشراب؟ فقال: ومن يرغب عن ملّة إبراهيم إلا من سفه نفسه. وكان أبو نواس يقول: خمر الدنيا أجود من خمر الآخرة، والله قد وصفها بأنها لذة للشاربين، فقيل: كيف هي أجود، قال: لأن الله تعالى جعلها نموذجا، والنموذج أبدا أجود. وقيل له: أتشرب الخمر؟ قال: نعم إذا اشترى بثمن خنزير قد سرق حتى يحرم ثلاث مرات. قيل لثمامة: لا تشرب الخمر فإنه يزيل العقل، فقال: إنه إن زال اليوم لا يزول غدا. باع بعض الاشراف ضيعة، فقيل له: إحضر العشية للإشهاد، فقال لو كنت ممّن يصان بالعشيات لما بعت الضيعة. وقال رجل لآخر: وجهت إليك رسولا عشية أمس فلم يجدك، فقال: هذا وقت لا أكاد أجد فيه نفسي. سئل بعضهم عن استطابة الشراب، فقال: وددت أني كنت بعوضة فأموت تحت قربة نبيذ، حتى يكون موتى في خلال نعيم. قال شاعر: ورفض امرىء لهوا يواتيه طائعا ... لآخر إن عاصاه رأي موهم ومن صارم اللذّات أو خان بعضها ... ليرغم دهرا ساءه فهو أرغم وقد وصف ذلك في وصف المدام بإزالته الغموم. الشّارب بعد توبته والممتنع من التّوبة عنه كتب بعضهم إلى صديق، قد تاب من شرب النبيذ: إن كنت تبت من الصهباء تتركها ... نسكا فما تبت من بر وإحسان تب راشدا واسقنا منها وإن عذلوا ... فيما فعلت فقل ما تاب إخواني وقال كشاجم: يقولون تب والكاس في كفّ أغيد ... وصوت المثاني والمثالث عالي «1» فقلت لهم لو كنت أضمرت توبة ... وعاينت هذا في المنام بدا لي وحكى بعضهم، قال: كان لنا صديق يكثر التوبة من الشرب والعود إليه، ففارقنا يوما على أنه قد تاب فجاءنا صبيحة غداة وقد انمحت من أحد عارضيه لحيته، فقال: رأيت إبليس في منامي وهو يستعرض أصحابه فأتى به إليه بعض أعوانه، وقال قد آذاني هذا المتخلف من كثرة ما يتوب، ثم يرجع. حلّفوه على أن لا يتوب فحلفت، ثم قال: ألحسوا لحيته من جانب يكون ذلك تذكرة معه، فأصبحت على تلك الحالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 780 الشّرب سرّ مرّ الفرزدق على الحكم بن المنذر بن الجارود فاستسقى لبنا، فأمر غلامه أن يجعل في العقب خمرا ويحلب عليها لبنا ويسقيه، فلما كرع فيه جعل الخمر ينبع من تحت اللبن، فشرب، فقال له: بأبي أنت ممن يخفي الصدقات. ودخل الغضبان الأسدي على قوم يشربون فاحتشموه ورفعوا نبيذهم فجعلوه تحت السرير، ورمقت السنور فأرة فطفرت فكسرت الآنية وفاح ريح الشراب، فقال الغضبان: إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون، فقالوا له: تالله إنك لفي ضلالك القديم ثم أخرجوا النبيذ فساعدهم عليه. الشّرب جهرا لما وقع الخلاف بين الأمين والمأمون، كان المأمون يخطب بخراسان بمساوي الأمين، ويقول في جملة مساويه: وما ظنكم بخليفة يقتني شاعرا ينشد بحضرته جهارا نهارا في مجلسه هذا القول: ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سرّا إذا أمكن الجهر فما الغبن إلا أن تراني صاحيا ... وما الغنم إلا أن يتعتعني السّكر وقال المكتفي للصولي: أتعرف أهتك بيت قالته العرب، قال قول أبي نواس: ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر فقال: بل قول الحسين بن الضحاك: أتبعت سكرا بسكر ... فأتبعت خمرا بعمر الضّعيف الشّرب قيل لبعضهم: كيف شربك؟ قال: لو وطئت زبيبا لسكرت شهرا. قال الخبزارزي: اصرف سفاتج هذا الشرب عن رجل ... له بضيعة في الشرب مزجاة «1» وقال آخر: ولو علم الأكارم ضعف شربي ... لأعفوني عن النّجب العظام وقال خالد الكاتب: لا أسقين ما ليس لي طاقة ... به فإنّي ضيّق الحوصلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 781 وقال الخباز البلدي يعاتب من كثر سقيه: يسارقني في كل دورين حبّة ... ألا إن قيراط النبيذ كثير من ترك الشّرب بخلا ورياء قال شاعر: ما حرم الخمر ولكنّه ... يتركها بقيا على حاله يشربها في بيت إخوانه ... ويظهر التوبة من ماله وقال آخر: وما أن حرموا المطبوخ نسكا ... ولكن دققوا فيه المعيشه «1» وفاحت رائحة الشراب عند وال فأمسك قوم بأنوفهم، فقال الوالي: ما أطيب ريحها وإني لأشتهيها لولا تحريمها، فنظر فإذا الذي أمسك على أنفه كل متهم. وحدثني أبو بكر الكرجي، قال: كان بالكرج قاض ظريف فدخل عليه نصراني يوما يعبق منه طيب ورائحة خمر، وكان عنده جماعة من العدول فضم أحدهم على أنفه، وكان متهما بالشراب، فلما خرج النصراني، قال: أخزى الله هذا الخبيث دخل وكأنه جيفة، فقال القاضي: ردوه فردوه، فقال لعدلين عنده تشمما هل تجدان رائحة كريهة، فقالا: لا، إنا لنجد منه رائحة كرائحة الجنة طيبا، فقال: اشهد أني قد جرحت هذا البارد فما يعدو حاله كذبا أو حمقا وجهلا، وكلتا الحالتين تنافيان العدالة. وما أصدق القائل: قد يشتم الخمر قوم يكلفون بها ... وقد يسبّ بنيه الوالد الحدب «2» وقال بعضهم: تركوا النّبيذ وشمّروا أثوابهم ... ومشوا رويدا لاختلاس الدّرهم من ترك الشّرب خوفا من السّلطان قال أبو نواس لمّا نهاه الأمين عن الشرب: أعاذل بعت الجهل حيث يباع ... وأبرزت رأسا ما عليه قناع نهاني أمير المؤمنين عن الصّبا ... وأمر أمير المؤمنين مطاع ولهو لتأنيب الأمين تركته ... وفيه للاهي منظر وسماع من حدّ في شربها سمع أبو خرابة رجلا يقول وهو مجلود: من رآني فلا يشرب النبيذ، فقال: في إستك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 782 وإست من حملك على هذه المشورة وإست من قبلها منك، ثم قال: ستعصى وتقصى ثم تمنّى بشربها ... وإدمانها إن كنت حرا مهذّبا ومرّ النخاسي بأبي السماك في شهر رمضان، فقال: هل لك في رؤس وشراب كالورس يطيب النفس ويهضم الطعام ويسهل للفدم الكلام؟ فنزل وتغدّيا فأخبر أمير المؤمنين بذلك، فأفلت أبو السماك، وأخذ النخاسي فأتي به فضربه ثمانين وزاده عشرين، فقال: يا أمير المؤمنين وما هذه العلاوة؟ فقال: لجراءتك على ربّك في شهر رمضان. من تخلّص من الحدّ في شرب الخمر دخل عمر رضي الله عنه على قوم يشربون، فقال: ألم أنهكم عن الشرب فشربتم، فقال أحدهم: ألم ينهك الله عن التجسس فلم تجسست؟ فقال: صدقت، فتجافى عنهم. وقال العبدلي للواثق: ما قمرتني «1» إلا لكوني سكران، فقال: قد وجب عليك الحد لأنك أقررت، فقال: هذا افتخار لا إقرار اعتراف. التّعريض بمن تفرّس به بأنّه شارب دخل أمية بن عبد الله على عبد الملك وبوجهه أثر، فقال: ما هذا؟ قال: قمت في بعض الليل فأصابني الحائط. فتمثل عبد الملك بقول الشاعر: رأتني صريع الخمر يوما فرعتها ... وللشاربيها المدمنيها مصارع «2» فقال أمية: لا آخذك الله يا أمير المؤمنين بسوء ظنك ولا يؤاخذك بسوء مصرعك. وكان البراء بن قبيصة صاحب شراب، فدخل على الوليد بن عبد الملك وبوجهه أثر، فقال: ما هذا؟ قال: ركبت فرسا أشقر فكبابي، فقال: لو ركبت الأشهب لم يعثر بك، فعرّض بأنه شرب الخمر ولو شرب اللبن لما سقط. وأنشد ابن الرقاع عبد الملك قصيدة، وذكر فيها الخمر فأجاد وصفها، فقال عبد الملك: لقد ارتبت بك في إجادة وصفك الشراب، فقال: وأنا ارتبت بك يا أمير المؤمنين لمعرفتك بجودته. وصف خصائص جميع الأشربة قيل لبعض الحكماء صف لنا خصائص الأشربة، فقال: أما الماء فيعظم خطره عند الحاجة إليه بحسب تعذّره عند العدم، وأما اللبن فشبع الغرثان وريّ الظمآن وزاد العجلان، وأما الماذي فكالمروزي «3» في الدثار والنرسي «4» في الشعار، وأما الزبيبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 783 فنبيل المنظر سخيف المخبر، وأما الخمر فمزاج الروح وصفية النفس. وقيل لآخر: ما تقول في الماء؟ فقال: هو الحياة ويشركني فيه الحمار، فقيل فاللبن؟ قال: ما رأيته إلا ذكرت أمي واستحييت، قيل فالخمر؟ قال: تلك السارة البارة شراب أهل الجنة. ودعا الوليد بن يزيد شراعة من الكوفة وهو من فتيانها، فلما قدم عليها، قال: إني والله لم أدعك لأسألك عن قرآن ولا أستفتيك في سنة، فقال: لو سألتني عنهما لأصبتني فيهما ثورا، فلم دعوتني؟ قال: لأسألك عن الفتوة، فقال: أنا دهقانها الخبير وعالمها الطبيب فسل، فقال: ما تقول في نبيذ التمر قال: أشربه حتى تحر. قال فنبيذ الدن. قال: أشربه حتى تجن، قال فالدادي، قال: أحلى من الماذي، قال فنبيذ الزبيب، فستر وجهه وقال: العظمة لله، قال فالخمر، قال: لا أرى شربها، قال ولم، قال: لأني لا أؤدي شكرها. قال أبو العيناء: النبيذ «1» - الخمر. قال أبو نواس: ولا تأخذ عن الإخوان لهوا ... ولا عيشا فعيشهم جديب دع الألبان يشربها رجال ... رقيق العيش بينهم غريب بأرض نبتها عشب وطلح ... وأكثر صيدها ضبع وذيب إذا راب الحليب فبل عليه ... ولا تحرج فما في ذاك حوب «2» فأطيب منه صافية شمول ... يطوف بكاسها ساق أديب يمدّ لك القنان إذا حساها ... ويفسخ عقد تكته الدبيب «3» فذاك العيش لا خيم البوادي ... وذاك العيش لا اللبن الحليب وقال آخر: الأشربات سوى ما كان من عنب ... داء وأي لبيب يشرب الداء وصف الشّراب بإزالة الغّمّ قيل لأعرابي أتحب الخمر؟ فقال: أي والله، فإنها تسرح في بدني بنورها وفي قلبي بسرورها. وقيل: لذة الدنيا في الغناء والطلاء والنساء والبناء، وجماع ذلك العافية والشباب والبقاء، ونحوه لأبي نواس: إنّما العيش سماع ... ومدام وغلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 784 فإذا فاتك هذا ... فعلى العيش السّلام سأل معاوية الأحنف عن أطيب الأشربة، فقال: الخمر، قال: وما يدريك ولست من أصحابها، قال: رأيت من أحلت له لا يبتغي غيرها ومن حرمت عليه يتناولها، فعرفت طيبها وفضيلتها. وقيل: النبيذ صابون الغمّ. وقيل لبعضهم: فلان ترك النبيذ، فقال: طلق الدنيا. وقيل لدهقان ما أصباك بالخمر؟ فقال: لأني رأيت لها أفعالا لم أرها لغيرها، إذا رأيت الهم تمكن في قلبي فقرب الكاس من الباب خرج الهم. وأخذ ذلك أبو نواس فقال: إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى ... دعا همّه من صدره برحيل وقيل لشيخ: لم تشرب النبيذ؟ فقال: لأن فيه شيئا يحمده أهل الجنة، قيل وما هو، قال: ما تقول أهل الجنة الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، والنبيذ هو ذاهب بالحزن. وقال أبو نواس فيها: الراح صديقة الروح قيد اللذات ومفتاح المسرات، وقال: وما استقرت في فؤاد فتى ... فدرى ما لوعة الحزن وله: كأس إذا ما الشيخ والى بها ... خمسا تردّى برداء الغلام وذمّ بعضهم الخمر، فقال: أولها دوار وآخرها خمار، فردّ عليه آخر فقال: إن يكن أول المدام دوارا ... أو يكن آخر المدام صداعا فلها بين ذا وذاك هنات ... وصفها بالسرور لن يستطاعا وقال ابن المعتز: يبول همّا ويحسو اللهو والطّربا وله في وصفه: وأصلح بيني وبين الزمان ... وأبدلني بالهموم الطرب وصفها بأنّها تدرع الكبر وتورث اليسر. قال لقيط بن زرارة: شربت الخمر حتى خلت أني ... أبو قابوس أو عبد المدان أمشي في بني عدس بن زيد ... رخيّ البال منطلق اللسان وقال المنخل: وإذا سكرت فإنّني ... ربّ الخورنق والسّدير وإذا صحوت فإنّني ... ربّ الشويهة والبعير وصفها بالصّفاء والرقّة قال الحسن بن الضحاك: كنت مع أبي نواس بمكة فسمع صبيا يقرأ: يكاد البرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 785 يخطف أبصارهم فلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا، فقال: هذا يجب أن يكون صفة الخمر، ثم أنشدني: وسيّارة ضلّت عن القصد بعد ما ... بدا دونهم أفق من الليل مظلم فلاحت منّا على النّار قهوة ... كأنّ سناها ضوء نار تضرم «1» إذا ما حسوناها أقاموا مكانهم ... وإن أظهرت حثّوا الركاب ويمّموا «2» قال ابن الأعرابي: جميع ما قاله أبو نواس حسن، وأحسنه قوله: لا يسكن الليل حيث حلّت ... فليل شرّابها نهار وقال آخر: واهتدى سار الظّلام به ... كاهتداء السفر بالعلم قيل: رق وصفا حتى كاد يخفى. وقيل: أصفى من الشراب وأخفى من السراب. كمعنى دقّ في لفظ بديع وقال ابن المعتز: كأن بكاسها نارا تلظّى ... فلولا الماء كان لها حريق وصف رقّة الإناء والخمر معا قال البحتري: يخفي الزجاجة لونها فكأنّها ... في الكفّ قائمة بغير إناء وقال الصاحب، وقيل هما لأبي نواس: رقّ الزّجاج وراقت الخمر ... وتقاربا فتشابه الأمر فكأنّما خمر ولا قدح ... وكأنّما قدح ولا خمر وصفها بأنها تخضّب الكفّ قال شاعر: تحسب الظبي إذا طاف بها ... قبل أن يسقيكها مختضبا «3» وقال الخباز البلدي: وهي تكسو كفّ شاربها ... دستبانات من الذّهب وقال ابن المعتز: كأنّهم الهبوا بينهم ... حريقا وأيديهم تستعر «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 786 وصف حمرتها قال أبو نواس: أقول لما تحاكيا شبها ... أيّهما للتشابه الذّهب هما سواء وفرّق بينهما ... أنّهما جامد ومنسكب وأخذه ابن المعتز، فقال: وخمارة من بنات المجوس ... ترى الزقّ في بيتها شائلا «1» وزنّا لها ذهبا جامدا ... فكالت لنا ذهبا سائلا وصف الخمر وشاربها قال الحسين بن الضحّاك، أنشدت أبا نواس: كأنّما نصب كاسه قمر ... يكرع في بعض أنجم الفلك فأنشدني: إذا عبّ فيها شارب القوم خلته ... يقبّل في داج من الليل كوكبا فقلت: يا أبا علي، هذه مثل ما أنشدتكه، فقال: أتظن أن يروى لك بيت حسن، وقد أحسن القائل: وكأنّه والكاس في يده ... قمر يقبّل عارض الشّمس وصفها بالصّلابة قال أبو تمّام: إذا اليد نالتها بوتر توقّرت ... على ضغنها ثم استقادت من الرجل «2» وأخذه من عطاء: أسروها وجه النهار من ال ... دنّ فأمسوا وهم لها أسراء ونحوه لديك الجن: فظلنا بأيدينا نتعتع روحها ... ونأخذ من أقدامنا الرّاح ثارها وقال آخر: قهوة تترك الحليم سفيها وقال أحمد بن طاهر: ما تمّ منها ثلاثا قطّ شاربها ... إلا رأى عقله منه على سفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 787 وصف لذاذتها وصف الله تعالى خمر الجنة، فقال: لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ «1» فنفى عنها جميع عيوبها بالكلمتين، كما وصف فاكهتها، فقال: لا مقطوعة ولا ممنوعة. قال ابن أبي فنن: أطيب في الكاس إذا ... جاءتك من ريح الولد وله: أطيب من قبلة الحبيب وقد ... جاد بها مسرعا على حذر وقال أبو نواس كنت يوما في الحمام، فقلت قصيدة وفيها: فتمشّت في مفاصلهم ... كتمشّي النّار في الفحم ولم يك معي أحد فتراءى لي شيخ، فقال: قطع الله لسانك، فإنك لا تفلح، أتقول مثل ما يقول العوام، ألا قلت: فتمشّت في مفاصلهم ... كتمشّي البرء في السّقم فقلت هكذا قلت، فقال أتكابر إبليس: ألذ من غفلة الرقيب ... شكوى محبّ إلى حبيب وقال الحسين بن السرى: وإذا احتساها شارب فكأنما ... ماء المنى في فيه يحلب قاطره وقال ابن الرومي: والله ما أدري بأية علّة ... يدعونها في الرّاح باسم الرّاح «2» ألريحها ولروحها تحت الحشا ... أم لارتياح نديمها المرتاح إن حرمت فبحقّها من حرّة ... ما كان مثل حريمها بمباح أو حلّلت فبحقّها من نشوة ... تنفي سقام قلوبنا بصحاح «3» وصفها بالعتق قال أبو نواس: اسقنيها سلافة ... سبقت خلق آدما وقال آخر: عاصرها آدم أبو البشر وقال شاعر: عتّقت حتّى لو اتصلت ... بلسان ناطق وفم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 788 لاحتبت في البيت ماثلة ... ثمّ قصّت قصّة الأمم وقال آخر: قهوة تذكر نوحا ... حين شاد الفلك نوح وقال آخر: قهوة أبرزت بخاتم كسرى وقال ابن حجاج: قوما إسقياني قهوة روميّة ... من عهد كسرى دنّها لم يمسس وصفها بأنّها تورث السّخاء والشّجاعة قال أبو نواس: وخذها من مشعشعة كميت ... تنزل درّة الرّجل الشّحيح «1» وأخذه من عمرو بن كلثوم: ترى اللخن الشحيح إذا أمرّت ... عليه لماله فيها مهينا «2» وقال آخر: إذا سقي الفتى منها ثلاثا ... تسربل ثوب مكرمة وجود «3» وقال آخر: نشربها فتتركنا ملوكا ... أسودا ما ينهنهنا اللقاء «4» وصف النيء والمطبوخ سئل أبو نواس عن نبيذ طبخ، فقال: وما طبخوها غير أن غلامهم ... سعى في نواحي كرمها بشهاب فقال بعضهم إحرقوه فأحرقهم الله. قال الأقيشر: صفراء صافية الأقذاء حلّلها ... طبخ السراج ولم يجمع لها حطب «5» وقال أبو نواس: طبخته الشّمس لمّا ... بخل العلج بناره «6» قال المطوق: قال لنا جحظة يوما قد عملت بيتا زدت فيه على أبي نواس في وصفه، وأنشد: فظلّ يسقينا جنانيّة ... ضنّت بها الشّمس عن النّار «7» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 789 وقد أحسن، فإن الخمر التي في الجنة لم تطبخ بنار، ثم قوله ضنّت بها الشمس عن النار مع صحة معناه ظريف اللفظ. قال عمرو بن الأهتم: من كميت أجادها طابخاها ... لم تمت كلّ موتها في القدور وصفها بأنّها تحمّر الوجنة قال الأعشى: وسبية ممّا تعتّق بابل ... كدم الذبيح سلبتها جريالها «1» يروى أن الأعشى سئل عن معناه، فقال: شربتها حمراء وبلتها بيضاء. روي أن أبا نواس قال: إنما عنى به ما قلت: كاس إذا انحدرت عن حلق شاربها ... رأيت حمرتها في العين والخدّ وقال الناجم: تنازعنا الخد جريالها ... وتهديه للعين يوم الخمار وقال الناشىء: نفضت على الأجسام ناصع لونها ... وسرت بلذّتها إلى الأرواح وصفها عند المزاج قال أبو نواس: من قهوة جاءتك قبل مزاجها ... عطلا فألبسها المزاج وشاحا «2» وقال الزاهي: كأنما الماء حين خالطها ... أهدى إليها غلائل الشّفق «3» وقال أبو نواس: كأن صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء درّ على أرض من الذّهب وقال ابن المعتز: راح كأن حبابها ... درّ يجول مجوّفا وقال آخر: تنزو إذا مسّها قرع المزاج كما ... تنزو الجنادب أوقات الظهيرات «4» وقال ابن طباطبا: إذا ما الماء مازجها تراءت ... كما زوّجت بالتّبر اللجينا «5» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 790 هما ذوبان لو جمدا جميعا ... إذا صارا معا ورقا وعينا «1» وقال الصنوبري: ناهيك من فضّة تجري على ذهب ... ماء من النّور في ماء من اللهب طيب رائحتها قال الأخطل: وإذا تعاورت الأكفّ زجاجها ... نفحت ونال رياحها المزكوم «2» وقال الرفاء: فضّ النديم ختامها فكأنّما ... فضّ الختام عن العبير ففاحا نبيذ ردي ءق أو أسود قال الصوفي، وفي يده قدح: وشاب هذا الليل إذا عسعس، وأومأ إلى قدح صاف وقال: وذاك الصبح إذا تنفس. قال أبو تمّام: وكأن الأنامل اعتصرتها ... بعد كد من ماء وجه البخيل «3» وقال البحتري: فجاء نبيذ له حامض ... يشقّ على الكبد المقفرة إذا صبّ مسودّه في الزّجا ... ج كان النديم به محبره «4» وقال ابن المعتز: كأن بأيدي شاربيها إذا اتّكوا ... محابر ورّاقين قد ملئت حبرا ودفع إلى رجل شراب غليظ، وقيل له: كيف تراه؟ فأنشد: هو في الجوع طعام ... وهو في الظمء شراب سقى بعضهم ضيفا له نبيذا رديئا، وقال: هذا نبيذ من عانة، فقال الضيف: بل من العانة على أربع أصابع استيهاب الشراب للأضياف كتب أبو تمّام إلى صديق له يستوهب منه مشروبا لصديق. يزعم أنه نزل به: جعلت فداك عبد الله عندي ... بعقب الصدّ منه والبعاد فأحسن يومنا إن لم تجدنا ... مصادف دعوة منا جماد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 791 فكم نوء من الصّهباء سار ... وآخر منك بالمعروف غاد «1» فهذا يستهلّ على غليلي ... وهذا يستهل على بلادي وكتب ابن الحجاج إلى صديق له: يا سيّدي قد جاء زوّاري ... فظلت في نار وفي عار فامنن بخمر أو فوجّه بمن ... يخرجهم بالصّفع من داري قال السري الرفاء مستدعيا شرابا: الراح قد أعوزتنا في صبيحتنا ... بيعا ولو وزن دينار بدينار «2» فامنن بما شئت من راح يكون لنا ... نارا فإنا بلا راح ولا نار من استوهبه ورام إكبار الظّرف أو ترك المزاج قال الرفاء: عندي ضيف لم يزل مضيفا ... فأهد لي خلوقك المذوفا «3» تحوي له الشّكر له صنوفا ... وكبر الظرف تكن ظريفا وقال آخر: واعلم بأن ظروف الرّاح إن كبرت ... عند الهدية أبدت ظرف مهديها وقال جحظة: ومرّ الغلام بتركه من مزجه ... إن النوال يطيب غير مكدرّ وقال الزاهي: أرى المشروب عزّ وذاك شيء ... إذا حصّلته حصلت حمدي فمرهم يبعثوه بغير مزج ... فإنّ الماء ليس يضيق عندي معاتبة من بخل بالنّبيذ كتب الكتنجي إلى بعض إخوانه يستهديه نبيذا، فتباطأ عليه، ثم عاد الرسول، فقال هو يستدعي ظرفا يجعله فيه، فكتب إليه: مطلتنا بالنّبيذ دهرا ... ما بين مطل وبين خلف وبعد دهر طلبت ظرفا ... كأن قارورة بألف فمن يرجيك بعد هذا ... ولست ممّن يفي بظرف فدعا الرجل سقاءين فملأ قربتيهما، وبعثهما إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 792 (2) ومما جاء في النّدام والنّدماء والسّقاة وجوب حقّ المنادمة وذكر من عظّم نديمه روي أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم ير مادا رجليه بين يدي جليس له قط، ولا أخذ بيد أحد فانتزع يده من يده حتى يكون الرجل هو الذي يرسلها. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لجليسي عليّ ثلاث، أرميه بنظري إذا أقبل وأوسع له إذا جلس وأصغي إليه إذا حدّث. قال شاعر: أرى للكاس حقّا لا أراه ... لغير الكاس إلا للنّديم «1» وقال الجاحظ رويت هذا البيت دهرا لا أعرف له ثانيا، فسمعت يوما حماميا يوقد أتونه وينشد معه: هو القطب الذي دارت عليه ... رحى اللذات في الزّمن القديم وقال سعيد بن حميد: الكاس حرمتها أولى من النسب «2» وقال حصابة: إن المنادمة الرضاع الثاني. وكان القعقاع إذا جالسه جليس فعرفه بالقصد إليه، جعل له نصيبا من ماله وأعانه على عدوه وشفع له في حاجته وغدا إليه بعد المجالسة شاكرا له، وفيه يقول: وكنت جليس قعقاع بن شور ... ولا يشقى بقعقاع جليس قال يحيى بن أكثم: ما رأيت أكرم من المأمون بتّ عنده ليلة فعطش فكره أن يصيح بالغلمان، وكنت منتهبا فرأيته قد قام فمشى قليلا إلى البرادة حتى شرب ورجع. ورأيته ليلة وأنا عنده وحدي وقد أخذه سعال يسدّ فاه بكمه كيلا انتبه. الإنخراط في سلك الشّرب والصّحب جلس المتوكل مع جماعة، وفيهم يحيى بن أكثم، فلما شرب الناس ثلاثة أرطال، أمر يحيى بالإنصراف، فقال له: ولم يا أمير المؤمنين؟ فقال لأنا قد خلطنا، فقال: أحوج ما يكون إلى قاض إذا خلطتم، فاستظرفه المتوكل وأمر أن تغلف لحيته بالغالية، ففعل، فقال: ضاعت الغالية وكان هذا يكفيني دهرا، فأمر بزورق من الغالية ودرج بخور، فجعلا في كمّه. طيب المدام بطيب النّدّام قيل لأعرابي كم تشرب من النبيذ؟ فقال: مقدار النديم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 793 وقال أبو نواس: الراح طيّبة وليس تمامها ... ألا بطيب خلائق الجلاس وقال آخر: إنما تستعذب الرا ... ح بأخلاق النّديم وقال العطوي: تصفو الزجاجة بالنّديم إذا صفا ... ويكدّر الندمان صفو الرّاح وقال آخر: يقولون قبل الدار جار موافق ... وقبل الطريق النّهج أنس رفيق فقلت وندمان الفتى قبل كاسه ... وما حثّ كاس اللهو مثل صديق وقال آخر في صديق استطاب مجالسته: يا ليلة لست أنسى طيبها أبدا ... كأنّ كلّ سرور حاضر فيها باتت وبتّ وبات الزّقّ ثالثنا ... حتّى الصباح تسقيني وأسقيها كأن سود عناقيد بلمّتها ... أهدت سلافتها صرفا إلى فيها «1» إختيار عدد النّدمان قال منصور الفقيه: فليدع منها خمسة ... متخيّرين ولا يزد فدوين هذا وحشة ... وفويقه سوق الأحد وقال آخر في المعنى: إذا ما جاوز الندمان خمسا ... بربّ البيت والسّاقي اللبيب فأير في حر أم فتى دعانا ... وأير في حر أم فتى مجيب طرح الحشمة في المنادمة ومراعاتها جاء محمد بن حماد إلى ابن الجنيد، فقال: يقول لك أمير المؤمنين المعتصم تهيأ لمزاملتي، قال: كيف أتهيأ؟ قال: إذا زاملته فإياك أن تبزق أو تمخط أو تتثاءب أو تسعل أو تعطس، فقال ابن الجنيد: ارجع إليه وقل له: في حرّ أم من يزاملك على هذا الشرط، فلما رجع إليه ضحك واستدعاه، فقال: آمرك بمزاملتي فتراسلني بذلك، فقال: إن هذا الأحمق شرط علي شروطا يهرب منها الشيطان، فإن رضيت أن تفسو عليّ وأفسو عليك وإلا فلست بصاحبك. وقيل لبعضهم: ما العيش؟ فقال: طرح الحشمة وترك الطب. قال إسحاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 794 الموصلي: كانت الخلفاء من بني أمية لا يظهرون للندماء والمغنين، وكان بينهم وبين ندمائهم ستارة، وكان بنو العباس يظهرون ثم احتجبوا عنهم، ولم ير أبو جعفر قط يشرب إلا الماء، وكان المهديّ في أول أمره يحتجب متشبها بمن قبله ثم ظهر لهم، وقال: اللذة في مشاهدة السرور والدنو من الأحباب. الوصيّة بطيّ حديث الشّرب قال المأمون رحمه الله: أطووا خبر أمس مع ذهاب أمس، فهو أدوم للسرور وأسلم للصدور. وقال: النبيذ بساط إذا رفع لم ينشر. وقال علي بن صالح: حكم العقار إذا قصدت لشربها ... في لذّة من مسمع أو قيان أن لا تعود لذكر ما أبصرت من ... أحدوثة من شارب سكران وقال آخر: إذا ذكر النبيذ فليس حقّا ... إعادة ما يكون مع النبيذ إعادة ما يكون من السّكارى ... يكدّر صفوة العيش اللذيذ الممدوح بترك إعادة الحديث ومعاتبة النّديم. قال شاعر: ولست بلاح لي نديما بزلّة ... ولا هفوة كانت ونحن على خمر «1» عركت بجنبي قول خدني وصاحبي ... ونحن على صهباء طيبة النشر «2» وأيقنت أن السكر طار بلبّه ... وأعرق في شتمي وقال وما يدري «3» وقال ابن الجهم: تنازعوا لذّة الصهباء بينهم ... وأوجبوا الرّضيع الكاس ما يجب «4» لا يحفظون على السكران زلّته ... ولا يريبك من أخلاقهم ريب استقالة من بدر منه في السّكر بادرة قال شاعر: إذا حكّمت كؤسك في الندامى ... فحقّهم الإقالة للعثار «5» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 795 وقال آخر: ما على مثّقل من النّوم ... والسكران فيما أتى من الآثام وقال آخر: ومن يقرع الكاس اللئيمة سنه ... فلابدّ يوما أن يسيء ويجهلا الممدوح بمسامحة رفيقه في الشّرب قال بعضهم: هلمّ اسقني كأسا ودع عنك من أبى ... وروّ عظاما قصرهنّ إلى بلا فإنّ نديمي غير شكّ مكرم ... لديّ وعندي من هواه الذي أرتضى ولست له في فضلة الكاس قائلا ... لأصرعه سكرا تحس وقد أبى ولكن أفديه وأكرم وجهه ... واشرب ما يسقي وأسقيه ما اشتهى وقال أبو نواس: ولست بقائل لنديم صدق ... وقد أخذ الشراب بوجنتيه تناولها وإلّا لم أذقها ... فيأخذها وقد ثقلت عليه ولكنّي أداري الشرب عنه ... وأصرفها بغمزة حاجبيه فإن مدّ الوساد لنوم سكر ... دفعت وسادتي أيضا إليه من لا يعتدّ بمجالسته ومن يعرض بمذهبه قال بعض المحدثين: خرجنا جميعا إلى نزهة ... وفينا زياد أبو صعصعة فستة رهط به خمسة ... وخمسة رهط به أربعة وقال آخر: عندي جعلت لك الفدا ... سهل وسهل ليس يجدي إن لم تكن لي ثانيا ... فكأنّني في البيت وحدي وأصله لأبي حبة: أصمّ إذا ناديت جهرا وإن تشر ... فأعمى وإن تفعل جميلا فجاحد وأقسم برا أن لولا خياله ... لما كنت إلّا مثل من هو واحد وقال صاحب وفي يده كاس: تطيب كؤوسنا لولا قذاها ... ويحتمل الجليس على أذاها فقال النابغة: قذاها أن صاحبها لئيم ... يحاسب نفسه بكم اشتراها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 796 طيب مجالسة الإخوان ومحادثتهم قال شبيب بن شبة: لم يبق من لذات الدنيا إلا أربعة مجالسة الإخوان ومناسمة الولدان وملامسة النسوان ومداولة الكاس مع الندمان. قيل لبعضهم: ما بقي من لذتك، فقال: محادثة الإخوان في الليالي القمر على الكثبان العفر. وقيل لبعضهم: تمنّ، فقال: وجه حبيب ومغن مصيب وساق أريب ونديم لبيب. وقيل لآخر: ما العيش؟ فقال: لون مشبع ومغن ممتع وكاس مترع ونديم مقنع. وقيل: مجالسة أهل الفضل ذكاء العقل. إيثار محادثة الإخوان على غناء القيان قال علي بن الجهم: شهدتها وفتية أخيار ... لهوهم الإسمار والأشعار وملح تقدح منها النّار ... بمثلهم يعاقر العقار «1» وقال ابن المعتزّ في مدح ذلك: بين أقداحهم كلام قصير ... هو سحر وما سواه كلام إيثار التفرّد بالشّراب وذمّه قال أبو نواس في ذلك: خلوت بالرّاح أناجيها ... آخذ منها وأعاطيها شربتها صرفا على وجهها ... وكنت حاسيها وساقيها وقال العطوي: أخطب لكاسك ندمانا تسرّبه ... أو لا فنادم عليه حكمة العنب «2» وقال آخر: يئست من الألى أقبلت أسعى ... إليهم، إننّي رجل يؤوس التناهد قال شاعر: ما العيش إلا للمناهدينا ... مؤنة قضت على عشرينا «3» ولو تفرّدنا بها خرينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 797 وقال بعضهم في متناهدين: وقال حفص لزيد حين ناهده ... منك النبيذ ومنّي الدنّ والكوز واللحم منك ومنّي النّار أنضجه ... والماء منّي ومنك الخبز مخبوز وتناهد قوم وفيهم مفلس، فقال أحدهم: عليّ كذا، وقال الآخر: وأنا عليّ كذا، إلى أن قالوا للمفلس وأنت ما عليك، فقال: لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. قال الحسن بن سهل في جماعة من القواد يتناهدون: كّنا نذمّ إلى التناهد بيننا ... حتّى رأيت تناهد القوّاد لا خير في القوّاد إلا هكذا ... يتناهدون تناهد الأوغاد «1» ترضى لنفسك أن تصاحب معشرا ... يتناهدون على خسيس الزّاد التّعفّف عن التّعرّض لأخدان النّدماء كان بعض الفضلاء ينادم صديقا له فعشقته امرأته، فتعرضت له فامتنع عليها، وقال: ربّ حسناء كالمهاة تهادى ... قد دعتني لوصلها فأبيت «2» لم يكن بي تحرّج غير أنّي ... كنت ندمان زوجها فاستحيت وقال آخر: إنّي على ما فيّ من ... عهد الشبيبة والغضارة لأغضّ من طرفي فيأ ... منني النديم على السّتارة وكفى بعيب ذلك ما حكى الله تعالى: قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ «3» . المعيب بتعرّضه لحرم نديمه قال بعضهم لنديم رآه يرمق بعض حرمه: كل هنيئا وما شربت مريئا ... ثمّ قم صاغرا وغير كريم لا أحبّ النّديم يرمق با ... لعين إذا ما انتشى لعرس النديم «4» المتبجّح بالتّعرّض للنّدماء قال المهدي لعمارة بن حمزة: من أرق الناس شعرا، قال: والبة بن الحباب، قال: صدقت. قال عمارة: وما يمنع أمير المؤمنين من منادمته وهو شاعر ظريف، قال: يمنعني منه قوله: قلت لساقينا على خلوة ... ادن كذا رأسك من راسي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 798 وأدن وضع صدرك لي ساعة ... إني امرؤ أنكح جلاسي أفتريد أن تكون جليسه. ولبعض الخاسرين: لا أبغض منادمي إن نكته ... إني لنيك منادمي معتاد وكذاك لست ألومه إن ناكني ... فلقد علمت كما أكيد أكاد العربدة قال الأصمعي: العربدة حية تنفخ ولا تؤذي، ومنه قيل لمعربد بوجهه خموش: ما هذه الكلوم؟ قال: آثار الكلام. وكان رجل معربد له يسار، وكان إذا عربد على واحد أعطاه خمسمائة درهم، فقال لإنسان: هل لك أن تنادمني؟ قال: على أن تعربد عليّ عربدة نحو مائتين، فإني لا أقوى على عربدة خمسمائة. وقال الحسين بن خليع: نادمت يوما إبراهيم بن المهدي فسكّر وعربد عليّ، فدعا بالنطع والسيف، فتكلم في أصحابه فتجافى عنّي، ثم تأخرت عنه فدعاني، فكتبت إليه: أمير غير منسوب ... إلى شيء من الحيف «1» سقاني مثل ما يش ... رب فعل الحرّ بالضّيف فلمّا دارت الكاس ... دعا بالنطع والسّيف كذا من يشرب الراح ... مع التنّين في الصّيف «2» فدعاني وأرضاني. ثم كان المأمون يضاحك إبراهيم بهذه الأبيات ويولع بها. وسئل عبيد الله بن محمد عن طنبوري له، فقال: هو بليد حديد عربيد أن حث عثر وإن أمسك قصر، وان ابتدأ غلط، وإن اقترح عليه سخط، وإن دعي مطل وإن ترك تطفل. وقيل: صاحب السكر يصير إمّا إلى قردية وهو الذي يضحك ويرقص ويحاكي، أو إلى كلبية وهو الذي يهارش، أو إلى خنزيرية وهو الذي يتقيأ ويخرأ ويتلوّث فيه، أو إلى إنسانية وهو الذي يحسن خلقه. ولبعضهم يصف معربدا: إذا انتشى خاصم في الدين وإن ... صادف إنسانا يماريه «3» ويدّعى الشرب ويهذي به ... والقدح الواحد يكفيه يحبس كاس القوم في كفّه ... حتّى إذا قالوا له إيه «4» أفضل ثلث الكاس في قعرها ... ومجّ ثلث الكاس من فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 799 وقال أبو نواس: ومعربد أبرزته ... للريح إذ سبّ الندامى أغلقت بابي دونه ... وتركته يرعى الخزامى «1» ويضاد ذلك ما حكى أنه أتى العريان بشارب، فقال من أنت؟ قال أنا القائل: إذا صدمتني الكاس أبدت محاسني ... ولم يخش ندماني على صدمها جهلي فقال العريان: أنعم الله بك عينا، وقال لصاحبه: إحمله على دابتك وبلغه منزله. مدح الصّفع واحتجاج الصفعان لذلك الصفع غلّة ولكنه مذلّة ويذهب بالعلّة الغليظة من العينين، إذا أردت أن يكثر نفع دارك فاصبر على الصفع المتدارك. الصفع في هذا الزمان خير من غلّة بستان. الصفع على الريق أنفع من شرب السويق. وقيل لصفعان: ما المعنى في الصفع؟ قال: هو أول منزلة من التواضع وهو يحسن الخلق ويذهب بالصغار ويخفف من الخمار ويؤمن البدن من الاقشعرار، ومن فضائله أنه يونس المستوحش ويبسط المنقبض ويضحك الحزين وينشط الكسلان ويزيل النعاس ويقوي الراس. صفع رجل آخر فغضب المصفوع، فطأطأ رأسه، وقال له: حقك في يدك خذه ولا تغضب. معارضة صفعان لمن صفعه كان صفعان مع قوم فصفعه بعض لم يكن يؤبه به من بينهم، فقال الصفعان: يا كشحان هذا يفعله من كان له قصر وفي داره طاوس وعلى بابه نعامة، لا من في داره ديك وعلى بابه كلب وحجرته بالكراء. وصفع رجل آخر فالتفت إليه، وقال: صفع بصفع أو صفع بنفع. المهجّو بأنه صفعان قال شاعر: قفاه على أكفّ الشرب وقف ... وجلدة وجهه ميدان ريق «2» وصفع أحمد بن إسماعيل الكاتب صاحبا له، فقال: سائل طلول القفا ومصفعها ... كيف ترى راحتي وموقعها كم صائن هامة ممنّعة ... ذلّلها صافع وطبّعها ولابن حجاج في المتنبي: يا ديمة الصّفا هبّي ... على قفا المتنبيّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 800 وأنت يا ريح بطني ... على عذاريه هبّي «1» ويا قفاه تداني ... واقعد قريبا بجنبي وإن صفعتك ألفا ... فلا تقولنّ حسبي وله في بعض الكتاب: رأيت شيخا رقيعا ... للصفع فيه بقيّه مستعربا نبطيّا ... ويشتهي العجميّه فقلت ذقنك في إستي ... هذا من العربيّه وريشك بباب كوني ... هذا من العجميّه أولا فدعنج بوطئي ... هذا من النبطيه هذي لغات ثلاث ... صحيحة مستويه وقال ابن الرومي: وصفعان يجود بأخدعيه ... ويصفع نفسه في الصافعينا «2» كهدم المشركين بيوت سوء ... بأيديهم وأيدي المؤمنينا ومما يدخل في باب الصفع، خاطر رجل على أن يصفع المطلب الهاشمي بباب الطاق فيشكره المطلب على ذلك، فوقف يوما على طريقه وصفعه من خلفه في النقرة، وقال: العقرب العقرب وكان معه عقرب منزوع الحمة فلما رأى المطلب العقرب شكره، وقال: جزيت خيرا فلولا أنت لدغتني. وصف ثقيل ما الحمام على الإصرار وحلول الدين مع الإقتار «3» وشدة السقم على الأسفار بأثقل من لقاء فلان. وقال رجل لأبيه يا أبت: حدثني مستملى أبي حنيفة أن أبا حنيفة قال: إني ثقيل، فقال: يا بنيّ أنت ثقيل بالإسناد. وصف آخر ثقيلا، فقال: هو ثقيل جاهل بثقله والثقيل إذا علم أنه ثقيل فليس بثقيل. قال شاعر: أثقل من طلعة يوم سبت ... على ابن كتاب بليد هبت «4» وفسر سعيد بن المسيب قول الله تعالى: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ «5» ، إنه ثقيل لغير رشده. وقال إنسان لأحمد بن أبي خالد: لقد أعطيت ما لم يعطه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال له: لئن لم تخرج من ذلك لأقتلنّك، فقال: إن الله تعالى قال لنبيّه: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 801 لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ «1» وأنت فظّ وما يبرحون حولك، فضحك منه. رؤيته أثقل من رضوى ... أثقل من واش على عاشق «2» قال أبو العتاهية لابنه: أنت ثقيل الظلم مظلم الهواء جامد النسيم. وقال شاعر: كمثل غريم مقتض أو كأنّه ... طلوع رقيب أو نهوض حبيب وقال أبو نواس: لطلعته وخزة في الحشا ... كوخز المشارط في المحتجم وقال أحمد بن حمدون: صلف مائق ضعيف مقيت ... أحمق ساذج ضعيف الكتابه «3» وقال آخر: وبغيض لو أنه كان صوتا ... كان إيقاعه ثقيل الثّقيل وللصاحب: ثقيل قد تربّع في الطنافس ... ينافس في لجاجته الخنافس الحثّ على مصابرة الثّقيل سأل رجل صديقا له أن يمشي معه إلى إنسان في حاجة، فقال: أحب أن تعفيني، فإنه ثقيل بغيض غثّ، فقال صاحبه: يا سيدي أحسبه الكنيف الذي تأتيه كل يوم مرتين. صعوبة ملاقاة الثّقلاء قال الأعمش: ما نظرت إلى ثقيل إلا اشتكت عيني، وقال: ربما سألني ثقيل عن مسألة فأنساها في الوقت، لما ينالني منه. وقال ابن عمر رضي الله عنه: اتقوا من تبغضه قلوبكم. وقال مالك لطبيبه: أنظر مجسي فجسه، وقال: مزاجك معتدل إلا أن فيه كدرا فهل وصل إليك اليوم بغيض؟ قال: نعم، قال: فهذا من ذاك. وقيل: مجالسة الثقيل حمى الروح، ومنه أخذ أبو هفان: أورثتني بجلوس ... إليك حمّى مليله وقيل لأنوشروان: ما بال الرجل يحمل الحمل الثقيل فلا يعييه ولا يحمل مجالسة الثقيل، فقال: لأن الحمل تشترك فيه الأعضاء والثقيل تنفرد به الروح. الأحوال المفضية للثّقل قال ابن سيرين: مكتوب في كتاب سوء الأدب إذا أتيت منزل قوم فلم ترض بما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 802 يأكلون، وسألتهم ما لا يجدون، وكلفتهم ما لا يطيقون، وأسمعتهم ما يكرهون، فإن لم يخرجوك فهم لذلك مستأهلون. وقيل: من مقتضيات الثقل إن يكون الإنسان يتتايس وهو يقدر أن يتكايس. ودخل ثقيل على ابن أبي البغل فأطال الجلوس، فلما خرج الناس قال: هل من حاجة؟ قال: لا، فانظره ساعة، ثم قال ما اسمك؟ قال: أبو عبد الله، محمد بن عبد الله، فقال لحاجبه: خذ بيد أبي عبد الله محمد بن عبد الله واطرده إلى لعنة الله. التّعريض بثقيل قال ابن عائشة: ذكر الله تعالى الثقلاء، فقال: فإذا طعمتم فانتشروا. وشرب بغيض عند رجل، فلما أمسى لم يأته بسراج، فقال: أين السراج؟ قال: إن الله يقول وإذا أظلم عليهم قاموا. قال ثعلب لرجل استثقله: خاتم طاوس، فلم يعلم الرجل ما عناه، فقال له ثعلب: إن طاوسا نقش على خاتمه أبرمت فقم، فإذا استثقل رجلا دفعه إليه وقال اقرأه. وعاد الشعبيّ ثقيل فأطال الجلوس، ثم قال: ما أشد ما مرّ عليك في مرضك، قال: قعودك عندي. ودخل ثقيل إلى الصاحب فأطال الجلوس وتبرم به، فكتب رقعة ودفعها إليه فيها: إن كنت تزعم أن الدار تملكها ... حتّى نقوم فنبغي غيرها دارا أو كنت تعلم أن الدار أملكها ... فقم لكي تذهب الأحزان والعارا ودخل علي ابن مكرم أخوان من أولاد دينار، فاستثقل أحدهما واستطاب الآخر، فانزعج الثقيل وبقي الآخر. فقال له ما مثلك ومثل أخيك إلا ما قال الله تعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ «1» . اغتياب الثّقلاء والوقيعة فيهم قال معمر: لا غيبة للثقلاء والوقيعة فيهم من اللذات. وفي مجالسات أبي بكر بن دريد لم يبق من لذة الدنيا إلا أكل القديد وحك الجرب والوقيعة في الثقلاء. وفي وصف بارد: هو جبل همدان وماء سيدان، قال يوسف بن المغيرة: ومن يقتل الأبطال بأسا ونجدة ... فإن أبا يعقوب يقتلهم بردا وقال آخر: إنما ظرف أبي العيناء في المجلس لحظه ... فإذا طاولته استبردت معناه ولفظه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 803 وصف ساق يشغف الشرب بحسنه ويلهيهم بغنجه لأبي فراس وقد حضر مجلسا فثمل، فقيل له: سكرت، فأنشأ يقول: سكرت من لحظه لا من مدامته ... ومال بالنّوم عن عيني تمايله وما السّلاف دهتني بل سوالفه ... وما الشّمول دهتني بل شمائله «1» لوى بعقلي أصداغ لوين له ... وغال صبري ما تحوي غلائله «2» وقال آخر: وساع على صحبي بصهباء ... كالغصن المغتص بالماء أغار من وقفته كلّما ... قال لحاسي الكاس مولائي حتّى لقد صاروا وهم أخوتي ... من شدّة الغيرة أعدائي وصف ساق تشبه وجنته خمرة قال ديك الجن: فقام بخمر يخضب الكفّ كاسها ... وتحسبه من وجنتيه استعارها «3» أخذه ابن المعتزّ وزاد عليه، فقال: تدور علينا الراح من كفّ شادن ... له لحظ عين يشتكي السقم مدنف «4» كأن سلاف الخمر من ماء خدّه ... وعنقودها من شعره الجعد يقطف وقال جحظة: وخمارة من بنات القسوس ... تبيع المدامة في دارها وجاءت تهادى كقدّ القضيب ... سقته الغوادي بأمطارها «5» وفي كفّها قهوة في الإناء ... وكالنّار لم تغل في نارها كوجنة من هي في كفّها ... ونكهتها وقت أسحارها فمن قارص وردتي خدّها ... ومن جاذب فضل زنّارها «6» وقال الفرح الصالحي: ثمل من خمر ريقته ... عطر من ورد وجنته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 804 قام والأرداف تقعده ... والدّجا من لون طرّته فسقاني الخمر من يده ... وحللنا عقد تكته «1» ساق يطيب من يده المدام. قال شاعر: ولم يكن الشراب كذا لذيذا ... ولكن طاب حامله فطابا وقال ابن المعتزّ: إشرب عقارا كأنّها قبس ... قد سبك الدهر تبرها فصفا بيدي لثام الإبريق من دمها ... كأنّه راعف وما رعفا بكفّ ساق حلو شمائله ... مكر لحظ عينه صلفا «2» وصف الشّراب والسّاقي وقال السري الرفاء، وقد أحسن في وصف الساقي: وكأنّما أبدى لنا بمدامه ... وجماله صاح العزيز ويوسفا «3» وقال أبو نضلة: قام الغلام يديرها في كأسه ... فكأن بدر التمّ يحمل كوكبا وقال الخوارزمي: يدور بها ظبي تدور عيوننا ... على عينه من شرط يحيى بن أكثم ينزّهنا من ثغره ومدامه ... وخدّيه في شمس وبدر وأنجم حثّ الساقي على السّقي. قال شاعر: أيّها السّاقي أجد حثّ القدح ... واسقني ويحك مفتاح الفرح وقال أبو نواس: أيّها السّاقي علاما ... تحبس الكاس علاما بعد ما لذّت وطابت ... ونفت عنّا اهتماما سمّي الخمر مداما ... فأدم هذا المداما وصل الكاس بكاس ... تدع الشيخ غلاما «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 805 حثّ القوم على الشّرب كان رجل يشرب مع قوم، فإذا أخذ القدح أطال إمساكه، فقال ساقيهم: إشرب وهبه في كفك من يوم مولدك. وقال آخر لمن يحبس الكاس: أليس لو بقي في كفك أياما وقد مزجته كان يتغير؟ قال: نعم، قال: فلا أرى ساعة تمضي إلا ولها قسط من التغير، فاشربه. وكتب بعضهم على كاس: قالت الكاس لساقيها إلى ... كم تحسبوني إنّ جسمي من زجاج ... فاحذروا ألا تكسروني واجعلوا السّاقي خشف ... اومع الخشف ذروني «1» وإذا أنتم ثقلتم ... فخذوني في سكوني الحثّ على المزج والمنع منه قال أبو نواس: فقوما فامزجا خمرا بماء ... فإن نتاج بينهما السرور وكان رجل يسقي آخر صرفا، ويغنّي له: يديرونني عن سالم وأديرهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم فكان ينشد وجلدة ما بين العين والأنف سالم فيكسر البيت ويزيد فيه لفظة ما، فقال صاحبه: الأولى أن تجعل ما التي في بيتك في قدحك، وقال حسان في المنع من المزج: إن التي ناولتني فرددتها ... قتلت قتلت فهاتها لم تقتل كلتاهما حلب العصير فعاطني ... بزجاجة أرخاهما للمفصل وقال أبو نواس: أثن على الخمر بآلائها ... وسمّها أحسن أسمائها لا تجعل الماء لها قاهرا ... ولا تسلّطها على مائها «2» وأنكر بعض الشرب على الساقي كثرة المزج، فقال: تريدون في مائكم نبيذا. حثّ الساقي على العدل بين القوم قال علي بن داود في كتاب الزهرة: ليتحرّ الساقي العدل فإنه والي العقول وإلا ناله من خجلة الاستعفاء ما ينال الوالي من خجلة العزل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 806 (3) ومما جاء في وصف المجالس وأمكنة الشرب. اختيار المجلس الفسيح قيل للأحنف: أي المجالس أحب إليك؟ قال: ما سافر فيه البصر واتدع فيه البدن. وقيل: المنازل الضيقة العمى الأصغر. وسئل بعضهم عن الغنى، فقال: سعة البيوت ودوام القوت. وقيل لبعضهم: ما السرور؟ فقال: دار قوراء وامرأة حسناء وفرس مربوطة بالفناء. وقيل لبعضهم: أي المجالس أطيب؟ فقال: لولا أن الشمس تحرق والمطر يغرق لما كان في الدنيا أحسن من شرب في الفضاء على وجه السماء. وحدثني أبو سعيد بن مرداس أنه قعد مع جماعة فيهم ابن بابك تحت عريش كرم يشربون فأصابهم مطر، فقال ابن بابك: وشى بريّا إليّ ... طيف ألمّ فحيّا ونبهتني شمول ... تموت فيّ وأحيا يا صخرة الرّعد رشّي ... دمع الغمام عليّا فحبّذا الروح وردا ... ومنحنى النورفيّا هذي سماء مدام ... لم تمش فيها الحميّا فكلّ كرم سماء ... وكلّ نجم ثريّا حديث كلّ مجلس قال أرسطاطاليس للإسكندر: احفظ ما أقول لك، إذا كنت في مجلس الشرب فليكن مذاكرتك الغزل فإنهم يأنسون إلى ذلك، وإذا جلست إلى خاصّتك فاذكر الحكمة فإنهم لها أفهم، وإذا خلوت للنوم فاذكر العفّة فإنها تمنعك أن تضع النطفة في ما لا معنى له. مدح القعود في طرف المجلس والاعتذار لذلك دخل بعض الصوفية على الجنيد وقعد في طرف المجلس، وقال: حسبي يا سيّدي من مجلسك مكاني من قلبك. وقيل: الأطراف مجالس الأشراف. ودخل رجل على بعض الكبار فصدّره، ثم دخل آخر فقال له: تنح قليلا فرفعه إلى جنبه، ثم دخل آخر فقال له مثل قوله. فلم يزل الداخل الأول يتنحى حتى صار في طرف البساط، فقال لصاحب المنزل: قد تفرزنت أقوم فأرجع إلى موضعي، فضحك منه ورفعه إلى موضعه الأول. الجلوس على الطّرق وفي المساجد مر رسول الله صلّى الله عليه وسلم على رهط، فيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: إيّاكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 807 والجلوس بهذه فإنها سبيل من سبل النار، أو قال من سبل الشيطان، ثم التفت فقال: فإن أبيتم فأدوا حقّ الطريق، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: رد السلام وغض البصر وكف الأذى وهداية الضال وإغاثة المهلوف. وقال الشعبي: من أراد أن يكثر علمه فليجتنب مجالس قومه. وقيل: المساجد مجالس الكرام. ذمّ الجلوس في الشّمس وحمده روي عن أمير المؤمنين رضي الله عنه أنه رأى رجلا جالسا في الشمس، فقال: قم عنها فإنها مبخرة مجفرة تنغل الريح وتظهر الداء الدفين وتذهب شهوة الشتاء. وقال أبو تمّام: وإن صريح الحزم والرأي لامرؤ ... إذا أدركته الشمس أن يتحوّلا ضيق المجلس ما ضاق مجلس على محبين ولا اتسع لمتباغضين. وقال الصاحب في معناه، وقد نقله من أبيات خراسانية: كنّا وأسباب الهوى متّفقه ... نغدو من الورد معا في ورقه «1» واليوم إذ أسبابه مفترقه ... قد صارت الدنيا علينا غلقه وكثر تمثل الناس بقول الشاعر: لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكنّ أخلاق الرّجال تضيق وقال ابن المعتزّ، وقد حضر قوما ضاق بهم المجلس: لا تحسبنّ الدّهر يجمع حبه ... في قشرة إلّا كما نحن هنا وقال آخر يعتذر من ضيق داره وقلّة زاده: إن يضق منزلي فإنّي كريم ... واسع الخلق واسع الآداب لست آسى على الكثير من الزا ... د إذا كان فيه قوت صحابي الحثّ على التوسّع لمن حضر المجلس قال النبي صلّى الله عليه وسلم: لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه، ولكن تفسّحوا وتوسّعوا. وقال الله تعالى: إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ «2» (الآية) . حضر بعض الناس مجلس الحسن بن سهل، وكان المجلس ضيقا، فقال: تحّفزوا فإن في التحفز توسعه الجالس المستوفز. قيل: اثنان ظالمان رجل وسع له في مكان ضيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 808 فقعد فيه متربعا منتفخا، وآخر أهديت له نصيحة فاتخذها ذنبا. تفقّد الجلسة قال عبد الملك: إني لأعرف عزّة الرجل في جلسته. وقيل: اختلاف صور جلوس الناس على اختلاف أحوالهم. وقيل: للمملوك جلسة وللراغب جلسة وللندام جلسة وللملاعب جلسة وللمطرب جلسة وللضيف جلسة. الانتقال من مجلس إلى مجلس قال الصولي: شرب عندي ابن أبي فنن يوما، فقلت له قم بنا ننتقل إلى مجلس آخر، فقال: النقلة من الإسلام كفر ومن النسب لؤم ومن المجلس سخف. وقيل لبعضهم: انتقل، فقال: النقلة مثلة. وكان المأمون كثير التنتقل في مجالسه، ويتمثّل بقول أبي العتاهية: لا بدّ للنّفس إن كانت مدبرة ... من التنقّل من حال إلى حال حمد الرّاضي بالقعود دون ما يستحقّ قال الأحنف رحمه الله: ما جلست مجلسا خفت أن أقام منه لغيري. وقال الشعبيّ: لأن ادعى من بعيد أحب إليّ من أن أدفع من قريب. مجلس أو وقت مستطاب قال ابن أبي البغل: جلسنا مجلسا حسنا نظيفا ... خلا من كلّ ذي صلف وبغض «1» وقال آخر: ومجلس غاب عنه عاذله ... تبدّل فيه الهموم بالطّرب وقال ابن المعتزّ: كأنا من بشاشتنا ظللنا ... بيوم ليس من هذا الزّمان إيثار الشّرب واللهو باللّيل كان ابن المعتزّ لا يشرب إلا ليلا، ويقول: الليل أمتع، لا يطرقك فيه خبر فاظع ولا سبب مانع، والنهار أبرص لا يتم فيه سرور. أخذ ذلك كشاجم، فقال: اتخذ الليل جمل ... ما حمل الليل حمل آمن فيه زائرا ... يشغلني عن الشّغل «2» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 809 وقال آخر: ولم أر مثل الليل جنّة فاتك ... إذا همّ أمضى أو غنيمة ناسك وقال بشّار: قد نام واش وغاب ذو حسد ... فاشرب هنيئا خلا لك الجوّ ويروى لمحمد بن بشير. ويقال: كتب معاوية إلى إبنه يزيد بهذه الأبيات: شمّر نهارا في طلاب العلا ... واصبر على هجر الحبيب القريب حتّى إذا الليل أتى مقبلا ... واكتحلت بالغمض عين الرّقيب فقابل الليل بما تشتهي ... فإنّما الليل نهار الأريب كم فاسق تحسبه ناسكا ... يستقبل الليل بأمر عجيب ويروى أن يحيى بن خالد كتب إلى الفضل ابنه، وهو بخراسان، وقد بلغه اشتغاله باللهو: أما بعد فقد بلغني عنك ما كنت جديرا بغيره، وقد يهفو الحكيم ويزل الحليم ثم يرجع إلى ما هو به أولى، حتى كأن أهل دهره لم يعرفوه إلا به، وقد كتبت إليك بأبيات إن أنت خالفتها هجرتك وعزلتك. وكتب إليه بالأبيات المتقدّمة، فلما قرأها آلى على نفسه أن لا يشرب النبيذ بخراسان. الحثّ على مبادرة الصّباح في تناول الرّاح قال جحظة: قد بدا إلي الصبح يا مو ... لاي يحدو بالظّلام فانتبه نقض لبانا ... ت اعتناق والتزام قبل أن تفضحنا عو ... رة أنفاس النّيام وقال أبو نواس: بادر صباحك بالصّبوح ولا تكن ... كمسوّفين غدوا عليك شحاحا «1» وخدين لذات معلّل صاحب ... يقتات منه فكاهة ومزاحا نبهته والليل ملتبس به ... وأزحت منه نعاسه فانزاحا قال إبغني المصباح قلت له اتئد ... حسبي وحسبك ضوؤها مصباحا إيثار الشّرب بالنّهار والصّبوح قال العطوي: إنّ شرب النبيذ سير إلى الله ... وو خير المسير صدر النّهار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 810 وقال آخر: ومن العجائب أن يكون نبيذه ... كدم الذّبيح وأمره متظاهر فتراه ينتظر العشيّ بشربه ... واليوم منهمل السحائب ماطر وقال كشاجم: وأحبّ أوقات النّعيم ... إليّ في وقت السّحر أوقات الشّرب في الأسبوع كان الوليد يشرب يوما ويدع يوما، وسليمان يشرب في كل ليلة، وهشام يسكر في كل جمعة، ويزيد بن الوليد يدمن الشرب فكان دهره بين سكر وخمار، وكان المنصور يشرب عشية الثلاثاوات، وكان المأمون يشرب الثلاثاء والمعتصم لا يشرب الخميس ولا الجمعة. قصد الحانات من عادتهم: التبجح بقصد الحانات وابتياع الخمر، ولذلك قال طرفة: متى تبغني في حلقة القوم تلقني ... وإن تلتمسني في الحوانيت تصطد «1» وبكر أبو الهندي على خمار فاصطبح وسكر ونام، ودخل على الخمار فتيان فرأوه فسألوا عنه الخمار فأخبرهم بمكانه، فقالوا: ألحقنا به فسقاهم حتى ناموا، فلما استيقظ أبو الهندي رآهم فسأله عنهم فأخبره بهم، فقال: ألحقني بهم فأقاموا على ذلك عشرة أيام، فقال أبو الهندي يصف ذلك: ندامي بعد عاشرة تلاقوا ... تضمّهم بكوذبان راح «2» رأوني في الشّروق على وساد ... يفيض بمهجتي ورد وراح فقالوا أيّها الخمّار من ذا ... فقال أخ تخوّنه صلاح فقالوا قم فألحقحنا وعجل ... به إنا لمصرعه نراح وحان تنبّهي فسألت عنهم ... فقال أتاحهم قدر متاح فقلت له فسرّحني إليهم ... حثيثا والسّراح هو النّجاح فما إن زال ذاك الدّأب منّا ... إلى عشر نفيق ونستباح وله: وصاحب حانوت عشوت لناره ... وقد مالت الجوزاء نحو المغارب «3» فقال ألا عجّل لنا النقد إنّنا ... أناس أخذنا بالكرا والضّرائب «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 811 نثرت له عشرين بيضا كأنّها ... على كفّة الميزان زهر الكواكب فصبّ لنا حمراء ينزو حبابها ... إذا شعشعت بالدنّ نزو الجنادب «1» وقال ابن المعتزّ، وهي أبيات مستحسنة ولذلك ذكرت جملتها: وفتيان صدق قد بعثت بسحرة ... إلى بيت خمّار فحطّوا به رحلا وقام إلى مخزونة بابلية ... كست دنّها أيدي عناكبها غزلا «2» مسندة قامت ثلاثين حجّة ... كواضعة رجلا وقد رفعت رجلا وأخرج بالميزان منها سبيكة ... كما فتل الصواغ خلخاله فتلا إذا قرعت بالماء خلت بكاسها ... مدبّ دبا تعلو أكارعه رملا فلما رأوها في الزّجاجة سبّحوا ... وكبّر إجلالا لها العلج أو صلّى وظلّ يناجي شحّ نفس وجودها ... فطورا بها صعبا وطورا بها سهلا فما زال حتّى زال بالمال حكمه ... ولم ندّخر عنها السماحة والبذلا «3» وجاؤوا بها كالشّمس يأكل نورها ... زجاجتها في كفّ شاربها أكلا عروس جعلنا مهرها بعض ديننا ... فما رضيت حتى وهبنا لها الكلّا وله: لا علم لي أين يثوي الخضر من بلد ... لكنّ إبليس في قطر بل ثاوي «4» بحيث لا لوم في سكر ولا طرب ... ولا يقصر في أفعاله غاوي (4) ومما جاء في وصف آلات الشرب والمجالس الأباريق المفدّمة والطّوال الأعناق وقال أبو الهندي: مفدّمة قزا كأنّ رقابها ... رقاب بنات الماء أفزعها الرّعد «5» وقد زاد هذا على قول علقمة: كأن إبريقهم ظبي على شرف ... مفدّم لبس الكتّان ملثوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 812 وقال آخر: كأنّ أباريق الشّمول عشيّة ... أوز بأعلى الطفّ عوج الحناجر وقال ابن المعتزّ في إبريق في فمه قطرة: كأن إبريقنا والراح في فمه ... طير تناول ياقوتا بمنقار قرقرة الإبريق قال ابن المعتزّ: وكأن إبريق المدامة بيننا ... ظبي على شرف أناف مدلّها «1» لما استحثتها السقاة حنا لها ... فبكى على قدح النديم وقهقها وقال الزاهي: كأن إبريقها فينا مطوّقة ... مدّت جناحا وقد غنّت بتغريد وقال أبو نواس: كأن قهقهة الإبريق إذ سكبت ... رجع المزامير وتغريد فأفاء «2» وقال آخر: والكون يضحك كالغزال مسبّحا ... عند الرّكوع بلفظة الفأفاء وقال ابن أبي البغل: نادمت إبريقها فتمتم لي ... في ليلة طرمساء ظلماء «3» حتّى إذا عاد في فصاحته ... صار لساني لسان فأفاء وقال علي بن عصام الأصفهاني: متى بكى الإبريق في كفّه ... أغربت الأرطال في الضحك «4» إبريق مبذول العروة قال البسّامي في وصفه: إبريق صفر كأنّه قبس ... يشبه لوني بفرط صفرته يمناه ممدودة لمسألة ... منه ويسراه فوق هامته ولبعض المحدثين، ويعرف بالمخزومي البصري، في صفة إبريق فضة وقد استطرد إليه من مدح: لقد ظلم الفضّة المقتناة ... يدلك فيها سريع حثيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 813 قأقبل إبريقها يشتكيه ... مستعديا لك فيما تعيث فإحدى يديه على رأسه ... وأخرى ممددة تستغيث وقال آخر: كأنّه مسترفد مدّ يدا ... وألصق الأخرى بأعلى رأسه كؤوس مصوّرة قال أبو نواس: تدار علينا الراح في عسجديّة ... حبتها بأنواع التصاوير فارس «1» قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مها تدرّيها بالقسيّ الفوارس فللخمر ما زرّت عليه جيوبنا ... وللماء ما حازت عليه القلانس «2» وقال السري الرفاء: وموسومة كاساتها بفوارس ... من الفرس تطفو في المدام وتغرق أقبل منه كلّ شاك سلاحه ... وفي يده سهم إليّ مفوّق كأس وخمر قال أبو تمّام: نار ونور قيّدا بوعاء وقال ابن سباط: وكأس من الشمس مخلوقة ... بدت لك في قدح من نهار هواء ولكنّه جامد ... وماء ولكنه غير جار وقال ابن المعتزّ: كأن الكاس في يده عروس ... لها من لؤلؤ رطب وشاح وقال الصنوبريّ: عقار إذا رديت بالزّجاج ... تردّى الزجاج رداء البهاء فيأتي الوعاء لها حاملا ... وتحسب حاملة للوعاء ونحوهما قول الصاحب: رقّ الزجاج وراقت الخمر البيتين وقد تقدما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 814 وقال الأخطل: أناخوا فجرّوا شاصيات كأنّها ... رجال من السّودان لم تتسربل «1» وقال بشّار: وكأن الزقّ زنجيّ سرق وقال أبو الهندي يصفه: حبشيّ قطعت منه الرّكب وقال الأعشى: حبشيّ كبّ عمدا فانبطح والأول أحسن. معصرة قال ببغاء يصفها: ومعصرة أنخت بها ... وقرن الشّمس لم يغب فخلت قرارها بالرا ... ح بعض معادن الذهب وقد ذرفت لفقد الكر ... م فيها أعين العنب الرّاووق قال كشاجم: كأنما الراووق وانتصابه ... خرطوم فيل قلعت أنيابه الدّن قال ابن المعتز: ودنان كمثل صفّ الرجال ... قد أقيموا ليرقصوا دستبندا «2» وقال آخر: قهوة بنت دنان ... عتّقت خمسين عاما خلتها في البيت جندا ... صفّفوا حولي قياما وقال السري في دنان خاليات: وشعث دنان خاليات كأنّها ... صدور رجال فارقتها قلوبها «3» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 815 كيزان الفقاع قال الخوارزمي: وضيقة الفم دحداحة ... عليها قميص ندى أخضر «1» وقال أبو طالب المأموني: تثور إذا كشفوا رأسها ... وإن قبّلوا فمها تهدر وقال آخر: وربّ فقاعة رأيت بها ... ثدي كعاب مسوّد الحلمه «2» حللت زنّارها فأظهر لي ... شهب بزاة تطير من أكمه «3» (5) ومما جاء في الغناء والمغنّين والملاهي وآلاتها الرّخصة في الغناء قيل لأبي حنيفة وسفيان رحمهما الله: ما تقولان في الغناء؟ فقالا: ليس من الكبائر ولا من أسوأ الصغائر، وقيل للعتابي، فقال: حلال من الفائق حرام من غير الحاذق. وسئل بعضهم: فقال: هو من ارتياح الكرم وامتياح النعم، من قال: هو مباح وإلا قال ليس فيه جناح، قد يعفو الله عما فوقه ويأخذ بما دونه. وقال ابن الرواندي اختلفوا في جواز الغناء، وأنا أخالف الفريقين، فأقول: هو واجب. مرّ عمر رضي الله عنه بدار قوم فسمع ضجة، فقال: ما هو؟ فقيل: عرس، فقال: وما يمنعهم أن يخرجوا غرابيلهم فإنها من أمارة العرس. وحضر الشعبي وليمة، فقال: كأنكم في نائحة أين الدف؟ وقال عبد الملك لعبد الله بن جعفر: من أين استجزتم معشر أهل المدينة الغناء الذي استقبحناه؟ فقال له ابن جعفر: أنت تأتي ما هو أقبح من هذا وأنت في غفلة عنه، يأتيك أعرابي جلف مهلب العجان منتن الأبطين فيقذف عندك المحصنات ويشبّب بربّات الحجال، ويقول فيهن الزور، ثم يشبهك مرة بحجر ومرة بشجر ومرة بالأسد والسيل والبحر فتصغي إليه وتخلع عليه. قال بعض الفقهاء بحضرة الرشيد لابن جامع الغناء: يفطر الصائم، فقال: ما تقول في بيت عمر بن أبي ربيعة إذا أنشد، أمن آل نعم أنت غاد فمبكر، أيفطر الصائم؟ قال: لا قال إنما هو أن أمد به صوتي وأحرك به رأسي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 816 فضل الغناء قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: مدار الدنيا على أربع، البناء والنساء والطلاء والغناء. وقيل: اللذات أربع، أكل وشرب وسماع ونكاح، وكل يوصل إليه بتعب إلا الغناء. لا يكره الغناء إلا من عرضت له آفة في حاسته، كما لا يكره الطيب إلا من في شمه آفة. وحكى أهل الهند أن الزندبيل إذا أخذ امتنع من العلف فيغني له بالألحان الشجيّة حتى تطيب نفسه من سمع الغناء، فإن لم يرتح له كان عديم الحس أو سقيم النفس. وكان حكماء الهند يسمعون المريض الغناء، ويزعمون أنه يخفف العلة ويقوي الطبيعة، وبالأصوات الطيبة ينوّم الطفل وتحدى الإبل وتجمع السمك في حظائرها وتصطاد الظباء والأسود من مرابضها. وقيل: الغناء غذاء الأرواح كما أن الطعام غذاء الأشباح. وهو يصفي الفهم ويرقق الذهن ويلين العريكة ويثني الأعطاف ويشجع الجبان ويسخي البخيل. ذمّ الغناء قال يزيد بن الوليد لأهله: إياكم والغناء فإنه يسقط المروءة وينقص الحياء ويبدي العورة ويزيد في الشهوة، وإنه لينوب عن الخمر ويصنع بالعقل ما يصنعه السكر، فإن كان ولا بد فجنبوه النساء فإنه داع إلى الزنا. سئل صالح بن عبد الجليل عن السماع، فقال: ما وجدت قلبك يصلح له فافعله. مر مسلمة بن عبد الملك يوما بقصر أخيه سليمان، فسمع صوت مغن فغدا إلى سليمان، وقال يا أمير المؤمنين: مررت أمس بالقصر الذي فيه حرمك فسمعت فيه غناء، أما علمت أن الفرس يصهل فتشال الحجر، والحمار ينهق فتستودق له الأتان والثور يخور فتستخرم له البقر، والتيس ينب فيثغو له المعز، والكلب يعوي فتصرف له الكلبة والمغني يغني فترتاح له النساء، فقال سليمان: قد وعظت وأحسنت، والله عليّ راع وكفيل لا يدخل داري مغن ذكر ولا أنثى. ونزل قوم بالكميت فأضافهم، فتغنى رجل منهم وكان حسن الصوت، فقال: حق على الرجل أن يحصن سمع امرأته كما يحصن فرجها. كيفية جودة الغناء قيل لبعضهم ما أجود الغناء، فقال: ما أطربك وألهاك أو أحزنك وأشجاك. وقال إسحاق: قال لي المأمون يوما: ما ألذ الغناء عندك؟ فقلت: ما وافق شهوة النفس، فقال: زد فيه، وطرب له السامع خطأ كان أو صوابا. مشاهير المغنين وواضعي الغناء ابن شريح ومعبد وإسحاق، وقيل: كل ما صنعه إسحاق من الغناء سبعة وثمانون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 817 صوتا، ومخارق وعلويه وزلزل وابن بانة وإبراهيم بن المهدي، كان من حذاق المغنين، ولذلك قال فيه دعبل لما ولي الخلافة: إن كان إبراهيم مضطلعا لها ... فلتصلحن من بعده لمخارق ولتصلحن من بعد ذاك لزلزل ... ولتصلحن من بعده للمارق «1» ومنهم ابن محرز الغريض ومالك بن أبي السمح. كراهية غناء بلا شرب وشرب بلا غناء قيل: غناء بلا شراب كنحلة بلا عطية وهدية بلا نية ورعد بلا مطر وشجر بلا ثمر وحداء بلا بعير وروضة بلا غدير. قال الرشيد: النكس الذي يشرب على غير سماع. وقال أبو نواس: وليس الشرب إلا بالملاهي ... وبالحركات من بم وزير «2» قال صاحب الموسيقا: السماع كالروح والخمر كالجسد فباجتماعهما يتولد السرور. وقيل لأبي العطوف هل ترى في الغناء، فقال: أما قبل الأكل ومع غير الشراب فلا. الإقتراح على المغني ّ قيل لمغن: غن لنا كذا ثم بعده كذا، فقال: يا ابن الفاعلة لا تقترح صوتا إلا بولي عهد. قال الحسن بن علي العلوي: قلت لمغن: غنني، قال: هذا أمر. قلت: أسألك، قال: هذا حاجة، قلت إن رأيت، قال: هذا إبرام، فقلت فلا تغن، قال: هذا عربدة. كان هرمس إذا قعد للشرب يقول للموسيقا أطلق النفس من رباطها. من هنا أخذ كشاجم قوله: أطلق عقال الروح بالرّاح ... إنّ إليها جدّ مرتاح قد كدّت الحكمة روحي ... فروحها بأوتار وأقداح وكان مروان يقول: أطعمتنا طيبا فأطعم أرواحنا حسنا. قال أبو العتاهية لمغن: صب في هذه الآذان ما تطعم به القلوب في الأبدان، فلو كان الكلام طعاما كان كلامك أداما. قال رجل لمغنية: غنيني، قالت: ليس معي عود، قال: فاضربي على حرك قالت قطعت أوتاره بالمخيط وحياتك. وقيل لآخر: غن بغير عود، فقال: أنا فارس لا أقاتل راجلا. وقال آخر لمغن في دعوته: أنعم علينا بما لا يتعب ضرسا ولا يسقم نفسا. استعادة الغناء حقّ الصوت الحسن أن يعاد أربع مرات، الأول بديهة والثاني تفهم والثالث للشرب والرابع للشبع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 818 التّزهزه للمغني قيل: أول صلة المغني أن يقال له أحسنت. وحضر جحظة مجلس بعض الكبار مرارا، وكان إذا تغنى يقول له: أحسنت، ولم يكن يخوله شيئا، فقال فيه: إن تغنيت قال أحسنت زدني ... وبأحسنت لا يباع الدّقيق استطابة الغناء والمغنّي سمع رجل غناء طيبا، فقيل له كيف تسمعه؟ فقال: وددت أن جميع أعضائي مسامع أسمعه بها، فأخذ ذلك الشاعر، فقال: غنّت فلم تبق فيّ جارحة ... إلا تمنّت بأنّها أذن وقال آخر: إذا هي غنّت أبهت الناس حسنها ... وأطرق إجلالا لها كل حاذق «1» وصف ابن شريح مغنيا، فقال: كأنما خلق من كل قلب فيغني لكل ما أحب. وقيل لابن جامع: إنك حسن الإيقاع، فقال: برئت من الإسلام إن كنت ضرطت منذ ثلاثين سنة إلا بالإيقاع، فكيف أخرج منه في الغناء. وقال الواثق: غناء علوية مثل نقر الطست يبقى في السمع بعد سكوته. قال إبراهيم الموصلي: عشقت جارية فهجرت اللذات من أجلها، فبينا أنا جالس إذ استؤذن عليّ لشيخ معه جارية، فأذنت له فدخل، فإذا هي صاحبتي، فجلس الشيخ وقال: أشرب، فدعوت بالنبيذ فشرب ثلاثة أقداح، وقال لي: غن يا أبا إسحاق فتعجبت من جراءته عليّ، وذلك أن الخليفة كان ينزهني عن ذلك، ثم غنيت، فأخذ العود واندفع يغني: سرى يخبط الظلماء والليل عاكف ... غزال بأوقات الزّيارة عارف «2» فما راعني إلا سلام عليكم ... أأدخل قلت أدخل لما أنت واقف فتزعزعت الحيطان وأغمي عليّ وعلى الحاضرين من الغلمان، فلما أفقت إذا بجارية جالسة والشيخ لم أره، فسألت البواب، فقال: لم أره، وسألت الجارية، فقالت: لا أدري، إلا أنه جاءني على لسانك فلم أجسر على مخالفته، فعلمت أنه أبو مرّة. وسمع إبراهيم الموصلي غناء مخارق وعلوية، فقال: نعم الفسيلتان أنتما لإبليس في الأرض. وقيل: لم يكن في الإسلام أحسن صوتا من مخارق، غنى يوما في منتزه وقد سنحت ظباء فجاءت إعجابا بغنائه، وتوسط دجلة يوما وغنّى فلم يبق أحد إلّا بكى، وكان أبوه جزّارا فكان ينادي على اللحم في صغره فيفتن الناس بحسن صوته، وكان إذا تنفس يطرب من سمع تنفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 819 من يستطاب سماع الغناء منه سئل حكيم عن فرق ما بين غناء النساء والرجال، فقال: ما خلقت الأغاني إلا للغواني. وقيل: نعيم الدنيا أن تسمع الغناء من فم تشتهي تقبيله. قال الجاحظ: كم بين أن تسمع الغناء من فم تشتهي أن تقبله وبين أن تسمعه من فم تشتهي أن تصرف بصرك عنه، وأيهما أملح أن يغنيك: فحل ملتف اللحية وشيخ منخلع الأسنان متغضن الوجه أو تغنيك جارية كطاقة نرجس أو آس، وأنشد: من كفّ جارية كأن بنانها ... من فضّة قد طرفت عنّابا وقيل: أطيب الغناء ما أشجاك وأبكاك وأطربك وألهاك. قال يحيى بن خالد لابن جامع: من أحسن الناس غناء، فقال: من أطرب الخاشع وأفهم السامع. قال الموصلي: إذا تغنيت بالمديح ففخم أو بالنسب فأخضع أو بالمرائي فأحزن أو بالهجاء فشدد. غناء يستطاب له الشّراب سمع رجل غناء حسنا، فقال: السكر على هذا شهادة. وقال كشاجم: فلست آبى وإن سقوني ... على أغانيه نيل مصر وقال الخبزارزي: ولو أن البحور خمر لدينا ... وتغنّيت لارتشفت البحورا غناء غير مفهوم المعنى قال أبو تمّام في وصف جارية: ومسمعة يحار السمع فيها ... طربت لحسنها بصدى غناها ولم أفهم معانيها ولكن ... ورت كبدي ولم أجهل شجاها «1» فكنت كأنني أعمى معنّى ... بحبّ الغانيات وما رآها اقتراح الفارسي قال بعض الأصفهانيين: غننا يا غلامنا وأمهنا ... وتنكّب غناءك العربيّا «2» إنّنا معشر من العرب ال ... غرّ كرام فغنّنا الفارسيّا وأسقناها مدامة نازعتها ... وبس دامين بكرة وعشيّا مغنّ قبيح الغناء قال بعضهم: كأنه مكوك يتدحرج على درجة. وغنى مغن فقيل لبعض الندماء: كيف ترى؟ فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 820 ويحسن الندمان في خلقه ... دجاجة يخنقها ثعلب واقترح على مغن فامتنع، فقال بعض الحاضرين: غن لهم صوتا فإنهم يقترحون عليك حينئذ بالسكوت. قال: كلّما قلت اقترح قا ... ل اقتراحي أن تكفّا وقيل لهارون: فلان إذا غنى غمض عينيه، فقال: أظنه يفعل ذلك استحياء لقبح غنائه. وقيل لآخر، فقال: نائحة تندب في مأتم. وقيل لآخر، فقال: نحمد الله فإنا ... قد سمعنا ما كرهنا وقيل لآخر، فقال: فأحسن بحالك أن لو خرست ... وأحسن بنا لو رزقنا الصّمم وقال ابن الرومي: وكأنّ جرذان المحلّة كلّها ... في حلقه يقرضن خبزا يابسا وله: وإن سكوتها عندي لبشرى ... وإن غناءها عندي لمقعى فقرّطها بعقرب شهرزور ... إذا غنت وطوّقها بأفعى «1» وقال جحظة: وانصرفنا لما تغنّت عطاشا ... والقناني كما دخلنا ملاء وقيل غنّاني فلان فعناني. وقال ابن الحجّاج: وعوّادة من جواري القيان ... سرار البطون عليها نحل إذا ما تغنّت بثاني الثقيل ... طرحنا عليها خفيف الرمل وقال جحظة، وقد دعاه صديق له كان يعده بجارية حاذقة فائقة، فلما حضره أخرج جارية قبيحة، فقال: قد دعانا فأرانا ... خنفساة خلف عود وتغنّت من قيام ... كالمغني من قعود وقال الجماز لأبي العيناء: كيف ترى غنائي؟ فقال: كما قال الله تعالى: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ «2» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 821 مغنّ موصوف بالشّؤم والقبح قال كشاجم: ومغن بارد النغ ... مة مختلّ اليدين ما رآه أحد في ... دار قوم مرّتين وقال آخر: إنّ سمعي في نعيم ... وعيوني في جحيم وقال أبو الفضل بن العميد: إذا غنّى لنا أمما ... حشوت مسامعي صمما وإن أبصرت طلعته ... كحّلت نواظري بعمى تأثير الغناء والصوت وإن لم يفهم قال إسحاق الموصلي. أمر الصوت عجيب، منه ما يسر سرورا يرقص، ومنه ما يبكي ومنه ما يكمد ومنه ما يزيل العقل حتى يغشى على صاحبه، وليس يعتري ذلك من قبل المعاني لأنهم في كثير من الأحوال لا يفهمون. وقد بكى ما سرجويه من قراءة أبي رضي الله عنه، فقيل له: كيف تبكي لكتاب لا تصدق به؟ فقال: أبكاني الشجا وقد تسكن النفوس إليه وذلك موجود في أكثر البهائم والدواب، إذا غنى المكاري صرّت آذانها. اختلاف الأصوات قال الموصلي: سألني المعتصم عن معرفة النغم، فقال بيّنها إليّ، فقلت: إن من الأشياء ما تحيط به المعرفة ولا تؤديه الصفة. وسألني عن شعرين متقاربين ففضلت أحدهما على الآخر، فقال من أين؟ فقلت: لو تفاوتا لأمكنني التبيين ولكن تقاربا، ففضل أحدهما على الآخر مما يشهد به الطبع ولا يعبّر عنه اللسان. (6) ومما جاء في آلات الملاهي العود أتى عبد الملك بعود، فقال للوليد بن مسعدة ما هذا؟ فقال: خشبة تشقق ثم ترفق ثم يعلق عليها أوتار ثم تنطق فتضرب الكرام رؤوسها بالحيطان سرورا به، وامرأته طالق إن كان في المجلس أحد إلا وهو يعلم ما أعلمه، وأنت أولهم يا أمير المؤمنين، فضحك. وقالت الفرس: نغمات العود من صرير باب الجنة، ولهذا سموه بربط معناه باب النجاة. قال كشاجم في أبيات له: خلخاله في نحره ولسانه ... في أذنه وجبينه من أسفل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 822 مزح يكف على الأكفّ ولفظه ... يعلو بتأليف الثقيل الأول فكأنّما شخص القريض ممثّل ... في العود أو سكنته روح الموصلّي رأى أعرابي عودا، فلما عاد إلى البادية نعته لأصحابه، فقال: رأيت شيئا محدودب الظهر أرسخ البطن أكلف الجلد أجوف أسقف أحنف، جبينه في إسته وعيناه في صدره وإمعاؤه من خارج بطنه، بها يتكلم ومنها يترجم، معروك الآذان ممشوق المعلق. كان أبو محصن الأعرابي عند أبي إسحاق وعنده من يضرب بالعود والطنبور، فقال: أيهما أحب إليك؟ قال: أبعدهما صوتا وأكثرهما جلبة وأحسنهما حلية، وأشار إلى الطنبور بأن صوته كطنين ذباب بروضة. الزّامر قال إسحاق: الزمر رفو الغناء. وقيل: الزمر يستر من حسن الغناء، كما يستر من قبحه. قال المتوكل لزنام الزامر : تأهب للخروج معي، فقال: الناي في كمّي والريح في فمي فأعزم إذا شئت. قال ابن المعتز يصف زامرة: كأنما تلثم طفلا لها ... أتت به من ولد الزنج وقال الناجم يذم زامرة: ناي قتول قاتل ... بالنتن منه الرهج يشبه عندي مخرجا ... مركبا في المخرج وقال الصنوبريّ: وكأنّما المزمار في أشداقها ... غرمول عير في حياء أتان «1» وترى أناملها على مزمارها ... كخنافس دبّت على ثعبان تخاصم رجلان عند ابن المدبر، وحلف أحدهما بالطلاق أن صاحبه أحمق ولا يبرح حتى يشهد القاضي بذلك، فذكر أن عنده زامرتين بلا مغنية، فقال القاضي: أشهد أنه أحمق. الرقّاص قال المصعب الهندي: عجبت من رجلين يتبعانه ... يعلوهما طورا وتعلوانه كأن أفعيين يلسعانه وقيل لجارية رقاصة: أفي يدك عمل؟ قالت: لا، إنما هو في رجلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 823 وجوب الاستماع وقال بعضهم: إذا حضر الغناء فليس إلا ... سكوت واستماع للمغنّي وقال أحمد بن علوية: حكم الغناء تسمع وندام ... ما للحديث مع الغناء نظام لو كان لي أمر قضيت قضية ... إن الحديث مع الغناء حرام غناء يمزّق له الثوب سئل إبراهيم الصوفي المارستاني عن تمزيق الثوب في السماع، فقال: إن موسى عليه السلام قرأ على بني إسرائيل فمزق واحد منهم قميصه، فقال الله تعالى لموسى: قل له مزق قلبك لا ثوبك. كان لبعض الظرفاء مغنيتان: محسنة إذا غنت خرق قميصه، ومسيئة إذا غنت قعد يخيطه. طرب بعض الكبار على غناء، فشقّ قميصه وقال لنديمه: بحياتي شق قميصك، فقال: إذا أبقى عريانا، فقال: أنا أخلفه غدا، قال فأشقه غدا، قال أبو مالك الأعرج: إذا غنّت قديما أو حديثا ... فما للجيب من فيك واقي أنواع مختلفة من الغناء اجتمع على شراب في بعض الحانات أعمى ومفلوج وأقطع، فقيل للأعمى غنّ فغنى: إنّي رأيت عشيّة النقر ... حورا نفين عزيمة الصّبر قيل: ويلك، كيف رأيت وأنت أعمى؟ وقيل للمفلوج غنّ،. فقال: إذا اشتد شوقي وهاج الألم ... عدوت على بابكم في الظّلم فقيل: مفلوج يعدو لا تكذب. وقيل للأقطع: هات غنّ، فقال: شبكت كفيّ على رأسي وقلت له ... يا راهب الدّير هل مرّت بك الإبل فقالوا: أنت أكذبنا وأجودنا غناء. غنى مغن صوتا، فقال له بعض الحاضرين: أين الصيحة؟ فقال: أخذتها لثالثك. كان أبو العينين يعشق جارية يقال لها مكنونة، فغنى صوتا فقالت له: ألقه عليّ، قال: بما اشتريته، قالت: بكم قال برأس مالي، ناكني فلان وعلمنيه، فقالت: إجعل الصرف على الإست صوتا آخر وتقدّم. ولام رجل آخر في مغنية، فقال: والله لو غنتك لما أدركنا ذكاتك. وقال المأمون: الطبل لهو غليظ. وهذا ما قال علوية القمي لابنه المخنث: قد تأذيت بصوت طبلك يا ابن الفاعلة، فقال: إن كنت تريد أن لا يكون لصناعتي صوت فسلّمني لمن يرفو الثوب، فالغناء لا يكون بلا صوت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 824 (7) وممّا جاء في آلات القمر أسماء القداح تسمى القداح الأزلام والأقلام، وهي عشرة. سبعة منها ذات خطوط قد نظم أساميها الصاحب في قوله: إن القداح أمرها عجيب ... الفذّ والتوأم والرقيب والحلس ثم النافس المصيب ... والمصفح المشهر العجيب ثم المعلى خطها الرغيب ... هاك فقد جاد بها الترتيب والمصفح يسمى المسبل، والرقيب يقال له الضريب، والأغفال التي لا خطوط لها المنيح والفسيح والوغد. قال ابن قتيبة: والمنيح له موضعان، أحدهما لا خط له والثاني له خط. قال: وعلى ذلك قول عمرو بن قمئة: بأيديهم مقرونة ومغالق ... يعود بأرزاق العيال منيحها وقال عروة بن الورد في أسمائها: أتت بالمعلّى عند أول سورة ... وبالمسبل الثاني وبالحلس والتوم وجاءت بفذّ والضّريب يليهما ... وبالنافس المغلوب في الرأس والقدم فراح بها غنم وتغرّم ما جنت ... وقد يغرم المرء الكريم إذا اجترم وأنت منيح باليدين متى تعد ... تعد صاغر الآمال نال ولا عزم وقال تميم بن مقبل في صفة القدح: خروج من العمى إذا صكّ صكّة ... بدا والعيون المستكنّة تلمح مفدى مؤدى باليدين ملعن ... خليع لجام فائز متمنح وقال طفيل: واصفر مسهوم الفؤاد كأنّه ... عداه الندى بالزعفران مطيّب والياسر الصائب بها، والبرم الذي لا يدخل معهم، وفي صفته: به علمان من عقب وضرس ويسمى ذلك مقرونة. وأما مثنى الأيادي، قيل: هو ما تفضل عنه، وقيل: هو أن تعود بعد خروج الفوز على الخط الأول. والربابة ما يجمع فيه القداح، وأفاض بالقداح ضرب بها، والرقيب من يحفظهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 825 الممدوح بضرب القداح قال عنترة: زيد يداه بالقدح إذا شنا ... هتّاك غايات النجوم ملوم «1» وقال آخر: هينون لينون أيسار ذوو يسر ... سواس مكرمة أبناء أنباء «2» وقال متمم بن نويرة في مرثية أخيه: ولا بر ما تهدى النساء لعرسه ... إذا القشع من حسن النساء تقعقا «3» يقال: فلان برم قرون، إذا لم يدخل في الميسر، ثم يأكل تمرتين تمرتين. قال المرقش: إذا أيسروا لم يورث اليسر بينهم ... فواحش يبقى ذكرها بالمصائف تحريم ضرب القداح قال الله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ «4» الآية وقال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ «5» . وقد أبيح القرعة وهي من جنس ذلك، قال تعالى: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ. وكذلك يونس عليه السلام حين جنحت بهم السفينة وبمن معهم ساهم القوم أيهم يلقى في البحر، فكان من المدحضين أي من المقمورين. وضع الشّطرنج قيل: وضعها فيلسوف لملك رام أن يرى الحرب وتدبيرها في خفض ودعة، فلما وضعه له أعجب الملك به، فقال له: إقترح ما شئت وسل كلما تمنيت، فقال: أولني لأوّل بيت من بيوته درهما، ثم أضعف في الثاني فالثالث إلى أن تنتهي إلى آخر البيوت، فاستقل الملك ذلك، وقال: رأيتك حكيما في وضعك ذلك واستحقرتك في مقترحك، فقال: إني يقنعني ما سألت إن وفيت لي، فقام رأس وزرائه وقال: أيها الملك إنه لا يفي ملكك ولا ملك بما سأل، فقال: كيف؟ فعلموا به حسبانا، فإذا هو عشرة آلاف ألف ألف ألف ألف ألف ألف وأربعمائة ألف وستة وأربعون ألف ألف ألف ألف ألف وسبعمائة ألف ألف ألف وستة آلاف ألف وخمسمائة ألف وخمسون ألفا وستمائة وستة عشر ألفا، فقال الملك: لا أدري أيهما أعجب الشطرنج أم الأمنية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 826 الرّخصة في الشّطرنج مرّ أمير المؤمنين رضي الله عنه بقوم يلعبون بالشطرنج، فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ولم يأمرهم أن يرفضوه. وقيل: إنما قال لهم ذلك لأنها كانت على صورة الأفراس والفيلة، وسأل الرشيد معن بن عيسى عنه، فقال: ما فقدناه من مجالس قريش التي كنا نهاب أن نمر بها. وكان الشعبي يلعب مستدير الحذقة. وسئل عنه الحسن رضي الله عنه، فقال: لا بأس به ما لم يكن قمارا فإنه احتيال. وسئل أبو العباس بن شريح عنه، فقال: إذا سلمت أيديهما من الطغيان ولسانهما من العدوان وصلواتهما من النسيان، فهو مباح بين الإخوان غير محرم على الخلان. كراهيّة الشّطرنج وذمّه قال أمير المؤمنين رضي الله عنه فيه: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، فسماها تماثيل. ومر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بقوم يلعبون، فقال: قد وضعت الحرب أوزارها ثم خلطه. وروي عن محمد بن الحنفية رضي الله عنه أنه كره اللعب. وكان المأمون يستهزىء بالشطرنج مع جودة لعبه به، ويقول: لا يفوق المرء فيه إلا باستفراغ الذهن كله له ولا يبلغ قدر ذلك وكان الفضل بن يحيى يجيد اللعب به، وكان يذّمه ويقول: لا يقمر اللاعب به إلا بكد الجوارح ولا يبلغ قدره ذلك. قال المتنبّي: وغير فؤادي للغواني رمية ... وغير بناني للرخاخ ركاب «1» وقال شاعر: لعب الشطرنج شوم ... فاجتنبها يا مشوم إنّما عدّت لقوم ... شأنهم شأن عظيم ملك يجبى إليه ... أو وزير أو نديم هبك فيها ألعب النا ... س فماذا يا حكيم وكان أهل المدينة إذا خطب إليهم من يلعب الشطرنج لم يزوّجوه، ويزعمون أنه إحدى الضرتين. وقيل: إنما وضع للعجم الذين لا علم لهم فإذا اجتمعوا تلاحظوا تلاحظ البقر، فجعلوا ألعبهم به مشغلة. وصف الشّطرنج قال شاعر: أرض مربّعة حمراء من أدم ... ما بين خلّين موصوفين بالكرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 827 تذكرا الحرب فاختارا لها شبها ... من غير أن عفيا فيها بسفك دم أنظر إلى فطن جاشت بكرهما ... في عسكرين بلا طبل ولا علم هذا يغير على هذا فيغلبه ... وذا يغير وعين الحزم لم تنم وقال السري الرفاء: وكتيبتا زنج وروم أذكيا ... حربا يظلّ بها الذكاء مناضلا في معرك قسم الزمان بقاعه ... بين الكماة المعلمين منازلا لم يسفحا فيه دما وكأنّما ... رشح الدّماء أعاليا وأسافلا وكان ذا صاح يسير مقوّما ... وكان ذا نشوان يخطر مائلا أعجب بها حربا تثير إذا التظت ... فضل الرجال ولا تثير قساطلا «1» الماهر بالشّطرنج والرّديء اللّعب ليس لإجادة اللعب بالشطرنج نهاية ولا غاية، ومن معجزاته أنه لا يكاد يتفق فيه دستان، ومن مجيديهم الصولي، ولبعضهم: ولربّما مهر السخيف بها ... وتراه يمضغ لفظه حمقا مرّ بعضهم بقوم يلعبون بالشطرنج وكان وسخا، فقال: ما أوسخ شطرنجهم، فقال بعضهم: اللعب أوسخ. النوادر في الشّطرنج قيل: النوادر في الشطرنج عدة للاعب كالحداء للاغب. وقال شاعر: نوادر الشطرنج في وقتها ... أحرّ من ملتهب الجمر كم من ضعيف اللعب كانت له ... عونا على مستحسن القمر وروي أن أبا مسلم كان يلعب بالشطرنج، فوقع له شاه مات، فتمثل بقول الشاعر: ذروني ذروني ما كففت فإنّني ... إذا ما تهيجوني تميد بكم أرضي وأنهض في ردّ الحديث إليكم ... كتائب سودا طال ما انتظرت نهضي كان المأمون عند قدومه من خراسان اشتهى الشطرنج، فاستحضر كبار أهله زيرب وجابر الكوفي وعبد الغفار الأنصاري، وكانوا يتوقرون بين يديه، فقال: إن الشطرنج لا يطيب مع الهيبة قولوا ما تقولون إذا خلوتم. النّرد قال بعض الحكماء: شبهت رقعة النرد بالأرض الممهدة لساكنها، ومنازل الرقعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 828 وهي أربعة وعشرون بساعات النهار والليل، وبيادقها وهي ثلاثون بعدد أيام الشهر، واختلاف ألوانها باختلاف بياض النهار وسواد الليل، ثم أقيمت المنازل على أربع مراتب كعدد الطبائع الأربع: الأرض والماء والهواء والنار، والفصول الأربع الشتاء والصيف والربيع والخريف، وجوانب الفص وهي ستة بالجهات الست فوق وأسفل ويمين ويسار وإمام وخلف، والفصان المحيطان بالجوانب الإثني عشر كشهور السنة، والشهور محيطة بالأيام إحاطة ما يخرج بالفصين وبالبيادق الثلاثين أو الأيام محيطة بالساعات إحاطة البيادق بالمنازل الأربعة، وعشرين ثم جعل نكت الفصين كلها إثنين وأربعين، ولست تجد شيئا من عدد جوانب الفص إلا إذا ضممت إليه عدد مقابله وجدته سبعة، وهو عدد الأيام السبعة وشبه النكت السبعة، التي يكون بعضها فوق الأرض وبعضها تحتها في كل حال وتقلبها بأفعال العباد وما يخرج بالقضاء الجاري عليهم، وشبه فعل اللاعب في اتباعه لما يخرج بفعل العباد في اتباع القضاء، وشبه إخراج اللاعبين بالمعاد وفلج المقامر بما حصل للمجتهد من الثواب، وكذا ما يلحق المقصر بتقصيره من الحسرة. وكان رؤبة في قوم يلعبون بالنرد، فأتى بالخوان، فقال: يا إخوتي جاء الخوان فارفعوا ... حتاتة كعابها تقعقع لم أدر ما ثلاثها وأربع سأل الزبيري أبا بكر بن فريعة في مجلس المهلبي عن النرد، فقال: ما أدري غير أني أرى لبدا مخططا وخشبا مخرطا وعظما منقطا وأيديا تضرب ميطا، وكل يطلب بصاحبه شططا. فضل الشّطرنج على النّرد قال بعض المتكلمين: الشطرنج معتزلي والنرد مجبر، وذلك أن اللاعب بالشطرنج موكول إلى اختياره ومتروك مع إيثاره، واللاعب بالنرد مجبر على ما يخرج به الفصان وقيل لرجل: كيف معرفة فلان بالشطرنج؟ فقال: ما أحسن ما يلعب، قيل فكيف يلعب بالنرد؟ فقال: ما أحسن ما يخرج له الفصان، فلم ينسب الفعل في النرد إليه كما نسبه إليه في الشطرنج. الملاعبة بهما على القمر قال يزيد بن أبي خالد: دخلت على ابن أبي أوفى وهو يلاعب امرأته بالفصّين وقال إسحاق: قال لي محمد الأمين: كيف لعبك بالشطرنج؟ فقلت: فوق المنصفين ودون البالغين، ليس من اللعاب أحد يلقى لي فرزانا لا أنتصف منه، فقال: لاعبني، فلاعبته بخلعة فقمرني، فقمت أخلع ثوبي، فقال: ما تصنع فقلت أنزعه لتلبس، فقال: ألبس خلعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 829 مملوءة قملا، فقلت: دعني من ذا. تلبس أو تفادي، فقال بماذا؟ قلت: بثيابك. فقال: ما رأيت قامرا مقمورا، فنزع ثوبه وأولانيه. وكان أبو أيوب يلاعب مدنيا بالشطرنج فتأخّر عنه المدني يوما، فاستدعاه فكتب إليه المدني: لا تدعونّي لشطرنج فيشغلني ... دعني فإني عن الشطرنج مشغول أنت امرؤ تدمن من الشطرنج من سمن ... وإنني يا أبا أيوب مهزول فبعث إليه بعشرة آلاف درهم. تمّ بحمد الله وعونه الجزء الأول من كتاب: مجالس الأدباء ومحاورات الشّعراء والبلغاء للراغب الأصبهاني ويليه إن شاء الله الجزء الثاني وأوّله: الحدّ الثاني عشر في «الإخوانيات» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 830 الجزء الثانى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحدّ الثاني عشر في الإخوانيّات (1) حدود الأخوّة سئل بعضهم عن الأخوة فقال: هي الموافقة في التشاكل. وقال إبراهيم الموصلي: قلت لاسباط الشيباني: صف لي الأخوّة وأوجز فقال: أغصان تغرس في القلوب فتثمر على قدر العقول. قيل لبعض الحكماء: ما الأصدقاء؟ قال: نفس واحدة في أجساد متفرقة. * الترغيب في اقتناء الإخوان قال أمير المؤمنين رضي الله عنه: عليكم باقتناء الإخوان فهم عدّة في الدين والدنيا. ألا ترى إلى قول الله عزّ وجل في حكاية عن أهل النار في النار: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ «1» . قيل أغبط الناس من لا يزال رحله من صالح الإخوان موطأ، وقيل: المرء كثير بأخيه. وقيل لأبقراط «2» : ما أفضل ما يقتني الإنسان؟ فقال: الصديق المخلص، وقال عمرو بن إبراهيم: إن السرور إذا بلغ ... ت بوصفه كنه النّهايه «3» خلّ تؤانسه ودو ... د والرّجوع إلى الكفايه قال شاعر: أخاك أخاك إنّ من لا أخا له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 وقد أحسن الذي قال: إن الأخ الصالح خير لك من نفسك لأن النفس أمارة بالسوء والأخ لا يأمرك إلا بالخير. * الحثّ على الإكثار منهم قال محمود الوراق: تكثّر من الإخوان ما استطعت إنهم ... عماد إذا استنجدتهم وظهور «1» فما بكثير ألف خلّ وصاحب ... وإنّ عدوّا واحدا لكثير * تفضيل الصديق على النسيب قيل لعبد الله ابن المقفع «2» : أصديقك أحب إليك أم نسيبك؟ فقال: إنما أحب النسيب إذا كان صديقا. وقال: الأخ نسيب الجسم والصديق نسيب الروح. قال أبو فراس: نسيبك من ناسبت بالودّ قلبه ... وجارك من صافيته لا المصاقب «3» وقال آخر: أخو ثقة يسير بحسن حال ... وإن لم تدنه منّي قرابه أحبّ إليّ من ألفي قريب ... تبيت صدورهم لي مسترابه «4» قال بعضهم: الصديق الموافق خير من الشقيق المنافق. قال بشّار «5» : يخونك ذو القربى مرارا وربّما ... وفى لك عند الجهل من لا تقاربه «6» وفي المثل: ربّ أخ لك لم تلده أمّك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 * إجراء الصديق مجرى الشقيق قال أبو تمّام «1» : وإذا رأيت صديقه وشقيقه ... لم تدر أيّهما ذوو الأرحام وقال رجل من خثعم «2» : ذو الود منّي وذو القربى بمنزلة ... وإخوتي أسوة عندي وإخواني «3» * مدح مصاحبة الأخيار وتجنب الأشرار قيل: صحبة الأخيار تورث الخير وصحبة الأشرار تورث الشرّ، كالريح إذا مرّت على النتن حملت نتنا وإذا مرّت على الطّيب حملت طيبا. وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: مثل الجليس الصالح كمثل الذي إن لا يجدك من عطره يعلقك من ريحه. ومثل الجليس السوء كمثل التّبن إن لم يحرقك بشرره يؤذك بدخانه. * الحثّ على مصاحبة من ينتفع به قيل: لا تصاحب إلا رجلا ترجو نواله أو تخاف يده أو تستفيد من علمه أو ترجو بركة دعائه. وقال أبو جعفر بن محمد: عليك بصحبة من إن صحبته زانك، وإن خدمته صانك، وإن نزلت حاجة ما بك أعانك، وإن سألته أعطاك، وإن تركته بداك، إن رأى حسنة أظهرها أو سيئة سترها. وقال بعض من سمع ذلك لابن عيينة: ما أراه إلا أمره أن لا يصحب أحدا، فقال: بلى إنه أدرك الناس وهذه الأخلاق فيهم، فأوصى بقدر ما عرف. * كون الإنسان مصاحبا شكله «4» قال النبي صلّى الله عليه وسلم: المرء على دين خليله فلينظر امرؤ من يخالل. وقال إياس: قدمنا بلدكم فعرفنا خياركم من شراركم في يومين. قيل له: كيف؟ قال: كان معنا خيار وشرار فلحق خيارنا بخياركم، وشرارنا بشراركم، فألّف كل شكله. قال شاعر: وكلّ امرئ يصبو إلى من يجانس وقال آخر: فإنّما الناس أشكال وألّاف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 وقيل: اغلب المحبة ما كان عن تشاكل. بالمشاكلة دوام المواصلة. قال شاعر: ولا يصحب الإنسان إلا نظيره ... وإن لم يكونا من قبيل ولا بلد ومما يؤكد ذلك: وإنّ البزاة البيض لا تألف القطا «1» وقال آخر: لكلّ امرئ شكل من الناس مثله ... وأكثرهم شكلا أقلّهم عملا وقيل: الشدّ بالقد أهون من مصاحبة الضدّ. * اعتبار المرء بإخوانه وأنّ من يصاحب صاحبا ينسب إليه قال شاعر: ومن يصاحب صاحبا ... ينسب إلى مستصحبه وربما عرّ صحي ... حا جرب بجربه وأخذ جماعة من اللصوص فقال أحدهم: أنا كنت مغنيا لهم فقيل له: غنّ، فغنّى: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدى «2» قيل له: صدقت وأمر بقتله. قال شاعر: يقاس المرء بالمر ... ء إذا ما هو ماشاه وللنّاس على النّا ... س مقاييس وأشباه وقيل: انظر من تجانس، فقلّ حصاة طرحت مع حصاة إلا أشبهتها. قال مسكويه: يقولون لي إن الرئيس محمدا ... يؤول إلى رأي كريم المناسب «3» فقلت دعوني قد عرفت اختياره ... بطلعة منصور وخطّ ابن كاتب * الحثّ على مصاحبة العقلاء قيل: جالس العقلاء أعداء كانوا أم أصدقاء، فالعقل يقع على العقل. وقيل: العاقل بخشونة العيش مع العقلاء أشبه منه بلين العيش مع الجهّال، وقيل: آخ الكريم واسترسل إليه وعليك أن تصحب العاقل وإن لم يكن كريما لتنتفع بعقله، واهرب كل الهرب من اللئيم الأحمق. وقيل: من صبر مع الأحمق فهو مثله، وقد مضى في فضل العقل باب مثل هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 * صنوف الإخوان قال لقمان: الإخوان ثلاثة: مخالب ومحاسب ومراغب، فالمخالب الذي ينال من معروفك ولا يكافئك، والمحاسب الذي ينيلك بقدر ما يصيب منك، والمراغب الذي يرغب في مواصلتك بغير طمع. وقال المأمون: الإخوان ثلاثة: أخ كالغذاء لا يحتاج إليه كل وقت، وأخ كالدواء يحتاج إليه أحيانا، وأخ كالداء لا يحتاج إليه أبدا. * اختبار الصديق عند الغضب قيل: إذا أردت مصافاة رجل فأغضبه، فإن ملك نفسه فصاحبه، وإلا فلا تصاحبه. قال الشاعر: لا تحمدنّ امرأ يرضيك ظاهره ... وأخبر مودّته في العتب والغضب «1» وقيل: كان بين حاتم طيئ وبين أوس بن حارثة ألطف ما كان بين اثنين. فقال النعمان لجلسائه: لأفسدّن ما بينهما فدخل على أوس، فقال: إن حاتما يزعم أنه أفضل منك، فقال: أبيت اللعن صدق ولو كنت أنا وأهلي وولدي لحاتم لوهبنا في يوم واحد. وخرج فدخل على حاتم، فقال له: مثل ذلك، فقال: صدق وأين أقع من أوس وله عشرة ذكور دونهم أفضل منّي؟ فقال النعمان: ما رأيت أفضل منكما. اعتبار من تريد مصادقته بصديقه قبلك قيل: إذا أردت أن تعرف صاحبا كيف يكون لك، فانظر كيف كان من قبلك، فإن أحمدته فاستخلصه لك وإن ذممته فتنكّبه. * الأعتبار بالعين والاعتماد على ما في القلب قيل: اعتبر ما في قلب أخيك بعينه، فالعين عنوان القلب. وقيل: شاهد الحب والبغض اللحظ، فاستنطق العيون تعلم المكنون. قال شاعر: تقلّب أحوال الفتى في أموره ... تبيّن عمّا تقتضيه ضمائره وفي لحظ عينيه وفي حركاته ... دليل على ما تحتويه سرائره قال إسحاق: ستور الضّمائر مهتوكة ... إذا ما تلاحظت الأعين «2» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 وقال ابن بسام «1» : ألا إنّ عين المرء عنوان قلبه ... تخبّر عن أسراره شاء أم أبى وقال كشاجم: ويأبى الذي في القلب ألا تبيّنا ... وكلّ إناء بالذي فيه يرشح «2» * متابعة الصديق في رشده دون غيّه استشهد ابن الفرات أيام وزارته علي بن عيسى بغير حقّ، فلم ينصره، فلّما رجع كتب إليه لا تلمني على نكوصي في نصرتك بشهادة زور، فإنه لا بقاء لاتفاق على نفاق ولا وفاء لذي مين واختلاق، وأحرى بمن تعدّى الحق في مسرتك إذا رضي أن يتحرى الباطل في مساءتك إذا غضب، وقد تقدم هذا الخبر. قال شاعر: ألم تعلمي أنّي إذا الإلف قادني ... إلى الجور لا أنقاد والإلف جائر ودعا أعرابي فقال: اللهمّ أني أعوذ بك ممّن لا يلتمس خالص مودّتي إلا بالتأتّي لمواقع شهوتي. * متابعته في غيّه ورشده قال عروة «3» : وخلّ كنت عين الرشد منه ... إذا نظرت، ومستمعا سميعا أطاف بغية فنهيت عنها ... وقلت له أرى أمرا فظيعا أردت رشاده جهدي فلمّا ... أبى وعصى عصيناه جميعا قال بشّار: وما كنت إلا كالزّمان فإن صحا ... صحوت وإن ماق الزمان أموق «4» قال أحمد بن صالح: أنا كالمرآة ألقى كلّ وجه بمثاله وقال رجل لصديقه: ما رأيك في كذا؟ فقال: أنا من غزيّة. يريد أني تابع لك إشارة إلى قول دريد: وهل أنا إلا من غزيّة إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد «5» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 * الحثّ على نصرة الصديق على جميع الأحوال قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: انصر أخاك ظالما أو مظلوما. وقيل: حافظ على الصديق ولو على الحريق. وقيل: أفضل الكرم أن يكون الرجل عند النائبة أكرم وفاء وأمحض صفاء ولتكن معاونتك أخاك بمهجتك عند البلاء، أكثر منها عند الرخاء. * مماراة «1» الصّديق والحثّ على تركها قيل: مع الاختلاف طمع في الائتلاف ورب مخالفة دعت إلى محالفة ومعاسرة «2» تحمل على المعاشرة. وقيل بإحياء الملاطفة تستمال القلوب العارفة. وقيل: إستدم مودّة أخيك بترك الخلاف عليه، ما لم تكن عليك منقصة أو غضاضة. وقال يموت بن مزروع: سمعت أبي يقول قرأت خمسين ألف بيت وما وقع لي مثل قوله: وما أنا بالشيء الذي ليس نافعي ... ويغضب منه صاحبي بقؤول * الأمر بالإغضاء على عيب الصديق قيل إن جعفرا الصادق كان يقول: لا تفتّش على عيب الصديق، فتبقى بلا صديق. وأحسن ما قيل في هذا المعنى قول بشّار: إذا كنت في كلّ الأمور معاتبا ... صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه فعش واحدا أو صل أخاك فإنّه ... مقارف ذنب مرة ومجانبه «3» إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ... ظمئت وأيّ النّاس تصفو مشاربه؟ «4» وقال آخر: ومن لا يغمض عينه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب ومن يتتبع جاهدا كلّ عثرة ... يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب وقيل: لا يجد رفيقا من لم يزدرد ريقا. وقيل: من عاتب في كل وقت أخاه فجدير أن يملّه ويقلاه «5» . وعلى عكس ذلك قال الشافعي- رحمه الله-: ليس بأخيك من احتجت إلى مداراته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 * محافظة من يوفى بمحاسنه على مقابحه قال لقمان: إذا أردت مصاحبة رجل فانظر، فإن كانت محاسنه أكثر فارتبطه، وقال ابن المقفع: إنّ في الناس طبائع أربعا فارتبط من رجحت محاسنه. وقيل لبزرجمهر: هل صديق لا عيب فيه؟ فقال: الذي لا عيب فيه يجب أن لا يموت. قال شاعر: وحيث اختبرت النّاس حقّ اختبارهم ... رجعت إلى وصلي وأنت ذميم ونحوه: وترجعني إليك وإن نأت بي ... ديار عنك، تجربة الرجال * الإغضاء على إساءة الصديق المحسن قال ابن المقفع، وقد بلغه عن رجل شيء يكرهه: ينبغي للرجل أن يكذّب سوء الظن بصديقه ليكون ذا ودّ صحيح وقلب مستريح. قال منصور التيمي: إذا ما الصّديق أسا مرّة ... وقد كان من قبلها مجملا «1» حفظت المقدّم من فعله ... ولم يفسد الآخر الأولا وقيل: احتمل لأخيك ثلاثة: الغضب والدالة والهفوة. وقيل من صحّت مودته احتملت جفوته. * حمد المعاتبة بين الإخوان وذمّها قيل: ترك المعاتبة دليل على قلّة الأكتراث بالصديق. المعاتبة تزيل الموجدة. أفضل المحبة ما كان بعد المعتبة. قال شاعر: ويبقى الودّ ما بقي العتاب ... العتاب حدائق الأحباب وقال ابن المعتز «2» : نعاتبكم يا أمّ عمرو لحبّكم ... ألا إنّما المقلي من لا يعاتب «3» ولآخر: علامة كلّ اثنين بينهما هوىّ ... عتابهما في كلّ حقّ وباطل وقيل: العتاب ضربان: عتاب يحيي المودّة، وهو ما كان في نفس الودّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 وعتاب يميتها وهو ما كان في ذنب وموجدة «1» . التقى أعرابيان فتعاتبا وإلى جنبيهما شيخ، فقال: انعما عيشا، إن العتاب يبعث التجنّي والتجني ذرء «2» المخاصمة والمخاصمة أخت العداوة فانتهيا عمّا ثمرته العداوة. وقال العبّاس: إن بعض العتاب يدعو إلى البغض ويؤذي به المحبّ الحبيبا وقيل: التجنّي وافد القطيعة. قال شاعر: ودع العتاب فربّ أمر هاج أوّله العتاب وقال الآخر: وبدء الصّرم من ملل العتاب «3» وقيل: العتاب بدء العقاب. * النهي عن تضييع حقوق الإخوان قيل: أقلّ الناس عقلا من فرّط في اكتساب الإخوان. وأقلّ منه عقلا من ظفر بأخي صدق فضيّعه. وقال عمر: إذا رزقك الله ودّا من رجل فتمسّك به. وقيل: لا يقطع الرجل أخاه إلا لواحد من اثنين لا خير فيهما: لملاله أو لسوء اختياره للصداقة. * الحثّ على المصافاة وترك المداجاة «4» قال سفيان لرجل: لا تكوننّ صديق عين وعدوّ غيب «5» . وسئل خالد بن صفوان عمّا يجب للإخوان، قال: تجنّب طريق النفاق ولا تقصر عن الاستحقاق قال إبراهيم بن عباس: خلّ النفاق لأهله ... وعليك فانتهج الطريقا واذهب بنفسك أن ترى ... إلّا عدوا أو صديقا وفي مدح من يحفظ أخاه بظهر الغيب، قال بعضهم: موكل النّفس بظهر المغيب ... أقصى رفيقيه له كالقريب قال المثقّب العبدي: فإمّا أن تكون أخي بصدق ... فأعرف منك غثّي من سميني وإلّا فاجتنبني واتخذني ... عدوّا أتّقيك وتتّقيني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 وقال آخر: ولا تك ممّن إن نأى عنه صاحب ... فغاب عن العينين غاب عن القلب * الحثّ على مداجاة العدوّ قيل: إذا صافاك عدوّك رياء فتلقّى مصافاته بأوكد مودة، فإنه إذا ألف ذلك اعتاده وخلصت مودّته. وقال ابن السماك: لن لمن يجفو فقلّ من يصفو. وقال ابن الحنفية: ليس بحكيم من لم يعاشر من لم يجد عن معاشرته بدّا حتى يجعل له فرجا ومخرجا. قال التنوخي: ألقى العدوّ بوجه لا قطوب به ... يكاد يقطر من ماء البشاشات «1» فأحزم الناس من يلقى أعاديه ... في جسم حقد وثوب من موّدات * وصف أخوّة صادقة مدح أعرابي صديقا فقال: مجالسته غنيمة وصحبته سليمة ومؤاخاته كريمة، هو كالمسك إن بعته نفق وإن تركته عبق «2» . وعاتب رجل خليله فقال: لو علمت أن يومي أهنأ من يومك لاخترت أن أوثرك به. قال شاعر: وذي لطف لو كان يعلم أنّه ... شفائي دم من جوفه لسقاني وقال آخر: قد تخللت مسلك الرّوح منّي ... وبذا سمّي الخليل خليلا وقيل: لم يسمع بأطيب وأعذب من قول البحتري «3» : وجدت نفسك من نفسي بمنزلة ... هي المصافاة بين الماء والرّاح «4» وقال يصف خليلا: أخ وأب لي ثم أمّ شفيقة ... تفرّق في الأحباب ما هو جامعه سلوت به عن كلّ من كان قبله ... وأذهلني عن كائن هو تابعه ولآخر: ونحن كروح بين جسمين قسّما ... فجسماهما جسمان والروح واحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 * متآخيان اختلف مذهباهما قال الجاحظ «1» : لم ير أعجب حالا من الكميت والطرمّاح، فإن الكميت كان عدنانيا شيعيا يتعصب لأهل الكوفة، والطرماح كان قحطانيا خارجيا يتعصب لأهل الشام، وكان بينهما من المخالطة ما لم يكن بين اثنين قط ولم تجر بينهما جفوة ولا قطيعة ولا اعتراض. وقيل لهما: كيف اتفقتما مع الخلاف بينكما؟ فقالا: اتفقنا على بغض العامة. ووصفهما جعفر المصري فقال: فنحن من ودّ وحبّ كما ... كان كميت والطّرمّاح وكان عبد الله الأباضي وهشام بن الحكم شريكين في البزّ وبينهما من الخلاف ما لم يكن بين اثنين، كان الأباضي يزعم أن عليا لم يزل مستسّرا بالكفر حتى أظهره يوم التحكيم وهشام يثبت الإمامة لعلي رضي الله عنه. قال هشام: ما خالفني إلا مرة: اشترينا جارية فقلت: أجعلها لي، فقال: أنت عندي كافر وهذا فرج، ولا أحبّ أن أبيحه لك. قال العباس بن الأحنف وهو مما يتمثّل به ههنا: زاوج حيتانها الضّباب بها ... فهذه كنّة وذا ختن «2» * اصطحاب نذلين في المثل: وافق شنّ طبقة. وافقه فاعتنقه. قال شاعر: كأنس الخنافيس بالعقرب ولأبي الحسن: كلاكما بالمجد مستهتر ... وبابتناء المجد مفتون وفرّق ما بينكما واحد ... أنت رقيع وهو مأفون «3» وأنت لوطيّ على ظنّه ... وذاك بالإجماع مأبون «4» * استبقاء الإخوان بالإفضاء «5» عليهم قيل: إذا سرّك أن يثبت لك الصديق، فليكن لك عليه الفضل. قال شاعر: إذا أنت لم تفضل على ذي مودّة ... وكنت وإيّاه بمنزلة سوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 فلاتك ذا عتب عليه وإنّما ... يعاقب بالذّنب المثيب على الرّضا * الحثّ على مشاركة الصديق في سرّائه دون ضرّائه قالت امرأة يحيى بن طلحة له: أما ترى أصحابك إذا أيسرت لزموك وإذا أعسرت تركوك؟ فقال: هذا من كرمهم يأتوننا في حال القوة منّا على الإحسان إليهم ويتركوننا في الضعف عنهم: يعرف الأبعد إن أثرى ولا ... يعرف الأقرب إن يفتقر ولآخر: أبو مالك قاصر فقره ... على نفسه ومشيع غناه وقيل: فلان يتحسى المرّ ويسقي إخوانه العذب. * الحثّ على مشاركة الصديق في ذات اليد رأى بعض الحكماء رجلين لا يفترقان فسأل عنهما فقيل: هما صديقان. قال: ما بال أحدهما غني والآخر فقير؟ وقيل: لا خير في صحبة من لا يرى لك مثل ما يرى لنفسه. وقال محمد بن علي: أيدخل أحدكم يده في كمّ أخيه فيأخذ حاجته؟ قالوا: لا. قال: فلستم إذا بإخوان. * الحثّ على أن تشارك في السرّاء من يشاركك في الضرّاء قال أكثم بن صيفي: حقّ أن تشارك في النعم من يشاركك في المكاره. قال أبو تمّام: إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن «1» وقال جحظة البرمكي: قل للوزير أدام الله دولته ... أذكر منادمتي والخبز خشكار «2» إذا ليس بالباب برذون لنوبتكم ... ولا غلام ولا بالباب طيّار «3» وقال آخر: شركناك في مرّ الزّمان فكن لنا ... إذا الحلو منه درّ غير شريك * ذمّ من أعرض عنك في حال يساره صبغت أميّة في الدماء رماحنا ... وطوت أميّة دوننا دنياها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 وقال آخر: رأيتك لما نلت مالا وعضبا ... زمان نرى في حدّ أنيابه شغبا جعلت لنا ذنبا لتمنع نائلا ... فأمسك ولا تجعل غناك لنا ذنبا قال محمود: وكنت أخي أيام عودك يابس ... فلمّا اكتسى واخضرّ صرت مع الدّهر ولآخر: ابتاع ودّي وهو ذو عسرة ... حتّى إذا نال الغنى باعه وكتب المعروف بالزغل إلى بعض السلاطين: رآني بعين النّقص أن صار ذا غنى ... وأغفل قبل اليوم نقص يديه وما نال إلا حظّه غير أنّه ... توهّم أن الرزق صار إليه فكله إلى مرّ الليالي وصرفها ... ستأتي على ما عنده وعليه وقال آخر: صديقك من يرعاك عند شديدة ... فكلّ تراه في الرّخاء مراعيا وقال آخر: فلا يغرّنك إخوان تعدّهم ... أنت العدوّ لمن كلّفته حاجه * ذمّ من تكبّر على أصدقائه لغناه وسلطانه قال صالح بن عبد القدوس «1» : تاه على إخوانه كلّهم ... فصار لا يطرف من كبره أعاده الله إلى حاله ... فإنّه يصلح في فقره قال الخوارزمي «2» : وصلتك بالسّلطان حتّى إذا اعتلى ... مكانك واستمكنت لم تملك الحقدا كمقتدح نارا بزند لحاجة ... فلما تلظّت ناره أحرق الزّندا * تغيّر الإخوان في حال العلاء قال زياد: إذا كان لك صديق فولى ولاية وبقى لك واحد من عشرة، فليس بصديق سوء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 وقال بعضهم: إذا كان لك أخ صافي الودّ فلا تتمنّى له منزلة، ففي ذلك تغيّر له عن الوداد. قال شاعر: وكلّ إمارة إلا قليلا ... مغيّرة الصديق عن الصديق وقال آخر: إذا ما أردت وداد امرئ ... فلا تدعونّ له بارتقاء * نهي من بلغ صديقه منزلة من التدلّل عليه قال منصور: إذا رأيت امرأ في حال عسرته ... صافي المودّة ما في ودّه وغل «1» فلا تمنّ له حالا يسّر بها ... فإنّه بانتقال الدهر ينتقل قيل: لا تنظر إلى صديقك إذا بلغ منزلة بعينك الذي نظرت إليه بها قبل، وإذا جعلك أبا فاتخذه ربّا. وقيل: ذو الحرمة ملوم على الإفراط في الدالة كما أن المحترم له ملوم على تناسي المودّة والحرمة. وقال أبو عباد يوما لأبي بكر المقري: إيّاك والدالّة في غير مكانها فنحن بالليل إخوان وبالنهار ذوو سلطان. فرط الادلال يدعو إلى الملال. * مدح من لم يتغيّر لمنزلة نالها فتى زاده السلطان في الحمد رغبة ... إذا غيّر السلطان كلّ خليل وقال الموسوي: وغيري إذا ما طار خلّف صحبه ... دوين المعالي واقعين وحلّقا ولما بشّر هشام بالخلافة سجد من حوله شكرا لذلك، غير الأبرش الكلبي فقال له هشام: ما منعك أن تسجد معي؟ قال: إني معك ليلا ونهارا وغدا ترقى إلى السماء فتنكرني. قال: بل أصعد بك، فقال: أما الآن فإني أسجد عشرين سجدة. * مدح من نزّه إخوانه عن استخدامهم في سلطانه كان هشام يعتمّ فقام إليه الأبرش ليسوّي عمامته، فقال: مه «2» فإنّا لا نتخذ الإخوان خولا «3» . وقام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بنفسه فأصلح سراجه، فقال واحد من جلسائه: ألا أمرتني، فكنت أكفيك. قال: ليس من المروءة أن يستخدم الرجل جليسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 الحثّ على خدمة الإخوان ومدح ذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلم: سيد القوم خادمهم. وفي المثل: إذا عزّ أخوك فهن. قال ابن المعتمر: إذا أنت رافقت الرجال فكن فتى ... كأنّك مملوك لكلّ رفيق وكن مثل طعم الماء غضّا وباردا ... على الكبد الحرّى لكلّ صديق وقال آخر: كأنّه عبد لإخوانه ... وليس فيه خلق العبد ونحوه: وعبد للصحابة غير عبد * النّهي عن ذلك قال بعضهم: إنّ لكل قوم كلبا فلا تكن كلب إخوانك. قال عبد الله بن معاوية: لا تهيننّ للصديق مكرمة ... نفسك، حتى تعدّ من خوله يحمل أثقاله عليك كما ... يحمل أثقاله على جمله * احتمال أذى الصديق ما لم يكن فيه هوان قال صالح: أرضى عن المرء يصفيني مودّته ... وليس شيء من البغضاء يرضيني «1» «2» وقال آخر: سأصبر عن رفيقي إن جفاني ... على كلّ الأذى إلا الهوان قال جحظة: تذلّل لمن إن تذلّلت له ... يرى ذاك للفضل لا للبله وجانب صداقة من لا يزال ... على الأصدقاء يرى الفضل له * كون الناس أصدقاء ذي المال قيل لبعض الفضلاء: كم لك من صديق؟ قال: لا أعلم لأن الدنيا مقبلة عليّ والأموال موجودة لديّ، وإنما أعرف ذلك لو ولّت الدنيا. ألم تسمع إلى قول طريح: النّاس أعداء لكل مدقع ... صفر اليدين وإخوة للمكثر «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 ولما نكب علي بن عيسى لم يطر بناحيته أحد، فلما ردّت إليه الوزارة رأى الناس حوله، فأنشد: ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها ... فأينّما انقلبت يوما به انقلبوا وقال عبد الملك لأصحابه: أيّكم يصف لي عامّة الناس؟ فقال الوليد ابنة: إخوان طمع وأعداء نعم. وقيل: إذا احتاج إليك عدوك أحبّ بقاءك، وإذا استغنى عنك وليّك هان عليه موتك. الإخوان عند الجفان كثير وعند الحقائق قليل. * ذمّ المودّة التي يجلبها الطمع كلّ مودة عقدها الطمع حلّها اليأس. وقيل: إياك ومن مودّته لك لحاجة. قال إبراهيم بن العباس: وكنت أخي كالدّهر حتى إذا نبا ... نبوت فلّما عاد عدت مع الدّهر «1» فلا يوم إقبالي عددتك طائلا ... ولا يوم إدباري عددتك من أمري * حمد الغيرة على الإخوان سأل الرشيد رجلا عن بني أمية فقال: كانوا يتغايرون على الإخوان كتغايرهم على القيان «2» . وقيل: لتكن غيرتك على صديقك كغيرتك على صديقتك. وقال شاعر: وكن عالما أني أغار على أخي ... وخلّي كما أنّي أغار على عرسي «3» ووفّر عليّ الحظّ منك فإنّني ... خصصتك بالحظّ الموفّر من نفسي * ذمّ من يصاحب من أصدقائك أعداءك في كتاب الهند: من علامة الصديق أن يكون لصديقه صدوقا ولعدوه عدوا. قال شاعر: تؤاخي عدوّي ثم تزعم أنّني ... صديقك إنّ الرأي منك لعازب وقيل: ليس من المروءة أن تحبّ ما يبغضه حبيبك. وقيل: لا يحبّك من يحبّ عدوّك. وقال أيوب بن جعفر للمأمون: أنا أودّك مودّة حرة وأبغض أعداءك بغضة مرّة، فقال: إنك تقول فتحسن وتحضر فتزين وتغيب فتؤمن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 قال السريّ: وليس يكون المرء سلم صديقه ... إذا لم يكن حرب العدوّ المخالف * حمد من يصاحب منهم أعداءك قال ابن المقفع: إذا رأيت صديقك مع عدوّك فلا يوحشنّك ذلك، فإنما هو أحد رجلين إذا كان من إخوان الثقة فانفع مواطنه قربه من عدوّك شرّ يلفّه وعورة يسترها وغائبة يطلع عليها، وإن كان غير ثقة فهو أولى «1» به فهبه له. * مدح رفض الحشمة بين الأصدقاء قال علي رضي الله عنه: شرّ الإخوان من يحتشم منه ويتكلّف له. قال العرجيّ الصوفي: إذا صحّ الود سقطت شروط الأدب. وقال الحسن بن وهب: إعلم أن المودة لا تتم ما دامت الحشمة عليها مسلّطة. وقال بعضهم: أسقط عن نفسي نصف همّ الدنيا بعشرة من لا أحتشمه، وقال الجنيد رضي الله عنه لا تصحب من تحتاج أن تكتمه ما يعرف الله منك. * ذمّ فرط الانبساط قيل: صن الاسترسال منك حتى تجد له مستحقا، واجعل أنسك آخر ما تبذل من ودّك. وقال جعفر بن محمد: إيّاك وسقطة الاسترسال فإنها لا تستقال. في كتاب كليلة ودمنة: بعض المقاربة حزم وكل المقارنة عجز، كالخشبة المنصوبة في الشمس تمال فيزيد ظلّها وتفرط في الإمالة فيرتد ظلّها. وقال أكثم: الانقباض «2» عن الناس مكسبة للعداوة والانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء، أخذه الحارث. فقال: إذا ما عممت النّاس بالأنس لم تزل ... لصاحب سوء مستفيدا أو كاسبا فإن تقصهم أرموك عن ظهر بغضة ... فكن خلطا إن شئت أو كن مجانبا «3» ولا تنتبذ عنهم ولا تدن منهم ... ولكنّ أمرا بين ذاك مقاربا «4» وقال: إذا أقبل عليك مقبل بودّه فسرّك أن لا يدبر عنك، فلا تكثر الإقبال عليه، فالإنسان من شأنه التباعد ممن قرب منه، والدنوّ ممّن يتباعد منه. مباسطة الكرام والانقباض عن اللئام وما لي وجه في اللئام ولا يد ... ولكنّ وجهي في الكرام عريض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 أهشّ إذا لاقيتهم وكأنّني ... إذا أنا لاقيت اللئام مريض وقال ابن كناسة: فيّ انقباض وحشمة فإذا ... أبصرت أهل الوقار والكرم أرسلت نفسي على سجيّتها ... وقلت ما قلت غير محتشم النهي عن فرط «1» المودّة والعداوة قيل: من أحببت فلا تأمنه ومن أبغضت فلا تهجره. وقيل خالط الناس وزايلهم وقال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: لا يكن حبّك كلفا ولا بغضك تلفا. قال زياد بن زيد: وإن امرأ قد جرّب الدهر لم يخن ... تقلّب عصريه لغير لبيب فلا تيأسنّ الدهر من حبّ كاشح ... ولا تأمننّ الدهر صرم حبيب «2» وقال آخر: فهونك في حبّ وبغض فربّما ... بدا جانب من صاحب بعد جانب ذمّ الاستكثار من الأصدقاء قيل: لتكن الإخوان عندك كالنار قليلها متاع وكثيرها بوار «3» . وقال الفضيل: من سخافة عقل المرء كثرة معارفه. وقال حفص بن حميد: من لم ينقص كل يوم صديقا لا يفلح «4» أبدا: عدوّك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرنّ من الصّحاب «5» فإنّ الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب إعواز صديق صادق قال الفضيل لسفيان رحمهما الله: دلّني على صديق أركن إليه إذا غبت وآمن معه إذا حضرت، فقال تلك ضالة لا توجد. وقيل لرجل: من أبعد الناس سفرا؟ فقال: من كان سفره في طلب أخ صالح وسمع المأمون أبا العتاهية ينشد: وإني لمحتاج إلى ظلّ صاحب ... يروق ويصفو إن كدرت عليه فقال خذ منّي الخلافة وأعطني هذا الصاحب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 وقيل لفيلسوف ما الصديق؟ فقال: اسم على غير معنى. قال أبو فراس «1» : نعم دعت الدنيا إلى الغدر دعوة ... أجاب إليها عالم وجهول فيا حسرتي من لي بخلّ موافق ... أقول بشجوي مرّة ويقول قال الصابئ «2» : أيا ربّ كلّ الناس أولاد علّة ... أما تغلط الدنيا لنا بصديق وجوه بها من مضمر الغلّ شاهد ... ذوات أديم في النّفاق صفيق «3» التخويف من دغل الإخوان قال أعرابي: اللهمّ اكفني بوائق «4» الثقات والاغترار بظاهر المودّات. وقال آخر: اللهم احفظني من الصديق. فقيل: كيف؟ قال: لأني متحرّز من العدوّ. قال علي بن عيسى: إحذر عدوّك مرّة ... واحذر صديقك ألف مرّة فلربّما انقلب الصديق ... فكان أعلم بالمضرّة وقيل: احذر من تأمنه، فودائع الناس لا تضيع إلا عند الثقات. وقيل: قلّ من يؤذيك إلا من تعرفه. ذمّ من يستعدّ حين الصداقة للعداوة ذمّ العبّاس رجلا فقال هو يترصّد في صداقته ما يتوثّب به في عداوته. قال شاعر: احذر أخوّة كلّ من ... شاب المرارة بالحلاوه يحصي الذنوب عليك ... أيام الصداقة للعداوه قلّة نفع مودة مكرهة فلا خير في ودّ امرئ متكاره ... عليك ولا في صاحب لا توافقه وقال آخر: ألا إنّ خير الودّ ودّ تطّوعت ... به النفس لا ودّ أتى وهو متعب ذم من يضمر عداوة ويظهر صداقة قال بعضهم: تظن فلانا يضحك لك وهو يضحك منك فإن لم تتخذه عدوا في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 علانيتك فلا تتخذه صديقا في سريرتك. وقيل: من عاشر الإخوان بالمكر كافأه بالغدر. قال يزيد الحكمي: لسانك لي أري وقلبك علقم ... وشرّك مبسوط وخيرك ملتوي «1» وقال آخر: زعمت صديقى طاب مرأى ومسمعا ... صدقت ولكنّ المغيب معيب «2» وقال آخر: إذا أنت فتّشت القلوب وجدتها ... قلوب أعاد في جسوم أصادق تأسّف من تكدّر ودّه بعد الصفاء أخ كنت آوي منه عند ادّكاره ... إلى ظلّ آباء من العزّ شامخ سعت نوب الأيام بيني وبينه ... فأقلعن منّا عن عدوّ وصارخ «3» وقال أعرابي: يا حسرتي فقد صفرت من فلان عياب «4» ودّي بعد امتلائها واكفهرت «5» وجوه كانت بمائها. فأدبر ما كان مقبلا وأقبل ما كان مدبرا. ذمّ من يتجنّى على صديقه طلبا لصرمه إن الملول إذا أراد قطيعة ... ملّ الوصال وقال كان وكانا «6» وقال آخر: زماني كلّه غضب وعتب ... وأنت عليّ والأيام إلب «7» وقال ابن المقفع: ينبغي للعاقل أن يكذب سوء الظن بصديقه ليكون ذا ودّ صحيح وقلب مستريح. وقال ابن سيرين: إذا بلغك عن صديقك ما تكرهه فالتمس له عذرا، فإن لم تجد فقل: لعلّ له عذرا وأنت تلوم. معاتبة من أساء الظنّ بصديقه قيل لرجل ما ظنك بأخيك؟ قال: ظني بنفسي. قال المتنبيّ: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدّق ما يعتاده من توّهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 وعادى محبّيه بقول عداته ... فاصبح في داج من الشكّ مظلم وله: ومن يك ذا فم مرّ مريض ... يجد مرّا به الماء الزلالا «1» قال الموسوي: من ساء ظنّا بما يهواه فارقه ... وحرّضته على إبعاده التهم معاتبة من سلا عن صديقه مالي جفيت وكنت لا أجفى ... ودلائل الهجران لا تخفى وأراك تشربني فتمزجني ... ولقد عهدّتك شاربي صرفا من كفّ عنك أذاه فهو صديق صدق. خير ما في اللئيم أن يكفّ ضرره. قال المتنبيّ «2» : إنّا لفي زمن ترك القبيح به ... من أكثر النّاس إحسان وإجمال وقال آخر: لي صديق لديه نصح وودّ ... غير أنّ الدماغ فيه مرمّه فإذا ما سعى ليدفع عنه ... في الملمّات صار عون الملمّه ليته كفّ خيره وأذاه ... ورعى لي بذاك حقّا وحرمه وقال آخر: قد جناها أخ عليّ كريم ... وعلى أهلها براقش تجني «3» ذمّ من يعادي أصدقاءه قال السري الكندي: رأيتك تبري للصّديق نوافذا ... عدوّك من أوصابها الدّهر آمن «4» وقال آخر: لنا أخ يطلب غير ثاره ... يطوي العدا وينتحي لجاره والكلب لا ينبح من في داره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 تفضيل صداقة من قدم إخاؤه قال معاوية لكاتب له: عليك بصاحبك الأقدم فإنّك تجده على مودّة واحدة وإن قدم العهد وبعدت الدار. وإيّاك وكلّ مستحدث فإنه يجري مع كل ريح. وقيل لا تستبدلنّ بأخ لك قديم، أخا مستفادا ما استقام لك. قال شاعر: كيف يبقى لك الجديد من النا ... س إذا كنت تطرح الخلقانا «1» قال أبو الشّيص «2» : نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحبّ إلّا للحبيب الأوّل «3» كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأوّل منزل عكس ذلك قيل: عليك بمستظرف الإخوان تستفيد منهم مستطرف الإحسان، وتأمن منهم بوائق «4» الشقاق: فللعين ملهىّ في التّلاد ولم يفد ... هوى النفس شيء كافتياد الظرائف ولهذا الباب وما تقدّم نظير في حدّ الغزل. العتب على المتلوّن وذمّه قيل: مودّته متنقلة كتنقل الأفياء وأخوّته متلونة كلون الحرباء. قال صالح: قل للذي لست أدري من تلوّنه ... أنا صح أم على غشّ يداجيني تغتابني عند أقوام وتمدحني ... في آخرين وكلّ منك يأتيني وقال آخر: أخ لي كأيّام الحياة إخاؤه ... تلوّن ألوانا على خطوبها إذا عبت منه عيبة فتركته ... دعتني إليه خلّة لا أعيبها وكتب عبد الله بن معاوية: قد عاقني الشكّ في أمرك عن عزيمة الرأي فيك، فإنك ابتدأتني بلطف من غير خبرة، وأعقبتني بجفاء من غير ذنب، فأطمعني أوّلك في أخائك وأيأسني آخرك من وفائك. فسبحان من لو شاء كشف الغطاء، فأقمنا على ائتلاف أو افترقنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 على اختلاف. وقيل لئن أبتلى بمائة جموح لجوج أحبّ إليّ من أن ابتلى بمتلوّن. قال إبراهيم بن العباس: يا أخا لم أر في الناس خلّا ... مثله أسرع هجرا ووصلا كنت لي في صدر يومي صديقا ... فعلى عهدك أمسيت أم لا؟ وقال بعضهم لمغنية: مرحبا ثم مرحبا ... بحبيب تغضّبا فأجابته: أنت كالريح لا تدو ... م جنوبا ولا صبا «1» عتب من ترعاه وهو يجفوك وأعجب من جفائك لي وصبري ... على طول ارتفاعك وانخفاضي سروري أن تدوم لك الليالي ... بما تهوى كأنّي عنك راضي الحثّ على مصارمة من تبغضه قال رجل لآخر: لي أخ إذا كلّمته آذاني وأثمت، وإذا كرهته أراحني وسلمت فأنشده: وفي البعد مسلاة وفي الصّرم راحة ... وفي النّاس أبدال سواه كثير «2» وقال آخر: ودّ ما لا تشتهيه النفس تعجيل الفراق المسرّة بفراق من لا تحبّه قال منصور الفقيه: ومستوجب شكري بإعراضه عنّي ... أجلّ يد عندي له بعده عنّي تلافى بهجري بعض ما كان جرّه ... عليّ بوصلي قبل إعراضه عنّي «3» واعتذر رجل إلى آخر بتأخّره عنه فقال: ما رأيت إحسانا يعتذر منه سوى هذا. وقال إسحاق الموصلي: ذكرت للعبّاس العلوي رجلا فقال: دعني أتذوّق طعم فراقه فهو والله لا تشجى له النفس ولا يدمى لفراقه الجفن. قال شاعر: كلانا غنيّ عن أخيه حياته ... ونحن إذا متنا أشدّ تغانيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 الحثّ على مصارمة من رثّ حبل ودّه في المثل: خلّ سبيل من وهى سقاؤه. وقيل: لا تصحب من لا يرى لك في الودّ مثل ما ترى له. وقيل: شغل المرء بمشتغل عنه مسقطة من العيون، وإقباله على معرض عنه معرضة به لسوء الظنون. وقيل: جدعا لمن أعطى الرغبة من أعطاه الزهادة وما أدري أيهما ألأم. قال شاعر: من لم يردك فلا ترده ... هبه كمن لم تستفده قال البحتري: شرّق وغرّب تجد من معرض عوضا ... فالأرض من تربة والنّاس من رجل وقال آخر: أرى الغبن كلّ الغبن وصلي صارما ... وإن كان ذا فضل ويرى جافيا وقال آخر: ولرّبّ مصحوب ترفت بلونه ... فلفظته قبل التطعّم عاجلا المجاملة في إعراض من رام صرم حبالك يستحسن في ذلك قول الأقرع بن حابس: أصدّ صدود امرئ مجمل ... إذا حال ذو الودّ عن حاله ولست بمستعتب صاحبا ... إذا جعل الهجر من باله ولكنّني قاطع حبله ... وذلك فعلي بأمثاله وما أن أدلّ بحقّ له ... عرفت له حقّ إدلاله وإنّي على كلّ حال له ... من إدبار ودّ وإقباله لراض لأحسن ما بيننا ... بحفظ الأخاء وإجلاله فصل إيثار الوحدة والحثّ عليه قال النبي صلّى الله عليه وسلم: أحبّ العباد إلى الله الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا شهدوا لم يقربوا، أولئك أمة الهدى ومصابيح الظّلم. وقال مالك بن دينار لراهب: عظني، فقال: إن استطعت أن تجعل بينك وبين الناس سورا من حديد فافعل. وقيل لسقراط: ألا تشاهد الملوك؟ فقال: وجدت الإنفراد بالخلوة أجمع لدواعي السلوة. وقيل لآخر: ما تجد في الخلوة؟ قال: الراحة من مداراة الناس والسلامة من شرّهم: وقالوا لقاء الناس أنس وراحة ... ولو كنت أرضي الناس ما عشت خاليا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 وقيل: العزلة توفر العرض وتستر الفاقة، وترفع ثقل المكافأة. وقيل: ما احتنك أحد قطّ إلا أحبّ الخلوة. وقيل توحّد ما أمكنك فمن وطئته الأعين وطئته الأرجل. وقال حكيم: العاقل مستوحش من زمانه منفرد عن إخوانه. وقيل: استوحش من النّاس كما تستوحش من السبع. وقال الجنيد دخلت على السري فقلت أوصني فقال: لا تكن مصاحبا للأشرار ولا تشتغل عن الله بمجالسة الأخيار. وقيل لذي النون رحمه الله: متى أقوى على عزلة الأخيار؟ فقال: إذا قويت على عزلة النفس. قيل: ومتى يصح الزهد؟ قال: إذا كنت زاهدا في نفسك هاربا من جميع ما يشغلك. من أنس في الخلوة بالعبادة والقراءة قال حاتم الأصم: إلزم بيتك فإذا أردت الصاحب فالله يكفيك، وإن أردت الرفيق فرفيقاك رقيباك، وأن أردت أنيسا فالقرآن يؤنسك، وذكر الموت يعظك: تركت الأنس بالأنس ... فما في الأنس من أنس وأقبلت على القرآ ... ن درسا أيّما درس عسى يؤنسني ذاك ... إذا استوحشت في رمسي ذمّ الخلوة والوحدة قيل: أجهل الناس من استأنس بالوحدة واستكثر من الخلوة. وقيل: إيّاكم والعزلة فإن في ملاقاة الناس معتبرا نافعا ومتعظا واسعا، فإن البيت رمس ما لزمته. وحدة الإنسان خير ... من جليس السوء عنده وجليس الخير خير ... من جلوس المرء وحده وفي الحديث: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس. الشكوى من ذهاب النّاس دخل عبيد الله بن شبرمة على معاوية وقد أتت عليه مائتان وعشرون سنة، فقال له: يا عبيد ما شهدت من الزمان وما أدركت؟ فقال: أدركت الناس يقولون ذهب الناس ذهب الناس فلا مرتع ولا مفزع، وقيل ما بقي من الناس إلا كلب نابح أو حمار رامح أو أخ فاضح. وكانت عائشة تنشد قول لبيد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلد كجلد الأجرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 فقال ابن عباس: لئن شكت في زمانها فقد شكت قوم عاد في زمانهم إذ قد وجدوا في خزائنهم سهما مكتوبا عليه: بلاد بها كنّا ونحن نحبّها ... إذ الناس ناس والبلاد بلاد قال أبو الدرداء: كان الناس ورقا لا شوك فيه، فقد صاروا شوكا لا ورق فيه إن نافرتهم نفروك، وإن تركتهم ما تركوك. وقال عدي بن حاتم لمعاوية: معروفك الذي نعده اليوم منكرا معروف لم يأت. وعن أبي صالح في قول الله تعالى: وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى «1» أي بسراة الناس. قال شاعر: ذهب الرجال المقتدى بفعالهم ... والمنكرون لكل أمر منكر وبقيت في خلف يزين بعضهم ... بعضا ليدفع معور عن معور قال بعضهم: كأنّ الله تعالى ما عنى بقوله-: ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ «2» في البخل والجهل- إلا أهل زماننا فإنهم ما تفاوتوا في البخل والجهل. ذمّ النّاس لما قدم محمد بن عبد الله بن طاهر مدينة السلام كتب إلى أخيه وهو بخراسان يشكو إليه قلّة الأنيس وتأذّيه بمضرة الجليس، فكتب إليه: طب عن الأمة نفسا ... وارض بالوحدة أنسا لست بالواجد خلّا ... أو تردّ اليوم أمسا ما رأينا أحدا سا ... وى على الخبرة فلسا وقيل: خير الناس من لم تجرّبه. إخبر الناس تقليهم «3» . قال المتنبيّ: وصرت أشكّ فيمن أصطفيه ... لعلمي أنه بعض الأنام وقال الآخر: ليس في الدنيا وفاء ... لا ولا في النّاس خير قد بلوت الناس فالنا ... س كسير وعوير وقال الآخر: بلوناهم واحدا واحدا ... فكلّهم ذلك الواحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 وقيل لسفيان: دلّنا على رجل نجلس إليه. فقال تلك ضالة لا توجد. وقال بعضهم: الناس كلاب فإذا وجدت سلوقيّا فاحتفظ به. وكتب بعضهم: أما بعد فإني أحمد الله إلى الناس وأذم الناس إلى الله. وقال الحكيم: من لم يستطع مزايلة الناس بجسده فليزايلهم بقلبه. قال المتنبيّ: كلما أنبت الزمان قناة ... ركّب الدهر في القناة سنانا «1» قلّة الاستغناء عن النّاس والأمر بمداراتهم قال رجل لابن عبّاس: ادع الله أن يغنيني عن الناس. فقال: إن حوائج الناس. تتصل بعضها ببعض كاتصال الأعضاء فمتى يستغني المرء عن بعض جوارحه. ولكن قل: إغنني عن شرار الناس. وقيل: كان بعضهم يطوف ويقول: من يشتري مني بضائع بعشرة آلاف درهم؟ فدعاه بعض الملوك وبذل له المال، فقال له: اعلم أن الله لم يخلق خلقا شرا من الناس وإن لم يكن لك بدّ من الناس فانظر كيف تحتاج أن تعامل ما لا بد منه، ولا غنى بك عنه. ثم قال: هل يساوي هذا الكلام عشرة آلاف درهم؟ قال: دونك المال ولم يأخذه. أصناف الناس قال معاوية للأحنف: صف لي الناس وأوجز. فقال: رؤوس رفعها الحظّ وكواهل عظمهم التدبير، وأعجاز شهّرهم المال، وأذناب أتحفهم الأدب ثم الناس بعدهم بهائم إن جاعوا ساموا وإن شبعوا ناموا. وقال سلمان: الناس أربعة أصناف: آساد وذئاب وثعالب وضأن. فأما الآساد فالملوك وأما الذئاب فالتجار، وأما الثعالب فالقراء المخادعون، وأما الضأن فالمؤمن ينهشه كل من يراه. وقال أمير المؤمنين: الناس ثلاثة: عالم ومتعلم وما سواهما همج. قال امرؤ القيس: عصافير وذباب ودود ... وآخر من مجلجلة الذئاب وقال علان العتابي: رأيت كلثوما يأكل خبزا في الطريق، فقلت له: أما تستحي؟ تأكل بحضرة الناس، فقال: أرأيت لو كنت في دار فيها بقور أما كنت تأكل بحضرتهم قلت: فهؤلاء بقور؟ ثم قال: إن شئت أريتك دلالة ذلك ثم قام ووعظ وجمع قوما. ثم قال: روي عن غير وجه أنّ من بلغ لسانه أرنبة أنفه أدخله الله الجنّة فلم يبق أحد إلا أخرج لسانه ينظر هل يبلغ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 وقال رجل للشاعر: أين سكة الحمير؟ فقال اسلك أي سكة شئت فكلها دروب الحمير. وقال بعض العرب طلبت الراحة فلم أجد أروح لنفسي من تركها ما لا يعنيها، وتوحشت في البادية فلم أر أوحش من قرين السوء. (2) وممّا جاء في محبّة المعاشرين وبغضهم المحبوب إلى الناس قيل: فلان مودود في الورى مخصوص بالهوى. كأنّ قلوب الناس في حبّه قلب. وقال التنوخي: كأنّك في كلّ القلوب محبّب ... فأنت إلى كلّ القلوب حبيب وقال الرفاء: ودّ البريّة أن عمرك دائم ... وكذا الربيع يحبّ منه دوامه وقال آخر: محبّب في جميع الناس إن ذكرت ... أخلاقه الغرّ حتّى في أعاديه وقال آخر: محبب في قلوب الناس كلهم ... فكلّ قلب إليه مائل كلف اعتبار مودّة صاحبك بما عندك في الأثر الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف. وقال بعضهم لآخر: إني أحبك. فقال: رائد ذلك عندي. وقال: رجل لعبد الله بن جعفر: إن فلانا يقول إنه يحبني فبماذا أعلم صدقه؟ قال: امتحن قلبه بقلبك فإن كنت تودّه فإنه يودّك، وشاهد ذلك قول بكر بن النطاح: وعلى القلوب من القلوب دلائل ... بالودّ قبل تشاهد الأرواح وقال آخر: قل للتي وصفت مودّتها ... للمستهام بذكرها الصبّ ما قلت إلا الحق أعرفه: إنّ الدليل عليه من قلبي ... قلبي وقلبك بدعة خلقا يتجاريان بصادق الحب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 وقال آخر: لعمري لقد زعم الزاعمون ... بأن القلوب تجاري القلوبا فلو كان حقّا كما تعلمون ... لما كان يجفو حبيب حبيبا المدّعي محبّة صديقه قال المتنبّي: أحبّك يا بدر الزمان وشمسه ... وإن لامني فيك السّها والفراقد وذاك لأن الفضل عندك باهر ... وليس لأن العيش عنك بارد وإن قليل الحبّ بالعقل صالح ... وإنّ كثير الحبّ بالجهل فاسد وقال إبراهيم بن العباس: وأنت هوى النفس من بينهم ... وأنت الحبيب وأنت المطاع وما بك إن بعدوا وحشة ... ولا معهم إن بعدت اجتماع وقال آخر: فيا ليت ما بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب وليتك تحلو والحياة مريرة ... وليتك ترضى والأنام غضاب النهي عن فرط الحبّ والبغض قال رجل لأرسطاطاليس: عظني، قال: لا يملأن قلبك محبة شيء ولا يستولينّ عليك بغضه، واجعلهما قصدا. فالقلب كاسمه يتقلّب، وفي الأثر: أحبب حبيبك هونا ما، عسى أن يكون بغيضك يوما ما وابغض بغيضك هونا ما، عسى أن يكون حبيبك يوما ما. قلة المبالاة ببغض من لا يقصد ضرّك قال عمر بن الخطاب «1» رضي الله عنه لطليحة الأسدي: قتلت عكاشة فقلبي لا يحبك أبدا. قال: فما عشرة جميلة، فإن الناس يتعاشرون على البغضاء. وقال الوليد لرجل: إني أبغضك. فقال: إنما تجزع النساء من فقد المحبّة، ولكن عدل وانصاف يا أمير المؤمنين. وقال ابن أبي الحواري لأبي سليمان: إن فلانا لا يقع من قلبي، فقال: ولا من قلبي، ولكنّا لعلنا أتينا من قبل أنه ليس فينا خير فلسنا نحب الصالحين. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل هم بطلاق امرأته: لم تطلقها؟ قال: لا أحبها. قال: أَوَكلّ بيت يبنى على المحبة، أين الرعاية والذمم؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 أسباب المحبة والبغض ومضرتهما ونفعهما روي في الخبر أن الله إذا أحب عبدا ألقى محبته في الملأ، فلا يمرّ به أحد إلا أحبه. وقالت عائشة رضي الله عنها: جبلت القلوب على حبّ من أحسن إليها وبغض من أساء إليها. وقال يحيى بن خالد: إذا كرهتم الرجل من غير سوء أتاه إليكم فاحذروه وإذا أحببتم الرجل من غير خير سبق منه إليكم فارجوه. كون المبغض معيبا قيل لما أراد أنوشروان «1» أن يصير ابنه ولي عهده استشار وزراءه فكلّ ذكر عيبا: فقال بعضهم: إنه قصير وذلك لا يصلح للملك. فقال أنوشروان محتجا له، إنه لا يكاد يرى ألا راكبا أو جالسا. فقال آخر: إنّه ابن رومية، فقال: الأبناء ينسبون إلى الآباء وإنما الأمّهات أوعية. فقال الموبذ: إنّه مبغض إلى الناس، فقال: حينئذ هذا هو العيب. فقد قيل إن من كان فيه خير ولم يكن ذلك الخير محبّة الناس له فلا خير فيه، ومن كان فيه عيب ولم يكن ذلك العيب بغض الناس فيه، فلا عيب فيه. وقال الأحنف يوما: فقير صدوق خير من غنيّ كذوب. وقال بعض مجالسيه: ووضيع محبّب، خير من شريف مبغّض. فقال الأحنف: هذه مثل هذه. وصف بغيض قيل: فلان لا تحبّه النّاس حتى تحبّ الأرض الدم، وذلك لأن الأرض لا تشرب الدم. قال الشاعر اليتامي: يا بغيضا زاد في البغض على كلّ بغيض ... أنت عندي قدح اللباب في كفّ المريض «2» وقال آخر: رمينا بأقلى من جهنّم منظرا ... وأقبح آثارا من الحدثان «3» وأكره في الأبصار من طالع الردى ... وأنحس آثارا من الدبران «4» وقال آخر: ولو أن ذا فضل لجا في حرامه ... لجاء نفيل في الحرام يزاحمه وقد مرّ من ذلك كثير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 التعريض بثقيل أو بغيض كان أبو هريرة إذا رأى ثقيلا قال: اللهم اغفر له وأرحنا منه. وقال ثقيل لمريض ما تشتهي؟ قال: أشتهي أن لا أراك. وقيل أن ثقيلا قال لأعمى إنّ الله لم يأخذ من عبد كريمتيه إلا عوضه عنهما شيئا فما الذي عوضك؟ قال: أن لا أرى أمثالك وكان لابن سيرين خاتم منقوش عليه أبرمت فقم، فإذا استثقل إنسانا دفعه إليه. وقيل من ثقل عليك بنفسه وغمك بسؤاله فوّله أذنا صمّاء وعينا عمياء. (3) وممّا جاء في الزيارة وصف الزيارة بأنها تغرس المحبة في كتب الهند ثلاثة تزيد في الأنس: الزيارة والمؤاكلة والمحادثة. ما قيل في استزارة المحبوب قال بشّار: يا رحمة الله حلّي في منازلنا ... وجاورينا فدتك النفس من جار وقال آخر: واسقط علينا كسقوط النّدى ... ليلة لا ناه ولا آمر وقال بشّار: قد زرتنا مرّة في الدّهر واحدة ... ثنّي ولا تجعليها بيضة الديك «1» وقال بعضهم: إذا رأيت أن تحدّد لي ميعادا لزيارتك أتقوّته إلى وقت زيارتك فعلت. وكتب ابن المعتز إلى صديق له: طالت علتك أو تعاللك، وقد اشتد شوقنا إليك فعافاك الله من المرض في بدنك أو أخائك، فإنك إن أتيت فبارّ مشكور، وإن تأخرت عنّا فجاف غير معذور. وقال إبراهيم الصولي: لا أعرف شعرا أحسن من قول العبّاس: تعالي نجدّد دارس الوصل بيننا ... كلانا على طول البعاد ملوم وكتب الصاحب إلى أبي إسماعيل بجرجان: يا أبا بشر تأخرت عنّا ... قد أسأنا لبعد عهدك ظنّا كم تمنيت لي صديقا صدوقا ... فإذا أنت ذلك المتمنّى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 فبغصن الشباب لما تثنّى ... وبعهد الصبا وإن بان عنّا كن جوابي لكي تردّ شبابي ... لا تقل للرسول كان وكنّا المسرّة بزيارة الصاحب فالوا تجشّم زائرا من بينه ... فأجبتهم والنّجم بين سعودي «1» لو كان ملّكني الكرام خدودهم ... لفرشت أرضا تحته بخدود وقال ثعلب: الفتح علقمة البكريّ خبّرنا ... أنّ الوزير أبا مروان قد حضرا فقلت للنفس هذي منية قدرت ... وقد يوافق بعض المنية القدرا وقال البحتري: حبيب سرى في خفية وعلى ذعر ... يجوب الدّجى حتّى التقينا على قدر فشككت فيه من سرور وخلته ... خيالا سرى في النّوم من طيفه يسري وله: فرحت حتّى استخصّني فرحي ... فشبّت عين اليقين بالوهم أمسح عيني مستثبتا نظري ... أخالني نائما ولم أنم وقال: وما زارني إلّا ولّهت صبابة ... إليه وإلا قلت أهلا ومرحبا «2» البشارة بورود الحبيب قال الخبزارزي: ومبشّري بقدوم من أهواه ... لا زال وهو مبشّر بمناه عندي له بشرى ولو ملكته ... روحي وقلبي قلّ عن بشراه زيارة من لا يزورك كتب بعضهم إلى آخر: كلّ جفوة منك مغفورة للثقة بك وسنأخذ بقول قيس بن الأسلت: ويكرمها جاراتها فيزرنها ... وتغفل عن إتيانهنّ فتعذر وقال ابن الحجّاج: وإنّي لزوّار لمن لا يزورني ... إذا لم يكن في ودّه بمريب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 وقال ابن ميّادة: فإن هو لم يهمم بنا اليوم قادما ... قدمنا عليه نحن في داره غدا «1» الاعتذار إلى من قللت زيارته لئن عاق جسمي عن لقائك مانع ... فما عاق قلبي عن لقائك عائق فإن ظهرت منّي دلائل جفوة ... فما أنا إلّا مخلص الودّ صادق وقال أبو حكيمة: فلا تنكر فدتك النفس أني ... أغبّك في اللقاء وفي المزار فإنّي حيث كنت فليس ودّي ... بممنوح سواك ولا معار وقال جحظة: فإن يك عن لقائك غاب وجهي ... فلم تغب المودة والإخاء ولم يزل الثناء عليك يترى ... بظهر الغيب يتبعه الثناء «2» وقال الخوارزمي: وما بي فيك من زهد ولكن ... أخفّف عنك أعباء الملال «3» وقال: إن كنت في ترك الزيارة تاركا ... حظّي فإني في الدّعاء لجاهد ولربّما ترك الزيارة مشفق ... وأنّى على غلي الضمير الحاسد «4» اعتذر بعض الأدباء إلى أخ له في تأخره فأجابه: إذا صحّ الضمير فكل هجر ... وإعراض يكون له انقضاء وقال: إن محض الودّ لا يز ... رى به طول تناء «5» وانقطاع من كتاب ... وتراخ من لقاء إنما الوامق من يحمل أثقال الجفاء ... والذي تضجره الجفوة مدخول الأخاء «6» وقال آخر: أغيب عنك بودّ لا بغيره ... نأي المحل ولا صرف من الزّمن «7» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 الشكوى ممّن يقلّل الزيارة في المثل أنت كبارح الأروى قلّما يرى. قال شاعر: وحظك لقية في كلّ عام ... موافقة على ظهر الطريق سلاما خاليا عن كلّ شيء ... يعود به الصديق على الصديق قال أبو الجهم: زائر يهدي إلينا ... نفسه في كلّ عام استقراب الطريق في زيارة الحبيب وكنت إذا ما جئت سعدى أزورها ... أرى الدار تطوى لي ويدنو بعيدها وقال ابن ميادة: تقرّب لي دار الحبيب وإن نأى ... وما دار من أبغضته بقريب وقال العبّاس: يقرّب الشّوق دارا وهي نازحة ... من عالج الشوق لم يستبعد الدار «1» وقال العبّاس: ترى الرجل قد تسعى إلى من تحبّه ... وما الرجل إلا حيث يسعى بها القلب من حثه شوقه نحو محبوبه قال الموصلي: يحثّ مطاياه تذكرّكم ... وليس ينساكم إن حلّ أو سارا «2» وقال آخر: يعتادني طربى إليك ويعتلي ... وجدي ويدعوني هواك فأتبع وقال عمرو بن شاس: إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا ... كفى لمطايانا بذكراك حاديا «3» وقال العباس: لا يهتدي قلبي إلى غيركم ... كأنّما سدّ عليه الطريق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 متابعة المحبوب قال أعرابي: وإن تدعي نجدا أدعه ومن به ... وإن تسكني نجدا فيا حبّذا نجد «1» وقال المهلّبي: إن كنت أزمعت الرحيل ... فإنّ رأيي في الرحيل «2» أو كنت قاطنة أقمت ... وإن منعت دنوّ سولي كالنّجم يصحب في المسير ... ولا يزور لدى النزول معاتبة من ذكر شوقه يا من شكا عبثا إلينا شوقه ... فعل المشوق وليس بالمشتاق لو كنت مشتاقا إليّ تريدني ... ما طبت نفسا ساعة بفراق وحفظتني حفظ الخليل خليله ... ووفيت لي بالعهد والميثاق تفضيل التزاور على التجاور قال عمر رضي الله عنه: زاوروا ولا تجاوروا وقال: إدمان اللقاء سبب الجفاء. وفي المثل: من يتجمّع يتقعقع، أي تقع الخصومة بين المتجاورين. الحثّ على تقليل الزيارة وكراهة مداومتها قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: زر غبا تزدد حبا. قال شاعر: اغبب زيارتك الصديق ... يراك كالشّيء استجدّه «3» إنّ الصديق يملّ من ... أن لا يزال يراك عنده وقيل: قلّة الزيارة أمان من الملالة وكثرة التعاهد سبب التباعد. قال أبو تمّام: وطول مقام المرء في الحيّ مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدّد «4» فإنّي رأيت الشمس زادت محبّة ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد «5» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 وقال آخر: عليك باغباب الزّيارة إنّها ... تكون إذا دامت إلى الهجر مسلكا فإني رأيت الغيث يسأم دائما ... ويسأل بالأيدي إذا هو أمسكا شكوى من خفف الزيارة قال كشاجم: بأبي وأمّي زائر متقّنع ... لم يخف ضوء الشمس تحت قناعه لم أستتمّ عناقه لقدومه ... حتى ابتدأت عناقه لوداعه فمضى وأبقى في فؤادي حسرة ... تركته موقوفا على أوجاعه وقال آخر: وزائر زار وما زارا ... كأنّه مقتبس نارا ألمّ بالباب أخا نجوة ... ما ضرّه لو دخل الدارا نفسي فدا لك من زائر ... ما حلّ حتّى قيل قد سارا وقال ابن أبي البغل: حبيب إذا ما زارنا قلّ لبثه ... وإن هو عنّا غاب طال جفاؤه وفي عذر تخفيف الزيارة قال أبو العيناء: سلام معظّم، وجلوس مخفّف وانصراف متأسف. شكاية من تأخّر عنك حاذرت إذ واصلت إملالنا ... فخف إذا ما غبت أن نسلو وقال إسحاق: كنت أزور العبّاس بن الحسن فتأخرت عنه مدة مديدة فقال لي أذقتنا نفسك فلما استعذبناك لفظتنا. وكان بعضهم يختلف إلى الأعشى فتأخّر عنه أياما فلقيه، فأنشده: ولجّ بك الهجران حتّى كأنّما ... ترى الموت في البيت الذي كنت تألف قال العبّاس بن الأحنف: من ساءل بدر الدجا ... ما باله ترك الطلوعا وقال ابن الرومي «1» : يعتلّ بالشغل عنّا ما يزاورنا ... والشغل للقلب ليس الشغل للبدن «2» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 شكوى من قلّ الإلتقاء معه قال ابن سكّرة «1» : إن أغب لم تغب وإن لم تغب غبت ... كأن افتراقنا باتّفاق قال الصنوبري «2» : إذا حضرنا غبت أو لم تغب ... نحضر فنحن الورد والنرجس لم يجمعا للعين في روضة ... قطّ ولم يجمعهما مجلس قال منصور الفقيه: هجرت المسجد الجام ... ع والهجر له ريبه فأخبارك تأتينا ... على الأعلام منصوبه «3» فإن زدت من الغي ... بة زدناك من الغيبة «4» زيارة من لا تحبّه قالت أعرابية: فلا تحمدوني في الزّيارة إنّني ... أزوركم إن لم أجد متعلّلا وبعث عمرو بن مسعدة إلى أبي العتاهية فاستزاره فقال: كسّلني اليأس منك عنك فما ... أرفع عيني إليك من كسلي إنّي إذا ما الصّديق أو حشني ... قطعت منه حبائل الأمل وقال آخر: يقولون زرنا واقض واجب حقّنا ... وقد أسقطت حالي حقوقهم عنّي إذا أبصروا حالي ولم يأسفوا لها ... ولم يأنفوا منها أنفت لهم منّي «5» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 وقال آخر: إذا ما تقاطعنا ونحن ببلدة ... فما فضل قرب الدار منّا على البعد القيام للصديق الزائر كان الأحنف مستندا إلى سارية في المسجد وحده، فأقبل بعض إخوانه فتنحّى له عن مجلسه، فقال: يا أبا بحر ما عندك من أحد ولا مجلسك ضيق فلم تنحّيت؟ قال: كرهت أن تظن أني لم أهشّ لزيارتك ومجيئك فشكرت ذلك بأقرب ما حضرني من الإكرام. وقال محمد بن يزيد. حضر بعض الناس مجلس كبير فنهض له فقال له في ذلك، فقال: لئن قمت ما في ذاك عندي غضاضة ... لديّ لأني للشريف مذلّل «1» على أنه منّي لغيرك هجنة ... ولكنّه مثلي لمثلك يجمل «2» وقال غيره: فلما بصرنا به ماثلا ... حللنا الحبا وابتدرنا القياما «3» فلا تنكرنّ قيامي له ... فإنّ الكريم يجلّ الكراما كراهة القيام أقبل معاوية وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عامر جالسان، فقام ابن عامر ولم يقم ابن الزبير، فقال معاوية سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ أمقعده من النار، وقال صلّى الله عليه وسلّم: لا يقومنّ الرجل لغيره من مجلسه ثم يجلسه فيه. وقيل: الكراهة في أن يقعد الرجل ويقيم الناس بين يديه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 الحدّ الثالث عشر في الغزل وما يتعلّق به (1) ما جاء في أوصاف الهوى وأحوال العشّاق ماهية العشق سئل بعض الفلاسفة عن العشق فقال: جنون إلهي، لا محمود ولا مذموم. وسئل عنه آخر فقال: حركة النفس الفارغة. قال شاعر: هل الحبّ الأزفرة بعد زفرة ... وحرّ على الأحشاء ليس له برد وفيض دموع العين ياميّ كلّما ... بدا علم من أرضكم لم يكن يبدو وقال بعض الصوفية: الهوى محنة امتحن الله بها خلقه يستدل به على طاعة خالقهم ورازقهم. وقيل لبعضهم: ما العشق؟ فقال: ارتياح في الخلقة وفرح يجول في الروح وسرور ينساب في أجزاء القوى. وقال العيني: سألت أعرابيا عن الهوى فقال: هو أظهر من أن يخفى، وأخفى من أن يرى، كامن كمون النار في الحجر، إنّ قدحته أورى وإن تركته توارى. وسئل يحيى بن معاذ عن حقيقته فقال: الذي لا يزيده البرّ ولا ينقصه الجفاء. أحوال فروع الهوى وأنواعه قال العلماء: الهوى أنواع أوّله العلاقة وهو الشيء يحدثه النظر والسمع فيخطر بالبال، ثم ينمو فيقوى فيصير محبّة، والحبّ اسم مشترك يجمع ضروبا من ميل النفس كحب الولد والمال، ثم الهوى ثم المودة ثم الصبابة ثم العشق ثم الوله والهيام والتتيّم وهو أرفع درجات الحب لأنه التعبّد. «1» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 قال شاعر: ثلاثة أحباب فحب علاقة ... وحبّ تملاق وحبّ هو القتل «1» وسئل بعض الصوفية عن الحب والهوى فقال: الهوى يحلّ في القلب والمحبة يحلّ فيها القلب. وقيل: العشق اسم لما يفضل من المحبة، كما أن السخاء اسم لما جاوز الجود، والبخل اسم لما قصر عن الاقتصاد، والهوج اسم لما فضل عن الشجاعة. وقال بعض الفلاسفة: الحب والعشق والهوى من جنس، لكن العشق اشتهار وتضرع، والوجد هو الحب الساكن الذي إذا رأى صاحبه شغف به وإذا غاب لهج بذكره، والهوى ما تتبعه النفس «2» غيا كان أم رشدا حسنا كان أو قبيحا ولذلك ذمّه الله تعالى بقوله: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «3» . الأسباب المولّدة للعشق زعم بعض المفلسفين أن الله تعالى خلق الأرواح كلّها كهيئة كرة ثم قطعها أنصافا فجعل في كل جسد نصفا «4» . فكل جسد لقي الجسد الذي فيه نصفه حصل بينهما عشق وتفاوت حالهما في القوّة والضعف على حسب رقة الطبائع. وزعم بعضهم أن الصداقة على ثلاثة أنواع: إمّا لاتفاق الأرواح فيكون لاتفاق الشمس والقمر في المولّدين في برج واحد، فلا يجد أحدهما بدّا من حب صاحبه، وإمّا لمنفعة تحصل فتولد ذلك، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها وإما لإلفة تجتمع مواد الحرص إليها، ولهذا قال المتنبيّ: وما العشق إلا غرّة وطماعة ... يعرّض قلب نفسه فتصاب وقال الصمد المري: وما العشق إلا النار توقد في الحشا ... وتذكى إن انضمت عليه الحوائج «5» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 شدّة معاناة العشق قال أعرابي: ما أشدّ جولة الرأي عند الهوى وفطام النفس عند الصبا، ولقد تصدّعت كبدي للمحبين فلوم العاذلين قرطة في آذانهم ونار مؤجّجة في أبدانهم، لهم دموع على المغاني كغروب «1» السواقي. وقيل: كلّ شهوة تخطر فمداواتها سهلة ما خلا العشق. ما يولّده العشق من الأخلاق الحميدة شكا معلم سعيد بن مسلمة ولده إليه، فقال: إنه مشتغل بالعشق فقال: دعه فإنه يلطف وينظف ويظرف. وكان ذو الرياستين «2» يبعث أحداث أهله إلى شيخ يعلّمهم الحكمة، فقال لهم يوما: هل فيكم عاشق؟ قالوا: لا. قال: اعشقوا وإياكم والحرام فالعشق يفصح الفتى ويذكي ويسخي البخيل ويبعث على التنظيف وتحسين الملبس، فلما انصرفوا قال لهم ذو الرياستين: ما استفدتم اليوم؟ قالوا: كذا وكذا. قال: نعم. وإنّما أخذه ممّا روي أن بهرام جور كان له ابن أهّله للملك بعده، وكان ساقط الهمة رديء النفس سيء الخلق فغمّه ذلك، ووكل به من يعلّمه، فلم يكن يتعلّم. فقال معلمه: كنا نرجوه على حال فحدث منه ما أيأسنا وهو أنه عشق بنت المرزبان «3» فقال: الآن رجوت فلاحه. ثم دعا أبا الجارية فقال: إنّي مستسر إليك سرا، فلا يعدونّك «4» . اعلم أنّ ابني عشق ابنتك وأريد أن أزوّجها منه فمرها بأن تطمعه من غير أن يراها فإذا استحكم طمعه فيها أعلمته أنها راغبة عنه لقلّة أدبه. ثم قال للمعلم: خوّفه بي وشجّعه على مراسلة المرأة ففعلت المرأة ما أمرت به. فقال الغلام في نفسه: أنا أجتهد في تحصيل ما أصل إليها به فأخذ في التأدّب وتعلم الشجاعة ثم قال أبوه للمؤدب شجّعه على أن يرفع أمرها، ويسألني أن أزوجها منه، ففعل فزوّجها من ابنه. وقال لا تزدرينّ بها في مراسلتها إليك فإني أمرتها بذلك وإنّ من صار سببا لعقلك فهو أعظم الناس بركة عليك. قال العرجيّ «5» : تجشّم المرء هولا في الهوى كرم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 وقال آخر: لا عار في الحبّ إن الحبّ مكرمة ... لكنّه ربما أزرى بذي الخطر «1» وقيل: لو لم يكن في العشق إلا أنه يشجع الجبان ويصفّي الأذهان ويبعث حزم العاجز لكفاه شرفا. قال شاعر: الحبّ شجّع قلب كلّ فروقة ... والحبّ حمّل عاجزا فأطاقا «2» ذمّ من لا يعشق وكدر حياته قال أعرابي: من لا يعشق فهو ردئ التركيب جافي الطبع كزّ «3» المعاطف. كان ابن أبي مليكة يؤذّن فسمع غناء فطرب وقال: إذا أنت لم تعشّق ولم تدر ما الهوى ... فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا وقال: من عاش في الدنيا بغير حبيب ... فحياته فيها حياة غريب ما تنظر العينان أحسن منظر ... من طالب إلفا ومن مطلوب ما كان في حور الجنان لآدم ... لو لم تكن حواء من مرغوب قد كان في الفردوس يشكو وحشة ... فيها ولم يأنس بغير حبيب ذكر من عشق من الكبار قد علم ما كان من داود عليه السلام وعشقه امرأة أوريا والتحاكم إليه وقوله تعالى: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً «4» الآية حتى فطن للقصة فاستغفر ربّه (الآية) . وخبر يوسف وامرأة العزيز وقوله تعالى: قَدْ شَغَفَها حُبًّا «5» وخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم مع زينب امرأة زيد قال العبّاس بن الأحنف: أستغفر الله إلّا من محبّتكم ... فإنها حسناتي يوم ألقاه فإن زعمت بان الحبّ معصية ... فالحبّ أحسن ما يعصى به الله من قهره الهوى عن عزّه كان للرشيد ثلاث جوار اشتد شغفه بهنّ فقال: ملك الثلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكلّ مكان مالي تطاوعني البريّة كلّها ... وأطيعهنّ وهنّ في عصياني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 ما ذاك إلا أنّ سلطان الهوى ... وبه قوين أعزّ من سلطاني قال عروة «1» : وكم من كريم قد أضرّ به الهوى ... فعوّده ما لم يكن يتعوّد قال كثيّر: ضعائف يقتلن الرجال بلا دم ... فيا عجبا للقاتلات الضعائف وقال الخبزارزي: ولربّ عبد في الهوى ... يستعبد الحرّ المطاعا قيل لرجل: إنّ ابنك قد عشق، فقال: عذّب قلبه وأبكى عينه وأطال سقمه قال بعض الفلاسفة: لم أر حقا أشبه بباطل من العشق، هزله جدّ وجدّه هزل، أوله لعب وآخره عطب «2» إن الهوان هو الهوى جزم اسمه ... فإذا لقيت هوى لقيت هوانا وقال آخر: وما كيّس في النّاس يحمد رأيه ... فيوجد إلا وهو في الحبّ أحمق «3» حمد تحمّل المذلّة في الهوى قال شاعر: أن التذلّل في حكم الهوى شرف وقال آخر: لا تأنفنّ من الخضوع لذي الهوى ... واخضع لإلفك كائنا من كانا وقيل: التذلّل للحبيب من شيم الأريب «4» . ونقشت ظريفة على خاتمها: قصيرة من طويله ... نفس المحبّ ذليله قال الأصمعي: غضب الفضل بن يحيى على جارية فبعثت إلي تسألني أن أسترضيه فسألته فقال: الذنب ذنبها فقلت وكيف موقعها من قلبك أيها الأمير. قال أحسن موقع وإنما أريد بهذا الهجر تهذيبها. قلت: فاستعمل فيها وصية العبّاس بن الأحنف قال: وما هي؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 قلت: تحمّل عظيم الذنب ممّن تحبّه ... وإن كنت مظلوما فقل أنا ظالم فإنك إن لم تغفر الذنب في الهوى ... تفارق من تهوى وأنفك راغم «1» وصف الهوى بأنه جنون وصف أعرابي الهوى فقال: هو طرف من الجنون، إن لم يكن عصارة السحر وعليه: أداء عراني من جنابك أم سحر؟ «2» وقال غيلان بن عقبة: هو السحر إلّا أنّ للسحر رقية ... وإنّي لا ألقى من الحب راقيا وقال ابن الرومي: أهوى الهوى كلّ ذي لبّ فلست ترى ... إلا صحيحا له أفعال مجنون من شغف بقبيح ليس فيه موضع للعشق تيّقن من رآك تحبّ قينا ... بأنّ الحبّ ضرب من جنون «3» مغالبة الهوى قيل: مغالب الهوى كمغالب الدنيا. قال شاعر: قد كنت أعلو الحبّ حينا فلم يزل ... بي النقض والإبرام حتّى علانيا وقال آخر: فو الله ما أدري أيغلبني الهوى ... إذا جدّ جدّ البين أم أنا غالبه «4» فإن أستطع أغلب فإن يغلب الهوى ... فمثل الذي لاقيت يغلب صاحبه استعظام المحبوب وجلالته في عين المحّب يستحسن في ذلك قول بعضهم: أهابك إجلالا وما بك قدرة ... عليّ ولكن ملء عين حبيبها وقال آخر: تمنيته حتّى إذا ما رأيته ... بهتّ فلم أعمل لسانا ولا طرفا وأطرقت إجلالا له ومهابة ... وحاولت أن يخفى الذي بي فلم يخفا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 فلو أنّني ملكت من ثغره الذي ... تمكّن فيه الدرّ قبّلته ألفا «1» وصف حبّ تمكّن في الحشا قال كثيّر «2» : أباحت حمىّ لم ترعه الناس قبلها ... وحلّت تلاعا لم تكن قبل حلّت «3» قال العباس بن الأحنف: لا تحسبنّي ماذقا في الهوى ... إنّي على حبّك مطبوع «4» قال عبيد الله بن طاهر: شققت القلب ثم ذررت فيه ... هواك فليم فالتأم الفطور «5» تغلغل حيث لم يبلغ شراب ... ولا حزن ولم يبلغ سرور قيل لأبي العتاهية: أي شعرك أعجب إليك؟ قال قولي: قال لي أحمد ولم يدر ما بي ... أتحبّ الغداة عتبة حقّا «6» فتنفست ثم قلت: نعم حب ... اجرى في العروق عرقا فعرقا قال رجل لمحبوبه: حبك متولّ على فؤادي وذكرك سميري، فقال له محبوبه: أما أنا فلا أحب أن يقع طرفي على سواك. قال عمر بن أبي ربيعة «7» : فمن كان لا يعدو هواه لسانه ... فقد سار في قلبي هواك وخيّما وليس بتزويق اللسان وصوغه ... ولكنّه قد خالط اللحم والدّما قال المهلّبي: وصرنا في محبّتنا حديثا ... يهجّن شرحه قيسا ولبنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 من ذكر أن قلبه ناصر محبوبه عليه قال العباس بن الأحنف: قلبي إلى ما ضرّني داعي ... يكثر أسقامي وأوجاعي كيف احتراسي من عدوّي إذا ... كان عدوّي بين أضلاعي أخذ ذلك من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم أعدي عدويك نفيسة بين جنبيك. قال شاعر: يوازره قلبي عليّ وليس لي ... يدان على قلبي عليه توازره وقال آخر: أقامت على قلبي رقيبا وناظري ... فليس يؤدّي عن سواها إلى قلبي قتيل الهوى شهيد روي في الخبر: من عشق فعفّ فمات، مات شهيدا. وقال الخبزارزي: وحبّك ما استحسنت خير مجرّب ... عليك إذا لم تنتهك فيه محرّما وقال الفتح بن خاقان: زفرة في الهوى أحطّ لذنب ... من غزاة وحجّة مبروره وقال المهلّب: أشتهي الآن أن أصلّي على نعش محبّ قد مات في الحبّ وجدا قيل: ذنوب العشّاق ذنوب اضطرار لا اختيار، وما كان كذلك لم يستحق عقوبة. كون قتيل الهوى هدرا قال عبد الله بن جندب: خرجت فرأيت فساقا فيهن امرأة كأنها منحوتة من فضّة فتمثلت بقول قيس بن ذريح «1» : خذوا بدمي إن مت كلّ خريدة ... مريضة جفن العين والطرف فاتر «2» فقالت المرأة: يا ابن جندب إن قتيلنا لا يودى «3» وأسيرنا لا يفدى. وقال ابن عبّاس: قتيل الهوى هدر ولا عقل ولا قود. وقال أبو حية النميري: رمين فأقصدن القلوب ما نرى ... دما مائرا إلا جرى في الحيازم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 ولكن لعمر الله ماطل مسلما ... كغرّ الثنايا واضحات الملاغم «1» وإن دما لو تعلمين جنيته ... على الحيّ جاني مثله غير سالم قال مسلم بن الوليد: أديرا عليّ الكأس لا تشربا قبلي ... ولا تطلبا من عند قاتلتي ذحلي «2» من أمر أن يقتصّ من محبوبه قال شاعر: خليليّ إن حانت وفاتي فاطلبا ... دمي من سليمى واطلبا بجميل وقال الحسين بن الضحّاك: غزال ما اجتلاه الطرف إلّا ... تحيّر في ملاحة وجنتيه خذوا بدمي محاسنه وخصّوا ... مقبّله وبرد ثنيّتيه «3» الاشفاق من أن يلحق المحبوب إثم في قتله وقال أحمد بن يوسف: وفي الموت لي من لوعة الحبّ راحة ... ولكنّني أخشى ندامتها بعدي استطابة الأذى في معاناة الهوى قال المجنون: يقولون ليلى عذبّتك بحبّها ... ألا حبّذا ذاك الحبيب المعذّب وقال آخر: تشكّى المحبوب الصبابة ليتني ... تحملت ما ألقاه من بينهم وحدي فكانت لنفسي لذة الحبّ كلّها ... فلم يلقها قبلي محبّ ولا بعدي وقال آخر: دع الحبّ يصلى بالأذى من حبيبه ... فكلّ أذى ممّن تحب سرور تراب قطيع الشاملي عين ذئبها ... إذا ما تلا آثارهنّ ذرور قال المتنبيّ: سهاد أتانا منك في العين عندنا ... رقاد وقلام رعى سربكم ورد «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 وقال: ضنى في الهوى كالسمّ في الشهد كامنا ... لذذت به جهلا وفي لذّتي حتف وقال: والعشق كالمعشوق يعذب قربه ... للمبتلي وينال من حوبائه «1» لو قلت للدنف الحزين فديته ... ممّا به لأغرته بفدائه التبرّم بالهوى قال محمّد بن عبد الله بن طاهر: ليت الهوى لم يكن بيني وبينكم ... وليت معرفتي إيّاك لم تكن وقال البحتري: رحلوا فأيّة عبرة لم تسكب ... أسفا وأيّ عزيمة لم تغلب لو كنت شاهدنا وما صنع الهوى ... بقلوبنا لحسدت من لم يحبب التلذّذ بالهوى عند المواصلة والتبرّم به لدى المعارضة قال الخوارزمي: وهذا الهوى عيش المحبّ إذا صفا ... ولكن إذ لم يصف كان له حتفا وقال وهب الهمداني: ولي بين هجران الحبيب ووصله ... مصيران موت تارة ونشور «2» التعبّد للمحبوب وتذليل النفس فيه قد أجمع الأدباء على تفضيل قول أبي الشّيص: وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخّر عنه ولا متّقدّم أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمني اللوم أشبهت أعدائي فصرت أحبّهم ... إذ كان حظّي منك حظّي منهم وأهنتني فأهنت نفسي صاغرا ... ما من يهون عليك ممّن يكرم ويستعذب قول المتنبيّ حتى ما من أديب إلا وهو يرويه ولا مغن إلا وهو يغنّيه: يا من يعزّ علينا أن نفارقهم ... وجداننا كلّ شيء بعدكم عدم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 إن كان سرّكم ما قال حاسدنا ... فما لجرح إذا أرضاكم ألم المتبرّم بمحبوبه عمّن عداه والمتبرم عند فقده بسواه قال إبراهيم بن العباس: وأنت هوى النفس من بينهم ... وأنت الحبيب وأنت المطاع ومالي إن بعدوا وحشة ... ولا معهم إن بعدت اجتماع قال أبو فراس: فيا ليت ما بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب وليتك تحلو والحياة مريرة ... وليتك ترضى والأنام غضاب وقال آخر: وكنت إذا داري بطيبك أسعفت ... رضيت على الدنيا فما أستزيدها «1» قال الماهر: النّاس أنت فأين عنك معرجي ... والأنس فيك فأين عنك أيمّم وقال آخر: فكلّ حياة مع سواك منيّة ... وكلّ ضحىّ في أرض غيرك غيهب «2» قالت أعرابية: فما أحسن الدنيا وعندي خالد ... وأقبحها لما تجهّز غازيا وقال رجل لامرأة: قد أخذت بمجامع قلبي «3» فلست استحسن سواك. فقالت: إن لي أختا هي أحسن منّي وها هي خلفي، فالتفت الرجل فقالت: يا كذّاب تدّعي هوانا وفيك فضل لسوانا. الاستغناء بالحبيب عن كلّ خير وطيب قال بعضهم: ولو جاوزتنا لعام آخر لم نبل ... على جدبنا أن لا يصوب ربيع «4» وقال كشاجم: ما أرتجي بالرياض فيك غنىّ ... عنهنّ لي منظر وحسن غنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 أدير طرفي فلا أرى حسنا ... إلا أرى فيك ذلك الحسنا إجابة الهوى إذا دعا قال بعض بني أسد: إذا أمرتك النفس أن تتّبع الهوى ... فقل: سامع للأمر منك سميع وهذا خلاف قول الآخر: إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال ولهذا باب في أول الكتاب، ولثوبة: ولو أنّ ليلى الأخيلية سلّمت ... عليّ ودوني جندل وصفائح «1» لسلمت تسليم البشاشة أو زقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح فيقال: لما مات ثوبة ومضى على ذلك زمان وتزوجت ليلى مرّت مع زوجها يوما بقبر ثوبة فقال: ألا تسلمين عليه لننظر هل صدق في قوله ولو أن ليلى (البيتين) . فسلمت عليه فندّت هامة «2» من ناحية قبره وصرخت، فنفر جملها وسقطت فاندقّ عنقها فماتت فدفنت بجانبه. جهل المحب بمقابح محبوبه قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: حبّك الشّيء يعمي ويصمّ، أي يعمي عن الرشد ويصمّ عن سماع المواعظ على ذلك قال معاوية: لولا يزيد لأبصرت رشدي. قال شاعر: يا عتب ما أنا عن فعالك بي ... أعمى ولكنّ الهوى أعمى وقال آخر: وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... كما أنّ عين السخط تبدي المساويا «3» قال المتنبيّ: ويقبح من سواك الفعل عندي ... وتفعله فيحسن منك ذاكا قال علي بن عبد الله بن جعفر: ولائم لام فيه ... يبغى بذلك شيني «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 فقلت إذ لام فيه ... هلّا نظرت بعيني «1» وقال الأصمعي: سألني الرشيد عن حقيقة العشق فقلت: أن يكون البصل منها أطيب من المسك من غيرها. عذر من أحبّ قبيحا قيل لرجل: لم اخترت من جواريك أقبحّهنّ؟ فقال: لأن الهوى ليس نخّاسا «2» فيختار أثمنهنّ. وقال رجل للجماز: ابتلاك الله بحب فلانة وإنّها لامرأة قبيحة. فقال يا أحمق لو ابتلاني الله بحبها لكانت كالحور العين عندي، ولكن ابتلاك بأن تكون في بيتك وأنت تبغضها ولا يمكنك التخلّص منها. وقيل لرجل: اخترت فلانة مع قبحها فقال: لو صحّ لذي الهوى اختيار لاختار أن لا يعشق وقيل: العين إذا أبصرت الهوى عميت عن الاختيار. من جعل محبوبه كمعبوده مذهب الحلوليين «3» معروف فيما يدّعونه- تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا- قال شاعر: لما رآه النصارى لا شبيه له ... وشاهدوه بأسماع وأبصار خرّوا سجودا وقالوا حلّ ثانية ... في صورة الأنس ذاك الواحد الباري وقال آخر: أفدي بنفسي من بدر على غصن ... تكاد تأكله عيناي بالنظر إذا تفكّرت فيه عند رؤيته ... صدّقت قول الحلوليين في الصور هوى ثبت في الصغر وبقي على حالته في الكبر كل هوى ثبت في الصغر فهو كالنّقش في الحجر، لا تغيّره الأحوال ولا تبدّله الأعوام. قال ابن الطثريّة: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا خاليا فتمكّنا وقال: وعلقت ليلى وهي ذات ذوائب ... تردّ علينا بالعشيّ المراميا «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 فشبّ بنو ليلى وشبّ بنو ابنها ... وأعلاق ليلى في الفؤاد كما هيا «1» من ذكر أنّ هواه لا يزول إلا بموت قال شاعر: ستبقى لها في مضمر القلب والحشا ... سريرة ودّ يوم تبلى السرائر وقال آخر: يهيم فؤادي ما حييت بذكرها ... ولو أنّني قدمتّ جاوبها الصدى «2» المفاضلة بين قديم الهوى وحديثه قال الأصمعي: رأيت في طريق الحج جاريتين كفلقتي القمر، فلما كانت السنة الثانية رأيت إحداهما فسألتها عن أختها فقالت تزوج بها ابن عم لها، فقلت: لو أدركتها لتزوجتها فقالت ما يمنعك من شقيقتها في حسبها ونسبها وشريكتها في حسنها فقلت: قول كثير: إذ واصلتنا خلّة كي تزيلها ... عرضنا وقلنا الحاجبيّة أوّل فقالت بيننا كثير أليس هو القائل: هل وصل عزّة إلا وصل غانية ... في وصل غانية عن وصلها خلف «3» وحدّث يحيى بن أكثم المأمون أن كثيّرا اجتمع مع عزّة فتنكرت له متنقّبة وقالت: من أنت؟ قال كثير فقالت: وهل تركت عزّة فيك نصيبا لغيرها؟ فقال: لو أن عزة كانت أمة لي لجعلتها لك، فكشفت البرقع وقالت: أهذا أيضا كذب الوشاة؟ فاستحيا، فقال: المأمون لقد استحييت له وأنا على سريري. وقال جعفر بن سليمان: قصدت المهدي يوما فقال: دخلت إلى جارية يقال لها حسناء ودخلت أخرى يقال لها ملكة، وأردت القيلولة فقلت: عند أيكما أقيل؟ فقالت حسناء: إن الله تعالى يقول: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ «4» فقالت ملكة لا تعجّل فإن الله تعالى يقول: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى «5» فقلت لو أن شريكا حضرهما لم يقدر أن يقضي بينهما. قال بشار: سبقت بالحب سلمى غيرها ... وأحقّ النّاس عندي من سبق قال أبو تمّام: نقلّ فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحبّ إلّا للحبيب الأوّل كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأوّل منزل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 ونقضه ديك الجن فقال: نقّل فؤادك حيث شئت فلن ترى ... كهوى جديد أو كوصل مقبل من جعل لكلّ من قديم الهوى وحديثه نصيبا قال شاعر: أنا مبتلىّ ببليتين من الهوى ... شوقي إلى الثاني وذكر الأول قسم الفؤاد لحرمة وللذة ... في الحبّ من ماض ومن مستقبل قال كثيّر: وللعين ملهىّ في البلاد ولم يقد ... هوى النفس شيء كاقتياد الطّرائف قال أبو تمّام: وقالت أنيسي البدر قلت تجلّدا ... إذا الشمس لم تغرب فلا طلع البدر من ذكر كثرة من يهواهم قال ابن أبي طاهر: عدمت فؤادي من فؤاد فما أشقى ... وأكثر من يهوى وأعظم ما يلقى فلو كان يهوى واحدا لعذرته ... ولكنّه من جهله يعشق الخلقا ثمانون لي في كلّ يوم أحبّهم ... وما في فؤادي واحد منهم يبقى وقال آخر: قالوا بغانية واصلت غانية ... فقلت: حزم ورود الماء بالماء «1» مساعفة المحبوب إذا ساعف والإعراض عنه إذا أعرض هذه طريقة يختارها قوم فيطيب عيشهم وإن كان لا يرضاها من يتكلم في العشق من حكام أربابه. قال شاعر: تمتّع بها ما ساعفتك ولا يكن ... عليك شجىّ في الصّدر حين تبين تأسّف من بحبّه من لا يحبه قال شاعر: إن كان ذا قدر أنعطيك نافلة ... منّا وتحرمنا ما أنصف القدر وقال أبو الطحان: أفي الحقّ أنّي مغرم بك هائم ... وأنّك لا خلّ هواك ولا خمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 وقال أشجع: وموت الفتى خير له من حياته ... إذا كان ذا حالين يصبو ولا يصبى ويستظرف للمتنبي: أنت الحبيب ولكنّي أعوذ به ... من أن أكون محبّا غير محبوب قال بعضهم: وجدت بمكة شابا مصفرا ناحلا فسألته عن حاله فقال: بليت بوصيفة فذهب رأس مالي في ثمنها ونفقتها وليست تحبني، فقلت استمتع بها وعدها بعض نعم الدنيا والآخرة هل تحبك العافية هل تحبك الصحة هل يحبك المال هل تحبك الجنة؟ فقال: لا. فقلت: أليس تحب كل ذلك وتتمتع به مع أنه لا يحبك، فهبها بعض نعيم دنياك وآخرتك فقام كالمسرور وأوجع إليها وساهلها في سوء خلقها حتى رجع الله تعالى بقلبها إليه وطاب عيشه معها. تأسف من يزداد صفاء بجفاء محبوبه قال إبراهيم بن العباس: بنفسي من إساءته اعتماد ... ومن إحسانه من غير عمد ومن أصفيته في الودّ جهدي ... فعارض في الجفاء بمثل جهدي وقال أبو العتاهية «1» : ولي فؤاد إذا طال العذاب به ... هام اشتياقا إلى لقيا معذّبه يفديك بالنّفس صبّ لو يكون له ... أعزّ من نفسه شيء فداك به «2» من ذكر مساواة محبوبه في المحبّة إنّ التي زعمت فؤادك ملّها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها قال إبراهيم بن المهدي: وتخبرني عن قلبها فكأنّها ... إذا صدقت عنه تحدّث عن قلبي قال أبو عنبسة: كلانا سواء في الهوى غير أنّها ... تجلّد أحيانا وما بي تجلّد قال الرفاء: شكوت الذي تشكو إليّ كأنّما ... تجنّ ضلوعي ما تجنّ ضلوعها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 قال بعض الصوفية «1» : روحه روحي وروحي روحه ... إن يشا شئت وإن شئت يشأ تعارف القلوب مودّات الأحباب قال صلّى الله عليه وسلّم الأرواح جنود مجنّدة فما تعارف منها ائتلف. وما تناكر منها اختلف. قال بكر بن النطاح: وعلى القلوب من القلوب دلائل ... بالودّ قبل تشاهد الأشباح قال العبّاس بن الأحنف: قل للّتي وصفت مودّتها ... للمستهام بذكرها الصّب ما قلت إلا الحقّ أعرفه ... إنّ الدليل عليه من قلبي قلبي وقلبك بدعة خلقا ... يتجاريان بصادق الحبّ ثم نقض هذا بقوله: فلو كنّ حقّا كما يزعمون ... لما كان يجفو حبيب حبيبا محبة من لا يعرف الهوى قال العبّاس بن الأحنف: وجاهلة بالحبّ لم تبل طعمه ... وقد تركتني أعلم النّاس بالحّب وقال ابن المعتز: قد كان غرا بقتلي ليس محسنه ... فالآن يبدع في قتلي على البدع «2» محبة كل من مات بالمحبوب أحبّ بني القوام طرّا لحبّها ... ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا «3» قال قيس بن ذريح: وداع دعا إذ نحن بالخيف من مني ... فهيّج أشجان الفؤاد وما يدري «4» دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... أهاج بليلى طائرا كان في صدري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 وقال المتنبيّ: لولا ظباء عديّ ما شقيت بهم ... ولا بربربهم لولا جآذره «1» من هانت نفسه عليه لاستخفاف محبوبه بها قال أبو الشيص: أشبهت أعدائي فصرت أحبّهم وقال البيتين آخر: إن الذين بخير كنت تذكرهم ... قد أهلكوك وعنهم كنت أنهاكا لا تطلبن حياة عند غيرهم ... فليس يحييك إلا من توفّاكا المدعي عشقا من غير عيان وقال بشار: يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا قالوا بمن لا ترى تهذي، فقلت لهم: ... الأذن كالعين تؤتي القلب ما كانا «2» قال ابن الرومي: هويتك ناشئا قبل التّلاقي ... هوى حدثا تكهّل باكتهالي «3» وكلّ مودة قبل اختبار ... فتلك هوى طبائع لا انتحال «4» تأذّي المحبوب بحبّه قيل: المرأة إذا أحبتك آذتك وإذا أبغضتك خانتك. وقال رجل ليوسف الصديق: إني أحبّك، فقال: لا حاجة لي بمن يحبني فقد أحبني أبي فطرحت لأجله في الجبّ وأحبتني امرأة العزيز فحبست لأجلها في السجن بضع سنين. من فقدته العين ولم يفقده القلب قال بعض المحدثين: والله ما شطّت نوى ظاعن ... إلّا عن العين إلى القلب «5» وقال آخر: بنتم عن العين القريحة فيكم ... وسكنتم منّي الفؤاد الواله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 قال ابن قتير: إن كنت لست معي فالذكر منك سوى ... قلبي القريح وإن غيّبت عن بصري العين تبصر من تهوى وتحرمه ... وإنّما القلب لا يخلو من الفكر وقال آخر: يجدّ النأي ذكرك في فؤادي ... إذا ذهلت على النّأي القلوب «1» وقال البحتري: إن جرى بيننا وبينك هجر ... وتناءت منّا ومنك الديار فالغليل الذي عهدت مقيم ... والدّموع التي عهدت غزار «2» تذكّر المحبوب في جميع الأحوال وقال شاعر: تذكّر نيك الخير والشرّ والذي ... أخاف وأرجو والذي أتوقّع قال عمر بن أبي ربيعة: إذا طلعت شمس النهار ذكرتها ... وأحدث ذكراها إذا الشمس تغرب قالت الخنساء «3» : يذكّرني طلوع الشمس صخرا ... وأذكره لكلّ غروب شمس من لم يوجعه بعد محبوبه لتصوره إن التباعد لا يضرّ إذا تقاربت القلوب قال ابن المعتز: ما أبالي بظنون ... وعيون أتّقيها لي من ذكراك مرآ ... ة أرى وجهك فيها (2) تذكّر المحبوب في اليقظة والنوم لعليّ بن الجهم، قوله: آخر شيء أنت في كل هجعة ... وأوّل شيء أنت عند هبوبي «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 قال ابن ميّادة: فما مسّ جنبي الأرض إلا ذكرتها ... وإلا وجدت ريحها في ثيابيا تذكّر المحبوب في الخفض والشدّة وقال بعضهم: أسجنا وقيدا واشتياقا وعبرة ... ونأي حبيب إنّ ذا لعظيم وأن أمرأ دامت مواثيق عهده ... على مثل ما قاسيته لكريم قال بعض الصوفية: ولقد ذكرتك والذي أنا عبده ... والسيف عند ذؤابتي مسلول تذكره بضرب من المشابهة من طيب كتب بعض البلغاء: يذكرناك ريح الشمول وريح الشمال «1» قال بشّار: إذا لاح الصوار ذكرت سعدى ... وأذكرها إذا نفخ الصوار «2» قال الخبزارزي: نصبا لعينك لا ترى حسنا ... إلا ذكرت به لها شبها قال البحتري: كأس تذكرّني الحبيب بلونها ... وبشمّها وبطعمها وحبابها «3» قال بعض المحدثين: إذا ما ظمئت إلى ريقه ... جعلت المدامة منه بديلا وأين المدامة من ريقه ... ولكن أعلّل قلبا عليلا تعسر نسيان المحبوب قال المهدي يوما لأصحابه: أي بيت أغزل؟ فقال بعضهم قول كثيّر: أريد لأنسى ذكرها فكأنّما ... تمثّل لي ليلى بكلّ سبيل فقال ماله يريد أن ينسى. فقيل: قول امرئ القيس في اعشار قلب مقتل فقال هذا جاف، فقال ابن بزيع عندي غرضك: إذا قلت إنّي مشتّف بلقائها ... وحم التلاقي بيننا زادني وجدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 فقال: أصبت. الاستحياء من المحبوب بظهر الغيب لتصوّره قال جميل «1» : وأني لأستحييك حتى كأنّما ... عليّ بظهر الغيب منك رقيب قال أشجع: ويمنعني من لذّة العيش أنّني ... أخاف إذا قارفت لهوا ترانيا ذكره في الصلاة قال المجنون: أصلّي فما أدري إذا ما ذكرتها ... اثنتين صلّيت الضّحى أم ثمانيا قال الخبزارزي: ألفت هواك حتّى صرت أهذي ... بذكرك في الرّكوع وفي السّجود «2» التلذّذ بذكره اشرب على ذكرهم إن حيل بينهم ... عساك منهم على ذكر إذا شربوا قال محمد بن أمية: أقول لهم كرّوا الحديث الذي مضى ... وذكراك من بين الأنام أريد أناشده ألا أعاد حديثه ... كأنّي بطيء الفهم حين يعيد قيل لأبي المجنون: لو خرجت إلى مكة لتكون بعيدا عن ليلى، فعساه يتسلّى ففعل. فسمع يوما إنسانا يقول يا ليلى فغشي عليه فلما أفاق قيل له مالك؟ فقال: وداع دعا بالخيف إذ نحن من منى وقال: وإنّي تعروني لذكراك هزة ... لها بين جلدي والعظام دبيب «3» من خطّ صورة محبوبه وشكا إليها قال أبو نواس «4» : إذا ما الشّوق أقلقني إليه ... ولم أطمع بوصل من لديه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 خططت مثاله في بطن كفّي ... وقلت لمقلتي فيضي عليه قال بشار: خططت مثالها وجلست أشكو ... إليها ما لقيت على انتحاب كأنّي عندها أشكو همومي ... إليها والشكاة على التّراب الاستقاء لماضي الزمن سقى الله أياما لنا ولياليا ... مضين فلا يرجى لهنّ طلوع إذ العيش صاف والأحبّة جيرة ... جميع وإذ كلّ الزمان ربيع وإذ أنا أما للعواذل في الهوى ... فعاص وأما للهوى فمطيع قال الصاحب في هذا الشعر: إن شئت كان أعرابيا في شملته وإن شئت فعراقي في حلّته. وقال البحتريّ: والعيش غضّ والحياة لذيذة ... والحادثات عن الزّمان بمعزل وقال آخر: سقيا لأيام تولّت بها ... أحسن ما كانت صروف الزمن ولّت فما الدنيا بأقطارها ... لليوم والساعة منها ثمن تمنّي عود الأيام السالفة قال بعضهم: ولو أنني أعطيت من دهري أنني ... وما كلّ ما يعطى المنى بمسدّد لقلت لأيام مضين ألا ارجعي ... وقلت لأيّام أتين ألا ابعدي وقال آخر: خليليّ ما بالعيش عتب لو أننا ... وجدنا لأيام الحمى من يعيدها وقال جحظة: ألا ليت عيشا أولا كرّ راجعا ... وإلا فعيش آخر مثل أوّل التلهف على أحوال سالفة قال منصور النميري: ومجالس لك بالحمى ... وبها الخليط نزول «1» أيامهن قصيرة ... وسرورهنّ طويل المالكيّة والشا ... ب وقينة وشمول «2» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 وقال آخر: لولا ثلاث هنّ عيش الدهر ... المال والخبز وأمّ عمرو من هيّجه الحمام بتغريده أنشد ابن أبي طاهر وقال هو أحسن ما قيل في بكاء الحمام: وقلبي أبكى كلّ من كان ذا هوى ... هتوف البواكي والديار البلاقع «1» ومرّ على الأطلال من كلّ جانب ... نوائح ما تخضّل منها المدامع مزبرجة الأعناق غرّ بطونها ... مخطّمة بالدرّ خضر روائع «2» ترى طررا بين الخوافي كأنّما ... حواشي برود أحكمتها الوشائع «3» ومن قطع الياقوت صيغت عيونها ... خواضب بالحنّاء منها الأصابع قال حميد بن ثور: وما هاج هذا الشوق إلا حمامة ... دعت ساق حرّ ترحة وترنّما بكت شجو ثكلى قد أصيب حميمها ... مخافة بين يترك الحبل أجذما «4» فلم أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربيا شاقه صوت أعجما وقال آخر: يا ويح قمرية غنّت لنا هزجا ... ممّا تغنّي بنظم جدّ متزن قد كنت واقعة دهرا على فنن ... فصرت في جوف منحوت من القنن فخبّرينا وما ألقاك مخبرة ... أتسجعين للهو منك أم شجن وفي الفؤاد هموم لست مظهرها ... خوف الوشاة وإشفاقا من الزّمن التذكر بنار موقدة نظر أعرابي إلى نار بأرض محبوبه فقال: أنار بدت يا عبد في ساكن الغضا ... مع الليل أم برق تلألأ ناضب «5» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 فاحبب بتلك النّار والموقد الذي ... له عند جرعاء النميرة حاطب «1» وقال: يا موقد النار أوقدها فإنّ بها ... سنا يهيج فؤاد العاشق السّدم التذكر بالبرق قال أبو سعيد بن فوقة: أقول وقد شمت البروق فلم أجد ... كبرق بدا من أصبهان فأومضا «2» سقى الرائح الغادي بلادا رفضتها ... ولم تك إلا أن نبت بي لترفضا وهل هي إلا موطن لي محبّب ... إليّ أعادته الخطوب مبغضا وقال: إذا أومض البرق من أرضها ... تمثّل لي أنّها تبتسم وأذكرها في المحلّ الجديب ... فيخصب من دمعي المنسجم التذكر والشوق بهبوب الريح قال شاعر: ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد ... لقد زادني مسراك وجدا على وجد «3» وقال عبد الله بن أمية: هبّت شمالا فقيل من بلد ... أنت بها طاب ذلك البلد فقبّل الريح من صبابته ... ما قبّل الريح قبله أحد وقال: إذا هبّ علويّ الرياح وجدتني ... كأنّي لعلويّ الرّياح كثيب تذكر المحبوب بالاختلاج العارض العرب تزعم أن من خدرت رجله فذكر محبوبه ذهب خدرها. قال عمر بن أبي ربيعة: إذا خدرت رجلي أبوح بذكره وقال: إذا مذلت رجلي دعوتك أشتفي ... بذكراك من مذل بها فيهون «4» ويقولون من اختلجت عينه أبصر محبوبه، قال إبراهيم الصّولي: اختلجت عيني فأبصرته ... كأن عيني تعلم الغيبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 قال ابن المعتز: مرحبا باختلاج أجفان عين ... بشّرت نفسها برؤية خير قال العباس: ظلّت تبشّرني عيني إذا اختلجت ... بأن أراك وما زالت على خطر فقلت للعين أما كنت صادقة ... إني ببشراك لي من أسعد البشر فما جزاؤك عندي لست أعرفه ... بلى جزاؤك أن تخلبن بالنظر وأحجب المقلة الأخرى وأمنعها ... وجه الحبيب كما لم تأت بالخبر (3) وممّا جاء في التوديع والفراق وقال لبعضهم: تمتّع من حبيب بالوداع ... فما بعد الفراق من اجتماع فلم أر في الذي لاقيت شيئا ... أمرّ من الفراق بلا وداع قال بشّار: إن الوداع من الأحباب نافلة ... للظّاعنين إذا ما يمّموا بلدا ولست أدري إذا شطّ المزار بهم ... هل تجمع الدار أم لا نلتقي أبدا قال الموسوي: وأفجع النّاس من سارت حبائبه ... ولا عناق ولا ضمّ ولا قبل التوديع بالإشارة قال الأصمعي سمع أعرابيا يخاطب آخر يقول: شيعنا الحي وفيهم أدوية السقام فاشرنا بالحدق إلى السلام وجمدت الألسن عن الكلام. خرج رجل في سفر وكانت له ابنة عم يحبّها فقال: ولما تبدّت للرحيل جمالنا ... وجدّ بنا سير وفاضت مدامع أشارت بأطراف البنان وسلّمت ... وأومت بعينيها متى أنت راجع فقلت لها والقلب فيه حرارة ... فديتك ما علمي بما الله صانع استطابة التوديع طمعا في لقاء الحبيب قال شاعر: وسهّل التوديع يوم النّوى ... ما كان قد وعّره الهجر «1» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 وقال: ليس عندي خطب النوى بعظيم ... فيه روح وفيه كشف غموم إنّ فيه اعتناقة لوداع ... وانتظار اعتناقة لقدوم وقال: ولو فهم النّاس التّلاقي وحسنه ... لحبّب من أجل التّلاقي التفرّق فيا حسننا والدّمع بالدمع واشج ... نمازجه والخدّ بالخدّ ملصق «1» فلم تر إلا مخبرا عن صبابة ... بشكوى وإلا عبرة تترقرق ومن قبل قبل التلاقي وبعده ... نكاد بها من شدّة اللثم نشرق «2» عذر نارك توديع محبوبه كتب بعضهم: ما أعرضت عن تشييعك إلا استفظاعا لتوديعك وما كرهت توديعك إلا كراهة تجديد العهد بفراقك. قال البحتري: لا تعذلني في مسي ... رك يوم سرت ولم ألاقك أني عرفت مواقفا ... للبين تسفع غرب ماقك «3» وعلمت أن لقاءنا ... سبب اشتياقي واشتياقك قال الصنوبري: بأبي من هربت من توديعه ... وبعثت الدموع في تشييعه البكاء عند التوديع لما أراد عبد الملك الخروج إلى مصعب بن الزبير تعلقت به امرأته عاتكة فبكت وأبكت جواريها، فقال عبد الملك: قاتل الله ابن أبي جمعة حيث قال: إذا ما أراد الغزو لم يثن عزمه ... حصان عليها نظم درّ يزينها «4» نهته فلمّا لم تر النهي عاقه ... بكت فبكى ممّا دهاها قطينها «5» وقال: وممّا دهاني أنّها يوم أعرضت ... تولّت وماء العين في الجفن حائر «6» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 فلمّا أعادت من بعيد بنظرة ... إليّ التفاتا أسلمته المحاجر وقال آخر: سقى الله ركبا ودّعوا يوم ودّعوا ... وعيرهم شوقي وحاديهم وجدي «1» غداة مضت واستوثقتني عبرة ... أسائل في سعد عن القمر السعدي إظهار التوجع لوداع الحبيب قال شاعر: وداعك مثل وداع الربيع ... وقدّك مثل انفقاد الدّيم «2» عليك السلام فكم من وفا ... نفارقه منك أو من كرم قال أبو تمّام: النّاس غيرك ما تغيّر خيرتي ... لفراقهم هل أنجدوا أم أغاروا «3» صعوبة لقاء الإبل للفراق لو تعلم العيس ما في يوم بينهم ... أبت على السائق الحادي فلم تسر كأنّ أيدي مطاياهم إذا وخذت ... يقعن في حرّ وجهي أو على بصري قال المتنبيّ: كأنّ العيس كانت فوق جفني ... مناخات فلما ثرن سالا «4» وقد ذم بعضهم الإبل لما كانت سببا للفراق فقال: وما غراب البين إلا ناقة أو جمل ونقضه جران العود فقال: بأخفافها يدنو الفتى من حبيبه ... وتنقذه إن أذهلته الشّدائد «5» ارتحال القلب بارتحال المحب ّ قيل: إن بان أخوك بان شطرك. قطيعة الوصال قطع الأوصال. قال الصنوبري: ذكروا أنّ الفراق غدا ... وفراق النّفس بعد غد قال أبو تمّام: قالوا الرحيل فما شككت بأنّه ... نفسي عن الدنيا تريد رحيلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 قال التنوخي: كأنّما كان عمري في اقترانك بي ... عارية فاستردته يد البعد «1» وكتب بعضهم يوم توديعك ودّعت قلبي فهو يتصرف بتصرفك وينصرف بمنصرفك. قال ابن الحجاج «2» : رحلت وما علمت بأنّ قلبي ... على بعض الزوامل في الرحال «3» وقال آخر: لئن بعدت عنك أجسادنا ... لقد سافرت معك الأنفس قال السلامي: ما تنشدون وقلبي في رحالكم ... هو الصواع وبعض العير سرّاق «4» قال أبو تمّام: تكاد تنتقل الأرواح لو تركت ... من الجسوم إليها حين تنتقل من ارتحل فخلّف قلبه عند حبّه. قال الخبزارزي: أنا غائب والقلب عندك حاضر ... سافرت عنك وما الفؤاد مسافر وقال آخر: وإن يرتحل جسمي مع الركب مكرها ... يقم عنده قلبي وأمضي بلا قلب قال المتنبيّ: فجد لي بقلب إن رحلت فإنّني ... أخلفّ قلبي عند من فضله عندي «5» ولو فارقت جسمي إليك حياته ... لقلت أصابت غير مذمومة العهد شدّة الفرقة قيل لبعض الصوفية: لم تصفرّ الشمس عند الغروب؟ فقال: خوفا من الفراق وبه ألم. قال الأستاذ الرئيس: لا تركننّ إلى الودا ... ع وإن سكنت إلى العناق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 فالشمس عند غروبها ... تصفرّ من خوف الفراق وقيل: ما أشد صدع الفراق بين الرفاق. وقيل بكف الفرقة نقدح نار الحرقة، كبدي بيد الشوق مخطوفة وعيني بقذى الفراق مطروفة. أنتن من ريح الفراق وأزكى من نسيم التلاق: وما الدّهر إلا هكذا فاصطبر له ... رزيّة مال أو فراق خليل «1» الحذر من الفراق قال أشجع: ومحاذر للبين قد ... وقع الذي يخشى حذاره «2» وقال آخر: كفى حزنا أنّ زوارنا ... لوقت الرّواح أرادوا الغروبا فلو كنت بالشمس ذا طاقة ... لطال على النّاس حتّى تغيّبا وقال: وأشفق من وشك الفراق وإنّني ... أظنّ كمحمول عليه مراكبه شدّة سماع الفرقة وقال أبو نواس: طرحتم من التّرحال أمرا فغمّنا ... فلو قد فعلتم صبّح الموت بعضنا كون الفرقة كالمنيّة قيل: لكل جليلة دقيقة ودقيقة الموت الفراق. قال النميريّ: أن المنيّة والفراق لواحد ... أو توءمان تراضعا بلبان «3» في فرقة الأحباب شغل شاغل ... والثكل حقا فرقة الإخوان «4» وقال أبو تمّام: لو حار مرتاد المنيّة لم يجد ... إلا الفراق على النّفوس دليلا وقال المتنبيّ: لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا إلى أرواحنا سبلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 بغض الوقت الذي يعرض في الفراق وقال أبو تمام: أن يوم الفراق يوم عبوس ... أيّ سيل تسيل فيه النفوس لم أزل أبغض الخميس ولم أد ... ر لماذا حتّى دهاني الخميس «1» استقباح الحياة بعد ارتحال الحبيب وقال التنوخي: إذا بان محبوب وعاش محبّه ... فذاك كذوب في الهوى غير صادق وقال: أو ليس من إحدى العجائب أنّني ... فارقته وحييت بعد فراقه اعتراض الفراق قال ابن الرومي: أخرجت من جنّتي مفاجأة ... آمن ما كنت في حدائقها بينا استماعي هديل هادلها ... إذ راع قلبي نعيق ناعقها «2» وأنشد المأمون قول العبّاس بن الأحنف: هم كتموني سرّهم ثمّ أزمعوا ... وقالوا اتعدنا للرّواح فبكّروا فقال سخروا بابي أفضل أعزّه الله. وقال إبراهيم بن العباس: وزالت زوال الشّمس عن مستقرّها ... فمن مخبري في أيّ أرض غروبها مفارقة المحبوب قبل التمتّع به قال الخبزارزي: استودع الله أحبابا فجعت بهم ... بانوا فما زوّدوني غير تعذيبي «3» بانوا ولم يقض زيد منهم وطرا ... وما انقضت حاجة في نفس يعقوب «4» وقال ابن الأحنف: سألونا عن حالنا كيف أنتم ... فقرنّا وداعهم بالسّؤال ما أناخوا حتّى ارتحلنا فما نف ... رّق بين النّزول والارتحال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 وقال محمد بن أمية: يا فراقا أتى بعيد تلاق ... واتّفاقا جرى بغير اتّفاق حين حطّت ركابنا لتلاق ... زمّت العيس منهم لفراق «1» إنّ نفسي بالشام إذ أنت فيها ... ليس نفسي نفسي التي بالعراق أشتهي أن يرى فؤادي فيدري ... كيف وجدي بهم وكيف احتراقي كون من تباعد عن محبوبه في غربة فلا تحسبي أنّ الغريب الذي نأى ... ولكنّ من تنأين عنه غريب وقال الخبزارزي: أني لفي غربة مذ غبت يا سكني ... وإن ظللت أرى في الأهل والوطن «2» قال المتنبيّ: إذا ترحّلت عن قوم وقد قدّروا ... أن لا تفارقهم فالرّاحلون هم التلفّت إلى المحبوب بعد الارتحال عنه قال شاعر: ما سرت ميلا ولا جاوزت مرحلة ... إلا وذكرك يلوي دائما عنقي وقال المتنبيّ: أفدي المودّعة التي أتبعتها ... نظرا فرادى بين زفرات ثنا «3» قال ابن المعتزّ: لست أنسى التفاته حين ولّى ... والتفاتي وقد نظرت إليه وكلانا من التأسّف والوج ... د على إلفه يعضّ يديه تسلّط أيام البين على وصل الأحباب قال شاعر: أرّق العين أن قرّة عيني ... دخلت بينه الليالي وبيني قال جحظة: جرت نوب الأيّام بيني وبينه ... فلم يبق إلا ما أعيد من الذّكر وقال أبو تمّام: عبث الفراق بعينه وبقلبه ... عبثا يروح الجدّ فيه ويغتدي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 وصف الدهر والنوى قال محمد بن وهب: إذا ما سموت إلى وصله ... تعرّض لي دونه عائق وحاربني فيه ريب الزمان ... كأنّ الزّمان له عاشق قال شاعر: ملام النّوى في بعدها غاية الظلم ... كأنّ بها مثل الذي بي من اللوم فلو لم تعز لم تزوعنّي لقاءكم ... ولو لم تردّكم لم تكن فيكم خصمي «1» وقال المتنبيّ: أبى خلق الدنيا حبيبا تديمه ... فما طلبي منها حبيبا تردّ التحيّر لتفرّق الأحباب فرقتين قال أبو العتاهية: أيا كبدا عادت عشيّة غرّب ... من الشوق إثر الظاعنين تصدع عشيّة ما فيمن أقام يغرّب ... مقام ولا فيما مضى متشرّع تفرّق أهلانا مقيما وظاعنا ... فلله درّي أيّ قومي أتبع ينازعني شوقي أمامي وحاجتي ... ورائي فما أدري بها كيف أصنع الرغبة في حفظ المودة عند الغيبة خرج عبد الملك بن صالح مشيّعا لجعفر بن يحيى فاستعرض حاجاته فقال: قصارى كل مشيّع الرجوع، ولكني أريد من الأمير أن يكون كما قال ابن الدمينة «2» : فكوني على الواشين لدّاء شغبة ... كما أنا للواشي ألدّ شغوب «3» فقال جعفر: أقول كما قال جميل: معاتبة القلب لاشتياقه إذا نأى وتلوّنه على الحبيب إذا دنا. قال بعضهم: وخبّرتني يا قلب أنّك ذو هوى ... بليلى فذق ما كنت قبل تقول ومنّيتني حتّى إذا ما تقطّعت ... قوى من قوى أعولت كلّ عويل؟ وقال الخوارزمي: ولما سرت عنك رأيت نفسي ... وبين الرجل والقلب اختصام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 فذاك يقول منك السير عنه ... وتلك تقول منك الاعتزام «1» التحذير من مفارقة الحبيب أترحل طوع النفس عمّن تحبّه ... وتبكي كما يبكي المفارق عن قهر أقم لا تسر والحزن عنك بمعزل ... ودمعك باق في مآقيك لا يجري الندم على مفارقته قال المهلّبي: من ذا ألوم أنا جنيت فراق من أبكي عليه وقال قيس بن ذريح «2» : ندمت على ما فات منّي فقدتني ... كما ندم المغبون حين يبيع فقدتك من قلب شعاع فإنّني ... نهيتك عن هذا وأنت جميع «3» قال المجنون: فإن ترجع الأيام بيني وبينها ... بذي الأثل صيفا مثل صيفي ومربعي «4» أشدّ بأعناق النّوى بعد هذه ... مرائر إن جاذبتها لم تقطع «5» من ارتحل عنه فأسرع العود شوقا إليه قيل لجميل: أما سمعت قول ابن عمك زهير بن حباب: إذا ما شئت أن تسلو خليلا ... فأكثر دونه عدد الليالي فما سلى حبيبا مثل نأي ... ولا أبلى جديدا كابتذال «6» قيل: فلو نأيت عنها لسلوت فخرج عنها ليلة ثم رجع وهو يقول: أشوقا ولمّا تمض لي غير ليلة ... رويد الهوى حتّى تغبّ لياليا «7» لحا الله أقواما ما يقولون إنّنا ... وجدنا طوال النّأي للحبّ شافيا خرج المهدي يريد منزل حسنة، فلما بلغ دارها وترفعت أستارها اشتاق إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 الخيزران فكرّ راجعا وقال: وسوتاه من حسنة فإني والله أصابني كما أصاب من يقول: بينما نحن بالبلاكث فالقا ... ع شراعا والعيس تهوي هويّا «1» خطرت خطرة على القلب من ذكراك ... وهنا فما استطعت مضيّا قلت لبيك إذ دعاني يد الشو ... ق وللحاديين كرّا المطيّا «2» الشوق بعد الارتحال كان لأعرابي مملوك فاشتراه عراقيّ فلما ارتحل به بكى وأنشد: أشوقا ولمّا تمض لي غير ليلة ... فكيف إذا سار المطيّ بنا عشرا أخوكم ومولاكم وصاحب سركم ... ومن قد نشا فيكم وعاشركم دهرا فقال له المشتري الحق بأهلك. وقال المتنبيّ: أرى أسفا وما سرنا قليلا ... فكيف إذا غدا السير ابتراكا «3» فهذا الشوق قبل البين سيف ... وها أنا ما ضربت وقد أحاكا «4» قال أشجع: فها أنت تبكي وهم جيرة ... فكيف تكون إذا ودّعوا قال أبو فراس: حملت هواك لا جلدا ولكن ... صبرت على اختيارك واضطراري المفارقة كرها قال الماني: لا تنكرنّ رحيلي عنك في عجل ... فإنّني لرحيل غير مختار وربّما فارق الإنسان مهجته ... يوم الوغا غير قال خيفة العار كراهة فراق من صحبته كرها قال شاعر: أقمنا كارهين لها فلمّا ... ألفناها خرجنا مكرهينا وما شعف البلاد بنا ولكن ... أمرّ العيش فرقة من هوينا «5» خرجت أقرّ ما قد كنت عينا ... وخلّفت الفؤاد بها رهينا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 وقال: وكم من زائر بالكره منّي ... كرهت فراقه بعد المزار من عمّ الغم بفراقه قال نفيلة الأشجعي: فلمّا أن دنا منّا ارتحال ... وقرّب ناجيات السير كوم «1» تحاسر واضحات اللون غرّ ... على ديباج أوجهها النّعيم فقائلة ومثنية علينا ... تدور ومالنا فيها حميم وقال المتنبيّ: رحلت فكم باك بأجفان شادن ... عليّ وكم ران بأجفان ضيغم وما ربّة القرط المليح مكانه ... بأجزع من ربّ الحسام المصمّم «2» من لم يبال بالفراق لكثرة ما دهاه قال المتنبيّ: وفارقت حتّى ما أبالي من النّوى ... وإن بان جيران عليّ كرام فقد جعلت نفسي على النّأي تنطوي ... وعيني على فقد الصديق تنام وقال: روّعت بالبين حتّى ما أراع له ... وبالمصائب في أهلي وجيراني وقال: وما أنا بالمستنكر البين إنّني ... بذي لطف الجيران قدما مفجّع الشاكي كثرة ما يعرض له من فرقة الأحباب قال الشاعر: كأنّا خلقنا للنّوى فكأنّنا ... حرام على الأيّام أن نجتمعا وقال علي بن عبد العزيز: كأنّ البين محتوم علينا ... فليس سوى التّلاقي والوداع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 (4) وممّا جاء في الهجران الهجران سبب التسلّي الهجر مفتاح السلوّ وطول العهد يقدح في القلوب قال بشّار: ولا يلبث الهجران أن يقطع النّوى ... إذا لم تطالع آلفا أو يطالع وقال العبّاس: راجع أحبّتك الذين هجرتهم ... إن المتّيم قلّما يتجنّب إنّ الصدود إذا تمكّن منكما ... دبّ السلوّ له وعزّ المطلب «1» تعظيم الهجران قال ابن الجهم: بما بيننا من حرمة هل رأيتما ... أرقّ من الشّكوى وأقسى من الهجر وقال آخر: وموت الفتى خير له من حياته ... إذا كان ذا حالين يصبو ولا يصبي «2» إلا أن هجران الحبيب هو الأثم إظهار الندم على هجران الحبيب قال شاعر: هجرتك أيّاما على الغمر إنّني ... على هجر أيام بذي الغمر نادم «3» وإنّي وذاك الهجر لو تعلمينه ... كعازبة عن طّفلها وهي رائم «4» الحاسد لمن يواصله محبوبه قال أبو صخر الهذليّ: لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى ... أليفين منها لا يروعهما الدّهر وقال آخر: فيا ليت أنّ الله إذا لم ألاقها ... قضى بين كلّ اثنين أن لا تلاقيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 وقال ابن العميد: لا يهنأ العاشقين أنّي ... منفرد بالغرام وحدي من لا يلتّذ بالوصل خيفة الهجر قال العبّاس: إذا رضيت لم يهنني ذلك الرّضا ... لعلمي يوما أن سيتبعه عتب وقيل: لا تغتر بصفاء الألفة فإنها منكشفة عن كدر الفرقة. وقيل إذا ساعدك الدهر بوصل محبوب، فاعلم أنه قد غرّ وضرّ. وقال سعيد الكاتب: ما كنت أيام كنت راضية ... عنّي بذاك الرضا بمغتبط علما بأن الرّضا سيتبعه ... منك التجنّي وكثرة السخط «1» نفي الانتفاع بقرب الدار مع الهجران قال إبراهيم: دنت بأناس عن تناء زيارة ... وشطّ بليلى عن دنوّ مزارها وإن مقيمان بمنقطع اللوى ... لا قرب من ليلى وهاتيك دارها «2» وقال آخر: رأيت دنوّ الدار ليس بنافع ... إذا كان ما بين القلوب بعيد قال العبّاس: كفى حزنا أن التباعد بيننا ... وقد جمعتنا والأحبّة دار قال عبد الوهاب: البعد منهم على رجائهم ... أنفع من هجرهم إذا حضروا الإعراض عن الحبيب خشية الرقيب قال الشاعر: وما هجرتك النفس أنّك عندها ... قليل وإن قد قلّ منك نصيبها ولكنّهم يا أملح الناس أولعوا ... بقول إذا مازرت، هذا حبيبها وقال: ولما رأيت الكاشحين تتبّعوا ... هوانا وأبدوا دوننا نظرا شزرا «3» جعلت وما بي من جفاء ولا قلى ... أزوركم يوما وأهجركم شهرا «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 وقال الأحوص: يا بيت عاتكة التي أتغزّل ... حذر العدى وبه الفؤاد موكّل وقال: أمرّ مجانبا عن بيت ليلى ... ولم ألمم به وبه القليل وقال آخر: أزور بيوتا لا صقات ببيتها ... ونفسي في الدّار التي لا أزورها الهجران لرضا الحبيب وقال مسلم: إن كان هجراننا يطيب لكم ... فليس للوصل عندنا ثمن قال المتنبّي: إن كان سركم ما قال حاسدنا ... فما لجرح إذا أرضاكم ألم «1» وقال آخر: سررت بهجرك لمّا علمت ... بأنّ لقلبك فيه سرورا وأني أرى كلّ ما ساءني ... إذا كان يرضيك سهلا يسيرا استطابة قليل الهجر بين المتحابين قال الخثعمي: ولم أر مثل الصدّ أحسن منظرا ... إذا كان ممّن لا يخاف على الوصل وقال المتنبّي: وأحلى الهوى ما شكّ في الوصل ربّه ... وفي الهجر فهو الدّهر يرجو ويتّقي «2» وقال: إذا لم يكن في الحبّ سخط ولا رضا ... فأين حلاوات الرسائل والكتب هجران الحبيب صيانة للنفس قال أحمد بن يوسف: تركتك والهجران لا عن ملالة ... ورددت يأسا من إخائك في صدري وألزمت نفسي من فراقك خطّة ... حملت لها نفسي على مركب وعر «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 وإنّي وإن رقّت عليك ضمائري ... فما قدر حبّي أن أذلّ لها قدري قال الخبزارزي: إذا لم يكن في الوصل روح وراحة ... هجرت وكان الهجر أشفى وأسلما وقال آخر: ومن لم يطق صبرا على النأي يستعن ... بهجر وبعض الشر يدفع بالشّر كما لا يرى أوفى من الوصل في الهوى ... كذا لا يرى في القدر أسلى من الهجر المعتقد رضا حبيبه في الباطن وإن سخط في الظّاهر قال مسلم بن الوليد: وراضي القلب غضبان اللسان ... له خلقان ما يتشابهان يسرّ مودّتي ويطيل هجري ... ويمزج لي المودّة بالهوان «1» وقال: ودّه ودّ صحيح ... وهو عنّي ذو انقباض فعلى الظاهر غضبا ... ن وفي الباطن راضي تضجر من يواصله بغيض ويصارمه حبيب أعاشر في ذي الدّار من لا أودّه ... وفي الرّمل مهجور إلى حبيب قال الحطيئة «2» : يبغض منّا من نحبّ لقاءه ... ويجمع منّا بين أهل الضغائن «3» قال المتنبّي: أفجع بالعلق الضّنين وإنّني ... بمن لا أبالي هلكه لممتّع وله: ما تغلط الأيام فيّ بأن أرى ... بغيضا تناءى أو حبيبا يقرب وقال: تباعد ممّن واصلت فكأنّها ... لآخر ممّن لا تودّ صديق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 وقال الزبير: جبلوا على إكرام مبغضهم ... وعلى التّهاون بالذي يهوى تأسّف من هجر محبوبه قال شاعر: لو كنت عاتبة لسكّن عبرتي ... أملي رضاك وزرت غير مجانب لكن مللت فلم تكن لي حيلة ... صدّ الملول خلاف صدّ العاتب قال البحتري: وكنت أرى أنّ الصّدود الذي مضى ... دلال فما أن كان إلا تجنّبا فوا أسفي حتى م اسأل مانعا ... وآمن خوّانا وأعتب مذنبا عدم الثقة بالمحبوب قال المجنون: فأصبحت من ليلى الغداة كقابض ... على الماء خانته فروج الأصابع وله: فأصبحت من ليلى الغداة كناظر ... مع الصّبح في أعقاب نجم مغرب شكوى الحبيب لهجرانه بعد ذهابه : أبكى الذين أذاقوني مودّتهم ... حتّى إذا أيقظوني للهوى رقدوا قال ابن الجهم: أزحن رسيس القلب عن مستقرّه ... وألهبن ما بين الجوانح والصدر «1» ألا قبل أن يبدو المشيب بدأنني ... بيأس مبين أو جنحن إلى الغدر وقال جرير «2» لبعض من صحبه: من أشعر العرب؟ قال: كثيّر في قوله: وأدنيتني حتّى إذا ما ملكتني ... بقول يحلّ العصم سهل الأباطح «3» تناءيت عنّي حين لا لي حيلة ... وغادرت ما غادرت بين الجوانح «4» قال بل قول هشام: أشرعت لي موردا أعيت مصادره ... فلست أدري أأمضي فيه أم أقف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 شكوى بخل المحبوب قال شاعر: لقد بخلت حتّى لوانّي سألتها ... قذى العين من سافي التّراب لضنّت كأنّي أنادي صخرة حين أعرضت ... من الصمّ لو تمشي بها العصم زلّت «1» وإنّي وتهيامي بعزّة بعد ما ... تخلّيت ممّا بيننا وتخلّت لكالمبتغي ظلّ الغمامة كلّما ... تبوّأ منها للمقيل اضمحلّت وقال البحتري: ألف الصدود فلو يمرّ خياله ... بالصبّ في سنة الكرى ما سلّما التلوّن بما يسلي المحب تمثل شريح لامرأته بقول مالك بن أسماء: خذي العفو منّي تستديمي مودّتي ... ولا تنطقي في سورة حين أغضب «2» فأنّي رأيت الحبّ في الصّدر والأذى ... إذا اجتمعا لم يلبث الحبّ يذهب وقال: يراك ويهوى من يقلّ خلافه ... وليس بمحبوب حبيب يخالف التواء المحبوب على محبّه ومخالفته له في أحواله قال شاعر: شكوت فقالت كلّ هذا تبرّما ... بحبّي أراح الله قلبك من حبّي فلمّا كتمت الحبّ قالت لشدّ ما ... صبرت وما هذا بفعل شجيّ القلب وأدنو فتقصيني فأبعد طالبا ... رضاها فتعتدّ التباعد من ذنبي فشكواي يؤذيها وصبري يؤودها ... وتجزع من بعدي وتنفر من قربي «3» وقال: إن التي عذّبتني في محبّتها ... كلّ العذاب فما أبقت وما تركت عاتبتها فبكت فاستعبرت جزعا ... عيني فلما رأتني باكيا ضحكت فعدت أضحك مسرورا بضحكتها ... منّي فلمّا رأتني قد ضحكت بكت تهوى خلافي كما حثّت براكبها ... يوما قلوص فلمّا حثّها بركت «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 المتأسف لقلى حبيبه له قال النميري: رأيت صدودا وانقباض مودّة ... ونكراء من هجرانهم حدثت بعدي «1» أما لو يطيع القلب أو يصفح الهوى ... لنا عنك جازيناك بالهجر والصدّ وقال آخر: وما سعدى وإن كرمت علينا ... وكان لذكر سعدى يستطار «2» بأقرب في المودّة من سهيل ... وفي وجهيه للنجم ازورار يفرّ من النّجوم لغير شيء ... لعمر أبيك طال به الفرار وصف الحبيب بالتلون قال بعضهم لأن أبتلى بألف لجوج جموح أحبّ إليّ من أن أبتلى بمتلوّن. قال دعبل: أني وجدتك في الهوى ذوّاقّة ... لا تصبرين على طعام واحد وقال آخر: يا عتب لم أهجركم لملالة ... عرضت ولا لمقال واش حاسد لكنّني جرّبتكم فوجدتكم ... لا تصبرون على طعام واحد (5) وممّا جاء في البكاء والدموع وصف قطرات الدموع: كاللؤلؤ المسحور أغفل في ... سلك النّظام فخانه النّظم قال الأعشى: كما فرّق السّلك من نظمه ... لآلئ منحدرات صغارا وقال: وكأنّ الدمع درّ جامد ... والدّم الجاري عقيق قد جمد «3» وقال: فدمعتي ذوب ياقوت على ذهب ... ودمعه ذوب درّ فوق ياقوت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 دخل أبو نواس على جارية الناطفي وكان قد ضربها مولاها فقال: إنّ عنانا أسبلت دمعها ... كالدرّ إذ ينسلّ من خيطه فليت من يضربها ظالما ... تيبس يمناه على سوطه قال خالد الكاتب: ما زلت أنكر ما ألقى وأجحده ... فاستشهد العاذلون الدمع والنفسا أنشد أبو السائب القاضي قول جرير: أنّ الذين غدوا بلبّك غادروا ... وشلّا بعينك لا يزال معينا «1» غيّضن من عبراتهنّ وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا فحلف أن لا يرد على أحد سلامه يومه إلا بالبيتين ونحوه. ولبعضهم: ولمّا تلاقينا جرت من عيوننا ... دموع كففنا غربها بالأصابع «2» رأى الرشيدي كتابة في جدار قصر دجلة: ومالي لا أبكي بعين حزينة ... وقد قربت للظاعنين حمول وتحته مكتوب: ايه ايه ايه. فجعل يسأل أصحابه عن المكتوب تحته فلم يعرفوه فقال الربيع إنما أراد حكاية البكاء. وقال آخر: فلو أن خدّا كان من فيض عبرة ... يرى معشبا لا خضرّ خدّي وأعشبا قالت فاطمة بنت الأحجم: كأنّ عيني لمّا أن ذكرتهم ... غصن يراح من الطّرفاء ممطور «3» وقال آخر: نبيت كأنّ العين أفنان سدرة ... عليها سقيط من ندى الطلّ ينطف «4» جعل البكاء كسحاب وقطر قال كثيّر: كأنّ إنسانها في لجّة غرق وقال ابن الحاجب: كأنّ السحاب الغرّ حشو جفونه ... إذا انهملت من عينه عبراتها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 وقال الدمشقي: علّمت إنسان عيني أن يعوم فقد ... حارت سباحته في ماء دمعته تشبيه الدمع بماء يتصبّب قال شاعر: فعيناك غربا جدول في مفاضه ... كمرّ خليج في صفيح منصب وقال علقمة: للماء والنّار في قلبي وفي كبدي ... من قسمة الشّوق ساعور وناعور «1» وصف الدمع بأنه يستغنى به عن الماء لكثرته لا أبتغي سقيا السحاب لها ... في مقلتي خلف عن السقيا وقال ابن المعتمر: مررت على الفرات وليس تجري ... سفائنه لنقصان الفرات فلمّا أن ذكرتك فاض دمعي ... فأجراهنّ جري العاصفات قال ابن طباطبا: فما مدّ واديكم ولان أديمه ... ولكنّني أمددته بدموعي الدموع المؤثرة في الخدود قال إبراهيم بن المهدي: فلو أن خدّا كان من فيض عبرة ... يرى معشبا لاخضرّ خدي وأعشبا قال ابن حاجب: وقد راح خدّي من دماء مدامعي ... كأنّ عليه هدب ثوب معصفر «2» دموع مؤثرة في العين قال بعضهم: استبق دمعك لا يودي البكاء به ... واكفف مدامع من عينيك تستبق ليس الشؤون على هذا بباقية ... ولا الجفون على هذا ولا الحدق قال المتنبّي: كأن جفوني على مقلتي ... ثياب شققن على ثاكل «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 دمعه ممزوج بالدم قال شاعر: مزجت دموع العين منّي يوم بانوا بالدّماء ... وكأنّما مزجت بخدّي مقلتي خمرا بماء استحسان الدمع على خدّ المحبوب قال المتنبّي: جرت عبرات في الخدود بأثمد ... فعاد به الورد الجنيّ شقائقا «1» وقال آخر: فكأنّها والدّمع يقطر فوقها ... ذهب بسمطي لؤلوء قد رصّعا «2» استجلاب البكاء بذكر المحبوب قال العبّاس بن الأحنف «3» : وإذا عصاني الدّمع في ... إحدى ملمّات الخطوب أجريته بتذكّري ... ما كان من هجر الحبيب قال أبو حيّة النمري: آمل أن أراه لعلّ جفني ... يعاوده برؤيته كراه ويمنع ناظري نظري إليه ... فعال موارب لي من هواه الاستعانة في البكاء بالغير نزف البكاء دموع عينك فاستعر ... عينا لغيرك دمعها مدرار من ذا معيرك عينه تبكي بها ... أرأيت عينا للبكاء تعار ومثله: فهل من معير طرف عين جليّة ... فإنسان عين العامريّ كليم «4» أخذه من ملح الهذلي: ولتلتمس عينا سوى العين إذ ... ذهبت بجاري دمعك المترقرق وقال آخر: ولي كبد مقروحة من يبيعني ... بها كبدا ليست بذات قروح أباها على النّاس لا يشيرونها ... ومن يشتري ذا علّة بصحيح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 وقال آخر: خليليّ ألّا تبكيا لي أستعن ... خليلا إذا انزفت دمعا بكى ليا الشكاية من انقطاع الدم قال كثيّر: أقول لدمع العين أمعن لأنّه ... بما لا يرى من غائب الدّمع يشهد قال عليّ بن جميلة: ولم أر مثل العين ضنّت بمائها ... عليّ ولا مثلي على الدّمع يحسد قال آخر: نزفت دمعي وأزمعت الرحيل غدا ... إذا رحلت ودمع العين مكفوف ومما يقرب من هذا الباب في الاعتذار للدمع قول الوزير أحمد بن إبراهيم: لا تحسبين دموعي البيض غير دمي ... وإنمّا نفسي الحامي يصعّده اعتذار من أظهر البكاء قال بعضهم: أتتني تؤنّبني بالبكاء ... فأهلا بها وبتأنيبها وقالت وفي قولها حشمة ... أتبكي بعين تراني بها فقلت إذا استحسنت غيركم ... أمرت الدموع بتأديبها وقال آخر: ردّ الجموح الصّعب أيسر محملا ... من ردّ دمع قد أراد مسيلا وقال كشاجم: أظنّ دمعي مثلي به كلفا ... مستأسرا في يدي محبّته «1» ستر البكاء قال بشّار لأبي العتاهية: أنا والله أستحسن قولك في اعتذارك للدمع: كم من صديق لي أس ... ارقه البكاء من الحياء فإذا تفطّن لامني ... فأقول ما بي من بكاء لكن ذهبت لارتدى ... فطرفت عيني بالرّداء فقال أبو العتاهية ما لذت إلا بمعناك حيث تقول: وقالوا: قد بكيت فقلت: كلا ... وهل يبكي من الطّرب الجليد ولكن قد أصيب سواد عيني ... بعود قذى له طرف حديد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 فقالوا ما لدمعهما سواء ... أكلتي مقلتيك أصاب عود وقال: ولما أبت عيناي أن تكتما البكى ... وأن تحبسا فيض الدّموع السّواكب «1» تثاءبت كي لا ينكر الدمع منكر ... ولكن قليلا ما بقاء التثاؤب «2» إفصاح الدمع بالسر ّ قال البحتري: وحقّ الذي في القلب منك فإنّه ... عظيم لقد حصّنت سرّك في سرّي ولكنما أفشاه دمعي وربما ... أتى المرء ما يخشاه من حيث لا يدري قال المخزومي: فإن يك سرّ قلبك أعجميا ... فإنّ الدمع نمّام فصيح وقد استحسن للمتنبي قوله: ونتّهم الواشين والدّمع منهم وقوله: وصاحب الدّمع لا تخفى سرائره وقوله: ومن سرّه في جفنه كيف يكتم؟ قال أبو عيسى بن الرشيد: كتمت هواه حتّى فاض دمعي ... فصيّره حديثا مستفاضا وقال آخر: ولولا الدّموع كتمت الهوى ... ولولا الهوى لم تكن لي دموع قال أبو الفرج الدّمشقي: أني لأخفي اشتياقي وهو مشتهر ... من أين يخفى ودمعي صاحب الخبر سيلان الدّموع من الوجد قال بعضهم: ماء المدامع نار الشّوق تحدره ... فهل سمعتم بماء فاض من نار قال ابن الرومي: لا تعجبا أنّ دمعا فاض عن حرق ... ماء أفاضته نار من مراجله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 الاستحسان للدمع من دفع الجزع من أبدع ما فيه قول بشار: وجدت دموع العين تجري غروبها ... أخفّ على المحزون والصّبر أجمل «1» قال الرقاشي: نعم معون الكمد البكاء وبكى أعرابي فقيل له: في ذلك فقال: أما علمتم أن الدموع خفراء القلوب. قال الحسين بن وهب: إبك فما أكثر نفع البكا ... والحبّ إشفاق وتعليل فهو إذا أنت تأملته ... حزن على الخدّين محلول قال ابن عباس كنت إذا خرجت أمتنع من البكاء حتى سمعت قول ذي الرمة: لعلّ انحدار الدمع يعقب راحة ... من الوجد أو يشفي نجيّ البلابل «2» فصرت أشتفي من الوجد به. قال الموسوي: الدمع عون لمن ضاقت به الحيل وقال آخر: وغصّة وجد أظهرتها فرفّهت ... حرارة حرّ في الجوانح والصّدر قصور الأدمع في دفع الجزع قال ديك الجنّ «3» : في قلبه نار شوق ليس يخمدها ... بحر أحاط به للدمع مسجور «4» وقال: فوق خدّي لجّة من دموع ... يغرق الوجد بينها والسّلام «5» كان بين الواثق وبين بعض جواريه عتاب فبكى وضحكت فقال: قاتل الله العباس بن الأحنف حيث قال: عدل من الله أبكاني وأضحككم ... الحمد لله عدل كلّما صنعا إزدياد الوجد بالبكاء قال أبو تمّام يردّ على من زعم أنّ البكاء يخفّف الوجد: أجدر بجمرة لوعة إطفاؤها ... بالدّمع أن تزداد طول وقود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 قال المتنبّي: وكلّما فاض دمعي غاض مصطبري ... كأن ما فاض من جفنيّ من جلدي وله: وإذا حصلت من السّلاح على البكا ... فحشاك رعت به وخدّك تقرع قال محمد بن أبي زرعة: فبدت تشبّ بدمعها نار الهوى ... من ذا رأى نارا تشّب بماء نفع البكاء وحمده قدم رجل من الخوارج إلى عبد الملك ليقتله فدخل على عبد الملك ابن له صغير وهو يبكي لضرب معلمه، فقال الخارجي: دعوه يبكي فهو أفتح لحزمه وأنفع لبصره فقال له عبد الملك: ما شغلك ما أنت فيه عن هذا؟ فقال ينبغي للمسلم أن يشغله عن الخير شيء فعفا عنه. قيل لصفوان كثرة الكباء تورث العمى فقال: ذاك لهما سهادة. قال ابن نباتة: تستعذب العين دمعي في مودّتها ... كأنّما تمتريه العين من فيها «1» كثرة البكاء واحمرار الدّمع بالدم سمع أبو السائف قول جرير: أن الذين غدوا بلبّك غادروا ... وشلا بعينك لا يزال معينا «2» غيّضن من عبراتهنّ وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا فقال: أتدرون ما التبغيض؟ قالوا: لا، فأشار بأصبعه إلى جفنه كأنه يأخذ الدمع لينضحه. الاستدلال بالدمع على فرط الهوى قال محمد بن وهب: يدلّ على أنني عاشق ... من الدمع مستشهد ناطق قال ديك الجن: زعمتم بأني قد سلوت وصالكم ... فلم ذرفت عيني ولم شاب مفرقي؟ وقال: سمة الصّبابة زفرة أو عبرة ... متكّفل بهما حشا وشؤون «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 قال أبو تمّام: أليس دمعي وفرط شوقي ... وطول سقمي شهود حبّي وفي كتاب التمليّ في أخبار العشاق قال رجل لامرأة: أنا والله أحبك، فقالت: ما حجتك؟ قال تدفعين لي قفير «1» دقيق فأعجنه بدمع عيني. قالت: فالخبز لمن؟ قال: في حرام عشق لا يساوي أرغفة، فضحكت منه وواصلته. ما قيل فيمن يتباكى قال المتنبّي: إذا اشتبهت دموع في خدود ... تبيّن من بكى ممّن تباكى «2» قال ديك الجن: وقائلة وقد بصرت بدمع ... على الخدّين منحدر سكوب أتكذب في البكاء وأنت خلو ... قديما ما جسرت على الذنوب «3» قميصك والدموع تجول فيه ... وقلبك ليس بالقلب الكئيب شبيه قميص يوسف حين جاؤوا ... على لباته بدم كذوب (6) وممّا جاء في الشوق والحنين والنحول احتراق القلب وحصول نار فيه قال أبو الطمحان: هل الوجد إلا أن قلبي لو دنّا ... من الجمر قيد الرمح لاحترق الجمر قال العباس: يا قابس النار قد أعيت قوادحه ... إقبس إذا شئت من قلبي بمقباس «4» قال الخبزارزي: بقلبي جمر من هواه فإن أكن ... شكوت فهذا الوجد من ذلك الجمر وقال: وحقّ الهوى إنّي أحسّ من الهوى ... على كبدي جمرا وفي أعظمي رضّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 قال المتنبّي: جرّبت من حرّ الهوى ما تنطفي ... نار الغضا وتكلّ عمّا تحرق «1» شدّة النفس قال خالد الكاتب: نفس تدّعي مسالكه ... وأنين لست أملكه قال ذو الرمّة: تعتادني زفرات حين أذكرها ... تكاد تنقدّ منهنّ الحيازيم «2» قال المتوكل: إذا زفرات الحب صعدن في الحشا ... وردن ولم يوجد لهنّ طريق الاستدلال بالنفس على الحال وقال مسلم: وإذا بعثت إلى الهوى بعث الهوى ... نفسا يكون على الضمير دليلا قال يعقوب: قد كتمت الهوى فنمّ علي التنفس. خفقان القلب قال بعضهم: رأيت في بني عذرة شيخا يتهادى فقلت: هل بقي من بحبّك بقية؟ فقال: كأن قطاة علقت بجناحها ... على كبدي من شدّة الخفقان وأنشد لثوبة وقيل للمجنون: كأن القلب ليلة قيل يغدى ... بليلى العامريّة أو يراح قطاة غرّها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح قال بشّار: كأن فؤاده كرة تترى ... حذار البين لو نفع الحذار «3» وقال آخر: كأنّ فؤادي في يد عبثت به ... محاذرة أن يقضب الحبل قاضبه «4» قال ديك الجن: كأن قلبي إذا تذكّرها ... فريسة بين ساعدي أسد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 ضيق القلب قال أبو الشيص: كأنّ بلاد الله في ضيق خاتم ... عليّ فما تزداد طولا ولا عرضا قال العباس: كأن جميع النّاس عند صدودكم ... تصوّر في عيني سود العقارب أخذ الكبد باليد من خشية التقطّع قال بعضهم: واذكر أيام الحمى ثم أنثني ... على كبدي من خشية أن تقطّعا قال عبد الصمد بن المعدل: مكتئب ذو كبد حرّى ... تبكي عليه مقلة عبرى «1» يرفع يمناه إلى ربّه ... يدعو وفوق الكبد اليسرى تصدّع الكبر قال الأعشى: وبانت وفي الصّدر صدع لها ... كصدع الزجاجة لا يلتئم قال الخضري: وأنك لو نظرت فدتك نفسي ... إلى كبدي وجدت بها صدوعا افنقاد القلب قال الخبزارزي: فلو كان لي قلبان عشت بواحد ... وأفردت قلبا في هواك يعذّب ولي ألفاوجه قد عرفت مكانه ... ولكن بلا قلب إلى أين أذهب؟ قال خالد الكاتب: كان لي قلب أعيش به ... فاصطلى بالحب فاحترقا «2» البهوت لفرط الوجد قال بعضهم: يوم ارتحلت برحلي قبل برذعتي ... والعقل مثله والقلب مشغول «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 ثم انصرفت إلى نضوي لأبعثه ... إثر الحدوج الغوادي وهو معقول «1» قال الماني: تحسبه مستمعا منصتا ... وقلبه في أمة أخرى قال ذو الرمة: عشيّة مالي حيلة غير أنّني ... بلقط الحصى والجرّ في الأرض مولع كثرة سقم العاشق قال كشاجم: دموعي فيك أنواء غزار ... وقلبي ما يقرّ له قرار وكلّ فتى عليه ثوب سقيم ... فذاك الثوب مني مستعار المستدّل بالجمادات والبهائم على الوجد قال كثيّر: سلي البانة الغنّاء بالأجرع الذي ... به البان هل حيّيت أطلال دارك «2» ؟ وهل قمت في أفيائهن عشية ... قيام أخي البأساء واخترت ذلك؟ قال جميل: يقولون ما أبلاك والمال غامر ... عليك وضاحي الجلد منك كنين «3» فقلت لهم لا تعذلوني وانظروا ... إلى النازع المقصور كيف يكون ونقل ذلك أبو تمّام فقال: إن شئت أن لا ترى صبر المصطبر ... فانظر إلى أيّ حال أصبح الطلل المتحمّل من الوجد ما تعجز عنه الجبال قال الحارثي: لاقيت من حبّها ما لو على جبل ... يلقى لطارت شقافا منه أفلاق «4» قال عمرو بن براق: ولو أن ما بي بالحصى فلق الحصى ... وبالرّيح لم يسمع لهنّ هبوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 شجو العاشق يقال للعاشق هو أسخن عينا ممن بات بين قبرين، واسوأ حالة ممن طوى يومين وليلتين، ذكر أعرابي عاشقا فقال: يثني طرف عين قد قرّحت مآقيها ... ويحنو على كبد قد أعيت مداويها «1» شكوى أحد المتحابين مقاساة شدّة من صاحبه كان بعض القسس يمر فسمع كلاما خفيا من زقاق فإذا جارية تشكو إلى صديق لها ما لقيت فيه فقالت: أوعدوني وضربوني ومزّقوا ثيابي وفعلوا وصنعوا وهو ساكت لا يتكلم فقال القسيس خذوه فأخذ وخلى عن المرأة ثم قال للرجل: إنّها تقص عليك ما لاقت فيك فلم كنت ساكتا؟ فقال: أصلحك الله لم ألق فيها شكوى ولم أكذب فأمر به فضرب خمسين درة وقال: ارجع فاشك إليها ما لاقيته فيها. قال المجنون: أعدّ الليالي ليلة بعد ليلة ... وقد عشت دهرا لا أعدّ الليالي الخجل ممّن حصل منه اليأس قال بعضهم: وأني لا يغول النأي ودّي ... ولو كنا بمنقطع التراب قال المتنبّي: أحنّ إلى أهلي وأهوى لقاءهم ... وأين من المشتاق عنقاء مغرب «2» إظهار التشوق في القرب والبعد كتب عبد الله بن عباس إلى أحمد بن يوسف: جعلت فداك لا أدري كيف أصنع أغيب فاشتاق ثم نلتقي فلا أشتفي يجدد لي اللقاء الذي يدفع به الشقاء حرقة مثل لوعة الفرقة. سأل المهدي عن أنسب بيت فقيل له: وما ذرفت عيناك إلا لتضربي بي ... بسهميك في أعشار قلب مقتّل «3» فقال هذا أعرابي قح، فقيل: أريد لأنسى ذكرها فكأنّما ... تمثل لي ليلى بكلّ سبيل فقال: ما هذا بشيء ولم يريد أن ينسى ذكرها؟ فقيل قول الأحوص: إذا قلت أني مشتف بلقائها ... فحم التّلاقي بيننا زادني وجدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 فقال: أحسنت. قال المتنبّي: وبين الرّضا والسخط والقرب والنّوى ... مجال لدمع العاشق المترقرق وهذا اختصار قول الآخر: وما في الدّهر أشقى من محبّ ... ولو وجد الهوى حلو المذاق تراه باكيا في كلّ حين ... مخافة فرقة أو لاشتياق فيبكي إن نأوا شوقا إليهم ... ويبكي إن دنوا خوف الفراق فتسخن عينه عند التّنائي ... وتسخن عينه عند التلاقي وقال بعض الكتاب: تفكّري في مرارة البين يمنعني التمتع بحلاوة الوصل، وتكره عيني أن تقرّ بقربك مخافة أن تسخن ببعدك، فلي عند الاجتماع كبد ترجف، وعند التلاقي مقلة تكفّ. إظهار الشوق في حال الوصل قال شاعر: قالوا ظفرت بمن تهوى فقلت لهم ... الآن أشرف ما كانت صباباتي «1» لا عذر للصبّ أن تهدى جوارحه ... فقد تطعم فوه بالمواتاة متطبّب داؤه الهوى أنشد لعروة بن حزام: جعلت لعرّاف اليمامة حكمة ... وعرّاف نجد إن هما شفياني «2» فما تركا لي رقية يعرفانها ... ولا سقية إلا وقد سقياني فقالا شفاك الله والله مالنا ... بما ضمنت منك الضّلوع يدان قال ديك الجن: جسّ الطبيب يدي جهلا فقلت له: ... إنّ المحبّة في قلبي فخلّ يدي وقال آخر: وقالوا به من أعين الجنّ نظرة ... ولو صدقوا قالوا به نظرة الأنس وقال آخر: قال الطبيب لأهلي حين أبصرني ... هذا فتاكم وحقّ الله مسحور فقلت ويحك قد قاربت في صفتي ... وجه الصواب فهلّا قلت مهجور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 فقال مالي بعلم الغيب معرفة ... فقلت: إن دليل الحبّ مشهور فيض الدّموع وأنفاس مصعّدة ... وضربة في الحشا والقلب مأسور افتقاد الصّبر في الهوى قال الصنوبري: وما صبري أمامة عنك إلا ... كصبر الحوت عن ماء الفرات قال أحمد بن أبي فنن: لئن ظلّ من وجده مثريا ... لقد ظلّ من صبره مفلسا وقال: لم أقبل الصّحة بالشّكر ... عبثت بالحبّ ولم أدر حتّى إذا باشرت أهواله ... وصرت مغلوبا على أمري عذت بصبر فوجدت الهوى ... قد غلب الحبّ على صبري متصبّر كرها قال أبو العتاهية: صبرت ولا والله مالي جلادة ... على الصبر لكنّي صبرت على الرغم استقباح الصبر في الهوى قال أبو تمّام: الصبر أجمل غير أن تلذّذا ... بالحبّ أحرى أن يكون جميلا أتظنّني أجد السبيل إلى العزا ... وجد الحمام إذا إليّ سبيلا قال عمر بن أبي ربيعة: وإنّ كثير الحزن ما لم أرد به ... حياض المنايا بعده لقليل وقال آخر: الصّبر إلّا في هواك جميل معاتبة من لم يضنه الهوى روي أن رجلا مرّ ببشار وهو مستلق على قفاه بدهليزه كأنه فيل، فقال: يا أبا معاذ إنك تقول أن في بردي جسما باليا، لو توكأت عليه لانهدم وأنك لو أرسل الله الريح التي أهلكت عادا عليك ما زعزعتك ونحوه وإن لم يكن من بابه أن أعرابيا مرّ برجل فقال: من هذا؟ فقيل: عابد فرأى رقبة غليظة وكدنة متناهية فقال: إنّ له رقبة ما أرى العبادة وقصتها ونحوه رأت أعرابية رجلا بضّ البدن فقالت: أرى وجها لم يؤثر فيه وضوء الصلاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 الناحل الجسم في الهوى قال بعضهم: سلبت عظامي لحمها فتركتها ... مجرّدة تضحي إليك وتحضر وأخليتها من مخّها فكأنّها ... قوارير في أجوافها الريح تصفر «1» قال المتنبّي: فبلحظها نكرت قناتي راحتي ... ضعفا وأنكر خاتماي الخنصرا «2» وقال آخر: خذي بيدي ثم انهضي بي تبيّني ... بي الضرّ إلّا أنّني أتستّر من تناهى في الهزال حتى صار كخلال أو هلال قال المتنبّي: بجسمي من برته فلو أصارت ... وشاحي ثقب لؤلؤة لجالا «3» ولولا أنني في غير نوم ... لكنت أظنني منّي خيالا وقال: دون التعانق ناحلين كشكلتي ... نصب أطالهما ودق الكاتب ونحوه لابن المعتز: كأنّما جسمي إلى جسمها ... غصنان ذا غضّ وذا ذابل قال آخر: فلو أنّ ما أبقيت منّي معلّق ... بعود ثمام ما تأوّد عودها قال الخبزارزي: وذبت حتّى صرت لو زجّ بي ... في مقلة النّائم لم يتنبّه قد كان لي قبل الهوى خاتم ... والآن لو شئت تمنطقت به من تسقطه الريح لنحافته قال ماني: ها أنا ذا يسقطني للبلى ... عن فرشي أنفاس عوّادي «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 قال المجنون: ألا إنّما غادرت يا أمّ مالك ... صدى أينما تذهب به الريح يذهب قال ديك الجن: ألست تري الضنّى لم يبق منّي ... سوى شبح يطير بكلّ ريح من لم يبق إلا حركاته وكلامه قال العباس: لولا الكلام لمّا اهتدت ... عين الجليس إلى مكاني وقال آخر: أنظر إلى جسم أضرّ به الهوى ... لولا تقلّب طرفه دفنوه من لا يستبان لنحافته قال بعضهم: شبح قلّ فما يشغل قطراه مكانا قال أبو نواس: تركت جسمي قليلا ... من القليل أقلا يكاد لا يتجزا ... أقلّ في اللفظ من لا «1» قال أبو الفضل بن العميد: لو أنّ ما أبقيت من جسدي قذى ... في العين لم يمنع من الإغفاء «2» قال ديك الجن: ولو أن أحداث الزّمان أردنني ... بخير وشرّ ما عرفن مكاني الشّاكي ذهاب علّته لذهاب جسمه قال المتنبّي: وشكيّتي فقد السّقام لأنّه ... قد كان لمّا كان لي أعضاء وله: وخيال جسم لم يخل له الهوى ... لحما فينحله السّقام ولا دما استطابة المرض والسهر لكونهما من الحبيب قال ديك الجن: لا أوحشنّك ما استحملت من سقمي ... فإنّ منزله بي أحسن النّاس قال الأخيطل: إنّ من أسهرت ليلته ... لقرير العين بالسّهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 قال الرستمي: وأنّي لأهوى الشيب من أجل أنّه ... وإن نفرت عيني له من فعاله (7) وممّا جاء في السهر وطول الأزمنة وجوب السهر لمن كان عاشقا يستحسن في هذا المعنى قول أبي سعيد بن فوقة: نسيت الهجود لذكراكم ... وما للمشوق وذكر الهجود «1» ومن الكبائر عائق يغفي قال منصور النميري: الحزن منفاة لضيف الرقاد المتقلّب على فراشه قال أشجع: إذا اللّيل ألبسني ثوبه ... تقلّبت فيه فتى موجع قال ديك الجن: ألست ترى الضّنا لم يبق منّي ... سوى شبح يطير بكلّ ريح قال أبو العتاهية: أبيت كأنّي في الفراش على مقلي «2» من لا ينطبق جفنه من السهر قال المتنبّي: بعيدة ما بين الجفون كأنّما ... عقدتم أعالي كلّ هدب بحاجب أخذ ذلك من بشّار حيث يقول: جفت عيني عن التغميض حتّى ... كأن جفونها عنها قصار «3» كأنّ جفونها حزمت بشوك ... فليس لنومة فيها قرار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 ونحوه لجميل: كأن المحبّ قصير الجفون ... لطول النّهار ولم تقصر ويستحسن للمتنبي: كأن الجفون على مقلتي ... ثياب شققن على ثاكل «1» من فارقه النوم حتى نسيه قال العباس بن الأحنف: قفا خبراني أيّها الرجلان ... عن النّوم إن الهجر عنه نهاني وكيف يكون النوم أم كيف طعمه ... صفا النّوم لي إن كنتما تصفان وأني لمشتاق إلى النوم فاعلما ... ولا عهد لي بالنوم منذ زمان وقال آخر: حدّثوني عن النهار حديثا ... أوضحوه فقد نسيت النهارا من ذكر أن ليله كأنما وصل بليل لطوله قال بشار: وطال عليّ الليل حتى كأنّه ... بليلين موصول فلا يتزحزح وقال سربلة بن كاهل: وإذا قلت ظلام قد مضى ... عطف الأول منه فرجع قال أبو كثير: وأني إذا ما الصبح آنست ضوءه ... يعاودني قطع عليّ ثقيل وقال آخر: في الليل طول تناهى العرض والطّول ... كأنّما ليله بالليل موصول لا فارق الصّبح كفّي إن ظفرت به ... وإن بدت غرّة منه وتحجيل «2» لساهر طال في صول تململه ... كأنه حيّة بالسّوط مقتول مراقبة النجوم من السهر قيل لام الهيثم بنت الأسود ما حالك؟ فقالت: تجافى مضجعي وثبا سهاري ... وليلي ما يقرّ من السهاد «3» أراقب في السماء بنات نعش ... ولو أسطيع كنت لهنّ حادي «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 قال ابن دريد: لقد ألفت دهم النّجوم رعايتي ... فإن غبت عنها فهي عني تسائل يقابل بالتسليم منهنّ طالع ... ويومئ بالتوديع منهنّ آفل المستشهد بالنجوم لسرّه قال الناشئ: سل الليل عنّي كيف أرعى نجومه ... فإنّ الليالي يطّلعن على سرّي وقال: سل الليل عنّي ما لقيت وما لقي ... يخبركم أني بحبّكم أشقى تحيّر النجوم وامتناعها من الغيب قال النابغة «1» : وليل أقاسيه بطيء الكواكب قال امرؤ القيس «2» : فيا لك من ليل كأنّ نجومه ... بكلّ مغار الفتل شدّت بيذبل «3» قال المتنبّي: ما بال هذي النجوم حائرة ... كأنها العمى ما لها قائد وقال: أكابد هذا الليل حتّى كأنّه ... على نجمه أن لا يغور يمين وقال قدامة أنشدني عبد الله بن المعتز: عسى شمسه مسخت كوكبا ... فقد طلعت في عداد النجوم فقلت: غيرت في وجه امرئ القيس إذ يقول وليل البيت فقال: لا ولا في وجه ابن طباطبا إذ يقول: كأنّ نجوم اللّيل سارت نهارها ... وعادت عشاء وهي أنضاء أسفار «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 فخيمن حتى يستريح ركابها ... فلا فلك جار ولا كوكب سار تباطؤ الصبح قال جحظة البرمكي: وليلي في كواكبه حران ... فليس لطوله منه انقضاء عدمت محاسن الإصباح فيه ... كأن الليل جود أو رفاء «1» مقاساة الهم باللّيل والاستراحة بالنهار قال ابن الدمينة: أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني والهمّ بالليل جامع قال الموصلي: إن في الصبح راحة لمحبّ ... ومع اللّيل ناشئات الهموم وأصله للنابغة: وصدر أراح اللّيل عازب همّه ... تضاعف فيه الحزن من كلّ جانب «2» قلة المبالاة بطوله لدوام الهم ّ قال امرؤ القيس: ألا أيّها اللّيل الطويل ألا أنجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل قال الصولي: وطولت ليلي لو دريت بطوله ... ولكنّه يمضي لما بي ولا أدري تشابه ليلي واستمرّ بي الهوى ... فمن لي بنفس تستريح إلى الغدر الجهل بحاله في ليله قال خالد الكاتب: لست أدري أطال ليلي أم لا ... كيف يدري بذاك من يتقلّى لو تفرغت لاستطالة ليلي ... ولرعي النجوم كنت مخلّى من ذكر طول ليله وقصر ليل محبوبه قال العبّاس: نام من أهدى لي الأرقا ... مستريحا سامني قلقا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 لو يبيت الناس كلّهم ... بسهادي بيّضوا الحدقا أنا لم أرزق مودّتكم ... إنما للعبد ما رزقا وقال: كلّ من نام لعمري ... يحسب النّاس نياما وقال: شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا ... فقالوا لنا ما أقصر الليل عندنا من ذكر أن الهموم طولت ليله قال بشّار: كأنّ الدجى طال وما طال الدّجى ... ولكن أطال اللّيل همّ مبرّح وقال: أقول في الليل وفي طوله ... قول امرئ باللّيل طبّ بصير يطوّل الليل مراعاته ... فكلّ أمر لا يراعى قصير قال ابن بسّام: لا أظلم الليل ولا أدّعي ... أن نجوم اللّيل ليست تغور ليلي كما شاءت فإن لم تزر ... طال وإن زارت فليلي قصير قال المتنبّي: لياليّ بعد الظاعنين شكول ... طوال وليل العاشقين طويل يبين لي البدر الذي لا أريده ... ويخفين بدرا ما إليه سبيل استقصار وقت الفرح واستطالة ضدّه قال العبّاس: ألا إن أيام البلاء على الفتى ... طوال وأيّام السّرور قصار قال بشار: وللدّهر أيام قصار إذا سرت ... بخير ويوم الحزن منه طويل استطالة النهار قال شاعر: يا طول يومي بالكثيب فلم تكد ... شمس الظهيرة تتّقى بحجاب قال أبو تمام: بيوم كطول الدّهر في عرض مثله ... ووجدي من هذا وذيّاك أطول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 وقال: يكون كالشهر عندي في تطاوله ... اليوم لم أره فيه ولم يرني قال الأصمعي لأصحابه: أتعرفون شاعرا استطال يوم اللقاء؟ قالوا: لا. قال هو ثوبة حيث يقول: لكلّ لقاء تلتقيه بشاشة ... وإن كان حولا كلّ يوم أزورها «1» فسكتوا فقال: يريد يوما يقوم مقام حول في السرور: المستقصر ليله لكونه في السرور قال الكادوسي: نهار كشبر الذر أو هو دونه ... وليل كإبهام القطاة قصير «2» قال ابن طباطبا: يا لذّتي بعناق من ... روّى فمي رشفا ولثما «3» في ليلة ضمّت على ... جناحها الغربيب ضمّا فلو استطعت جعلت بي ... ن ظلامها والصبح ردما «4» قال علي بن عاصم: سقيا لأيام لنا وليال ... قصّر الحبائب طولها بوصال ما كان طول سرورها لما انقضت ... إلّا اكتحال متيّم بخيال قال إبراهيم بن العباس: وليلة إحدى الليالي الزهر ... قابلت فيها بدرها ببدر «5» حتّى تولّت وهي بكر الدهر وقال: ليلة كاد يلتقي طرفاها ... قصرا وهي ليلة الميلاد مدح السهر باللّيل وترك النوم قد أثنى الله تعالى على قوم فقال: كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وقال لنبيه صلّى الله عليه وسلّم ومن الليل فتهجد به نافلة لك، قال كشاجم: وليلك شطر عمرك فاغتنمه ... ولا تذهب بشطر العمر نوما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 وقال: تركت النوم للنوّا ... م إشفاقا على عمري قال ابن نباتة: فتى يتجافى قلّة النوم جفنه ... كأنّ لذيذ النوم في جفنه قذى أطرفك ساه أم فؤادك عاشق ... يغار على عينيك من سنة الكرى «1» ومن سهرت في المكرمات جفونه ... رعى طرفه في جوفها أنجم العلى ولبعض القدماء: يبيت مسهرا يرعى الهوينا ... إذا ما النوم عانقه الدثور «2» ابن المعتز: أنا من تعلمون أسهر للمجد ... إذا غطّ في الفراش لئيم وفي تركه أي النوم، قال شاعر: ولذ كطعم الصبر خدي طرحته ... عشية خمس القوم والعين عاشقه وقيل سورة النوم والجوع والعطش ساعة فإذا صبرت تجاوزتك. وضدّه قلة النعاس تذهب بالعقل والنوم يزيد فيه. الممدوح بقلّة النوم قال شاعر في ابنه: أعرف منه قلّة النّعاس ... وخفة في رأسه من راسي وفي الذئب: ينام بإحدى مقلتيه ويتّقي ... بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع المستولى عليه النوم قيل أنوم من فهد: ومعرّس نبهته من نومه ... فكأنّما نبّهت فهد البيد أبو نواس: كأنّ أرؤسهم والنوم واضعها ... على المناكب لم تعمد بأعناق وقيل: أصل النوم كثرة الشرب وكثرة الشرب من كثرة الأكل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 من دلت عينه على سهره قال إبراهيم بن العباس: عيناك قد حكما مبي ... تك كيف كنت وكيف كانا ولربّ عين قد أر ... تك ضمير صاحبها عيانا وقال: جفونك مقبلة بائخة ... تخبّر عن ليلة صالحه ونومك بعد صلاة الغداة ... دليل على سهر البارحه (8) وممّا جاء في الوشاية والعذل النهي عن الإصغاء إلى الواشي قال بعضهم: من جعل النمّام عينا هلكا ... من بلغ السوء كباغيه لكا وقال الحارث المخزومي: إن الوشاة قليل إن أطعتهم ... لا يرقبون بنا إلّا ولا ذمما «1» وهو كقولهم من شتمك؟ فقال: الذي بلّغك. بغض المتصلين بالحبيب قال الحارثي: فيا بعل ليلى كم وكم بأذاتها ... عدمتك من بعل تطيل أذاتي بنفسي حبيب حال بابك دونه ... تقطع نفسي أثره حسراتي قال عبد الصمد: لي حبيب أضرّ بي ما أقاسي ... من فتوني به وبغض أخيه لي موتان من هوى ذا ومن ... بغضي لهذا فليس لي من شبيه قلة المبالاة بالناس في تعاطي الشهوات قال بشار: من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطّيبات الفاتك اللهج «2» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 ولمّا قال سلم الخاسر: من راقب الناس مات غمّا ... وفاز باللذة الجسور «1» قال بشار: ذهب والله بيتي فهو أخف منه وأعذب لا أكلت اليوم ولا شربت، ولما ولي يزيد بن عبد الملك بن مروان الخلافة أراد أن يتشبه بعمر بن عبد العزيز فشق على حبابة فأرسلت إلى الأحوص وقالت أنشده: ألا لا تلمه اليوم أن يتبلّدا فلما بلغ: هل العيش إلا ما تلذ وتشتهي ... وإن لام فيه ذو الشّنار وفنّدا «2» قام يزيد وهو يقول: هل العيش (البيت) حتى دخل على حبابة. من تشكك رقيبه في غير محبوبه قال العباس بن الأحنف: قد سحب الناس أذيال الظّنون بنا ... وفرّق الكلّ فينا قولهم فرقا فكاذب قد رمى بالظنّ غيركم ... وصادق ليس يدري أنّه صدقا وقال آخر: قوم رموا غير من أهوى بظنّهم ... وآخرون أصابوه وما شعروا المسّرة بغيبة الرقيب والتمكّن من الحبيب غاب الأمير أدام الله نعمته ... وغاب همّ كفاني الله هيبته غابا وقد غادرا لصّ الهوى فرحا ... بنيل ما كان يشكو منه خيبته لمّا تمكنت من بزّ لأسرقه ... هربت خوفا وما حركت عيبته «3» الندم على الإصغاء إلى العذّال تكنفني الوشاة فأزعجوها ... فيالله للواشي المطاع فأصبحت الغداة ألوم نفسي ... على شيء وليس بمستطاع كمغبون يعضّ على يديه ... تبيّن غبنه بعد البياع «4» قال تاج الكتاب: وإنّي غداة سكوني إلى ... مقال الرقيب وهجر السكن كمن شرب السمّ جهلا به ... ولم يدر ما فعله في البدن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 من كذب الواشي فيما ادّعى عليه من الهوى وصدقه قال ثوبة «1» : رماني وليلى الأخيليّة قومها ... بأشياء لم تخلق ولم أدر ماهيا وقال: وماذا عسى الواشون أن يتحدّثوا ... سوى أن يقولوا إنني لك عاشق «2» نعم صدق الواشون أنت كريمة ... علينا وإن لم تصف منك الخلائق الدعاء على العاذل قال مورق العقيلي: فمن لامني في أن أهيم بذكرها ... فكلف من وجدي بها ما أكلف قال كثيّر: وسعى إليّ بعيب عزّة نسوة ... جعل الإله خدودهنّ نعالها قال ابن طباطبا: هو الحبيب الذي نفسي الفداء له ... ونفس كلّ نصيح لامني فيه خليّ يلوم شجّيا قال النميري: أصبحت تلحاني ولا تدري ... كيف اعتراني الهمّ في صدري لو كنت في صدري وباشرت ما ... يلقى لسارعت إلى عذري وقال آخر: وو الله لو أصبحت من ملّة الهوى ... لأقصرت عن عذلي وأسرعت في عذري ولكن بلائي منك أنّك ناصح ... وأنّك لا تدري بأنّك لا تدري مخالفة العذال قال أحمد بن سليمان بن وهب: قال لي أبي: يا بني قد عزمت على معاتبة عمك الحسن بن وهب في هواه فلانة فقد اشتهر بها وافتضح فأعنّي عليه. فوافيناه فكان من جملة ما قال له أبي: الهوى ألذّ وأمتع، والرأي أصوب وأنفع فقال عمّي متمثلا: إذا عذلتني العاذلات على الهوى ... أبت كبد عمّا يقلن صريع «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 وكيف أطيع العاذلات وحبّها ... يؤرّقني والعاذلات هجوع «1» فالتفت إلى أبي يريد المساعدة فقلت: وإني ليلحاني على طول حبّها ... رجال ترى منهم قلوب صحائح فقال أبي: قم فأنت مثله أو شرّ منه، قال أحمد بن أبي فنن: أعاذل إنّ لومك لي عناء ... فحسبك قد سمعت وقد عصيت قال المتنبّي: إلام طماعية العاذل ... ولا رأى في الحبّ للعاقل يراد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطّباع على النّاقل وهبت سلوى لمن لامني ... وبتّ في الشوق في شاغل أنشد عبد الله بن طاهر قول من يقول: أطعت الآمريك بصرم حبلي ... مريهم في أحبّتهم بذاك فإن هم طاوعوك فطاوعيهم ... وإن عاصوك فاعصي لمن عصاك فقال طعنة في كبده هلا قال كما قلت: قولي لناهيك عن ودّي وعن صلتي ... يهجر أحبّته والترب في فيه فإن عصاك فردّيه بمعصية ... وإن أطاعك فاعصيه وأقصيه وقال: وربّ لوم أتاني من أخي سفه ... على ارتماضي فلم أرفع له أذني «2» من ذكر سرور عاذله بصرم محبوبه قال محمد بن أبي عيينة: لقد شمت الواشون أن حيل بيننا ... وسرّوا ألا للشامتين بنا العقبي وقال التمّار: صدّ من أهواه عنّي ... فاشتفى العاذل منّي استطابة الملامة قال أبو نواس: إذا غاديتني بصبوح عذل ... فشوببه بتسمية الحبيب فإني لا أعدّ اللوم فيه ... عليّ إذا فعلت، من الذنوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 وقال: كفى الأحاديث عن ليلى إذا ذكرت ... أن الأحاديث عن ليلى تلهيني قال بشّار: لا أحمل اللوم فيها والغرام بها ... لا كلّف الله نفسا فوق ما تسع ازدياد الوجد بالعذل قيل: النهي عن الشيء داع إلى تعاطيه كآدم وحواء حين نهيا عن الشجرة وقال صلّى الله عليه وسلّم: لو نهى الناس عن فت البعر فتوّه، وقالوا: ما نهينا عنه إلا وفيه شيء، قال أبو دلف: هل رأينا وسمعنا من نهى ... رجلا عن سوء فعل فانتهى بل إذا عوتب في سيئة ... لم يدعها أو تعاطى أختها قال أبو نواس: دع عنك لومي فإن اللوم إغراء قال ابن الحجاج: دع اللوم إن اللوم يغري وربّما ... أراد صلاحا من يلوم فأفسدا وأصله لقيس: وما زادها الواشون إلّا كرامة ... عليّ وودا في القلوب موفّرا وقيل: من عذل عاشقا كمن زمر في إست ميت ليطرب. السكوت عن مجاوبة العاتب قال بعضهم: أعذر أخاك فإنّه رجل ... صمّت مسامعه على العذل قال جحظة: ذراني من ملامكما ذراني ... فقد أسرفتما إذ لمتماني فلست بضامن لكما جوابا ... ولست بسامع ممّن لحاني التّبرم بالوشاة قال مجنون ليلى: ولو أن واش باليمامة داره ... وداري بأعلى حضر موت اهتدى ليا «1» وماذا عليهم أحسن الله حالهم ... من الحظّ في تصريم ليلى حباليا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 قال الخبزارزي: موكل طرفه بطرفي ... كأنّه كاتب الذنوب وقال: أمنا أناسا كنت قد تأمنينهم ... فزادوا علينا في الحديث وأوهموا وقالوا لنا ما لم نقل ثم كثّروا ... علينا وباحوا بالذي كنت أكتم قال الصاحب: خلّ يصدّ وعاذل متنصح ... ومناصح يؤذي ونمّام يسي «1» قال أحمد بن أبي سلمة: يعذلني فيه جميع الورى ... كأنّي جئت بأمر عجيب «2» التبرّم بكثرة اللوم قال ابن المعتز: أظنّ نفسي لو تعشقتها ... بليت فيها بملام الرقيب وقال: واعنائي بمحضر ومغيب ... وحبيب نأى بعيد قريب لم ترد ماء وجهه العين إلا ... شرقت قبل ريّها برقيب «3» وقال: إن لامني من لا رآه فقد ... جار على الغائب في الحكم وإن لحاني من رآه فقد ... أضلّه الله على علم المرتدع عاذله بحسن محبوبه قال الله تعالى قالت امرأة العزيز وقال نسوة في المدينة (الآيتين) إلى قوله: إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ «4» قال محمد بن بكار: عذلاني على هواه فلمّا ... أبصرا حسن وجهه عذراني وقال: فلما رآها العاذلات عذرنني ... وصدقنني فيما شكوت من الوجد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 معاتبة من يلوم ولا يعرف العذر قال الأفوه: إن الملامة لا تزال بلا ... عذر أمام تفهّم العذر (9) وممّا جاء في إبداء الهوى وإخفائه المتبجج بإخفائه محبوبه عن الناس قال شاعر: فما أنس ما الأشياء لا أنس موقفي ... وموقفها وهنا بقارعة النخل فلما توافقنا عرفت الذي بها ... كمثل الذي بي حذوك النعل بالنّعل فقالت وأرخت بجانب الستر إنما ... معي فتحدث غير ذي رقبة أهلي وقلت لها ما بي لهم من ترقب ... ولكنّ سرّي ليس يحمله مثلي وقال العباس: لأخرجنّ من الدنيا وحبّكم ... بين الجوانح لم يشعر به أحد «1» قال الخبزارزي: إذا سألوني عنك موّهت قصّتي ... ولجلجت لجلاج الضّفادع في البحر «2» الكاتم هواه عن ظواهر نفسه قال سواد بن عبد الله: خشيت لساني أن يكون خؤونا ... فأودعته قلبي وكان أمينا وقلت ليخفى بين سمعي وناظري ... أيا حركاتي كنّ فيّ سكونا فما إن رأت عيني لعيني نظرة ... ولا سمعت أذني لفيّ حنينا قال بعض المحبّين: عندي سرائر للحبيب طويتها ... منّي الضمير بأنّها في طيّه وقال آخر: فلو أنّ شيئا كاتم الحبّ قلبه ... لمتّ ولم يعلم بحبّكما قلبي أخذه من جميل: ولو أنّ امرأ أخفى الهوى عن ضميره ... لمتّ ولم يعلم بذاك ضميري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 وقال أبو نوح: قلبي رقيب على طرفي من الحذر ... فليس يتركه يلتذّ بالنظّر بعضي يكاتم بعضي ما يحاذره ... فلو سألت إذا لم أدر ما خبري التستر بإظهار الهوى في غير المحبوب قال شاعر: اسمّيك لبنى في نسيبي تارة ... وآونة سعدى وآونة ليلى «1» حذارا من الواشين أن يفطنوا بنا ... وإلا فمن لبنى فدتك ومن ليلى وقال أحمد بن أبي فنن: لساني لليلى والفؤاد لغيرها ... وفي لحظ عيني مكذب للسانيا وقال ابن المعتز: ألقيت غيرك في ظنونهم ... فسترت وجه الحبّ بالحبّ ستر الهوى بالوقيعة في المحبوب قال الخبزارزي: قل للّذي ينكر سبّي له ... والله ما خنتك في الغيب وإنّما أحببت ستر الهوى ... فعبت ما ليس بذي عيب وسله لي عن مثل قد مضى ... لم رقع البزاز في الثّوب؟ إظهار الهوى قصد إلى إخفائه قال أبو حفص الشطرنجي: ولقد أمازحه بإظهار الهوى ... عمدا ليكتم سرّه إعلانه ولربّما كتم الهوى إظهاره ... ولربّما فضح الهوى كتمانه كتمان الهوى عن المحبوب قال الزبير بن بكار «2» : استر هواك من الذي تهوى ... لا تفضينّ إليه بالشّكوى «3» فلقلّما تبدي هواك له ... إلا تلوى وامتلا زهوا «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 إسقاط الجوى بإظهار الشكوى قال أبو العتاهية: إن المحبّ إذا ترادف همّه ... يلقى المحبّ فيستريح إليه وقال: وأبثثت عمرا بعض ما في جوانحي ... وجرّعته من مرّ ما أتجرّع «1» الاستراحة بإظهار الهوى ولا بدّ من شكوى إلى ذي حفيظة ... إذا جعلت أسرار نفس تطلع وقال بعضهم: ما رأيت أظرف وأغزل وأهجن من صاحبة يوسف عليه السلام حيث قالت: أنا راودته عن نفسه، ثم قالت ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب، قال محمد بن أبي عيينة: تجنّب مؤنات التدمّث والعقل ... بعينك فانظر ما تلذّ وتستحلي «2» قال المتنبّي: وألذّ شكوى عاشق ما أعلنا قال الصاحب: صرّحت في حبّي عن مشكله ... ولم أحتيج فيه إلى عذله وبحت للعالم باسم الهوى ... فليقعد المغتاب في منزله إظهار الهوى وامتناعه من أن يخفى قال شاعر: من كان يزعم أن سيكتم حبّه ... حتّى يشكك فيه فهو كذوب وإذا بدا سرّ اللبيب فإنّه ... لم يبد إلا والفتى مغلوب الحبّ أغلب للفؤاد بقهره ... من أن يرى للسرّ فيه نصيب قال محمد بن طاهر: يا كاتمي خيفة الواشي محبته ... إنّي وحقّك أقراه من النظر «3» قال سلم الخاسر: ولي عند رؤيته روعة ... تحقّق ما ظنّه المتهم قال إسحاق الموصلي: إنّ المحبّ يرى التوقّر سترة ... فإذا تحيّر في الهوى لم يبصر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 ظهور الهوى بالدمع قال أبو عيسى بن الرشيد: لساني كتوم لأسراركم ... ودمعي نموم لسرّي مذيع ولولا الدموع كتمت الهوى ... ولولا الهوى لم تكن لي دموع قال أبو حكيمة: كأن مجال الطرف من كلّ ناظر ... على حركات العاشقين رقيب ظهوره بتحوّل الجسم قال المتنبّي: أمر الفؤاد لسانه وجفونه ... فكتمنه وكفى بجسمك مخبرا وقال الصنوبري: اكفّ لسان الدمع أن أشكو الهوى ... كأنّ لسان السّقم لا يحسن الشكوى مبانة العاشق معشوقة في هواه قال شاعر: فتعلمي أن قد كلفت بكم ... ثم افعلي ما شئت عن علم قال العباس: لا تحسبيني ماذقا في الهوى ... إنّي على حبّيك مطبوع «1» قال البحتري: أعيدي فيّ نظرة مستتيب ... توخّى الهجر أو كره الأثاما «2» تري كبدا محرّقة وعينا ... مؤرّقة وقلبا مستهاما «3» وقال رجل لامرأة رآها مرهاء «4» : هلا اكتحلت؟ فقالت: خشيت أن أشغل جزأ من أجزاء عيني عن النظر إليك. الحثّ على إظهار الجوى للمحبوب قيل: لا شيء أصيد لامرأة ولا أذهب لعفتها من أن يحيط علمها بأن رجلا يحبّها فإذا رأت أنه أدمع عينه ولو كان أنسك ما يكون لذهب عقلها، وقال بشّار: عرضن للذي تحبّ بحبّ ... ثم دعه يروضه إبليس وقيل المرأة تكتم الحب أربعين سنة ولا تكتم البغض والكراهة يوما واحدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 (10) وممّا جاء في مراسلة الحبيب ومكاتبته الإرسال إلى المحبوب قال كثيّر: لقيني جميل فقال: من أين أقبلت؟ فقلت: من عند بثينة فقال: لا بد أن ترجع عودك إلى بدئك فتأخذ لي موعدا من بثينة. فقلت: عهدي بأبيها الساعة. فقال: بدّ فقلت وأين عهدتهم؟ قال بالدوم يرحضون ثيابهم فرجعت فقال أبوها: ما ردّك يا ابن أخي قلت أبيات خطرت لي أردت أن أنشدها ثم أنشدته: فقلت لها يا عزّ أرسل صاحبي ... على نأي دار والموكل مرسل بأن تجعلي بيني وبينك موعدا ... وأن تأمريني بالذي شئت أفعل فآخر عهد منك يوم لقيتني ... بأسفل وادي الدوم والثّوب يغسل «1» قال: فضربت بثينة جانب خبائها بعمود وقالت أخسأ، فقال أبوها ما هو؟ قالت: كلب يأتينا من وراء الرابية. فعدت إليه وقلت قد وعدتني أن تجيء من وراء الرابية. قال شاعر: يا صاحبي فدت نفسي نفوسكما ... وحيثما كنتما لقيتما رشدا إن تحملا حاجة لي خفّ محملها ... تستوجبا نعمة عندي بها ويدا إن تقرئا منزل الأحباب ويحكما ... منّي السلام وأن لا تخبرا أحدا قال آخر: وقد أرسلت في السرّ أن قد فضحتني ... ونوّهت باسمي في النّسيب ولم تكن «2» من عاد رسوله بمكروه قال ديك الجن: أبطأ الرسول فظلت أنتظر ... لا النوم يأخذني ولا السهر ردّ الجواب بكلّ معضلة ... إن شمّروا للهجر واتّزروا أزجر فؤادك أن يهيم بهم ... إن العصا لك قد أرى قشروا «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 إرسال الريح إليه قال البحتري: ألا يا نسيم الريح بلّغ رسالتي ... سليمي وعرّض بي كأنّك مازح «1» فإن سألت عنّي سليمي فقل لها ... به غبّر من دائه وهو صالح «2» وقال: لي إلى الريح حاجة إن قضتها ... كنت للريح ما بقيت غلاما حجبوها عن الرّياح لأني ... قلت للريح بلّغيها السّلاما وقال: فلو أنّ ريحا أبلغت وحي مرسل ... خفيّ لناجيت الجنوب على الجنب وقلت لها أدّي إليهم تحيّتي ... ولا تخلطيها طال سعدك بالترب فإني إذا هبّت شمالا سألتها ... هل ازداد صداح النميرة من قرب من حسد رسوله لتمتعه بالنظر إلى محبوبه عشق المأمون جارية لبعض المتكلمين المتّصلين به وكان يراسلها ببعض من أفشى إليه سره فقال يوما وقد بعث إليها: ألا ليتني كنت الرسول وكأنّني ... فكان هو المقصى وكنت أنا المدنى «3» بعثتك مشتاقا ففزت بنظرة ... وأغفلتني حتّى أسأت بك الظنّا وسرّحت طرفا في محاسن وجهها ... ومتّعت باستمتاع نغمتها الأذنا أرى أثرا منها بعينك لم يكن ... لقد سرقت عيناك من عينها حسنا قال محمد بن أمية: أن تشق عيني بها فقد سعدت ... عين رسولي وفزت بالخبر خذ مقلتي يا رسول عارية ... فانظر بها واحتكم على بصري تأسف من خلفه رسوله على محبوبه قال شاعر: بعثت رسولا فأضحى خليلا ... على الرغم منّي فصبرا جميلا وكنت الخليل وكان الرسول ... فصار الخليل وصرت الرسولا كذا من يوجّه في حاجة ... إلى من يحبّ رسولا نبيلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 قال المتنبّي: ما لنا كلّنا جوى يا رسول ... أنا أهوى وقلبك المتبول كلما عاد من بعثت إليها ... غار منّي وخان فيما يقول التعرّض لرسول محبوبه بعثت عنان جارية الناطفي وصيفة لها إلى أبي نواس تدعوه فاحتال فقضى منها وطرا «1» وكتب إليها: نكنا رسول عنان ... والرأي ما قد فعلنا فكان خبزا بملح ... قبل الشّواء أكلنا وبعثت أخرى جاريتها فعادت وبوجهها أثر ريبة فسألتها فزعمت أنه خمشها فعاتبته فقال: زعم الرسول بأنّني خمشته ... كذب الرسول وفالق الإصباح شغلي بحبّك عن سواك وليس لي ... قلبان مشتغل وآخر صاح قال النوفلي: وقد زعمت يمن بأنّي أردتها ... على نفسها تبّا لذلك من فعل «2» سلوا عن قميصي مثل شاهد يوسف ... فإنّ قميصي لم يكن قدّ من قبل «3» الراغب إلى حبيبه أن يكاتبه قال شاعر: يا زين من ولدت حوّاء من رجل ... لولاك لم تحسن الدنيا ولم تطب أما اللقاء فشيء لست آمله ... فما يضرّك لو ناجيت بالكتب وقال: فإن لم تكونوا مثلنا في اشتياقنا ... فكونوا أناسا تحسنون التحمّلا وماذا عليكم لو سمحتم بأحرف ... فأوجبتم فيها علينا التفضّلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 قال ابن طباطبا: أنا راضي يا منى ... نفسي بنيل منك نزر «1» فكتاب بل بسطر ... بل بحرف دون سطر المسرّة بورود الكتاب قال شاعر: أتاني كتاب فيه ذكر زيارة ... وقد كان قلبي قبل ذلك يخفق فقبّلته مستبشرا بوروده ... وأهديته للقلب لا يتفرّق قال المهلّبي: طلع الفجر من كتابك عندي ... فمتى باللّقاء يبدو الصّباح ذاك إن تمّ لي فقد عذب العي ... ش ونيل المنى وريش الجناح قال محمد بن طاهر: علامة من بودّك أن تراه ... يطيل إليك إن غبت الكتابا إذا قصّر الكتاب فأيّ ودّ ... ترجّى من حبيبك حين غابا (11) وممّا جاء في مزاورة الحبيب وملاقاته والنظر إليه المتنبّي: كم زورة لك في الأعراب خافية ... أدعى وقد رقدوا من زورة الذّيب أزورهم وسواد اللّيل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي «2» وله: وكم لظلام اللّيل عندي من يد ... تخبر أنّ المانوية تكذب «3» وقال ابن المعتز: وجاءني في قميص اللّيل مستترا ... يستعجل الخطو من خوف ومن حذر ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا ... مثل القلامة قد قدّت عن الظّفر «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 فقمت أفرش خدّي في الطريق له ... ذلّا وأسحب أذيالي على الأثر وكان ما كان مما لست أذكره ... فظنّ خيرا ولا تسأل عن الخبر قال جحظة: زارني خائفا وقد جثم اللّي ... ل ونام الحراس الرصد «1» جرّه سكره وساوره الخو ... ف فوافى سكران يرتعد قال سعيد النصراني: وعد البدر بالزيارة ليلا ... فإذا ما وفى قضيت نذوري «2» قلت يا سيدي ولم تؤثر اللي ... ل على بهجة النّهار المنير قال لا أستطيع تغيير رسمي ... هكذا الرسم في طلوع البدور من صار الطيب والحلى واشيا عند زورته قال البحتري: وزارت على عجل فاكتسى ... لزورتها أبرق الحزن طيبا «3» فكان العبير بها واشيا ... وجرس الحليّ عليها رقيبا قال بشار: أملي لا تأت في قمر ... لحديث واتّق الذرعا «4» وتوقّ الطيب ليلتنا ... إنه واش إذا سطعا «5» قال العباس: قامت تثنى وهي مرعوبة ... تود أنّ الشمل مجموع بكى وشاحاها فلم يسكتا ... وإنّما أبكاهما الجوع فانتبه الهادون من أهلها ... وصار للموعد مرجوع لا تستلق أبدا بعدها ... إلا ونمّامك منزوع ما بال خلخالك ذا خرسة ... لسان خلخالك مقطوع امتناع المحبوب قال شاعر: قلت زورّينا فقالت عجبا ... أتراني يا فتى قاضي منى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 إذ يصلي وعليه دينهم ... أنت تهواني وآتيك أنا قال أبو دهم: لما رأيت معذّبي ... ألفيته كالمحتشم فطلبت منه زورة ... تشفي السّقيم من السّقم فأبى عليّ وقال لي ... في بيته يؤتى الحكم من سأل رفيقه أن يزور به صديقه قال شاعر: خليليّ عوجا بارك الله فيكما ... وإن لم تكن هند لأرضكما قصدا وقولا لها ليس الضلال أجازنا ... ولكنّنا جزنا لنلقاكم عمدا وقال نصيّب: بزينب ألمم قبل أن يظعن الركب ... وقل أن تملّينا فما ملك القلب وقال: خليليّ من عوف عفا الله عنكما ... ألمّا بها إن كان مرخى ظلامها فإنّ مقيلي عند ظمياء ساعة ... لنا خلف من نومة سنامها «1» النهي عن كثرة النظر وذمّه قال الله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ «2» . وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست الآخرة وقال: زناء العين النظر. وقال عيسى عليه السلام: لا يزني فرجك ما غضضت طرفك. وقيل: من كثرت لحظاته دامت حسراته. فضول المناظرة من فضول الخواطر. قيل: نظر رجل إلى امرأة فقالت لم تنظر إلى ما يقيم أيرك وينفع غيرك؟ وقال أبو الفيض: خرجت حاجا فمررت بحي فرأيت جارية كأنها فلقة قمر فغطت وجهها، فقلت يرحمك الله أنا سفر وفينا أجر، فمتعينا برؤية وجهك فقالت: وكنت متى أرسلت طرفك رائدا ... لقلبك يوما أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كلّه أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر ومرت أعرابية بجماعة من بني نمير فأداموا لها النظر فقالت: يا بني نمير ما فعلتم بقول الله: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ولا بقول الشاعر: فغضّ الطّرف إنّك من نمير ... فلا سعدا بلغت ولا كلابا «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 فأطرقوا حياء وقال العبّاس بن الأحنف: ومستفتح باب البلاء بنظرة ... تزوّد منها شغله آخر الدهر قال أبو تمام: إنّ لله في العباد منايا ... سلطتها على القلوب العيون النهي عن تمكين المرأة من النظر إلى الرجل قال بعضهم: لإن يرى ألف رجل امرأتي أسهل عندي من أن ترى امرأتي رجلا، قال ذو الرمة: لا تأمننّ على النّساء ولو أخا ... ما في الرجال على النّساء أمين إن الأمين وإن تحفظ جهده ... لا بدّ أن بنظرة سيخون الرخصة في النظر قال الحسن: النظر إلى الوجه الحسن عبادة معناه إن الرائي يقول: سبحان خالقه ومنه قيل النظر إلى عليّ عبادة ورؤي شريح بقارعة الطريق فقيل له ما وقوفك؟ قال: عسى أن أنظر إلى وجه حسن أتقوى به على العبادة. وقال ابن الدمينة: يقولون لا تنظر وتلك بليّة ... ألا كل ذي عينين لا بدّ ناظر وليس اكتحال العين بالعين ريبة ... إذا عفّ فيما بينهنّ الضمائر وقال مصعب بن الزبير وكان جميلا لصوفي رآه يحد النظر إليه: لم تحدّ النظر إليّ؟ فقال: لا تنكر نظري فإنك من زينة الله في بلاده. أما سمعت قول أبي دلف. ما لمن تمّت محاسنه ... أن يعادي طرف من رمقا «1» لك أن تبدي لنا حسنا ... ولنا أن نعمل الحدقا «2» قال آخر: أبرزوا وجهه الجمي ... ل ولاموا من افتتن لو أرادوا عفافة ... نقبوا وجهه الحسن قال التمار: لا تمنعني إن نظر ... ت فلا أقلّ من النّظر دع مقلتي تنظر إلي ... ك فقد أضرّ بها السّهر النظر الشديد نظر أشعب إلى ابنه وهو يحادث امرأة فقال: يا بني نظرك هذا يحبل. وغنّى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 مخارق في مجلس الواثق بقول عمر بن أبي ربيعة: نظرت إليها بالمحصب من منى ... ولي نظر لولا التحرّج عارم «1» فقال ما تحفظون في هذا؟ فقال ابن أبي دؤاد أحفظ فيه شيئا ظريفا وهو: ولي نظر لو كان يحبل ناظر ... بنظره أنثى فقد حبلت عنّي «2» فإن ولدت ما بين تسعة أشهر ... إلى نظري شيئا فذاك إذا منّي فقال أشد منه للأخطل: فلا تقرب بيوت بني كليب ... ولا تقرب لهم أبدا رحالا ترى فيها لوامع مبرقات ... يكدن ينكن بالحدق الرجالا قيل لعاشق تمكن من لقاء محبوبه: هل اشتفيت؟ فقال: وفي نظري الصّادي إلى الماء حسرة ... إذا كان ممنوعا سبيل الموارد وقال آخر: يرنو وينظر حسرة ... نظر الحمار إلى القضيم من تمنّى النظر إلى محبوبه والاستشفاء بلقائه قال الخبزارزي: مفتاح كلّ لذاذة ... نظر المحب إلى الحبيب طوبى لعين بصرت ... وجه الحبيب بلا رقيب قال ابن قنبر: رمدت في الحبّ عيني ... فاكحلوها بالحبيب قال العباس: إذا ما التقينا كان أكثر حظّنا ... وغاية ما نرضى به النظر الشزر إزدياد الوجد بالنظر قال وهب الهمداني: زوّدت العين من لواحظها ... زادا فكان الحمام في النظر قال الأحوص: إذا قلت إني مشتف بلقائها ... فحمّ التّلاقي بيننا زادني وجدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 قال إبراهيم الموصلي: ولو أني نظرت بكلّ عين ... لما استقصت محاسنه العيون «1» تورك الذنب على العين والقلب . قيل: قال الصولي: فمن كان يؤتى من عدوّ وصاحب ... فإني من عيني أتيت ومن قلبي هما اعتوراني نظرة ثم فكرة ... فما أبقيا لي من رقاد ومن لبّ «2» وقال: إذا لمت عينيّ اللتين أضرّتا ... بجسمي يوما قالتا لي لم القلبا فإن لمت قلبي قال عيناك قادتا ... إليك البلايا ثم تجعل لي الذنبا قال أبو القاسم المصري: ألوم قلبي وناظري فهما ... تعاونا والنوى على قلبي تورك الذنب على العين دون القلب . قال أبو تمام: لأعذّبن جفون عيني إنّما ... بجفون عيني جلّ ما أتعذّب قال ابن المعتز: عيني أشاطت بدمي في الهوى ... فأبكوا قتيلا بعضه قاتله قال العطوي: فلا عجب ولا أمر بديع ... جنايات العيون على القلوب توركه على القلب دون العين كفى بكون القلب مذنبا وداعيا إلى فعل الشر أنّ النفس لأمّارة بالسوء وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم أعدى عدوك نفيسة بين جنبيك، قال شاعر: ألا إنّما العينان للقلب رائد قال الموسوي: النفس أعدى عدوّ أنت حاذره ... والقلب أعظم ما يبلى به الرجل «3» قلّة شبع العين من النظر قيل: لا تشبع عين من نظر، ولا أذن من خبر ولا أرض من مطر ولا أنثى من ذكر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 قال أبو العباس: ليتني إذ أراه كلّي عيون ... فبعينين لست أشبع منه اختلاس النظر خشية الرقباء قال أبو الشيص: ونظرة عين تعللتها ... حذارا كما نظر الأحول تقسمتها بين وجه الحبيب ... وطرف الرقيب متى يغفل ونحوه: إذا ما التقينا والوشاة بمجلس ... فليس لنا رسل سوى الطرف للطرف «1» فإن غفل الواشون فزت بنظرة ... وإن نظروا نحوي نظرت إلى السقف وقال: حمدت إلهي إذ بلاني بحبّها ... على حول أغنى عن النظر الشزر نظرت إليها والرقيب يظنّني ... نظرت إليه فاسترحت من العذر التخاطب بالنظر قال معقل بن عيسى: إذا نحن خفنا الكاشحين ولم نطق ... كلاما تكلّمنا بأعيننا شزرا «2» قال علي بن هشام: فسلمت إيماء وودّعت خفية ... فكان جوابي كسر عين وحاجب «3» قال ابن أبي طاهر: وفي غمز الحواجب مستراح ... لحاجات المحّب إلى الحبيب وقال: ومجلس لذّة لم نقو فيه ... على شكوى ولا عدّ الذنوب فلمّا لم نطق فيه كلاما ... تكلمت العيون على القلوب وقالت الهند: للحظ ترجمان القلب واللسان ترجمان البدن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 كون نظر المحبوب إلى محبّه قاتلا قال ابن الرومي: نظرت فأقصدت الفؤاد بسهمها ... ثم انثنت عنه فكاد يهيم ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت ... وقع السهام ونزعهن أليم تحيّر العاشق بالنظر إلى معشوقه قال أحمد بن أبي ظاهر: عتابا كأيام الحياة أعدّه ... لألقى به بدر السّماء إذا حضر فإن أخذت عيني محاسن وجهه ... دهشت لما ألقى فيملكني الحصر «1» السهل اللقاء الصعب المنال : قال شاعر: فقلت لأصحابي هي الشّمس ضوؤها ... قريب ولكن في تناولها بعد قال أبو نواس: مبذولة للعيون وجنته ... ممنوعة من أنامل الجاني «2» وليس لي فيه ما خلا نظر ... يشركني فيه كلّ إنسان قال العباس: هي الشمس منزلها في السّماء ... فعّز الفؤاد عزاء جميلا فلن تستطيع إليها الصعود ... ولن تستطيع إليك النزولا من سهل بالكلام وصعب بالمنال قال إبراهيم بن المهدي: وقد يلين ببعض القول يبذله ... والوصل في وزر صعب مراقيه «3» فالخيزران منيع منك مكسره ... وقد يرى ليّنا في كفّ لاويه «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 المؤثر للمواقعة قال شاعر: لم يصف حبّ لمعشوقين لم يذقا ... حبّا يحلّ على من ذاقه الغسل «1» قال الخبزارزي: إذا ما قنعنا بالتّواصل في الهوى ... فلا أنت معشوق ولا أنا عاشق فلا وصل إلا أن يكون تباذل ... ولا بذل إلا أن يكون تعانق إذا لم يتمّ الوصل والبذل في الهوى ... فأمّ الهوى من بعد هذين طالق قال أبو تمّام: وقالوا نكاح الحبّ يفسد شكله ... وكم نكحوا حبّا وليس بفاسد وقال أبو القيس: مرّ بي إدريس بي أبي حفصة فوقف عليّ وأنشدني: ولما التقينا قالت الحكم فاحتكم ... سوى خصلة هيهات منك مرامها فقلت معاذ الله من تلك خصلة ... نموت ويبقى بعد ذاك أثامها «2» وكان عندنا شيخ من فرغانة فقال ما تفسير هذا؟ ففسرته له فقال: أما نحن فمتى عشقنا واحدا نكناه في إسته ليس هذا عشقا أو لا يقوم عليه. استحسان التقاء المتحابين قال مسلم العنبري: لا شيء أحسن في الدنيا وساكنها ... من وامق قد خلا فردا بموموق «3» قال العباس: لم يخلق الرحمن أحسن منظرا ... من عاشقين على فراش واحد المعانقة قال إبراهيم الصولي: ساعدنا الدهر فبتنا معا ... نحمل ما نجني على السّكر فكنت كالماء له قارعا ... وكان في الرقّة كالخمر «4» قال الأخطل: وإنّي وإياها إذا ما لقيتها ... لكالماء من صوب الغمامة والخمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 قال الجاحظ: كم بين قول امرئ القيس ... تقول وقد مال الغبيط بنا معا «1» وبين قول علي بن الجهم: سقى الله ليلا ضمنا بعد هجعة ... وأدنى فؤادا من فؤاد معذّب فبتنا جميعا لو تراق زجاجة ... من الراح فيما بيننا لم تسرّب وقال: فبتنا على رغم الحسود كأنّنا ... خليطان من ماء الغمامة والخمر قال البحتري: وربت ليلة قد بت أسقى ... بعينيها وكفّيها المداما قطعنا الوصل لثما واعتناقا ... وأفنيناه ضمّا والتزاما قال ابن المعتز: كأنني عانقت ريحانة ... تنفّست في ليلها البارد فلو ترانا في قميص الدجا ... حسبتنا من جسد واحد «2» قال ابن طباطبا: وضيّقت فيه من عناق معانقي ... فظنّ وشاتي أنني نائم وحدي من ذكر تمكّنه من محبوبه قال جحظة: حبيب جاد لي ... بالرّيق والظلماء معتكفه وسامحني بما أهوا ... هـ بعد التيه والأنفه ستشكر فعله نفس ... بعجز الشكر معترفه قال المأمون: يا ليلة فزنا بها حلوة ... جامعة في ظلّها الشمل شرابنا وكاساتنا ... شفاهنا والقبل النقل «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 تمني تقبيل الحبيب والاقتصار منه عليه قال شاعر: والله لو نلتك إذ نلتقي ... عينا لقبّلتك ألفين قال الصنوبري: نويت تقبيل نار وجنته ... فخفت أدنو منه فأحترق قال محمد بن أبي أمية: فما نلت منها محرّما غير أنّني ... أقبّل بسّاما من الثغر أفلجا «1» وألثم فاها تارة بعد تارة ... وأترك حاجات النفوس محرجا تقبيل الحبّ إعتراضا قال ابن المعتز: وكم عناق لنا وكم قبل ... مختلسات حذار مرتقب نقر العصافير وهي خائفة ... من النّواطير يانع الرطب «2» قال أبو نواس: وعاشقين التفّ خداهما ... عند التثام الحجر الأسود فاشتفيا من غير أن يأثما ... كأنّما كانا على موعد لولا دفاع النّاس إيّاهما ... لما استفاقا آخر المسند نفعل في المسجد ما لم يكن ... يفعله الأبرار في المسجد قال ابن أبي ربيعة: فمررت مختفيا أمرّ ببيتها ... حتّى ولجت على خفاء المولج قالت وعيش أخي وحرمة والدي ... لأنبهنّ الحيّ إن لم تخرج فخرجت خيفة قولها فتبسّمت ... فعلمت أن يمينها لم تحرج فلثمت فاها آخذا بقرونها ... شرب النزيف لبرد ماء الحشرج «3» استطابة تقبيله اختلاسا واختفاء قال كشاجم: ما لذة أبلغ في طيبها ... من لذّة في إثرها عضّه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 خلّصتها بالكره من شادن ... يعشق منه بعضه بعضه قال ابن سكرة: سألته في صحوه قبلة ... فردّني والموت في ردّه حتّى إذا السّكر ثنى جيده ... قبّلته ألفا بلا حمده «1» وقال الحسن بن وهب قبلتها فوجدت بين شفتيها ريحا لو نام فيها المخمور لصحا. قال المتنبّي: شاميّة طال ما خلوت بها ... تبصر في ناظري محيّاها فليتها لا تزال آوية ... وليته لا يزال مأواها قال الصاحب: قال إذا قبلني خدّه ... إنّما القبلة عنوان الصّلة قال الصابئ: أقبلت ثم قبّلت ظهر كفّي ... قبلة تنقع الغليل وتشفي «2» فتلظّى فمي عليها وودّت ... شفتي أنّها هنالك كفي فعضضّت اليد التي قبّلتها ... بفم حاسد يريد التشفّي «3» قال الصاحب: أو ما لتقبيل يدي ... فقلت لا بل شفتي قال الموسوي: ومقبّل كفى وددت بأنّه ... أوما إلى شفتيّ بالتّقبيل موضع التقبيل قيل: قبلة المؤمن المصافحة وقبلة الرجل زوجته الفم وقبلة الوالد الولد الرأس وقبلة الأم الابن الخد. قال أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه: قبلة الولد رحمة وقبلة المرأة شهوة وقبلة الوالدين عبادة وقبلة الأخ الأخ رقة وزاد فيه الحسن وقبلة الإمام العادل طاعة. من سأل محبوبه الوصل وقال الواواء الدمشقي: أيا من هو الفوز لي بالمنى ... ومن هو بالودّ منّي حقيق «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 تغنم بنا غفلات الزمان ... فوجه الحوادث وجه صفيق «1» وقال: تعال بنا نعص الوشاة ونشتفي ... من الوصل قبل الموت ثم نتوب كتب إبراهيم الموصلي إلى قينة: دعي الوصل لا أسمع بيومك إنّما ... سألت شيئا ليس يعري لكم ظهرا فأجابته لكن يملأ لنا بطنا، قال شاعر: يا قضيبا مخصره ... وكثيبا مؤزره «2» ليت شعري متى تجو ... د بما لا نفسّره سؤاله عوذة النائل قال المتنبّي: أمنعمة بالعودة الظّبية التي ... بغير وليّ كان نائلها الوسميّ «3» قال بشار: يا رحمة الله حلّي في منازلنا ... حسبي برائحة الفردوس من فيك «4» قد زرتنا مرّة في الدهر واحدة ... ثنّي ولا تجعليها بيضة الديك «5» المستكثر قليل الوصل من حبيبته قال بعضهم: بحرمة ما قد كان بيني وبينكم ... من الوصل إلا عدتم بجميل وإنّي ليرضيني قليل نوالكم ... وإن كنت لا أرضى لكم بقليل قال آخر: قفي ودّعينا يا مليح بنظرة ... فقد حان منّا يا مليح رحيل أليس قليلا نظرة إن نظرتها ... إليك وكلا ليس منك قليل قال ابن المعتز: قل لمن حيّا فأحيا ... ميّتا حييت حيّا ما الذي ضرّك لو أبقي ... ت لي في الكاس شيّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 هل تراني كنت إلا ... مثل من قبّل فيّا الرضا بأن حبيبه يخطره في قلبه قال ابن الدمينة: لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرّني أنّي خطرت ببالك وقال: رضيت بسعي الوهم بيني وبينه ... وإن لم يكن في الوصل منه نصيب الرضا بأن ينظر أرض حبيبه يقرّ بعيني أن أرى من مكانها ... ذرا عقدات الأبرق المتقاود «1» وأن أرد الماء الذي شربت به ... سليمي وقد ملّ السرى كلّ واحد «2» وألصق أحشائي ببرد ترابه ... وإن كان مخلوطا بسمّ الأساود الرضا بكونه مع الحبيب في الدّنيا قال أبو نواس أرضى الناس قيس بن ذريح في قوله: أليس اللّيل يجمعني وليلى ... ألا يكفي بذلك من تدان ترى وضح النهار كما أراه ... ويعلوها الظلام كما علاني وقال: ويقر عيني وهي نازحة ... ما لا يقرّ بعين ذي الحلم أنّي أرى وأظنّها سترى ... وضح النهار وعالي النجم رجاء لقاء المحبوب قال الحارثي: أرانا به الله ما لم تزل ... تبشّرنا حسنات الظنون وقال: ما أقدر الله أن يدني على شحط ... من داره الحزن ممّن داره صول «3» الله يطوي بساط الأرض بينهما ... حتى يرى الربع منه وهو مأهول من حبيبه مناه قال شاعر: ولما نزلنا منزلا طلّه النّدى ... أنيقا وبستانا من النّور حاليا «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 أجدّ لنا طيب المكان وحسنه ... منىّ فتمنّينا فكنت الأمانيا تمنّي مجاورته قال شاعر: تمنيت في عرض الأماني وربّما ... تمنى الفتى أمنية ثم نالها ألا ليت سعدى جاورتني حياتها ... فتعلم ما حالي وأعلم حالها قال الفرزدق: ألا ليتنا نمنا ثمانين حجّة ... تنام معي عريانة وأنامها ضجيعين مستورين والأرض تحتنا ... يكون طعامي شمّها والتزامها قال جميل: أقول والركب قد مالت عمائمهم ... وقد سقى القوم كأس النعسة السهر يا ليت أني بأثوابي وراحلتي ... عبد لقومك هذا الشهر مؤتجر من أحبّ أن يجتمع مع حبيبه وإن كان في شقاء قال كثيّر: ألا ليتنا يا عزّ من غير ريبة ... بعيران نرعى في الخلاء ونعزب «1» كلانا به عرّ فمن يرنا يقل ... على حسنها جرباء تعدي وأجرب «2» إذا ما وردنا منهلا صاح أهله ... علينا فلا ننفكّ نرمي ونضرب نكون بعيري ذي غنى فيضيعنا ... فلا هو يرعانا ولا نحن نطلب فلما سمعت عزّة ذلك قالت لقد تمنى لي وله الشقاء الطويل. قال ديك الجن ألا ليتنا كنّا جميعين في الهوى ... تضمّ علينا جنّة أو جهنّم قال ابن حجّاج: قلت ستّي كلّميني ... قبل أن أحصل مثله «3» اضربي من طين باب است ... تك خرطومي بكتله قد طلبنا منك ما لا ... تكره الحرة بذله ليتني أمسيت في عق ... صة شعر إستك قمله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 الرضا من حبيبه بالأماني والمواعيد الكاذبة قال كثيّر: وإني لأرضى منك يا عزّ بالذي ... لو أبصره الواشي لقرّت بلابله «1» بلا وبان لا أستطيع وبالمنى ... وبالوعد والتسويف قد ملّ آمله «2» وبالنظرة العجلى وبالحول ينقضي ... أواخره لا تنقضي وأوائله قال جميل: فصلى بحبلك يا بثين حبائلي ... وعدي مواعد منجز أو ماطل «3» قال الموسوي: وما ضرّهم إذ لم يجودوا بمقنع ... من النّيل لو منّوا قليلا وسوّفوا «4» قال كشاجم: ضنّت بموعدها فقلت لها ... يا هذه فعدي بأن تعدي انتظار وعد الكاذب قال جحظة: يا كاذبا في وعده بلسانه ... من لي بمصّ لسانك الكذّاب ما زلت منتظرا لوعدك مفردا ... بالبيت مرتقبا لقرع الباب قطع الأوقات بالأماني قال ابن المعتز: يا مانع العين طيب رقدتها ... ومانح الجسم كثرة العلل علّمني حبّك المقام على الضّي ... م وقطع الأيّام بالأمل وقال: منى أن تكن حقا تكن أحسن المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا أمانيّ من سعدى حسان كأنّما ... سقتك بها سعدى على ظمأ بردا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 (12) وممّا جاء في الطيف من يسمح بخياله ويضنّ بوصاله قال البحتري: أهلا بزائرة الملمّ لو أنّه ... عرف الذي يعتاد من إلمامه «1» جذلان يسمح في الكرى بعناقه ... ويضنّ في غير الكرى بسلامه «2» وقال: بنفسي من تنأى ويدنو ادّكارها ... ويبذل عنها طيفها ويمانع «3» وقال: وإذا ما أبى الحبيب مواتا ... تي تبلّغت بالخيال المسلّم قال أحمد بن أبي طاهر: فبتّ بها ضيفا مقيما برحله ... وباتت بنا طيفا تقيم ولا تدري وزارت وما زارت وجادت ولم تجد ... وواصل عنها الطيف وهي على الهجر قال ابن المعتز: شفاني الخيال بلا حمده ... وأبدلني الوصل من صدّه وكم نومة لي قوّادة ... أتت بالحبيب على بعده وقال كشاجم: قد جاد طيفك لي بوعدك ... وأجارني من طول صدّك ودنا إليّ معانقا ... ومصافحا خدّي بخدّك فظفرت منك بما هوي ... ت بحمد طيفك لا بحمدك من منع خياله بتسليط السّهاد على محبّه قال شاعر: فكان يزورنا منه خيال ... فلمّا أن جفا منع الخيالا قال علي بن يحيى المنجم: بأبي أنت لم جفاني خيال ... لك قد كنت أستريح إليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 أرشدني إلى خيالك كيما ... أتقاضاه موعدا لي عليه «1» وقال: إنّ فقد النّوم أعدمني ... رؤية الأحباب في الحلم قال أبو نواس: كيف السبيل إلى طيف يزاوره ... والنّوم في جملة الأحباب هاجره بغض طيف ذي هجران قال أبو دلف: لا تحمدنّ على نوال في الكرى ... من ليس في غير الكرى بمنول قال المتنبّي: إنّي لأبغض طيف من أحببته ... إن كان يهجرنا زمان وصاله قال المهلّبي: إنّما الطّيف الملمّ ... فرح يتلوه هم قلّما يحمد أمر ... ليس فيه ما يذمّ قالت عابدة المهلبية: خطبت خياله فإذا خيال ... مطول مثل صاحبه بخيل «2» فإن توقّعي طيفا جوادا ... وصاحبه بخيل مستحيل من ذكر الخيال بات الفكر إزاره قال أبو تمام: نم فما زارك الخيال ولكن ... نك بالفكر زرت طيف الخيال قال المتنبّي: لا الحلم جاء به ولا بمثاله ... لولا ادّكار وداعه وزياله «3» إن المعيد لنا المنام خياله ... كانت عبارته خيال خياله بتنا يناولنا المدام بكفّه ... من ليس يخطر أن نراه بباله فدنوتم ودنوّكم من عنده ... وسمحتم وسماحكم من ماله من أسهره خيال حبيبه قال علي بن يحيى: زارني طيف الخيال فما ... زاد أن أغرى بي الأرقا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 قال الفرزدق: شبت لعينك سلمى عند مقفاها ... فبتّ منزعجا من بعد مرآها «1» وقلت أهلا وسهلا ما هداك لنا ... إن كنت تمثالها أو كنت إيّاها قال ابن الرومي: طرد الكرى عنّي وراح بحاجتي ... وقضى عليّ بأجرة الحمّام من تمنّى المنام لأجل لقاء الخيال قال قيس بن ذريح: وإنّي لأهوى النوم من غير نفسه ... لعلّ لقاء في المنام يكون تخبرني الأحلام إنّي أراكم ... فيا ليت أحلام المنام يقين من ذمّ الصبح لمفارقة الخيال قال البحتري: وليلة هوّمنا على العيس أرسلت ... بطيف خيال يشبه الحقّ باطله فلولا بياض الصّبح طال تشبّثي ... بعطفي غزال بتّ وهنا أغازله «2» وكم من يد للّيل عندي حميدة ... وللصّبح من خطب تذمّ غوائله «3» المخافة من تهديد الطيف قال شاعر: رجا راحة في النّوم حتّى إذا غفا ... أتى طيف من يهوى يهدّد بالهجر فقام ينادي والدموع بوادر ... أيا طيف من أهوى قتلت ولا تدري (13) وممّا جاء في السلوّ من ذكر تسلّيه عن محبوبه بما لا يسلى به قال كثيّر: ولما أبى إلا جماحا فؤاده ... ولم يسل عن ليلى بمال ولا أهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 تسلّى بأخرى غيرها فإذا الّتي ... تسلّى بها تغري بليلي ولا تسلي قال البحتري: وقالوا تجنبها تفسق فاجتنبتها ... زمانا فما أسلى فؤادي التجنب وقالوا تقرّب يخلق الحبّ أو تجد ... علالة قلب فاختلاني التقرّب من بغى له بعد ما تسلى علالة من الهوى قال معاوية: صرمت سفاهتي وأرحت حلمي ... وفي علمي تحمّلي اعتراض «1» على أنّي أجيب إذا دعتني ... إلى حاجاتها الحدق المراض قال البحتري: إني إذا جانبت بعض بطالتي ... وتوهّم الواشون أنّي مقصر ليشوقني سحر العيون المجتلى ... ويروقني ورد الخدود الأحمر من قرب سلوّه من عشقه قال محمد بن بشير: سريع العلوق إذا ما هوى ... سريع النّزوع إذا ما علق فبينا يرى عاشقا إذ سلا ... وبينا يرى قاليا إذ عشق «2» رأيت الوصال وهجرانه ... يكونان منه معا في نسق وقيل لأعرابية كم تعشقين؟ فقالت: ثلاثين ألفا كلّ يوم أحبّهم ... وما في فؤادي واحد منهم يبقى امتناع النفس من الرجوع إلى من أبغضته قال العباس: ردّ الجبال الرواسي عن أماكنها ... أخفّ من ردّ نفس حين تنصرف وقال: إذا انصرفت نفسي عن الشّيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدهر تقبل وقال آخر: إنّ قلبي أعزّ من أن تراه ... في محلّ الهوى لقلبك عبدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 الراغب عن محبوبه قال أبو عيينة: لقد جعلت تعرض لي سعاد ... تعرّض من يريد ولا يراد فقلت لها: كسدت فلا تعني ... بنا فلكلّ نافقة كساد «1» فما لك إن أقمت عليّ رزق ... ولا لك إن ظعنت عليّ زاد وكتب أبو نواس لما خرج من بغداد: ألا قل لأخلّائي ... ومن همت بهم وجدا «2» شربنا ماء بغ ... داد فأنساناكم جدّا خذوا منّا فإنا قد ... وجدنا منكم بدّا ولا ترعوا لنا عهدا ... فما نرعى لكم عهدا قال كثير: فإن سأل الواشون فيم هجرتها ... فقل: نفس حرّ سليت فتسلّت» التسلّي عمّن رغب في غيرك قال الخبزارزي: إذهب وهبتك للذين اخترتهم ... هبة الكريم فإنّه لا يرجع وقال: ولمّا بدا لي منك ميل مع العدا ... سواي ولم يحدث سواك بديل صددت كما صدّ الرزي تطاولت ... به مدّة الأيام وهو قتيل «4» قال ابن المعتز: القلب لا يجمع إثنين ... والغمد لا يجمع سيفين تاه فأفضيت إلى غيره ... خار إلهي للفريقين قال ابن الرومي: يا ذا الذي منك التن ... كر والتغيير والنبوّ «5» إن كان أدركك الملا ... ل فقد تداركني السّلوّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 وقال: كلانا واجد في النّا ... س ممّن ملّه خلفا قال أبو الشيص: إذا لم تكن طرق الهوى لي ذليلة ... تنكّبتها وانحزت للجانب السّهل ومالي أرضى منه بالجور في الهوى ... ولي مثله ألف وليس له مثلي المتبجّح بالغدر مع أحبابه قال بعضهم: يا ربّ مثلك في النّساء عزيزة ... بيضاء قد متعتها بطلاق لم تدر ما تحت الضلوع وغرّها ... منّي تحمّل شيمتي وخلاقي من ذكر قلّة توفره على الهوى يقال رجل عزهاة إذا لم يكن غزلا وقيل في ضده زير نساء، قال البستي: وللخود منّي ساعة ثم بيننا ... فلاة إلى غير الوفاء تجاب «1» وغير فؤادي للغواني رمية ... وغير بناني للزجاج ركاب «2» استدعاء القلب إلى التسلي قال المتنبّي: وأعلم أن البين يشكيك بعده ... فلست فؤادي إن رأيتك شاكيا «3» قال بشّار: وقد رابني قلبي يكلّفني الصّبا ... وما كلّ حين يتبع القلب صاحبه وقال آخر: كلّ اللذاذات والتّصّابي ... قبل الثلاثين تستطاب «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 وقال آخر: كفى سفها بالشّيب أن يأتي الصّبا ... وأن يأتي الأمر الذي هو عائبه (14) وممّا جاء في فنون مختلفة من الغزل قال شاعر: إذا اجتمع الجوع المبرّح والهوى ... على الرجل المسكين كاد يموت قال ابن ميّادة: فيا أهل ليلى أكثر الله فيكم ... من أمثالها حتّى تجودوا لنا بها وقال جميل: أتوني وقالوا يا جميل تبدّلت ... بثينة إبدالا لا فقلت لعلّها وعلّ حبالا كنت أحكمت عقدها ... أتيح لها واش رقيق فحلّها وقال البحتري: رأيتك إن منّيت منّيت موعدا ... جهاما وإن أبرقت أبرقت خلّبا «1» وقال شاعر: طلبنا دواء الحبّ يوما فلم نجد ... من الحبّ إلا من يريد مداويا وقال عبد الله بن طاهر: وكلّ محبّ جفا من يحبّ ... جفته السّلامة والعافيه وله: أيام لم تلج النّوى ... بين العصا ولحائها وقال الخبزارزي: ظبي تفلّت من حبلي فأوقعني ... في حبله إنّ في عينيه لي شركا «2» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 استفتاء فقيه في الهوى قال أعرابيّ: إلا استفتيا المكّي ذا الفقه ما الذي ... يحلّ من التقبيل في رمضان فقال لي المكّيّ أمّا لزوجة ... فسبع وأما خلّة فثمان وقال أبو العالية: سل المفتي المكيّ هل في تزاور ... وضمّة مشتاق الفؤاد جناح «1» فقال معاذ الله أن يذهب التّقى ... تلاصق أحشاء بهنّ جراح من سلكوا في تصرفاتهم مسلك مذاهبهم في صناعاتهم قلت لا أستطيع هجرك قالت ... صرت بعدي تقول بالإجبار «2» ما تخيلت من مقالة بشر ... بن غياث ومذهب النّجار قال السعيد بن حميد: قد قلت بالعذل ولكنّني ... عدلت في الحبّ عن العذل فقلت بالإجبار مستغفرا ... لله من قولي ومن فعلي قال جعفر الخياط: فتقت بالهجران درز لهوي ... إذا وخزتني إبرة الصّد قال بعض الزّراعين: زرعت هواه في كراب من الهوى ... وأسقيته ماء الدّوام على العهد وسرقنته بالوصل لم آل جاهدا ... ليحرزه السرقين من آفة الصّد «3» فلمّا تعالى النبت واخضرّ يانعا ... جرى يرقان البين في سنبل الود «4» وقال حلّاج: حلجت قطن فؤادي بالهوى فغدا ... في الصدّ تندفه الأحزان بالنّد وقال حجّام: حلقت بموسى الغدر ناصية العهد ... وأجريت مشط الهجر في لحية الوجد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 وقصّت بمقراض القلي طرّة الهوى ... فجبهة رأس الوصل مكشوفة الجلد وقال الحسن بن أبي قماش وكان بقالا: أصبح قلبي بربخا للهوى ... تسلح فيه فقحة الهجر «1» وهذا فصل توجد فيه أشعار كثيرة ولكن لا معنى في إفناء الوقت فيما ليس فيه كبير معنى. ومما قيل في كثرة العتاب وكلّ عتاب كان صعبا وضيقت ... مسالكه ألجا إلى الكذب السهل وقد تصقل الأسياف وهي صديئة ... وما كلّ يوم يبذل السيف بالصقل وقال: لولا كراهية العتاب وأنني ... أخشى القطيعة إن ذكرت، عتابا لذكرت من عثراتكم وذنوبكم ... ما لو يمرّ على الفطيم لشابا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 الحدّ الرابع عشر في الشجاعة وما يتعلق بها (1) ما جاء في الشّجاعة وأحوالها، حقيقة الشجاعة حقيقة الشجاعة قيل: الشجاعة صبر ساعة، وكتب زياد إلى ابن عباس: صف لي الشجاعة والجبن والجود والبخل فقال: الشجاع من يقاتل من لا يعرفه والجبان يفر من عرسه والجواد يعطي من لا يلومه حقه والبخيل يمنع من نفسه، قال شاعر: يفرّ جبان القوم عن أم نفسه ... ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه وسئل فيلسوف عن الشجاعة فقال: جبلة «1» نفس أبية وقيل: الرجال ثلاثة: فارس وشجاع وبطل. فالفارس الذي يشد إذا شدوا والشجاع الداعي إلى البراز، والمجيب داعية والبطل الحامي لظهورهم إذا انهزموا. الأسباب المشجعة قال الجاحظ: الأسباب المشجعة قد تكون عن الغضب والشراب والهوج والغيرة والحمية. وقد تكون من قوة النفخ «2» وحب الأحدوثة وربما كان طبعا كطبع الرحيم والسخي والبخيل والجزوع والصبور وربما كان للدين، ولكن لا يبلغ الرجل للدين ما لم يشيعه بعض ما تقدم لأن الدين مجتلب مكتسب ولا يكاد يبلغ الطبيعة. وقيل: لا يصدق القتال إلا ثلاثة: متديّن وغيران وممتعض من ذلّ. الوصية بالإقدام وترك الفشل قيل: قد جمع الله تعالى في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً «3» ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ «1» في جميع ما يحتاج إليه في الحرب، استشير أكثم بن صيفي في حرب أرادوها فقال: أقلوا الخلاف لامرائكم واعلموا أن كثرة الصياح من الفشل، والمرء يعجز لا محالة. وادّرعوا الليل فإنّه أخفى الويل. وكان عظماء الترك يقولون: ينبغي للقائد في الحرب أن يكون فيه أخلاق من البهائم: شجاعة الديك وقلب وقلب الأسد وحملة الخنزير وروغان الثعلب وصبر الكلب على الجراحة وحراسة الكركي وحذر الغراب وغارة الذئب وقال قميصة بن مسعود يوم ذي قار «2» يحذّر بكر بن وائل: الجزع لا يغني من القدر، والصبر من أبواب الظفر، والمنية ولا الدنية «3» واستقبال الموت خير من استدباره والطعن في الثغر أكرم منه في الدبر. وهالك معذور خير من ناج فرور. وقال أبو مسلم لبعض قواده: إذا عرض لك أمر نازعك فيه منازعان أحدهما يبعث على الإقدام والآخر على الإحجام فأقدم فإنه أدرك للثار وأنفى للعار. الحثّ على استعمال الخدعة والحيلة والتحرّز في الحرب قال النبي صلّى الله عليه وسلّم الحرب خدعة وقيل إذا لم تغلب فأخلب وقال بعضهم: كن بحيلتك أوثق منك بشدّتك، وبحذرك أفرح منك بنجدتك، فإن الحرب حرب للمتهوّر وغنيمة للمتحذّر. وقيل: المكر أبلغ من النجدة، ومما كتب معاوية إلى مروان لما بلغه قتل عثمان رضي الله تعالى عنه: إذا قرأت كتابي فكن كالفهد لا يصطاد إلّا بغليلة ولا يناور إلا عن حيلة وكالثعلب لا يغلب إلا روغانا. وأخف نفسك عنهم إخفاء القنفذ رأسه عن لمس الأكف وامتهن نفسك إمتهان من ييأس القوم من نصره وأبحث على أخبارهم بحث الدجاجة عن حب الدخن «4» عند نفاسها وقيل حازم في الحرب خير من ألف فارس. لأن الفارس يقتل عشرة وعشرين، والحازم قد يقتل جيشا بحزمه وتدبيره. حث من دعي إلى المبارزة على الإجابة قال أمير المؤمنين رضي الله عنه لبعض بنيه: لا تدعونّ أحدا إلى البراز ولا يدعونّك أحد إلّا أجبته، فالداعي باغ والباغي مصروع. وقال طرفة: إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني ... دعيت فلم أكسل ولم أتبّلد «5» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 وقال: إن كان في الألف منّا واحد فدعوا ... من فاز خالهم إيّاه يعنونا قال دعبل: من معشر إن تدعهم لملمّة ... وصلوا الحياة إلى العلا بحديد «1» المنازل وقت المنازلة قال المهلهل: لم يطيقوا أن ينزلوا فنزلنا ... وأخو الحرب من يطيق النزولا وقال: يطعنهم ما ارتموا حتى إذا اعتنقوا ... ضارب حتّى إذا ما ضاربوا اعتنقا وقال: جعلت يدي وشاحا له ... وبعض الفوارس لا يعتنق الحثّ على الثبات والنهي عن الإحجام والفكر في العواقب قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ «2» وقال: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا «3» وقيل: السلامة في الإقدام والحمام في الأحكام، قال قطري: لا يركننّ أحد إلى الأحكام ... متخوفا يوم الوغى لحمام قال الكلبي: إذا المرء لم يغش الكريهة أو شكت ... حبال الهوينا بالفتى أن تقطعا «4» وقال أبو بكر لخالد بن الوليد رضي الله عنهما: لما أخرجه لقتال أهل الردّة: أحرص على الموت توهب لك الحياة. وقيل: من تفكر في العواقب لم يشجع، ولما أحست امرأة ربيعة بن مكدم بهر به قالت: مساءة ترك الفتى نساءه ... حتّى يبلّ من دم أنسائه الحثّ على التفكر قبل التقدم قيل: الإتيان بالتندم لا يغني بعدم التقدم. وقيل: من قاتل بغير نجدة وخاصم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 بغير حجة وصارع بغير قوة فقد أعظم الخطر وأكبر الغرر: إذا ما أردت الأمر فاذرعه كلّه ... وقسه قياس الثوب قبل التقدّم لعلّك تنجو سالما من ندامة ... فلا خير في أمرأتى بالتندّم المتبجّح بثباته قيل: لأمير المؤمنين رضي الله عنه أنت محرب مطلوب فلو اتخذت طرفا. فقال: لا أفرّ عمن كرّ ولا أكرّ على من فرّ، فالبغلة تكفيني. وقيل لعباد بن الحصين: إن جالت الخيل فأين نطلبك؟ قال: حيث تركتموني. وقيل لبعض بني المهلب بن نلتم؟ ما نلتم قال بصبر ساعة، وقال هدبة: أخو الحرب من لا يجتويها إذا اجتوت ... ولا يظهر الشكوى وإن كان موجعا «1» وقال: قوم إذا نزلوا الوغى لم يسألوا ... حذر المنيّة عن طريق الهارب وقال آخر: ولا يرتقي من خشية الموت سلّما قال أبو فراس: صبور ولو لم تبق منّي بقية ... قؤول ولو أن السيوف جواب «2» وقور وأحداث الليالي تنوشني ... وللموت حولي جيئة وذهاب المبادر إلى الحرب غير مبال بها وصف أعرابي قوما فقال ما سألوا قط كم القوم، وإنما يسألون أين هم؟ سأل رجل يزيد بن المهلب فقال: صف لي نفسك، فقال: ما بارزت أحدا إلا ظننت أن روحه في يدي. ولما بلغ قتيبة حدّ الصين قيل له قد أوغلت في بلاد الترك والحوادث بين أجنحة الدهر تقبل وتدبر، فقال بثقتي بنصر الله توغّلت وإذا انقضت المدة لم تنفع العدة فقال الرجل أسلك حيث شئت فهذا عزم لا يفلّه إلا الله، قال السلامي: أتى القدر المتاح فلا اصطبار ... يرد شباة عنك ولا فرار وليس تقدّمي خرقا ولكن ... لغير الحرب يدّخر الوقار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 وقال: إذا فاجأته الخيل لم ينتظر بها ... لحاق الرجال واجتماع المقاتب وقيل لعبد الملك: من أشجع العرب في شعره؟ فقال: عباس بن مرداس حيث يقول: أشدّ على الكتيبة لا أبالي ... أحتفي كان فيها أم سواها وقيس بن الحطيم حيث يقول: وإنّي في الحرب العوان موكل ... بإقدام نفس لا أريد بقاءها «1» والمزيّني حيث يقول: دعوت بني قحافة فاستجابوا ... فقلت ردّوا فقد طاب الورود قالت أم الهيثم التميميّة: تمشي إلى أسل الرماح وقد ترى ... سبب المنيّة مشيّة المختال وأخذه بعض المحدثين فقال: شبهت مشيتها بمشية ظافر ... يختال بين أسنّة وسيوف كلف تناهت نفسه عن نفسه ... لما انثنى بسنانه المرعوف «2» وقال البحتري: تسرّع حتّى قال من شهد الوغى ... لقاء أعاد أم لقاء حبائب «3» المتوصل إلى الشدة بالرخاء قيل: نيل المعالي هول العوالي، ودرك الأحوال في ركوب الأهوال. بالصبر على لبس الحديد تتنعم في الثوب الجديد، في الصبر على النوائب إدراك الرغائب ربّ قعدة تمنع قعدات وأكلة تمنع أكلات، قال الطائي: ولم تعطني الأيام يوما مسهّدا ... ألذّ به إلا بنوم مشرّد وقال يزيد بن المهلب يوما لجلسائه: أراكم تعنّفوني في الإقدام فقالوا: أي والله أنك لترمي نفسك. فقال إليك عنّي فو الله لم آت الموت من حبّه ولكني آتيه من بغضه ثم تمثّل: تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة قبل أن أتقدّما «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 المخوف منه قيل: كانت قريش إذا رأت أمير المؤمنين في كتيبة تواصت خوفا منه. ونظر إليه رجل وقد شقّ العسكر فقال: قد علمت أن ملك الموت في الجانب الذي فيه عليّ. تأثير الجيش بعث أمير في طلب قوم رجلا، فما لبث أن جاءه برجل أطول ما يكون فقال: كيف تمكنت منه؟ فقال: وقع في قلبي أن آخذه ووقع في قلبه أنه مأخوذ فنصرني عليه خوفه وجراءتي. وقيل لأمير المؤمنين بم غلبت الأقران؟ قال: بتمكّن هيبتي في قلوبهم. المؤتمر له الوغى والردى قال كلثوم قداح المنايا في يديه يجيلها قال الفرزدق: أظلّه منك حتف ظلّ يرقبه ... حتّى يؤامر فيه رأيك القدر وقال دعبل: هم المتخيّرون على المنايا ... نفوس ذوي الرياسة باقتراح قال سلم الخاسر: كأن المنايا جاريات بأمره وقال المتنبّي: ويستعظمون الموت والموت خادمه الموفي على جماعة والغالب لهم قيل: للإسكندر إن في عسكر دارا» ألف مقاتل فقال: إن القصاب «2» الحاذق وإن كان واحدا لا يهوله كثرة الغنم. فواحدهم كالألف بأسا ونجدة ... وألفهم للعجم والعرب قاهر وقيل لجنيّة بنت رباح: أعشرة هذرة «3» أحب إليك أم ثلاثة كعشرة فقالت: ثلاثة كعشرة فولدت بني جعفر قال الموسوي: قلّوا على كثرة العدوّ لهم ... كم عدد لا يعدّ في العدد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 هو من قول أبي تمام: قلّوا ولكنّهم طابوا فأنجدهم ... جيش من الصبر لا يحصى لهم عدد قال الحسن: ما ظننت أن رجلا يفضل ألفا حتى رأيت عباد بن الحصين، فإنه حاصر مدينة بكابل فثلمها ثلمة وكان يقاتل عليها ألف فقاتلهم وحده ليله حتى أصبحوا ومنعهم من حفظها وسدها. وبعث بنو حنيفة بالفند حين طلب بنو ثعلبة نصرة وقالوا قد بعثنا إليكم ألف فارس وكان يقال له عديد الألف فلما ورد قالوا له أين الألف؟ قال: أنا فلما كان الغد وبرز وأحمل على ألف فارس مردف فانتظمهم. المشبه بالأسد هو أشد صولة «1» من أسد وأبلغ منعة من الحصن الحصين: كالليث لا يثنيه عن إقدامه ... خوف الأذى وقعاقع الأعداء «2» وقال ابن الأعرابي أحسن بيت في الحرب قول الشاعر: كأنّ الجوّ محفوف بنار ... وتحت النار آساد تزور وقال زهير: ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ... ما الليث كذب عن أقرانه صدقا وصف أعرابي آخر فقال: هو أشد إقداما من أسد وتوثبا من فهد، واختطافا من حدأة ومن عقاب ملاح. جلد ابتلي بمثله في المثل: إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا وقيل: إن الحديد بالحديد يفلح «3» المتشمر في الشدائد قال علقمة: فلا يغرّنك منّي الثوب أسحبه ... إني امرؤ فيّ عند الجدّ تشمير «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 وقال: طيّات طاوي الكشح لا ... يرخي لمظلمة إزاره «1» المتحمّل للشدائد الصابر لها وصف رجل آخر فقال: كان ركوبا للأهوال غير ألوف للظلال. قال أعرابي لوال: اجعلني زماما من أزمتك التي تجرّبها العدو فإني ممن يتخذ الليل جملا في أثر العدو وأتدرع ظلامه لا نكول ولا أكول. وقيل فلان شديد الحجزة أي الصبر على الشدة، قال الأقرع: ونكبة لو رمى الرامي بها حجرا ... أصمّ من حجر الصوّان لانصدعا «2» مرت عليّ فلم أطرح لها سلبي ... ولا استكنت لها وهنا ولا جزعا وقال الموسوي: وكم عجموني فانسللت مهذّبا ... وأثّر عودي في نيوب الأعاجم «3» الموصوف بالقوة أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجل يستحمله فقال له: خذ لك بعيرا فأخذ بذنب بعير من إبل الصدقة فجذبه فاقتلعه فتعجب من قوّته، وقال: هل رأيت أقوى منك؟ قال: نعم خرجت بامرأة من أهلي أريد بها زوجها فنزلنا منزلا أهله خلوف، فأقبل رجل ومعه ذود «4» ، فضرب إلى الحوض فساورها «5» فنادتني فما انتهيت إليها حتى خالطها فجئت لأدفعه عنها، فأخذ برأسي بين جنبه وعضده فما استطعت حراكا حتى قضى حاجته ثم استلقى. فقالت المرأة: أي فحل هذا لو كان لنا منه سخلة «6» فأمهلته حتى امتلأ نوما فقمت إليه بالسيف فضربت ساقه فأبنتها فانتبه فتناول رجله فرماني بها فأشواني وأصاب رأس بعيري فقتله. فقال عمر: ما فعلت المرأة؟ فقلت: هذا حديث الرجل. فكرر السؤال عليه فلم يزده على هذا فظن أنه قتلها. وكان الوليد شديد القوة وكان يؤتى بسلسلة من حديد وفيها حبل فيشده في رجله ويؤتى بالدابة فيثب عليها وثبة واحدة ولا يمسها بيده فيقطع السلسلة. فقال لأصحابه يوما: هل تعلمون من هو أصرع مني؟ قالوا: نعم رجل بخراسان. فأحضره وقال: أريد أن تصارعني وإن حابيتني قتلتك فصارعه فحمله ووضعه فوق دسته، وقال أنت ههنا أحسن دع رعيتك يتصارعون بين يديك ولا تدخل معهم فيما لك عنه مندوحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 قال شاعر: وما ولدت أمّي من القوم عاجزا ... ولا كان ريشي من ذنابى ولا لغب «1» الممدوح بقوة نفسه دون جسمه قيل: الكرام اصبر نفوسا واللئام أصبر أبدانا. ومنه أخذ أبو تمام قوله: والصّبر بالأرواح يعرف فضله ... صبر الملوك وليس بالأجسام وقال: وإني لأقوى على المعالي ... وما أنا بالقويّ على الصّراع وقال: لا قوّتي قوّة الرّاعي قلائصه ... يأوي فيأوي إليه الكلب والربع «2» وقال معاوية رضي الله عنه: ما كان في الشبان شيء إلا وكان في منه مستمتع إلا أني لم أكن نكحة ولا صرعة. من لا يتألم من شدّة قال: لا يألم الشرّ حتى يألم الحجر المتبرم للحرب قال شاعر: يا بؤس للحرب التي ... وضعت أراهط فاستراحوا وقال: ما ذاق همّا كالشّجاع ولا خلا ... بمسرّة كالعاجز المتواني وقال سيف الدولة: كأنّما لغزو مفروض على سرى ... من يملك الأرض أوساطا وأطرافا فرسان العرب قال أبو عبيد: فرسان العرب المجمع عليهم: دريد بن الصمة وعنترة العبسي وعمرو بن معدي كرب. وقد عد من أكابرهم عامر بن الطفيل وعتيبة وعنبسة بن الحارث وزيد الفوارس والحراث بن ظالم وعباس بن مرداس وعروة بن الورد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 ومن فتّاك «1» الجاهلية: الحارث بن ظالم والبراض بن قيس وتأبط شرا وحنظلة بن فاتك الأسدي. ومن رجالاتهم أوفى بن مطر المازني وسليك بن السلكة والمنتشر بن وهب الباهلي. وكل واحد منهم كان أشد عدوا من الظبي وربما جاع أحدهم فيعدو إلى الطبي فيأخذ بقرنه ولا يحملون زادا. وكان أحدهم يأخذ بيض النعام في الربيع فيجعل فيه ماء ويدفنه في الفلاة حيث يغزو، حتى يكون له في الصيف إذا سلك ذلك الطريق. ومنهم الشنفرى. المتفادى من التعرض له قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: فلان مضغني فلما ضرسته لفظني طوال قنى تطاعنها قصار ... وقطرك في وغى وندى بحار وقال: إنّ الرماح وإن طالت ذوائبها ... من العدى تتواصى عنه بالقصر «2» من لا يخضع في شدة قيل لأعرابي اشتد به المرض: لو ثبت. قال: لست أعطي على الذلّ إن عافاني الله تبت، وإلا أموت هكذا: لا يخرج القسر منّي غير معصية ... ولا ألين لمن لا يبتغي ليني «3» وقال شدّاخ: أبينا فلا نعطي مليكا ظلامة ... ولا سوقة إلا الوشيج المقوّما «4» وسأل عمر بن عبد العزيز ابن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير فقال: ما رأيت نفسا أثبت من نفسه، مر حجر من المنجنبق وهو قائم يصلّي بين جنبه وصدره فما خشع له بصره ولا قطع قراءته ولا ركع دون الركوع. وعن أمه أنّها دخلت عليه في بيته وهو قائم يصلّي فسقطت حية فتطوّقت بابنه هاشم فتصايح أهل البيت بها حتى قتلوها وعبد الله قائم يصلّي فما التفت ولا عجّل. فلما فرغ قال: ما بالكم؟ المتأنّي قال خارجة: قوم إذا شومسوا لجّ الشماس بهم ... ذات العناد وإن ياسرتهم يسروا «5» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 الموثر الموت في العز على الحياة في الذل ّ هيم إلى الموت إذا خيّروا ... ما بين تبعات وتقتال «1» ولما وقعت الهزيمة على مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية أهاب بالناس ليرجعوا فلم يلووا فانتضى سيفه وقاتل قتال مستقتل، فقيل له: لا تهلك نفسك ولك الأمان. فتمثل بأبيات قالها الحسين رضي الله عنه يوم قتل وهي: أذلّ الحياة وذلّ الممات ... وكلّا أراه طعاما وبيلا «2» فإن كان لا بدّ إحداهما ... فسيري إلى الموت سيرا جميلا وقال أبو تمام: يرى العلقم المأدوم بالعزّ أرية ... يمانيّة، والأري بالذلّ علقما «3» وقال المتنبّي: فأطلب العزّ في لظى وذر الذ ... لّ ولو كان في جنان الخلود «4» وقال الموسوي: فعاف المنايا وامتطى الموت شامخا ... بمارن أنف لا يذلّ لخاصم «5» وقال منصور بن باذان: فعش ما تعيش عزيز البقاء ... فعزّك خير وإن قيل بل فطول الحياة على ذلّة ... لعمرك عندي حياة السفل وكلّ مساع له همّة ... من النّاس إلا قصير الأجل النهي عن مخافة القتل والحثّ على تصوّر الموت والتمدّح بذلك قيل لعلي رضي الله عنه: أتقاتل أهل الشأم بالغداة وتظهر في العشيّ في ثوب ورداء؟ فقال: أبالموت أخوّف؟ والله ما أبالي أسقطت على الموت أم سقط الموت عليّ. وقد أحسن المتنبّي في قوله: إذا غامرت في أمر مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 وفي قوله: ترى الجبناء أنّ العجز عقل ... وتلك خديعة الطبع اللئيم وقوله: فلو أن الحياة تبقى لحيّ ... لعددنا أضلّنا الشجعانا وإذا لم يكن من الموت بدّ ... فمن العجز أن تموت جبانا قال أبو فراس: تهون علينا في المعالي نفوسنا ... ومن خطب العلياء لم يغله المهر «1» قوم تسلّط عليهم القتل فلم يفنهم قال المهلّب: ليس شيء أنمى من سيف. فوجد الناس تصديق ذلك فما نال السيف أنمى عددا وأكرم ولدا منهم قال الله تعالى ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب. وقال الحجاج لامرأة من الخوارج: والله لأحصدّنكم حصدا فقالت: أنت تحصد والله يزرع. فأنظر أين قدرة المخلوق مع قدرة الخالق. ولم يظهر من عدد القتلى ما ظهر في آل أبي طالب وآل المهلب وفيهم من الكثرة ما ترى. قال شاعر: إذا فرّج القتل عن غيظهم ... أبى ذلك الغيظ إلا التقافا «2» وقيل: أربعة يسرع الخلف إليها الحرق والقتل والتزويح والحج. من لم يبال بأن يقتل قال عبد الله بن مسعود: عثرت بأبي جهل في الجرحى وقد قطعت يده ورجله، فقلت: يا عدو الله وعدو رسوله. فقال: سيفك كهام «3» فهاك سيفي فحزّ رأسي «4» من عريشي فإنه أهون عند من يراه. وأسرت أمّ علقمة الخارجيّة وأتي بها إلى الحجّاج فقيل لها: وافقيه في المذاهب فقد يظهر الشرك بالمكر فقالت: قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين. فقال لها: قد خبطت الناس بسيفك يا عدوة الله خبط العشواء فقالت لقد خفت الله خوفا صيّرك في عيني أصغر من ذباب وكانت منكسة فقال: إرفعي رأسك وانظري إليّ فقالت أكره أن أنظر إلى من لا ينظر الله إليه. فقال: يا أهل الشأم ما تقولون في دم هذه؟ قالوا: حلال. فقالت: لقد كان جلساء أخيك فرعون أرحم من جلسائك حيث استشارهم في أمر موسى فقالوا أرجئه وأخاه، فقتلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 وكان حكيم بن حنبل قطعت رجله يوم الجمل فأخذها وزحف بها على قاطعها فقتله، وقال: يا نفس لا تراعي ... إن قطعت كراعي «1» إنّ معي ذراعي وقال أعرابي لابنه وقد قدم للقتل: يا بني أصفف قدميك وأصرر أذنيك ودع ذكر الله تعالى في هذا الموضع فإنه فشل. الجواد بنفسه في الحرب المستعد للموت قال بعض بني نهشل: أنّا لنرخص يوم الرّوع أنفسنا ... ولو نسام بها في الأمن أغلينا «2» وقالت الخنساء: نهين النفوس وهون النفوس ... يوم الكريهة أوفى لها «3» ونحوه للموسوي: ولا تبذلنّ النفس حتّى أصونها ... وغيري في قيد من الذلّ يرسف «4» وقال آخر: رخيص عنده المهج الغوالي ... كأنّ الموت في فكيّه شهد «5» وقال أبو تمام: يستعذبون مناياهم كأنّهم ... لا يخرجون من الدنيا إذا قتلوا «6» وقال عبد الله بن أبي عيينة: وإني لمن قوم كأنّ نفوسهم ... بها أنف أن تسكن اللحم والعظما «7» تصبّر النفس في الحرب قال شريح العبسي: أقول لنفس لا يجاد بمثلها ... أقلّي نزاعا إنّني غير مدبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 وقال الفرزدق وقد لقيه أسد: لما سمعت له هماهم أجهشت ... نفسي إليّ تقول أين فراري؟ فربطت نفرتها وقلت لها: إصبري ... وشددت في ضنك المقام إزاري «1» وقال أبو تمّام: وحنّ للموت حتّى ظنّ مبصره ... بأنه حنّ مشتاقا إلى وطن لو لم يمت تحت أسياف العدا كرما ... لمات إذ لم يمت من شدّة الحزن وقال البحتري: تسرع حتّى ظنّ من شهد الوغى ... لقاء أعاد أم لقاء حبائب المستأنف من موته حتف أنفه قال بكر بن عبد العزيز: إنّ موت الفراش ذلّ وعار ... وهو تحت السيوف فضل شريف وقال عبد الملك الحارثي وأجاد: وما مات منّا سيد حتف أنفه ... ولا طلّ منّا حيث كان قتيل «2» تسيل على حدّ السيوف نفوسنا ... وليس على غير السيوف تسيل وقال أبو فراس: متى ما يدن من أجل كتابي ... أمت بين الأسنّة والأعنّه «3» وقال الموسوي: ويستحسنون الموت والموت راحة ... وأتعب ميت من يموت بداء مخاوض الحرب مقتول لا محالة قال تأبّط شرا: ومن يغرّ بالأعداء لا بدّ أنّه ... سيلقى بهم من مصرع الموت مصرعا «4» وقال آخر: ومن يكثر التطواف في جند خالد ... لدى الروم مصبوبا عليه دروعها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 فلا بدّ يوما أن تحدث عرسه ... إذا حدثت يوما حديثا يروعها «1» قال ابن الرومي: ومن لا يزل ستين يوما فريسة ... يرى قمنا أن لا يرى منه سالما وقال آخر: إن الشجاعة مقرون بها العطب قصد العدا مجاهرة أشار على الإسكندر أصحابه أن يبيت الفرس، فقال: ليس من الإنصاف أن أجعل غلبتي سرقة. قال المتنبّي: إذا انتقموا أعلنوا أمرهم ... وإن أنعموا أنعموا باكتتام «2» وقال السريّ: ويجعل بشره نذر الأعادي ... فيبعثها يمينا أو شمالا ولم ينذرهم مقة ولكن ... ترفّع أن ينالهم اغتيالا «3» الفتك وما أنفكّ ما شاورت فيه ولا الذي ... تخبر من لاقيت أنّك فاعله قال الحارث بن ظالم: علوت بذي الحيّات مفرق رأسه ... وهل يركب المكروه إلا الأكارم فتكت به لمّا فتكت بخالد ... وكان سلاحي يحتويه الجماجم المتعوّد ملازمة الحرب والأمكنة قال أبو تمّام: لحياضها متورّد ولخبطها ... متعوّد وبدرّها ملبون «4» قال ربيعة بن مقروم: وثغر مخوف أقمنا به ... يخاف به غيرنا أن يقيما «5» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 الضاحك في الحرب والعابس فيها توصف الحرب تارة ببشاشة الوجه وطلاقته نحو قول النميري: يفتّر عند لقاء الحرب مبتسما ... إذا تغيّر وجه الفارس البطل وقول صاحب البصرة: كأنّ دنانيرا على قسماتهم ... إذا الموت للأبطال كان نخّاسا «1» وقال الموسوي: إذا عصفر الخوف ماء الوجوه ... تراها من الخوف حمر الوسام «2» وتوصف تارة بالعبوس، قال أبو تمّام: قد قلصت شفتاه من حفيظته ... فخيّل من شدّة التعبيس مبتسما «3» المقاتل عن حريمه ليم الاسكندر في مباشرته الحرب بنفسه فقال: ى ليس من الإنصاف أنيقتل قومي عني وأترك المقاتلة عنهم وعن أهلي ونفسي، قال عنترة: ومرقصة رددت الخيل عنها ... وقد همّت بإلقاء الزمام وقيل للحسن: ما تقول فيمن سبي امرأة ولها زوج؟ وكان عنده الفرزدق، فقال: هل قلت في هذا شيئا؟ قال نعم: وذات حليل أنكحتها رماحنا ... جهارا بأيدينا ولمّا تطلّق «4» فقال الحسن: أصبت كنت أرى أنك أشعر مني فإذا أنت أفقه، قال شاعر: يا رب من يبغض أذوادنا ... رحن على بغضائه واغتدين لو نبت المرعى على أنفه ... لرحن منه أصلا قد رعين قال سلم الخاسر: يرمي الفجاج به أغرّ محجّلا ... جعل السيوف مناكحا وطلاقا «5» أخذه من مسلم: إذا ما نكحنا الحرب بالبيض والقنا ... جعلنا المنايا والرماح طلاقا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 قال زياد الأعجم: صفّان مختلفان، حين تلاقيا ... آبا بوجه مطلق أو ناكح سدّ الثغور قال دعبل: هو الجاعل البيض القواطع والقنا ... كعاما لأفواه الثغور الفواغر «1» قصد الغارات بالإبل والإفراس كان العرب إذا قصدوا غارة ركبوا الإبل وجنبوا الخيل فإذا انتهوا إلى المعركة ركبوا الخيل، قال شاعر: أولى فأولى بامرئ القيس بعد ما ... خصفن بآثار المطيّ الحوافر وذكر أعرابي قوما تبعوا ناسا أغاروا عليهم فقال: احتثوا كل جمالية عيرانة. فما زالوا يخصفون أخفاف المطيّ بحوافر الخيل حتى أدركوهم بعد ثلاثة فجعلوا المران أرشية الموت فاستقوا به أرواحهم، قال الشريف الموسوي: إذا مشق الحتف فوق البطا ... ح وقع فيهنّ بالحافر المعاود للغارات الجاني للحروب قال الحارث بن أبي شمر: ما إن تجفّ لبودها من غارة ... حتّى تعاود للحروب غوائرا وقيل: فلان يلقح الحرب الكشاف ويمتري من درّها السمّ الرعاف. قال بشّار: إذا الحرب قامت بهم شمّروا ... وكانوا أسنّة خرصانها «2» المستنكف من السلب قال أعشى همدان: وأرى مغانم لو أشاء حويتها ... فيصدّني عنها حيا وتعفّف «3» وقتل أمير المؤمنين رجلا فأراد قنبر أن يأخذ سلبه فقال: يا غلام لا تعر فرائسي، قال عنترة: أغشى الوغى وأعفّ عند المغنم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 وقال آخر: يغشى العوالي ولا يلوي على سلب «1» قال أبو تمام: إن الأسود أسود الغاب همّتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب «2» العاجز أعاديه عن إصلاح ما أفسده وعكسه قال علي بن جبلة: يأسو الذي يجرح أعداؤه ... وما لهم من جزحه آس قال الكميت: لا يهدم الناس ما تبني أكفّهم ... من الفعال ولا يبنون ما هدموا قال المتنبّي: لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ... ولا يهيضون عظما أنت جابره «3» قال أشجع: ولا يرفع الناس من حطّه ... ولا يضع الناس من يرفع «4» وصف الشبان والكهول في الحرب قال رجل لرجل: لأغزونّك بمرد على جرد، فقال: لألقينّك بكهول على فحول تفضيل الشبان في الحرب قال طاهر بن الحسين: هيب إذا لم يكن جرب بمكتهل ... مجرب قوله يكفي من العمل «5» واغشى اللقاء إذا كان اللقاء به ... سفك الدما بحديث السنّ مقتبل فإنّ ذا السنّ يلقى حتفه أبدا ... ممثّلا بين عينيه من الوجل «6» وذو الشباب له شأو يماطله ... فلا يزال بعيد الهمّ والأمل «7» الخيول السريعة في الحرب قال بعضهم: جنّ الرجال على ظهور سعالي «8» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 قال كثيّر: صقور على أثباج جرد قوابس ... وأسد إذا ما كان يوم نزولها «1» وقال المتنبّي: إيّاهم جثوا العجاجة والقنا ... سنابكها تحشو بطون الحمالق «2» تعويد الفرس في حبسه في المعركة قال النابغة: ونحن أناس لا نعود خيلنا ... إذا ما التقينا أن تحيد وتنفرا وتنكر يوم الرّوع ألوان خيلنا ... من الطعن حتّى تحسب الجون مشقرا فلا نحن معروفّ لنا أن نردّها ... صحاحا ولا مستنكر أن تعقرا وقال أبو تمّام: تقاسمنا بها الجرد المذاكي ... سجال الكرّ والدأب العتيد إذا خرجت من الغمرات قلنا ... خرجت حبائسا إن لم تعودي «3» كثرة الجيش كجنح الليل أردف بالغيوم ... آخر بجمهور يحار الطّرف فيه يظل معضلا فيه الفضاء قال صاحب البصرة: بجمع مثل سدل الليل منظوم من الربد «4» وقال المتنبّي: بجيش لهام يشغل الأرض جمعه ... عن الطير حتّى ما يجدن منازلا وقال السريّ: ومثلومة الأقطار حشو فجاجها ... عناق المذاكي والوشيج المقوّم قال المتنبّي: قشير وبلعجلان فيها خفية ... كراءين في ألفاظ ألثغ ناطق «5» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 وقيل: زحف ككرّ العارض «1» المنهلّ وكدفاع الاتيّ «2» المرسل فهو يتطالع من غور «3» وأنجاد ويظهر من اقتراب وابتعاد وكالسيل أو كاللّيل أو عدد الحصى ... سالت بطاحهم بالجرد اللهاميم «4» كثرة الجيش والأسلحة بذي لجب أزبّ من العوالي قال النجاشي: وعراصة برّاقة ضوؤها دم ... يكشف عن برق لها الأفقان وقال قيس بن الحطيم: إنك تلقى حنظلا فوق بيضنا ... تدحرج عن ذي ساحة المتقارب وقال المتنبّي: يمنعها أن يصيبها مطر ... شدّة ما قد تضايق الأسل «5» (2) وممّا جاء في التهديد من هدّده السلطان فاستعان بالله لقي الحجّاج محمد بن الحنفية فقال له: نفسك فلأريقنّ دمك، فقال محمّد: إنّ لله في كل يوم كذا كذا ألف نظرة يقضي في كل نظرة كذا كذا ألف أمر فعسى أن يشغلك بأمره. من هدده سلطان فاعتذر وأظهر المخافة كتب ذو الرياستين إلى طاهر بن الحسين: يا نصف إنسان، والله لئن أمرت لأنفذنّ، ولئن أنفذت لأبرمنّ، ولئن أبرمت لأبلغنّ. فأجابه طاهر: أنا أعزّك الله كالأمة السوداء إن حمل علينا تدمدمت وإن رفّه عنها أشرت، وإن عوقبت فباستحقاق، وإن عفي عنها فبإحسان. تهديد سلطان شديد الوطأة خطب الحجاج فقال: أيّها الناس من أعياه داؤه ومن استعجل أجله، فعلّي أن أعجله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 إن الحزم والجد ألبساني سوء ظنّي وجعلا سيفي سوطي، فنجاده في عنقي وقائمه في يدي. وقطع بنو عمرو بن حنظلة الطريق فكتب إليهم: أمّا بعد فإنكم استنكحتم السمن فنسلتم الفتن، وإني أقسم بالله لئن عاودتم الظلم وسعيتم في الإثم لأبعثنّ إليكم خيلا تدع نساءكم أيامى وأولادكم يتامى. فأيما رفقة وردت ماء قوم لكم فأهل الماء ضامنون لها إن تجاوزتهم إلى ماء غيرهم تقدمة مني إليكم وإنذارا لكم فالانتقام يعقب العفو والإنذار لا بقية معه والسلام. وأحضر عبد الملك بن صالح للرشيد من حبسه فلما مثل بين يديه أنشد الرشيد: أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد والله لكأني أنظر إلى شبوبها وقد همع، وإلى عارضها وقد لمع، وكأني بالوعيد وقد أورى نارا فأقلع عن براجم «1» بلا معاصم، ورؤوس بلا غلاصم «2» . مهلا بني هاشم فبي سهل الوعر وصفا الكدر وألقت إليكم الأمور آنفا أزمتها، فحذار من حلول داهية خبوط باليد، لبوط بالرجل. فقال عبد الملك: اتّق الله فيما ولاك، وراقبه فيما استرعاك ولا تجعل الكفر موضع الشكر، والعقاب موضع الثواب ولا تقطع رحمك بعد صلتها وقد جمعت القلوب على محبتك، وأذللت همم الرجال لطاعتك، وكنت كما قال: ومقام ضيق فرجته ... بلسان وبيان وجدل «3» ولو يقوم الفيل أو فياله ... زلّ عن مثل مقامي وزحل حثّ من تعرض لك أن يجر بك قال جرير يخاطب عياش بن الزرقاني: أعياش قد ذاق المنون مرارتي ... وأوقدت ناري فادن ويلك فاصطل «4» قال ابن أبي عيينة: سيعلم إسماعيل أنّ عداوتي ... لها ريحق أفعى لا يصاب دواؤها قال سنان بن أبي حارثة: قل للمقوم وابن هند بعده ... إن كنت رائم عزّنا فاستقدم «5» تلقى الذي لاقى العدوّ وتصطبح ... كأسا صبابتها كسمّ العلقم «6» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 من أوعد وقدّم الأنذار كتب إبراهيم بن العباس الصولي إلى أهل حمص: أما بعد فإنّ أمير المؤمنين يرى من حق الله تعالى استعمال ثلاث تقوم بعضهن على بعض: الأولى تقديم تنبيه وتوقيف ثم ما يستظهر به من تحذير وتخويف، ثم التي لا ينفع لحسم الداء غيرها: أناة فإن لم تغن عقب بعدها ... وعيد فإن لم يجد أغنت عزائمه وقال آخر: لئن عدت والله الذي أنا عبده ... منحتك مصقول الغرارين أبرقا «1» فإن دواء الجهل أن تضرب الطلى ... وأن يغمس العريض حتّى يغرقا «2» قال الموسوي: فهذا دواء سطوتي من ورائه ... وعنوان ناري أن يبين دخاني من أوعد صاحبه على أن يحمله على حالة صعبة قال سنان بن أبي حارثة: وإنّي لشرّ النّاس إن لم أبثّهم ... على آلة حدباء ناتئة الظهر «3» قال ابن أبي عيينة: دعني وأبا خالد ... فلأقطعن عرى نياطه «4» قال عبد المدان: ولست لحرّة إن لم تروني ... أمرّ لكم قوى أمر جسيم وقال آخر: ذروني ذروني ما كففت فإنّني ... متى ما تهيجوني تميد بكم أرضي «5» وأنهض في سرد الحديد عليكم ... كتائب سودا طالما انتظرت نهضي من يناوبه من لا يبالي به أبرق رجل لآخر وأرعد فلما زاد أنشد: قد هبّت الريح طول الدّهر واختلفت ... على الجبال فما نالت رواسيها «6» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 وقال الفرزدق: ما ضرّ تغلب وائل أهجوتها ... أم بلت حيث تناطح البحران وقال: وكان ككلب حين ينبح كوكبا وقال ابن المعتز: وكنت كرامي كوكب ببصاقه ... فردّ عليه وبله ومواطره «1» تهدّد من لا يبالي بتهدّده قال مقاتل بن مسمع لعباد بن الحصين: لولا شيء لأخذت رأسك. فقال: أجل ذلك الشيء سيفي. وقال: تواعدني لتقتلني نمير ... متى قتلت نمير من هجاها «2» قال ابن أبي عيينة: فدع الوعيد فما وعيدك ضائري ... أطنين أجنحة الذّباب يضير «3» قال جرير: زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا ... أبشر بطول سلامة يا مربع «4» وقال آخر: تعرّض لي ذبيان من لو لقمته ... بيوم براز لم يسدّ لهاتي لو ان هبوب الريح يجعلكم قذى ... لأعيننا ما كنتم بقذاة واجتمع قوم على قدري بنعالهم فقال: والله لأملأنّها عليكم خيلا. فقال له أبوه: رجالك أنا وخيلك حمارك فبم تصول؟ وكتب بعض الكتاب: أتهذر بي ومالك من المقدار ما كوطأة ذرّة على صلد صخرة؟ ومن فصل لابن أبي البغل وما الذباب وما مرقبه ومتى ساءت الجماء ناطحت القرناء والفراش لعبت بالنار والسانح قابلت الدبور والمهيج تعرض لريب المنون، والأعناق مالت إلى السيوف، والآجال اغترت بالحتوف ومتى ساء أبو الفضل تعرض لابن أبي البغل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 من يتهدّد بظهر الغيب ولا يغني غناء وقال عنترة: وموعدين بظهر الغيب من شمس ... إذا التقينا نبت عنّي مكاويها «1» وقال آخر: كالصّدى يسمع منه صوته ... فإذا طلبته لم يستبن وقال بعض الندماء: مالك أصرة إلا وعيد ... وهمهمة كما رعد الخريف وقال عنترة: ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر ... للحرب دائرة على ابني ضمضم «2» الشاتمي عرضي ولم أشتمهما ... والناذرين إذا لقيتهما دمي وحكي عن أبي عمرو بن العلاء قال: انصرفت من الجامع في الهاجرة فلقيني عيّار قد جرد سكينا فوضعها اتجاه قلبي وقال: كيف تروي بيتي عنترة فأنشدتهما كما تقدم فقال: والله لولا أخشى أن أفجع فيك أهل الأرض لقتلتك ما كان عنترة يستجدي هذا الاستجداء إنما قال الطائيّ: الشّاتمي عرضي بما هو فيهما ... والناذرين إذا لقيتهما دمي «3» وقال أبو زيد: تبادروني كأنّي في أكفّهم ... حتّى إذا ما رأوني خاليا فزعوا وقال القرمطيّ: تتمانى إذا لم ترني ... فإذا جئت قطعت القنطره يا بني عبّاس من ينصركم ... أصبيّ أم خصيّ أم مره قلّة غناء الوعيد قيل: الصدق ينبئ عنك لا الوعيد، قال شاعر: مهلا وعيدي مهلا لا أبا لكم ... إنّ الوعيد سلاح العاجز الحمق قال النجاشي: أبلغ شجاعا أبا خولان مألكة ... أنّ الكتائب لا يهزمن بالكتب «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 وقيل: من علامات العاقل ترك التهدد قبل إمكان الفرص وعند إمكانها الوثوب مع الثقة بالظفر. (3) وممّا جاء في فضل الأسلحة والمتسلحة قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف. وقيل: السيف حرز إذا جرّد وهيبة إذا أغمد. وقيل: الشرف مع السيف. وقال جعفر بن محمد السيف مفتاح الجنة والنار، ووصفه بعضهم فقال: رئيس لهوه قطف الرؤوس ضحوك عبوس وهزله خطف النفوس، قال أبو تمّام: وليس يجلي الكرب رأي مسدد ... إذا لم تؤانسه بسيف مهنّد «1» قال المتنبّي: ومن طلب الفتح الجليل فإنّما ... مفاتيحه البيض الخفاف الصوارم «2» وقال: والمشرفيّة- لا زالت مشرفة-* دواء كلّ كريم داؤه الوجع «3» تفضيل السيف على القلم قال المتنبّي: حتّى رجعت وأسيافي قوائل لي ... المجد للسيف ليس المجد للقلم «4» أكتب بنا أبدا بعد الكتاب به ... فإنّما نحن للأسياف كالخدم قال أبو تمّام: السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حدّه الحدّ بين الجدّ واللّعب «5» وفي ضده قيل للكاتب: إلى م تدل بهذه القصبة فقال: هو قصب ولكنه يقطع العصب إن القلم يرد قضاء السيف ويفسخ حكم الحيف ويؤمن مسالك الحوف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 من في سيفه ورمحه الموت قال صاحب البصرة: حسام غداة الرّوع ماض كأنّه ... من الموت في قبض النّفوس رسول «1» وقال ابن حاجب: لو قيل للموت انتسب لم ينتسب ... يوم الوغى إلّا إلى صمصامه «2» قيل في وصف رجل: سيفه تؤمن ثنايا الموت إليه ويعوّل في قبض الأرواح عليه: سيوفهم يوم الوغى ... يلعبن بالأرواح وقال ربيعة بن مقرم: وإني لمن قوم تكون رماحهم ... لأعدائهم في الحرب سمّا مقشبا وقال ابن المعتز: لنا صارم فيه المنايا كوامن ... فما ينتضى إلّا لسفك دماء «3» السيوف الماضية قيل: كيف وجدت سيفه؟ فقال: هو على الأرواح كالأجل المتاح. قال إسحاق بن خلف: ألقى بجانب أخضر ... أمضى من الأجل المتاح وكأنّما ذرّ الهبا ... ء عليه أنفاس الرّياح وقال يعقوب الأخطل: بكلّ حسام كالعقيقة صارم ... إذا قدّ لم يعلق بصفحته دم قال المتنبّي: قواض مواض نسج داود عندها ... إذا وقعت فيه كنسج الخزرنق «4» قال البحتري: يغشى الوغى والترس ليس بجنّة ... من حدّه والدرع ليس بمعقل مصغ إلى حكم الردى فإذا مضى ... لم يلتفت وإذا قضى لم يعدل وإذا أصاب فكلّ شيء مقتل ... وإذا أصيب فما له من مقتل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 السيوف المصقولة قال بعضهم: وإذا ما سللته بهر الشمس ... شعاعا فلم تكد تستبين وكأنّ الفرند والرونق البا ... دي على صفحتيه ماء معين «1» غير المصقولة كأنّ في متنه ملحا وقد نثرا وقال آخر: كأن على مواقعه غبارا السيوف اللامعة المهتزة قال قيس: بسيف كأنّ الماء في جنباته ... محادير غيم أو قرون جنادب «2» وقال المتنبّي: فكأنّ برقا في متون غمامة ... هنديّة في كفّه مسلولا «3» وقال ابن هرمة: شهاب زهته الريح في كفّ قابس وقال سلم الخاسر: وكأن السيوف والنّقع عال ... شهب نار في ساطع ودخان «4» وقال ابن المعتز: في كفّه عضب إذا هزّه ... حسبته من خوفه يرتعد «5» السيوف المتفللة من الضرب قال النابغة: ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهنّ فلول من قراع الكتائب «6» قال دعبل: إذا النّاس جلوا باللجين سيوفهم ... رددت السيوف بالدّماء حواليا «7» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 وبضدّه هجاء عمارة بن عقل: ولا عيب فيه غير أن جياده ... مسلمة ليست بهنّ كلوم «1» وأسيافه لم تدر ما طعم ضربة ... فهنّ صحاح ما بهنّ ثلوم السيوف المتضرّجة بالدم قال علي بن عاصم: سمر وبيض إن عرّين تسربلت ... بدل الجفون جماجم الأبطال أوردتهنّ تواضعا لجج الرّدى ... فصدرن في قمص من الجريال «2» السيوف المتضرجة بدم المحارب المترشّحة مسكا من يد المحارب وقال بشّار: وبيض بها مسك للمسن أكفّهم ... على أنّها ريح الدّماء تضوّع «3» وقال ابن المعتز: مقابضها مسك وسائرها دم وقال آخر: بسيفه مسك وتامور «4» وقال الرفاء: يكسوه من دمه ثوبا ويسلبه ... ثيابه فهو كاسيه وسالبه مشاهير السيوف قال عبد الملك بن عمير: أهدت بلقيس إلى سليمان عليه السّلام سبعة أسياف: ذا الفقار وذا النون، وضرس الحمار، والكشوح، والصمصامة، ومخذما، ورسوبا. فأمّا ذو الفقار فصار لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان لمنبه بن حجّاج، فقتل يوم بدر فاصطفاه النبي صلّى الله عليه وسلّم. والصمصامة وذو النون لعمرو بن معدي كرب، ومخذم ورسوب، للحارث بن جبلة الغساني ولم يذكر الكشوح. طول الرماح قال طرفة: كأنّ رماحهم أشطان بئر ... بعيد بين حاليها صرور «5» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 وقال امرؤ القيس: ومطّرد كرشاء الحزوّ ... ر من خلب النخلة الأجرد «1» وقال عدي: رشاء دم على أنابيبه دم صلابة الرماح ولدونتها قال ابن أحمر: فهزّ ردينيا كأنّ كعوبه ... نوى القسب نقى التمر عند العواجم «2» وقال المزرّد: ومطرد لدن الكعوب كأنّما ... تغشّاه منباع من الزيت سائل وقالت عابدة المهلبية، ويروى للخوارزمي: كأن السمر والزانات فيه ... نخيل قد نحلن من الفسيل «3» الرمح المتأطر ويستجاد للمتنبي قوله: ولربّما أطر القناة بفارس ... وثنى فقوّمها بآخر منهم «4» أخذه من قول ابن الرومي: همام إذا اعوجّت صدور قناته ... غدت بين أحناء الضّلوع تقوّم وقال يزيد بن أبان: يكره الرمح مقدما فتراه ... راعف الأنف واهي الأنبوب «5» الرمح المتكسر قال عمرو بن معدي كرب: ومنزلة فيها العوالي كأنّها ... هشيم شجار كسرتها الحواطب «6» وقال الرفاء: ينثر بالطّعن أنابيب القنا ... كما وهى سلك الفريد المنتظم وقال المتنبّي: ورمح تركت مبادا مبيدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 هو من قول الطائيّ: وربّ يوم كأيّام تركت به ... متن القناة ومتن القرن منتصفا الرمح المتكسر في المطعون وقال الموسوي: وتقعقعت بين الكلى قصد القنا ... فكأنّ كلّ حشار بابة ميسر «1» وقال ابن نباتة: يجرّ العوالي والسهام بجسمه ... كمحتطب للحمل ليس يطيق الرماح اللامعة الأسنة قال امرؤ القيس: دفعت ردينيّا كأنّ سنانه ... سنا لهب لم يستعر بدخان وقال النميري: تحكي أسنته النّجوم أو الذبالا وقيل أيضا: كأنّ هلالا فوق قناته وقد أحسن المتنبّي ما شاء في قوله: تهدي نواظرها والحرب قائمة ... من الأسنّة نار والقنا شمع «2» الكتابة بالطعن والضرب قال بعض الكتّاب: جبينه طرس بالصفّاح منمّق مجندر «3» ، وبالرماح معجم محبّر. وقال آخر: خطّ ينمّقمه الحسام على جبينه وقال أبو تمّام: كتبت أوجههم مشقا ونمنمة ... طعنا وضربا ففات الهام والصّلفا «4» فإن ألظوا بإنكار فقد تركت ... وجوههم بالذي أوليتهم صحاف «5» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 وقال المتنبّي: وكنت إذا كاتبته قبل هذه ... كتبت إليه في قذال الدمستق «1» وقال غيره: الكاتبون إلى الأعداء في قل ... ل الأعداء كتبا نرى الأمي والفهما أمسى الرّدى أصلها والدهر ممليها ... والسيف كاتبها والكاغد القمما «2» وقالت عابدة المهلبية ويروى للخوارزمي: كتبت على وجوههم سطورا ... غرائب حبّرهنّ دم هتول «3» يترجمها الأعادي للأعادي ... ويقرأها على الحيّ القتيل وما لك غير جمجمة رسول ... وما لك غير صاحبها رسيل «4» تناول الرؤوس بالرماح قال البحتري: قوم إذا شهدوا الكريهة صيّروا ... ضمّ الرماح جماجم الفرسان وقد أخذه من مسلم: يكسو السيوف رؤوس الناسكين به ... ويجعل الهام تيجان القنا الذّبل وقال جرير: كأنّ رؤوس القوم فوق رماحنا ... غداة الوغى تيجان كسرى وقيصر طعن الأحداق والفؤاد قال أبو تمّام: سنان بحبّات القلوب ممتّع وأجاد المتنبّي: كأنّ الهام في الهيجا عيون ... وقد طبعت سيوفك من رقاد «5» وقد صغت الأسنّة من هموم ... فما يخطرن إلا في فؤاد وقال ابن معدي: الضاربين بكلّ أبيض مرهف ... والطّاعنين مجامع الأضغان «6» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 وقال آخر: قوم ترى أرماحهم تحت الوغى ... مشغوفة بمواطن الكتمان وقال الشريف أبو الحسين علي بن الحسين الحسني: فأصبح أغماد السيوف عيونهم ... وأكبادهم حلى الرماح الذّوابل ضرب وطعن تبين منهما الرأس ويجلب عنهما الممات وقال عنترة: فشككت بالرّمح الطّويل ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرّم «1» وقال آخر: وضربته ضربا أضا ... ع له المقادم والعرى وقال راشد بن شهاب: علوت بذي الحيّات مفرق رأسه ... وإنّ حسامي تحتويه الجماجم بدأت بهذي ثمّ أثني بمثلها ... وثالثة تبيضّ منها المقادم وقال ابن المعتز: وكأنّ أيدينا تنفّر عنهم ... طيرا على الأوكار كنّ وقوعا وقال الرفّاء: إذا ركع القنا الخطيّ صلّوا ... صلاة جلّ واجبها السّجود «2» وقال البحتري: وصاعقة من نصله ينكفي بها ... على أرؤس الأقران خمس سحائب وله: نثرت على الخليج الهام حتّى ... كأنّ حصى الخليج طلىّ وهام «3» أخذه الموسوي وزاد فقال: خطبنا بالظّبا مهج الأعادي ... فزفّت والرؤوس لها نثار «4» وقال الحارثي: إذا ما عصينا بأسيافنا ... جعلنا الجماجم أغمادها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 وقالت عابدة المهلبية ويروى للخوارزمي: فصادرهم على الأرواح خرق ... إذا ابتاعوا الحياة فلا يقيل شدّة الطعن والضرب وسعتهما قال شاعر: هم الدعو هم حماة الرّماح ... ولدّوهم بالظّبا البيض لدّا «1» وقال بعضهم: وطعن كأفواه المزاد المخرّق «2» وقال أبو كثيّر الهذلي: عجلت يداك لخيرهم بمرشّة ... كالعطّ وسط مزادة المستخلف «3» قال امرؤ القيس: كجيب الدفنس الورها ... ء ريعت وهي تستغلي «4» وقال آخر: وطعن كأذيال القباء المفرج وقال ضرار في وصف ضربة: دفوع لأطراف الرماح كأنّها ... إذا سيّروها فرخ خرقاء دعبل «5» وقال المتنبّي: كأنّما تتلقاهم لتسلكهم ... فالطعن يفتح في الأجواف ما يسع وسمع بعضهم قول الشاعر: لها نفذ لولا الشّعاع أضاءها ... فقال: هذا درب لا طعن. ويروى لخلف الأحمر: وأطعن السحساحة المسلسله ... على عشاش دهش وعجله «6» وأضرب الحدباء ذات الرعله ... تردّ في نحر النّيب قتله «7» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 الحاذق بالطعان والضرب قال عبد يغوث: ليبق بتصريف القناة بانيا وقال المتنبّي: يضع السّنان بحيث شاء مجاولا ... حتّى من الآذان في أخراتها وقال الموسوي: وأسمر يهتّز في راحتي ... كما هزّت القلم الأصبع سقى الرماح والصفاح دم الأعداء قال شاعر: وعامل الرمح أرويه من العلق «1» وقال آخر: نهلت قناتي من مطاه وعلّت قال يحيى بن علي المنجم: يروي السيوف دما إذا شكت الصدى ... يوم الوغى بأسا وصدق ضراب «2» فتمجّ إن خفضت على أعقابنا ... وتمجّ إن رفعت على الأعقاب «3» قال دعبل: فأصبحت تستحيى القنا أن تردّها ... وقد وردت حوض المنايا صواديا «4» قال السري: إذا الحسام غدا سكران منتشيا ... من الدّماء سقوه أنفسا فصحا الجاعل قواضبه بدل المعاتبة قال عمرو بن إبراهيم: ليس بيني وبين قيس عتاب ... غير طعن الكلى وضرب الرّقاب وقال آخر: دلفت له بأبيض مشرفيّ ... كما يدنو المصافح للسلام «5» وقال بعض البغليين: نزلوا منزل الضيافة منّا ... فقرى القوم غلمة الأعراب «6» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 وصل السيوف بالخطا يروى أن فتى من الأزد دفع إلى المهلّب بن أبي صفرة سيفا له وقال: كيف ترى سيفي يا عم؟ فقال المهلب: سيفك جيد إلا أنه قصير. فقال: أصله بخطوة، فقال: يا ابن عم المشي إلى الصين على أنياب الأفاعي أسهل من تلك الخطوة. ولم يقل المهلّب هذا جبنا وإنما أراد توجيه الصورة. قال شاعر: نصل السيوف إذا قصّرن بخطونا ... قدما ونلحقها إذا لم تلحق وقال آخر: إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى أعدائنا فنضارب وصف شجاع ذي رماح سئل أعرابي عن قوم فقال: أسود الغاب يحمل غابها. قال البحتري: إذا بدوا في حرجات القنا ... ترى أسود الأرض في غابها «1» قال الرّفّاء: أسد لها من بيضها أو سمرها ... جداول مطّردات بأجم «2» من جعل معاقله الأسلحة والخيول قال شاعر: إن السيوف معاقل الأشراف وقال أبو الغمر: إذا لاذ منه بالحصون عدوّه ... فليس له إلّا السيوف حصون وقال آخر: إن الخيول معاقل الأشراف وقال آخر: وليس لنا إلا الأسنّة معقل من لاذ بالقواضب واستعان بها أبي قومنا أن ينصفون فأنصفت ... قواضب في أيماننا تقطر الدّما وقال آخر: ترى السيف أدنى من أقاربه رحمي «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 وقال الشنفري: وإنّي كفاني فقد من ليس جازيا ... بحسنى ولا في قربه متعلّل ثلاثة أصحاب: فقلب مشيع ... وابيض إصليت وصفراء عيطل وقال الموسوي: ألف الحسام فلو دعاه لغارة ... عجلان لبّاه بغير نجاد «1» وقال: ربّ ليل جعلته طيلساني ... مؤنسي صارمي وقلبي مجنّي «2» وقال طاهر بن الحسين: سيفي رفيقي ومسعدي فرسي ... والكاس أنسي وقينتي خدني «3» من استطاب تناول الأسلحة قال البحتري: ملوك يعدّون الرمح خواصرا ... إذا زعزعوها والدروع مخاصرا «4» وقال المتنبّي: متعوّدا لبس الدروع يخالها ... في البرد خزّا والهواجر لاذا «5» وقال أبو الغمر: واعتاد حمل القنا لا الراح راحته ... وضاجع البيض لا البيض الرعابيبا «6» الأبقع الوجه من صدأ الحديد وقال الفرزدق: يمشون في حلق الحديد كما مشت ... جرب الجمال بها الكحيل المشعل «7» طيب صدر المغفر وطيبهم صدأ المغفر «8» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 وقال سلم بن قحفان: فطيب الصدا المسود أطيب عندنا ... من المسك ذافته كفّ ذوائف «1» النابي سيفه عن الضريبة قال ورقاء بن زهير وقد ضرب فنبا سيفه: رأيت زهيرا تحت كلكل خالد ... فأقبلت أسعى كالعجول أبادر «2» فشلّت يميني يوم أضرب خالدا ... ويحصّنه منّي الحديد المظاهر وكان الفرزدق قد دفع له سيف بحضرة سليمان بن عبد الملك ليقتل به روميا فضربه فلم يعمل فيه، فقال جرير: بسيف أبي رغوان سيف مجاشع ... ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم فهل ضربة الروميّ جاعلة لكم ... أبا ككليب أو أخا مثل دارم فأجابه: فسيف بني عبس وقد ضربوا به ... نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد «3» كذاك سيوف الهند تنبو ظباتها ... وتقطع أحيانا مناط القلائد «4» عذر من يكثر لبس الدرع في الحرب رؤي الجراح بن عبد الله وقد لبس در عين في بعض الحروب فأكثر ناظره النظر إليه فقال له: والله يا هذا ما أقي بدني وإنما أقي صبري. فأخبر بذلك سعيد بن عمرو وكان من فرسان الشام فقال: صدق لأن لامة «5» الإنسان حظيرة نفسه. عوتب يزيد بن يزيد في إحكامه الدرع، فقال: إن الله تعالى مع قضائه الأمور المحتّمة أمر بالحذر، وذكر ما في صنعة اللبوس، وكان صلّى الله عليه وسلّم والى يوم أحد بين درعين. أنشد كثير عبد الملك: علي ابن أبي العاصي دلاص حصينة ... أجاد المسدي سردها فأزالها فقال له: هلّا قلت كما قال الأعشى: وإذا تكون كتيبة ملمومة ... خرساء تغشى من يذود نصالها «6» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 كنت المقدّم غير لابس جنّة ... بالسّيف تضرب معلما أبطالها «1» فقال: كثير ذاك وصفه بالجهل والتهور وأنا وصفتك بالحزم. قال البحتري: تراه في الأمن في درع مضاعفة ... لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل قلّة غناء الدرع عند حضور الأجل سئل ابن الحسين: في أي الجنن تحب أن تلقى عدوك؟ قال في أجل مستأخر وقيل لبعضهم: أي الجنن أوقى؟ قال: العافية. وقيل لآخر: لو احترست فقال: كفى بالأجل حارسا. وصف الدروع قال شاعر: كسيل الأتيّ على الحديد وقال آخر: ومفاضة كالنهي ينسجه الصّبا «2» وقال آخر: كأنّ قتيرها حدق الجراد «3» وقال المتنبّي: يخطّ فيها العوالي ليس ينفذها ... كأن كلّ سنان فوقها قلم وقال مزرّد: ومنسوجة فضفاضة تبعية ... وآها القتير تجتويها المعابل «4» ويستحسن لابن المعتز: كأنّها ماء عليه جرى ... حتّى إذا غاب فيه جمد قال كلثوم: كأن سنا الماذي فوق متونهم ... مواقد نار لم تشب بدخان «5» المستغني بجلادته عن التدرّع والتقنّع قال أبو تمّام: إذا رأوا للمنايا عارضا لبسوا ... من اليقين دروعا ما لها زرد وقال مسلمة: على درع تلين المرهفات له ... من الشّجاعة لا من نسج داود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 إنّ الذي صور الأشياء صوّرني ... نارا من البأس في بحر من الجود وصف المغتفر والمغفر قال بشر: كأن سنا قوانسهم ضرام ... مرته الريح في أعلى يفاع «1» وقال أبو تمّام: كأنّ نعام الدوّ باض عليهم وله: مثل النجوم تضيء إلا أنّهم ... قد قلنسوا من بيضهم بنجوم «2» وقال أبو قيس: قد حصّت البيضة رأسي فما ... أطعم نوما غير تهجاع «3» القسي ّ دخل أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه على النبي صلّى الله عليه وسلّم متقلّدا قوسا عربية فقال: هكذا جاءني جبريل عليه السلام اللهم من استطعمك بها فأطعمه ومن استنصرك بها فانصره ومن استرزقك بها فارزقه. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم ما مدّ الناس أيديهم إلى شيء من السلاح إلا وللقوس فضل عليه. وقيل في وصفه: طروح مروح تعجل الظبي أن يروح قال أعرابي في وصف قوس رمي عنها ذئبا: وفي شمالي سمحة من النّشم ... يفجّ في الكفّ إذا الرامي اهتزم «4» وتهزم الفارس في أخرى النّعم وقال آخر: صفراء تبع خطموها بوتر ... لام ممر مثل حلقوم النّغر «5» حدب ظباها أسهم مثل الشرر وقال آخر: ومقابلا ضلع الظّباء كأنّها ... جمر بمهلكة تشبّ لمصطلي نحفا بذلت لها حوافي ناهض ... حشر القوائم كاللفاع الأكحل وإذا تسلّ تخشخشت أرياشها ... خشّ الجنوب بيابس من أسحل «6» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 النحف النصال العراض والأكحل الذي يضرب لونه إلى الغبرة. المجيد من الرماة قيل: خرج بهرام إلى الصيد ومعه جارية فعرض له ظبي فسألته الجارية أن يجمع ظلف الظبي وأذنه بنشابة واحدة فرمى أصل أذن الظبي ببندقة فأهوى الظبي بيده إلى أذنه ليحتك فرماه بنشابة فوصل ظلفه بإذنه، وهذا إن كان صحيحا فعجيب. قال امرؤ القيس: فهو لا تنمي رميّته ... ماله لا عدّ من نفره «1» وقال إسماعيل بن عليّ: إذا تمطّى قائما ثمّ انثنى ... ومدّها أحسن مدّ وانثنى أرسل منها نافذا مسنا ... سيّان منه ما نأى وما دنا «2» يسوق أسباب النّحوس والفنا وقد أوغل المتنبّي في قوله: إذا نكبت كنانته استبنّا ... بأنصلها لأنصلها ندوبا «3» يصيب ببعضها أفواق بعض ... فلولا الكسر لاتّصلت قضيبا الرديء الرمي نظر فيلسوف إلى رام سهامه تذهب يمينا وشمالا فقعد في موضع الهدف وقال: لم أر موضعا أسلم من هذا. ورمى المتوكل عصفورا فأخطأه فقال له ابن حمدون: أحسنت فقال تهزأ بي؟ فقال: أحسنت إلى العصفور. قال كشاجم: مستهتر بالرّمي واه عضده ... أحسن شيء حين يرمي طرده كأنّه فؤاده أو كبده المجن ّ قال شاعر: يريك شعاع الشمس في جنّة الدّجى قال أبو فراس: أواقد لا آلوك إلا مهنّدا ... وجلد أبي عجل وثيق القبائل وصف جماعة الأسلحة سأل عمر بن الخطاب عمرو بن معدي كرب فقال: ما تقول في الرمح؟ قال أخوك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 وربما خانك. قال: فالنبل؟ قال: منايا تخطئ وتصيب. قال: فالدرع قال مشغلة للفارس متعبة للراجل، وإنّها لحصن حصين. قال فالترس؟ قال: مجن وعليه تدور الدوائر. قال: فالسيف؟ قال: عنده ثكلتك أمك. قال عمر: بل أنت. الاستنكاف من المحاربة بالحجر والرخصة فيه قال أبو النجم: إنّي وجدّك لا يكون سلاحنا ... حجر الأكام ولا عصا الطرفاء «1» أوصى بعض الأعراب ابنه وقد أرسله إلى محاربة بعض أقرانه فقال: يا بني كن بذّا لأصحابك على ما فاتك وإياك والسيف فإنّ ظله الموت، وألق الرمح فإنه رسول المنية ولا تقرب السهام فإنها رسل لا تؤامر مرسلها قال: فيم أقال؟ قال: بما قال الشاعر: جلاميد أملاء الأكفّ كأنّها ... رؤوس رجال حلقت في المواسم قال الحنفي: فوادخ بذا الصخر الأصم رؤوسهم ... إذا القلع الهنديّ عنها تثلّما «2» أصوات الأسلحة يقال للطعن الشفشفة وللضرب هيعقة وللقسي أزملة وغمغمة. قال الحارث بن حلّزة: وحسبت وقع سيوفنا برؤوسهم ... وقع السّحاب على الطّراف المشرج «3» وقال هلال: تصيح الرّدينيّات فينا وفيهم ... صياح بنات الماء أصبحن جوّعا «4» وقال آخر: تنقّ عواليهم نقيق الضّفادع إيجاب المحاربة على المتسلّح وتبكيته لتقصيره فيها قال ابن مرداس: فعلام إن لم أشف نفسا حرّة ... يا صاحبي أحيد حمل سلاحي وقال جرير: تصف السيوف وغيركم يعصى بها ... يا ابن القيون وذاك فعل الصيقل «5» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 قال ابن الرومي: رأيتكم تبدون في الحرب عدّة ... ولا يمنع الأسلاب منكم مقاتل «1» فأنتم كمثل النخل يسرع شوكه ... ولا يمنع الجرام ما هو حامل «2» قال المتنبّي: إذا كنت ترضى أن تعيش بذلّة ... فلا تستعدنّ الحسام اليمانيا «3» ولا تستطيلنّ الرماح لغارة ... ولا تستجيدنّ العتاق المذاكيا الاستظلال بالأسلحة قال امرؤ القيس: ففئنا إلى بيت بعلياء، مردح ... سماوية منها الحمى معصب «4» فأوتاده ماذيّة وعماده ... ردينيّة فيها أسنّة قعضب «5» وقال أعرابي من بني أسد: وفتيان ثنيت لهم ردائي ... على أسيافنا وعلى القسيّ وقال: وما اتّخذوا إلا الرماح سرادقا ... وما استتروا إلا بضوء اللهاذم «6» ذمّ العزل في الحرب في المثل: عند النطاح يغلب الكبش الأجم فمن يك معزال اليدين فإنّه ... إذا كشّرت عن نابها الحرب حامل «7» وقال ابن الحطيم: نبّهت زيدا ولم أفزع إلى وكل ... رثّ السلاح ولا في الحرب مكثور «8» من صاحبته الطيور والسباع أول من وصف ذلك النابغة الذبياني فقال: إذا ما غزوا بالجيش حلّق فوقهم ... عصائب طير تهتدي بعصائب «9» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 وقال أبو تمّام: وقد ظلّلت عقبان أعلامه ضحّى ... بعقبان طير في الدّماء نواهل «1» أقامت مع الرايات حتّى كأنّها ... من الجيش إلا أنّها لم تقاتل وقال بشّار: إذا ما غزا بشّرت طيره ... بفتح وبشّرنا بالنّعم «2» وقال المتنبّي: وأنبتّ فيهم ربيع السّباع ... فأثنت بإحسانك الشامل وقال عمرو بن مامة: إذا ألحمت قيس لحرب تباشرت ... ضباع الفيافي والنّسور الكواسر «3» وقالت جنوب أخت عمرو: تمشي النسور إليها وهي لاهية ... مشي العذارى عليهنّ الجلابيب المتزيّن بالجراحات قال يعقوب بن يوسف: وخيل تعجز الأرسال عنها ... مزينة بأنواع الجراح وقال سلم الخاسر: ولا خير في الغازي إذا آب سالما ... إلى الحيّ لم يجرح ولم يتحدّد «4» المتضرّج بالدم قال البحتري: سلبوا وأشرقت الدماء عليهم ... محمرّة فكأنّهم لم يسلبوا وقال آخر: تضرّج منهم كلّ خدّ معفّر ... وعفّر منهم كلّ خدّ مضرّج «5» المتلطّخ بالدم المتسربل ب الغبار قال السريّ: مفقودة شية الجواد عليهم ... وحجول أربعة لخوض دمائه «6» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 وقال المتنبّي: وعجاجة ترك الحديد سوادها ... زنجا تبسّم أو قذالا شائبا «1» الغبار قال الحجّاج: اتّقوا الغبار فإنه سريع الدخول بطيء الخروج، وقال: غفار كما فارت دواخن غرقد وقال أوس: فانقضّ كالدرّى يتبعه ... نقع يثور تخاله طنبا «2» يخفى وآونة يلوح كما ... رفع المنير بكفّه لهبا الحروب المشهورة الحروب ثلاثة لم يكن للعرب أعظم منهن: حرب بعاث بين الأوس والخزرج وكانت متصلة إلى أن بعث الله تعالى النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما أسلموا اصطلحوا. وحرب بني وائل بكر وتغلب في مقتل كليب اتصلت أربعين سنة، وحرب ابني بغيض عبس وذبيان في مجرى داحس والغبراء بقيت أربعين سنة لم تحمل فيها الحمالات فبعث الله تعالى النبي صلّى الله عليه وسلّم وبقي من دمائهم شيء على الحارث بن عوف فاهتدي للإسلام. وأيام العرب ثلاثة في الجاهلية لم يكن أعظم منهن: يوم جبلة ويوم كلاب الأخير ويوم ذي قار. وقال سفيان بن عيينة: السيوف أربعة: سيف لمشركي العرب وهو قوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً «3» ، وسيف لأهل الردّة على يد أبي بكر رضي الله عنه «وهو تقاتلونهم أو يسلمون» وسيف لأهل الكتاب على يد عمر رضي الله عنه قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. وسيف لأهل القبلة والصلاة على يد عليّ رضي الله عنه وهو «وأن طائفتين من المؤمنين اقتتلوا» ولولاه ما عرفنا قتال أهل القبلة. العصا تسمى المنسأة «4» : قال الله تعالى: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ «5» وعصا موسى حالها ظاهرة. وقيل ألقى فلان عصاه إذا نزل، وشقّ العصا إذا خرج عن الطاعة، وعبيد العصا أي ينقادون بالعصا وسمى الصغير الرأس رأس العصا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 وهو صلب العصا أي قوي. وقولهم: أنك خير من تفاريق العصا، فالعصا تقطع ساجورا ثم يجعل الساجور أوتادا، والأوتاد شظاظا، والشظاظ مهار البخاتي، أو تشق العصا فتجعل قوسا للبندق، وتجعل القوس سهاما والسهام حظاء والحظاء مغازل، والمغازل قداحا. الكرة والصولجان وقال أبو قريش بن أسوط، وكان من بطارقة أرمينية يصف كرة: يحبّ دنوّها إذا ما ... دنت منه بكدّ أي كدّ قلاها ثم أتبعها بضرب ... وأعقب قربها منه ببعد وقال بشّار: كأنّ فؤاده كرة تترى ... حذار البين لو نفع الحذار وقال السيّد الحيمري: وكأنّها كرة بكفّ حزور ... عبل الذراع دحا بها في ملعب «1» البوق : قال الببغا: ومسمع ليس بذي لسان ... محكم في صمم الآذان سرّ يؤدّيه إلى إعلان (4) وممّا جاء في طلب الثأر والدية والرخصة في الاقتصاص قال الله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ «2» وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ «3» فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ «4» وقال صلّى الله عليه وسلّم لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده. وسوّى بين الصريح والهجين وكانت العرب تهدر دم السيد وهو الملصق الدعي وإذا قتل الرجل ملكا أو رجلا من أهل بيت القاتل لم يرضوا حتى يقتلوا رهط القاتل ويحرقوهم بالنار وإذا كان القاتل هو الملك أو أحد من أهل بيته أهدروا الدم فقالوا لا عقل ولا قود. قال الجاحظ: كانت الدية والصدقة مما عند الرجل إن تمرا فتر وإن شاء فشاء وكانوا يعيرون من ديته التمر قال: ألا أبلغ بني وهب رسولا ... بأنّ التمر حلو في الشّتاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 فعيّرني هذا بشيئين بأخذ الدية وبأن ديتهم التمر وكانت دية العربي المعمّ المخول من التمر مائة وسق ومن الإبل مائة بعير ودية الهجين على النصف ودية المولى على الربع. والملك ومن هو من بيته ألف وسق. والإسلام سوّى بين الكلّ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم. التعيير بترك الثأر والحثّ على أخذه قيل لأعرابي: أيسرك أنك من أهل الجنة وأنك لا تدرك ثارا قط؟ قال: بل يسرني إن أدرك الثار وأنفى العار وأدخل مع فرعون النار. قدم هدبة بن الخشرم العذريّ ليقتاد بابن عمه فأخذ ابن المثؤر به السيف فضو عفت له الدية حتى بلغت مائة ألف، فأبت أم الغلام أن يقبل الدية وقالت: أعطى الله عهدا لئن لم تقتله لأتزوجنه فيكون قد قتل أباك وناك أمك. قال عبد الرحمن بن شافع: فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم ... فكونوا نساء للخلوق وللكحل «1» ويبيعوا الردينيّات بالحلى واقعدوا ... على الذلّ وابتاعوا المغازل بالنبل ونحوه، قول عمرة بنت وقدان: فإن أنتم لم تطلبوا بأخيكم ... فذروا السلاح ووحشوا بالأبرق «2» وخذوا المكاحل والمجاسد والبسوا ... نقب النساء فبئس رهط المرهق التعيير يأخذ الدية وعدمه قال شاعر: وإن الذي أصبحتم تحلبونه ... دمّ غير أن اللون ليس بأحمرا إذا سكبوا في القعب من ذي أنائهم ... رأوا لونه في القعب وردا وأشقرا قال آخر وكان أخذ من ابن عمه دية أبيه: إذا صبّ ما في القعب فاعلم بأنّه ... دم الشيخ فأشرب من دم الشيخ أو دعا «3» قال آخر: خذوا العقل إن أعطاكم العقل قومكم ... وكونوا كمن سيم الهوان فلم ينل كان لعتبة الأعرابية غلام شديد العرامة «4» ، كثير التلفت إلى البأس فواثب فتى من الإعراب فقطع الفتى أنفه فأخذت أمه ديته فحسن حالها ثم واثب آخر فقطع أذنه فأخذت ديتها ثم آخر فقطع شفته فأخذت ديته فلما رأت ما صار إليها من قبل ابنها أنشدت: أقسم بالمروة حقا والصّفا ... أنّك خير من تفاريق العصا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 وروي أن أعرابيين أصابهما قحط فانحدرا إلى العراق جائعين فوطئت رجل أحدهما فرس لفارس فأدمتها وكان يسمى حيدان فتعلقا به وأخذا الدية وكانا جائعين فقصدا السوق وابتاعا طعاما فأكلا فقال الآخر: فلا غرس ما دام في النّاس سوقهم ... وما بقيت في رجل حيدان إصبع تحريم الملاهي على المحارب وطالب الثأر روي أن بعض عمّال عبد الملك بعث إليه بجارية اشتراها بعشرة آلاف دينار فلما استحضرها وأنس بها دخل إليه رسول الحجّاج بأن عبد الرحمن بن الأشعث خلعه، فأجاب عن كتابه وجعل يقلّب كفيه وقال لها: إن ما دونك منية المتمني فقالت: وما يمنعك؟ قال بيت الأخطل: قوم إذا حاربوا شدّوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بإظهار فمكث ثلاث سنين وخمسة أشهر لا يقرب امرأة حتى أتاه خبر قتل ابن الأشعث فكانت أول امرأة تمتّع بها. وكانت العجم إذا حزبهم أمر أمروا إن ترفع الموائد ويقتصرون على الخبز والملح والبقل حتى يفرغوا. وقال معاوية: ما ذقت أيام صفّين لحما ولا حلواء بل اقتصرت على الخبز حتى فرغت، وأتت امرأة المهلب بمجمرة، فقالت له: ضع هذه تحتك فكان ذلك تعريضا لما أبطأ عن مناهضة الأزد فقال: است المرأة أحق بالمجمرة. قال قيس بن الحطيم: حرام علينا الخمر إن لم نضارب وقال الجراح الغطفاني: لله درّك ما ظننت بثائر ... حران ليس على التراث براقد أحددته ثم اضطجعت ولم ينم ... أسفا عليك وكيف نوم الحاقد من حلّ له الطيبّات لإدراكه الثأر قال شاعر: اليوم حلّ لي الشراب وما ... كان الشراب يحلّ لي قبل قال جابر: وحل لي التدهين والخمر بعد ما ... شفيت غليلي من ثويد المراثد المبجّح بإدراك ثأره قال المهلهل في إدراك ثأر كليب: فلو نبش المقابر عن كليب ... فتخبر بالذنائب أيّ زير «1» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 بأنّي قد تركت بواردات ... بحيرا في دم مثل العبير هتكت به بيوت بني عبيد ... وبعض القول أشفى للصدور قالت صفية بنت الجذع: وقد قتلنا شفاء النفس لو قنعت ... وما قتلنا به إلا امرأ دونه قال زبان وكانت قد هجاه بعض أعاديه فقتله وقطع لسانه ودسّه في إسته: وإن قتيلا بالهباءة في إسته ... صحيفته إن عاد للظلم ظالم متى تقرؤها تهدكم من ضلالكم ... وتعرف إذا ما فضّ عنها الخواتم من نزع ثوب العار وانطلق لسانه قال أخو ساف بن عباد اليشكري: ألم يأتها أنّي صحوت وأنّني ... شفاني من دائي المخامر شاف فأصبحت ظبيا مطلقا من أديمه ... صحيح الأديم بعد داء أساف وكنت مغطّى في قناعي خيفة ... كشفت قناعي وأعتطفت عطافي قال غالب: وقد كنت محرور اللسان ومفحما ... فأصبحت أدري اليوم كيف أقول من لا يفوته الثأر قال عبد الله بن العتابي: وقد ضمنت أسيافهم ورماحهم ... لمن جاوروا أن لا يضيع لهم وتر «1» قال البحتري: تذم الفتاة الرود شيمة بعلها ... إذا بات دون الثأر وهو ضجيعها «2» حمية شعب جاهلي وغيرة ... كليبية أعيا الرجال خضوعها وقال المتنبّي: إذا طلب النيل لم يثأه ... وإن كان دينا على ماطل من يفيت الثأر ولا يفوته قال الحرعي: وإذا طلبت الوتر لم تسبق به ... وتفوت مطلوبا به فتبرح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 وقال آخر: تحف أغرّ لا قود عليه ... ولا دية تساق ولا اعتذار من قتل بعض ذويه اقتصاصا قال قيس بن زياد: شفيت النفس من قيس بن بدر ... وسيفي من حذيفة قد شفاني فإن أك قد برّدت بهم غليلي ... فلم أقطع بهم إلّا بناني «1» ونحوه للحارث بن وغلة: قومي هم قتلوا أميم أخي ... فلئن رميت يصيبني سهمي فلئن عفوت لأعفونّ جللا ... ولئن سطوت لأوهننّ عظمي قال البحتري: تقتل من وتر أعز نفوسها ... عليها بأيد ما تكاد تطيعها إذا احتربت يوما ففاضت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها وقال أعرابي: أقول للنفس تعزاء وتسلية ... إحدى يديّ أصابتني ولم ترد كلاهما خلف عن فقد صاحبه ... هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي (5) وممّا جاء في التحذير من الحرب وطلب الصلح التحذير من تهييج الحرب والحثّ على الصلح قال الله تعالى وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما «2» وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها «3» . كان سويد بن متحرق خطب خطبة طويلة لصلح أمة، فقال له رجل: أنت مذ اليوم ترعى في غير مرعاك أفلا أدلك على المقال. فقال نعم. فقال: أما بعد فإن الصلح بقاء الآجال وحفظ الأموال والسلام. فلما سمع القوم ذلك تعانقوا وتواهبوا الديات. وقيل: الحرب صعبة مرة والصلح أمن ومسرّة. كتب سلم بن قتيبة إلى سعيد المهلبي لما تحاربا بالبصرة: خذوا حظّكم من سلمنا إنّ حربنا ... إذا زينته الحرب نار تسعر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 فإنّي وإيّاكم على ما يسوؤكم ... لمثلان أو أنتم إلى الصلح أفقر وقال عبد الله بن الحسين: إياك والمعادات فإنك لن تعدم مكر حكيم أو مفاجأة لئيم. وقال زيد بن حارثة: لا تستثيروا السباع من مرابضها فتندموا، وداروا الناس في جميع الأحوال تسلموا. وقيل الفتنة نائمة فمن أيقظها فهو طعامها، قال زهير: وما الحرب إلّا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرّجم متى تبعثوها تبعثوها ذميمة ... وتضرم أن أضرمتموها فتضرم «1» ومن يعص أطراف الزّجاج فإنّه ... يطيع العوالي ركّبت كلّ لهذم «2» قال كثير: رميت بأطراف الزّجاج فلم يفق ... من الجهل حتّى كلّمته نصالها التحذير من صغير يفضي إلى كبير من أقوالهم: ربّ خطوة يسيرة عادت همّة كبيرة. قال شاعر: ذروا الأمر الصّغير وزمّلوه ... فتلقيح الجليل من الدقيق «3» وكتب نصر بن سيّار إلى مروان بن محمد في أمر أبي مسلم صاحب الدولة أبيات أبي مهيم أرى خلل الرماد وميض جمر ... ويوشك أن يكون له ضرام «4» فإنّ النار بالزندين تورى ... وإن الحرب أوّلها كلام أقول من التعجّب ليت شعري ... أأيقاظ أميّة أم نيام فإن يك قومنا أمنوا رقودا ... فقل هبّوا فقد آن القيام ورأى أبو مسلم بن بحر في منشأ دولة الديلم هذه الأبيات مكتوبة على ظهر كتاب فكتب تحتها: أرى نارا تشبّ بكلّ واد ... لها في كلّ منزلة شعاع وقد رقدت بنو العبّاس عنها ... فأضحت وهي آمنة تراع كما رقدت أميّة ثم هبّت ... لتدفع حين ليس بها دفاع وقال آخر: إن الأمور دقيقها ... مما يهيج به العظيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 وقال آخر: وقد يملأ القطر الإناء فيفعم «1» وقال آخر: وأول الغيث قطر ثم ينسكب وقال آخر: كم بذي الأثل دوحة من قضيب من الحبة تنبت الشجرة العميمة ومن الجمرة تكون النار العظيمة. التمرة إلى التمرة تمر، والذود إلى الذود إبل. قال صالح: قد يحقر المرء ما يهوى فيركبه ... حتّى يكون إلى توريطه سببا وحرب البسوس كانت في ضرب ناب وحرب غطفان بسبب دابة. وصف الحرب بالشدة قال عمر بن الخطاب رضوان الله عليه لعمرو بن معدي كرب: أخبرني عن الحرب. فقال هي مرّة المذاق إذا شمّرت عن الساق، من صبر فيها عرف ومن ضعف عنها تلف. كما قال: الحرب أول ما تكون فتية ... تسعى ببزتها لكل جهول حتّى إذا اشتعلت وشبّ ضرامها ... عادت عجوزا غير ذات حليل شمطاء جزّت رأسها وتنكّرت ... مكروهة للشمّ والتقبيل وقيل: موطنان تذهب فيهما العقول المباشرة والمسابقة. ووصف رجل الحرب فقال: أولها شكوى وآخرها بلوى وأوسطها نجوى. قال الفرزدق: وجامعة أعناقها بعد ما التوت ... جوامعها ما كان سيق لها مهر إذا ما ابنها لاقى أخاها تعاوروا ... عيونا من الأعداء أبصارها خزر وقال أبو تمّام: ومشهد بين حكم الذلّ منقطع ... حباله بحبال الموت تتّصل ضنك إذا خرست أبطاله نطقت ... فيه الصّوارم والخطيّة الذبل «2» وقال المتنبّي: ومبتسمات هيجاوات عصر ... عن الأسياف ليس عن الثّغور وقال السريّ: تضايق حتّى لو جرى الماء فوقهم ... حماه ازدحام البيض أن يتسرّبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 إصابة الحرب جانيها وغير جانيها العرب تقول: الحرب غشوم لأنها قد تنال غير جانيها، قال شاعر: لم أكن من جناتها علم الله ... وإنّي لحرّها اليوم صال وقال آخر: وليس يصلى بحرّ الحرب جانيها وقال آخر: وأصبح من لم يجن فيها كذي الذنب قال أبو حيّة: أصابوا رجالا آمنين وربّما ... أصاب بريئا من يكن غير ذا ذنب قال ابن الرومي: رأيت جناة الحرب غير كفّانها ... إذا اختلفت فيها الرماح الشواجر «1» كذاك زناد الحرب عنها بنجوة ... ولكنّما يصلى صلاها المشاعر التفادي من محاربة الأنذال قصد الإسكندر موضعا فحاربته النساء فكفّ عنهن فقيل له في ذلك، فقال: هذا جيش إذا غلبناه فما لنا به من فخر وإن غلبنا فتلك فضيحة الدهر. قال شاعر: قبيل لئام إن ظفرنا عليهم ... وأن يغلبونا يوجدوا شرّ غالب الممتنع من الصلح قال عبد الرحمن بن سليمان: فلا صلح حتّى تخبط الخيل في القنا ... وتوقد نار الحرب في الحطب الجزل «2» وقال آخر: فلا صلح ما دامت هضاب أبان «3» قال حرملة بن المنذر: طلبوا صلحنا ولات أوان ... فأجبنا أن ليس حين بقاء فلحا الله طالب الصلح منّا ... ما أطاف الميس بالدهماء وقال عمرو بن الأهيم: ليس بيني وبين قيس عتاب ... غير طعن الكلى وضرب الرّقاب وقال الزبرقان: فلن أصالحهم ما دمت ذا فرس ... واشتدّ قبضا على الأسياف إبهامي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 تبكيت من عرض عليه صلح فلم يقبله واستوخم عاقبته قال ابن قيس: ومولىّ دعاه الغيّ والغيّ كاسمه ... وللجبن أسباب تصدّ عن الحزم «1» أتاني يشبّ الحرب بيني وبينه ... فقلت له لا بل هلمّ إلى السّلم ولما أبى أرسلت فضلة ثوبه ... إليه فلم يرجع بحزم ولا عزم فكان صريع الجهل أوّل مرة ... فيا لك من مختار جهل على علم ضارع يطلب الصلح قال المتنبّي: من أطاق التماس شيء طلابا ... واغتصابا لم يلتمسه سؤالا (6) وممّا جاء في الهزيمة والخوف وأنّ الفرار لا يقي من الموت قال الله تعالى: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ ... أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ «2» وقال أمير المؤمنين يوم الجمل: إن الموت طالب حثيث لا يعجزه المقيم ولا يفوته الهارب، وإن لم تقتلوا تموتوا وإن أشرف الموت القتل. والعرب تقول: أجرأ من خاصي خصّاف وكان جبارا فشهد حربا فوقف حجزه فجاء سهم فغرز في الأرض وجعل يهتز فبحث فرآه قد أصاب يربوعا «3» ، فقال: لا المرء في شيء ولا اليربوع «4» ولا أقتل إلا بأجلي. ثم حمل فخرق الصف، فأنكى «5» في القوم. قال شاعر: إن الفرار لا يزيد في الأجل تفضيل القتل على الهرب قال سقراط لرجل هرب من الحرب: الهرب من الحرب فضيحة. فقال الرجل: شر من الفضيحة الموت. فقال سقراط: الحياة إذا كانت صالحة فسلم فإذا كانت رديئة فالموت أفضل منها. ولما قتل الإسكندر ملك الهند قال لحكمائه: لم منعتم الملك من الطاعة؟ قالوا: ليموت كريما ولا يعيش تحت الذلّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 الممتنع من الفرار قالت امرأة من عبد القيس: أبوا أن يفرّوا والقضاء في نحورهم ... ولم يرتقوا من خشية الموت سلّما ولو أنهم فرّوا لكانوا أعزّة ... ولكن رأوا صبرا على الموت أحزما تعيير من أثار الحرب فهرب قال عمارة بن عقيل: ما في السويّة أن تجرّ عليهم ... وتكون في الهيجاء أول صادر وقال هدبة بن الخشرم: وليس أخو الحرب ثم الغليظة بالذي ... إذا زيّنته الحرب للسلم أخضعا قال الحصيفي: جنيتم علينا الحرب ثم ضجعتم ... إلى السلم لمّا أصبح الأمر مبهما المعيّر بانهزامه قال الحجاج في كلامه: ولّيتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها النوازع إلى أعطانها ألا يلوي الشيخ على بنيه ولا يسأل المرء عن أخيه، قال شاعر: شرّده الخوف فأزرى به ... كذاك من يكره جرد العلا قال خراش بن الحارث: ما أنت إلا كعير خاف ميسمه ... قد يضرط العير والمكواة في النّار وقال آخر: فولّيت عنه يرتمي بك سابح ... وقد قابلت أذنيه منه الأخادع «1» وقال المنصور لبعض الخوارج: عرّفني من أشدّ أصحابي إقداما. فقال: لا أعرفهم بوجوههم فإني لم أر إلا أقفاءهم. وقال ابن الرومي: لا يعرف القرن وجهه ويرى ... قفاه من فرسخ فيعرفه وقال آخر: وولّى كما ولّى الظليم من الذّعر قال المتنبّي: أشدّ سلاحهم فيه الفرار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 وقال آخر: قد عاذ بالإقبحين الذل والفشلا قال أبو تمّام: موكل بيفاع الأرض يشرفه ... من خفة الروع لا من خفّة الطّرب قال البحتري: تخطأ عرض الأرض راكب وجهه ... ليمنع عنه البعد ما يبذل القرب من وصف قوما هزمهم قال قيس بن عطية: وتكرّ أولاهم على أخراهم ... كرّ المخلى عن حياض المصدر وقال منحناهم الهزيمة ونفضنا عليهم العزيمة. قال بكر بن النطاح: ولقيتهم لقي الأعا ... جم كالجراد المرتدف فقطعت أصلهم وقط ... ع الأصل أقطع للطّرف قال الموسوي: إذا ما لقيت الجيش أفنيت جلّه ... ردى ورددت الفاصلين نواعيا ويقال تركت لهم شقّ الشمال إذا هزمتهم. وقيل ذلك لأجل أن المنهزم يأخذ طريق الشمال. قال شاعر: إذ حاربوا لم ينظروا عن شمالهم ... ولم يمسكوا فوق القلوب الخوافق ترك أنباع المنهزم أوصى الإسكندر صاحب جيش له فقال: حبب إلى أعدائك الهرب قال: كيف أصنع؟ قال: إذا ثبتوا جد في قتالهم وإذا انهزموا لا تتبعهم. وقيل لأمير المؤمنين: أنت رجل محرب «1» وتركب بغلة فلو اتخذت الخيل. فقال أنا لا أفرّ ممن كرّ ولا أكرّ على من فرّ. وعاتب المهلب الحجّاج في تركه أتباع الخوارج لما انهزموا فكتب إليه: أما علمت أن الكلب إذا أحجر «2» عقر «3» . المتأسف على من نجا ولم يؤسر قال عوف بن عطية: ولولا علالة أفراسنا ... لزادكم القوم خزيا وعارا قال امرؤ القيس: وأفلتهن علباء جريضا ... ولو أدركته صفر الوطاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 قال أبو تمّام: لولا الظلام وعلّة علقوا بها ... باتت رقابهم بغير قلال فليشكروا جنح الظلام ودرودا ... فهم لدرود والظلام موال «1» قال عنترة الكلبي: فلولا الله والمهر المفدّى ... لابت وأنت غربال الإهاب الفارّ في وقت الفرار والثابت في وقت الثبات قال يوما معاوية رضي الله عنه: لقد علم الناس أن الخيل لا تجري بمثلي فكيف؟ قال النجاشي: ونجّى ابن حرب سابح ذو علالة ... أجشّ هزيم والرماح دواني فقال عمر: وأعياني أشجاع أنت أم جبان؟ فقال: شجاع إذا ما أمكنتني فرصة وإن لم تكن لي فرصة فجبان. وقيل: الهرب في وقته خير من الصبر في غير وقته وقيل: من هرب من معركة فعرف مصيره إلى مستقره فهو شجاع. تفضيل الإحجام حيث يكون أوفق على الإقدام قال المهلّب: الإقدام على الهلكة تضييع كما أن الإحجام عن الفرصة عجز. وقال المتوكل لأبي العيناء: إني لأفرق من لسانك. فقال: يا أمير المؤمنين الكريم ذو فرق وإحجام واللئيم ذو وقاحة وإقدام. قال مالك الأنصاري: أقاتل حتّى لا أرى لي مقاتلا ... وأنجو إذا غمّ الجبان من الكرب من هرب لمّا علم قلّة غنائه قال هبيرة القرشي: لعمرك ما وليت ظهرا محمدا ... وأصحابه جبنا ولا خشية القتل ولكنّني قلّبت أمري فلم أجد ... لسيفي غناء إن ضربت ولا نبلي وقفت فلّما لم أجد لي مقدما ... صدرت كضرغام هزبر إلى الشبل ثنى عطفه عن قرنه حيث لم يجد ... ما غاله عند التّصرّف والختل وقال آخر: أعاذل ما ولّيت حتّى تبددت ... رجال وحتّى لم أجد لي مقدما وحتّى رأيت الوريد يدمى لبانه ... وقد هزم الأبطال وانتثل الدّما «2» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 اعتذار هارب زعم أن هربه نبوة أو قدر قال شاعر: أيذهب يوم واحد إن أسأته ... بصالح أيامي وحسن بلائيا ولم تبد منّي نوبة قبل هذه ... فراري وتركي صاحبي ورائيا قال عبد الله بن غلفاء: وليس الفرار اليوم عارا على الفتى ... إذا عرفت منه الشجاعة بالأمس وسمع بعض الفرس قول الشاعر: ألم تر أن الورد عرّد صدره ... وحاد عن الدعوى وضوء البوارق «1» فقال: عذره أشدّ من ذنبه فمن قصّر عن إمساك مركوبه كيف يرجى منه أن يهزم جماعة عدوّه، قال نعيم التميمي: فإن يك عارا يوم فلج أتيته ... فرادى فذاك الجيش قد فرّ أجمع قال ثعلبة الباهلي: فلا تعذلاني في الفرار فإنّني ... فرارى لمّا قد فرّ قبلي عامر فإن لم أعوّد نفسي الكرّ بعدها ... فلا وألت نفسي عليها أحاذر «2» وقال الوليد لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: مالك جفوت عثمان رضي الله عنه؟ فقال: أبلغه أني لم أفر يوم أحد ولا تخلفت يوم بدر. فأخبرته بذلك. فقال: أمّا فراري يوم أحد فقال يعيرني به وقد عفا الله عنّي حيث يقول: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا «3» ولقد عفا الله عنهم. وأما تخلفي يوم بدر فإني كنت أمرّض بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى ماتت. أخبره عنّي بذلك. المتفادي من حضور الحرب قيل لبعضهم لم لا تغزو؟ فقال: إني أكره الموت على فراشي فكيف أسعى إليه برجلي. ورأى المعتصم في بعض منتزهاته أسدا فنظر إلى رجل أعجبه زيه وقوامه وسلاحه فقال له: أفيك خير؟ فعلم الرجل مراده فقال: لا. فقال: لا قبّح الله سواك وضحك. واجتاز كسرى في بعض حروبه برجل قد استظل بشجرة وألقى سلاحه وربط دابّته. فقال له: يا نذل نحن من الحرب وأنت بهذه الحالة، فقال: أيها الملك إنما بلغت هذا السن بالتوقي، فقال: زه وأعطاه مالا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 وصف المحتجّ لانهزامه بخوفه من القتل قيل لرجل: إنّك انهزمت. فقال غضب الأمير عليّ وأنا حيّ خير من أن يرضى وأنا ميت. قال زفر بن الحارث: ألا لا تلوماني على الجبن إنّني ... أخاف على فخارتي أن تحطما ولو أنّني أبتاع في السوق مثلها ... إذا شئت ما باليت أن أتقدّما وقال آخر: يقول لي الأمر بغير نصح ... تقدم حين جدّ بنا المراس ومالي إنّ أطعتك من حياة ... ومالي بعد هذا الرأس راس وهرب الوليد من الطاعون فقيل له: قل: لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا. فقال: ذلك القليل أطلب. وقيل لرجل يوم صفّين، قد انهزم ما خبر الناس؟ فقال: من صبر أخزاه الله ومن انهزم نجّاه الله. قال محمد بن موسى القاضاني وله أشعار كثيرة في الدلالة على جوده: أنا المحصون من كتب المغازي ... إذا قرئت سرى فيها قراني أرى في النّوم سيفا أو سنانا ... فأسلح في الفراش على المغاني قال أبو الغمر: باتت تشجّعني عرسي وقد علمت ... أن الشجاعة مقرون بها العطب للحرب قوم أضلّ الله سعيهم ... إذا دعتهم إلى مكروهها وثبوا ولست منهم ولا أهوى فعالهم ... لا الجدّ يعجبني منهم ولا اللعب قالت بنت الطرماح: فتنة يسعى لها جهّالها ... أكلب النار فدعها تقتتل المؤثر الدّعة على الحرب قال أبو العتاهية: دخلت أنا وأبان على عنان وهي في خيش، فقلت: إن العيش خيش، فقالت: لا قتال وجيش. قال زيد الخيل تذكر حصنه لما رآني ... أقلّب آلة مثل الهلال قال الهذلي: عقوا بسهم فلم يشعر به أحد ... ثم استفاؤوا وقالوا حبّذا الوضح «1» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 الهارب من قومه قيل: الشجاع يقاتل من لا يعرفه، والجبان يفرّ من عرسه، والجواد يعطي من لا يسأله، والبخيل يمنع من نفسه. قال شاعر: يفرّ جبان القوم عن أمّ نفسه ... ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه قال حسّان بن ثابت رضي الله تعالى عنه: إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فنجوت منجى الحارث بن هشام ترك الأحبّة أن يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرة ولجام قال أبو تمّام: أجدى قرابيسه صرف الردى ونجا ... بحيث أنجى مطاياه من الهرب وله: ونجا ابن خانية البعولة لو نجا ... بمهفهف الكشحين والآطال ترك الأحبّة ساليا لا ناسيا ... عذر النسيّ خلاف عذر السالي «1» من نجا وقد استولى عليه الخوف قال شاعر: فإن ينج منها الباهليّ فإنّه ... قطيع نياط القلب دامي المقاتل وقال أبو تمّام: من مشرق دمه في وجهه بطل ... أو ذاهل دمه في الرعب قد نزفا فذاك قد سبقت منه القنا جرعا ... وذاك قد سبقت منه القنا نطفا وقال غيره: وما نجا من شفار البيض منفلت ... نجا ومنهنّ في أحشائه فزع وقيل لمنهزم: كيف فلان؟ قال: قتل. قيل: ففلان؟ قال قتل. قيل: هل لك في سويق تشربه؟ فقال: السويق قتل. وقيل لرجل تعرض له الأسد فأفلت منه كيف حالك؟ قال: سلمت غير أن الأسد خرئ في سراويلي. قالت عابدة المهلبيّة: فإن ثبتوا فعمرهم قصير ... وإن هربوا فويلهم طويل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 المتبجّح بإثارة الحرب والانهزام قال شاعر: وكتيبة لبستها بكتيبة ... حتّى إذا التبست نفضت لها يدي فتركتهم نفض الرماح ظهورهم ... من بين منجدل وآخر مسند فقال أبو القاسم الدميري: هذا كقول الله سبحانه وتعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ «1» الآية المتبجّح بأنه عدا لما رأى العدى قال تميم بن أسد الخزاعي: لما رأيت بني نفاسة أقبلوا ... يغشون كلّ وتيرة وحجاب ونشيت ريح الموت من تلقائهم ... وخشيت وقع مهنّد قرضاب «2» رفعت رجلا لا أخاف عثارها ... ونبذت بالمتن العراء ثيابي تسلية المنهزم لما انهزم أمية بن عبد الله لم يدر الناس كيف يهنئونه أو يعزّونه فدخل عبد الله بن الأهتم فقال: الحمد لله الذي نظر لنا عليك، ولم ينظر لك علينا فقد تقدمت للشهادة بجهدك ولكن علم الله حاجة الإسلام إليك فأبقاك له. قال المتنبّي يعتذر عن سيف الدولة في هزيمة وقعت له: قل للدمستق إنّ المسلمين لكم ... خافوا الأمير فجازاهم بما صنعوا لا تحسبوا من أسرتم كان ذا رمق ... فليس تأكل إلا الميت الضبع وإنّما عرض الله الجنود لكم ... لكي يكونوا بلا فشل إذا رجعوا فكلّ غزو إليك بعد ذا فله ... وكلّ غاز لسيف الدولة التبع المظهر الشجاعة خارج الحرب والجبن فيها قيل: فلان يتثعلب في الهيجاء ويتنمّر في الرخاء. قال شاعر: يفرّ بحيث تختلف العوالي ... وإن يأمن فذو كبر وتيه وقال دعبل: أسود إذا ما كان يوم كريهة ... ولكنّهم يوم اللقاء ثعالب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 وله: عير رأى أسد العرين فراعه ... حتّى إذا ولّى تولّى ينهق الخائف من أعدائه الجسور على أوليائه قيل لبعضهم: ما النذالة؟ قال: الجراءة على الصديق، والنكول عن العدو ولهذا باب في غير هذا الموضع. الجبن في المثل: هو أجبن من صفرد «1» ومن صافر. قيل: هو طائر يتعلق برجليه في شجرة خشية أن ينام فيؤخذ، وأحذر من عقعق «2» وأشرد من ظليم «3» . قال عبد قيس بن خفاف: وهم تركوك أسلح من حباري ... رأت صقرا وأشرد من ظليم وأجبن من المتروف ضرطا، هو رجل كان إذا نبهته امرأته للصبوح يقول لو نبّهتني لغارة، فجاءته يوما تنبهته وقالت: الخيل فجعل يقول الخيل ويضرط حتى مات. قال الله تعالى: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ «4» . فهذا مبالغة في وصف الفزع. وسأل عبد الملك محمد بن عميرة عن بعض الأمراء فقال تركته مشفقا على حياته محتاجا إلى طولها. قال آخر: قطيع نياط القلب دامي المقاتل قال أبو تمّام: حيران يحسب سجف النقع من دهش ... طودا يحاذر أن ينقضّ أو جرفا «5» من ذكر خور نفسه أتى الحجاج برجل من أصحاب ابن الأشعث فقال له: أسألك أن تقتلني وتخلّصني. فقال له الحجاج: لم؟ فقال: إني أرى كل ليلة في المنام أنك تقتلني وقتلة واحدة خير فضحك وخلّى سبيله. قال شاعر: لقد خفت حتّى لو تمرّ حمامة ... لقلت عدو أو طليعة معشر قال آخر: عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى ... وصوّت إنسان فكدت أطير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 ولما قال عرابة بن سلامة: وددت مخافة الحجّاج أنّي ... من الحيتان في لجّ أعوم قيل له: أقويت فقال الإقواء بين عقلي ونفسي أكبر من ذلك من ضاقت عليه الدنيا من المخافة قال لبيد: كأنّ بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفة حابل قال دعبل: كأنّ نفسه من طول حيرتها ... منها على نفسه يوم الوغى رصد المغلوب كتب مروان إلى بعض الخوارج إني وإياك لك الزجاجة والحجر إن وقع عليها رضّها وإن وقعت عليه قضّها. قال: واستضعف ابن شبرمة رجلا، فقال: أنت حجة خصمك وسلاح عدوك وفريسة قرنك. المتكلّح من المخافة الخائف إذا أفرط به خوفه تقلّصت شفته. قال الأعشى: وإذا العوالي أخرجت أقصى ألم ... كلح الفتى جزعا ولم يتبسّم شيوع المخافة في الناس قال الله تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ «1» (الآية) ، وقال حسّان: تشيب الناهد العذراء منها ... ويسقط من مخافتها الجنين (7) وممّا جاء في التلصّص وما يجري مجراه السرقة قيل: فلان أسرق من ذبابة ومن عقعق ومن شظاظ «2» وهو رجل موصوف بالسرقة. وقيل: فلان لو خلا بالكعبة لسرقها. وقيل: لص شص «3» على الإتباع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 ومن الموصوف بالسرقة شيبان بن شهاب كان يجمع القراد «1» في دبة فيأتي بها عطن الابل إذا استقرت فيه فيفتحها ثم يرسلها فتتبدد الإبل فيسرقها، ومنه قال الشاعر: وأوصى جحدر قدما بنيه ... بإرسال القراد على البعير أصناف اللصوص قال عثمان الخياط: السارق في الحضر والسفر خمسة: المحتال، وصاحب ليل وصاحب طريق، والنبّاش والخنّاق. فالمحتال إسم لمن لا يعمل إلا بحيلة ولا يقتل فهو لا يعرف بالصبر والنجدة، واللصوص يبهرجونهم ولا يستصحبونهم. وأما صاحب الليل فالنقّاب والمتسلّق والمكابر وأشباه ذلك. والنبّاش معروف وأما الخنّاق فما منهم واحد إلا وهو صاحب بعج ورضخ. والرضخ إنما يكون في الأسفار ويصحب الرجل المنفرد من الرفقة ومعه حجران أملسان ملمومان قدر ملء الكف فإن قدر عليه ساجدا أو نائما وإلا فقائما فيعمد إلى صماخه ولا يخطئ وأكثرهم لا يرضى إلا بالقتل مخافة المطالبة. وتعيّن «2» ناس منهم شيخا معه مال وكان لا ينزل إلا بين القوم، فلما أعياهم أمره وكادوا يبلغون المنزل وخافوا الفوت وجدوا تشاغلا من القوم فألقى أحدهم الوتر في عنقه وغطاه بثوبه وأذن في أذنه فأخذ المخنوق يخور فاجتمع القوم، فقالوا: ما لكم والرجل خلّوا عنه. فقالوا: سلوا ربكم العافية وتباعدوا عنه فإنه إذا أفاق ورآكم استحيا فلّما رأوه قد برد قالوا: دعوه قد نام وفي النوم راحته ولما تفرق القوم أخذوا المال وتركوه. ومن الخنّاقين من يحمل الرجل إلى داره بحيلته فإذا ألقى الوتر في عنقه ضرب أصحابه الطبل والصنج وتصايحوا كما يفعل النساء في البيوت ليخفى صوته. عونة «3» اللصوص العين والمؤتى والشاغل والطراز. فالعين الذي يلزم الصيارف يتأمل كل مال محمول يأتي السفن فيتعرف موضع الحرز، ويأتي دار قوم يتطلب أنه يتوضأ فيتعرّف خزائنهم، والموضع الذي يقصدون منه. والمؤتي الذي يتولي البيع والابتياع لهم ويجعل عند ذلك كأنه أمير قرية أو زعيم محلّة. والشاغل هو الذي يشغل القوم عن اللص. والطراز إذا ظفروا به يجيء اللص فيضربه ما لا يضربه السلطان. ويقول هذا والله صاحبي هو الذي ذهب بمالي ويضربه ويحتال بذلك حتى يتشاغل عنه القوم فإذا تشاغلوا عنه أفلته وتأسّف مع القوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 المتبجّح بالتصعلك والمتشوّق إليه قال عروة بن الورد: أقيموا بني لبنى صدور مطيّكم ... فإنّ منايا القوم شرّ من الهزل لعل انطلاقي في البلاد وبغيتي ... وشدّي حيازيم المطيّة بالرحل «1» سيدفعني يوما إلى رب هجمة ... يدافع عنها بالعقوق وبالبخل وقال آخر: وإني لأستحي من الله أن أرى ... أطوف بحبل ليس فيه بعير واسأل ذيّاك البخيل بعيره ... وبعران ربّي في البلاد كثير وقال بعض اللصوص: وكم بيت دخلت بغير إذن ... وكم مال أكلت بغير حلّ وقال آخر: وعيّابة للجود لم تدر أنّني ... بإنهاب مال الباخلين موكل غدوت على ما احتازه فحويته ... وغادرته ذا حيرة يتململ وقيل لأعرابي أتسرق بالنهار فقال: معاذ الله من سرق بليل ... ولكنّي أجاهر بالنّهار وقال بعض الخراب، والخارب سارق الإبل خاصة: أيذهب بارح الجوزاء عنّي ... ولم أذعر هوامل بالستار وإنما قال ذلك لأن البارح يعفي الأثر فيأمن أن يقتصّ أثره فيؤخذ، ولبعض لصوص التمر: ألا يا جارنا باباض إنا ... وجدنا الريح خيرا منك جارا يخبرنا إذا هبّت علينا ... وتملأ وجه ناظركم غبارا تحسين التلصّص والتبجّح به قال عثمان الخيّاط: لم تزل الأمم يسبي بعضهم بعضا ويسمون ذلك غزوا وما يأخذونه غنيمة وذلك من أطيب الكسب وأنتم في أخذ مال الغدر والفجرة أغدر فسمّوا أنفسكم غزاة كما سمّى الخوارج أنفسهم سراة وأنشد: سأبغي الفتى إما جليس خليفة ... يقوم سواء أو مخيف سبيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 وأسرق مال الله من كلّ فاجر ... وذي بطنة للطيّبات أكول وقالوا: اللص أحسن حالا من الحاكم المرتشي، والقاضي الذي يأكل أموال اليتامى. التجسير على التلصص قال عثمان الخياط: جسّروا «1» صبيانكم على المحارجات «2» وعلّموهم الثقافة وأحضروهم ضرب الأمراء أصحاب الجرائم لئلا يجزعوا إذا ابتلوا بذلك وخذوهم برواية الأشعار من الفرسان وحدّثوهم بمناقب الفتيان وحال أهل السجون، وإياكم والنبيذ فإنها تورث الكظة «3» وتحدث الثقل وتدعو إلى البول والنوم ولا سيما بالليل ولا بد لصاحب هذه الصناعة من جراءة وحركة وفطنة وطمع، وينبغي أن يخالط أهل الصلاح ولا يتزيّا بغير زيّه. إستعمال الظرف في التلصّص حكي عن عثمان الخياط أنه إنما سمّي خياطا لأنه نقب على أحذق الناس وأبعدهم في صناعة التلصّص، وأخذ ما في بيته وخرج وسدّ النقب كأنه خاطه. فسمّي بذلك. وحكي أنه قال: ما سرقت جارا وإن كان عدوا، ولا كريما، ولا كافأت غادرا بغدره. وقال لأصحابه إضمنوا إليّ ثلاثا أضمن لكم السلامة. لا تسرقوا الجيران، واتقوا الحرم ولا تكونوا أكثر من شريك مناصف، وإن كنتم أولى بما في أيديهم لكذبهم وغشّهم وتركهم إخراج الزكاة وجحودهم الودائع. وخرج سليمان وكان من أجلد هذه العصابة ليلة بأصحابه إلى دار بعض الصيارفة فاختفوا فلما أرادوا الإنصراف، قال بعض أصحابه: دعنا نقم على مفارق الطرق لنأخذ من بعض المارّة نفقة يومنا. فقال: على أن لا تبطشوا بهم فقالوا: وهل يفعل ذلك إلا الجبان. فبينما هم كذلك إذ مرّ شاب ذو هيئة فلما قرب سلّم عليهم فردّ عليهم بعضهم السلام فقام إليه بعضهم فقال رئيسم دعه فإنّه سلّم ليسلم، وأجابه بعضكم فصار له ذمّة بذلك. قالوا: فنخلي سبيله. قال: أخاف عليه غيركم ليذهب مع ثلاثة يوصلونه إلى منزله ففعلوا. فلما بلغ دفع لهم مالا وقال لأحوطنكم بمالي وجاهي لما عاملتموني به. فلما عادوا بالدراهم، قال رئيسهم: هذا أقبح من الأول تأخذون مالا على قضاء الذمام والوفاء بالعهد لا أبرح أو تردّوا إليه المال، فقالوا: قد افتضحنا بالصبح فقال لئن نفتضح بالصبح خير من تضييع الذمام، وقال ما خنت ولا كذبت منذ تفتّيت «4» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 المتبجّح منهم بالصبر على الضرب قال أبو معن الزنجي: وكان النظّام يقول لو ادعى النبوّة وأن معجزته الصبر على الضرب بالسياط لأدخل عليهم به شبهة عظيمة. وقال عثمان الخياط: ضربته يوما بشمراخ «1» رطب فالتوى إلتواء الحية وكاد يواثبني. فقلت: أهذا صبرك؟ فقال: إنك لم تتعمد أحسبت أن صبري على السياط طبيعة إنما هو الكظم والصبر على قدر النظارة ألا ترى أنه قيل: أصبر الناس من ضرب في السجن خمسين سوطا لأنه إذا لم يكن من يمدحه تألم وإذا كان بين الناس بحيث يرونه فهو العزم والمروءة والقيام بالفتوّة. وقال بعضهم ضربت بالمدينة ثلاثين حدا على ثلاثين سكرا فما قلت: حس، وإن أحدكم ليتألّم من دون حد. قيل لبعضهم: من أصبر من رأيت؟ قال: عرفت صبر الهند على النيران وصبر الأعراب على مدّ الأعناق لسيوف السلطان وصبر السند على قطع الآذان وجدع الأنوف ولم أر أصبر من الفتيان تحت الضرب والثاني ربما يزهق في ألف درهم وعنده عشرة آلاف فيضرب سوطا أو سوطين فيخرج عن أهله وعشيرته. فعل الطرّارين «2» أتى بعضهم بزازا «3» في غدوة وهو فارس مع غلام فقال: إئتني بجراب بلخيّ وجراب مرويّ وعجل وخذ الثمن فأخرج ذلك وساومه وأطمع التاجر. وقال: ائتني بآخر فلما دخل الحانوت قال: ما أضيع متاعكم وأنتم تسخرون بالناس لو أن إنسانا أخذ متاعك هذا وقفل الباب هكذا ما كنت تفعل. فحرك التاجر الباب يظن أنه يلعب فإذا هو قد مرّ إلى الساعة. ودخل آخر على قوم فقال أحدهم: ما في الدنيا أعجب من فلان ترمي بخاتمك في الهواء فإن شئت أتاك به وإن شئت بغيره. فقال أنا أريكم ما هو أعجب من هذا. هاتوا خواتيمكم فأخذها كلّها فجعلها في أصابعه وجعل يمشي القهقرى ويصفر، وينظر إلى عين الشمس حتى غاب عن أعينهم فطلبوه فلم يجدوه. فقالوا: هذا والله أعجب. وصلّى بعضهم مع قوم فلما سجدوا تناول نعلا كأنه يريد أن يقتل عقربا فضرب بها ثم الآخر بيساره كأنّه يريد أن يتناولها فيرمي بها ويعود إلى الصلاة فمرّ بالنعل. واكترت امرأة دارا ثم أظهرت أنها تريد تجصيصها لأنها تريد أن تزوج فيها ابنها، فأكترت أجراء وأخذت من الجيران آلات وجمعت متاع الاجراء والآلات في بيت ثم ذهبت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 وقال بعضهم: دخلت مسجدا مع صاحب لي فنام صاحبي ووضع عنده عمامته فإذا أنا برجل قد دخل فأخذ العمامة وجعل يضحك في وجهي وهو واضع سبّابته على فمه كأنه يقول: أسكت وجعل يتراجع القهقرى وأرى أنه يلاعبنا فمرّ فانتبه صاحبي. فقلت: كان كذا، فطلبناه فلم نجده. المفتخر بصعود المراقب قال ربيعة بن مقروم: قال ربيعة بن مقروم: ومزبأة أوفيت جنح أصيله ... عليها كما أومى القطامي مرقبا «1» ربيبة جيش أو ربيبة مقنب ... إذا لم يقد وغد من القوم مقنبا «2» قال أبو نواس: ربّ فتيان ربأتهم ... مسقط العيّوق من سحره «3» فاتّقوا بي ما يريبهم ... إنّ تقوى الشرّ من حذره نوادر لمن سرق له شيء سرق لرجل درهم فقيل له: إنه في ميزانك، فقال: قد سرق مع الميزان. وسرق لآخر خرج، فقيل له لو قرأت عليه آية الكرسي لم يسرق، فقال: إنه كان فيه مصحف تام وسرق لبعضهم بغل فقال أحد أصحابه: الذنب لك في إهماله. وقال بعضهم: الذنب للسايس، فقال هو: يا قوم واللص ماله ذنب. وسئل بعضهم إلى أين؟ فقال: إلى الكناسة لأشتري حمارا. فقال له رجل: قل إن شاء الله، فقال: وما وجه الاستثناء الدراهم في كمّي والحمير في الكناسة فلما ذهب سرقت منه الدراهم، فعاد فقيل له: ما الذي فعلت؟ قال: سرقت الدراهم إن شاء الله. وطرق لص عجوزا فلما دخل خباءها وأحسّت به قالت رافعة صوتها: يا نفس لو تزوجت زوجا فأولدك ثلاث بنين فسميت أحدهم عمرا والآخر بكرا والآخر صقرا، يا نفس ما أصنع بهم؟ وأخشى أن يموتوا فأندبهم فأقول واعمراه وابكراه واصقراه ورفعت صوتها وكان لها جيران يسمّون بهذه الأسماء فجاؤها، فقالت: دونكم اللص. وسرق بعضهم حمارا وذهب ليبيعه فسرق منه، فقيل بكم بعته؟ فقال: برأس المال. ودفع بعضهم- وكان قفّافا- دراهم إلى بعض الصيارف فقفّ منه الصيرفي شيئا، فقال: عجبت عجيبة من ذئب سوء ... أصاب فريسة من ليث غاب وإن أخدع فقد يخدع ويؤخذ ... عناق الطير من جوّ السحاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 فقفّ بكفّه سبعين منها ... من البيض المنقشة الصلاب حدّ السرقة قال الله تبارك وتعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما «1» وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: يقطع السارق في ربع دينار. وروي لا قطع إلّا في عشرة وقال أيضا لا قطع في ثمر ولا كثر «2» . وروى جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: ليس على المختلس والمنتهب والخائن. وأتى صفوان حضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم برجل قد سرق رداءه فأمر بقطعه قال صفوان أتقطعه في ردائي؟ قال: نعم. قال: قد تصدقت به عليه. قال: هلا قبل أن تأتيني به. وأتى معاوية رضي الله عنه بسارق فأمر بقطعه فجاءته أمه وسألته أن يعفو عنه فقالت: هو واحدي وكاسبي فقال إنّه حدّ من حدود الله تعالى لا نقدر على إبطاله. فقالت: اجعله بعض ذنوبك التي تستغفر الله منها فأمر بتخليته. ردّ ذاعر بحيلة أقبل واصل في رفقة فأحسوا بخوارج، فقال لأصحابه: دعوهم لي. فخرج إليهم فقالوا له: ما أنتم؟ قال: مشركون مستجيرون بكم يا قوم. قالوا: قد أجرناكم. فقالوا: علّمونا فعلّموهم الأحكام. فقال: إن الله تعالى يقول: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ «3» فأبلغونا مأمنا. فقالوا: هذا لكم فساروا معهم حتى أبلغوهم. وكان الخوارج حين دخلوا الكوفة فانتهوا إلى أبي حنيفة رضي الله عنه فانتضوا سيوفهم، فقالوا: يا عدوّ الله ما أحد منا إلّا وقتلك عنده أحب إليه من عبادة سبعين سنة قد جئناك بمسألتين إن أجبت عنهما وإلا أرقنا دمك. فقال: أنصفوني اغمدوا السيوف فإن بريقها يهولني، فأبوا. فقال: تكلموا. فقالوا: جنازتان على باب المسجد إحداهما جنازة شارب خمر شربها فمات فيها غرقا، والأخرى جنازة زانية حبلت وشربت دواء فقتلت جنينها وماتت. فقال: أمن النصارى كانا أم من اليهود؟ قالوا: لا. قال: فمن أي الملل كانا؟ قالوا: ممّن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. قال: فما يشهدان به أمن الكفر أم من الإيمان؟ قالوا: من الإيمان. قال: أقول كما قال نوح عليه السلام في قوم كانوا أعظم جرما منهم، وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربّي. أو ما قال إبراهيم: فمن تبعني فإنه منّي ومن عصاني فإنك غفور رحيم أو ما- قال عيسى: إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم. وأقول ما قال نبينا صلّى الله عليه وسلّم ولا أعلم الغيب ولا أقول أني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم أني إذا لمن الظالمين. فألقى القوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 أسلحتهم وقالوا: تبرّأنا مما كنا عليه. ولقي خارجي شيطان الطاق فقال له: ما تقول في علي وعثمان؟ فقال: أنا من علي ومن عثمان بريء يعني أن عليا بريء من عثمان، وكان شيعيا. من تخلّص بسخف أو رقاعة خرج داود المصاب وكان معه دراهم فتبعه قوم فصاحوا به: ألق ما معك يا مجنون فقال نعم فجلس وخرىء وقال ما معي وحياتكم غير هذا. وأخذ لصوص قوما في طريق فقالوا أنتم بعلتم الدنانير فاجلسوا وأخرؤا فأعجز أحدهم الخراء فرأى سرقينا «1» يابسا فجلس عليه فقالوا له أنت تخرأ سرقينا فقال الغريب مسكين أيش يمكنه أن يخرأ الأمثل هذا فضحكوا وخلوا سبيله. ومما يدخل في الفصل قول جرير بن عبد الحميد: سرقت من شيخ أوزة فشكا ذلك إلى سليمان بن داود عليهما السلام فخطب الناس فقال ما بال أحدكم يسرق أوزة جاره وريشها على رأسه فمد رجل يده إلى رأسه كأنه يمسحه فدعاه وقال له: أدّ أوزّة صاحبك. (8) وممّا جاء في الحبس والقيد والضرب وغيرها السجن وضيقه والتشديد فيه كتب بعضهم على باب السجن هذه قبور الاحياء وتجربة الأصدقاء وشماتة الأعداء. وكتب تحته ما يدخل أحدهم السجن إلا إذا قيل لهم فيم حبستم لقالوا مظلومين. وأمر بحبس ابن أبي علقمة في دعوى، فقال: دعني آتي البيت لحاجة فلم يترك. فتمثّل بقول الله تعالى فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون. فدخل السجن فقال: ما سلككم في سقر؟ قالوا: لم نك من المصلين. فالتفت فرأى المهلب فقال من فعل هذا بآلهتنا؟ ودخل أعرابي إلى السجن فوجد على بابه تنزّ وتليّن فقال: ولما دخلت السجن كبّر أهله ... وقالوا أبو ليلى الغداة حزين وفي الباب مكتوب على صفحاته ... بأنّك تنزو وثمّ سوف تلين وقال شاعر: وبتّ بأخصنها منزلا ... ثقيلا على عنق السالك ولست بصيف ولا في كراء ... ولا مستعير ولا مالك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 وقال في السجن: خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... ولسنا من الأحياء فيها ولا الموتى إذا طلع السجّان وقتا لحاجة ... عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا وسمع السجّان محبوسا يقول: اللهم إحفظني. فقال: قل اللهمّ ضيّعني فإن حفظه لك أن يبقيك فيه. من شدّد عليه من المحبسين خرج الحجاج يوما إلى الجامع فسمع ضجة عظيمة فقال: ما هذا؟ قالوا: أهل السجن يضجّون من الحر فقال: قولوا لهم إخسئوا فيها ولا تكلّموا. وأحصي من قتلهم الحجاج سوى من قتل في بعوثه وعساكره فوجد مائة وعشرين ألفا وجد في حبسه مائة ألف وأربعة عشر ألف رجل وعشرون ألف امرأة، منهنّ عشرة آلاف امرأة مخدرة. وكان حبس الرجال والنساء في مكان واحد ولم يكن في حبسه سقف ولا ظلّ وربما كان الرجل يستتر بيده من الشمس فيرميه الحرس بالحجر وكان أكثرهم مقرنين في السلاسل. وكانوا يسقون الزعاف ويطعمون الشعير المخلوط بالرماد. ولبّى رجل في الحبس في زمن المأمون فرفع إليه خبره، فوقّع أظن هذا قصد خلاف نيته وأظهر ضد عزيمته وقد أخطأت إسته الحفرة، وإذا حرم الحج بسوء تدبيره فلن يقدم فتوى صادقة من فريضة محكمة وهو محضر، وعليه الهدى فليؤخذ بتعجيله ولا يرخص له في تأخيره. قال يعقوب بن داود: حبسني المهدي في مكان لا أعرف فيه الليل من النهار في بئر واسعة وفيها بئر أخرى أتغوط فيها وأعطى في كل يوم ماء وخبزا حتى عفا شعري وصار أطول من شعر البهائم حتى مضت إحدى عشرة سنة فأتاني آت في منامي فقال جنى على يوسف رب فأخرجه من قعر جبّ فحمدت الله فأتى على ذلك سنة ثم أتاني ذلك الآتي، فقال: عسى فرج يأتي به الله إنّه ... له كلّ يوم في خليقته أمر ثم مكثت حولا آخر فأتاني ذلك الآتي فأنشدني: عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب فيأمن خائف ويفكّ عان ... ويأتي أهله النّائي الغريب فلما أصبحت دلى لي مرس فشددت به وسطي فخرجت ما أبصر أحدا فقلت: السلام على أمير المؤمنين قيل ومن أمير المؤمنين؟ قلت: المهدي. قالوا: رحم الله المهدي. قلت: الهادي قالوا: رحم الله الهادي. قلت: فمن؟ قالوا الرشيد قلت السلام على أمير المؤمنين الرشيد فقال وعليك السلام وأمر لي بخمسمائة ألف وردّ علي ضياعي. فعولجت حتى عاد ضوء عيني فاستأذنته في الحج فأذن لي فمضى إلى الحج ومكث حتى توفي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 تصبّر المحبوس وانتظاره الفرج لما حبس يحيى وقيّد قال: وإنّي من القوم الذين يزيدهم ... علوّا وفخرا شدة الحدثان فقيل: في هذا الوقت تقول هذا؟ فقال: من مات قبل أجله حتى أكونه؟ وكتب رجل من السجن إلى الرشيد: ما مرّ يوم من نعيمك إلا ومرّ يوم من بؤسي والأمر قريب والسلام. وأن خلاخيل الرجال قيودها. قال عوام بن حوشب صبّحنا إبراهيم التميمي إلى سجن الحجاج فقلنا: ما حاجتك؟ فقال: حاجتي أن تذكروني إلى الربّ الذي فوق الربّ الذي أمر يوسف أن يذكر عنده. ولما حبس المأمون إبراهيم بن المهدي في يد أحمد بن أبي خالد، أخذ في الصلاة والعبادة فدخل عليه أحمد فقال: أمجنون تريد أن يقول المأمون هو يتصنع للناس فيقتلك؟ فقال: فما الرأي؟ قال: أن تشرب وتطرب وتحضر القيان. فأخذ في ذلك ثم دخل أحمد على المأمون فقال له: ما خبر النادر؟ قال أصون سمع أمير المؤمنين أن أخبره بما هو فيه فقال ما هو؟ قال: مكب على الشرب والجواري وتعاطي الجسارة. فقال: والله لقد شوقتني إليه فكان ذلك سببا لرضاه عنه. وقال علي بن الجهم: قالوا حبست فقلت ليس بضائري ... حبسي وأيّ مهنّد لا يغمد «1» أو ما رأيت الليث يألف غيله ... كبرا وأوباش السباع تردد «2» والبدر يدركه السّرار فينجلي ... أيامه وكأنّه متجدّد ولكلّ حال معقب ولربّما ... أجلى لك المكروه عمّا يحمد والحبس ما لم تغشه لدنيئة ... شنعاء نعم المنزل المتودّد بيت يجدد للكريم كرامة ... ويزار فيه ولا يزور ويحمد قال أبو فراس: ولله عندي في الإسار وغيره ... مواهب لم يخصص بها أحد قبلي فقل لبني عمّي وأبلغ بني أبي ... بأنّي في نعماء يشكرها مثلي وما شاء ربّي غير نشر محاسني ... وأن يعرفوا ما قد عرفت من الفضل وقال أعرابي حبس: ولا تحسبا حبس اليمامة دائما ... كما لم يدم عيش بحزن أبان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 وقال المكبّل الهزلي: ويمرّ في العرقات من لم يقتل «1» وقال أبو تمام: وللحديد سخاب في مقلّده ... وفي مخلد ساقبه خلاخيل وقيل: فلان راكب أدهم يرسف فيه إذا قيد. الشماتة بمقيّد قال المعدل: وقد سرّني أن بات في الكبل راسفا ... تغنيه في داجي الظّلام صلاصله فإن يظفر الإسلام منه بثأره ... فقدما إلى الإسلام دبّت غوائله معرفة أهل السجون بالأخبار حكي أن يوسف عليه السلام دعا لأهل السجون، فقال: اللهم اعطف عليهم قلوب الأخيار ولا تخف عليهم الأخبار، فببركته عليه السلام هم أعلم الناس بكل خير في كل بلد. الهارب من السجن كان الكميت في سجن بني أمية فلما هرب قال: خرجت خروج القدح قدح ابن مقبل ... على الرغم من تلك النوائح والمسلي على ثياب الغانيات وتحتها ... عزيمة رأي أشبهت سكة النّصل قال الفرزدق في ابن هبيرة حين نقب سجن خالد بن عبد الله: ولما رأيت الأرض قد سدّ ظهرها ... ولم تر إلا بطنها لك مخرجا دعوت الذي ناداه يونس بعد ما ... نوى في ثلاث مظلمات ففرّجا خرجت ولم تمنن عليك شفاعة ... سوى ربد التقريب من آل أعوجا «2» استطلاق أسير أو محبوس والرغبة في الحبس قال الحطيئة لما حبسه عمر رضي الله عنه في سبب الزبرقان وهجائه إياه: ماذا تقول لأفراخ بذي طلح ... زغب الحواصل لا ماء ولا شجر «3» حبست كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر وقال الحارثيّ: أفكك أسيرك والتمس بفكاكه ... حسن الجزاء بصالح الأعمال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 وقال الصّابي في المطهر لما قيّد وحبس: لساني في نشر المدائح مطلق ... وساقي في قبر المحابس موثق وحلمك يأبى الجمع ما بين ذا وذا ... فحتّى متى بين الفريقين أفرق وأتى المنصور برجل جان فأمر بقتله فقال: إن الله أعظم سلطانا منك وعاقب بالخلود لا بالفناء، فأمر بحبسه. كتب أبو ثوابة إلى قوقارة يقول: ما رأيك أبقاك الله في المصير إلى الحبس موفق إن شاء الله فكتب قوقارة تحته لا رأي لي في ذلك. تهنئة مطلق من الحبس قال البحتري: وما هذه الأيام إلا مراحل ... فمن منزل رحب إلى منزل ضنك وقد هذّبتك النائبات وإنّما ... صفا الذهب الأبريز قبلك بالسبك أما لك في الصّديق يوسف إسوة ... لمثلك محبوس على الظلم والإفك أقام جميل الصبر في السجن برهة ... فآل به الصبر الجميل إلى الملك المصلوب مرت امرأة بجعفر بن يحيى وقد صلب. فقالت: لئن صرت اليوم راية لقد كنت بالأمس غاية. وقيل لأعرابي إنّ الخليفة صلب فلانا فقال: من طلق الدنيا فالآخرة صاحبته ومن فارق الخز فالجذع راحلته. قال أبو تمام: بكّروا وأسروا في متون ضوامر ... قيّدت لهم من مربط النجار سود الثياب كأنّما نسجت لهم ... أيدي السموم مدارعا من قار «1» لا يبرحون ومن رآهم خالهم ... أبدا على سفر من الأسفار وقال ابن سلكة: كأنّه شلو شاة والهواء له ... تنّور شاوية والجذع سفّود وقال آخر: يظلّ في منزل أناف به ... مستضحكا لا يطيق ضمّ فمه تنتابه الطير والنسور وما ... يبخل عنها بلحمه ودمه عوفي من ضمّة الضريح ومن ... ثقل الثّرى والثواء في رحمه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 وقال أعرابي وقد صلب صاحب له: من مبلغ الحسناء أن خليلها ... بأرض الأعادي فوق إحدى الرواحل على ناقة لم يضرب الفحل أمّها ... مشذبة أطرافها بالمناجل وقال الأخيطل: كأنّه عاشق قد مدّ بسطته ... يوم الفراق إلى توديع مرتحل أو قائم من نعاس فيه لوثته ... مداوم لتمطّيه من الكسل قال أبو تمام: سام كأن العزّ يجذب ضبعه ... وسموّه من ذلّة وسفال قال مسلم: جعلته حيث ترتاب الظنون به ... وتحسد الطير فيه أضبع البيد تعدو السباع فترميه بأعينها ... يستنشق الجو أنفاسا بتصعيد قالت جارية محمود الورّاق وقد أكثرت في وصف ذلك في بابك: على مركب خشن ظهره ... طويل الوقوف بطيء المسير تظلّ الذئاب وعرج الضباب ... بعقوته حسدا للطيور فأسفله مأتم للسباع ... وذروته عرس للنسور المضروب بالسياط قال الفرزدق: لعمري لقد صبّت على ظهر خالد ... شآبيب ما استهللن من سبل القطر وقال آخر: كأنّما جلده والسوط يأخذه ... قطن تطاير عن قضبان ندّاف قال الببغا في لصّ جعل على رأسه برنس فطوق به: وبدّل من تاج العمامة برنسا ... يبالغ في تقويمه وهو مائل أمال به طولا سوى الجسم وهو من ... زيادته في طوله متضائل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 الحدّ الخامس عشر في التزويج والأزواج والطلاق والعفة والتديّث (1) ممّا جاء في النكاح والطلاق وأحوال الأزواج وسياستهن حثّ الرجل على التزوّج قال الله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ «1» . وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما مطلاقا مذواقا، فقيل له في ذلك فقال: إن الله تعالى علق بهما الغنى فقال وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله. وقال: وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته فأنا أتزوج للغنى وأطلق للغنى. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لرجل: ألك زوج؟ قال: لا، قال: وأنت صحيح سليم؟ قال: نعم. قال: إنك إذا من إخوان الشياطين إن شراركم عزّابكم وإن أراذل موتاكم عزّابكم. إن المتزوجين هم المبرأون من الخنا والذي نفسي بيده ما للشيطان سلاح في الصالحين من الرجال والنساء أبلغ من ترك النكاح. قال شاعر وأجاد: إذا لم يكن في منزل المرء حرّة ... تدبّره ضاعت مصالح داره وفي رواية رأى ضيعة فيما تولى الولائد الحثّ على التزوج أيام الشباب مر ملك من ملوك العجم بشيخ يعمل في أرض فقال له: أيها الشيخ هلا أدلجت فيكون من ذلك ما يكفيك؟ فقال: أدلجت ولكن القضاء لم يدلج فقال: أكتم كلامنا هذا حتى تراني ثم انصرف الملك فأحضر وزيره وقال: ما معنى كلام الشيخ؟، قيل له كذا فأجاب بذا وقد أنظرتك حولا. فجعل الوزير يسأل الناس ولا يجيبه أحد حتى وقع بالشيخ فسأله فقال له: إن الملك استكتمني الأمر حتى أراه فبذل له عشرة آلاف درهم فقال: إنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 قال لي لم لا تزوجت أيام الشباب؟ فقلت له: قد تزوّجت ولكن لم يأتني أولاد. فجاء الوزير فأخبر الملك فقال له: عليّ بالشيخ فدعاه فلما حضر قال له: ألم أقل لك أكتم أمرنا حتى تراني، قال: قد رأيتك عشرة آلاف مرة، فعلم أنّ الوزير دفع إليه عشرة آلاف درهم وأنه رأى اسمه مكتوبا على كل درهم منها وصورته، فقال: زه ودفع إليه أربعة آلاف درهم أخرى وقال: إنّ بني صبية صيفيّون ... أفلح من كان له ربيعيّون الألفة بين الزوجين قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً «1» . وقال رجل للنبي صلّى الله عليه وسلّم: يتزوّج الرجل المرأة الغريبة فتقع بينهما الإلفة، فتلا قوله تعالى: وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً «2» وقال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ «3» فبدأ بهنّ لقربهنّ من القلوب. الرغبة عن التزوّج استشار رجل الشعبي في التزوج فقال: إن صبرت عن الباه فاتق الله، ولا تتزوج. فإن لم تصبر، فاتق الله وتزوج. وقيل: لمالك بن دينار لو تزوجت، فقال: إني طلقت الدنيا ثلاثا فلا رجعة لي فيها. وقيل: ما فكر فيلسوف إلا ورأى العزبة أجمع لهمه وأجود لخاطره. وسئل حكيم عن التزويج فقال: بقل شهر وشوك دهر. وقال آخر: مكابدة العزبة أيسر من الاحتيال لمصالح العيال. وقال أعرابي وقد عرضت عليه دلالة امرأة: أقول لها لمّا أتتني تدلّني ... على امرأة موصوفة بجمال أصبت لها والله زوجا كما اشتهت ... إن اغتفرت منه ثلاث خصال فمنهنّ شخص لا ينادي وليدة ... ورقة إسلام وقلّة مال فإن رضيت هذي الخصال فشأنها ... وإن تكن الأخرى فلست أبالي وقال رجل لآخر: كنا في أملاك فلان فقال: لا تقل في أملاكه ولكن في أهلاكه ثم أنشد: يقولون تزويج وأعلم أنّه ... هو الرقّ إلا أنّ من شاء يكذب التزوج بأكثر من واحدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 قال المغيرة بن شعبة: صاحب المرأة الواحدة إن مرضت مرض وإن حاضت «1» حاض. وصاحب الثنتين بين جمرتين أيتهما أدركته أحرقته. وصاحب الثلاث في رستاق يبيت كل ليلة في قرية. وصاحب الأربع عروس في كل ليلة. وروي أنه قال: أحصنت مائة امرأة وقيل: إن الحسن بن علي رضي الله عنهما تزوّج خمسا وتسعين امرأة. وقال أعرابي لآخر: لا تتزوج بأربعة فكل تأخذك بحمتها وأنت كال ولا بثلاث فإنهنّ كالأثافي تصير بينهن كالقدر، فيكوينك. ولا باثنتين فإنهما يكونان كجمرتين. ولا واحدة فإنك تمرض إذا مرضت، وتحيض إذا حاضت. وتلد إذا ولدت. فقال له: قد نهيت عن كل ما أمر الله به فما الذي أصنع؟ قال: كوزان وطمران وعبادة الرحمن. وخرجت جارية من دار الرشيد معها مروحة مكتوب عليها الحر إلى أيرين أحوج من الأير إلى حرين. الحثّ على اختيار ذوات الأحساب والأنساب والترغيب عن لئام ذوات المال قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: احتفظوا لنطفكم فإن العرق نزّاع. وقال: إياكم وخضراء الدّمن- أي المرأة الحسنة في المنبت السوء- وقال: أكثم لا يفلتنكم جمال النساء عن صراحة النسب فإن المناكح الكريمة مدرجة الشرف. وقال عثمان بن أبي العاص لأولاده: المناكح مغترس فلينظر المرء حيث يضع غرسه فإن عرق السوء يعدي ولو كان يعد حين، قال شاعر: لا تنكحنّ لئيمة لمعيشة ... تبقى اللئيمة والمعيشة تذهب إختيار ذوات الدين والعفة قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: تنكح المرأة لدينها ولمالها وحسبها وحسنها، فعليك بذات الدين تربت يداك. وقال: خير النساء التي إذا أعطيت شكرت وإذا حرمت صبرت. تسرك إذا نظرت وتطيعك إذا أمرت. وقال محمد بن علي: اللهم أرزقني امرأة تسرّني إذا نظرت، وتطيعني إذا أمرت، وتحفظني إذا غبت. وقال خالد بن صفوان. إنما الدنيا متاع وليس من متاعها أفضل من زوجة صالحة. وقال علي رضي الله عنه خير النساء العفيفة في فرجها المغتلمة لزوجها. وقيل لعائشة رضي الله عنها: أي النساء أفضل؟ فقالت: التي لا تعرف عيب المقال ولا تهتدي لمكر الرجال فارغة القلب إلا من الزينة لبعلها والإبقاء في الصيانة على أهلها. وقيل: إياك والحمقاء فنكاحها قدر وولدها ضائع. إختيار الحسان والنهي عن القباح قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنما النساء لعب فمن اتخذ لعبة فليستحسنها. وقال: أعظم النساء بركة أحسنهن وجوها وأرخصهنّ. مهورا وجاءت امرأة إلى الحسن وقالت: يا أبا الحسن أتفتي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 الرجال أن يتزوجنّ على النساء، قال: نعم، فقالت: أعلى مثلي؟ وكشفت قناعها عن وجه كالقمر، فقال الحسن لما ولّت: ما على رجل مثل هذه في زاوية بيته ما أقبل عليه من الدنيا وما أدبر. وقيل لرجل أي النساء أشهى؟ قال: التي تخرج من عندها كارها وترجع إليها والها. وقال: إياك وكل ذكرة مذكرة شوهاء فوهاء تبطل الحق بالبكاء لا تأكل من قلّة ولا تعذر من علّة. التحذير من الحسان شاور رجل حكيما في التزوج فقال له: إيّاك والجمال. فلن تصادف مرعى ممرّعا أبدا ... إلا وجدت به آثار مأكول وقال: الجمال للرجال مطمع وأنشد: لا تطلب الحسن إن الحسن آفته ... أن لا يزال طوال الدّهر مطلوبا وما تصادف يوما لؤلؤا حسنا ... بين اللآلئ إلا كان مثقوبا وقيل لحكيم تزوج بقبيحة: هلا تزوجت بحسناء؟ فقال: اخترت من الشر أقلّه. الإستدلال عليها بذويها قال علي بن عبيد الله: إذا أردت أن تتزوج بامرأة فانظر إلى أبيها وأخيها فإنها رابطة بطنب أحدهما، وأنشد للعجير: إذا كنت تبغي للجهالة أيّما ... من النّاس فانظر من أبوها وخالها فإنّهما من شكلها وهي منهما ... كما جذبت يوما بنعل مثالها اختيارهنّ في الطول والقصر قال الربيع بن زياد: من أراد النجابة فعليه بالطوال ومن أراد اللذّة في القصار فإنهن لذيذات النكاح. وقال الحجّاج: من تزوج قصيرة فلم يجدها على الموافقة فعلى مهرها. ويستحسن فيه ما قال ابن عجلان: ومخملة باللحم من دون ثوبها ... تطول القصار والطوال تطولها الرغبة عن العجائز قيل لرجل تزوج: كيف المرأة التي تزوجتها؟ قال: نصف. قال: شرّ نصفيها حصل في يدك ثم أنشد: لا تنكحنّ عجوزا إن أتوك بها ... واخلع ثيابك منها ممعنا هربا فإن أتوك وقالوا إنّها نصف ... فإن أحسن نصفيها الذي ذهبا وقال حكيم: إن خير نصفي الرجل آخرهما يذهب جهله ويثوب حلمه ويجتمع رأيه، وشر نصفي المرأة آخرهما يسوء خلقها ويحدّ لسانها ويعقم رحمها. وقال: لا تأكل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 ولا تركب ولا تنك إلا فتيا. وقيل: مضاجعة العجوز يخلف منها موت الفجأة. قال شاعر: ولا تنكحنّ الدّهر ما دمت أيّما ... مجربة قد ملّ منها وملّت وقال لبعض من فضّل العجائز: إن اختيار الكبيرة على الصغيرة لعدم اللبّ واسترخاء الزب ورين على القلب والتماس سهولة العلاج للعجز عن الإيلاج فقال: كلا العجوز أقنع باليسير وأصبر على تقلب الدهور وأقل مشاغبة ومجاذبة، تؤثر التذلل وتجتنب التدلل، تصبر على الإقلال وتؤمن من ولادتها الزيادة في العيال إن اتسع بعلها صانت ماله وإن ضاق سترت حاله. نعم قعدة الغيور ومطيّة ذي الأير العثور. لا تسبق إليها الظنون ولا تثبت معها القرون، ألوف عروف غير غروف ولا عيوف. إختيار الأبكار والثيبات قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: عليكم بالأبكار فإنهنّ أطيب أفواها وأنتق «1» أرحاما. قال علي رضي الله عنه: إن المرأة لا تنسني أبا عذرتها. وقال حكيم لمن استشاره: أما البكر فلك لا عليك وأما الثيب فلك وعليك وأما ذات الولد فعليك لا لك. وقيل: إيّاك والحنّانة والمنانة والأنّانة والحدّاقة وذات الدايات فالحنّانة التي تحن إلى ولدها من غيرك والمنّانة التي تمنّ بمالها على زوجها والأنّانة التي تئن من غير وجع والحدّاقة التي تحدّق إلى كل شيء فتقول ليته لي وذات الدايات التي عندها عجوز تقول هي دايتي. وقيل إياك والرقوب الغصوب القطوب العلياء الرقياء الحنّانة والمنّانة. وقيل: إن لم تتزوج بكرا فتزوج مطلقة ولا تتزوج مميتة فإن المطلّقة تقول لها لو كان فيك خير لما طلقك زوجك والمميتة تقول لك: رحم الله فلان قد كان لي خيرا منك بكذا وقال علي بن الجهم أنشدت امرأة: قالوا عشقت صغيرة فأجبتهم ... أشهى المطيّ إليّ ما لم يركب كم بين حبّة لؤلؤ مثقوبة ... نظمت وحبّة لؤلؤ لم تثقب فأجابتني: إن المطيّة لا يلذّ ركوبها ... حتى تذلّل بالزمام وتركبا والدّر ليس بنافع أربابه ... حتّى يجمع في النّظام ويثقبا وكانت عند الأحنف امرأة فطلقها وتزوجها ابن عم لها فكتب إلى الأحنف: إن كنت أزمعت أمرا فأمضينّ له ... إن الغزال الذي ضيّعت مشغول فكتب إليه الأحنف يقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 إن كان مشتغلا فالله يصلحه ... فقد لهونا بأمر منه موصول ولن تصادف مرعى مونقا أبدا ... إلا وجدت به آثار مأكول وقيل للأحنف: فلان تزوج بالمرأة التي كانت تحتك فقال: أما أنا فقد كفيته الصيحة وسهلت عليه العورة. إختيار أجناس النساء قال عبد الملك: من أراد النجابة فعليه بقيّنات فارس، ومن أراد النباهة فقينات بربر ومن أراد الخدمة فبنات الروم. قال المتنبيّ في تفضيل البدويات: أين المعير من الآرام ناظره ... أو غير ناظره في الحسن والطّيب قال سعيد الرستمي: فدت غازلات الشعر أبكار فارس ... وإن وكلت بي هجرها وبعادها إذا نصّت التيجان فوق رؤوسها ... وأرسلن من تلك الرؤوس جعادها من اللائي لم تزجر ببيداء هجمة ... ولم تتلفع بالعشي بجادها «1» ولم أتبع سمر العراب وأدمها ... ولم أتشوف جملها وسعادها مدح الولود وذمّ العقيم قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: سوداء ولود خير من حسناء عقيم. وقيل: مثل الحسناء العاقر كشجرة يكثر زهرها ويقل ثمرها. وذم أعرابي امرأة فقال: ما بطنها بوالد ولا ثديها بناهد ولا فوها ببارد ولا شعرها بوارد. وقيل لأعرابي: أي النساء أكرم؟ فقال: التي في بطنها غلام وفي حجرها غلام ولها مع الغلمان غلام. من خطب امرأة فخدعها على الجماع خطب معلم امرأة وابنها في مكتبه فامتنعت عليه فضرب الابن وقال له: لم لا قلت: لأمك أير المعلم كبير؟ فعاد الصبي إليها شاكيا فوقع في قلبها وبعثت إليه أحضر شهودا وتزوج بي على بركة الله. وقال رجل لامرأة خطبها: والله لأملأن بيتك خيرا وحرك أيرا فتزوجته كما ظنت فلم تجده كذلك، فقالت: قد رأيناك فما أعجبتنا ... وبلوناك فلم نرض الخبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 وقال رجل لامرأة: هل لك في ابن عم كاس من الحسب عار من النسب يتصلصل معك في دارك ويقلبك يمينك لشمالك، يواصل ثلاثة في واحد، يدخل الحمام طرفي النهار؟ فقالت: لا يسمعنّ هذا الخبر منك أحد. وخطب رجل امرأة فقالت: لي شروط من المهر ألف دينار ومن النفقة كل يوم كذا ومن الثياب كذا فقال: نعم، ولكن لي عيوب إن احتملتها. فقالت: وما هي قال أناشره بالجماع أستكثر منه وأبطئ الفراغ وأسرع الإفاقة فقالت المرأة يا جارية إحضري أهل المحلة تشهد على بركة الله، فالرجل سارح لا يعرف الخير من الشر. من توسل إلى خطبة امرأة بما لا ينفق . قال أبو العيناء خطبت امرأة فلمّا رأتني استقبحتني فكتبت إليها: ونبئتها لما رأتني تنكّرت ... وقالت دميم لا رواء ولا جسم فإن تنفري من قبح وجهي فإنّني ... أديب أريب لا عيّ ولا فدم فقالت: يا ماص بظر أمه لديوان الرسائل أريدك. وقال نحوي: يا خريدة قد كنت أحسبك عروبا فقالت: يا ابن الخبيثة أتجشّمني بالهمز والغريب. ونظرت امرأة زوجها وهو يجيد الطعن في الحرب فقالت: رب أفن تحت اللواء، فقالوا لها: أليس يجيد الطعن؟ فقالت: أمّا الطعن الذي ينفعني فلا. الحثّ على تزويج الأيّم «1» قال الله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ «2» . وقال حكيم: عليك بتزويج حرمتك إذا جاء كفوؤها فليس بعد منعها من الإكفاء إلّا تعريضها للأدنياء ومن حظّك تنفيق أمك. وقال الأحنف: لأفعى يحترس في جوانب بيتي أحب إليّ من أيم أودعتها كفأها. ورؤي في سوق بغداد قمطر فيه صبي وعند رأسه كيس فيه مائة دينار مكتوب هذا الشقي ابن الشقية بن القدح والرطلية رحم الله من اشترى له جارية بهذه الدنانير فهذا جزاء من عضل أيّمة. إظهار المرأة الرغبة في النكاح كان لهمّام بن مرة بنات لا يزوجهنّ من شدّة الغيرة فاجتمعن يوما وتشاكين فقالت الصغرى: أنا لكن فقالت لأبيها: أهمام بن مرّة حنّ قلبي ... إلى ما تحت أثواب الرّجال فقال: تريدين سراويلا؟ فقالت: أهمام بن مرة حن قلبي ... إلى حمراء مشرقة القذال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 فقال تريدين ناقة؟ فقالت: أهمّام بن مرة حنّ قلبي ... إلى أير أسدّ به مبالي فقال: قاتلكن الله وزوّجهن. عجوز راغبة في النكاح مرضت عجوز فأتاها ابنها بطبيب فرآها الطبيب متزينة بأثواب مصبوغة فعرف ما بها. فقال الطبيب: ما أحوجها إلى زوج. فقال الابن: ما أحوج العجائز للأزواج. فقالت: ويحك الطبيب أعلم منك على كل حال. ورغبت عجوز إلى أولادها أن يزوّجوها وكان لها سبع بنين، فقالوا: لا إلا أن تصبري على البرد متعريّة لكل واحد منا ليلة ففعلت. فلما كانت السابعة ماتت فسميت أيام العجوز. وقالت امرأة لبنيها: أيا بني إنّني لناكحه ... وإن أبيتم إنني لجامحه هان عليكم ما لقيت البارحه ... من الحكاك والعروق الطامحه وقال حكيم لامرأة تعرضت له: وضاحكة إليّ من النقاب ... تلاحظني بطرف مستراب فما زالت تجشّمني طويلا ... وتأخذ في أحاديث التّصابي فقلت لها حللت بشرّ واد ... كريه المجتني قحط الجناب متى تشفى العجوز إذا استناكت ... بأير لا يقوم على الشّباب إحتيال المرأة في التزوّج من رجل كان لرجل ابنة ولها ابن عم مشغوف بها، وهو يرجو أن يتزوج بها. فجاءه رجل فأرغبه في الصداق فقالت الجارية لأمها. ما أحسب أبي يربي ابن أخيه صغيرا ويقطعه كبيرا. فقالت: كان ذلك قدرا مقدورا. فقالت الجارية: أنا حبلى من ابن عمّي فقالت أمها: ما تقولين؟ ويحك، فقالت: أتكذب الحرة على نفسها. فأخبرت أباها فزوجها من ابن عمها فلما وقع العقد قالت الجارية: برئت من الإسلام إن رأى وجهي إلى سنة ليعلم أني متقولة فيما ادعيت. اختيارها الكهول من الرجال وذوي الشعور قالت امرأة: لا يعجبني الشاب يمعج «1» معج المهر طلقا أو طلقين ثم يربض بناحية الميدان. ولكن أين أنت من شيخ يضع قب إسته بالأرض ثم سحبا وجرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 ولما تزوج عثمان رضي الله عنه بنت الفرافصة قال: لا تكرهين ما ترين من الشيب فإن وراءه ما تحبّين. فقالت: إني من نسوة خير أزواجهن الكهول. فقال: إني قد جاوزت حد الكهول إلى الشيخوخة فقالت: أفنيت عمرك في خير ما يفني فيه العمر. وقيل لامرأة: أما تكرهين شيب زوجك؟ فقالت إنّه نشأ فينا وإنما تكره المرأة الرجل الشائب إذا كان غريبا ورأته بديهة. إختيارهنّ الشبان والمرد قالت جارية لأخرى: التحفت على غلام معفوج «1» . فقالت: بذلك العفج كبر أيره وكثر خيره. ولكن من شؤمك أنك عشقت من يغطيك بلحيته ويغرزك بشعرته. قال أبو تمّام: أحلى الرجال من النّساء مواقعا ... من كان أشبههم بهنّ خدودا وقال الأعشى: وأرى الغواني لا يواصلن امرأ ... فقد الشباب وقد يصلن الأمردا وقال أعرابي: يروق الغواني مجدب الخدّ خالع ميلها إلى ذي المال قال امرؤ القيس: أراهن لا يجبن من قلّ ماله قيل لابن سيابة: قد كرهت امرأتك شيبك فمالت عنك فقال: إنما مالت إلى الأنذال لقلة المال، والله لو كنت في سن نوح وشيبة إبليس وخلقة منكر ونكير ومعي مال لكنت أحب إليها من مقتّر في جمال يوسف وخلق داود وسن عيسى وجود حاتم وحلم أحنف بن قيس. اختيار الأخيار قال صلّى الله عليه وسلّم: من زوّج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها. وقال الحسن لرجل استشاره في تزويج بنته: زوّجها من تقيّ فإنه إن أحبها أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها. وقيل لعبد الله بن جعفر: أتنكح ابنتك الحجّاج؟ فقال: أنكحتموه دينكم والدين أجلّ من بضع المرأة. الكفاءة قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء. وقال عمر رضي الله عنه: لأمنعنّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 فروج ذوي الأحساب إلا من الأكفاء. وقال أبو يوسف: الكفء على الحقيقة المساوي في النسب والمال والدين. وقال بعضهم: الناس أكفاء إلا حائكا أو حجّاما. وقال المنصور: أعداؤنا أكفاؤنا يعني بني أمية. وقيل لماجن: فلان المؤذن تزوج بابنة فلان المقري فقال: إنهما سيلدان مصحفا من خطب امرأة فلم يتزوجها خطب زياد إلى سعيد بن العاص ابنته فكتب إليه سعيد كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى «1» ولما انتهى المغيرة إلى دار هند بنت النعمان بن المنذر قال: قد جئتك خاطبا. قالت: والله ما جئتني لمالي وجمالي وإنما أردت أن يقال في محافل العرب نكح بنت النعمان. وإلا فأيّ خير في أعور وعمياء؟ فقال لها: كيف كان أمركم؟ فقالت أصبحنا وما في العرب إلا من يرهبنا وأمسينا وما فيهم إلا من نرهبه. وكانت في دار ابن عبّاس يتيمة فخطبها رجل فقال له: لا أرضاها لك، قال: قد رضيت بها، فقال: الآن لا أرضاك لها. وامتنعت امرأة من رجل خطبها فقيل لها في ذلك، فقالت: لأنهم يقلّون الصداق ويعجلون الطلاق. وكتب عبادة بن الصامت إلى معاوية لما خطب إليه: فلو أنّ نفسي طاوعتني لأصبحت ... لها حفد مما تعدّ كثير ولكنّها نفس عليّ كريمة ... عيوف لإصهار الرجال قذور قال دعبل: فلا تنكح كريمك نهشليا ... فتخلط صفو مائك بالغثاء «2» وخطب قرشي ابنة الكميت فجعل يتبجح عليه فرده الكميت وقال له: أقلل فإنا إن زوّجناك لم نبلغ السماء وإن رددناك لم نبلغ الماء. تأسف من خطب امرأة فلم يتفق تزوجه بها خطب رجل امرأة فوعد بها ثم تزوج بها غيره فقال: لئن كان أدلى خاطبا فتعذرت ... عليه وفاتت رائدا فتخطّت فما تركته رغبة عن جماله ... ولكنّها كانت لآخر خطّت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 وفي المعنى ليهودي: سلا ربة الخدر ما شأنها ... ومن أيّ ما فاتنا تعجب فلسنا بأول من فاته ... على رغمه بعض ما يطلب وكائن ترى النّاس من خاطب ... تزوّج غير الذي يخطب وزوّجها غيره دونه ... وكانت له قبله تخطب وقال المغيرة: ما خدعني أحد ما خدعني غلام من بني الحارث فإني ذكرت له امرأة أريد أن أتزوج بها، فقال لا تفعل: فإني رأيت رجلا يقبّلها ثم ذهب فتزوج. بها فقلت له في ذلك فقال: رأيت أباها يقبلها. تمنّى طلاق امرأة مرغوب فيها قال شاعر: فما أكثر الأخبار أن قد تزوّجت ... فهل يأتينّي بالطّلاق بشير وشكا رجل إلى قراص الأزدي تزويج امرأة كان يريد أن يتزوجها فقال: تربّص بها ريب المنون لعلّها ... تطلّق يوما أو يموت حليلها توجع من صاهر غير كفئه دخلت هاشمية على معاوية فقال لها: من زوجك؟ فذكرت مجهولا. فقال: أمثلك ينكح من لا يعرف؟ فأنشدت: إن القيوم تنكح الأيامى ... النسوة الأرامل اليتامى المرء لا يبقى له سلامى قال مهلهل: أنكحها فقدها الأراقم في ... جنب وكان الخباء من أدم لو باء بانين جاء يخطبها ... ضرج مانف خاطب بدم ولما ظفر قتيبة بابنة يزدجرد وتزوج بها قال لندمائه: أترون ابنها يكون هجينا فقالت: هي نعم من قبل الأب وقالت هند بنت النعمان في زوجها ابن زنباع: وهل هند إلا مهرة عربيّة ... سليلة أفراس تحللها بغل فإن نتجت مهرا كريما فبالحرى ... وإن يك إفراق فجاء به الفحل «1» وقال: بكى النسب الصافي بعين سخينة ... من النسب الموصوم أن يجمعا معا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 وجاء رجل إلى سعيد بن المسيب فقال: رأيت حدأة على شرف مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن صدقت رؤياك فسيتزوج الحجّاج من أهل البيت، فتزوج بأم كلثوم بنت عبد الله بن جعفر. المتزوجة من ذي زي قبيح قال شاعر: الزوج زوجان ذو مال يعاش به ... وذو شباب شديد المتن كالمرس فلا شبابا ولا مالا ظفرت به ... لكنّ ما شئت من لؤم ومن دنس قال علي بن المنجم: لم يرض إلا بالكريمة مركبا ... ولربّما امتنعت عليه أتان ولما مات عمر بن عبد العزيز تزوج بامرأته فاطمة بنت عبد الملك سليمان بن داوف بن مروان وكان أعور فاجرا فقال الناس: هذا النذل الأعور يعنون قول جميل: نذل لعمرك من يزيد أعور وقال آخر: فيمن طلقها سري وتزوجها دنيء: وكنت كذى النّبل الذي راش نبله ... بريش الخوافي ثم بدّلها لغبا «1» ذمّ متشرف بتزويج كريمة رأوا رفعة الآباء أعيا مرامها ... عليهم فراموا رفعة بالحلائل إذا ما أعالي الأمر لم تعطك المنى ... فلا بأس باستنجاحها بالأسافل (2) وممّا جاء في قلّة الصداق وكثرته قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أعظم النساء بركة أحسنهنّ وجوها وأرخصهنّ مهورا. وقيل: لا تغالوا بمهور النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولى بكثرتها. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وما أصدق امرأة من نسائه ولا من بناته أكثر من إثنتي عشرة أوقية وذلك أربعمائة وثمانون درهما. وقال عمر رضي الله عنه: لا يبلغني أن أحدا تجاوز بصداقه صداق النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا استرجعت منها. فقامت امرأة فقالت: ما جعل الله ذلك إليك يا ابن الخطاب، فإنه يقول وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا فقال عمر ألا تعجبون من إمام أخطأ وامرأة أصابت، ناضلت أمامكم فنضلته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 وصية الختن بها وإكرامه لها قال عثمان بن عنبسة بن أبي سفيان: أرسلني أبي إليّ عمّي عتبة لأخطب إليه ابنته فأقعدني جنبه وقال: مرحبا بابن لم ألده أقرب قريب خطب إلي أحب حبيب لا أستطيع له ردّا ولا أجد من تشفيعه بدّا، قد زوجتكها وأنت أعزّ عليّ منها وهي ألوط بقلبي، فأكرمها يعذب على لساني ذكرك، ولا تهنّها فيصغر عندي قدرك. وقد قربتك من قربك فلا تباعد قلبي من قلبك. وكتب الصابئ عن عزّ الدولة إليّ أبي تغلب وقد نقل ابنته إليه: قد وجهت الوديعة وإنما نقلت من وطن إلى سكن ومن مغرس إلى مغرس ومن مأوى عزّ وانعطاف إلى مأوى برّ وإلطاف، ومن منبت درّت لها نعماؤه إلى منشأ تعود عليها سماؤه. وهي بضعة منّي انفصلت إليك، وتمرة من جنى قلبي حصلت لديك. ولا ضياع على من تضمه أمانتك ويشتمل عليه حفظك ورعايتك. وكان الحسن إذا دخل ختنه يقول: مرحبا بمن كفى المؤنة وستر العورة ثم يتنحّى له عن مكانه: حثّ الرجل على كفاية المرأة قال الله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ «1» وخطب رجل إلى قوم فقال أحدهم: إن عرفت حق المرأة زوّجناك. فقال: حقّها أن لا ينسى ذكرها ولا يهتك سترها ولا يحوجها إلى أهلها. فقالت المرأة: زوّجوه. وصية الأبوين البنت بحسن معاشرة الزوج زوجت امرأة بنتها فقالت: يا بنية لو تركت الوصيّة لأحد لحسن أدب أو لكرم حسب لتركتها لك، ولكنها تذكرة للغافل ومعونة للعاقل. يا بنيّة إنك قد خلّفت العش الذي منه درجت والموضع الذي منه خرجت إلى وكر لم تعرفيه وقرين لم تألفيه، كوني له أمة يكن لك عبدا، واحفظي عني خصالا عشرا تكن لك دركا وذكرا. أما الأولى والثانية فحسن الصحابة بالقناعة وجميل المعاشرة بالسمع والطاعة ففي حسن المصاحبة راحة القلب وفي جميل المعاشرة رضا الرب والثالثة والرابعة التفقد لموضع عينه والتعاهد لموضع أنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح ولا يشمّ أنفه منك خبيث ريح. واعلمي أن الكحل أحسن الحسن المودود، وأن الماء أطيب الطيب الموجود، والخامسة والسادسة فالحفظ لماله والرعاية لحشمه وعياله، واعلمي أن الاحتفاظ بالمال حسن التقدير، والإرعاء على الحشم حسن التدبير. والسابعة والثامنة التعاهد لوقت طعامه، والهدوء عند منامه، فحرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة. والتاسعة والعاشرة لا تفشين له سرا، ولا تعصين له أمرا. فإنك إن أفشيت سره لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 وقال أبو الأسود لابنته: إياك والغيرة، فإنها مفتاح الطلاق. وأمسكي عليك الفضلين: فضل النكاح وفضل الكلام، وكوني كما قيل: خذي العفو منّي تستديمي مودّتي ... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب وصيّة الأبوين بقبح معاشرة الزوج زوجت امرأة بنتها فقالت: يا بنية إقلعي زج «1» رمح زوجك أولا، فإن أقرّ فاقلعي سنانه. فإن أقر، فاكسري العظام بسيفه، فإن أقر فاقطعي اللحم وضعيه على ترسه، فإن أقر فضعي الأكاف على ظهره فإنه حمار. قال شاعر: عليك يا سيّدة البنات ... معصية الزوج إلى الممات وقال وداوامي غيرته وشتمه ... وقاتلي في كلّ يوم أمّه وباعدي ما بينها وبينه ... وعينها فاسخني وعينه التهنئة بالزفاف والدعاء للزوجين قال خالد بن صفوان لرجل من باهلة: باليمن والبركة وشدة الحركة والظفر عند المعركة. إستعلام حال الزوج في افتضاض امرأته قيل لسليمان: كيف وجدت امرأتك؟ قال ولم أرخين الستر إذا؟ قال شاعر: أبا حسن قل لي وأنت المصدق ... هل انجاب ذاك العارض المتفالق وهل غاب ذاك الحوت في قعر لجّة ... رأيتك منها تستعنّ وتغرق فقد قيل إن الباب دونك مغلق ... وإنّ عليك الرحب منه مضيق وكتب الصاحب إلى أبي العلاء الحسين بن محمد بن سهلوية لما تزوج بابنة أبي الحسن بن إسحاق: قلبي على الجمرة يا أبا العلا ... فهل فتحت الموضع المقفلا وهل فضضت الكيس عن ختمه ... وهل كحلت النّاظر الأحولا إن كان قد قلت نعم صادقا ... فابعث نثارا يملأ المنزلا وأن تجبني من حياء بلا ... أنفذ إليك القطن والمغزلا الرخصة في تزويج الأم روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خطب إلى سلمة بن هشام أمة ضباعة بنت عامر وزوج علي بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 الحسين أمه سلافة الكابليّة مولى له ليحيى سنة في الإسلام. وممن زوّج أمه عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد. المستنكف من تزويج أمه تزوج مروان أم خالد بن يزيد فلاحاه يوما، فقال له: يا ابن الرطبة. فقال: مخبر. مختبر ثم دخل على أمه فقال: أنت جلبت عليّ هذا، وأنشدها هجاء فيه: أما رأيت خالدا يهمه ... إن سلب الملك ونيكت أمّه فقالت: دعه لي. فلما علمت أن مروان قد امتلأ نوما عمدت إلى مخدة فوضعتها على أنفه فمات. وكان رجل قاعد على باب داره وعنده صديق له ورجل يدخل الدار ويخرج فقال له: من هذا؟ فقال: زوج أخت خالتي: المعيب بتزويج أمّه قيل لأعرابي: إن فلانا زوج أمه وأخذ مهرها فأيسر به. فقال: أعوذ بالله من بعض الرزق وقال الجاحظ معنى قول القائل يا ماص بظر أمه يعني يا آكلا مهر أمه من غير أبيه قال شاعر: ربّ حلال أكله ... أقبح من نجس الدبر من ظنّ مهر أمه ... جبرا له فلا جبر وعاتب الصاحب رجلا قد زوّج أمه فقال له: ما في الحلال بأس، فقال: كذا أحب أن تكون لغة كل من أحب أن تناك أمه، ثم قال فيه: زوجت أمك يا أخي ... إلى الرجال على طبق وقال: عذلت بتزويجه أمه ... فقال فعلت حلالا يجوز فقلت حلالا كما قد زعمت ... ولكن سمحت بصدع العجوز قال ابن طباطبا: قل للمزوج أمّه ... يا أكبر الناس همّه أجلّ مجد تحامي ... عليه تسكين علمه كفيت أمّك أمرا ... من الأمور المهمّه جواز المتعة عيّر عبد الله بن الزبير عبد الله بن عباس بتحليله المتعة فقال له: سل أمك كيف سطعت المجامر بينها وبين أبيك. فسألها فقالت: ما ولدتك إلا في المتعة. وسئل عن المتعة فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 الذئب يكنى أبا حيدة أي ذلك حسن الإسم قبيح الفعل. وقال يحيى بن أكثم لشيخ بالبصرة: بمن اقتديت في جواز المتعة؟ قال: بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: كيف وعمر كان أشد الناس فيها؟ قال: لأن الخبر الصحيح أنه صعد إلى المنبر فقال: إن الله ورسوله قد أحلالكما متعتين وإني محرمهما عليكم، وأعاقب عليهما. فقبلنا شهادته ولم نقبل تحريمه. وقال رجل لآخر زوّجني أمك متعة فقال: يا أحمق إذا زوجتكها فما معنى المتعة إنما المتعة أن تزوج نفسها. وقالت امرأة: أقول للشيخ إذا طالت عزوبته ... يا شيخ هل لك في فتيا ابن عباس معاداة الزوجة للإصهار نحر أعرابي جزورا فقال لامرأته: أطعمي أميّ فقالت: أيّها أطعمها؟ قال: الورك فقالت: التي ظهرت بلحمة وبطنت بشحمة لا لعمري قال: الفخذ. قالت: الكثيرة اللحم الطيبة المخّ، لا لعمري قال: الكتف قالت: الحاملة اللحم من كل مكان. قال: فما تطعمينها؟ قالت: اللحى التي ظهرت بالجلد وبطنت بالعظم. قال: تزوّدي إلى أهلك فأنت طالق. موافقة زوجين قبيح وحسن؟ نظرت امرأة عمران بن خطان في المرآة وكانت جميلة وزوجها قبيح، فقالت له: أنا وأنت في الجنّة قال: ولم؟ قالت: لأنك رزقتني فشكرت وأنا ابتليت بك فصبرت والصابر والشاكر في الجنّة. وقال رجل لامرأته: ما خلق أحب إليّ منك. فقالت: ولا أبغض إليّ منك. فقال: الحمد لله الذي أولاني ما أحب وابتلاك بما تكرهين. موافقة قبيحين خطب أسدي قبيح الوجه امرأة قبيحة فقيل لها: إنه قبيح وقد تعمّم لك. فقالت: إن كان قد تعمم لنا فإنّا قد تبرقعنا له. استقبح رجل امرأة فقال: ويل لمن هذه ضجيعته فلّما رأى زوجها وكان في القبح مثلها قال: وافق شنّ طبقه ... وافقه واعتنقه وأنشد: نزلت سلمى بسلمى ... منزلا ذا عدواء وصف الفوارك تزوج رجل امرأة فاجتمع معها في بيت ففركته فرمت ببصرها للكوة فرأت الصبح فقالت: وأنقذني بياض الصبح منه ... لقد أنقذت من شرّ طويل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 وقال الجماز لامرأته في يوم غيم: ما يطيب في هذا اليوم؟ قالت: الطلاق قال شاعر: لقد أصبحت عرس الفرزدق ناشزا ... ولو رضيت ريح إسته لاستقرّت وفي ضد ذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: خير نسائكم التي إذا خلعت ثوبها خلعت معه الحياء وإذا لبسته لبست معه الحياء يعني مع زوجها الحثّ على حفظهنّ من الخمر والكتابة قيل: لا تسمعهنّ الغناء فإنه داعية الزنا. وذاقت أعرابية الخمر فقالت: نساؤكم يشربن هذا؟ قالوا: نعم قالت زنين إذا ورب الكعبة. ورأى فيلسوف جارية تتعلم الكتابة فقالت: ليت شعري لمن يصقل هذا السيف؟ وقال: لا تسق السهم سما لترميك به يوما ما. وقال عمر: جنبوهنّ الكتابة ولا تسكنوهن الغرف. وقيل: علموهنّ سورة النور وجنبوهنّ سورة يوسف. وقال رجل: إيّاك أن تترك حرمتك تصغي إلى قول أبي ربيعة: أمن آل نعم أنت غاد فمبكر ... غداة غد أم رائح فمهجّر فإنه يحل السراويلات ويطرب الغانيات. الحثّ على شقائهنّ بالمغزل والمهنة قيل: ألزموا النساء المهرة. قال شاعر: ونعم لهو المرأة المغزل وقيل لهند بنت المهلب زوجة الحجاج: تغزلين وزوجك أمير؟ فقالت: سمعت أبي يقول قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أطولكن طاقة أعظمكن أجرا والمغزل يطرد الشيطان ويذهب بحديث النفس. الحثّ على سترهنّ ومنعهنّ من الخروج ودخل ابن أم مكتوم على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعنده بعض نسائه فأقامها فقالت: إنه أعمى فقال: أعمى أنتن. وقال سلمان: النساء عيّ وعورة فداووا العي بالسكوت والعورة بالبيوت. وقال سعيد بن سلمان: لأن يرى حرمي مائة رجل مكشوفات خير من أن ترى حرمتي رجلا غير منكشف. وقيل للحطيئة: ما تركت على بناتك؟ قال العري فلا يرحن، والجوع فلا يمرحن. وقيل لآخر: فقال: الحافظين العرى والجوع. ميل الزوج إلى زوجته أو إلى أبويه روى نافع أن ابن عمر جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنّ أبي أمرني أن أطلق امرأتي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 فقال: طلقها يا عبد الله. وروي أن رجلا أتى أبا الدرداء فقال: أمي أمرتني أن أطلق امرأتي. فقال: سأحدثك بشيء سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الوالدة وسط باب الجنة فاحفظ ذلك الباب إن شئت أو ضيّعه. قال: بل أحفظه فطلقها. تزوج ابن الفرزدق فمال إلى امرأته وتحامل على أبيه فقال فيه: ولمّا رآني قد كبرت وأنّه ... أخو الجنّ واستغنى عن المسح شاربه أصاخ لعريان النجى فإنّه ... لا زورّ عن بعض المقالة جانبه وكان صخر طعن فمكث زمانا عليلا فسمع امرأته تقول لأخرى وقد سألتها عنه: كيف أصبح؟ فقالت لا حي فيرجى ولا ميت فينسى. ورأى تحرّق أمّه عليه فقال: أرى أمّ صخر ما تملّ عيادتي ... وملّت سليمى مضجعي ومكاني وما كنت أخشى أن أكون جنازة ... عليك ومن يغترّ بالحدثان أهمّ بأمر الحزم لو استطيعه ... وقد حيل بين العير والنّزوان فأي امرئ ساوى بأمّ حليلة ... فلا عاش إلا في أذى وهوان لعمري لقد نبهت من كان نائما ... وأيقظت من كانت له أذنان وللموت خير من حياة كأنّها ... مغرس يعسوب برأس سنان ثم برأ من علّته فطلقها. قال محرر بن النعمان: إذا سويت صاحبتي بأمّي ... فقام عليّ قبل الصبح ناعي فأمّ المرء باكية عليه ... وخلّته تصدّى بالقناع المؤتمر لامرأته والممتنع من ذلك كان الأحنف مطيعا لجاريته زبراء فقيل له في ذلك فقال: كيف لا أطيع من لي إليه في كل يوم حاجة. قال شاعر: أقامت زوجها مرّة ... وقامت موضع الرجل قال أبو تمّام: مرأته نفّذت أمرها ... حتّى ظننّا أنّه امرأتها قال الشنفرى: إذا ما جئت ما أنهاك عنه ... ولم أنكر عليك فطلّقيني فأنت البعل يومئذ فقومي ... بسوطك لا أبا لك فاضربيني فتنتهن ّ قال صلّى الله عليه وسلّم: ما تركت بعد فتنة أضرّ على الرجال من النساء. وقال: أوثق سلاح إبليس النساء. وقال: النساء حبائل الشيطان. ونظر بقراط إلى رجل يكلم امرأة فقال له: تنحّ عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 هذا الفخ لا تقع فيه. وقال لقمان: كن من خيار النساء على حذر، فأنت من شرارهنّ على يقين. وقال رجل: ما دخل داري شرّ قط. فقال له حكيم: ومن أين دخلت امرأتك؟ وصفهنّ بغلبة الرجال قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ما من ناقصة العقل والدين أغلب للرجال ذوي الأمر من النساء. وقال معاوية في وصفهن: يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام. قال شاعر: ويجمعن ضعفا واقتدارا على الفتى ... أليس عجيبا ضعفها واقتدارها قال الرشيد: ما لي تطاوعني البريّة كلّها ... وأطيعهنّ وهنّ في عصياني ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ... وبه غلبن أعزّ من سلطاني قال الموسوي: معاداة الرجال على الليالي ... أطيق ولا معاداة النّساء التحذير من الاعتماد عليهن وذمهن ّ قال أمير المؤمنين: لا تطيعوا النساء على حال ولا تأمنوهنّ على مال، ولا تذروهنّ يدّبرن العيال، فإنهن إن تركن وما يردن أو زدن المهالك وأزلن الممالك، لا دين لهنّ عند لذاتهنّ، ولا ورع لهنّ عند شهواتهنّ، ينسين الخير ويحفظن الشر، يتهافتن في البهتان ويتمادين في الطغيان، ويتصدين للشيطان. وقيل: من أطاع عرسه لم ينفع نفسه. وعارضت امرأة عمر في أمر يديره فقال: ما لكن وأمور الرجال أنما أنتن لعبة إن كانت لنا بكنّ حاجة دعوناكن- قال المتنبيّ: وللخود منّي حاجة ثم بيننا ... فلاة إلى غير اللقاء تجاب الحثّ على مخالفتهنّ قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: شاورهن وخالفوهنّ. وقيل: إيّاك ومشاورة النساء فإن رأيهن إلى أفن «1» وعزمهن إلى وهن. وقيل أكثروا لهنّ من لا فإن نعم تغريهنّ بالمسألة. قال أجدع الهمداني: تعيّرني بالغزو عرسي وما درت ... بانّي لها في كل ما أمرت ضدّ ذمهنّ بالجهل والاعوجاج قيل: إذا وصفت المرأة بالعقل فهي غير بعيدة من الجهل. وقيل: لا تدع المرأة تضرب صبيا فإنه أعقل منها. وفي الحديث: خلقت المرأة من ضلع معوج فلّما أرادت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 تقويمه انصدع. وقال صلّى الله عليه وسلّم: النساء شر كلهنّ وشر ما فيهن قلّة الاستغناء عنهنّ. وقيل: تعوّذ من شرار النساء، وكن من خيارهن على حذر. ورأى سقراط امرأة تحمل نارا فقال: نار تحمل نارا، والحامل شرّ من المحمول. وقيل له: أي السباع شر؟ قال: المرأة. وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: النساء حبائل الشيطان. وقيل: شرّ أخلاق الرجال الجبن والبخل وهما خير أخلاق النساء. وقيل: المرأة إذا أبغضتك آذتك وإذا أحبتك خانتك فحبّها أذى وبغضها داء. قال شاعر: إن النساء وإن حسبن صوالحا ... فيما يحلّ من الأمور ويحرّم لحم تطيف به كلاب جوّع ... إن لم يذدن فإنه متقسّم النهي عن حمد النساء قال لقمان: شيئان لا يحمدان إلا عند عاقبتهما: الطعام والمرأة، فالطعام لا يحمد حتى يستمرأ والمرأة لا تحمد حتى تموت. وفي المثل: لا تحمد أمة عام شرائها ولا حرة عام بنائها. وصفهن بكونهنّ ناقصات قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنهنّ ناقصات دين وعقل. فقيل: وما نقصان دينهن وعقلهنّ؟ قال: إن إحداهن تقعد نصف شهر لا تصلّي، وأما نقصان عقولهن فشهادة المرأتين تقوم مقام شهادة الرجل الواحد. وقال وهب بن منبه: قد عاقب الله النساء بعشر خصال: بشدة النفاس والحيض وجعل ميراث إثنتين ميراث رجل وشهادتهما بشهادة رجل واحد، وجعلها ناقصة الدين والعقل لا تصلي أيام حيضها ولا يسلم عليها وليس عليها جمعة ولا جماعة ولا يكون منهن نبيّ، ولا يسافرن إلا بوليّ. وصف الموافية للزوج الحسنة الخلق قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: خير النساء الهينة العفيفة المسلمة، تعين أهلها على العيش ولا تعين العيش على أهلها. وقال معاوية رضي الله عنه لصعصعة: أيّ النساء أشهى؟ قال: المواتية لما تهوى والمجانبة لما لا ترضى. وتزوّج رجل سيء الخلق امرأة فقال: أما أني سيء الخلق، فإن كان عندك شيء من الصبر على المكروه وإلا فلست أغرّك من نفسي فقالت: أسوأ خلقا منك من أحوجك إلى سوء الخلق. فتزوّجها، فما جرى بينهما وحشة للموت. وقال شريح: تزوجت امرأة صغيرة فلما بنيت بها قالت: عرفني خلقك لأعلم على مداراتك، فعرفتها فبقيت معها سنة لا أزداد فيها إلا شغفا فدخلت يوما فرأيت عندها عجوزا فقلت: من هذه؟ قالت أمي: فسلمت عليها فدعت لي وقالت: كيف رضاك عن صاحبتك؟ فشكرتها. فقالت: أسوأ ما تكون المرأة خلقا إذا حظيت عند الزوج وإذا ولدت فإن رابك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 منها شيء، فعليك بالسوط فقلت: أشهد أنها بنتك فقد كفيتني الرياضة. وصف المخالفة السيئة الخلق قال الأصمعي: رأيت رجلا يطوف بالبيت يحمل شيئا كبيرا، يقول له: أعييتني صغيرا وكبيرا. فقلت له: أحسن إليه فطالما أحسن إليك. فقال: من تراه لي؟ فقلت: هو أبوك أو جدّك. فقال: بل هو ابني. فقلت: ما صيّره إلى ما أراه، قال: سوء خلق امرأته. وقال رجل لأبيه تزوجت امرأة سيئة الخلق فقال: عجّل طلاقها فإنها تهرمك قبل الهرم، وتذهب عنك بجماع الكرم. وروي أن حكيما زوج ثلاث بنين، فلما كان رأس الحول سأل الأول عن امرأته فقال: هي امرأة من خير النساء إلا أنها خرقاء لا تعمل شيئا فقال: أنزلها في بني فلان فإن نساءهم صناع لتتعلّم. وسأل الثاني فقال: إنها لا تدفع يد لامس فقال: أنزلها في بني فلان فإن نساءهم عفيفات. وسأل الثالث فقال: سيئة الخلق، فقال: طلقها فهذا شيء لا حيلة له. شكر أحد الزوجين الآخر قيل لامرأة: كيف زوجك؟ قالت: إذا دخل فهد وإذا خرج أسد. وقيل للأخرى: فقالت: جمل ظعينة وليث عرينة، وقيل للأخرى. فقالت: هو سكوت خارجا ضحوك والجا. وسئل رجل عن امرأة فقال: أفنان أثلة «1» ، وجنى نحلة، ومس رملة «2» ، وكأني قادم في كل ساعة من غيبة. وطلق رجل امرأة فلما أرادت الإرتحال قال لها: إسمعي وليسمع من حضر إنّي والله اعتمدتك رغبة، وعاشرتك محبة، ولم يوجد مكاني منك زلّة، ولم يدخلني منك ملّة، ولكن القضاء كان غالبا. فقالت المرأة جزيت من صحوب خيرا، فما استربت خيرك، ولا شكوت خيرك ولا تمنيت غيرك وليس لقضاء الله مدفع، ولا من حكمه ممنع ثم تفرقا. ذمّ أحد الزوجين الآخر شكت امرأة زوجها فقالت: هو قليل الغيرة سريع الطيرة، كثير العتاب، شديد الحساب إسترخى ذكره وأقبل زفره وبخره وطمحت عيناه، واضطربت رجلاه، يأكل همسا ويمشي خلسا، ويصبح رجسا، إن جاع جزع، وإن شبع خشع. وقالت امرأة: زوجي قصير الشبر، ضيق الصدر، لئيم النجر، عظيم الكبر، كثير الفخر، وقالت امرأة لرجل: إنك لضيق الفناء صغير الإناء قبيح الثناء فقال: وأنت واهية العقد قليلة الرفد، مجانبة للرشد. وقال امرؤ القيس لامرأته وقد فركته: ما تكرهين مني؟ قالت: إنك سريع الإراقة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 بطيء الإفاقة، ثقيل الصدر، خفيف العجز فقال: وأنت حديدة الركبة، واسعة الثقبة، سريعة الوثبة قبيحة النقبة. شؤم أحد الزوجين على الآخر تزوج امرأة رجل قد مات عنها خمسة أزواج فمرض السادس فقالت: إلى من تكلني قال: إلى السابع الشقيّ. وتزوج أعرابي أربعة نسوة متن عنده، ثم تزوج امرأة مات عنها خمسة أزواج فقال: بوازل أعوام أذاعت بخمسة ... وتعتدّني إن لم يق الله شائيا ومن قبلها أهلكت بالشّؤم أربعا ... وواحدة أعتدّها في حسابيا كلانا مظل مشرف لغنيمة ... ويقضي إله الخلق ما كان قاضيا وقيل: رأت عائشة بنت الفرات ثلاثة ألوية كسرت على صدرها، فسألت أمّها ابن سيرين. فقال: يتزوجها ثلاثة من الأشراف يقتلون عنها، فتزوجها يزيد بن المهلّب، ثم عمرو بن يزيد الأسدي فقتلا، وتزوجها الحسن بن عثمان الزهري فجرى بينهما يوما كلام فقالت: والله لتقتلن وأخبرته فطلقها. وتزوجها العباس بن عبد العزيز فقتل. وروي أن أم حبيب بنت قيس العدوية قالت: لا أنكح إلا العدويين المحمدين، فنكحت محمد بن عمرو بن العاص ففارقها، ثم محمد بن خليفة فقتل، ثم محمد بن أبي بكر فقتل، ثم محمد بن جعفر بن أبي طالب فمات، ثم محمد بن إياس فتوفيت معه. وكان ابن عمر يقول: من أراد الشهادة الحاضرة فليتزوج بها. إمتناع أحد الزوجين من التزويج بعد موت صاحبه يقال: ما وفت امرأة لزوجها إلا قضاعيتان: نائلة بنت الفرافصة أرملة عثمان فإنها قلعت ثنيتها بعد عثمان مخافة أن يخطبها رجل، وامرأة هدبة العذري فإنها لما رأت زوجها يقاد للقتل، أنشدها فلا تنكحي إن فرّق الدّهر بيننا ... أغمّ القفا والوجه ليس بأنزعا فعمدت إلى سكين فقطعت أنفها وقالت: كن آمنا من ذلك. فقال: الآن طاب ورود الموت. وتزوّج رجل بابنة عمّ له يقال لها رباب وتعاهدا على أن لا يتزوج أحدهما بعد موت الآخر فمات الرجل، وأكرهت المرأة على التزويج فلما كان ليلة الزفاف رأت في منامها أن ابن عمها آخذ بعضداتي الباب، فأنشد: حييت سكان هذا البيت كلّهم ... إلا الرباب فإنّي لا أحيّيها أمست عروسا وأمسى منزلي خربا ... ولم تراع حقوقا كنت أرعيها فانتبهت مذعورة، وحلفت أن لا تجمع رأسها ورأس الرجل وسادة. وكان شيرويه لما قتل أباه سكرى أراد أن يتزوج بشيرين امرأة أبيه، فقالت له: على ثلاث شرائط: أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 تحضر الحكماء فأخطئهم في معاونتهم إياك على قتل أبيك حتى لا يجرؤا على مثله فيك، وأن تستحضر لي نساء الكبار لأشتفي بالبكاء عليه، وأن تأذن لي في حضور المكان الذي مات فيه مرة فقال كلّ ذلك لك. فلما خطأتهم، وبكت عليه، وحضرت المكان الذي مات فيه أخرجت فصا مسموما فمصّته فماتت مكانها، وكانت قد عمدت إلى سمّ فوضعته في بعض الخزائن وكتبت عليه: إن من تناول منه وزن دانق أعانه على الجماع فلما ظفر به تناول منه فمات في مكانه. المتزّوج منهما بعد موت الآخر ماتت امرأة لرجل وكان عاهدها أن لا يتزوج بعدها فخطب امرأة في جنازتها فعوتب في ذلك فقال: خطبت كما لو كنت قد متّ قبلها ... لكانت بلا شك لأوّل خاطب إذا غاب بعل جاء بعل مكانه ... ولا بدّ من آت وآخر ذاهب ومات زوج امرأة فراسلها في ذلك اليوم رجل يخطبها فقالت: هلا سبقت فإني قد قاولت غيرك. فقال: إذا مات الثاني فلا تفوّتيني. ذمّ التطليق وشدّته قال صلّى الله عليه وسلّم: ما من حلال أبغض إلى الله من الطلاق، وقال صلّى الله عليه وسلّم: ما خلق الله شيئا أحب إليه من العتاق، وما خلق الله شيئا أبغض إليه من الطلاق. وروي عنه أيضا: لا تطلقوا النساء إلا من ريبة، فإن الله لا يحب الذوّاقين والذوّاقات. وقال عمر لرجل طلق امرأته: لم طلقتها؟ قال: لا أحبها. فقال: أكلّ البيوت بنيت على الحب. أين الرعاية والذمم؟ وقال الشاعر: وما لذعت أنثى من الدّهر لذعة ... أشدّ عليها من طلاق تزود مدح التطليق كان الحسن رضي الله عنه مطلاقا وقال: إن الله علق بهما الغنى وتقدّم وقال عامر بن الظرف: أجمل القبيح الطلاق. وأملى أبو العجل خطبة للنكاح فقال: الحمد لله الذي جعل في الطلاق اجتلاب الأرزاق، فقال: وأن يتفرقا يغن الله كلا منه سعته. أوصيكم عباد الله بالسلوة والملالة والتجنّي والجهالة واحفظوا قول الشاعر: إذهبي قد قضيت منك قضائي ... وإذا شئت أن تبيني فبيني تعاهدوا نساءكم بالسبّ وعادوهنّ بالضرب، وكونوا كما قال الله تعالى: وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ «1» ثم إن فلانا في خمول نسبه ونقص أدبه خطب إليكم فازهدوا فيه فرّق الله ذات بينهما وقرّبهما من حينهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 الحثّ على تطليق غير الموافقة قال مرثد لرجل شكا إليه سوء خلق امرأته: بخّرها بمثلة. قال شاعر: ودواء لا تشتهيه النفس تعجيل الفراق أنشد دعبل يزيد بن مرثد قوله: عكليّة جهم محيّاها فقال: طلقها قال: ليس لي مال فدفع إليه مالا فقال: طلقتها ألف مرة. المتبرّم بالمرأة المتمني طلاقها قال أبو سراعة: أيّ طير جرى بقربك حتّى ... يسّر الله للرماة جناحه وقال: أحرزت كفّاي منها ... حرّة غير سريّة سنّها سنّ عجوز ... وهي في العقل صبيّه حبّذا التطليق لولا ... خلة فيه رديّة وقال: لقد كنت محتاجا إلى موت زوجتي ... ولكنّ علق السوء باق معمر فيا ليت أنّ اللحد قد صار بيتها ... وعذّبها فيه نكير ومنكر ومرضت امرأة لبعض الاعراب فسمعها تقول: أموت فقال: إذا متّ فالجرعاء منك قريبة ... وفي بيتنا للغانيات معاد وقال جران العود يخاطب امرأة: يقولون في البيت لي نعجة ... وفي البيت لو يعلمون النّمر أحبّي لي الخير أو أبغضي ... كلانا لصاحبه ينتظر من طلّق امرأته فسرّ بذلك قال شاعر: رحلت أميّة بالطّلاق ... وعتقت من رقّ الوثاق «1» بانت فلم يألم لها ... قلبي ولم تبك المآق لو لم أرح بفراقها ... لأرحت نفسي بالأباق وخصيت لا أري ... د حليلة حتّى التلاق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 وكان قتادة بن معروف تزوج امرأة ففركها من ليلة فطلّقها ولما أصبح قال: تجهّزي للطّلاق واصطبري ... هذا دواء الجوامح الشّمس لليلة البين إذ هممت به ... أطيب عندي من ليلة العرس وتزوج رجل امرأة فلما دخل بها وجدها قبيحة سيئة الخلق، فقال: إمضي إلى سقر فإنّك بائن ... ومطلّق وخلية وحرام «1» والقول قول أبي حنيفة عندنا ... إذ ليس فيها رجعة ولمام وكان رجل طلق زوجته ثلاثا وترافعا إلى القاضي فأخذ القاضي ينظر هل لقوله وجه فقال له: لا تتعب هي طالقه عشرين ألف مرة. فقال القاضي: قد خففت الأمر علينا. من أمر بمصابرة امرأته قالت أم التحف وكان ابنها تزوج امرأة على غير رضاهما وحمل نفسه ما لا طاقة له به ثم همّ بتطليقها تبرما بها: لعمري لقد أخلفت ظنّا وسؤتني ... فخزت بعصياني الندامة فاصبر ولا تك مطلاقا ملولا وسامح ال ... قرينة وافعل فعل حرّ مسهر فقد حزت بالورهاء أخبث خشية ... فدع عنك ما قد قلت يا سعد واصبر تربّص بها الأيام على صروفها ... سترمي بها في جاحم متسعّر «2» من طلّق امرأته فندم جاء أعرابي إلى ابن أبي ذؤيب في مسألة طلاق زوجته فافتاه بطلاقها، فقال: أتيت ابن ذئب أبتغي الفقه عنده ... فطلق حبّي ليت بتّت أنامله أطلق في فتوى ابن ذئب حليلتي ... وعند ابن ذئب أهله وحلائله وقال راوية الفرزدق: قال لي الفرزدق: امض بي إلى حلقة الحسن فإني أريد أطلق نوار فقلت له: أخشى أن تتبعها نفسك. فقال: امض ولا تخف فمضيت معه فقال: السلام عليكم إعلم إني قد طلقت نوار ثلاثا. فقال: الحسن قد علمت فلما رجع، فقال: إني لأجد في نفسي شيئا من نوار ثم أنشأ يقول: ندمت ندامة الكسعيّ لمّا ... غدت منّي مطلقة نوار «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 وكانت جنّتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضرار «1» ولو أني ملكت يدي ونفسي ... لكان عليّ للقدر الخيار قرب تطليق امرأة من تزوجها زوج بعضهم ابنته عمرو بن عثمان فلما مضت إليه طلقها على المنصّة فجاء أبوها إلى عبد الله بن الزبير فقال: إن عمرو بن عثمان طلّق ابنتي في المنصة وأخشى أن يظنّ الناس أن ذلك لعاهة، وأنت عمّه فعاتبه. فقال: أو خير من ذلك ائتنوني بالمصعب فزوجها منه وأقسم ليدخلنّ بها من ليلته فما رؤيت امرأة نصت على رجلين في ليله سواها. وتزوج الوليد في خلافته نيفا وسبعين امرأة فلما دخل بالآخرة وأراد أن يقوم أخذت بثوبه وقالت: ما ترى؟ أقم لك كفيلا أن لا تأمر بتسريحي. فضحك واستملحها وأمسكها أربعة أشهر ثم طلقها بعد ذلك. مراجعة المرأة بعد طلاقها قال الله تعالى: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ «2» . وسبب ذلك أن أحدهم كان إذا أراد أذية امرأة طلّقها فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها، ثم طلّقها، ثم راجعها، طلبا لأذيّتها. وقيل: إن الحسن بن علي طلّق امرأتين قرشية وجعفية فأرسل إلى كل واحدة عشرين ألفا، وقال للرسول: إحفظ ما تقول كل واحدة. فقالت القرشية: جزاه الله خيرا وقالت الجعفية. متاع قليل من حبيب مفارق، فراجع الجعفية، وتزوج عبد الله بن أبي بكر عاتكة بنت زيد بن عمرو وقد ألفها حتى اشتغل بها عن كل شيء فقال له أبوه: طلقها، فطلقها. وقال: فلم أر مثلي طلّق اليوم مثلها ... ولا مثلها في غير شيء يطلق فقال أبوه راجعها يا بني فإنّي أراك محبّا لها. تفويض الطلاق إليها روي عن عائشة رضي الله عنها لما أنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ «3» (الآية) دخل النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي بشيء حتى تستشيري أبويك. قالت: وخشي النبي صلّى الله عليه وسلّم حداثة سنّي فقلت: يا رسول الله وما ذاك؟ قال: إني أمرت أن أخيركن ثم تلا الآية علينا فقلت. فيم استشير أبوي بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة. فسر صلّى الله عليه وسلّم بذلك نساءه فتواترن عليه. كانت امرأة عند الحسن بن الحسين بن علي فضجرت عليه يوما فقال: أمرك في يدك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 فقالت: أما والله لقد كان في يدك عشرين سنة فحفظته وما ضيّعته أفأضيعه في ساعة واحدة صار في يدي، قد رددت عليك حقك، فأعجبه قولها. طلاق السنة قال الله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ «1» . وقيل: طلاق السنة أن يطلقها وهي طاهر ثم يدعها حتى تنقضي عدتها أو يراجعها إذا شاء. وروي أن ابن عمر طلّق امرأته وهي حائض، فأتى عمر النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: مره فليراجعها، حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء طلقها قبل أن يراجعها، وإن شاء أمسكها، فإنها العدّة التي أمر الله بها. الطلاق الثلاث قال ابن عباس: كان الطلاق في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث. واحدة، فقال عمر: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم، وروى عكرمة عن ابن عبّاس قال: طلق ركانة امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا فسأله النبي صلّى الله عليه وسلّم كيف طلقتها؟ فقال: طلقتها ثلاثا فقال: في مجلس واحد؟ فقال: نعم. قال: فإنما تلك واحدة فإن شئت فراجعها. وقال ابن عباس: إنما الطلاق عند كل طهر فتلك السنة التي عليها الناس والتي أمر الله بها. أحوال الطلاق قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ثلاث ليس فيهن لعب من تكلم بشيء منهن لاعبا فقد وجب عليه الطلاق والعتاق والنكاح. وأما طلاق المكره فغير واقع لقوله صلّى الله عليه وسلّم: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وقال صلّى الله عليه وسلّم: لا طلاق في إغلاق. وقال: لا طلاق لامرئ في ما لا يملك، ولا عتاق فيما لا يملك، وروي: من طلق ما لا يملك فلا طلاق له. منع الزوج منها بعد الثلاث إذا طلق الرجل المرأة ثلاثا، فلا يحلّ له أن يراجعها حتى تنكح زوجا غيره قال الله تعالى: فَلا تَحِلُّ لَهُ «2» (الآية) وروي أن رفاعة القرظي طلق امرأته فبت طلاقها، فتزوجها بعد رفاعة عبد الرحمن بن الزبير، فجاءت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله إني كنت عند رفاعة فطلّقني وإنه ليس معه إلا مثل هدبة الثوب فتبسّم النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك. وأبو بكر جالس عند النبي صلّى الله عليه وسلّم وخالد بن سعيد بن العاص جالس على باب الحجرة لم يؤذن له، فطفق خالد يتأذى ويقول: ألا تزجر هذه عمّا تجاهر به الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وروي أنها جاءت بعد فأخبرته أن قد مسّها فقال: اللهم إن كان ما بها إلا أن تحلها الرفاعة فلا تتم لها نكاحه مرة أخرى فلم يتفق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 تزوجه بها. وسئل صلّى الله عليه وسلّم عن المحلل فقال: لا إلّا نكاح رغبة ولا مستهزئ بكتاب الله لعن الله المحلّل والمحلّل له، وفي حديث آخر المستحل والمستحل له. مراجعة المرأة روى عن أنس قال: طلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حفصة فرجعت إلى أهلها فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ «1» . وقيل له: راجعها فإنها صوّامة قوّامة وأنها إحدى نسائك وأزواجك في الجنة. ذمّ المريدة لطلاق زوجها والمختلعة قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أيّما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس، حرم الله عليها رائحة الجنة وروي أن حبيبة كانت تحت ثابت بن قيس فكرهته، فجاءت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: لا أنا ولا ثابت، ولولا مخافة الله لبصقت في وجهه. فقال: أتردين عليه الحديقة التي أصدقك؟ قالت: نعم. فجمع بينهما فردت عليه الحديقة وفرّق بينهما. فكان أول خلع وقع في الإسلام. العدّة كانت المرأة إذا مات زوجها تعمد إلى أخشن ثيابها فتلبسه وتقعد في البيت سنة، فإذا كان رأس الحول خرجت ورمت ببعرة على حمار وقالت: قد حللت الآن. ثم أنزل الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً «2» (الآية) وروى أن امرأة توفي عنها زوجها فشكت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنها اشتكت عينها فهل لها أن تكتحل؟ فقال: كانت إحداكنّ تمكث في بيتها في شر أحلاسها حولا، فإذا مر كلب رمته ببعرة ثم خرجت أفلا أربعة أشهر وأما عدة المطلقة فثلاثة قروء. وعند الشافعي رضي الله عنه القرء الطهر، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه الحيض. وأهل اللغة يعدون هذه اللفظة من الأضداد وقوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ «3» في المطلقة والمتوفى عنها جميعا. الظهار والإيلاء كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية: أنت عليّ كظهر أمي حرّمت عليه. وكان أول من ظاهر في الإسلام أوس ابن الصامت وكانت ابنة عم له تحته يقال لها خولة فظاهر منها فسقط في يده، وقال: ما أراك إلا قد حرمت عليّ فانطلقي إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فسليه فأتته صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا خولة ما أمرنا في أمرك بشيء فأنزل الله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها «4» ، فقال لها ادعى زوجك فدعته فقال: هل تجد رقبة تعتقها؟ فقال: لا أملك رقبة غير هذه، وضرب بيده على عنقه فقال له: تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين، فقال إذا لم آكل في اليوم ثلاث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 مرات غشي عليّ، فقال: أطعم ستين مسكينا فقال والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا وحشا ما لنا طعام. فدفع إليه خمسة عشر صاعا فقال ما بين لابنيها أحوج إليه منّي فقال: كله أنت وعيالك. والإيلاء هو أن يحلف أن لا يجامع امرأته أربعة أشهر وما كان دون ذلك فليس بإيلاء ومتى حلف كذلك فقد قال الله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ «1» الآية. (3) وممّا جاء في العفّة قال صلّى الله عليه وسلّم: من حفظ ما بين لحييه ورجليه دخل الجنّة. وقال: من وقي شر لقلقه وقبقبه وذبذبه فقد وقى شرة الشباب. وسئل عن أكثر ما يدخل الرجل النار فقال: الأجوفان الفم والفرج. وقيل لبطليموس: ما أحسن أن يصير الإنسان عما يشتهي؟ فقال: أحسن منه أن لا يشتهي إلا ما ينبغي، وقيل في قوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ «2» قيل: هو الرجل يخلو بالمعصية فيتركها خوفا من الله رجاء ثوابه وخوف عقابه. وقال ابن عباس: الشيطان من الرجال والنساء في ثلاثة منازل في النظر والقلب والفرج. وقال صلّى الله عليه وسلّم: العينان تزنيان والرجلان تزنيان ويحقق كل ذلك الفرج. وكان طاوس تمثلت إليه امرأة تراوده فواعدها يوما إلى رحبة المسجد فلّما حضرت إليه قال: إنخضعي. قالت: ههنا قال: نعم إن الذي يرانا ههنا يرانا في الخلا فاقشعرت المرأة وانزجرت وتابت. من تعفّف عند مشارفة بلوغ الشهوة قال الله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها «3» ، لولا أن رأى برهان ربه. واجتمع بعض الأعراب بامرأة فلما قعد منها مقعد الرجل من المرأة ذكر معاده، فاستعصم وقام عنها، وقال: إن من باع جنّة عرضها السموات والأرض بمقدار فتر بين رجليك لقليل البصر بالمساحة. وكان سليمان بن يسار مفتي المدينة من أحسن الناس وجها فدخلت إليه امرأة فسامته نفسه وقالت: إن لم تطاوع لأخبرنّ الناس أنك فعلت ولأفضحنك. قال: نعم وتركها في البيت وخرج وفرّ ثم رأى في منامه يوسف عليه السلام فقال له: يا يوسف أنت الذي هممت فقال له: وأنت الذي لم تهم. وقال رجل لسقراط: إني تفرست فيك أنك تميل إلى الزنا فقال له صدقت فراستك إني أشتهيه ولكني لا أفعله. وقلت لبعض المتصوفة إنك لوطي فقال: ما تقول في لص لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 يسرق هل يلزمه القطع؟ ومرّ القس بسلامة المدنية وهي تغني فأعجبته وطرب وقال: والله إني أحبك. فقالت: نفسي بين يديك فما يمنعك؟ فقال: يمنعني قول الله تعالى الإخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين، وأخاف أن تكون خلتنا اليوم عداوة يوم القيامة. امرأة تعرّض لها رجل فدعته إلى العفاف قال أعرابي: خرجت في ليلة بهيمة فإذا أنا بجارية كأنها علم فراودتها فقالت: أما لك زاجر من عقل إن لم يكن لك ناه من دين؟ فقلت: أنه لا يرانا إلا الكواكب فقالت: وأين مكوكبها؟ ونزل أسدي بطائيّة في يوم صائف فاتته بقرى «1» ففتنته بعينيها من وراء البرقع فراودها «2» ، فقالت: أما يردعك الكرم والإسلام؟ كل وأقل وإن أردت غير ذلك فارتحل. وروي أن أبرويز راود امرأة على الفجور، فقالت: أيها الملك إن المرأة طبعت على ثلاثة أجزاء من الإنسانية فإذا افتضت ذهب جزء، وإذا حبلت ذهب جزء وإذا ولدت ذهب جزء، وقد أبيت عن ذلك. فأنا أعيذ الملك أن يخرجني من حد الإنسانية. وقيل: انقطع بعض أولاد الملوك عن أصحابه ودخل إلى منزل امرأة فراودها، فقالت: حتى نتغذى. فوضعت له خوانا عليه عشرون سكرجة «3» كلها كامخ فذاقها فرآها لونا واحدا، وطعما واحدا ففطن إلى أنها تشير إلى أن النساء لون واحد وأن الذي معها مع زوجته، فانكفّ عنها. الممدوح بذلك قال شاعر: خلوت بها ليلا ولم أقض حاجة ... ولست على ذاك العفاف بنادم قال المتنبيّ: عفيف تروق الشمس صورة وجهه ... فلو نزلت يوما لحاد إلى الظلّ وقال: كم حبيب لا عذر في اللوم فيه ... لك فيه من التّقى لوّام وسمعت امرأة رجلا ينشد: وكم ليلة قد بتّها غير آثم ... بمهضومة الكشحين ريّانة القلب قالت له: خزاك الله ألا تأثمت. من تعفّف عن امرأة حراما فأوصله الله إليها حلالا كان لأمير المؤمنين عليه السلام جارية وعلى بابها مؤذن إذا اجتازت به يقول لها: أنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 أحبّك فحكت الجارية لأمير المؤمنين فقال لها: قولي له وأنا أحبك، فماذا؟ فقالت له، فقال: نصبر إلى يوم يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب. فأخبرت أمير المؤمنين بذلك فدعاه وقال: خذ هذه الجارية فهي لك. صعوبة الأمر على من اجتمع فيه العفّة والغزل نظر محمد بن عبد الله بن الحسين إلى امرأة جميلة فأعجبته، فقال: أهوى هوى الدين واللذّات تعجبني ... فكيف لي بهوى اللذات والدّين فقالت يا هذا دع أحدهما تنل الآخر. قال المتنبيّ: إذا كنت تخشى العار في كلّ خلوة ... فلم تتصبّاك الحسان الخرائد «1» متى يشتفي من لاعج الشوق في الحشى ... محبّ له في قربه متباعد المتعفّف عن الجارة مرّ سفيان بن عيينة بدار فسمع قينة تغني: ما ضرّ قوما كنت جارهم ... أن لا يكون لبيتهم ستر ناري ونار الجار واحدة ... وإليه قبلي ينزل القدر فدقّ الباب وقال مثل هذا علموا فتيتكم. قال حاتم الطائي: وما تشتكيني جارتي غير أنّني ... إذا غاب عنها زوجها لا أزورها سيبلغها خيري فيرجع بعلها ... إليها، ولم ترسل عليها ستورها وقال: ربّ بيضاء فرعها يتثنّى ... قد دعتني لوصلها فأبيت «2» لم يكن بي تحرّج غير أنّي ... كنت خدنا لزوجها فاستحيت «3» قال أبو تمّام: بيضاء كان لها من غيرها حرم ... ولم يكن يستحلّ الصيد في الحرم التغازل بالنظر والقول دون الفعل قيل لأعرابي: ما الزنا عندكم؟ فقال: الشمّة والضمّة والقبلة. فقيل: لكن أهل القرى يعدون ذلك المباضعة فقال: ليس ذلك زنا إنما هو طلب ولد. وقالت جارية لرجل: إن كانت الغلمة هاجت بكم ... فعالج الغلمة بالصّوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 ليس بك الحبّ ولكنّما ... تدور من هذا على الكوم «1» وقيل: إن عمر بن أبي ربيعة لما اشتدّ به المرض بكى أخوه فرفع طرفه وقال: لعلك تشفق مما قلته في شعري؟ قال: نعم. قال: عتق ما أملك أن وطئت امرأة حراما قط. فقال: الحمد لله هوّنت عليّ. وقال أبو زيد: كان الرجل إذا عشق جارية فراسلها سنة رضي بأن تمضغ علكا فتبعثه إليه، والآن لا يرضى ألا أن يشيل رجليها كأنه قد أشهد على نكاحها أبا هريرة وحزبه. وقال أعرابي: خلوت الليلة بفلانة فكان القمر يرينيها فلّما غاب خلفته. قيل: فما جرى؟ قال: الإشارة بغير بأس والتقرب بلا مساس. قال ابن طباطبا: فطربت طربة فاسق متهتّك ... وعقدت حبوة ناسك متحرّج والله يعلم كيف كانت عفّتي ... ما بين خلخال هناك ودملج قال العباس بن الأحنف: أتأذنون لصبّ في زيارتكم ... فعندكم شهوات السمع والبصر لا يضمر السوء إن طال الجلوس به ... عفّ الضمير ولكن فاسق النّظر وقال أبو عيينة: إن تروني فاسق العينين فالفرج عفيف ... ليس إلا النظر الفاسق والشعر الظريف وقال الحصين بن سهم: وما في اكتحال العين بالعين ريبة ... إذا عفّ فيما بينهنّ السّرائر امرأة شارفت شهوة فارتدعت لكرم أو ديانة حكي أن امرأة عشقت فتى فدعاها يوما فأجابته فغنّى مغنّ عندهما: من الخفرات لم تفضح أخاها ... ولم ترفع لوالدها ستارا «2» فلما سمعت ذلك أبت إلا الخروج ثم بعثت للرجل بألف دينار وقالت: هذا مهري، فإن أردتني فأخطبني من أبي. واشترى عبد الملك جارية فلما خلا بها، قالت: يا أمير المؤمنين ما منزلة أرفع منزلة من منزلة هذه. ولكن القيامة لها خطر. إنّ ابنك فلانا كان قد اشتراني وخلا بي ليلة فلا يحلّ لك مسّي. فاستحسن قولها وولّاها أمر داره. عفيفة ألقت بريبة عن نفسها لما أكثر الأحوص التشبيب بأم جعفر الخطميّة جاءته يوما متنقبّة وهو في نادي قومه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 فقالت: إدفع لي ثمن الأغنام التي ابتعتها منّي فقال: والله ما ابتعت منك شيئا. فقالت لقومه: قولوا له لا يجحد الحق. فقالوا: إن كان حق فلا تجحدنّه. فقال والله ما عرفتها قط فتكشفت عن وجهها وقالت: لعلك لا تستثبتني، فقولوا له يستثبتني فقالوا له: فقال: والله ما عرفتها قطّ ولا رأيتها ولا شاهدتها، فقالت: مالك تشبب بي وتفضحني؟ فخجل وانزجر ولم يعد وكذّبته عشيرته. امرأة لطيفة القول بعيدة التناول قال شاعر: يحسبنّ من لين الحديث زوانيا ... ويصدّهنّ عن الخنا الإسلام ومرّ عبد الله بن جعفر بامرأة مزيّنة مطيّبة جالسة على باب دارها وفي يدها سبحة، فقال: ما التسبيح بمشابه لحالك؟ فأنشدت: ولله عندي جانب لا أضيعه ... وللهو منّي جانب ونصيب ولست أبالي من رماني بريبة ... إذا كنت عند الله غير مريب وقال علي بن الجهم: وقلن لنا نحن الأهلّة إنّما ... نضيء لمن يسري بليل ولا نقري فلا بذل إلا ما تزوّد ناظر ... ولا وصل إلا بالخيال الذي يسري وزاد أبو سعيد الرستمي فقال: وحسناء لم تأخذ من الشمس شيمة ... سوى قرب مسراها وبعد منالها وقال المتنبيّ: كأنّها الشمس تعي كفّ قابضها ... لبعدها ويراها الطرف مقتربا مدح المرأة العفيفة قال الشنفرى «1» : لقد أعجبتني لا سقوط قناعها ... إذا ما مشت ولا بذات تلفّت كأن لها في الأرض نسيا تقصّه ... على أمّها أو إن تكلمك تنكت وقال جميل: خود من الخفرات البيض لم يرها ... بسدّة البيت لا بعل ولا جار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 وقال حسّان: حصان رزان ما تزن بريبة وقال الموسوي: دون القباب عفاف مع خلائقها ... والصوت تحفيظ ما لا تحفظ الخيم وكانت قرشية رأى شعرها رجل فحلقته وقالت: لا أريد شعرا اكتحل به نظر غير ذي محرم. من تجنّب العفة فاستوخم عقبى «1» أمره من ذلك خبر يسار الكواكب، وهو عبد تعرض لابنة سيده فقالت له: يا يسار شرب من هذا السمار وقل في ظل الأشجار وإيّاك وبنات الأحرار. فلما أبى دعته إلى نفسها، وكانت قد أعدت موسى فجبت به مذاكيره، فصار مثلا. وكان أبرويز اختبر رجلا فرآه زانيا خائنا فوسمه بسمة الزناة ونفاه من المدائن فأخذ موسى وجب نفسه وقال: من أطاع عضوا صغيرا فسدت سائر أعضائه فمات من ساعته. (4) وممّا جاء في الغيرة والتديث «2» مدح الغيرة قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا خير فيمن لا يغار. وقيل: كلّ حب بلا غيرة فهو حب كذاب. وقيل: لا كرم في من لا يغار. وقال قيس بن زهير لما تزوّج في غير قومه لامرأته: أنا غيور فخور أنف ولكني لا آنف حتى أضار، ولا أخفر حتى أفاخر، ولا أغار حتى أرى. وإنما عنى رؤية الإمارة لا رؤية المواقعة ودخول الليل في المكحلة. الحثّ على حفظ النساء إنّ الكريمة ربّما أزرى بها ... لين الحجاب وضعف من لا يحزم وكذاك حوضك إن أضعت فإنه ... يوطأ ويشرب ماؤه ويهدم مدح ترك الإفراط في الغيرة قيل: كثرة الغيرة إضجار وقلتها اغترار. وقال معاوية رضي الله عنه من السؤدد الضلع واندحاق البطن وترك الإفراط في الغيرة، قال مسكين الدارمي: ألا أيّها الغاير المستشيط ... على من تغار إذا لم تغر فما خير عرس إذ خفتها ... وما خير بيت إذا لم يزر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 يغار على النّاس أن ينظروا ... وهل يفتن الصالحات النظر فإنّي سأخلي لها بيتها ... فتحفظ لي نفسها أو تذر قال الخالدي: ما أراه إلا وكان يقول بالإباحة وإلا فلم يجوّز ما يأنف منه الأحرار. وقيل: إتهام الرجل المرأة في غير موضع التهمة يدعوها إلى ارتكابها. ترك الغيرة على القيان والتمدح بذلك أتى معاوية رضي الله عنه بالفيل فصعد سطحا ليرى الفيل فلما أشرف رأى في خزانة رجلا مع جارية له، فقال لها: يا فلانة هذا أخوك الذي كنت تذكرينه؟ قالت: نعم فقال: أصعد أيها الرجل فصعد، فقال: أعجزتك الأماكن كلها إلّا داري أتراك عائدا؟ قال: لا. فقال معاوية وعلى من يخرج هذا الحديث لعنة الله. قال شاعر: لا تغارنّ على جارية ... إنما الغيرة من سوء الخلق إقض أوطارك منها ثم قل ... إنما أنت لمرّار الطرق وقيل لبعض عشاق قينة: ألا تغار عليها؟ فقال: إمنع الناس عن ورود الفرات، وأنشد: وإذا ما أردت أن تمنع النا ... س ورود الفرات كنت بغيضا وقال آخر: أأمنع من وادي زبالة شربة ... وقد نهلت منه الكلاب وعلّت وكتب باج إلى غلام يعشقه وكان قد تهدّده بمواصلة غيره، فقال: لا تمنعنّ حمى إزارك سيدي ... خلقا من البيضان والسّودان فليبلغنّك من جميل تغافلي ... ما لم تبلغ قطّ من كشحان مالي أروّع بالقروع كأنّني ... في النّاس أول عاشق قرنان قال الخبزارزي: قالوا تحبّ فلا تغار فقل لهم ... لا يمنع الماعون عندي من عقل إن مسّه دنس الإجارة مرّة ... فالماء يغسل عذر ذاك إذا اغتسل منع المرأة من الاكتحال برؤية الرجل قال عمر: ولأن يرى امرأتي ألف رجل أحب إليّ من أن ترى امرأتي رجلا واحدا، وحج الأشجعي بامرأته فنظر إلى الناس يوم التروية فهاله كثرتهم فقال: إن رجلا يدخل امرأته وسط هؤلاء لمجنون وضرب وجه راحلته وعاد ولم يحج، وقال: وليس بحرّ من يوسّط زوجة ... له بين أهل الموسم المتقصد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 وفيهم رجال كالبدور وجوههم ... فمن بين ذي ظرف كثير وأمرد وفي غيرة النساء روي في الخبر: أيما امرأة غارت فصبرت دخلت الجنة. وقيل: غيرة النساء أشد من غيرة الرجال. وقيل: هذا خطأ فليس ما ينال المرأة إذا رأت امرأة على فراش زوجها، من جنس ما ينال الرجل إذا رأى رجلا على فراش امرأته. تزوّج رجل من همدان بنت عمه وكان محبا لها فلم يلبث أن ضرب عليه البعث إلى أذربيجان فأصاب بها خيرا واستفاد جارية تسمّى حبابة وفرسا يقال له الورد. فلما قفل القوم امتنع من القفول وقال أخشى أن امرأتي تمنع عليّ جاريتي، وإني لمشغوف بها، ثم قال: ألا لا أبالي اليوم ما صنعت هند ... إذا بقيت عندي حبّابة والورد شديد مناط المنكبين إذا جرى ... وبيضاء مثل الرّيم زيّنها العقد فسمعت بذلك المرأة فكتبت إليه: ألا فاقره منّي السلام قل له ... غنينا بفتيان غطارفة مرد «1» إذا شاء منهم ناشئ مدّ كفّه ... إلى كفل ريّان أو كاعب نهد فأرسل لنا منك السراح فإنّه ... منانا ولا ندعو لك الله بالردّ إذا رجع الجند الذي أنت فيهم ... فزادك ربّ النّاس بعدا إلى بعد فلّما وصل إليه الكتاب باع الجارية وبادر إليها فرآها معتكفة في مصلاها فقال: ما فعلت؟ فقالت: معاذ الله أن أركب محرّما ولكني أردت أذيقك طعم الغيرة كما أذقتني. وكان رجل بالكوفة متزوجا بابنة عمه وله ضيعة بالبصرة يخرج إليها في كل سنة، فتزوج امرأة بالبصرة فسقط خبرها إلى ابنة عمه فكتبت يوما كتابا عن أم البصرية تعزّيه في ابنتها وتستعجله لقسمة ميراثها ودفعته إلى رجل غريب وأمرته أن يوصله إليه خفية فلما قرأه تجهّز، وقال: إنّ أمر ضيعتي بالبصرة قد تشعّث، ولا بد من أن ألم بها. فقالت المرأة: كم تقول البصرة؟ أحسبك ذا امرأة بالبصرة تشتاق إليها أحلف لي بطلاق كل زوجة لك بالبصرة. فقال الرجل في نفسه: وما يضرني ذلك وقد ماتت امرأتي بها؟ فحلف لها فقالت: استقر الأمر فلا بأس بالضيعة وأخبرته بالخبر. جواز نهي الرجل عن التزويج بغير زوجته وخطر ذلك عليه روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صعد المنبر يوما فقال: إن بني هشام بني المغيرة استأذنوني أن ينكحوا فتاتهم عليا ألا فلا آذن ثم لا آذن ثلاثا إلا أن يحب عليّ أن يطلق ابنتي وينكح فتاتهم. إن فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها، وقال صلّى الله عليه وسلّم: جدع الحلال أنف الغيرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 الميل إلى كل ممنوع والرغبة عن كل مبذول قال ابن الطثرية: أعاف الذي لا هول دون لقائه ... وأهوى من الشّرب الحريز الممنّعا قال أبو تمّام: إني امرؤ أسم الصبابة وسمها ... وتغزّلي أبدا بغير المغزل غالى الهوى ممّا يرقص هامتي ... ورويّتي الشفف التي لم تنهل الرغبة عمّن يشركك فيه غيرك قال شاعر: تبعتك لمّا كنت عندي ممنّعا ... وأمسكت لمّا صرت نهبا مقسّما ولا يلبث الحوض الجديد بناؤه ... إذا كثر الورّاد أن يتهدّما قال دعبل: قصر الغواية عن هوى قمر ... وجد السبيل إليه مشتركا وقال: كيف أصفي الودّ ممّن ... لا آمن الشركة فيه وقال: فإن تحملي ردفين لا آل فيهما ... فسيري رويدا لست ممّن يرادف من غار على محبوبه من غيره قال شاعر: أغار عليك من الناظرين ... فلو أستطيع طمست العيونا قال ابن المعتز: أغار عليك من قبلي ... وإن أعطيتني أملي وأشفق إن رأى خدّي ... ك نصب مواقع المقل وقال جميل بن معمر: ما رأيت مصعب بن الزبير يمشي بالبلاط إلا لحقتني الغيرة على بثينة وهي بالجناب. وكان مالك ابن طوق شديد الغيرة تزوج بامرأة فلم يأذن لأخيها عليها إلا بعد سنة، قال عبد الرحمن بن أحمد بن يوسف: أغار على قميصك حين تلبسه وأتهمه قال شاعر: أغار على نفس لها وتغار لي ... على نفسها إن الهوى لعجيب على أننا لم ندن يوما لريبة ... ولا مثلنا فيمن يريب مريب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 وقال الخبزارزي: إنّي لأحسد ناظري عليكا ... حتّى أغضّ إذا نظرت إليكا الصائن محبوبه عن ذكره عند الرّجال وقال الحكيم بن نسير: ولست بواصف أبدا خليلا ... أعرّضه لأهواء الرّجال وما بالي أشوّق عين غيري ... إليه ودونه سجف الحجال كأنّي أشتهي الشركاء فيه ... وآمن فيه تغيير الليالي من رضي بميل محبوبه إلى غيره قال علي بن عبد الله بن جعفر: ولمّا بدا لي أنّها لا تحبّني ... وأنّ هواها ليس عنّي بمنجلي تمنيت أن تهوى هواي لعلّها ... تذوق صبابات الهوى فترقّ لي فعبر بهذا حتّى أنه كان يسمى المتديّث في شعره. قال: وكنت محبوسا في بعض الأحايين فجاء رجل إلى باب السجن، فقال أين المتديث في شعره؟ فقلت: لئن كان مني ذلك القول فإني أقول: ربّما سرّني صدودك عنّي ... وإذا ما خلوت كنت التمنّي وأنشد بحضرة عبد الملك بن مروان قول نصيّب: أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... فيا حربا ممن يهيم بها بعدي «1» فقال بعض من حضر لقد أساء القول بل كان ينبغي أن يقول: أوكل بدعد من يهيم بها بعدي فقال هذا أشرّ من الأول، بل يقال: فلا صلحت دعد لذي حلّة بعدي حكم لقاء الرجل بحرمته منكرا قال عبد الله كنا في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ دخل رجل فقال: أرأيتم إن وجد الرجل مع امرأته رجلا فتكلم به جلد ظهره، وإن قتل قتل وإن سكت سكت على غيظه. فقال: اللهم افتح فجعل يدعو فأنزل الله تعالى آية اللعان- وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ «2» (الآية) فجاء هو وامرأته إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فتلاعنا، فلما التفت قال: أنظروا فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الإليتين خدلج الساقين فلا أحسب عويمر إلا وقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 صدق عليها، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أحسب عويمر إلّا وقد كذب. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لرجل سأله عمن رأى رجلا مع امرأته: كفى بالسيف شيئا، أراد شاهدا فسكت تفاديا من أن تسبق الغيرة إلى الغيرة فيرتكبوا من ذلك محظورا. الرّضى بالتديّث روي أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم إنّ امرأتي لا ترّد يد لامس. قال: طلّقها. قال إني أحبها قال: فأمسكها إذا. وقال الجاحظ: إن جماعة من الرافضة يقولون بالوقاية إذا اعتلت امرأة أحدهم، استعار امرأة غيره بشريطة أن لا يتعرض للفرج بل لما دونه. ولما ملك قباذ خرج مزدك فدعا الفرس إلى الزندقة فقال: تبادلوا النساء والأموال فأجابوه. ودخل يوما مزدك فرأى أم أنو شروان فسأل قباذ أن يدفعها إليه فقبل قباذ وجلّه أن يتجافى عنها ففعل. فلما مات قباذ وتولى أنو شروان دخل مزدك فأمر أن يقتل. وقال: ما ذهبت ريح جورك من أنفي بعد فقتله وقتل مائة ألف من الزنادقة في غداة واحدة. وقال رجل لآخر: امرأتك قد كثر نائكوها فقال لو ناكها أهل مني ما ازدادت إلا حظوة عندي. وقالت امرأة لزوجها: يا ديوث يا مفلس، فقال: واحدة من الله وواحدة منك فما ذنبي أنا. في التزوّج برقيقة الحافر أو متّذوقة قال أبو الشمقمق لمن أراد التزوج: تزوج بقحبة فقال: ما هذا؟ فقال: إسمع. القحبة تكون أملح وأحرى بأن تكون عالمة بما يحبه الرجال وتأخذ نفسها بالتنظيف، ومتى قلت لها يا زانية لم تأثم، ثم إنها تجتهد أن لا تأتيك بولد ثم أنها تعرف أنك تعرفها فلا تتكبر. وفي أخبار أبرويز أنه انقطع يوما عن عسكره فدخل قرية، وكان بها له ابنة، يقال لها شيرين في نهاية الجمال، فتزوج بها ثم لحقه عسكره فتكلم فيه فصنع طعاما فأكلوا. ثم أحضر لهم شرابا ثخينا يطوف به غلمان سود فعافوه، فطاف بصاف مع حسان فشربوا، وعلموا أنه يشير أن شيرين إنما اصطفاها بعد الطهارة. المغير بفساد الحرمة . قال ابن طباطبا في أبي علي الرستميّ: أغلق الرستميّ باب حديد ... حلقة الباب من قبيح اللقاء إنّ دار الرجال وجهك يكفي ... ها فعلّقه باب دار النّساء وكان بعض القضاة اتهم ابنته برجل فأخذه وضربه وحضر مجلس الوزير ابن الزيات، فقال: فيا أهل ليلى كيف يجمع شملها ... وشملي وفيما بيننا شبّت الحرب لها مثل ذنبي اليوم إن كنت مذنبا ... ولا ذنب لي إن كان ليس لها ذنب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 فنكس القاضي رأسه وعلم أنه المعني. قال بعضهم: يا إخوتي إنّ القيامة دانيه ... زان يحدّ ولا تحدّ الزانيه إن كان هذا في الحكومة جائزا ... مستعملا زنت النّساء علانيه قال الخوارزمي: زفّت إليك صديقة ... لفتى فصرت له شريكا فعليك كلّ مؤنة ... وعلى شريكك أن ينيكا قال أبو علي البصيري وهو من الغايات في هذا الباب: أمست كشاحنة الدنيا بأجمعها ... بيادقا وغدوت الرخّ والشاها «1» وقال آخر: دهتك بعلّة الحمّام خود ... ومالت في الطّريق إلى سعيد أرى أخبار بيتك عنك تطوى ... فكيف ولّيت ديوان البريد قال عمر بن سعدان: سألت زوجها الخروج إلى الح ... قّ ويا ربّ باطل في الحقوق وأقامت بمأتم اللهو لا مأ ... تم شقّ الشّنوف والتمزيق وقال ابن عبّاد: أيا بدر تزوجت العفيفه ... سخيف قد تجمّع مع سخيفه فتاة لو ينادي نائكوها ... لكانت، جيشها جيش الخليفه إذا ما غاب يوما عن ذراها ... يبيت لها بن عمّ في القطيفه المعروفة أن أولادها من غير زوجها أبو عمر السراج في أبي العيناء: جاد أبو العيناء فيما اشتهى ... من لذّة العيش بلا مرزيه ينيك من يختار من أهله ... ويحصل الأعمى على التريبه «2» وتزوج رجل بامرأة فأتت بولد من ستة أشهر فقال ما هذا؟ فقالت بنيت جدارك على أسّ غيرك. وقال بعضهم: رأيت رجلا ومعه ابن لا يشبهه فقلت له: إن ابنك هذا لا يشبهك، فقال: وهل تدع جيراننا أولادنا تشبهنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 قال كشاجم: ولدت ليلة الزفا ... ف إلى بعلها ذكر قلت من أين ذا الغلا ... م وما مسّها بشر قال لي بعلها ألم ... يأت في مسند الخبر ولد المرء للفرا ... ش وللعاهر الحجر قلت هنيته على ... رغم من خالف الأثر قال عبدان: والمنتمون إليه من أولاده ... الله يعلم أنّهم أولادي وقال مثقال: لك أنثى تزيف في كلّ عش ... وتربّي الفراخ في أعشاشك وقال أبو تمّام وقد قلب المعنى: لو كان حصنا بابه وجداره ... قلت بنوها عنده وبناتها إن البلاد إذا السيول تعاورت ... ساحاتها عمّ الفضاء نباتها «1» من رأى حرمته على مكروه فلم ينكره دخل رجل على امرأته فرأى عندها رجلا كانت تعرف به. فقال له الزوج: أقلل الاجتماع معها فإن الناس يذكرونك بها. فقال له: لا يجوز لهم ذلك حتى يروا الميل في المكحلة. وكان رجل يأتي امرأة فقالت له يوما وهو يواقعها: إن الناس يتهمونني بك، فقال لها: ما عليك أن تؤجري ويأثموا. ودخل رجل على امرأته فرآها تحت رجل فلما فرغ منها العشيق أخذ الزوج ينيكها ويقول له: أنظر إلى عشيقتك تحتي. من حمل على امرأته وصديقته قال الرقاشي في دعبل: لدعبل حرمة يمت بها ... ولست حتّى الممات أنساها أدخلنا داره فأكرمنا ... ودسّ لي امرأته فنكناها قال فلما سمع دعبل قال لو قال: المتخلف: فعفناها كان أبلغ في الهجاء وأعفّ وقوله: فعفناها أقرب من قول الراعي: فلما قضينا من رباب لبانة ... أرادت إلينا حاجة لا نريدها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 قال دعبل في الرقاشي: إن الرّقاشي من تكرّمه ... بلغه منه منتهى هممه يبلغ من برّه ورأفته ... حملان إخوانه على حرمه قال ابن الرومي: يدخل في زوجته ... أير سواه بيده قال ابن الحجّاج: لي حرّيف أفديه في كلّ حال ... فهو والله من سراة الرّجال «1» بتّ مع عرسه وكان هو الثا ... لث في ليلة تسود الليالي فتكرهت قربها أي بأنّي ... رجل لا أريد غير الحلال ورأى حشمتي فقال حبيبي ... ليس هذا طريق نيك عيالي تشتهي أن تكون في صورة العب ... د وإلا في صورة الأنذال فابق إني رأيت مثلك لا يح ... رز في صحفه طيور الرجال من تعرّض لصاحبه فجاوبه بما فيه قذف حرمه قال الفرزدق لكثيّر وأراد أن يعبث به: أكانت أمّك بالبصرة وأنا بها؟ قال: لا ولكنّ أبي كان فيها مع أمك، وكان يكثر الثناء عليها ويقول رحمها الله تعالى، فقال الفرزدق: هذه عاقبة من تكلّم فيما لا يعنيه. وقال الفرزدق لزياد الأعجم أتكلمت يا أقلف «2» ؟ فقال: ما أسرع ما أخبرتك أمك رحمها الله تعالى. وقال ابن سميّة للربيع بن قعنب: لقد رأيتك عريانا ومؤتزرا ... فما علمت أأنثى أنت أم ذكر فقال: لكن سمية قد علمت. وقال إنسان لجرير: أنت تقذف المحصّنات، قال: لكن أمّك لا يصيبها من ذلك شيء. وقال عمر بن عبيدة: متى عهدك بالزنا؟ فقال: مذ ماتت عرسك رحمها الله. وقال معاوية لعقيل بن أبي طالب رضي الله عنهما: إن فيكم لشبقا يا بني هاشم، فقال هو منّا في الرجال ومنكم في النساء. وقال مدني لمخنّث: مرّ بي ولا عبني كيف كنت يا أخي البارحة؟ فقال ما لقي إست أختك البارحة حتى تركت السوق وتمنيت الموت. ومرّ رجل بأكّار فقال: لو أن هذه المزرعة تنبت أيورا أين كنت تقعد؟ قال كنت أعمد إلى حزمة فأجعلها في حر «3» أمك وأقعد مكانها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 التعيير بالأكل من كسب امرأته قال شاعر: جواريك أطعمنك السكّرا ... وأنزلنك المنزل الأكبرا ولولا جواريك ما أطعمو ... ك على قبح وجهك إلا خرا وكان رجل له امرأة تتكسب وتطعمه فطلقها وتزوج عفيفة فلم يجد ما كان يجده فذكر لها ذلك، فجاء يوما فوجد طعاما وشرابا فقال من أين هذا؟ فقالت: زارنا فلان فأكل وشرب وجامع وحمل إلينا طعاما وشرابا وحلواء وهذا نصيبك. فقال: إذا تعاطيت مثل هذا فإياك وإخباري وتفاصيل ما يجري فإني غيور. من ذكر حظوته عند حرمة صاحبه قال منصور بن باذان: لئن كنت عندك لا قدر لي ... فعند عيالك في المخنقه وإن كنت عندك ذا تهمة ... فإنّي بعرسك عين الثّقة من قذف امرأته برجل فرأى حقيقة ذلك وقع بين مزبد وبين رجل خصومة فقال الرجل: أتخاصمني وقد نكت امرأتك كذا كذا مرة. فرجع إلى إمرأته فقال: أتعرفين فلانا؟ فقالت: أبو فلان فقال: ناكك والله. وقال أبو عمرو بن العلاء أقبلت من مكة ومعي جمّال فجعل يقول: يا ليت شعري هل بغت عليه فسمع رجلا يقول: نعم بغت وناكها حجيه فرجع إلى إمرأته وقال لها أتعرفين فلانا؟ فقالت: ما زال لنا متعهدا وفي حاجاتنا سريعا فأحس بالشرّ فنظر فإذا الرجل في مقال: إذهبي فأنت طالق. وصف المرأة الفاسدة تقول هي رقيقة الجافر وهي واسعة الحبل، قال شاعر: ألمّا على دار لواسعة الحبل ... ألوف تسوّي صالح القوم بالرذل ولو شهدت حجّاج مكّة كلّهم ... لأمسوا وكلّ القوم منها على وصل وقال: وما هي إلا نظرة وتبسّم ... فتبذل رجلاها وتسقط للجنب وقال: فلا تكثري قولا منحتك ودّنا ... فقولك هذا للفؤاد مريب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 تعدّين ما أوليتني منك نائلا ... وللقابس العجلان منك نصيب «1» وقال: تصاحب في اليوم القصير ثلاثة ... فإن زاد شيئا أكملتها برابع وكنت أسمّيها النوار فأصبحت ... لديّ وقد كنّيتها أمّ جامع نوع من ذلك تشاجر رجلان من حمص في امرأتيهما أيتهما أحسن فرآهما القاضي فأقبل على أحدهما فقال نيك امرأتك في إستها أحب إليّ من نيك امرأة هذا في حرّها فأقبل المحكوم له على رفيقه وقال: ألم أقل لك وقال جرير للأحوص أنت القائل: يقرّ بعيني ما يقرّ بعينها قال: نعم. قال: إنه يقرّ بعينها أن يدخل فيها مثل ذراع البكر أفيقرّ بعينك ذلك؟ فأفحمه. قيل: لا يمنع مرعى عرسه من أباح حمى نفسه. وقيل لأعرابيّ هل بامرأتك حبل؟ فقال: لا أدري والله ما لها ذنب فتشول به وإني لا آتيها إلا ضيعة تمّ الحد ولله الحمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 الحدّ السادس عشر في المجون والسخف (*)   (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: حذفتُه من النسخة الإلكترونية لفحشه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 الحدّ السابع عشر في خلق الإنسان (1) الخلقة المستحسنة عند العرب قيل لأعرابي: ما الجمال؟ قال: ضخم الهامة وطول القامة ورحب الشدق وبعد الصوت. وممّا دل على حمد عظم الرأس ما قال جالينوس: إن الصغير الرأس لا عقل له. وسئل آخر فقال: غور العينين وإشراق الحاجبين ورحب الشدقين. وقال: وصلع الرؤوس عظام البطون ... رحاب الشداق طوال القصر «1» وقالت امرأة خالد: له إنك لجميل. فقال: كيف تقولين ذلك وما فيّ عمود الجمال ولا رداؤه ولا برنسه. إن عموده الطول ورداؤه البياض وبرنسه سواد الشعر وأنا قصير أسود أشمط، ولكن قولي إنك مليح. الخلقة الدالة على النجابة أو غيرها دخل أعرابي على محمد بن سليمان فقال: أكان لك ولد؟ قال: نعم المخش قال: وما المخش؟ قال: خرطمانيا أشدق إذا تكلم سال لعابه، ينظر بمثل فلسين كأن صدره كركرة «2» بعير وكأنّ ترقوته خالفة، فقأ الله عيني إن رأيت قبله أو بعده مثله وقال رجل لسنان بن سلمة: ما أنت بأرسخ» فتكون فارسا، ولا بعظيم الرأس فتكون سيدا. قال شاعر: تقلب رأسا لم يكن رأس سيّد ... وكفّا ككفّ الضّبّ أو هي أحقر وقال الزبرقان: أبغض صبياننا الأقيعس «4» الذكر الذي كأنما يطلع في حجر، وإذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 سأله القوم: أين أبوك؟ هرّ في وجوههم. وأحب صبياننا الطويل الغزلة أي جلدة الذكر السبط الغرّة العريض الورك، الأبله الغفول الذي يطيع عمّه ويعصي أمه. إن سأله القوم أين أبوك؟ قال: معكم. الموصوف بحسن الوجه وإشراقه فلان كأنه شهاب في ظلمة الليل ساطع وكوكب في أفق السماء لامع، قال ابن عبدل الأسدي: وكأنّما نظروا إلى قمر ... أو حيث علّق قوسه زحل وقال ابن العنقاء: كأن الثريّا علّقت فوق نحره ... وفي أنفه الشعرى وفي وجهه القمر وقال أوس بن حجر: يجرّد في السّربال أبيض صارما ... مبينا لعين النّاظر المتوسّم «1» وقال آخر: تراه كالبدر جلى ليلة الظّلم وقال ابن الرومي: كأنه الشمس إذا وافى المنيف بها ... على البريّة لا نار على علم الموصوف بالقبح يقال: أقبح من القبيحة في عين ضرّتها، كما يقال: أحسن من الحسناء في عين أمها، وأقبح من زوال النعمى وفوت المنى وطلعة الردى وأسمج من واو عمرو. قال شاعر: ووجهك من وجه يوم الفرا ... ق في مقلتي عاشق، أقبح لما سمع بشّار قول حمّاد عجرد فيه: شبيه الوجه بالقرد ... إذا ما عمي القرد بكى وقال: ألم يكفه تشبيهي بالقرد حتى جعله أعمى. هو يراني فيصفني ولست أراه فأصفه، وقال المتنبّي: وإذا أشار محدّثا فكأنّه ... قرد يقهقه أو عجوز تلطم وقيل: أقبح من العزالى «2» ومن زوال النعمة، ومن الحدثان ومن سنة بلا نيل. ووقع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 بين الأعمش وبين امرأته وحشة فسأل بعض أصحابه أن يرضيها ويصلح بينهما فدخل عليها وقال: إن أبا محمد شيخنا وفقيهنا فلا يزهدنّك فيه عمش عينيه وحموشة «1» ساقيه وضعف ركبتيه، وقزل «2» رجليه ونتن إبطيه وبخر «3» شدقيه. فقال الأعمش: قم عنا قبّحك الله فقد أريتها من عيوبي ما لم تكن تعرفه وتبصره. قال ابن الرومي: يفزّع الصبية الصّغار به ... إذا بكى بعضهم فلم ينم يقال: هو قراعة في قراح، وخراة في مستراح، وجيء بعيّار إلى بعض الكبار فقال لغلامه: الطم حر وجهه فقال: يا سيدي ليس لوجهه حر لأنه كان قبيحا. قال آخر: وجه قبيح حامض ... لو عضّه الكلب ضرس المعرّض بقبح غيره رأى خالد بن صفوان الفرزدق فقال: يا أبا فراس ما أنت بالذي لما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن؟ فقال له: ولا أنت بالذي قالت الفتاة لأبيها يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين. أخذ رجل من لحية آخر شيئا فلم يدع له فغضب فقال: لا تغضب فما منعني أن أقول صرف الله عنك السوء إلا خوفا أن يصرف عنك وجهك فإن السوء كلّه فيه. وقيل لرجل كيف رأيت فلانا؟ فقال: لو اطلعت عليهم لو ليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا. وقال رجل للفرزدق: ما أقبح وجهك كأنما خلق من أحراح «4» فقال أنظر هل ترى حر أمك فيها. ونظر رجل قبيح وجهه في المرآة فقال: الحمد لله الذي أحسن خلقي، فقال مخنّث: أم من يبهت ربه زانية. وقال ابن مكرم لأبي العيناء يا قرد فقال: وضرب لنا مثلا ونسي خلقه. القبيح المتغازل قال إسماعيل القراطيسي: جارية أعجبها حسنها ... ومثلها في النّاس لم يخلق قلت لها إنّي محبّ لها ... فأقبلت تضحك من منطقي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 فالتفتت نحو فتاة لها ... كأنّها الربرب في القرطق قالت لها قولي لهذا الفتى ... أنظر إلى وجهك ثم اعشق وقال ابن الرومي: أقبح بوجه أبي حفص وعفّته ... هذان أمران لا والله ما اجتمعا وقال: تيس تنفق بالدّلال ليشتهى ... فازداد مقتا بالدّلال وما نفق فكأنّه من يبسه وسواده ... محراك تنّور تلوّى فاحترق وقيل: للحظوة أين تذهبين؟ قالت: أفارق القباح. المستقبح وجه نفسه نظر أبو شراعة في المرآة وكان قبيحا فقال: الحمد لله الذي لا يحمد على المكروه سواه، ونظر بعضهم في المرآة وكان جدر فبدل خلقه، فقال: الحمد لله الذي خلقني فأحسن خلقي، ثم بدا له فشوّهني فأخذه سعيد بن نوقة فقال: قد كان ربّي سوى خلقه فطغى ... فأحسن الله في تشويه خلقته قال الحطيئة: أرى لي وجها قبّح الله خلقه ... فقبّح من وجه وقبّح حامله المعتذر بقبحه قيل لحكيم: ما أقبح صورتك، فقال: ليس حسنك إليك فتحمد عليه ولا قبحي إليّ فأعاتب عليه، إنما ذلك صنع الباري تعالى من ذمه كفر. ذمّ المجدور «1» قال شاعر: ووجهه بخر الذبّان منقوش ويقال كأنّما ينظر من كرش. قال أبو جعفر: كنت أدور مع الصاحب فنظر إلى باب قلعت مساميره فقال: وجه أبي جعفر تصاويره ... كالباب إذ قلعت مساميره قال ابن طباطبا: لنا صديق نفسه ... في مقته منهمكه «2» ذو جدري وصفه ... يحكيه جلد السمكه وهي أبيات كثيرة ذات أوصاف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 الموصوف بحسن الأنف وصف رجل قوما بالشمم فقال ترد أنوفهم الماء قبل شفاههم، قال شاعر: شمّ الأنوف من الطّراز الأول الأنف القبيح خطب رجل قبيح الأنف امرأة فقال: عندي احتمال للمكروه ووفاء عظيم. فقالت: ما أشك في احتمالك للمكروه لأنك تحمل هذا الأنف أربعين سنة. كأن أنفه كنيف مملوء شسوعا «1» . قال بعض المحدثين: سود الوجوه لئيمة أحسابهم ... ضخم الأنوف من الطّراز الآخر هذا معارض لقوله: بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شمّ الأنوف من الطّراز الأوّل الممدوح بطول القامة قال شاعر: كأن زرور القبطريّة علقت ... علائقها منه بجزع مقوّم «2» قال أبو نواس: أشمّ طويل الساعدين كأنّما ... يناط نجادا سيفه بلواء «3» وقال آخر: يمدّ ركابيه من الطّول ماتح «4» قال عمرو الباهلي: يطول على الرمح المدينيّ قامة ... ويقصر عنه باع كلّ نجاد وفد على معاوية رضي الله عنه وفد الروم وفيهم رجل لم ير أتمّ خلقا منه وكتب ملك الروم مما فضل به الروم على العرب هذه الجسوم، فأحضر له قيس بن عبادة فرمى إليه سراويله فكانت إلى خلف الرومي فليم على نزع سراويله فقال: أردت لكيما أعلم القوم أنّها ... سراويل قيس والوفود شهود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 وأن لا يقول غاب قيس فهذه ... سراويل عاد قد نمته ثمود المذموم بالطول هو ظلّ الرمح وظلّ النعامة وظلّ الشيطان للمنكر الضخم، وأطول من السكاك أي الهوى. قال ابن الرومي: من رأيتم بعد طالو ... ت له علم وجسم وقد مدح الله تعالى طالوت بقوله: وزاده بسطة في العلم والجسم. نوادر في القصر وقف رجل طويل على بائع رمّان فقال له: رمّانك صغير، فقال له: اقعد وانظر، فلو نظرت من ههنا إلى بطيخة لم ترها إلا عفصة «1» . كان قصّار يعمل كل يوم على نهر ويرى كركيّا يأخذ الدود فيأكله. فرأى الكركيّ صقرا قد انحط على حمامة فأخذها بمخالبه، فقال الكركيّ: أنا أعظم جسما منه فمالي رضيت بأكل القاذورات فرأى حماما فانقض عليه فوقع في الماء ونشب في الوحل فأخذه القصار فكان يقول: لمن يسأله عنه هذا كركي تصقّر «2» فتصغّر. المذموم بالقصر أقصر من إبهام القطاة ومن فتر الضبّ ومن إبهامه ومن إبهام الحباري. قال شاعر: رأيت خليلي من تقارب شخصه ... يعضّ القراد بإسته وهو قائم «3» قال الناجم: ألا يا بيدق الشطر ... نج في القيمة والقامه لقد صغر منك ال ... كلّ غير الدبر والهامه وقال: أقصر من يأجوج في قدّه ... وقرفه أطول من عوج «4» قال عباس المصيصي: يقطع دوّاجا له سابغا ... وربقة من ورق التوت «5» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 وقال: كأنّه البرغوث لم يخطه ... في صغر الجثمان والقرص ويوصف القصير بالمكر والخبث قيل: إن كسرى جلس للمظالم فتقدم إليه رجل قصير فأخذ يصبي أنا مظلوم وهو لا يلتفت إليه فقال: الموبذان أنصفة فقال: إن القصير لا يظلمه أحد. فقال الرجل: إن الذي ظلمني هو أقصر منّي فضحك وأشكاه. وقيل: إن سقراط قال لا تجوز شهادة الأحدب والقصير وإن تزكيا لخبثهما فقيل: ولم خبثا؟ فقال: لقرب دماغيهما من فؤاديهما كان يوسف بن عمر عامل هشام على العراق قصيرا وكان إذا خاط الخياط له ثوبا فقال له: تحتاج إلى خرقة لأن تفصيل الأمير طويل يعطيه ما يريد وإذا قال يكفيك أو يفضل يضربه ويشتمه. المعتذر للقصر قال المهلّب لرجل: ما أصغرك وأقلك. فقال: إن كثر عقلي فما تضرني قلّتي. وإن طال زهدي. فما يعيبني قصري. ولما استحضر النعمان ضمرة بن ضمرة قال: إن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه فقال: كل الرجال ليسوا بجزر إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه إن نطلق نطق ببيان وإن قاتل قاتل بجنان «1» : وما عظم الرجال لهم بفخر ... ولكن فخرهم كرم وخير الممدوح بالخفة والمعتذر للنحافة قال العجيل السلولي: فتى قد قدّ السيف لا متضائل ... ولا رهل لبّاته ومباذله «2» قال الأشجعي: وإني على ما تزدري من نحافتي ... تزيد موازيني على الرجل الضّخم قال آخر: بدن ناحل وعزم جسيم قال حاتم: تراني كأشلاء اللجام ولا ترى ... أخا الحرب إلا ساهم الوجه أغبرا قال ابن نباتة: إن كان يؤتي فؤاد من نحافته ... فإنّ قلبي لا يؤتى من الخور «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 قال آخر: لا تجزعنّ من الهزال فطالما ... ذبح السمين وعوفي المهزول وقيل لأعرابي: ما أنحفك؟ فقال سوء الغذاء وجدب المرعى وتناجي الهموم في صدري. ذمّ السمن قيل السمنة عقلة. ونظر عمر رضي الله عنه إلى رجل بادن «1» فقال: ما هذا؟ قال بركة الله فقال: بل شخطه ثم قال إياكم والبطنة فإنها ثقل في الحياة ونتن في الممات. ورأى حكيم رجلا سمينا فقال ما أكثر عنايتك برفع سور جسمك وقال الشافعي ما رأيت سمينا ذكيا إلا محمد بن الحسن قال ابن الرومي: ليس بالراجح م ... ن رجحانه لحم وشحم من رأيتم بعد طالو ... ت له جسم وعلم وقال: أمير كلّه شحم ولحم ... وليس وراءه علم وفهم وقال بعضهم محال أن يكون روح خفيف في جسم كثيف. قال كشاجم: كأنما قدامه بطنه ... رواية قد نقصت دلوا «2» السبب المسمن ّ قيل لسمين: أي شيء سمنك؟ فقال أكلى الحار وشربي القار واتكائي على اليسار، وأكلي من مال كل ذي يسار. ولآخر لا تكائي على شمالي والأكل من غير مالي. وسئل آخر فقال: قلّة الفكرة وطول الدعة والنوم على الكظة «3» وقيل لمحبوس فقال القيد والرتعة، ومن يكن جار الأمير يسمن. أعسر أيسر حضر أبو العيناء علوية المغنى وكان يضرب بالعسر فقال: أسأل الله الذي جعل السرور بيسارك أن يعطيك كتابك بيمينك. ذم القلح «4» قال صلّى الله عليه وسلّم ما لكم تدخلون عليّ قلحا استاكوا «5» وقال نظفوا أفواهكم فإنها ممر القرآن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 قال جرير: كأن مقالع أضراسهم ... إذا ضحكوا جيف الخنفس قال عبد الصمد: إذا افترّ أبرز قلح الأصول ... كما كشّر العير للنهقة قال عبدان: ومن رأى من شيخهم ... أبدانه ومقشره تجيش منه نفسه ... حتّى يقيء العذره ذمّ البخر شكا أبخر ضرسه ففتح فاه للطبيب فشمّ منه رائحة كريهة فقال له: مر كناسا يكنسه فهذا كنيف. وقيل اشترى رجل أبرخ جارية فسأله صالح الخيّاط عن خبرها فقال: ما زالت تمص البارحة لساني. فقال: إن صدقت فإنها بنت وردان «1» . وكان عبد الملك يسمى أبا الذباب لأن الذباب كان يسقط إذا قرب من فيه وسارّ سعيد بن حميد رجل به بخر فقال: مثلك لا يسار، وإنما يكاتب. قال ابن المعتز: وإن امرأ يقوى على لثم ثغره ... على الضغط والتعذيب في قبره يقوى وقال: كلّمتني فقلت خيرا وخيرا ... جعل الله بين فكّيك دبرا وقال: إنما نحن في كنيف إذا ما ... جمع الريق والخرافي مكان وقالت امرأة: فما جيفة الخنزير عند ابن مقرب ... قتادة إلا ريح مسك وغاليه «2» علّة طيب الفم والبخر «3» قيل من كثر ريقه وسال لعابه لا يعرض له الخلوف ولذلك كانت الكلاب أطيب أفواها ويعرض بانطباق الفم الخلوف وأطيب الناس أفواها الزنج. والأسد والصقر موصوفان بالبخر. طيب الرائحة قال شاعر: الطيبون ثيابا كلّما فرقوا وقيل: أطيب ريحا من المسك ومن نفحة النسيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 نتن الإبط والجسد قال شاعر: وإبطك قابض الأرواح يرمي ... بسهم الموت من تحت الثيّاب قال الخبزارزي: وكأن ريح صنانه من نتنه ... في أنف باكية سعوط ينشق «1» وقيل لمخنّث: لم كان الإبط أنتن الأعضاء؟ قال: لأنه كان فقحة فنوّرت «2» : ريحه ريح كلاب ... هارشت في يوم طلّ وكأن الريق منه ... طعم صحناة بخلّ وقال الخيّاط الشامري: يا رحمتي لبخوره من نتنه ... كم في الكنيف يضيع ريح العنبر وقيل أنتن من ريح الجورب. الشاكي ضعف بصره قال شاعر: أشكو إلى الله أهوالا أكابدها ... إذا سرى القوم لم أبصر طريقهم تسلّى من كفّ بصره قيل لرجل قد ذهب بصره قد سلب حسن وجهك قال: لكنّي منعت النظر إلى ما يلهى وعوضت الفكرة فيما يجدي. فحكى ذلك لبعض البلغاء فقال: العفاء على التعزي إلا بمثل هذا الكلام. وقال الجنيد حضرت أبا علي الأشناني وكان ضريرا فقرأ قارئ يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فقال: سقط عنّي نصف العمل. قال أبو يعقوب الجريمي: فإن تك عيني خبا نورها ... فكم مثلها نور عين خبا ولم يعم قلبي ولكنّما ... أرى نور عيني إليه سرى قال محصن بن كنان: يقولون ماء طيب خان عينه ... وما ماء عين خان عين بطيب ولكنّه أزمان أنظر طيبا ... بعيني قطامي على ظهر مرقب» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 كأن ابن حجل مدّ فضل جناحه ... علي بإنسانيهما المتغيّب نوادر العميان في عماهم كان أعمى يقول أرحموا ذا الزمانتين. فقيل: ما هما؟ قال العمى وقبح الصوت أما سمعتم: فبي عيبان إن عدّا ... فخير منهما الموت فقير ما له قدر ... وأعمى ما له صوت وقال المتوكل يوما لجلسائه: لولا ذهاب بصر أبي العيناء لجعلته نديمي. فقال أبو العيناء لما بلغه ذلك: إن كان يريدني لقراءة نقش الخواتم وقراءة الأهلة لم أصلح. فضحك واتخذه نديما. وقال معاوية لابن عبّاس رضي الله عنهما: إنكم يا بني هاشم تصابون في أبصاركم فقال: وأنتم يا بني أمية تصابون في بصائركم. وقيل لبشار: ما أذهب الله عيني امرئ إلا عوضه عنهما فما الذي عوضك؟ قال: أن لا أرى مثلك. وسأل رجل بشارا عن دار فهداه إليها فلم يكن يهتدي فقال: أعمى يقود بصيرا لا أبا لكم ... قد ضلّ من كانت العميان تهديه وتزوّج أعمى امرأة فقالت: لو رأيت بياضي وحسني لعجبت، فقال: إسكتي فلو كنت ما تقولين لما تركك البصراء لي. وقيل: الأعمى مكابر والأعور ظلوم والأحول تيّاه. وقيل: في أعمى يدّعي العور : أعمى يدلس نفسه في العور وقال أعمى لآخر: فلان أقل حيلة من البصير فعندهم البصراء قليلو الحيلة. العور أصاب أعور أرمد فقال: يا رب ليس محله. وكتب الصاحب في أعور يريد أن يثبت اسمه في العميان هذا الفتى قد جبر عور عينه بعمى قلبه فألحقه بالعميان والسلام وقيل لأعور: ما أشد العمى؟ قال: عندي. نصف الخبر. وقيل لأعور: أعمى الله عينك قال: قد أجيبت نصف دعوتك. وأصاب حجر عين أعور الصحيحة فوضع يده عليها وقال أمسينا وأمسى الملك لله. وتجارى قوم في مجلس فقال أحدهم من كان أعور فهو نصف رجل ومن لا يحسن السباحة فهو نصف رجل، ومن لا يتزوج فهو نصف رجل، وكان معهم رجل اجتمعت فيه هذه كلها فقال: إني أحتاج إلى نصف رجل حتى أكون لا شيء. وقال أعور في نفسه وصاحب له أعور: ألم ترني وعمرا حين نغدو ... إلى الحاجات ليس لنا نظير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 أسايره على يمنى يديه ... وفيما بيننا رجل ضرير ومثله: هي عوراء باليمين وهذا ... أعور بالشمال وافق شنّا بين شخصيهما ضرير إذا ما ... قعدت عن شماله تتغنّى وما قيل في الحول خرج هشام فتلقاه أعور فقال: إني تشاءمت بعورك، فقال له الرجل: شؤم الأعور على نفسه وشؤم الأحول على النّاس. وكان هشام أحول فخجل وعرض على أمير أثواب خزّ، وفي المجلس أعور وأحول، فقال الأعور للأحول: بهذا الثوب عيب فقال: يا صفعان إن بصرك بعين واحدة أجدّ من بصري بعينين، فقال الأعور: دريهم جيد خير من درهمين مزيّفين. وفي وصف أحول: ونجمين في برجين هاد وحائر ... متى طلعا حلّ الكسوف بواحد لهذا على التقدير قوة زهرة ... وفي ذا على التشبيه ظرف عطارد إذا أفل الهادي ووافاه برجه ... تراءى لنا المكسوف في زيّ قاصد من الأنجم اللاتي جرت في بروجها ... ولم تدر ما معنى نجوم الفراقد الصمم قال المأمون لليزيدي: لم نرك مذ أيام، فقال حصل في سمعي ثقل فأنا أتعبك الآن إفهاما واستفهاما فقال الآن طبت أن تكون معنا ما شئنا أسمعناكه وما احتشمنا فيه أسررناه عنك فأنت غائب شاهد وانصرف أطروش «1» من الحلبة فلقيه رجل فقال هذا الرجل يسألني الآن من أين؟ فإذا قلت له من الحلبة فيقول من سبق فأقول الخليفة بالأدهم. فلمّا دنا الرجل سلّم على الأصم فقال: من الحلبة فقال: نكت أمك قال: بالأدهم. وصلى أطروش بجنبه أبخر فلما سلّما، قال له الأبخر، أسها الإمام؟ قال: لا بل فسا ألم تشم؟ عظم الأذن وصغرها قيل: طول الاذن دليل على طول العمر. وقدّم رجل للقتل وكان طويل الأذن فقيل له: أليس زعموا أن طول الاذن دليل طول العمر؟ فقال: لو تركوني لطال، ولكن حالوا بيني وبينه وأحضر رجل طويل الاذن للقتل فجعل يلمس أذنيه ويقول: واضياع أمله وانقطاع رجاه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 الحدب قال الجاحظ: من اعتراه الحدب طال أيره واشتد شقّه وكثر خبثه وظرفه. وأتى بعض الولاة بأحدب جنى جناية فقال: لأضربنك ضربا يقيم ظهرك فقال إنك إذا لعظيم البركة. وقال شاعر: تعدو الجياد بخالد ... فكأنّما تعدو بقربه «1» تيس أنب من التي ... وس كأنّ لحيته مذبّه العرج قال بشر: إذا غدوا وعصى الطلح أرجلهم ... كما ينصبّ وسط البيعة الصلب وقال: قد كنت أمشي على رجلين معتدلا ... فصرت أمشي على رجل من الشّجر وقال: وما بي من عيب الفتى غير أنّني ... جعلت العصا رجلا أقيم بها رجلي وقال الغساني: إذا ما تعدّت بي وسارت مخفّة ... لها أرجل يسعى بها رجلان وما كنت من فرسانها غير أنّها ... وفت لي لما خانت القدمان الاعتذار من سواد اللون ومدحه وقال عبد بني الحسحاس: إن كنت عبدا فنفسي حرّة كرما ... أو أسود اللون إني أبيض الخلق وقال: وما ضرّ أثوابي سوادي وتحته ... لباس من العلياء بيض نبائقه «2» وقال المتنبّي: فدى لأبي المسك الكرام فإنّها ... سوابق خيل يهتدين بأدهم وقيل لنصيّب أيها العبد الأسود فقال: أما العبودية فإنّي ولدت حرا، وأما السواد فأنا كما قال: فإن يك حائلا لوني فإنّي ... لعقل غير ذي سقط وعاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 هجاء السودان قال كشاجم: يا مشبها في لونه فعله ... لم تعد ما أوجبت القسمه ظلمك من خلقك مستخرج ... والمظلم مشتق؟ من الظلمه وهو مأخوذ من قول حكيم. وقيل له: ما تقول في الأسود قال خيره كلونه وسأل المتوكل رجلا لم ملت إلى السودان؟ فقال: لأنهن أسخن. فقال عبادة:- وكان حاضرا- نعم للعين. وقال جرير في أسود عليه ثوب أبيض: كأنّه لما بدا للنّاس ... أير حمار لفّ في قرطاس نوادر في السودان رأى مخنث زنجيا يفجر برومية فقال: يولج الليل في النهار. ورأى زنجيا يبكي فقال كأنه مطبخ يكف. ورأى سوداء متخمرة بأصفر، فقال: كأنها فحمة في رأسها نار. البرص كان جذيمة أبرص فكنّي عنه بالأبرش. ودخل عامر بن مالك وكان عمّ لبيد وكان شيخا، على النعمان فعبث به الربيع بن زياد، وأضحك منه الحاضرين، فخجل الشيخ وانصرف وشكاه إلى لبيد فقال: دعه لي. فدخل على النعمان وهو يؤاكل الربيع فقال: مهلا أبيت اللعن لا تأكل معه فقال النعمان: لمه؟ فقال: إن إسته من برص ملمّعه ... وأنه يدخل فيها إصبعه يدخله حتّى يواري إشجعه ... كأنّه يطلب شيئا ضيّعه «1» فأمسك النعمان ولم يأذن له بعد ذلك فأرسل إليه يقول: إنه كاذب فأرسل من يفتشني. فقال النعمان: قد قيل ما قيل إن حقّا وإن كذبا ... فما اعتذارك من قول إذا قيلا وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: إن كنت كاذبا فرماك الله ببيضاء لا تواريها العمامة فصار به برص وجلس عمرو بن هذاب للشعراء فأنشده طريف بن سوادة أرجوزة فيه حتى انتهى إلى قوله: أبرص فيّاض اليدين أكلف ... والبرص أندى باللها وأعرف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 وكان عمرو أبرص فثار به بعض حاضريه: اسكت قطع الله لسانك فقال عمرو مه إن البرص من مفاخر العرب أما سمعت ابن حينا يقول: لا تحسبن بياضا فيه منقصة ... إن اللهاميم في أقرابها بلق «1» وقال جرير: كأن بني طهية رهط سلمى ... حجارة خارئ يرمي كلابا لها برص بأسفل اسكتيها ... كعنفقة الفرزدق حين شابا ويقال لما أنشد صدر البيت وضع الفرزدق يده على عنفقته علما بما يؤول إليه صدر البيت. القمل كان أعرابي يفلّي كساءه فيأخذ البراغيث ثم يدع القمل فقيل له. فقال: أبدأ بالفرسان وأكر على الرجّالة. ورأى فيلسوف قملة تدبّ في رأس أقرع، فقال هذا لصّ في خربة. وقال أبو نواس: لله درّك من أخي ... قنص أظافره كلابه رؤي أعرابي يأكل ويخرأ ويتفلّى فقيل له في ذلك، فقال: أخرج داء وأدخل دواء وأقتل عدوا. وقال الصاحب: أما ترى وجه أبي زيد ... أقبح من حبس ومن قيد وحوشه ترتع في جيبه ... وظفره يركب للصّيد وقال: للقمل حول أبي العلاء مصارع ... ما بين مقتول وبين عقير وكأنهنّ لدى دروع قميصه ... فذو توأم سمسم مقشور قال كشاجم: لو بدّل الله قملة غنما ... ما طمع الجار منه في صوفه أنواع مختلفة متعلقة بهذا الفصل دخل أكتم البطحاء ورأى بني عبد مناف فقال: كأنهم أبرجة الفضة وكأن عمائمهم فوق الرجال يلحفون بالخيرات الأرض، وقال يا بني تميم إذا أراد الله أن ينشئ دولة ثبت لها مثل هؤلاء هذا غرس الله لا غرس الرجال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 وقيل: من قصرت قامته وصغرت هامته وطالت لحيته كان حقيقا على المسلمين أن يقروه على قلّة عقله. وقال: يلحن في المشي حين يفقدني ... وإن رآني مشى بإعراب (2) وممّا جاء في محاسن المحبوب وميل النفوس إليه رأت رابعة الحسن يقبل غلاما صغيرا مليحا فقالت: أما شغلك حب الله عن حبّ غيره؟ فقال: من حبّ الله حبّ من حسن خلقه: الكامل الحسن قال الشاعر: ليس فيها ما يقال له ... كملت لو أنّ ذا كملا قال آخر: خلقن أحسن ممّا قال من يصف قال الحكم بن أبي فنن: لو قسم الله جزأ من محاسنه ... في النّاس طرّا تمّ الحسن في النّاس الموصوف بإزالة الظلام وأنه قائم مقام أقمار قال آخر: رأيت عليه مسحة الشمس والبدر وقال آخر: رأيت به من سنة البدر مطلعا وقال آخر: كأنّما البدر من إزراره طلعا قال بكر بن النطاح يصف نسوة: توزّعن فيما بينهنّ سنا البدر قال البحتري: أضرّت بضوء البدر والبدر طالع ... وقامت مقام البدر لمّا تغيّبا وقال ابن الرومي: يا شيبة البدر في الحسن وفي بعد المنال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 ورأى بعضهم مليحا يمشي في الشمس فقال: اتّق ضرّتك لا تكسفك. من هو كالشمس الطالعة والجانحة قال قيس بن الحطيم: فرأيت مثل الشمس عند طلوعها ... في الحسن أو كدنّوها لغروب وقال البحتري يصف مرتحله: دنت عند الوداع لوشك بين ... دنوّ الشمس تجنح للأصيل الموفي على النيّرين قال عليّ بن الجهم: يا بدر كيف صنعت بالبدر ... وفضحته من حيث لا يدري الدهر أنت بأسره قمر ... ولذاك ليلته من الشهر قال عليّ بن الأصفهاني: وقد خجلت شمس الضحى منك غدوة ... فكادت كما جاءت إلى الشرق ترجع قال كثيّر: لو أن عزة خاصمت شمس الضّحى ... في الحسن عند موفق لقضى لها فكمل المعنى بقوله عند موفق: من يزداد حسنا بتزايد النظر إليه قال شاعر: لها النظرة الأولى عليهم وبسطة ... وإن كرّت الأبصار كان لها العقبى قال أبو نواس: يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا من يهواه لحسنه من يراه قال عليّ بن جبلة: أغرّ توالد الشهوات منه ... فما تعدوه أهواء القلوب وما أكتحلت به عين فتبقى ... مسلمة الضمير من الذنوب وقال آخر: كأن قلوب النسا في قلبه قلب قال الصاحب: وسألته من أنت يا ... شغل القلوب فقال أفه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 من هو قيد النواظر لجماله قيل هو قيد النواظر. قال أبو فراس: فإذا بدا اقتادت محاسنه ... قسرا إليه أعنّة الحدق قال ابن المعتز: منظره قيد عيون الورى ... فليس خلق يتعدّاه قال أبو نواس: للحسن في وجناته بدع ... ما أن يملّ الدرس قاريها من هو في الحسن كالنار أو كالثلج قال أعرابي: رأيت جارية كأنها نار موقدة، وقال: كجمر غضى هبّت له الريح ذاكيا «1» قال ديك الجن: إن بيتا أنت ساكنه ... غير محتاج إلى السّرج من أعطى من الحسن مشتهاه قال أبو نواس: خلّيت والحسن تأخذه ... تنتقي منه وتنتخب فاكتسب منه طرائفه ... واستزادت فضل ما تهب وقال المتنبّي: حبيب كأن الحسن كان يحبّه ... فآثره أو جار في الحسن قاسمه وقال محمد بن وهب: قد خلع الحسن على وجهه ... سربال محمود ومحسود حسن السافرة قال بعضهم: وجوه زهاها الحسن أن تتنقّبا وقال الشماخ: أطارت من الحسن الرداء المحبّرا قال يزيد بن التترية: فألقت قناعا دونه الشمس واتّقت ... بأحسن موصولين كفّ ومعصم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 قال بعضهم: لها حاجبان الحسن والقبح منهما ... كأنّهما نونان من كفّ عاشق العين المكسرة يستحسن في صفتها قول بشار: حوراء إن نظرت إلي ... ك سقتك بالعينين خمرا «1» وكأنّ تحت لسانها ... هاروت ينفث فيه سحرا «2» وسمع ذو الرمّة إنسانا ينشد قوله: وعينان قال الله كونا فكانتا ... فعولان بالألباب ما تفعل الخمر فقال ذو الرّمة فعولان كأنه تورّع أن يقول فعولين فيكون ذلك بأمر الله تعالى. العين الفاترة وسنان أقصده النعاس فرنّقت ... في عينه سنّة وليس بنائم قال البحتري: وكأنّ في جسمي الذي ... في ناظريك من السّقم وله: ما بعيني هذا الغزال الغرير ... من فتون مستجلب من فتور قال أبو عبيدة يعجبني من شعر أبي نواس قوله: بعيدة كرّ الطرف تحسب أنّها ... قريبة عهد بالإفاقة من سقم العين الجارحة قال أشجع: وتنال منك بحدّ مقلتها ... ما لا ينال بحدّ النصل وقال أبو تمّام: إن لله في العباد منايا ... سلطتها على القلوب العيون وقال المتنبّي: من طاعني ثغر الرّجال جآذر ... ومن الرّماح دمالج وخلاخل «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 ولذا إسم أغطية العيون جفونها ... من أنّها عمل السيوف عوامل وقال جعفر المصري: نظرت إليها نظرة فكأنّما ... نظرت بتلك العين سكين شاطر العين الساحرة قال كشاجم بالله يا متغرّدا في حسنه ... ومقلبا هاروت بين محاجره وقال الصاحب: ولو أن هاروتا رأى فتر عينه ... تعلّم كيف السحر من حدّ جفنه العين الكحلاء وقال صالح بن عبد القدوس: كحل الجمال جفون أعينها ... فغنين عن كحل بلا كحل وقال: كأنّهما مكحولتان بأثمد ... وما بهما غير الملاحة من كحل وقال المتنبّي: ليس التكحّل في العينين كالكحل العين الحولاء قال الصاحب من بديع ما قيل في الحول: نظرت إليها والرقيب يخالني ... نظرت إليه فاسترحت من العذل العين الضيّقة قال الخوارزمي: بأبي من عينه أبدا ... في عدات وهي لا تعد وقال: يقارب ما بين الجفون كأنّما ... يلاحظ من شقّ على حرف درهم حسن الأنف وقال طريح بن إسماعيل: ولين المنخرين معتدل ال ... مارن لا سابل ولا جعد حسن الثغر قيل: الثغر الحسن يحلّي الوجه القبيح قال البحتري: كأنّما يفترّ عن لؤلؤ ... منضّد أو برد أو أقاح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 وله: لك من ثغره ومن خدّه ما ... شئت من أقحوان أو جلّنار «1» ومن جيّده لبعض القدماء: إذا ما اجتلى الراني إليها بطرفه ... غروب ثناياها أضاء وأظلما الأسنان قال المتنبّي: ويبسمن عن درّ تقلّدن مثله ... كأنّ التراقي وشّحت بالمباسم وقال طرفة: برد أبيض مصقول الأشر وقال البحتري: لها مبسم كالبدر يضحك عن درّ وقال الزاهر: نونات درّ على دالات مرجان وقال ذو الرمة: جرى الأسحل الأحوى بطفل مطرّف ... على الغرّ من أنيابها فهي نصّع طيب الفم قال كشاجم: تبسّم عن واضح برود ... تضيق عن طيبه الكؤوس قال المتنبّي: وأشنب معسول برد الثّنايا ... لذيذ المقبّل والمبتسم ويقال: فمها أعذب من برد الشراب وجسمها أعجب من برد الشباب. من ذكر طيب فم زعم أنّه لم يذقه أول من قاله النابغة فقال: زعم الهمام ولم أذقه، أنّه ... يشفى بريّا ريقها العطش الصّدي قال بشّار: يا أطيب النّاس ريقا غير مختبر ... إلا شهادة أطراف المساويك طيب الفم وحسن المبتسم معا قال ابن الرومي: وقبّلت أفواها عذابا كأنّها ... ينابيع خمر حصبت لؤلؤ البحر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 وقال: ومبسم عذب الأشر ... ألّف من خمر ودرّ «1» وقال: أحاذر في الظّلمات أن يستشفني ... عيون الغيارى في وميض المضاحك «2» وقال: تبسّمن فاستضحكن طامسة الدّجى ... عن الأفق في الظلماء أوجهها طحل «3» وقال: كأنّ ابتسام البرق بيني وبينها ... إذا لاح في بعض البيوت ابتسامها وقال آخر: تبسّم إيماض الغمام المكلّل «4» ولمسلم وهو نادر: تبسّم عن مثل الأقاحي تبسّمت ... له مزنة صيفيّة فتبسّما «5» وقال: كأنّ درا إذا هي ابتسمت ... من ثغرها في الحديث ينتشر «6» الحسن الحديث والكلام قال أبو حيّة: إذا هنّ ساقطن الحديث كأنّه ... سقاط حصى المرجان من سلك ناظم «7» رمين فأقصدن القلوب ولم تجد ... دما مائرا إلّا جرى في الحيازم «8» قال البحتري: ولما التقينا والنّقا مواعد لنا ... تعجب رائي الدرّ حسنا ولاقطه فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه قال آخر: كأن حديثها سكر الشباب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 وقال: هي الدرّ منظوما إذا ما تكلّمت ... وكالدرّ مجموعا إذا لم تكلّم وقال: إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ... ودّ المحدّث أنّها لم توجز وقال: كأنّما عسل رجعان منطقها ... إن كان رجع كلام يشبه العسلا «1» الفرع الوارد والكثيف قيل لأعرابي: أي النساء أحسن؟ فقال الغرّاء الفرعاء أي الحسنة المفترّة عن الثغر الوافرة الشعر، فمها بارد وشعرها وارد. قال بعضهم في وصف ما حلقه عمر رضي الله تعالى عنه- من الشعر- وقيل هو أحسن ما قيل في الشعر: لقد حلقوا منها غدافا كأنّها ... عناقيد كرم أينعت فأسكرت «2» وقال: عناقيد غربيب تدلّين عن كرم «3» وقال المخبّل السعدي: وتضلّ مدراها المواشط في ... جعد أغمّ كأنّه كرم «4» قال ابن المعتز: دعت خلاخيلها ذوائبها ... فجئن من رأسها إلى قدم «5» وصف الشعر والوجه معا قال بكر بن النطاح: بيضاء تسحب من قيام فرعها ... وتغيب فيه وهو ليل أسحم «6» وكأنّها فيه نهار ساطع ... وكأنّه ليل عليها مظلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 وقال آخر: نشرت غدائر فرعها لتظلّني ... حذر الوشاة من الغيور المطرق فكأنّني وكأنّه وكأنّها ... صبحان باتا تحت ليل مطبق قال منصور النمري: ودنت عناقيد الكرو ... م على الأهلّة والبدور «1» السّوالف قال امرؤ القيس: وجيد كجيد الرّيم ليس بفاحش ... إذا هي نصّته ولا بمعطّل وقال بكر بن النطاح: ترى القرط منها في قناة كأنّها ... بمهلكة لولا العرى والمعاقل وقيل: هي بعيدة مهوى القرط. وقال ابن الرومي: أساءني إعراضه ... عنّي ولكن سرّني سالفتاه عوض ... من كلّ شيء حسن «2» وقال الصنوبري: للغصن أعطافها وقامتها ... وللرّشا جيدها وعيناها «3» الصدغ قال أبو نواس: كأنّ مخطّ الصّدغ في حرّ وجهها ... بقيّة أنقاس بإصبع لائق «4» وقال ابن المعتز: ألم ترّني بليت بذي دلال ... خليّ ما يرقّ وما يبالي غلالة خدّه ورد جني ... ونون الصدغ معجمة بخال «5» وقال ديك الجن: كأنّ قافا أديرت فوق وجنته ... واختطّ كاتبها من بعدها ألفا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 وقال الصنوبري: عقرب الصدغ لماذا ... سالمته وهو وحده «1» تلدغ الناس جميعا ... ثمّ لا تلدغ خدّه العذار والطرّة قال أبو الفضل بن العميد: من عذيري من عذاري قمر ... عرّض القلب لأسباب التّلف علم الشعر الذي عاجله ... أنه جار عليه فوقف وقال بعضهم: رأيت وقد لاح العذار بخدّه ... على وجهه نملا يدبّ على عاج وقال: له شعر من رغبه في بياضه ... كمثل قطار النّمل دبّ على ثلج وقال السلامي: مددت طرّته كيما ألاعبه ... فأقبلت واستدارت كالخواتيم الشارب قال السلامي: له من عيون الوحش عين مريضة ... ومن خضرة الريحان خضرة شارب كأنّ غلاما ماهرا خطّه له ... فجاء كنصف الصّاد من خطّ كاتب حسن الكف والأنامل قال النابغة: بمخضّب رخص كأنّ بنانه ... عنم يكاد من اللطافة يعقد «2» وقال ابن المعتز: أثمرت أغصان راحته ... لجناة الحسن عنّابا» قال آخر: أطرافه تعقد من لينه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 وقال آخر: عضّت العنّاب بالبرد «1» وقال المتنبّي: ويمسح الطلّ فوق الورد بالعنم البنان المخضّبة قال بعضهم: أنابيب درّ قمعت بعقيق «2» وقال الناشي: كأن تطاريف الخضاب بكفّها ... فصوص عقيق فوق قضب زبرجد وقال ابن الرومي: وكفّ كأنّ الشمس أبدت بنانها ... إلى الليل مخضوبا فقمعها الليل «3» ونقال دعبل يهجو: كأنّما كفّها إذا اختضبت ... مخلب باز قد ضرّجت بدم طول القامة قال تميم: يهززن للمشي أعطافا منعّمة ... هزّ الجنوب ضحى أغصان يبرينا «4» أو كاهتزاز ردينيّ تداوله ... أيدي التجار فزادوا متنه لينا «5» وقال آخر: ويخجل الغصن من تثنّيه «6» وقال أبو نواس: طويلة خوط المتن عند قيامها ... ولي بالطويلات المتون ولوع وأنشد بشار قول المجنون: إلا إنّما ليلي عصا خيزرانة ... إذا غمزتها الكفّ فهي تلين فقال: والله لو جعلها عصا مخ أو ثريد لكان قد هجن فكيف بذكر العصا هلا قال كما قلت: وحوراء المدامع من معدّ ... كأنّ حديثها قطع الجمان «7» إذا قامت لحاجتها تثنّت ... كأنّ عظامها من خيزران الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 وقال آخر: كأنّه في اعتداله ألف ... ليس له في الكتاب تحريف وقال آخر: شبهتها حين قامت ... سارية من سواري أنامل أخرجتها ... شبّهتها بالمداري الربعة: عبد الله بن عجلان: ومخملة باللحم من دون ثوبها ... تطول القصار والطوال تطولها قال بعضهم: أعلاها قضيب وأسفلها كثيب لم تذهب طولا في إفراط ولا قصرا في انحطاط «1» . طول القامة مع عظيم العجيزة قيل لبعضهم: كيف رأيت فلانة؟ قال: غصنا حاملا لكثيب. قال عديّ بن الرقاع: تساهم ثوباها ففي الدرع غادة ... وفي المرط لفّا وإن ردفها عبل «2» قال الخبزارزي: تراك سرقت قدّك من قضيب ... أم استوهبت ردفك من كثيب وقال: فنصفا قناة ونصفا نقا. عظم العجيزة وصف بعضهم نسوة فقال: هن والله غير قبيحات الطول، إذا مشين انتعلن الذيول، وإذا ركبن أثقلن الحمول، تجاهد بالمشي أكفالها. قال أبو النجم: تأزّرن تحت الأزر: رمال عالج «3» قال ابن أبي زرعة: إذا ما نهض الخصر ... به أقعده الردف «4» وقالت امرأة لأخرى: أتحتك وسادة فقالت: وسادة وسّدنيها الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 دقّة الخصر مخصّر الخصر هضيم الحشى ... صغير ثناء الوشاحين «1» وقال آخر: هضيم الكشح حاملة الوشاح قال امرؤ القيس: وكشح لطيف كالجديل مخصّر «2» قال ابن الرومي: ظبي كأنّ بخصره ... من ضمره ظمأ وجوعا قال السريّ الرّفاء: ضعفت معاقد خصره وعهوده ... فكأن عقد الخصر عهد وفائه قال المتنبّي: وخصر تثبّت الأبصار فيه ... كأن عليه من حدق نطاقا قال الرّفاء: أحاطت عيون الناظرين بخصره ... فهنّ له دون النطاق نطاق عظم المخلخل ودقّة الخصر قال أعرابي: أقبلن وخصورهن تخنق وحجولهن تقلق فكنا بين أسير ومطلق قال عبّاس: بكى وشاحاها فلم يسكتا ... وإنّما أبكاهما الجوع ما بال خلخالك ذا خرسة ... لسان خلخالك مقطوع وفيه: خلخالها مشبع ... وشاحها مجوع وقال عبيد الله بن طاهر: وشاحها يحسد خلخالها ... كجائع يحسد شبعانا وعكس ذلك دعبل فقال: خلخالها يسحب في ساقها ... وقرطها في الجيد ما ينطق وقال ابن أبي زرعة: فاستكتمت خلخالها ومشت ... تحت الظّلام به فما نطقا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 حتّى إذا ريح الصّبا نسمت ... ملأ العبير بسرّنا الطرقا عظم الكفل مع دقّة الخصر قال ابن الطثرية: عقيليّة أما ملاة إزارها ... فدعص وأما خصرها فنبيل «1» وقال المتنبّي: كأنّما قدّها إذا انفتلت ... سكران من خمر طرفها ثمل «2» يجذبها تحت خصرها عجز ... كأنّه من فراقها وجل «3» وقال علي بن عاصم: بيض سرقن من الصّريم عيونها ... ومن الصّريم مآكم الأكفال «4» مدح عظم الثدي وتناهده قيل: لا تحسن المرأة حتى يعظم ثدياها. وقيل: خير الثدي ما يدفئ الضجيع ويروي الرضيع. وقيل للنظّام: أي مقادير الثدي أحمد؟ فقال: وجدت الناس مختلفين في الشهوات، ولكن سمعت الله تعالى يقول في وصف الحور وكواعب أترابا ولم يقل فوالك ولا نواهد. وقال مسلم: فأقسمت أنسى الداعيات إلى الصّبا ... وقد فاجأتها العين والشرّ واقع فغطّت بأيديها ثمار نحورها ... كأيدي الأسارى أثقلتها الجوامع قال محمد بن الحسن الأزدي: وقابلتني بفتور الجفون ... ومستوقرين على منبر بحقّين من لبّ كافورة ... برأسيهما نقطتا عنبر وقال ديك الجن: وذات رمّانتين في طبق ... من فضّة فصصا بفصّين تناهد الثدي مع عظم العجيزة قال عروة بن الورد: أبت الروادف والثّدي لقمصها ... مسّ البطون وأن تمسّ ظهورا وإذا الرياح مع العشيّ تناوحت ... نبّهن حاسدة وهجن غيورا وصف أعرابي امرأة فقال: بيضاء جعدة لا يمس الثوب إلا مشاشة منكبيها وحلمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 ثدييها أو رصاف ركبتيها وراتعة أليتيها. طيب الرائحة وصف رجل امرأة فقال: ملذّ كف ومشمّ أنف كنور يتبسّم في الأسحار، ونور يتبسم في الأشجار ولما أنشد كثيّر عبد الملك بن مروان قوله: وما روضة بالحزن طيّبة الثّرى ... يمجّ الندى جثجاثها وعرارها بأطيب من أردان عزّة موهنا ... إذا أوقدت بالعنبر اللدن نارها قيل له: امرؤ القيس أشعر منك حيث يقول: ألم ترياني كلّما جئت طارقا ... وجدت بها طيبا وإن لم تطيّب وقال صالح اللخمي: قسّم الأترج قسمين ... بنصفين سواء فلي اللون صفاء ... ولك الريح ذكاء وللبعيث: إذا هي زارت بعد شحط من النّوى ... وشى نشرها لا مسكها وعبيرها وقال العبّاس: فكيف أصنع بالواشين لا سلموا ... والعنبر الورد يأتيهم بأخباري وقال النونجي: إذا كتمت زيارتها ... أذاع الطّيب ما كتمت فأنطق ألسن الوا ... شين لا كانت ولا نطقت من يطيب به ما يمسّه قال عبد بني الحساس: وبتنا وسادانا إلى علجانة ... وخقف تهاداها الرياح تهاديا فما زال بردي طيّبا من ثيابها ... إلى الحول حتى يهيّج البرد باليا من تطيب به الأمكنة قال عبد الله بن محمد بن نمير: تضوّع مسكا بطن نعمان إذ مشت ... به زينب في نسوة عطرات وأنشد ثعلب: واستودعت نشرها الديار فما ... تزداد طيبا إلا على القدم وقال أبو عيينة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 تطيب دنيانا إذا ما تنفّست ... كأن فتيت المسك في دورنا نهبا التثني في المشي قال أبو النجم: إذا مشت سالت ولم تدحرج ... كما جرى الجدول بين الأفلج «1» وقال امرؤ القيس: وإذ هي تمشي كمشي النّزيف ... يصرعه بالكثيب البهر «2» قال الشمّاخ: تخامص عن برد الوشاح إذا مشى ... تخامص حافي الخيل الأمعز النوحى «3» لو قاله في المرأة كان أبلغ. قال ابن مقبل: يهززن للمشي أعطافا منعّمة ... هزّ الرياح ضحى عيدان يبرينا يمشين هيل النّقا مالت جوانبه ... ينهال حينا وينهال الثّرى حينا «4» ويستحسن للسّعدي قوله: مريضات أو بات التهادي كأنّما ... تخاف على أحشائها أن تقطّعا تسيب أنسياب الأيم أحصره الندى ... فرفّع من أعطافه ما ترفّعا «5» وقال البحتري: لما مشين بذي الأراك تشابهت ... أعطاف قضبان به وقدود «6» وقال آخر: يطأن ولو أعنقن في جدد وحلا «7» فهذا زاد بقوله أعنقن في جدد وحلا. قال الموسوي: وكأنّهنّ إذا أردن خطا ... يقلعن أرجلهنّ من وحل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 وفي الربيبة النعمة قال عمر بن أبي ربيعة: وأعجبها من عيشها ظلّ غرفة ... وملتفّ ريّان الحدائق الخصر ووال كفاها كلّ شيء يهمّها ... فليس لشيء آخر اللّيل تسهر وقال نصيب: قليلة لحم الناظرين يزينها ... شباب ومخفوض من العيش بارد وقال المرقش: نواعم لا يرين لبؤس عيش ... أوانس لا تراع ولا تذاد «1» تفضيل السوداء قال العبّاس: إن سعدى والله يكلأ سعدى ... ملكت بالسّواد رقّ سوادي أشبهت مقلتي وحبّة قلبي ... وبها فهي ناظري وفؤادي «2» قال ابن الرومي في سوداء: كأنّها والمزاح يضحكها ... ليل تعرّى دجاه عن فلق «3» وذكرت قصيدة ابن الرومي في وصف السوداء وأبو الحسن الموسوي حاضر فأسرف بعضهم في مدحها فقال أبو الحسن بديها: أحبّك يا لون السّواد لأنني ... رأيتكما في العين والقلب توأما سكنت سواد العين إذ كنت شبهه ... فلم أدر من عز من القلب منكما (3) أوصاف مجموعة من الجمال قيل لأعرابي: أي امرأة أحسن؟ فقال: التي لطفت كفّاها، وخذلت ساقاها، والتفت فخذاها، وعرضت وركاها، ونهد ثدياها، وعظمت إليتاها، وسال خدّاها. ويقال: كان وجهه البدر ليلة سعده وتمامه، قد ركب في غصن بان وقضيب ريحان أهيف القد، أدعج العين مقرون الحاجبين، أسيل الخدّين مسبل الذراعين، أرقّ من الهواء والماء وأحسن من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 الدمى وأضوأ من النهار إذا استنار وأبهى من سرابيل «1» الأنوار. لا يجري بوصفه الوهم، ولا يبلغ نعته الفهم. كأنّ أنفه قصبة درّ وحدّ حسام وكأنّ فمه حلقة خاتم، وكأنّ جيده جيد ظبي قد أتلع «2» لرؤية قانص «3» ، سبط الأنامل، لين القصب دقيق الخصر حلو الشمائل، كأنما خلق من كل قلب. فكل طرف له فيه حظّ ولكل قلب إليه ميل. وقيل في وصف جارية: وجهها كضوء البدر، وخدّها كجني الورد ولسانها ساحر، وطرفها فأتر. ضمّها بهيج اللوعة، ونطقها ينقع الغلة «4» تنهض بقدّ كالقضيب، وتدبر بكفل كالكثيب ثديها يرنو إلى ذقنها، ولا يطرف عكنها» شعرها، لاحق بذيلها في مثل سواد ليلها، ثغرها كاللؤلؤ النظيم، يجلو دجا الليل البهيم، ريحها «6» كالراح المعتّق ختامه كالمسك المفتق، يستجمع صنوف النعيم مضاجعها، ولا يأسى على ما فاته مالكها، صحيحة الحدقة، مريضة الجفون كأنّ ساعدها طلعة، ومعصمها جمار، وأصابعها مداري فضة. وكأنّ نحرها من ساج وبشرتها من زجاج وسرتها من عاج ولينها من خز، ودثارتها من قز. وقال أعرابي في وصف امرأة: عذب ثناياها «7» وسهل خدّاها ونهد ثدياها ولطف كفّاها ونعم ساعداها، وعرضت وركاها والتفّت خداها، وخدلت ساقها، فتلك هي النفس ومناها. قال المرقش الأكبر: النشر مسك والوجوه دنا ... نير وأطراف الأكفّ عنم وقال علي بن عاصم: السيف مضحكه والقوس حاجبه ... والنّبل عيناه والأشفار أرماح «8» وقال المتنبّي: سهاد لأجفان وشمس لناظر ... وسقم لأبدان ومسك لناشق ما يجب أن تكون عليه الحسان من حسن الجوارح يجب أن يكون في المرأة، أربعة أشياء سود: شعر الرأس والحاجبان وأشفار العين والحدقة، وأربعة بيض: اللون وبياض العين والأسنان والساق، وأربعة حمر: اللسان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 والشفتان والوجنتان واللثة، وأربعة مدوّرة: الرأس والعنق والساعد والعرقوب «1» . وأربعة طوال: الظهر والأصابع والذراعان والساقان. وأربعة واسعة: الجبهة والعين والصدر والوركان، وأربعة دقيقة: الحاجبان والأنف والشفتان والأصابع، وأربعة غليظة: العجز والفخذان والعضلتان والركبتان، وأربعة صغيرة: الأذنان والثديان واليدان والرجلان، وأربعة طيبة: الريح والعرق و الفم والأنف والفرج، وأربعة عفيفة: الطرف والبطن واللسان واليد. (4) وممّا جاء في مقابح خلق النسوة قبح الوجه قال دعبل: ووجه كوجه الغول فيه سماجة ... مفوّهة شوهاء ذات مشافر «2» وقال: تحاكي نعيما زال في قبح وجهها وقال: في صورة الكلب إلّا أنّها بشر وقال: لها عينان من أقطّ وتمر ... وسائر خلقها بعد الثّريد «3» النمش قال ابن الرومي: كأنّ الثآليل في وجهها ... إذا سفرت بدد الكشمش «4» وقال: رشت بخيلانها فجلدتها ... منقوشة مثل جلدة النّمر «5» وقال: ووجه كبيض القطا الأبرش الفم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 قال بعضهم: رقطاء كيداء يبدي الكيد مضحكها ... تنوء بالعرض والعينان بالطّول «1» لها فم ملتقى شدقيه نقرتها ... كأن مشفرها قد طرّ من فيل وقال: كانت ثناياها وما ذقت طعمها ... لبا نعجة سوّطته بدقيق «2» وقال: كأنّما نكهتها كامخ ... أو حزمة من حزم الثّوم وقال: وتفترّ عن ثلج عدمت حديثها ... وعن جبلي طيّ وعن هرمي مصر اليد والرجل كأنّ ذراعا على كفّها ... إذا حسرت ذنب الملعقة وقال: خنصراها كديبق القصّار «3» وقال: وساق مخلخلة حمشة ... كساق الجرادة أو أحمش «4» وقال: تمشي على قوائم عجاف ... كأنّما جمعن من خلاف «5» وقال: وتحفر الأرض إذا ما مشت ... كأنّما تحفر رجلاها القامة القصيرة قيل لرجل كيف رأيت فلانة؟ فقال: دوّامة صغيره ... في زرقة المغيره وقال ابن الرومي: دحداحة الخلقة حدباؤها ... قامتها قامة فقّاعه «6» لو أنها ملكي ولي ضيعة ... جعلتها للطّير فزّاعه «7» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 وقال: حدباء وقصاء صيغت عجبا ... وفي ترائبها عن صدرها زود «1» الوطباء «2» الثدي قال ابن مقلس الحنفي: وثدي يجول على نحرها ... كقربة ذي التّلّة المعطش وقال دعبل: وثديان ثدي كبلّوطة ... وآخر كالقربة المدهقة «3» المهزولة قال بعض القدماء: لقد لمست معراها فما وقعت ... ممّا لمست يدي إلا على وتد «4» وقال: وذات جسم مشبه الساجور ... وجؤجؤ كجؤجؤ الطنبور وقال: وصدر فسيح كثير العظام ... تقعقع من يبسه المخنقه «5» شعر البدن وقال شاعر: خصباء لا نبت في قفاها ... ولم تزل في إستها ضفيره وقال دعبل: بظراء سوداء لها شعرة ... كأنّها نمل على مسح «6» أوصاف مجموعة من المقابح قال ابن الرومي: صغرت عينها ووسّع فوها ... ومشق استها وثقب المبال وقال الأسود بن يعفر: لها وركا عنز وساقا نعامة ... وأسنان خنزير ومكشر أرنب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 وقال ناصر العلوي: يا قردة أبصرت في مأتم ... تندب شجوا بتخاليط تبكي فتلقي البعر من عينها ... وتلطم الشوك ببلوط (5) وممّا جاء في وصف اللحية والشّيب والخضاب وذكر المعمّرين مدح اللحية وذمّ المرادة قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: الشعر الحسن من كسوة الله فأكرموه وكان من يمين عائشة رضي الله عنها: لا والذي زيّن الرجال باللحاء. وقال الموسوي: رأت شعرات في عذاري تبسّمت ... كما افترّ طفل الروض عن خلع الوسمي «1» فقلت لها ما الشعر سال بعارضي ... ولكنّه نبت السيادة والحلم يزيد به وجهي ضياء وبهجة ... وما تنقص الظّلماء من بهجة النّجم قيل: لا تصافين من لا شعر على عارضيه وإن كانت الدنيا خربا إلا منه. ذمّ اللحية قيل: فلان سبخ الله أرضه من غير رضاه، وقيل: كساه أبو الحالك من نسيج أم سويد. قال ابن طباطبا: الموت أهون من سوا ... د العارضين لمن عرف قال أبو العنتر: أنّى تتيه وقد علا ... ك الشعر في الحدّ المحل «2» وخرجت من حدّ الظّبا ... ء وصرت في حدّ الإبل وصف لحية طويلة لم يصرخ لها بمدح ولا هجو قال شاعر: يا لحية سرّحتها ... فقعدت منها في جوالق وقال ابن نوقة: يا لحية أربعة في أربعة ... تنسج منها كلّ يوم مدرعه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 قد ذهبت في الطول منها والسّعة ... وتحتشي من حافتيها بردعه مدح اللحية والاعتذار لها دخل رجل على قتيبة بن مسلّم وكان عظيم اللحية وقتيبة كان خفيف اللحية فقال: لقد كبرت لحيتك فقال: والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا. فقال قتيبة: قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبتك كثرة الخبيث وقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بتوفير اللحية فقال: أحفوا الشوارب واعفوا اللحى. ذم طول اللحية ومدح خفتها قال الجاحظ: ما طالت لحية رجل إلا تكوسج «1» عقله. قال شاعر: ألم تر أنّ الله أعطاك لحية ... كأنّك منها بين تيسين قاعد وقال مديني لرجل قد ملأت لحيته وجهه: خندق على وجهك قبل أن يجري الماء في العود فيصير وجهك كله رأسا. وقيل: ما زادت لحية عن قبضة إلا نقص بمقدار زيادتها من العقل. قال شاعر: إذا لحية خفّت وفا عقل ربّها ... وإن ضخمت لم يحظ إلا بها الصّدر وقال ابن الرومي: إذا عرضت للفتى لحية ... وطالت وصارت إلى سرّته فنقصان عقل الفتى عندنا ... بمقدار ما زيد في لحيته وعرض الرشيد خيل مصر فمر به أفراس كثيرة وسمها الجنيدي، فسأل عنه فقيل: هو صاحب هذه الافراس. فاستحضره فإذا هو لحياني «2» أحمق. فقال الرشيد: ما أحسن هذه الأفراس فقال: هي للخليفة يقبلها. وقيل: اللحية الطويلة عش البراغيث ومزبلة التراب والغبار. عذر من نتف من السخفاء قيل لمخنّث لم تنتف لحيتك وهي من هبة الله؟ فقال: إن الله تعالى أمرني بذلك فقال: وإذا حييتم بتحية فحيوا بإحسن منها أو ردّوها ولم أجد بأحسن منها فرددتها. وقيل لآخر: لم تنتف لحيتك وقد زين الله بها وجهك؟ فقال أتحب أن يزين بها فقحتك؟ قال: لا قال: ما لا تحب أن يطلع في إستك كيف أستصلحه لوجهي؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 وكان لرجل ابن مخنث وكان يمنعه من نتف لحيته فنام أبوه يوما فحلقها وهو نائم فانتبه أبوه فقال: أين ذقنك؟ فقال: فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ «1» . وقيل لأبي عبد الله المنتوف: لم تنتف لحيتك؟ فقال: وأنت لم لا تنتفها؟ وصف الناتف كان بلال لا يجيز شهادة من ينتف اللحية أو يأكل الطين. قال ابن طباطبا في بعض من كان ينتفها: يا من يزيل خ ... لة الرحمن عمّا خلقت هل لك عذر عنده ... إذا الوحوش حشرت في لحية إن سئلت ... بأيّ ذنب نتفت «2» وفي حاذق بالنتف: أنامله في عارضيه كأنّما ... تسبح بالمنقاش في خفّة النتف «3» وقال: إن كان بالمنقاش يحصد نبتها ... فيد الليالي من وراه تزرع قصّ الشعرات البيض قال أبو حنيفة رضي الله عنه للحجّام: التقط هذه الشعرات البيض، فقال الحجام لا تلتقطها فأنها تكثر، فقال: فإذا التقط السود فلعلها تكثر. كان حجام يلتقط البيض من لحية رجل فلما كثر قال ما ترى في الحصاد فقد ذهب وقت الالتقاط، قال ابن طباطبا: تاوّبني همّ لبيضاء نابته ... لها بغضة في مضمر القلب ثابته ومن عجب أني إذا رمت قصّها ... قصصت سواها وهي تضحك شامته وقال أبو دلف: اشتعل الشيب فأخفيته ... وكلّ مقراضي فأعفيته وكلّما عالجت قصاله ... وقلت في نفسي أخفيته «4» طلعني من طرّتي طالع ... كأنّني بالأمس ربّيته «5» أروم ما ليست له حيلة ... أعياني الشيب فخلّيته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 وقال: يا شعرة طلعت في الرأس طالعة ... كأنما طلعت في ناظر البصر لئن قصصتك بالمقراض عن بصري ... فما قصصتك عن همّي وعن فكري فما تلبّثت إن قهقهت ضاحكة ... تحت الخضاب كفعل الشامت الأشر ظهور الشيب واختلاط البياض بالسواد قال الفرزدق: والشيب ينهض في السّواد كأنّه ... ليل يصيح بجانبيه نهار قال مروان: كالصبح أحدث للظّلام أفولا وقال: ليل تلفّع مدبرا بنهار وقال البحتري: مشيب كبث السرّعيّ بحمله ... محدثه أوصاف صدر مذيعه وقال دعبل: لا تعجبي يا هند من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى وقال تميم بن مقبل: يا حرّ أمسى سواد الرأس خالطه ... شيب القذال اختلاط الصّفو بالكدر وقال: زمان على غراب غداف ... فطيّره القدر السّابق «1» وصار على وكره عقعق ... من البلق ذو شية باعق» وقال ابن الرومي: شعرات في الرأس بيض ودعج ... حلّ رأسي خيلان روم وزنج «3» طار على هامتي غراب شباب ... وعلاه كأنّه شاه مرج حلّ في صحن هامتي منه لونا ... ن كما حلّ رقعة شطرنج مبدأ ظهور الشيب قال بعض الحكماء ظهور الشيب في الناصية كرم، وفي القفا لؤم، وفي الهامة وفاء، وفي الفودين شرف، وفي الصدغين شح وفي الشارب فحش. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 نزل المشيب في وقته قيل لرجل: أين ذهب شبابك؟ قال: ذهب به خصال طال أمده وكثر ولده وقلّ عدده وذهب جلده: أفنى الشباب الذي حاولت جدّته ... مرّ الجديدين من آب ومنطلق «1» لم يبقيا لي من طول اختلافهما ... شيئا أخاف عليه لذعة الحدق «2» وقال البحتري: إن كان قد عبث المشيب بلمّتي ... فلقد أخذت من الشّباب نصيبي وقال: ومن يطلع شرف الأربعين ... يحيى من الشّيب زورا غريبا قال ابن الرومي: أدرى غراب الشيب فوق مفارقي ... ركض السنين الراكضات أمامي وقال: وافتني الليالي أم عمرو ... وحلّي في النتايف وارتحالي وتربيتي الصغير إلى مداه ... وتأميلي هلالا عن هلال وقال: ومن يك رهنا لليالي ومرّها ... تدعه كليل القلب والسمع والبصر من شاب قبل أوانه قال أبو نواس: وإذا عددت سنّي كم هي لم أجد ... للشيب عذرا في النّزول برأس وقال كشاجم: إذا فكّرت في شيبي وسنّي ... عتبت عليه فيما نال منّي كأنّ الشيب غار على الغواني ... فعرضهنّ للأعراض عنّي وقال: لو كان يمكنني سفرت عن الصبا ... فالشيب من قبل الأوان يلثم ولقد رأيت الحادثات فلا أرى ... شيبا يميت ولا سوادا يعصم وقال: وهل أنا إلا ابن الثلاثين لم تشب ... لداتي ولكنّ الخطوب تضيم وقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 قد رأيناه بالعشيّ غلاما ... فغدونا نعدّه في الكهول وقال الموسوي: عجّلت يا شيب على مفرقي ... وأيّ عذر لك أن تعجلا وكيف قدمت على عارض ... ما استغرق الشعر ولا استكملا يا زائرا ما جاء حتّى مضى ... وعارضا ما غام حتّى انجلى وما رأى الراؤون من قبلها ... زرعا ذوى من قبل أن يبقلا «1» وقال: وعارضني في عارضي منه أنجم ... ظلمن شبابي وهي في القلب أسهم قال ابن المعتز: يا هند ما شاخ الفتى ... وإنّما شاخ الشّعر من شاب من الوقائع والشدائد قال الحسن بن رجاء: إن يشب رأسي فمن كرم ... لا يشيب المرء من كبره وخطوب قد تحلّ به ... ومشيب الحرّ في صغره وقال ابن المعتز: قالت كبرت وشبت قلت لها ... هذا غبار وقائع الدّهر «2» وله: إن شيب الرأس نوار الهموم «3» قال الموسوي: وما شبت من طول السنين وإنّما ... غبار حروب الدّهر غطّى سواديا من شاب من استعمال الطيب وهجر الحبيب قال بعض الأقدمين: جلا الأذفر الأحوى من الطيب فرقه ... وطيب الدهان رأسه فهو أنزع «4» وقال: إنما شيّبني الطيّ ... ب وأنفاس الغواني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 واهتمامي بنزيل ... أو بضيف أو بعان قصرت عن جانب الح ... ق له منّي اليدان قال كشاجم: لا تنكرين الشيب أنت جلبته ... بجناية وقطيعة وعتاب لو لم تروّعي بالغرور وبالنّوى ... طورا لطال تمتّعي بشبابي الشباب مقتض لارتكاب التصابي قال النبي صلّى الله عليه وسلّم إن الله يبغض ابن الستين في طرّة ابن العشرين. وقال أبو عمرو السلمي وقد رأى قوما يعذلون شابا. لا تعذلوه فقد رأيتني وأنا شائب أعضّ على الملام عضّ الجموح على اللجام حتى أخذ العيب بعنان شبابي وإن لم يكن الشيب شعبة من الجنون فإنه عصارته. قال أبو نواس: إن الشباب مطيّة الجهل ... ومزين الضّحكات والهزل ومنه للنابغة: فإن مطيّة الجهل الشباب وقيل: اليد الفارغة والنفس المستريحة والشباب المقتبل «1» تكتسب الآثام وتستحل الحرام، ومنه: إن الشباب والفراغ والجده ... مفسدة للمرء أي مفسده قال الجريمي: اللهو يحسن بالفتى ... ما لم يكن شيب يشينه «2» وقال شبيب بن شبة: رعى الله دهرا أخرس العذل عذره ... بشرخ شباب لم يشب صفوه كدر وقال: كلّ اللذاذات والتّصابي ... قبل الثلاثين تستطاب المتذمّم لتعاطي ما تعاطاه في أيّام الصبا قال الواسطي: حان حصادي ولم يصلح فسادي. قال البحتري: وأضللت حلمي والتفتّ إلى الصّبا ... سفاها وقد جزت الشّباب مراحلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 وقال ابن المعتز: أنت في الأربعين مثلك في ... العشرين قل لي متى يكون الفلاح؟ قال المتنبي: وفي الجسم نفس لا تشيب بشيبه ... ولو أنّ ما في الوجه منه خراب يغير منّي الدهر ما شاء غيرها ... وأبلغ أقصى العمر وهي كعاب قال أبو سعيد الرستمي: قبيح بذي الشيب أن يطربا ... وما للمشيب وما للصّبا أمن بعد خمسين ضاعت سدى ... وأودى بها اللهو أيدي سبا «1» تشيم بروق الدمى دائما ... وقد شامت العارض الأشيبا وأقبح بذي عارض أشيب ... إذا قابل العارض الأشنبا «2» وأهلك واللّيل بادر به ... فقد كادت الشمس أن تغربا قال علي بن عبد العزيز: التّصابي بلا شباب محال من أقلع لظهور شيبه نظر إياس بن معاوية في المرآة فرأى شيبة في لحيته فقال: لا أراني سمير الحاجات بني تميم فلزم بيته ولم يدخل بعد ذلك على السلطان، وقال مسلمة بن عبد الملك: ما وعظني شعر ما وعظني ما قال عمرو بن حطان: صبا ما صبا حتّى علا الشيب رأسه ... فلما علاه قال للباطل أبعد وقال أعرابي: فلان وضع رداء مجونه لما بدا الفجر من ليالي قرونه. وقيل لرجل: ألا تشرب؟ فقال: في شيب الرأس مطردة عن الكاس. وكان الرجل إذا بلغ أربعين طوى فرشه وجدّ في عمله. وقيل: ثلاثة كل منها يقتضي تجنب الصبا: ظهور الشيب والتحصن بالتزوّج والحج إلى بيت الله الحرام. وقالت امرأة لرجل: كان يخادنها ما فعل غزلك؟ فقال: أماته شيب العارضين. قال أبو الفرج الببغاء: لا عذر بعد عذار شاب أكثره ... فالشيب أوعظ أعذار وأنذار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 وقال كثيّر: أتيت جميلا استنصحه هل أظهر الشعر، فأنشدته: وكان الصبا خدن الشباب فأصبحا ... وقد تركاني في مغانيهما وحدي فقال: حسبك أنت أشعر الناس. قال أحمد بن أبي طاهر: ركبت الصبا حتّى إذا ما ونى الصّبا ... نزلت من التّقوى بأكرم منزل «1» ودين الفتى بين التنسّك والنهى ... ودنيا الفتى بين الصّبا والتغزّل فيمن زعم أنه ترك التصابي لغير ملالة قال إسحاق الموصلي: سلام على سير القلاص مع الركب ... ووصل الغواني والمدامة والشرب سلام امرئ لم تبق منه بقية ... سوى نظر العينين أو شهوة القلب قال البحتري: إنّي وإن جانبت بعض بطالتي ... وتوهّم الواشون إني مقصر ليشوقني سحر العيون المجتلى ... ويروقني ورد الخدود الأحمر «2» وقال: قد رأيت الشيب إلّا أنّني ... لم يرعني الشيب عن وجه حسن قال بشّار: إن المشيب وما ترى بمفارقي ... صرف الغواية فانصرفت كريما وصحوت إلا من لقاء محدّث ... حسن الحديث يزيدني تعليما تارك الصبا قبل هجوم شيبه ما كنت أول آخذ بعزيمة ... هجر الغواني والمفارق سود وقال: لا أجمع الحلم والصهباء، قد سكنت ... نفسي إلى الماء عن ماء العناقيد «3» لم ينهني كبر عنه ولا فند ... لكن صحوت وغصني غير محصود «4» الحثّ على مبادرة المشيب بتعاطي صلاح أو تصاب قال هارون بن علي: أعط الشباب نصيبه ... ما دمت تعذر في الشّباب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 وقال ابن أبي السمط: وبادر بأيام الشباب فإنّها ... تفوت وتمضي والغواية تنجلي وأنشد أبو العتاهية قوله: إن الشباب حجّة التّصابي ... روائح الجنّة في الشّباب قال: كيف ترونه؟ فقالوا: حسن فقال: إن له جناحين يطير بهما في الجنة. من تعاطى التصابي في مبدأ ظهور شيبه قال ديك الجن: وقالوا قد توشّح عارضاه ... فقلت الآن أوضع في الأثام «1» وقال ابن طباطبا: أقول وقد أوقظت من سنّة الهوى ... بعذل يحاكي لذعه لذعة الهجر دعوني وليل اللهو في ليل لمّتي ... ولا توقظوني بالملام إلى الفجر من استهان بالشيب فتعاطى بعده التصابي قيل لخاسر: ما أكبر ما صنع بك الشيب؟ فقال: ما صنعت به أكبر والله ما هبته ولا رعيته ولا امتنعت له عن تعاطي محرم وارتكاب مأثم، ونظمه من قال: لعمري لئن حلّ المشيب بلمّتي ... لقد كان ما أحللت بالشيب أعظما سل الشيب عنّي هل عرفت وقاره ... وهل عفت حوبا أو تجنّبت مأثما «2» وقال أبو نواس: يقولون في الشيب الوقار بأهله ... وشيبي بحمد الله غير وقار وقال ابن المعتز: لمّا تولّى الشباب عنّي ... صفعت وجهي على المشيب وقال بعض العلويين: إن يكتهل منه القذال فحبّه ... في الغانيات وحبّهنّ غلام همّ متعاطي التصابي ومشتاق إليه حمل شاب غلاما إلى خربة فلما خلا به اطلع عليهما شيخ، فقال: فعل الله بكم فمن مثل فعلكم يغلو السعر وينزل البلاء. فعدا الشاب خوفا، فخلا الشيخ بالغلام فاطلع الشاب، فقال: يا عمّ الحمد لله قد رخص السعر وارتفع البلاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 ودخل شيخ مسجدا فراود صبيا فعلم الإمام فعاتبه وعنّفه فلما أطال له قال له: كم ذا تعنفني كأن لم ير سفلة غيري. ورأى سفيان في مجلسه شيخا همّا يتخرّق صفوف النساء ويبكي فظنّ أن بكاه لما سلف من ذنوبه فاستقبلهنّ، ثم قال: عليكنّ السلام فليس عندي ... لكن فدعنني غير السّلام وكنّ إذا نظرن إليّ أمشي ... نقبن عليّ من خلل الخيام وقيل: إن إبليس إذا رأى شيخا ذا طرة قال فديت من لا يفلح. الحثّ على تعظيم المشايخ ومخالطتهم روي أن رجلا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أصابتني خصاصة فقال: لعلّك مشيت أمام شيخ. وقام وكيع لسفيان فأنكره وقال: ألست حدثتني عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن؟ وقال صلّى الله عليه وسلّم: ثلاثة لا يستخف بهم إلا منافق: إمام مقسط وذو شيبة في الإسلام وذو علم، وقال أزدشير لابنه وقّر المشايخ، فهم مواطن الوقار ومعادن الآثار ورواة الأخبار وحفظة الأسرار. إن رأوك في قبيح منعوك، أو جميل أيّدوك وإياك وأغمار الشباب فهم أهل الصبوة إلى الشهوات. وأوصى يزيد بن المهلب إبنه فقال ليكن جلساؤك ذوي الأسنان فالشباب شعبة من الجنون ومرّ الحسن بفتيان فقال: شوبوا مجلسكم بشيخ. وقيل: من عرف حقّ من فوقه، عرف حقّه من دونه. تفضيل الشيب في الرأي على الشباب في المثل: جري المذكيات غلاء جرى المذاكي حسرت عنه الحمر. وقيل: الشيخ في رأيه كالجذل المحكك، لا يهدّه خطب ولا يزعزعه صرف، والشاب كالغصن الناعم الذي يستحيل بأيسر ريح وأيسر آفة. وقيل: الشيخ كالبازل المستقل بما يحمل والشاب كابن اللبون لا ينهض بما يحتمل. وقال: وابن اللبون إذا ما لزّ في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس «1» تفضيل الشبان فيه قال صلّى الله عليه وسلّم: وسّعوا للشبان في المجالس وأفهموهم الحديث. وكان عمر رضي الله عنه، إذا نزل به معضل دعا الفتيان واستشارهم وقال هم أجدّ قلوبا. وقيل: الشيخ كالزند الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 الذي قد انثلم «1» ، ورأي الشبّان كالزند الصحيح الذي يورى بأيسر اقتداح. مدح الشيب بالوقار والعفة تأمل حكيم شيبة فقال: مرحبا بزهرة الحنكة وثمرة الهدى ومقدّمة العفة ولباس التقوى. وروي أن إبراهيم عليه السلام لما بدا الشيب بعارضيه قال: يا ربّ ما هذا؟ قال: وقار. قال: يا ربّ زدني وقارا. وعيّر حكيم بالشيب فقال: الشيب نور يورثه تعاقب الليالي والأيام، وحلم يفيده مرّ الشهور والأعوام، ووقار تلبسه مدة العمر ومضي الدهر. قال دعبل: أهلا وسهلا بالمشيب فإنّه ... سمة العفيف وحلية المتحرّج ضيف ألمّ بمفرقي فقريته ... رفض الغواية واقتصاد المنهج وقال أبو تمّام: ولا يروعك إيماض القتير به ... فإنّ ذاك ابتسام الرأي والأدب «2» مناقضة من مدح الشيب بالوقار قال أبو تمّام: حلمتني زعمتم وأراني ... قبل هذا التحليم كنت حليما دقّة في الحياة تدعى جلالا ... مثل ما سمّي اللديغ سليما قال المتنبّي: ليت الحوادث باعتني الذي أخذت ... منّي بحلمي الذي أطعت وتجريبي «3» فما الحداثة من حلم بمانعة ... قد يوجد الحلم في الشبان والشّيب قال عبدان: إن شيئا نعى إلى حياتي ... لبغيض وإن أفاد الرشاد قال الموسوي: غالطوني عن المشيب وقالوا ... لا ترع إنّه جلاء الحسام قلت بل مرّ بي على الرأس منه ... صارم الجدّ في يد الأيام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 (6) في حسن الشباب وطيبه وقبح الشّيب وعيبه قال عكرمة في قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ «1» إلى الهرم، وللأخطل: لا تحمدنّ شعرا تغشا ... هـ البياض فليس يحمد قد كنت أبيض في القلو ... ب زمان كنت تراه أسود قال أبو تمّام: غرّة بهمة ألا إنّما كن ... ت أغرّا أيام كنت بهيما «2» وقال: إن قبح البياض في شعر الرأ ... س كقبح البياض في الأحداق «3» وقال المتنبي: متى لحظت بياض الشيب عيني ... فقد وجدته منها في السّواد وقال أبو تمّام: لو رأى الله أنّ في الشيب فضلا ... جاورته الأبرار في الخلد شيبا وقال البحتري: وددت بياض السيف يوم لقيتها ... كأنّ بياض الشيب كان بمفرقي وقال المتنبي: ضيف ألمّ برأسي غير محتشم ... والسيف أحسن فعلا منه باللمم وقال الموسوي: ما كان أضوا ذلك الليل في ... سواد عطفيه ولم يقمر التسمية بما يدل على الكبر ذم ّ لو قيل لعجوز منحنية يا عجوز ويا جدة لغضبت واستوحشت ولو قيل يا جارية لقالت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 لبيك وسعديك، وعلى ذلك يا شيخ ويا فتى. قال يزيد بن عتاب: يا حرقة القلب بيا شيخ ويا ... برد الفؤاد حين يدعى يا فتى وقال: وإذا دعوتك عمّهن فإنّه ... نسب يزيدك عندهنّ خبالا «1» وقد ظرف البحتري في قوله: يتظرّفن للذليل المسمّى ... من تصاب دون العزيز المكنّى وقال أبو حازم: إذا ما دعوت الشيخ شيخا هجوته ... وحسبك مدحا للفتى قول يا فتى إزورار النساء عن الشيب قال بعض المشايخ: رأيت امرأة راقتني فقلت هل لك فيّ؟ فقالت: إن بي عيبا شيب رأسي فثنيت عناني. فصاحت أثبت وكشفت عن شعر كالحمم وقالت: إني أكره من الشيب ما كرهته. قال المتنبي: أرى شيب الرجال من الغواني ... بموقع شيبهنّ من الرّجال وقال ابن الرومي: أعر طرفك المرآة وانظر فإن نبا ... بعينك منه الشيب فالبيض أعذر «2» إذا شنأت عين الفتى شيب نفسه ... فعين سواه بالشناءة أجدر وقال ابن المعتز: لقد أبغضت نفسي في مشيبي ... فكيف يحبّني البيض الكعاب قال الحكم الحضرمي: قد كان يعجب بعضهنّ نزاعتي ... حتّى سمعن تنحنحي وسعالي وقال الصاحب: قد سبق ابن المعتز كل من قال في رغبة النساء عن المشيب بقوله: فظللت أطلب وصلها بتذلّل ... والشيب يغمزها بأن لا تفعلي وقال: الشيب أعظم ذنبا عند غايته ... من ابن ملجم عند الفاطمينا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 رغبة الشيب عن النساء قال بعض الشيوخ: كنت أخاف أني إذا شبت تزهد فيّ النساء فلما شبت كنت أزهد منهنّ فيّ. قال شاعر: رمتني وستر الله بيني وبينها ... ونحن بأكناف الحطيم ذميم «1» فلو أنني لما رمتني رميتها ... ولكنّ عهدي بالنضال قديم معرفة فضل الشباب عند فقده قال بعضهم: شيئان لا يعرف فضلهما إلا من فقدهما: الصحة والشباب. قال ابن الرومي: لا تلح من يبكي شبيبته ... إلا إذا لم يبكها بدم «2» لسنا نراها حقّ رؤيتها ... إلا زمان الشيب والهرم كالشمس لا تبدو فضيلتها ... حتّى تغشّى الأرض بالظّلم ولربّ شيء لا يبينه ... وجدانه إلا مع العدم وقال ابن الأعرابي: لا أعرف في مدح الشباب وذمّ الشيب أحسن من قول محمد بن حازم: لا تكذبنّ فما الدنيا بأجمعها ... من الشباب بيوم واحد بدل قال محمود الوراق: سقيا لأيام تولّت به ... أحسن ما كانت صروف الزّمن ولى فما الدنيا بأقطارها ... لليوم والساعة منه ثمن غمّ من ذهب شبابه قبل تمتعه به قال منصور النمري: ما كنت أوفي شبابي كنه عزّته ... حتّى مضى فإذا الدنيا له تبع وسمع ذلك الرشيد فقال وما خير دنيا لا يخطر فيها برداء الشباب قال عمر بن أبي ربيعة: إن الشباب الذي كنّا نزن به ... مضى ولم نقض من لذّاته أملا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 (7) البكاء على فقد الشباب والتأسف له نظر رجل إلى شيبة في رأسه فجمع نساءه وقال: أندبنني فد مات بعضي. قال الخزيمي: إذا ما مات بعضك فابك بعضا ... فبعض الشيء من بعض قريب وقال محمود الورّاق: أليس عجيبا بأنّ الفتى ... يصاب ببعض الذي في يديه فمن بين باك له موجع ... وبين معنى معز إليه ويسلبه الدهر شرخ الشباب ... وليس يعزّيه خلق عليه «1» وقال: شيئان لو بكت الدماء عليهما ... عيناك حتّى يؤذنا بذهاب لم يبلغا المعشار من حقّيهما ... فقد الشباب وفرقة الأحباب ذمّ الشباب بقلّة الوفاء واللبث والتسلّي عنه قال شاعر: ما في يدي من الصّبا ... إلا الندامة والأسف كان الشباب كزائر ... ملّ الزيارة وانصرف قال بعضهم: لم أقل للشباب في دعة ... الله وفي حفظه غداة تولّى زائر زارني أقام قليلا ... سوّد الصحف بالذّنوب وولّى قال منصور الفقيه: ما كان أقصر أيام الشباب وما ... أبقى حلاوة ذكراه التي يدع وقال المتنبّي: مشيب الذي يبكي الشباب مشيبه ... فكيف توقّيه وبانيه هادمه تمني عوده والدعاء له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 قال أبو العتاهية: ألا ليت الشباب يعود يوما ... فأخبره بما فعل المشيب وقال النمري: والله لو أعطى المنى ... لوددت أيّام الصّبا ومعاتبات كنّ لي ... ومداعبات للدّمى قال حميد: فلا يبعد الله الشباب وقولنا ... إذا ما صبونا صبوة سنتوب «1» ليالي سمع الغانيات وطرفها ... إليّ وإذ ريحي لهنّ جنوب وقال ديك الجن: لله درّي في الشبيب ... ة من أخي لهو أريب «2» أيام يحملني الشبا ... ب على التهاون بالذّنوب تولّي العيش بتولي الشباب قال كثيّر: وكان الصبا خدن الشباب فأصبحا ... وقد تركاني في مغانيهما وحدي» وقال: ولّى الشباب وولّى العيش والعمر ... وأقبل المدبران الشّيب والكبر وقال رسبة بن الأبيض: بان الشباب بكلّ ما ... تهوى النفوس وتطيب طفئ السراج وكلّت الأض ... راس وانكسر القضيب «4» قال عليّ بن جبلة: ولما انقضى عصر الشباب وعهده ... ذوى ورق الدنيا وأغصانها الهدل «5» كراهة ذهاب الشيب وكراهة نزوله قال مسلم: الشيب كره وكره أن يفارقني ... فأعجب لشيء على البغضاء مودود يمضي الشباب ويأتي بعده خلف ... والشيب يذهب مفقودا بمفقود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 قال البحتري: تعيب الغانيات عليّ شيبي ... ومن لي أن أمتّع بالمعيب وأنشد ابن دريد في وصفه: ولي صاحب ما كنت أهوى لقاءه ... فلما التقينا كان أكرم صاحب عزيز علينا أن يفارق بعدما ... تمنّيت دهرا أن يكون مجانبي الشيب داء متمنى قيل لأبي العيناء: كيف أنت؟ قال في الداء الذي يتمنّاه الناس يعني الهرم. وقيل لأعرابي وقد ضعف من الكبر لقد أذنب إليك الدهر، فقال: كثّر الله من ذنوبه عندي. طول العمر يفضي إلى الهرم والمصائب قيل: من أخطأ سهم المنية قيّده الهرم. ومن وطّن نفسه على طول العمر فليوطنها على كثرة المصائب. وقال ابن الحارث في وصيته لبنيه: من متّع بكبر بلي بعبر، ومن تأخّر يوما ملّه قومه. وقال زهير: رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ... تمته ومن تخطئ يعمّر فيهرم وقيل: كفى بالسلامة داء، وقال: فكيف ترى طول السلامة يفعل من أضعفه كبره وهرمه سأل الحجاج شيخا فقال: كيف طعمك؟ قال: إذا أكلت ثقلت، وإذا تركت ضعفت. قال: كيف نكاحك؟ قال: إذا بذل لي عجزت، وإذا منعت شرهت. قال: كيف نومك؟ قال: أنام في المجمع وأسهر في المضجع. قال: فكيف قيامك وقعودك؟ قال: إذا قعدت تباعدت عنّي الأرض، وإذا قمت لزمتني. قال: كيف مشيك؟ قال: تعقلني الشعرة وتعثرني البعرة. وقيل لشيخ ما صنع بك الدهر؟ قال: فقدت المطعم وكان المنعم، وأجمت النساء وكن الشفاء. فنومي سنات، وسمعي خفات، وعقلي تارات. وقيل لآخر: فقال: أدرج من العشاش، وأخرأ في الفراش، وأنبو عن القماش، وأنفر من لاش. وقيل لآخر: فقال: ضعضع قناتي، وأوهى شواتي، وجرّ أعلى عداتي. وسئل ابن الفرية عن وصف الكبر فقال: إقبال البخر وإدبار الزفر، وانقباض الذكر. وقيل: الشيخوخة غمامة تمرض الأمراض. قال أبو الطمحان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 حنتني حانيات الدهر حتّى ... كأنّي خاتل أدنو لصيد قربت الخطو يحسب من رآني ... ولست مقيدا أنّي بقيد وهذا من قول شيخ مرّ به غلام فقال: يا عمّاه قد قصر قيدك، فقال: تركت الذي قيّدني يقتل قيدك. وقال ديك الجن: نهنهت الخمسون من شدّتي ... وضيقت خطوي بعد اتساع «1» وأتحفتني خورا ظاهرا ... وكنت قبل الشيب عين الشّجاع «2» تعترف النفس ببعض القوى ... فأمسك النفس ببعض الخداع أذكر إنسان التي فوقها ... والموت قد يودي بمن في الرّضاع وكان أبو محلم لما كبر ينشد: إذا ما امرؤ أحصى ثمانين حجّة ... وعاش، تشكّى كلّ عضو ومفصل وقد أحسن القائل: قالوا أنينك طول اللّيل يسهرنا ... فما الذي تشتكي قلت الثّمانينا المشيب مؤذن بالموت قيل: المشيب تمهيد الحمام وتاريخه وعنوانه ورائده ونذيره. وقيل: الشيب مقوّض الخيام ومقيض الحمام. وقيل: هو أول مواعيد الفناء وقيل: هو واعظ نصيح ومنذر فصيح. وقيل: هو لمحة من لمحات المنون ونوبة من نوب الدهر الخؤون. وقيل: في قوله تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ «3» والنذير الشيب. وقيل: إذا ضحك الشيب في القذال «4» بكت الحياة للزوال. ونظر حكيم إلى شيبه فقال أرى شيبة قد أينع ثمرها وحان قطافها. وأظرف ما قيل في ذلك قول منصور: من شاب قد مات وهو حيّ ... يمشي على الأرض وهو هالك لو كان عمر الفتى حسابا ... لكان في شيبه فذالك وقال: الشيب والموت مقرونان في قرن ونظر فضيل إلى رجل قد وخطه الشيب فقال: اتّق الله فإنّ الموت قد غرز أعلامه في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 لحيتك. ولأبي الفضل بن العميد من فصل قد طرزت الأيام عارضيك بتاريخ، يفصح عما كتمته وينشر للناس من أمرك ما طويته، وكأنك تقول هو مقدمة الهرم والمؤذن بالخرف والعائد إليّ ولا أريد تطيرا من ذكره. من مات أقرانه فقد آن أوانه قال أبو عيينة: واستحصد القرن الذي أنا منهم ... وكفى بذاك علامة لحصادي وقال معاوية لجلسائه: ما تعدون الغريب فيكم؟ فقالوا: الذي لا أحد له فقال بل الغريب الذي مات نظراؤه الذين كان يأنس بهم قال أبو محمد التيمي: إذا ذهب القرن الذي أنت منهم ... وخلفت في قرن فأنت غريب قال ابن المعتز: لأيّ غايات رجائي بعد ما ... رأيت أترابي وقد صاروا ترابا «1» وقال أبو سعيد الرستمي: جاوزت سنّي الأشدّ ومارس ... ت بنفسي من الخطوب الأشدّا وتفانى الأقران دوني جميعا ... وتبقّيت في الكنانة فردا وقال العلوي الكوفي: أجالس معشر الأشكل فيهم ... وإشكالي قد اعتنقوا التجودا المدة التي يخاف عندها الموت قيل في قوله تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ «2» أنه الأربعون قال شاعر: إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن ... له دون ما يأتي حياء ولا ستر فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى ... وإن مدّ أسباب الحياة له العمر وقال رجل لعبد الملك: كم لك من السنين؟ فقال: أنا في معترك المنايا ابن ثلاث وستين. وكتب الحجّاج إلى قتيبة بن مسلم إني نظرت في سنّي فإذا أنا قد بلغت خمسين سنة وأنت تحومني في السن. وإن امرأ قد سار خمسين حجّة إلى منمهل لقمين أن يرده فأخذ ذلك أبو محمد التميمي فقال: فإن أمرأ قد سار خمسين حجّة ... إلى منهل من ورده لقريب فإن كانت الستون سنّك لم يكن ... لدائك إلا أن تموت طبيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 قال ابن المعتز: إحدى وخمسون لو مرّت على حجر ... لكان من حكمها أن يفلق الحجر جماعة سني العمر تقول العرب: الغلام إذا بلغ عشرا قد رمى، وفي عشرين قد لوى أي لونى يد غيره، وفي ثلاثين قد غوى، وأربعين قد استوى، وفي خمسين قد حرى أي صار حريا بأن يظهر فضله. وقيل ابن عشر طفل وابن عشرين فحل، وابن ثلاثين كهل وابن أربعين معتدل، وابن خمسين مترحل. وحكي عن بزرجمهر أنه قال: في عقد العشرة دليل على أن الصبي إذا بلغ عشر سنين فقد انعقد فإذا صار إلى عشرين فقد توسط الخير والشر توسط الإبهام للسبابة والوسطى، فإذا صار إلى الثلاثين فقد كمل واستوى وإذا بلغ الأربعين فقد بلغ الأشد وشدّ الأزر وإذا بلغ الخمسين فقد انكسر وقعد، وإذا بلغ الستين فقد انضم، فإذا بلغ السبعين فقد عاد في أخلاق الصبيان، وأشبه ابن الثلاثين الكامل الشهوة وابن العشرة الصبي فإذا بلغ الثمانين فقد تقوّس عقد ما فإذا بلغ التسعين فقد صار في ضيق عيش كضيق عقدها، وإذا بلغ المائة انتقل عن الدنيا انتقال عقدها إلى اليد الأخرى. وقيل لرجل: كم أنت؟ قال: ابن قبضة يعني ثلاثا وتسعين. في المتبرّم بحياته لضعفه قال زهير: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا أبا لك يسأم وقال زهير بن حباب: الموت خير للفتى ... فليهلكن وبه بقيّة من أن يرى الشيخ البجا ... ل وقد تهادى بالعشيّة «1» وقال عبيد: والمرء ما عاش في تكذّب ... طول الحياة له تعذّب وقيل: أهون هالك شيخ يقاد به البعير وكان من عادتهم إذا تبرّموا بشيخ ربما أنهم تركوه إذا ارتحلوا ليموت أو يأكله الذئب أو يحملوه على بعير نفور يسقطه فيموت فيستريحوا منه وقيل: أهون هالك عجوز في سنة جدب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 (8) المعمّرون عاش نوح ألف سنة وأربعمائة وخمسين سنة، بعث بعد مائتي سنة ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، بقي بعد الطوفان مائتي سنة وخمسين سنة فلما أتى ملك الموت قال له كيف رأيت الدنيا؟ قال: كدار لها بابان دخلت من هذا وخرجت من هذا. وعاش لقمان خمسمائة وستين سنة عمر سبعة أنسر كل نسر ثمانون سنة ومنه قيل طال الأمد على لبد. وعاش المستوغر بن زبيد ثلاثمائة وثلاثين سنة ولما بلغ ثلاثمائة قال: ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وعمرت من بعد السنين مئينا مائة جزتها بعدها مائتان لي ... ازددت من عدد الشهور سنينا «1» هل ما بقي إلا كما قد فاتنا ... يوم يمرّ وليلة تحدونا وعاش معدي كرب الحميري مائتين وخمسين سنة. وعاش عامر بن الظرب ثلاثمائة سنة وكذلك أكثم بن صيفي، وكانا من حكماء العرب. وأدرك أكثم الإسلام واختلف في إسلامه. وعاش قسّ بن ساعدة الأيادي ستمائة سنة، وكان من عقلاء العرب وحكمائهم، وهو أول من أقرّ منهم بالبعث وأول من قال في الخطبة: أما بعد. وعاش دريد بن الصمة دهرا طويلا حتى سقط حاجباه على عينيه ولم يسلم وشهد حنينا. وعاش عبيد الجرهمي مائة سنة وعشرين سنة وكان معاوية رضي الله عنه حجّ من الشام فقال هل تعرفون أحدا بقي له علم بأيام العرب فنسأله، فقالوا: عبيد وهو على طريقك فدعاه فقال: ممن أنت؟ فانتسب إلى قبيلة، فقال: وهل بقي منهم أحد؟ قال: نعم أنا قال وكم لك من السنين؟ فقال مائتان وعشرون سنة. فقال: من أين تعلم؟ فقال: أما قال الله تعالى وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصّلناه تفصيلا. فقال: أخبرني عمّا رأيت فقال تمت عليّ سنيهات بلاء وسنيهات رخاء ويوم في أثر يوم وليلة. في أثر ليلة. ومنهم لبيد بن ربيعة وخبره مشهور ومعاذ بن مسلم عاش مائة وخمسين سنة. صحب بني مروان وفيه يقول الشاعر: قل لمعاذ إذا مررت به ... قد ضجّ من طول عمرك الأبد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 قد أصبحت دار آدم خربت ... وأنت فيها كأنّك الوتد «1» تسأل غربانها إذا نعبت ... كيف يكون الصداع والرّمد فصل من ذلك قيل: فلان أعمر من القراد وذلك أنه يعيش سبعمائة سنة، وأعمر من الضبّ. قال الأصمعي إن الحسل «2» يبلغ مائة سنة ثم يسقط. قال: فقلت لو عمرت عمر الحسل ... أو عمر نوح زمن الفحظل «3» والصخر مبتل كطين الوحل ... صرت رهين هرم أو قتل وقيل: أعمر من حيّة لأنّها لا تموت حتف أنفها فيما. يقال: واعمر من نسر وللفرس زيود هشتا دكور تيرست رهمنه مزواماري نه مريد خركش يوزينه مرد معناه يعيش العير ثمانين سنة وثلاثمائة والحية لا تموت إلا قتلا. (9) الترغيب في الاختضاب والرغبة فيه قال عمر رضي الله عنه: اختضبوا بالسواد فإنه أسكن للزوجة وأهيب للعدو وقيل لرجل إلام أخضب؟ فقال: ما قام أيرك. قال شاعر: الشيب ضيفك فاقره بخضاب وقال: إن الخضاب هو الشاب الثاني. وقال: إن الخضاب لحيلة ... في ردّ أيّام الشّباب قال رستم بن محمود: ولما رأيت الشيب قد شان أهله ... تقنّعت وابتعت الشباب بدرهم «4» قال ابن المعتز وقد ناقض بذلك محمودا الوراق حيث قال: يا خاضب الشيب الذي ... في كلّ ثالثة يعود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 إن النصول إذا بدا ... فكأنّه شيب جديد «1» فقال: وقالوا النصول مشيب جديد ... فقلت الخضاب شباب جديد إساءة هذا بإحسان ذا ... فإن عاد هذا فهذا يعود الإعتذار لذلك قال علي بن عيسى لإبراهيم بن إسماعيل يوما: الخضاب باطنه داء وظاهره غرور. ثم لقيه وقد اختضب، فقال: أين كلامك؟ قال فكرت فإذا أمور الدنيا كلها مرمة وهذا من مرمتها. قال ابن الرومي: فإن تسأليني ما الخضاب فإنّني ... لبست على فقد الشباب حدادي من اختضب لمجيء الشيب في غير وقته قال محمود الوراق: إذا ما الشيب جار على الشباب ... فعالجه وغالط في الحساب فقل لأمر لا مرحبا من نزيل ... وعذّبه بأنواع العذاب بنتف أو بقصّ كلّ يوم ... وأحيانا بمكروه الخضاب وإن هو لم يجر وأتى لوقت ... فقل في رحب دار واقتراب الترغيب عن الخضاب والرغبة فيه قيل لأفلاطون: لم اختضب فلان؟ فقال: كره أن يؤخذ بحنكة المشايخ. قال ابن الرومي: يا أيّها الرجل المسوّد وجهه ... كيما يعدّ به من الشّبان أقصر فلو سوّدت كلّ حمامة ... بيضاء ما عدّت من الغربان وقيل لأعرابي: لم لا تختضب لتصبوا إليك النساء؟ فقال أما نساؤنا فما يردن بنا بدلا، وأما غيرهن فلا نريد صبوتهن «2» . قال كشاجم: يا خاضب الشيب والأيام تظهره ... هذا شباب لعمر الله مصبوغ وقيل لأعرابية: فلان يختضب. فقالت: لا ينال الشباب بالخضاب كما لا ينال الغنى بالمنى ولما وفد عبد المطلب على سيف بن ذي يزن ورأى لحيته بيضاء بعث إليه بجارية ومعها خطر ليخضب لحيته فأنشأ عبد المطلب: وقائلة تخضّب فالغواني ... نوافر عن مصادقة القتير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 فقلت لها المشيب نذير عمري ... ولست مسوّدا وجه النذير وقال: إذا ذهب الشباب فليس إلا ... غبار الشيب أو ذلّ الخضاب مدح الصلع قال الخليل: كان الشريف إذا لم يصلع نتفوا شعره تشبّها بذلك. وأنشد العتبي: قد حصّ رأسي فتيت المسك أخلطه ... بالعنبر الورد حتّى ما به شعر «1» فقال لشتان ما بينه وبين أبي قيس بن الأسلت في قوله: قد حصت البيضة رأسي فما ... أطعم نوما غير تهجاع ذمّ الصلع دخل الأبرش الكلبي على هشام بن عبد الملك وحجّام يحجمه فمسّ رأسه فقال: يا أبرش ما صلع لئيم قط فكشف رأس الحجام فإذا هو أصلع، فقال: أمن كرم صلع هذا؟ وقالت امرأة لزوجها وكان أصلع لست أغبط إلا شعرك حيث فارقك فاستراح منك. قال شاعر: خفافان مثل القذّتين وهامة ... يزل الذباب النقف عنها فيصرع «2» وقال: إذا أبصرتهم صلعا وثطا ... فقبّح ذاك من صلع ومن هام التأسف لذلك قال بعضهم: جزعت للشيب لما حلّ أوّله ... فجاءني حادث أنساني الجزعا هبّ المشيب يداوي الخطر شائعه ... فكيف لي بدواء يذهب الصّلعا قال أبو النجم: قد ترك الدهر صفاتي صفصفا ... فصار رأسي جبهة إلى القفا كأنما تلقّى به ضعفي عفا الإعتذار عنه قال بشر: رأتني كأفحوص القطاة ذؤابتي ... وما مسّها من منعم يستشيبها «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 قال ابن الرومي: يعيّرني لبس العمامة سادرا ... ويزعم لبسيها بعيب مكتّم فقولا له هبني كما أنا صلعة ... ألست حصين الخلف ماضي المقدّم وأنّى تعيب الصلع والأير منهم ... وأنت بحبّ الأير عين المتيّم نوادر للصلع قيل لأصلع: إن الصلعة من نتن الدماغ. فقال: لو كان ذلك كذا لم يكن على حرامك طاقة شعر. وجلس أصلع بين يدي حجّام فحلق نصف رأسه وتماسكا في الأجرة، فقال الأصلع: حلق نصف رأسي فله نصف الأجرة فقال الحجّام حلقت له إبطين أربع أذرع كأنهما تنوران يشوى فيهما السالخ لنتنهما فحكم له بالأجرة تماما وقال أصلع لرجل رأى عليه جربا كثيرا أراك لابسا جوشنا «1» بلا بيضة. (10) وممّا جاء في الأسماء والكنى والألقاب الحثّ على تسمية الأبناء بأحسن الأسماء قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إياكم وهذه الأسماء القبيحة، فما من مولود يولد إلا ويحضره ملك وشيطان، فيقول الملك سمّوه بكذا اسما حسنا، ويقول الشيطان سمّوه بكذا اسما قبيحا. وقال: كنية الرجل أحد شواهد عقله واسمه أحد شواهد عقل أبيه. وقيل: أشيعوا الكنى فإنها منبّهة. وقال صلّى الله عليه وسلّم: من آتاه الله وجها حسنا وإسما حسنا وجعله في غير موضع شائن فهو من صفوة خلقه. الميل إلى الأسماء الحسنة والتفاؤل بها قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أحبّكم إلينا أحسنكم أسماء، فإذا رأيناكم فأجملكم منظرا. فإذا اختبرناكم فأحسنكم مخبرا. وخرج الرشيد يوما فرأى سعيد بن سلم فقال: من قال سعيد أسعدك الله؟ قال: ابن من قال ابن سلم سلمك الله قال: أبو من؟ قال: أبو عمر، وعمرك الله فقال بارك الله عليك وأكرمه. المسمّى باسم حسن معناه موجود فيه قال: وقلّما أبصرت عيناك من رجل ... ألا ومعناه في اسم منه أو لقب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 قال ابن الرومي: أنت أبو الفضل وأنت ابنه ... فالفضل لا يعدوك في كلّ حال وسأل رجل صبيا صبيحا ما اسمك؟ فقال: وصف وجهي، فقال: ما أراك تسمّى إلا حسنا فقال: كذلك. وفي ذلك لأبي نواس: إن اسم حسنى لوجهها صفه ... وما أرى ذا لغيرها اجتمعا فهي إذا سمّيت فقد وصفت ... قد يجمع الاسم معينين معا ونظر المأمون إلى غلام فقال له: ما اسمك؟ قال: لا أدري؟ فقال: لم أر مثل هذا. وأنشد: تسميت لا أدري لأنّك لا تدري ... بما فعل الحبّ المبرّح في صدري المسمّى باسم حسن معناه معدوم فيه ولي رجل يقال له البحر أبو الغمر بعض كور خراسان فمدحه شاعر فأعطاه درهمين فقال: تركت لبحر در همين ولم يكن ... ليدفع عنّي فاقتي درهما بحر وقلت لبحر خذهما واصرفهما ... سريعين في نقص المروءة والفخر وقالت غمرة بنت النعمان بن بشير: سميت روحا وأنت الفم قد زعموا ... لا روّح الله عن روح بن زنباع ومرّ صاعد ببشّار فقال: من هذا؟ قيل: صاعد. فقال: الصاعد اسما السافل فعلا. ودفع أبو الفياض بن بحر رقعة إلى أبي الفضل بن العميد فكتب عليها بحر بن محمد بن بحر فكتب تحتها محمد مسكين غرق بين بحرين. قال ابن الرومي: سميت أحمد مظلوما ولست به ... كلا ولكن من الأسماء مقلوب عرضت على كشاجم جارية حسناء فقال: ما اسمك؟ قالت: مظلومة فقال: مملوكة تملك أربابها ... ما شانها ذاك ولا عابها قد سمّيت بالضدّ مظلومة ... وهي التي تظلم أصحابها من عيّر بقبيح اسمه قال بعضهم في رجل اسمه فضل: هو فضل وفضلة الشيء لغو ... ثم أردفت قلّة التصغير وأراد عمر رضي الله عنه أن يولّي رجلا فسأله عن اسمه فقال: ظالم بن سراق. فقال: أنت تظلم وأبوك يسرق لا خير فيك ولم يولّه. وقال معاوية رضي الله عنه لجارية بن قدامة: من هوانك على أهلك سموك جارية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 فقالت: أنت كنت أهون على أهلك إذ سمّوك معاوية، وهي الأنثى من الكلاب. ووقف رجل على ثلاثة نفر فسألهم عن أسمائهم، فقالوا: حافظ ومنيع ومحرز. فقال: ما أظنكم من أسمائكم إلا كما قال أبو فراس: إذا نسبوا لم يعرفوا غير ثعلب ... إلا أن أشرار السباع الثعالب وقال العتابي لإبراهيم الموصلي عند المأمون وكان أغرى بينهما: ممّن وما اسمك؟ فقال: من الناس واسمي كل بصل. فقال: أما النسبة فمعروفة وأما الاسم فمنكر. فقال: وما كلثوم من الأسماء، البصل على كل حال أطيب. وقيل لرجل: ما اسمك؟ قال: شعيب، فقال: لا خير في اسم في أوله شه وفي آخر عيب. وهذا مثل قول الصاحب في قابوس نصف اسمه ضعف وآخره بوس، ونحوهما ما قال موسى بن عبد الملك في عيسى: أنّى يكون بليغا ونصف اسمه عي وما تأخر عنه ثلثا حروف مسيء. وقيل في نفطويه: أحرقه الله بنصف اسمه ... وصيّر الباقي نواحا عليه ونحوه: أبو رياش بغي والبغي مصرعه ... فشدّدوا العين ترموه بآبدته عبد ذليل هجا للحين سيّده ... تصحيف كنيته في صدع والدته أي أيور ناس. وقال ابن أبي البغل: ولد لي سبط فما اسميه؟ فقيل له: لا تخرج من الاصطبل وسمه ما شئت. ومن نوادر الصاحب أنه وقّع في قصة ابن حيلة: لا تترك استعمال أبيك وقال: ابن عذاب إذا تغنّى ... فإنّني منه في عذاب وقال ابن سوادة لعبدان: أبوك كان ثنويا ولذلك سماك عبدان، أي عبد النور وعبد الظلمة. وقال الصاحب للبغلي: ما اسم أبيك؟ قال: موسى. قال: وابنك؟ قال موسى قال: وهذه اللحية بين موسيين على خطر. وفيه: حلقت لحية موسى باسمه ... وبهارون إذا ما قلبا «1» من استحمق في اسمه قال ابن أبي عتيق لرجل: ما اسمك؟ قال: وثّاب، قال وكلبك؟ قال: عمرو. فقال: فلو كان من التوفيق ... قد أعطى أسبابا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 لسمّى نفسه عمرا ... وسمي الكلب وثّابا وقال رجل لآخر: ما اسمك؟ قال: وردان قال وفرسك، فقال: عمران. وذهب رجل إلى باب، فقيل عبد من الأرض جميعا قبضته والسموات مطويات بيمينه، فقال: إن نصف المصحف بالباب وسئل رجل عن كنيته، فقال: أبو الحسن وأبو الغمر. فقيل: ألم تكف واحدة؟ فقال: لا إن ضاعت واحدة بقيت الأخرى. المتأوّل قبيح اسمه على تأويل حسن كان بنو أنف الناقة يستنكفون من هذا الاسم حتى قال فيهم الشاعر: قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوّي بأنف النّاقة الذّنبا فصاروا يتبجّحون به. واستقبح قوم اسم العجلان فقال بعضهم: وما سمّي العجلان إلا لقوله: خذ الوطب واحلب أيّها العبد واعجل «1» المعتذر لشناعة اسمه أو كنيته قيل لأعرابي اسمه نعامة: أي شيء هذا الاسم؟ قال: الاسم علامة ولو كان كرامة لتشارك الناس كلهم في اسم واحد. وقال برصوما لأبيه: ألم تجد اسما أحسن من هذا؟ فقال: لو علمت أنك تجالس الخلفاء باسمك لسميتك يزيد بن مزيد. وطلب الحسن بن سهل مؤدّبا لولده فأتى بمعاوية بن القاسم وكان ضئيلا فقال: ما اسمك قال: كنيتي أبو القاسم ولضرورة تكنيت فاستظرفه. وقيل لحرم المخنث لم تسميت بذلك؟ فقال: حتى أندب فيقال واحرماه. وأتى ضرار المتكلم بمجوسي ليكلمه فقال: أبو من أنت؟ فقال: نحن أجل من أنت ننسب إلى أبنائنا إنما ننسب إلى آبائنا. فورد على ضرار ما لم يكن في حسابه فأطرق ساعة ثم قال: أبناؤنا أفعالنا وآباؤنا أفعال غيرنا. وسئل بعض الأعراب لم سمعوا أبناءهم بالأسماء القبيحة وعبيدهم بالحسنة فقال: لأن أبناءهم لأعدائهم وعبيدهم لأنفسهم. مدح الكنية واللقب وذمّهما قيل: الكنية للإبانة واللقب للتبجيل فلا يكون لله تعالى كنية لأنه بان بصفاته. واللقب على أوجه: لقب على سبيل الهزؤ، وذلك منهى عنه وربّما يخصّ الرجل على التعيين، وربّما يعمّ الجنس كقولهم للأحدب: أبو الغصن، وللقصير أبو الرماح والثاني على سبيل التخفيف يستغنى به عن الاسم والنسب وهو كثير كأبي فلان والثالث للتعظيم كلقب الخلفاء والأمراء، والرابع لفعل يختص به كهاشم لهشمه الثريد، وعدوان لعدوه على أخيه وقتله إياه، ودارم لدرمانه تحت المال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 المتفائل باسمه حسنا كان أو قبيحا خرج عمر رضي الله عنه فلقي رجلا من جهينة فقال: ما اسمك؟ قال: شهاب قال: أبو من؟ قال: أبو جمرة. فقال: ممن أنت؟ قال: من بني حرقة، ثم من بني ضرام. قال أين مسكنك؟ قال: ذات لظى. قال: أدرك أهلك وما أراك تدركهم إلا وقد احترقوا. فأتاهم وقد أحاطت بهم النار. ولما حاصر قتيبة سمرقند أرسل إليه دهقانها «1» : لو حاصرتها الدهر الأطول لم تظفر بها فإنا نجد في كتبنا أنه لا يفتحها إلا بالآن فقال قتيبة الله أكبر أنا صاحبها لأن قتيبة تفسيره بالفارسية بالآن، فلما يئس من مكابرتها هيأ صناديق وجعل لها أبوابا تغلق من داخل وجعل فيها رجالا مستلئمين، وقال: أنا راحل عنكم ومعي أموال أريد أن أجعلها عندكم. فأمر دهقانها ففتح الباب وأدخلت الصناديق فخرجوا وقتلوا من فيها وفتحوها. المتسمّي باسم لا يليق به قال بكر بن النطاح: وأعجب منك اليوم تسليم أمره ... عليك على طنز وأنك قابله وقال عبدان: هل رأيتم أو سمعتم ... بكياء أصفهان وقال الصاحب: الغضاري قال ادعى كياء ... لست أرضي بالشيخ والأستاذ هل رأيتم يا سادتي أو سمعتم ... بكياء من أهل نصر أباذ الحثّ على تعرف أسماء الأصدقاء: وقد تلتقي الأسماء في النّاس والكنى ... كثيرا ولكن لا تلاقي الخلائق وقال: وكم من سميّ ليس مثل سميه ... وإن كان يدعى باسمه فيجيب وقال: لشتان ما بين اليزيدين في النّدى ... يزيد سليم والأغرّ بن حاتم وفي فصل لأبي الفضل بن العميد إلى محمد بن يحيى: وما أحسبنا نشترك إلا في الاسم وشتان بين محمد، ومحمد فلو كنا السماكّين لكنت الرامح وكنت الأعزل أو النسرين لكنت الطائر وأنا الواقع، أو السعدين لكنت سعد السعود وكنت سعد الذابح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 الحثّ على تسمية الغير بأحسن الأسماء قال الله تعالى: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ «1» ، وقال ابن الخزاعي: ولست بذي نيرب في الكرا ... م ومنّاع خير وسبابها ولكن أطاوع ساداتها ... ولا أتعلّم ألقابها وقيل ثلاثة تثبت لك الود عند أخيك: أن تبدأه بالسلام، وتوسّع له في الملجس وتناديه بأحب الأسماء إليه. وقال الطائي: لا يضمر الغدر للصديق ولا ... يخطو اسم ذي ودّه إلى لقبه وقال: أكنّيه حين أناديه لأكرمه ... ولا ألقّبه والسوءة اللقب وجرى بين أبي بكر بن فريعة القاضي وبين بعض القواد كلام في مجلس أبي الحسين بن بويه وكان أبو بكر يقول مرّة: يا إبراهيم، ومرة يا أبا إسحاق، غضب القائد من ذلك وقال: لم لا تقول كياء؟ فقال إنما نكياءك إذا أنصفتنا، فإذا ظلمتنا سحقناك وبرهمناك. الاعتذار لمن سمّي بغير اسمه المشهور به صاح أعرابي بعبد الله بن جعفر فقال: يا أبا الفضل. فقال: ليس هذا كنيتي، فقال: إن لم يكن كنيتك فإنه وصفك. وكان يحيى بن أكثم يناظر رجلا في إبطال القياس وكان الرجل يكنيه بأبي زكريا. فقال له: يحيى إنّها ليست بكنيتي فقال إن كل يحيى يكنى بأبي زكريا. فقال: يحيى العجب أنك تكنيني بالقياس، وتناظرني في إبطاله. ودخل رجل على أمير يدعى إسحاق فقال له: يا أبا يعقوب، فقال: أخطأت أنا أبو الحسين، فقال إنما أخطأ الأمير لأنّ كل إسحاق يكنى أبا يعقوب. المشاهير بأسماء لا يعرف بها غيرهم إذا قيل أمير المؤمنين مطلقا فهو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وابن عبّاس عبد الله، وابن عمر عبد الله. وكان لهما أولاد غيرهما. والحسن بالحسن البصري، والنابغة نابغة بني ذبيان. والأعشى أعشى بني قيس. من سمّي من الكبار بأسماء وكنّى النبي صلّى الله عليه وسلّم سمي محمدا ومحمودا وأحمد ولهذا باب طويل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 نوادر مختلفة في ذكر الأسماء قيل لحائك أبو من؟ فقال أبو محمد عليه السلام وقال علي رضي الله عنه: ما اجتمع قوم في مشورة فلم يدخلوا من اسمه محمد إلا لم يبارك لهم فيها. وقال ابن أبي ليلى: أحب الأسماء إلى الله تعالى ما فيه الإقرار بالعبودية له تعالى. ودقّ باب الجاحظ رجل فقال من؟ قال: أنا. قال: لا يعرف من اسمه أنا. ودق آخر فقيل من؟ قال: أنا. قال: ما أفلح ذو أنا. ودخل مجوسي على وال فقال: ما اسمك؟ قال: يزدان بآذان. قال: اسمان وجزية واحدة لا يكون ذلك وألزمه جزيتين. وقال رجل للفرزدق: من أنت؟ قال: فرزدق. قال: لا نعرف فرزدقا إلا عجينا فتيتا تأكله نساؤنا. فقال: الحمد لله الذي جعلني في بطون نسائكم. وقال أعرابي لرجل: ما اسمك؟ قال: عبد الله قال: ابن من؟ قال: ابن عبيد الله. قال: أبو من؟ قال: أبو عبد الله الرحمن. فقال الأعرابي أشهد أنك تلوذ بالله لياذ لئيم جبان. وجاءت عجوز إلى لحّام بالمدينة فدفعت له درهما وقالت ادفع لحما طيبا، واذكر اسمك لأدعو لك فدفع إليها أخبث لحم، وقال اسمي من يمد، فجعلت المرأة تأكل وتقول: لعن الله من يمد تلعن نفسها ولا تدري. وكان بالبصرة شيخ يقال له أبو حفص اللوطي فدخل يعود جارا له فوجده كالمغمى عليه فقال له: أتعرفني؟ قال نعم أنت أبو حفص اللوطي فقال تجاوزت حد المعرفة لا رفع الله صرعتك. من غضب على غيره لموافقة اسمه من لا يحبّه من الشيعة قوم يبغضون ويقاتلون من كنّي بأبي بكر أو سمّي بعمر. وكانت قرية يقال لها يزداد وأهلها في الشيعة، مرّ بهم رجل فسألوه عن اسمه فقال: عمران فضربوه ضرب التلف، وقالوا في اسمه عمر وحرفان من اسم عثمان ألا يستحق القتل؟ المسمّى بفعل منه جدا أو هزلا سمّي إبراهيم حنيفا لأنه حنف عن عبادة الأوثان، ومريم البتول لتبتلها أي انقطاعها إلى الله تعالى، وخطب وال باليمامة فقال: إن الله تعالى لا يقرّ على المعاصي فقد أهلك أمة في ناقة لا تساوي مائتي درهم فسمي مقوم الناقة. وقال الخليل: كان قوم يلقبون كلّ من مر بهم فأتاهم رجل، فقال: إني أريد أن أتصل بكم بشرط أن تلقبوني أدعوني رأسا برأس فلقبوه رأسا برأس. والشعراء منهم كثيّر كالمرقش لقوله: رقّش في ظهر الأديم قلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 وجران العود لقوله: خذا حذرا يا جارتي فإنّني ... رأيت جران العود قد كان يصلح والممزّق لقوله ولما أمزق. ألقاب الخلفاء والولاة أول من لقب من الخلفاء عبد الملك بن مروان لقب الموفق لأمر الله، ثم الوليد المنتقم لأمر الله. وأول من قال يا أمير المؤمنين أول من قصد أبا بكر وهذا باب واسع. وقيل سمي طاهر ذا اليمينين لأن المأمون كتب إليه: إن أمير المؤمنين قد جعل يمينك يمينه ويسارك يساره فسمي ذا اليمينين. وكان أصحاب السلطان في زمن التتابعة سبعة أقسام: التبابعة والعباهلة وهم الذين ليس فوقهم، والمقاول وقيل الأقيال والأقوال الواحد قيل وهم ستون رجلا من أهل بيت الملك يرشحون له ثم المثامنة ثمانون رجلا إذا مات التبع وضعوا رجلا من الأقيال تبعا، ووضعوا رجلا من الثمانين في الأقيال مكانه، ثم الصنائع وهم ثقات الملك يعدهم لنفسه ثم الوضائع وهم أصحاب المناظر والمسالح، والمقيمون في الثغور ثم العباد وهم خدم السلطان الذين يلزمون بابه ويختلفون في رسائله ثم الأخيار. أسماء ملوك كلّ صقع وفرسانها قد تقدم أسماء ملوك الأصقاع في السيادة فأما الفرسان فيقال المرازبة في فارس البطارقة في الروم البكاكرة في السند والهند والمقاول في اليمن والكبش في ترار وتبع في العرب. من سماه أبوه باسم نفسه من الكبار عبد الله بن عبد الله بن أبي بكر الصديق، الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، مسلم بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب، عبد الله بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، عبد الله بن عبد الله بن عمر سعيد بن سعيد بن العاص عتاب بن عتاب بن أسيد. شبه ألغاز بأسماء قال المنصور لأبي بكر بن عياش: يا أبا بكر أخبرني عن عين فقأت عينا. يريد رجلا أول اسمه عين قتل رجلا أول اسمه عين وأراد أن يعلم هل تحدث الناس بما كان منه إلى عبد الله بن علي. فقال: نعم يا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قتله عبد الرحمن بن ملجم، وعبد الله بن الزبير قتله عبد الملك بن مروان وعبد الملك قتله ابن عمه عمرو بن سعيد، وسقط البيت على عبد الله في عهد أمير المؤمنين عبد الله المنصور، فقال: ويلك وذلك مني. وكان عبد الله بن علي خرج على المنصور فوجه إليه أبا مسلم فهزمه ثم صار إلى المنصور بأمان فقيل إنّه بنى له بيتا جعل في أساسه الملح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 وأجرى الماء تحته فوقع فمات ولذلك قال ما قال. وقال مروان نجد في كتبنا أن عين ابن عين ابن عين يقتل ميم، ابن ميم ابن ميم وأظن عبد الله بن عمر بن عبد العزيز قاتلي، فأنا مروان بن محمد بن مروان قال: يا أبا إسحاق اقلب ... نظم إسحاق وصحّف واترك الحاء على حا ... ل فما للحال مصرف المسمّى باسم أمّه وخاله فمما عيّر به قول دعبل يهجو: سألته عن أبيه ... فقال دينار خالي فقلت دينار من هو ... فقال والي الجبال قال أبو محمد اليزيدي: قلت وأدغمت أبا خاملا ... أنا ابن أخت الحسن الحاجب ونحو ذلك ما حكى أن أبا العيناء سأل ابن أخت أبي الوزير حاجة فلم يقضها له فقال: إنما ألوم نفسي في تأميلك وأنت مضاف إلى مضاف. ولأبي سعيد الرستمي: كفى حزنا فاسمع علي بن رستم ... لسبطك أن يدعى بسيط جنيد وليس بحمد الله فيه مزلّة ... ولكن دعوا سعدا بلفظ سعيد المنسوب إلى من يجالسه حتى صار كالعلم له قال خالد الواسطي الطحان: ما كنت طحانا ولكن كنت أجلس إلى طحّان فسميت به. وكذلك خالد الحذاء تزوّج امرأة من الحذائين فنسب إليهم، وواصل الغزال إنما كان يجلس إلى غزال، وإسماعيل المكي كان يتّجر إلى مكّة، وهو من أهل البصرة وسمّي البتّي لبت «1» كان يعمله. أنواع مختلفة دق إنسان على بشّار فقال: من أنت؟ قال: أنا، فقال: انصرف يا أنا، قال أبو على النطاح كان المهدي يحب ابنه إبراهيم فقالت له شكلة أتراه يلي الخلافة؟ فقال: لا، ولا يليها من اسمه إبراهيم. إن إبراهيم الخليل أول من ألقى في النار وإبراهيم ابن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يعش وبويع إبراهيم بن الوليد فلم يتم له الأمر، وأحكم إبراهيم الإمام أمر الملك فقتل وتمّ لغيره. وطلب الخلافة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن فما تمّت له على جلالته وكثرة جيشه، وقد بايع المتوكل لابنه إبراهيم المؤيّد فلم يتم له وقتل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 الحدّ الثامن عشر في الملابس والطّيب (1) الرّخصة في إجادة الملبس وعذر فاعله دينا ودنيا قال الله تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ «1» وقال تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ «2» وقال صلّى الله عليه وسلّم: إن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ويكره البؤس والتباؤس. وبعث ملك الروم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم جبّة ديباج فلبسها ثم كساها عثمان واشترى صلّى الله عليه وسلّم جبة بثمانين ناقة. وكان الحسن يلبس ثوبا بأربعمائة درهم وفرقد السنجي كان يلبس المسوح، فلقيه الحسن فقال: يا أبا سعيد ما ألين ثوبك، فقال الحسن: يا فريقد ليس لين ثيابي يباعدني من الله ولا خشونتها تقرّبك منه، إن الله جميل يحب الجمال. وكان سعيد بن المسيّب يلبس الحلّة بألف درهم ويدخل المسجد ويقول: أجالس ربّي. ودخل الوليد بن يزيد على هشام وعليه عمامة وشي، فقال: بكم أخذتها؟ قال: بألف درهم. قال: عمامة بألف درهم؟ قال: إني أخذتها لأشرف أعضائي، وأنت أخذت جارية بألف دينار لأخسّ أعضائك. وقال ابن عباس: كل ما شئت وألبس ما شئت ما أخطأك اثنتان: إسراف ومخيلة. وقيل: مروءتان ظاهرتان: الرياش والفصاحة. وقيل: المروءة الظاهرة الثياب الطاهرة وأنشد: إذا النّفر السود اليمانون حاولوا ... له نسج برديه أدقّوا وأوسعوا الحثّ على تغطية سوء الحال بإجادة الثّياب قال بعض الحكماء: كن أحسن ما تكون في الظاهر حالا أقل ما تكون في الباطن مآلا فالكريم من كرمت عند الخصاصة «3» خلّته، واللئيم من لؤمت عند الحاجة طعمته. وكان بعض القرشيين إذا اتسع لبس أرثّ ثيابه وإذا افتقر لبس أحسنها ويقول: إذا اتسعت تزيّنت بالهبة، وإذا افتقرت تزينت بالهيئة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 النهي عن الملابس المشهورة وما لا يليق بلابسه ومدح الاقتصاد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب ذلّ يوم القيامة. وقال عمر رضي الله عنه: إياكم أن تلبسوا ألبسة مشهورة أو محقورة. وقال خالد: إلبسوا من الثياب ما تستحسنه الملوك والسوقة، فإن تغيرت بأحدكم حال لم يعلم به أحد. وقيل: إلبس ما لا يزدريك به السفهاء ولا يعيبك به العلماء. قال العلوي: ليس لبس الطيالس ... من لباس الفوارس «1» لا ولا حومة الوغا ... كصدور المجالس نهي من يداخل السّلاطين عن الثّياب الفاخرة قال دهقان «2» لابنه: إياك إذا نلت منزلة من السلطان أن تلبس ما يديم نظره إليك، واعلم أن الوشي لا يلبسه إلا أحمق أو ملك، وعليك بالبياض اللين فكل أبيض عندهم ثوب. وحكي أن الشيخ الأمين عبّاد بن العباس كان له جبّات كثيرة كلها عنّابي على لون واحد، يخدم بها ركن الدولة الحسن بن بويه، فقال يوما لحاشيته: أنظروا إلى نظافته يلبس جبّة كذا كذا سنة لا يغيّرها ولا يبليها. وقيل: أراد عمرو بن مسعدة يوما الركوب إلى السلطان في ثياب وشي، فقال له نوح بن إبراهيم: لا تفعل، فقال: لم لا أفعل وغلتي كل شهر كذا؟ فقال إبراهيم غلّتك مسموعة وجبتك ملحوظة. من لبس المعاوز من الصالحين قيل: كان أويس يلتقط الخرق من المزابل فيخيطها ويلبسها. وعمر رضي الله عنه رؤي عليه قميص فيه اثنتا عشرة رقعة وهو يخطب. وقال أبو أويس الخولاني: قلب نقي في ثوب دنس أحب من قلب دنس في ثوب نقي. وكان لعمر رضي الله عنه قميص قيمته أربعة دراهم، فقال: إني أخشى أن أسأل عن لينه يوم القيامة، فبكى سالم غلامه وقال له: رأيتك قبل الخلافة لبست ثوبا بأربعين دينارا فاستحسنته. فقال: يا سالم إني كنت لم أنل شيئا إلا طلبت ما فوقه فلما نلت الخلافة علمت أن ليس فوقها إلا الجنّة فدعني أطلبها. وقال رجاء بن حيوة قوّمت ثياب عمر بن عبد العزيز وهو خليفة بإثني عشر درهما قميصه وخفّه وعمامته وسراويله وقلنسوته. حمد لبس المعاوز قيل: ألبس من الثياب ما يخدمك ولا يستخدمك وقال عمرو بن العاص: لا أملّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 ثوبي ما ستر عورتي ولا دابّتي ما حملت رحلي. وكان خزيم الناعم لم يكن يلبس في الصيف إلا خلقا «1» ولا في الشتاء إلا جديدا. عذر من لؤم لبسه وكرمت نفسه دخل النجار العذري على معاوية فازدراه. فقال: يا أمير المؤمنين إن العباءة لا تكلمك إنما يكلمك من فيها فملأ سمعه حكمة ثم نهض ولم يسأله شيئا فقال ما رأيت أحقر أولا ولا أكبر آخرا منه وعاتب يحيى بن خالد العتبي في خلق ثيابه، فقال: أخزى الله من ترفعه هيئتاه ثيابه وجماله ولم يرفعه أكبراه همته ونفسه إنما الهيئة للأبناء والنساء وقال حبيب بن أبي ثابت. لأن أعزّ في خميصة أحب إليّ من أن أذلّ في مطرف. وقيل: لا يسود الرجل حتى لا يبالي في أي ثوبيه ظهر. قال أبو هفّان: تعجّبت درّ من شيبي فقلت لها: لا تعجبي فطلوع الشمس في السّدف «2» وزادها عجبا أن رحت في سمل ... وما درت درّ أن الدرّ في الصّدف «3» وقال: أعاذل أن يكون برداي رثا ... فلا يعدمك بينهما كريم وقال النمر بن تولب: فإن يك أثوابي تمزّقن عن بلى ... فإني كمثل السيف في خلق الغمد «4» ونظرت جارية لابن هبيرة وهو أمير العراق وعليه قميص مرقوع فضحكت، فأنشد: هزئت أمامة أن رأتني مملقا ... ثكلتك أمّك أي ذاك يروع قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه ... خلق وجيب قميصه مرقوع وقيل: لا يسود الرجل حتى لا يدري أي ثوبيه لبس. وقال البحتري: وليس العلى درّاعة ورداءها ... ولا جبّة موشية وقميصها وفي صبيح الوجه عليه خلق: لا تعجبوا من بلى غلالته ... قد زرّ أزراره على القمر من عوتب في خلق ثيابه فاعتذر بالفقر قال بعض الكبار لأبي الأسود عليه جبة خز خلقة طال صحبتها له: أما تمل لبسها؟ فقال: ربّ مملول لا يستطاع فراقه فأمر له بمال ودخل محمد بن كعب على سليمان فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 ما هذه الثياب الرثّة؟ فقال: أكره أن أقول الزهد فأطرى نفسي أو الفقر فأشكو ربي. وقال الإسكندر لرجل رث تكلم بفصاحة: ليكن حسن ثيابك كحسن كلامك، فقال: أما الكلام فأنا قادر عليه وأما الثياب فأنت تقدر عليها. فخلع عليه. العريان قيل: فلان أعرى من المغزل، وقيل لأعرابي: ما تلبس؟ قال: الليل إذا عسعس «1» والصبح إذا تنفس. قال أبو هفان: عريان أعرى من فصوص النّرد ... كالسّيف ماض ماله من غمد وأنشد رجل يحيى بن خالد: إنّي امرؤ في أعالي بيت مكرمة ... إذا تمزّق ثوبي أرتدي حسبي فقال يحيى: ما أقل غناء هذا الرداء في الكانونين. وقال الأصمعي: قلت لأعرابي في يوم بارد ألا تصلي، فقال: البرد شديد ومالي كسوة، وأنشد: فإن يكسني ربّي قميصا وجبّة ... أصلّ واعبده إلى آخر الدهر وإن لا يكن إلا بقايا عباءة ... مخرّقة مالي على البرد من صبر من يصون ثوبه ويهين نفسه قال ابن أبي الصمت: أرى حلالا تصان على رجال ... وأعراضا تزال ولا تصان وقال: فترى خسيس القوم يترك عرضه ... دنسا ويمسح نعله وشراكها عذر من يتشوّه لبسه كان ابن أبي داود، مضطرب الطيلسان لا يحسن لبسه، فقال له أبو العلاء المعري: لئن كنت لا تحسن أن تلبس الطيلسان إنك لتحسن أن تلبس نعمك جماعة الإخوان. وقال آخر وقيل له لا تحسن أن تلبس الثياب، فقال: لكني أحسن أن ألبسها. وعوتب آخر فقال: من عظمت مؤنته في نفسه قلّ تفقده لأمر غيره، وقيل: من كان شغله بنفسه فقد مكر به. وقيل ما استوت عمامة على رأس كريم قط. إعطاء الخلع قيل: من راح منك في الثياب تغدو منه في الثناء. قال البحتري: وراح في ثنائي ... ورحت في ثيابه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 وقيل: أحقّ الناس بحلتك أصدقهم في خلتك وقيل: ثوبك على أخيك باليا أحسن منه عليك جديدا وقال المهلب لأولاده: ثيابكم على غيركم أحسن منها عليكم. من تزيّن به الثّياب ولا يتزيّن بها كتب بعضهم: فلان تتزين به المطارف وتتشرف به المكارم. قال بشّار: زين الملابس حين يلبسها ... وإذا تسلّب زانه سلبه وقال: إنّ المليحة من تزيّن حليها ... لا من غدت بحليها تتزين قال جميل: إذا ابتزلت لم يزرها ترك زينة ... وفيها إذا ازدانت لدى نيقة حسب «1» قال المتنبّي: لبسن الوشي لا متجمّلات ... ولكن كي يصنّ به الجمالا قال كشاجم: قد تأمّلت في الغلالة منه ... جسد النّور في قميص الهواء ذمّ من حسن لباسه ولؤم فعاله وخلقه ذمّ أعرابي رجلا فقال: هو عبل البدن حسن الثياب عظيم الرواق صغير الأخلاق. الدهر يرفعه ونفسه تضعه. ونظر أرسطاطاليس إلى رجل حسن اللباس سيء الكلام فقال له: يا رجل تكلم على قدر لباسك أو ألبس على قدر كلامك. وقيل ثوب نظيف وجسم سخيف. قال شاعر: إذا لبسوا دكن الخزوز وخضرها ... وراحوا فقد راحت عليك المشاجب «2» قال الفرزدق: بكى الخزّ من عوف وأنكر جلده ... وعجّت عجيجا من جذام المطارف «3» وقال البسامي: كأنّه لمّا بدا مقبلا ... في حلل يقصر عن لبسها جارية رعناء قد قدّرت ... ثياب مولاها على نفسها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 قال الخوارزمي: أبو سعد له ثوب نفيس ... ولكن تحت ذاك الثوب عزبه «1» فإن جاوزت كسوته إليه ... فليس وراء عبادان قربه «2» وقال: وما الثقفيّ إن جادت كساه ... وراعك شخصه إلّا خيال «3» وقال آخر: استجيدوا الثياب إنّ حمار السّوء ... تخفى عيوبه بالجلال «4» وقال المتنبّي: ولا يروق مضيما حسن بزّته ... وهل يروق دفينا جودة الكفن «5» ذمّ ملابس التصوّف قال ابن السماك الصوفي: إن كان لباسكم وفقا لسرائركم فقد أحببتم أن يطّلع الناس عليها، وإن كان مخالفا لها فقد نافقتم وهلكتم. وقال الحسن فيما أظن أن قوما جعلوا تواضعهم في ثيابهم وكبرهم في صدورهم حتى لصاحب المدرّعة بمدرعته أشد فرحا من صاحب المطرف بمطرفه. حمد لبس الصّوف وذمّه روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: من لبس الصوف وأكل خبز الشعير وركب الأتان فليس فيه شيء من الكبر. وقيل: من أحب أن يجد حلاوة الإيمان فليلبس الصوف. وقيل: لراهب لم تلبسون السواد؟ قال: لأنه أشبه بلباس المصيبة. وقال ابن سيرين: كان عيسى عليه السلام يلبس الصوف ونبيّنا يلبس الكتان وهو أحب إلينا أن نقتدي به. لبس الحرير والكتّان قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنما يلبس الحرير من لا خلاق له وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم خرج وفي إحدى يديه حرير وفي الأخرى ذهب فقال: هذان على ذكور أمّتي حرامان حلالان على أناثهم. وقال بعض الأمراء لحاجبه: أدخل إليّ رجلا عاقلا فأدخل رجلا فقال: من أين عرفت عقله؟ قال: رأيته لبس الكتان في الصيف والقطن في الشتاء والعتيق في الحرّ والجديد في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 البرد. وقال أمير المؤمنين: لا يلبس الكتّان إلا غنيّ أو عني «1» . ذمّ سحب الثّوب ومدحه روي في الحديث: فضل الإزار في النار. وقال عمر بن عبد العزيز لمؤدّبه: كيف كانت طاعتي إليك؟ قال: أحسن طاعة. قال: فأطعني كما أطعتك خذ من شاربك حتى تبدو شفتاك ومن ثيابك حتى تبدو قدماك. وخلع الرشيد على يزيد بن مزيد وكان يجالسه رجل من اليمن، فقال المياني: أجرر فما عرق جبينك في نسجه فقال: عليكم نسجه وعلينا سحبه. ونظر سعيد بن سالم إلى أحمد إبنه وعليه ثوب طويل يجرّه فعاتبه، فقال: يا أبتي إني قصير وعادتي إذا لبست ثوبا مرة ومرتين أن أهبه وأكره أن أهبه لمن لا يصلح له فاحتملت قبح ذلك لما فيه من مصلحتهم. الثوب الخلق للحمدوني في ذلك أشعار كثيرة وله اختصاص يوصف ذلك، منها قوله في طيلسان كثر رفوه «2» : يا ابن حرب أطلت فقري برفوي ... طيلسانا قد كنت عنه غنيّا فهو في الرفو آل فرعون في العر ... ض على النّار بكرة وعشيّا وقال: طال ترداده إلى الرّفو حتّى ... لو بعثناه وحده لتهدّى «3» وقوله: عمرته الرّقاع فهو كمصر ... سكنته نزاع كلّ قبيله «4» ولآخر في جبة: دبّ فيها البلى فدقّت ورقّت ... فهي تقرا إذا السماء انشقّت «5» قال البسّامي: أرقع كمّيها وأرفو ذيولها ... فلا رفوها يجدي ولا رقعها يغني إذا قمت فيها أو قعدت تنفّست ... تنفّس صبّ ما يقرّ من الحزن «6» التعمّم قال صلى الله عليه وسلم: اعتمّوا تزدادوا حلما. وقال عمر رضي الله عنه: العمائم تيجان العرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 وقولهم سيّد معمّم معصب فيه تأويلان أحدهما هو المتعصب بجرائر قومه والآخر بمعنى الشرف، ومنه قول دريد: عاري الأشاجع معصوب بلمّته ... أمر الزعامة في عرنينه شمم «1» وقال أبو أمامة: إذا طولت الكمة وكورت العمة ووسعت الأكمة فقد هلكت الأمة وكان السيد يتعمّم بعمامة صفراء ومنه الزبرقان لصفرة عمامته. وذكرت العمامة لأبي الأسود فقال: هي جنّة في الحرب ومكنة في الحر ومدفأة في القرّ، ووقار في الندى، وزيادة في القامة وتعظيم للهامة. وبعث صلّى الله عليه وسلّم أسامة بن زيد في بعض سراياه فعمّمه بيده، وسدل طرف عمامته. قال شاعر: إذا لبسوا عمائمهم طووها ... على كرم وإن سفروا أناروا مدح التقنّع وذمّه كان فرسان العرب يتقنعون إلا أبو تميم بن طريف لم يتقنّع قط، ولم يبال أن يعرف. وقيل: التقنّع بالليل ريبة وبالنهار مذلة. وكان التقنّع من شيم الأشراف يقصدون بذلك مباينة العامّة، ويقولون: عدم القناع يفضي إلى ملال وابتذال. فمن وطئته الأعين وطئته الأرجل. التاج كانت ملوك العجم وكثير من ملوك العرب يتتوجون ويقولون للملك: المتوّج. وقالت الخزرج للنبي صلّى الله عليه وسلّم في عبد الله بن أبي بن سلول: لقد جئتنا حين نظما الخرز لتتويجه وكان السيف من قريش يتعصب في النادي ويفتخر. وبنو أمية جلسوا على الأسرة ولم يتوّجوا. وكان الوليد الخليع بنى قبّة ليضعها فوق الكعبة، لتكون مجلسا له ونزهة، وانتظر بذلك مع وضع التاج على رأسه كيف احتمال الناس له. الألوان سئل بعض الأعراب عن ألوان الثياب فقال: الصفرة أشكل والحمرة أجمل والخضرة أنبل والسواد أهول والبياض أفضل. وقال ابن عباس: لو كان البياض صبغا لتنوفس فيه. قال شاعر: وتعرّضت لك في البياض كأنّه ... درّ تنظمه بغير فصول قال العباس في سوداء، لبست قميصا موردا: فحمة ألبست رداء من الجم ... ر ونارا تستنّ في حراق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 وكان الأوزاعي يكره لبس السواد ويقول يلبس في المأتم وبمثله يعاقب المحرم، ولم أره على محرم ولا جليت فيه عروس، ولا كفن فيه ميت. قال أفلاطون: الصبغ الشقائقي والروائح الزعفرانية تسكن الغضب، والصبغ الياقوتي والروائح الوردية والنرجسية تحرك السرور، فإذا قرنت اللون الأحمر باللون الأصفر حركت القوّة العشقية، وإذا قرنت الأصفر بالأسود تحركت الشوقية، وإذا مزجت الحمرة بالصفرة تحركت القوة الغريزية، وإذا مزجت التفاحيّة بالخمرية تحركت الطبائع كلّها. الحثّ على صيانة الثّوب قيل: لكل شيء راحة وراحة الثوب طيبه وراحة البيت كنسه. وقيل: إن الثوب يقول: صنّي «1» بالليل أصنك بالنهار. ذمّ من وسخ ثوبه قال بعضهم: وسخ الثّوب والعمامة والبر ... ذون والوجه والقفا والغلام وقال بعضهم: دنس القميص غليظه ... من غير لحمته سداه وشعاره من شعره ... فكأنّه في مسك شاه «2» ودخل دسته على بعض المياسير بخراسان يستميحه، وكان وسخ الثياب، فقال: لو غسلت قميصك، فقال: أشرت بغسل كمّتنا علينا ... وقد أرعيتها أذنا سميعه سأغسل كمّتي ويدي منكم ... وأنشر عنكم لوم الطبيعه وذكر لأبي أيوب المتقشفة فقال: ما علمت أن القذر من الدين. ورأى أبو الفتح بن زنكلة صوفيا قذرا، فقال: ما علمت أن طريق الجنة على الكنيف «3» . النّعل قال عمر رضي الله عنه: ائتزروا وارتدوا وانتعلوا وتمدّدوا أي إفعلوا فعل معد. وقيل: استجيدوا النعال فإنها خلاخيل الرجال. وألغز بعضهم فيه: ومخزومة الأذنين ما تشتكيهما ... ومطعونة في الصّدر ما فجّرت دما ودخل ابن سكرة الحمام فسرقت نعله، فقال: ولست بداخل حمّام موسى ... وإن كان المنى طيبا وبشرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 تكاثفت اللصوص عليّ حتّى ... دخلت محمّدا وخرجت بشرا أي كنت صاحب النعل فلما خرجت صرت بشرا الحافي. وقال هشام بن محمد: مثل الذي يقعد ولا يخلع نعليه مثل الدابّة فلا يحلّ حملها. قال شاعر: يمسي ويغدو راجلا ... في خلق من الحذا خفّك يمشي جانبا ... وأنت منه في حذا «1» وفي المثل: كل الحذاء يحتذي الحافي الوقع أنواع من الثياب قيل: ثلاثة من لباس البخلاء الخزّ والقومسية والأدم، وقيل: الدواويج من لباس القبط، والدراريع لباس الروم، والأقبية لباس الفرس، والفوط لباس الهند، والأزر لباس العرب. وقيل: كان لأبرويز عمامة طولها خمسون ذراعا إذا اتسخت طرحت في النار فتأكل وسخها، وكان له ثوب قرمز يتلوّن كل ساعة بلون، وسراويل جوهر وتكّة أنابيب زبرجد في اللين كالغصن. الخاتم كان خاتمه صلّى الله عليه وسلّم حلقة فضّة وعليه فصّ عقيق وكان يتختّم به في يمينه وسبب اتخاذه أنه كتب إلى ملك الروم، فقيل له: إنه لا يقبل كتابا إلا مختوما، فاتّخذه حينئذ. وعنه صلّى الله عليه وسلّم: لا يلبس الخاتم إلا أمير أو ذو مال. وأوّل من تختّم في يساره معاوية رضي الله عنه، وقيل: قالوا تختم في اليمين وإنّما ... مارست ذاك تشبّها بالصّادق وتقرّبا منّي لآل محمد ... وتباعدا مني لكلّ منافق الماسحين فروجهم بخواتم ... اسم النبي بهنّ واسم الخالق إتخاذ الحلي نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن اتخاذ أواني الذهب والفضة وقال: من شرب في إناء من فضة فكأنما تجرجر في جوفه نار جهنم. واتخذ الهادي لجاما من فضّة فقال له المهدي: أما تعلم الناس أنّ لك فضة ارجع إلى حالك. محبّة الطّيب والحثّ على تناوله قال صلّى الله عليه وسلّم: حبب إليّ من الدنيا النساء والطيب وجعلت قرّة عيني في الصلاة. وقال صلّى الله عليه وسلّم: حقّ على كل مسلّم الطّيب والغسل والسواك يوم الجمعة، وأن يلبس من أحسن ثياب أهله، وأن يمس الطيب إن وجد وإن لم يجد فالماء له طيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 وقال الشعبي: الرائحة الطيبة تزيد في العقل. وقيل: من طاب ريحه زاد عقله ومن نظف ثوبه قلّ همه. نهي من عرض عليه طيب فردّه والحثّ على عرضه قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إذا أتى أحدكم بطيب فليمس منه وإذا أتى بحلواء فليمس منها. وروى أبو هريرة: لا تردّوا الطيب فإنه طيب الريح خفيف المحمل. ما يستحبّ للرّجال والنّساء من الطّيب كان ابن عمر يستجمر بالألوّة «1» غير مطراة وبكافورة معه. وقال صلّى الله عليه وسلّم: طيب الرجال ريح لا لون له وطيب النساء لون لا ريح له، يعني طيب النساء إذا خرجن. وروي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما: تحفة الصائم أن يدهن لحيته ويجمّر ثيابه، وتحفة الصائمة أن تذرر وتمشط رأسها وتجمر ثيابها «2» . أنواع الطّيب أوّل من سمى الغالية «3» معاوية، وذلك أن عبد الله بن جعفر اتخذها وأهداها له فسأله عن كلفتها فأخبره، فقال: هي غالية. وقال مالك بن أسماء لأخته وقد شم منها ريحا طيبة عليمني هذا الطّيب، فقالت: ما أخذته إلا من شعرك: أطيب الطّيب طيب أم أبان ... فأرمسك بعنبر مسحوق «4» فأدخل على الحجاج، فقال: ما الذي أسهرني فسمي الساهر به. وقال بعض النصارى: دخنة مريم تبلغ رائحتها عنان السماء، فقال مخنث: فالندّ «5» إذا يبلغ تحت العرش. الإستقصاء في التبخّر قيل: من الظرف والكرم الإستقصاء في التبخّر، ووضعت مجمرة تحت رجل فاستعجله الواضع، وقال ألا تضجر منها، فقال: إني أقعد على المستراح ساعات فلا أضجر، أفأضجر من ثلث ساعة أتبخّر فيها. المستغني عن الطّيب بطيب رائحته قال شاعر: الطيّبون ثيابا كلّما عرقوا وقال آخر: يا باسطا كفّه نحوي يطيّبني ... كفّاك أطيب في نفسي من الطّيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 وقال: وما ضرّ من أمسيت جارة بيته ... وفي رحله أن لا يمسّ من الطّيب البخور الطيّب قال الخوارزمي: بخور مثل أنفاس الحبيب ... وطيب قد أخلّ بكلّ طيب يظلّ الذيل يستره ولكن ... تنمّ عليه أنفاس الجنوب «1» إذا ما شمّ أنف حنّ قلب ... كأنّ الأنف جاسوس القلوب وصف من رؤي متطيّبا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يعرف خروجه برائحة المسك، وكان يعجبه المسك. قال الشاعر: ويضوع مسكا ريح طيب ثيابه ... وكذاك ريح الماجد الوهّاب وقال: كأن تجارا تحمل المسك عرّسوا ... به ثمّ فضّوا ثم كل ختّام «2» قال أبو ذهيل: في كفه خيزران ريحه عبق ... من كفّ أروع في عرنينه شمم «3» وكان الزهري يشم منه رائحة المسك حتى من علاقة سوطه. قال طرفة: ثم راحوا يعبق المسك بهم ... يلحقون الأرض هداب الأزر «4» قال أبو نواس: وكأنّ القوم بهتى ... بينهم مسك ذبيح «5» قال شاعر: بأبي من بعضه من ... طيبه يعشق بعضا حمل بخور إلى مجنون فحرق ثوبه فحلف لا يتبخر إلا عريانا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 (2) وممّا جاء في آلات الدار قال الله تعالى في ذمّ قوم: الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ «1» والمحلات عند العرب الدلو والمقدحة والفأس والقربة والقدر، وذاك أن من كان معه ذلك حلّ حيث أراد: لا يعدلن إتاويون تضرّبهم ... نكباء صرّ بأصحاب المحلات «2» وقيل: أشبه امرأ بعض بزه وكل سلعة لا تشبه صاحبها سرقة. وقيل: إستبن حزم الرجل بمتاع بيته. وأراد رجل أن يمدح رجلا عن خالد بن عبد الله، فقال: دخلت عليه فوجدته أثرى الناس دارا وآلة وأثاثا وفرشا، فقال خالد هذه حالة من لم تدع فيه شهوته للكرم والمعروف موضعا. ودعا بعض الناس حكيما إلى داره وهي في غاية الفرش والرجل في غاية الجهل، فبزق الحكيم في وجهه فغضب الرجل، فقال الحكيم: طلبت موضعا في دارك أبزق فيه فلم أجد موضعا أقبح من نفسك فجعلتها موضعا لبزاقي، إذ كان من شرطه أن يقذف في أخس ما كان. قال شاعر في وسادة منقوشة: ومكسورة حمرا كأن متونها ... نسور لدى جنب الخوان جموح وقال: ومكسورة باثنين وهي صحيحة ... حبيب إلى كلّ النفوس التزامها وقيل: في الفراش الطبري فضيلتان برد صفحته ومجانسة لونه لون السماء فالنفس تسكن إليه من الجهتين. الفرش المصوّرة كان صلّى الله عليه وسلّم إذا رأى صورة في ثوب قصّه ونهى عن التصاوير. وبعث كسرى إلى أبي سفيان بوسادة مصورة فجعلها على رأسه فاستحمقه، وقال قد بعثتها إليك لتقعد عليها، قال: قد علمت ولكن رأيت عليها صورة الملك فوضعتها على أكرم أعضائي، قال الببغاء في فأرة مصورة: أنظر إلى صورة لو أنها علمت ... بمن تشبه لم تظهر لبانيها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 ترى الملوك وقوفا حول مالكها ... وعدّة الدولة المأمول يعليها وقال الرّفاء: صنعت فوقها التماثيل أيد ... عاجزات عن صنعة الخلّاق ألبستها محاسن الخلق لما ... عجزت عن محاسن الأخلاق حيوان بلا حياة فمنه ... حائد من منية وملاق «1» وقال المتنبّي: وأحسن من ماء الشبيبة كلّه ... حيا بارق في فازة أنا شائمه «2» عليها رياض لم تحكها سحابة ... وأغصان دوح لم تغنّ حمائمه «3» ترى حيوان البر منسرحا بها ... يحارب ضدّ ضدّه ويسالمه إذا ضربته الرّيح ماج كأنّه ... تجول مذاكيه وتذأى ضراغمه «4» وفي صورة الرومي ذي التاج ذلة ... لأبيض لا تيجان إلّا عمائمه «5» وقال الببغاء في تمثال سبع في رمح: وضيغم في ذابل يلوح ... مساور تسيل منه الروح «6» جسم ولكن ليس فيه روح في صورة أفعى: ومارق معتدل الكعوب ... يقلّ أفعى مدّة التركيب تدب في الجو بلا دبيب اللّبد قال أبو طالب المأموني: وواضعة خدّها بالصّعيد ... لأربابها فلها حرمه «7» منسجة من جلود النّعاج ... بغير سداء ولا لحمه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 تزف على الزفّ زفّ الرّئال ... وتربو على الخزّ في نعمه «1» خركاة قال أبو محمد الباوردي في خركاة عليها ثياب بيض وقد كشف بعضها: رأيتك والبستان يحكي حسنه ... سماء وفيها حول حسنك مضرب وقد كشفت للجوّ منه جوانب ... فنورك في آفاقه يتشعّب كأنّك شمس من وراء غمامة ... يمزّقها عنه الشعاع المطنّب «2» الكرسي ّ قال أبو طالب المأموني: ومعتقد يعجب الناظرينا ... ويعجز عن وصفه الواصفونا كأنّ دعائمه إذ حنينا ... صوالجة في يد اللاعبينا «3» وقال: ومستوقف بجلوس الحضور ... على أربع بالعرى موثقه يمدّ على فرعه مفرشا ... ويظهر في خصره منطقه فمن شاء صيّره مقعدا ... ومن شاء صيّره مرفقه إذ ظل ينشر ما قد طواه ... أرى الحاضرين بما أوسقه «4» صليبي حديد إزاءين في ... عمود وتعلوهما مشرقه الشّمعة قال أبو طالب المأموني: وطاعنة جلباب كلّ دجنة ... بماضي سنان في ذؤابة ذابل «5» تجود على أهل الندى بنفسها ... وما فوق بذل النفس جود لباذل ويقرى عيون الناظرين ضياؤها ... وقد قيدت ألحاظهم بالأصائل «6» وقال السري: أغصان تبر عرّيت من الورق ... آثارها بين مصابيح الأفق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 يغني الندامى ضوؤها عن الفلق ... شفاؤها إن مرضت ضرب العنق «1» المنارة وقال أبو طالب المأموني: وقائمة بين الجلوس على سوى ... ثلاث فما تخطو بهنّ مكانا على رأسها نجل لها لم تجنه ... حشاها ولا علته قط لبانا «2» يسدّد في أعلاه كلّ عشيّة ... لشقّ جلابيب الظّلام سنانا «3» قال ابن طباطبا في منارة وسخة: ومنارة في زيّ صاحبها ... وسخا تراها رثّة قذره سوداء منتنة فتحسبها ... ملطوخة بالكسب والعذره «4» وله: يسيل على صدره المنارة بزرها ... كمثل لعاب حين سال به أنف وقال الصّنوبري في سراج مظلم: لنا سراج نوره ظلمة ... كأنّما يوقد من قلبي الحبّ أضناني فما باله ... نضو ولا يشكو جوى الحبّ «5» الكوز عاب عمرو بن عبيد قلّة الخزف فقال: ليست بصغيرة فيسقى بها ولا بكبيرة فيستقي منها، وهي ضيّقة الفم ويمنع ذلك من النظر إلى القذى فيها، وثخينة فلا يصل إليها الهواء، وثقيلة على اليد فاصلة عن الروي. قال الخوارزمي في كوز فقاع: وضيّقة الفم دحداحة ... عليها قميص ندى أخضر «6» تثور إذا كشفوا رأسها ... وإن قبّلوا فمها تهدر الزّجاج قال الله تعالى في شأنه: صرح ممرّد من قوارير وضربه مثلا لنوره فقال: مَثَلُ نُورِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ «1» وسئل النظّام عن عيبه، فقال: يسرع إليه الكسر ويقصر عنه الجبر، فقال: مثل الزجاجة صدعها لا يشعب وقيل: الزجاج لا يألف الزهومات «2» ولا يقبل القاذورات قابل للألوان المحمرة والأشكال المرموقة. وقيل: الزجاج أنقى في التراب من الذهب. قال كشاجم: وجسم هواء وإن لم يكن ... يرى للهواء بكفّ شبح يردّ على الشخص تمثاله ... وإن تتخذه مرآة صلح المدخنة قال بعضهم: فقوّارة من أديم الصّخور ... تخيّم في فلك الخيزران «3» تغذي قطاعا كعرف الحبيب ... وترقى وليس لها مسرجان «4» وتنبع عن مثل حبّ القلوب ... من الجمر ليس لها من دخان وقال الصنوبري: مجمرة طاف بها الغلمان ... كأنّها فيما حكى العيان فوّارة وماؤها الدّخان ... في بركة حصباؤها نيران «5» المشط قال كشاجم: مشط من العود لم نعبه ولا ... مالت به خفّة ولا ثقل يحبو اللّحى طيبها وزينتها ... فهو على المعنيين مشتمل «6» وقال آخر يذم مشطا منتشر الأسنان: مشط إذا سرّحت يوما به ... قطع لحييك بأسنانه المنقاش «7» قال أبو طالب المأموني: لديّ ذو نابين أعضلين ... ينتزعان شعر الخدّين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 حتّى ترى الوجنة كاللّجين ... كخصومة قد طويت طاقين «1» المرآة قال امرؤ القيس: وعين كمرآة الصّناع تديرها ... لمحجرها تحت النّصيف المنقّب «2» وقال الببغا: كلّ فضل لكلّ نوع وجنس ... دون فضل المرآة من غير لبس لطفت رقة وفاقت صفاء ... فهي كالماء في عيان ولمس واستدارت بباهر النّور حتّى ... ظنّها الناظرون قطعة شمس وهي أصفى أخ يكشف لي ... عنّي وأدنى خلّ يوفّر أنسي وإذا ما نأى نديمي عنّي ... ظلّ طرفي بها ينادم نفسي وفي ذمّها، قال بعض الشعراء: مرآته سيان في لونها ... ولبنة من بعض حيطانه المروحة وذات وصف خصّ بالثناء ... من صفة الأرواح والأنداء كأنّما صيغت من الهواء ... تطرفنا في الصّيف والشتاء المذبة قال كشاجم: مذبّة تهدى إلى سيّد ... ما زال عن كل وليّ يذبّ «3» ناصية الأدهم من عدوها ... لم تك من عرف ولا من ذنب «4» وذاك فأل إن تأملته ... لما يرجى من نواصي الرّتب الزّنبيل قال أبو طالب المأموني: وذي أذنين لا تعيان قولا ... وجوف للحوائج ذي احتمال يكلّف شغل أهل البيت طرّا ... ويحمل فيه من قوت العيال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 مطيع في الحوائج غير عاص ... ولا شاك إليك من الكلال «1» تسرّ عليه في الأسواق سرا ... فلا يبديه إلا في الرّحال التّفسرة وهي قارورة الطبيب التي تعرض عليه. قال المأموني: ركية تشفّ ذات طول ... من الزجاج الفائق المغسول «2» تظهر ما في الجسم من فضول ... مفصحة للطبّ لا بقيل عن كل داء غامض دخيل ... مرآة ما في جسد العليل تبديه للعين على التفصيل ... مؤيّدا بواضح الدّليل الأرجوحة قال المأموني: سفينة لا على ماء ملجلجة ... تجري براكبها في لجّة الرّيح «3» إذا انتهت بي إلى أقصى نهايتها ... عادت كجري أنّى سال مسفوح طرّادة طائرة تسري بلاد براح ... حول العقاب في سنا الصّباح «4» ناطقة بألسن الرّياح أنواع قال بعضهم يصف البطّ: وبطّ لا يزال الما ... ء يسقاه ويسقيه وقال شاعر: ثلاثة ثمنية تدور ... الطشت والكاسات والبخور رؤي على مقراض مكتوبا هذه الكلمة: دبر مرارا ما هممت بقطعه ... فإذا استبان لك المقصّ فقصّه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 الحدّ التاسع عشر في ذمّ الدنيا ونوبها (1) أسماء الدّنيا يسمّى الدهر أبا العجب والدنيا أم دفر وأم شميل. قال شاعر: ما الدّهر في فعله إلا أبو العجب وقيل: الدهر اسم لزمان متصل، والزمان اسم لدهر منفصل، وقال بندار الصوفي: الدنيا ما دنا من القلب وشغل عن الحق. قلّة لبث الإنسان في الدنيا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: فيم أنا من الدنيا ومالي ولها وإنما مثلي ومثلها كراكب سار في يوم صائف، فرفعت له شجرة فقال تحتها ساعة من نهار ثم راح وتركها. قال الموسوي: وكأنّ طول العمر دوحة راكب ... قضى اللّغوب وجدّ في الإسراء «1» وقال المسيح: الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمّروها. وقال أمير المؤمنين: الدنيا دار ممر لا دار مقر، والناس فيها رجلان: رجل باع نفسه فأوبقها ورجل ابتاع نفسه فأعتقها. وقال أبو يعقوب: لعمرك ما الدّنيا بدار إقامة ... ولكنّها دار انتقال لمن عقل وقيل لنوح عليه السلام: كيف وجدت الدنيا؟ قال: كدار لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر. وكتب أبو زيد الطائي إلى صديق له: اجعل الدنيا كيوم صمته عن شهوتك، واجعل فطرك الموت. قلّة متاع الدّنيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 قال الله تعالى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ «1» وقال تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ «2» وقال المنصور لما حضرته الوفاة: بعنا الآخرة بنومة. وقال شاعر: إنّما الدنيا كرؤيا ساعة ... من رآها فرّحته وانقضت وقال آخر: أراها وإن كانت تحبّ فإنها ... سحابة صيف عن قليل تقشع وقال أعرابي: ما كانت الدنيا على بني فلان إلا طيفا لما انتبهوا ولى عنهم. وقال العلوي الكوفي: مررت بدور بني مصعب ... بدور السرور ودور الفرح فشبّهت سرعة أيامهم ... بسرعة قوس يسمّى قزح تلوّن معترضا في السّماء ... فلمّا تمكّن منها نزح الماضي من الحياة والحاضر والمستقبل قال حكيم: أمسك ماض ويومك ممثّل وغدك مبهم. وقال الحسن: أمس أجل واليوم عمل وغدا أمل. وقال أبو العتاهية: أرى الأمس قد فاتني ردّه ... ولست على ثقة من غد وقال أبو حازم: بيني وبين الملوك يوم واحد أما أمس فلا يجدون لذّته ولا أجد شدته، وأما غد فإني وإياهم منه على خطر، وما هو إلا اليوم فما عسى أن يكون. التحذير من تضييع الأيام قال عبد الله بن المبارك في قوله تعالى: وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا «3» أي اعمل في الدنيا لآخرتك. وقيل: من لعب في عمره ضيّع أيام حرثه وإذا ضيع أيام حرثه ندم عند حصاده. وقال الحسن: ما وعظني شيء مثل ما وعظني كلام الحجّاج في خطبته: إن امرأ ذهبت عنه ساعة من عمره في غير ما خلق له لحقيق أن تطول حسرته يوم القيامة. وقال حكيم: الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما وقال رجل لداوود الطائي: ما ترى أن أتعلم الرمي؟ فقال: حسن ولكن إنما هي أيامك فافنها فيما شئت. مرور الأوقات هادم للحياة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 قال حكيم: من كان الليل والنهار مطيّته سارا به وإن لم يسر. وقيل: رأيت أخا الدنيا وإن كان خافضا ... أخا سفر يسعى به وهو لا يدري «1» وقيل: أنفاس المرء خطاه إلى أجله، وأمله خادعه عن عمله. لكلّ زمن فوت وفي كل طرفة موت. وقال: ما ارتد طرف امرئ بلحظته ... إلا وشيء يموت من جسده وقال أعرابي: كيف تفرح بعمر تقطعه بالساعات معرضا للآفات. قال أبو العتاهية: تظلّ تفرح بالأيام تقطعها ... وكلّ يوم مضى يدني من الأجل وقيل لأعرابي: أنظر إلى الهلال، فقال: ما أصنع به محل دين ومقرب حين. قال عبدة: إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله ... كفى قاتلا سلخي الشهور وإهلالي «2» وقال: إلا أنّ الفتى رهن ... بذي لونين خذاع «3» ومنه قول ابن قميئة: رمتني صروف الدهر من حيث لا ترى ... فكيف بمن يرمي وليس برام فلو أنّني لما رمتني رميتها ... ولكنّها ترمي بغير سهام وقال: فوّق الدهر إلينا نبله ... عللا يقصدنا بعد نهل «4» فهو رامينا ولا نبصره ... مثل رام رام صيدا فختل «5» البقاء في الدّنيا سبب الفناء قال بعضهم: انصرفت من مجلس حمّاد الراوية فقال أبي ما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: لو لم يكسب ابن آدم إلا الصحة والسلامة لكفى بهما داء. فقال أبي: قاتل الله حميدا حيث قال: أرى بصري قد رابني بعد صحّة ... وحسبك داء أن تصحّ وتسلما «6» وقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 ودعوت ربّي بالسلامة جاهدا ... ليصحّني فإذا السلامة داء وقال: لو لم يوكل بالفتى ... إلا السلامة والنّعم فتداولاه لا وشكا ... أن يسلماه إلى الهرم قال معدي كرب: أراني كلّما أبليت يوما ... أتاني بعده يوم جديد يعود شبابه في كلّ فجر ... ويأبى لي شبابي ما يعود وقال الصّلتان: إذا ليلة هرمت يومها ... أتى بعد ذلك يوم فتي فرح الدّنيا مشوب بالترح ومعقب بالهموم قيل: في كل جرعة شرطة ومع كل أكلة غصة. ونظر أنوشروان إلى ملكه فأعجبه، فقال: هذا ملك لولا أنه هالك ونعيم لولا أنه عديم، وغناء، لولا أنه عناء وسرور لولا أنه شرور، ويوم لو كان يوثق له بغد، قال المغيرة بن جيناء: وكذاك الدهر مأتمه ... أقرب الأشياء من عرسه وقال: لا يغرّنّك عيش ساكن ... قد تولّى بالمنيات السّحر وقال: إنّ الليالي لم تحسن إلى أحد ... إلّا أساءت إليه بعد إحسان وقال بعضهم: ما من إنسان قيل له: طوباك إلا وقد هيأ له الدهر يوم سوء، قال المتنبّي: ومن كان في السّراء في حال معجب ... فمحصوله منها على حال نادم وقال ابن لنكك: كلّ من حاز سرورا ... أو نعيما هو فيه فالمنايا والرزايا ... عن قريب تقتضيه وقال: لم يشفع الدهر الخؤون لمهجة ... في العمر إلا عاد وهو خصيمها «1» الدّنيا هموم وغموم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 قال رجل لأمير المؤمنين: صف لي الدنيا، قال: ما أصف في دار أولها عناء وآخرها فناء حلالها حساب وحرامها عذاب، من أمن فيها سقم ومن مرض فيها ندم ومن استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن. وقال بعض الصالحين: الدنيا دار غرست فيها الأحزان وذمّها الرحمن، وسلط عليها الشيطان يصل به الإنسان. وسئل آخر عنها فقال: من نالها مات عنها ومن لم ينلها مات حسرة عليها. وقال سفيان: الدنيا دار التواء لا الثواء من عرفها لم يفرح فيها برخاء، ولم يحزن بشقاء. وسمع حكيم رجلا يقول لآخر: لا أراك الله مكروها، فقال: دعوت عليه بالموت. من عاش لا بدّ له من مكروه. وقال شاعر: في كل دار ترحة وبلية ... وهموم دارك إن شكرت أقلها «1» وقيل للنظام وفي يده قدح دواء: ما حالك؟ فقال: أصبحت في دار بليّات ... أدفع آفات بآفات وقال أبو علي كاتب بكر: أفّ من الدنيا وأسبابها ... فإنّها للحزن مخلوقه همومها ما تنقضي ساعة ... عن ملك فيها ولا سوقه «2» وقال: أمرّ الزمان لنا طعمه ... فما إن ترى ساعة عذبه وقال: مضى قبلنا قوم رجوا أن يقوّموا ... بلا تعب عيشا فلم يتقوّما وقال المنصور: كن موسرا إن شئت أو معسرا ... لا بدّ في الدنيا من الغمّ وكلّما زادك من نعمة ... زاد الذي زادك في الهمّ قلّة السرور وكثرة الغموم روي عن الأمام الشافعي رضي الله عنه، قوله: محن الزمان كثيرة لا تنقضي ... وسرورها يأتيك كالأعياد «3» وقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 تأتي المكاره حين تأتي جملة ... وترى السرور يجيء في الفلتات وقال ابن نباتة: وما خير عيش نصفه سنة الكرى ... ونصف به نعتلّ أو نتوجّع «1» مع الوقت يمضي بؤسه ونعيمه ... كأن لم يكن والوقت عمرك أجمع سرعة المكاره وتباطؤ المحاب وقال شاعر: ألم تر أنّ سير الخير ريث ... وإن الشرّ راكبه يطير «2» وكان لسفيان جار مخنّث فمرض فعاده سفيان بأصحابه، فقال: كيف تجدك؟ فقال: إن العلل والآفات تجيء في الدنيا باقات والعافية تجيء طاقات، فقال سفيان: ما خرجنا إلا بفائدة. وقال الحارثيّ: تقضّاك دهر ما سلفا ... وكدّر عيشك بعد الصّفا فلا تنكرنّ فإنّ الزمان ... رهين بتشتيت ما ألفا وقال أبو الوليد: وليس الدهر مؤتمنا ... على تفريق ما جمعا وقال: إلا إنّما الدنيا مطيّة بلغة ... علا راكبوها فوق أعوج أحدبا «3» شموس متى أعطتك طوعا زمامها ... فكن للأذى من عسفها مترقّبا «4» التحذير من النّقصان عند التّمام قيل: من بلغ غاية ما يحبّ فليتوقع غاية ما يكره. وقال الأصمعي: وجدت لبعض العرب بيتين كأنهما أخذا من قوله تعالى: حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً «5» وهما قول سعيد بن وهب: أحسنت ظنّك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف غبّ ما يأتي به القدر وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 ومن دعاء بعضهم: صرف الله عنك آفات التّمام. وكتب الإسكندر إلى أرسطاطاليس: أكتب إليّ موعظة تردع وتقنع، فكتب إليه: إذا استوت بك السلامة فجدّد ذكر العطب وإذا اطمأنّ بك الأمن فاستشعر الخوف، وإذا بلغت نهاية أملك فاذكر الموت. وقال شاعر: إذا تمّ أمر بدا نقصه ... توقّع زوالا إذا قيل تمّ عرض الدنيا عارية قال ابن مسعود: عرض الدنيا عارية ومن فيها ضيف، والعارية مؤداة والضيف مرتحل. والمال في الأقوام مستودع ... عارية والشرط فيها الأداء «1» وقال: وما المال والأهلون إلّا ودائع ... ولا بدّ يوما أن تردّ الودائع وقال: أبدا تستردّ ما تهب الدّني ... افيا ليت جودها كان بخلا فكفى كون فرحة تورث اله ... مّ وخلّ يغادر الوجد خلا وقال: لم يظلم الدّهر ولكنّه ... أقرضني الإحسان ثم اقتضى الدّنيا متقلّبة من أمثالهم: الدنيا طرفة عين لا تثبت على حالة. دخل أعرابي عمّر مئة وعشرين سنة على معاوية فقال له: صف لي الدنيا. فقال: سنيات بلاء وسنيات رخاء يولد مولد ويهلك هالك، ولولا المولود باد الخلق ولولا الهالك ضاقت الأرض. وقال شاعر: هل الدهر إلا ضيقة وانكشافها ... وشيكا وإلا ترحة وانفراجها وقال: وحادثات أعاجيب خسا وذكا ... ما الدهر في فعله إلا أبو العجب «2» وقال: الدهر من شأنه أن لا يدوم له ... ما يحتويه الفتى منه وما يمق «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 وقال: وما حالة إلّا ستطرف حالها ... إلى حالة أخرى وسوف تزول وقال آخر: ومن عادة الأيام أنّ صروفها ... إذا ساء منها جانب سرّ جانب وقال: إنما الدنيا هبات ... وعوار مستردّه «1» شدّة بعد رخاء ... ورخاء بعد شدّه الدّنيا لا يدوم فيها فرح ولا ترح قال شاعر: وما اكتأبت نفس فدام اكتئابها ... ولا ابتهجت نفس فدام ابتهاجها وقال آخر: هل الدهر إلا ساعة ثم تنقضي ... بما كان فيها من بلاء ومن خفض فهونك لا تحفل إساءة عارض ... ولا فرحة تأتي فكلتاهما تمضي «2» ويروى عن أبي الفتح بن العميد لما قبض عليه، قال: الفلك أحد والدوار أجد من أن يبقي أحدا على أحد. إعتبار الباقي بالماضي قال الحجّاج: والله إن الذي بقي من عمري لأشبه بما مضى من التمرة بالتمرة ومن الماء بالماء. الدهر آخره شبه بأوّله ... يوم بيوم وأيام بأيام وقال حارثة بن بدر: وما الدهر إلا مثل أمس الذي مضى ... ومثل الغد الجائي وكلّ سيذهب وقال أعرابي: جعلنا الله ممّن يعتبر ممن يعبر الدنيا أي يعتبر بمن يقطعها. وصف الدنيا بأنّها غرّارة قال أمير المؤمنين: الدنيا تغرّ وتضرّ وتمرّ. وقيل الدنيا غرور حائل وزخرف زائل وظلّ آفل ومسند مائل. وقال يحيى: الدنيا جارية زانية وتتهم بمن يقرب منها: يغرّ الفتى مرّ الليالي سليمة ... وهنّ به عما قليل عواثر «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 وقال آخر: وما زالت الأيام تستدرج الفتى ... وتملي له من حيث يدري ولا يدري وقال آخر: لقد غرّت الدنيا رجالا فأصبحوا ... بمنزلة ما بعدها متحوّل وقال آخر: يعللّنا هذا الزمان من الوعد ... ويخدع عمّا في يديه من النّقد وقال آخر: فذي الدار أخدع من مومس ... وأخون من كفّة الحابل «1» وهذا مثل ما قيل: الدنيا قحبة، يوما عند عطار ويوما عند بيطار. النهي عن الإغترار بأوقاتها قيل: لا تغتر بصفاء الأوقات، فتحتها غوامض الآفات، وقيل: لا يغرّنك الإملاء فالإملاء من الإستدراج، والله تعالى يقول: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ «2» . وقيل: مثل الدنيا مثل الحية ليّن مسّها وفي جوفها السم الناقع، يهوي إليها الصبي الجاهل ويحذرها الحازم العاقل. وقال شاعر: إنّ دنياك حيّة تنفث السّ ... مّ وإن كانت المجسّة لانت «3» وقال أبو عمرو بن العلاء: كنت أدور في ضيعتي في شدّة الحر فسمعت هاتفا يقول: وإن امرأ أدنياه أكبر همّه ... لمستمسك منها بحبل غرور فنقشت ذلك على خاتمي. وقال الشاعر: يا واثقا بزمانه ... أخطر تصرفه ببالك ووجد بخط نصر بن أحمد: ولا تخدعنّك صروف الزمان ... فإن الزمان كثير الخدع «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 تصوّر الدنيا يزيد الغموم قال الشاعر: ومن عرف الأيام لم ير خفضها ... نعيما ولم يعدد تصرّفها بلوى «1» الدّنيا واعظة قال أمير المؤمنين: أيها الذام الدنيا بم غرتك؟ بمصارع آبائك تحت الثرى، أم بمضاجع أمهاتك في البلى. كم مرّضت بيديك وغسلت بكفيك فلم يغن عنك. وقيل: ما ضمنت الدنيا لأحد المتاع بها، بل نادت فصرخت إنها ميراث الدول وصبابة الأزمنة وأوعية الفجائع ومفرقة الآلات. وقال عبد الله بن عيينة: إن الليالي والأيام لو بحثت ... عن عيب أنفسها لم تكتم الخبرا وقال أبو تمّام: عمري لقد نصح الزمان وأنه ... لمن العجائب ناصح لا يشفق وقال أبو العتاهية: نحن في دار تخبرنا ... ببلاء ناطق لسن قال المسيح عليه السلام: الدنيا مزرعة إبليس وأهلها له حرّاث. وقيل: كل قتيل يقتص له يوم القيامة إلا قتيل الدنيا يقتص منه. مدح الدنيا بأنّها يتوصّل بها إلى الآخرة ذمّ رجل الدنيا بحضرة أمير المؤمنين فقال: أسكت فإن الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار غناء لمن تزوّد منها ودار عافية لمن فهم عنها، مسجد أبينا آدم ومهبط وحيه، متجر أوليائه فاكتسبوا منها الرحمة وادّخروا منها الجنة. وقيل: الدنيا دار تجارة والويل لمن تزوّد منها الخسارة. الدّنيا محبوبة وإن كانت معيوبة قال الشعبي: ما أعلم لنا وللدنيا كقول كثيّر: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدنيا ولا مقليّة إن تقلّت «2» وقال المأمون: لو نطقت الدنيا لم تصف نفسها بأجود مما قال أبو نواس: إذا امتحن الدنيا لبيب تكشّفت ... له عن عدوّ في ثياب صديق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 وقال: يذمون دنيا لا يرجّون درّها ... ولم أر كالدنيا يذمّ ويحلب وقال سابق البربري: النفس تكلف بالدنيا وقد علمت ... أن السلامة منها ترك ما فيها وقال أبو العتاهية: كلّنا يكثر المذمّة للد ... نيا وكلّ بحبّها مفتون وقال الموسوي: دنيا تضرّ ولا تسرّ وذا الورى ... كلّ يجاذبها وكلّ عائب الدّنيا ضارّة لأهلها قيل: الدنيا تضرّ محبيها ما كرمت على أحد نفسه إلا هانت عليه الدنيا. وقيل: أوحى الله إلى الدنيا إن اخدمي من جفاك واستخدمي من يهواك. وقال عمر بن عبد العزيز: الدنيا لا تضرّ إلا من أمنها ولا تنفع إلا من حذرها. وقال عمر رضي الله عنه: ما كانت الدنيا هم امرئ إلا لزم قلبه خصال أربع، فقر لا يدرك غناه وهم لا ينقضي مداه وشغل لا ينفد أولاه وأمل لا يدرك منتهاه. أرى الدنيا لمن هي في يديه ... عذابا كلّما كثرت لديه تهين المكرمين لها بصغر ... وتكرم كلّ من هانت عليه وقال المتنبّي: وكلّ يعشق الدنيا قديما ... ولكن لا سبيل إلى الوصال وقال ابن نباتة: تملّ مآرب الأيام منّا ... ونعشقها لقد عظم البلاء «1» وقال أبو العيناء: مذمومة بالهمّ مخطوبة ... سم زعاف درّ أخلافها «2» ولم تزل تقتل ألافها ... أفّ لمن تقتل ألّافها تبكيت النّفس في الميل إلى الدّنيا مع المعرفة بها قال شاعر: ومن عجب الدنيا ركوني وصبوتي ... إليها على سنّي كأني وليدها أجاري الليالي ليلة بعد ليلة ... مشيحا كأنّي تربها وطريدها «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 وتنقصني في كلّ يوم وليلة ... ونفسي على نقصانها تستزيدها وقال: وإن امرأ يبتاع دنيا بدينه ... لمنقلب منها بصفقة خاسر وقال الموسوي: نرجو البقاء كأنّنا لم نختبر ... عادات هذا العالم المشهود الدنيا غير مستغنى عنها قال العتبيّ: كنت قاعدا في دهليزي عقب علّة فدخل مجنون يدعى بالغيث فقلت: أنا منه بين لطمة وشتمة فنظر إليّ ساعة، ثم أنشأ يقول: نظرت إلى الدنيا بعين مريضة ... بفكرة مغرور وتأميل جاهل فقلت هي الدار التي ليس مثلها ... ونافست فيها في عناء وباطل وقال: كفلت بنا الدّنيا ولا ... طفل يعيش بغير ظئر «1» وذكر لأمير المؤمنين قوم يحبون الدنيا فقال: هم أبناؤها أفيلام الرجل على حب والديه؟ بنو الدّنيا غرض لأنواع البلاء قيل للحسن: كيف أصبحت؟ فقال: كيف يصبح من هو غرض لثلاثة أسهم، سهم رزيّة وسهم بليّة وسهم منيّة. وقال ابن المعتز: أرى كلّ نفس للمنايا دريّة ... وللعيس يمسي كدحها ودؤبها «2» تناضلها الآفات من كلّ جانب ... فتخطئها يوما ويوما تصيبها وقال الربيع لأبي العتاهية كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت والله في مضيق ... فهل سبيل إلى طريق أفّ لدنيا تلاعبت بي ... تلاعب الموج بالغريق وقيل: من أخطأه سهم المنيّة لم يخطئه سهم الرزيّة. إنكار ذمّ الدهر قال صلّى الله عليه وسلّم: إذا قال الرجل لعن الله الدنيا قالت الدنيا: لعن الله أعصانا لربّه. وقال: لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر أي الفاعل هو الله لا الدهر. قال الشيخ أبو القاسم الراغب: ألمّ بهذا المعنى الخوارزمي، فقال: وكم نكني وكم نهجو الليالي ... وليس بخصمنا إلا القضاء وقال الناجم: نعيب زماننا والعيب فينا ... ولو نطق الزمان بنا هجانا وقال رجل للأصمعي: فسد الزمان، فقال: إن الجديدين في طول اختلافهما ... لا يفسدان ولكن يفسد الناس «1» وقال أبو عبد الرحمن الأصم لأبي العتاهية: أي خلق الله أصغر عنده؟ قال: الدنيا لا تساوي عنده جناح بعوضة، قال: أصغر منها محبّها. لم يفسد الدهر لكنّ أهله فسدوا وقال المتنبّي: ألا لا أري الأحداث حمدا ولا ذمّا ... فما بطشها جهلا ولا كفّها حلما الدّهر يتراذل قال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: معروف زماننا منكر زمان قد فات ومنكره معروف زمان لم يأت. وسمع زياد امرأة تقول: اللهم أعزل عنا زيادا، فقال لها: زيدي في دعائك وأبدي لنا خيرا منه فإن الأخير أبدا شر. وقال بعض العلماء: آخر الناس شرارهم الذين تقوم عليهم القيامة. حمد ماضي الزّمان وذمّ حاضره كانت عائشة رضي الله عنها تنشد قول لبيد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب «2» وتقول: رحم الله لبيدا كيف لو عاش إلى زماننا. وكان ابن الزبير ينشده ويقول: رحم الله عائشة كيف لو عاشت إلى زماننا. وقال بعضهم: كان الناس ورقا بلا شوك، فصاروا شوكا بلا ورق. وقال شاعر: لم أبك من زمن شكوت صروفه ... إلّا بكيت عليه حين يزول وقال: ننسى أيادي الزمان فينا وما ... نذكر من دهرنا سوى نوبه «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 المسرّة من حيث تخشى المضرّة قال الله تعالى: فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً «1» وقيل: خف المضار من خلل المسار، وأرج النفع من موضع المنع. فأكثر ما يأتي الآمن من محل الفزع. وقال حكيم: أعناق الأمور تتشابه، فرب محبوب في مكروه ومكروه في محبوب ومغبوط بنعمة هي داؤه ومرحوم من داء فيه شفاؤه. وقيل: ربّ سلامة تكون للتلف سببا ومكروه يكون للنجاة مفتاحا. وقد يأسف المرء من فوت ما ... لعلّ السلامة من فوته «2» وقال حكيم: لله مصالح في مكاره عباده. وقيل: العاقل لا يجزع لأول نكبة ولا يفرح بأول نعمة فربما أقلع المحبوب عما يضرّ وأسفر المكروه عما يسرّ. كم مرة حفّت بك المكاره ... خار لك الله وأنت كاره «3» وقال أبو عمرو بن العلاء خرجت هاربا من الحجّاج فسمعت أعرابيا ينشد: ربّما تجزع النفوس من الأ ... مر لها فرجة كحلّ العقال سبب البلاء سبب إتيان الرخاء. وقال صلّى الله عليه وسلّم: اشتدي أزمة تنفرجي. وقيل: إذا اشتد الأمر هان. من أشرف على الهلاك ففرّج الله تعالى عنه أتى يزيد بخارجي فأراد قتله، فقال: عسى فرج يأتي به الله إنه ... له كلّ يوم في خليقته أمر فقال: والله لأضربنّ عنقك أقتلوه. فدخل الهيثم بن الأسود فقال أمسكوه قليلا، فدنا منه فقال: يا أمير المؤمنين هب مجرم قوم لوافدهم، فقال: هو لك، فخرج الخارجي وهو يقول: تأبّى على الله فأبى إلا أن يكذبه وغالبه فأبى إلا أن يغلبه. وأحضر رجل ليقتل في أيام نازوك فدعا بطعام فأخذ يأكل ويضحك، فقيل: تضحك وأنت مقتول؟ فقال: من الساعة إلى الساعة فرج فسمعت صيحة فقيل: مات نازوك، فخلوا الرجل. وشدّ بعض العمال رجلا إلى أسطوانة يريد ضربه، فقال: حلّني من هذه إلى هذه فحله فما حله إلا وقد عزل وشدّ إلى الاسطوانة بعينها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 مستضعف أعانه الله فقوّاه قال الله تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ «1» وقال أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ «2» . (2) حثّ الممتحن على مصابرة الزمن إلى انقضاء زمن المحن قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: للمحن أوقات ولها غايات، واجتهاد العبد في محنته قبل إزالة الله لها زيادة فيها. قال تعالى: إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ «3» . وقيل: الممتحن كالمختنق كلما ازداد اضطرابا إزداد اختناقا. وقيل: إذا أراد الله خلاص غريق عبر البحر على سارية. وقيل: حامل الدهر إلى أن يحمل وأقبل منه إلى أن يقبل. من زال غمّه فنسى صنع الله تعالى قال الله تعالى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ «4» ، وقال الله تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ «5» الآية، وقال الله تعالى: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ «6» الآية، شكا يوسف عليه السلام طول الحبس فأوحى الله تعالى إليه أنت حبست نفسك حيث قلت السجن أحب إليّ. وقيل: من سبح في النهر الذي فيه التمساح عرض نفسه للهلكة. وقيل: ما صاحب البلاء الذي طال بلاؤه بأحق بالدعاء من المعافى. من ذكر إحسان الزمان إليه بعد إساءته قال شاعر: أيّها الدهر حبّذا أنت دهرا ... قف حميدا ولا تزول حميدا كل يوم تزداد حسنا فما تب ... بعث يوما إلا حسبناه عيدا وقال آخر: رقّ الزمان لفاقتي ... ورثى لطول تحرّقي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 فأنالني ما أرتجي ... وأجار ممّا أتّقي فلأغفرنّ له الكبير ... من الذّنوب السّبق حتّى جنايته بما ... فعل المشيب بمفرقي وقال آخر: ربّما أحسن الزما ... ن وإن كان قد أسا وقال وهو الصدق: وآخر إحسان الليالي إساءة ... على أنّها قد تتبع العسر باليسر أصحاب الرّجاء والخوف قال شاعر: في كلّ شيء أرتجي مخافة ... في كلّ شيء أشتهيه آفه فضل العافية وسلامة الدين قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا. وقيل: أراني غنيّا ما كنت سويّا. وقيل: من أوتي العافية فظنّ أن أحدا أوتي أكثر منه فقد قلّل كثيرا وكثرّ قليلا. وقيل: صلاح الآخرة بخلّة واحدة وهي التقوى وصلاح الدنيا بثلاث: العافية والغنى والعمر. وقيل: العافية الملك الخفيّ الهنيء. وقيل: الدنيا بحذافيرها الأمن والعافية. لا تأس من دنيا على فائت ... وعندك الإسلام والعافيه إن فات شيء كنت تسعى له ... ففيهما من خلف كافيه معرفة فضل السلامة عند فوتها قيل: لا يعرف طعم النعمة إلا من نالته يد العلّة والبلاء: فبضدها تتميّز الأشياء وقيل: شيئان لا يعرف فضلهما إلا من فقدهما الغنى والعافية. وقال أبو تمّام: وليس يعرف طيب الوصل صاحبه ... حتى يصاب بنأي أو بهجران وقلب المتنبّي هذا المعنى فقال: ولولا أيادي الوصل في الجمع بيننا ... غفلنا فلم نشعر له بذنوب «1» وقال حكيم: كم من نعمة عرفت ببليّة نزلت ونعمة جهلت بسلامة لبثت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 الحدّ العشرون في الديانات والعبادات (1) الدّلالة على وحدانية الله تعالى من قول الأوائل قال أفلاطون لتلميذه أرسطو: ما الدليل على وحدانية الله تعالى؟ فقال: ليس شيء من خلقه بأدلّ عليه من شيء. وقال لبيد: فوا عجبا كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد وفي كلّ شيء له آية ... تدلّ على أنّه واحد ولله في كلّ تحريكة ... وتسكينة أبدا شاهد وسئل سقراط عن دلالة الصانع، فقال: دلّ الجسم على صانعه فجمع بهذه اللفظة دلالة حدوث العالم، فإن صانعه حكيم. ونظر أعرابي إلى الناس في يوم الجمعة فقال: صورة واحدة وخلق مختلف، ما هذا إلا صنع رب العالمين. نفي الكيفية عن الله سبحانه وتعالى قال الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «1» . وسئل جعفر بن محمد عن كيفية الله تعالى، فقال: نور لا ظلمة فيه وعلم لا جهل فيه، وحياة لا موت فيها. وسأل رجل أمير المؤمنين: أين الله تعالى؟ فقال: هذا سؤال عن المكان، وكان الله ولا مكان وقال عثمان لأعرابي: أين ربك؟ قال: بالمرصاد. وقال العتبي: من جعل الله في مكان فقد حدّه ومن حدّه فقد عدّه ومن عدّه فقد ثنّاه، تعالى الله عن ذلك. حقيقة الإيمان سئل الجنيد عن الإيمان فقال: ما أوجب الأمان. وأتى رجل إلى الحسن فقال له: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 أمؤمن أنت؟ فقال له: إن كنت تريد قول الله تعالى: آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا «1» فنعم به نتناكح وبه نتناسل وبه حقنا دماءنا، وإن كنت تريد قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ «2» ، فما أدري أنا منهم أم لا؟ وسئل الفضيل عن الورع فقال: اجتناب المحارم. وقيل لأبي هريرة: صف لنا التقوى، فقال: إذا دخلت أرضا فيها شرك كيف تصنع؟ فقال: أتوقى وأتحرز، فقال: فاتّق من الدنيا هكذا، فهذه التقوى. أخذه ابن المعتز، فقال: كن مثل ماش فوق أر ... ض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرّن صغيرة ... إن الجبال من الحصى وقيل: ليس الإيمان بالتحلّي ولا التمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، وأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم بجارية فقيل له: هل تجزي هذه عن العتق؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: أين ربّك؟ فرفعت يدها إلى السماء فقال لها: من أنا؟ قالت: رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة. حقيقة التقوى قيل: هي الامتناع من المحرّمات. وقيل: تغيّب المولى في قلوب أوليائه يحثّهم على الخير ويمنعهم من الشر. وقال الحارث: هي انتهاء الجوارح عما نهى الله تعالى عنه إلى ما أمر به. قال الله: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ «3» . وقال عمر بن عبد العزيز: ليست التقوى قيام الليل ولا صيام النهار والتخليط فيما بين ذلك، ولكنّ التقوى ترك ما حرم الله، وأداء ما افترض الله، فمن رزق خيرا بعد ذلك فهو خير. وسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من آلك؟ فقال: كلّ تقي ألا أن أولياء الله هم المتّقون. حقيقة المحبة وعلاماتها وأحوالها قال يحيى بن معاذ رحمه الله: حقيقة المحبّة لا يزيدها البرّ ولا ينقصها الجفاء وقال صلّى الله عليه وسلّم: إذا أحب الله عبدا جعل له واعظا من نفسه وزاجرا من قلبه يأمره وينهاه. وقال إن الله تعالى يقول: ما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ من أداء ما افترضت عليه وإنّ عبدي لا يزال يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته. وقال جعفر إذا أحبّك الله سترك وإذا أحببته شهرك. وقال: إذا أحبك أنامك وإذا أحببته أقامك، فهذا هو الفرق بين المريد والمراد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 وقال بعضهم: سمعت امرأة تطوف بالبيت وتقول: بحبك لي إلا ما غفرت لي. فقلت لها: أما يكفيك أن تقولي بحبي لك؟ قالت: أما سمعت قوله تعالى يحبهم ويحبونه، فقدم محبته لهم. وسأل فقير الشبلي عن قول الله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «1» فزعق وقال: إذا أنت لم تعطفك إلا شفاعة ... فلا خير في ودّ يكون بشافع حال التصوّف والمتصوّفة والمريد والمراد قيل لأبي عبد الله الحضرمي وكان يعرف بالصامت لأنه صمت عشرين سنة وقد سئل عن المتصوّفة، فقال: رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فقيل: كيف صفتهم؟ قال: لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء. قيل: فأين محلهم؟ فقال: في مقعد صدق عند مليك مقتدر. قيل: زدنا. قال: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا. وسئل بعضهم عن حدّ الصوفي فقال: الأكول الكسول الكثير الفضول، فحكى ذلك للإمام الشافعي، فقال: الأكول للحلال، الكسول عن المعاصي، الكثير الفضول بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقيل: الصوفي من لبس الصوف على الصفا وذاق طعم الهوى والجفا وترك الدنيا والعفا. وسئل أبو سهل الصعلوكي عن التصوّف فقال: الإعراض عن الاعتراض. وللجنيد: التصوّف ترك التصرف. وقال: أبو عبد الله بن خفيف: هو لائح لاح فاصطلم واستباح، وقال المحاسبي: الرضا بسكون القلب تحت جريان الحكم. وأقبل أبو العباس وشريح على الجنيد رحمه الله تعالى فقال: يا أبا العباس في كتاب الله تعالى آية تدل على مذهبكم. فبرك جنيد على رجليه، وقال: بلى قال الله: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ الآية وقال أبو العباس بن عطاء في كتاب الله تعالى آية هي صفتهم يعرف معناها من تلاها وهي ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ «2» الآية. وسئل أبو عبيد الله عن المراد والمريد فقال المريد الذي سأل ربه فقال اشرح لي صدري ويسرّ لي أمري، والمراد الذي قيل له ألم نشرح لك صدرك إلى آخرها. وقيل ما حقيقة الفقر؟ قال أن لا ترى مع الله في الدارين غيره. حقيقة الذّكر هي أن يكون القلب فارغا إلا منه. قال الله تعالى: وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ «3» أي بذكر موسى من غير قصد منها إلى ذكره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 مدح الله تعالى باللسان قال الله تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ «1» واذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً «2» وقيل: أوجب الله الذكر في الصلاة في كثير من المواضع. وقيل: ما سمع صلّى الله عليه وسلّم أحدا ذكر الله إلا جاذبه الحمد. وقال معاذ: لا يتحسر أهل الجنة على شيء كتحسرهم على وقت مرّ عليهم ولم يذكروا الله تعالى فيه. ذمّ ذكر الله تعالى باللّسان وتذكرّه عن النسيان قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ «3» . وقال تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ «4» قيل: السكران المذموم ههنا من تتعرّى أجزاء صلاته عن الحضور. التحذير من الكلام فيما يؤثم سمع حكيم رجلا يفحش فقال: يا هذا إنك تملي على حافظيك كتابا إلى ربك. وقال: عمر رضي الله عنه: من علم أن الكلام عمل أمسك. وقال الجنيد: الرحمة تنزل على العارف في ثلاثة مواضع: عند الأكل، فإنه لا يأكل إلا عن جوع وعند الكلام، فإنه لا يتكلم إلا عن ضرورة. وعند السماع فإنه لا يسمع إلا من الله. ورأى إبراهيم بن أدهم رجلا يحدث بما لا يعنيه فوقف عليه، وقال: أكلاما ترجو منه الثواب، قال: لا، قال: أفتأمن عليه العقاب، قال: لا، قال: فعليك بذكر الله ما تصنع بكلام لا ترجو منه ثوابا ولا تخاف عقابا. ذمّ من خلا قلبه من حلاوة الوحدانية قيل: أوحى الله تعالى إلى بعض الأنبياء أما يستحي من يدّعي حبي وقلبه مملوء من غيري هذا علامة الخدام. قيل: وكان في بني إسرائيل حبر فقال في دعائه: يا ربّ كم أعصيك وأنت لا تعاقبني فأوحى الله تعالى إلى نبيّ ذلك الزمان: قل لعبدي كم أعاقبك ولا تدري، أسلبك حلاوة مناجاتي. وسئل الشبلي عن قول النبي: إذا رأيتم أهل البلاء فسلوا ربكم العافية من هم؟ قال: هم أهل الغفلة عن الله. وقيل: من لم يرتدع بأمر الله وذكر الموت ثم تناطحت الجبال بين يديه لم يرتدع. قلّة المبالاة بما يفوت من عرض الدنيا قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ «5» الآية. وقيل: حق المؤمن أن لا يتحاشى ما به نجاة نفسه ألا ترى إلى السحرة لما آمنوا وهددهم فرعون، قالوا: اقض ما أنت قاض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 الحثّ على اعتبار الله دون غيره قيل للشعبي: أوصني فقال: قل الله، ثم ذرهم في خوضهم يلعبون. وقال أبو جعفر الجوهري: سمعت زنجيا يقول: هذا قلبي فتّشوه فإن وجدتم فيه غير واحد فانبشوه، وسئل عن قوله تعالى: وإبراهيم الذي وفّى قال: الذي رضي بإسقاط الوسائط فإنه لما جعل في المنجنيق، قال: حسبي الله ونعم الوكيل، فلما صار في الجوّ أتاه جبريل عليه السلام فقال: ألك حاجة؟ قال: أمّا إليك فلا. وكتب الجنيد إلى علي بن سهل: سل محمد بن يوسف ما الغالب عليك؟ فقال: والله غالب على أمره. وقيل للشبلي: أنظر في الفقه لتفتي، فقال: خاطر يحرك سرّي أحب إليّ من سبعين قضية قضاها شريح. الأنس بالله في الخلوة قال عمرو بن عثمان: من كان في خلوته عينا الله على نفسه كفاه الله هم أمره في علانيته. وقال بنان الحمال: دخلت بادية فاستوحشت فهتف بي هاتف نقضت العهد أليس حبيبك معك. وقيل: من أنس بغير الله في الخلوة فهو أبدا في وحشة. تعظيم الله تعالى سمع الشبلي رجلا يكثر عند ذكر الله من قوله تعالى: عزّ وجل، فقال: أحب أن تجلّه عن هذا فإنه أجل من أن يجل. وقيل للجنيد: تقول الله ولا تقول لا إله إلا الله، فقال أخاف أن يدركني الحقّ في قولي لا وهو شأن الجحود. وقال عبد الله بن سهل: إن الله يطلع على القلوب فأيّ قلب رأى فيه غيره سلّط عليه العدو. مراعاة الله في الشّدة والرّخاء دخل حميد الطويل على سليمان بن علي والي البصرة فقال له: عظني، فقال حميد: لئن كنت حين عصيت ربك ظننت أنه يراك فقد اجترأت على الله ولئن كنت ظننت أنه لا يراك فقد كفرت. وقال عمرو بن عثمان: قال عيسى: يا رب من أشرف الناس قال من إذا خلا علم أني ثانيه فأجلّ قدري عن أن يشهدني معاصيه. وقال رجل للحسين بن علي: من أشرف الناس؟ قال: من اتعظ قبل أن يوعظ واستيقظ قبل أن يوقظ، فقال: أشهد أن هذا هو السعيد. وسارّ سليمان عمر بن عبد العزيز، فقال: هل يرانا من أحد فقال: نعم عين لا تحتاج إلى تحديق وترميق. ومرّ عمر رضي الله عنه بمملوك يرعى غنما فقال: أتبيعني منها شاة؟ قال ليست لي، قال: فأين العلل؟ قال فأين الله؟ فاشتراه عمر وأعتقه، فقال المملوك: اللهم قد رزقتني العتق الأصغر فارزقني العتق الأكبر، أعوذ بك من قلب غائب عنك. وقال السري السقطي: بتصحيح الضمائر تغتفر الكبائر. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، أي تعرف إليه في الرخاء بالشكر وذكر الآلاء يعرفك في الشدة بالعصمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 الحثّ على مراعاة ما فيه رضا الله دون المخلوقين قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: من طلب رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن طلب رضا الناس بسخط الله وكله إلى الناس. وقيل: من خاف الله تعال أجلّ ومن خاف الناس ذلّ، وقال سهل بن عبد الله: أعجز الناس من خشي ما لا يضره ولا ينفعه والله تعالى يقول: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي «1» . وقيل: من خاف الله أخاف الله منه كل شيء. قال الشبلي: ولذلك دليل، خاف يعقوب على يوسف الذئب فمحن بما محن ولو خاف الله تعالى لمنع كيد الأخوة. وقال محمد بن السماك: إن قدرت أن لا تكون لغير الله عبدا ما وجدت للعبودية بدا فافعل، وقيل: ما أوطأ راحة الواثق بالله وآنس المطيع لله. وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: عليك بما يبقى لك عند الله فإنه لا يبقى لك ما عند الناس، فبلغ ذلك الزهري فقال: لقد وعظه بالتوراة والإنجيل والفرقان. وقال أمير المؤمنين: من حاول دفع أمر بمعصية كان ذلك أبعد لما رجا وأقرب لمجيء ما اتقى. وقال بندار بن الحسين الصوفي: من أقبل على الدنيا أحرقته بنارها وصار رمادا لا ينتفع به، ومن أقبل على الآخرة أحرقته بنورها وصار سبيكة ذهب ينتفع بها، ومن أقبل على الله تعالى أحرقه التوحيد وصار جوهرة لا قيمة لها. الحثّ على إصلاح الضّمير قال سفيان بن عيينة: لو لم ينزل الله تعالى علينا إلا قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ «2» . لكان قد أعذر. وقال ذو النون: إذا فسدت النية وقعت البلية. وقال أبو سعيد الجزار: دخلت المسجد الحرام فرأيت فقيرا عليه خرقتان فقلت في نفسي هذا وأمثاله كلّ على الناس فناداني: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ «3» ، فاستغفرت الله تعالى في نفسي، فناداني: وهُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ «4» ، وغاب عني. وسئل ذو النون عن قوله تعالى: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً «5» فقال: القرية قلب المؤمن والملك المعرفة فإذا سكنت المعرفة القلب طردت ما فيه غير ذكر الله. وقال أبو علي السنوي: بلغني يا رسول الله إنك قلت شيبتني هود فما الذي شيبك منها، قال: قوله تعالى فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ «6» . العفو عن حديث النفس قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: عفى عن أمتي الخطأ والنسيان. وقال: إن العبد إذا هم بمعصية لم تكتب عليه وسئل سفيان عن الهم هل يؤخذ به العبد، قال: نعم، إذا كان عزما قال الله تعالى وهموا بما لم ينالوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 الحثّ على تقوى الله وطيب عيش فاعلها قال الله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ «1» الآية. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: من سرّه أن يكون أكرم الناس فليتق الله، ومن سرّه أن يكون أقواهم فليتوكل على الله، ومن سرّه أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يديه. وقال: من أراد عزا بلا عشيرة، وهيبة بلا سلطان، وغنى بلا مال فليخرج من ذل معصية الله تعالى إلى عز طاعته. وقال جعفر بن محمد: اتق الله بعض التقوى وإن قل، واجعل بينك وبين الله سترا وإن رقّ. وقال بزرجمهر: من قوي فليقو على طاعة الله ومن ضعف فليضعف عن معصية الله. وقال ابن المقفع: ليحرص البلغاء أن يزيدوا على هذه الكلمة حرفا. وقال عبد الملك لبنيه في مرضه: أوصيكم بتقوى الله فإنها أزين حلة وأحصن كهف، فقال مسلمة: وأقرب إلى الصواب وأنفع في المآب، فقال عبد الملك: هاتان لا الأوليان. الحثّ على الإشتغال بالله عن النّفس قيل لداوود الطائي: لو سرحت لحييك، قال: إن الرجل إذا اشتغل بنفسه نسي الله وإذا اشتغل بالله نسي نفسه. وقيل لقي داود محمد بن واسع فقال: يا أخي مالي لا أراك؟ قال: لأني انقطعت إليه، فقال: الشأن في أن يقبلك فغشي عليه. وقال الهيثم الهاشمي: ذكر في مجلس أبي عبد الله بن خفيف أن جنيدا قال: لا تصحب من تحتاج أن تكتمه ما يعرف الله منك، فقال: أبو عبد الله أراد جنيد أن يشغل الخلق عن الخلق بالله. وقال الجنيد: من ذكر الله نسي نفسه ومن ذكر نفسه ذكر الخلق ومن ذكر الخلق فقد هلك. وقال الشبلي: يا منية المتمنّي ... شغلتني بك عنّي عجبت منك ومنّي ونحو ذلك قيل لأبي يزيد البسطامي أين أبو يزيد؟ فقال: أنا في طلب أبي يزيد منذ عشرين سنة. وقال رجل لأبي الربيع: أوصني، فقال: إن الله لا يشغله عنك شيء فإن استطعت أن لا يشغلك عنه شيء فافعل. الحثّ على الاهتمام بأمر الآخرة دون الدّنيا قال ابن عباس: ما انتفعت بشيء بعده صلّى الله عليه وسلّم كانتفاعي بما كتب إلى أمير المؤمنين: أما بعد فإن المرء يسرّه درك ما لم يكن ليفوته ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه، فليكن سرورك بما نلت من آخرتك وأسفك على ما فاتك منها، وليكن همّك فيما بعد الموت والسلام. وقيل: من كان بالآخرة اشتغاله حسنت في الدنيا حاله. وقال زيد بن علي بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 الحسين رضي الله تعالى عنهم: أطلب ما يعنيك ودع ما لا يعنيك. ففي تركه درك ما يعنيك فإنما تقدم على ما قدمت ولا تقدم على ما أخرت، فآثر ما تلقاه غدا على ما لا تلقاه أبدا. وقيل: الدنيا والآخرة في قلب المؤمن ككفتي الميزان إذا رجحت هذه خفت هذه. وقال يحيى بن معاذ: الناس ثلاثة، رجل يشغله معاده عن معاشه وتلك درجة العابدين ورجل يشغله معاشه عن معاده وتلك درجة الهالكين ومشتغل بهما وهي درجة المخاطرين. وقيل لعبد الله بن إبراهيم من أسخى الناس، فقال: من بذل دنياه في صلاح دينه. وقال صلّى الله عليه وسلّم: الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني. وقال رجل: من جعل همه في الله هما واحدا جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا وجعل الغنى في قلبه وأتته الدنيا راغمة ومن شتت عليه همه شتت الله عليه ضيعته وجعل الفقر بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له ثم لا يبالي في أي واد هلك. الحثّ على مراعاة الدين والدّنيا ومدح فاعل ذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ليس خيركم من ترك دنياه لآخرته ولا من ترك آخرته لدنياه، ولكن من أخذ منهما جميعا. وكان محمد بن علي يقول: اللهم أعنّي على الدنيا بالغنى وعلى الآخرة بالتقوى. وقال بعض العلماء: لست آمركم بترك الدنيا فترك الدنيا فضيلة وترك الذنب فريضة وأنت إلى إقامة الفرائض أحوج منك إلى اكتساب الفضائل. وقيل لعمر بن عبد العزيز: لم لا تنام، قال: إن نمت بالليل أضعت نفسي وإن نمت بالنهار أضعت الرعية. وقالت امرأة: ولله مني جانب لا أضيعه ... وللهو منّي والخلاعة جانب وقال ابن أبي حفصة لعمارة أنشدت المأمون قولي: أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلا ... بالدين والناس بالدنيا مشاغيل فلم يهتم لذلك، فقال عمارة: ما زدت على أن صيرته عجوزا معتكفة في محرابها، فمن لأمور المسلمين هلّا قلت كجرير: فلا هو في الدنيا مضيّع نصيبه ... ولا غرض الدنيا عن الدين شاغله احتمال المضرة في العاجل رجاء المسرّة في الآجل قال صلّى الله عليه وسلّم: لن تنالوا ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون ولا تبلغون ما تهوون إلا بترك ما تشتهون. وقال عليه الصلاة والسلام: حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات، احتمل مضرّة يومك لمسرّة غدك، العاقل يحتمل الضر في دار الفناء إيقانا بالنفع في دار البقاء. ولما تاب عتبة الغلام كان لا يتهنأ بطعام ولا شراب، فقالت له أمه: أرفق بنفسك، فقال: الرفق أطلب لها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 الحثّ على حفظ النفس من النّار نظر أبو هريرة إلى رجل وضيء فقال: إني أرى لك قدمين لطيفتين فابتغ لهما موقفا صالحا يوم القيامة. وقال رجل لحكيم أوصني، فقال: إن استطعت أن لا تسيء إلى من تحب فافعل، فقال: وهل يسيء المرء إلى من يحب، قال: نعم. نفسك إن عصيت الله. وقيل: المغبون من رأى الدنيا بحذافيرها لبدنه ثمنا. وقيل: كل قتيل يودي إلا قتيل نفسه. النّهي عن التهافت في العبادة قال صلّى الله عليه وسلّم: إن الدين متين فأوغلوا فيه برفق، فإن المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: استبق نفسك ولا تكرهها فإنّك إن أكرهت القلب على شيء عمي. وقال صلّى الله عليه وسلّم: إن الله بعثني بالحنيفية السمحة ولم يبعثني بالرهبانية، فمن رغب عن سنتي فليس منّي. وقال المرعشي: من شغله الفرض عن الفضل فهو معذور، ومن شغله الفضل عن الفرض فمغرور. التّوبة قيل: التوبة النصوح ترك ما تنكره السنة في الظاهر والباطن. وقال أمير المؤمنين: التوبة على أربعة دعائم، استغفار باللسان ونية بالقلب وترك بالجوارح وإضمار أن لا يعود وسئل السوسني عنها، فقال: الرجوع عن كل ما ذمه العلم إلى ما مدحه. وقيل: هي الإعتراف والندم والإقلاع. وقال عليه الصلاة والسلام: من تاب قبل موته بفواق ناقة حرم الله وجه على النار. الحثّ على المبادرة إليها قيل في قوله تعالى: بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئة، هو من مات على المعصية من غير توبة، وقال مجاهد: التوقف حسن إلا في التوبة. وقيل لرجل: أوص فقال: أحذركم سوف. قال شاعر: والمرء مرتهن بسوف وليتني ... وهلاكه في سوفه واللّيت وقال صلّى الله عليه وسلّم: إياكم ولو، فإن لو من أقوال المنافقين. وقيل: من وجد في قلبه التخويف فلا يطلبن لنفسه التسويف. وقيل في قوله تعالى: لِيَفْجُرَ أَمامَهُ «1» أي يقول غدا أتوب وقال أبو حازم: نحن لا نريد أن نموت حتى نتوب ولا نتوب حتى نموت. قال شاعر: أسوّف توبتي خمسين عاما ... وظنّي أن مثلي لا يتوب وقال: متى يفلح من قدعا ... ش خمسين وما أفلح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 وقال عمر بن عبيد الله لرجل: عظني، فقال: قد قطعت عامة سفرك فإن استطعت أن لا تضلّ في آخره فافعل. وقال المؤلف وأنا أقول: قد ضللت عامة سفري فإن لم يهدني الله فويل لي. ختم الله لي بخير ولمن كتب، وقرأ. وقال مصعب بن الزبير: إدفع سطوة الله بسرعة النزوع وحسن الرجوع ويوشك أن المنايا تسبق الوصايا. الحثّ على الاستغفار واختلاط سيّء الأفعال بالحسن قال صلّى الله عليه وسلّم: ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم خمسين مرة. وقال بعضهم: حق على المؤمن أن يقتدي بأبويه في قولهما: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا «1» الآية، وبما قال نوح عليه السلام: وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين. وقوله تعالى: خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً «2» الآية. وقال أمير المؤمنين: العجب لمن يقنط ومعه النجاة الإستغفار. وقيل: لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الإستغفار. وقال عمر رضي الله عنه: لم أر أشد طلبا وأسرع دركا من حسنة حديثة لذنب قديم. وقيل لرجل ألا تأتي إلى الحسن لتسمع منه؟ فقال: أنا مشغول بذنب أستغفر منه وبنعمة أشكر عليها فمتى أتفرغ لإتيانه. وسئل بعض المجان كيف أنت في دينك؟ قال: أخرقه بالمعاصي وأرقعه بالإستغفار. وقال بزرجمهر: أيها السلاطين لا بدّ لكم من المعاصي الكبار فافعلوا بإزائها طاعات عظيمة، أيها الأوساط يمكنكم الطاعات العظيمة كالمصالح التي لا يقدر عليها إلا السلطان فلا تركبوا المعاصي الكبيرة. النّهي عن الإستغفار ما لم يصاحبه الفعل سمع مطرف رجلا يقول: أستغفر الله وأتوب إليه فأخذ بذراعيه وقال: لعلك لا تفعل ومن وعد فقد أوجب. وقال أبو عبد الرحمن سمعني راهب أقول أستغفر الله فقال يا فتى سرعة اللسان بالإستغفار توبة الكذابين ويدل على ما قاله صلّى الله عليه وسلّم: المستغفر باللسان المصر على الذنب كالسمتهزئ بربه. وقيل: الإستغفار بلا إقلاع توبة الكذابين، وقال الربيع بن خيثم: لا يقولن أحدكم أستغفر الله وأتوب إليه فيكون ذنبا جديدا إذا لم يفعل، ولكن ليقل: اللهم تب عليّ واغفر لي، فقيل لم. فقال: انته عما ينهاك عنه فإنّه يغفر لك. تحذير من دنا أجله وساء عمله اجتمع فيلسوف الروم وحكيم الهند وبزرجمهر عند كسرى فتذاكروا في شر الأشياء. فقال الرومي: الهم يقترن به العدم وقال الهندي: سقم البدن ودوام الحزن. وقال بزرجمهر: دنو أجل وسوء عمل، فحكم له. ودعا بعض الصالحين، فقال: اللهم اجعل خير عملي ما ولي أجلي وقال آخر: أعوذ بالله من وقوع المنية ولما أبلغ الأمنية، وقال ابن أبي البغل: أستغفر الله من عمر أضعت به ... حظّي من الذكر في قال وفي قيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 أستغفر الله ربّ العرش من عمر ... أضعته في خسارات وتضليل الحثّ على تجنّب فعل مذموم قال حكيم: الأيام صحائف آجالكم فأودعوها أجمل أفعالكم. وقال علي بن الحسين رضي الله عنهما عجبت لمن يحتمي عن الطعام لمضرته ولا يحتمي عن الذنب لمعرته «1» فأخذ ذلك محمود الوراق حيث يقول: عمرك قد أفنيته تحتمي ... فيه من البارد والحار وكان أولى بك أن تحتمي ... من المعاصي خشية النّار وقال بعضهم: حضرت مجلس الشبلي فقام إليه رجل من أصحابه، فقال له: أوصني، فقال له: لقد أوصاك الشاعر بقوله: قالوا توقّ ديار الحيّ إنّ لهم ... عينا عليك إذا ما نمت لم تنم وقال يحيى بن معاذ: اجتناب السيئات أشد من اكتساب الحسنات. النّهي عن تضييع الوقت قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك. وقال سفيان: تذكر الماضي ورجاء الباقي ذهبا ببركة ساعاتك. وقال عمر بن ذر: الأيام إذا فكرت فيها ثلاثة، يوم مضى لا ترجوه ويوم أنت فيه ينبغي أن تغنمه ويوم في يدك أمله، فلا تغتر بالأمل فتخل بالعمل فإنما اليوم وأمس كأخوين نزل بك أحدهما فأسأت نزله وقراه فرحل عنك وهو ذام لك، ثم نزل بك أخوه فقال: إن أسأت إليّ كما أسأت إلى أخي فما أخلقك أن تعدم شهادتنا. وسمع الحسن رجلا يقول: اللهم اجعلنا منك على حذر، فقال: إنه فعل ذلك، أليس قد ستر عنك أجلك فلست من حياة ساعة على يقين. عتب من يتوب ثم يعود قال شاعر: كم قلت لست بعائد في توبة ... ونذرت فيها ثم صرت تعود قال مالك بن دينار: دخلت على جار لي وهو مريض فقلت له عاهد الله أن تتوب فلعله أن يشفيك فقال: هيهات قد عاهدته فسمعت هاتفا من جانب البيت قد عاهدناك مرارا فوجدناك كذوبا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 حثّ الراجع عن التوبة إلى العودة جاء حبيب بن الحارث إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إني مقارف للذنوب فقال: تب فقال: إني أتوب ثم أعود فقال: كلما أذنبت ذنبا فتب فعفو الله أكبر من ذنوبك. وقال صلّى الله عليه وسلّم: إن الرجل ليذنب الذنب فيدخل به الجنة. فقيل: كيف يا رسول الله؟ قال: يكون نصب عينه خائفا منه حتى يدخل الجنة. قلّة من لا ذنب له من المكلّفين قال الله تعالى: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً «1» وذكر يونس عليه السلام فقال: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً «2» الآية، وقصّ قصّة داوود عليه السلام وقد عوتب محمد عليه الصلاة والسلام بعبس وتولى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا ولَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ «3» الآية، وقال: في جميع الناس، ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة. جواز إظهار الكفر تقيّة قال الله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ «4» . وكان عمار أظهر الرضا بفعل الكفار مع إنطواء قلبه على الإخلاص. وقال صلّى الله عليه وسلّم: إن عادوا فعد وأتى مسيلمة برجلين فقال لأحدهما: تعلم أني رسول الله. قال: بل محمد رسول الله فقتله. وقال للآخر فقال: أنت ومحمد رسول الله فخلّى سبيله فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أما الأوّل فمضى على عزمه ويقينه، وأما الآخر فأخذ برخصة الله فلا تبعة عليه، وكالمضاد له. من راقب الناس في مذاهبه ... أصمّه ربّه وأعماه رجاء رحمة الله وغفرانه ومدح ذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ما أحبّ أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ «5» وقال: إن الله تعالى يقول: أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء. وقال ابن عباس لابن عمر رضي الله عنهما: أي آية أرجي؟ فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ «6» الآية، فقال: إن هذه لمرجوة وأرجى منها قوله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ . «7» . وقيل: أعظم من الذنب اليأس من الرحمة وأشد منه المماطلة بالتوبة. وقال أعرابي لابن عباس من يحاسب الخلق يوم القيامة؟ قال: يحاسبهم الله تعالى قال: نحونا ورب الكعبة فقال: كيف؟ قال إن الكريم إذا قدر غفر. ورؤي الشبلي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ فأنشد: حاسبونا فدقّقوا ... ثم منّوا فأعتقوا وسمع أعرابي ابن عباس يقرأ قول الله تعالى: وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها «1» . قال: والله ما أنقذنا منها وهو يريد أن يلقينا فيها، فقال ابن عباس: خذوه من غير فقيه. ولقي يحيى عيسى عليهما السلام فعبس هذا وتبسم هذا، فقال: هذا لهذا مالك عابس كأنك قانط، وقال: هذا لهذا مالك ضاحك كأنك آمن، فأوحى الله تعالى إليهما: أن أحبكما إليّ أحسنكما ظنا بي. وقيل لرجل: كم تكون تاركا للتوبة؟ فقال: رأيت الله تعالى وصف قوما فقال: وآخرون اعترفوا بذنوبهم إليّ عسى الله أن يتوب عليهم، وعسى من الله واجب. فقيل له: قد قال الله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ «2» الآية وقال عمر بن عبد العزيز لعمر بن علقمة: أخاف عليك النار، فقال: لكني لا أخافها قال لم، قال لأن الله تعالى يقول: لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى «3» ، وأنا صدقت وأقبلت. وقال أبو نواس: يا كثير الذنب عف ... والله من ذنبك أكبر وقال بعضهم: يا رب حجّتي حاجتي ووسيلتي فاقتي. الحثّ على الجمع بين الرّجاء والخوف قال الله تعالى في صفة المؤمنين: وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ «4» وقال أمير المؤمنين: خف الله خوفا ترى أنك لو أتيت بحسنات أهل الأرض لم تقبل منك، وأرجه رجاء ترى أنك لو أتيت بسيئات أهل الأرض غفرها لك. وقيل: أرج إذا خفت وخف إذا رجوت، وكن كالمرأة الحامل ليس رجاؤها أن تلد ولدا ذكرا بأكثر من خوفها أن تلد أنثى. وقال بعض الصالحين: لو أنزل الله كتابا إني معذب رجلا واحدا لخفت أن أكون، أو أنه راحم رجلا واحدا رجوت أن أكونه ولو أنزل الله أنه معذبي ما ازددت إلا اجتهادا لئلا أعود على نفسي بلائمة. وقال رجل لابنه: خف الله خوفا لا يمنعك من الرجا، وأرجه رجاء لا يمنعك من الخوف، فالمؤمن له قلبان يرجوه أحدهما ويخافه الآخر، وقال: أنا بين الرجاء والخوف منه ... واقف بين وعده والوعيد وقال أبو نواس: لا تحظر العفو أن كنت أمرءا حرجا ... فإن حظركه بالدّين إزراء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 ذمّ من يرجو الغفران من غير ترك ذنب قال سعيد بن جبير: من الاغترار بالله المقام على الذنب ورجاء الغفران. وقال سليمان بن علي لعمرو بن عبيد: أخبرني عن هذا المال، فقال: إن أخذ من حله فوضع في حقه سلمت فقال: أنا أحسن ظنا بالله، قال: ما كان أحد أحسن ظنا بالله من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فما أخذ درهما إلا من حلّه ولا وضعه إلا في حقه. وقيل في قوله تعالى بل يريد كل امرئ منه أن يؤتى صحفا منشرة. قال: يراه من الله من غير عمل يقدمه. ولقي زاهد أخا له فقال: أتاك اليقين أنك وارد جهنم، قال: نعم، قال: فهل أتاك اليقين بالصدر؟ قال: لا، قال: فما الانتظار والتناعس. وقال الثوري: قطع أطماع العباد آيتان: قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً «1» وقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ «2» الآية، وقال محمود الوراق: يا ناظرا يرنو بعيني راقد ... ومشاهدا للأمر غير مشاهد تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي ... درك الجنان بها وفوز العائد ونسيت أن الله أخرج آدما ... منها إلى الدنيا بذنب واحد تكذيب من ادّعى حسن ظنّه بربّه وفعله مناف لذلك قال الحسن: إن قوما ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا وليست لهم حسنة. يقول: إني أحسن الظن بربي وكذب لو أحسن الظن بربه لأحسن العمل ثم تلا وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ «3» . وقال جعفر: رأيت ميسرة العابد وقد بدت أضلاعه من الاجتهاد فقلت له: إن رحمة الله قريب قال نعم من المحسنين. ذمّ متمنّ غير عامل قيل: إذا أبغض الله عبدا أعطاه ثلاثا يحبب إليه الصالحين ويمنعه القبول منهم ويحبب إليه الأعمال ويمنعه الإخلاص فيها ويجري الحكمة على لسانه ويمنعه الصدق بها. وكتب أبو عمير إلى صديق له: أما بعد فإنك تتمنى على الله بسوء فعلك إنما تضرب في حديد بارد. التّحذير من الاغترار بالله تعالى في تأخير العقوبة قال الله تعالى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً «4» وقال ابن السماك: إن الله أمهلهم حتى كأنما أهملهم ولقد ستر حتى كأنه غفر، وخطب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 فقال: لا يغرّنكم الإملاء فإن الإملاء من الإستدراج، والله تعالى يقول: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ «1» . وكتب أيضا إلى عامل له لا تغتر بتأخير العقوبة من الله فإنّما يعجل خائف الفوت. عتب طالب الرّخص قال الأصمعي: من التمس الرخص من الإخوان عند المشورة ومن الأطباء عند المرض ومن الفقهاء عند الشبهة تاه وازداد سقما واحتمل وزرا. وقيل: إذا رأيت الزاهد يتروح إلى طلب الرخص فاعلم أنه قد بدا له في الزهد. تفضيل المذنب الخائف على الورع المعجب الورع الوقوف مع الشرع. وقال بعضهم: الورع ترك ما حاك في صدرك. وقال بعض الصالحين: ضحك العبد وهو مشفق من ذنبه خير من بكائه وهو مدل بربه. وقال أبو سليمان الداراني: ما عمل داوود عملا خيرا من خطيئته ما زال خائفا منها حتى لحق بربه، وقال مطرف: لأن أبيت نائما وأصبح نادما خير من أن أبيت قائما وأصبح معجبا. وقال القاسم بن محمد الصوفي: إذا كان الرجل لجوجا معجبا برأيه مماريا فقد استكمل الخسارة. وقال رجل ليحيى بن معاذ: متى أتهم قلبي؟ قال إذا فارقه الخوف. وقال الخلدي: سألت الجنيد عن الظرف، فقال: أن تعمل لله ولا ترى أنك عملت. وقال عاجلة في قوله تعالى: يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ «2» يخاف أن لا يقبل منهم. وقال الحسين الحلاج: من نظر إلى العمل حجب عمن عمل له ومن نظر إلى من عمل له حجب عن رؤية العمل. التّوقّي من الصّغائر قال علي كرم الله تعالى وجهه: إياكم ومحقرات الذنوب فإن الصغير منها يدعو إلى الكبير. وقيل: من العود إلى العود ثقلت ظهور الحطابين ومن الهفوة إلى الهفوة كثرت ذنوب الخطائين. وقال بعض الأسديين: ألا من لنفس بالذّنوب رهينة ... قليل على مسّ العذاب اصطبارها كفى سقما بالمرء يا أم عاصم ... ركوب المعاصي عامدا واحتقارها وسقط من يد بعض الصالحين دينار فوجده في الحال، فلم يأخذه، وقال لعله غير ديناري. وكان عمر أتي بالعشاء فأطفأ السراج، وقال: لا آكل على سراج العامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 المتبيّن فيه مخافة الله تعالى قيل: ما رؤي النبي صلّى الله عليه وسلّم ضاحكا بعد نزول قوله تعالى: أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ «1» . وقال رجل ليونس بن عبيد: صف لي الحسن. قال: إذا أقبل فكأنما أقبل من دفن حبيبه، وإذا جلس فكأنما أمر بضرب عنقه وإذا ذكرت النار فكأنما خلقت له. ووصف ابن عباس أبا بكر رضي الله عنهم فقال: كان كالطائر الحذر له في كل وجه جسد، وكان يعمل لكل يوم بما فيه وكان محمد بن المنكدر لا يرى إلا كئيبا، فقيل له في ذلك، فقال: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ «2» . وقال الفضيل من علامة الشقاء جمود العين وقساوة القلب وطول الأمل. وكان يقول: حقيق على من كان الموت موعده والقيامة مورده والوقوف والحساب مشهده أن يطول حزنه وبكاؤه. قال مالك بن دينار في التوراة إن الرجل إذا استكمل النفاق ملك عينيه. المستكبر ذنب نفسه والمتذمّم لفعله قال بعض الصالحين: كم لي من ذنب لو عرف به الصديق لمقتني ولو عرف به العدوّ لهتكني وقال مطرف: ما نزل بلاء فاستعظمته إلا ذكرت ذنوبي فأستصغره. قيل لحكيم كيف أصبحت؟ قال: آكل رزق ربي مطيعا عدوه. وقيل لحسان بن سنان كيف أصبحت؟ قال: أصبحت قريبا أجلي بعيدا أملي سيئا عملي. وقال أبو العتاهية: يظنّ الناس بي خيرا وإني ... لشرّ الناس إن لم تعف عنّي وقال أبو محمد الخازن: بنعمة الله وفي داره ... عصيته جهلا وسوء اختيار إن لم يغثني عفوه عاجلا ... فإنّني والله في النّار جار الممتنع من تناول المشتهيات والمباحات عاد مالك بن دينار جارا له فقال له: أتشتهي شيئا فقال: نفسي تنازعني منذ أربعين سنة رغيفا أبيض ولبنا في زجاج فأتاه بهما فجعل ينظر إليهما ويقول: دافعت شهوتي عمري حتى لم يبق إلا مثل ظمأ الحمار، ومات بشهوته. الحثّ على عبادة الله تعالى لا طلبا لثوابه ولا مخافة من عقابه قال النباجي: لو لم يكن لله ثواب يرجى ولا عقاب يخشى لكان أهلا أن لا يعصى ويذكر فلا ينسى بلا رغبة في ثواب ولا رهبة من عقاب لكن لحبه وهو أعلى الدرجات، أما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 تسمع قول موسى عليه السلام: وعجلت إليك ربّ لترضى. وإن من عمل لحبه أشرف ممن عمل لخوفه. وقال حكيم: إني لأستحي من ربي أن أعبده رجاء الجنة فأكون كالأجير أو خوف النار فأكون كعبد السوء إن خاف عمل وإن لم يخف لم يعمل، لكن يستخرج مني حب ربّي ما لا يستخرجه غيره. قال أبو يزيد البسطامي: الظالم الذي يعبده على العادة والمقتصد للرغبة والرهبة والسابق للمحبة. وقال الشبلي: من عبده رجاء الجنة فهو عبدها أو خوف النار فهو عبدها، لأن من خاف شيئا أو رجاه فهو معبوده. وقال بعضهم: من عبده الله بعوض فهو لئيم. وقال علي بن الموفق: اللهم إن كنت تعلم أني أعبدك خوفا من نارك فاحرقني أو طمعا في جنتك فاحرمنيها، وإن كنت تعلم أني أعبدك حبا لك وشوقا إلى لقائك فأبحنه. وقال بعض الصوفية: حقيقة المحبة أن لا يزيدها البر ولا ينقصها الجفاء. وقيل لرابعة مالك لا تسألين الله الجنة في دعائك فقالت: الجار ثم الدار. وقال سهل بن عبد الله وتلا إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ «1» لو علموا عمن شغلوا ما اشتغلوا به. وقيل: في قوله صلّى الله عليه وسلّم أكثر أهل الجنة البله قال: لأنهم في شغل فاكهون شغلهم النعيم عن المنعم ومن رضي بالجنة عن الله فهو أبله. وقال البوشنجي: الدنيا سجن المؤمن والجنة سجن العارف. فضيلة من كان في كلاءة الله تعالى وحفظه قال ممشاد الدينوري: من كان مع الله فقد هلك وإنما نجا من كان الله معه. وقال رجل للشبلي: متى يقرب العبد من ربه، فزعق ثم أنشد: من لم يكن للوصال أهلا ... فكلّ إحسانه ذنوب وقيل: أجلّ ما ينزل من السماء التوفيق وأجلّ ما يصعد من الأرض الإخلاص. في ذمّ عالم غير عامل قال أبو الدرداء: إن أخوف ما أخاف إذا وقفت على الحساب أن يقال لي قد علمت فما عملت فيما علمت. وقيل: ويل للذي لا يعلم مرة وويل للذي يعلم سبع مرات. وقال محمد بن واسع: إنّ قوما يشرفون على قوم يوم القيامة فيقولون قد نجونا بما أخذنا منك، فما لكم في العذاب فيقولون كنا نعلم ولا نعمل. قلّة اليقين في الناس قال الشعبي: لم يقسم الله بين الناس أقل من اليقين، وقال بعض أصحابنا: من الدلالة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 على قلة اليقين إنك تخيّر يوما عن خير الدنيا بالسّيئة طمعا في الربح طفيف ربح مع ما فيه من الخطر وتأبى أن تقرض الله درهما بثمانمائة مع زعمك وقولك إنّ مستقرضه مليّ وفيّ. ترغيب الله تعالى عباده في جنّته قال الحسن: إن الله دعا كل قوم إلى الجنة، فقال للعرب يشوّقهم ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا لما كان أحب لأشياء إليهم ذلك، وقال للفرس يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيه حرير لما كان أحب الأشياء إليهم ذلك. وقيل: إنما ذكر الله تعالى درجة الخائفين ولم يذكر درجة المحبين، لأن القلوب لا تحتمل ذلك، كما أمسك عن ثواب النبيين وأظهر ثواب المتقين، فقال في النبيين وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ... «1» الآية وأظهر ثواب المتقين فقال وإن للمتقين لحسن مآب. ومثال ذلك إن الشيء إذا عظم ثوابه لم يذكر مفصلا كصوم رمضان والزكاة. وقال: فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين. وقال: ولدينا مزيد. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وذكر الثواب في إماطة الأذى عن الطريق وعيادة المرضى ونحو ذلك. فضيلة العبادة مع العلم قال الله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «2» وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: فقيه واحد أشد على إبليس من ألف عابد. وقال الحسن: أدركت قوما من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقولون من عمل بغير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلحه. ذمّ الورع مع الجهل روي عن أمير المؤمنين أنه قال: قصم ظهري رجلان، جاهل متنسك وعالم متهتك. وروي عن الحسن: قسم ظهري عالم لا زهد معه وزاهد لا علم معه، هذا يدعو إلى جهله بزهده وهذا ينفر عن علمه بحرصه. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: يكون في آخر الزمان قراء فسقة وعباد جهلة، وركعة من عالم أفضل من سبعين ركعة من عابد لا علم معه وكان لأبي سعيد الخراز ابن فمات فرآه في المنام، فقال: يا ولدي أوصني، فقال: يا أبت لا تعامل الله على الحمق، فقيل لإبراهيم، فقال: نعم لأنه لم يلبس القميص ثلاثين سنة. وقيل لأنوشروان: أي الناس أولاهم بالسعادة؟ فقال: أقلهم ذنوبا، قيل: ومن أقلهم ذنوبا؟ قال: أكملهم عقلا. ذمّ متحامق رقيع في ورعه حلق صوفيّ لحيته وقال: إنها نبتت على المعصية. ولطّخ رقيع شاربه بالعذرة فقيل له في ذلك، فقال: أردت التواضع لله. وأذّن مؤذن فقال: أشهد أن أبا القاسم رسول الله، وقال النبي: عندنا أعظم من أن نسميه ولا نكنيه. ورأى ابن أبي ليلى رجلا قد أخذ رمانة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 من حمال وأعطاها مريضا، وقال: إن سيئة بسيئة وحسنة بعشرة فقد ربحت تسعة. وكان رجل يحج عن حمزة بن عبد المطلب ويقول: قتل قبل فرض الحج. وآخر يضحي عن أبي بكر وعمر ويقول: أخطآ السنة في الأضحية. وكان أبو شعيب العلائي لا يصلي ولا يصوم ويقول من أنا حتى أصلي وأصوم، إنما يفعل ذلك الكبراء الذين أريد منهم التواضع. وفضل اللخمي قبر إحدى عينيه، وقال: النظر بهما إسراف. وقال بعضهم: صحبني رجل في طريق يدعي أنه بلغ في التصوف منزلة الرضا، فجاءني يوما فقال إن فلانا دب عليّ البارحة فما قلت شيئا حتى فرغ وكرهت أن أخرج من منزلة الرضا فقلت هذا رضا مأبون أحمق. وقال بعضهم: مررت برجل في يده سبحة أطول من باع وهو يقف في كل حبة مقدار عشر آيات فقلت له: ما تقول؟ قال: أقول أيري في حر أم المعتزلة سبع مرات، وأيري في إست القدرية عشر مرات، فقلت: لم زدت هؤلاء، قال: لأنهم خرجوا على أمير المؤمنين الحجاج بن مروان. ذمّ مبالغ في نسكه إلى حدّ الرّقاعة سأل الشعبي رجلا بم أفطر قال: أفطرت بزيتونة أو نصف زيتونة أو ربع زيتونة أو ما شاء الله من زيتونة ومر آخر بحمال معه شوك فشكت رجله، فقال للحمال: اجعلني في حل من هذه الشوكة فلا يمكنني إخراجها. الحثّ على التّنظيف قال الله تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ «1» وقال صلّى الله عليه وسلّم: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ويكره البؤس والتباؤس. وقال صلّى الله عليه وسلّم: إن الله جميل يحب الجمال. وقال عيسى عليه السلام: ألبسوا لباس الملوك وأميتوا قلوبكم بالخشية. النّهي عن التماوت وفرط التّخشّع روي أن عمر رضي الله عنه رأى رجلا متماوتا في إظهار النسك فعلاه بالدرة وقال: لا تمت علينا ديننا. ومرّ رجل بعائشة رضي الله عنها متماوتا فقالت: ماله؟ قالوا: متخشع. قالت: هو أخشع من عمر، وكان إذا مشى أسرع وإذا قال أسمع وإذا ضرب أوجع. من تورّع في الفسق اجتمع جماعة على امرأة فقال أحدهم: خذي هذه الخمسة دراهم وقولي: قد فعل فقالت: أعوذ بالله أن أكذب جماعة بخمسة دراهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 فسق بعضهم بغلام وكان عليه خف فقال: له إنزع خفك، فقال أخاف أن ينتقض وضوئي. وقال بعضهم: أدخلت قحبة على جماعة فشارطوها كل فرد بدرهم وواحد يصلي ويقول سبحان الله ويشير إني أريد فردين بدرهم. ذمّ الرياء قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن أخوف ما أخاف على أمتي الرياء الظاهر والشهوة الخفية. وقال أمير المؤمنين: لا تفعل شيئا رياء ولا تتركه حياء. وقيل: أعظم الرياء حب المحمدة. وقيل: إذا عمل الرجل العمل وكتمه وأحب إعلام الناس أنه كتمه فذلك أقبح الرياء. وكان الشبلي إذا رأى من يدعي التصوّف يقول: ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب. وقال أبو نواس: وإذا نزعت عن الغواية فليكن ... لله ذاك النزع لا للنّاس «1» وقال لقمان لابنه: اتق الله ولا تري الناس أنك تخشاه ليكرموك وكان الناس يراؤون بما يفعلون. فصاروا يراؤون بما لا يفعلون وقيل ما الدخان بادل على النار من ظاهر أمر الرجل على باطنه قال شاعر: إن التخلّق يأبى دونه الخلق وقيل: له سمت أبي ذر ... على قلب أبي جهل «2» ذمّ متنسّك طمعا في عرض الدنيا قال صلّى الله عليه وسلّم: أكثر منافقي هذه الأمة قراؤها. وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما: إن الناس عبيد المال والدين نعو على ألسنتهم يحوطونه ما درت به معايشهم فإذا فحص للإبتلاء قل الديانون. ويقال: إن بلال بن أبي بردة وفد على عمر بن عبد العزيز فجعل بديم الصلاة، فقال عمر: ذلك للتصنع، فقال له العلاء: أنا آتيك بخبره فجاءه وهو يصلي، فقال له: مالي عندك إن بعثت أمير المؤمنين على توليك العراق، قال: عمالتي سنة وكان مبلغه عشرين ألف درهم، فقال: أكتب به خطك فكتب إليه، فجاء العلاء إلى عمر فأخبره، فقال: أراد أن يغرنا بالله. ودخل على المنصور رجل بين عينيه كركبة البعير يريد القضاء، فقال: إن كنت أبررت الله بهذا فما ينبغي لنا أن نشغلك عنه، وإن كنت أردت خداعنا فما ينبغي أن ننخدع لك. قال شاعر: لا تصحبنّ صحابة ... حلقوا الشوارب للطمع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 يبكي وجلّ بكائه ... ما للفريسة لا تقع ورأى المنصور رجلا واقفا ببابه وبين عينيه سجادة، فقال له: بين عينيك درهم مثل هذا وتقف ببابي فقال: إنه ضرب على غير سكة. وقال بعضهم في أصحاب السجادات: أما ثقلت رؤوسهم أو خشنت الأرض. قال شاعر: تصوّف فازدهى بالصّوف جهلا ... وبعض الناس يلبسه مجانه «1» ولم يرد الإله به ولكن ... أراد به الطريق إلى الخيانه وقال: عمّروا مواضع التصنّع منهم ... فكأنّ الصّلاح منهم خراب وقال: تسبيحه ريح فلا تسكنوا ... من شفة الشيخ إلى الريح وقال عبدان في أبي القاسم بن بحر وقد عاد من الحج: تعنيت أبا القاسم ف ... ي السعي إلى الحجّ بما سوّغت من سحت ... زمان الجور والهرج «2» وما يصلح ما تن ... فق للثجّ وللعجّ «3» ودخل المرء من سحت ... كذا يخرج في الخرج من يخادع الله في زكاته وصدقته قال الجاحظ: كان ببغداد لوطي موسر فإذا كان وقت الزكاة يدعو الغلام ويقول له: ألك أم أو أخت تستحق الزكاة فيدفعه له؟ ويقول: خذ هذا من زكاة مالي وأنعم لي بواحد. وبعض أصحابنا يبيع زكاته من الفقير ويسترجعها منه بدرهم أو درهمين يخادعون الله وهو خادعهم. ذمّ من حسن مقاله وقبح فعاله قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: سيكون بعدي أقوام يعطون الحكمة على المنابر وقلوبهم أنتن من الجيفة. وقال سليمان بن عبد الملك لبلال بن أبي بردة: صف لي الحجّاج فقال: كان يتزين بزينة المومسة فإذا صعد المنبر تكلم بكلام القسيسين وينزل فيعمل بعمل الفراعنة، وقال شاعر: إذا نصبوا للقول قالوا فأحسنوا ... ولكنّ حسن القول خالفه الفعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 وذمّوا لنا الدنيا وهم يرضعونها ... أفاويق حتّى ما يدرّ لها رسل «1» وقال: قلوبهم أمرّ من دفل ... ولفظهم أحلى من العسل «2» المتبجّج بتقواه رقاعة صلى رجل بحضرة الشعبي فأطال، فقال الشعبي: ما أحسن صلاته فلما سلّم الرجل، قال: وأنا مع هذا صائم. وقال ذو اليمينين لأبي بكر المروزي: مذ كم صرت إلى العراق؟ قال: مذ عشرين سنة وأنا أصوم مذ ثلاثين سنة. تنسّك كلّ صنف من الناس قال الجاحظ: لكل صنف من الناس نسك، فنسك الخصيّ غزو الروم، ونسك الخراساني الحج، ونسك المغنّي كثرة التسبيح والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم وشرب النبيذ، ونسك الرافضيّ ترك النبيذ وزيارة المشهد، ونسك السواديّ ترك شرب المطبوخ، ونسك المتكلم رمي الناس بالجبر والتعطيل والزندقة، ونسك المخنث أن يصير دلّال النسوة. وقيل: إذا نسك الشريف تواضع أو الوضيع تكبر. رقاعة الجهّال في زمن العلماء بالبدعة رفع إلى المأمون سبعمائة قصة في بشر المريسي تشهد بكفره فجمعهم يوما وقال لهم: ما الذي ظهر من كفره؟ قالوا: قوله ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك، فقال المأمون: قد شهد الله بهذا. فقال شيخ منهم هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: وحاج موسى إبراهيم، فقال له: على من قرأت القرآن؟ قال على أبي وكان يقرأه بسبعة ألسن. وسئل رجل كان يشهد على رجل بالكفر عند جعفر بن سليمان، فقال: إنه خارجي معتزلي ناصبي حرورويّ جبريّ رافضيّ يشتم علي بن الخطاب وعمر بن أبي قحافة وعثمان بن أبي طالب وأبا بكر بن عفان ويشتم الحجّاج الذي هدم الكوفة على أبي سفيان، فقال جعفر: ما أدراك على أي شيء أحسدك، أعلى علمك بالأنساب أم بالأديان أم بالمقالات. وقال الصاحب: رأيت يوما جماعة مجتمعين على رجل يضربونه ويقولون يجب أن يقتل فسألتهم ما فعل، فقال كلّ: لا أدري. كان المنصور أمر أبا دلامة أن يلازم صلاة الجماعة ويترك البطالة، فقال: ألم تعلمي أنّ الخليفة لزّني ... بمسجده والقصر مالي وللقصر «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 يكلّفني من بعد ما شبت توبة ... يحطّ بها عنّي العظائم من وزري «1» وما ضرّه والله يصلح أمره ... لو أن ذنوب العالمين على ظهري وقال: وجفاني الأمير كي أتقرّا ... فتقرأت مكرها لجفائه «2» والذي أنطوي عليه المعاصي ... علم الله نيّتي من سمائه التّجاسر على الذّنب إتّكالا على التوبة حكي أن الأعشى لما مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا قصده بها فلقيه بعض الكفار فقال: ما تصنع عنده وقد حرم عليك الزنا وشرب الخمر؟ فقال أما الزنا فقد ضعفت عنه لكبري ولكن عندي دنّان فسأشربهما ثم أقصده قبل استيفاء شربهما. وقال جميل: تعالي نبع في العام يا بثن ديننا ... بدنيا فإنّا قابلا سنتوب وقال: تعالي نبع دينا بدنيا نصيبها ... ونستغفر الرحمن فالله غافر وقال: سقى الله أيام الوصال وقولنا ... إذا ما صبونا صبوة سنتوب «3» وقال: نسرق هذا اليوم من دهرنا ... فربّما يعفى عن اللصّ ذمّ خليع متمثّل بما اعتقد فيه الصّلاح مرّ أبو حازم في بعض الليالي فسمع قائلا ينشد: أسأت وقد أنبت فلا أعود «4» فقال: اللهم إن الرحمة بيدك وعبدك هذا قد اعترف بذنبه، وقرع عليه الباب وقال: سل ما تريد فإنه كريم يعطيك، فقال: فعد للوصل قد مسج الصدود «5» فقال أبو حازم: أنت من جند إبليس يا فاسق أتمزج الخبيث بالطيّب، أستغفر الله من دعائي. ومرّ سفيان برجل ينشد: أتوب إلى الذي أمسى وأضحى ... وقلبي يرتجيه ويتّقيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 تشاغل كلّ مخلوق بشيء ... وقلبي من محبّته وفيه فدنا منه وأخذ يبكي معه، ثم قال: عسى قلب الممكّن من فؤادي ... يدقّ لذلّ طاعة عاشقيه فقال سفيان: اللهم لا تضلّنا بعد إذ هديتنا. ومرّ ناسك بدار فيها أبو نواس ينشد: إن في توبتي لفسخا لجرمي ... فاعف عنّي فأنت للعفو أهل فرفع يده وقال: اللهم تب عليه، فقال: لا تؤاخذ بما يقول على الس ... رّ فتى ماله لدى الصحو عقل فقال: اللهم أرشدنا. خليع تأوّل كلام صالح على اعتقاده سرق لرجل دراهم فقيل له: تكون في ميزانك غدا، فقال: مع الميزان سرقت. وسرق لآخر خرج فقيل: لو قرأت عليه آية الكرسي لما سرق، فقال: كان فيه مصحف. وسرق أعرابي نافجة مسك فقيل له: من غل شيئا يأتي به يوم القيامة، فقال إذا والله آتي بها خفيفة المحمل طيبة الريح. عكس ذلك روي أن رجلا سأل بلالا وقد أقبل من الحلبة من سبق، فقال: المقربون فقال السائل: سألتك عن الخيل فقال: أنا أجبتك بالخير. قيل لعمرو بن عبيد ما البلاغة؟ فقال ما بلغ بك الجنة وعدل بك عن النار. وقيل لأبي الدرداء وكان مريضا: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي فقيل له: ما تشتهي؟ قال: الجنة، فقيل أندعو لك طبيبا قال: الطبيب أمرضني. وجاز الشبلي بمن يقول السعتر البري فتواجد، فقيل له ما يقول؟ قال يقول الساعة ترى بري. وأمّ أبو العلا عمرا يوما فلما قال استووا غشي عليه. وقال: قد وقع بقلبي هل استوى معي طرفة عين. أنواع مختلفة قيل ليحيى بن معاذ: ما بال أبناء الدنيا يحبون الزاهدين وهم يفرون منهم، قال: ذلك كالدباغ يستروح إلى العطار والعطار يفر من ريحه. وقال ابن أبي الورد: إبليس يقول من ظن أنه نجا مني فبجهله وقع في حبائلي. ومرّ داوود الطائي برطب فقال لبائعه انسئني بدرهم لغد فأبى فتبعه رجل وعرض عليه المال، فوجده يقول: يا نفس تريدين الجنة وأنت لا تساوين درهما، وأبى قبول المال، وقال: إنما أردت أن أعرف نفسي قدرها. وقال راهب: إزهد في الدنيا ودع أهلها. وكن مثل النحلة إن أكلت أكلت طيبا وإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 أطعمت أطعمت طيبا وإن وقعت على عودة لم تنكسر. وقالت امرأة العزيز: الحمد لله الذي جعل العبيد بطاعته ملوكا والملوك بمعصيته عبيدا. وقيل: المحسن في معاده كالغائب يرد إلى أهله مسرورا والمسيء كالآبق يرد مأسورا. وقيل في قوله صلّى الله عليه وسلّم: نية المرء خير من عمله، أي خير يعد من عمله وليس من للتفصيل. وقال ابن عباس: كنا نحدث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يركب الناس الصعب والذلول فلما ركبوهما أقلنا. وقال الزهري: حدثني فلان وفلان قبل تلاطخ الأحاديث. وقال الحسن: يا ابن آدم تحب الصالحين وتفر من أعمالهم وتبغض الفجار وأنت منهم. وعن بعضهم أنه قال: ما معي من الصلاح غير حبي لأهله. وقال صلّى الله عليه وسلّم: المرء مع من أحب. (2) وممّا جاء في المذاهب المختلفة اختلاف أقوال غير أهل الكتاب في العالم قال أهل الدهر جميعا: العالم كله قديم الطينة والصنعة وأهل هذه المقالة مختلفون، فمنهم من قال إنه أربعة أشياء حر وبرد ويبس وبلة ومعها روح سائح في جميعها يديرها ويصورها ولا أول له ولا آخر، وقال آخر: الأشياء صنعت نفسها وصنعت بعضها بعضا. وقالت السمنية: لم تزل الأشياء منتقلة كانتقال البيضة من الدجاجة والدجاجة من البيضة. وقال بلعام بن باعوراء: العالم قديم وله مدبر خلافه في جميع معانيه. وقال بعض الملحدة العالم جوهرة قديمة وهي في ذاتها واحدة لا اختلاف فيها ولكنها تختلف على قد الالتقاء والمماسة وعلى الحركات فتصير رطوبة وحر أو برد أو يبسا. وقال أرسطو: الهيولى أصل طينة العالم قديمة ومعناها أصل الشيء كالفضة أصل الدراهم. وقال الصابئون: النور قديم لم يزل وهو خالق الظلمة. وقالوا: الشيطان كلمة الله لا خلقه وزعموا أن الظلمة تقب على النور امتزاجا فما كان من خبر فمن الله وعمله ومن شر فمن الشيطان. وقول المجوس مثله لكنهم تفردوا أنهم زعموا إن النور يخلق كل حسن والظلمة تخلف كل قبيح. وقالت الجرمية: أصل العالم النور فمسخ بعضه بعضا فاستحالت ظلمة. وقالت الثنوية بالنور والظلمة. وأن للنور خمسة أجناس، الضياء والنسيم والماء والنار والروح. والظلمة خمسة أشياء الدخان والحريق والظلمة والسموم والضباب، فخالط الدخان النسيم وخالط الحريق النار وخالط النور الظلمة وخالط الريح السموم وخالط الضباب الماء، فما كان محمودا منها فمن النور أو مذموما فمن الظلمة. وزعموا أن هذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 الأجناس من الظلمة لما خالطت أجناس النور عمد النور فبنى فيها عشر سموات وثمان أرضين وعمد إلى أكابر الشياطين فشدهم في السموات وكبس العفاريت تحت الأرض ووكل ملكا بإدارة السموات ليشد ما فيها فيمنعها من الصعود إلى النور، ووكل ملكا بحمل السماوات وآخر بحمل الأرضين ووكل الجو بأسفل الأرض إلى أعلى السموات. وقالت المجوس: الأشياء شيئان قديمان سميعان بصيران، وزعموا أن الله كان وحده ولا شيء معه فلما طالت وحدته فكر فتولد من فكرته أهرمن وهو إبليس، فلما مثل بين يديه أراد قتله فامتنع عليه وسالمه إلى غايته، وزعموا أن العالم جوهر والظلمة والنور فيه غريب مجتاز، وزعموا أن للثلاثين يوما كل يوم ملائكة إلا أهرمن فإن الله تعالى قالوا وكل ما يقرب من أهرمن من الأيام فهو أقرب منه في المنزلة. وعظموا النار لكونها من جنس النور وزعمواأن العذاب في الجحيم البرد لأنه لما جاء زردشت إلى بلخ وادعى بها النبوة كان البرد فيها يعظم. وزعموا أن كل مؤذ من خلق أهرمن وكل نافع من خلق الله. وقالوا الفأرة من خلق الله والهرة من خلق الشيطان. وزعموا أن سنورا لو بال في البحر يقتل عشر آلاف سمكة والسمك أحق أن يكون من خلق الشيطان لأنه يأكل بعضه بعضا ويأكل من غرق من الناس، وشرّع لهم نيك الأمهات والتوضؤ ببول البقر لما رآهم في غاية الغباوة. وقالت السوفسطائية الأشياء على الحسبان نظنها ظنا ولا نعرف لها حقيقة استدلالا بأنا نرى الأشياء في المنام كما نراها في اليقظة، فلا ندري العالم قديم أم محدث. وأما البراهمة فاختلفوا فمنهم من قال بقدم العالم، فقال: المدبرات هي النجوم، ومن قال محدثة. غير أنهم نفوا النبوات. وأما عبدة الأصنام من العرب فقد أثبتوا الصانع قديما والأشياء محدثة وزعموا أن ذلك يقربهم إلى الله، وقالوا: إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر. والفلاسفة يثبتون أشياء كثيرة ثم يسمون واحدا منها ملك الأملاك ويجعلونه رأسا على ما يعبدون. اختلاف أهل الكتب غير الإسلام فمنهم اليهود فعامتهم جعلوه لحما ودما كمقالة مقاتل بن سليمان. وقال أبيض الرأس واللحية، والسامرية لا يشبه شيئا والأصبهانية عزير ابن الله، وعامة اليهود تقول ذلك لا على معنى يعقل. وقالوا ذلك من أجل أن بختنصّر لما هدم بيت المقدس وقتل قراء التوراة كان عزير صغيرا فلم يقتله، ثم مات عزير ببابل ورجع بنو إسرائيل إلى بيت المقدس، ولم يكن معهم أحد ليجدد لهم التوراة، فلما بعث الله عزيرا أتاهم، وقال: أنا عزير فكذبوه، وقالوا: إن كنت إياه فأمل علينا التوراة ففعل، فقال بعضهم أبي حدثني أن التوراة جعلت في خابية ودفنت في أصل كرم لنا فانطلقوا فاستخرجوها ونظروا فإذا هو لم يغادر منها شيئا، فقالوا: ما قدر على هذا إلا وهو ابن الله تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 النّصارى النسطورية واليعقوبية والملكانية واللاهوتية والصقالبة. فالنسطورية منسوبون إلى نسطور الاسكندراني «1» ، يقول: عيسى كلمة الله وروحه حلت في بطن مريم بطبيعة لاهوتية. ويقولون أنه ليس بجسم، وفي عيسى روحان قديم ومحدث. والملكانية وصاحبهم توقياس قالوا ليس في عيسى نفس مخلوقة والله إسم لثلاثة معان أب وابن وجوهر ثالث وهو روح القدس. واليعقوبية إلى يعقوب يقولون عيسى كلمة الله وكلمة الله لا لحم ولا دم، ثم نزل في بطن مريم عليها السلام فاتخذ من لحمها هيكلا فصارت الكلمة لحما ودما فذلك هو الابن اللاهوتي، وكان في مكان ثم صار في مكان وهم ينالون مذهبهم للفظة زعموها في الإنجيل. والصابئون هم قوم من النصارى الصقالبة يقرون بالخالق ويسمونه نعم، وكان له ولد فغرقت الدنيا ولم يبق إلا الله كأنهم يعنون نوحا. المتبجّح بالتّعطيل قال أبو نواس: وأيسر ما أبثّك أنّ قلبي ... بتصديق القيامة غير صاف وقال ديك الجن: أأترك لذة الصهباء عمدا ... لما وعدوه من لبن وخمر «2» حياة ثم موت ثم بعث ... حديث خرافة يا أم عمرو وغضب الفضل بن الربيع على أبي نواس، وقال أنت القائل: يا أحمد المرتجى في كل نائبة ... قم سيدي نعص جبار السماوات فقال: نعم، فسأل جماعة الفقهاء عنه فكل قال بحل دمه، فقال أبو نواس إن كنتم قلتم ذلك من عقولكم فقبحا لها وتخمينا، فما أبعدكم من العقل هل للسماء من جبر أو كان بها كسر فاحتيج إلى أن تجبر. قال بعض الثنوية: عجب لكسرى وإيوانه ... وغسل الوجوه ببول البقر وقيصر لمّا ثوى عاكفا ... لما عملته أكفّ البشر وعجب اليهود بربّ يسرّ ... بسفك الدماء وشمّ القذر وعند النصارى طريق النجاة ... بشرب الخمور وترك الزّفر وقوم يرومون بيت الحرام ... لرمي الجمار وحلق الشعر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 يعيبون إذا أبصروا ساجدا ... لشمس النهار وضوء القمر ذمّ المتبجّح بالميل إلى الزّندقة والتّمجّس قال شاعر: ليس بزنديق ولكنّما ... أراد أن يوسم بالظّفر وقال: تزندق معلنا ليقول قوم ... إذا ذكروه زنديق ظريف فقد بقي التّزندق فيه وسما ... وما قيل الظريف ولا اللطيف وقال: إذا ذكر أشرك في مجلس ... أضاءت وجوه بني برمك «1» فإن تليت عندهم آية ... أتوا بالأحاديث عن مزدك «2» وقال: يصيح لكسرى حين يسمع ذكره ... بصمّاء عن ذكر النبيّ صدوف ويعجبه أخبار كسرى ورهطه ... وما هو في أعلاجهم بشريف «3» وقال علي بن الحسين الكاتب في الكندي: ما أرغب الكنديّ في الزّندقه ... تعسا ليعقوب فما أحمقه لو علّق الكنديّ في حلقه ... قلفة ناء أبدا مخنقه ما كان إلا مؤمنا مسلما ... لا غفر الله لمن زندقه نوادر لمن أسلم عن كفر قيل لمجوسي أسلم، وكان يتعاطى كل ما يتعاطاه في التمجس: ما أحسن ما عملت أسقطت عن نفسك الجزية؟ وأسلم نصراني فقالت أمه: سخنت عيناك، محمد لم يعرفك والمسيح تبرأ منك. ولمّا أسلم صاعد قصده أبو العيناء مرتين فوجده يصلّي، فقال: لكل جديد لذة. وأسلم رجل فقيل له صلّ اليوم فقال لا أبتدئ اليوم بالصلاة والقمر في المحاق. نوادر من مال إلى الكفر سئل زنديق عن الأضحى فقال: وباء كل سنة يقع في الأغنام والبقر. وختن رجل إبنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 فقال: أوه قتلتني، فقال: إنما قتلك أبوك إبراهيم. ولما أسر عيينة بن حصن دخل المدينة فقال له رجل: يا منافق فقال يا بارد متى كنت مسلما حتى أكون منافقا. (3) نوادر في مناظرة النّصارى والمجوس واليهود قال بعض المتكلمين لبعض النصارى: لم قلتم إن لله تعالى ولدا؟ فقال: لأن كل من لم يكن له ولد يكون عقيما وهو وصف نقص. قال: فهل للابن ابن؟ قال: لا، قال: فإذا يكون عقيما. وجلس المأمون وبحضرته المتكلمون والجاثليق فأقبل الموبذ فقال: يا أمير المؤمنين أتحب أن أضحكك من الموبذ، فأقبل على الموبذ وقال: هذا يزعم أن باب الجنة في حرامه، فكما أكثر من جماعه كان أقرب إلى باب الجنة. فقال الموبذ: ما كنا نفعل ذلك حتى أخبرنا أن إلهكم خرج من ذلك، فأخجله، وضحك المأمون حتى فحص برجله. وقيل: أول ما ظهر من كيس إياس بن معاوية أنه كان في المكتب فسمع عند المعلم نصارى يعيبون الإسلام، فقال: من العجب أنكم تقولون إنكم في الجنة تأكلون وتشربون ولا تتغوطون. فقال إياس: أفما علمتم أن الدنيا مرآة الآخرة قالوا: نعم. قال: أفكل ما يؤكل في الدنيا يخرج غائطا. قالوا: لا، قال: فأين يذهب؟ قالوا غذاء قال: فما يبعد أن يكون كل ما يؤكل في الجنة يكون غذاء، فقال المعلم: قاتلك الله منكرا. وقال يهودي لمسلم: أنتم قريبو العهد بنبيكم وافتتنتم. فقال: أنتم ما جفت أقدامكم من البحر حتى قلتم اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. وناظر المأمون ثنويا، فقال: أخبرني هل ندم مسيء على فعله قط؟ قال: نعم، قال: فالندم على الإساءة ما هو؟ قال: إحسان، لكني أقول إن الذي أحسن غير الذي أساء، قال: فهذا الذي ندم على فعله أو فعل غيره فأفحمه. وغرق مجوسي في البحر فجعل يقول يا نار فارس يا نار أذربيجان، فقال قل يا رب النار فإنك لو وقعت موقعها لكنت أسوأ حالا منك. وقال أبو الهذيل لمجوسي: ما تقول في النار؟ قال: بنية الله، قال: فالبقر، قال: ملائكة الله تعالى، قال: فالماء، قال: نور الله، قال: فالجوع والعطش، قال: هما فقرا بهمن وفاقته، قال: فمن يحمل الأرض، قال: بهمن الملك، قال: بئسما عملتم، أخذتم الملائكة ذبحتموها ثم غسلتموها بنور الله ثم شويتموها ببنت الله ثم دفعتموها إلى فقر الشيطان وفاقته ثم سلحتموها على الملك. المتبجّح بارتكاب المحظور المحتجّ له قيل لأبي الطمحان: ما أدنى ذنوبك؟ قال: ليلة الدير نزلت على نصرانية فأكلت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 عندها طنشيلا بلحم خنزير وشربت من خمرها وزنيت بها وسرقت كساءها. وقيل لرجل من أين؟ فقال من دير ليلى، وزنت درهمين وأكلت رغيفين وشربت رطلين وعملت فردين ولم أبع نقدا بدين. ورؤي شيخ بعفج أتانا يوم الجمعة وكلما ضرطت صلّى على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقيل له: تنيك أتانا. فقال: عوّضني عنها أختك وأنا أترك الأتان، فقيل له في يوم الجمعة، فقال: تضمنها إلى يوم السبت. فقيل له: ولم تصلي على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال لأير يضرط الأتان. اختلاف الناس في القدر قالت عامة المعتزلة: إن الله يقدر على فعل الظلم ولكن لا يفعل والدلالة على القدرة على ذلك قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ «1» ، وقوله: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ «2» وإنما يتمدح بذلك من قدر على ضده. وقال بعضهم: لا يوصف بأنه قادر على الظلم. وقال بعضهم: لا يقدر على ذلك وقال جهم بن صفوان: إن الله تعالى يفعل ما نعتقده ظلما لكنه عدل. وقالت المعتزلة: قدرتنا تصلح للضدين. وقال جهم: تصلح لأحدهما فالكافر لم تجعل له قدرة على الإيمان والمؤمن لم تجعل له قدرة على الكفر. من ذهب مذهب أحد الفريقين من الشّعراء قال بعض العلماء: قد ذهب الأعشى مذهب المعتزلة في قوله: استأثر الله بالوفاء وبالعد ... ل وولّى الملامة الرّجلا وقال صالح بن عبد القدوس: ولا أقول إذا ما جئت فاحشة ... إنّي على الذنب محمول ومجبور وقال: لم تخل أفعالنا اللاتي نذلّ بها ... إحدى ثلاث خصال في معانيها إما تفرّد مولانا بصنعتها ... فاللوم يسقط عنّا حين نأتيها فكان يشركنا فاللوم يلحقه ... إن كان يلحقنا من لائم فيها ولم يكن لإلهى في جنايتها ... صنع فما الصنع إلا ذنب جانيها وقال الصاحب: اصفع المجبر الذي ... بقضا السوء قد رضى فإذا قال لم فعلت ... فقل هكذا قضى الزامات في المناظرة لمن ذهب مذهب المعتزلة قال أبو العتاهية لثمامة: ألا ترضى من خلق المعاصي ربا قال لا ولا عبدا. وحضر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 يوما عند الرشيد فحرك أبو العتاهية أصبعه، وقال لثمامة: من حرك هذا، قال ابن زانية، فقال أبو العتاهية أفتوني، فقال ثمامة: إن قلت إني حركتها فقد تركت المذهب وإن قلت حركها غيري فلم أشتمك وإنما شتمته. إلزامات مخالفيهم صحب مجوسي معتزليا فقال: ما بالك لا تسلم؟ فقال: حتى يشاء الله. قال: قد شاء الله ولكن الشيطان لا يدعك، فقال: أنا مع أقواهما. النّهي عن الخوض في ذكر القدر روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: آخر الكلام في القدر لشرار هذه الأمة. وقال عمر بن عبد العزيز لرجل سأله عن القدر: إن الله لا يطالب بما قضى وقدر وإنما يطالب بما نهى وأمر. وقال الأصمعي: سألت أعرابيا عن القدر فقال: ذاك علم اعتصمت فيه الظنون واختلف فيه المختلفون فالواجب علينا أن نرد ما أشكل علينا من حكمه إلى ما سبق من علمه. وذكر القدر عند أعرابي، فقال: الناظر في القدر كالناظر في ضوء الشمس يعرف ضوءها ولا يقف على حدودها. وقيل: اختصمت بنو إسرائيل في القدر خمسمائة سنة ثم صاروا إلى عالم فسألوه عنه، فقال: القدر حرمان للعاقل وظفر للجاهل ولم يعرف القدماء القدلر حماقات لعوام المجبرة قال أبو المنذر وكان من أجلّة القرّاء المصريين: ما كان موسى إلّا قدريا حيث قال وما أنسانيه إلا الشيطان. وقال: هذا من عمل الشيطان. وقال: لا أملك إلا نفسي وأخي فلم يرض أن ادعى أن يملك نفسه حتى ادعى أنه يملك أخاه. ووجد عامي رجلا يفجر بجاريته في دهليزه فأراد رفعه إلى السلطان فقال: اتّق الله فهذا قضاء الله عليّ فقال قد عفوت عنك لمعرفتك بالسنة. ومر جعفر بن حرب برجل يقول ما سرق مالي بعد الله إلا فلان فاطلبوه، فقيل له: قد ظفرت بأحد اللصين فكر وراء الآخر. وانكسرت رجل رجل فقيل له أطلب مجبرا يجبرها، فقال: معاذ الله أيكسره الله وأجبره أنا، إنّي إذا عاديته. وكان عبادة مجبرا فناظره الزيادي عند المتوكل، فقال: أترضى بقضاء الله، قال: نعم، قال: إن دخلت دارك ورأيت رجلا مع إمرأتك أليس ذلك بقضاء الله قال ما عندي جواب. فإني إن قلت رضيت أكون ديوثا وإن قلت لم أرض أكون قدريا فسقط المتوكل ضحكا. حكايات عن الأوائل حكى بعض الأوائل أن عبد الله بن الحسن قال لابنه محمد: يا محمد إن لامك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 لائم في العزل فما يكون من جوابك قال: أقول أتلومني على ما أقدر على تركه أم على ما لا أقدر على تركه، فإن قال على ما لا تقدر على تركه قلت له: كيف أترك ما لا أقدر على تركه، وإن قال الأخرى، قلت له: صرت على قولي. قال: لله درك. وقال موسى بن جعفر: ليس من العدل أن يشترك إثنان في فعل فيعذر القوي ويلام الضعيف، يعني ما يقوله الأشعرية ما من حركة ولا سكون إلا والله خالقه والعبد مكتسبه. وقال بعضهم: لو كان الزنا مما قاضى الله لكان الرضا به خيرة لإجماع الناس على قولهم الخيرة فيما قضى الله. وقيل: إن الحسن لما بلغه قول الحجاج بعد قتله لسعيد بن جبير الله قتله، قال: لعن الله قوما باتوا وأقلامهم تجري بدماء المسلمين وأموالهم. يقولون إنما تجري بأقلام الله وكذبوا لأن أقلام الله تجري بالبر والتقوى وأقلامهم تجري بالإثم والعدوان فإن كذبوا زعموا أن الله قد أسر عندهم كتابا نهاهم عنه في العلانية، لقد اغتشوا ربهم واتهموه وقالوا عنه قولا عظيما. وقال محمد بن سيرين لرجل كيف جارك النصراني؟ قال كما شاء الله، قال: قل كما علم الله إن الله لا يشأ المعاصي. وأتي عمر بسارق فقال له ما حملك؟ قال: قضاء الله، فقطع يده وقال هذه للسرقة، وجلده وقال هذه لكذبك على الله. وسئل ابن خفيف: هل منع إبليس من السجود أو امتنع، فقال منع في لسان حكمه وامتنع في لسان ملكه. وقيل ليحيى بن معاذ: إنّ الله ضمن أرزاقنا اضمنها حلالا أم حراما، فقال إن الله وعدنا شيئين فإن وفينا له وفى لنا. أوجب الطاعة على أن يجعل لنا الجنة وأوجب الصبر على أن يطعمنا الحلال فإن صبرنا أكلنا الحلال وإن لم نصبر وقعنا في الحرام. الإيعاد والإستطاعة قال أبو عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد: أتيأس لناس من عفو ربهم، والعرب تتمدح بإنجاز مواعيدها وتناسى وعيدها، وعلى ذلك قول الشاعر: وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي وروي أن عمرا قال: إن الشاعر قد يذمّ بعض ما يمدح فأين أنت عن كتاب الله ما يبدل القول لدي وأن أبيت إلّا الشعر، فقل كما قال الأول: إنّ أبا ثابت لمجتمع الرأ ... ي كريم الآباء والبيت لا يثبت الوعد والوعيد ولا ... يثبت من ثاره على فوت وقيل: ثلاثة ضمنهن الله على نفسه إن الله لا يضيع أجر المحسنين، إن الله لا يهدي كيد الخائنين، إن الله لا يصلح عمل المفسدين. ورأى محمد بن سويد بخاريا فقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 البخاري: أتقول لا استطاعة قبل الفعل وما من عامي إلا ويعلم خلاف قولك، فقال: بل يعلم خلاف قولك فانظر، فدعا بحمال فقال: إن هذا يزعم أنك لا تستطيع حمل هذا الكور. فقال: أم الذي يقول هذا ألف فاعلة. خلق القرآن قال الذهبي: سألت جعفر بن محمد عن القرآن فقال: لا أقول خالق ولا مخلوق. واحتج بهذا أحمد بن حنبل رضي الله عنه على المعتصم فقال ابن أبي داوود: أين حديث عمران بن حصين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: ما خلق الله خلقا أعظم من آية الكرسيّ وكان الخليل يمنع أن يوصف الكلام بالمخلوق، فيقول: الكلام متى وصف بالخلق فالقصد به الكذب ولهذا يقال هذا كلام خلقه فلان أي تقوّله. وقال بعضهم: أصفه بأنه محدث ولا أقول أنه مخلوق لقوله تعالى: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ «1» . وسمع مخنث رجلا يقرأ قراءة قبيحة فقال أظن هذا القرآن الذي يزعم ابن أبي داوود أنه مخلوق. قال أبو العالية: لو كان رأيك منسوبا إلى رشد ... وكان عزمك عزما فيه توفيق لكان في الفقه شغل لو قنعت به ... عن أن تقول كلام الله مخلوق ماذا عليك وأصل الدين يجمعكم ... ما كان في الفرع لولا الجهل والموق «2» وكان بعض القصاص بأصبهان يتشدد في خلق القرآن، فسئل عن معاوية هل كان مخلوقا، فقال: نعوذ بالله من نهايات الجهالات. رؤية الله تعالى وتقدّس من نفى عنه الرؤية احتج بقوله تعالى: لَنْ تَرانِي «3» وذلك مذكور على طريق التمدح فلا يختص به وقت دون وقت ومخالفوه احتجوا بقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ . «4» وقالت عائشة رضي الله عنها: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم الفريّة على الله، ولكنه قد رأى جبريل مرتين في صورته وخلقه سادا ما بين الأفق. وقال ابن عباس لقد رأى من آيات ربه الكبرى أنه رأى جبرئيل على رفرف قد سد أفق السماء وروي أن أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه سمع رجلا يقول والذي احتجب بسبع سماوات، فقال: إن الله لا يحجبه شيء عن شيء، فقال هل أكفر عن يميني قال لا لأنك حلفت بغير الله ومن حلف بغيره لا تلزمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 (4) وممّا جاء في الأنبياء والمتنبئين أدلّة نبوّة النبي من القرآن إعجاز العرب عن الإتيان بمثل القرآن، حيث قال الله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ «1» فلم يقدروا مع فصاحتهم وبلاغتهم على الإتيان بمثله وإخباره عن غيوب تحققت نحو: الم غُلِبَتِ الرُّومُ «2» فكان كما ذكر. وقال: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «3» ، يعني فتح مكة فكان. وقال: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ ... «4» الآية، فكان كما قال وقال: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ ... الْعِلْمِ «5» الآية فوعدوه إلى وادي باهلة، فقال: والذي نفسي بيده إن باهلوا أضرم الله عليهم الوادي فامتنعوا. وقال: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ، «6» ، كانوا: الوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث والأسود بن عبد المطلب والعاص بن وائل والحارث بن الطلاطلة فنزل جبريل عليه السلام وقال: إذا طافوا بالبيت فاسأل فيهم ما أحببت حتى أفعل، فمر به الأسود فرمى في وجهه بورقة خضراء. وقال اللهم أعم بصره وأثكله ولده ففعل، ومر بالأسود بن عبد يغوث فأومأ إلى بطنه فشق فمات، ومر به الوليد بن المغيرة فاندمل جرح ببطنه فمات، ومرّ به العاص فأشار إلى أخمص رجله فدخل به شوك فمات، ومر به الحارث فأومأ إليه فتفقأ قيحا فمات. معجزاته المشهورة من فعلاته وأخباره الدالّة على صدقه لما أصاب مضر الجهد ونهكهم الأزل سألوه أن يسأل الله تعالى الغيث لهم فسأل فأتاهم ما هدم بيوتهم، حتى قال صلّى الله عليه وسلّم حوالينا ولا علينا. فأمطر الله تعالى ما حولهم وأمسك عنهم. وكتب عليه الصلاة والسلام إلى كسرى وبدأ باسمه فمزق كتابه، فقال: اللهم مزق ملكه كل ممزق، فجذّ الله تعالى أصله، فكل ملك له بقية إلا ملكه. وكتب كسرى إلى فيروز الديلمي أن أحمل إليّ رأس هذا العبد الذي بدأ باسمه قبل اسمي ودعاني إلى غير ديني فأباه فيروز، فقال: إن ربي أمرني أن أحملك إليه، فقال صلّى الله عليه وسلّم: إن ربي أخبرني أنه قتل ربك البارحة فألبث، فإن جاءك ما دلّ على صدقي، وإلا فأنت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 على رأس أمرك، فأتاه الخبر أن شيرويه قتل أباه في الليلة التي ذكرها صلّى الله عليه وسلّم فأسلم فيروز وحسن إسلامه، وهو الذي قتل مسيلمة وقال في زيد بن صوحان يسبقه عضو منه إلى الجنة فقطعت يده في يوم نهاوند. وقال عمر رضي الله عنه: فلأنزعنّ ثنيتي سهيل بن عمرو فلا يقوم عليك خطيبا قال: فعسى يقوم مقاما محمودا فكان منه ما بلغنا حين هاج أهل مكة عند موته صلّى الله عليه وسلّم وضلت ناقته، فقالت قريش: إن هذا يخبرنا عن السماء ولا يدري أين ناقته فصعد المنبر وخطب، فقال: إني لا أعلم إلا ما علمني الله وقد أخبرني أنها في وادي كذا وتعلق زمامها بشجرة فوجدوها. كذلك وأخبار الأمم بذلك كثيرة وكلمته الذراع المسمومة والذئب والبعير وأظلته غمامة وحنّ إليه عود المنبر وأطعم عشرا من ثريدة وسقى عالما ووضأهم بميضأة في جسم صاع وأمرّ يده على ضرع شاة حائل حتى عادت كالحامل، وما أرى أبا جهل حين أهوى بالصخرة نحو رأسه فهوى له فحل ليلقم رأسه فرمى الصخرة وعاد إلى أصحابه ممتقع اللون، فقال كان كذا وكذا. ما دلّ على نبوّته من أخبار الفرس قيل: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إرتجس إيوان كسرى فسقطت منه اثنتا عشرة شرفة، وخمدت نار فارس ولم تكن خمدت قبل بألف عام، وغارت بحيرة ساوة، فجمع كسرى الأكابر وأخبرهم. فقال الموبذان: وأنا قد رأيت الليلة إبلا صغارا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادنا، فقال وما هو قال: حادث يكون من العرب. فكتب إلى النعمان بن المنذر أن أبعث إليّ عالما فبعث إليه بعبد المسيح بن عمرو بن نفيلة الغسّاني فلما أخبره، قال: علم ذلك عند خال لي يسكن مشارق الشأم فقال له: إذهب وائتني بخبره فذهب وقال له، أصم لم يسمع غطريف اليمن. فلما رفع صوته رفع سطيح رأسه وقال عبد المسيح على جمل مشيح إلى سطيح وقد أوفى على الضريح بعثك ملك ساسان لارتجاج الإيوان وخمود النيران ورؤيا الموبذان، ثم قال: يا عبد المسيح إذا بعث صاحب الهراوة وكثرت التلاوة وفاض وادي سماوه وغاضت بحيرة ساوه وخمدت نار فارس فليست الشام لسطيح شاما يملك منهم ملوك على عدد الشرافات وكل ما هو آت آت فأثار عبد المسيح راحلته وهو- يقول: شمّر فإنك ماضي الأمر شمير ... لا يفزعنّك تفريق وتغيير الخير والشر مقرونان في قرن ... والخير متبع والشرّ محذور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 ما دلّ على نبوّته ممّا أنزل الله تعالى في الكتب الأول قال الله تعالى: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ «1» واسمه مشفع ومعناه محمد. كثرة آيات الأنبياء وقلتها قال العلماء رضي الله عنهم: إنما كثر أعلام موسى لأن عمله كان مع غباوة بني إسرائيل ونقصان أحلام القبط. قال الجاحظ: ومتى أردت ذلك فانظر إلى بقاياهم هل لهم حكمة أو مثل أو شعر. وانظر إلى أولادهم مع طول لبثهم معنا هل تغيرت بذلك أخلاقهم، ثم من غباوتهم ما حكى الله تعالى عنهم في قولهم: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ وأَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً وفَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ «2» وآياتهم انقطعت بموتهم وعرفها من بعدهم وجعل من معجزات نبينا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأشرك الله تعالى فيه السلف وجعله باقيا على مرور الأزمان. من ادّعى النبوّة برقاعة غير حذق قيل للأحنف وكان ممن زف سجاح إلى مسيلمة: ما وجدته؟ قال: ما هو بنبي صادق ولا متنبئ حاذق، وفيها يقول: أضحت نبيتنا أنثى يطاف بها ... وأصبحت أنبياء الله ذكرانا ولما تنبأت سجاح أتبعها ناس كثير من بني تغلب ومسيلمة باليمامة، وكان أصحاب سجاح يكذبون مسيلمة وأصحاب مسيلمة يكذبون سجاح، فقالت سجاح: نذهب إليه فإن كان نبيا أطعناه فذهبت بقومها فأغلق باب حصنه وشارطها على الدخول وحدها فلما خلت به قالت: ما أنزل عليك؟ قال إنه يحل لي أن أنكح المتزوجات وتصبو إليّ المرأة الفضيلة تجدها فيّ وتدع زوجها، قالت: فهل من آية غيرها؟ قال: لم أؤمر بآية فأقلع عنها حتى تقبل أو ترد. قالت: فقد ركنت إلى ذلك، قال فاسمعي: ألا قومي إلى النيك ... فقد هيء لك المضجع فإن شئت علقناك ... وإن شئت على أربع وإن شئت ففي البيت ... وإن شئت ففي المخدع وإن شئت بثلثيه ... وإن شئت به أجمع ثم واقعها فخرجت إلى قومها فقالت: إني وجدت نبوّته صادقة وتزوجته فقالوا لها: إنا نكره رجوعنا بها بلا صداق، قال: قد حططت عنكم صلاة الفجر والعشار الأخيرة. وقيل لنبي ما دليلك؟ قال القرآن، أما قال الله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «3» ، واسمي الفتح قالوا، فينبغي أن يشركك في النبوّة من اسمه اسمك. قال كم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 في الناس من محمد والله تعالى يقول: وما محمد إلا رسول. ومن خرافات مسيلمة أنه كتب إلى رسول الله من مسيلمة إلى محمد أمّا بعد، فإن الأرض بيننا وبين قريش نصفان ولكن قريشا قوم يظلمون، فأجابه صلّى الله عليه وسلّم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. نوادر من تنبأ فقتل تنبأ رجل في زمن ابن هبيرة فصلب فمرّ به خلف بن خليفة فقال: أما أنزل عليك قرآن؟ قال: نعم، إنّا أعطيناك الجماهر فصلّ لربك وجاهر إن عدوك هو الفاجر. فقال ابن خليفة: إنا أعطيناك العمود فصلّ لربك على العود وأنا كفيلك أن لا تعود. وادّعى رجل النبوة وادعى أنه نوح فصلب فمرّ به مجنون فقال: يا نوح لم تحصل من سفينتك إلا على دقل. وتنبأ آخر في زمن الرشيد فضربه بالسياط فأخذ يصيح، فقال له المأمون اصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، فاستطار الرشيد إعجابا بقوله وتنبأ رجل فأمر بضربه والطواف به، فجعل يقول: أنا مالي والنبوّة ... ليس لي بالناس قوّه تركوا بطني وظهري ... فيهما عشرون كوّه متنبئ طالبه سلطان بمعجزته فتخلص تنبأ رجل في زمن المأمون فقال أنا إبراهيم الخليل فأحضره وقال: إن إبراهيم ألقي في النار فصارت عليه بردا وسلاما، فهلمّ نلقيك في النار لنعرف معجزتك، فقال: هات غير هذا، قال: ائتني بمثل براهين موسى وعيسى عليهما السلام، قال جئتني بالطامة الكبرى. قالوا: مالك معجزة، قال: سألتهم وقلت إنكم توجهونني إلى قوم شياطين فأعطوني حجة وإلّا لم أذهب، فقال جبريل: أخذت في الشؤم الساعة أذهب أولا وانظر ما يقولون فضحك المأمون، وقال: هذا هاجت به السوداء فخلّوا عنه. وتنبأ آخر في زمن الواثق فأدخل عليه وهو على بركة، فقال له: اضرب بعصاك هذا الماء حتى ينفلق، فقال حتى تقول أنا ربكم الأعلى. وقيل لآخر: ما معجزتك؟ قال ائتنوني بجارية أحبلها حتى يكلمكم جنينها فقالوا هذه الشاة إن أحبلتها فأنت نبي، فقال أنتم تريدون تيسا لا نبيا. وقيل لآخر: ما نبوتك؟ فقال: في حرام من يشك في نبوتي، فقال: عبادة أشهد بنبوّتك. وتنبأ آخر في زمن المعتصم وقال: أحيي الموتى ائتني بسيف أضرب به عنق ابن أبي داود ثم أحييه، فقال ابن أبي داود آمنت بك. وأتى المأمون بآخر فقال له: ما تقول؟ قال: قال لي ربي لا تكلم المأمون بشيء واذهب إلى الهند فضحك وأطلقه. وأتى المهدي بمتنبئ فقال له إلى من بعثت؟ فقال: أو تركتموني بعثت بالغداة فحبست بالعشي؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 (5) ومما جاء في مبدأ القرآن ونزوله قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا فرفعت رأسي فإذا بالملك الذي جاءني على كرسي بين السماء والأرض، فجئت خديجة فقلت: زمّلوني زمّلوني فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ «1» وعن جابر أن ذلك أول ما نزل. وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى اعنه أوّل ما نزل من الوحي: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «2» ون وَالْقَلَمِ «3» . وقال الزهري: أوّل آية نزلت في القتال: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا «4» . وقال علقمة: كل ما في القرآن من قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ . فإنه نزل بالمدينة. و (ظلموا الناس) فإنه نزل بمكة. وقيل: نزل القرآن جملة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل في عشرين سنة، وذلك قوله تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ ... «5» (الآية) . وقال البراء: آخر آية نزلت: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ «6» وقال ابن عبّاس: آخر آية نزلت: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ «7» فمات صلّى الله عليه وسلّم بعد نزولها بليال. وقيل: آخر القرآن عهدا بالعرش آية الربا والوالدين. جمع المصاحف كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نزلت سورة قال: ضعوا هذه في الموضع الذي ذكر فيه كذا. وروي أن عمر رضي الله عنه كان قد جمع القرآن في مصحف، كان عند حفصة وهو الذي أرسل مروان فيه وهو والي المدينة إلى عبد الله بن عمر يوم ماتت حفصة فأمر بإحراقه مخافة الاختلاف. وقال أبو بكر إن عمر لما رأى القتل قد استحر بقراء القرآن يوم اليمامة قال: إني لأخشى أن يذهب قرآن كثير، وإني أرى أن يجمع القرآن. فقلت: كيف أفعل ما لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال: إنه لخير. فشرح الله صدري ففعلت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 وقيل: أول من جمع القرآن بين لوحين أبو بكر رضي الله عنه. وقال زيد بن ثابت: دعاني أبو بكر وقال: إنك رجل شاب وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاجمع القرآن واكتبه ففعلت. قيل: أحرق عثمان رضي الله تعالى عنه مصحف ابن مسعود، وإن ابن مسعود كان يقول لو ملكت كما ملكوا لصنعت بمصحفهم كذلك، وأحرق مروان مصحف عمر رضي الله عنه. وقيل: القرآن ثلاثمائة ألف حرف وواحد وعشرون حرفا، وهو ستة آلاف وستمائة وتسع وتسعون آية. ما ادّعى أنّه من القرآن ممّا ليس في المصحف وما ادّعى أنه منه وليس فيه أثبت زيد بن ثابت سورتي القنوت في القرآن، وأثبت ابن مسعود في مصحفه لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب. وروي: أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: لولا أن يقال زاد عمر في كتاب الله تعالى لأثبت في المصحف، فقد نزلت: الشيخ والشيخة إذا زنيا فأرجموهما البتة نكالا من الله والله شديد العذاب. وقالت عائشة: لقد نزلت آية الرجم ورضاع الكبير وكانتا في رقعة تحت سريري وشغلنا بشكاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدخلت داجن فأكلته. وقال علقمة: أتيت الشأم فجاء رجل فقعد إلى جنبي فقيل لي: هو أبو الدرداء، فقال: ممن أنت؟ قلت: من الكوفة، قال: أولم يكن فيكم صاحب السواك والنعلين والمطهرة يعني ابن مسعود، قلت: نعم فقال: أتحفظ كيف كان يقرأ والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى؟ قلت: نعم هكذا أقرأنيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفوه إلى فيّ فما زال هؤلاء بي حتى كادوا يردونني عنهما. وأثبت ابن مسعود بسم الله في سورة البراءة. وقالت عائشة: كانت الأحزاب تقرأ في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مائة آية، فلما جمعه عثمان لم يجد إلا ما هو الآن. وكان فيه آية الرجم وأسقط ابن مسعود من مصحفه أم القرآن والمعوذتين. قراءة تخالف صورة حروفها ما في المصحف أو ترتيبها قرئ بدل كالعهن كالصوف، وبدّل فهي كالحجارة فكانت كالحجارة. وذكر بعض العلماء أن ابن عباس كان يجوز أن يقرأ القرآن بمعناه، واستدل بما روي عنه أنه كان يعلم رجلا طعام الأثيم فلم يكن يحسن الأثيم فقال: قل الفاجر. وليس ذلك بشيء فيما ذكره جلّ العلماء، لأن ابن عبّاس أراد أن يعرفه الأثيم فعرفه بمعناه لما أعياه، وقرئ بدل والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما فاقطعوا أيمانهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 وكان عمر يقرأ غير المغضوب وغير الضالّين، وعبد الله بن الزبير صراط من أنعمت عليهم. وقرأ بعضهم: وضربت عليهم المسكنة والذلّ، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه وجاءت سكرة الحق بالموت. ما روي فيه زيادة قرئ: اصبروا وصابروا ورابطوا بعضهم. وقرأ بعضهم: وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم. وقرأ بعضهم إن هذا أخي له تسعة وتسعون نعجة أنثى. وقرئ: السارقون والسارقات فاقطعوا أيديهما. وقرأ ابن عباس: أن لا يطوف وليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج عبد الله: فلا إثم عليه لمن اتقى. وعن أبي ذرّ: فان فأوافيهن فإن الله غفور رحيم. وقوله: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر. وقرأ سعد: فإن كان له أخ أو أخت من أبيه ومثل هذا كثير فلنقتصر على هذا القدر منه. ما في القرآن من تغيير الكتابة كان القوم الذين كتبوا المصحف لم يكونوا قد حذقوا الكتابة فلذلك وضعت أحرف على غير ما يجب أن تكون عليه. وقيل: لما كتبت المصاحف وعرضت على عثمان وجد فيها حروفا من اللحن في الكتابة، فقال: لا تغيّروها فإن العرب ستغيرها أو ستعبر بها، ولو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم يوجد فيه هذه الحروف. ما سدّ منه لحنا عن ابن عروة عن أبيه قال: سألت عائشة عن لحن القرآن عن قوله: إن هذان لساحران، وعن قوله: والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة، وعن قوله: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون، فقالت: يا ابن أختي هذا عمل الكتّاب اخطأوا في الكتابة. الرخصة في اختلاف القراءات كان عمر رضي الله عنه يقول: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأها، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقرأنيها فأخذت بثوبه فذهبت به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: إني سمعته يقرأ القرآن على غير ما أقرأتني فقال: إقرأ. فقرأت فقال صلّى الله عليه وسلّم: هكذا أنزلت، ثم قال لهشام: إقرأ فقال صلّى الله عليه وسلّم: هكذا أنزلت. ثم قال: إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف فاقرؤا ما تيسر منه. وفي خبر أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: إن جبريل وميكائيل أتياني فقعد جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري، فقال جبريل: إقرأ القرآن على حرف فقال ميكائيل استزده حتى بلغ سبعة أحرف وكل حرف شاف كاف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 تعظيم القرآن رأى عمر رضي الله عنه مصحفا بخطّ دقيق، فقال: ما هذا؟ فقيل: القرآن كله فضرب صاحبه، وقال: عظموا كتاب الله. وكان أمير المؤمنين يكره أن يكتب القرآن في الشيء الصغير. وكان ابن عبّاس إذا رأى مصحفا قد فضض أو ذهّب يقول: أتغرون به السارق وزينته في جوفه. وقال أبو ذر: إذا حلّيتم مصاحفكم وزخرفتم مساجدكم فالدمار عليكم. وقال مالك والشافعي رضي الله عنهما: لا يمس القرآن إلا طاهر. قال الله تعالى: لا يمسه إلا المطهرون. وكان الشعبي لا يرى بأسا أن يأخذ بغلافه وهو على غير وضوء. وقال صلّى الله عليه وسلّم: لا توسدوا القرآن واتلوه بالليل والنهار. فضل قراءة القرآن قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن العبد إذا قرأ فحرف كتبه الملك كما أنزل وكان ابن مسعود يقول: من ختم القرآن فله دعوة مستجابة. وقال الله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ «1» قال ابن عباس: يتبعونه حق اتباعه. وقال تعالى في ذم قوم: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ «2» ، قال الشعبي: أما أنه كان بين أيديهم ولكن نبذوا العمل به. وقال صلّى الله عليه وسلّم: قراءتك في المصحف تزيد على قراءتك ظاهرا كفضل المكتوبة على النافلة. تعظيم قرّاء القرآن قيل: عظموا من زيّنه الله بالقرآن، وقال صلّى الله عليه وسلّم: إنّ من تعظيم الله إجلال ثلاثة: الإمام المقسط وذي الشيبة وحامل القرآن لا الغالي فيه ولا الجافي فيه. وكان عمر رضي الله عنه يجري على كل حافظ قرآن مائة دينار. فضل تعلّم القرآن وتعليمه روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا مأدبته. وروي عنه: خياركم من تعلم القرآن وعلمه. وقال عقبة بن عامر: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكنا في الصفة فقال: أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو العقيق فيأخذ كل يوم ناقتين كوماوين زهراوين في غير إثم ولا قطيعة رحم؟ فقلنا: كلّنا يا رسول الله. قال: فلأن يغدو أحدكم كل يوم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين ومن ثلاث. وقيل: في قوله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ «3» وبالإسلام والقرآن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 الرّخصة في أخذ الأجرة بتعليمه ممّا يدل على الرخصة في ذلك ما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن نفرا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم مروا بحيّ من أحياء العرب فلدغ رجل منهم، فقالوا: هل فيكم من راق فرقاه رجل بأم الكتاب فأعطي قطيعا من الغنم؟ فقدموا على النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبروه، فقال: من أخذ برقية باطل فقد أخذت برقية حق اضربوا معكم بسهم وقال صلّى الله عليه وسلّم: تعلموا القرآن وسلوا الله به من قبل أن يتعلمه قوم يسألون به الدنيا، فإن القرآن يتعلمه ثلاثة نفر: رجل يباهي به ورجل يستأكل به ورجل يقرأه لله. وأقرأ أبي رجلا من اليمن سورة فأعطاه فرسا، فقال: إن كنت تريد أن تقلّد سيفا من النار فخذها. الجهر والمخافتة مر صلّى الله عليه وسلّم بأبي بكر وهو يخافت وبعمر يجهر فسألهما فقال أبو بكر: إني أسمع من أناجي فقال صلّى الله عليه وسلّم: إرفع شيئا. وقال عمر: أطرد الشيطان وأوقط الوسنان فقال: أخفض شيئا كأنه ذهب إلى قوله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا «1» . المدة التي يستحبّ فيها الختم سأل قيس بن صعصعة النبي صلّى الله عليه وسلّم في كم أقرأ القرآن؟ قال: في كل خمس عشرة قال: إني أجد فيّ أقوى من ذلك. قال: ففي كل جمعة. وقال سعد بن المنذر الأنصاري للنبي صلّى الله عليه وسلّم أقرأ القرآن في كل ثلاث، قال: نعم إن استطعت. وكان سليمان يقرأ القرآن في كل ليلة ثلاث مرات، يقعد في كل مرة ويجامع امرأته ويغتسل، فلما مات قالت رحمك الله إن كنت لترضي ربك وأهلك. وكان عمر رضي الله تعالى عنه يقرأ القرآن في ركعة. تحقيق القرآن والتّغنّي به قال ابن مسعود رضي الله عنه: أعربوا القرآن فإنه عربي. وقال أبو بكر: لأن أعرب آية من القرآن أحب إليّ من أن أحفظ آية. وقال عمر: تعلموا إعراب القرآن كما تتعلمون حفظه. وقال صلّى الله عليه وسلّم: زينوا القرآن بأصواتكم ودخل صلّى الله عليه وسلّم المسجد فسمع صوت رجل فقال: من هذا؟ قيل عبد الله بن قيس فقال: لقد أوتي هذا من مزامير آل داود. وكان عمر إذا رأى أبا موسى يقول: ذكرنا ربّنا فيقرأ عنده وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم ليس منا من لم يتغن بالقرآن، فقد تأوّلوه على هذا وعلى الإستغناء. وكره بعض الفقهاء التحدّث بهذا الحديث كراهة أن يتأوّل على الألحان المكروهة، فقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: أن قوما يتخذون القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليس بأفقههم وأعلمهم ليغنّيهم به غناء. وقال الهيثم العلاف: قرأت عند المنصور فقال: ما لكم أهل البصرة أقرأ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 البلاد، فقلت: إن أهل الحجاز قرأوا على النصب غناء العرب، وأهل الشأم قرأوا على قراءة الرهبان، وأهل الكوفة قرأوا على قراءة النبط، والبصرة على الخسرواني غناء فارس. النّهي عن المراء فيه وعن تفسيره قال صلّى الله عليه وسلّم: لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر. وسأل أبو بكر عن قوله تعالى وَفاكِهَةً وَأَبًّا «1» ، فقال: أي سماء تظلّني وأي أرض تقلني؟، إن قلت في كتاب الله بما لا أعلم. التّداوي بالقرآن قالت عائشة: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا مرض يقرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث. وكان الحسن يكره أن يغسل القرآن ويسقى. وسئل إبراهيم عمّن حمّ فعلق عليه تعويذ فيه يا نارُ كُونِي بَرْداً (الآية) ، فكرهه. وسئل عطاء عن الرجل يعلق عليه شيئا من القرآن فقال: ما سمعنا بكراهة ذلك إلا منكم معاشر أهل العراق. الحذّاق بالقرآن المشهور منهم ثلاثة: عبد الله بن مسعود وأبيّ وزيد. وقال صلّى الله عليه وسلّم: من أحب أن يقرأ القرآن غضا فليقرأه على قراءة ابن أم عبد. وقال ابن مسعود: كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنزلت والمرسلات عرفا فأخذتها رطبة من فيه، وهو أول من جهر بقراءة القرآن بمكة. وأقرأ معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه. وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: أقرأكم أبي وقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: أمرت أن أعرض عليك القرآن. فقال أبيّ: سمعاني لك ربك قال: فبفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون. وقال له: أي آية في كتاب الله أعظم؟ فقال: الله لا إله إلا هو الحي القيّوم. فضرب في صدره، وقال: ليهنك العلم أبا المنذر، وإنما أخذ الناس بقراءته لكونه كان آخر من يقرأ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إنّا نأخذ بالآخر من قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفعله. بيع المصاحف بيعت المصاحف في زمن معاوية، وكره ابن عمر بيع المصاحف. وقال ابن عباس: اشتر المصاحف ولا تبعها. وسئل بعض الفقهاء عن ذلك، فقال: كان حبرا هذه الأمة لا يريان ببيعها بأسا: الحسن والشعبي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 (6) وممّا جاء في العبادات الطّهارة و الوضوء قال الله تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ويُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ «1» . وسئل صلّى الله عليه وسلّم عن البحر فقال: الحلّ ميتته الطهور ماؤه. وقال: من لم يطهره البحر فلا طهارة له. وقال صلّى الله عليه وسلّم: خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غيّر طعمه ولونه. دباغ الجلود قال صلّى الله عليه وسلّم: أيّما إهاب دبغ فقد طهر، ومرّ بشاة لميمونة وقد ماتت فألقيت، فقال: هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به. وقال صلّى الله عليه وسلّم: لا بأس بجلد الميتة إذا دبغ ولا بصوفها إذا غسل بالماء، واعتبر المزني الغسل في الشعر. وقال الشافعي: نجس غسل أو لم يغسل. تحليل الأواني وتحريمها قال صلّى الله عليه وسلّم وقد خرج على أصحابه وفي إحدى يديه حرير وفي الأخرى ذهب، فقال: هذان حرامان على ذكور أمتي حلّ لأناثها. وقال صلّى الله عليه وسلّم: من شرب في آنية من فضة فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم. السّواك قال صلّى الله عليه وسلّم: مالكم تدخلون عليّ قلحا استاكوا. وقال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم ب السواك عند كل صلاة. وقال: نظفوا أفواهكم فإنها ممر القرآن. وقيل: السواك مغسلة للفم، مجلبة لشهوة الطعام، جلاء للأسنان مطلق للسان، وعن ابن عباس: فيه عشر خصال مرضاة للرب ومسخطة للشيطان ومقربة للملائكة ومشد للثّة وذاهب بالحفر وجال للبصر ومطيب للفم ومقلّ للبلغم وهو من السنّة ومما يزيد في الحسنات. التغوّط والإستنجاء قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها بغائط أو بول، ثم رؤي جالسا على لبنتين مستقبل بيت المقدس، فقيل: إن الإستدبار منسوخ. وقيل لم ينسخ وإنما النهي في الصحراء دون البيوت. وقال صلّى الله عليه وسلّم: إتقوا الملاعن وهو التغوط على قارعة الطريق. وقال: من استجمر فليوتر ومن لا فلا حرج. وقال سلمان رضي الله عنه: نهانا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن نجتزي بأقل من ثلاثة أحجار نستطيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 بهن ونهى عن الروث والرمّة، وقال: إنه زاد إخوانكم من الجنّ. وقال: إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء، وإذا أتى الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه ولا يتمسّح بيمينه. وأهدى أعرابي إلى عبد الملك شيئا فقال: كيف أقبله منك وأنت لا تحسن أن تطوف أي تقضي حاجتك؟ فقال: إني لأطيل المشي حتى أتوارى كراهة أن أرى ولا أستقبل الريح وأجتنب القبلة وأستتر بالموجود وأقدم رجلا وأؤخر أخرى وأفج إفجاج الثعلب وأتمسح بالحجر والمدر وأجتنب الروث والرمة، فقال عبد الملك: أنت نبيل أصيل فقيه، وقبل هديته وأجزل عطيته. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل الخلاء يقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث. وروي: أعوذ بك من الرجس النجس الشيطان الرجيم، ولم يكن يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض. الوضوء اعتبر الشافعي رضي الله عنه النيّة في الوضوء لقوله صلّى الله عليه وسلّم: الأعمال بالنيات، والتسمية مستحبة لقوله إذا تطهر أحدكم فليذكر اسم الله فإنه يطهر جسده وإن لم يذكر اسم الله لم يطهر إلا ما مرّ عليه الماء. وقال صلّى الله عليه وسلّم: لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله وقال: بالغ في الإستنشاق إلا أن تكون صائما. وقال: خللوا الشعر وأنقوا البشرة فإن تحت كل شعرة جنابة. وتوضأ صلّى الله عليه وسلّم مرة مرة وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به، ومن توضأ مرتين فهو أفضل ثم ثلاث مرات وقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي. ورأى صلّى الله عليه وسلّم قوما تلوح عراقيبهم ما يصيبها الماء فقال: ويل للعراقيب من النار. وكان عبد الله بن رواحة وقع على جارية له ورأته امرأته فأنكر، فأمرته أن يقرأ القرآن، فقال: شهدت بأنّ وعد الله حق ... وأنّ النار مأوى الكافرينا فقالت: صدق الله وكذب بصري ثم أخبر النبي عليه السلام فضحك ولم ينكره. كراهة صبّ ماء الوضوء على الإنسان كان الرضا عند المأمون فلما قرب وقت الصلاة رأى الخدم يأتونه بالطشت والماء فقال الرضا: لو توليت هذا من نفسك، لأن الله تعالى يقول: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً «1» فقال: سمعا وطاعة، وأمر الغلمان بانصرافهم وقد أجازوا ذلك. ووضع لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وضوء فقال: من صنع هذا؟ فقيل ابن عبّاس فقال: اللهم فقهه في الدين. وضوء العرب والحمقى كان أعرابي إذا توضأ قدم غسل وجهه على إسته، ويقول: لا أقدّم السوءة على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 الوجه. وقال أبو مهدية: كنا نتوضأ وضوءة تكفينا الأسبوع والأسبوعين حتى جاءنا هذا الوالي يأمرنا أن نليق كل يوم استاهنا إلاقة الدواة فأفسد علينا ما كنا فيه، وانتفض أعرابي ثم أقبل فقيل له: ألا تمس ماء فتتنظف به، فقال هبوني غسلت ظاهرها فكيف أصنع بباطنها. وقال أعرابي: إني لأسبغ الوضوء وما تقع على الأرض مني قطرة. وكان بعض الناس يعاتب ابنه في تركه الوضوء والصلاة، فلما أكثر عليه، قال: يا أبت إما أن أتوضأ ولا أصلّي أو أصلّي ولا أتوضأ. نقض الوضوء قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا، فلا يخرجنّ من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا. وقع الخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم في التقاء الختانين من غير إنزال، فقال بعضهم: لا يجب عليه الغسل لقوله صلّى الله عليه وسلّم إنما الماء من الماء. وقال بعضهم يجب. فبعث عمر إلى عائشة رضي الله عنها فقالت: قال صلّى الله عليه وسلّم إذا التقى الختانان وجب الغسل، فقال عمر: لئن بلغني عن أحد أنه فعل ذلك ولم يغتسل عاقبته. سؤر الكلب قال صلّى الله عليه وسلّم: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات أولاهن أو أخراهن بالتراب. التنزّه من البول وغسله قال ابن عبّاس: مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كثير. أما أحدهما فكان لا يتنزه من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة، ثم أخذ جريدة رطبة فشقّها نصفين فغرز في كل قبر واحدة ثم قال لعلهما يخفف عنهما ما لم ييبسا. المني ّ قالت عائشة رضي الله عنها: كان صلّى الله عليه وسلّم إذا أصاب ثوبه المني غسله وكأني أنظر إلى البقع في ثوبه من أثر الغسل. ورآه صلّى الله عليه وسلّم في ثوب رجل فقال أمطه عنك بإذخرة «1» . فضل من بات على الوضوء قال صلّى الله عليه وسلّم: إذا أتيت مضجعك فتوضأ للصلاة ثم اضطجع على شقّك الأيمن، وقل: اللهم أسلمت وجهي إليك وفوّضت أمري إليك والجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجأ منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيّك الذي أرسلت فإن متّ في ليلتك متّ على الفطرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 الحيض قالت عائشة: كنت إذا حضت يأمرني صلّى الله عليه وسلّم أن أتزر ثم يباشرني وأيّكم يملك أربه كما كان صلّى الله عليه وسلّم يملك أربه. التيمّم قال الله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً* «1» . وقال صلّى الله عليه وسلّم: التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين وقال صلّى الله عليه وسلّم: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا. وجاء رجل إلى عمر بن الخطاب وقال: إني أجنبت فلم أصب الماء، فقال عمار بن ياسر لعمر رضي الله عنهما: أما تذكر أنا كنا في سفر فأجنبت أنا وأنت فأما أنت فلم تصل وأنا تمعكت في التراب فصليت، فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فذكرت ذلك له فقال لي: إنما كان يكفيك هكذا. وضرب بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه. (7) وممّا جاء في الصلاة الحثّ على عمارة المساجد قال الله تعالى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ «2» . وقال صلّى الله عليه وسلّم: إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان، لأن الله تعالى قال: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله (الآية) . وقال أبو بكر رضي الله عنه: من بنى مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنّة. وقال الحسن: مهور الحور العين في الجنّة كنس المساجد وعمارتها. وروي أن مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم في عهده كان مبنيا باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل، فلم يزده أبو بكر، وبناه عمر كما كان في عهده صلّى الله عليه وسلّم، ثم غيّره عثمان وزاد فيه زيادة كثيرة وبنى جداره من الحجارة المنقوشة والفضة، وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه من ساج. وقال صلّى الله عليه وسلّم: جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم وخصوماتكم وإقامة حدودكم وسلّ سيوفكم وشراءكم وبيعكم. ولما حصب عمر المسجد قال: هو أغفر للنّخامة «3» . فضل القعود في المساجد قال أبو الدرداء: لابنه ليكن المسجد بيتك فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 المساجد بيوت المتقين. وقال صلّى الله عليه وسلّم: ترهب أمتي الجلوس في المساجد وقيل: المساجد مجالس الكرام. وقال بعض الأنصار: من أتى المسجد وجد فيه ثماني خلال أخا مستفادا وعلما مستظرفا وآية محكمة ورحمة منتظرة وكلمة تردّ عن رديء وترك الذنوب حياء وحشمة. وقال صلّى الله عليه وسلّم: الملائكة يصلّون على أحدكم ما دام في المسجد الذي صلّى فيه. يقولون: اللهم أغفر له اللهم تب عليه ما لم يؤذ فيه أو يحدث فيه. أوقات الصلوات قال الله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ «1» . وقال صلّى الله عليه وسلّم: إذا زالت الشمس فصلّوا. وصلّى جبريل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم لما صار ظل كل شيء مثله. وصلّى في اليوم الثاني لما صار ظل كل شيء مثليه، وقال: يا محمد ما بين هذين وقت. وقال صلّى الله عليه وسلّم: إذا اشتد الحر فأبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم. وروي أنا كنا نصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى أقصى المدينة والشمس حية. وقال: لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى اشتباك النجوم فإذا غربت فقد وجبت الصلاة. وقال: لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى نصف الليل. وعن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخر العشاء الأخيرة إلى نصف الليل ثم صلّى بنا ثم قال: قد صلّى الناس وناموا أما أنكم أن تزالوا في صلاة منذ انتظرتموها. أوقات الضرورة للصلاة قال صلّى الله عليه وسلّم: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة، وروي: من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر. الأوقات المنهي فيها عن الصّلاة نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وعن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس. وقال صلّى الله عليه وسلّم: لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فإنها تطلع بين قرني شيطان. وقال: إذا بزغ حاجب الشمس فدعوا الصلاة وإذا غاب حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تغرب الشمس. وروت عائشة رضي الله عنها: ما ترك النبي صلّى الله عليه وسلّم ركعتين بعد الصلاة في بيتي قط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 (8) باب الأذان روي عن بلال أنه قال: أمرني النبي صلّى الله عليه وسلّم أن أؤذن للفجر بالليل. وروي أنه غاب ليلة عن أصحابه ومعه أخو صدى فلما كان وقت السحر، قال: قم فأذن. فما زلنا ننتظر الصبح بعد ذلك حتى جاء بلال فأراد أن يقيم، فقال صلّى الله عليه وسلّم: إن أخا صدى قد أذّن وإنما يقيم من أذن. وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم أمر بلالا بالترجيع. وقال ابن عمر رضي الله عنهما: كان الآذان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثنى مثنى والإقامة مرة مرة، غير أنه يقول قد قامت الصلاة مرتين. وكان عثمان رضي الله عنه يقول إذا سمع الآذان: مرحبا بالقائلين عدلا وبالصلاة مرحبا وأهلا. وروي أن المسلمين لمّا قدموا المدينة كانوا يجتمعون فيتحينون الصلاة وليس ينادى بها فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسا كناقوس النصارى. وقال بعضهم قرنا كقرن اليهود، فقال عمر رضي الله عنه: أولا تبغون رجلا ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فناد بالصلاة فأمره أن يشفع الأذان ويوتّر الإقامة. السخف في الأذان قيل: استؤجر رجل في قرية على أن يؤذن بعشرة دراهم، فاستزادهم، قالوا: ليس لنا ما نزيدك ولكن قد سامحناك في حيّ على الفلاح فلا معنى له مع قولك حي على الصلاة. وقال بعضهم: مررت برجل يقول في أذانه أشهد أن لا إله إلا الله وهم يشهدون أن محمدا رسول الله فقلت: مالك لا تشهد شهادتهم؟ فقال: إنه يهودي مستأجر. وقال بعضهم: دخلت قرية فحان وقت الصلاة فدخلت مسجدها، فأذنت وأقمت وصليت بجماعة منها دخلوا المسجد، فلما سلمت ودعوت قال أحدهم: أمسلم أنت أم يهودي؟ فقلت: هل رأيت يهوديا صلّى بمسلمين؟ قال: إنما نقول لأن يهودكم خير من مسلمينا. الواجب من الصلاة قال أبو حنيفة رضي الله عنه: الوتر واجب ولم يوجبه غيره واستدلّ بما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: إنّ الله تعالى زادكم صلاة ألا إنها هي الوتر فأوتروا. وروي أن أعرابيا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فسأله عن الصلاة الواجبة عليه فذكرها له، فقال: هل على غيرها فقال لا إلا أن تتطوع. وروي أن أعرابيا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم بعد أن علمه الصلاة: هل عليّ غيرها؟ قال: لا، قال: والله لا أزيد فيها ولا أنقص، فقال: أفلح إن صدق. وروي الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله. وروي من ترك صلاة العصر فكأنما حبط عمله. الحثّ على صلاة الجماعة قال صلّى الله عليه وسلّم: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد. وقول الله تعالى: إِنَّما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ «1» أي بالسعي إليها والصلاة فيها. الصّلاة في المطر خطب ابن عباس في يوم جمعة، وكان ذا مطر، فأمر المؤذن أن يؤذن فلما قال: حي على الصلاة. قال: أمسك وأذّن، الصلاة في الرحال «2» ، فنظر القوم بعضهم إلى بعض فقال: قد أنكرتم ذلك قد فعله خير مني ومنكم فإنها عزمة، وإني كرهت أن أخرجكم. وقال صلّى الله عليه وسلّم: إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرحال. القراءة في الصلاة قال الله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ «3» ، قيل: عنى ذلك في الصلاة. وقال صلّى الله عليه وسلّم: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب. وروى أبو سعيد الخدري أنه صلّى الله عليه وسلّم قال في كل ركعة قراءة فمن لم يقرأ في جميع الركعات فلا صلاة له. وقال: إذا أمن الإمام فأمنوا. رفع اليدين والذّكر روى جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع. وقال: إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه، ولا يبرك بروك الجمل. وقال: مكّن وجهك من الأرض حتى تجد حجم الأرض. وقال: أمرت أن أسجد على سبعة آراب. التشّهد والتسليم قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل التحيات إلى آخره. وروي أنه كان يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن. وقال صلّى الله عليه وسلّم: تحريمها التكبير وتحليلها التسليم. ستر العورة في الصلاة قال الله تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ «4» . قيل المراد بها في الصلاة لإجماع الناس أن أخذ الزينة لأجل المكان لا يجب. وسأل سلمة بن الأكوع النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ربما أكون في الصيد وليس عليّ إلّا ثوب واحد وأريد الصلاة فقال: زره لو بشوك. ولما سئل عن جواز الصلاة في الثوب الواحد، قال: أو كلكم يجد ثوبين، وقال: غطّ فخذك فإنها عورة. وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: لا تكشف فخذك ولا تنظر إلى فخذ حيّ ولا ميت. وقال: إذا زوج أحدكم عبده من أمته فلا ينظر إلى ما بين سرتها وركبتها فإن ذلك عورة من كل مسلم ونهى النبي صلّى الله عليه وسلّم الرجل عن اشتمال الصماء وهو أن يجعل الثوب على أحد عاتقيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 الكلام في الصلاة روى أبو هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تكلم بالمدينة فبنى، وروى زيد بن أرقم قال: كان الرجل منا يتكلم خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيدخل الداخل فيقول بكم سبقت، حتى أنزل الله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ «1» ، فأمرنا بالسكوت. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين إنما هي قراءة وتسبيح. إعادة الصلاة لمن حضر الجماعة . روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى صلاة الفجر فلما فرغ رأى رجلين خلف الصف فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: كنا قد صلينا في رحالنا فقال إذا جئتما فصليا وإن كنتما قد صليتما تكون الأولى فريضة والثانية سنة. إعادة الصلاة قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة إلا ذلك لقوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي «2» . سجود التلاوة والشّكر قيل: سجدات القرآن أربع عشرة. وقال مالك: ليس في المفصل سجود. وروى أبو هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يسجد في إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ «3» واقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ «4» . وروى عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال صلّى الله عليه وسلّم: في الحج سجدتان فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما. وروى عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سجد فأطال السجود فقال: بشرني جبريل أن من صلّى عليك واحدة صليت عليه عشرا فسجدت هذه السجدة شكرا لله تعالى. الشكّ في الصّلاة قال صلّى الله عليه وسلّم: من شك في صلاته فلم يدر أثلاثا صلّى أم أربعا فليصل أخرى، فإن كانت رابعة فقد تمت صلاته وإن خامسة كانت الركعة والسجدتان ترغيما للشيطان. وروي عنه أنه صلّى الظهر خمسا فلما أن سلم قيل له: أحدث في الصلاة حدث؟ قال وما ذاك؟ فقيل له في ذلك فثنى رجله وسجد سجدتي السهو. المرور بين يدي المصلي والاعتراض بينه وبين القبلة روي أن أبا سعيد كان يصلي فمرّ رجل من آل أبي معيط بين يديه فمنعه، فأبى أن ينتهي، فمنعه فأبى فدفع في صدره. قال ومروان يومئذ على المدينة فشكا إليه، فقال مروان لأبي سعيد: فقال أبو سعيد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا مر بين يدي أحدكم شيء وهو يصلي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 فليمنعه، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان. وإني كنت نهيته فأبى أن ينتهي. وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يصلّي وعائشة معترضة بينه وبين القبلة على الفراش الذي ينامان عليه. وذكر بعد ذلك عند عائشة أنّ الصلاة يقطعها الكلب والحمار والمرأة، فأنكرت ذلك لما كانت تعلم من حالها. وكان صلّى الله عليه وسلّم يحمل أمامة بنت زينب على عاتقة فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها. التوجّه للقبلة قال البراء: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة فصلّى للقدس ستة عشر شهرا أو سبعة وكان صلّى الله عليه وسلّم يحب أن يتوجه نحو القبلة فأنزل الله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ... «1» (الآية) فمرّ رجل من الذين انحرفوا معه للقبلة بقوم من الأنصار يصلون للقدس، فقال: أشهد لقد تحولت القبلة للكعبة، فانحرفوا في صلاتهم نحو الكعبة فقالت اليهود ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فقال تعالى: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ.. «2» الآية وكان صلّى الله عليه وسلّم يصلي على راحلته حيث توجهت فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل. رمي البزاق في الصّلاة رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم نخامة «3» في الصلاة، فشقّ ذلك عليه حتى رؤي في وجهه، فقام فحكه، وقال: إنّ أحدكم إذا قام في صلاته فإنما يناجي ربّه وإن ربّه بينه وبين القبلة فلا يبصقن في قبلته ولكن عن يساره أو تحت قدمه ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه ثم رد بعضه إلى بعضه فقال أو يفعل هكذا. الصلاة خلف كلّ مسلم قال صلّى الله عليه وسلّم: صلوا خلف كل برّ وفاجر. وكان ابن عمر رضي الله عنه يصلّي مع الحجاج فقيل له في ذلك، فقال: إذا دعونا إلى الصلاة أجبناهم وإذا دعونا إلى الشيطان تركناهم. القصر في الصلاة قال الله تعالى: لا عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ «4» وسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما بالنا نقصر وقد أمنا؟ فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم. وروي: أنا سافرنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فمنا من أتم ومنا من قصر فلم يعب بعضنا بعضا. غسل الجمعة وفضله قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنه، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 قرب كبشا، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة. وجوب الجمعة قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن الله فرض عليكم الجمعة في عامكم هذا في شهركم هذا في يومكم هذا إلا من تخلف عنها في حياتي أو بعد وفاتي، ألا لا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره. ألا لا صلاة له، ألا لا زكاة له، ألا لا حج له. وقال: الجمعة واجبة على كل مسلم إلا امرأة أو صبيا أو مملوكا. وقال: من ترك ثلاث جمعات متواليات طبع الله على قلبه. وروى أبو هريرة رضي الله عنه من علم أن الليل يؤوبه إلى أهله فليشهد الجمعة. وقال: إذا جاء أحدكم الجمعة والإمام يخطب فليصلّ ركعتين قبل أن يجلس. النهي عن تأخير الصلاة عن وقتها قال صلّى الله عليه وسلّم: الصلاة في أول الوقت رضوان الله وفي آخر الوقت عفو الله. وقال وكيع: من لم يأخذ أهبة الصلاة قبل وقتها فما وقرها. وقال رجل لابنه وهو مسافر: إياك وتأخير الصلاة عن وقتها فإنك تصليها لا محالة فصلها وهي تقبل. وقام بشر المريسي من مجلس المأمون للصلاة، فقال له علي بن صالح: أتقوم وأمير المؤمنين جالس؟ فقال: هذا وقت ليس لمخلوق فيه طاعة، فقال المأمون: صدق. وكان الحجّاج يخطب فأطال، فقام إليه رجل، فقال: إن الوقت لا ينتظرك والرب لا يعذرك. وقال ثعلب: ما يكاد وقت الصلاة إلا تذكرت قول أبي تمّام: وأحق الفتيان أن يقضي الد ... ين امرؤ كان للإله غريما الحثّ على المحافظة على الصلوات قال الله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى «1» . قيل هي العصر، وقيل هي العشاء. وقال صلّى الله عليه وسلّم: الصلاة عماد الدين. وقال: أقرب ما يكون العبد من ربه وقت صلاته ولذلك أمر بالدعاء في عقبها. وقيل: إذا كان يوم الجمعة بعث إبليس شياطينه إلى الناس بالركائب أي يذكرونهم الحاجات. بركة الصلاة وفضل التهجّد كان صلّى الله عليه وسلّم إذا أصاب أهله خصاصة، أمرهم بالصلاة. ويقول: بهذا أمرني ربي. قال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها «2» لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى «3» وقال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ «4» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 وقال صلّى الله عليه وسلّم: عليكم بقيام الليل فإنه توبة إلى الله وتكفير للسيئات ومنهاة عن الإثم ومطردة للداء عن الجسم. وقال جعفر الخلدي: رأيت الحسن في المنام فقلت ما فعل الله بك؟ فقال: طاحت تلك العبارات وطارت تلك الإشارات وفنيت تلك العلوم ودرست الرسوم فما نفعنا إلا ركيعات كنا نركعها في السحر. وقال يوسف بن أسباط: إذا أخلص الرجل التعبد لله أربعين صباحا أجرى الله على لسانه ينابيع الحكمة. وقال صلّى الله عليه وسلّم: أذيبوا طعامكم بذكر الله والصلاة ولا تناموا عليه فتقسو قلوبكم. وقيل للربيع: لم لا تنام بالليل؟ فقال: أخاف البيات. وحكي عن بعض المتعبدين بمكة أنه افتتح الصلاة ورفع رجلا إلى نصف الليل ثم وضعها ورفع الأخرى إلى الصباح، فقيل له فقال: لسعتني عقرب لما دخلت في الصلاة فرفعت الملسوعة، فلما كان نصف الليل لسعت عقرب الرجل الأخرى فرفعتها ووضعت الأخرى، واستحييت أن أنصرف من بين يدي الله تعالى للسعة عقرب. وقال أبو ذر: صلوا في ظلمة الليل لوحشة القبور وصوموا في شدّة الحرّ لحرّ النشور. التكاسل عن التهجّد قال رجل للنبي صلّى الله عليه وسلّم: لست أقوى على قيام الليل، قال: فلا تعصه بالنهار، أي عجزك بالليل لعصيانك بالنهار. وقال رجل لسليمان: لا أستطيع قيام الليل فقال لعلك تفجر بالنهار. عتب من يخفّف حتى يخلّ بالأركان قال صلّى الله عليه وسلّم: أسوأ الناس سرقة من يسرق من صلاته. ونظر الشبلي إلى رجل يسرع في صلاته فقال له: إنك لتخون، وبعد الخيانة لا تقبل الأمانة. وقال بعضهم: إن الصلاة مكيال فمن وفى وفي له ومن طفف ف وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ «1» . وصلّى رجل صلاة خفيفة ثم قال: اللهم زوجني من الحور العين، فقال أعرابي: بئس الخاطب أنت أعظمت الخطبة وأسأت النقد. ونظر الجماز إلى من يخففها فقال صلاتك رجز فأتى في التشبيه بما هو من صنعته. عذر من صلّى صلاة خفيفة صلّى رجل صلاة خفيفة فقيل له ما هذه الصلاة؟ قال: صلاة ليس فيها رياء. وصلّى بعض العلماء فخفّف وقال: أغالب شيطاني. ورأى أبو حنيفة رجلا يصلّي ولا يركع فقال ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 هذا؟ فقال: إني رجل عظيم البطن فإذا صليت وركعت ضرطت فأيما أحسن. عتب إمام يطيلها قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ رضي الله عنه: أفتان أنت يا معاذ. وقال عثمان بن أبي العاص: آخر ما عهد إلينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا أممت قوما فأخف بهم الصلاة. وقرأ إمام سورة طويلة فعاتبه من كان خلفه، فقال الإمام: قد قرأ أبو بكر البقرة وآل عمران في صلاة الصبح، فقال الرجل: قد رأيت ما فعل أهل الردة من هذا وأشباهه. وأطال إمام الصلاة فلما فرغ عاتبه من كان خلفه فقال: وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين، فقال الرجل: أنا رسول الخاشعين إليك، إنك ثقيل وإنهم لا يقدرون على احتمال بردك. المعيّر بترك الصلاة قال أبو العيناء لابن مكرم: قم وصلّ فقال قد جمعت بينهما، فقال: نعم بالترك. كان بأصبهان رجل يقال له الكناني في أيام أحمد بن عبد العزيز، وكان يتعلم أحمد منه الإمامة فاتفق أن تطلعت عليه أم أحمد يوما وقالت: يا فاعل جعلت ابني رافضيا، فقال الكناني: الرافضة تصلّي كل يوم إحدى وخمسين ركعة وابنك لا يصلي كل أحد وخمسين يوما ركعة. المكره على الصلاة أمر المنصور أبادلالة أن يلازم الصلاة، فقال: ألم تعلموا أن الخليفة لزّني ... بمسجده والقصر مالي وللقصر أصلّيهما كرها على غير نيّة ... فمالي في الأولى ولا العصر من أجر ويحبسني عن مجلس أستلذّه ... أعلّل فيه بالغناء وبالخمر وما ضرّه والله يصلح أمره ... لو أن ذنوب العالمين على ظهري وله: وجفاني الأمير كي أتقرأ ... فتقرأت مكرها لجفائه والذي أنطوى عليه المعاصي ... علم الله نيتي من سمائه وكانت امرأة تكره ابنها على الطهارة والصلاة وهو يأبى، فقال: أرضي بإحداهما فقالت: رضيت بالطهارة. فلما تطهّر قالت له: صلّ فالطهارة بلا صلاة ليست بشيء فضرط وقال: نقضت فنقضنا. طرف من صلاة الأعراب أقام أعرابي فقال: على العمل الصالح قد قامت الفلاح. ثم قام يصلّي فقال: اللهم حسبي ونسبي واردد ضالّتي واحفظ هملي والسلام عليكم. ودخل أعرابي الحضر فقام يصلّي في الصف الأول فقرأ الإمام ألم نهلك الأولين؟ فتأخر إلى الآخر، فقال ثم نتبعهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 الآخرين. فخرج من المسجد يقول: يا ابن الفاعلة أهلكت الفريقين. وصلّى أعرابي مع قوم فلما سجدوا عدا وقال: قد صعق القوم ورب الكعبة. وصلّت أعرابية مع الجماعة فقرأ الإمام: وأنكحوا الأيامى وأرتج عليه، فجعل يرددها، فخرجت الأعرابية إلى أخيها فقالت يا أخي ما زال الإمام يأمرهم بنكاحنا حتى خفت أن يثبوا عليّ المتبجّح بترك الصلاة رؤي أبو نواس وهو يصلي في الجماعة فقيل له: ما هذا؟ فقال أردت أن يرتفع إلى السماء خبر ظريف. وقال السفّاح لأبي دلامة: الصلاة، فقال حتّى تذهب حمياها قال وما حمياها؟ قال: الركعتان الأولتان لأنهما أطول. وقال بعضهم: تعلمت من أحاديث النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاث أحاديث ونصفا الأول إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرحال، الثاني ليس من البر الصيام في السفر، الثالث إذا حضرت الصلاة والعشاء فابدأوا بالعشاء. ونصف الحديث: حبب إليّ من دنياكم ثلاث النساء والطيب، وقد قال وجعلت قرة عيني في الصلاة. المعتذر لتركه الصلاة قال الأصمعي: رأيت أعرابيا في يوم بارد وقد عمد إلى أكمة فكنسها بشملته ثم توجه إلى القبلة، فقال: إليك اعتذاري من صلاتي قاعدا ... على غير طهر مؤمنا نحو قبلة فمالي ببرد الماء يا ربّ طاقة ... ورجلاي لا تقوى على ثني ركبتي ولكنني أحصيه والله جاهدا ... واقضيكه يا ربّ في وجه صيفتي فإن أنا لم أفعل فأنت مسلّط ... بما شئت من صفعي ومن نتف لحيتي وقال ابن طباطبا: وماطلت ربي بالصلاة ولم يزل ... يساهلني ربّي لحسن قضائي المحرّض على ترك الصلاة قال بعض الخاسرين لرجل كان يأتي الصلاة من أربع فراسخ ويكري حمارا بأربعة دراهم: أنت تسير أربعة فراسخ وترجع أربعة وتضيع أربعة، وتغرم أربعة. ونظر بعض المعتزلة إلى رجل مغموم، فسأله فقال: فاتتني ركعة فقال إنما فاتك ما أدركته. وكان بعضهم يتباطأ عن الجمعة فرأى من يستعجل ويقول أخشى أن تفوتني الجمعة فقال: أنا أخشى أن أدركها. صلاة الاستسقاء خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستسقى فقلب رداءه وكان يخطب يوم الجمعة، فدخل رجل المسجد، فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطع النسل فادع الله أن يغيثنا، قال فرفع صلّى الله عليه وسلّم يديه وقال: اللهم أغثنا اللهم أغثنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 قال أنس رضي الله عنه: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت أو دار. فطلعت سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المستقبلة فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله أن يمسكها عنا، فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يديه فقال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الأشجار. وقال: فانقلعت وخرجنا نمشي في الشمس. (9) الزكاة فضل التّصدّق ومدحه في الخبر: الصدقة تطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء. وقال صلّى الله عليه وسلّم: ما تصدق أحد بصدقة إلا وقعت في يد الله قبل أن تقع في يد السائل، ثم قرأ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ «1» . وقال: استنزلوا الرزق بالصدقة. وكان أهل الصفة إذا أمسوا ينطلق الرجل بالرجل والرجلين وسعد بن عبادة ينطلق بثمانين. التداوي بالصدقة قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: الصدقة دواء منجح. وقال عليه الصلاة والسلام: حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، واستقبلوا البلاء بالدعاء. وعاد حاتم الأصم بعض الأغنياء، فلما خرج، بعث إليه بمال، فقال: أهذا كان فعله في الصحة؟ فقيل: لا، فقال: اللهم أدم حاله هذه فإنه صلاح الفقراء. الحثّ على الصدقة بالقليل قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: اتقوا النار ولو بشق تمرة. وقال عليه الصلاة والسلام: لا يمنعكم من معروف صغره. وقال عليه السلام: لا تردوا السائل ولو بظلف محرق أوصلة حبل. وقال عليه السلام: لا تحقروا اللقمة فإنها تعود يوم القيامة كالجبل العظيم. ثم تلا: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ «2» . وقال عليه الصلاة والسلام: مهور الحور العين فلق الخبز وقبصات التمر. وقال صلّى الله عليه وسلّم: على كل مسلم صدقة. قيل: يا رسول الله أرأيت لو لم يجد. قال يعتمل بيده فينفع نفسه ويتصدق. قيل فإن لم يجد، قال: يعين ذا الحاجة الملهوف، قيل فإن لم يستطع، قال يأمر بالمعروف، قيل: فإن لم يستطع، قال: يمسك عن الشر فإن له صدقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 وروي أن عائشة كانت تأكل العنب فتعرضت لها سائلة فأعطتها حبّة، فقيل لها في ذلك، فقالت: إن فيها مثاقيل ذر تعني بذلك قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. الحثّ على إخفاء الصدقة قال الله تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ «1» وقال: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ «2» وقيل: لا خير في المعروف إذا ذكر، ولا في الصدقة إذا نشرت. وقال عليه السلام: ثلاث من كنوز الجنة، كتمان الصدقة والمرض والمصيبة. وقال جعفر بن أبي طالب: حسن الجوار عمارة الدار وصدقة السر مثراة للمال. الحثّ على التصدّق أيام الصّحة جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أي الصدقة أعظم أجرا؟ فقال: أن تتصدق صحيحا تأمل العيش وتخاف الفقر، ولا تمهل حتى إذا كانت في الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا. الحثّ على تطييب الصدقة قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا يقبل الله صلاة بلا طهور ولا صدقة من غلول. وقال الله تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ «3» فلما نزلت هذه الآية قام أبو طلحة فقال: أحب الأموال إليّ بئر ماء والصدقة لله تعالى أرجو ذكرها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال عليه السلام: بخ بخ إن ذلك مال رابح أرى أن تضعه في الأقربين، وقال بعضهم: بنيت بما خنت الإمام سقاية ... فلا شربوا إلا أمرّ من الصّبر فما كنت إلا مثل بائعة إستها ... تعود على المرضى به طلب الأجر من يحبّ أن يتصدّق من غير ماله قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة فإن لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما اكتسب، وللخادم مثل ذلك، ولا ينقص بعضهم أجر بعض. ما يدلّ على وجوب الزكاة قال الله تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ «4» ، وقال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى «5» وقال: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها «6» . وقال تعالى: وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ «7» . وقال تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «1» . وقيل: الكنز هو كل ما لم تؤدّ زكاته بدلالة قوله عليه الصلاة والسلام: ما أدى زكاته فليس بكنز ولما منع الزكاة من منع من العرب. قال عمر لأبي بكر كيف تقاتل؟ وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله، فقال أبو بكر رضي الله عنه من حقّه أداء الزكاة والله لو منعوني عناقا لقاتلتهم على عنقها. من يحب أن تدفع إليه الزكاة ومن لا يجوز دفعها إليه قال الله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ «2» وقال صلّى الله عليه وسلّم: إبدأ بمن تعول. وقال صلّى الله عليه وسلّم: لا تردوا السائل ولو على فرس. وقال عليه السلام: قال رجل لا تصدقنّ بصدقة فخرج بصدقته فوقعت في يد سارق، وتصدق في اليوم الثاني فوقعت في يد زانية، وتصدق في اليوم الثالث فوقعت في يد غني فقيل له في ذلك، فساءه ذلك فأتى في منامه فقيل: إن الله قبل صدقتك فالزانية استعفت بصدقتك وكذلك السارق والغني اعتبر بصدقتك. وقال أبو هريرة: أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: كخ كخ ليطرحها، أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة. وقالت عائشة رضي الله عنها: أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم بلحم فقلنا هذا مما تصدق به على فلانة، فقال: هو لها صدقة وهو لنا هدية. فرض الإبل عن أنس بن مالك رضي الله عنه: بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التي أمر الله بها فمن سئلها على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعطه في أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم، وفي كل خمس شاة فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها ابنة مخاض فإن لم تكن ابنة مخاض، فابن لبون ذكر. وإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون، وإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الفحل، فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها ابنا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقّتان طروقتا الفحل. فإذا زادت على عشرين ومائة، ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة، ومن بلغت صدقته جذعة وعنده حقة، فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إذا استيسر أو عشرين درهما، فإذا بلغت صدقته الحقة وليست عنده حقة وعنده جذعة فإنها تقبل منه الجذعة ويعطيه المتصدق عشرين درهما أو شاتين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 صدقة البقر والغنم روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر معاذا أن يأخذ من ثلاثين تبيعا ومن أربعين مسنة. وروي أنه أتى بدون ذلك فلم يأخذه وقال: لم أسمع من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه شيئا حتى ألقاه فأسأله. فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يقدم معاذ. وقال عليه السلام: ليس في الغنم صدقة حتى تبلغ أربعين، فإذا بلغتها ففيها شاة ولا شيء في زيادتها حتى تبلغ مائة وإحدى وعشرين، فإذا بلغتها ففيها شاتان وليس في زيادتها شيء حتى تبلغ مائتين وشاة، فإذا بلغتها ففيها أربع شياه ثم في كل مائة شاة. وقال عمر رضي الله عنه: اعتد عليهم بالسخلة يروح بها الراعي ولا تأخذها ولا تأخذ الأكولة ولا الربي ولا الماخض ولا فحل الغنم وخذ الجذعة والثنية. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ: إياك وكرائم أموالهم. صدقة الخلّيطين في الحديث لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة. وما كان في الخليطين فإنهما متراجعان بالسوية، معناه لا يفرق بين ثلاثة خلطاء في عشرين ومائة شاة فإنما عليهم شاة وإذا كان لثلاثة كان فيها ثلاث شياه ولا يجمع بين متفرق رجل له مائة شاة ورجل له مائة شاة فإذا تركتا متفرقتين ففيهما شاتان وإذا جمعتا ففيهما ثلاث شياه. فخشية الساعي أن تقل الصدقة وخشية رب المال أن تكثر فأمر كلا. وفي حديثه عليه الصلاة والسلام: لا أخلاط ولا وراط. ومن أحبى فقد أربى وكل مسكر حرام. وجوب الزّكاة في مال اليتيم لا المكاتب قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: اتجروا في مال اليتيم لا تأكله الصدقة. وروى جابر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لا زكاة في مال المكاتب وهو عبد ما لم يؤد كتابته بدلالة قوله صلّى الله عليه وسلّم المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. تعجيل الزكاة روي أن العباس استأذن النبي صلّى الله عليه وسلّم في تعجيل صدقته قبل أن تحل، فأذن له وشكوا خالدا والعبّاس وابن جميل فقال: أما العباس فإنا قد أسلفنا منه صدقة العام والعام المستقبل. وروي أنه عليه الصلاة والسلام استسلف بكرا من الصدقة. ما لا تجب فيه الزكاة قيل: لا تجب في عوامل الإبل صدقة بدلالة قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في سائمة الغنم زكاة، فدلالة خطابه دل أن لا زكاة في علوفتها. وقال عليه السلام: ليس في الكسعة ولا في الجبهة ولا في النحة صدقة. والأفراس عند الشافعي رضي الله عنه لا تحب فيها الزكاة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 وعند أبي حنيفة تلزم في إناثها ويستدل أن عمر رضي الله عنه جمع الصحابة واستشارهم حتى كتبوا إليه في الشأم أن أخرج المصدقين إليها فأوجب في كل فرس دينارا. وروى أصحابه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: في كل فرس سالم دينار وليس في المرابطة شيء. زكاة الحبوب والثّمار قال الله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ «1» وروي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذ الصدقة في الحنطة والشعير والذرة، وقال عليه السلام: فيما سقت السماء العشر. فلم يعتبر أبو حنيفة القدر وأوجب في القليل والكثير. والشافعي خصص هذا الخبر بقوله عليه السلام: ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة فلم يوجب فيما دونها، وأما الخضراوات فقد أوجب أبو حنيفة رحمة الله عليه في جميعها الزكاة، بدلالة قوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ . ومنع من إيجابه الشافعي استدلالا بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: ليس في الخضراوات صدقة. خرص النّخل والكرم قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لليهود حين افتتح خيبر: ما أقركم إلا على أن التمر بيننا وبينكم؟ وكان يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص عليهم ثم يقول: إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي فكانوا يأخذونه. وقال عليه السلام في زكاة الكرم: تخرص كما تخرص النخل ثم يؤدي زكاته زبيبا كما يؤدي زكاة النخل تمرا وقال أبو حنيفة: لا يعتبر الخرص بدلالة ما روى جابر أنه نهى عن الخرص وعن المزابنة وهي بيع الثمار على رؤوس النخل بخرصه تمرا. زكاة الذّهب والفضّة والعرض قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ليس فيما دون مائتي درهم شيء فإذا بلغت مائتي درهم ففيها خمسة دراهم وما زاد فبحسابه. وقال عليه السلام في الرقة ربع العشر، فأما الحلى فقد اختلف فيه. وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لامرأتين معهما حلى: أديا زكاتهما، وأنه قال: في الحلى زكاة. وروي عنه أنه قال: زكاة الحلى إعارتها. وقال حماس: مررت على عمر بن الخطاب وعلى عنقي أدمة أحملها فقال: ألا تؤدي زكاتك يا حماس؟ فقلت: يا أمير المؤمنين مالي غير هذه راهت في القرظ. فقال: ذاك مال فضع فوضعتها بين يديه فوجدها قد وجب فيها الزكاة فأخذها منها. زكاة الفطر روى ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل حر وعبد ذكرا وأنثى من المسلمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 (10) وممّا جاء في الصوم وجوب الصّوم قال الله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ «1» الآية وقال: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ «2» . وقال رجل للنبي صلّى الله عليه وسلّم أخبرني بما فرض الله من الصيام قال: شهر رمضان إلا أن تتطوع. فضل شهر رمضان والصّوم قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر غفر له ما تقدم من ذنبه. وقال صلّى الله عليه وسلّم: إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وأغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين. وقال عليه السلام: يا معشر الشبان من استطاع منكم الباءة «3» فليتزوج فإنه أغضّ للبصر وأعف للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء. وقال ابن عبّاس: ما صام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شهرا كاملا قط غير رمضان وكان يصوم إذا صام حتى يقول القائل لا يفطر، ويفظر حتى يقول القائل لا يصوم. وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: أخبروا النبي صلّى الله عليه وسلّم إني أقول لأصومن النهار ولأقومن الليل ما غشت، فقال عليه السلام: إنك لا تستطيع ذلك، فصم وافطر ونم وقم وصم من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر، فقلت: إني أطيق أكثر من ذلك قال: فصم يوما وأفطر يوما فذلك صيام داود وهو أعدل صيام فقلت إني أطيق أكثر من ذلك فقال عليه السلام: لا أفضل من ذلك. النّيّة في الصوم قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا صيام لمن لم يبيت النية من الليل وروي من لم ينو الصوم قبل الفجر فلا صوم له. وروي أنه بعث إلى أهل العوالي وقد تعالى النهار إن من أكل فليمسك ومن لم يأكل فليصم. وتجوز النية للمتطوع في النهار عند الشافعي واستدل بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل على بعض أزواجه فقال: هل عندكم غداء فقالوا لا، فقال: إني إذا صائم. صوم عاشوراء روى ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بصوم عاشوراء إلى أن فرض رمضان، وروي أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 معاوية دخل المدينة فخطب فقال: أين علماؤكم؟ سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: ما كتب الله عليهم صيامه فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر. نفع الصوم وثوابه سئل أبو عبد الله بن الحسين رضي الله تعالى عنه عن الصوم لم أوجبه الله تعالى؟ فقال: ليجد الغني الجوع فيعود بالفضل على الفقير وعن ابن مسعود رضي الله عنه: للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. وحدّث مجاهد: أيما رجل أكل عنده وهو صائم صلت عليه الملائكة ما دام ذلك الطعام يؤكل عنده. وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا يصوم العبد يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه من النار خريفا. رؤية هلال رمضان قال صلّى الله عليه وسلّم: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم الهلال فعدوا ثلاثين. وقال ابن عمر رضي الله عنهما: تراءينا الهلال فرأيته فأخبرته صلّى الله عليه وسلّم فصام وأمر الناس بالصيام. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: تراءينا الهلال على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجاء أعرابي فشهد عنده أنه رأى الهلال، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أتشهد أن لا إله إلا الله وتمامه، فقال: نعم، فقال: يا بلال ناد في الناس أن يصوموا غدا. وفي خبر آخر: لأن أصوم يوما من شعبان أحب إليّ من أن أفطر يوما من رمضان وروي أنه كان يقبل في هلال رمضان شهادة الواحد ولا يقبل في شهادة شوال إلا عدلين. وأتى رجل في زمن عمر رضي الله عنه فشهد أنه رأى الهلال فقال: بأي عينيك رأيت الهلال؟ قال بشرهما وهي الباقية لأن الأخرى ذهبت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في بعض غزواته، فأجاز شهادته. كراهة رؤيته نظر مخنث إلى قمر رمضان فقال أرانيك الله بالسل، فأخذه ابن المعتز فقال: يا قمرا قد صار مثل الهلال ... من بعد ما صيّرني كالخلال الحمد لله الذي لم أمت ... حتّى أرانيك بداء السلال وطلبوا يوما هلال رمضان فقال لهم أبو مهدية: كفوا فما طلب أحد عيبا إلا وجده. وصعد قوم لطلب هلال رمضان فلم يروه فلما أرادوا الانصراف رآه صبي فآراه القوم فقال له بعضهم: بشر أمك بالجوع المضني. وقيل لرجل: أما تنظر إلى الهلال فقال: ما أصنع به؟ محل دين ومقرب حين ومؤذن بالجوع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 ما يستحب للصائم تجنّبه قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: الصيام جنة فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم. وقال صلّى الله عليه وسلّم: من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فلا حاجة لله أن يدع طعامه وشرابه. وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقبّل وهو صائم ويباشر وهو صائم وكان أملككم لإربه. ما يفسد الصوم والكافرة المتعلّقة بإفطاره والرّخصة فيه قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: من ذرعه القيء لم يقض، ومن استقاء عامدا فليقض. وروي أن أعرابيا جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: هلكت وأهلكت فقال ما أهلكك؟ قال: واقعت امرأتي في نهار رمضان وأنا صائم، فقال: أعتق رقبة، فقال: لا أستطيع، فقال: صم شهرين متتابعين. قال: لا أستطيع، قال فأطعم ستين مسكينا. قال: لا أستطيع. فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم بعرق من تمر فيه ثلاثون صاعا فقال: تصدّق به، فقال: ليس بين لابتيها أحوج إليه منّي فقال صلّى الله عليه وسلّم: كله أنت وعيالك. وقال: من أكل أو شرب في نهار رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة، وقال الله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ «1» . وقال صلّى الله عليه وسلّم في المرضع: إذا خافت على ولدها أفطرت ولزمها نصف صاع. وروى بعضهم إذا سافرنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر فلا يعير المفطر على الصائم ولا الصائم على المفطر. ما يفعل عن نسيان في الصوم مما ينافيه قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه. ومن النوادر في ذلك ما روي أن أبا هريرة أتاه رجل فقال: دخلت دارا فأطعموني ولم أدر فقال: الله أطعمك وسقاك، قال: ثم دخلت داري فجامعت، فقال ليس هذا فعل من تعوّد الصيام. وسئل عكرمة عن القبلة للصائم فقال هي كالخبز إذا وضعته على فمك. الوقت المنهى عن الصوم فيه نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن صوم يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق. وقال أيضا: ليس من البر الصيام في السفر. وقال: من صام في السفر فلا صام ولا أفطر. وهذا على مذهب الإمام أبي حنيفة، فأما الشافعي فمذهبه أنه مخير بين أن يصوم أو يفطر. وروي أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أصوم في السفر، فقال: إن شئت فصم وإن شئت فافطر. وقال أنس رضي الله تعالى عنه: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 يوم الجمعة فلا أكلم أحدا، فقال: لا تصم يوم الجمعة إلا في أيام هو أحدها أو في شهر، ولأن تتكلم تأمر بمعروف وتنهى عن منكر خير من أن تسكت. النهي عن المواصلة قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا تواصلوا، قالوا: إنك لتواصل. قال: إني لست كأحد منكم إني أطعم وأسقي. إباحة الأكل والجماع في ليالي الصوم كان أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا كان أحدهم صائما فنام قبل أن يفطر لم يأكل إلى مثلها. وإن قيس بن صرمة كان صائما وكان يومه ذاك يعمل في أرضه، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال: هل عندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك. فغلبته عيناه فنام فجاءته امرأته فلّما رأته قالت: قد نمت، وذكر للنبي صلّى الله عليه وسلّم فنزل قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ «1» إلى قوله: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ... «2» الآية. وقال عدي بن حاتم: لما نزلت هذه الآية عمدت إلى عقالين أحدهما أسود والآخر أبيض فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر إليهما، فلما تبين لي الأبيض من الأسود تركت الأكل، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته فقال: إن كان وسادك لعريضا إنما ذاك بياض النهار وسواد الليل. وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: من أصبح جنبا أفطر ذلك النهار. فسألت عائشة عن ذلك فقالت: ليس كما قال: أشهد أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم إن كان ليصبح جنبا من جماع غير احتلام، ثم يصوم ذلك اليوم، ثم سئلت أم سلمة فقالت كقول عائشة، فلما رجع أبو هريرة قال: لا علم لي إنما أخبرنيه مخبر. وبعض الأخبار أنه قال أخبرنيه الفضل بن العباس. ما يتّقوّى به على الصوم قيل لرجل: كيف تقدر على الصوم في هذا الحر؟ فقال: من عرف قدر ما يسأله هان عليه ما يبذله. وقيل: قوام الصوم بثلاث من أطاقهن فقد ضبط الصوم: من تسحر وقال وأكل قبل أن يشرب وقيل: لا يقوى على الصوم إلا من كبر لقمه وطاب أدمه. التسحّر والإفطار في الخبر: من السنّة تعجيل الإفطار وتأخير السحور. وقال صلّى الله عليه وسلّم: لا تزال الناس بخير ما عجلوا الفطر. وقال أيضا: تسحروا فإن في السحور بركة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 الرّخصة في الإفطار عن التطوّع روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آخى بين سلمان وأبي الدرداء. فرأى سلمان امرأة أبي الدرداء صيدلة، فقال لها: ما شأنك؟ فقالت: إن أخاك أبا الدرداء يقوم بالليل ويصوم بالنهار وليس له في شيء من الدنيا حاجة، فجاء أبا الدرداء فرحب به وقرب إليه طعاما فقال له سلمان: أطعمه قال: إني صائم قال: أقسمت عليك لتفطرن، فقال ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل معه. ثم بات عنده فلما كان من الليل أراد أبو الدرداء أن يقوم فسمعه سلمان فقال إن لجسدك عليك حقا، ولربك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، صم وافطر وصل وأت أهلك، وأعط كل ذي حق حقه. فلما كان وجه الصبح قال له: قم الآن إن شئت فقام وتوضأ ثم ركعا وخرجا إلى الصلاة، فدنا أبو الدرداء ليخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالذي أمره سلمان، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا أبا الدرداء إن لجسدك عليك حقا على ما قال سلمان. المسّرة بإتيان الصوم قال شاعر: جاء الصيام فجاء الخير أجمعه ... ترتيل ذكر وتحميد وتسبيح فالنفس تدأب في قول وفي عمل ... صوم النّهار وبالليل التراويح أدعية الصّوم كان صلّى الله عليه وسلّم يقول في شهر رمضان. اللهم سلمه لنا وتسلمه منا. وكان الربيع بن خيثم يقول: الحمد لله الذي أعانني فصمت ورزقني فأفطرت. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت. التبرّم بالصوم في غير رمضان . قيل لأعرابي: ألا تصوم البيض؟ قال: دعني منها فبين يديها ثلاثون كأنها القباطي. وقيل لزيد: صوم يوم عرفة يعدل صوم سنة فصام إلى الظهر وقال يكفيني ستة أشهر فيها رمضان. التبرّم بشهر رمضان أسلم مجوسي فأطلّ عليه شهر رمضان فعجز عن الصوم. فقيل له: كيف ترى الإسلام فقال: وجدنا دينكم سهلا علينا ... شرائعه سوى شهر الصيام وقال ابن الرومي: شهر الصيام وإن عظمت حرمته ... شهر ثقيل بطيء السير والحركة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 يا صدق من قال أيام مباركة ... إن كان يكنى عن إسم الطول بالبركة وقال آخر: الغوث من شهر الصيام ... إذا صار لي مثل اللجام ما إن أمتّع بالطعا ... م وبالمدام وبالغلام وقال بعض الكتاب: ثقل الصوم علينا ... أثقل الله عليه زارني بالأمس خلّ ... كنت مشتاقا إليه فمضى لم أقض منه ... حاجة كانت لديه المسّرة بانقضاء شهر رمضان قال أبو علي البصير: أقول لصاحبي وقد بدا لي ... هلال الفطر من خلل الغمام غدا نغدو إلى ما قد ظمئنا ... إليه من المدامة والغلام ونسكر سكرة شنعاء جهرا ... وننقر في قفا شهر الصيام وقال أبو نواس: منّ شوال علينا ... وحقيق بامتنان جاء بالقصف وبالعز ... ف وتغريد القيان «1» أوفى الأشه ... ر لي أبعدها من رمضان وقال السريّ: تصرّم شهر الصوم شهر الزلازل ... وشال به شوال شهر الفضائل ولاح هلال الفجر نضوا كأنه ... سنان لواه الطعن في رأس عامل ودارت علينا الراح بين أهلّة ... تضيء وأغصان رطاب موائل «2» فرحنا وفي أجسامنا سحر بابل ... يدبّ وفي أيمانا خمر بابل التجاسر على ركوب المعاصي في رمضان حكى بعض الناس أن ديك الجن رآه يوما في شهر رمضان. فقال له: هل لك في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 سكباجة وشواء حنيذ وخمر صافية وغلام غرير يلهينا، فقلت: أفي هذا الوقت؟ فقال: أي والله، فأزريت به وأعرضت عنه، فقال: وحياة ظبي لم أصم عن ذكره ... إلا عضضت تندما إبهامي لا شافهنّ من الذنوب عظامها ... ينقد عنها جلد كلّ صيام قال الخبزارزي: أرى لي في شهر الصيام إذا أتى ... ليالي عيار وأيام عابد «1» أناس بعلات الصيام تفرّجوا ... وكانت أمور باعتلال المساجد صام أعرابي رمضان فلما اشتد به أفطر فقالت ابنته: ألا تصوم يا أبت؟ فقال: أتأمرني بالصوم لا درّ درّها ... وفي القبر صوم يا أميم طويل وقال: طال ما عذبنا الصو ... م وقراء المصاحف نوادر تارك صوم رمضان قدم أعرابي إلى الوالي، فقيل له: إنه أفطر رمضان، فقال الأعرابي: إن الله يعلم أني صائم ولكني وجدت حماوة فؤادي فأردت أن أفثأها بشربة. وأسلم مجوسي يقال له مرزبان فأظله رمضان حار، فعجز عن الصوم فتناول خبزا واستتر في بيت يأكله، فرآه بعض أصحابه فقال له: من أنت؟ قال: أنا مرزبان آكل خبز نفسي من شؤمي في خفية. وقيل في مجلس عضد الدولة: إن الشيعة تعقد الصوم قبل وجوبه بيوم، وتخرج منه قبل رؤية الهلال بيوم. وأهل السنة يعقدونه برؤية الهلال ويفارقونه. فقال: إنا نتسانن عند الدخول فيه ونتشيع عند الخروج منه ليحصل لنا يومان يوم من أوله ويوم من آخره. الإعتكاف قال الله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ «2» . وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يعتكف في العشر الأواخر. وقال: التمسوها في العشر الأواخر يعني ليلة القدر. وكان إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد المئزر. وقال عمر: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن اعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال عليه السلام: أوف بنذرك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 (11) وممّا جاء في الحجّ والعمرة وجوب الحج والعمرة قال الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا «1» وقال صلّى الله عليه وسلّم: الإستطاعة الزاد والراحلة. وقيل: لما أهبط آدم إلى الأرض أمره الله تعالى بحج البيت. وفي رواية أن الملائكة لقيت آدم بمكة عند باب زمزم فهنأنه على ذلك، وقالت له: يا آدم برّ حجك، فلقد حججناه قبلك بألفي عام. ثم أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام بالآذان بالحج فقال: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ «2» الآية. فقال إبراهيم وأين يبلغ ندائي؟ فقال الله تعالى: عليك النداء وعلينا الإبلاغ فوقف إبراهيم على أبي قبيس أو بين البيت والمقام، فنادى فأجابه من في أصلاب الرجال وأرحام النساء. وقال تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ «3» وقال صلّى الله عليه وسلّم: من وجد زادا وراحلة وأمكنه الحج ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا. وقال: حجوا قبل أن لا تحجوا. وقال: حجة مبرورة لا ثواب لها إلا الجنة. وقال: علامة الحجة المبرورة أن يكون صاحبها بعدها خيرا منه قبلها. وقال: الحج والعمرة فريضتان. فضل الحج قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: من مات في هذا الطريق جائيا أو ذاهبا لقيه الله تعالى يوم القيامة ولم يحاسبه وأدخله الجنة. وقال: ما من أحد جاء يؤم البيت العتيق فركب بعيره ألا لم يرفع البعير خفا إلا كتبت له به حسنة ومحيت عنه سيئة. وقال: من حج هذا البيت أو اعتمر فلم يرفث ولم يفسق كان كمن ولدته أمه. وقال: من حجّ وعليه دين قضى الله دينه. واستأذن رجل الجنيد في الحجّ فقال: جرّد قلبك من اللهو ونفسك من السهو ولسانك من اللغو. فضيلة العمرة قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: العمرة إلى العمرة كفّارة ما بينهما. وقال: عمرة في رمضان تعدل حجة. وقال ابن عبّاس: كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفر. ويقولون إذا وبر الوبر وعفا الأثر وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 فلما قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم صبيحة رابع مهل ذي الحجة، أمرهم أن يحلوا، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله أي الحل؟ قال: الحل كله وقال أيضا: لولا أني سقت الهدى لفعلت مثل الذي أمرتكم ولكن لا أتحلل من حرام حتى يبلغ الهدي «1» محله. النيابة في الحج ّ روي أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله إن فريضة الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع إن يستمسك على راحلته، فهل ترى أن أحج عنه؟ فقال: نعم، قالت: أفينفعه ذلك، قال: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أما كان ينفعه؟ قالت: نعم فقال صلّى الله عليه وسلّم: ودين الله أحق أن يقضى. وروى ابن عباس: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سمع رجلا يلبي عن شبرمة فقال: ومن شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب لي، قال: وهل حججت عن نفسك؟ قال: لا قال: هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمتك. كيفيّة حجّة النّبي صلّى الله عليه وسلّم اختلفت الصحابة في حجّ النبي صلّى الله عليه وسلّم فمنهم من قال أفرد، ومنهم من قال قرن، ومنهم من قال تمتّع. والصحيح هو الأول عند الشافعي رضي الله تعالى عنه لما روى جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مكث تسع سنين لم يحجج، ثم أذن في الناس بالحج، فخرج وأحرم صلّى الله عليه وسلّم ينتظر القضاء، ولم ينو أحد بهما فلما دخلنا مكة وسعينا بين الصفا والمروة نزل عليه القضاء بأن من ساق الهدى فليقم على إحرامه، ومن لم يسق فليجعلها عمرة. وروى أنس رضي الله عنه أنه قرن، فقال نافع: دخلت على ابن عمر فأخبرته بما قال فقال: رحم الله أنسا، إن أنسا كان يتولج على النساء متكشفات الرؤوس لصغره في ذلك الوقت وأنا كنت تحت ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصيبني لغامها أسمعه يلبّي بالحج، وقال صلّى الله عليه وسلّم: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة. الإهلال بالحجّ وتقبيل الحجر والوقوف بعرفة جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما بر الحج قال: العج والثج، فالعج الإهلال والثج النحر، وقال صلّى الله عليه وسلّم إن الله يحب الشعث الغبر والثجاج والعجاج. وكان عمرو بن معد يكرب يقول: الحمد لله لقد رأيتنا من قريب ونحن إذا حججنا نقول: لبيك تعظيما إليك عمرا ... نغدو بها مضمرات شزرا «2» قد تركوا الأوثان خلوا صفرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 ونحن نقول اليوم كما علمنا النبي صلّى الله عليه وسلّم: لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. وأتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحجر فقبله وقال: إني أعلم أنك حجر أسود لا تضرّ ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقبلك ما قبلتك. وقال عروة بن مضرس رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يجمع فقلت: يا رسول الله إني جئت من جبلي طيء، لم أدع جبلا إلا وقفت عليه فهل لي من حج فقال صلّى الله عليه وسلّم: من صلّى هذه الصلاة معنا وقد وقف قبل ذلك بعرفة من ليل أو نهار فقد تم حجه وقضى تفثه «1» . دخول البيت والخروج منه لا يجوز لأحد دخول الحرم إلا محرما إلا الحطابين والرعاة، وحرّم على المشركين دخول الحرم. وقال البراء: كانت الأنصار إذا حجوا فرجعوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها فجاء رجلا فدخل من بابه فقيل له في ذلك فنزلت هذه الآية: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها «2» . السّعي والطواف قال عروة: قلت لعائشة رضي الله عنها أرأيت قول الله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ «3» (الآية) ما على أحد جناح أن لا يطوف بهما قالت: بئسما قلت، يا ابن أختي، لأنها لو كانت على ما أولتها عليه لكانت أن لا يطوف بهما ولكنما أنزلت هذه الآية إن هذا الحي من الأنصار كانوا قبل أن أسلموا يتحرجون أن يطوفوا بالصفا والمروة فلما أسلموا سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله هذه الآية، ولما قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وقد وهنتهم حمى يثرب، فقال المشركون: قدم عليكم قوم قد وهنتهم الحمى فقعد لهم المشركون فأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يرملوا ثلاثة فصار ذلك سنة. ما يجب للمحرّم تجنّبه قال الله تعالى: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ «4» ورأى النبي صلّى الله عليه وسلّم أعرابيا متضمخا بالحلوق فقال صلّى الله عليه وسلّم: إنزع الجبة واغسل الصفرة، وكان صلّى الله عليه وسلّم يتطيب لإحرامه. وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى النساء عن القفازين والنقاب ومس الورس والزعفران. وقال صلّى الله عليه وسلّم: لا ينكح المحرم ولا ينكح. وحرم الله تعالى الصيد على المحرم في حال الإحرام، وأوجب فيه كفارة فقال تعالى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ «5» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 الرّمي والحلق روى ابن عباس قال: قدمنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة المزدلفة أغيلمة بني المطلب على جمرات العقبة، وجعل يلطح أفخاذنا ويقول: أبنيّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس. وقال ابن عمر: وقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمنى في حجة الوداع للناس يسألونه، فجاءه رجل فقال: يا رسول الله نحرت قبل أن أرمي، فقال: إرم ولا حرج. قال: فما سئل يومئذ عن شيء قدم أو أخر إلا قال إفعل ولا حرج. حرم مكة والمدينة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من قطع شجرة من الحرم صوّب الله رأسه في جهنم. وقال يوم فتح مكة: إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا ينفر صيده ولا يعضد شوكة ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلي خلاه ولا يحل فيه القتال لأحد من بعدي. ولم يحلل إلا ساعة من نهار. وقال صلّى الله عليه وسلّم: صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة فيما سواه. وقال عليه الصلاة والسلام: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدكم هذا والمسجد الأقصى. وحرم ما بين لأبتي المدينة ونهى عن الصيد فيه. وقال: من أخذ رجلا يصيد فيه فله سلبه وسلب سعد بن أبي وقاص. من رآه يصيد في حرم المدينة فكلموه فيه، فقال: لا أرد عليكم طعمة أطعمنيها الله، ولكن إن شئتم أعطيتكم ثمن سلبه. زيارة قبره صلّى الله عليه وسلّم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن مات في أحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة. وقال: من صلّى عليّ عند قبري سمعته ومن صلّى عليّ من البعد سمعته. إباحة المبايعة وكراهتها للحجّاج قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان ذو المجان وعكاظ متجر الناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ «1» . وقالوا: ما حج ولكن دج أي خرج للتجارة، وقيل فلان حاج أو داج. وقال الفضيل رحمه الله: وضعت مكة للعبادة والتوبة والحج والعمرة والزهادة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 وأعمال الآخرة ولم توضع للتجارة، ولا يغرنّك أقوام اتخذوا فيها حوانيت ويقولون نحن مجاورون وقد أعياهم الكسب في بلادهم فصاروا فيها تجارا، كذبوا ما هم بمجاورين إنما المجاور من هو مقيم بها للعبادة وعمل الآخرة، فينفق من فضل الله ما آتاه لله ولا يكسب فيها ولا يشغل نفسه بالكسب فيها، ولأن ترجع إلى بلدك فتشتري به وتبيع وتحج في كل عشرين سنة أحب إليّ من أن تكون مقيما بمكة تحج وتعتمر كل سنة وتبيع وتشتري فيها. دخول البادية بلا راحلة ولا زاد قال علي بن الموفق، وكان من كبار الصوفية متحققا مجتهدا: حججت ستين سنة فكنت سنة في محملي، فرأيت رجالة، فأحببت أن أمشي معهم، فنزلت ومشيت وتقدمت الناس ثم عدلنا إلى الطريق فنمت فرأيت في المنام جواري لم أر كحسنهنّ، معهنّ طسوت من ذهب وأباريق، فأقبلن على أولئك المشاة يغسلن أرجلهن حتى بقيت فأرادت واحدة أن تغسل رجلي، فقالت لها أخرى: ليس ذا منهم، هذا له محمل. فقالت: بلى أحبّ أن يماشيهم فغسلت رجلي فذهب عنّي كل تعب. وسئل الجلاء عن رجال يدخلون البادية بلا زاد فقال: هم رجال الحق. قيل: فإن هلك أحدهم قال: الدية على العاقلة. وقال بنان الحمال: دخلت بادية تبوك فاستوحشت، فهتف بي هاتف نقضت العهد تستوحش. أليس الحبيب معك؟ وقيل لبعضهم: أتدخل البادية بلا زاد؟ فقال: إن معي زادي وهو التقوى، أليس الله يقول: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى. وأما الفقهاء فقد كرهوا ذلك لقول الله تعالى ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة. يوم النحر وقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين الجمرتين بمنى في الحجة التي حج، وذلك يوم النحر، فقال: هذا يوم الحج الأكبر. وقال صلّى الله عليه وسلّم: أفضل الأيام عند الله تعالى يوم النحر. الأضحية روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ضحّى بكبشين أملحين أقرنين، يهلل ويكبر ويسمّي، وقال: البدنة عن سبعة. والبقرة عن سبعة. وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: أمرنا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن نستشرف العين والأذن ولا نضحي بعوراء ولا مقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء، فالمقابلة التي يقطع طرف أذنها والشرقاء التي تشق أذنها. والخرقاء التي تخرق أذنها ونهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن المصفرة والمستأصلة والبخقاء والمشيعة، فالمصفرة التي تستأصل أذنها حتى يبدو صماخها، والمستأصلة المقدودة من أصلها والبخقاء التي تبخق عينها والمشيعة التي لا تزال تتبع الغنم عجفا وضعفا والكسراء الكسيرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 من تعاطى الخسارة بعلّة الحجّ قال أبو علي البصير: أتينا بعدكم مك ... ة حجّاجا وعمّارا فلما شارف الحير ... ة حادي إبل حارا فقلت أحطط بها الرحلا ... ولم أحفل بمن سارا وجدّدنا عهودا ... أخلقت منّا وآثارا فصادفنا بها ديرا ... وبستانا وخمّارا وظبيا عاقدا بين الن ... قا والخصر زنّارا إذا جاذبته حارا ... وإن حاكمته جارا كشفنا لك أخبارا ... ودامجناك أخبارا وقال أبو نواس: ألم ترني وموسى قد حججنا ... وكان الحجّ من خير التجارة فآب الناس قد برّوا وحجّوا ... وأبنا موقرين من الخسارة (12) وممّا جاء في الأدعية الحثّ على الإستغفار قال الله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وقال تعالى: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً «1» وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «2» وقال صلّى الله عليه وسلّم: أفصلوا بين حديثكم بالاستغفار، وقال: الإستغفار ممحاة للذنوب. وقال: لكل داء دواء ودواء الذنوب الإستغفار. وقال مالك بن أنس: كنا عند جعفر بن محمد فدخل سفيان الثوري فقال له: حدثني رحمك الله فقال: يا أبا عبد الله قد أكثرت من الحديث وكثرة الحديث تخبل. أعلمك ثلاثا هن خير لك من مال كثير. يا سفيان إذا أنعم الله عليك نعمة فأكثر من الحمد لله فإن الله تعالى يقول: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ «3» ، وإذا قلّت نفقتك فعليك بالإستغفار، فإنه يزيدك من المال والولد والنعمة. قال الله تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ «4» وإذا اشتد بك كرب فعليك بلا حول ولا قوّة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 الجنة فجعل سفيان يقولها ويعدها في يده ثلاثا وأي ثلاث، فقال جعفر: قد والله عقلها وفهمها. الحثّ على حفظ معنى الإستغفار ومراعاته دون التّفوّه به قال أبو عبد الرحمن المقري: سمعني سوار الراهب وأنا أستغفر الله. فقال لي: يا فتى، سرعة اللسان بالإستغفار توبة الكذابين. وقالت رابعة: أستغفر الله من قلّة صدقي في قولي أستغفر الله وقيل من قدم الإستغفار على الندم كان مستدعيا. الحثّ على الأدعية وإنها متضمّنة للإجابة قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: من أعطي أربعا أعطى أربعا. وهي في كتاب الله من أعطى الذكر ذكره الله لقوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ «1» . ومن أعطي الدعاء أعطى الإجابة لقوله تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «2» . ومن أعطى الشكر أعطي الزيادة لقوله تعالى: ولَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ «3» ومن أعطى الإستغفار أعطي المغفرة لقوله تعالى: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً «4» . وقال صلّى الله عليه وسلّم: حصنوا أموالكم بالزكاة وادفعوا البلاء بالدعاء. الحثّ على فعل ما يقتضي إجابة الدعاء قال بعضهم: لا تستبطئ الإجابة من دعائك وقد سددت طريقه بالذنوب. وقيل لمالك بن دينار: ادع الله لفلان المحبوس. فقال: مثل محبوسكم مثل شاة غدت إلى عجين فقير فأكلته فاتخمت، فصاحبها يقول: اللهم سلمها. وصاحب العجين يقول: اللهم أهلكها، ولا ينفع دعاء صاحبها مع دعاء المظلوم، فقولوا لصاحبكم يرد إلى كل ذي حق حقه، فإنه لا يحتاج إلى دعائي حينئذ قال طاوس: يكفي من الدعاء مع الورع ما يكفي العجين من الملح. وقيل: ثلاثة لا يستجاب لهم دعوة رجل كانت له امرأة يدعو عليها، فيقول: ألم أجعل أمرها بيدك، ورجل جالس في بيته يقول اللهم ارزقني، فيقول: ألم آمرك بالطلب، ورجل له مال فأفسده ثم يقول إخلفه لي، فيقول: ألم آمرك بإصلاح المال. ورأى أعرابي ظالما يدعو فقال: يا هذا إنما يستجاب لمظلوم أو لمؤمن ولست بأحدهما وإنّي أراك تخف لديك العيوب وتخفى عليك الغيوب. مدح الإستغفار بالأصابع قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم، وإذا استعذتموه فاستعيذوا بظاهرها. وقالت عائشة رضي الله عنها: استغفروا الله بأصابعكم التي كسبتم بها الذنوب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 وفي بعض التفاسير فما استكانوا لربهم وما يتضرعون، قالوا: ما دعوه وما رفعوا أيديهم ولم يبسطوا راحتهم ولا حركوا أصابعهم. ولما صاف قتيبة الترك وهاله أمرهم سأل عن محمد بن واسع فقالوا: ها هو ذا في أقصى الميمنة جانحا على سية قوسه، يبصبص بأصابعه نحو السماء فقال قتيبة: تلك الأصابع الفاردة أحب إليّ من مائة ألف سيف شهير وسنان طرير. ذمّ رفع اليدين واستعمال السبّحة رأى شريح رجلا يدعو ربه رافعا يديه إلى السماء فقال له: غض بصرك وكف يديك فإنك لن تراه ولن تناله. ومرّ عمر بن عبد العزيز برجل يسبح بالحصى فإذا بلغ المائة عزل حصاة، فقال له: ألق الحصى وأخلص الدعاء. شكر الله تعالى على نعمه قال الله تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ «1» وقال الحسن في قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ «2» قال: ينسى النعم ويذكر المصائب. وقالت هند بنت المهلب: إذا رأيتم النعيم مستدرا فبادروه بالشكر قبل الزوال. إلهي قد أوليتني منائح تعيد باع الحمد قصيرا وترد لسان الشكر حسيرا، فأجرني ما عودتني وأنجز أفضل ما وعدتني، إلهي لك الحمد على النعم. ما اختلفت يمين وشمال ولك الشكر ما هبت جنوب وشمال. وقال بعضهم اللهم إنك تعرف عجزي عن الشكر فاشكر نفسك عني. الدعاء بإزالة الخوف والبلاء المخوف حكي عن سيد بن داوود قال: رأيت عفان بن مسلم يمضي به ليمتحن فقلت له: قف يا شيخ أعطك كلمات فإنك لن ترى إلّا خيرا، قل حسبي الله ونعم الوكيل فإن الله تعالى يقول: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ «3» وقل: وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد فإنه يقول فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا «4» وقل: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله. قال عفان فقلتها فما رأيت إلا خيرا. ويروى أن رجلا أخافه عبد الملك فهرب منه فلقيه شيخ وسيم بأرض فلاة فقال ما قصتك؟ قال: خائف. قال: ومن أخافك؟ قال: عبد الملك، قال: فأين أنت عن السبع؟ فقال: لا أعرفها. فقال: قل سبحان الواحد الذي ليس غيره إله، سبحان الدائم الذي لا يعاد له شيء، سبحان الذي خلق ما يرى وما لا يرى سبحان الذي علم كل شيء بغير تعلم. قال: فقلتها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 فألقى الله تعالى في قلبي الأمن فأتيته، فلما مثلت بين يديه، قال لي: أف تعلمت السحر؟ قلت: لا ولكن من قصتي. كيت وكيت. فكتبه عني وأمنني وأجرى لي رزقي. من سأل الله أن يوفّقه للشّكر والصبر قال أعرابي أبطأ عنه ابنه فخافه: اللهم إن كنت أنزلت به فأنزل معه صبرا، وإن كنت وهبت له عافية فأفرغ عليه شكرا اللهم إن كان عذابا فاصرفه وإن كان صلاحا فزد فيه، وهب لنا الصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء. التعوّذ من الفقر والإستدعاء للرزق قال بعضهم في بعض مواقف الحج: اللهم لا تعينني بطلب ما لم تقدر لي، وما قدرته فاجعله ميسرا سهلا، وكافئ عني أبوي وكل ذي نعمة عليّ. وقال سعيد بن المسيب: كنت جالسا عند القبر والمنبر فسمعت قائلا ولم أر شخصا اللهم إني أسألك بارا ورزقا دارا وعيشا قارا، اللهم لا تجعل بيننا وبينك في الرزق أحدا سواك، اللهم إن كان رزقي في السماء فأنزله، وإن كان في الأرض فيسره، وإن كان قليلا فثمّره وإن كان يسيرا فكثّره، أعوذ بالله من القنوع والخضوع والخنوع. اللهم اجعلني أفقر خلقك إليك وأغناهم بك، اللهم اجعل لي رزقا واسعا واجعلني به قانعا. وقال قيس بن سعد: اللهم إرزقني مجدا وحمدا فلا حمدا إلا بفعال ولا مجدا إلا بمال، اللهم إنّي أعوذ بك من فقر مكب وضروع إلى غير محب. من فزع إلى الله في أن يوفّقه لمصلحة في كسبه وإنفاقه اللهم أحجبني عن السرف وقوّمني بالاقتصاد، وعلّمني حسن التقدير وأجر من أسباب الحلال رزقي، ووجه في أبواب البر نفقتي، واجعل ما خولتني من عطائك وصلة إلى قربك وذريعة إلى جنتك، اللهم هب لنا غنى لا يطغينا، وصحة لا تلهينا، وأعذنا من فقر ينسينا. وكان جعفر يقول: اللهم أرزقني التفضل على من قترت عليه مما وسعته عليّ، اللهم أغنني عمن أغنيته عني وسهلني لمن أحوجته إليّ واجعلني لأنعمك من الشاكرين. من استعاذ بالله يقيه من آفات ونوب حضرها اللهم إنّا نعوذ بك من هيجان الحرص، وسورة الغضب، وغلبة الحسد، وضعف الصبر، وقلّة القناعة، وإلحاح الشهوة، ومخالفة الهدى، وسنة الغفلة، وتعاطي الكلفة، وإيثار الباطل على الحق، والإصرار على المأثم، واستكثار الطاعة، والإزراء على المقلّين وسوء الولاية لما تحت أيدينا، وترك الشكر لمن اصطنع العازفة «1» عندنا، وأن نعضد ظالما أو نخذل ملهوفا أو نروم ما ليس لنا بحق، أو نقول في العلم بغير علم، ونعوذ بك من سوء السيرة وإحصاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 الصغيرة، ونعوذ بك من شماتة الأعداء ومن الفقر إلى غير الأكفاء، ومن عيشة في شدّة وميتة على غير عدة، ومن سوء المآب وحرمان الثواب وحلول العقاب. ودعا أعرابي فقال: اللهم إنّي أعوذ بك من الفاجر وجدواه، والسفيه وعدواه، وذي الرحم ودعواه، ومن عمل لا ترضاه. اللهم أمتعنا بخيارنا وأعنّا على شرارنا واجعل المال في سمحائنا. ودعا أعرابي فقال: اللهم إني أعوذ بك من عضال الداء، وخيبة الرجاء، وشماتة الأعداء، وزوال النعمة، وفجاءة النقمة. من سأل الله العافية اللهم إني أعوذ بك مما يقلق قلب الصديق ويضحك سن العدو، اللهم أسترنا بستورك الحصينة وأعصمنا بحبالك المتينة وأدخلنا في كفالتك الأمينة، اللهم إني أسألك سترك الذي لا تخرقه الرماح ولا تزيله الرياح. من دعا لنفسه وقومه بالعافية قال رجل في عقب صلاته: اللهم عافني في نفسي فإنها أعزّ الأنفس عليّ، وفي أولادي فإنهم لحمي ودمي، وفي عشيرتي فإنهم عزي وناصري، وفي جماعة المسلمين فإنّ صلاحي لا يتم إلا بصلاحهم اللهم أستودعك ماأحاطت به شفقتي وعجزت عنه قوتي. من سأل الله أن يقيه الشرّ من مر يديه اللهم من أراد بي شرا فأحط السوء به كإحاطة القلائد بترائب الولائد، ثم أرسخه على هامته كرسوخ السجيل على أصحاب الفيل. يا سابق الفوت ويا سامع الصوت، ومنشئ العظام بعد الموت، صلّ على محمد وآله واجعل لي من هذا الأمر مخرجا وفرجا. وقال أعرابي اللهم قني من عثرات الكرام. من سأل الله تعالى أن يتوكّل له أسأل الله الذي يعد أنفاسي أن لا يكلني إلى احتراسي. اللهم إني تخليت من حولي وحيلتي إلى حولك وحيلتك، اللهم اجعلني أفقر خلقك إليك وأغناهم بك. وكان مطرف يقول: اللهم إنك أمرتنا بأمرك ولا نقوى عليه إلا بكرمك، ونهيتنا عمّا نهيتنا عنه ولا ننتهي عنه إلا بعصمتك. أدعية لأوقات معلومة كان إبراهيم بن أدهم إذا أصبح يقول: سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون، وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون. وقيل لرجل: إلحق دارك فقد احترقت، فقال: ما احترقت والله، فقيل: أتحلف على ذلك فقال: نعم إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: من قال حين يصبح إن ربي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو ربّ العرش الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 العظيم، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم، أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما، أعوذ بالله الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها. إن ربي على صراط مستقيم، لم ير يومئذ في نفسه ولا أهله ولا ماله شيئا يكرهه وقد قلتها اليوم. فلما انتهوا إلى داره وجدوها قد احترق ما حولها ولم تحترق. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا رأى هلال رمضان يقول: اللهم هذا شهر رمضان فسلمه لنا، وسلمنا له، وتسلمه منا في يسر وعافية، وأرزقنا صيامه وقيامه متقبلا بإيمان واحتساب، وكان إذا أتى بالباكورة قبلها ووضعها على عينيه ويقول: اللهم أريتنا أوله فأرنا آخره. وقال أمير المؤمنين كرم الله وجهه: علمني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا لبست ثوبا جديدا أن أقول الحمد لله الذي كساني من الرياش ما أتجمّل به في الناس. اللهم اجعلها ثياب بركة أسعى بها لمرضاتك وأعمل فيها بطاعتك. وكان عليه الصلاة والسلام يقول: اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك خيره وخير ما صنع له. اللهم هب لي من حقك، وأرض عني خلقك. قال البناني: بلغنا أنه يستجاب الدعاء عند المطر ثم تلا: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ «1» . من سأل الله التوفيق لعبادته قال سعيد بن المسيب: مرّ بي صلة بن أشيم فقلت: ادع لي. فقال: رغبّك الله فيما يبقى، وزهدك فيما يفنى، ووهب لك اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يعوّل في الدين إلا عليه. اللهم إني أحب طاعتك وإن قصرت فيها، وأكره معصيتك وإن ركبتها، فتفضّل عليّ بالجنة وإن لم أستحقها، وخلصني من النار وإن استوجبتها. اللهم إني أسألك الإقبال عليك والإصفاء إليك، والفهم عنك، والبصيرة في أمرك، والنفاذ في طاعتك، والمراقبة على إرادتك، والمبارزة في خدمتك، وحسن الأدب في معاملتك، والتسليم والتفويض إليك. المقرّ بذنبه السائل من الله تعالى الرحمة اللهم إني رهين بذنوبي، أتعثّر في ذيولها وأستخفي تحت سدولها، فتفضل عليّ بعفو يبسط حافة رجائي ويقبض المخافة عن أرجائي. إلهي لست أنفك مقلبا أزمة الخطايا وأعنة السيئات، فوفقني لتوبتي وأمنن عليّ عند إنتهاء نوبتي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 وقال أعرابي يا رب تظاهرت عليّ منك النعم، وتكاثفت مني عندك الذنوب، وأحمدك على النعم التي لا يحيط بها إلا علمك. ووضع أعرابي يده على باب الكعبة فقال: يا رب سائلك ببابك قد مضت أيامه، وبقيت آثامه، فأرض عنه وإلا ترض عنه فأعف عنه، فقد يعفو السيد عن العبد وهو عنه غير راض. وقال عمرو بن العاص حين احتضر: يا رب إنك أمرتنا فلم نأتمر، وزجرتنا فلم ننزجر، وإنا لا نعتذر ولكن نستغفر. وقال ابن السماك عند وفاته: اللهم إنك تعلم أني كنت أعصيك، وأحب أن أكون ممن يطيعك، إلهي كم تتحبب إليّ بنعمتك وأنت غني عني، وكم أتبغض إليك بذنوبي وأنا إليك فقير سبحان من إذا توعد عفا، وإذا وعد وفى. وقالت امرأة: اللهم إني أقوم كسلى وأصلي عجزى فاغفر لي قبل عروي «1» ما جرى. ووقف أعرابي على قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: قد قبلنا منك وحفظنا ما أديت عن ربك ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول، لوجدوا الله توابا رحيما. فقد ظلمنا أنفسنا واستغفرنا فاستغفر لنا. وكان شريح يقول: اللهم إني أسألك الجنة بلا عمل عملته، وأعوذ بك من النار بذنب ركبته، قال أمير المؤمنين كرم الله وجهه: أحب الكلام إلى الله أن يقول العبد وهو ساجد إن ظلمت نفسي فاغفر لي ثلاثا. من سأل خير الدارين طاف أعرابي بالبيت ثم صلّى ركعتين ونهض فقيل له: ما لك حاجة إلى الله؟ قال: بلى وقد سألته. قيل وما قلت؟ قال: قلت اللهم إنك قد أحصيت ذنوبي فاغفرها وعلمت حاجتي فاقضها. وقال بعضهم: أستغفر الله والحمد لله فقيل له في ذلك فقال: ما رأيت أجمع من هاتين الكلمتين، أنا بين ذنب ونعمة أستغفر الله من الذنب وأحمده على النعمة. من سأل الله الغفران بفعلة كانت منه دعا رجل بالبصرة في مسجد فقال: اللهم إني وإن كنت عصيتك فبحبي فيك من أطاعك إلا رحمتني. فهتف به هاتف: يا هذا لقد عقدت عقدا لا ينحل أبدا. ولما حج عمر بن ذر اجتمع الناس إليه فقالوا له: ادع لنا بدعوة. فقال: اللهم أرحم قوما لم يزالوا منذ خلقتهم على مثل ما كانت عليه السحرة يوم رحمتهم وقانا الله هول المطلع وضيق المضجع وسوء المرتجع، اللهم لو سألتني حسناتي مع حاجتي إليها لوهبتها لك وأنا عبد فكيف لا تهب لي سيئاتي مع غناك عنها وأنت رب، اللهم أسألك المغفرة يوم كل نفس إليك فقيرة، فإن النعمة فيها كثيرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 الإستسقاء اللهم أسقنا غيثا مريعا ريعا مجللا مجلجلا سحا سفوحا طبقا غدقا ودقا. فسمع أعرابي ذلك فقال: أخشى الطوفان ورب الكعبة دعني يا نوح آوي إلى جبل يعصمني من الماء. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: اللهم إنك حبست عنا مطر السماء فذاب الشحم وذهب اللحم ورق العظم، فارحم أنين الآنة وحنين الحانة. اللهم إرحم تحيرها في مراتعها وحنينها في مرابضها. وصعد عمر المنبر للإستسقاء فلم يزد على الإستغفار، فقيل له: إنك لم تستسق، فقال: قد استسقيت بمجاديح «1» السماء. ذهب إلى قوله تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً «2» . وخرج سليمان بن عبد الملك يستسقي فسمع أعرابيا يقول: ربّ العباد مالنا ومالكا ... قد كنت تسقينا فما بدا لكا أنزل علينا الغيث لا أبا لكا فضحك سليمان، وقال أشهد أنه لا أبا له ولا صاحبة ولا ولد. أنواع شتّى من ذلك اللهم إني أعوذ بك من أن تحسن في العيون علانيتي وتقبح في الخفيات سريرتي. اللهم كما أسأت وأحسنت إليّ فإن عدت فعد عليّ. وكان الحجاج إذا تلا قوله تعالى: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي «3» يقول: كان سليمان حسودا، وإذا تلا قوله تعالى: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ «4» قال: أحب يوسف الإمارة يا من يغضب على من لا يسأله لا تحرم من قد سألك. وقال الأصمعي: سمعت أعرابية تدعو على ظالم لها: اللهم أشفني منه في الدنيا فإني في الآخرة عنه مشغولة، اللهم لا تنزلني منزل سوء فأكون امرأة سوء، اللهم أصلحني قبل الموت وأرحمني عند الموت واغفر لي بعد الموت. وقال أعرابي وقد صلّى: اللهم عفرت لك جبيني وبسطت إليك يميني فانظر ما تعطيني. وقال مالك بن دينار: اللهم سهّل لي المجاز ويسّر لي الجواز. ومن دعاء موسى بن جعفر عليهما السلام: اللهم أفرغني لما شغلتني له ولا تشغلني بما تكفلت لي به يا رب العالمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 (13) وممّا جاء في فضائل أعيان الصحابة قد كان من شرط هذا الكتاب أن لا نشتغل بذكر الرجال على الترتيب إذ كان القصد فيه إلى تنويع المعاني لكن لم يوجد بد من ذكر فضائل الصحابة إذ كانت الحاجة إليه تكثر. أبو بكر الصديق رضي الله عنه قيل: سمي عتيقا لجمال وجهه. وقيل لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنت عتيق الله من النار. وقيل: لأن أمه لم يكن يبقى لها ولد، فلما ولدته استقبلت به البيت وقالت: اللهم اجعل هذا عتيقا من الموت وهبه لي. وقيل: كان لأبيه ثلاثة أولاد عتيق ومعتق وعتيق، ولد بعد عام الفيل بسنتين ودوين أربعة أشهر، ومات بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم بسنتين وأربعة أشهر وهو ابن ثلاث وستين سنة. من فضائله قيل: له أربعة فضائل لم يشاركه فيهن أحد كان ثاني إثنين في الغار، وثاني إثنين في المشورة، وثاني إثنين في العريش، وثاني اثنين في القبر. وصلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم خلفه. قال الشعبي: سألت ابن عباس عن أول الناس إسلاما. فقال: أما سمعت قول حسان بن ثابت فيه: إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا الثاني التالي المحمود مشهده ... وأول النّاس منهم صدّق الرسلا وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كان له تردّد وكبوة، إلا أبا بكر. وقال ما أحد أمن عليّ بصحبته وماله من أبي بكر، وسمّاه النبي صلّى الله عليه وسلّم عتيقا حتى غلب على إسمه وإسم أبيه وكفى له شرفا، قوله عز وجل: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا «1» فسماه صاحبا في كتابه. ولما برز إبنه عبد الرحمن يوم أحد وقال: هل من مبارز، نهض إليه أبو بكر بسيفه، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم شم سيفك وارجع إلى مكانك ومتعنا بنفسك. عمر رضي الله تعالى عنه سمي الفاروق لفرقه بين الحق والباطل طعن لسبع بقين من ذي الحجة، ومات غرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 المحرم، وقيل: كان ابن ثلاث وستين سنة. وقيل: ابن ستين وقيل: خمس وخمسين. وخلافته كانت عشر سنين وسبعة أشهر وخمس ليال وقيل ثمانية أشهر وأربعة أيام. من فضائله كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: اللهم أيدّ الإسلام بعمر ابن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام فأصبح عمر فقرع الباب على النبي صلّى الله عليه وسلّم فأسلم وخرج فصلّى في المسجد ظاهرا. وقال عليه الصلاة والسلام: إن الشيطان يفرق من عمر. وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: بينا أنا نائم رأيتني في الجنّة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر بن الخطاب فذكرت غيرته فوليت مدبرا، فبكى عمر وقال: بأبي وأمي يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعليك أغار. وقال عليه الصلاة والسلام: بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون وعليهم قمص «1» ، منها ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك وعرض على عمرو عليه قميص يجره قالوا: ما أوّلت يا رسول الله؟ قال: الدين. وقال عليه الصلاة والسلام: إن من قبلكم كان فيهم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإنه عمر بن الخطاب. وقال عبد الله بن مسعود: إذ ذكر الصالحون فحيهلا «2» بعمر كان والله للإسلام حصنا حصينا يدخل فيه الناس ما دام حيا ولا يخرجون منه، فلما مات انثلم ذلك الحصن. وكان يبغض الملق والتقرب وضرب ناسا على أن قالوا: يا خير الناس وقدموا إسمه في الديوان، فغضب وقال: ضعوا عمر وآل عمر حيث وضعهم الله وكان عبد الملك يقول: إذا ذكر عمر كان ذكره أسفا للأمة وطعنا على الأئمة. من فضائل أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما روي عن أمير المؤمنين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نظر إلى أبي بكر وعمر فقال: هذان سيدا كهول أهل الجنة. وقال عليه السلام: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر. وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أسس بناء المسجد، جاء بحجر فوضعه ثم جاء أبو بكر بحجر فوضعه، ثم جاء عمر بحجر فوضعه، ثم جاء عثمان بحجر فوضعه، فسئل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فقال: هم أمراء الخلافة بعدي وقيل لعلي بن الحسين رضي الله عنهما: ما منزلة أبي بكر وعمر من النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال منزلتهما منه اليوم وحثّ النبي صلّى الله عليه وسلّم على الصدقة فجاء أبو بكر بماله كله، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: ما أعددت لعيالك؟ فقال: الله ورسوله. وجاء عمر بنصف ماله، فقال: ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 أعددت لعيالك؟ فقال نصف مالي، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ما بين الرجلين ما بين الكلمتين. ولما استشار النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر في أساري بدر قال: قومك فيهم الآباء والأبناء والاخوان فامنن عليهم أوفادهم يستنقذهم الله بك من النار وما أخذت منهم فهو قوة للإسلام فاستشار عمر، فقال: يا نبي الله هم أعداء كذبوك وحاربوك وأخرجوك، أضرب رقابهم. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: مثل أبي بكر في الملائكة مثل ميكائيل ينزل بالرضا والغفران وفي الأنبياء بإبراهيم طرحه قومه في النار فما زاد على أن قال أف لكم ولما تعبدون من دون الله، أفلا تعقلون؟ وقال: فمن تبعني فإنه منّي ومن عصاني فإنك غفور رحيم. وكمثل عيسى إذ يقول: أن تعذبهم فإنهم عبادك وأن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم. ومثل عمر في الملائكة كجبريل ينزل بالسخط والنقمة وفي الأنبياء كنوح، حيث قال: رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديّارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فجارا كفارا. ومثل موسى حيث قال ربنا أطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم. وقد أحسنا تأثيرهما في الولاية: أما أبو بكر رضي الله عنه فإنه لما مات النبي صلّى الله عليه وسلّم قال عمر: كيف مات النبي والله تعالى يقول ليظهره على الدين كله فقام أبو بكر فقال: أيها الناس إن الله تعالى قد نعى إليكم نبيكم وهو حي بين أظهركم ونعاكم إلى أنفسكم فقال: إنك ميت وإنهم ميتون فسكن الناس. وتلا: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ «1» ، ثم تلا: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ* وكُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ «2» ثم قال: ليظهر الله دينه ويتم نوره. وأمره في ارتداد العرب ومنعهم الزكاة معروف حيث خالف جماعة الصحابة، وقال: لو منعوني عقالا لقاتلتهم وقال إن قبلت قولكم لا لأنقضن عرى الإسلام عروة عروة واجتهد في تجهيز جيش أسامة، وخالفه الصحابة. فقال: لو بقيت وحدي حتى تأكلني الكلاب ما أخرت جيشا. أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بإنفاذه والوحي ينزل عليه. وأما عمر رضي الله عنه فإنه فتح الفتوح ودوّن الدواوين وفرض العطية ومصّر الأمصار وجبى الفيء وبلغت خيله أفريقية وأوطأ خيله خراسان وكرمان وأزال ملك بني ساسان، ولما طعن قيل له: ألا تستخلف؟ فقال أن أترك، فقد ترك من هو خير مني يعني رسول الله وإن استخلف فقد استخلف خير مني يعني أبا بكر. عثمان رضي الله تعالى عنه كان يلقب ذا النورين، وكان ختن النبي صلّى الله عليه وسلّم على ابنتيه. قتل يوم الأربعاء لعثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، وهو ابن اثنتين وثمانين سنة. وقيل: إنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 كان أصبح. فقال: إني رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المنام. فقال: يا عثمان أفطر عندنا الليلة، فأصبح صائما. فقتل من يومه وأشرف عليهم. وقال: علام تقتلونني وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، رجل زنا بعد إحصان فعليه الرجم، أو رجل ارتد بعد الإسلام فعليه القتل، أو قتل عمدا فعليه القود فو الله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام ولا قتلت أحدا ولا ارتددت منذ أسلمت. وقال أبو موسى: دخل النبي صلّى الله عليه وسلّم حائطا وأمرني بحفظ الحائط فجاء رجل يستأذن فقال ائذن له وبشره بالجنة فإذا أبو بكر، ثم جاء آخر يستأذن فقال: ائذن له وبشره بالجنة فإذا عمر، ثم استأذن آخر فسكت هنيهة ثم قال: إئذن له وبشره بالجنة بعد بلوى ستصيبه فإذا عثمان بن عفان. وصعد النبي صلّى الله عليه وسلّم أحدا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم فضربه برجله، وقال: أسكن أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان. واستأذن عثمان على النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان مكشوف الفخذ فغطاها وعنده أبو بكر وعمر فقيل له في ذلك فقال: كيف لا أستحي ممن تستحي منه الملائكة؟ ذكر فتوحاته إفتتح أرمينية بحبب بن مسيلمة وأذربيجان بالمغيرة وأفريقية بعبد الله بن سمرة. ذكر ما عتب عليه قالوا: آوى طريد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحكم بن العاص، وأعطاه مائة ألف درهم ونفى أبا ذر إلى الربذة وعامر بن عبد القيس إلى الشأم، وتصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمهزور على المسلمين وهو موضع سوق المدينة، فنقضه عثمان وأقطعه الحارث بن الحكم أخا مروان. وأقطع فدك مروان، وكل ذلك مما وصفه به عمر رضي الله عنهما حيث قال: هو كلف بأقاربه. عليّ بن أبي طالب كرّم الله تعالى وجهه قتل لتسع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان يوم الجمعة سنة أربعين، وهو ابن ثلاث وستين. وقيل ابن ثلاث وخمسين، وخلافته أربع سنين وثمانية أشهر وتسعة عشر يوما. ودفن بالكوفة وغيّب قبره. وقال صلّى الله عليه وسلّم: الخلافة ثلاثون عاما، ثم تكون ملكا. وكناه النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا تراب، وذلك أنه دخل على ابنته فاطمة فقال: أين ابن عمك؟ قالت: في فناء المسجد. فوجده مضطجعا في التراب فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: قم أبا تراب وذلك من شدة ما أعجب به. من فضائله قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى؟ غير أنه لا نبي بعدي قال: بلى. قال: فأنت كذلك. وقال: عليّ مني وأنا منه وهو وليّ كل مؤمن بعدي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 وأخذ بيده فقال: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأبغض من أبغضه وأنصر من نصره وأخذل من خذله، وقال يوم خيبر: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. ثم دعا عليا وهو رمد فأعطاه اللواء وقال: أنت أخي في الدنيا والآخرة. وقال صلّى الله عليه وسلّم: النظر إلى علي عبادة. أي إذا برز يكبّر الناس فيقولون: لا إله إلا الله، ما أجله ما أعلمه ما أشجعه ما أشرفه. وقال عليه السلام: بعثني النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى اليمن فقلت: يا رسول الله أتبعثني وأنا حديث السن لا علم لي بالقضاء، فقال: إنطلق فإن الله تعالى سيهدي قلبك ويثبت لسانك. قال: فما شككت في قضاء بين رجلين. ولما أنزل الله عز وجل وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ «1» قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لعليّ: سألت الله أن يجعلها أذنك فما سمع بعدها شيئا إلا حفظه. وعن أنس بن مالك قال: جاء أبو بكر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقعد بين يديه فقال: يا رسول الله قد علمت مناصحتي وقدمي في الإسلام وإني وإني قال وما ذاك؟ قال تزوّجني فاطمة فسكت عنه، فرجع أبو بكر إلى عمر فقال هلكت وأهلكت، قال وما ذاك؟ قال خطبت فاطمة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأعرض عنّي، فقال: مكانك حتى آتي النبي صلّى الله عليه وسلّم فأطلب مثل ما طلبت فأتى عمر النبي صلّى الله عليه وسلّم فقعد بين يديه، وقال: يا رسول الله، قد علمت مناصحتي وقدمي في الإسلام وإني وإني، فقال وما ذاك؟ قال تزوجني فاطمة فأعرض عنه، فرجع عمر إلى أبي بكر فقال إنه ينتظر أمر الله فيها، إنطلق بنا إلى علي حتى نأمره أن يطلب مثل الذي طلبنا، قال علي فأتياني وأنا في سبيل فقالا: ابنة عمك تخطب فنبهاني لأمر فقمت أجرّ ردائي، طرف على عاتقي وطرف في الأرض حتى أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقعدت بين يديه، فقلت: يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد علمت قدمي في الإسلام ومناصحتي وإني وإني، قال وما ذاك يا علي؟ قلت: تزوجني فاطمة قال وما عندك؟ قال: فرسي وبدني يعني درعه. فقال: أما فرسك فلا بد لك منه وأما درعك فبعها فبعتها بأربعمائة وثمانين فأتيت بها النبي صلّى الله عليه وسلّم فوضعتها في حجره فقبض منها قبضة، فقال: يا بلال أبغنا بها طيبا وأمر أن يجهزوها، فجعل لها سرير مشرط بالشريط ووسادة من أدم حشوها ليف، وملأ البيت كثيبا يعني رملا، وقال: إذا أتتك فلا تحدث شيئا حتى آتيك. فجاءت مع أم أيمن: فقعدت في جانب البيت وأنا في جانب، وجاء النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: ههنا أخي. فقالت أم أيمن: أخوك وقد زوجته ابنتك. فدخل النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال لفاطمة: ائتيني بماء فقامت إلى قعب في البيت فجعلت فيه ماء وأتته به، فمج فيه ثم قال: قومي فنضح ثدييها وعلى رأسها ثم قال: اللهم أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم، ثم قال ائتني بماء، فعلمت الذي يريده، فملأت القعب ماء وأتته به فأخذ منه بفيه ثم مجه ثم صب على رأسي وبين يدي وقال: اللهم إني أعيذه بك وذريته من الشيطان الرجيم. ثم قال: أدخل على أهلك بسم الله والبركة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت أسير مع عمر بن الخطاب في ليلة. وعمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 على بغل وأنا على فرس، فقرأ آية فيها ذكر علي بن أبي طالب فقال: أما والله يا بني عبد المطلب لقد كان عليّ فيكم أولى بهذا الأمر مني ومن أبي بكر. فقلت في نفسي: لا أقالني الله إن أقلته فقلت: أنت تقول ذلك يا أمير المؤمنين وأنت وصاحبك وثبتما وافترعتما الأمر منا دون الناس. فقال: إليكم يا بني عبد المطلب أما أنكم أصحاب عمر بن الخطاب فتأخرت وتقدم هنيهة، فقال سر لا سرت. وقال: أعد على كلامك فقلت: إنما ذكرت شيئا فرددت عليك جوابه ولو سكت سكتنا. فقال: إنا والله ما فعلنا الذي فعلنا عن عداوة ولكن استصغرناه وخشينا أن لا تجتمع عليه العرب وقريش لما قد وترها. قال فأردت أن أقول: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبعثه فينطح كبشها فلم يستصغره، أفتستصغره أنت وصاحبك؟ فقال: لا جرم، فكيف ترى والله ما نقطع أمرا دونه ولا نعمل شيئا حتى نستأذنه. وعن الحسين بن علي رضي الله عنهما، إن عمر بن الخطاب قال: ثلاث لم أسأل عنهن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال علي: وما هن؟ قال عمر: حب الرجل الرجل لم يجر بينهما خلطة ولا معرفة، فأنى ذلك والرؤيا، منها ما يصدق كأخذ باليد، ومنها ما يكون أضغاثا، فأنّى ذلك والرجل يتحدث بالحديث أحيانا، ويختلف أحيانا فأنى ذلك. فقال علي عليه السلام: أما ما ذكرت من حب الرجل الرجل لم تجر بينهما ما خلطة ولا معرفة، فإن الله خلق الأرواح قبل الأجساد فتلتقي الأرواح على سبب بين السماء والأرض، فتتشام كما تتشام الخيل فما تعارف ثم ائتلف هنا. وأما الرؤيا فإن العقل إذا عرج بنفسه وهو في النوم في المصعد، فهو كأخذ باليد وإذا هبط إلى جسده تلقته الشياطين بالأضغاث لكي تحزنه، وما أخبرت به فهو الذي لا يصدق. وأما الرجل يتحدث بالحديث ثم ينسى، فإن القلب تغشاه ظلمة كظلمة القمر فإذا تغشى القلب تخلى عنه ذكره. وعن أنس قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن خليلي ووزيري وخليفتي، وخير من أترك بعدي يقضي ديني وينجز موعدي علي بن أبي طالب. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لفاطمة: لقد زوجتكه سيدا في الدنيا سيدا في الآخرة، لا يبغضه إلا منافق. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لقد أوحى إليّ في علي ثلاث، أنه سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين. وعن البراء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لعلي: أنت مني وأنا منك. وقال عليه الصلاة والسلام: الحق مع علي وعلي مع الحق لن يزولا حتى يردا على الحوض. وعن جابر وابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: أنا وعلي من شجرة واحدة. وقال له علي: آخيت بين الناس يا رسول الله فمن أخي؟ قال: أنت أخي في الدنيا والآخرة. فضائل الحسن والحسين رضي الله عنهما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ألا أدلّكم على خير الناس عمّا وعمة؟ قالوا: بلى يا رسول الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 قال: الحسن والحسين عمهما جعفر الطيّار وعمتهما أم هانئ بنت أبي طالب. وقال ابن عباس كان النبي صلّى الله عليه وسلّم حاملا الحسن فقال له رجل: يا غلام نعم المركب ركبت. وروي أنه قال صلّى الله عليه وسلّم وقد امتطاه الحسن والحسين: نعم المطي مطيكما ونعم الراكبان أنتما، وأبوكما خير منكما. وقال أبو هريرة: سجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمس سجدات بلا ركوع فقيل له: قال: أتاني جبريل فقال: إن الله يحب عليا، فسجدت ورفعت رأسي، فقال: إن الله يحب فاطمة، فسجدت. ثم قال: إن الله يحب الحسن والحسين فسجدت فقال: إن الله يحب من أحبهم فسجدت. وقال إبراهيم النخعي: لو كنت ممن أعان على الحسين ثم قيل لي أدخل الجنة، لأستحيت أن يراني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيها. وقال أبو بكر: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب على المنبر ينظر إلى الحسن مرة وإلى الناس مرة وقال: إن إبني هذا سيد يصلح الله به بين فئتين من المسلمين. وسأل بعض أهل العراق ابن عمر عن قتل الذباب فقال: يا أهل العراق تسألونني عن قتل الذباب وقد قتلتم ابن بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هما ريحانتي من الدنيا. وقال عمر بن عبد العزيز يوما وقد قام من عنده علي بن الحسين: من أشرف الناس؟ فقالوا: أنتم فقال: كلا أشرف الناس هذا القائم من عندي آنفا من أحب الناس أن يكونوا منه ولم يحب أن يكون من أحد. وذكر الحسن والحسين عليهما الرضوان عند المأمون فقال: بخ بخ ما تقولون في غلامين حسن خلقهما الجليل وناغاهما جبريل وولدا بين التنزيل والتبجيل، هل لذين من عديل جدهما الرسول وأمهما البتول وأبوهما المقبول. وقال عمر بن الخطاب في طلب مصاهرته عليا: إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي. وقال عليه الصلاة والسلام: فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها فقد أغضبني. مناقب جماعة من الصّحابة رضوان الله عليهم أجمعين سمّى النبي صلّى الله عليه وسلّم طلحة يوم أحد طلحة الخير، وفي غزوة العسرة طلحة الفياض، ويوم خيبر طلحة الجود. ودخل على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا طلحة أنت ممن قضى نحبه وقال الزبير حوارييّ وابن عمتي وطلحة حواريي. وقال سعد: ما أسلم في اليوم الذي أسلمت فيه أحد، ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام. وقال: نبلني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، وقال: إرم فداك أبي وأمي. وقال عليه الصلاة والسلام: اللهم سدد رميه وأجب دعوته. وقال عبد الرحمن: كان اسمي عبد عمرو فلما أسلمت سماني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 عبد الرحمن. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: اهتز العرش لموت سعد بن معاذ. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أقواكم أبي وأفرضكم زيد وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ وأقضاكم علي. وقال: ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر. وقال: يأتيكم خير ذي يمن وعليه مسحة ملك، فأتاهم جرير بن عبد الله العجلي وقال: رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك. وقال: رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد، وكرهت لها ما كره ابن أم عبد يعني عبد الله بن مسعود. وقال ابن عباس: ضمّني النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى صدره وقال: اللهم علمه الحكمة وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: نعم الرجل عبد الله بن عمر كان يصلي بالميل، ثم ما كان ينام من الليل إلا قليلا. وقال عليه الصلاة والسلام: إن عبد الله بن عمر رجل صالح. وقال: كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون. وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الأطعمة. وقال: بلال سابق الحبشة. وكان عمر يقول: أبو بكر سيدنا أعتق بلالا. وكان عليه السلام يقول: ما لكم وعمار إنما عمار جلدة ما بين عيني وكان بنو مخزوم يعذبونه وأمه وكان يمر بهما النبي صلّى الله عليه وسلّم ويقول: صبرا يا آل ياسر فإن موعدكم الجنة. وقال: من أحب أن ينظر إلى رجل يحب الله ورسوله بكل قلبه فلينظر إلى سالم. وقال عمر في شكاته وعنده المهاجرون والأنصار: لو أدركت سالما ما تخالجني فيه شك. واجتمع بباب عمر الإجلاء من العرب فخرج أذنه وفيهم أبو سفيان وعيينة بن حصن، فخرج الأذن وقال: أين بلال أين عمار أين صهيب أين سليمان أدخلوا فتمعرت وجوههم واستبان الجزع فيهم فقال سهيل بن عمر: ومالكم دعوا ودعينا، فأسرعوا وأبطأنا ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعد لهم في الجنة أعظم. وقال المهدي لعبد الله بن مصعب: ما تقول فيمن ينتقص أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال: أمرنا أن نقتل من ينتقص النبي بأيسر تنقص، وإن من أشد النقص أن يقال: كان راضيا بأصحاب سوء يصحبونه. وقال سفيان بن عيينة: من أبغض أبا طالب فهو كافر فقيل لمه. قال: لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يحبه ولذلك قال الله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ «1» . ومن أبغض من يحبه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهو كافر. نبذ من ذكر فضائل معاوية رضي الله تعالى عنه قيل لأبي برد الأسلمي: لم اخترت صاحب الشأم على صاحب العراق؟ فقال: لأني رأيته أطوى لسره وأملك لعنان أمر جيشه وأفطن لما في نفس عدوه. وسئل عمر بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 عبد العزيز عن يوم الجمل ويوم صفين، فقال: تلك دماء صان الله عنها يدي فلا أغمس فيها لساني. وقال بعضهم: علي بن أبي طالب آخرة لا دنيا معه ومعاوية دنيا لا آخرة معه. ممّا طعن فيه قيل لهشام بن الحكم: هل شهد معاوية يوم بدر؟ فقال: نعم، من ذلك الجانب. وبلغ الحسن أن نافعا كان يقول: إن معاوية كان يسكته الحلم وينطقه العلم. فقال: كان يسكته الحصر وينطقه البطر. وقال الحسن: لقد فعل معاوية ثلاثا كلها موبقات، منازعة الأمر أهله وادعاؤه زيادا واستخلافه يزيد وقال معاوية: أعنت على علي بثلاث. كان رجلا يظهر سره وكنت كتوما، وكان في أخبث جند وشره وكنت في أطوع جند وأقله خلافا، وكنت أحب إلى قريش منه رضي الله عن الصحابة أجمعين. نوادر للشيعة قيل لبهلول وكان يتشيع: وزن أبو بكر وعمر بالأمة فرجحا فقال: لعله كان في الميزان عيب. وقيل له: أتأخذ درهمين وتشتم فاطمة؟ فقال: بل آخذ دانقا وأشتم معاوية. وقال بعضهم: رأيت في بغداد مكفوفا يقول من أعطاني حبة سقاه الله من الحوض على يد معاوية، فتبعته حتى خلوت به فلطمته لطمة وقلت له عزلت أمير المؤمنين عن الحوض، فقال: بحبة أسقيهم من يد أمير المؤمنين لا والله. وتخاصم رجلان إلى بعض الولاة وكان يتشيع وكان إسم أحد الخصمين علي وكنيته أبو عبد الرحمن واسم الآخر معاوية فلما عرف الوالي إسميهما، ضرب معاوية مائة سوط ففطن الخصم للقصة فقال للوالي إن رأيت أن تسأل خصمي عن كنيته، فسأله فقال كنيتي أبو عبد الرحمن، فغضب عليه وضربه مائة سوط، فقال له المسمى معاوية: ما أخذته مني بالاسم استرجعته منك بالكنية. وبقزوين قرية أهلها متناهون في التشيع فمر بهم رجل فسألوه عن اسمه، فقال: عمران، فاجتمعوا عليه يضربونه، فقال ليس اسمي عمر فتضربونني لماذا، قالوا: هو أشرّ من ذلك فإنه عمر وفيه حرفان من عثمان. تغريضات للشيعة كان شيطان الطاق يتشيّع، فأخذه بعض الخوارج. فقال له: إن لم تتبرأ من عثمان وعلي قتلتك. فقال: أنا من علي ومن عثمان بريء، وإنما أراد من علي أي من مواليه وبريء من عثمان فتخلص من الخارجي. ومر ابن المعدل بقوم، فسلّم عليهم، فلم يجيبوه، فقال: لعلكم تظنون ما يقال فيّ من الرفض أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا، من نقّص واحدا منهم فهو كافر وامرأته طالق، فسر القوم ودعوا له، فقال: بعض من كان معه من شيعته: ويحك ما هذه اليمين؟ فقال: إني أردت بقولي من نقص واحدا منهم علي بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 أبي طالب وحده. وقال أبو سهل الصعلوكي لأبي عبد الله الحصيري: كم تقول أمير المؤمنين وما كان له قط يوم أبيض، فقال: ولا اليوم الذي رجع فيه إلى الحق وبايع أبا بكر فقال: كان في ذلك اليوم مكرها. فقال أبو عبد الله: إشهدوا حتى لا يقول في المناظرة إنّ أمير المؤمنين كان راضيا بتولية أبي بكر. نوادر للنّاصبة كان بعض الشيعة يستدل بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: عليّ مني كهارون من موسى، فقال: بعض النواصب ما تلك المنازل فإنّ هارون كان أخا موسى من أبيه وأمه وكان شريكه في النبوة ومات قبله وليس شيء من هذه المنازل لعلي، فلم يبق إلاأن يأخذ بلحيته وبرأسه، يعني قوله لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي. وولد لرجل من النواصب ولد فسماه حسينا فقال بعض أصدقائه: والله لو عق عن ابنه بمعاوية ما كان إلا ناصبيا. ذمّ الغلوّ والتّهافت في الصّحابة قال يحيى بن زيد بن علي: نحن من أمتنا بين أربعة أصناف: ظالم لنا حقنا وبالغ بنا فوق قدرنا، ومعطينا ما يجب لنا، وحامل علينا ذنب غيرنا. وقال بعض عوام الناصبة: معاوية ليس بمخلوق، فقيل: كيف؟ قال: لأنه كاتب الوحي والوحي ليس بمخلوق وكاتبه منه. وقيل: إن عبد الرحمن صاحب الأندلس أنهى إليه أن رجلا من العملة وقع في علي رضي الله عنه، فأمر بتأديبه، فقيل له: لم يزل الخلفاء من أسلافك يجوزون هذا، فقال: أنا لم أنكر من فعل معاوية شيئا كإنكاري لهذا. فإن في هذا تجسيرا للعامة على الوقوع في علي وعليّ إن قعد به أدبه لم يقعد به حسبه ومن الخطأ في السياسة ترخيص الملوك للعامة في الوقيعة فيهم. وسئل رجل: هل الحسن أفضل أم الحسين؟ فقال: الحسن، لأن الله تعالى يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة ولم يقل حسينة. وسئل بعضهم: هل كان النبي حسنيا أم حسينيا فقال: كان حسنيا وحسينيا رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 الحدّ الحادي والعشرون في الموت وأحواله (1) أسماء الموت ووصفه يقال له: النبط والهمع والرمد وأم قشعم وشعوب والموتان والحمام والفود ومرت زؤام وذعاف وجحاف. ويقال: فقس وفطس وعضد ويتبل وعضد وطن ولعق أصبعه ورق بنفسه وجرض بريقه وآثر الله به وانحل تركيبه ومضى لما خلق له وأتاه ما كان يحذر ودعاه ما كان يخبر، شرب الدهر عليهم: وأكل وأفلت حريضا، وأفضه شعوب ووجبت نفسه ونضب ظله، وقرض رباطه، وصل به إلى أبي يحيى وسلّم لمائه. وقيل لحكيم: ما الحياة وما الموت، فقال: الحياة ميتة أدّت إلى سعادة والموت حياة أوجبت على أهلها الحجة. وأجود اسم له ما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم أكثروا من ذكر هادم اللذات. وقيل: الحتوف أربعة، سخطي بعقوبة الله وذلك ما ذكر الله: حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً «1» ، وطبيعي وذلك بالهرم وانقطاع الأمل، وعرضي وهو ما يسمى الموت الفجأة، واكتسابي وهو ما يكون بالتعرض لحرب أو سباع ونحو ذلك. تعظيم أمر الموت قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ما رأيت منظرا فظيعا إلا والموت أفظع منه. قال عبد الله بن معاوية: والموت أعظم حالة ... مما يمرّ على الجبلّة «2» وقال رجل للحسن: إن عشت تر ما لم تره، فقال الحسن: إن مت تر ما لم تر، وكان كثيرا ما يقول الحسن: عند الموت يأتيك الخبر. وقال: إن الموت فضح الدنيا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 الحثّ على تصوّر الموت قال بعض الخلفاء لابن السماك: عظني وأوجز. فقال: اعلم أنك أول خليفة تموت وهذا كما سأل أزدشير بعض الحكماء عن دار بناها، وقال هل ترى فيها عيبا؟ فقال: نعم عيبا لا يمكنك إصلاحه، فقال وما هو؟ قال: لك منها خرجة لا عود بعدها أو دخلة لا خروج بعدها. وقال روح بن عبادة رأيت في منامي كأن قائلا يقول: لا تكونوا كالأولى من قبلكم ... لم يخافوا بأسنا حتى نزل وكتب أبو العتاهية على سقف بيته بتزويق: أتطمع أن تخلد لا أبا لك ... أمنت قوى المنية أن تنالك أما والله إنّ لها رسولا ... بها لو قد أتاك لما أقالك «1» كأنّي بالتّراب عليك يحثى ... وبالباكين يقتسمون مالك ولست مخلّفا في النّاس شيئا ... ولا متزوّدا إلا فعالك وكان الحسن إذا خوف من الموت يقول للشيوخ: الزرع إذا بلغ لا بد أن يحصد. ويقول للشبان: هل رأيتم زرعا لم يبلغ أدركته الآفة؟ وقيل أذكر حفرة سمكها قصير وساكنها أسير. وقيل: من ضاق به أمر فليتذكر الموت فإنه يتسع عليه، ونحوه: من أحسن بأنه يموت فليس ينبغي أن يغتم لأمر صعب ينزل به. وقيل لجعفر بن محمد عليهما السلام: كيف صار الموت يأخذ على فنون شتى، فقال: أحب الله أن لا يؤمن على حال. شكا رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم قساوة قلبه فقال: أكثر من ذكر هادم اللذات فإنه ما ذكره أحد في ضيق إلا وسعه عليه ولا في سعة إلا ضيقها عليه. وقال معبد الجهني: نعم نصيحة القلب ذكر الموت يطرد فضول الأمل ويكف غرب المنى ويهوّن المصائب ويحول بين القلب وبين الطغيان. وقيل: ما دخل ذكر الموت بيتا إلا رضي أهله بما قسم الله لهم وجدوا في أمر آخرتهم. وقيل: أبلغ العظات النظر إلى محل الأموات ومصارع البنين والبنات. التّخويف من الموت بما يشاهد قال الحسن، وقد قعد عند رأس ميت: أن امرأ هذا آخره لأهل أن يزهد فيما قبله، وإن أمرأ هذا أوله لأهل أن يحذر ما بعده. وقف أعرابي على قبر هشام وخادم له يقول ما لقينا بعدك صنع بنا، فقال الأعرابي: ايها عليك أما أنه لو نشر لأخبر أنه لقي أشد مما لقيتم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 ومر أمير المؤمنين بمقابر الكوفة فقال: السلام عليكم أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة، أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع. أما الأزواج فقد نكحت، وأما الديار فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، هذا خير ما عندنا فما خير ما عندكم؟ ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما أنهم لو تكلموا لقالوا وجدنا خير الزاد التقوى. ونظر الحسن إلى صبية بين جنازة أبيها تقول: يا أبت مثل يومك لم أره. فضمها الحسن وقال: أي بنية وأبوك مثل هذا اليوم لم يره، فبكى الخلق. حثّ الإنسان على الإستدلال على موته بمن مات من أقاربه قال بعض الحكماء: ذهب أبوك وهو أصلك، وابنك وهو فرعك فما حال الباقي بعد ذهاب أصله وفرعه! وقال محمود في معناه: وغادروك بلا أصل ولا طرف ... فما بقاؤك بعد الأصل والطرف وقال أبو نواس: ألا يا ابن الذين فنوا وماتوا ... أما والله ما ماتوا لتبقى قال أبو حازم: إن امرأ ما بينه وبين آدم أب إلا ميت لمعرق في الموت. قال لبيد: فإن أنت لم ينفعك علمك فانتبه ... لعلّك تهديك القرون الأوائل فإن لم تجد من دون عدنان باقيا ... ودون معد فلترعك العواذل «1» وقال امرؤ القيس: فبعض اللوم عاذلتي فإني ... سيكفيني التجارب وانتسابي إلى عرق الثرى وشجت عروقي ... وهذا الموت يسلبني شبابي «2» وقال أبو تمّام: تأمّل رويدا هل تعدنّ سالما ... إلى آدم أو هل تعد ابن سالم متى يرع هذا الموت عينا بصيرة ... تجد عادلا منه شبيها بظالم وقال عمارة: وما نحن إلا رفقة قد ترحلت ... لقصد وأخرى قد أنيخت ركابها وقال البحتري: وما أهل المنازل غير ركب ... مناياهم رواح وابتكار «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 ولما أتى معاوية موت زياد توجع، وقال: وأفردت سهما في الكنانة واحدا ... سيرمى به أو يكسر السهم كاسره الإعتبار بمن مات من الكبار والسّلاطين قيل: لمّا مات الإسكندر وقف عليه أرسطاطاليس فقال: طالما كان هذا الشخص واعظا بليغا وما وعظ بموعظة في حياته أبلغ من عظته في مماته. أخذ هذا المعنى أبو العتاهية، فقال: وكانت في حياتك لي عظات ... فأنت اليوم أوعظ منك حيّا وحمل إلى أمه في تابوت من ذهب، فقالت: جمعت الذهب حيا وجمعك الذهب ميتا. قال الأسود بن يعفر: ماذا أؤمل بعد آل محرق ... تركوا منازلهم بغير إياد «1» أهل الخورنق والسّدير وبارق ... والقصر ذي الشرفات من سنداد «2» وقال المتنبّي: أين الأكاسرة الجبابرة الألى ... كنزوا الكنوز فما بقين ولا بقوا من كلّ من ضاق الفضاء بجيشه ... وحواه عند الموت لحد ضيّق وقال آخر: ألم تر صول في آل برمك ... وآل نهيك والألى سلفوا قبل لقد غرسوا غرس النخيل تمكّنا ... فما حصدوا إلا كما يحصد البقل «3» ونظرت امرأة إلى جعفر بن يحيى مصلوبا فقالت: لئن كنت في الحياة غاية فلقد صرت في الممات آية. قال شاعر: ومن كان ذا باب شديد وحاجب ... فعمّا قليل يهجر الباب حاجبه وقال آخر: الموت يأتي كلّ ... محتجب ولا يستأذن تناهى بعد من مات قال أبو حية النمري: فلا غائب من كان يرجى إيابه ... ولكنه من ضمّن اللحد غائب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 وقال آخر: بلى كلّ من تحت التراب بعيد وقال آخر: ومن نصب المنون بعيد قال النابغة: حسب الخليلين نأي الأرض بينهما ... هذا عليها وهذا تحتها بالي الغفلة عن الموت قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: كان الحق على غيرنا وجب، وكان الموت على غيرنا كتب، وكان من نشيع من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون نبوئهم أجداثهم ونأكل تراثهم كأنّا مخلدون بعدهم. وقال الحسن ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت، أخذه محمد بن وهب، فقال: تراع لذكر الموت ساعة ذكره ... وتعترض الدنيا فتلهو وتلعب يقين كان الشكّ غالب أمره ... عليه وعرفان إلى الجهل ينسب وقال الحسن وهو في جنازة: يا قوم لو أن هذا الرجل أخذه سلطانكم لفزعتم. قالوا: بلى. قال: قد أخذه ربكم فلم لا تفزعون. وقيل: من لم يرتدع بالموت وبالقرآن، ثم تناطحت الجبال بين يديه، لم يرتدع. وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: ما هذا التغافل عما أمرتم به والتسرع إلى ما نهيتم عنه، إن كنتم على يقين فأنتم حمقى وإن كنتم على شك فأنتم هلكى. قال أبو العتاهية: الموت لو صحّ اليقين به ... لم ينتفع بالموت ذاكره وقال محمد بن بشير: يا حسرتي في كلّ يوم مضى ... يذكرني الموت وأنساه وقال الموسوي: ونأمل من وعد المنى غير صادق ... ونأمن من وعد المنى غير كاذب نراع إذا ما شيك أخمص بعضنا ... وأقدامنا من بين شوك العقارب الأجل حائل بين الإنسان والأمل قيل: لو ظهرت الآجال لافتضحت الآمال ووجد حجر بدمشق مكتوب عليه: يا ابن آدم لو رأيت ما بقي من أجلك لزهدت في طول أملك. وقال أمير المؤمنين: إنكم في أجل محدود، وأمل ممدود، ونفس معدود، ولا بد للأجل أن يتناهى وللأمل أن يطوى وللنفس أن يحصى. وقيل لحكيم: ما أبعد الأشياء من الناس؟ قال: الأمل، فقيل: وما أقرب الأشياء منهم؟ فقال: الأجل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 من مات بعد الكبر عاش نوح عليه السلام ما عاش، وقيل له لما أشرف على الموت: كيف وجدت الدنيا؟ فقال: وجدتها دارا دخلتها من باب وخرجت من آخر. وقال بعضهم: وكلّ امرئ يوما وإن عاش حقبة ... له غاية تجري إليه ومنتهى وقال محمود الوراق: وما صاحب السبعين والعشر بعدها ... بأقرب ممّن حنّكته القوابل «1» ولكنّ آمالا يؤمّلها الفتى ... وفيهنّ للراجين حقّ وباطل وقال المتنبّي: وأوفى حياة الغادرين لصاحب ... حياة امرئ خانته بعد مشيب الموت لا يفوته أحد قيل: من لم يمت عاجلا مات آجلا. قال شاعر: فمن لم يلاق الموت كاس منيّة ... فلا بدّ منه أن تصادفه غدا وقال آخر: كلّ حيّ مملّك ... سوف يفنى وما ملك وقال آخر: وكلّ جمع في الورى لتفرّق وقال آخر: من لم يمت غبطة يمت هرما «2» وقيل لابن المقفع: قد كنت نعيت إلينا. فقال: ما بعد كائن ولا قرب بائن. وقال ابن المعتز: ألا إنما جسمي لروحي مطية ... ولا بد يوما أن يعرّى من الرحل «3» الموت لا يتخّلص منه بالطب قيل للربيع بن خيثم في مرضه: ألا ندعو لك طبيبا؟ فقال: وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا لقد كان فيهم أطباء فما أرى المداوي بقي ولا المداوى صلح: ما للطبيب يموت بالداء الذي ... قد كان يبرئ مثله فيما مضى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 هلك المداوي والمداوى والذي ... جلب الدواء وباعه ومن اشترى وقال المتنبّي: يموت راعي الضأن في جهله ... موتة جالينوس في طبّه ودخل الفرزدق على مريض يعوده فسمعه يطلب طبيبا، فقال: يا طالب الطبّ من داء تخوّفه ... إن الطبيب الذي أبلاك بالداء هو الطبيب الذي يرجّى لعافية ... لا من يدوف لك الترياق بالماء «1» وقال آخر: وأعيا دواء الموت كلّ طبيب وفي باب الطب بعض ذلك وأشباهه. التحرّز لا يخلّص من الموت قيل: إذا انقضت المدة فالحتف في العدة. وقال شاعر: كلّ شيء قاتل ... حين تلقى أجلك وقال أبو ذؤيب: وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كلّ تميمة لا تنفع «2» وقال المخبل: ولئن بنيت لي المشقّر في ... هضب يقصر دونه العصم وقيل: إن عبد الملك هرب من الطاعون، فركب ليلا وأخرج غلاما معه وكان ينام على دابته فقال للغلام: حدثني، فقال: ومن أنا حتى أحدثك؟ فقال: على كل حال حدّث حديثا سمعته. فقال: بلغني أن ثعلبا يخدم أسدا ليحميه ويمنعه ممن يريده، فكان يحميه فرأى الثعلب عقابا فلجأ إلى الأسد فأقعده على ظهره فأنقض العقاب واختلسه، فصاح الثعلب: يا أبا الحارث أغثني واذكر عهدك لي، فقال: إنما أقدر على منعك من أهل الأرض وأما أهل السماء فلا سبيل لي إليهم. فقال عبد الملك: وعظتني وأحسنت. انصرف فانصرف ورضي بالقضاء. ويروى لبعض الجن: رأى الحصن منجاة من الموت فارتقى ... إليه فزارته المنيّة في الحصن وقال آخر: يوشك من فرّ من منيّته ... في بعض غرّاته يصادفها «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 وقال آخر: وإذا خشيت من الأمور مقدّرا ... وفررت منه فنحوه تتوجّه وقال حجر العبسي: فقل للملتقي عرض المنايا ... توقّ فليس ينفعك اتقاء وقال ثعلبة العبدي: أمن حذر آتي المتالف سادرا ... وأية أرض ليس فيها متالف «1» وقال آخر: لا تأمننّ وإن أصبحت في حرم ... إن المنايا بجنبي كلّ إنسان وقال أبو ذؤيب: يقولون لي لو كان بالرمل لم يمت ... نشيبة والطراق يكذب قبولها «2» ولو أنني استودعته الشمس لارتقت ... إليه المنايا عينها ورسولها وقال آخر: كلّ يدور على البقاء مجاهدا ... وعلى العناء تديره الأيام «3» كلّ إنسان يفقد أو يفقد أقاربه قال بعض الحكماء: من طال عمره رأى المصائب في إخوانه وجيرانه، ومن قصر عمره كانت مصيبته في نفسه. قال شاعر: كل امرئ ستئيم من ... هـ العرس أو منها يئيم «4» وقال الموسوي: فمؤجّل يلقى الرّدى في أهله ... ومعجّل يلقى الرّدى في نفسه وقال المتنبّي: سبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها ... منعنا بها من جيئة وذهوب تملّكها الآتي تملّك سالب ... وفارقها الماضي فراق سليب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 الموت لا يدفع بالأسلحة قال علقمة: بل كلّ قوم وإن عزوا وإن كثروا ... عريقهم بأثافي الشرّ مرجوم «1» وقال المتنبيّ: نعدّ المشرفيّة والعوالي ... وتقتلنا المنون بلا قتال «2» ونرتبط السوابق مقربات ... وما ينجين من خبب الليالي «3» ومن لم يعشق الدنيا قديما ... ولكن لا سبيل إلى الوصال وقال الموسوي: تفوز بنا المنون وتستبدّ ... ويأخذنا الزمان فلا يردّ رويدك بالفرار من المنايا ... فليس يفوتها الساري المجدّ «4» وكلّ فتى يحفّ بجانبيه ... خواطر بالقنا قنب وجرد «5» فما دفع المنايا عنه وفر ... ولا هزم النّوائب عنه جند الحياة معرضّة لسهام المنايا قال أبو العتاهية: إنّ للموت لسهما قاصدا ... ليس يفدي أحدا منه أحدا وقال الرفاء: نحن أغراض خطوب إن رمت ... حيرت في دقّة الرمي ثعل «6» وإذا ما اختلفت أسهمها ... فأصابت بطل القرم بطل «7» صحيح مات قيل لحكيم: مات فلان أصح ما كان، فقال: أو صحيح من الموت في عنقه. وقيل للحسن: مات فلان فجأة، فقال: لم يمت فجأة لمرض فجأة، ثم قال: اللهم أجرني من أن أكون مختلسا. وقيل لأعرابي: كيف مات أبوك؟ قال: مات سرا يعني فجأة. وقال شاعر: وربما غوفص ذو غرّة ... أصحّ ما كان ولم يسلم «8» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 وقيل لرجل: ما كان سبب موت فلان؟ قال: كونه. وقال سفيان: يا ابن آدم إن جوارحك سلاح الله عليك بأيها شاء قتلك. ضعف بنية الإنسان وتركيبه سئل جالينوس عن الإنسان فقال: سراج ضعيف وكيف يدوم ضوؤه بين أربع رياح. يعني بالسراج روحه وبالرياح الأربع طبائعه قال شاعر: وما المرء إلا كالشّهاب وضوئه ... يصير رمادا بعد إذ هو ساطع وقال أفلاطون: إذا كانت الطينة فاسدة والبنية ضعيفة والطبائع متنافية والعمر يسيرا والمنية راصدة فالثقة باطلة. قال شاعر: أنظر إلى هذا الأنام بعبرة ... لا يعجبنّك خلقه ورواؤه «1» بيناه كالورق النضير تقضّبت ... أغصانه وتسلّبت شجراؤه «2» وقال الحسن: مسكين ابن آدم مكتوب الأجل والعلل، أسير الجوع والشبع. إتيان المرء حتفه حيثما قدّر له قيل لفيلسوف: مات فلان في غربة، فقال: ليس بين الموت في الوطن والغربة فضل. لأن الموت في جميع المواضع واحد والطريق إلى الآخرة من كل مكان سواء. قال شاعر: إذا ما امرؤ حانت عليه منيّة ... بأرض أتاها مكرها لا تطوّعا وقال آخر: إذا ما حمام المرء كان ببلدة ... دعته إليها حاجة أو تطرّب «3» جهل الإنسان بوقت موته وموضع مضجعه قال الله تعالى: وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ «4» . وقيل لجعفر بن محمد عليهما الرضوان: كيف يأتي الموت من وجوه شتى على أحوال شتى؟ فقال: إن الله أراد أن لا يؤمن في حال. وقيل: أمر لا تدري متى يغشاك ألا تستعد له قبل أن يفجأك. وقال ديك الجن: النّاس قد علموا أن لا بقاء لهم ... لو أنّهم عملوا مقدار ما علموا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 وقال آخر: وإنّك لا تدري بأية بلدة ... تموت ولا عن أي شقّيك تصرع «1» تسوية الموت بين الأفاضل والأراذل قال مالك بن دينار: قدم علينا بشر بن مروان أخو الخليفة فطعن في قدمه فمات، فأخرجناه إلى القبر فلما صرنا إلى الجبان، إذا نحن بسودان يحملون صاحبا لهم إلى القبر فدفناه ودفنوا صاحبهم، فعدت قبل الأسبوع فلم أعرف قبر الأسود من قبره، وعلى هذا قول الشاعر: ولقد مررت على القبور فما ... ميزّت بين العبد والمولى وقال المتنبّي: وصلت إليك يد سواء عندها ال ... بازي الأشيهب والغراب الأبقع «2» ويروى أن الإسكندر مرّ بمدينة قد ملكها غيره من الملوك فقال: انظروا هل بقي بها أحد من نسل ملوكها؟ فقالوا: رجل يسكن المقابر، فأحضره وسأله عن إقامته، فقال: أردت أن أميز عظام الملوك من عظام عبيدهم فوجدتها سواء. فقال: هل تتبعني فأحيي شرفك إن كان لك همة، فقال: همّتي عظيمة إن أنلتنيها، فقال: ما هي؟ قال: حياة لا موت معها، وشباب لا هرم معه، وغنى لا فقر معه، وسرور لا مكروه فيه. فقال ليس عندي هذا، فقال: دعني ألتمسه ممّن هو عنده، فقال: ما رأيت مثله حكيما. وأمر بشر بن الوليد أن يكتب على قبره: من مات فات وفي المقابر يستوي ... تحت التراب شريفه ووضيعه وقال صالح بن عبد القدوس: فيا منزلا سوّى البلى بين أهله ... فلم يستبن فيه الملوك من السّوقي «3» انقضاء ناس بعد ناس ورجوعهم إلى الموت قال أمير المؤمنين كرم الله وجهه: إن لله في كل يوم ثلاث عساكر، عسكر ينزل من الأصلاب إلى الأرحام، وعسكر ينزل من الأرحام إلى الأرض، وعسكر ينتقل من الدنيا إلى الآخرة. وقال شاعر: وما نحن إلا رفقة غير أنّنا ... أقمنا قليلا بعدهم ونروح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 ودخل العتبي المقابر، فأنشد: سقيا ورعيا لإخوان لنا سلفوا ... أفناهم حدثان الدهر والأبد «1» نمدّهم كلّ يوم من بقيّتنا ... ولا يؤوب إلينا منهم أحد وقال الغطمش: أرى الأرض تبقى والأخلّاء تذهب ونحوه: إذا زرت أرضا بعد طول اجتنابها ... فقدت صديقا والبلاد كما هيا وقيل لبهلول وقد أقبل من مقبرة: من أين؟ فقال: من عسكر الموتى. فقيل: ما قلت وما قالوا؟ فقال: سألتهم متى يرحلون؟ فقالوا: ننتظر قدومكم ثم نرتحل. ونحو هذا قول الحسن: يا عجبا بقوم أمروا بالزاد وأذنوا بالارتحال وأقام أولهم على آخرهم وآخرهم قعود يلعبون فليت شعري ما الذي ينتظرون؟ قال الموسوي: تملي المقادير أعمارا وتنسخها ... ويضرب الدهر أياما بأيّام «2» مرجع الإنسان إلى ما خلق منه قال الله تعالى: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى «3» . وقال المتنبي: إلى مثل ما كان الفتى يرجع الفتى ... يعود كما أبدي ويكري كما أرمى «4» قال الخبزارزي: هو الموت مخلوق له الخلق أجمع ... فليس له عن أنفس النّاس مقلع «5» وقال المتنبّي: نحن بنو الدنيا فما بالنا ... نعاف ما لا بدّ من شربه «6» تبخل أيدينا بأرواحنا ... على زمان هنّ من كسبه فهذه الأرواح من جوّه ... وهذه الأجساد من تربه لو فكّر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه «7» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 ومنها: يموت راعي الضأن في جهله ... ميتة جالينوس في طبّه «1» وربّما زاد على عمره ... وزاد في الأمن على سربه «2» فهذا الكلام هو الجوهر الذي لا قيمة له. ذمّ من يخاف الموت ولا يستعدّ له قال أمير المؤمنين عليه السلام لرجل: كيف أنتم؟ قال: نرجو ونخاف قال: من رجا شيئا طلبه ومن خاف شيئا هرب منه. وقال أبو الدرداء: العجب لمن يكره الموت لإساءته ولا يكره الإساءة في حياته. ونظر الحسن إلى جنازة يزدحم الناس عليها، فقال: مالكم تزدحمون ها هي سارية في المسجد، أقعدوا تحتها واصنعوا ما كان يصنع حتى تكونوا مثله. وقال الحسن لشيخ في جنازة: أترى هذا الميت لو رجع إلى الدنيا كان يعمل صالحا. قال: نعم، قال: إن لم يكن ذاك فكن أنت ذاك. وقال علي بن عبد العزيز: إذا قلت لم يبلغ بي السّنّ مبلغا ... وعظت بطفل صار قبلي إلى التّرب الحثّ على تعاطي ما يسهّل الموت جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إني أكره الموت. فقال: ألك مال؟ قال: نعم، قال: قدّمه فإن قلب كل امرئ عند ماله. وقال رجل لأبي الدرداء: ما بالنا نكره الموت؟ قال: لأنكم أخربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنقلوا من العمران إلى الخراب. وقال أبو حازم: كل عمل تكره الموت لأجله فدعه كي لا تخاف منه متى أتاك. من أمر ذويه بالبكاء عليه قيل فيما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه، أنه إنما عنى إذا هو أمرّ به، نحو قول طرفة بن العبد: إذا متّ فانعيني بما أنا أهله ... وشقّي عليّ الجيب يا أمّ معبد «3» وقول الفرزدق: إذا متّ فانعيني بما أنا أهله ... فكلّ جميل قلت فيّ مصدّق وقال ابن المعتز: إذا متّ فانعيني بما أنا أهله ... ولا تذخري دمعا إذا قام نائح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 وقولي ثوى طود المكارم والعلى ... وعطّل ميزان من الحلم راجح «1» من أظهر جزعا عند موته لما أحضر حجر بن عدي ليقتل سأل أن يمهل حتى يصلي ركعتين، وأظهر جزعا. فقيل له أتجزع؟ فقال: كيف لا؟ وإني لأرى سيفا مشهورا وقبرا محفورا، ولست أدري إلى جنة يمضي بي أم إلى نار؟ وبكى الحسن بن علي عليهما الرضوان فقيل له: ما يبكيك؟ وقد ضمن لك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجنة. فقال: إني أسلك طريقا لم أسلكها وأقدم على سيد لم أره. وقيل لبشر بن الحارث: كرهت الموت فقال: القدوم على الله شديد. من أظهر النّدم عند موته ما فرّط منه قال عبد الملك عند موته: وددت أنّي كنت غسالا آكل كل يوم كسب يومي لا يفضل عنّي. فقيل ذلك لأبي حازم فقال: الحمد لله الذي جعلنا بحيث يتمنى الملوك حالنا عند الموت ولا نتمنى حالهم. ولما نزل الموت بهشام جعل ولده يبكون عليه فقال: جاد هشام عليكم بالدنيا وجدتم عليه بالبكاء، وترك لكم ما جمع وتركتم عليه ما اكتسب. ما أعظم منقلب هشام إن لم يغفر الله له. ولما أدنف المأمون أمر أن يفرش له فجعل يتمرّغ فيه ويقول: كلّ عيش وإن تطاول يوما ... صائر مرّة إلى أن يزولا ليتني كنت قبل يومي هذا ... في قلال الجبال أرعى الوعولا «2» وأغمي عليه ثم أفاق، وهو يقول: لبيكما لبيكما ... ها أنا ذا لديكما اللهم لا بريء فأعتذر ولا قويّ فأنتصر، ثم أغمي عليه فلما أفاق، قال: إن تغفر اللهم تغفر جمّا ... وأي عبد لك ما ألمّا وتمثّل عضد الدولة عند موته بقول القاسم بن عبيد الله: قتلت صناديد الرجال ولم أدع ... عدوا ولم أمهل على ظنة خلقا «3» وأخليت دور الملك من كل نازل ... فشرّدتهم غربا وبدّدتهم شرقا فلمّا بلغت النجم عزّا ورفعة ... وصارت رقاب الخلق أجمع لي رقّا رمى لي الرّدى سهما فأخمد جمرتي ... فها أنا ذا في حفرتي عاجلا ملقى «4» فأذهب دنياي وديني سفاهة ... فمن ذا الذي مني بمصرعه أشقى «5» ؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 وأوصى الشبلي رحمه الله أن يكتب على قبره: تركت الجنة وليس لها قيمة وتعلقت بالدنيا وليس لها بقاء، وضيعت العمر وليس له بدل، واتبعت النساء وليس لهن وفاء، وجفوت الربّ وليس منه عوض. ذمّ من امتنع من التّوبة عند موته إعتل أعرابي فقيل له: لو تبت، فقال: لست ممن يعطي على الذلّ إن عافاني الله تبت وإلا مت هكذا. وقيل للحجّاج: ألا تتوب؟ فقال: إن كنت مسيئا فليست هذه ساعة التوبة، وإن كنت محسنا فليست ساعة الفزع. ذمّ من أوصى بما ليس له من ماله قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن لك من مالك الثلث والثلث كثير. وقال: لا نذر في معصية الله ولا وصية في مال الغير. وقيل لميمون بن مهر: إنّ رقية أعتقت كل مولاة لها عند موتها فقال: إنهم يعصون في أموالهم مرتين، يبخلون بها وهي في أيديهم حتى إذا صارت لغيرهم أسرفوا فيها. الحثّ على أن يكون الإنسان وصيّ نفسه . قيل: كن وصيّ نفسك ولا تجعل الرجال أوصياءك واعلم صدق الذي يقول: ولا يغررك من توصي إليه ... فقصر وصية المرء الضياع وفي الزهديات بعض ما أوصى به الصّالحون ذكر الحسن عن بعضهم لمّا حضرته المنية قيل له: أوص. فقال: أوصيكم على المحافظة بآخر سورة النحل: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ «1» . وقيل لهرم بن حيّان: أوص. قال: مالي من مال فقد صدقتني في الحياة نفسي، ولكني أوصي بخواتيم سورة البقرة. وقيل لعمر بن عبد العزيز: أوص لبنيك. فقال: أوصي بهم الذي أنزل الكتاب وهو يتولّى الصالحين. من أوصى بشرّ عند موته وذكر قساوة قلبه لما حضرت وكيعا الوفاة دعا بنيه فقال: يا بنيّ إن قوما سيأتونكم قد قرّحوا جباههم وعرّضوا لحاهم يدعون أن لهم عند أبيكم دينا فلا تقضوهم فإن أباكم قد حمل من الذنوب ما إن غفرها الله له لم تضره هذه وإلا فهي معها. ولما حضرت سعد بن زياد الوفاة جمع ولده وقال: يا بني أوصيكم بالناس شرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 كلموهم نزرا وأطعنوهم شزرا ولا تقبلوا لهم عذرا، أقصروا الأعنّة واشحذوا الأسنّة وكلوا القريب يرهبكم البعيد. ولما حضرت الفرزدق الوفاة قال لقومه: أروني من يقوم لكم مقامي ... إذا ما الأمر جلّ عن العتاب «1» إلى من تفزعون إذا حثيتم ... بأيديكم عليّ من التراب «2» فقالت مولاة له: إلى الله تعالى، فقال: أتتكلمين على غيري، وأنت تعيشين في مالي؟ أمحو اسمها وكتبها من الوصية. وقيل للحطيئة: أوص يا أبا مليكة، قال: نعم أخبروا الشمّاخ أنه أشعر العرب، فقيل أوص للمساكين، فقال: أوصيهم بالإلحاف في المسألة، قيل: أعتق عبدك فلانا، قال: هو عبد ما بقي على ظهر الأرض وعتيق إذا صار في بطنها، فقيل: أوص فإن لك بنات قال: مالي للذكور دون الإناث، فقالوا له: إن الله لم يقل كذا قال: أنا أقوله، قيل: فأوص للأيتام بشيء، قال: كلوا أموالهم وانكحوا أمهاتهم. ثم قال: احملوني على حمار فإنه لم يمت عليه كريم قط، وويل للشعر من رواة السوء. وكان دريد بن الصمة قد عاش أربعمائة سنة فلما نزل به الموت قال لولده: أوصيكم بالناس شرا، طعنا لزا وضربا أزا، وإن أردتم المحاجزة فقبل المناجزة، أقصروا الأعنة وأطيلوا الأسنة وأرعوا الكلأ، ثم قال: اليوم هيي لدريد بيته ... يا ربّ بهت حسن حويته «3» ومعصم ذي مرة لويته ... لو كان للدهر بلى أبليته أو كان قرني واحدا كفيته «4» قال إسماعيل بن قيس: دخلنا على معاوية في مرضه الذي مات فيه، فقال: هل الدنيا إلا ما جربنا لوددت أني لا أقيم فيكم ثلاثا حتى ألقى الله، فقلنا: إلى رحمة الله. فقال: إلى ما شاء الله. إني لم آل فيكم إذ وليتكم فإن الله لو كره أمرا غيّره. قال ابن عيينة: هذا والله الاغترار، ألم تكن مقاتلته عليا وقتله حجرا وبيعته ليزيد مما يكره الله تعالى؟ من أحبّ الموت وذكر نفعه ومضرّته قال عبد الله بن مسعود: ما من نفس حيّة إلا والموت خير لها إن كان برا فإن الله تعالى يقول: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ «5» ، وإن كان فاجرا فإن الله تعالى يقول: وَلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً «1» . ولما حضر بشرا الموت فرح، فقيل له: تستبشر بالموت، فقال: أتجعلون قدومي على خالق أرجوه كمقامي على مخلوق أخافه. وقال بعضهم: لا يكره الموت إلا مريب. وسئل فيلسوف عن الموت: فقال هو فزع الأغنياء وشهوة الفقراء، وقال المتنبّي: نعير حلاوات النفوس قلوبنا ... فنختار بعض العيش وهو حمام وله: وما الدهر أهل أن تؤمّل عنده ... حياة وأن تشتاق فيه إلى النّسل «2» وقال آخر: قد قلت إذ مدحوا الحياة فأسرفوا ... في الموت ألف فضيلة لا تعرف وقال بعضهم: لا يكون الحكيم حكيما حتى يعلم أن الحياة تسترقّه والموت يعتقه. وقال الأخطل: والناس همّهم الحياة ولا أرى ... طول الحياة يزيد غير خبال «3» وقال الجنيد: من كان حياته بنفسه يكون مماته بذهاب روحه فتصعب عليه، ومن كان حياته بربّه فإنه ينتقل من حياة الطبع إلى حياة الأصل وهي الحياة على الحقيقة. من تمنّى الموت قيل: شر من الموت ما إذا نزل تمنيت الموت لنزوله. وقيل: خير من الحياة ما إذا فقدته أبغضت لفقده الحياة. قال المهلبيّ: ألا موت يباع فأشتريه ... فهذا العيش ما لا خير فيه ألا رحم المهيمن روح حرّ ... تصدّق بالوفاة على أخيه وقال المتنبّي: كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا وقال الموسوي: آها لنفس حبست في جلدي ... إن الأسير غرض بالقدّ «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 واعتل الشبلي ثم برأ فقال له بعض أصحابه: كيف أنت؟ فقال: كلما قلت قد دنا حل قيدي ... قدموني وأوثقوا المسمارا الحياة لا تمل ّ قال بعض الحكماء: الحياة وإن طالت لا تمل وإنما يمل المرء تكاليف الحياة ولهذا فضّل قول زهير: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا أبا لك يسأم على قول لبيد: ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذا الناس كيف لبيد؟ وقيل: إن الحياة لا تسأم وإنما تسأم تكاليفها، قال المتنبي: ولذيذ الحياة أنفس في النفس ... وأشهى من أن يملّ وأحلى وإذا الشيخ قال أف فما م ... لّ حياة وإنما الضّعف ملّا آلة العيش صحّة وشباب ... فإذا ولّيا عن المرء ولّى ودخل سليمان بن عبد الملك مسجد دمشق فرأى شيخا. فقال: يا شيخ أيسرك أن تموت؟ فقال: لا والله. قال: لم؟ وقد بلغت من السن ما أرى؟ قال: نفى الشباب وشره وبقي الشيب وخيره، فأنا إذا قعدت ذكرت الله وإذا قمت حمدت الله فأحب أن تدوم لي هاتان الحالتان. المستنكف أن يموت حتف أنفه قال الشنفرى: فلا تقبروني إنّ قبري محرّم ... عليكم ولكن أبشري أم عامر «1» وقال بكر بن عبد العزيز: إن موت الفراش ذلّ وعار ... وهو تحت السيوف فضل شريف وإني لأستحسن قول أبي فراس بن حمدان: متى ما يدن من أجلي كتابي ... أمت بين الأسنّة والأعنّة «2» وقال آخر: فيا ربّ لا تجعل حياتي دنيئة ... ولا ميتتي يا ربّ بين النوائح ولكن صريعا بين أرماح فتية ... طوال القنا من فوق أدهم قادح «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 وقال أبو عمرو الشيباني: رأيت بالبصرة جنازة عليها مطرف خزّ أخضر، فسألت عنها فقيل: جنازة الطرمّاح، فذكرت قوله: فيا ربّ إن حانت وفاتي فلا تكن ... على شرجع يعلى بخضر المطارف «1» فعلمت أنّ الله لم يستجب دعاءه وهذا من باب الشجاعة، وقد مرّ مثله. العذر لعصابة تسرع إليهم المنية قال أبو تمّام: عليك سلام الله وقفا فإنّني ... رأيت الكريم الحرّ ليس له عمر وقال السامي: فلا تجزعنّ من موته وهو ناشىء ... ولا ينكرنّ هذاك من جرّب الدهرا فكلّ طويل المجد يقصر عمره ... كذاك سباع الطير أقصرها عمرا تسلي النّاس عمّن مات قيل: إذا أردت أن تنظر الناس من بعدك فانظر إليهم بعد من مات قبلك. قال أبو العتاهية: سيعرض عن ذكري وتنسى مودّتي ... ويحدّث بعدي للخليل خليل وقال منصور الفقيه: كلّ مذكور من النّاس ... إذا ما فقدوه فهو في حكم حديث ... حفظوه فنسوه وقال آخر: هالوا عليه التّرب ثم انثنوا ... عنه وخلّوه وأعماله لم ينقض النّوح من داره ... عليه حتى اقتسموا ماله كلمات وجدت مكتوبة على قبور قرئ على قبر: نقلنا من دار خبرة إلى دار عبرة أليس فينا عبرة؟ حكى أبو الفرج الكوفي قال: حضرت مجلس الصاحب وعنده علوي شامي يحدثه بما شاهد من الأعاجيب. قال: رأيت قبرا بفلسطين مكتوبا عليه: قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون. وقرئ على قبر: أنا في القبر وحيد ... قد تبرّا الأهل منّي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 أسلموني بذنوبي ... خبت إن لم تعف عنّي وقرئ على آخر: سيعرض عن ذكري وتنسى مودّتي ... ويحدّث بعدي للخليل خليل إذا انقطعت عنّي من العيش مدّتي ... فإن غناء الباكيات قليل وعلى آخر: أيّها الأخ الذي قد ... غاب عنّي وجفاني سوف يأتيك من الل ... هـ رسول قد أتاني فيبوئك من الأر ... ض مكانا كمكاني وعلى آخر: عشت دهرا في نعيم ... وسرور واغتباط ثم صار القبر بيتي ... وثرى الأرض بساطي وعلى باب مدينة جبلة بالشأم: إلى أيّ المدائن صرت يوما ... رأيت قبورها قبل القصور أتاك الوعظ قبل الحظّ منها ... نعم، ونذيرها قبل البشير نفي الشماتة عن الموت والنهي عنها لما مات الحسن بن علي عليهما السلام دخل عبد الله بن عباس على معاوية فقال له معاوية: يا ابن عباس مات الحسن بن علي. قال: نعم وقد بلغني سجودك. أما والله ما سد جثمانه حفرتك ولا زاد انقضاء أجله في عمرك. قال: أحسبه ترك صبية صغارا ولم يترك عليهم كثير معاش. فقال: إن الذي وكلّهم إليه غيرك. وقال الفرزدق: فقل للشّامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشّامتون كما لقينا وقال عديّ بن زيد: أيها الشامت المعيّر بالده ... ر أأنت المبرّأ الموفور؟ أم لديك العهد الوثيق من الأ ... يام بل أنت جاهل مغرور وقال آخر: تمنّى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد وحكى المبرد عن بعضهم أنه شاهد رجلا على قبر وهو يكثر البكاء، فقلت: أعلى قريب أو على صديق؟ فقال: أخصّ منهما، قد كان لي عدو فخرج إلى الصيد فرأى ظبيا فتبعه فعثر بالسهم فخرّ هو والظبي ميتين فدفن فانتهيت إلى قبره شامتا به، فإذا عليه مكتوب: وما نحن إلا مثلهم غير أنّنا ... أقمنا قليلا بعدهم وترحّلوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 فها أنا واقف أبكي على نفسي. ولما مات الفرزدق بكى عليه جرير ورثاه، فقيل له: أبعد تلك المعاداة؟ فقال: لم أر إثنين بلغا الغاية ومات أحدهما إلا ولحقه الآخر عن كثب، فكان كذلك. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا تظهر الشماتة لأخيك فيعافيه الله ويبتليك. وممّا يتصل بذلك لما أتى عبد الله بن الزبير خبر قتل مصعب أخيه احتجب أياما، فخبّر بمجيء قوم للتعزية فقال: أكره وجوها تعزّي ألسنتها وتشمت قلوبها. نفي العار عن الموت قالت ليلى الأخيلية: لعمرك ما بالموت عار على الفتى ... إذا لم تصبه في الحياة المعاير ومثله: وهل بالموت يا للناس عار؟ آخر أمر المرء الموت قال شاعر: نل كلّ ما شئت وعش ناعما ... آخر هذا كلّه الموت الموت منهاة الرجال قال أبو بكر العنبري: كنت قاعدا في الجامع فمرّ بي معتوه فأقبل عليّ، وقال: فهبك ملكت هذا الناس طرّا ... ودان لك العباد فكان ماذا ألست تصير في لحد ويحوى ... تراثك عنك هذا ثمّ هذا وقال آخر: هبك قد نلت كلّ ما تحمل الأر ... ض فهل بعد ذاك إلّا المنيّة وقال آخر: لدوا للموت وابنوا للخراب ... فكلّكم يصير إلى ذهاب كلمات لهج بها من حضره الموت فذكر الشهادة لما حضرت ابن جلاء الوفاة قيل له: قل لا إله إلا الله، فقال: اليوم كذا سنة في أي شيء نحن؟ وقال الكسائي: دخلت البادية فرأيت شابا قد أشرف على الموت، فدنوت منه وقلت قل: لا إله إلا الله فلم يجب فثنيّت وثلّثت فقال: كم تذكرني بالله وأنا محترق في الله. وقيل: لرجل كان مستهترا بالنبيذ، قلّ: لا إله إلا الله، فقال: يا ربّ سائلة تمشي وقد تعبت ... كيف الطريق إلى حمام منجاب «1» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 وقيل لبعض الشطرنجيين ذلك، فقال: شاه مات. الكفن لما حضرت زياد الوفاة، قال له ابنه: يا أبت قد هيأت لك ثوبين لكفنك، فقال: يا بني قد دنا من أبيك لباس هو خير من هذا، أو سلب هو شر منه. وأوصى عبد الوهاب الأفريقي أن يكفّن في عباءته وقال: إني ختمت فيها ثلاثة آلاف ختمة. الطّواعين الطواعين المشهورة في الإسلام خمسة منها: طاعون شبرويه في المدائن سنة ست من الهجرة، وطاعون عمواس في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وطاعون الجارف سنة تسع وستين في شوال هلك في ثلاثة أيام كل يوم سبعون ألفا، مات لأنس بن مالك فيه ثلاث وثلاثون ابنا، ولعبد الرحمن بن أبي بكر أربعون ابنا، ومنها طاعون سنة إحدى وثلاثين ومائة، كان يحصى في المربدة كل يوم عشرة آلاف جنازة. وقال بعضهم: رأيت في المنام في أيام الطاعون أنه أخرج من داري اثنتا عشرة جنازة وكنا اثنتي عشرة نفسا فمات منّا أحد عشر، فما شككت في أني تمام العدة، فخرجت يوما وعدت إلى داري فإذا لصّ قد دخل الدار يسرق ما فيها، فطعن ومات من ساعته فأخرجنا جنازته. ومات أهل دار ولم يبق فيها أحد فدخلوا الدار بعد أربعة أشهر، فإذا صبي في الدار يحبو، فنظروا فإذا كلبة تأتيه وترضعه، وكانت الدار تصبح وفيها خمسون وتمسي وليس فيها أحد. وقال بعضهم: تزوجت بامرأة ودخلت بها في أهلها، فخرجت وهي في عشيرتنا، فعدت فوجدتهم قد ماتوا كلهم وكان لا يجزع أحد على أحد لخوف كل أحد على نفسه. وأول ما أحدث: كيف أصبحت؟ وكيف أمسيت أيام الطاعون. من استصوب الهرب من الطاعون تقدّم خبر عمر مع المغيرة في أول الكتاب، وأراد هشام أن يهرب من الطاعون فقيل له: لا تخرج فالخلفاء لا يطعنون. ولم يسمع بخليفة مات مطعونا قط، فقال لهم: أتريدون أن تجربوا ذلك فيّ. النهي عن ذلك كتب بعض عمال عمر إليه: إن الطاعون قد نزل بنا فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لنا في إتيان قرية خربة، فوقّع في كتابه: إذا أتيت القرية الخربة فسلها عن أهلها والسلام. وكتب شريح إلى صديق له هرب إلى النجف من الطاعون: إن المكان الذي أنت فيه يعين من لا يفوته طلب ولا يعجزه هرب، والمكان الذي خلفت لا يعجل إلى امرئ حمامه، وأنت وهم على بساط واحد وإن النجف من ذي قدرة لقريب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 من عزم على الهرب فعرض له ما صرفه قد تقدّم خبر عبد الملك حين هرب من الطاعون في هذا الفصل، وأراد رجل من أهل البصرة أن يهرب من الطاعون، فركب حمارا له ومعه غلام يتبعه فسأله أن يرتجز، فقال: لن يسبق الله على حمار ... ولا على ذي منعة طيّار قد يصبح الله أمام الساري فقال صدقت، وحطّ رحله ومات فيمن مات. كثرة الوباء كثر الموت سنة بالبصرة فقيل للحسن: ألا ترى؟ فقال: ما أحسن ما صنع ربّنا، أقلع مذنب وأنفق ممسك ولم يغلط بأحد. وإذا قيل له: قل الموت يقول: ما يبقى أحد. (2) وممّا جاء في الغموم والصبر والتّعازي والمراقي الأسباب الموجبة للحزن قال يعقوب الكندي: أسباب الحزن فقد محبوب أو فوت مطلوب، ولا يسلم منهما إنسان. لأن الثبات والدوام معدومان في عالم الكون والفساد. وقال الحسن: الدنيا دار غموم فمن عوجل فجع بنفسه، ومن أجّل فجع بأحبابه. وقال بعض أصحاب المنطق: من أراد أن لا يصاب بمصيبة فقد أراد ما لا يكون، لأن المصائب بالكون والفساد في الطبع فينبغي أن يكون منا على بال. إن جمع الأشياء التي تصل إلينا كانت قبلنا لغيرنا فانتقلت إلينا بشريطة ما كان لمن قبلنا. النّهي عن اتخاذ ما يورث الجزع ومدح فاعل ذلك . قال ابن الرومي: ومن سرّه أن لا يرى ما يسوؤه ... فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا وقيل لسقراط: مالك لا تجزع؟ قال: لأني لا أقتني ما يحزنني فقده. من نهى عن الجزع وبيّن قلّة عنايته قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: من انقطع رجاؤه مما فات استراح بدنه. وقيل لرجل اشتد جزعه: لو آمنت بالمرتجع لم تجزع، ولو اقتصدت في التمتع لم تضرع، فالجزع لا يلم ما تشعث ولا يرم ما انتكث. الجزع منقصة الحياة، ومن أعان على نقصان حياته فقد عظمت خطيئته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 وقيل: التأسف على الفائت تضييع وقت ثان إن كنت جازعا لما أفلت منك، فاجزع على ما لم يصل إليك. الحزم التسلي عما لا يغني الغم فيه والاحتيال لدفع ما يندفع بالحيلة. وقيل لحكيم: الخوف أشدّ أم الحزن؟ فقال: الحزن لأن الخوف صار مكروها لما فيه من الحزن، فكما أن السرور غاية كل محبوب فالحزن غاية كل مكروه. ذهاب الحزن بعد انقضاء المدة الحزن ينضو عن ابن آدم كما ينضو الصبغ عن الثوب ولو بقي لقتله. قال المتنبي: وللواجد المكروب من زفراته ... سكون عزاء أو سكون لغوب «1» حقيقة الصبر قيل: الصبر حبس النفس على المكروه وعما تدعوك إليه. وقيل: الصبر صبران، صبر على المكروه فيما يلزمك فعله وصبر عما يدعوك إليه الهوى. وسمع رجل آخر يقول: اللهم أرزقني صبرا، فقال له: ما أراك تسأل الله إلا الغم. الحثّ على دفع النّدب بالصّبر قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: الصبر ستر من الكروب وعون على الخطوب. أفضل العدّة الصبر على الشدة. وقال أمير المؤمنين كرم الله وجهه: الصبر مطيّة لا تكبو، والقناعة سيف لا ينبو. إذا استهدف غرض الهم فارمه بنبال الصبر. وقيل: اجعل صبرك على النوائب كفاء شكرك على المواهب. الصبر عند النقم والشكر عند النعم. وقال عمر رضي الله عنه: لو كان الصبر والشكر بعيرين ما باليت أيهما ركبت. الصبر يناضل الحدثان والجزع من أعوان الزمان. وما في الشكوى إلا أن تحزن صديقك وتشمت عدوك. وقال أنو شروان: جميع مكاره الدنيا تنقسم إلى قسمين، ضرب فيه حيلة فالإضطراب دواؤه، وضرب لا حيلة فيه فالإصطبار شفاؤه، وقالت الفرس: كلمتان يقولهما العاقل عند نائبته، إحداهما هذه الحال خير ممّا هو شر منها، والأخرى لعل الله أن يجعل في هذا المكروه خيرا. وكلمتان يقولهما الجاهل: لعل ما أصابني يدعو إلى شر منه والأخرى لو كان بدل هذا كذا وكذا من المصيبة، قال شاعر: ولخير حظّك في المصيبة أن ... يلقاك عند نزولها الصبر الصبر يفضي إلى الفرح والظفر الصبر على مرارة العاجل يفضي إلى حلاوة الآجل. إنك لا تنال قليل ما تحب إلا بالصبر على كثير ما تكره. حيلة من لا حيلة له الصبر. قيل: لكل شيء ثمرة وثمرة الصبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 الظفر. قال أنوشروان: الصبر كاسمه وعاقبته العسل. وقيل: الصبر على المصيبة مصيبة على الشامت. وقيل: مكتوب على باب الجنة من صبر عبر. حثّ الجزوع على الصّبر وتحكيمه بين الجزع والصّبر قال أمير المؤمنين كرّم الله وجهه: إن صبرت فأنت مأجور وإن جزعت جرى عليك المقدور وأنت مأزور. قال بعضهم: رآني راكب وأنا مكبّ على قبر أبكي، فقال: اصبر فالصبر خير معية، فلم أصغ إليه، فولّى وهو يقول: فإن تصبرا فالصبر خير معيّة ... وإن تجزعا فالأمر ما تريان وقال أبو راكد: فإن صبرت فلم ألفظك من شبع ... وإن جزعت فعلق منفس ذهبا وقال النابغة: ألا أيّها الباكي لأحداث دهره ... تحمّل على ما يحدث الدهر فاصبر فإن أنت لم تصبر لما كان جائيا ... وأبصرت تنكيرا لذاك فأنكر الحثّ على تصوّر النوائب والاستعداد لها لتخفّ عند نزولها قيل: ما أمتع الدهر إلا ليمنع ولولا اغترار الجاهل بفوائده لخلت النفوس من الحسرة على نوائبه. قيل: لا تخل قلبك من عوارض الفكر وخواطر الذكر فيما تعروك به الأيام من ارتجاع ودائعها وحلول وقائعها. وقيل: من كان متوقعا لم يلف متوجعا. قال ابن الرومي: ألم تر رزء الدهر من قبل كونه ... كفاحا إذا فكرت في الخلوات فما لك كالمرمي في مأمن له ... بنبل أتته غير مرتقبات فإن قلت مكروه أتاني فجأة ... فما فرحت نفس مع الخطرات ولا عوفصت نفس لبلوى وقد رأت ... عظات من الأيام بعد عظات «1» إذا بغتت أشياء قد كان مثلها ... قديما فلا تعتدها بغتات «2» الغمّ يمرض البدن سئل عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما عن الحزن والغضب فقال: أصلاهما واحد، وذلك وقوع الأمر على خلاف المحبة فأما فرعاهما فمختلفان فالمكروه ممن فوقك ينتج حزنا وممن دونك ينتج غضبا. قال المتنبي: وحزن كلّ أخي حزن أخو الغضب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 وقيل: الأحزان تسقم القلوب كما أن الأمراض تسقم الأبدان. وقيل: الغمّ يشيب القلب والهرم يشيب الرأس. النّهي عن الإفراط في البكاء وإظهار الجزع على الأموات روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: إن الميت ليعذّب ببكاء أهله. وأنكرت عائشة ذلك وقرأت: (ألا تزر وزرة وزر أخرى) «1» . وقيل: معناه يعذّب بأفعاله التي يندب بها من غاراته وقتاله. ودخلت أعرابية الحضر فسمعت بكاء من دار فقالت: ما هذا؟ أراهم من ربّهم يستغيثون ومن استرجاعه يتضجرون ومن جزيل ثوابه يتبرمون. وقال أبو سعيد البلخي: من أصابته مصيبة فأكثر الغم جعل الله عقوبته غما مثله. قال الله تعالى: فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا «2» الآية. وقال صلّى الله عليه وسلّم: النائحة إذا لم تنب قبل أن تموت أقيمت يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من كبريت. الرخصة في البكاء وإظهار الجزع ما لم يكن إفراطا دخل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه على النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم موت إبنه إبراهيم، فوجد عينيه تذرفان، فقال: يا رسول الله ألست تنهانا عنه؟ قال: أنا ذو رحمة ولا يرحم من لا يرحم. وإنما نهى عن النياحة، وأن يندب المرء بما ليس فيه. وسمع عمر رضي الله عنه باكية في جنازة فزجرها فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: دعها فإن العهد قريب والنفس مصابة. وقام الحسن البصري على قبر أخيه فبكى شديدا فقيل له في ذلك فقال: ما رأيت الله عاتب يعقوب على طول بكائه على يوسف عليهما السلام. بل قال: وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ «3» . وقيل لأعرابي: أصبر فالصبر أجر، فقال: أعلى الله أتجلد؟ والله للجزع أحب إليّ، لأن الجزع استكانة والصبر قساوة. وقيل لفيلسوف: أخرج الحزن من قلبك فقال: لم يدخله بإذني فأخرجه بإذني. وأفرطت امرأة في الجزع على إبنها فعوتبت في ذلك فقالت: إذا وقع حكم الضروريات لم يقع عليها حكم المكتسبات، فأما جزعى فليس في الطاعة صرفه ولا في القدرة منعه ولي عذر للضرورة، فإن الله تعالى يقول: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ «4» وقال خالد بن صفوان: صبرك في مصيبتك أحمد من جزعك، وجزعك في مصيبة أخيك أحمد من صبرك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 نفع البكاء في دفع الأحزان قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: كنت إذا أصابتني مصيبة وأنا شاب لا أبكي وكان يؤذيني ذلك حتى سمعت أعرابيا ينشد: لعلّ انحدار الدمع يعقب راحة ... من الوجد أو يشفي نجيّ البلابل «1» فسألته: لمن الشعر؟ فقال لذي الرمة فكنت إذا أصبت بكيت فاسترحت. قال العبق: ويشفي منّي الوجد ما أتواجع وقال المتنبّي: وقلّ غناء عبرة تسكبانها ... على أنّها تشفي الحرارة في الصّدر قلّة نفع البكاء قال أبو تمّام: أجدر بجمرة لوعة إطفاؤها ... بالدمع أن تزداد طول وقوع وقال أراكة: أعينيّ إن كان البكا ردّها لكما ... على أحد قبلي فلا تتركا جهدا وقال الموسوي: وإن غبين القوم من ظاعن الردى ... إذا جاء في جيش الرزايا بأدمع «2» وقال آخر: إن الدموع طليعة الأحزان من سلا عن الولد أو سليّ عنه بسلامته في نفسه قيل لعبد الله بن عبيد الله بن طاهر: وقد مات له ولد ثم أتاه الخبر قبل عوده من جنازته بأن مات له آخر فانتظر حتى جهز، فدفنه وانصرف مع أصحابه ودعا بالطعام، فقيل له في ذلك، فقال: إذا سلمت الجلة فالسخل «3» هدر. ودخل أبو العتاهية على الفضل بن الربيع يعزيه بابنه فقال: الحمد لله الذي جعلنا نعزيك به ولا نعزيه بك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 وقال الموسوي: فتسلّ عن سيف طبعت غراره ... وأعرت صفحته سنا ومضاء «1» فالابن للأب إن تعرّض حادث ... أولى الأنام بأن يكون فداء من تسلّى عنه أو سلّي بأنه فتنة وبلاء كتب رجل إلى آخر: أما بعد، فإن الولد ما عاش حزن لوالده وفتنة. وإذا قدمه فهو صلاة ورحمة. فلا تجزعنّ فيما أزال الله عنك من حزن ومن فتنة، ولا تزهد فيما أولاك من صلاة ورحمة. وعزّى رجل عبيد الله بن سليمان، فقال: لئن حرم الأجر ببرّك لقد كفى الإثم بعقوقك، ولئن فجعت بفقده لقد أمنت الفتنة به. من تسلّى بماله من الثواب دخل عمر بن عبد العزيز على ابنه عبد الملك وكان قد أصابه الطاعون. فقال: دعني أمس قرحتك. وكان يقال: إذا كان لينا يرجى وإذا كان خشنا لا يرجى، فامتنع عبد الملك من أن يمسها فعلم عمر لم منعه، فقال: دعني أمسها فو الله لأن أقدمك فتكون في ميزاني أحب إليّ من أن أكون في ميزانك، فقال: والله لأن يكون ما تريد أحب إليّ من أن يكون ما أريد فلمسها، فقال: يا عبد الملك الحق من ربّك فلا تكونن من الممترين، فقال: ستجدني إن شاء الله من الصابرين. وقال صلّى الله عليه وسلّم: من مات له ولد فصبر أو لم يصبر جزع أو لم يجزع احتسب أو لم يحتسب لم يكن له ثواب إلا الجنة. ولما مات ذر بن عمر بن ذر قام أبوه على قبره فقال: يا ذر شغلنا الحزن لك عن الحزن عليك، فليت شعري ما الذي قلت وما الذي قيل لك اللهم إنك قد ألزمته طاعتك وطاعتي فإني قد وهبت له ما قصّر فيه من حقي، فهب لي ما قصر فيه من طاعتك، اللهم ما وعدتني من الأجر على مصيبتي به فقد وهبته له، فهب لي من فضلك. ثم قال عند انصرافه: ما علينا بعدك من غضاضة، وما بنا إلى إنسان مع الله حاجة، وقد مضينا وتركناك ولو أقمنا ما نفعناك. من رأى المفقود من ولده له دون الباقي قال زياد لرجل: أين منزلك قال: وسط البلد، قال كم لك من ولد؟ قال: تسعة. فقال بعض من حضر: أيها الأمير إنه يسكن المقابر وله ابن واحد، فقال: أجل، داري بين أهل الدنيا والآخرة ومات لي تسعة فهم لي وبقي واحد لا أدري أهو لي أم أنا له. وقيل لأعرابي: كم لك من الولد؟ قال: لي عند الله خمسة وعندي ثلاثة. وقال رجل للرشيد: بارك الله لك في الماضين وآجرك في الباقين فقال له: أعكس تصب، قال: لا لأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 الله تعالى يقول ما عندكم ينفد وما عند الله باق. التسلية عن الأب ببقاء الابن عزّى رجل آخر بموت أبيه، فقال: من كنت من بقيته لموفور ومن كنت خلفه لمجبور ومن كنت وليّه لمنصور: قال المتنبّي: فإنّك ماء الورد إن ذهب الورد وقال علي بن الجهم: فما مات من كنت ابنه لا ولا الذي ... له مثل ما سدى أبوك وما سعى «1» التّعزية بالبنات نعي إلى ابن عباس رضي الله عنهما بنت له وهو في سفر. فقال: عورة سترها الله ومؤنة كفاها الله وأجر ساقه الله. وماتت لعمر بن عبد العزيز بنت فأقبل الناس لتعزيته فأمر بحجبهم وقال: إنّا لا نعزّى في البنات ولا الأخوات. من فجع بمختص به فلم يحزن لتصورّه قبل وقوعه دخل رجل على حكيم وهو يأكل فقيل له: قد مات ابنك. فقال: قد علمت، ولم يقطع الأكل. فقيل له: ومن أين علمت ذلك؟ قال: من قول الله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «2» . وحضر الموبذ عند المأمون بمرو وهو يكالمه إذ وردت عليه خريطة من الحسن فيها أخبار العراق وموت ابن الموبذ، فقال المأمون: أحسن الله لك العوض وعليه الخلف، فأجابه بصالح الأدعية. فعجب المأمون وقال: أتدري ما أردت؟ قال: لا، قال: يقال إن ابنك مات. قال قد علمت ذلك. قال ومن أين علمت ذلك والخريطة الساعة وردت؟ قال: قد علمت ذلك يوم ولد. وهذا كما سئل أفلاطون فقيل له: ما علّة موت ابنك؟ قال وجوده. وقيل لعمر رضي الله تعالى عنه مثل ذلك، فقال: هذا أمر كنا نتوقعه قبل كونه فلما ورد لم ننكره. وقال شاعر: وهل جزع مجد عليّ فأجزع وقال الطّرماح: ولمّا رأى أنّ الأسى غير دافع ... عن المرء مقدورا من الأمر سلّما وقال: هممت بأن لا أطعم الدهر بعدهم ... حياة وكان الصبر أبقى وأكرما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 وقال المتنبّي: أردّد ويلي لو قضى الويل حاجة ... وأكثر لهفي لو شفى غلّة لهف «1» من مات له عدة بنين فصبر مات لأنس بن مالك رضي الله عنه في طاعون الجارف ثلاثون ابنا، ولعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أربعون ابنا، ولعبيد الله بن عمر رضي الله عنهما ثلاثون ابنا سنة أربع وستين، ومات لأعرابية ابن وأخ وزوج دفعة، فلم تبك، وقالت: أفردني ممّن أحبّ الدهر ... ثلاثة هم نجوم زهر فإن جزعت إنّ ذا لعذر ... وإن صبرت لا يخيّب الصّبر ونظر رجل بالبصرة إلى امرأة فقال: ما رأيت مثل هذه النضارة وما ذاك إلا من قلّة الحزن، فقالت: ما حزن كحزني: ذبح زوجي شاة ولي صبيان يلعبان فقال أحدهما للآخر: تعال أريك كيف ذبح أبي الشاة فذبحه ثم خاف فهرب إلى الجبل فرهقه ذئب فافترسه وخرج زوجي في طلبه، فاشتد عليه الحرّ فمات عطشا فقيل لها: كيف صبرت؟ فقالت: لو وجدت في الحزن دركا ما اخترت عليه. حثّ الإنسان أن يستعمل من التسلّي عاجلا ما يعود إليه آجلا عزّى رجل رجلا فقال: إن رأيت أن تقدم ما أخرته الفجوة فتربح نفسك وترضي ربك. وأصيب ابن المبارك بابن رجل، فدخل عليه مجوسي فقال: إن رأيت أن تفعل اليوم ما يفعله الجاهل بعد خمسة أيام، فقال ابن المبارك: اكتبوا هذا. وعزّى أمير المؤمنين رضي الله عنه أشعب فقال: إن صبرت جرى عليك المقدور وأنت مأجور وإن جزعت جرى عليك وأنت موزور. طول العهد يقتضي التسلّي اعتكفت فاطمة بنت الحسين على قبر زوجها سنة، فلما أرادت الانصراف سمعت قائلا من جانب البقيع يقول: هل وجدوا ما سلبوا؟ فأجابه من الجانب الآخر: بل يئسوا فانقلبوا. وقيل لأم الهيثم: ما أسرع ما سلوت، فقالت: إني فقدت منه سيفا في مضائه ورمحا في استوائه وبدرا في بهائه، ولكن قلت: قدم العهد وأسلاني الزمن ... إن في اللّحد لمسلى والكفن وكما تبلى وجوه في الثّرى ... فكذا يبلى عليهن الحزن وقال عمر لمتمم بن نويرة: ما بلغ من حزنك على أخيك؟ قال: بكيت عليه حتى ساعدت عيني العوراء الصحيحة. قال: ثم مه. قال: سلوت. وقيل: لم يخلق الله شيئا إلا كان صغيرا فكبر إلا المصيبة فإنه خلقها كبيرة فصغرت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 التسلية بعد وقوع المحذور اشتكى ابن لعمر بن عبد العزيز فجزع عليه ثم مات، فرؤي متسليا. فقيل له في ذلك فقال: إنما كان جزعي رقة له ورحمة فلما وقع القضاء زال المحذور. وقالت امرأة مات واحدها فرؤيت حسنة الحال: أمّنني من المصائب بعد. قال البحتري: صعوبة الحزن تلقى في توقّده ... مستقبلا وانقضاء الرزء إن يقعا وقال آخر: فقد جرّ نفعا فقدنا لك إنّنا ... أمنّا على كلّ الرزايا من الجزع «1» وقال: وكنت عليه أحذر الموت وحده ... فلم يبق لي شيء عليه أحاذر ومرض ابن لجعفر بن محمد فجزع ثم مات، فلم يجزع، فقيل له فقال: أما بعد وقوع الأمر فلم يبق إلا الرضا والتسليم. وقال بعضهم: نزلت بامرأة ذات أولاد وثروة، فلما أردت الإرتحال قالت: لا تخلني إذا وردت هذا الصقع. ثم أتيتها بعد أعوام فوجدتها قد افتقرت وثكلت أولادها وهي ضاحكة مسرورة، فسألتها فقالت: إني كنت ذات ثروة وجاه وكانت لي أحزان فعلمت أن ذلك لقلة الشكر، وأنا اليوم بهذه الحالة أضحك شكرا لله تعالى على ما أعطاني من الصبر. ومن أحسن ما قيل في ذلك. قول أوس بن حجر: أيّتها النفس أجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا وقيل: إذا استأثر الله تعالى بشيء فاله عنه: فلست أرجو ولست أخشى ... ما أحدثت بعده الدهور فليجهد الدهر في مساتي ... فما يرى بعد ما يضير وقال: ألا ليمت من شاء بعدك إنما ... عليك من الأقدار كان حذاريا من تمنّى بعده زوال الدّنيا وموت الورى قالت أم جرير: فلا وضعت أنثى ولا أب واحد ... ولا ذرّ قرن الشمس بعد جرير «2» قال محمد بن صالح: قل للردى لا تغادر بعده أحدا ... وللمنيّة من أحببت فاعتمدي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 وقال المتنبّي: لا قلّبت أيدي الفوارس بعده ... رمحا ولا حملت جوادا أربع الحثّ على التسلّي لقرب اللحوق بالميت والتمدّح بذلك دخل الطائي على جعفر بن سليمان وقد توفي له أخ، فاشتد جزعه عليه، فقال: أذكر مصيبتك في نفسك تنسك فقد غيرك. واذكر قول الله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «1» ، وخذ بقول الشاعر: وهوّن ما ألقى من الموت أنّما ... أصابك منه يا بنيّ مصيبي وكتب بعضهم: فيم الجزع ونحن على مدرجة المتوفى. وقال إبراهيم بن المهدي: وإنّي وإن قدمت قبلي لعالم ... بأني وإن أبطأت عنك قريب وقال يحيى بن زياد: وهوّن وجدي أنني سوف أغتدي ... على إثره يوما وإن نفس العمر الحثّ على التسلّي بمن أصابه كمصيبته والتمدح بذلك روي أنّ الإسكندر حكم له أنه لا يموت إلا بأرض سماؤه ذهب وأرضه حديد. فلما سقط من دابّته حمل على درع وظلل بترس من ذهب فلما أفاق ورأى ذلك فطن لما حكم له، وقال: قاتل الله المنجمّين، يقولون ولا يفسرون، فكتب إلى والدته أن أصنعي طعاما وإدعي له من لم تصبه مصيبة، فامتثلت فبقي الطعام ولم يأتها أحد، ففطنت أنه أرسل يعزيها، وقال: وما أنا بالمخصوص من بين من أرى ... ولكن أتتني نوبتي في النّوائب وتوفي ابن لمسلمة فاشتد جزعه حتى أمسك عن الطعام والشراب، فدخل في غمار الناس رجل رثّ الهيئة، فأنشده: وطيّب نفسي عن شراحيل أنني ... إذا شئت لاقيت امرأ مات صاحبه فقال: ويحك، أعد فأعاده فدعا بالطعام. قالت الخنساء: ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن ... أسلّي النفس عنه بالتأسّي وقال حريث: ولولا الأسى ما عشت في الناس بعده ... ولكن إذا ما شئت جاوبني مثلي ونزل عروة بن الزبير بالوليد ومعه ابنه فضربته دابّة فأصبح ميتا. ووقعت الأكلة في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 رجله فقطعت بالمنشار ولم يمسكه أحد، فقال: لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. ثم قدم قوم من عبس على الوليد وفيهم ضرير، فقال: نزلت ليلة في بطن واد ولا أعلم في الأرض عبسيا أكثر ما لامني، فطرقنا سيل ذهب بأهلي، ومالي غير بعير ومولود، فند البعير فتبعته، فسمعت صرخة الولد فرجعت، فإذا الذئب قد أكله، فرجعت للبعير وتعلقت بذنبه، فحطّم وجهي فأعماني فأصبحت لا أهل ولا مال ولا عين. فقال الوليد: خذوا بيده إلى عروة ليتسلّى به. وقال رجل لقوم عزاهم: ما منكم بدأت ولا إليكم انتهت، وعكس ابن الرومي فقال: ليس تأسو كلوم غيري كلومي ... ما به ما به وما بي ما بي وقال فيلسوف: لئن كنت تبكي لنزول الموت بمن أنت له محب، فلطالما نزل بمن كنت له مبغضا. وقال أفلاطون لرجل رآه مغموما: لو أحضرت قلبك ما فيه الناس من المصائب لقل همك. الحثّ على التسلّي بموت النبي عليه السلام قال صلّى الله عليه وسلّم: من أصابته مصيبة فليذكر مصيبته بي. قال ديك الجن: تأمّل إذا الأحزان فيك تكاثفت ... أعاش رسول الله أم ضمّه القبر رئي على قبر: تعزّ فكم لك من أسوة ... تبرّد عنك غلل الحزن بموت النبي وقتل الوصيّ ... وذبح الحسين وسمّ الحسن التسلّي بأنه معزّى لا معزّى به قال بعضهم: لا زلنا نعزّيك ولا نعزّي بك، وقال أبو فراس: كن المعزّى لا المعزّى به ... إن كان لا بدّ من الواحد لا بد من فقد ومن فاقد ... هيهات ما في النّاس من خالد وقال المتنبّي: مهما يعزّ الفتى الأمير به ... فلا بإقدامه ولا الجود «1» ومن منانا بقاؤه أبدا ... حتى يعزّى بكلّ مولود «2» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 التسلية عمّن مضى بمن بقي قال الحمدوني: حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا ... خراش وبعض الشر أهون من بعض وقال البحتري: تعزّ بالصبر واستبدل أسى بأسى ... فالشمس طالعة إن غيّب القمر وقال المتنبّي: قاسمتك المنون شخصين جورا ... جعل القسم نفسه فيك عدلا «1» فإذا قست ما أخذن بما غا ... درن سرّى عن الفؤاد وسلّى وقيل لرجل ماتت امرأته نفساء: عظم الله أجرك فيما أباد وبارك لك فيما أفاد. التعزية بمملوك دخل إبراهيم ابن العباس على الواثق وقد أصيب بخادم كان مشغوفا به، فقال: في بقاء السيد المالك عزاء عن المملوك الهالك. أدعية لذوي المصيبة جعل الله رزيته خاتمة الرزايا، وصب على أعدائه ديم المنايا. لا جرّعك الله مصيبة غيرها ولا أنالك قارعة سواها. لا نهشتك بعدها حيّة ولا لذعتك كيّة. جعل الله مصيبتك أدبا ولا جعلها غضبا. لقّاك الله الصبر ووقاك ما يحبط الأجر لا أنساك الله المصيبة بأعظم منها. وهب الله لك عمرا طويلا وأجرا جزيلا وصبرا جميلا. وقال رجل لابن عمر: عظّم الله أجرك فقال: بل جعل لي العافية، معناه أن تعظيم الأجر في تعظيم ما يؤجر عليه من المصيبة. ويقال: أخلف الله عليك لما منه عوض، وخلف الله عليك لما ليس منه عوض. وقال يحيى البرمكي: التعزية بعد ثلاث تجديد للمصيبة والتهنئة بعد ثلاث استخفاف بالمودّة. تعازي الحمقاء مات ابن لعبد الملك فجاءه ابنه الوليد يعزّيه فقال: يا بنيّ مصيبتي فيك أقدح في بدني من المصيبة بأخيك، قال: أمّي أمرتني بذلك. واغتم الحجّاج بموت صديق له وعنده شاميّ أوفده إليه عبد الملك في مهمّة. فقال الحجاج: ليت إنسانا يعزّيني عنه بأبيات. فقال: أقول أيها الأمير قال: قل، فقال: كل خليل سوف يفارق خليله بموت أو بصلب أو يقع فوق البيت أو يقع البيت عليه، أو يسقط في بئر، أو يكون سبب لا نعرفه. فقال الحجّاج: حسبك، فمصيبتي بأمير المؤمنين حيث أرسل مثلك في مهمّة أنستني هذه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 ودخل حمصيّ على عروة بن الزبير لما قطعت رجله، فقال: أقطعت رجلك؟ قال: نعم حبذا أفأنت مغتم. قال: كما يكون مثلي قال: لا تغتم فإنك لو رأيت ثوابها لتمنّيت أن الله قطع رجلك ويديك وأعمى بصرك ودقّ صلبك. وعزّى بعض الحمقاء جارا له بامرأته فقال: أعظم الله أجرك، ورحم الظعينة فقد ماتت في يوم جيد يوم الثلاثاء، فقيل له: إن هذا اليوم جيد لإخراج الدم فقال: هو لإخراج الروح أجود. الرزيّة فقد الأماثل لا فقد الأموال قال شبيب بن البرصاء: لعمرك ما الرزيّة بالمطايا ... ولا الخيل الجياد ولا العبيد ولكنّ الرزيّة كلّ خرق ... من الفتيان متلاف مفيد «1» وقال آخر: لا أعد الإقتار عدما ولكنّ ... فقد من قد رزئته الإعدام «2» وقال لبيد: إن الرزيّة لا رزيّة مثلها ... فقدان كلّ أخ كضوء الكوكب الموت يعاجل الأفاضل ويؤخّر الأراذل هو الدهر لا يبقى عليه مقدم ... جواد ولا وغد من النّاس واضع بكلّ أراه فاجعا غير أنه ... إلى الحرّ والعلق النفيس مسارع وقال أبو تمّام: أن ينتجل حدثان الدهر أنفسكم ... ويسلم الناس بين الحوض والعطن «3» فالماء ليس عجيبا أنّ أعذبه ... يفنى ويمتدّ عمر الآجن الأسن «4» وقال آخر: يقود الزمان جياد الخيول ... ويبقي الرّذال على المدود «5» وقال آخر: كريم لزاد يحبسه الوعاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 وقال الحمدوني: إذا ما اتقيت على فرحة ... فكلّ بلاء بها مولع وقال آخر وسهم المنايا بالذّخائر مولع موت السني والصديق وبقاء الدنيء والعدو ّ قال سعيد بن عبد الرحمن: إنّ الزمان ولا تفنى عجائبه ... أبقى لنا ذنبا واستأصل الراسا وقال البسّامي: حياة هذا كموت هذا ... فلست تخلو من المصائب وقال الفقعسي: لعمرك إنّي بالخليل الذي له ... عليّ دلال واجب لمفجّع «1» وإنّي بالمولى الذي ليس نافعي ... ولا ضائري فقدانه لممتّع «2» من عمّ به مصاب النّاس قال الرفّاء: تساوت قلوب الناس في الحزن إذ ثوت ... كأنّ قلوب الناس في حزنها قلب وقال سلم: كادت له مهج الأنام تسيل «3» وقال آخر: يشاركني في فقده البدو والحضر وقال الموسوي: يموت قوم ولا يأسى لهم أحد ... وواحد موته همّ لأقوام من اغتمّ بموته الجمادات قال أبو تمّام: أظلمت الآفاق من بعده ... وعرّيت عن كلّ حسن وطيب وقال آخر: لقد حزنت لفقدهم الشّهور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 من ذكر طول حزنه على من رثاه قال سلم: وحزن كطول الدّهر باق إذا مضت ... أوائله عادت إلينا الأواخر وقال آخر: أأسرع الحزن في عقلي وفي جسدي وقال آخر: أصاب غليلي عبرتي فأسالها ... وعاد احتمامي ليلتي فأطالها «1» وقال أبو فراس: أوصيك بالحزن لا أوصيك بالجلد ... جلّ المصاب عن التعنيف والفند «2» أبكي بدمع له من حسرتي مدد ... وأستريح إلى صبر بلا مدد «3» وقال آخر: وظلّت بي الأرض الفضاء كأنّما ... تصعد بي أركانها وتجول وقال أبو فراس: يعزّون عنك وأين العزاء ... ولكنّها سنّة تستحبّ من زاد سوء حاله على حال الميت قال المتنبّي: بنا منك فوق الرمل ما بك في الرمل ... وهذا الذي يضني كذاك الذي يبلي «4» كأنّك أبصرت الذي بي وخفته ... إذا عشت فاخترت الحمام على الثّكل «5» وقال الموسوي: يفوز بالراحة الفقي ... د وللفاقد طول العناء الراغب عن الحياة لأجل من رثاه قالت بثينة: سواء علينا يا جميل بن معمر وقال آخر: طلّقت من بعده السرور ... وفرّغت فؤادي للهمّ والحزن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 فليتني متّ إذ فجعت به ... بل ليته لم يكن ولم أكن قال آخر: وما في حياة بعد موتك طائل من أصابه ما لو أصاب الجبال لهدّها قال هدب: أصبنا بما لو أنّ سلمى أصابها ... لسهّل من أركانها ما توعّرا وقال البحتري: ولو أنّ الجبال فقدن إلفا ... لأوشك جامد منها يذوب كثرة البكاء على الميّت قال أبو ذؤيب: فالعين بعدهم كأنّ حداقها ... سلّت بشوك فهي عور تدمع وقال جرير: أظنّ انهمال الدمع ليس بمنته ... عن العين حتى يضمحلّ سوادها وقال أبو الغمر: وحلّت وكاء الدمع في وجناته ... كما انفجرت عن مائهنّ المنابع «1» من يستقلّ لموته البكاء قال شاعر: لا أستطيع سوى الدمو ... ع وأستقل له الدموعا وفي كتاب يقل له البكاء ولو كان يدمع الحشا. قال بعضهم: إن المغيرة فوق نوح النّائح الإنكار على من لا يغمّه الموت قالت امرأة: أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنّك لم تجزع على ابن طريف قال الشماخ: أبعد قتيل بالمدينة أظلمت ... له الأرض تهتزّ العضاه بأسوق «2» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 وقال آخر: أرى الأثل من بطن العقيق مجاوري ... مقيما وقد غالت يزيد غوائله «1» وقال عبد الصمد: ما للسّماء عليه ليس تنفطر ... وللكواكب لا تهوي فتنتثر من اعتذر وتذمّم لبقائه قال بعضهم: ومن عجب أن بتّ مستشعر الثّرى ... وبتّ بما زوّدتني متمتّعا وقال آخر: ولو أنني أنصفتك الودّ لم أقم وقال خليفة بن خلف: أعاتب نفسي إن تبسّمت خاليا ... وقد يضحك الموتور وهو حزين «2» وقال الهذلي: تقول أراه بعد عروة ساليا ... فلا تحسبي أن تناسيت عهده المستقبح بموته الصّبر قال ديك الجن: إذا الصبر أهدى الأجر فالصّبر مأثم ... لديّ وترك الصّبر فيك هو الأجر وقال ابن الرومي: لا أسأل الله حسن مصطبر ... فإنّه عنك يوم مصطبر وحزن نفسي عليك من كرم ... وهو على من سواك من خور «3» وقال آخر: الصبر والأجر فيك إثم وقال العتبي: الصبر يحمد في المصائب كلّها ... إلّا عليك فإنّه مذموم وقال أبو تمّام: وإن امرأ لم يمس فيك مفجّعا ... بمجهوده في رأيه لمفجّع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 وقال المتنبّي: أجد الحزن فيك حفظا وعقلا ... وأراه في الخلق وعرا وجهلا «1» شق الجيب نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن شقّ الجيوب. قال أبو سعيد البلخي: من أصيب بمصيبة فشقّ ثوبا وضرب صدرا فكأنما أخذ رمحا يريد أن يقاتل به ربّه. قال المتنبّي: علينا لك الإسعاد إن كان نافعا ... بشقّ قلوب لا بشقّ جيوب وقال أبو عطاء: عشية قام النائحات وشقّقت ... جيوب بأيدي مآتم وخدود «2» وقال رجل من طيء: ولو لم يفارقني عطية لم أهن ... ولم أعط أعدائي الذي أمنع شجاع إذا لاقى ورام إذا رمى ... وها أنا ذا ما أظلم الليل مصرع «3» وقال أبو الشّيص: يا أيّها الدهر أقصر عن تنقّصنا ... فلست منتهيا عن عشمنا أبدا «4» أضحى سنان قناتي بعد حدّته ... مرّت به عثرات الدهر فانقصدا «5» زيارة القبور وتجديد الحزن بها قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرا. قال عبد الملك الحارثي: أتيناه زوّارا فأمجد ناقري ... من البثّ والداء الدخيل المخامر «6» وأبنا بزرع قد نما في صدورها ... من الوجد يسقى بالدّموع البوادر «7» وقال خلف بن خليفة: وبالدير أشجاني فكم من شبح له ... دوين المصلّى بالبقيع شجون ربى حولها أمثالها إن أتيتها ... ترينك أشجانا وهنّ سكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 قالت أعرابية: لقد كنت أعدو إلى قصره ... فقد صرت أعدو إلى قبره وكنت أراني غنيّا به ... عن النّاس لو مدّ في عمره العقر على قبر الميت كانت عادة العرب أن تعقر على قبر ميتهم تعظيما له، وهذا سوى ما يجعلونه من البلية، وهي ناقة توقف على قبر ميتهم إلى أن تموت ويزعمون أن الميت يركبها يوم الحشر. قال زياد الأعجم: وإذا مررت بقبره فاعقر له ... وانضح جوانب قبره بدمائها ويقال إن زيادا دخل على المهلب فأنشده هذه القصيدة، فلما أتى على هذا البيت. قال له: هلا عقرت عليه يا أبا أمامة فرسك؟ فقال: إني كنت على مفرق ولو كنت على عتيق لفعلت. فاستحسن قوله، وقال لمن حضر مجلسه من ولده ومواليه: لينفذ كل واحد منكم إلى زياد فرسا من خيله فانصرف بعدّة أفراس. وقال عبيد الله بن إسحاق: فإن يك يا ابن المصطفى قبر سيّد ... تعقر خيل حوله ونجائب فقبرك أهل أن يعقر حوله ... رجال المعالي والنساء الكواعب «1» تذكّر الميت وتصوّر محاسنه قالت الخنساء: يذكّرني طلوع الشّمس صخرا ... وأذكره لكلّ مغيب شمس «2» وقالت كلثوم: لم يخل من تمثاله بصري ... يوما ولا من لفظه أذني يا من تمثّل من محاسنه ... للعين مشبوح بلا بدن زيارة طيف الميت قال ديك الجن: جاءت تزور وسادي بعد ما دفنت ... فبتّ ألثم خدا زانه الجيد فقلت قرّة عيني قد نعيت لنا ... فكيف ذا وطريق القبر مسدود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 قالت هناك عظامي في ملحده ... ينهشن منها بنات الأرض والدود وهذه النّفس قد جاءتك زائرة ... هذي زيارة من في القبر ملحود فداء الميّت لو قبل عنه الفداء قال متمّم: فلو أخذت منّي المنيّة فدية ... فديتك منها بالسّوام وبالأهل وقال إبراهيم بن إسماعيل: أجاري لو نفس فدت نفس ميت ... فديتك مسرورا بأهلي وماليا وقال البحتري: بي لا بغيري تربة محفورة ... لك في ثراها رمّة وعظام من ذكر أنّه لو أمكنه دفع المنيّة لدفعها قال الحميح: فلو أني استطعت دفعت عنه ... ولكنّ باعه من لا يقيل وقال ابن الرومي: ولو كان هذا الموت قرنا أطيقه ... لما فاتني إحدى الليالي بثاره «1» وقال الفرزدق: فلو كانت الأحداث يدفعها امرؤ ... بعزّ لما نالت يداه عريني وقال الموسوي: أتته المنيّة مغتالة ... رويدا تخلل من سيره فلم تغن أجناده حوله ... ولا المسرعون إلى نصره من ذكر أنّه لو حضر لدفع قاتله قال سعيد بن علقمة: وغيّبت عن قتل الحباب وليتني ... شهدت حتاتا يوم ضرّج بالدم «2» وفي الكفّ مني صارم ذو حفيظة ... متى ما يقدم في الضّريبة يقدم فتعلم أحيا مالك ولفيفها ... بأن لست عن قتل الحتات بمجرم وقال البحتري: فوا أسفي أن لا أكون شهدته ... فحاست شمالي دونه ويميني «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 وإلا لقيت الموت أحمر دونه ... كما كان يلقى الدهر أغبر دوني «1» من مات حتف أنفه وكان يخشى عليه القتل قال لبيد يرثي أخاه وقد أصابته صاعقة فمات: أخشى على أربد الحتوف ولا ... أرهب نوء السّماك والأسد «2» فجعني البرق والصواعق ... بالفارس يوم الكريهة لنجد وقال كعب بن زهير: لعمرك ما خشيت على أبيّ ... مصارع بين قوّ فالسّليّ «3» ولكنّي خشيت على أبيّ ... جريرة رحمه في كلّ حيّ «4» وقال المتنبّي: نفى وقع أطراف الرماح برمحه ... ولم يخش وقع النّجم والدّبران «5» ولم يدر أن الموت فوق شواته ... معار جناح محسن الطّيران «6» من اختطفته المنية لمّا أدرك المشتهى أو تناهى قال سلم الخاسر: لما استظلّ بتاج الملك واجتمعت ... له الأمور فمنقاد ومقسور حطّت عليه بمقدار منيّته ... كذاك تصنع بالنّاس المقادير «7» وقيل: وقوع المنية في إدراك الأمنية، وذلك نحو قوله: إذا تمّ أمر بدا نقصه ... توقّ زوالا إذا قيل تمّ وله باب. من الموت مرديه مع كثرة توقّيه قال رجل من بني أسد: أبعدت من يومك الفرار فما ... جاوزت حتّى انتهى بك القدر لو كان ينجي من الردى حذر ... أنجاك ممّا أصابك الحذر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 وقال أبو تمّام: وقد كان لو ردّ غرب الحمام ... شديد توقّ طويل احتماء «1» التصامم عن النعي والتوّجّع له قال: وفي السمع عمّا خبّروا غدوة وقر «2» وقال آخر: أعلّل نفسي بالمرجم غيبة ... وكاذبتها حتى أبان كذابها وقال اليربوعي: ولما نعى الناعي بزيد تغوّلت ... بي الأرض فرط الحزن وانقطع الظهر «3» عساكر تغشى النفس حتّى كأني ... أخو سكرة دارت بهامته الخمر وقال الموسوي: أبدي التصامم عنه حين أسمعه ... عمدا وقد بلغ الناعون أسماعي من دعا على ناعيه ودافنيه قالت الخنساء: ألا ثكلت أم الذين غدوا به ... إلى القبر ماذا يحملون إلى القبر؟ وقال أبو فراعة: لأمك الويل تترى أيّها الناعي ... أوجعت سوداء قلبي أيّ إيجاع «4» قوم تفانوا واحدا بعد واحد قال رجل من خثعم: نهل الزمان وعلّ غير مصرّد ... من آل عتّاب وآل الأسود «5» فاليوم أضحوا للمنون وسبقه ... من رائح عجل وآخر مقتد وقال ابن هرمة: أنهب للمنية يعتريهم ... رجالي أم هم درج السّيول «6» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 من تصيبه كلّ يوم مصيبة قال شاعر: وتقرعني في كلّ يوم مصيبة ... فقد صرت ذا أنس بقرع المصائب «1» لعمرك ما تعفو كلوم مصيبة ... على صاحب إلّا فجعت بصاحب «2» من قاسمته فأخذت النصيبين قال المتنبّي في سيف الدولة وقد ماتت أختاه فرثى الأولى: قاسمتك المنون شخصين جورا ... جعل القسم نفسه فيه عدلا ثم ماتت الأخرى فقال: قد كان قاسمك الشخصين دهرهما ... وعاش درهما المفدّى بالذهب وعاد في طلب المتروك تاركه ... إنا لنغفل والأيام في الطلب ما كان أقصر وقتا كان بينهما ... كأنه الوقت بين الورد والقرب «3» من اغتاله الموت وكان من خدّامه قال مسلم بن الوليد: ألم تعجب له أنّ المنايا ... فتكن به وهنّ له جنود وقال بكر بن النطاح: ألم تر للأيام كيف تتابعت ... به وبه كانت تذاد وتدفع من استوحش فناؤه بموته قال أبو حية النمري: فإن يمس وحشا داره فلربّما ... أقام به بعد الوفود وفود وقال أبو تمّام: فيا وحشة الدنيا وكانت أنيسة ... ووحشة من فيها لمصرع واحد الموصوف بأنه لو خلّد أحد لخلّد هو قالت الخنساء: لو كان للدهر مال كان متلدة ... لكان للدهر صخر مال فتيان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 قال أبو ذؤيب في قريب من هذا المعنى: لو كان مدحة حيّ أنشرت أحدا ... أحيا أباكن يا ليلى الأماديح «1» من بقيت نعمته بعد موته قال أبو الزبرقان: فمات وأبقى من تراث عطائه ... كما أبقت الأنواء للحيوان «2» وقال أبو مطير: فتى عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا «3» وقال صرم: أما مضيت فكالربيع بمائه ... يعفو وتحسن بعده الآثار من خلّف العلى دون اللها قال مالك بن عمرو الحارثي: ولما حضرنا لاقتسام تراثه ... أصبنا عظيمات اللها والمآثر «4» وقال عمارة بن عقيل: لم يكن موسرا من المال لكن ... موسرا من مكارم ومعالي من يحسن تأبينه ومدحه قال مطيع بن إياس: يا خير من يحسن البكاء به ال ... يوم ومن كان أمس للمدح وقال البحتري: مضى غير مذموم وأصبح ذكره ... حلى القوافي بين راث ومادح وقال آخر: قد مات قوم وهم في الناس أحياء وقال العطوي: وليس صرير النعش ما تسمعونه ... ولكنّه أصلاب قوم تقصّف «5» وليس بريح المسك ريح حنوطه ... ولكنه ذاك الثناء المخلّف «6» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 وقال آخر: إذهب كما ذهبت غوادي مزنة ... أثنى عليها السهل والأوعار «1» المرثيّ بالجود قال مروان بن أبي حفصة: وكان الناس كلهم لمعن ... إلى أن زار حفرته عيالا وقال السلامي: أما طلاب المعالي فاستهين به ... وأكرمت بعده الأوراق والذهب وقال آخر: أتاه الرّدى في زيّ عاف وإنما ... أبى جوده أن يرجع الموت خائبا «2» من مات بموته الجود والكرم قال شاعر: سلوا عن المجد والمعروف أين هما ... فقيل إنهما ماتا مع الحكم وقال زياد الأعجم: إن السماحة والمروءة ضمنا ... قبرا يمرّ على الطريق الراضع «3» وقال آخر: ولما مضى معن مضى الجود وانقضى ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا «4» وقال آخر: ما درى نعشه ولا حاملوه ... ما على النّعش من عفاف وجود وقال المتنبّي: يحسبه دافنه وحده ... ومجده في القبر من صحبه من تضمّن قبره عزّا ومنفعة قال أبو الشّيص: يا حفرة طولها خمس إذا ذرعت ... في خمسة قد دفنّا عزّنا فيها وقال ديك الجن: عجبت لحفرة حشيت بطود ... وقبر حشوه بلد رحيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 وقال التنوخي: ولحد حوى شمسا وأرض تضمّنت ... سماء نجوم المجد فيها ثواقب من توجّع له المكارم قال أوس بن حجر: ليبك الضيف والمكارم وال ... فتيان طرّا وطامع طمعا وقال أشجع: أنعى فتى الجود إلى الجود ... ما مثل من أنعى بموجود وقال الخوارزميّ: أعزّيكم أم أعزّي النّدى ... فما هو دونكم في الألم «1» وقال أبو تمّام: يعزّون عن ثاو تعزّى به العلى ... ويبكي عليه الجود والبأس والشّعر من فقد الآمال بموته قال أبو تمّام: توفيت الآمال بعد محمّد ... وأصبح مشغولا عن السّفر السفر وقال: وكانت الآمال مبسوطة ... حتى إذا مات طويناها وقال دعبل: مات الثلاثة لما مات مطلب ... مات الرجال ومات الرّعب والرّهب المرني بحفظ الجوار قال بعضهم: بمن يستجير الحرّ أقفر بيته ... إذا لم يجد في الأرض قرضا ولا فرضا ومن للأمور والمعضلات إذا عرت ... ومن يحسن الإبرام بعدك والنقضا «2» وقال بعض بني أسد: كانوا على الأعداء نار محرقة ... ولقومهم حرما من الأحرام وقال آخر: يا طالبا وزرا من ريب حادثة ... أودى سعيد فلا كهف ولا وزر «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 وقال أبو القاسم العلاء في الصاحب: قام السعاة وكان الخوف أقعدهم ... واستيقظوا بعد ما نام الملاعين لا يعجب الناس لما مات فانتشروا ... مضى سليمان فانحلّ الشياطين من مات بموته من لم يمت قال شاعر: ماتوا بموتك غير أنّ شخوصهم ... نصب الهموم مقيمة لم تقبر وقال امرؤ القيس: فلو أنّها نفس تموت بموته ... ولكنّها نفس تساقط أنفسا وقال هشام أخو ذي الرمّة: ولم يك قيس هلكه هلك واحد ... ولكنّه بنيان قوم تهدّما وقالت ليلى: قتلتم فتى لا يسقط الرعب رمحة ... إذا الخيل جالت في قنا متكسّر وقال الفرزدق: ألا هلك المكسّر فاستراحت ... حوافي الخيل والحيّ الحريد «1» لما أتى معاوية نعي عمرو بن العاص، أنشد: ماذا رزئنا به من حيّة ذكر ... نضناضة بالرزايا صلّ أصلال «2» من هابته الحوادث فاشتفت بموته قال أبو الغمر: وسألت عنه فقيل مات لما به ... قلت النّدى لا شك مات لما به «3» فكأنما ضنّ الزمان على الورى ... ببقائه أو هابه فبدا به وقال محمد بن وهب: كأنّ الموت صادف منك غنما ... أو استشفى بموتك من سقام «4» من تبجّح به الموت وطاب القبر فلان تباشرت القبور بموته وأشرقت المقابر بحفرته. قال العقيلي: لئن أظلمت من بعدك الأرض وحشة ... لقد أشرقت أنسا إليك المقابر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 وقال الطائي: مضى طاهر الأخلاق لم تبق بقعة ... من الأرض إلا تشتهي أنها قبر وقال: أرادوا ليخفوا قبره عن عدوّه ... فطيب تراب القبر دلّ على القبر المرثي بالعلم أنشد أبو نواس أبا عبيدة في مرثية خلف الأحمر قوله: أودى جماع العلم مذ أودى خلف ... فليذّم من العياليم الخسف «1» رواية لا يجتني من الصحف وفي أبيات كثيرة قال ما أحسنها وطوبى لمن يرثى بمثلها، فقال: مت راشدا وعلي أن أرثيك بخير منها، ولما مات سفيان بن عيينة. قال ابن مناذر: راحوا بسفيان على نفسه ... والعلم مكسوين أسفانا «2» لا يبعدنك الله من هالك ... ورّثنا علما وأحزانا وقال آخر: يبكيك للمجد أقلام مهذبة ... والأمر والنهي والديوان والعمل وقال التنوخي: ثوى الفقه في قعر الثرى مذ ثوى به ... وغاصت بحار الشعر وانقطع النظم ولو أنّ هذا الموت خصم مفوّه ... لأفحمه من عزّ ألفاظه خصم المرثي بالزّهد والعبادة رأى رجل ميتا فقال: كان والله بالليل قوّاما وبالنهار صوّاما يجمع بين طرفي النهار والليل بالعبادة، كما قال الأفوه: لقد أبقى مكانك في لؤي ... وآل محمد خللا مبينا وليل قد دأبت له بآي ... من الفرقان بين الساجدينا فآنس شخصك الجدث المعفّى ... وأوحش قبرك المتهجّدينا «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 قال عبد الصمد بن المعدل: لو كان يبكي كتاب الله من أحد ... لطول إلف بكتك الآي والسور المختصّ بمرثية الأبوين قيل: موت الأبوين سد بابين من أبواب الجنة. قال قتيبة بن مسلم لما ماتت أمه لأبي مجلز: لقد سدّ دوني باب من أبواب الجنة قال: نعم وباب من أبواب النار لأنك ما كنت تأمن أن تعقها. قال كشاجم: أبعد مصاب الأمّ آلف مضجعا ... وآوي إلى خفض من العيش أو ظلّ سترضع عيني قبرها من دموعها ... بما كلفته من رضاعي ومن حملي «1» رثيت لنصل يأخذ الموت جفنه ... وأعجب من فرع ينوح على أصل وبكت صبية أباها، فقالت: وا أبتاه تركتنا كالبهم ليس لنا رعاة، وا أبتاه تركتنا كالزرع ليس له مسقاة. الفجيعة بولد صغير قال أحمد بن أبي طاهر: بدر ليل بدر النق ... ص له قبل تمامه كان نورا من رياض ... فذوى قبل ابتسامه «2» وقال أعرابي: يا غائبا ما يؤوب من سفره ... عاجله موته على صغره شربت كأسا أبوك شاربها ... لا بدّ منها ولو على كبره وقال المتنبي: فإن تك في قبر فإنّك في الحشا ... وإن تك طفلا فالأسى ليس بالطّفل «3» ومثلك لا يبكى على قدر سنّه ... ولكن على قدر المحيلة والأصل بنفسي وليد عاد من بطن أمه ... إلى بطن أم لا تطرق بالحمل وقد مدّت الخيل العتاق عيونها ... إلى وقت تبديل الرّكاب من النّعل «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 وريع له جيش العدوّ وما مشى ... وجاشت له الحرب الضّروس وما تغلي «1» وكتب: كاتب عاجله موته على صغره وعاقصه رداه قبل سفره، وقال التنوخي: كغصن ثنته الريح عند اعتداله ... رياح غواد بالرّدى وروائح التحسّر على الولد قال أبو الشّيب: بأبي وأمي من عبأت حنوطه ... بيدي وودّعني بماء شبابه كيف السلوّ وكيف أنسى ذكره ... وإذا دعيت فإنّما أدعى به وقال: لعمرك ما أبقى لنا الدهر باقيا ... نقرّ به عينا غداة نؤب كأنّي وترت الدهر بابن أفاده ... على حين كانت كبرة فمشيب «2» وقال العتبيّ: دفنت بكفّي بعض نفسي فأصبحت ... لها دافن من نفسها ودفين المتوجّع لموت البنين وبقاء البنات قال أبو الغمر، وقد مات له خمس بنين وحصلت له خمس بنات: مضى خمسة وجهي بهم كان مشرقا ... بخمس بهنّ الوجه أسود سافع «3» وقال العتبيّ: ألا يدرأ الدهر عنّا المنونا ... يبقي البنات ويفني البنينا وكنت أبا خمسة كالبدور ... وقد فقأوا أعين الحاسدينا فمروا على حادثات الزمان ... كمرّ الدراهم بالنّاقدينا مرثية عروس امرأة مات عنها زوجها ليلة العرس، فقالت: أبكيك لا للنعيم والأنس ... بل للمعالي والرمح والترس أبكي على فارس فجعت به ... أرملني قبل ليلة العرس وقال: يا قرب مأتمها من العرس وقال صالح بن عبد القدوس: وكذاك الدهر مأتمه ... أقرب الأشياء من عرسه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 وقال المتنبي: أتتهنّ المصيبة غافلات ... فدمع الحزن في دمع الدلال «1» من قتل محبوبه قال بعضهم وقد اتهم امرأته فقتلها: يا طلعة طلع الحمام عليها ... وجنى لها ثمر الرّدى بيديها رويت من دمها الثّرى ولطالما ... روى الهوى شفتي من شفتيها وذباب سيفي في مجال خناقه ... ومدامعي تجري على خدّيها «2» وقال ديك الجن وكان اتهم امرأته فقتلها ثم تبين له بطلانه: تبكي وتقتل من تحبّ ... فقدك من عجب عجيب وقال: وآنسة عذب الثنايا وجدتها ... على خطّة فيها لذي اللبّ مألف فأصلتّ حرّ السيف في حرّ وجهها ... وقلبي عليها من جوى الوجد يرجف «3» فخرّت كما خرّت مهاة أصابها ... أخو قنص ومستعجل متعسّف سيقتلني حزنا عليها تأسّفي ... وهيهات ما يجدي عليّ التأسّف مرثية عشيقة قال العبّاس: ريحانتي واختلست من يدي ... أبكي عليها آخر المستند «4» كانت يدا كانت بها قوّتي ... فاختلس الدهر يدي من يدي مرثية زوجة قال الفرزدق في مرثية امرأة حامل ماتت له: وجفن سلاح قد رزئت فلم أمت ... عليه ولم أبعث عليه البواكيا وفي جفنه من دارم ذو حفيظة ... لو أن المنايا أخطأنه لياليا وقال الموسوي: إن لم تكن نصلا فغمد نصول ... غالبت أحداث الزمان بغول أو لا تكن بأبي شبول ضيغم ... تدمى أظافره فأمّ شبول «5» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 مرثية ضال قال أعرابي يرثي أخا له ضلّ: فلو أنه إذا جاءه الدهر عاديا ... أتيح له موت وغيّبه قبر إذا لصبّرت النفس ثم احتسبته ... وفي الصّبر لي حسن المثوبة والأجر ولكن طوت عنّي المقادير علمه ... فما لي به لمّا تناءى شخصه خبر أموت فيسلى أم حياة فيرتجى ... أبرّ أتى من دون مثواه أم بحر وقال آخر: رمى بصدور العيس مخترق الصّبا ... فلم يدر خلق بعدها أين يمّنا وسنان بن حارثة استهوته الجن فزعمت العرب أنها استفلحته الجن طلبا لكرم نجله وقارظ عنزة ممّن فقد. وقيل: إنه خرج مع خزيمة بن مالك وكان خزيمة يهوى ابنته، فانتهيا إلى بئر فيها معسل، فأرسله خزيمة. فلما قال: أجذبني قال: لا أفعل أو تزوّجني ابنتك. فقال: أخرجني لأزوجك فأما على هذه الحالة فلا، فقال: لا أفعل وتركه. وبه ضرب المثل الشاعر بقوله: إذا ما القارظ العنزيّ آبا «1» وكان فيهم قارظ آخر فقده وفيه قيل: وحتّى يؤب القارظان كلاهما ... وينشر في القتلى كليب لوائل مرثية مصلوب قال الرقاشي: كنت من صنائع البرامكة فلما صلب جعفر أردت أن أبكي عليه إذا انتهيت إليه، فلم يمكنّي من حوله فمررت يوما والدنيا خالية فبكيت، وقلت: أما والله لولا خوف واش ... وعين للخليفة لا تنام لطفنا حول جذعك واستلمنا ... كما للنّاس للركن استلام «2» فلما دخلت على الرشيد قال: إيه، أما والله لولا خوف واش، فانتفضت وقلت: ما أحسب إلا الجن تأتيك بالأخبار. ولأبي الحسن بن الأنباري في أبي طاهر بن بقية أبيات متناهية في هذا المعنى: علوّ في الحياة وفي الممات ... فحقّ أنت إحدى المعجزات كأنّ الناس حولك حين قاموا ... وفود نداك أيام الصّلات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 كأنّك قائم فيهم خطيبا ... وكلّهم قيام للصّلاة مددت يديك نحوهم اتقاء ... كمدّكها إليهم بالهبات ولما ضاق بطن الأرض عن أن ... يضمّ علاك من بعد الممات أصاروا الجوّ قبرك واستعاضوا ... من الأكفان ثوب السّافيات «1» لعظمك في النفوس تبيت ترعى ... بحرّاس وحفاظ ثقات وتمام ذلك مذكور في كتاب الأحداق مرثية المغني متعاطي اللهو والشرب قال دعبل في الموصلي: سيبكي البم من جزع عليه ... وتبكيه المثالث والمثاني «2» وتثكله القيان وحافظوها ... وينعاه الزقاق إلى الدّنان وقال آخر: فليبكها الخمر إذ ماتت منائحها ... وليبكه الرخّ والفرزان والشاه «3» وكان لخلّاد بن معزوه صديق، فلما مات خلاد جاء صديقه معزيّا فأقام على قبره برهة يكثر البكاء عليه، فعوتب على كثرة بكائه، فقال: كيف لا أتوجع على رجل ما أدخلنا مؤاجرا قط إلّا قال لي تقدّم أبدا فإن قوي لي وإلّا قوّاه وراضه. ومن مليح المراثي قال ابن الرومي في بستان المغنية: بستان أسقيت من مدامعنا ... لا من سواري الغيوث والمطر بل حقّ صهباك أن تكون من ال ... صهباء صهباء حمص أو هجر بل من رحيق الجنان يختم بالمس ... ك سلافاته بلا عكر «4» بل من نجيع القلوب يمزج بالعط ... ف وصفو الوداد لا الكدر «5» موت شرّير قيل: إذا مات الخيّر استراح من الدنيا، وإذا مات الشرير استراحت منه الدنيا، وقال الحسن بن أيوب: مات يحيى فمات شرّ كثير ... ولقد كان شرّه يستطير إن موت الأشرار فتح عظيم ... وغياث ونعمة وسرور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 ما شمتنا بموت يحيى ولكن ... سرّنا أنّ شرّه مقبور وقال الصاحب: نعوا إليّ ابن دهشوذان عن كثب ... قلت إن صحّ هذا مات إبليس ولما مات المكتفي وطولب الناس بالبقايا، قال أحمد بن واضح: مات الخليفة وانقضت أوطاره ... ممّا حوته يداه من دنياه قد كان حيّا وهو عنّا ميّت ... فالآن لما مات عاش أذاه وقال مالك بن طوق: فبعدا لا انقضاء له وسحقا ... فغير مصابه الحدث العظيم وقال الصاحب لما مات أبو الحسن الطبري الطبيب: قالوا أبو الحسن الطبيب قد انقضى ... فبكت عليه مدامع الإلحاد كلا بل الإلحاد مات بموته ... فكأنّما كانا على ميعاد وقال أبو سهل المجوسي: أريحوا النفوس فلا تكثروا ... حديث قرانكم المقتبل فقد دلّنا موت هذا الخسيس ... على أن تأثيره في السّفل الإستهانة بموت النساء قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: دفن البنات من المكرمات. وقيل: دفن الحرم من أعظم النعم. وقال الفرزدق: وأهون مفقود إذا الموت ناله ... على المرء من أصحابه من تقنّعا «1» أصحاب الصنائع الخسيسة قال البقطري الكاتب يرثي غلاما له يدعى مباركا: مبارك من ذا يسوس الدو ... اب في القيظ والليلة الشاتية ومن ذا يصبّ لنا في الجباب ... مياها إذا أصبحت خالية لقد كنت أخدم سوّاسنا ... وأسلمهم عندنا ناحية فوقاك ربّك نار السّموم ... ولا زلت في عيشة راضية قال جحظة في مرثية طبّاخ كان يسمّى صندل: لقد عظمت صائبات الرزايا ... وأودت بصندل كفّ المنايا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 فمن للبوادر قبل الطبيخ ... ومن للمبزر قبل القلايا «1» نبش القبور قال عمرو بن هانئ الطائي: بعثنا أبو غانم المروزيّ على نبش قبور بني أمية، فانتهيت إلى قبر هشام فاستخرجته صحيحا فما فقدت منه شيئا إلا أطراف أنفه. إلا أنه كان كريشة فأحرقناه، ثم استخرجنا سليمان من أرض دابق فلم نجد إلا صلبه وجمجمته، وكذلك كان عبد الملك، ووجدنا معاوية كخط أسود كأنه رماد، ولم يوجد في قبر يزيد بن معاوية إلا عظم واحد، وما وجد من عظامهم أحرقناه. ومن أنواع هذا الباب قال الجاحظ: ما سمع في صفة النوائح المستأجرات مثل قول الراجز: كأنّها نائحة تفجّع ... تبكي لميت وسواها المفجّع ونحوه: بكى الشجو ما دون اللهى من حلوقه ... ولم يك شجو ما وراء الحناجر وقال زياد الحارثي: رمسنا رجلا في زمن أبي بكر فبكى رجل، وقال: فبينما المرء في الأحياء مغتبط ... إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير يبكي عليه غريب ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحيّ مسرور فقال له بعضهم: أتعرف قائل هذا الشعر؟ قال: لا، فقال: هذا الميت والله قائله وذاك وارثه مسرور بماله، فأنت الغريب الباكي عليه نهاية الصبر أن لا تحدّث بمصيبتك أحدا ولا تذل نفسك عنده. الصبر على المصيبة يفلّ حدّ الشامت بها. وقال محمد بن هريمة: أقبلت من مصر فلما انتهينا إلى باعينانا قعد صاحبي ليبول، فقال له رجل شيخ: هذا قبر عجيف، كان المعتصم قتله ههنا وألقى عليه هذا الحائط، فقال الرجل: سبحان الله رأيتني بهذا المكان وقد دعا لي عجيف بالسوط فبلت من خوفه، وها أنا أبول على قبره. الناس بين فرح بمولود وترح بمفقود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 الحدّ الثاني والعشرون في السماء والأزمنة والأمكنة والنبات والأشجار والنيران (1) فما جاء في وصف الملوين «1» والسماء والنجوم قال الإسكندر لبعض الحكماء: أيّما أول الليل أو النهار؟ فقال: هما في دائرة واحدة والدائرة لا يعرف لها أول من آخر ولا أعلى من أسفل، وجعلت العرب الليل قبل النهار في التاريخ، ولذلك أرخوا بالليل دون النهار وغلبوا التأنيث على التذكير في هذا الموضع خصوصا. ولذلك قال ابن مقبل في هذا المعنى: فطافت ثلاثا بين يوم وليلة ولم يقل ثلاثة. وذكر أنه وجد مكتوب على حجر قبل الإسلام بألف عام في بعض غيران نجد: خدنان لم يريا معا في منزل ... وكلاهما يجري به المقدار «2» لونان شتّى يكسوان خلوقه ... ما عاورته الريح والأقطار قال شاعر على سبيل اللغز: ما سبعة كلّهم إخوان ... ليس يموتون وهم شبّان لم يرهم في موضع إنسان يعني أيام الأسبوع. ومما يدخل في ذكر الأيام دخل الكميت على جعفر بن محمد عليهما السلام فدعاه إلى الغداء، فقال: إني صائم فقال: وأي يوم للصوم أحق من يوم قتل فيه الحسين وقبض فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 وكان المتوكل يتبرّك بيوم الأربعاء لأنه ولي فيه الخلافة وكان يكثر فيه ما يحبه، وقال: وعندي نعمى الأربعاء جليلة ... سأشكرها حتّى أغيب في لحدي يقال ثقيل وهو عندي مبارك ... بنفسي معيب عيبه زاده عندي السّماء قيل لأكمه: ما تشتهي؟ فقال: أن أرى وجه السماء . فقيل: وكيف اخترت ذلك؟ فقال: لقول الله تعالى: وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ «1» وقوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ «2» . فهل شيء أحسن مما يخبر الله عزّ وجلّ أنّه زينه. ونظر أعرابي إلى السماء فقال: سبحان الذي أدّى حواشيك إلى غير علاقة ووكد أعاليك بلا تسنّم وأقل أسافلك بلا عمد. وسئل حكيم عن مساحة طول السماء فقال: مسيرة يوم للشمس. ماهية الشمس اختلفوا في ماهية الشمس فقال بعض الفلاسفة: هي فلك أجوف مملوء نارا له فم يجيش بهذا الوهج. وقيل: هي اجتماع أجزاء نارية يرفعها البخار الرطب. ثم اختلفوا في شكلها فقالوا: صفيحة عريضة، وقيل: كرة مدحرجة واختلفوا في مقدارها فقيل: مثل الأرض سواء. وقيل: هي أعظم منها وقيل: هي أصغر منها. نعت الشّمس قال بعضهم في وصفها: وسائرة لا ينقضي الدهر سيرها ... وليست على حيّ من النّاس تنزل لها صاحب لم تلقه الدهر مرة ... على أثرها يمشي يسير ويعمل وقال بعضهم: الشمس معرضة تمور كأنها ... ترس يقلّبه بحي رامح وقال التنوخي: والأرض من صبغ النّبات كأنّما ... أعلامها مثل القميص المعلم أو مثل جام من عقيق أو كطا ... س من زجاج بالمدامة مفعم «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 الشمس قبل الطلوع قال أبو نواس: قد اغتدي والشّمس في حجابها ... مثل الكعاب الرود في نقابها «1» الشمس المستترة بالغيم وقال جندل الطوي: جاء الشتاء واجتال غيم أغبر ... وتطلّعت شمس عليها مغفر «2» وقال ابن الرومي: شمس تسايرنا وقد بعثت ... ضوءا يلاحظنا بلا لهب وقال ابن طباطبا: متى أبصرت شمسا تحت غيم ... ترى المرآة في كفّ الحسود يقابلها فيلبسها غشاء ... بأنفاس تزايد في الصّعود وقال المهلبي: والشمس حيرى خلف غيم عارض ... وكأنّنا في ضوء ليل مقمر الشمس اللائحة من خلل الغمام قال ابن المعتز: تظلّ الشمس ترمقنا بلحظ ... مريض مدنف من خلف ستر تحاول فتق غيم وهو يأبى ... كعنّين يحاول فتق بكر «3» وقال ذو الرمة في وصف ذلك: أصاب خصاصة فبدا كليلا ... كلاو انعلّ سائره انعلالا أي ضعيفا ليس بشيء. وقال آخر: وشمس الله مسرجة الغلاف الشمس الجانحة للغروب قال أبو النجم: وصارت الشمس كعين الأحول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 وقال آخر: والشمس كالمرآة في كفّ الأشل «1» وقال ابن الرومي: كأنّ حنوّ الشمس ثم غروبها ... وقد جعلت في مجنح اللّيل تمرض تخاوص عين ملء أجفانها الكرى ... يرنق فيها النوم ثم تغمض «2» وقال حميد: والشمس قد نفضت ورسا على الأفق «3» وقال آخر: وودّعت الدنيا لتقضي نحبها الهلال لأوّل الشهر قال ابن المعتز في وصفه: أنظر إليه كزورق من فضّة ... قد أثقلته حمولة من عنبر وقال الناجم: البدر قد قابلنا طالعا ... كأنّه حزة بطيخ وقال كشاجم فيه: كشعيرة من فضّة ... قد ركّبت في خنجر وقال الرفّاء: ولاح لنا الهلال كشطر طوق ... على لبّات زرقاء اللباس «4» وقال آخر: سنان لواه الطعن في رأس عامل وقال ابن طباطبا كالنّون إذا خطّت بماء الذهب البدر وقت طلوعه قيل لأعرابي: الشمس أحسن أم القمر؟ فقال: القمر أحسن والشمس أجهر. قيل: وكيف صار القمر أحسن؟ قال: لأن العيون عليه أجسر. وقال بعضهم: سافروا في هذه الليالي فإن أنس القمر يذهب وحشة السفر. وقال أعرابي: ما فقدت القمر إلا فقدت أخا أنيسا. وقال الموسوي: يا من بغرّته الهلال أما ترى ... بدر الهلا وقد بدا في المشرق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 كظريفة نظرت إلى عشّاقها ... فتنقّبت خجلا بكمّ أزرق «1» وخرج أعرابي في ليلة مظلمة فضلّ عن الطريق ثم طلع القمر فاهتدى، فرفع رأسه إلى القمر وقال: ماذا أقول لك إن قلت حسّنك الله فقد فعل، وإن قلت رفعك الله فقد فعل. وقال آخر يخاطب القمر: والله ما أبقيت لليل إلا اسمه. وزعم بعض العلماء أنّ السواد الذي في القمر هو صورة ما قابله من سواد الأرض لأن القمر كالمرآة يقبل الصورة المقابلة لانصقاله. الهلال الماحق قال ابن المعتز في آخر شهر رمضان: يا قمرا قد صار مثل الهلال ... من بعد ما صيّرني كالخلال فالحمد لله الذي لم أمت ... حتّى أرانيك بهذا المثال وله في وصفه: مثل القلامة قد قدّت من الظّفر «2» الهلال في النهار قال ابن المعتز: إذا الهلال فارقته ليلته ... يبدو لمن يبصره وينعته كأنّه أسمر شابت لحيته القمر مع الشمس قال بعضهم: قد أصبح الجوّ مثل منتقد ... في كفّه درهم ودينار وقال ابن المعتز في وصفهما: فكأنّه وكأنّها ... قد حان من خمر وماء البدر المبتدئ من وراء الغيم قال بعضهم: البدر يأخذه غيم ويتركه ... كأنّه سافر عن خدّ ملطوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 وقال الرفّاء: والبدر يظهر في السّحاب كأنّه ... عذراء تنظر من وراء سجاف «1» القمر اللامع في الماء قال شاعر: البدر يجنح للغروب كأنّما ... قد سلّ فوق الماء سيفا مذهّبا قال ابن المعتز: البدر يضحك وسط دجلة وجهه ... والماء يرقص حولنا ويصفّق فكأنّه فيها طراز مذهّب ... وكأنّها فيه رداء أزرق القمر المجتمع مع بعض النجوم قال ابن المعتز: وهلال شوال يلوح ضياؤه ... وبنات نعش وقف بإزائه «2» كبناته من مخلص لما بدا ... وجه الوزير دعا بطول بقائه وقال ابن طباطبا: كأنّ الثريّا والهلال جلتهما ... لي الشمس إذا ودّعت كرها نهارها كأسماء إذا باتت عشاء وغادرت ... لدينا دلالا قرطها وسوارها وقال عبد الله بن الخازن: فأصبح بدرا والثريّا تميمة ... على جيده خوف العيون الحواسد الكسوف والخسوف قال الرقاشي: حكي أن الزنج كانت تعبد القمر والهند الشمس فألقى الله عليهما الكسوف والخسوف. وقيل لما مات إبراهيم بن النبي صلّى الله عليه وسلّم: كسفت الشمس فقال الناس: إن ذلك لموته. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما كذا فافزعوا إلى الدعاء. بعضهم شبه القمر الذي بدا من الكسوف فقال: كأنه درهم بدر من سكة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 النجوم قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ «1» وقال تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ «2» وقال تعالى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وقال تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ «3» وقال تعالى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً «4» وقال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ «5» . معرفة النجوم قيل لأعرابي: أتعرف النجوم؟ قال: وهل يجهل أحد سقف بيته. وقيل لآخر فقال: لا أعرف إلا بنات نعش ولو تفرقن. وقال أمير المؤمنين كرم الله وجهه: كفى بالمرء جهلا إن ركبا وقوفا على رأسه كل ليلة لا يسميهم، يعني النجوم. المجرّة قال شاعر: كخط لجين في الزبرجد ممتّد وقال آخر: غصن بأحداق النجوم وربق وقال التنوخي: وكأنّما شرك المجرّة بينها ... ماء تسرّى في نبات أخضر وقال ابن طباطبا: كأنّ التي حول المجرة أوردت ... لتكرع في ماء هناك صبيب خرافات للعرب في النجوم قالت العرب: إن الدبران «6» خطب الثريا وأراد القمر أن يزوجه فأبت عليه وولّت عنه، وقالت للقمر: ما أصنع بهذا السبروت «7» الذي لا مال له فجمع الدبران قلاصه «8» يتمول بها، فهو يتبعها حيث توجهت يسوق قلاصه لصداقها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 وأن الجدي قتل نعشا فبناته تدور به، وإن سهيلا خطب الجوزاء فركضته برجلها فطرحته حيث هو، وضربها هو بالسيف فقطع وسطها. وإن الشعرى اليمانية كانت مع الشعرى الشامية ففارقتها، وعبرت المجرة فسميت الشعرى العبور، فلما رأتها الشاميّة بكت حتى عمصت عيناها فسميت الشعرى العميصاء. وصف جمل من النجوم غير مسمّاة سميت الكواكب شواهد الليل قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا صلاة بعد العصر حتى يبدو الشاهد. وقيل في قول الله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ إنها زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد. وقيل في قوله تعالى: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً «1» إنها النجوم السبعة. وشبه امرؤ القيس النجوم بقوله: مصابيح رهبان تشبّ لقفال «2» وفي وصفها: دراهم قد نثرت ... على بساط أزرق وقال آخر: درّ على أرض من الفيروزج وقال ابن طباطبا: كأنّ اخضرار الجوّ صرح ممرّد ... وفيه لآلئ لم تشن بثقوب «3» وقال التنوخي: كأنّ نجوم الليل في ظلماته ... ثغور بني حام بدت للثّات وقال البحتري: كأنّ النجوم المستسرات في الدجا ... شكال دلاص أو عيون جراد «4» وقال يحيى بن علي بن المهلب: ترى الفلك الدوار زهرا نجومه ... كقبّة ياقوت بتبر مدثّرا «5» وقال أبو بشر عبد الواحد بن علي بن أحمد بن سهل: كأنّ السماء روضة قد تفتّقت ... أكمتّها والبدر في الأرض درهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 تحيّر النجوم في الجوّ قال العبّاس بن الأحنف: والنجم في كبد السماء كأنّه ... أعمى تحيّر ما لديه قائد وذكروا أن بشارا كان يتعجب منه، ويقول لم يرض أن جعله أعمى حتى جعله بغير قائد. الثريّا قال ابن الطثرية: إذا ما الثريّا في السّماء كأنّها ... جمان وهي من سلكه فتبدّدا وقال ابن المعتز: كأن الثريا هودج فوق ناقة ... يخبّ بها حاد إلى الغرب أبلج «1» وله: يتلو الثريّا كفاغر شره ... يفتح فاه لأكل عنقود ونحوه: كعنقود ملاحية حين نوّرا وفي وصفها: عنقود درّ في كرم فيروزج وفيه: ولاحت لساريها الثريّا كأنّها ... على جانب الغربيّ قرط مسلسل وقال آخر: هي كاس في شروق ... وهي قرط في غروب وقال الخبّاز البلدي: ونجم الثريّا في السماء كأنّه ... على نطع كيمخت ببادق عاج «2» وقال محمد بن وهيب: أما ترون الثريا ... كأنها عقد ريا وقال كشاجم: كأن الثريا راحة تشبر الدجى ... لتنظر طال الليل أم قد تعرضا «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 فأعجب بليل بين شرق ومغرب ... يقاس بشبر كيف يرجى له انقضا الجوزاء قد شبهت بفأرة تسبح وقينة ترقص وفساطيط «1» تركب، قال الراجز: لابس درع قد تمطى من تعب وقال آخر: كراع ساق بين يديه ثورا ... بليدا قد أشال عصا طرود «2» وقال ابن الزيات: كأنّ كواكب الجوزاء لمّا ... سمت وتعرّضت للمنكبين «3» فتى حرب تقلّد قوس رام ... وقلّد خصره بقلادتين الشّعرى قال ذو الرّمّة: إذا أمست الشّعرى العبور كأنّها ... مهاة علت من رمل يبرين رابيا وقال آخر: ولاحت الشّعرى وجوزاؤها ... كمثل زجّ جرّه رامح «4» وقال آخر: كأنّما شعراه درّتا صدف وقال آخر: كأنّما شعراه طرف باكية سهيل قيل في تشبيهه: قريع هجان عارض الشول حافز «5» وشبّه مع النجوم براع وراء قطيع، وبرقيب، وبطرف أخزر، وبشبوب تأخر عن الصوار وقال آخر: ولاح سهيل من بعيد كأنّه ... شهاب ينحيه عن الرّيح قابس «6» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 قال الأصمعي: وتقول العرب إذا طلع سهيل طاب الليل ورفع الكيل وللفصيل الويل، أي رفع كيل الحنطة وجاء كيل التمر، وخل لسان الفصيل أي منع من أمه. وقال الأعرابي إذا رأى سهيلا لطم عين فصيله ويقول: مالك عندي قطرة. المشتري قال ابن طباطبا: كأن اكتتام المشتري في سحابه ... وديعة سرّ في ضمير مذيع وقيل لابن دلين المنجم: ما الدليل على أن المشتري سعد؟ قال: حسنه. العقرب قال ابن المعتز: وصغت العقرب للمغارب ... بذنب كصولجان اللاعب الجدي قال ابن سلمة: الجدي كالفرس الحصان شددته ... بالسّرج إلا أنّه لا يصهل المريّخ وقال رجاء بن الوليد: وكأنّما المريخ مقلة ناعس ... حمراء نبّه من لذيذ نعاسه النسر وقال ابن المعتز: والنّسر قد بسط الجناح محوّما ... حتّى تراه كطالب لم يصطد وقال ابن هرمة: وتربّع النسران هذا باسط ... يهوى لسقطته وهذا كاسر والحوت يسبح في السّماء كسبحه ... في الماء وهو بكلّ سبح ماهر الفرقدان وقال ابن المعتز: ورنا إليّ الفرقدان كما رنت ... زرقاء تنظر من نقاب أسود وقال الموسوي في تشبيههما: كأنهما إلفان قال كلاهما ... لشخص أخيه قل فإني سامع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 بنات نعش قال ابن هرمة: وبنات نعش يشتددن كأنّها ... بقرات رمل خلفهنّ جآذر «1» وقال التنوخي: كأنّ بني نعش نساء حواسر ... قرائب قد شيّعن نعش قريب وقال ابن طباطبا في وصف ليلة مقمرة: وليلة مثل يوم شمسها قمر ... بدت بدوّ الضّحى ظلّاء قمراء يا حسنها ليلة عاد النهار بها ... أنسا وطيبا وإشراقا ولألاء وقال ابن المعتز: بيضاء قمراء أتاها صبحها ... وثيابها من ظلمة لم تدنس وقال آخر: كأنما فضة ذابت على البلد ظلمة الليل قال بعض الأعراب: خرجت في ليلة حندس «2» قد ألقت على الأرض أكارعها «3» فمحت صور الأبدان فما كنا نتعارف إلا بالآذان. وقال آخر: سريت ليلة حين انحدرت أيدي النجوم وشالت أرجلها، فما زلت أصدع «4» الليل حتى تصدع لي الفجر . وسأل هشام بن عبد الملك خالد بن صفوان فقال: كيف سيرك؟ فقال: قتل أرضا عالمها وقتلت أرض جاهلها بينا أنا أسير ذات ليلة إذ عصفت ريح شديدة اشتدت ظلماؤها وأطبق سناؤها وطبّق سحابها، ونطق ذبابها، فبقيت محرنجما كالأشقر إن تقدم نحر وإن تأخر عقر، لا أسمع لواطئ همسا ولا لنائح جرسا، تدلت عليّ غيومها وتوارت عنّي نجومها، فلا أهتدي بنجم طالع ولا بعلم لامع، أقطع محجة وأهبط لجّة في ديمومة قفر بعيدة القعر، فالريح تخطفني والشول تخبّطني، في ريح عاصف وبرق خاطف، قد أوحشني أكامها وقطعني سلامها. فبينا أنا كذلك وقد ضاقت عليّ معارجي وسدّت مخارجي، إذا بدا نجم لائح وبياض واضح وعرضت لي أكام محرملة «5» ، فإذا أنا بمصانعكم هذه فقرّت العين وانكشف الرين وذهب الاين. فقال هشام: لله درك فما أحسن وصفك. قال شاعر: هو ليل كشباب ... لم يطر فيه مشيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 وقال آخر: وجفن الليل مكتحل بقار ويقال: ليل في ثوب غراب. وقال أبو الشيص: وليل يغرق الركبا ... ن في أمواجه الحضر «1» وقال التنوخي: كان اسوداد الأفق باللّيل ثاكل ... تسربل للإحداد ثوبا مسوّدا كأنّ لنا منها بيوتا حصينة ... مسوجا أعاليها وساجا كسورها «2» وقال ابن المعتز: يا رب ليل ضاع مني كوكبه ... مشتبه مشرقه ومغربه قد اكتسى برد الشباب غيهبه ... وقبض اللحظ فما يسيبه الفجر قال الطائي: سمعت أعرابيا يقول: خرجنا حين انتفض صبغ الليل. وقال آخر: حين بارق الصباح يعترض وصبغ الليل ينتفض حين أشعل ناره وأنار آثاره. وقال آخر: خرجنا حين انحدرت النجوم وشالت أرجلها، فما زلت أصدع الليل حتى انصدع الفجر. وقيل: تعرى رجاء عن فلقه ومثله افتر الصبح عن ثغره وحل معقود أزره. وقال ابن المعتز: وقد رفع الفجر الظلام كأنّه ... ظليم على بيض ترفع جانبه «3» قال أبو نواس: لما تبدّى الليل من حجابه ... كطلعة الأشمط من جلبابه «4» وقال ذو الرمة: وقد لاح للسّاري الذي كلّه السّرى ... على أخريات الليل فتق مشهر «5» كلون الحصان الأنبط البطن قائما ... تمايل عنه الجلّ واللون أشقر «6» وقال ابن المعتز: أما ترى الصبح تحت ليلته ... كموقد بان ينفخ الفحما وله وأحسن: قد أغتدى واللّيل في إهابه ... كالحبشيّ فرّ من أصحابه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 والصّبح قد كشرّ عن أنيابه ... كأنّما يضحك من ذهابه الفجر الطالع مع بعض النجوم قال ابن المعتز: وكأنّ الصبح لما ... لاح من تحت الثّريّا ملك أقبل في التّا ... ج يفدى ويحيّا وله: والصبح يتلو المشتري فكأنّه ... عريان يمشي في الدّجا بسراج قوس قزح قيل: سمى بذلك لتقزّحه أي تلونه. يقال: قزحت القدر أي بزرتها وجعلت فيها توابل. وقيل: إن قزح إسم شيطان وزعمت العرب أن الظاهر أيام الربيع هو قوسه، ولذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لا تقولوا قوس قزح وقولوا قوس الله، قال شاعر: ولاح قوس الله من تلقائها ... في أفق الشمس بزوق من نظر «1» قد ظللت بحمرة وخضرة ... وصفرة كأنّها برد حبر «2» وقال آخر: كأنّه قوس رام والبروق له ... رشق السهام وعين الشمس برجاس «3» وقال ابن المعتز: لقد نسجت أيدي الجنوب مطارفا ... على الأفق دكنا والحواشي على الأرض كأذيال خود أقبلت في غلائل ... مصبّغة والبعض أقصر من بعض «4» (2) وممّا جاء في الحر والبرد والرياح والسحاب والأمطار والمياه وما يتعلّق بذلك وصف الهواء بالحر وقلّة تحرّك الريح لقد حرّ الهواء فقيل هذا ... هوى لفظته في الجوّ القلوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 كأن الأفق جاحم كمبرقين ... فما لم يحترق منه يذوب وسئل بعضهم: كيف كان الهواء البارحة؟ قال: مات ولم يكن له نفس. وقال: سدت الرياح فانسدت طرق الأرواح. قال مضرس: ويوم كأن الشعريين بكفّه ... يدا طابخ حثّ الوقود فألهبا وقال آخر: تراه كأنّ الشمس فيه مقيمة ... على البيد لم تعرف سوى البيد مذهبا وقال: وليل من الشعرى يذوب لعابه ... أفاعيه من رمضائه تتململ «1» وقال: وليل كتنّور الإماء سجرنه ... وألقين فيه الجزل حتى تضرّما «2» وقال نهشل بن جرى: ويوم كأن المصطلين بحرّه ... وإن لم يكن جمر قعود على الجمر «3» ويقال: اصطلى فلان بوديقة «4» فشمله رقب جمر ومسه أو ثاجر «5» . وفي وصف السموم قال شاعر: سموم يكاد الجلد منها إذا بدا ... لها الجلد من تحت الثياب يذوب وقال الصاحب: نحن والله من هوائك يا جر ... جان في خطّة وخطب شديد حرّها ينضح الجلود فإن هبّ ... ت شمال تكدّرت بركود كحبيب مهاجر كلّما ... همّ بوصل أحاله بصدود الهاجرة «6» قال شاعر: وهاجرة يشوي هواء سمومها ... طبخت بها عيرانة فاشتويتها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 وقال شمردل: وهاجرة صادق حرّها ... تكاد الثياب بها تلهب كأنّ الحرابي من حرّها ... تروح بالنّار أو تصلب «1» وقال آخر: والشمس حيرا لها بالجوّ تدويم وقال آخر: إذا الشمس في الأيام طال ركودها وقال آخر: إذا الشمس مجتّ ريقها بالكلاكل «2» صفة الحر وهاجرة بيضاء يعدي بياضها ... سوادا كأنّ الوجه منه محمّم وقال آخر: وانتعل الظلّ فصار جوربا وقال الأعشى: حتّى إذا انتعل المطيّ ظلالها وله: كالظلّ حين أحرزته السّاق تحرك الرياح قيل: خرج أعرابيان في غداة باردة، فقال أحدهما: أرى الشمال تنفس الصعداء، وقال الآخر: أراها تشعبّت على الجو. وقال بعضهم: جاءت الريح كأنها نسيم معشوق بعد هجير كأنه نفس مهجور. ريح شديدة قال المتلمّس: ومستنسج يستكشف الريح ثوبه ... ليسقط عنه وهو بالثّوب معصم وقال الفرزدق: وركب كأن الريح تطلب عندهم ... لها ترة من جذبها بالعصائب «3» وقال المهلب: وريح يضلّ الروح عن مستقرّه ... وتستلب الركبان فوق الركائب فلو أنها ريح الفرزدق لم يكن ... لها ترة من جذبها بالعصائب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 نصبت لها وجهي وأنصبت صاحبي ... إلى أن حللنا في محلّ الحبائب «1» وقال ابن أحمر: عشواء تلتهم الجبال وأج ... واز الفلاة وبطنها صفر «2» وقال آخر: ريح لجوج سهوة المجاري ... ابن أبي ربيعة في الشّمال والجنوب «3» ضرائر أوطنّ العراص كأنّما ... أجلن على ما غادر الحيّ منجلا «4» وقال حميد: جرت به هوج الرياح ذبولها ... جرّ النساء فواضل الأذيال «5» وقال ذو الرّمة: ثلاث مربّات إذا هجن هيجة ... قذفن الحصى قذف الأكفّ الرواجم «6» وقيل: الرياح أربع: ريح تقسم السحاب، وريح تثيره فتجعله كسفا، وريح تؤلف بينه فتجعله ركاما، والشمال تفرقها وهي باردة، ولذلك قال: وأتت على الأدنى شمال مريّة ... شآمية تزوى الوجوه بليل «7» وأتت على الأقصى صبا غير قرّة ... تذاءب منها مزرع ومسيل «8» الريح المستطابة والمتمنّاة أنشد المجنون: أيا جبلي نعمان بالله خلّيا ... نسيم الصّبا تخلص إلى نسيمها أجد بردها أو تشف منّي حرارة ... على كبد لم يبق إلا رسومها فإن الصّبا ريح إذا ما تنفست ... على كبد حرّى تجلّت همومها «9» وقال يزيد بن الطثرية: إذا ما الريح نحو الأثل هبّت ... وجدت الريح طيبة جنوبا «10» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 وقال آخر: ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد ... فقد زادني مسراك وجدا على وجد وقالت أم المثلم: أتينا بريح المسك خالط عنبرا ... وريح الخزامى باكرتها جنوبها وقال الموسوي: وهبّت لأصحابي شمال لطيفة ... قريبة عهد بالحبيب بليل ترانا إذا أنفاسنا مزجت به ... نرنّح في أكوارنا ونميل كيفية البرد الشديد قيل لأعرابي: ما أشد البرد؟ قال: إذا أصبحت الأرض ندية والسماء نقية والريح شآمية. وقيل لآخر. فقال: إذا دمعت العينان وقطر المنخران ولجلج اللسان. وقيل لآخر فقال: إذا نديت الدقعاء «1» وصفت الخضراء وهبت الجربياء. وقيل لآخر: أي اليوم أبرد؟ فقال: الأحص الورد والأزب الهلوف. فالأحص الورد يوم تصفو شماله ويحمر أنفه، والأزب الهلوف يوم تهبّ فيه نكباء فتسوق الجهام «2» . وسأل الرشيد بعض أصحابه عن شدّة البرد فقال: ريح جربياء «3» في ظل عماء في غب سماء. وصف البرد كان أعرابي يرتعد في يوم شات. فقيل له: تحوّل إلى الشمس. فقال: الشمس تحتاج اليوم إلى قطيفة. وقيل لرجل: ما أثقل جبتك. فقال: البرد أثقل منها. قال وهب الهمداني: يوم من الزمهرير مقرور ... عليه ثوب الصّبا مزرور كأنّما حشو جواه آبن ... وأرضنا فرشها قوارير «4» وشمسه حرّة مخدّرة ... ليس لها من ضيائها نور قال الشمسياطي في وصف شتاء: ألقى كلاكله ببرد قارض ... حتّى غدا من في جهنم يحسد أخذه من أعرابي، قال: فإن كنت ربّي مدخلي في جهنم ... ففي مثل هذا اليوم طابت جهنّم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 وجد أعرابي البرد فقيل له: هذا لكون الشمس في العقرب، فقال: لعن الله العقرب فإنها مؤذية في الأرض كانت أم في السماء. قال شاعر: قد منع الماء من المسّ ... وأمكن الجوّ من الحسّ وقال أبو محمد المطراني: وشتاء يخنق الكلب فلا يعلو هريره ... كلّما رام هريرا زمّ فاه زمهريره «1» هو من قول الراعي: لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ... حتى يلفّ على خرطومه الذنبا قال الرشيد: ما أبلغ بيت في شدة البرد فأنشد هذا البيت بعضهم، فقال أبلغ منه: وليلة قرّ يصطلي القوس ربّها ... وأسهمه اللاتي بها يتنبّل فقال: حسبك ما بعد هذا شيء، وقال ابن سمعون: البرد بالريّ رافضي، يقول بالرجعة، أي متى ذهب رجع. وقيل لأعرابي: أما تجد البرد؟ قال: لا لأن العري اتصل على بدني فاعتاده كاعتياد وجوهكم. وقيل لآخر: ما أصبرك على البرد. قال: كيف لا يصبر عليه من طعامه الريح وسراجه الشمس وسقفه السماء. حمد البرد في الشتاء قال عروة بن الزبير: خير شتائكم ما اشتد برده، وخير صيفكم ما اشتد حرّه. وكانوا يستعيذون من الشتاء البارد. وقال الأصمعي: ما وقع طاعون قط في بلد إلا في شتاء سخن أو تعقبه مضرّة البرد. وقال سعيد بن عبد العزيز: البرد عدو للدين. وفي الخبر أن الملائكة لتفرح بذهاب الشتاء لما يدخل في فقراء أمتي. وكان صلّى الله عليه وسلّم يتعوّذ من كلب الشتاء. من شكا الفقر والقر صودف أعرابي يتكفّف ويقول: جاء الشتاء ومسنا قرّ ... وأصابنا في عيشنا ضرّ ضرّ وفقر نحن بينهما ... هذا لعمر أبيكم الشرّ وقيل لشيخ: كيف أنت؟ قال: خلق في خلق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 قال أبو الحسن الطوسي: هجم البدر والشتاء فما أم ... لك إلا رواية العربيّة ويقلّ الغناء عنّي فنون ال ... علم إن عصفت شمال عريّة وقيل لأعرابي: ما أعددت للبرد؟ قال: شدة الرعدة وتقرفص القعدة وذرب المعدة. وقيل: رماه الله بالحرّة تحت القرّة، أي العطش مع البرد. جملة من أوصاف السّحاب من نشئه وقطاره قال ملحد الجرمي: أرقت وطال اللّيل للبارق الرمض ... حثيث سرى مجتاب أرض إلى أرض «1» نساري من الإدلاج كدري مزنه ... نقضي بجذب الأرض ما لم نكن نقضي تحنّ بأغوار الفلاة قطاره ... كما حنّ نيب بعضهن إلى بعض «2» كأن شماريخ العلى من صبيره ... شماريخ من لبنان بالطّول والعرض «3» يباري الرياح الحضرميّات مزنه ... بمنهمر الأوداق ذي قزع رفض «4» يغادر محض الماء وهو محضه ... على إثره إن كان للماء من محض يروي العروق الهامدات من البلا ... من العرفج النجديّ ذو باد والحمض وبات الحيّ الجون ينقض بالحيا ... كنهض المداني قيد بالموعث النقض «5» وقال الحسين بن دعبل: أما ترى الغيث قد سالت مدامعه ... كأنه عاشق يسطو به الذكر جاءت موقرة الأطراف خاشعة ... تكاد تؤخذ بالأيدي فتقتصر راحت رياح الصّبا ينظمن عارضها ... حتى إذا نظمنه ظلّ ينتثر أضحت له الأرض سكرى والثرى طرب ... والأفق مبتسم والجدب مستتر السحاب المتدلية قال عبيد الأبرص: دان مسف فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح «6» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 وقال آخر: ويسحب ذيليه على عفر الترب وقال آخر: كأنه نعام تعلق بالأرجل السحابة البطيئة جاءت تهادى مشرفا ذراها ... تحنّ أولاها على أخراها وقال الأخطل: إذا زعزعته الريح جرّت ذيولها ... كما زحفت عود ثمال تحمل «1» وقال الحطيئة: تزجي الصّبا منقل السّحاب كما ... تزجي المطالي فصالها سيقا «2» وقال آخر: سحاب يزحف زحف الكبير وكان معقر قد كفّ بصره فقال: يا بنية ما ترين؟ قالت: سحابة عقاقه كأنها حولاء، ناقة ذات هيدب دان وسير وان، فقال: يا بنية وائلي «3» إلى قفلة «4» ، فإنها لا تنبت إلا بمنجاة من السيل. السحاب المتحلبة المطر قال الحسين بن مطير: كثرت لكثرة ودقه أطباؤه ... فإذا تحلّب فاضت الأطباء «5» وضروعه عدد النجوم وطلّه ... إخلافه عدد النجوم رواء «6» ووصف أعرابي سحابا فقال: لقحته الجنوب ومرته الصّبا واستدرته الشمال وقالت أعرابية: نحبته الصبا ومرته الجنوب وانتجفته الشمال انتجافا «7» . وقيل: أجود بيت في صفة السحاب قول الهذلي: تلحقه ريح الجنوب وتقبل الشما ... ل نتاجا والصّبا حالب يمري وقالت أعرابية: أحب السحابة الخرساء لأنها تخرس حتى تمتلئ ماء وتصب طبقا «8» طبقا يكون حبا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 بكاء السحاب قال عبيد الله بن طاهر: وجاد بالقطر حتّى خلت أنّ له ... إلفانآه فما ينفكّ يبكيه قال الطحاوي من شطر: فما ترقا لهنّ مدامع «1» وقال ابن ميّادة: إذا ما هبطن الأرض قد مات عوده ... بكين به حتّى يعيش هشيم ضحكة البرق وبكاؤه بالوذق قال الحسين بن مطر: متضاحك بلوامع مستعبر ... بمدامع لم تمرها الأقذاء فله بلا حزن ولا بمسرّة ... ضحك إذا أبصرته وبكاء ضحك الأرض من بكاء السماء قال الأبيض: وللسماء بكاء ليس عن حزن ... وللرياض ابتسام ليس من عجب وقال آخر: والأرض تبسم عن بكاء سماء وقال آخر وقد زاد: فتضاحكت زهراتها بمسرّتها ... وبكت سحائبها بلا أحزان الراعدة البارقة معا قال شاعر: كأنّما الرعد بها ثاكلة ... نادبة تخلط نوحا بشجى فاقدة واحدها تذكّرت ... ما قد مضى من عيشها ومن مضى والبرق في حافاتها يفعل ما ... يفعله وجد الحزين في الحشا وقال الرياشي في قول يزيد بن المفزع: الريح تبكي شجوها ... والبرق يلمع في غمامه أي: الريح تبكي والبرق يضحك. كقولهم ويل الشجيّ من الخليّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 قال التنوخي: ببرق كأشجاني وقطر كأدمعي ... ورعد كعولي للنوى ونحيبي وقال وهب الهمداني: الرعد في اصطكاكه خطيب ... والبرق في خلاله لهيب وقال آخر: يحنّ كثكلى في نشيج بكائه ... ويضحك فيه كالولود تبسّما وقال بعض البلغاء في سحاب: زجرت الرعود أردافه وأضحكت البروق أعطافه وجلبت الجنوب أخلافه. وصف البرق برق كنبض العرق وخفق القلب وبطن شجاع يضطرب. ولمع المرائي في أكفّ الكواعب. وكسلاسل تبر. قال شاعر: غاب تسنّمه ضرام توّقد ... وكأسياف تسلّ وتغمد سطور كتبن بماء الذهب قال عدي بن الرقاع: وحتّى حسبت البرق نارين شبّتا ... بعلياء نجد ما يني موقداهما وله: نار تعاود فيه العود جدّته ... والنار تسفع عيدانا فتحترق وقال آخر: كثغر زنجيّة تفترّ ضاحكة ... تبدو مشافرها طورا وتنطبق وقال جرير: يقول الناظرون إلى سناه ... بذي بلقاء شمس على نهار وقال آخر: كأن بلق الخيل فيها تضرج وقال آخر: أبلق جال جلّه حين وثب وصف أعرابي سحابا، فقال: لما تراءى نشوه ... وتبدّى بدوه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 أضطرمت ناره ... والتطمت بخاره وقال آخر: آض لنا ماء وكان نارا «1» الرعد قال الله تعالى: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ «2» وسمع عبد الملك صوت الرعد ففزع. فقال عمر بن عبد العزيز: هذا حس رضا الله فكيف ترى حس غضبه. وقال آخر: بأجوازه أسد لهن برابر «3» وقال آخر: قد سبّح الرعد به وكبّرا وقال أبو الغمر: كأنّ الرعود بأرجائه ... هدير مقاليت في بطن واد «4» وقال التنوخي: يحدو بها الرعد فإن كلّت زجر ... كأنها والمزن دان مكفهر خوّف بالبرق فوافى يعتذر ... أو قارئ أمّ بقوم فجهر متعتعا من أنف ومن حصر وقيل في صوته كأنه عزيف الشيطان وحنين الثكلان، وكأنّه صوت الرحى. قال الشريف أبو الحسين علي بن الحسين الحسني: فمن رواعده حنّت صواهله ... ومن بوارقه انسلّت قواضبه «5» السحابة المخضبة الممرعة قال امرؤ القيس: ديمة هطلاء فيها وطف ... طبّق الأرض تحرى وتدّر «6» قال الخالدي: طبق الأرض بديع لم يلحقه فيه متقدم ولا متأخر، ومن تعاطى أخذه فضحته نفسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 قال أبو تمّام: سارية مسمجة القياد ... كم حملت لمقتّر من زاد «1» ومن دواسنة جماد وقال آخر: مقبلة والخصب في إقبالها قيل لامرأة: كيف المطر عندكم؟ قالت: غثنا ما شئنا. وقال يونس لابن أبي الدفين: كيف كانت سماؤكم؟ قال: ما تركت لنا هابطا إلا أناقته ولا واديا إلا فهقته ولا فارغا إلا ملأته. قال الحسين بن مطير: لو أن من لجج السواحل ماءه ... لم يبق في لجج السواحل ماء وخرج صعصعة بن صوحان إلى معاوية فيمن خرج إليه من وفد العراق بعد قتل علي كرم الله وجهه، فلقيه أعرابي، فأراد أن يختبر صعصعة في المنطق فقال: كيف تركت السماء خلفك؟ قال: تركته مدّ البصر وفوق مرتفعا بغير عمد فيها الواحد الصمد. قال: فكيف تركت الأرض؟ قال: عريضة أريضة حامله للثقل منبتة للبقل، أهلها منها على شغل. قال: فكيف تركت المطر؟ قال: أسال الأدوية وعلا الأخبية وافعم الحفر ووبل القطر. قال: بالله أنت أنسيّ أم جني؟ قال بل أنسي سوى من شيعة علي من أمة بني مهدي. وقال أعرابي: باكرنا وسميّ خلفه ولي فالأرض بساط أحكم نسجه وبدا وشيه. قال سيابة بن عاصم: أصابتني سحابة بحوران فوقع قطر صغار وقطر كبار وكان الصغار لحمة للكبار. غيم ممّسك قال شاعر: دخان حريق لا يضيء له جمر وقال آخر: وكأنّما كسيت جناح غراب وقال آخر: كسيت بأجنحة الفواخت «2» قال ابن المعتز: لقد لبس الدّجن ثوب السما ... والأرض مطرفه الأدكنا «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 وقال الرفّاء: غيوب تمسك أفق السما ... وبرق يكتبها بالذّهب «1» سحاب متدل قال عبيد بن الأبرص: دان مسف فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالرّاح «2» فمن بنجوته كمن بمحقله ... والمستكنّ كمن يمشي بقرواح «3» غيم متفرع على السماء قال الوأواء الدمشقي: أما ترى الغيم ممتدا سرادقه ... على السّماء بتدريج وتعريج كأن ذاك وذا قطن يفرّقه ... تواتر الندف في زرق الدواويج «4» من قول ابن الرومي وقد نظر إلى غيم منقطع عن السماء، فقال: كأنه قطن يندف على بطانة زرقاء. يوم متلون بالصحو والغيم قال ابن طباطبا: صحو وغيم وضياء وظلم ... مثل سرور شابه عارض غمّ وقال آخر: ألم تر هذا اليوم أفنى نهاره ... سحاب وإصحاء وشمس ووابل أشبهه إيّاك يا من صفاته ... صدود وإعراض ومنع ونائل وقال آخر: أما ترى اليوم ما أحلى شمائله ... صحو وغيم وإبراق وإرعاد كأنه أنت يا من لا نظير له ... وعد وخلف وتقريب وأبعاد وقال بعضهم: مطر الربيع كغضب العشّاق، أي لا يدوم. قيل: خلق الربيع كخلق الصبيان والملوك وتلونهم بالصحو والغيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 الجهام «1» قال شاعر في جهام أراق ماءه: كأن الغيوم خيول طراد ... أعنّتها في أكف الرياح وقال السري الرفاء: كحلاء حالية بكت ... حتى انثنت مرهاء عاطل «2» مطر مضر ّ كلّ أمطر في القرآن فهو في العذاب. نحو: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ «3» وكل موضع فيه مطر فهو للرحمة. قال أبو علي البصير: جرى الماء فيه من أسافله ... ومن أعاليه حتى ساخ منطلقا كأنني وعيالي في جوانبه ... طيور ماء على سكر قد التبقا وقال: من تكن هذه السماء عليه ... رحمة أو يكنّ بها مسرورا أيها الغيث كنت بؤسا وفقرا ... لي وللنّاس حنطة وشعيرا وقال فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم: اللهم حوالينا ولا علينا وكتب كاتب: فأتانا مطر مما سماه الله تعالى أذى، فحرب العمران وهدم البنيان فكم من قتيل تحت هدمه، وساهر تحت وكفه، وغريق في لجته، وصريع في هوته. وقال أعرابي: أصابنا مسافر يؤذي المسافر ولا يرضي الحاضر. الثلج كأن دقيق الثلج عند وقوعه ... على الأرض قطر أو دقيق يغربل وقال رجل: السماء تنخل الدقيق، فسمعه عبادة فقال: قل لأمك تمسك الخمير. قال شاعر: وكرسف يندف في الهواء ... منتثر لم يعد في استواء «4» مثل نقي الفضة البيضاء وقال كشاجم في وصفه: شابت فسرت بذاك وابتهجت ... وكان شيبي بالشّيب مستكرها ويشبه الثلج بالحبيب، وبلجين يسبك، وبآل يلمع ودراهم تنتثر وبقرطاس ينشر: كأنّ ستائر الكافور مدّت ... بها والجوّ عريان سليب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 البرد قال الأخطل: نثرت على الحصباء كالحصباء ... بل ألقت على الرضراض كالرضراض «1» وقال علي بن جبلة: كأنّ قوالبه بالعرا ... ء تلقى على الجلمد الجلمدا وقال آخر: جاءت تهادى في برود من حبر ... تنثر دارا كان لو ذاب مطر تطير في الجوّ كنوّار الزهر ... أو شرر لو كان للماء شرر الصّقيع قال الفرزدق: وأصبح مبيض الصقيع كأنّه ... على سروات النبت قطن مندف «2» وجاء بصراد كأنّ صقيعه ... خلال البيوت في المنازل كرسف «3» اللثق «4» قال شاعر: لقد صار وجه الأرض كلاء مزلة ... تمايل صاحبها تمايل شارب وقال الصاحب: وقد ركب في وحل عظيم فترشش باللثق ثوبه: لقد ركبت وكف الأرض كاتبة ... على ثيابي سطورا ليس تنكتم فالأرض محبرّة والزاج من لثق ... والطرس ثوبي ونهى الأشهب القلم إنقطاع المطر قيل لأعرابي: كيف خلفت ما وراءك؟ فقال: التراب يابس والأرض عابس. وقال شاعر: إن وجه البقاع ينتظر القط ... ر انتظار المحبّ رجع الرسول وقال العباس بن المأمون: متى تريك رياض الأرض أوجهها ... إن لم يكن لك لا طلّ ولا مطر ماهية الماء ووصفه قال الحجاج لغلامه: ائتني بأعز مفقود وأذلّ موجود. فلم يفهم ما عناه، فقال له ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 القرية: ائته بالماء. وقال ابن يزيد لشراعة: ما تقول في الماء؟ قال: هو الحياة ويشركني فيه الحمار، وقيل: ليس للماء قيمة لأنه لا يباع إذا وجد ولا يبتاع إذا فقد، وسمي الماء نفسا في قوله: أتجعل النفس التي تدير ... في مسك شاة ثم لا تسير ووصفه آخر فقال: هو مزاج الروح وصفاء النفس وقوى البدن، ومن فضيلته أن كل شراب وإن رقّ وصفا وعذب وحلا فليس يعوّض منه بل يطيب بممازجته ويعذب بمخالطته. قيل للنظام: ما لون الماء؟ قال: لون إنائه وإذا بعد قعره تصوّر أسود. وقيل: الماء من جنس الهواء وكل واحد منهما يستحيل إلى الآخر لما بينهما من المناسبة ولا لون لهما. وقيل: بعث ملك الروم إلى معاوية بقارورة فقال: اجعل فيها من كل طعام وشراب شيئا فلم يدر، فقال ابن عباس: اجعل فيها الماء، فإن الله تعالى يقول: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ «1» ، فلما أتى به ملك الروم، قال: هذا فعل رجل من بيت النبوة. وقال الله تعالى: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ «2» فلم يذكره بأكثره مما في خليقته من السلامة من التغير الداخل عليه. وقال تعالى: هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ «3» ، وهذا ملح أجاج. قال شاعر: مواقع الماء من ذي غلّة صادي «4» وقال بعض البلغاء في وصفه: وما ظنكم بشراب إذا ملح وخبث أنبت العنبر وولد القار، والماء لا يغذو ولا يرى من اغتذى به، واستدلوا على ذلك بأن لك سيّال إذا طبخ انعقد إلا الماء. وعلى قياسه قالوا: لا ينعقد في الجوف إذا طبخته الكبد، وإذا لم ينعقد لم ينبت منه لحم ولا عظم. جريان ماء الأودية قال ابن طباطبا: يا حسن وادينا ومدّ الماء ... يختال في حلية دكناء «5» فصبحه يفترّ عن مساء ... في صخر عال وفي ضوضاء يحكي رغاء النّاقة الكوماء ... ترى به مناطح الظّباء «6» جماء قد شدت إلى قرناء «7» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 وقال البحتري: كأن مداد دجلة حين جاءت ... بأجمعها هلال أو سوار وقال الولادي الأصبهاني: كأنّما زرنرود السؤر منعطفا ... نؤي حوالى خباء مدّه سيل «1» وقال الشريف: أما ترى زر نرود طالعه ... غيم فأدى مثاله فيه بين بياض ودكنة وتكاس ... ير من الموج في حواشيه كأنه الرمل من زرود إذا ... الحيّات يزحفن في نواحيه حسبته ماء على تكدّره ... أخلص ودّي له وصافيه ليس عجيبا منك التلوّن لي ... فهكذا كلّ من أؤاخيه وقال ابن مندويه: كان اتباع الموج موجا أمامه ... حثيثا تهادى فيلق إثر فيلق فليس بناج ذا ولا ذا بمدرك ... ولا ذاك مع هذا مدى الدهر يلتقي وقال آخر: كأنّما يفقده من يشهده وقال المتنبّي: جيشا وغى هازم ومنهزم «2» وكتب عمرو بن العاص إلى عمر رضي الله عنه: البحر خلق عظيم يركبه خلق صغير كأنهم دود على عود. السّيل الذاهب بما يعنّ له قال امرؤ القيس: فأضحى يسحّ الماء في كلّ بقية ... يكبّ على الأذقان دوح الكنهبل «3» كأنّ السباع فيه غرقى عشيّة ... بأرجائه القصوى أنابيش عنصل «4» قال ابن مندويه: كأنّ خرير الماء عند التطامه ... زفير سعير في إناء مخرّق «5» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 وقال أشجع: وكأن صوت الماء في حافاته ... زجل القيان تطارح الأصواتا وقال آخر: جداول صخب الأمواج خراد وقال المتنبّي: وأمواه يصلّ بها حصاها ... صليل الحلي في أيدي الغواني «1» وقال السري الكندي: ما بين ألحان الحما ... م وبين ألحان الجداول الماء الصافي قال العجّاج: فشنّ في الإبريق منه نزفا ... من رصف نازع سيلا رصفا «2» وقال البحتري: كأنّما الفضّة البيضاء سائلة ... من السبائك تجري في مجاريها وقال الطرماح: كمتن اليماني سلّ وهو صقيل وقيل: لجين الماء على زمرد الحصباء وجدول مسجور كمهرق منشور ومنصل مشهور. قال شاعر: ماء كدرع مفرغ من فضّة وقال مسلم: ماء كعين الشمس لا يقبل القذى قيل: ماء كالصباح ومتن الصفاح. وقال شاعر: هو الجوّ من رقة غير أن ... مكان الطيور يطير السّمك وأنشد ابن الأعرابي: ومسيب خصر ثوى في ضلّة ... وإذا تحرّكه الرياح يزيف «3» حلّت به بعد الهدوّ نطاقها ... بالجود دهماء النتاج رجوف «4» وقال الأصمعي: أحسن ما قيل في الماء قول امرئ القيس: فلما استطابوا صبّ في الصحن نصفه ... وجادوا بماء غير طرق ولا كدر «5» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 بماء سحاب زلّ عن ظهر صخرة ... إلى بطن أخرى طيب ماؤها خصر «1» وقال ابن المعتز: على جدول ريّان لا يكتم القذى ... كأنّ سواقيها متون المبارد وقال: وقيعة تصفو كعين الغراب ... وجدول كالسّيف منصلتا أراد بوقيعة المنهل. الماء المتغيّر الكدر قال أبو بكر: ولقد وردت الماء لون جمامه ... لون الفريقة صفيت للمدنف «2» فصدرت عنه ظامئا فتركته ... يهتزّ غلفقه كأن لم يكشف «3» قيل: الفريقة حلبة للنفساء. وقال الأعشى: وأصفر كالحنّاء طام جمامه ... إذا ذاقه مستعذب الماء يبصق وقال بعضهم في صفة ماء: هو إذا رمقه زيت وإذا ذقته ميت، يزوي الوجه شاربه ويتركه وإن جدبه الظمأ طالبه. قال عبد الطيب: ومنهل أجن في جمّه بعر ... فما تسوق إليه الريح محلول كأنّه في دلاء القوم إذ نهلوا ... حمّ على ودك في القدر محلول «4» البئر الصافية الماء قال الرفاء: إنّي هديت لنعمة منكورة ... فأثرتها من تربة وصفاة بئر كأن رشاءها في مائها ... سمراء قد ركضت إلى مرآة «5» كافورة الصيف التي يحيى بها ... منّا النفوس وحمّة الشهوات طوقتها حجرا ولو أنصفتها ... طوقتها بفرائد اللبّات قال ابن المعتز: حفرتها بيضاء منقورة ... في دمث سهل وطيء التراب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 تضمن ريّ الجيش للمستقي ... كأنّ دلويها جناحا غراب الدولاب قال القصّار البغدادي: كأنّما رنّة الدولاب زامرة ... وليس ناياتها إلا سوانيها «1» كأنه حبشيّ فوق عاتقه ... أولاده فهو في بحر يدانيها وقال الرفّاء: ومشمّر في السّير إلا أنه ... يسري فيمنعه السّرى أن يقعدا وصل الحنين بعبرة مسفوحة ... حتّى حسبناه مشوقا مكمدا «2» وقال: فبات يسرى ليله ولم ينم ... ولم يجاوز سيره قيد قدم وقال علي بن الجهم: وفوّارة ثارها في السماء ... فليست تقصر عن ثارها تردّ على المزن ما أسبلت ... على الأرض من فيض مدرارها «3» وقال ابن أبي طاهر: فوّارة تمجّ منها ماء ... كما أذبت الفضّة البيضاء «4» أمطرت الأرض بها السّماء قال ابن الصاحب: استظرف إجازة العجلى مع سوء معرفته بالشعر لعلي بن الجهم في صفة الفوارة، قوله: تراها إذا صعدت في السّماء ... تعود علينا بأخبارها البركة قال علي بن الجهم: أنشأتها بركة مباركة ... فبارك الله في عواقبها كأنّها والرياض محدقة ... بها عروس تجلى لخاطبها من أي أقطارها أتيت ... رأيت الحسن حيران في جوانبها «5» المزملة «6» قال الرّفاء: مجروحة الخصر غير دامية ... كما تكون الجراح والندب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 كأنّما الماء حين يبعثها ... ذوب لجين ميزابه ذهب «1» السّفينة قال أبو الشيص: وبحر تحار العين فيه قطعته ... بمهنوءة من غير عرّ ولا جرب «2» عريضة صدر الزور بهماء رسلة ... سباد خليع الرأس مزمومة الذنب «3» مجفرة الجبين جوفاء جونه ... نبيلة مجرى العرض في ظهرها حدب مقتلة لا تشتكي الأين والوجا ... ولا تشتكي عضّ النسوع ولا الدأب «4» وقال بعضهم في وصفها: عذراء ملجمة الدبر تشمّر بفرسانها في البحر وتمتنع من المشي في البر. وقال الفرزدق: وواحلة قد عودوني ركوبها ... وما كنت ركّابا لها حين توحل قوائمها أيدي الرجال إذا انتحت ... وتحمل من فيها قعودا وتحمل وقال البحتري: ورمت سمت العراق أيانق ... سحم الخدود لغامهنّ الطحلب «5» من كلّ طائرة بخمس خوافق ... دعج كما ذعر الظليم الأحدب «6» الزورق قال أبو نواس: سخر الله للأمين مطايا ... لم تسخّر لصاحب المحراب أسدا باسطا ذراعيه يسطو ... أهرت الشدق كالح الأنياب «7» لا يعانيه باللجام ولا السو ... ط ولا غمز رجله في الرّكاب ذات زور ومنسر وجناح ... ين تشقّ العباب بعد العباب «8» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 تسبق الطير في المساء إذا ما اس ... تعجلوها بجيئة وذهاب الزبزب «1» قال ابن الواسطي: كأنّما السفن بأرجائها ... وهي على الماجريّات عقارب في رفع أذيالها ... تسري على أبطن حيّات وقال آخر: زبازب تحكي إذا سيّرت ... عقارب تجري على زنبق وقال آخر: يا حبّذا سكر به جدلني ... وعودي في زبزب كالأجدل «2» تحسبها العقرب في صورتها ... سارت على بطن شجاع مرسل ورود الماء قال شاعر: ولا يردون الماء إلا عشية ... إذا صدر الورّاد عن كلّ منهل وقال النمري في مشاركة الماء: ولا أسقى ولا يسقى شريبي ... وأمنعه إذا ما جاء مائي وقال آخر: لا أورد الماء عرضي قبل شاربتي ... ولا أحنّ إذا ما حنّت النيب «3» وقال آخر: لنا إبل لم نسقها بعروضها ... وأحسابنا أخرى الليالي الغوابر «4» إلا إن شرب السؤر يزري بأهله ... وإن قيل نام في الدار والخواصر «5» سقي الأرض وحكم الطريق روي أن الزبير ورجلا من الأنصار اختصما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شرب ماء كان من نهر يمرّ بهم، وكانت أرض الزبير فوق أرض الأنصاري، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: يا زبير إسق أرضك، فإذا أرويتها فأرسل فضل الماء إلى أخيك. فقال الأنصاري: يا رسول الله لا يمنعك كونه ابن عمتك أن تقضي بيننا بالحق فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: يا زبير إسق أرضك فإذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 أرويتها فاحبس الماء حتى يبلغ الماء الجدر «1» ثم أرسل الماء إلى أخيك. قال الزبير: وهذا كان صريح الحكم. وإنما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر الزبير بالمعروف ومواساة أخيه فلما زاده القول قضى بينهما بصريح الحكم، فأنزل الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ «2» . الضياع قال أبو منصور العدوي: قد كانت الضيعة فيما مضى ... تغلّ من يملكها دائبه فصار من يملكها يومنا ... تغلّ من مهجته الذاهبه ستغرق الغلّة في خرجها ... وتفضل الكلفة والنائبه (3) وممّا جاء في الربيع والخريف والأزاهير والأشجار والنبات أصل النيروز «3» والمهرجان سأل المأمون أصحابه عن أصل النيروز والمهرجان «4» وصب الماء، فلم يخبره أحد فقال: الأصل في النيروز أن أبرويز عمر أقاليم إيران شهر، وهي أرض بابل، فاستوت له أسبابه واستقام ملكه يوم النيروز فصار سنة للعجم وكان ملكه ألفا وخمسين سنة ثم أتى بعده بيور أسف وملك ألف سنة فقصدا فريدون وأسره بأرض المغرب وسجنه بأرض بجبل دياوند يوم النصف من ماء نهر فسمى ذلك اليوم مهرجانا وصار سنة لهم تعظيمه فالنيروز أقدم من المهرجان بألفين وخمسين سنة. وقيل: النيروز هو يوم ولد كيومرث بن هبة الله بن آدم، لأن الجدران اخضرت لمولده، وأثمرت الأشجار لغير إبانها وقيل: هو اليوم الذي أحرق الله تعالى فيه الظلمة بالنور، وخلق السموات والأرض، وكون الدنيا، وأمر الفلك بالدوران وأما صب الماء فهو قوم أصابتهم قحمة من الأزل، فقحطوا زمانا وانقطعت عنهم الأمطار وتموّتت مواشيهم ثم مطروا واستبشروا لطول عهدهم به فكان من رش من ذلك المزن سرّه وأعجبه، فجعلته العجم سنة إلى آخر الدهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 وقيل: فيهم نزل قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ وقيل: هو اليوم الذي تكلم فيه زو بن طهماسف وقيل عيسى عليه السلام: وكان مات أبوه عن قحط شملهم وشمل الأقاليم فتكلم زو في المهد، وسأل الله تعالى أن يسقيهم، فسقاهم الله تبارك وتعالى وأما السذق فقيل: إن آدم لما زوّج بناته من بنيه وتموا مائة كانت هذه الليلة، فأوقدوا نارا سرورا بذلك فجعلتها العجم عيدا. ومعنى السذق مائة. وسئل بعضهم عن الخريف والربيع فقال: الخريف للفم، والربيع للعين، وذلك أنّ الربيع لا تكون فيه فكهة. وسئل عنه بعضهم فقال: الربيع لأهل الوبر «1» والخريف لأهل المدر «2» . مدح الخريف قال الباذاني: ولا زلت في عيشة كالخريف ... فإنّ الخريف جميعا سحر قال ابن المعتز: إشرب على طيب الزمان فقد حدا ... بالصّيف من أيلول أسرع حاد «3» وقال آخر: وأشمنا باللّيل برد خريفه «4» طيب الربيع وحسنه قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ثلاثة يحيين القلب: النظر إلى الماء وإلى الخضرة وإلى الوجه الحسن. وقال الشاعر: أربعة تحيا بها ... روح ونفس وبدن الماء والخضرة والند ... مان والوجه الحسن وقال أبقراط «5» : من لم يبتهج لرؤية الربيع، ولا يتروع بنسيم أسحاره فهو عديم حس أو سقيم نفس. وكتب عمر بن الخطاب إلى أمير الأجناد: مروا الناس أن يخرجوا إلى الصحارى أيام الربيع فينظروا إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 قال أبو تمّام: إن الربيع آثر الأزمان وقال بعضهم: الربيع بهجة الدنيا ومجمع المنى وقال ابن المعتز: أنظر إلى دنيا ربيع أقبلت ... مثل المهاة تبرّجت لزناة «1» وقال آخر: فالراح قد باحت بأسرار النّدى ... فتنفس الريحان في الجنّات «2» وقال ابن محارب القمي: تأمّل في ربيع الأرض وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك «3» عيون من لجين شاخصات ... كأن حداقها ذهب سبيك «4» على قضب الزبرجد شاهدات ... بأنّ الله ليس له شريك «5» تفضيل الربيع على سائر الأزمنة ومفاضلة الصيف والشتاء قال الصنوبريّ: إن كان في الصيف ريحان وفاكهة ... فالأرض مستوقد والجوّ تنوّر وإن يكن في الخريف النخل مخترفا ... فالأرض عريانة والجوّ مقرور «6» وإن يكن في الشتاء الغيث متّصلا ... فالأرض محصورة والجوّ مأسور ما الدهر إلا الربيع المستنير إذا ... أتى الربيع أتاك النّور والنّور «7» الأرض ياقوته والجوّ لؤلؤة ... والنبت فيروزج والماء بلوّر «8» وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: الشتاء ربيع المؤمن قصر نهاره فصامه وطال ليله فقامه. الحثّ على اللهو أيام الربيع وعلى التمتع بها قال أمير المؤمنين كرّم الله وجهه: إذا دخلت البساتين فأطل تأملها، فإن فيها جلاء للبصر وارتياحا للهم والفكرة وتكرمة للطبائع وتسكينا للصداع. قال ابن سكرة الرازي: لائمتي في المدام ظالمتي ... لا سيّما والربيع قد هجما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 لا تطمعي في إفاقتي وقفي ... حتّى يولّي الربيع منهزما «1» وقال آخر: يا حبّذا النيروز من زائر ... جاء على أحسن أوقاته فباكر القصف على وجهه ... ووقّرن حق زياراته «2» قال القاضي علي بن عبد العزيز: قد صفا الجوّ واستحال نسيما ... وتندّى الهواء وهو يميع بشّرتنا أوائل الزهر بالور ... د فكلّف صباك ما تستطيع وقيل لما سرجس: لم كان أبصار أهل الرساتيق أصح وطعامهم ثقيل؟ فقال: ما أعرف لذلك علة إلّا كثرة وقوع أبصارهم على الخضرة. رياض مونقة قال أعرابي: أصابتنا ديمة على عهاد قديمة، فالناب يشبع قبل الفطيمة. قال ابن المعتز: وروضة عذراء غير عانسة ... خضراء ما فيها خلاة يابسه «3» فيها شموس للنهار وأرسه والبيت الثاني من قول آكل المرار: في حيث خالطت الخزاعي عرفجا ... يأتيك قابس أهله لم يقبس «4» ووصف بعضهم الأرض فقال: غدت في بردة خضراء وغدت في زي عذراء، قال ابن طباطبا: يا لها جنّة بدت كعروس ... لم يكن حسن حليها مستعارا طيب رائحة الرياض قال ابن المعتز كان غياب المسك بين بقاعها ... تفتّحها أيدي الرياح اللطائف قال الأخطل: الآنف والطرف منه يسرحان معا ... في ميسم أرج أو منظر قشب «5» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 قال البازني: وإذا تنفسّت الرياح حسبتها ... مسكا تنفّس عن جيوب غواني» قال ابن الرومي: من نسيم كأنّ مسراه في الأر ... واح مسرى الأرواح في الأجساد قال ابن المعتز: يا ربّ ليل سحر كلّه ... متضح البدر عليل النسيم تلتقط الأنفاس برد النّدى ... فيه فتهديه لحرّ السموم ألوان الرياض المختلفة قال التنوخي: ربع الربيع فحاكت كفّه ... حللا بها عقد الهموم تحلّل «2» فمذبح ومحبر وموشّح ... ومفضض ومدثّر ومهلّل «3» فتختال ذا ثغرا وذا عينا وذا ... خدّا يعضد تارة ويقبّل قال بارع: وروضة دبّج الوسميّ حلّتها ... ودّبرتها يد الأنواء والحقب «4» شكر الأرض للمطر قال ابن الرومي: أصبحت الدّنيا تروق من نظر ... وأهالها مصطنعا لمن شكر أثنت على الأرض بالآء المطر «5» ابن المعتز: ما ترى نعمة السماء على الأر ... ض وشكر الرياض للأمطار النبات المائل بالرياح قال دعبل: ضحوك إذا لاعبته الرياح ... تأوّد كالشارب المرجحن «6» قال ابن نوقة: رياحينها تهتزّ كالبيض أزمعت ... وداعا فمالت للعتاق قدودها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 قال آخر: عذارى يباثثن الحديث المكتّما وقال آخر: كالطامح المتمائل المتكسّر الطلّ على الأرض قال جحظة: لم يبق في الأرض زهر يشتكي مرّها ... إلا وناظره بالطلّ مكحول وقال: كأنّ بقاء الوبل في جنباتها ... بقية دمع فوق خدّ مورّد وقال آخر: يطّل كرشح فوق خدّ مورّد «1» وقال آخر: فشنف أرضه دررا ... ونظّمها النّدى شذرا قال الحمدوني: إذا لطم الوسميّ أحداق روضها ... بكين معا باللؤلؤ المتفرّد وقال: وشابت رؤوس غصون الجنان ... وما ذلك الشيب إلا الشباب «2» ترّنم الأطيار أيام الربيع قال إبراهيم بن ساوة: والطير في وكناتها محتلة ... فمرنم ومزمزم ومغرّد «3» فكأنّها تحكي الغريض ومعبدا ... أو كاد يحكيها الغريض ومعبد قال أبو القاسم بن العلاء: كأنّ صوادح الأطيار فيها ... جوار والغصون لها ستائر «4» أخذه من الخباز البلدي حيث قال: كأنّ القماري والبلابل بينها ... قيان وأوراق الغصون ستائر «5» قال ابن المعتز: إني لأعجب من حمائمها ... كيف اهتدين لمعرب محض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 هل كان نحويّ يعلّمها ... نصبا وباب الرفع والخفض؟ تغريد الذباب بالرياض قال ابن الرومي: وغرّد ربعي الذباب خلاله ... كما حثحث النشوان صنجا مشرعا «1» وكانت أرانين الذباب هناكم ... على شدوات الطّير ضربا موقّعا «2» والأصل فيه قول عنترة: وخلا الذباب بها فليس ببارح ... غردا كفعل الشّارب المترّنم هزجا يحكّ ذراعه بذراعه ... قدح المكّب على الزناد الأجذم «3» تشبيه المحبوب بالرياحين وتذكره بها قال البحتري: لما مشين على الأراك تشابهت ... أغصان قضبان به وقدود في حلّتي حبر ووشي فالتقى ... وشيان وشي ربا ووشي برود «4» وسفرن فامتلأت عيون راقها ... وردان ورد جنى وورد خدود قال الصاحب وقد شبّه خدود المحبوب بالمنثور: شربا على وجه الذي ... تيّمني بصدّه «5» فإن نأى فاذك ... ره بالمنثور عند ورده من أبيض كوجهه ... وأحمر كخدّه وأشهل كطرفه ... وقد سطا بحدّه واصفر كسحنتي ... إذ راعني بصدّه وصادق التوريد ... كالفضّة بين جلده ذي أرج كهزله ... وروعة كجدّه «6» وقصر في العمر قد ... شابه عمر ورده هذا وما يستطيع أن ... يذكرني بقدّه فالفضل للظبي الذي ... أصبحت عبد عبده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 ظلّ أوراق الشجر قد أحسن المتنبّي حيث قال: وألقى الشرق منها في ثيابي ... دنانيرا تفرّ من الثّياب قال مسكويه: والشمس محجوبة عنّا سوى لمع ... يسقطن من ورق الأشجار كالورق نفع النرجس قال جالينوس «1» : من كان له رغيف فليجعل لصقه من النرجس، فإنه راعي الدماغ، والدماغ راعي العقل، وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: تشمّموا النرجس ولو في اليوم مرة، فإن في قلب الأنسان حالة لا يزيلها إلا شم النرجس، قال أبو نواس: غضّي جفونك يا عيون النرجس ... كيما ألذّ بقبلة من مؤنسي وقال آخر: وتخالهنّ إذا هممت بقبلة ... حدقا تفهم ما أقول فتنظر «2» وقال آخر: كأنّما النرجس يحكي لنا ... عين محبّ أبدا تنظر لا يطرق الدهر لا شفافة ... تخوفا من لحظه يقصر ويشبه النرجس بالرقيب، قال أبو نواس: لدى نرجس غضّ القطاف كأنّه ... إذا ما منحناه العيون عيون مخالفة في شكلهنّ فصفرة ... مكان سواد والبياض جفون وقال آخر: مداهن تبر حشوهنّ عقيق «3» وقال آخر: أحداق تبر في محاجر فضّة وصفه قامته قال شاعر: ذابلات الأجفان كالعاشق الوا ... قف يشكو الهوى على فرد ساق وقال آخر: غصن الزبرجد مرتد ورقا ... من فضّة لك أثمرت ذهبا «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 قال الباذاني: ورق فوقها دنانير صفر ... قد علت من زبرجد أنبوبا وبالفارسية نركس ازمرددشه مرواريد فردوسته زوش كرميان بسته فنظموه بالعربية فقالوا: وياقوته صفراء في رأس درّة ... مركّبة في قامة من زبرجد «1» ريحة قال ابن الرومي: يا حبّذا النرجس ريحانة ... لأنف مغبوق ومصبوح كأنّه من طيب أرواحه ... ركّب من راح ومن روح «2» قال ابن طباطبا: نرجسه ينسى الورى شكله ... مثل حبيب فاتن دلّه نسيمه كالرّاح لو يحتوي ... والروح لو يعقد منحلّه فضل الورد ومحبته قيل: إن ملك بابل أهدى إلى ملك أضول وردة، فأنكر ما رأى من شوكها وكافأه بأصول الغبيراء، لأن زهرتها تولد داء عظيما إذا شمت. فلما أينعت أصول الورد عنده سرّ به، فندم على ما كان منه فأهدى إليه شجر الخلاف وهو دواء لما تولده الغبيراء. وقيل: كان المتوكل حرّم الورد على جميع الناس، وقال: لا يصلح للعامّة فكان لا يرى إلا في مجلسه. وكان في أيامه يلبس الثياب الموردة ويفرشها ويورّد جميع الآلات ورفع صاحب الخبر إلى المأمون أنّ حائكا يعمل العام كله لا يتعطّل في عيد ولا جمعة، فإذا طلع الورد طوى عمله وغرّد بصوت وقال: طاب الزمان وجاء الورد فاصطبحوا ... ما دام للورد أزهار وأنوار فإذا شرب مع ندمائه غنّى: أشرب على الورد من حمراء صافية ... شهرا وعشرا وخمسا بعدها عددا فلا يزال في صبوح وغبوق ما بقيت وردة فإذا انقضى عاد إلى عمله وأنشد: فإن يبقني ربّي إلى الورد أصطبح ... وندمان صدق حاكة ونبيط فقال المأمون: لقد نظر الورد بعير جليلة فينبغي أن نعينه على هذه المروءة. وأمر أن يدفع إليه في كل سنة عشرة آلاف درهم. وقال الحسين رضي الله عنه: حباني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكلتي يديه وردة وقال إنه سيد رياحين الجنّة ما خلا الآس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 حسنه قال خالد الكاتب: عشية حيّاني بورد كأنّه ... خدود أضيفت بعضهن إلى بعض وقال آخر: كأنّ طلوع الورد والطلّ فوقه ... لثات عليها درّ ثغر مفلّج «1» وقال أزدشير: ياقوت أحمر وأصفر ودرّ أبيض على كراسي زبرجد يتوسطه شذور من ذهب. ظهور الورد وتفتّحه قال جحظة: لقد نطق الدّراج بعد سكوته ... ووافى كتاب الورد أنّي مقبل قال الرقاشي: إذا أقبل الورد أهدى لنا ... سرورا بأيامه مقتبل قال البحتري: وقد نبّه النيروز في غسق الدّجى ... أوائل ورد كنّ بالأمس نوّما «2» يقنّعها برد النّدى فكأنّما ... تبثّ حديثا كان قبل مكتّما «3» قلّة لبثه قال ديك الجن: للورد حسن وإشراق إذا نظرت ... إليه عين محبّ هاجه الطرب خاف الملال إذا دامت إقامته ... فصار يظهر حينا ثم يحتجب «4» قال أبو نواس: زائر يهدي إلينا ... نفسه في كلّ عام قال ابن أبي البغل: حبيب إذا ما زارنا قلّ لبثه ... وإن هو عنا غاب طال جفاؤه «5» وقال آخر: أقام حتّى إذا أنسنا ... بقربه أسرع انتقالا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 وقال: الورد أحسن زائر لو لم تكن ... تلك الزيارة حين زار لماما «1» صيانة الورد قال علي بن الجهم: لم يضحك الورد إلا حين أعجبه ... حسن الرياض وصوت الطائر الغرد لا عذب الله إلا من يعذّبه ... بمسمع بارد أو صاحب نكد قال جحظة: أعزز عليّ بأن يشمّك باخل ... أوان ترك نواظر السّقطاء وقيل: إن كسرى مرّ بوردة ساقطة فقال: أضاع الله من أضاعك، ونزل عن دابته وتناولها وشرب في مكانها أقداحا. وقال بعض الكبار لأبي عبد الله الصائغ: قد جاء وردك يا أبا عبد الله يعني ورد الكلاب، فقال: وقد جاء ورد أمك، يعني ورد القحبة وقد نظم ذلك ابن طباطبا: ولّى الزمان وولى ورد أمكم ... وجاء ورد أبيكم يا بني العرر تفضيل الورد على النرجس قيل: الورد يبقى طول السنة رطبا ويابسا، والنرجس لا يبقى إلّا شهرا. ولو يبس لم ينتفع به. ثم منافع الورد لا تحصى كثرة رطبا ويابسا وطيبا ودواء، قال الصنوبري: زعم الورد أنّه هو أبهى ... من جميع الأنوار والريحان «2» فأجابته أعين النّرجس الغضّ ... بذلّ من قولها وهوان أيّما أحسن التورد أم مق ... لة ريم مريضة الأجفان «3» أم فماذا يرجى لمحمّرة الخدّ ... إذا لم يكن لها عينان فزها الورد ثم قال مجيبا ... بقياس مستحسن وبيان إن ورد الخدود أحسن من ... عين بها صفرة من اليرقان «4» تفضيل النرجس على الورد قيل: النرجس إذا اجتني بقي شهرا، والورد لا يبقى إلا يوما ثم يذبل، وهو كالعين، وهو أفضل من الورد الذي هو كالخدّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 قال ابن الرومي: للنرجس الفضل برغم من زعم ... على صنوف الورد والفضل قسم وله: هذي النجوم هي التي ربّينها ... بحيا السّحاب كما يربّي الوالد» فتأمل الأخوين من أدناهما ... شبها بوالده فذاك الماجد أين العيون من الخدود نفاسة ... ورياسة، لولا القياس الفاسد تفضيل الآس على الورد وبالعكس كتب أبو دلف إلى عبد الله بن طاهر: أرى ودّكم كالورد ليس بدائم ... ولا خير فيمن لا يدوم له ودّ وودّي لكم كالآس حسنا ونضرة ... له زهرة تبقى إذا فني الورد فأجابه: وشبهت ودّي الورد، وهو شبيهه ... وهل زهرة إلا وسيّدها الورد وودّك كآس المرير مذاقه ... وليس له في الطيب قبل ولا بعد وذهبت امرأة إلى معبّر «2» فقالت: رأيت زوجي أولاني باقة نرجس، فقال: يطلقك. فقالت: لمه، فقال: لقول الشاعر: ليس للنرجس عهد ... إنّما العهد للآس ولعليّ بن الجهم يفضل الورد على سائر الرياحين: ما قابلت قضب الريحان طلعته ... إلا تبينت منه ذلّة الحسد الياسمين والآس كان مخنث ببغداد قعد يبيع الياسمين ويقول: من يشتري ريح المحبوب، ولون المحب، بقطعه؟ وتطيّر بالياسمين لكون إلياس في أوله والمين في آخره. قال ابن الرومي: ما أنصف الآس بالياسمين مشبهه ... والآس منه مكان الياء مفقود والياسمين إذا حصلت أحرفه ... فالياس منه مكان الياء معدود إن الدليل على هذا تناثر ذا ... وإن ذاك على الأيّام موجود الشقائق قال أبو العلاء السروري ويروى لابن دريد: جام يكون من العقيق الأحمر ... فرشت قرارته بمسك أذفر «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 خرط الربيع مثاله فأقامه ... بين الرياض على قضيب أخضر «1» والريح تتركه إذا هبّت به ... كالطافح المتمايل المتكسّر فتراه يركع ثم يرفع رأسه ... متمايلا كالعاشق المتحيّر وفيه: جزع وياقوت وخرط زبرجد «2» وقال الصنوبري: أعلام ياقوت نشر ... ن على رماح من زبرجد وللقصار: وكأنّه الحبشيّ يصبغ جسمه ... فثيابه مخضلّة بدمائه وقال الصنوبري: شقائق يحملن النّدى فكأنّه ... دموع التصابي في خدود الخرائد الأترج قال ابن دريد: جسم لجين قميصه ذهب ... زرّ على لعبة من الطّيب «3» فيه لمن شمّه وأبصره ... لون محبّ وريح محبوب وقال ابن العميد: يقدّرها الرائي سبيكة عسجد ... على أنّها من فأرة المسك أضوع «4» وما حكت العشاق صفرة لونها ... ولكن لما قاسى المحبّين تجزع وقال أبو سعيد الرستمي: وأترجة مدّت أصابع من ذهب ... لها أرج من فأرة المسك منتهب تبدّت لنا والريح داج ظلامه ... كغابر نار هزّه الريح فانشعب «5» وقال كشاجم: كأنّ أترجها تميل به ... أغصانها حاملا ومحمولا سلاسل من زبرجد حملت ... من ذهب أصفر قناديلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 وقال ابن الرومي: كأنّكم شجر الأترج طاب معا ... حملا ونورا وطاب الريح والورق النارنج على الأشجار قال شاعر: تطالعنا بين الغصون كأنّها ... خدود عذارى في ملاحفها الخضر وقال التنوخي: شموس عقيق في قباب زبرجد قال الصاحب: كأنّما النارنج تفّاح الذهب ... أو فرح قنديل تندّى كاللهب أو حمرة شعاعها يمضي شعب ... أو ثدي خود ناهد يحكي الكعب «1» الليمون قال محمد العبّاسي: حبّذا الليمون حسنا ... وبهاء ونضاره هو ريحان أتى من ... أرض هند للزياره رام أن يشبهه النا ... رنج خرطا واستداره وتمنّى أن يباهي ... هـ بأن يحكي اصفراره ثم أعياه فلم يل ... حقه في زيّ وشاره «2» لونه والعرف والشكل فمنه مستعاره الدستبول قال شاعر: ككرات طيقان تخال قشورها ... نون القسيّ منمرات يلمع وقال: كأنّها من لبّ كافورة ... قد غمرت من رطب رطب اللفاح قال أبو علي بن أبي العلاء: كحتمة من ذهب ... بلا زورد ممتعا «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 أو شعلة وقد علا ... دخانها وارتفعا وقال أبو القاسم ابنه: ما جوهر متنافس ... فيه كند في ندي «1» ومشمّ معشوق تصا ... دفه على عرف ذكي وكأنّ رائق شكله ... لما بدا كرة الصبي لولا ذوائبه التي ... قد أشبهت بيض الكمي «2» حب النيل قال أبو الحسن الزاهري: ولاح لناظري بنات ورد ... لحبّ النيل تفضح كلّ ورد كنونات اللجين مطرقات ... أسافلها بماء اللازورد الخيري «3» قال ابن الرومي: خيريّ ورد أتاك في طبق ... قد ملا الخافقين من عبقه «4» قد خلع العاشقون ما ص ... نع الهجر بألوانهم على ورقه قال أبو العلاء السروي: أهدى إليّ فنون الشوق والأرق ... نسيم رائحة الخيريّ في العبق كأنه عاشق يهدي صبابته ... صبحا وينشرها في ظلمة الأفق السوسن يشبه بأذناب الطواويس وبسبائك الفضة. قال ابن المعتز: كقطن مسّه بعض البلل قال الموصلي: كأنّما زرقة أوراقه ... ذوائب من لهب الفحم قال عبدان: وقد زخرف الدنيا ملاعق سوسن ... فمن أزرق غضّ النبات وأقمر كأعناق طير الماء أوراقها حكت ... مناقيرها صورا بخدّ مقرر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 الجلنار قال الحمداني: وجلّنار أحمر ... على أعالي شجره كأنّ في رؤوسه ... أحمره وأصفره قراضة من ذهب ... في خرقة معصفره الأرجوان قال عبدان: كأنّ الأرجوان ضرام نار ... بلا شرر تطاير في توالي كأنّا مصطلون بها قعودا ... حواليها وما منّا بصالي «1» المرزجوش قال أبو الوفاء محمد بن عبد العزيز بن محمد بن سلمة الهذلي: ومرزجوش كأنّ القطر شنّفه ... درّا كما شنّفت آذان أبكار «2» إذا أتته هبوب الريح جاذبة ... كأنّه مائلا مصغ لأسرار ورد العصفور قال ابن طباطبا: ريحانة في اصفرار مهديها ... شبهتها بعد فكرة فيها أحبّة لم تصخ لعاذلها ... تسدّ آذانها بأيديها النيلوفر قال أبو عبد الله: كأن نيلوفره عاشق ... نهاره يرمق وجه الحبيب حتّى إذا الليل بدا وجهه ... وانصرف المحبوب خوف الرقيب أطبق جفنيه عسى في الكرى ... يبصر من قارعه عن رقيب وقال آخر: ككاسات شرب في أكفّ وصائف ... من السند عنهنّ السواعد حسّر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 قال الزاهي: ونيلوفر مثل الكؤوس شممته ... حكت ريحه ريح المحبّ الموافق حكى رقدة المحبوب قبل انفتاحه ... وبعد انفتاح الجفن تسهيد عاشق الآذريون «1» قال ابن المعتز: كان آذريونها ... فوق سماء هاميه «2» مداهن من ذهب ... فيها بقايا غاليه «3» وقال عبد الرحمن بن مندويه: صلاء جمر شبّ في كانون الخرّم «4» قال ابن الرومي: وخرم في صبغة الطيالسه ... تحكى الطواويس غدت مطاوسه «5» كأنّما تلك الفروع النامسه ... تغمسها في اللازورد غامسه «6» قال ابن طباطبا صمامات وشي هيّئت للمخازن الأقحوان «7» قال التنوخي: وأقحوان مكان وردته ... دراهم بينها دنانير وقال عبدان: وتبسّم عن ثغور الحور فيها ... ثغور الأقحوان من اللآلي وقال آخر: عيون الأقاحي ما خلقتنّ للبكا ... فما بال مجرى الدمع منكنّ منكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 إذا ما سقاه الغيث كاسا من النّدى ... تناوب سكرانا وبالرّيح يسكر الشاهشفرم قال أبو العويص: وقامة ريحان أنيق نباتها ... غذاها نمير الماء سقيا على قدر «1» وفاح بنشر ريح الشمّ طيب ... له نشوات المسك في سائر العطر فأصبح شاها للرياحين كلّها ... وليس لها ما دام شيء من الأمر «2» قال الزاهي في وصف الأوراق: لها ورق كواوات صغار ما يتطيّر به من الرياحين قيل: في الياسمين يأس، وفي الخلاف خلاف، وفي التمام نميمة، والشقائق الشقاء، وفي البان البين «3» ، وفي السفرجل سفر جل وفي السوسن السوء. قال العبّاس بن الأحنف: أهدى له أحبابه أترجة ... فبكى وأشفق من عيافة زاجر متطير لما أتته لأنه ... لونان باطنه خلاف الظاهر قال ابن الشاه: لا بارك الله في النّمام إنّ له ... اسما قبيحا من الأسماء مهجورا لو لم ينمّ على العشّاق سرّهم ... ما كان فيهم بهذا الاسم مذكورا البنفسج قال ابن المعتز: أوائل النّار في أطراف كبريت ولعبدان: لكا لياقوت منه النّار لا بل ... ككبريت خفيّ الاشتعال قال السروي: كأنّه خضر ديباج أحاط به ... من لا زورد فصوص ذات لألاء وقال التنوخي: زيّنها بنفسج كأنّه ... فيروزج قطّع فيها أو خرط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 الخودان قال بعضهم: وكأنّ الخودان فيها لآل ... مشرقات نظمن في عنقود «1» الخطمي ّ «2» قال الحسن بن محمد: وقد أظهر الخطميّ نورا كأنه ... صحاف من الياقوت فيها ذرائر الزعفران قال الباذاني: كأنّ صبايا الزعفران إذا بدت ... نصال سهام أفردت لا تركب وقال الباذاني الأصفهاني: ورد يعظم والتراب محلّه ... وترى الكريم يعزّ حين يهون وقال محمد بن بحر: هاك خذها عرائسا يتصدّ ... ين صباحا ويختفين مساء يتفلّقن عن صبايا ثلاث ... قد تعانقن إلفة وصفاء وقال آخر: كتخطيط المطرّز في الكمام ... بلام ثم لام ثم لام القطن النابت قال أبو العويص: نشا عن ضمور واستدارة قالب ... فصار عريضا ناتئ القصّات «3» وأثمر تفّاحا بغير تفكّه ... طويل على تفّاحة الشجرات نما وربا حتّى تفتّق صلبه ... بأربع فقرات له حدبات وإن بزّ عنه شحمه وسديفه ... تزيّد شدق الفحل للنّزوات «4» شبيه فم لشاهين ينقضّ فاغرا ... ليلهم يعفورا على وكرات «5» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 الكماة قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: الكماة بقية من المن وماؤها شفاء للعين. والعجوة من الجنة، وفيها شفاء من السحر والسمّ وأنشد الأصمعي لرجل من بني بكر: وأشعث قد ناولته أحرش القوي ... أدرت عليه المدجنات الهواضب تخطّاه القنّاص حتّى وجدته ... وخرطومه في نبع الماء راسب يعني بالأشعث فقيرا وبأحرش القوي كماة خشنة. قال الراعي: بأرض يبين النقع فيها قناعة ... كما انتصّ شيخ من رفاعة أجلح» اللبلاب «2» قال الواواء: لبلابتي أحسن لبلابه ... قد حوت الحسن وأسبابه كأنّها بالغصن ملتفّة ... متيّم عانق أحبابه الريباس قال المرادي: ومكنونة من بنات الثّرى ... تجمّع في الباب خطّابها تمديدا برزت كفّها ... بحر الزمرّد عنابها الباقلاء قال كشاجم: تخال فيه النور جزعا في سخب ... أو بلق طير وقعت على قضب «3» قال الصنوبري: ونيات باقلاء يشبه ورده ... بلق الحمام مقيمة أذنابها «4» وقال: فصوص زمرّد في غلف درّ ... بأقماع حكت تقليم ظفر «5» وقال آخر: زبرجد ضمّن درّة لبّست ... حريرة بطّنت بكافور «6» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 البطيخ قال بعضهم في وصفه: هو فاكهة وأدم وأشنان وحلواء وعند العدم قعب للمدام ويطل في الحمام. قال كشاجم: وزائر زار وقد تعطّرا ... أسرّ شهدا وأذاع عنبرا «1» ملتحفا للصّين ثوبا أصفرا ... يظنّه الناظر إن يقدرا دبّ الوبا بثمنه فأنشرا وإذا أردت الشراء للبطيخ فخذ أثقلها رأسا وأعظمها فلسا وأخشنها مسّا. قال أبو طالب المأموني: وحمراء خلناها أذاعت وأضمرت ... وقد علّ برديها جسام وعندم قراضة تبر في صفائح فضّة ... تضمّنها حقّ من الجزع مسهم «2» إذا قطّعّت كانت سفائن لجّة ... وإن لم تقطّع فهي عكم محزم «3» وله: رياضة مسكيّة عسليّة ... لها لون ديباج وعرف مدام وله في البطيخ الهندي ّ ومبيضة فيها طرائق خضرة ... كما اخضرّ مجرى السيل في صيب الحزن كحقة عاج صيغت بزبرجد ... حوت قطع الياقوت في قطع القطن «4» القثّاء قال الخوارزمي: يا ربّ قثّاء برود المورد ... درّ الحشا زمرّد المجرد سخت الروس لصور المقلد ... مثل ذنابى ريش ديك أعقد قد التوى فوق الثّرى الرطب النّدى ... كما تلوّى أسود بأسود ذي زغب وفيه لين الأجرد ... كالخدّ بين الملتحي والأمرد «5» كأنه في اللون والتأوّد ... صوالج ركبن من زبرجد يكاد للين وللتعقّد ... تجنيه ألحاظ الفتى قبل اليد ماء كطعم السكّر الطبرزد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 الباذنجان وصفه بعضهم فقال: كرات أدم قمعت بكيمخت وحشيت بصغار الدرّ وسط لبن حليب وقمعت بنفسجا. الزرع والغرس قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ما من رجل يغرس غرسا فيأكل من إنسان أو طائر أو بهيمة إلا كان له صدقة. وقالت عائشة: التمسوا الرزق في خبايا الأرض. وقال ابن الزبير: عليك بالزرع فإن العرب كانت تتمثل لذلك ببيت شعر: تتبّع خبايا الأرض وادع مليكها ... لعلّك يوما أن تجاب فترزقا وقال بعض البلغاء: أجود الزرع ما غلظت قصبته وعرضت ورقته، وأدهامت خضرته، وعظمت سنبلته، والتفّت نبتته. وقيل لبعض الفلاسفة: ما بال الحشيش أنضر وأغضّ من الزرع؟ فقال لأن الحشيش ابن للأرض والأرض داية للزرع. وقيل: للزرع ألف آفة ليس فيها أعظم من جور السلطان. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن يقوم حتى يغرسها فليغرسها. وقال ابن حباس: المتوكل من يبذر. البر ّ «1» قيل: أفضل نابت وأحب مأكول البر. وقال بعضهم: ما ظنّك بشجرة فتنت آدم وحواء وأخرجتهما من الجنة إلى دار الكلفة والمهنة وعصيانهما للرحمن، وقال لهما إبليس: ما نَهاكُما رَبُّكُما الآية. مفاضلة البرّ والتّمر قيل: غلة النخل العنا وغلة البر الغنى. وقيل: البرّ خبز والتمر أدم والخبز أفضل من الأدم. وقيل البرّ إذا أكل لا بد وأن يداس ويذرّى ويغربل ويعجن ويخمر، ثم لا يأكله بغير أدم إلا جائع، ومن أكله بغير طحن وخبز تولّد في بطنه الدود. والتمر يؤكل من النخلة على أي نوع أردت، ثم منافعه لا تحصى. واختلف في البر والتمر إثنان عند محمد بن سليمان فقال: طالما اختلف في ذلك الأمم. وقال لابن داحة: اقض بينهما فقال لصاحب البرّ: خبرني أيهما أوجد في الجدب؟ قال: التمر. قال: فأيهما أبقى على الغرق؟ قال: النخل قال: فأيهما الحرق أسرع إليه؟ قال السنبل قال: أيهما أمنع من النار؟ قال: النخل. قال: أي الأرضين أعز؟ قال: أرض النخل. فقال سلمان: قد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 قضيت وفضلت النخل. الكرم قال أبو نواس: لنا هجمة لا يدرأ الذئب سخلها ... ولا راعها زر العجالة والخطر «1» إذا منحت ألوانها مال صفرها ... إلى الجوّ إلّا أن ألوانها خضر قال إبراهيم بن المهدي: سلافة كرم تظل النبيط ... ترفع منه عريشا عريشا «2» إذا أنت قابلته خلته ... مطارف خضرا كسين النقوشا قال الرفاء: وشاحبة الظلال مقرطات ... ظروف الراح من زنج وروم قال أبو رافع الهروي: كأنّ عناقيد العرائش فوقنا ... زنوج وروم علّقوا بالحناجر مدح النخل قال ابن المعتز: ظلّت عناقيدها يخرجن من ورق ... كما احتبى الزنج في خضر من الورق وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أكرموا النخل فإنها عمّتكم. وقال: خلق آدم والنخلة والعنبة والرمانة من طينة واحدة. وقال: نعمت العمّة لكم النخلة تغرس في أرض خوّارة وتسقى من عين خرّارة. وقال ابن دريد: سألت أعرابيا فقلت ما أموالكم؟ قال: النخل. فقلت: أين أنتم من غيره فقال: النخل سعفها صلاء وجذعها غماء وليفها رشاء وفروها إناء ورطبها غذاء. وقال جعفر بن محمد: نعمت العمّة لكم النخلة، وعمرها كعمر الإنسان وتلقيحها كتلقيحه. وقيل: خير أموال الناس أشبهها بهم. ووصف خالد بن صفوان لهشام النخل فقال: هنّ الراسخات في الوحل المطعمات في المحل الملقحات بالفحل، فتخرج أسفاطا عظاما وأوساطا كأنها ملئت رياطا «3» ثم تفتر عن قضبان اللجين منظومة باللؤلؤ المزين، فيصير ذهبا أحمر منظوما بالزبرجد الأخضر، ثم يصير عسلا في لحاء معلقا في هواء ووصفها بعضهم فقال: شريعة العلوق سائحة العروق، صابرة على الجدوب، لا يخشى عليها عدو الذئب. وقيل: إن النخلة تقول للنخلة: أبعدي ظلك من ظلي، أحمل حملي وحملك. وقيل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 الحرب الخفي أن تقرب النخلة من النخلة وهو كما قيل: الحرب الخفيّ إذكار الإبل. وقال بعض البصريين: النخلة تقتل نفسها سنة وصاحبها سنة لأنها تحمل سنة كثيرا وسنة قليلا قال شاعر: لنا على دجلة نخل منتخل ... نسلفه ماء فيعطينا عسل مسطر على قوام معتدل ... يسقى بماء وهو شيء في الأكل وقال أحيحة بن الجلاح وكان قومه لاموه في ابتياعه النخيل: يلومونني في اشتراء النّخيل قو ... مي وكلّهم يعذل تغشى الحبوب بأذنابها ... ويجلب من ضرعها من عل نعم لعمّكم نافع ... وطفل لطفلكم يؤمل هي المال والظلّ حق الظلي ... ل والمنظر الأحسن الأجمل وقيل: سمّي النخل نخلا لأنه منتخل. ذمّ النخل ووصف الرديء منه عاب أعرابي النخل فقال: صعبة المرتقى بعيدة الهوى، مهولة المجتنى، دقيقة السلاء، شديدة المؤونة، قليلة المعونة، خشنة المس، ضئيلة الظل. وأهدى رجل إلى جحظة «1» نخلة زعمها قرشية، فغرسها ولم يزل يتعاهدها حتى حملت، فإذا هي دقلة. فجاء الرجل فسأله عنها فقال: ما فعلت قرشيتك؟ فقال: هي قرشية من ولد زياد. قال بعضهم في نخلة قطعت فجعلت جذوعا: إلى الله أشكو هجمة هجرية ... تحرمها مرّ السنين الغوابر «2» فأضحت رذايا تحمل الطين بعدما ... تكون غنى للمقترين المفاقر خرص «3» النخل والكرم كان لخثعمة البكارى نخيل فجاء خارص، يخرص عليه فأخذ فاسا وجعل يضرب أصولها، ويقول أقطعها فاستريح، فقال عريفه أكفف فليس عليك إلا الحق فقال: لئن كان هذا الخرص فيكن دائب ... فأبعدكنّ الله من نخلات أفي كل عام خارص غير عادل ... تصعّد من أفعاله زفراتي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 شجر التفاح المثمر قال أبو العلاء السروي: وأشجار من التفّاح زهر ... ثقلن بحمله ثقلا وبيدا تظلّ الريح تنثرها علينا ... فنلقطها ونحسبها خدودا نفع التفاح وحسنه روي أن أرسطاطاليس حضرته الوفاة فاستدعى ثلاثة من تلامذته، فعجز عن مناظرتهم، فاستدعى تفاحة اعتصم بها وبرائحتها ريثما قضى وطره. وقال أبقراط: الحمرة في التفاح صديقة الجسم وريحه صديقة الروح. وذكر التفاح بحضرة المأمون فقال: في التفاح الصفرة الرديئة والحمرة الذهبية وبياض الفضة ونور القمر تلذّها من الحواس ثلاثة: العين بلونها والأنف بشمّها والفم بطعمها وفي وصف احمراره قيل: خدود ملاح كدّها لوم لائم وقيل: خدود عذارى قد جمعن على طبق قال أبو نواس: الخمر تفّاح جرى ذائبا ... ذلك التفّاح خمر جمد فاشرب على جامد ذا ذوب ذا ... ولا تدع فرصة يوم لغد وقال الرفاء: لو جمدت راحنا اغتدت ذهبا ... أو ذاب تفاحنا غدا راحا «1» وقال المأمون: لو أن التفاح ينحلّ لكان قزحا، ولو تجسّم قزح غدا تفاحا. التفاحة المهداة وقال ابن المعتز: تفاحة معضوضة ... صارت رسول القبل وقال أبو هفّان: تفاحة من عند تفاحة ... بالمسك والعنبر نفّاحه «2» أخذتها من كفّ ظبي وقد ... كانت إليه النفس مرتاحه ما مسّها طيب ولكنّها ... باشرها بالكفّ والراحه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 وقال: أهدى لنا التفّاح من كفّه ... يا ليته أهداه من خدّه معاتبة من أكل التفاح نظر بعض الفتيان إلى آخر وقد أقبل على أكل التفاح في بعض المجالس فقال: يا ذا الذي يأكل التفاح من شرّه ... رفقا فقدتك يا حتف التحيّات وقال أبو إسحاق بن العباس: إن الذي يأكل تفّاحة ... لمستخفّ بمهاديها وقال الخبزارزي في الاعتذار لأكلها: أكلت تفاحة فعاتبني ... فتى رآها كخدّ معشوقه فقال خدّ الحبيب تأكله ... فقلت: لا، بل أمصّ من ريقه وقال رجل لآخر أكل تفاحة حيّاه بها: أتأكل التحيّات فقال: والمباركات والطيّبات. اختلاف الأمكنة في إدراك الأصناف بصنعاء تدرك الحنطة بصنعاء مرتين، والشعير والذرة ثلاث مرات وأربعا، والعنب دفعتين. وعندهم نحو سبعين لونا عنبا. ويدرك الموز كل أربعين يوما وعندهم قصب سكر، وباقلاء ولوز وتين ورمان وسفرجل. تعانق الأشجار قال بعضهم: كأنّ فروعها في كلّ ريح ... جوار بالذوائب ينتضينا «1» وقال أبو محلم: نشاوى تثنيها الرياح فتنثني ... ويلثم بعض بعضها ثم يرجع وقال سعيد بن حميد: وترى الغصون إذ الرياح تنفّست ... ملتفّة كتعانق الأحباب وقال التنوخي: عذارى تباثثن الحديث المكتّما «2» وقال آخر: فكأنّما ينوي التعا ... نق ثمّ يدركه الخجل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618 ارتجاس الريح في الشّجر قال التنوخي: كأنّ إرتجاس الريح في جنباته ... إذاعة شكوى أو مرار تعاتب وقال عبدان: أنّ رقارق الأرواح فيها ... نشيش ملهوجات في المقال «1» السرو «2» كان بعضهم يبغض السرو ويقول: كأنه نساء لابسات حدادا. وكان يقول: كان السرو ذنب عرس. خرج عبد الله بن طاهر فقال له رجل: قد جئتك ببشارة، قد صدق الله قولك حيث تقول: أيا سروتي بستان زكي سلمتما ... ومن لكما أن تسلما بضمان أيا سروتي بستان زكي سلمتما ... وغال حبيبي غائل الحدثان فقد سقطت إحداهما. فقال له عبد الله: ألم يكن بالرقة حمّى تشغلك؟ وأمر له بخمسة آلاف درهم، وقال: أخشى أن لا أحقق ظنك. نور شجر الخلاف قال أبو حاتم الورّاق: كأن نور شجر الخلاف ... أكفّ سنّور بلا خلاف مردودة البرثن في الغلاف ضروب من الأشجار أشجار اللبان لا تورق بل تحمل أغصانها. الكندر أطول الشجر عمرا. شجر الزيتون فإنه يقال إنه يبقى ثلاثة آلاف سنة وكل زيتونة بفلسطين فمن غرس اليونانيين، وكانوا قبل الروم. والبقم ينبت من غير أن يغرس، والساج تتصاعد في الهواء ملساء مستوية لا تخرج أغصانا، وغاية طول الشجر مائة وعشرون ذراعا وأوراقها عراض في رأس الشجرة كل ورقة تقطع لرجل سراويل. وأشجار الكافور طوال ولها أغصان وعلى رأسها ورق مثل الترس وفي نفس الشجر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 عقد، فإذا أراد الرجل الكافور عمد إلى فهر فيعلوها به فيضربها، فإذا أحس بها أنها قد فجرت، عمد إلى حبل فقلع الشجرة وتناثر الكافور الرياحي منها، فيجتمع في كل شجرة نحو ثلاثين منها وأما ماء الكافور فإنه يعمد إلى الأشجار التي لم تعقر فيضرب بالقدوم مواضع العقد، ثم تؤخذ قلّة وتشد على وقع القدوم فيسيل ماء الكافور من تلك الضربة ويجتمع في تلك القلّة. وبالزنج القرنفل ومشتريه يأتي بالدنانير فيضعها على ساحل البحر وينصرف إلى منزله فإذا أصبح عاد إليه، فيجد هناك القرنفل وتكون الدنانير قد حملت. وبها الخيزران ويقال إنه خيزرانه يبلغ طولها تحت الأرض ست فراسخ. ولبعضهم في العوسج «1» : عذرنا النّخل في إبداء شوك ... يذود به الأنامل عن جناه «2» فما للعوسج الملعون أبدى ... لنا شوكا بلا ثمر نراه تراه ظنّ فيه جنى كريما ... فأبدى عدة تحمي حماه فلا يتسلّحن لدفع كفّ ... كفاه لؤم مجناه كفاه (4) وممّا جاء في الأمكنة والأبنية مكّة قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً «3» وهي حرم إلى يوم القيامة. وأيّ ناحية من الكعبة يصيبها المطر فالخصب في تلك السنة في تلك الناحية. ومن علا الكعبة من العبيد فهو حرّ، وإن الذئب لا يصيد بها الظباء. وإن الطير لا يعلو الكعبة إلا وهو عليل، وإذا طار فانتهى إلى الكعبة افترق فرقتين. وشأن الفيل معروف. المدينة تسمى طيبة فإنّ من دخلها وأقام وجد من تربتها وحيطانها رائحة ليس لها اسم في الأراييح، وأنواع الطيب تزداد بها طيبا وقال صلّى الله عليه وسلّم: إن إبراهيم عليه السلام حرّم مكة وأنا حرمت ما بين لابتي «4» المدينة. ونهى أن يعضد شجرها، وقال: لا يدخلها الطاعون ولا الدجال، ولا يكون بها مجذوم قطّ. وقال: اللهمّ حبّب إلينا المدينة كحبّنا مكة وأشدّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 وبارك لنا في صاعها ومدّها، وانقل حماها واجعلها بالجحفة. مصر لم يذكر الله تعالى شيئا من البلدان باسمه سوى مصر، وذكرها في مواضع بالكناية فقال: وقال نسوة في المدينة وقال: فلن أبرح الأرض يعني مصر. وسئل بعضهم عن مصر فقال: عيش رخي وموت وحي. الكوفة قال ابن عباس: لو كانت البصرة أمة للكوفة فضلّت ما طلبت رغبة عنها. وقال كوفي لبصري: أتمدّون أرجلكم مع أهل الكوفة، ولقد كانوا يقرؤون بقراءة أسلاف الحرمين. فجاء حمزة الزيات من الكوفة فقرأ بلغة لا تعرفها العرب فتتابع الناس على قراءته حتى سكان دور الخلفاء. وكانت القضاة والفقهاء على أحكام سلفهم، حتى جاء أبو حنيفة فتتابع كل الناس على رأيه. البصرة قال الأحنف: نحن أعذب منكم برية وأكثر بحرية وأبعد سرية. وقال خالد بن صفوان: نحن أكثر منكم ساجا وعاجا وديباجا وخراجا ونهرا عجاجا، وقال: مياهها قصب وأنهارها عجب وسماؤها رطب وأرضها ذهب، وتبقى النخلة بالبصرة مائة وعشرين سنة وتبقى كأنها قدح وما تطول نخلة بالبصرة إلا أعوجت. وقيل: تمثّلت الدنيا على مثال طائر فمصر والبصرة جناحاها. وصف جماعة من البلدان قال الحجّاج لابن القرية: صف لي البصرة، قال: حرّها شديد وشرها عتيد. مأوى كل تاجر وطريق كل عابر. قال: فواسط، قال: جنة بين حمأة وكمأة «1» . قال: فالكوفة، قال: نقصت عن حر البحرين وسفلت عن برد الشأم فطاب ليلها وكثر خيرها. قال: فالشأم، قال عروس بين نسوة جلوس أطوع الناس للمخلوق في معصية الخالق. قال: فخراسان، قال: ماؤها جامد وعدوّها جاهد، بأسهم شديد وحرّهم عتيد. قال: فكرمان، قال: ماؤها وشل «2» وتمرها دقل «3» وعدوها بطل. إن قلّ الجيش بها ضاعوا وإن كثر جاعوا. قال: فأصبهان قال في حاضرة من الأرض زائغة «4» من الطريق الأعظم. قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 وأحسن الأرض مخلوقة الريّ، وأحسن الأرض مصنوعة جرجان» ، وأحسن الأرض قديمة وحديثة جندي سابور «2» وهو شر البلاد. ودخل محمد بن عبد الملك الزيات على المأمون فقال: صف لي أصبهان وأوجز. قال: هواؤها طيب وماؤها عذب وحشيشها الزعفران، وجبالها العسل، إلا إنها لا تخلو من خلال أربع: جور السلطان، وغلاء الأسعار، وقلة مياه الأمطار فأطرق ساعة، وقال: لعلّ تجارها مرابون وقراءها منافقون. وقال المأمون: صف لي فارسا قال فيه من كل بلد بلد. وسئل أعرابي عن شهرزور «3» فقال: إن رجالها لتوّق وعقاربها لبرق أي شائلة أذنابها. وقال في بغداد: هي الشمطاء الحرقة والعجوز المتدللة والعمياء المتكحلة، والشملاء المختضبة. هواؤها دخان ونسيمها صدام تنقبض فيها أيدي المستغنين، وتصغر أنفس المفضلين. تجارها أسد مفترسون وصناعها لصوص مختلسون جارها حاسد ومزاجها فاسد. مضارّ البلدان ومنافعها خيبر يحمّ بها كل يوم مقيموها دون الطارئين عليها: ولكنّ قومي أصبحوا مثل خيبر ... بها داؤها ولا يضرّ الأعاديا وقيل حمى خيبر، وطحال البحرين، ودماميل الجزيرة، وطاعون الشأم. ومن أقام بالأهواز حولا فتفقد عقله وجد فيه نقصا بينا. ومن أكثر الصوم بمصيصة «4» خيف عليه الجنون. وقصبة الأهواز تقلب من نزلها إلى طبائع أهلها، ومحمومها إذا نزعت عنه الحمى عادته من غير علة. وفي جبالها الأفاعي وفي بيوتها الحرارات. وقيل من نزل الكوفة ولم يقرّ لهم بثلاث فليست له بدار بفضل أمير المؤمنين وماء الفرات ورطب المشان. ومن نزل البصرة ولم يقر لهم بثلاث فليست له بدار فضل عثمان والحسن ورطب السكر. وقال حكيم بن جابر: قال الجوع أنا لا حق ب أرض العرب قالت الصحة: وأنا معك. عجائب البلدان بشيراز تفاحة نصفها في غاية الحلاوة ونصفها في غاية الحموضة. وبقرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 قرميسين «1» قرية يقال لها كركان «2» من أخذ من طينها ليلة الميلاد، وطيّن به داره وبيته أمن الغوائل إلى قابل. وفي بعض جزائر الصين حيّات تبتلع الإبل والبقر، وقردة كالحمير وبمصر حجر من يمسكه في يده يتقايأ ما دام في يده. والسف حجر يطفو على الماء والأبنوس والشير يرسبان فيه والمغناطيس حجر يجذب الحديد، وإذا مسح بالثوم لم يجذب. وبالأندلس السفلى وبالهند نار تشتعل في حجارة ولو رام أن يحمل منها شعلة لم تتّقد وبمدينة ختن من حدود الصين، طواحين كثيرة يدور الحجر الأسفل والذي فوقه قائم لا يتحرك. وباذربيجان «3» واد لا يقدر أحد أن ينظر إليه. أرض العرب قيل: إن نجدا من العذيب إلى ذات عرق وإلى اليمامة والى اليمن وإلى جبلي طيء، ومن ظهر البصرة وهو المربد إلى وجرة. وذات عرق أول تهامة «4» إلى البحر وإلى جدّة. وإن المدينة لا تهاميّة ولا نجديّة، فإنها حجاز فوق الغور ودون نجد. وأنها جلس لارتفاعها عن الغور ونجد. وقيل القرى العربية مكة والمدينة والطائف واليمامة، فأما البحرين فهو خلط فيه عرب وعجم. حدّ السّودان من لدن الموصل «5» مارا إلى ساحل البحر ببلاد عيان من شرقي دجلة. هذا طوله وأما عرضه فحدّه منقطع الجبل، من أرض حاران إلى منتهى طرف القادسيّة المتصل بالعذيب من أرض العرب، وعليه وقع الخراج والمساحة. الأبنية المحكمة من ذلك الخورنق بناه سنمار لكسرى على فرات الكوفة، فلما صعده كسرى أعجب منه وخاف أن يبني لغيره مثله فقتله. وقيل: إثما قتله لقوله أعرف في أركانه موضع حجر إن نقضته تداعى هذا البناء كله. ومن ذلك مارد والأبلق الفرد، وفي المثل تمرد مارد وعز الأبلق. وغمدان باليمن من أعجب ما بنى الملوك أربعة عشر غرفة بعضها فوق بعض، فهدم الحبشة بعضها وهدم عثمان بعضها، كما هدم آطام المدينة والمشقر وقصر سنداد بالكوفة وفيه يقول الأسود: ماذا أؤمل بعد آل محرّق ... تركوا منازلهم وآل إياد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 أهل الخورنق والسّدير وبارق ... والقصر ذي الشرفات من سنداد وبناء الإسكندرية وقد ذكره النابغة في قوله: وخيّس الجنّ إني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفّاح والعمد وكان المنصور تقدّم بهدم إيوان كسرى، وحمل نقضه إلى مدينة السلام. فقال له خالد: لا تهدم بناء دلّ على فخامة قدر بانيه الذي غلبته وأخذت ملكه، فتعجز عنه فيدلّ ذلك على عجز منك، فقال: هذا الميل منك إلى المجوس، وأمر بهدمه فعجز عنه، فقال: يا خالد صرنا إلى رأيك، فقال: الآن أشير أن لا تكفّ عنه. فإن الهدم أيسر من البناء. ويتحدث الناس أنك عجزت عن هدم بناء بناه عدوّك. وقال المأمون لما سمع هذا: قد حبّب إليّ هذا الخبر، أن لا أبني بناء يعجز عن هدمه. والهرمان قيل كل هرم سمكه أربعمائة في الهواء مبنية بحجارة المرمر والرخام، وغلظ كل حجر وطوله ما بين عشرة أذرع إلى ثمان أذرع، مهندم لا يستبين مسّاده إلا حادّ البصر، عليها منقور كل عجب من الطب والطلاسم ومكتوب عليه: إني بنيتها فمن ادّعى قوة في ملكه فليهدمها، والهدم أيسر من البناء. وأراد بعض الخلفاء هدمها فإذا خراج مصر لا يقوم به فتركها. وفي الخبر أن الإسكندرية بقيت مدة لا يدخلها، أحد إلا على بصره خرقة سوداء من بياض جصّها وبلاطها، وقيل بنيت في ثلاثمائة سنة، وكان فيها ستمائة ألف من اليهود خولا لأهلها. اختيار بلد دون بلد قيل: لا تقيموا ببلد ليس فيها نهر جار وسوق قائمة وقاض عدل. وقيل: لا تبنى المدن إلا على الماء والمرعى والخصب. مدح الدور الواسعة مر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ببناء يبنى، فقال: أوسعوه. وقيل: خير المنازل ما سافر فيه البصر وأترع فيه البدن. وقال يحيى بن خالد لابنه جعفر: تريد أن تبني دارك فاعلم أنّ عمرانها عمران قليل وخرابها خراب قليل، فاستوسع فإن الهمّة مع السعة. وقال: دارك قميصك فإن شئت فوسّعها وإن شئت فضيّقها. وسئل بعضهم ما الغنى؟ فقال: سعة البيوت ودوام القوت. وقيل لآخر: ما السرور؟ فقال: دار قوراء «1» وامرأة حسناء، ويسار مع طول البقاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 ذمّ الدور الواسعة دخل بعض الناس على كبير يبني دارا واسعة، كبيرة الدرع واسعة الصحن رفيعة السمك عظيمة الأبواب، فقال: أعلم أنك ألزمت نفسك مؤنة وعيالا يقلّ حمل مثلهم ولا بدّ لك من الخدم والستور على حسب ما ابتنيته فقد حملت نفسك عناء معنيا. ذمّ الدور الضيقة وصف رجل دارا ضيّقة فقال: أضيق من أفحوص «1» القطاة، وأضيق من بياض الميم ومن خرق الإبرة ومن عقد تسعين ومن مبعج الضبّ. وقيل شؤم الدار أن تكون ضيقة فيكثر سخط مالكها ولا يرضى بما قسم له فيها. وشؤم الدابة أن لا تكون فارهة، وشؤم المرأة أن لا تكون موافقة. قال ابن المعتز: ولكنها في دار سوء كأنها ... بقية ناوس على ساحل البحر «2» وقال ابن الحجّاج: في منزل غمر الو ... قت أهله بالرّخاء وقدّم الخاء حتّى ... يصح معنى الهجاء خال على كلّ حال ... من سائر الأشياء سوى كنوز بطون ... مكنوزة في الخلاء أخاف فيه وأخشى ... من لا يخاف هجائي ومن ضراطي وشعري ... في وجهه بالسّواء جزاهم الله عنّي ... تصحيف معنى الهجاء الحثّ على إحكام البناء لما بلغ عمر رضي الله عنه أن سعدا وأصحابه بنوا بالمدر كتب إليهم: قد كنت أكره إليكم البنيان بالمدر. أما إذا فعلتم فعرضوا الحيطان وأطيلوا السمك وقاربوا بين الخشب. ولمّا بنى معاوية رضي الله عنه داره باللبن دخلها الروم فقالوا: ما أجودها للعصافير فهدمها وبناها بالحجر. وقال يحيى البرمكي: ينبغي للإنسان أن يتنوق في دهليزه فهو وجه الدار ومنزل الضيف ومجلس الصديق إلى أن يؤذن له. الدّار الحسنة دخل المعتصم على خاقان في داره عائدا له، والفتح «3» يومئذ غلام فقال له: يا فتح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 دارنا أحسن أم داركم؟ قال دارنا ما دام أمير المؤمنين فيها. وقال جعفر بن سليمان ليس في الدنيا أحسن من داري قيل: كيف؟ قال: لأن العراق عين الدنيا والبصرة عين العراق والمربد عين البصرة وداري عين المربد. وقيل لأبي الدهمان أين دارك؟ فقال: إذا دخلت سكة بني العنبر، فالدار التي تدل على شرف أهلها هي داري. وقيل أجود الدور وأكثرها غلة ثلاثة دار البطيخ بسرّ من رأى «1» ، ودار الزبير بالبصرة، ودار القطن ببغداد. قال شاعر: منزل فيه كلّ ما صبت ... العين إليه من بهجة وضياء وقال رجاء بن الوليد: كان الربيع بالزخارف أرضه ... وحسن السّماء بالكواكب سقفه وصف بعضهم دهليزا فقال: ودهليز دار فيه للحسن بهجة ... وللنفس فيه للّذاذة أوطار إذا دخل لم يختبر ما وراءه ... توهمه من طيبه أنه الدار وقال عبدان: دهاليزنا ضاقت لخوف نزولهم ... كأنّا يهود ندخل الباب سجّدا القصور الرفيعة لما بنى عيسى بن جعفر بناءه بالبصرة، دخل إليه عبد الصمد فقال: بنيت أجلّ بناء بأطيب فناء، وأوسع فضاء على أحسن ماء بين صرار ورعاء وحيتان وظباء، فقال عيسى: كلامك أحسن من بنائنا البحتريّ في الجعفرية: مخضرة والغيث ليس بساكب ... مبيضّة والليل ليس بمقمر أربى على همم الملوك وغضّ من ... بنيان كسرى في الزّمان وقيصر «2» عال على لحظ العيون كأنّما ... ينظرن منه إلى بياض المشتري «3» ملأت جوانبه الفضاء وعلّقت ... شرفاته قطع السحاب الممطر وقال ابن عيينة فيا حسن ذاك القصر من متنزه ... بأفيح سهل غير وعر ولا ضنك «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 بغرس كأبكار الجواري وتربة ... كأن ثراها ماء ورد على مسك كأنّ قصور القوم ينظرن حوله ... إلى ملك مترف على منبر الملك يدلّ عليها مستطيلا بحسنه ... ويضحك منها وهي مطرقة تبكي وقال الأشعري في قلعة افتتحها المسلمون بخراسان: محلّقة دون السماء كأنّها ... غمامة صيف زال عنها سحابها فما يلحق الأروى شماريخها الذرى ... ولا الطير إلا نسرها وعقابها «1» فما روعت بالذئب ولدان أهلها ... ولا نبحت إلا النجوم كلابها وقال أحد الخالديين: وخرقاء قد تاهت على من يرومها ... لمرقبها العالي وجانبها الصعب يزرّ عليها الجوّ جيب غمامة ... ويلبسها عقدا بأنجمه الشهب اختيار طرف البلد ووسطه قيل: الأطراف للأشراف وقيل لرجل: في أيّ موضع من القرآن الأشراف في الأطراف؟ قال: في قوله تعالى: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى «2» فهذا أشرفهم وكان أقصى المدينة وطرفها. وسأل الرشيد عبد الملك بن صالح عن منزله أهو لك؟ فقال: هو لك ولي بك. قال: كيف هواؤه وماؤه؟ قال أطيب هواء وأعذب ماء. قال: كيف ليله؟ قال: سحر كلّه. أبنية متفاوتة استدان بعض الحمقاء خمسمائة درهم فأنفقها على مخزنه، فبلغ ذلك بعض إخوانه، فقال: ليست شعري ما يريد أن يخرأ فيه؟ وسأل رجل آخر: كم بيت في منزله؟ فقال صفة وكنيفان. فقال: هذا تقطيع رجل مبطون. من بنى بناء نفعه لغيره لما بنى الحجاج مدينة واسط قال لابن جامع: كيف ترى؟ قال: بنيته في غير بلدك وورثته لغير ولدك. قال شاعر: ألم تر حوشيا أضحى ويبني ... بناء نفعه لبني نفيله يؤمل أن يعمر عمر نوح ... وأمر الله يأتي كلّ ليله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 وقال: لدوا للموت وابنو للخراب ... فكلّكم يصير إلى التّراب «1» وبنى أزدشير «2» بناء عظيما فدخله هو ووزيره، فقال: هل فيه عيب؟ قال: عيب عظيم لا يمكنك إصلاحه. لك منه خروج لا دخول بعده، أو دخول لا خروج بعده. فقال: لقد نغّصته عليّ. ودخل ابن السائب القاضي على المتّقي وقد بنى داره، فقال له: كيف ترى؟ فقال: تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنّات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا. الرغبة عن البناء قيل ليزيد بن المهلب: مالك لا تبنى بالبصرة دارا؟ فقال: أنا لا أدخلها إلا أميرا أو أسيرا. فإن كنت أسيرا فالسجن داري، وإن كنت أميرا فدار الإمارة داري. ومرّ رجل من الخوارج على دار تبني، فقال: من هذا الذي يقيم كفيلا؟ وقيل: كل مال لا ينتقل بانتقالك فهو كفيل. ولما بنى مروان داره قيل لأبي هريرة: كيف ترى؟ فقال: بناء شديد وأمل بعيد وعيش زهيد. حرص الإنسان على البناء وذمّ الاشتغال به قيل خلق الله ابن آدم من تراب فهمته في حفر التراب، وخلقت المرأة من ضلع الرجل فهمتها في الرجل. وقيل: ليس في الأرض جواد ولا بخيل ابتاع دارا إلا هدم هذا وبنى هذا وإن قلّ. ونظر الحسن إلى قصور لبعض المهالبة فقال: يا عجبا رفعوا الطين وركبوا البراذين «3» واتخذوا البساتين وتشبهوا بالدهاقين، فذرهم في غمرتهم حتى حين. ومر عبد الله بن جعفر بعبد الله بن صفوان فأدخله بساتين اتخذها وقال له: كيف ترى؟ قال: أراك خالفت ما قال لك إبراهيم عليه السلام: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ «4» ، وأنت قد اتخذتها بساتين. المعيّر بأن شرفه بناؤه هجا بعضهم بني عميرة وكان لهم دار شريفة في الدور الشارعة على المسجد فقال: بنو عمير مجدهم دارهم ... وكلّ قوم لهم مجد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 كأنّهم فقع بدوّية ... ليس لهم قبل ولا بعد وهجا بعضهم بني عدي فقال: ليس لهم مجد سوى مسجد ... به تعدوا فوق أطوارهم لو هدم المسجد لم يعرفوا ... يوما ولم يسمع بأخبارهم وقال عمر الخارق: قد رأينا حسن سابا ... طك والدار الجليله وعلمنا أنّ فيها ... كلّ ما يكفي قبيله غير أنّ الجنّ لا تحسن ... في خبرك حيله وقال: يا من تشرّف بالبنيان يرفعه ... ليس التشرّف رفع الطين بالطّين إذا أردت شريف النّاس كلّهم ... فانظر إلى ملك في زيّ مسكين وقال مسكويه: لا يعجبنّك حسن القصر تنزله ... فضيلة الشمس ليست من منازلها الجار قيل: الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق. وكان ابن المقفع بجنب داره دار، وكان يستامها «1» وصاحبها يمتنع من بيعها. فاتفق أن ركب صاحب الدارين واحتاج إلى بيعها فعرضت عليه. فقال: ما قمت إذا بحرمة الجوار إن رغبت من ابتياعها بعد أن باعها معدوما. وحمل إليه ثمن الدار وقال: بقّ دارك عليك ورد هذا على دينك. وساوموا جارا لفيروز على داره بثمن فقال: هذا ثمن الدار فأين ثمن الجوار؟ قالوا: وهل يباع الجوار؟ قال: نعم لا أبيعه إلا بإضعافه دراهم فبلغ فيروز فأرسل إليه بثمن الدار. هدم دور السلاطين المتقدّمة قيل لابن الزبير: أهدم دور بني أمية. قال: لا أفعل إن ظفرت بهم فهي مبنية أفضل وإن عطفت عليهم بأرحامهم فهو أجمل. فلما قتل ابن الزبير لم تمس لهم لبنة ولما همّ أهل البصرة بهدم دار زياد وانتخاب أهلها، قال الحسن رضى الله عنه: قلّ بلدة خربت الدار التي بنيت عليها إلا خربت وإن البصرة بنيت على دار زياد، فانتهوا عن ذلك. بيع الدار وابتياعها قيل: لتكن الدار أول الشيء الذي يبتاع وآخر ما يباع. وقيل للأحنف: أي المال أبقى وأوفى؟ فقال: المساكن والأرضون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 وقال صلّى الله عليه وسلّم: من باع دارا أو عقارا فلم يرد ثمنهما في مثلها، كان كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف. وفي حديث آخر: فذلك مال جدير أن لا يبارك فيه. وباع رجل دارا فلما أراد أخذ الثمن وأشهد، قال البائع: أما أنك قد أخذتها غليظة المؤنة قليلة المعونة، فقال المشتري: أما أنك قد أخذتها سريعة الذهاب بطيئة الاجتماع. ذكر غلّة الدّار قيل: غلة الدار مسيل، وغلّة النخل كفاف، وغلّة الحب غنى. وقال الحكم بن سعيد قال لي ملك سرنديب: صف لي أهل البصرة، فقلت: قوم لهم نخل يأكلون فضول ثمارهم، وقوم لهم دور يكرونها، وقوم لهم أرقاء يستعملونهم، وقوم لهم أموال يغدون إلى الأسواق فيأكلون فضولها فقال: من كان معاشه من كراء منزله فلئيم، ومن استعمل الأرقاء فكلب ولكن أصحاب النخل بها. نوادر في كرائها دخل رجل ليكتري حجرة فقال: أين المطبخ؟ قيل: في الجيران من يطبخ لك. قال: فأين المخبز؟ قيل: هم يخبزون لك. قال: فأين المرتقى إلى السطح؟ قيل: على باب الدار ساحة يطيب النوم بها. قال: إن كانت حوائج الدار كلها خارجها فنحن خارجون ونربح الأجرة. الرحاء قال بعض الشعراء فيها: وضيفين جاءا من بعيد فقريا ... على فرش حتّى اطمأنّ كلاهما قريناهما ثم انتزعنا قراهما ... لضيفين جاآ من بعيد سواهما وقال: أغدو علي كالناب في هجارها ... الشارف النافر من حوارها بصاحب قد ضجّ من إمرارها ... كان فوق النّار من غبارها شيب عجوز شفّ من خمارها الحمام قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: بئس الحمّام يهتك العورة ويذهب الحياء وقال الرفّاء: يتمشّى إلى النعيم الذي في ... هـ صلاح الأجساد والأرواح بيت ريف ترود عينك في ... هـ بسواد الطلى وبيض الفقاح وقيل للفضل الرقاشي: صف الحمّام، فقال: نعم البيت الحمّام يذهب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 القشافة «1» ويعقب النظافة، ويهضم الطعام ويجلب المنام، وينفي الغضب ويقضي الإرب. قيل: قد مدحته، فذمّه قال: بئس البيت الحمام يهتك الأستار ويؤلف الأقذار ويحرق كالنار، وقال شاعر: وبيت خزي ترى فيه العراة كما ... يوم القيامة موقوفون للنّار أيدي عفاة وقد مدّت إلى ملك ... يعطي الجزيل بقلب غير خوّار «2» ورد أعرابي الحضر فمر بحمّام فقيل له: أدخل وتطهر فدخل فشجّ رأسه، فقال: وقالوا تطهّر إنه يوم جمعة ... فرحت من الحمّام غير مطهّر وزوّدت منه شجّة فوق حاجبي ... بفلسين إني بئسما كان متجري وما تحسن الأعراب في السّوق مشية ... فكيف ببيت من رخام ومرمر وقال السريّ: ذو قبّة كسماء والبدور لها ... جاماتها في أعالي الجوّ تنسرج حرّ وبرد وماء والهواء به ... معدل منهما ما شانه عوج وقال: كأنّ ما قبب من سقفه ... قحف من البلّور مكبوب وقال ابن المعتز: وحمّامنا كالعجوز ... ويشقى بها الوارد فبيت له منتن ... وبيت له بارد النورة قال السري الرفاء: ومجرّد كالسيف أسلم نفسه ... لمجرّد يكسوه ما لا ينسج ثوب تمزّقه الأنامل رقّة ... ويصيبه الماء القراح فينهج وكأنّه لما انتهى في خضرة ... ثوبان ذا عاج وذا فيروزج وقال: وقمص حجارة نسجت بماء ... ويلبسها الغنيّ مع الفقير الأطلال البالية قال بكر بن النطاح: لعب البلاء بطولها ورسومها ... لعب الصبابة في فؤاد العاشق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 وقال معلى الطائي: لبسن البلى حتّى كأن رسومها ... طعمن الهوى أو ذقن هجر الحبائب وقال: هو ملقى على الطّريق اللّيالي وذكر أعرابي قوما فقال: كانوا بدور جموع وجمال ربوع، فصارت منازلهم معتصر الدموع، جرت بها: الريح أذيالها وحطت بها الغيوث أثقالها وسلبتها الأيام جمالها. البالية بالمطر قال ماتي: المزن يمحو بكفّ ماله قلم «1» وقال: رهينة أرواح وصوب رعود وقال بشّار: وأبدي البلى فيها سطورا مبيّنة ... عباراتها أنّ كلّ بيت سيدثر «2» وقال ابن المعتز: وحيطان كشطرنج صفوف ... فما تنفكّ تضرب شاه ماتا وقال: أرى سرّمرا مذ سنين كثيرة ... تزيد خرابا كلّ يوم وتذبل «3» كأنّ بها داء دخيلا فجسمها ... على ما بها من سقمها يتسلّل دار شوهد منها النعيم قال: لعهدي به والسّعد في جنباته ... وثغر نعيم الخفض يبدي تبسّما استقباح المنزل لارتحال الحبيب عنه قال سليمان المحاربي: إذا لم تكن ليلى بنجد تغيّرت ... محاسن دنيا أهل نجد وطيبها وقال: فما أحسن الدنيا وفي الدا ... ر خالد وأقبحها لمّا تجهّز غازيا وقال علي بن محمد: إنّما الدار بالحلول فإن هم ... فارقوها فحيث حلّوا الديارا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 632 دار خلت عن كثب أنشد أحمد بن أبي طاهر: أما الطلول فمخبرا ... ت أنّهم ظعنوا قريبا لم يعفها مطر ولم ... تسف الرياح بها كثيبا وطء النّعال وأثر مف ... ترش ومغتسلا رطيبا الأطلال اللائحة مرّ الفرزدق بمؤدب ينشده صبي قول لبيد: وجلا السيول عن الطلول كأنّها ... زبر تجد متونها أقلامها «1» فنزل وسجد فقيل: ما هذا؟ فقال: أنتم تعرفون سجود القرآن، وأنا أعرف سجود الأشعار. وهذا البيت موضع سجدة. وقال طرفة: يلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد قال أبو نواس: لمن طلل تزداد حسن رسوم ... على طول ما أقوت وطيب نسيم تجافى البلى عنهنّ حتّى كأنما ... لبسن على الإقواء ثوب نعيم وقال البحتري: دمن موائل كالنّجوم وإن عفت ... فبأيّ نجم للصّبابة تهتدي وقال مخلد الموصلي لم تجر فيها الصّبا إلا مسلمة ... ولم يشن وجهها الأرواح والدّيم عرفان المركوب المحال المعهودة قال المتنبّي: مررت على دار الحبيب فحمحمت ... جوادي وهل تشكو الجياد المعاهد «2» وما تنكر الدهماء من رسم منزل ... سقتها ضريب الشول فيه الولائد «3» وقال السلامي: أنا المشوق فما للخيل والإبل ... تحنّ قبلي إذا مرّت على طلل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 استبدال الدار بأهلها الوحوش قال بعضهم: عهدت بها وحشا عليها براقع ... وهذي وحوش أصبحت لم تبرقع وقال الوائلي: فكم آنس بدّلت منه بنافر ... وحالي الشوى بدّلت منه بعاطل» وقال أبو سعيد الرستمي: ظباء سرت بالأبطحين عواطلا ... وكنت أراها في الرعاث وفي الحجل «2» الدار المتغيرة بالرياح قال ذو الرمّة: رسوم كساها لون أرض غريبة ... سوى أرضها منها الهباء المغربل وقال النابغة: كأنّ مجرّ الراسيات ذيولها ... عليه قضيم نمّقته الرواسم «3» وقال: وأربت بها الأرواح حتّى كأنّما ... تهادين أعلى رتبة بالمناخل وقال الحماسي: تعفوه بالغدوّ والأصائل ... كلّ هدوج ذات ذيل ذائل كأنّما ينخل بالمناخل وقال التنوخيّ: كأن إرتجاس الريح في جنباتها ... إذاعة شكوى أو سرار تعاتب استطابة أرض المحبوب قل بعض الأعراب: أرى كلّ أرض دمنتها وإن مضت ... لها حجج تزداد طيبا ترابها وقال النميري: تضوّع مسكا بطن نعمان إذ مشت ... به زينب في نسوة خفرات «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 634 وقال: استودعت نشرها الريّاح فما ... تزداد إلا طيبا على القدم دار تفانى سكانها قال ذو الرمّة: منازل ألّاف أتى الدهر دونهم ... وما الدّهر والألاف إلا كذلك وقال أعرابي: تشكو إليّ الدار فرقة أهلها ... وعندي ما بالدار من فرقة الأهل أخذه محمد بن حبيب فقال: طللان طال عليهما الأمد ... درسا فلا علم ولا قصد لبسا البلى فكأنّما وجدا ... بعد الأحبّة مثل ما أجد محاورة الديار ومجاوبتها قال ذو الرمّة: وقفت على ربع لميّة ناقتي ... فما زلت أبكي عنده وأخاطبه وأسقيه حتّى كاد ممّا أبثّه ... تخاطبني أحجاره وملاعبه البكاء في الديار الدارسة قال بشّار: وقفت بها صحبي فظلّت عراصها ... بدمعي وأنفاسي تراح وتمطر وقال العتابي: منازل لم تنظر بها العين نظرة ... فتقلع إلا عن دموع سواكب وقال الصمة: أخادع عن أطلالها العين إنه ... متى تعرف الأطلال عنك تذيع المنع من البكاء عليها ومساءلتها قال البحتري: لا تقفي على الدّيار فإنّي ... لست من أربع ورسم محيل «1» في بكائي على الأحبّة شغل ... لأخي اللهو عن بكاء الطلول وقال أبو نواس: يا كثير النّوح في الدّمن ... لا عليها بل على السكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 635 سنّة العشّاق واحدة ... فإذا أحببت فاستكن وقال ابن المعتز: إنّ دمعي لضائع في رسوم ... وسؤالي عن المحال محال وقال: أحسن من وقفة على طلل ... ومن بكاء في أثر محتمل كأس صبوح أعطتك فضلتها ... كفّ حبيب والنقل من قبل «1» معاتبة من لم يقف عليها قال إسحاق بن إبراهيم: يا ذا الذي جاز الديار ولم يقف ... قف لا وقفت أما ترى أطلالها لو كنت ذا وجد بساكنها لما ... جاوزتها حتى أطلت سؤالها «2» الاستسقاء للدار قال أبو تمّام: لا زلت ناضرة العراص ولم تزل ... فيك الرياح ضعيفة الأنفاس «3» وقال ابن الرومي: لا يحرم الله الطلول الدرسا ... أقاحيا وسوسنا ونرجسا يكاد ريّاه إذا تنفّسا ... ينشئ في تلك الموات أنفسا «4» وقال الوابلي: سقيت رجوع الظاعنين فإنه ... غنى لك عن سقيا الغيوث الهواطل الدعاء على الدار قال زياد بن جملة: إذا سقى الله أرضا صوب غادية ... فلا سقاهنّ إلا النار تضطرم «5» تنكر الدار وعرفانها قال امرؤ القيس: لمن طلل درست داره ... وغيّره سالف الأخرس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 تنكره العين من حادث ... ويعرفه شغف الأنفس وفيه: تعرفه العين ثم تنكره وفيه: فتعرفه عيني وينكره فمي وقال البحتري: وما أعرف الأطلال من بطن توضح ... لطول تعفّيها ولكن إخالها الأثافي والرّماد قال بشر: كأنّ خوالدا في الدّار سفعا ... بعرصتهم حمامات وقوع وقال جرير: مطايا القدر كالحدا الجثوم وقيل: ما بقي إلا ثلاث سفع كحمام وقع، كانت مطايا القدور فانهلن في عرصة الدور، وقال شاعر: أشاعت كالخيلان في خدّ كاعب ... وسفع كنقط الثاء من كفّ كاتب «1» وقال الكميت: إلا ثلاثا في المقا ... مة ما يحولهنّ ناقل سفع الحدود كأنّما ... نثرت عليهن المكاحل وقال ابن المعتز: عفا غير سفع مائلات كأنّها ... خدود عذارى مسّهنّ شحوب «2» وقال آخر: رماد كما طار على بوّ ظائر وقال الراعي: أنخن وهنّ أغفال عليها ... وقد ترك الصلاء بهنّ نارا النؤي قال أبو تمام: ونؤي مثل ما نقصم السّوارا «3» وقال: والنؤي أهمد شطره فكأنّه ... تحت الحوادث حاجب مقرون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 وقال: ونؤي كمقلى القوس حالت شحوبه وقال التنوخي: وعطفنا نؤي كنون عرقت الوتد قال ابن مقبل: وقلدت أرسان الجياد معبدا ... إذا ما ضربنا رأسه لا يرنح فبات يقاسي بعد ما شجّ رأسه ... فحولا جمعناها تشبّ وتضرح (5) وممّا جاء في المفازة قال بعضهم: وبيداء سمحال كأنّ نعامها ... بأرجائها القصوى أباعر همل ترى الثعلب الحوليّ فيها كأنّما ... إذا ما حللناها نر حصان مجلل وقال بعضهم: كأنّما المكاء في بيدها ... سرادق قد أوقدته الأصل «1» وقال: تخال بها راعي الحمولة طائرا الطريق الواضح لا حب كقرني الثعبان وكفرق الرأس وكحصير الراملات، قال شاعر: كأنه نشطب بالسرو مرمول وكالسحل اليماني وكظهر برجد. وقال الراجز: عود على عود لأقوام أول ... يموت بالتّرك ويحيا بالعمل وقال آخر: ملس الحصى بدرس ما لم يبسس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 638 المفازة المهلكة للمطي ّ وقال عمرو بن معدي كرب: به جيف اللواغب باليات ... كأن عظامها الرخم الوقوع «1» وقال كثيّر: بدوية يكون بها كثيرا ... نتاج المعجلات من السّخال وقال الموسوي: تلقى الأحبّة قتلي في مسالكها ... دياتها في رقاب الفرز والأكم المفازة التي تضبح منها المطايا قال امرؤ القيس: على لاحب لا يهتدي لمناره ... إذا ساقه العود النباطي جرجرا «2» المفازة المجهولة وصف بعضهم مفازة فقال: هي غبراء الجوانب مجهولة المذاهب، تقطع المطا ويحار فيها القطا. قال علقمة: ودويّة لا يهتدي لفلاتها ... بعرفان أعلام ولا ضوء كوكب وقال: وفي ذكرها عند الأنيس خمول وسأل رجل أعرابيا عن مفازة فقال: صادفتها عانسة عذراء، فافترعتها بعيرانة «3» أدماء. وقال الوزير الرئيس أبو العبّاس أحمد بن إبراهيم: وبهماء مثل الوهم عذراء أعرضت ... فقالت لنا نكحا وقلنا لها خطبا المفازة الواسعة قال دعبل: وفضاء يرجع الطّرف به ... قبل أن يرجع مأواه البصر وقال ديك الجن: يا ربّ خرق كأن الله قال له ... إذا طوتك رقاب القوم فانتشر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 639 وقال ذو الرمّة: دوّ ككف المشتري غير أنه ... بساط لأخفاف المراسل واسع وقال: مجهولة تغتال خطو الخاطي وقال المتنبّي: مهالك لم صحب بها الذئب نفسه ... فلا حملت فيها الغراب قوادمه «1» وقال: مشوّهة المعالم واليفاع وقال المأموني: وكأن العرار راحة داع ... أو مطا ساجد عليه ملاء المفازة الموصولة بالأخرى وقال جابر بن حيي: إذا زال رعن عن يديها ونحرها ... بدا رأس رعن وارد متقدّم «2» وقال آخر: إذا قطعنا علما بدا علم «3» المفازة التي يلمع فيها الآل وقال عدي بن الرقاع: وإذا بدا علم لهنّ كأنّه ... في الآل حين يرى ذؤابة عالم ووصف أبو النجم جبلا في الآل فقال: سائح ماءهم بالرسوب وقال المرقش في وصفه: رؤوس رجال في خليج تغامس وقال آخر: كأن أعلامها في آلها القزع «4» وقال آخر: وقوض الآل ساحرة السّراب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 640 المفازة التي تنخرق فيها الرّياح خرق تنخرق فيه الرياح فتحسر طورا وتلعب طورا، وقال مسلم: تمشي الرياح بها مرضى مولهة ... حيرى تلوذ بأطراف الجلاميد وقال الموسوي: توهمت عصف الريح بين خروجه ... يسير إلى سمعي بسرّ يصمم المفازة التي يعرف فيها الجان قال الأعشى: وبلدة مثل ظهر الترس موحشة ... للجنّ باللّيل في حافاتها زجل «1» وقال آخر: شياطينها في أوجه القوم كلّح «2» وقال حميد بن ثور: وخرق تحدّث غيطانها ... حديث العذارى بأسرارها المفازة التي تصيح فيها الأصداء وقال رؤبة: وبلدة عامية أعماؤه ... قد صخبت في ليلة أصداؤه داع دعا لم أدر ما دعاؤه وقال المرقّش الأكبر: وتسمع تزقاء من البوم حولنا ... كما ضربت بعد الهدوّ النواقس «3» وقال ذو الرمّة: يظلّ بها الحرباء للشمس ماثلا ... على الجذل إلا أنه لا يكبر إذا حول الظل العشيّ رأيته ... حنيفا وفي قرن الضّحى ينتصر «4» وقال: كأن يدي حربائها متشمّسا ... يدا مذنب يستغفر الله تائب وقال المرار: كأن حرباءها يصلى بتنّور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 641 وقال ابن المعتز: كأن حرباءها والشمس تصهره ... صال دنا من لهيب النار مقرور «1» (6) وممّا جاء في التغرب حمد التغرّب والسفر قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ «2» وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم سافروا تغنموا، فإنكم إن لم تغنموا مالا أفدتم عقلا. وقال سافروا تصحوا. وقيل: السعي جناح الجدّ والزماع «3» أخو النجح. وقيل: من التوفيق رفض التواني، ومن الخذلان مسامرة الأماني. وقيل: من لزم القرار سيم الصغار. وقيل: شمّر ذيلا وأدرّع ليلا اتخذ الليل جمل. وكان بشر بن الحارث يقول لأصحابه: سيحوا فإن الماء إذا ساح طاب وإذا وقف تغيّر. الحثّ على الانتقال من مكان نبا بصاحبه والتمدّح بذلك قيل: أوحش وطنك إذا كان في إيحاشه أنسك، واهجر منزلك إذا نبت «4» عنه نفسك. وقف بهلول على قوم من أهل الأدب فقال لهم: كيف ترون قول الشاعر؟: وإذ نبا بك منزل فتحوّل قالوا: جيّد، فضرط لهم وقال: إذا كان في حبس كيف يتحول؟ قالوا: فما عندك قال: إذا كنت في دار يهينك أهلها ... ولم تك ممنوعا بها فتحوّل وقال أبو دلف: وإذا الديار تنكّرت عن حالها ... فدع المقام وأسرع التحويلا ليس المقام عليك فرضا واجبا ... في موطن يذر العزيز ذليلا «5» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 642 وقال المتلمّس: ولن يقيم على خسف يسام به ... إلا الأذلّان عير الحيّ والوتد «1» هذا على الخسف مربوط برمّته ... وذا يشجّ فلا يرثي له أحد «2» وقال قيس بن الحطيم: وما بعض الإقامة في ديار ... يهان بها الفتى إلا بلاء وقال حرب بن خباب: إذا ما اجتوتني بلدة لم أكن بها ... نسيبا ولم تسدد عليّ المطامع» وقال البحتري: ومن عادتي والعجز من غير عادتي ... متى لا أرح عن منزل الذلّ أدلج «4» وقال أبو فراس: إذا لم أجد من بلدة ما أريده ... فعندي لأخرى عزمة وركاب مخالفة العذّال في الترحّل والنهي عن مخافة نزول الأجل لما أراد عبد الملك الخروج إلى مصعب تعلّقت به عاتكة وهي تبكي وتقول قاتل الله القائل: إذا ما أراد الغزو لم يثن همّه ... حصان عليها نظم درّ يزينها «5» وقال ابن جبلة: وخافت على التطواف فوتي وإنّما ... تصاد غرار الوحش وهي رتوع وقال بشّار: يخاف المنايا إن ترحلت صاحبي ... كأنّ المنايا في المقام مناسبه كراهة إطالة الإقامة بمكان قال أبو تمام: وطول مقام المرء في الحيّ مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدّد «6» فإنّي رأيت الشمس زيدت محبّة ... على النّاس إذ ليست عليهم بسرمد «7» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 643 وقال آخر: السيف إن قرّ في الغمود صدا وقيل: الإغراب يعيد الجدّه ويفيد الحدّه، إذا أخلقك الوطن جددك الظعن لا يألف الوطن إلا ضيق العطن. وقال يزيد بن المهلّب: وإنّ لزوم قعر البيت موت ... وإن السير في الأرض النشور النهي عن الإقامة بمكان مخصب فيه هوان قال سعد بن ثابت: ولسنا بمتلين دار هضيمة ... مخافة موت إن بنا نبت الدار «1» وقال المتنبّي: وما منزل اللذّات عندي بمنزل ... إذا لم أجلل عنده وأكرم تأسّف من يلحقه إذلال فيعسر عليه الانتقال قال شاعر: أمالي في بلاد الله باب ... يؤدّيني إلى سبل النّجاح بلى في الأرض متّسع عريض ... ولكنّي منعت من البراح وما يغني العقاب عيان صيد ... إذا كان العقاب بلا جناح وقرئ على حائط بأسد أباد: غيرت بين عزيمتين كلاهما ... أمضى عليّ من شباة سنان همم تشوّقني إلى طلب العلى ... وهوى يشوّقني إلى الأوطان وقيل: إذا أعيا المقام في الوطن، أغنى الجلاء عن العطن «2» إيثار اليسر في الغربة على العسر في الوطن قيل: اليسر في الغربة وطن، والعسر في الوطن غربة. وقيل: إذا أيسرت فكل رحل رحلك، وإذا أعسرت اجتنبك أهلك. وقال عبد الملك للحارث: أي البلاد أحب إليك؟ فقال: ما حسنت فيه حالي وعرض فيه جاهي، لا كوفة أبي ولا بصرة أمي، خشونة الغربة مع الجدّة أوطأ من لين الموطن مع الفقر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 644 وقال بزرجمهر: السعيد يتبع الرزق، والشقي يتبع مسقط الرأس، أخذه من قال: ذو اللبّ تنزع للرفاعة نفسه ... وترى الشقيّ نزوعه للموطن «1» وقال المتنبّي: وما بلد الإنسان غير الموافق ... ولا أهله الأدنون غير الأصادق قال أبو نواس: دخلت دار السلطان بمدينة السلام، فرأيت أبا دلف الكرخي متعلقا ببعض ستائر الخاصة، وهو يقول: طلب المعاش مفرّق ... بين الأحبّة والوطن ومصير جلد الرجا ... ل إلى الضّراعة والوهن حتّى يقاد كما يقا ... د النضو في ثني الرسن ثم المنية بعده ... فكأنّه ما لم يكن فقلت: أيها الأمير لو صرت إلى حجرتي، لأنشدتك بيتين يسليانك فجاء معي فأكل وشرب وقال: هات ما عندك فأنشدته: إذا كنت في أرض عزيزا وإن نأت ... فلا تكثرنّ منها نزاعا إلى الوطن فما هي إلا بلدة بعد بلدة ... وخيرها ما كان عونا على الزمن فسرّي عنه وحباني مالا جمّا. إيثار العسر في الوطن على اليسر في الغربة قيل: عسرك في وطنك أطيب من يسرك في غربتك. وقيل: إذا وجدت بعض القوت فالزم قعر البيوت. وقيل: إحفظ بلدا ربّاك. وقيل: بلد أغذيت فيه السلامة فلا تزايله «2» وقال: وإن اغترابي كي أنال معيشة ... وفضل غنى للوارثين خسار ذمّ الخروج عن الوطن قيل الغربة ذلّة وكربة. وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: من رضي بالذل فليس منّا. وقيل السفر سقر، ولكن غلط باسمه. وقيل السفر شعبة من جهنم، ولذلك قيل: لولا فرحة الأوبة لعذبت بالسفر. وقال التنوخي: مسير دعاه الناس سيرا توسّعا ... ومعنى اسمه إن حقّقوه إسار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 645 وقيل: عذابان لا يعرف قدرهما إلا من بلي بهما: السفر الشاسع والعذاب الواسع، وقال: وإن اغتراب المرء من غير خلّة ... ولا همّة يسمو بها لعجيب وقال مروان: إذا ما حمام المرء حمّ ببلدة ... دعته إليها حاجة وتطرّب «1» وقال البحتري: وإن اغتراب المرء في غير بغية ... يطالبها من حيف دهر يطالبه «2» وقال الحسن رضي الله عنه في دعائه: اللهمّ إنا نعوذ بك أن نملّ معافاتك. فقيل له في ذلك، فقال: أن يكون الرجل في خفض فتدعوه نفسه إلى سفره، وقيل- ما دار من يشتاق إلى السفر بدار سلامة. ذمّ الإقامة في غير الأهل قيل: إذا كنت في غير قومك فلا تنس نصيبك من الذلّ، وقال: نصيبك من ذلّ إذا كنت جاليا وقال: إذا كنت في قوم ولم تك منهم ... فكل ما علفت من خبيث وطيّب الغريب كالفرس الذي زايل أرضه وفقد شربه فهو ذاو لا يثمر وذابل لا ينضر وقال الأعشى: ومن يغترب عن قومه لا يجد له ... على من له رهط حواليه مغضبا وتدفن منه الصالحات وإن يسئ ... يكن ما أساء النار في رأس كوكبا وقال: ولم أر عزّا لامرئ كعشيرة ... ولم أر ذلا مثل ناء عن الأهل وقال أبو عيينة: وقائلة ماذا نأى بك عنهم ... فقلت لها لا علم لي فسلي القدر فيا سفرا أودى بلهوي ولذّتي ... ونغّصني عيشى عدمتك من سفر وروي أنه رئي القاسم بن عبيد الله فقيل له: ما خبرك؟ فقال: وارحمتا للغريب في البلد ... النازح ماذا بنفسه صنعا «3» فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده وما انتفعا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 646 الحثّ على إجمال المعاشرة في السّفر قيل: لا تحمدنّ امرأ حتّى تجربه في معاملة أو سفر. وقيل: السفر ميزان القوم. وقيل: سمّي السفر سفرا لأنه يسفر عن الأخلاق المحمودة والمذمومة. وقال العطوي: أكرم رفيقك حتّى ينقضي السفر ... إنّ الذي أنت موليه سينتشر ولا تكن كلئام أظهروا ضجرا ... إن اللئام إذا ما سافروا ضجروا وقال أبو دلف: وممّا يسكن قلب الغريب ... رفيق تطيب به الصّحبة وأراد الحسن الحجّ فقال له ثابت: نصطحب، فقال: دعنا نتعايش بستر الله إني أخاف أن نصطحب فيرى بعضنا من بعض ما نتماقت «1» عليه. الكثير التقلّب في البلدان مدح بعضهم رجلا فقال: يدّرع الليل ويستحقر السير، فيظل بموماة «2» ويمسي بغيرها: أسير في الآفاق من مثل وقال البحتري: تقاذف بي بلاد عن بلاد ... كأنّي بينها خبر شرود وقال آخر: وذاك تروك للفراش الممهّد وقال أبو تمّام: خليفة الحضر من يربع على وطن ... في بلدة فظهور العيس أوطاني وقال آخر: وأيّ بلاد لم تطأها ركائبي المتشمّر في السّفر قال زياد بن جميل: مخدّمون ثقال في مجالسهم ... وفي الرّحال إذا صاحبتهم خدم وقيل: فلان عبد أصحابه في السفر وسيّدهم في الحضر، وقال شاعر: وعبد للصّحابة غير عبد وقال هشام لرجل أراد سفرا: أخدم أصحابك وإيّاك أن تكون كلبهم، فإن لكل رفقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 647 كلبا ينبح دونهم، فإن كان خيرا أشركوه وإن كان شرا تقلّده دونهم. مشاركة الرفيق في المركوب والزّاد قال ابن مسعود: كنّا يوم بدر ثلاثة على بعير، وكان أمير المؤمنين وأبو لبابة زميلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإذا دارت عقبتهما. قالا: يا رسول الله إركب ونمشي عنك، فيقول: ما أنتما بأقوى منّي وما أغنى بالأجر منكما. وقال حاتم: إذا كنت ربّا للقلوص فلا تدع ... رفيقك يمشي خلفه غير راكب أنخها وأردفه فإن حملتكما ... فذاك وإن كان العقاب فعاقب وقال آخر: إذا ما خليلي ظلّ ينسل خلفها ... وفي ناقتي فضل فلا حملت رجلي ولم يك من زادي له مثل مزودي ... فلا كنت ذا زاد ولا كنت ذا رحل حمد الإيغال «1» في السّير والتبجّح به قيل لرجل: كيف كان سيرك؟ قال: كنت آكل الوجه، وأغرس إذا أسحرت، وأرتحل إذا أسفرت، فأسير الموضع وأجتنب الملمع. فجئتكم بمشي سبع. وسار ذكوان من مكة في يوم وليلة، فقدم على أبي هريرة وهو خليفة مروان على المدينة فصلّى العتمة فقال له أبو هريرة: حاج غير مقبول منه. فقال: لمه؟ فقال: لأنك نفرت قبل الزوال فأخرج كتاب مروان مؤرّخا بعد الزوال. وحذيفة بن بدر أغار على هجاء بن المنذر بن ماء السماء فسار في ليلة مسير ثمان، وفيه يقول قيس بن الحطيم: هممنا بالإقامة ثمّ سرنا ... مسير حذيفة الخير بن بدر ذمّ الإيغال في السّير في الحديث: إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. وفي الحديث: خير الأمور أوساطها. وشرّ السير الحفحفة. قال المرار: نقطع بالنّزول الأرض عنّا ... وبعد الأرض يقطعه النزول الشاحب اللون لسفره يقال: فلان رجيع سفر، ووقيد سهر، وقال المرار: وغبره تهجير ركب يلفّهم ... سموم أتت دون العجائب تلفح «2» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 648 وقال: نضو هوى بال على نضو سفر «1» وقال آخر: أترك أنقاضا على أنقاض وقال البحتري: ردّ الهجير لحاهم بعد شعلتها ... سودا فعادوا شبابا بعد ما اكتهلوا من غلبه النعاس لإدامة السّرى قال شاعر: فلان يجود من صباباته الكرى ... سقاه السّرى خمرا فصار به سكر «2» وقال كعب بن زهير «3» : وأشعث رخو المنكبين بعثته ... وللنّوم منه في العظام دبيب وقال إسحاق: ومعرّس نبّهته ... فكأنّما نبّهت فهدا «4» قطع المفاوز باللّيل وقال عليّ بن جبلة: وليل بعيد صبحه من مسائه ... منوع السّرى لا يمتطيه هيوب بنيت على أولاه أخراه فالتقى ... على العيس منه مطلع ومغيب وقال أعرابي: جبت أودية الظلام وهجرت لذيذ المنام، إلى أن وصلت إلى المرام، وقال شاعر: ونضوت سربال المفاوز بالسّرى ... وجعلت أردية السّرى سربالي «5» وقال المتنبّي: وأسري في ظلام الليل وحدي ... كأنّي منه في قمر منير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 649 قطع المفاوز بالهاجرة قال أعرابي: خرجت في هاجرة كادت النفوس لها تلتهب، والحرابي من شمسها تصطلب. وقال النابغة: إذا الشمس مجّت ريقها بالكلاكل «1» وقال علقمة: وقد علوت قتود الرحل يسعفني ... يوم تجيء به الجوزاء مسموم حام كأنّ أوار الشمس شامله ... دون الثياب ورأس المرء معموم «2» من ألفته السّباع والمفاوز وقال تأبّط شرّا: أبيت بمغنى الوحش حتّى ألفته ... وتصبح لا يحمي لها الدهر مرتعا وقال أبو تمّام: أبنّ مع السّباع الماء حتّى ... لخالته السّباع من السّباع «3» وقال المتنبّي: صبحت في الفلوات الوحش منفردا ... حتّى تعجّب منّي القور والأكم «4» وقال الشنفرى: ولي دونكم أهلون سيد عملس ... وأرقط زهلول وعرفاء جيأل «5» المهتدي بالنّجوم والعارف المفاوز وقال بشّار: ويهماء يستاف التراب دليلها ... وليس له إلا اليماني مخلق «6» تجاوزتها وحدي ولم أرهب الرّدى ... دليلي نجم أو حوار محلّق «7» وقال حميد: تيهاء لا يتخطّاها الدليل بها ... إلا وناظره بالنّجم معقود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 650 وقال تأبّط شرّا: يرى الوحشة الأنس الأنيس ويهتدي ... بحيث اهتدت أم النّجوم الشوابك وقال آخر: ترى الليل كورا والمجرّة مقودا وقال المتنبّي: وإنّي لنجم يهتدي صحبتي به ... إذا حال من دون النّجوم سحاب وقيل: فلان أدلّ من دعميص «1» الرمل لأنه بلغ آخر رمال بني سعد، ولم يبلغه غيره وعبد الله بن أريقط وهو الذي دل النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة الهجرة وفلان أهدى من القطا ومن اليد إلى الفم. القادر على المشي قال أعشى باهلة: لا يغمز الساق من أين ولا وصب ... ولا يعضّ على شرسوفه الصقر «2» وقال: تحسبني محجّلا سبط السا ... قين أبكي أن يظلع الجمل «3» المسرّة بالعود من السفر سالما قال ابن عيينة: إذا نحن عدنا آيبين بأنفس ... كرام رجت أمرا فخاب رجاؤها فأنفسنا خير الغنيمة إنها ... تؤوب وفيها ماؤها وحياؤها وقال: فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر «4» وقال آخر: رضيت من الغنيمة بالإياب مسرة الراجع بقضاء الحاجة قيل لأعرابي: ما السرور؟ قال: أوبة بغير خيبة. وقال آخر: غيبة تفيد غنى وأوبة تعقب منّى وقال أبو تمّام: ما آب من آب لم يظفر بحاجته ... ولم يغب طالب للنجح لم يخب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 651 وسأل الحجاج أصحابه: أي شيء أذهب للتعب؟ فقيل: التمريخ» وقيل الحمام وقيل النوم وكان فيهم فيروز فقال ما شيء أذهب للتعب من قضاء الحاجة قال المؤلف وهذا من قول القطامي: وقد يهون على المستنجح العمل الدعاء للمسافر كما يقال للمسافر استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لرجل: اللهم أطو له البعيد وهون عليه السير وقال: نعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب، ومن الحور بعد الكور. اللهمّ أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل والوطن. (7) وممّا جاء في الحنين إلى الأوطان رضي الناس بمسقط رأسهم قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لولا حبّ الوطن لخربت بلاد السوء. وقيل: بحب الأوطان عمارة البلدان. وقال ابن عباس: لو قنع الناس بأرزاقهم قنوعهم بأوطانهم لما شكا عبد رزقه. وقيل لأعرابي: كيف تصبرون؟ على جفاء البادية وضيق العيش؟ فقال: لولا أن الله تعالى أقنع بعض العباد بشر البلاد ما وسع خير البلاد جميع العباد، وقال بعض الفلاسفة فطرة الرجل معجونة بحب الوطن. فضل محبة الوطن روي في الخبر: حبّ الوطن من طيب المولد. وقال أبو عمرو بن العلاء مما يدلّ على كرم الرجل وطيب غريزته حنينه إلى أوطانه وحبه متقدمي إخوانه وبكاؤه على ما مضى من زمانه. وقالت العجم: من علامة الرشد أن تكون النفس إلى مولدها مشتاقة وإلى مسقط رأسها توّاقة. وسمع أبو دلف رجلا ينشد: ألقى بكلّ بلاد إن حللت بها ... ناسا بناس وإخوانا بإخوان فقال: هذا الأم بيت قالته العرب، لقلة حنينه إلى ألّافه. الحثّ على صيانة مسقط الرأس قيل: لا تجف بلدا فيه قوابلك، وأرضا تبنكها «2» قبائلك. وقيل: إحفظ بلدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 652 رشحك غذاؤه وارع حمى أكنك «1» فناؤه وقيل: ميلك إلى بلدك من شرف محتدك. حبّ مسقط الرأس وصعوبة مفارقته قال حفص الطائي: رأيت جارية تقود عنزا فقلت: يا جارية أيّ البلاد أحب إليك؟ فقالت: أحبّ بلاد الله ما بين منعج ... إليّ، وسلمي إن تصوب سحابها بلاد بها نيطت عليّ تمائمي ... وأول أرض مسّ جلدي ترابها «2» وقال ابن الرومي: ولي وطن آليت أن لا أبيعه ... ولا أن أرى غيري له الدهر مالكا «3» عهدت به شرخ الشباب ونعمة ... كنعمة قوم أصبحوا في ظلالكا «4» فقد ألفته النفس حتّى كأنّه ... لها جسدان بأن غودر هالكا وحبّب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضّاها الشباب هنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصّبا فيها فحنوا لذلكا وقال آخر: وكلّ نفس تحبّ محياها وكفى بدلالة محبته قول الله تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ «5» الآية وقال الشريف الموسوي: وفي الوطن المألوف للنّاس لذة ... وإن لم ينلنا العزّ إلا التقلب المستشفي بتراب أرضه وريحها لما أسر سابور «6» ببلد الروم قالت له بنت الملك، وكان قد مرض وعشقته، ما تشتهي؟ قال: شربة من ماء دجلة وشمّة من تراب اصطخر «7» . فحملا إليه فبرأ. واعتلّ أعرابي فقيل له: ما تشتهي؟ قال: حسل «8» فلاة وحسي قلاة. وكان من عادة العرب إذا غزت أو سافرت حملت معها من تراب بلدها فتنشقه عند نزلة أو صداع. من تشوّق مكان إلفه بعدما كرهه قال بعضهم: ألفنا ديارا لم تكن من ديارنا ... ومن يتألف بالكرامة يألف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 653 وقال: نزلنا مكرهين بها فلّما ... ألفناها خرجنا مكرهينا وما حبّ البلاد بنا ولكن ... أمرّ العيش فرقة من هوينا الحنين إلى البادية والتبرّم بالحاضرة قال بعض الأعراب المتوجهين إلى خراسان في زمن عثمان رضي الله عنه يقول: بلغت إلى حلوان والقلب نازع ... إلى أهل نجد أين حلوان من نجد لجثجاث أرض حين يضربه الندى ... أحب وأشهى عندنا من جنى الورد «1» قيل لزينب أم حسانة الضبية وهي قاعدة على حافة بركة في وسط رياض وأزاهر: أما ترين حسن هذا المكان؟ فأطرقت ساعة وقالت: أقول لأدنى صاحبي أسرّه ... وللعين دمع يحدر الكحل ساكبه «2» أحبّ إلينا من صهاريج ملئت ... للعب ولم تملح إليّ ملاعبه «3» فيا حبّذا نجد وطيب هوائه ... إذا أهضبته بالعشيّ هواضبه «4» وريح صبا نجد إذا ما تنسّمته ... ضحى وسرت جنح الظلام خبائبه «5» فأقسم لا أنساه ما دمت حيّة ... وما دام ليل عن نهار يعاقبه ولا زال هذا القلب مسقيّ لوعة ... بذكراه حتّى يترك الماء شاربه الحنين إلى منزل لا يرجى لحوقه وقال لرجل من بني طهم: أحنّ إلى نجد وإني لآيس ... طوال الليالي من قفول إلى نجد وقال: يقرّ بعيني أن أرى رملة الفضا وقال آخر: فلست وإن أحببت من يسكن الفضا ... بأول راج راحة لا ينالها وقال المتنبّي: أحنّ إلى أهلي وأهوى لقاءهم ... وأين من المشتاق عنقاء مغرب «6» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 654 حمد سكون البادية وذمّه وقال شاعر: ومن تكن الحجارة أعجبته ... فأيّ أناس بادية ترانا وقال صلّى الله عليه وسلّم: من سكن البادية جفا ومن اتبع الصيد لها ومن أتى السلطان فتن. (8) وممّا جاء في النيران ماهيّة النّار قال النظّام: النار اسم للحر والضياء، وهما جوهران صعادان. والضياء هو الذي يعلو إذا انفرد ولا يعلى. فإذا قيل أحرقت النار وسخنت، فذلك للحرّ لا للضياء. وقال: النار مكنة في الأشياء كلّها، فإذا أطفئت نار الأتون فوجدنا حرّها ولم نجدها مضيئة فلأن حرّ النار يهيج تلك الحرارات فيظهرها، ولم يكن ثم ضياء فيظهر إذا خالطته النار فهو أشدّ كالصاعقة. منفعة النار قيل: من أكبر المواعين الماء والنار ثم الكلأ والريح، ومنافعها يطول حصرها ويصعب ذكرها. قال الله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً «1» (الآية) . وهي أعظم ما زجر به عن المعاصي. وقد جعلها الله تعالى من عذاب الآخرة فقد عذب في الدنيا بالغرق والرياح والحاصب، والرجم والمسخ والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ولم يبعث عليهم نارا، وهي ما ركب منه العالم ولا يتعرّى شجر ومدر منها. وقيل في الإخوان: هم بمنزلة النار قليلها ينفع وكثيرها يضرّ. وكانوا إذا تتابعت عليهم الأزمان وأحوجهم الاستمطار عقدوا في أذناب البقر شسعا «2» فصعدوا بها جبلا وأوقدوها نارا وضجوا بالدعاء. ونارا كانوا يوقدونها في التحالف وقد ذكرناه في الإيمان ونارا كانوا يوقدونها خلف مسافر لا يريدون رجوعه. قال شاعر: وحمة أقوام حملت ولم أكن ... لأوقد نارا خلفهم للتندّم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 655 حسن النّار ووصفها إذا وصفوا شيئا بالحسن قالوا: ما هو إلا نار موقودة. وقالت امرأة: أنا والله أحسن من النار الموقدة. وقال قدامة في وصف الذهب: شعاع مركوم ونسيم معقود. ونظر مجوسيّ في مجلس الصاحب إلى لهيب نار فقال: ما أشرقه! فقال الصاحب: ما أشرقه وقودا وأخسأه معبودا. الياس: ما ترى النار كيف أسقمها القرّ ... فأضحت تخبو زمانا وتبصر وبدا الجمر والرماد عليها ... في قميصين مذهّب ومعنبر وقال أحمد بن الضحاك: كأنّما النار حين ترمقها ... وجمرها من رمادها يحجب وجنة عذراء مسّها خجل ... فالتهبت تحت عنبر أشهب وقال الصاحب: الاصطلاء طيّب عند الامتلاء «1» . وقال شاعر: وشعثاء غبراء الفروع منيفة ... بها توصف الحسناء أو هي أجمل دعوت بها أبناء ليل كأنّهم ... إذا أبصروها معطشون قد أنهلوا وقال الجريمي: نار كهادي الشقراء نافرة ... تركض من حولها أشافرها النيران التي جعلها الله تعالى آية كانت بنو إسرائيل إذا قرّب أحدهم قربانا مخلصا لله، نزلت نار فتأكله ومتى لم تتزل النار وبقي القربان على حالته دلّ على أن صاحبه مدخول النيّة. وهذه النار هي التي اقترحوها على النبي صلّى الله عليه وسلّم فحكى الله عنهم: الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ «2» (الآية) وقيل إن الحجّاج لما جنّق «3» الكعبة جاءت نار فوقعت في المنجنيق فأحرقته فامتنع أصحابه من الرمي، فقال الحجّاج: إن هذه نار القربان دلّت على أن فعلكم متقبّل. ومن ذلك، النار التي قصدها موسى فكانت سبب نبوّته «4» ومنه نار إبراهيم التي صارت بردا وسلاما «5» ومنه نار الحرّتين «6» . وذلك أنه ظهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 656 في حرة بلاد بني عبس نار تسطع باللّيل والنهار، ويظهر دخانها بالنهار، وكانت طيء تنقش فيها الإبل من مسيرة ثلاث. وربما ندرت منه عنق فتحرق ما تأتي عليه، فبعث الله خالد بن سنان وهو أول ولد إسماعيل عليه السلام، ولم يكن في أولاده غيره فاحتفر لها بئرا ثم أدخلها فيه والناس ينظرون، وهو يقول: كذب ابن راعية المعزى لأخرجن منها وجبيني يندى. ثم لما حضرته الوفاة قال إذا دفنتموني فاحضروا بعد ثلاث، فإنكم ترون عيرا أبتر يطوف بقبري، فإذا رأيتم ذلك فانبشوني أخبركم بما هو كائن إلى يوم القيامة. فلما حضروا بعد الثلاث ورأوا العير، اختلفوا قال ابنه: لا أفعل إني أدعى إذا ابن المنبوش. وقدمت ابنته على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: هذه بنت نبيّ ضيّعه قومه، وبسط لها رداءه. وقيل: سمعت قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فقالت: كان أبي يتلو هذه السورة والمتكلمون «1» ينكرون ذلك. فإن الله تعالى يقول: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى . وخالد كان من الفدادين أعرابيا من أهل الوبر. وما بعث الله نبيا قط إلا من أهل القرى وسكان المدن. النيران المعبودة المعظّمة أما النار العلوية فقد عبدت. قال الله تعالى: وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ «2» وقد يجيء في الأثر وسنة بعض الأنبياء تعظيما على جهة المحنة وإيجاب الشكر على النعمة. ويزعمم أهل الكتاب أن الله تعالى أوصاهم وقال: لا تطفئوا النيران من بيوتي وأما المجوس فقد جاوزوا الحدّ حتى اتخذوا لها البيوت والسدنة «3» والوقوف «4» الكثيرة. نيران كانوا يوقدونها في أوقات مختلفة إذا أرادوا حربا وقصدوا جمعا، يوقودون نارا عظيمة يجعلونها أمارة «5» لاجتماعهم، قال عمرو بن كلثوم: ونحن غداة أوقد في خزازي ... رفدنا فوق رفد الرافدينا «6» وقال الفرزدق: ضربوا الصنائع والملوك وأوقدوا ... نارين أشرفنا على النيران الجزء: 2 ¦ الصفحة: 657 ومنها النار التي يوقدونها ليحيروا بها الظباء بالليل ويهوّلوا على الأسد إذا حدق إليها. ما يتراءى من النيران ولا حقيقة لها يحكى أن السعالي «1» توقد نارا حوالي الإنسان تخوّفهم بها. قال عبيد الأبرص: لله درّ الغول أي رفيقة ... لصاحب قف خائف متقتر أرفت بلحن فوق لحن وأبعدت ... حوالي نيرانا تبوخ وتزهر ونار حباحب وقيل أبي حباحب، وهو ما يكون من الأكسية ونحوها مما لا حقيقة له من النيران. ونار البرق وكل نار تحرق العود إلا نار البرق فإنها تجيء بالمطر. وتحدث حدة الشجر ونار اليراعة، وهي طائر كبعض الطيور بالنهار وإذا طار بالليل فهو كشهاب قبس، ويلمح لها لمع ينض «2» ويلمع من بعيد، فإذا دنوت منها لم ترها شيئا. والعرب تقول أكذب من يلمع. أنواع مختلفة من ذلك قال بعضهم: كأنّ نيراننا في جنب قلعتهم ... مصقلات على أرسان قصار وقال البحتري في حريق وقع في دار المعتز: ما كان قدر حريق إن بنيت له ... وكلّنا قلق الأحشاء حرّان تفاءل الناس واشتدت ظنونهم ... والفأل منه لبعض الناس تبيان وأيقنوا أنّ تنوير الحريق هو الدّن ... يا تملكها والنّار سلطان وقال بعض الحكماء: النيران أربع: نار تأكل وتشرب وهي نار المعدة، ونار تأكل ولا تشرب النار الموقدة، ونار تشرب ولا تأكل، وهي نار الشجر، ونار لا تأكل ولا تشرب، وهي نار الحجر. مدح السراج قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: المصباح مطردة للشيطان، مذّبة» للهوام مدفعة «4» للصوص. وقال النابغة: ولا يضلّ على مصباحها الساري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 658 يضرب ذلك مثلا للمصباح المضيء. الزّند قالت العرب في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار. وقيل: أرح يديك واسترح إن الزناد مرح. وقال ذو الرمّة وقد ألغز: وسقط كعين الديك عاودت صاحبي ... أباها وهيأ بالموضعه وكرا مشهرة لا تمكن الفحل أمّها ... إذا هي لم تمسك بأطرافها قسرا أخوها أبوها والضوى لا يضيرها ... وساق أبيها أمها اعتقرت عقرا وقال الأعشى: ولو بتّ تقدح في ظلمة ... صفاة تتيع لا وريت نارا وقال آخر: وزندك أفضل أزنادها الدّخان يقال دواخن تنصب ودخان الرمث. وقال في صفة ذئب: كأن دخان الرمث خالط لونه وقال الراعي: كدخان مرتجل بأعلى تلعة ... غرثان ضرم عرفجا مبلولا «1» والمرتجل الذي يطبخ رجل جراد أي جماعتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 659 الحدّ الثالث والعشرون في الملك والجنّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ليس من خلق الله تعالى أكثر من الملائكة. وعن أبي نجيح عن مجاهد (والمقسمات أمرا) قال: الملائكة ينزلها الله تعالى بأمره على من يشاء. وعن مسلم عن مسروق وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً . قال: هي الملائكة. وعن الحكم وما ننزله إلا بقدر معلوم. قال: بلغني أنه ينزل مع المطر أكثر من ولد آدم وولد إدريس يحصون كل قطرة وأين تقع ومن يرزق ذلك النبات. وعن العلاء بن عبد الحكم عن ابن سابط في قوله تعالى: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ «1» . قال في أم الكتاب كل شيء هو كائن إلى يوم القيامة. ووكّل به ثلاثة من الملائكة يحفظونه: فوكل جبريل بالكتاب أن ينزل به إلى الرسل، ووكّل جبريل بالهلكات إذا أراد الله أن يهلك قوما ووكّله أيضا بالنصر عند القتال. ووكّل ميكائيل بالحفظ والقطر «2» ونبات الأرض. ووكّل عزرائيل بقبض الأرواح فإذا ذهب الله بالدنيا جمع بين حفظهم وبين ما في أمّ الكتاب فيجدونه سواء. وعن ابن عباس ويتلوه شاهد منه جبريل وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح. وعن الربيع ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى قال: جبريل، وهو بالأفق الأعلى، قال: (بالسماء الأعلى) يعني جبريل، ثم دَنا فَتَدَلَّى يعني جبريل، فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى . قال على لسان جبريل: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى يعني جبريل رآه في صورته وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: الروح الأمين جبريل له ستمائة جناح من لؤلؤ قد نشرها مثل ريش الطواويس. عن ابن شبابة، قال: يدبر الأمر أربعة: جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 660 فجبريل على الريح والجنود، وميكائيل على القطر والنبات، وملك الموت على قبض الأرواح وإسرافيل يبلغهم ما يؤمرون به. وعنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لجبريل لم أر ميكائيل ضاحكا. قال: ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار. عن عليّ بن أبي طالب في قوله: يسألونك عن الروح، قال: ملك له سبعون ألف وجه فيها سبعون ألف لسان لكل لسان منها سبعون ألف لغة يسبّح الله بكل اللغات. عن ابن عبّاس قال: أتى نفر من اليهود إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: أخبرنا عن الروح ما هو؟ قال: جند من جنود الله ليسوا بملائكة لهم رؤوس وأرجل يأكلون الطعام. ثم قرأ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا «1» قال هؤلاء جند وهؤلاء جند. وعن الأعمش قال: سألت مجاهدا عن قوله تعالى: وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ قال: هم الملائكة. (1) وممّا جاء في إبليس والجنّ حقيقة الجن ّ الجنّ من الخلق التي لطفت أجسادها. ويشهد لحقيقته القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وذكر بعض الفلاسفة ممن لا يثبت القديم أن لا حقيقة للجن والملائكة. بعض التّحذير الوارد في الشريعة من الشيطان قال الله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ «2» ، وذلك في آيات كثيرة. وقال صلّى الله عليه وسلّم: خمروا آنيتكم وأوكئوا أسقيتكم وأجيفوا الأبواب، وأطفئوا المصابيح، واكفتوا صبيانكم، فإن للشيطان انتشارا وخطفة. وقال صلّى الله عليه وسلّم: لا تشربوا من ثلمة «3» الإناء فإنها كفل الشيطان. رجم الشياطين قال الله تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ «4» وقال تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ «5» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 661 وحكى الله تعالى عنهم أنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا (الآيات) وكان الشياطين يتسمعون ما يوحونه إلى أوليائهم. وقد زعم بعض الناس أن الله تعالى جعل الرجوم حجة لنبيه صلّى الله عليه وسلّم وقال قوم ليس كذلك. فقد قال بشر: فجال على نفر كما انقضّ كوكب ... وقد حال دون النقع والنقع يسطع «1» وقال أمية بن أبي الصلت: وترى شياطينا تروغ مضافة ... ورواغها صبر إذا ما تطرد «2» تلقى عليها في السّماء مذلّة ... وكواكب ترمى بها فتعرد صرع الجنّ للإنسان وغيره عندهم أن الجن يصرع الإنسان لحبّه له. وقيل: إن فتى قبيحا حصل جارية مليحة فقال لها: ما في الدنيا أملح منّي. فجاء إلى بابه يوما فتى ظريف يطلبه فتطلّعت فرأته فلما عاد قالت له: ألم تقل إن ما في الدنيا أحسن منك؟ وقد جاء فلان يطلبك فرأيته أملح منك. فقال الرجل: يريد أن يقبحه في عينها: هو مليح لكن له جنية تصرعه كل شهر مرة. فقالت: لو كنت جنيته لصرعته ألفين. واستدل على أن نتيجة الصرع من الجنّ بقوله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ «3» وقالوا في بعير مجنون: إنه لا يرى ما لا ترى الإبل. وقالوا: قد يجن الجن. وأنشد لدعلج الحكم: وكيف يفيق الدهر كعب بن ناشب ... وشيطانه عند الأهلة يصرع تصوّر الجن للإنسان بصور تزعم العامة أن الجنّ تتصور بأي صورة تشاء، إلا الغول «4» فإنها تتصور في صورة امرأة، إلا رجليها فإنهما لا بد وإن يكونا رجلي حمار. وقاسوا ذلك بتصوير جبريل عليه السلام بصورة دحية الكلبي، وتصوّر إبليس بصورة سراقة بن مالك، وبصورة الشيخ النجديّ. والغول تتصور للإنسان فتغوله أي تهلكه، ويقولون من ضربها ضربة قتلها. وإذا زيدت لم تمت ولو ضربت ألوفا. قال شاعر: فقالت زد فقلت رويد أني ... على أمثالها ثبت الجنان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 662 من ادّعى أنه قتله الجنّ قالوا: خرج علقمة بن صوفان في الجاهلية يريد مالا على حمار ومعه سوط في ليلة، فإذا بشيء يدور ومعه سيف وهو يقول: علقم إنك مقتول ... وإن لحمك مأكول فقال علقمة: شق مالي ولك تقتل من لا يقتلك أغمد عنّي منصلك. فواثبه وضرب كل واحد صاحبه فخرّا ميتين. وقالوا: إن الجن قتلت حرب بن أمية، وفيه قالت الجنّ: وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر وقتلت سعد بن عبادة وقالت: قد قتلنا سيّد الخز ... رج سعد بن عباده «1» ورميناه بسهمي ... ن فلم نخط فؤاده من ادّعى أنه قتل الجنّ من ذلك ما روي أن تأبّط شرا قتل غولا، وعاد إلى قومه وقد تأبّط رأسه، فقيل: تأبّط شرّا. وروي أن عمر رضي الله عنه صرع جنيّا. ما نسب إليهم من الداء قالوا: الطاعون من الجنّ وسمّي رماح الجن، قال: ولكنّي خشيت على أبي ... رماح الجنّ أو إياك جاري الإستجارة بالجن ّ كانت العرب إذا صار أحدهم في تيه من الأرض وخاف الجنّ يقول: رافعا صوته، أنا مستجير بسيّد هذا الوادي ويصير له بذلك خفارة. ولذلك قال الله تعالى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ «2» الآية. رئيّ الشعراء ادّعى كثير من فحول الشعراء أنّ له رئيا يقول الشعر بفيه، وله إسم معروف من ذلك مسحل شيطان الأعشى وفيه يقول: دعوت خليلي مسحلا ودعوا له ... جهنام جدعا للهجين المذمّم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 663 وذكر أن خال مسحل هميم شيطان الفرزدق قال أبو النجم: إنّي وكلّ شاعر من البشر ... شيطانه أنثى وشيطاني ذكر وقال آخر: إنّي وإن كنت صغيرا سنّي ... فإنّ شيطاني كبير الجنّ رؤية الجنّ وسماعهم وصحبتهم روي أن ابن علاثة قضى بين الجنّ في دم. وقال ابن الأعرابي: نزلت بأعرابي فاستطبت ماءه فسألت عن مكانهم. فقال: هو كثير الجان. فقلت: أو ترونهم؟ قال: نعم مكانهم في ذلك الجبل وأومأ بيده إلى جبل يقال له سواج. وقد ادعى عدّة من العرب أنهم رأوا خياما وناسا ثم فقدوهم من ساعتهم قال ذو الرمّة: للجنّ باللّيل في غيطانها زجل ... كما تناوح يوم الريح عيشوم «1» وقال: ورمل عزيف الجنّ في عقداته ... هزيز كتضراب المغنّين بالطبل «2» ولا تتحاشى العرب من سماع الهاتف وذلك كثير. وقالوا: دويّ الفيافي عزيف الجن. وأصل ذلك أن من سكن الفيافي وتوحش وقلّت أشغاله ربما يتوسوس، فيتصور الصغير كبيرا ويتفرق ذهنه ثم يجعل ما يتصوره أحاديث فيحكيها. قال عبيد بن أيوب: أخو فقرات حالف الجن واتقى ... من الأنس حتّى قد نقضت وسائله من ادّعى أنه تجيبه الجنّ يقال: فلان مخدوم إذا كان إذا عزم «3» على الجنّ أجابوه. فمنهم عبد الله بن هلال الحميري صديق إبليس، وكرباس الهندي وصالح الدبيري. وقالوا: من أراد أن يحبه الجن فليتبخر باللّبان ويراعي سير المشتري «4» ويغتسل بالماء القراح، ويكثر من دخول الخرابات. وقالوا إذا آخى الجنيّ أنسيا أخبره ووجد حسه ورأى خياله. ومنهم الكهان نحو جارية جهينة وكاهنة باهلة وشق وسطيح. والعرّاف دون الكاهن. من استهوته الجن ّ قالت العرب: استهوت الجنّ سنان بن أبي حارثة يستفحلونه فمات فيهم. واستهووا طالب بن أبي طالب فلم يوجد له أثر قط. وعمرو بن عدي اللخميّ ثم ردّوه إلى جذيمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 664 الأبرش. واستهووا عمارة بن الوليد بن المغيرة، ونفخوا في أحليله فصار مع الوحش. وقالوا خرافة رجل استهوته الجنّ ثم عاد يخبر عنها، وبه ضرب المثل فقيل: المثل حديث خرافة. وروي أن عمر رضي الله عنه استخبر المفقود الذي استهوته الجن ما كان طعامهم؟ قال: الفول. وقيل الرمّة وما لم يذكر إسم الله عليه. من ادّعى أنه من ولد الجنّ ذكرت العرب أن عمرو بن يربوع من ولد السعالي. وذكر أبو زيد النحويّ أن سعلاة أقامت في بني تميم حتى ولدت فيهم. فلما رأت برقا يلمع من نحو ديارهم حنّت فطارت إليهم، وفيهم قال الشاعر: يا قاتل الله ابني السعلاة ... عمرا وقابوسا شرار النات أي الناس. وذكروا أن جرهما من ولد الملائكة. واستدل على صحة تناسل الجن من الأنس بقوله تعالى: وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ «1» وقوله: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ «2» . وزعموا أن النسناس تركيب ما بين الشقّ والإنسان. مساكن الجن ّ زعمت العرب أن الله تعالى لما أهلك الأمة الساكنة وبار، كما أهلك طسما وجديسا وعادا وثمود، سكنت الجن منازلهم وحمتها من كل من أرادها. وأنها أخصب بلد فإن دنا اليوم منه إنسان غالط حثوا في وجهه التراب فإن أبى الرجوع خبلوه. وإن من أراده ألقى على قلبه الصرفة حتى كأنهم أصحاب موسى في التيه. وقيل في المثل: لا يهتدي لكذا حتى يهتدي لوبار وليس بذلك المكان إلا الجن والإبل الحوشيّة. وقالوا شيطان الحماطة، وغول القفر، وجان العشر، وشيطان عبقر. ونسب كل شيء في الجودة إلى عبقر حتى قيل لم أر عبقريا مثله. مراكب الجن ّ ادعوا أن الجنّ يركب كل وحش من البهائم والطيور، إلا الأرنب لأنها تحيض. والضباع لأنها تركب أيور القتلى والموتى، إذا جيفت أبدانهم، والقرد وأنّها لا تغتسل من الجنابة. وقالوا يكثر ركوبها القنفذ والورل «3» وأنشدوا للجن: وكلّ المطايا قد ركبنا فلم نجد ... ألذّ وأشهى من ركوب الجنادب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 665 ولم أر فيها غير قنفذ بوقة ... يقود قطارا من عظيم العناكب وقالوا من قتل من أول الليل بعض هذه المراكب لم يأمن على فحل إبله. ومتى اعتاره غمّ أو مرض في ماله وأهله، حكموا بأن ذلك عقوبة من قتهلم. ما نسب فعله إلى الجن ّ نسب كثير من الناس أبنية محكمة إلى الجن واستدلوا على أنهم كانوا يبنون، بقول الله تعالى: فيهم كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ «1» وقال النابغة: وخيّس الجنّ إني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفّاح والعمد «2» وقالوا للمأثور من السيوف عملته الجن. وقالوا في الإبل فيها عرقاء من سفاد الجن. حتى قالوا الحوشية من نسل حوش وهي إبل الجن. والمهرية منسوبة إلى فحل لهم وذهبوا إلى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كره الصلاة في أعطان الإبل لأنها خلقت من أعنان الشياطين. وقال الجاحظ جهلوا مجاز الكلام فحملوا اللفظ على غير جهته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 666 الحدّ الرابع والعشرون في الحيوانات (1) فما جاء في الخيل والبغال والحمير قال الله تعالى: وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً «1» وقال خالد بن صفوان: الخيل للإيغال «2» والبغال للجمال، والحمير للأحمال. وقال الحسن رضي الله تعالى عنه: الجفاء مع أذناب الإبل والمذلّة مع أذناب البقر، والسكينة مع أذناب الغنم، والعزّ في نواصي الخيل. وصف البغل مدحا وذما والاعتذار لركوبه قال شاعر في مدحه: البغل فيه لمن يمارسه ... صبر الحمار وقوة الفرس وقال البحتري: وأقبّ نهد للصواهل شطره ... يوم الفخار وشطره للمسحج «3» خرق يتيه على أبيه ويدّعى ... عصبية لابن الصليب وأعوج مثل المدرع جاء بين عمومة ... في عاتق وخؤولة في الخزرج وقيل: ما من شيء بين جنسين أخذ منهما الشبه على السواء كالبغل. وسئل بعضهم: على أي مركب كنت في الطريق؟ فقال: على التي بين الحمار والبغل. وروي أنه وقع بين حيّين منازعة، فخرجت عائشة رضي الله عنها، وقالت: ائتوني ببغلة أركبها وأصلح بينهما، فقال ابن أبي عتيق: ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل كيف توقعينا بهم يوم البغلة؟ قال الجاحظ: وهذا الحديث من توليد الروافض. فأما عائشة فكان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 667 أمرها أنفذ من أن تحتاج أن تركب وأي شيء يتفاقم حتى تحتاج عائشة فيه إلى الركوب ثم لا يعرف خبره. وقال بعضهم في تفضيل الإناث منها: عليك بالبغلة دون البغل ... مركب قاض وإمام عدل وعالم وسيّد وكهل ... تصلح للوحل وغير الوحل ويضرب به المثل في تلوّن أخلاقه. قال الشاعر: خلق جديد كلّ يو ... م مثل أخلاق البغال وقال آخر: متلوّن كتلوّن البغل لقي الرشيد موسى بن جعفر على بغلة فاستنكر ذلك، وقال: أتركب دابّة إن طلبت عليها لم تلحق وإن طلبت لم تسبق؟ فقال: لست بحيث أحتاج أن أطلب أو أطلب فإنها دابّة تنحط عن خيلاء الخيل، وترتفع عن ذلّة الحمير وخير الأمور أوساطها. وصف الحمار مدحا وذمّا وصف الفضل بن عيسى الحمار فقال: هو أقرب الدواب داء وأكثرها دواء وأكبرها جماحا. أنفض مهوى وأقرب مرتقى. قد تواضع راكبه. ولو أراد أبو سيارة لركب في الموسم مهريا وفرسا عربيا، لكنه ركب الحمار أربعين سنة، فعارضه أعرابي، فقال: الحمار إن وقفته أدلى وإن تركته ولى، كثير الروث قليل الغوث لا ترقأ به الدماء ولا تمهر «1» به النساء ولا يندى به الإناء. ونظر الرقاشي إلى حمار فاره لمسلم بن قتيبة، فقال: قعدة نبي وبذلة جبار، ذهب إلى حمار عزير وحمار عيسى وحمار بلعم. وقرّب إلى أبي لجيم حمار له ليركبه وهو والي البصرة، فقال خالد بن صفوان: أعيذك بالله أيها الأمير من ركوبه فإنه عير، والعير عار وشنار منكر الصوت بعيد الفوت متفرق الصحل، متورط في الوحل بسائره، مشرف ولراكبه مقرف. فقال أبو لجيم: أمصله. فقال خالد: اجعله لي. فقال: هو لك فعاد عليه راكبا. فلما بصر به، قال: ما هذا؟ قال: عير من نسل الكداد أصحر السربال محملج «2» القوائم يحمل الرجل ويبلغ العقبة، ويمنعني أن أكون جبارا. وقيل: شر المال مالا يزكى ولا يذكى يعني الحمير، لأنها لا تجب الزكاة في سائمتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 668 وكتب قيصر إلى الرشيد على سبيل المعاياة: إبعث إليّ بشر الطعام على شرّ الدواب مع شر الناس فبعث إليه جبنا على حمار مع خوزي. وقيل: اصبر على الذلّ من الحمار. ويضرب المثل به في الصوت، قال الله تعالى: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ «1» وقيل لأعرابي: ألا تركب الحمار؟ فقال: إنه عثرة منخرة، تبوع للحجرة. وقيل: الحمار مطية الدجال قال شاعر: إن الحمار مع الحمار مطيّة ... فإذا خلوت به فبئس الصاحب وقيل لبعضهم: أي مركوب كلما كان أكبر كان أذلّ لصاحبه؟ فقال: الحمار. وقيل: لا تركب الحمار فإنه إذا كان سلسا أتعب يديك، وإن كان بليدا أتعب رجليك. ولقي جحظة بعض أصحابه على حمار فقال: مالك اقتصرت على ركوب حمار، لا يساوي ثمن قضيمه؟ فأنشأ يقول: لا تنكرنّي على حمار ... يضيع في مثله الشعير وكيف لا يمتطي حمارا ... من جلّ إخوانه حمير وقال: ولا عن رضا كان الحمار مطيّتي ... ولكن من يمشي سيرضى بما ركب (2) فضل الفرس قال الله تعالى في الامتنان به: وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ «2» ومن فضيلته أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أسهم له سهمين، ولم يجعل لراكبه المسلم إلا سهما. وقال صلّى الله عليه وسلّم: الخيل معقود في نواصيها الخير. وقال رجل من الأنصار وقد روي لامرئ القيس: الخير ما طلعت شمس وما غربت ... معلّق بنواصي الخيل معصوب ويروى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمرغ فرسا له، ثم جعل يمسحه بردائه، فقيل له في ذلك فقال: بتّ البارحة وجبريل يعاتبني في سياسة الخيل. وكانت العرب لا تهنأ إلا بثلاث إذا ولد للرجل ذكر قيل له ليهنك الفارس، وإذا نبغ في الحيّ شاعر قيل لوالده ليهنك من يذب «3» عن عرضك، وإذا نتج مهرا قيل له: ليهنك ما تطلب عليه الثأر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 669 وقال الجاحظ: لم تكن أمة قط أشد عجبا بالخيل ولا أعلم بها من العرب، ولذلك أضيفت إليهم بكل لسان ونسبت إليهم بكل مكان، فقالوا: فرس عربي ولم يقولوا هندي ولا رومي ولا فارسي. وعرض الحجّاج أفراسا وجواري وبين يديه أعرابي فخيّره بين فرس وجارية، فقال: لصلصلة اللجام برأس طرف ... أحبّ إليّ من أن تنكحيني أخاف إذا حللنا في مضيق ... وجدّ الركض أن لا تحمليني «1» الحثّ على إيثاره والإحسان إليه، والتمدح بذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: من قدر على ثمن دابة فليشترها، فإنه تعينه على رزقه وتأتيه برزقها. وقال أبو ذرّ: ما من ليلة إلا والفرس يدعو ربّه ويقول: اللهم سخرتني لابن آدم وجعلت رزقي بيده، فاجعلني أحب إليه من أهله وماله، اللهم ارزقه وارزقني على يديه. وقال ابن سيرين لرجل: لم بعت فرسك؟ قال: لمؤنتها. فقال: تراه خلق عليك رزقه. وقال مالك بن نويرة: جزاني دوائي ذو الخمار ومنعتي ... بما بات أطواء بني الأصاغر رأى أنّني لا بالقليل أموره ... ولا أنا عنه في المواساة ظاهر وقال يزيد العبدي: قصرنا عليه بالمقبض لقاحنا ... رباعية أو بازلا أو سداسيا وقال: مفدّاة مكرّمة علينا ... تجاع لها العيال ولا تجاع وقال: هاجرتني يا بنت آل سعد ... أأن حلبت لقحة للورد جهلت من عناقه الممتد ... ونظرتي في عطفهم الألدّ إذا جياد الخيل جاءت تردى ... مملوءة من غضب وحرد «2» وقال: تلوم على أن أعطي الورد لقحة ... وما تستوي والورد ساعة تفزع وقال عامر بن الطفيل: وللخيل أيام فمن يصطبر لها ... ويعرف لها أيامها الخير تعقب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 670 كونه معقلا قال شاعر: إن الحصون الخيل لا مدرى القرى وقال لبيد: معاقلنا التي نأوى إليها ... بنات الأعوجية لا السيوف «1» وعن بعض الفرس: الخيل حصون منيعة، ومعاقل رفيعة. وقيل: لا حصن كالحصان ولا جنّة كالسنان. الأمر بإهانته وإعارته قال بعضهم: أهينوا مطاياكم فإنّي رأيتكم ... يهون على البرذون موت الفتى الندب «2» وقال آخر: وإنّي إذا ما المرء آثر بغله ... على نفسه آثرت نفسي على بغلي وأبذله للمستعيرين لا أرى ... به علّة ما دام ينقاد للحبل مدح إناث الخيل قال صلّى الله عليه وسلّم: عليكم بأناث الخيل فإن ظهورها وبطونها كنز. وقيل له صلّى الله عليه وسلّم: أي المال خير؟ فقال: سكة مأبورة ومهرة مأمورة. وقال: بطون الخيل كنز وظهورها جرز. وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: لولا أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينهى عن الحصان لأمرت به فإنه أخفى للغارة والكمين، ولكن عليكم بالأناث. مشاهير الأفراس كان ملك الهند أهدى شبديز إلى كسرى، وكان من أزكى الدواب وأعظمها خلقا وكان لا يبول ولا يروث تحته وكان ينخر ولا يزبد، وكان استدارة حافره ثلاثة أشبار، فبقي مدة ثم نفق. فلإعجاب كسرى به أمر بتصويره. فلما تأمل صورته استعبر. ومن فحول الخيل عند العرب العسجد والوجيه والغراب ولاحق ومذهب ومكتوم. وقال طفيل: بنات الوجيه والغراب ولاحق ... وأعوج ينمي نسبة المتسبب وأشقر مروان من نسل الذائد، والذائد من ولد بطين من البطان، وهو الذي بعث الحجّاج إلى الوليد. ومن نسل أعوج داحس كان لعبسيّ بن جذيمة العبس، والغبراء لحمل بن بدر بن حذيفة. وتشامت العرب بداحس لوقوع الحرب بسببها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 671 والعصا فرس جذيمة الأبرش، وقيل إن قيصر ركبها لما صار جذيمة في بلد الروم فركضها فلم تقف إلا على رأس ثلاثين ميلا. ثم وقف هناك فبالت، فبنى على ذلك الموضع برج يسمى برج العصا. وزهدم فرس عنترة، والنعامة فرس الحارث بن عباد. ومن أفراس النبي صلّى الله عليه وسلّم اللزاز هداه المقوقس إليه من مارية، والسكب واليعبوب وبغلته دلدل وحماره يعفور. وله ناقتان العضباء والقصواء. وكان لعلي رضي الله عنه بغلة يقال لها الشهباء، واليحموم والرقيب فرسا النعمان. والعباب فرس مالك بن نويرة وهسون فرس الزبير بن العوام. والغزالة فرس خولان. والحرون لمسلم بن عمر. واشتراه بألف دينار. وكامل لزيد الفوارس وقسام لبني جعدة والزائد لمحمد بن عبد الملك. الماهر بالركوب العاجز قيل: لم يركبوا الخيل إلا بعد ما كبروا وقال آخر: وإني لأرثي للكريم إذا غدا ... على حاجة عند اللئيم يطالبه وأرثي له من وقفة عند بابه ... كمرسنى للطرف والعلج راكبه اللازم لظهر الدّابة يقال فلان حلس دابته وقال شاعر: أراك لا تنزل عن ظهره ... ولو من البيت إلى الحبس قال أمير المؤمنين: اضرب الفرس على العثار، ولا تضربه على النفار، فإنه يرى ما لا تراه، وقال رجل لأمير المؤمنين: متى أضرب حماري؟ قال: إذا لم يذهب إلى الحاجة كما ينصرف إلى البيت. المستغني عن الضرب قال ثعلبة: وتعطيك قبل السوط ملء عنانها وقال ابن المعتز: أضيع شيء سوطه إذ يركبه وله: حسنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل الخائف من الضّرب قيل: أكرم الخيل لأمهاتها أجزعها من السوط، وأكيس الصبيان أشدّهم بغضا للكتاب، وأكرم المهار أشدها ملازمة لأمهاتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 672 وقال علقمة يصف ناقة: تلاحظ السوط شزرا وهي ضامرة وقال الكميت: إذا اعصوصبت في أنيق فكأنّما ... بزجرة أخرى من سواهنّ تضرب الجيد العدو قيل لأعرابي: كيف عدو فرسك؟ قال: يعدو ما وجد أرضا. وقيل لآخر، فقال: همّه أمامه وسوطه عنانه، وما ضربه أحد إلا ظلما. وقال أعرابي في صفة فرس وهو رخو العنان، كأن له في كل قائمة جناحا. وذكر رجل فرسا فقال: كأنه شيطان، في أشطان إذا أرسل لمع لمع سحاب، أقرب الأشياء إليه الذي تقع عينه عليه. ووصف ابن القرية فرسا بعثه الحجّاج إلى عبد الملك: بعثت بفرس حسن القدّ أسيل الخد، يسبق الطرف ويستغرق الوصف. وكتب عمرو بن مسعدة: يمرّ بالشباب مع قواه ويسير بالشيخ تحت هوان. لاحق غير ملحوق عرض أعرابي فرسا للبيع، فقيل له: كيف هو؟ فقال: ما طلبت عليه إلا لحقت ولا طلبت إلا فتّ. فقيل له: ولم تبيعه؟ فأنشأ يقول: وقد تخرج الحاجات يا أمّ مالك ... كرائم من ربّ لهنّ ضنين وقال المرقّش: ويسبق مطرودا ويلحق طاردا ... ويخرج من غمّ المضيق ويخرج قال الناشيء: لم يعتصم ذو مهرب بفراقه ... يوما ولاذ ومطلب بلحاقه وقال المتنبيّ: أدركته بجواد ظهره حرم المدرك ما طلب قال امرؤ القيس، وهو أول من ابتدعه: بمنجرد قيد الأوابد هيكل «1» وقال الأسود: قيد الأوابد والرّهان جواد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 673 وقال عمارة بن عقيل: وأرى الوحش في يميني إذا ما ... كان يوما عنانه بشمالي وقال ابن مقبل: ولا ينفع الوحش منه أن تحذره ... كأنّه معلّق منها بخطاف «1» المشبّه بالوحشيات قال مالك بن نويرة: وكأنّه فوق الجوالب جاليا ... ريم تضايقه كلاب أخضع وقال الجعديّ: كلفتها شيدا أزلّ مصدرا وقال آخر: رحيل كسرحان الفضا المتأوّب المشبّه في السرعة بالطيور كأنه فتخاء «2» كاسر وكأنما يهفو بتمثال طائر. وقال امرؤ القيس: كأنّ غلامي إذا علا حال متنه ... على ظهر باز في السّماء محلّق وقال آخر: تحسبه يطير وهو يعدو وقال مروان: أقبل ينقضّ انقضاض الكوكب ... كأنّه باز هوى من مرقب يطلب صيدا في فضاء سبسب ... لجائع في وكره مزغب «3» المشبّه بالدلاء قال أبو النجم: يهوي هويّ الغرب من رشائه ... أخطأه المفرغ من أهوائه «4» وقال ابن نويرة: كالدلو خان رشاؤها المتقطّع وقال آخر: هوي دلو خانه الكرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 674 المشبّه بالماء الجاري والمطر قال ابن المعتز: أسرع من ماء إلى تصويب وقال المرقّش الأكبر: يجمّ جموم الحسى جاش مضيقه ... وجرّده من تحت ذيل وأبلج «1» قال زهير: كشؤبوب غيث يحفش الأكم وابله «2» المشبّه بالريح والبرق والنجم وقال نصيب الأصغر: هي الريح إلا خلقها غير أنّها ... تبيت غوادي الريح حيث تقيل وقال آخر: سليل ريح لقحت من برق وقال امرؤ القيس: إذا ما جرى شأوين وابتلّ عطفه ... تقول هوى الريح مرّت بآثار «3» وقال آخر: كأنّه لمعة من عارض برد وقال أبو العتاهية: قد خلف الريح حسرى وهي تتبعه ... ومرّ يختطف الأبصار والنظرا وقال ابن الرومي: تراه كالنجم خرّ منصلتا ... إثر العفاريت والشياطين السابق الطرف والوهم قال أبو النّجم: يسبق طرف العين من مضائه في وصفه طرف يسبق الطّرف ويفوت الوهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 675 وقال المتنبّي: أربعها قبل طرفها تصل وقال الناشئ في وصفه: مثل دعاء مستجاب إن علا ... أو كدعاء نازل إذا هبط المشبّه بالنّار والغليان شدّ كإضرام الحريق، كمعمعة السعف الموقد، كحريق في غريق، إذا جاش حميه غلي مرجل. تواتر أيديها وأرجلها في العدو قال بكر بن النطاح: كأنّما اليدان والرجلان ... طالبتا وتر وهاربان «1» وقال العماني يصف فرسا محجّلا: كأن تحت البطن منه أكلبا ... بيضا صغارا ينهشن المنقبا «2» وقال ابن خلف: وكأنّما جهدت أليته ... أن لا تمسّ الأرض أربعه وقال آخر: وكأنّما يرفعن ما لا يوضع وقال الموسوي: كأنّه في سرعان الوخد ... يلعب في أرساغه بالبرد «3» الحاذق بالناورد قال كشاجم: ماء تدفّق طاعة وسلاسة ... فإذا استدرّ الحضر منه فنار «4» وإذا عطفت به على ناورده ... لتديره فكأنه بركار وقال المتنبّي: تثني على قدر الطعان كأنّما ... مفاصلها تحت الرياح مراود «5» وقال الصاحب: له دور ناورد على قدر درهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 676 وقال امرؤ القيس: له وثبات كوثب الظّباء ... فواد خطار وواد مطر وقال آخر: وأجرد ما يثبطه الخطار المثير الغبار قال طفيل: إذا هبطت سهلا حبست غبارها ... بجانبه الأقصى دواخن تنصب وقال الخوارزميّ: يخفّ لوطئها الترب البليد وقال ابن المعتز: يرفع نقعا كدخان العرفج ... أو مثل ندف الكرسف المنفج «1» تتابع الخيول قال شاعر: يخرجن من تحت الغبار عوابسا ... كأصابع المقرور أقعى فاصطلى «2» وقال ضمرة بن ضمرة: كالتمر ينثر من جراب الجرم الهملاج «3» قال عمر بن عبد العزيز: ما شيء تركته لله فتاقت نفسي إليه، إلا ركوب الهماليج. وقال مسلم: ما بقيت لذة إلا ركوب الهماليج وقتل الجبابرة. السبق قال صلّى الله عليه وسلّم: الخيل تجري بأحسابها فإذا كان يوم الرهان، جرت بجدود أربابها وكانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ناقة لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فصعب على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: حقّ على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه. وكان عمر رضي الله عنه يأمر أن يجري الفرس من رأس الميدان وهو أربعة فراسخ. وسابق عبد الملك بين بنيه فسبق الوليد وثنى سليمان وجاء مسلمة بعدهما، فقال عبد الملك لقبيصة الخزاعي أتروي قول الشني: نهيتكم أن تحملوا هجناءكم ... على خيلكم يوم الرهان فتدرك «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 677 فتنفر كفّاه ويسقط سوطه ... وتبرد ساقاه فلا يتحرك وما يستوي المرآن هذا ابن حرّة ... وهذا هجين ظهره مشترك فقال مسلمة: قد قال حاتم خيرا من هذا: وكائن ترى فينا من ابن سبية ... إذا لقي الأبطال يطعنها شزرا (الأبيات) فسرّ عبد الملك به وقبّله بين عينيه. مفاضلة ألوانها قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لو جمعت خيول العرب في صعيد واحد لجاءت وسابقها أشقر. وقال: خير الخيل الأدهم الأرثم «1» المحجل ثلاثا، المطلق اليمين فإن لم يكن أدهم فكميت على هذه الهيئة واستشار أعرابي النبي صلّى الله عليه وسلّم في شراء فرس، فقال: اشتره أغرّ محجّلا مطلق اليمين تغنم وتسلم. وقال صلّى الله عليه وسلّم: اليمن في شقر الخيل. وقال بعض الحكماء: إن طلبك صاحب أشقر فعليك بالحزن «2» ، فإن الأشقر رقيق الحافر. وإن طلبك صاحب أدهم، فعليك بالوحل فإنه رديء القوائم. وإن طلبك صاحب كميت، فعليك بالجدد «3» فعسى أن تنجو. قال محمد بن سلام لم يسبق الحلبة أبلق «4» قطّ ولا بلقاء وزعموا أن الشيات «5» كلها نقص وضعف، والشية كل لون دخل على لون. قال الله تعالى: لا شِيَةَ فِيها «6» وكل حيوان إذا اسود شعره أو صوفه كان أقوى لبدنه، ولا خير في البقع. وكذلك البلق من الخيل والبرق من الحمل والتيس. أحوال ألوانها قال ابن عباس كان صلّى الله عليه وسلّم يستحب الشقر من الخيل، وقال صلّى الله عليه وسلّم إذا اعتددت فرسا فاعتده أقزح أرثم ومحجل الثلاث مطلق اليمين، فإنها ميامين فإن لم يكن أدهم فكميت ثم أغرّ تغنم وتسلم، إن شاء الله تعالى. وقال سلمة: كميت غير مخلفة ولكن ... كلون الصفّ حلّ به الأديم وقال المرار: فهو ورد اللون تزأره ... وكميت اللون ما لم يزأر وقال السلامي في أغرّ أرثم: نظنّ نجما منيرا فوق غرّته ... وأنه بهلال ظلّ يلتئم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 678 وقال ابن المعتز في محجّل الواحد مطلق الثلاث: ومحجل غير اليمين كأنّه ... متبختر يمشي بكم مسبل وقال أبو تمام في أبلق: مسودّ شطر مثل ما اسودّ الدّجى ... مبيضّ شطر كابيضاض المهرق التحجيل قال ابن المعتز في الكميت: وقارح أربعه أصواؤه ... كأنّما من دمه غشاؤه «1» الأغرّ المحجّل قال البحتري: تتوهم الجوزاء في أرساغه ... والبدر غرّة وجهه المتهلّل «2» الغرّة قال شاعر: تخال بياض غرّتها أسراجا وقال آخر: كأنّما الشعرى على وجهه «3» وقال ابن نباتة: تطلع بين عينيه الثريّا وله: وكأنّما لطم الصّباح جبينه ... فاقتصّ منه فخاض في أحشائه وقال المتنبّي: وعيني إلى أذني أغرّ كأنّه ... من الليل باق بين عينيه كوكب ما يتفادى منه من الشيات كان صلّى الله عليه وسلّم يكره الشكال وهو أن تكون اليد اليمنى والرجل اليسرى أو بالعكس مختلفين، أنشد أبو عبيدة: إذا عرق المهقوع بالمرء أنعظت ... حليلته وازداد حرا عجانها «4» وقيل آنق الخيل المهقوع وهو الذي في عرض زوره دائرة، وكانوا يستحبونه حتى أراد رجل شراء مهقوع مرة فامتنع صاحبه من بيعه، فقرأ المشتري هذا البيت فصار يتفادى منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 679 المرح وصف أعرابي فرسا فقال هو شيطان في أشطان وقال بشر: مهارشة العنان كأنّ فيها ... جراءة هبرة فيها اضطراب وقال آخر: كأنّ به لسعة زنبور وقال غيلان بن حريث: يكاد ممّا يزدهيه أشره ... يطير لولا أنّنا نوقّره «1» وقال أبو تمّام: كأنّما خالطه أولق ... أو خامرت هامته الخندريس «2» وقال: كأنّه سكران أو عابث ... أو ابن رب حدث المولد وقال الموسوي: يزجون جردا لا تقرّ على الثّرى ... مرحا كأن الترب شوك قتاد «3» الشديد الصّهيل قال شاعر: بأجشّ الصوت يعبوب «4» وقال مزرّد: أجشّ صهيليّ كأنّ صهيله ... مزامير شرب جاوبتها الجلاجل «5» وقال الموسوي: ويصهل في مثل قعر الطّوى ... صهيلا يبين للمعرب وقال البحتري: وكأنّ صهلته إذا استعلى بها ... رعد يقعقع في ازدحام غمام الطامح العين والرأس قال مزرّد: يرى طامح العينين يرنو كأنّه ... مؤانس ذعر فهو بالأذن خائل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 680 وقال المتنبّي: وينظرن من سود صوادق في الدّجى ... يرين بعيدات الشّخوص كما هيا وقال زهير: وملجمنا ما إن ينال قذاله ... ولا قدماه الأرض إلا أنامله الموصوف بالطّول مدح أعرابي فرسا وراكبه، فقال: كان والله طويل العذار أمين العثار، إذا رأيت صاحبه عليه حسبته بازا على مرقب، معه رمح تقصر به الآجال. وقال عديّ بن الرقاع: لا يكاد الطويل يبلغ منه ... حيث يثنى من المقصّ العذار «1» الطويل العنق قال قطريّ لرجل: اشتر لي فرسا. قال: لا علم لي بنجابته، قال: اشتره ونصفه عنقه ومنه أخذ أبو النجم: يكاد هاديها يكون شطرها وقال امرؤ القيس: ومثنانة في رأس جذع مشذب «2» دقّة الأذن وأنشد العماني الرشيد: كأن أذنيه إذا تشرفا ... قادمة أو قلسا محرقا فخطأه فيه ثم قال لأصحابه: كيف يجب أن يقال؟ فأعياهم. فقال: تخال أذنيه كأن هواديها أعلام وآذانها أقلام، وقيل إذن مرهفة مؤللة. ولبعضهم: مقدودة الآذان أمثال القدود «3» سعة العين قال بعضهم: وعين لها حدرة بدرة ... وشقت مآقيهما من أخر «4» وقال آخر: عين كعين البكر حين تديرها ... بمحجرها تحت النّصيف المنقب «5» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 681 الجبهة لها جبهة كسراة المجنّ ... حذقه الصانع المقتدر العرف وأسحم ريّان العسيب كأنّه ... عثاكيل قنو من سميحة مرطب «1» الذّنب وقال امرؤ القيس: لها ذنب مثل ذيل العروس ... تسدّ به فرجها من دبر وقال طفيل: وأذنابها وحف كأنّ ذيولها ... مجرا شاء من سميحة مرطب سعة الشّدق قال شاعر: وهي شدقاء كالجوالق فوها ... مستجاف يضلّ فيه الشّكيم «2» وقال الفلاح: أشدق رحب المنكبين شرجب ... إن يلق في شدقيه كلب يذهب «3» ونحوه للطفيل: وأن يلق كلب بين لحييه يذهب سعة المنخر لها منخر كوجار الضّباع «4» وقال آخر: لها منخر مثل جيب القميص وقال بشر: كأن حفيف منخرها إذا ما ... كتمن الربو كير مستعار وقال بعضهم: يمنع عنه وقوع البهر منخر في السعة كنهر الواقص الذّباب بطرفه قال المرقّش: بمحالة تفض الذباب بطرفها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 682 وقال ابن مقبل: ترى النعرات الخضر تحت لبانه ... فرادى ومثنى أصعقتها صواهله «1» فريسا ومغشيّا عليه كأنّما ... خيوطه مأوى لواهن قاتله «2» الضّامر وقال عمرو بن معدي: تقول لها الفوارس إذ رأوه ... ترى مسدا أمرّ على الرّماح «3» وقال آخر: كأنّها هراوة منوال «4» وقال آخر: كقدح رام طار عنه شذبه «5» وقال آخر: جوداء مثل هراوة المغراب «6» المحفر يصفون جياد الخيل بسعة الجوف قال: ببطنه يعدو الذكر، وقيل: لم يسبق الحلبة أهضم قط. وقال الجعديّ: حيط على زفرة فتم ولم ... يرجع إلى دقة ولا هضم الصّلب قال امرؤ القيس: كجلمود صخر حطّه السيل من عل وقال طرفة: وأروع نباض أحد ململم ... كمرداة صخر في صفيح مصمّد «7» الليّن المفاصل قال البحتري: لانت مفاصله فخيل بأنّه ... للخيزران مناسب بعظامه وقال المتنبّي: مفاصلها تحت الرماح مراود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 683 القوائم قال امرؤ القيس: عظيم الشظى عبل الشّوى شنج النّسا «1» وله: لها ثنن كخوافي العقاب «2» وقال سليم الجعدي: كأنّ تماثيل أرساغه ... رقاب وعول على مرقب الحافر المنقعب قال عوف بن الوليد: لها حافر مثل قعب الولي ... د تتخذ الفأر فيه مغارا ويقال حافر كالقدح المكبوب. وقال الموسوي: وكم قرع الدف من حافر ... تخال على الأرض قعبا يكب «3» الصّلب الحافر قال امرؤ القيس: وتخطو على صمّ صلاب كأنّها ... حجارة غيل وارسات بطحلب «4» أخذه الجعدي فقصر عنه، وإن كان قد بسط: كأن حوافيه مدبرا ... حفين وإن كان لم تحطب حجارة غيل برضراضة ... كسين طلاء من الطحلب «5» وقال آخر: حامل تحت رسغه جلمودا وقال رؤبة: يرمي الجلاميد بجلمود مدق وقال شملعة بن الأخضر: إذا قرعت سنابكها بحزن ... جعلن حزونة الأجبال هارا «6» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 684 وقال ابن المعتز: وحافر أزرق كالفيروزج المؤثّر بحوافره في الصّفا قال ابن المعتز: يطبع صمّ الصفا حوافره ... طبع الخواتيم لين الطّين وقال المتنبّي: تماشت بأيد كلّما وافت الصّفا ... نقشن به صدر البزاة حوافيا «1» وقال الببغا: وكأنّما نقشت حوافر خيله ... للناظرين أهلّة في الجلمد معوذ رائق قال سلمة بن حوشب: تعوذ بالرقي من غير خبل ... ويعقد في قلائدها التميم وقال ابن المعتز: يكاد لولا اسم الإله يصحبه ... تأكله عيوننا وتشربه هيئته مقبلة ومدبرة قال امرؤ القيس: إذا أقبلت قلت دبّاءة ... من الحضر مغموسة في الغدر «2» وإن أدبرت قلت أثفية ... ململمة ليس فيها أثر «3» وإن أعرضت قلت سرعوفة ... لها ذنب خلفها مسبطر «4» وقال البحتري: وكأن فارسه وراء قذاله ... ودقّ فلست تراه من قدّامه «5» ما يحمد من أوصاف أعضائه مجموعة سأل الحجّاج ابن القرية ما يحمد من الخيل؟ فقال إذا كان قصير الثلاث طويل الثلاث رحب الثلاث صافي الثلاث فهو الجواد. أما القصير فالعسيب والساق والظهر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 685 والطويل الاذن والنحر والسالفة، والرحب المنخر والجوف واللبان، والصافي الأديم والعين والحافر. قال خباب: وقد أغدو بطرف هيكل ذي منعة سكب ... حديد الطرف والمنكب والعرقوب والقلب عريض الخدّ والجبهة والصهوة والجنب وقيل: الفرس يسرع بسعة إبطه وجلده وبطول عنقه وعظم حفرته. وأغار زهير على حيّ من أحياء بكر بن وائل، فأصيب بعضهم فأتته جارية تسأله عن أبيها فقال: ما كان تحت أبيك؟ قالت: طويل بطنها قصير ظهرها هاديها شطرها، فقال: إن صدق وصفك فقد نجا. أوصاف مختلفة قال بعضهم: طرف تبين للبصير وغيره ... فيه النجابة جاريا ومقودا وقال المتنبّي: إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وأعضائها فالحسن عنك مغيب وقال البحتري وقد استوهب فرسا مسرجا ملجما: والطرف أجلب زائر لمؤنة ... ما لم يزرك بسرجه ولجامه كثرة عرق الخيل وقلته ترى الماء من أعطافه يتحلّب وقال أبو النجم: كأنه في الخيل وهو سام ... مشتمل جاما من الجمام «1» وقال آخر: كأنّ على أعطافه ثوب مائح وعاب الأصمعي أبا ذؤيب بقوله: إلا الحميم فإنّه يتبضّع وقال امرؤ القيس: فأدرك لم يعرق مناط عذاره أثر العرق قال طفيل الغنوي: كأن يبيس الماء فوق متونها ... أسارير ملح في متون مجرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 686 وقال عبيد: تراها من يبيس الماء شهبا وقال المرار: كعقبان الظلال ترى عليها ... يبيس الماء تحسبه صقيعا البليد قيل: اغتفر من الدواب كل شيء إلا البلادة، فإن راكبها مركوب. وسئل بعضهم أي البراذين شر؟ قال: الغليظ الركبة الكثير الجلبة الذي إذا أرسلته قال: أمسكني، وإذا أمسكته قال: أرسلني. ونظر رجل إلى برذون عليه راوية فقال: ما المرء إلا حيث يجعل نفسه لو هملج «1» في سيره ما جعل راوية. وقيل لمكاري بارك يريد العصا فقال: إنّما أغتم لو أراد بزما ورد، قال شاعر: لو سابق الذرّ مشدودا قوائمه ... يوم الرهان لكان الذرّ يسبقه أو فرّ يوم الوغى والنمل يطلبه ... لكان قبل ارتداد الطرف يلحقه الموصوف بالعيوب باع رجل فرسا فقيل له: هل فيه من عيب؟ فقال: لا الاقر وكأنه قثاءة، ومشش كأنه سفرجلة، ودخس «2» كأنه بطيخة. فقيل: هو بستان لا برذون. وقال الحارثي: دموج برجليه وقوع بصدره ... عضوض بفيه طامح متخبط «3» وقال محمد بن جهور: لي برذون حرون جرد ... نفخي دخس رخو العصب الموصوف بالهزال والكبر قيل لرجل على فرس هزيل: ما أرى فرسك يروى من الشعر إلا قول عنترة: ولقد أبيت على الطّوى وأظلّه ... حتّى أنال به كريم المأكل «4» وقيل لمزبد: ما بال حمارك يتبلّد إذا أخذ نحو المنزل وحمير الناس إلى منازلهم أسرع؟ فقال: لمعرفته بسوء المنقلب. وقال محمد بن موسى القاساني: فلا تنكر بجهلك فضل مهري ... فمهري من ملائكة الدواب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 687 بلا تبن يعيش ولا قضيم ... ولا الموجود من برد الشراب سوى ورق الحجارة أو خليط ... يثير الريح مع ظلّ السحاب ويقضم كلّ يوم كفّ شمس ... إذا ما الشمس حانت لاغتراب وإن يعطش وردت به هجيرا ... على نهر يلوح من السراب وقال بعضهم: برذون عمران أبي عباد ... يذكر كسرى وزمان عاد «1» كأنّما أضلاعه هواد ... كأنّه في السوق والقياد سفينة تدفع بالمرادي «2» وقال أبو دلامة يصف فرسه: وكانت قارحا أيّام كسرى ... وتذكر تبّعا عند الفصال وقد مرّت بقرن بعد قرن ... وآخر عهدها بهلاك مالي وكتب أبو العيناء إلى عبيد الله بن يحيى: أما بعد أعلم الوزير أن ابنك محمدا حمل عبدك على دابة تسوء الأولياء وتستر الأعداء، تقف بالنثرة «3» وتعثر بالبعرة «4» ، كالقربة عجفا «5» والشنة دنفا «6» ، تسعل وتحبق معا، تضحك النسوان وتلعب الصبيان. ولقد ركبتها فمن وقفة وحبقه وسعلة. فمن قائل يقول: نقّ شعيره، وآخر يقول: التقط واحتفظ، وآخر يقول: إقطع قوائمه، واجعله مسراحا وآخر يقول: لا تمرّ به على العلاف فتخنقه العبرة. وقال ابن طباطبا: قارح ملجم بالإيوان عندي ... مثل شيخ إذا تعاطى الخساره هبك صيّرته بالإيوان مهرا ... كيف تحتال إن أردنا فراره قال شاعر: كان خضيعة بطن الجوا ... د وعوعة الذئب بالفدفد «7» النهي عن الخصي قال لما غز النبي صلّى الله عليه وسلّم تبوك عمل رجلا من الأنصار على فرس وأمره إذا نزل أن ينزل قريبا منه شوقا إليه وشهوة إلى صهيله. فلما قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة سأل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 688 الأنصاري عن الفرس قال: خصيناه. فقال مه مثلت به أعرافها أدفاؤها وأذنابها مذابها التمسوا نسلها وباهوا بصهيلها المشركين. (3) وممّا جاء في النّعم وصف النعم والتفضيل بعضها على بعض قال أهل اللغة: النعم اسم يشمل الغنم والبقر والإبل. وقال صلّى الله عليه وسلّم: الغنم بركة موضوعة، والإبل جمال لأهلها، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة. وقال أيضا الفخر في أهل الخيل والسكينة في أهل الغنم. وقيل لابنة الحسن ما تقولين في مائة من المعز؟ قالت غنى قليل فمائة من الغنم؟ قالت غنى قليل فمائة من الإبل؟ قيل منى وقيل ما خلق الله نعما خيرا من الأبل إن حملت أثقلت، وإن سارت أبعدت. وإن حلبت أروت. وإن نحرت أشبعت. وقيل: الإبل طويلة الظمء بعيدة الروحة، بسيطة المشية ثقيلة الحمل، وكل ظهر له كالعيال. المتبجّح بملك الإبل وقال إبراهيم بن العبّاس: لنا إبل غرّ يضيق بها الفضا ... وتفتر عنها أرضها وسماؤها فمن دونها أن تستباح دماؤنا ... ومن دوننا أن تستباح دماؤها حمى وقرى فالموت دون مرامها ... وأيسر خطب يوم حق فناؤها وقال المرار: لهم إبل لا من ديات ولم تكن ... مهورا ولا من مكسب غير طائل «1» محبسة في كلّ رسل ونجدة ... وقد عرفت ألوانها في المعاقل وصفها وقال أبو جرول: مخاض كسن الظبي لم أر مثلها ... سناء قتيل أو حلوبة جائع وقال القطامي: طوال القنى ما يلعن الضيف أهلها ... إذا هو رغى وسطها بعد ما يسري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 689 جفار إذا صافت هضاب إذا شتت ... وبالصيف يردون المياه على العسر يعضّ عليها الحاسدون بنانهم ... وليس بأيديهم غناي ولا فقري ألوان الإبل وتفضيل بعضها قال حنيف الحناتم: وكان آبل الناس الرمكاء «1» نهيّة تصغير نهية، والحمراء صبراء «2» والحمراء غزراء، والصهباء سرعاء. وفي الإبل أخرى إن كانت عندي لم أبعها وإن كانت عند غيري لم أشترها. لأنه لا يبيعها إلا العيب. وقال أبو نصر النعامي هجّر على حمراء، وأسر بورقاء «3» . وصبّح القوم على صهباء. قيل: ولم ذاك؟ قال: لأن الحمراء أصبر على حرّ الهواجر، والورقاء على السرى والصهبة أحسن الألوان حين ينظر إليها. وقيل: ورق الإبل أصفاها، والصهب أنقاها، والدهم أبهاها، والخمر أضناها، أي أكثرها ولدا والأدم أو ضؤها، والرمد أوطؤها. المتشابهة الألوان وقال ذو الرمّة: إذا انتجت منها المثاني تشابهت ... على العود إلا بالأنوف سلائله أي تشابهت على أمهاتها لكونها على نجاد واحد فلا يعرفن إلا بالشم. الإبل المختلفة الألوان قال بعض اللصوص يصف إبلا سرقها من أحياء مختلفة: تسألني الباعة أي دارها ... لا تسألوني وأنظروا ما نارها كلّ نجار في الورى نجارها ... وكلّ نار العالمين نارها «4» والنار السمة. كردوس المراثي فيها: أتسألني عن نارها وديارها ... وذلك علم لا يحيط به الطمس أي الخلق. الإبل المعلمة قال الراجز: كلّ علاة توّجت بنارها ... قيل تمام القوم في نجارها «5» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 690 ومن السمات العلاط والخياط والمحجر والخطاف والغراب والخطام والكشاح والجباب. وقيل بعير محلق وطهور وأحزب والميسم مباح في الشريعة كان يسم إبل الصدقة وكانت القصوى والعضباء ناقتا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم موسومتين ومن منفعة السمة أنها إذا عرفت للرئيس لم تطرد عن الماء قال: قد سقيت آبالهم بالنّار ... والنار قد تسقى من الأوار «1» إبل غير معلمة ربما يترك البعير غير معلم إما لأن إغفالها كالعلم لها أو يكون ذلك ضنا من صاحبها بها لكرمها. قال: ولا عيش الأكل صهباء غفل وقال: تناول الحوض إذا الحوض شغل ... ومنكباها خلف أوراك الإبل وقال: من كلّ حمراء يفاع المنتمى ... يكرمها أربابها إن توسما وصف البعير بالسرعة والقوة وصف أعرابي ناقة فقال تقطع الأرض عرضا وترض الحجارة رضا وتنهض في الزمام نهضا سريعة الوثوب بطيئة النكوب مروح شروب، وقيل لآخر: كيف ناقتك؟ فقال: عقاب إذا هوت وحية إذا التوت طوت الفلاة وما انطوت. وقال شيبة بن عقال: أقبلت من اليمن أريد مكّة ومعي ثلاث جمال فصحبت يمينا على ناقة فوقعت بي جمل بعد جمل حتى بقيت راجلا فخفت أن يفوتني الحج. فقال اليمنى: أتطيب نفسك عمّا معك وتردفني؟ فقلت: نعم. فنزل وقدم رحله فكاد يضعه على عنقها، ثم قال: خذ حر متاعك إن لم تطب نفسك عنه، ففعلت وأردفني فجعلت تعوم بنا عوما كأنه ثعبان حتى انتهى بي إلى الموقف. فقال: إن لي حاجة إليك إن لا تذكرها فإن هذه آثر عندي من كل مال في الدنيا أدرك عليها الثأر وأصيد عليها الوحش وأوافي عليها الوسم من صنعاء كل عام. تحريك الأيدي والأرجل في المشي قال رؤبة: كأن أيديهن بالقاع القرق ... أيدي جوار يتعاطين الورق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 691 وقال آخر: يدا سابح في غمرة يتبوع «1» وقال آخر: يدا معول خرقاء تسعد ما تما وقال آخر: كأنّها نائحة تفجع ... تبكي لميت وسواها الموجع وقال الشمّاخ: كأن ذراعيها ذراعا مدلة ... بعيد الشباب حاولت إن تعذرا وقال القضامي: عوج فواج إذا حثّ الحداة بها ... حسبت أرجلها قدّام أيديها وصف أعرابي بعيره فقال في صفة قوائمه: وضعها تعليل ودفعها تحليل. رمي الحصى بالأخفاف وقال امرؤ القيس وعنه أخذ الشعراء: كأنّ الحصى من خلفها وأمامها ... إذا نجلته رجلها حذف أعسرا «2» كأنّ صليل المروحين تشدّه ... صليل ذيوف يتقدن بعبقرا «3» قال عبدة بن الطيب: ترى الحصى مشمخرا عن مناسمها ... كما تخلخل بالوغل الغرابيل «4» قال ابن المعتز: كأنّ يديها وهي تسترفض الحصى ... يدا ناقد أو نابل لم يسدّد «5» الخائف من الضّرب والزّجر وصف الكميت ناقة فقالة: بزجرة أخى من سواهن تضرب قال إبراهيم بن هرمة: تكاد تخرج من بين الجبال إذا ... ما قال غير لأخرى غيرها عاج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 692 وقال آخر: سوطها لنقر الخفي ... ويداها لزجر الرّحى وقال آخر: كأن النير يلسعها ... إذا غرّد حاديها وقال طريح: تكاد تخرج من أنساعها مرحا ... إذا ابن أرض عوى بالبيد أو ضبحا وقال الشماخ: وتقسم نصف الأرض طرفا أمامها ... ونصفا تراه خشية لسوط أزورا أخذه مسلم بن الوليد فقال: تمشى العرضنة قد تقسم طرفها ... وضح الطريق وخوف وقع المحصد المشبه بالريح والبرق قال نصيب: هي الريح إلا خلقها غير أنّها ... تبيت غوادي الريح حيث تقيل قال بكر بن النطاح: كأنّ قوائمه في المسير ... رياح تطارد بالقفر وقال: أي قلوص راكب تراها ... من ذكر الريح فقد سمّاها «1» أو نعت البرق فقد كنّاها المشبّه بالطير وصف رجل بعيره فقال: ركبته كأنه نعامه أو عارته الأجنحة حمامه، مسلم: إلى الإمام تهادينا بأرجلنا ... خلق من الريح في أشباه ظلمان «2» قال أبو سعيد المخزومي: إليك خليفة الرحمن طارت ... ولم أر قبلها خفّا يطير المشبّه بالوحشيّات قال زهير: كأن كوري وأنساعي وراحلتي ... كسوتهنّ شبوبا من لظى لهبا «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 693 وقال لبيد: كأخنس ناشط جادت عليه ... ببرقة واجف إحدى الليالي وكل ذلك يدخل في صفة الوحشيّات. المشبّه بالسفينة قال المثقب: كأنّ الكور والأنساع منها ... على قرواء ماهرة دقين يشقّ الماء جؤجؤها وتعلو ... غوارب كلّ ذي حدب مصين «1» وقال أبو النجم: كأنه إذ خطّ في الزمام ... قرقور ساج مرسل الخطام فهو يشقّ الماء بانتحام وقال النابغة: يستن في ثني الجديل وينتحي ... فعل الخلية في الخليج الجاري القليل المبالاة ببعد المفاوز وقال الحطيئة: إذا نظرت يوما بمؤخّر عينها ... فإلى علم بالغور قالت له أبعد المتقدّم على ما يسايره من المطايا قيل لأعرابي كيف بعيرك؟ قال: يتدرع المطايا إذا ما شته بغباره ويخدن إذا برك في آثاره، لا يبرك خفيا يتقدمه فهو كما قال: موكلة بالأقدمين فكلّما ... رأت رفقة فالأولون لها تصبو وقال أبو نواس: تذر المطيّ أمامها فكأنّها ... صفّ تقدمهنّ وهي إمام «2» أخذه ابن المعتز وأبدع فقال: وهي إمام الركب في ذهابها ... كسطر بسم الله في كتابها وقال المتنبّي: يمشي إذا عدت المطيّ وراءها ... ويزيد وقت جمامها وكلاله «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 694 ما يعجز الحادي عن إدراكه وقال: كيف ترى مرّ طلي حياتها ... والحادي اللاغب من حداتها «1» وقال الأعشى: حمين لعراقيب الحصى وتركنه ... به نفس عال يخالطه بهر وقال آخر: وإذا انتقصت إلى المفازة غادرت ... زيدا يبغل خلفها تبغيلا «2» أي لا يدركها الحادي السريع المترقّص من الإبل وقال المثقب: وترقص في المسير كأنّ هرا ... يباريها ويأخذ بالوضين «3» وقال الممزّق: ترى لو تراءى عند معقد غرزها ... تهاويل من إجلاء دهر معلّق «4» وقال آخر: كأن بها من طائف الجن أولقا الساكن من الآبل قال ذو الرمّة: تصغي إذا شدّها بالكور جانحة ... حتّى إذا ما استوى في غرزها تثب وقال آخر: تمشي إذا ما هزّت السوالفا ... مشي العذارى هزّت المطارفا «5» المؤثر في الأرض بثفناته قال ابن المعتز: كأنّ المطايا إذ غدون بسحرة ... تركن أفاحيص القطا في المنازل وقال المثقب: كأنّ مواقع الثفنات منها ... معرّس باكرات الورد جون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 695 كأنّ مناخها يلقى لجاما ... على معرابها وعلى الوجين «1» الخفيف الوطء لسرعته قال بعضهم: خفية وطء الجرس لو أن حمرا ... تخطاه في إعشاشه لم يطيّر المجتر ّ قال المثقب: وتسمع للذباب إذا تغنّى ... بتغريد الحمام على الرّكون وقال النابغة: له صريف صريف القعو بالمسد «2» الضامر قال الأعشى: كتوم رغا إذا ضجرت وكانت ... نقية ذود كتم للرّغاء «3» وقال الكميت: كتوم إذا ضجّ المطيّ كأنما ... تكرم عن أظلافهن وترغب الرغاء قال الكميت: كأن رغاءهن بكلّ فجّ ... إذا ارتحلوا نوائح معولات «4» وقال كعب: أرى إبلي ليست تهجّنّ كأنّما ... تعاورن أنبوبا أجشّ مثقبا اللغام قال أبو النجم: كأنّه من زبد الأفكل ... مبرنس في كرسف لم يغزل «5» وقال أبو نواس: يكتسي عثنونه زبدا ... فيحلاه إلى منحره «6» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 696 ثم تذروه الرياح كما ... طارقطن الندف عن وتره وقال آخر: لغام كبيت العنكبوت الممدّد الضامر المهزول قال جرير: خرقاء ضربها الوجيف كأنّها ... جفن طويت به نجاديات «1» وقال الشمّاخ: كأنّها وقد براها الأخماس ... شرائح النبع براه القواس وفيه وقيد دبره ورجيع سفر كأنه مشحب أو هلال في ظلمة أعجف. وقال سلم الخاسر: عيسى تباري بعد طول كلالها ... مثل الأهلّة قد ذهبن محاقا «2» القطامي ّ طواها السّرى فالنسع يجري كأنّه ... وشاح فتاة دقّ عنه مخاصره المعيبات قال بعضهم: ركبت ناقتي فامضيتها حتى انضيتها أزجيها على الوحي وأير بها على الحفا فعقالها إذا أنيخت كلالها قال إبراهيم بن هرمة: جعل الوجى بذراع كل نجيبة ... قيدا أمر بغير كفّي فاتر «3» وقال الراعي: كأنّ لها برحل القوم بوّا ... وما إن طيّها إلا اللغوب «4» وقال الممزّق: نتاج طليحا ما تراعى من الشذى ... لو ظلّ في أوصالها الغلّ يرتعي «5» القويّ الصليب قال الراعي: نمت كتفاها إلى حارك ... أشمّ كما أوفد المنبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 697 وقال آخر: جلديّة كأتان الضحل علكوم ويقال هي كبر مشيد المسيب: وكأن قنطرة بموضع كورها ... ملساء بين غوامض الأنساع وقال آخر: كأنّ مواقع الغربان منها ... منارات بنين على جماد وقال بعض العلماء وصف القطامي نوقه بما لو وصف به امرأة لكان أشعر الناس فقال: يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الأعجاز تتّكل «1» العين قال بعضهم: فلاة أعينها نزح القوارير «2» مدح المعز وتفضيلها قيل: العتاق معز الخيل، والبراذين ضأنها، وإذا وصفوا الرجل بالضعف والموق قالوا: ما هو إلا نعجة من النعاج، وإذا مدحوه قالوا: فلان ماعز من الرجال وفلان أمعز من فلان وقيل شعر المعز كشعر الإنسان وهو به أشبه وإليه أقرب. وقيل: سمي بالعنز كما سمي بالكبش فقيل: عنز اليمامة وعنز وائل وماعز بن مالك، وقيل أحمق من راعي ضأن ثماين. وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمسحوا رغام الشاء ونقّوا مرابضها من الشوك والحجارة فإنها من الجنة. وقال: ما من مسلم له شاة إلا وقدس كل يوم مرة فإن كانت له شاتان قدس كل يوم مرتين. تفضيل اللحم الضأن والمعز يقال للطيب الطعام فلان يأكل من رؤس الحملان، ولم يقولوا رؤوس المعز ضان وشواء الضان هو المنعوت. وقال بعض الأطباء إيّاك ولحم الماعز فإنه يورث الهم ويحرك السوداء ويورث النسيان ويفسد الدم وقيل شحم ثوب المعز وكليتها أطيب من الحمل قال شاعر: كأنّ القوم شووا لحم ضأن ... فهم نعجون قد مالت طلاهم «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 698 والمصروع إذا أكل لحم الضأن اشتد ما به في أوان الصرع في مبادئ الأهلة وانتصاف الشهور. جاءت امرأة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إني اتخذت غنما رجوت نسلها ورسلها وإني لا أراها تنمو. قال ما ألوانها؟ قالت: سود. فقال: عفّري أي أخلطي بها بيضاء قال الزاخر: لهفي على عنزين لا أنساهما ... كأنّ ظلّ حجر صغراهما وصانع معطرة كبراهما وقال آخر: أعددت للضيف وللرّفيق ... حمراء من معز أبي مرزوق تلحس خدّ الحالب الرفيق ... بلين المس قليل الريق كأنّ صوت شنجها العتيق ... نحيح ضبّ حنق فتيق «1» في حجر ضاق أشدّ الضيق وفي صفتها: تحلب رسلا طيّب المذاق قال امرؤ القيس: لنا غنم نسوقها غزار ... كأنّ قرون حلّتها عصيّ فتملا بيتنا أقطّا وسمنا ... وحسبك من غنى شبع وريّ «2» نعت التّيس قال مخارق بن شهاب المازني وكان سيدا يصف تيس غنمه: وراحت أصيلانا كأنّ ضروعها ... دلاء وفيها واتد القرن لبلب «3» له رعثان كالشنور وغيره ... شريح ولون كالوذيلة مذهب «4» وعين أحمّ المقلتين ووغرة ... يواصها دان من الظلف مكتب أبو الحوّ والغرّ اللواتي كأنّها ... من الحسن في الأعناق جزع مثقب ترى ضيفها فيها يبيت بغبطة ... وضيف ابن قيس جائع متحوّب ووفد قيس هذا على النعمان فقال له: كيف مخارق فيكم؟ فقال: سيد كريم يمدح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 699 تيسه ويهجو ابن عمه. وقيل: فلان أعلم من تيس بني حمان زعموا أنه نفظ سبعين عنزا بعد أن فريت أوداجه وحكى أن ثورا وثب على نقرة بعد أن خصي فأحبلها. حمل الشاة ولادتها قال الأصمعي: الوقت الجيد في حمل الشاة أن تخلى سبعة أشهر بعد ولادتها ويكون حملها خمسة أشهر فتلد في السنة مرة فإن حمل عليها في السنة مرتين فذلك الأمغال يقال أمغل. وقيل لأعرابي بأي شيء تعرف حمل شاتك فقال: إذا ترزم حياؤها وزجت شعرتها، واستفاضت خاصرتها. ذمّ العير إشترى رجل من طيء عنزا بثمانية دراهم من ابن عم له يقال له حميد فلم يحمدها فقال: لقد لقيت من حميد داهيه ... من أعور العين مشوم الناصيه «1» قد باعني الغول بأرض خاليه ... أعجبني ضرع لها كالداليه فقلت ما هذا بجد غاليه ... ليت السباع لقيتها عاديه أسأل ربّ النّاس منها العافيه (4) وممّا جاء في الوحشيّات البقر تسمّى مولعة لتولع جسدها، ومذرعة لكون طرفها أسود وسائرها أبيض وتوصف بأنّها مخدمة الشرى وخنساء لخنس أنفها وذيالا لطول ذنبها قال الجعدي: ووجها كبرقوع القناة ملمعا ... وروقين لما يعد وإن تقشرا وقال لبيد في وصف بقرة وحش أكل وحيش ولدها: أفتلك أم وحشيّة مسبوعة ... خذلت وهادية الصوار قوامها لمعفر فهد تنازع شلوه ... غبش كواسب ما يمنّ طعامها الثّور يوصف باللهق لبياضه وبالزهرة ولذلك قال: ولاح أزهر مشهور بنقبته ... كأنّه حين يعلو عاقر لهب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 700 العاقر الرمل قال النابغة: كأنّ رحلي وقد زال النهار بنا ... بذي الجليل على مستأنس وحد من وحش وجرة موشى أكارعه ... طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد «1» وقال آخر: وانقضّ كالدريّ يتبعه ... نقع يثور تخاله طنبا وقال الطرماح: يبدو وتضمره البلاد كأنّه ... سيف على شرف يسلّ ويغمد وقال لبيد في سرعته: يشقّ خمائل الدهنا يداه ... كما لعب المقامر بالفيال «2» وقال آخر: يقابل الريح روقيه وكلكله ... كالهرّ في تنحي ينفخ الفحما ويقال به داء الظباء إذا لم يكن به داء كأن جعفر بن سليمان أحضر على مائدته بالبصرة يوم زاره الرشيد البان الظباء وسلاها وسمنها، فاستطاب طعمها فسأله عن ذلك فغمز جعفر بعض الغلمان فأطلق عن ظباء معها خشفانها فمرت في عرصة الدار تجاه عينه مقرّطة مخضّبة قال أبو ذؤيب: فما أمّ خشف بالفلاة مشدن ... تنوش البرير حيث نال اهتصارها موشّحة بالطرتين دنا لها ... جنى أيكة تصفو عليها قصارها وقال ذو الرمّة يصف ظبيّة تصون خشفها: إذا استودعته صفصفا أو صريمة ... نحّته ونصّت جيدها بالمناظر حذارا على وسنان يصرعه الكرى ... بكلّ مقيل عن ضعاف فواتر وتهجره إلا اختلاسا بطرفها ... وكم من محبّ رهبة العين هاجر وقال: رأت مستخيرا فاسترابت بشخصه ... بمحنية يبدو لها ويغيب يعني بالمستخير الصائد الذي يخور خور الغزال فإذا التفتت الظبية علم أنها مغزل، فيطلب غزالها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 701 قال أبو ذؤيب في صفة غزال ضعيف: إذ هي جاءت تقشعرّ مكاها ... ويشرق بين الليث منها إلى القفل «1» ترى حمشا في صدرها ثم إنها ... إذا أدبرت ولّت بمكتنز عبل وفي وصف الكناس قال بعضهم: وبيت تخفق الأرواح فيه ... خلال الليل مغموم النّهار تمارشه صوانع مشفقات ... على خرق تقوم بالمداري «2» جماعة الوحشيات قال زهير: بها العين والآرام يمشين خلفة ... وأطلاؤها ينهضن من كلّ مجثم وقال آخر: فأدبرن كالجزع المفصّل بينه ... بجيد معمّ في العشيرة مخول الزرافة تكون بأرض النوبة وتسمى بالفارسية اشتركا وبلثك كأنه بقرة نمر وزعموا أنها ولد النمرة من الجمل. ولو جعلوا الفحل النمر والأنثى الناقة كان أقرب في الوهم فللزرافة خطم الجمل وجلد النمر ورأس الإبل، وظلفها. والزرافة طويلة اليدين منحنية إلى مآخرها وليس لرجليها ركبتان وهذا كقولهم كاوميش لما أشبه الثور والكبش واشتر مرك لما أشبههما لأن بين هذين الجنسين تلاحقا. الفيل الفيل والزندفيل جنسان كالبخت والعراب، وكالبقر والجاموس وكالخيل والبراذين. وهي لا تنتج عندنا ولا تنبت أنيابها وزعمت الهند إنّ نابي الفيل قرناه وخرجا من الحنك أعقفين، ويدل على ذلك أنه مصمت الأعلى مجوف الأسفل كالقرن. وأنه لا يعضّ به، وإنما يستعمله استعمال القرن. وأصل لسان كل حيوان إلى داخل وأصل لسان الفيل إلى خارج. وقالت الهند لولا أن لسان الفيل مقلوب لتكلم وخرطومه أنفه وبه يوصل الطعام إلى جوفه. وهو بين الغضروف والعصب. وبه يقاتل ومتى اغتلم لم يملك، وعاد وحشيا وأكبر الأيور أيره قال: لما بصرت بأير الفيل أذهلني ... عن الحمير وعن تلك البراطيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 702 واجتمع عند أبرويز تسعمائة وخمسون فيلا ولم تجتمع عند ملك قط ووضعت فيلة عنده ولم تنتج بالعراق وكانت حمير والتبابعة والمقاول والعباهلة والكيسوم من ملوك الحبشة يكرمون الفيلة ويركبونها. ابن طباطبا أعجب بفيل آنس وحشيّ ... بهيمة في صفة الأنسي يفهم عن سائسه السنديّ ... غيب معاني رمزه الخفيّ أقبل في سرباله الغميّ ... يزهى بجزء منه طارونيّ مملّس الجلباب فاختيّ ... يخطو على أساسه القويّ مثل الدلي الموثق المبنيّ ... سائسه عليه ذورقيّ منتصب منه على كرسيّ ... خرطومه كجعبة التركيّ يعلو بشطر منه خابوطيّ ... ناباه في هوليهما المحشيّ كمثل قرن ناطح طوريّ ... سبحان ربّ قادر عليّ سخره للسائب النّوبيّ الكلب الكلب موصوف بالسرقة والتشمم ويسمى فلحس. وفلحس إسم طفيلي وهو يرجع في قيئه ويشغر ببوله في جوف أنفه. ومن مدائحه حفظه على أهله وحراسته وفي أرحامها أعجوبة لأنها تلقح من جميع أجناس الكلاب بخلاف الغنم وتؤدي شبه كل واحد. وأناثها تحيض كل سبعة أيام وعلامة ذلك ورم أطبائها «1» . ولا تقبل السفاد في ذلك الوقت ويعتريها عند الولادة هزال وأكثرها مما تضع إثنا عشر جروا وربما وضعت واحدا وجراؤها لا تتهارش بل يؤثر بعضها بعضا بالطعام. وإناثها أطول عمرا. والسلوقية كلما أسنّ كأن أقوى على المعاظلة «2» بخلاف سائر الحيوانات. وكل كلب إذا أسن كأن صوته أجهر. ومن أمثالهم أصبر على الهوان من كلب وألأم من كلب على جيفة. والكلب أنجس ما يكون إذا اغتسل ومنها: حتّى تنام ظالع الكلاب وأنظر من كلب، وأسمع واشم منه. وعلى أهلها جنت براقش، وهو إسم كلبة نعم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 703 مكلب في بؤس أهله. اجع كلبك يتبعك. سمّن كلبك يأكلك. أجوع من كلب حومل مطل كنعاس الكلب. أسماؤه سحام ومقلى القنيص وسلهب وجدلا والرهان والمتناول. وقال أبو محجن في رجل يسمى وثابا ويسمّي كلبه عمرا: ولو هيا له الله ... من التوفيق أسبابا لسمى نفسه عمرا ... وسمى الكلب وثّابا جواز قتله قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها وإذا وجدتم الكلب البهيم الأسود فاقتلوه فإنه شيطان. وقال أمير المؤمنين اقتلوا الجان ذا الطفيتين والأسود البهيم. وفي الخبر أنّ دية كلب الصيد أربعون درهما، ودية كلب الدار زنبيل تراب، حق على القاتل أن يؤديه وعلى صاحب الكلب أن يقبله. تحريم أكله أكله محرّم وبنو أسد يعيرون بأكله، ولذلك قال: إذا أسدي جاع يوما ببلدة ... وكان سمينا كلبه فهو آكله وقال مخاطبا بعضهم: لو خافك الله عليه حرمه ما يجوز إرتباطه من الكلاب قال النبي صلّى الله عليه وسلّم من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد ولا حرث ولا ماشية نقص من أجره كل يوم قيراط. وقال: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا. محاربة الكلب والوحشيّات قال امرؤ القيس في صفة ثور وكلب: فأنشب أطفاره في النّساء ... فقلت هتكت إلا تتنصّر فكرّ إليه بميراته ... كما خل ظهر اللسان المجر قال أبو ذؤيب: والدهر لا يبقي على حدثانه ... سيب أقرّته الكلاب مروع «1» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 704 شعف الكلاب الضاريات فؤاده ... فإذا يرى الصبح المصدق يفزع ينهشنه ويذودهن ويحتمي ... عبل الشوى ذو طرّتين مولع صيد الكلب قال أبو نواس: لما تبدّى الصبح من حجابه ... كطلعة الأشمط من جلبابه «1» هجنا بكلب طالما هجنا به ... ينشف المقود من جذابه ما كان مثنيه لدى أسلابه ... متنا شاع لجّ في انسيابه كأنّما الأظفور من قنابه ... موسى صناع ردّ في نصابه «2» وقال: أنعت كلبا أهله في كدّه ... قد سعدت جدودهم بجدّه فكلّ خير عندهم من عنده ... يظلّ مولاه له كعبده ذا عزّة محجّلا بزنده ... تلذّ منه العين حسن قدّه يا لك من كلب نسيج وحده الفهد كبارها أقبل للآداب من صغارها، بخلاف سائر الحيوانات وهو أنوم خلق. فإنه نومه مصمت، وجميع الحيوانات تشتهيه ويستدل بريحه على مكانه. وربما يصطاد بالصوت الحسن يصغى إليه وإناثها أصيد من ذكورها قال ابن طباطبا في وصفه: لهوت فيه بصيد راكبة ... نازلة كل وقت إيماء تركية الوجه حين تنعتها ... رومية المقلتين كحلاء أبرزها الحسن في مشهرة ... قد فوفت مثل وشي صنعاء يضاحك الصبح من ملمعها ... داجية شيبت بقمراء يراقب الوحش في مراتعها ... بعين واش ورعي حرباء الأسد الأسد سيّد السباع قال المتوكّل الليثيّ: ورد تظلّ له السّباع تطيعه ... طوع العلوج تلين للأسوار ويقلّ نسله لأن ولدها يجرح رحمها فتعقم وتقصد إذا قربت مملحة فتضع فيها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 705 الحمل خوفا من النمل، لأن ولدها ككتلة شحم، فيقصده النمل. ولذلك قال المتنبّي: يرد أبو الشبل الخميس عن إبنه ... ويسلمه عند الولادة للنمل واستوصف عبد الملك أبا زبيد أن يذكره نثرا فقال له: عينان حمراوتان مثل وهج التنّور كأنما نقرا بالمناقير، في عرض حجر لونه ورد، وزئيره رعد، هامته عظيمة وجبهته شتيمة، نابه عنيد وشرّه عتيد، إذا استدبرته قلت أفرع. وإذا استقبلته قلت أقرع. إذا مشي تبهنس، وإذا أتى اللّيل إعلنكس تبوأ وتجسس. فقال: حسبك لقد وصفته بصفة خلته يثب عليّ. قال: ضرغامة أهرت الشدقين ذو لبد ... كأنّه برنسا في الغاب مدرع وقال الفرزدق: هزبر هريت الشدق ريبال غابة ... إذا سار عزته يداه وكاهله «1» شتيم المحيا لا يخاتل قرنه ... ولكنّه بالصحصحان ينازله وقال ابن هرمة: أسد في الغيل يحمي أشبلا ... قلّما يعتاده فيه القرم مطرق يكذب عن أقرانه ... ينقض الكلم إذا الكلم التأم وقال المتوكل الليثي: فهابوا وقاعي كالذي هبّ حادرا ... شتيم المحيا خطوه متدان تشبه عينيه إذا ما فجأته ... سراجين في ديجورة يقدان «2» كأنّ ذراعيه لبدة نحره ... خضبن بحناء فهنّ قوان أزب هريت الشدق ورد كأنّما ... يعلي أعالي لونه بدهان مضاعف طيّ الساعدين مصنر ... هموس دجى الظلماء غير جبان الذئب قصد ذئب الفرزدق فألقى إليه ربع مسلوخة كانت معه فلما ارتحل عارضه فقال: وليلة بتنا بالعرينين ضافنا ... على الزّاد ممشوق الذراعين أطلس تلمسنا حتّى أتانا ولم يزل ... لدن فطمته أمّه يتلمّس فقاسمته نصفين بيني وبينه ... بقية زادي والركائب نعّس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 706 وكان ابن ليلى إذا قرى الذئب زاده ... على طارق الظلماء لا يتعبّس «1» وقال النجاشي: وماء كلون البول قد عاد آجنا ... قليل به الأصوات جاوزته محل وجدت عليه الذئب يعوي كأنّه ... خليع خلا من كلّ مال ومن أهل فقلت له يا ذئب هل لك في أخ ... يواسي بلا أثر عليك ولا نحل فقال هداك الله للرشّد إنّما ... دعوت لمّا لم يأته تبع قبلي فلست بآتيه ولا أستطيعه ... وهاك سقني إن كان ماؤك ذا فضل فقلت عليك الحوض إنّي تركته ... وفي صدره فضل القلوص من السخل فطرب فاستعوى ذئابا كثيرة ... وعدت كلانا من هواه على شغل وقال آخر: ينام بإحدى مقلتيه ويتّقي ... بأخرى الأعادي فهو يقظان نائم وقال كعب بن زهير وكان قد رامه قومه أن يشتري غنما: تقول حياي من عوف ومن جشم ... يا كعب ويحك لم لا تشتري غنما من لي بهنّ إذا ما أزمة جلبت ... ومن أويس إذا ما أنفه رزما أخشى عليها كسوبا غير مدّخر ... عاري الأشاجع لا يشوي إذا ضغما «2» إن يغد في سرعة لا يثنه بهر ... وإن عدا واحدا لا يتّقي الظلما «3» وقيل: أغدر وأخبث وأكسب من ذئب، وقيل: من استودع الذئب ظلم. الخنزير إنما أظهر الله تحريمه لأن كبار القبائل وملوكها تستطيبه وتأكله، ولم يكن كالقرد إذا عافته النفوس. ونظر معاوية في وجه بعض نصارى الشأم فرآه بضّا فقال الخمر على هالة الخنزير وهو ضرار. ربّما طلب عرقا مندفنا فيحقر خريب أرض ويفسد فسادا كثيرا. وليس في ذوات الأنياب أشدّ نابا منه والذكر يقاتل في زمان هيجه ومتى قلع إحدى عينيه هلك. وأما فرخ الخطّاف وفرخ الحية فإن عينها إذا قلعت تعود صحيحة وخطمه يسمى الخرطوم تشبيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 707 (5) وممّا جاء في الطيور جميعها الطيور ثلاثة أضرب: سباع وبهائم ومشترك بينهما. فالسباع تتغذى باللحم والبهائم تتغذى بالحبّ، والمشترك يأكل النوعين. وجميعها تتنوع نوعين: قواطع وأوابد وكرامها تسمى الجوارح، وضعافها البغاث، وصغارها الخشاش قال: خشاش الطير أكثرها فراخا ... وأمّ الصقر مقلاة نزور وفي المثل هو كالطائر الحذر. وقيل ريش كل طائر إثنا عشر على عدد البروج وما يطير به سبعة على عدد الكواكب السبعة. وجناح الطائر يداه، والحمام يدفع بهما كما يدفع ذو اليد بيده. العقاب هي من سيد الطيور موصوفة بطول العمر وصدق البصر والسرعة تتغدى بالعراق. وتتعشّى باليمن. وريشها فروها في الشتاء، وخيشها في الصيف. وقيل لبشّار: لو خيّرك الله أن تكون حيوانا أيها كنت تختار؟ فقال: العقاب لأنها تبيت حيث لا يبلغ سبع وتحيد عنها سباع الطيور، ولا يرسل شيء من الجوارح إلى الصيد إذا كانت معه خوفا منه. وقال صاحب المنطق «1» : العقاب جافية لأولادها لا تحمل على نفسها في الكسب لها وأشعارهم تدل على خلافه. قال دريد: لها ناهض في الركب قد مهدت له ... ما مهدت للبعل حسناء عاقر وقيل: أحزم من فرخ العقاب، لأنها تتحرك على شعف «2» الجبال خشية السقوط ولو كان مكانه فرخ أهلي أسقط. قال امرؤ القيس: كأنّ قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العنّاب والحشف البالي «3» وقال الهذلي: ولقد غدوت وصاحبي وحشية ... تحت الرداء بصيرة بالمشرف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 708 حتّى انتهيت لي فراش عزيزة ... سوداء روثة أنفها كالمخصف «1» يعني بالوحشية الريح والفراش عزيزة عش العقاب والمخصف المخرز. النّسر طويل العمر، وتخاف أناثها الخفاش على فراخها، فتفرش وكرها بورق لئلا يقربه الخفاش. وقيل يرتفع في الهواء ثمانية عشر ميلا وينحط على ثمانية فراسخ. قال الهذلي: إذا ما غزا بالجيش حلّق فوقه ... عصائب طير تهتدي بعصائب «2» يصاحبهم حتّى يغرن مغارة ... من الضاريات بالدماء الذوارب «3» البازي كلّ رعاث صاغه صائغ ... لم يدّخر عنه التحاسينا منسره أكلف فيه شقا ... كأنّه عقد ثمانينا ومقلة أشرة آماقها ... تبر يروق الصير فينا قال أبو نواس: قد اغتدي بشفرة معلّقه ... مبتكرا بزرق وزرقه كأنّ عينيّها لحسن الحدقة ... نرجسة نابتة في ورقه قال جهم ابن أخت أبي عمرو بن العلاء: كأنّ جناح حفيفه إذ ... تدلّى من الجو برق بدا الكركدن قد أنكره بعضهم وأجروه مجرى عنقاء مغرب ، وقيل إنه ذكر في الزبور. وصاحب المنطق سمّاه الحمار الهندي. أيّ مكان حلّ به ذهب منه جميع الحيوان هيبة له. ويقال إن قرب نتاجها بما أخرج الولد رأسه ويأكل الحشيش ثم يرجع يفعل ذلك أياما ثم تضع. عنقاء مغرب بالفارسية سيمرك كأنه بنفسه ثلاثون طيرا. ولم يوجد إلا صورته على البسط والجدر. ويقال في المثل: هو عنقاء مغرب لما لا يوجد وما لا يطمع فيه. قال أبو تمام: وذاك له إذا العنقاء صارت ... مربّية وشبّ ابن الخصيّ «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 709 وزعم ابن الكلبي أنها كانت على عهد حنظلة بن صفوان بني الرس وكانت طويلة العنق، فبذلك سميت عنقاء. فاختطفت غلاما فغربت به فسميت مغربا ثم دعا عليها فاحترقت ولا نسل لها. السمندل قيل: هو طائر هندي يدخل في أتون النار فلا يحترق له ريش، قال: وطائر يسبح في حاجم ... كما هر يسبح في غمر «1» وقد حكى عن المأمون أن الطحلب الذي على وجه الماء إذا جفف لا تحرقه النار وكذلك الفلفل الأبيض. الظّليم من أعاجيبه اغتداؤه الصخر والجمر وإذابة حوصلته ذلك قال أبو النجم: والمرء يلقيه إلى أمعائه ... وفيه من شكل البعير المنسم والوظيف والعنق والخزامة في أنفه، ومن الطائر الريش والجناح والذنب والمنقار والبيض ولذلك قيل: كمثل نعامة تدعي بعيرا ... تعاظمها إذا ما قيل طيري فإن قيل إحملي قالت فإنّي ... من الطير المرتب في الوكور قال بشّار: وكنت كالهيق غدا يبتغي ... قرنا فلم يرجع بإذنين «2» وهو موصوف بصدق التشمم يعرف ريح القانص من أكثر من غلوة قال: يستخبر الريح إذا لم يسمع ... بمثل مقراع الصفا الموقع وأشد ما يكون عدوا إذا استقبل الريح وفي عنقه يقول أبو قلابة: كأنّها والريح تصري وتذر ... أير حمار فيه سمع وبصر وقد قلب هذا المعنى جحشويه فقال في صفة الأير: كأنّه والأكفّ تمرسه ... عنق ظليم بغير منقار ومتى كسرت إحدى رجليه لا ينتفع بالأخرى قال شاعر: إذا انكسرت رجل النعامة لم تجد ... على أختها نهضا ولا باستها حبوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 710 وربما تركت بيضها فلم تهتد إليه فتذهب إلى بيض أخرى فتحضنه قال شاعر: كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا وقال الأخفش: تظلّ بها ربد النّعام كأنّها ... إذا ما تزجى بالعشيّ حواطب قال علقمة: كأنّها خاضب زعر قوادمه ... أجنى له باللوى شرى وتنوم «1» ووصف بالجبن فقيل أجبن من نعامة وشالت نعامة فلان وخف رياله وقيل أحمق من نعامة وفيه: أسيف من الجسان ضلت أباعره قال ذو الرمة: وبيض كشفنا في الدّجى عن متونها وقال آخر: هجوم عليها نفسه غير أنّه ... متى يرم في عينيه بالشّخص ينهض يقلّب للأصوات من كلّ جانب ... صماخا كبيت العنكبوت المغمض «2» الكروان هذه اللفظة تقال للواحد والجمع والعامة تقول الكيروان بن الحباري، قال شاعر: ألم تر أنّ الزبد بالتمر طيّب ... وأن الحباري خالة الكروان «3» وقيل: أطرق كرى أن النّعام في القرى أي يا كروان قيل الكركي تتحارس بالليل فلا تنام حتى يحرسها أحدها فالحارس يقوم على إحدى رجليه ليسقط أن غلبة النوم فتتناوب على ذلك. الغراب يقال له حاتم لأنه يحتم بالفراق ويتشاءم به في عامة كلامهم وقد تيمّن به بعضهم فقال: وقالوا غراب قلت غرب من النّوى ويسمى ابن داية لأنه يقع على داية البعير الدبر فينقره وهو قوي البدن لكنه من لئام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 711 الطيور ولا يعاف القاذورات ولا يتعاطى الصيد وهو يسر السفاد. وقيل: إنما يسافد بالمنقار وفرخه أقذر وأنتن من الهدهد. وقد مدح لقوله تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً «1» الآية وذمّ بأنه بعثه نوح من السفينة ليأتيه بخبر الماء فاشتغل بأكل الجيفة، ويوصف بالقزل «2» والخجل. قال كعب بن زهير: وحمش بصير المقلتين كأنّه ... إذا ما مشى مستقبل الريح أقزل ويوصف بحدّة البصر وصحة البدن. قال الشاعر في وصف رجل طويل العمر صحيح البدن. قد أصبحت دار آدم خربت ... وأنت فيها كأنّك الوتد تسأل غربانها إذا حجلت ... كيف يكون الصداع والرمد ويدعى أعور على سبيل القلب، قال الكميت: وصحاح العيون يدعين عورا ويقال في المثل: أزهى من غراب، وأسود من حلك الغراب وحنكه، وليس غرابه بمطار للساكن، وجد فلان ثمرة الغراب لأنه لا يقصد إلا الأجود الأطيب، ولا أفعله حتى يشيب الغراب. قال ذو الرمّة: ومستشحجات بالفراق كأنّها ... مثاكيل من صيابة النّوب نوح «3» شبّه الغربان الشاحجات بنساء من النوب ثاكلات وقال: كأن الشاحجات بجانبيها ... نساء جئن من حبش وروم القطا سمّي بذلك لحكاية صوته. قال أبو وجرة: وهنّ ينشبن وهنا كلّ صادقة ... باتت تباشر عما غير أزواج حتّى سلكن الشوى منهنّ في مسك ... من نسل جوّابة الآفاق مهداج «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 712 وإنّما قال غير أزواج لأنها لا تبيض إلا أفرادا وهو موصوف بالهداية. يقال أهدى من قطاة وأصدق من قطاة. قال ابن المعتز في وصفها عند حمل الماء إلى فرخها: وكأنّها وغدوا قطاة صبحت ... زرق المياه وهمّها في المنزل ملات دلاة تستقلّ بحملها ... تدآم كلكلها كصفر الحنظل وغدت كجلمود الغداف يقلها ... واف كمثل الطيلسان المخمل «1» وقال ذو الرمّة: ومستخلفات من بلاد تنوفة ... لمصفرّة الأشداق حمر الحواصل أي يستقين الماء لفراخ لم ينبت عليهن الزغب، قال حميد: قرينة سبع أن تواترن مرّة ... ضربن فضفت أرؤس وجنوب الحمام قال المثنّى: لم أر شيئا في الرجل والمرأة إلا رأيته في الحمامة. رب حمامة لا تريد إلا ذكرها، وأخرى لا تمنع يد طالبها، وحمامة لا تزيف «2» إلا بعد شدّة، وأخرى تزيف حالة يرومها الذكر وذكر له أنثيان يحضن معهما. وآخر يقتصر على واحدة. وكان غرض الحمام بالجماع طلب الذرية وهو أكثر الاشياء تغزلا وتصنعا من التقبيل والتنشيط وكره كثير من الناس كونها في بيت الفارغات من النساء، خشية أن تدعوهنّ إلى طلب الرجال. وكل طائر يرجع ك القمري والفاختة والورشان واليمامة واللعوب تسمين حماما. قال بعضهم يصف لونه: كأنّ بنحرها والجيد منها ... إذا ما أمكنت للناظرينا مخطا كأن من قلم دقيق ... فحط بجيدها والنحر نونا قال أعرابي: مزبرجة الأعناق نمر ظهورها ... مخطمة بالدرّ خضر روائع «3» ترى طررا بين الخوافي كأنّها ... حواشي برود أحكمتها الوشائع «4» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 713 ومن قطع الياقوت صيغت عيونها ... خواضب بالحناء منها أصابع وقال: مطوّقة كسبت زينة ... بدعوة نوح لها إذا دعا وذلك قيل: إن نوحا لما بعث الغراب ليأتيه بخبر الماء، فاشتغل بأكل الجيفة بعث في أثره الحمامة. فدعا له بأن يطوقه بطوق يتوارثه عنه بنوه فطوقه من دعائه، وقيل: إن غناءه بكاء على هديل «1» مات في زمن نوح عليه السلام ومن مليح ما قيل في ذلك قول ابن المعتز: وبكيت من حزن كنوح حمامة ... دعت الهديل فظلّ غير مجيبها ناحت ونحنا غير أن بكاءنا ... بعيوننا وبكاؤها بقلوبها واستوصف المهدي محمد بن عزيز القاضي حماما، فقال: قد قدقد الحكم وقوم تقويم القلم، يمشي على عنمتين، ويلتقط بدرتين، وينظر من جمرتين، تروبه العبة وتكفيه الحبّة. ونظر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى رجل يتبع حماما فقال: شيطان يتبع شيطانا. وقال أيضا كونوا بلها كالحمام. وقيل لشيخ: من علمك هذا؟ قال: من علّم الحمامة تقليب البيض لتعطي الوجهين نصيبهما من الحضن. القمّري قال بعض الكتاب في وصفه: سجعت هاتفة الور ... ق عناها شحط بين «2» ذات طوق مثل خطّ ال ... نون أقنى الطرفين «3» وترى ناظرها يل ... مع في ياقوتتين تخرج الأنفاس من ... ثقبين كاللؤلؤتين وقال كشاجم: وفجعت ب القمري ّ فجعة ثاكل ... وفقدت منه أمتع السمّار لون الغمامة والغمامة لونه ... ومناسب الأقلام بالمنقار ومطوّق من صنع خلقة ربّه ... طوقين خلتهما من النّوار ولطالما استغنيت في غسق الدّجى ... بهديره عن مطرب الأوتار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 714 القبج «1» قال أبو علي البصير في وصفه: ولابسة ثوبا من الخزّ أدكنا ... ومن أخضر الديباج رانا ومعجرا مقلّدة في النّحر سبحة عنبر ... على أنّها لم تلتمس أن تعطرا لها مقلتا جزع يمان تحمّلت ... جفونهما من موضع الكحل عصفرا مطرزة الكمّين طرزا تخالها ... بتقويمها من حلكة الليل أسطرا وقال ابن طباطبا في وصفه في المجلس: ومسجن يهوى القتال ممنع ... عن قرنه ذي صرخة ودعاء بادي التململ خلف حائط سجنه ... حب البراز مجيب كلّ نداء في مجلس ضنك يودّ لو أنه ... لاقى مبارزة بجنب فضاء فقد السّلاح فجال أعزل جولة ... ومضى إلى الهيجاء ذا خيلاء في حلّة دكناء قد رفعت له ... من جانبيه بيمنة السّيراء «2» متشمّرا متبخرا متكبّرا ... متطوّقا بعمامة سوداء الديك والدجاج يوصف الديك بالشجاعة والصبر والقوة على السفاد والسياسة للإناث، ويأخذ الحبّ فيلقيه إلى الأناث، وبه عنى قولهم أسمح من لاقطة. فإذا هرم لم يفعل ذلك وقال ثمامة: إن ديكة مرو تطرد الدجاج عن الحبّ لطبع البلدة وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا تسبوا الديكة فإنها تدعو إلى الصلاة. وروي عنه أيضا أنه قال: إنّ مما خلق الله تعالى ديكا عرفه تحت العرش وبراثنه في الأرض السفلى إذا ذهب ثلثا الليل ضرب بجناحيه وقال: سبّوح قدّوس، فعند ذلك تضرب الديكة أجنحتها وتصيح. وقيل: إنما لا يطير لأنه اجتمع مع الغراب عند خمار يشربان فأخذا منه خمرا فشرباه فذهب الغراب ليحمل الثمن وترك الديك مرتهنا فعلق الرهن فقصه الخمار ومن العجائب ذو ريش أرضي وذو جلد هوائي يعني الديك والخفاش. قال أعرابي: دقوع الشوى حمر الصّياصي كأنّها ... شيوخ من الأعراب حمر المعالم «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 715 قال آخر: ممّا يؤرقني ليلا ويسهرني ... من صوت ذي رعثات ساكن الدّار كأن حماضة في رأسه نبتت ... من أوّل الصيف قد همّت بأثمار قال ابن المعتز: بشّر بالصّبح هاتف هتفا ... بشّر باللّيل بعد ما انتصفا مذكرا بالصبوح هاج بها ... كخاطب فوق منبر وقفا صفّق إما ارتياحه لسنا الفج ... ر وأما على الدّجى أسفا وفي المثل أغير من الديك وأشجع، وشراب أصفى من عين الديك، وأسلح من دجاجة ساعة الأمن. وقيل هو كالفروج إذا كاس في الصغر وحمق في الكبر وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: نعم متاع البيت الدجاج يقرين الضيف، ويعنّ على نوائب الدهر. الحباري «1» تنحسر دفعة واحدة فيبطئ نبات ريشها فربما تموت كمدا، ولذلك قال الشاعر: وزبد ميت كمد الحبارى وقيل: مسلاحها سلاحها، وذلك إن لها خزانة بين دبرها وأمعائها، إذا دنا الصقر رمته به فيلتزق ريشه. فهي في سلاحها كالظّربان في فسائه، والعقرب في إبراتها. وهي حسناء اللون ترتبط لحسنها وهي أحسن الطيور طيرانا تصاد بظهر البصرة فيوجد في حوصلتها الحبّة الخضراء غضة لم تتغير، وهي علوية أو ثغرية أو جبلية، قال ديك الجن: وسرت جاريات فوق طود ... أشبهها بمشيخة جلوس الغرنوق وهو من طير الماء موصوف بالحذر، ومتى طار ترفع في الهواء خشية السباع ويقوم على إحدى رجليه حذرا لئلا ينام. وسئل من صاد في يوم مائة غرنوق عن الحيلة في ذلك، فقال: أخذت قرعة يابسة فجعلت لها عينين وألقيتها في الماء حتى آنست بها الغرانيق ثم جعلت رأسي فيها وانغمست في الماء وكلّما دنوت من واحد قبضت على رأسه وغمسته في الماء ودققت جناحه وتركته يطفو فوق الماء حتى انتهيت إلى الآخر. قال أبو نواس: سود المآقي صفر الحمالق ... كأنّما يصفرن من معالق صرصرة الأقلام في الهادق قال الكميت: كأنّ بنات الماء في حجراته ... نبيط قعود لابسات البرانس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 716 الحرباء إذا انتصف النهار علا في رأس شجرة كراهب في صومعة. قال ذو الرمّة: إذا جعل الحرباء يبيض لونه ... ويخضرّ من لفح الهجير غباغبه «1» وسبّح بالكفين سبحا كأنه ... أخو فجرة عال به الجذع صالبه العصفور تجعل العرب الخرق والحمر والقنبر من العصافير، وهو يساكن الناس ومتى فارق الإنسان داره فارقها. وإذا كان زمان البازي اجتمعت في البساتين فإذا انقضى زمانه عادت إلى الدور على أمارات معروفة. وهو كثير السفاد كثير الشفقة على الولد متى خاف عطبا عليه اجتمع جماعة فطرن حواليه واجتهدن في خلاصه. وإذا خرج من وكره لا يستقر. وكذلك البلبل لكنّ البلبل كذلك ما دام في القفص ويخرب البيوت والسقوف ويجلب الحيات لو لوعها بأكله. وفي المثل هو في حلم عصفور، وبكر بكور العصفور. المكاء قال شاعر: إذا غرّد المكاء في غير روضة ... فويل لأهل الشاء والحمرات وإنّما قال ذلك لأن المكاء لا يكاد يوجد إلا في الرياض. قال امرؤ القيس: كأنّ مكاكيّ الجواء غديّة ... صبحن سلافا من رحيق مفلفل «2» وقيل: إن حية أكلت بيض مكاء فأخذت حسكة بمنقارها وجعلت تفرفر على رأسها حتى فتحت فاها فألقتها فيها فماتت، وفيه قال: فربما قتل المكاء ثعبانا الخطّاف قال أبو منصور الديلمي: وطير يبشّرنا بالمصيف ... زيارته أرضنا كلّ حين يضم جناحين كالحنجرين ... على ذنب يشبه البارحين بسجع حكى هذيان الرياض ... من السّند يتبعه بالأنين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 717 قال الكندي: تقسّم زوار من الهند سقفنا ... خفاف على قلب النديم شفاق أعاجم تلتذّ الخصام كأنّها ... كواعب زنج راعهنّ طلاق أنس بنا أنس الإماءة تجنّنت ... وشيمتها غدر بنا وأباق قال أبو نواس: كأن أصواتها في الجو إذ سطعت ... صك الجلاة إذا ما جزت الشعار الهدهد قال ابن عبّاس: كان سليمان بن بن داود، إذا فقد الماء في بريّة دلّه الهدهد لأنه إذا نقر وجه الأرض عرف ما بينه وبين الماء. قيل: فكيف يجهل الفخ إذا دنا منه؟ قال: إذا جاء القدر عمي البصر، ولم يغن الحذر. والعرب تقول فترعنه قبر أمه لأنه جعل قبرها على رأسه برأيها ونتن ريحة من الجيفة المدفونة في رأسه. وقال صاحب المنطق: الهدهد لما اتخذ العش من الزبل ترقي فيه ريشه فلذلك خبث ريحه. وقال بعضهم: الهدهد تكلف. واستدل بقوله تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ «1» . الرخمة وتسمى الأنوق وتنسب إلى الحمق، شاعر: وذات إسمين والألوان شتّى ... وتحمق وهي كيسة الحويل وقال محمد بن سهل ما أحمقها وهي تحضن بيضها وتحمي فرخها وتحب ولدها ولا تمكن من نفسها ألا زوجها، وتقطع في أول القواطع وترجع في أول الرواجع ولا تطير في التحسير، ولا تغتر بالشكير، ولا ترب بالوكور ولا تسقط في الحفير. أي إذا رأت الحفير هربت منه. والصيادون يستدلّون به على قطاع الطير. وقيل: أعزّ من بيض الأنوق. البوم يعادي الغداف ولا يقوى عليه بالنهار. وهو يهجم على الغداف بالليل في أوكاره فيأكل فراخه- وهو موصوف بالشؤم. وقيل لصياد- معه بومتان كبيرة وصغيرة- بكم؟ فقال: الكبيرة بدرهم، والصغيرة بدرهمين. قيل له: ولم ذلك؟ فقال لأن شؤمه في إقبال. الخفاش هو طائر بلا ريش إنما هو لحم وجلد. ولا يطير في ضوء ولا ظلمة، لقوة بصره وكثرة شعاع عينه فيلتمس فيما بين الوقتين رزقه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 718 وهو يصيد البعوض وقيل إن أنثاه تحيض وترضع كالأرنب وماله منقار وله أسنان حداد ويصير على الطعام. ونهى عن قتله وقتل الضفدع. وقيل: إن أنثاه تحمل ولدها تحت جناحها، ترضعه في طيرانها وتتجنب ورق الدلب حيث كان. وفيه قال ابن المعتز: أبى علماء النّاس أن يعلمونني ... وقد ذهبوا في الشعر في كلّ مذهب بجلدة إنسان وصورة طائر ... وأظفار يربوع وأنياب ثعلب «1» الببغاء من غريزته أن من كلمها نصب لها مرآة وكلّمها من خلفها، حتى تعتاد الكلام (6) ومما جاء في الهوام والحشرات السنّور يشبه الإنسان في أمور شتّى في العطاس والتثاؤب والتمطي وغسل الوجه والعين. وقيل: إن الأصل في خلقه أن أصحاب نوح عليه السلام تأذوا في السفينة بالفأر فسألوا نوحا عليه السلام أن يسأل ربّه، فخرج السنّور من عطسة الأسد فصاده. وتأذوا بالعذرة فخرج من سلحة الفيل الخنزير فأكله. ومتى رأى السنور الفأر زلق وإن كان بمعقل خوفا منه وهو يأكل الحشرات كالخنفساء وبنات وردان «2» والحيّة وكل ذات سمّ وقد تأكل أولادها. وقيل إن ذلك لبرّها «3» بهم. والضبّ تأكل ولدها لعوقها «4» . فقيل أبرّ من هرّة واعقّ من ضبّ. وهي كثيرة الأسماء غير الصفات: يقال لها القطّ والضيون والهرّ والسنّور. وأسماء الأسد أكثر صفات. وروي أن أعرابيا صاد سنّورا فلم يعرفه فتلقاه رجل فقال: ما هذا السنور؟ وتلقاه آخر فقال: ما هذا الهر؟ وآخر فقال: ما هذا الضيون؟ وآخر فقال: ما هذا القط؟ فقال الأعرابي: إني أحمله وأبيعه فيسجعل الله لي منه يسرا فلما حمله إلى السوق، قيل: بكم؟ قال: بمائة. قيل: إنه يساوي نصف درهم، فرمى به وقال: لعنه الله فما أكثر أسماءه وأقلّ نفعه. وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم امتنع من دخول دار قوم فيها كلب فقيل له: إنك تدخل دار فلان وفيها هرّ، فقال: الهرّ ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوّافات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 719 وقال عليه الصلاة والسلام: عذّبت امرأة في هرة سجنتها فلم تطعمها ولم تسقها. وقيل: إنّما يستر خرءه لئلا يشم الفأر ريحته فيهرب. ولابن العلّاف البغدادي فيه مرثية مختارة أولها: يا هرّ فارقتنا ولم تعد ... وكنت منّا بمنزل الولد وقال ابن طباطبا في هرّة لم تكن تصيد الفأر وسنّورة سالمت فأرها ... فبينهما أبدا هدنه تدور وفي فمها جوزة ... وشيء أصابته من جننه لتنصب للفأر فخابه ... كذا القرن مختتل قرنه «1» وتبصرها مثل حواءة ... لها رقية ولها دخنه بها تخرج الفأر من جحرها ... وما ذاك عيب ولا هجنه فمن لم يوافقه شرب الدوا ... ء للحصر يستعمل الدخنه وقيل كان لركن الدولة سنوّر يألف مجلسه فكان بعض أصحابه أراد حاجة تعذر الوصول إليها فكتب قصته ووجد السنور خارج الحجرة فشدّ القصة في عنقه وأرسله فرآه ركن الدولة فأخذها وقرأها ووقّع فيها. الثعلب موصوف بالروغان والخبث والنذالة. قال بعضهم: أروغ من ثعلب ومن فرط خبثه أنّه يجري مع كبار السباع وفي حديث العامة أن الثعلب متى كثرت عليه البراغيث يتناول صوفة ثم يدخل رجليه في الماء، فلا يزال يغمس بدنه في الماء أوّلا فأولا حتّى يجتمعن في خطمه. فإذا غمس خطمه في الماء اجتمعن في الصوفة ثم يتركها في الماء ويثب خارجا. ونضيبه أي قضيبه في صورة أنبوبة أحد شطريه أعظم، وهو في صورة مثقب والآخر عصب ولحم. يولع بأكل القنفذ ويقال إنه يقلبه على ظهره ثم يبول على بطنه فيعتريه الأشر «2» فيتمدّد فيبقر بطنه. الأرنب قيل: إنها تحيض والذكر منها الحزن وقضيبه على صورة قضيب الثعلب. وقيل: إنها تنام مفتوحة العين، وتطأ على مواخير القوائم كيلا تعرف الكلاب أثرها. وهو قصير اليد وليس يعرف بقصر اليد، أسرع من الأرنب، والعرب تزعم أن من علق عليه كفّ أرنب لم تصبه عين ولا سحر، لأن الجنّ تهرب منه إذ ليست من مطاياها لمكان الحيض وهي أحسن الأشياء صيدا لتدبيرها وتدبير الكلب عليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 720 الضب ّ يوصف بالكيس «1» لأنه لا يبني بيته إلا على رابية خشية السيل. قال الشاعر: سقى الله أرضا يعلم الضبّ أنها ... بعيد من الآفاق طيبة البقل بنى بيته منها على رأس كدية ... وكلّ امرئ في حرفة العيش ذو عقل «2» وقيل: أنه يعد العقرب للحارش حتّى إذا أدخل يده لسعته. وهو مسالم ويضع من البيض سبعين، ويأكل كل حسلة. وقيل: أعقّ من الضب. ويضرب الحيّة بذنبه فيقتلها وله تركان أي أثران، قال: حسل له تركان كان فضيلة ... على كلّ حاف في البلاد وناعل وقيل: إنما هو واحد ولكن له طرفان كلسان الحية. وهو طويل الذماء «3» صابر على الماء. يتبلغ بالنسيم طويل العمر. قال: لو أنني عمرت سنّ الحسل وقيل في المثل: أخدع من ضبّ، وهو خبّ ضب. وقيل بالنمر يخدع الضب وأما لحمه فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام امتنع من أكله، وقال: إنه ليس بطعامي وأكله خ الد ب ن الوليد فلم ينكر عليه. وقال: فيه فقيه لرجل كان يأكله إعلم أنك أكلت شيخا من مشيخة بني إسرائيل يعني أنه مسخ قال: وسكن الضباب طعام الغريب ... ولا تشتهيه نفوس العجم فقال من عارضه: فأنت لو ذقت الكشى بالأكباد ... لما تركت الضبّ يعدو بالواد «4» القرد يضحك ويطرب ويحكي ويتناول بيده الطعام ويضعه في فمه. وله أصابع وأظفار وإذا سقط في الماء يغرق كالإنسان قبل أن يتعلم السباحة ويتزاوج ويتغاير تغايرهم، فقال: قرد يقهقه أو عجوز تلطم «5» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 721 الدب ّ أنثاه إذا وضعت ولدها رفعته في الهواء أياما تهرب به من الذرّ من مكان إلى مكان إلى أن تشتد أعضاؤه. القنفذ جعل سلاحه شوكه وهو يأخذ الحيّات فيأكلها يقبع رأسه حتى يأتي عليها. وقال ابن الزبير في رجل خاشنه وهو يخطب ثم سكت: ماله ضبح ضبح الثعلب ثم قبع قبوع القنفذ. الجرذ والفأر ولا أتبع الجارات بالليل قابعا ... قبوع القرنبا أخلفته محاجره قيل: إن الجرذ يعادي العقرب وإذا جعلا في إناء واحد ولم يمكنهما الخروج تحاربا تحاربا عجيبا ومتى ربط فأران بطرفي حبل تهارشا أعجب هراش وإذا خليا مرا على وجوههما. فإذا خصي واحد أكل صواحبه. وللفأر تدبير في السرقة تأتي القارورة الضيقة فتخرج منها الدهن بذنبها وقيل أسرق من ذبابة ومن جرذ. قال: فكن جرذا فيها تخون وتسرق وهو قصير الذماء بخلاف الضبّ. ويقتله الشيء اليسير وكثير من الناس ممّن لا يخاف الأسود يخافه ويهرب منه. وفي الحديث أن الفأرة الفويسقة «1» تجذب الفتيلة فتجذ بها فتحرق على أهل البيت كحل العيون وقضّ الرقاب، والزباب صمّ. قال: فهم زباب حائر ... لا تسمع الآذان رعدا والخلد منها أعمى. واليرابيع ضرب منها تطأ على زمعاتها «2» لتزوي «3» موضع وطئها لئلا تقص، وتتخذ النافقاء والقاصعاء والداماء والراهطاء «4» ليفلت من باب إذا أخذ عليه باب. وقيل: إنما استخرج الروم الاحتيال بالمطامير والمخارق على تدبير اليربوع. الجراد تعمد الجرادة إلى الصخرة الملساء التي لا يعمل فيها المعول فتغرس ذنبها فيها فتصير كالأخدود لها فتنتر فيها أي تبيض، فيخرج منها الدبى فتصفر فيقال لها اليرقان ثم تصير فيها خطوط سود وصفر فيقال مسيح ثم يبدو حجم جناحها كثيفا ثم ينبت جناحها ويحمر فيقال لها الغوغاء ثم يقال الخيفان ويقال للجرادة أم عوف: تنفض بردتيها أمّ عوف ... كأنّ رجيلتيها منجلان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 722 وبردتاها أي جناحاها. قال سعيد بن عبد الرحمن: من كلّ كنعان تراه أحدبا ... كأنّ سرجا جيّدا مضبّبا على قراه ثابتا مركبا ... لم يجعل الله عليه مركبا وقال أعرابي: مرّ الجراد على زرعي فقلت لها ... إيّاك أعني فلا تولع بإفساد فقام منها خطيب فوق سنبلة ... أنا على سفر لا بدّ من زاد وقال عوف بن دروة في وصفها: قد خفت أن يحدر بالمصعرين ... ويترك الدّين علينا والدين زحف من الحيفان بعد الزحفين ... ملعونة تسلح لونا لونين كأنّها ملتفّة في بردين ... تنحى على الشمراخ مثل الفاسين أو مثل منشار غليظ الحرفين العنكبوت قال الله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ «1» ، وذلك أجناس: جنس رديء ينسج على وجه الأرض فيجعله خارجا، وأطرافه داخلة. فإذا انتهى إليها ما يأكلها تناولها. وجنس حاذق يسدي بيته ويلحمه فإذا وقع عليه ذباب تثبت، فإذا وهن نقله إلى خزانته فمصّ رطوبته ثم رمى ما تشعث منه من بيته وإنما تنسج الأنثى وأما الذكر فإنه ينقض وولدها أكيس من الفروج ساعة يولد. وجنس يصيد الذباب صيد الفهد يقال له الليث له ست عيون. قال الجاحظ: لا ينبغي أن يكون في الدنيا أصيد من فهد الذباب لأنه لا يطير ويصيد ما يطير ويصيد ما يصيد، لأن الذباب يصيد البعوض، وخديعتك الخداع أعجب. وجنس طويل الأرجل إذا مشت على جلد الإنسان بثر «2» . الورل لا يتخذ البيوت إبقاء على برثنه، ويعلم أنه سلاحه الذي به يقوى. وله ذنب يؤكل ويستطاب، ويقتل الضبّ ويشدخ رأس الحيّة ثم يبتلعها لا يضرّه سمّها. وهو كثير التوقف والتلبث إذا مشى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 723 وتزعم المجوس أن أهرمن «1» لما قسّم الشرور والسموم كان أخذ من الجرذ شرا فحضر وقد قسم الشر فتداخلها الحسرة فتراها متى اشتدت تتذكر ما فاتها لتباطئها فتقوم وتتحسّر. الخنفساء موصوفة بالصّبر. وربما غرز على ظهرها شوكة فتجول كأنها عقرت. وربّما تكون في العلف فيأكلها البعير فمتى وصلت إلى جوفه حيّة قتلته. وهي موصوفة باللجاج، قال: أشدّ لجاجا من الخنفساء أمّ حبين دويبة أصغر من الحرباء كدرة المسراة، بيضاء البطن. وقيل لأعرابي ما تأكلون؟ قال: ما دبّ ودرج إلا أم حبين ، فقال: لتهن أم حبين العافية. الظربان على خلقة الكلب الصينيّ أخبث دابة مساءة لا يقوم لفسوها شيء. وتأتي جحر الضبّ فتفسو فيه وتضيق عليه حتى تدار به فيأخذه ويأكله ويسمى مفرق النعم لأنها إذا فست فيها ابدت تأذيا بفسوها وقيل: فسا بينهم الظربان إذا تفرّقوا. الوجرة دويبة كالغطاءة حمراء تلزق بالأرض وقيل وجر صدره إذا التزق بالعداوة التزاق تلك بالأرض، وهذا كما يقال للحقود ضبّ. العضرفوط دويبة لا خير فيها تذكر العرب أنها لا تبول ألا تشعر بذنبها تلقاء القبلة والحيّات تأكله. الجعل يموت من ريح الورد ويعيش بالرّوث. قال المتنبّي: كما تضرّ رياح الورد بالجعل وتحرس القوم. فكلما قام قائم منهم لحاجته تبعه وهو يدحرج الجعر. قال يهجو: حتّى إذا أضحى تدري فاكتحل ... بجارتيه ثم ولّى فنبل رزق الأنوقين قرينا والجعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 724 وله جناحان لا يكادان يريان إلا إذا طار النّمل يدّخر في الصيف للشتاء، ويخرج باللّيل متى خاف بالنهار. وعادته أن ينقر القطمير «1» من الحبّة ويفلقها أنصافا. فإذا كان حبّ الكزبرة فلقه أرباعا، لأن أنصافه تنبت من بين الحبوب ولها حسّ وشم عجيب. وينقل أضعاف جسمه مائة مرّة، ومتى عجز عن حمل شيء ذهب إلى صواحبه فيتبعنه، ويكلّم بعضها بعضا، بدلالة قوله تعالى: قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ «2» . قال: لو أنني أوتيت علم الحكل ... علّم سليمان كلام النمل «3» والنمل تأكل الأرضة، ومتى رأى بالجرادة والخنفساء عقرا تعرض لهما فأكلهما. وإذا لم يكن لهما عقر لم يأكلهما. وحكى عن بعض المهندسين أنه أخرج طوقا محمى من صفر فرمى به فاشتمل على ذرة فلم يمكنها أن تتخلص من جانبه لما لقيها من وهج النار فعادت إلى وسط الدائرة فوجدها قد ماتت في موضع رجل البرحكار، وربّما طار. وقيل: إذا أراد الله بنملة شرا أنبت لها جناحين وفيه: فما ذو جناح له حافر ... وليس يضرّ ولا ينفع وعنى بحافره قوائمه وبهما يحفر. الحيّة موصوفة بالقوّة. وكل ممسوح لا رجل له ولا يد فقوّي البدن. ويقطع ذنبها ولا تموت طويل الذماء. وقيل: لا تموت حتف أنفها. وهي أصبر شيء على الجوع مع شرهها وسرعة ابتلاعها. فإذا تنسّمت اكتفت به وربما تأتي البقرة فتشتمل على فخذها فتلتقم خلفها فلا تستطيع البقرة إن تترمرم فلا تزال تمصه حتى تمتلئ فيعرض حينئذ في ضرعها داء أو تموت. وتسلخ كل عام مرتين وربّما يبقى في عنقها ما نفض من جلدها: لها ربقة في عنقها من قميصها ... وسائره عن متنها قد تقدّدا وليس لرأسها عظم ولذلك يسرع إليها الهلاك إذا هشم. وفيها ذات شعور وقرون. وثلاثة لا تنفع معها الرقية: الثعبان والهنديّة والأفعى. والشجاع ما تقوم على ذنبها وثواثب وقيل: في رمال بلعم حيّة تصيد الطائر فإذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 725 انتصف النهار واشتد الحر انغرست كأنها خشبة فتجيء الطير تحسبها عودا فتركبها فتبلعها. وقيل: كانت الحيّة في صورة جمل فمسخها الله تعالى عقوبة لها حين طاوعت إبليس وشقّ لسانها وإنما تخرج لسانها إذا خافت لترى عقوبة الله. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: فيها ما سالمناهن منذ حاربناهنّ ومن ترك شيئا منها فليس منّا. وقال الإمام علي: اقتلوا الجان وذا الطفيتين، والكلب الأسود البهيم وقالت عائشة: من نقتل حية فخاف آثارها فعليه لعنة الله، خلف: وحنش كأنّه رشاء ... ذنبه ورأسه سواء يهرب من طلعته الرّقاء ... لها إذا أبصرتها استحذاء قد لوّحته الشمس والهواء ... فسمته سيّان والقضاء قال أسدي في وصفه: ولو عضّ حرّ في صفاة إذا ... لا نشب أظفاره في الصفا وقال عنترة: لعلّك تمنّى من أراقم أرضنا ... بأرقم يتقي السمّ من كل منطّف تراه بأجواز الهشيم كأنّما ... على برده أخلاف برد مفوّف «1» كأنّ بضاحي جلده وسراته ... ومجمع ليّتيه تهاويل زخرف إذا نسل الحيات بالصّيف لم تزل ... يشاغرنا في جلدة لم تعرف العقرب لا تسبح ولا تتحرك في الماء، جاريا كان أو راكدا. وحتفها في ولدها إذ حان وقت ولاده بقر بطنها فتموت، وفيه: وحاملة لا يكمل الدهر حملها ... تموت ويبقى حملها حين تعطب والقاتلة بموضعين شهرزور وقرى الأهواز. وهي التي يقال لها الجرارة. والعقارب يلسع بعضها بعضا فتموت وربما ضربت الطشت فتخرقه وتبقى إبرتها فيه وتلسع الأفعى فتقتلها. وقيل: إذا لسعت من لسعت أمه عقرب وهي حامل تموت العقرب ولا تضره. وتقصد العقرب بالليل الأصوات، ولا تضرب المغشيّ عليه ولا النائم حتّى يتحرك وشرّ ما تضرّ الملدوغ إذا كان خارجا من الحمام لسخونة بدنه وتفتح مسامه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 726 البعوض وأجناسه البقّ والجرجس والشذان والفراش والأذى. وللبعوض خرطوم ولكنه يخرجه ويطويه. وقال بعضهم رأيت البعوضة تغمس خرطومها في جلد الجاموس كما يغمس الرجل إصبعه في الثريد. وكان يطير عن ظهره فيسقط الغصن فيقيء ما في جوفه، ثم يعود. وأنشد في مجلس يونس قول جرير: يصرّ عن ذا اللب حتّى لا حراك به ... وهنّ أضعف خلق الله أركانا قال: ما أراه يصف إلا البراغيث والبعوض. قال الهذلي في صوتها: كأنّ وغى الخموش بجانبيه ... مآتيم يلتدمن على قتيل «1» وقال الكميت: به حاضر من غير جنّ يروعه ... ولا حاضراه ذو أثاث وذو رحل وقال الراجز: مثل السفار دائم طنينها ... ركّب في خرطومها سكينها وقال أبو جروة في صفة قارص: تبيت جارته الأفعى وسامره ... رمد به عاذر منهنّ كالجرب يعني بالرمد البعوض والعاذر الأثر وقال: وليلة لم أدر ما كراها ... أمارس البعوض في دجاها كلّ زجول خفق حشاها ... لا يطرب السامع من غناها وقال: إذا تغنين غناء الزطّ ... وهن منّي بمكان القرط فثق بوقع مثل وقع الشرط البراغيث تستحيل بقا كما أن الدعموص يستحيل فراشا قال: ليل البراغيث عناني وأنصبني ... لا بارك الله في ليل البراغيث «2» كأنّهنّ وجلّدي إذ خلون به ... أيتام سوء أغاروا في مواريث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 727 وقال: ألا يا عباد الله من لقبيلة ... إذا ظهرت في الأرض شد مغيرها فلا الدين ينهاها ولا هي تنتهي ... ولا ذو سلاح من معد يضيرها وقال أبو الشمقمق: يا طول يومي وطول ليلته ... فليهن برغوثه بجذلته قد عقدت بندها على جسدي ... واجتهدت في اقتسام جملته وقال: ألا ربّ برغوث تركت مجدّلا ... بأبيض ماضي الشفرتين صقيل يعني أظفاره. وصف أعرابي البراغيث فقال: ما آذى صغارها وأطفر كبارها وأخفى انطمارها وأقبح آثارها. وحضر أعرابي حلقة يونس فأنشد رجل لأبي الحسين بن أبي البغل: إذاع ما عراني شار بالدّمى انثنى ... وغنّى غناء الشارب المترنّم يدين بأديان المجوس كأنّما ... يقول له أصحابه أشرب وزمزم وكتب ابن ثوابة إلى ابن مكرم نحن نبعض فهل تبعضون؟ فكتب إليه نحن نبعض ونبرغث ونبقق. القمل القمل يعتري من العرق والوسخ من الثوب والشعر. وقيل: يعتري من أكل التين ويكون في رأس الأسود الرأس أسود، وفي أخضب الشعر بالحمرة أخضب. وفي الأخصف خصيفا، وفي الأبيض. وقيل: هكذا كحرّة بني سليم كلّ ما فيها من حيوان أسود بلاد الترك كل ما فيها على ألوان بلادهم ومن زيبق ذهب قمله ويزيله لبس الحرير فأذن لهما. ويكثر القمل في الدجاج والحمام إذا لم يغسلا وكذلك في القرد وتراه أبدا يتقمّل ويضع قمله في فيه. القراد يخلق من عرق البعير ووسخه كالقمل من الإنسان. والقراد إذا كان صغيرا قمقامة ثم يكون حنانة ثم قرادا ثم حلمة. ويقال له: القل والطلح والعقير والبرام والقرشان. وقيل: أشجع من قراد وألزق منه وأذل وأفطن من حلمة ويقال فلان يقرد فلانا أي يحتال عليه، وأصله أن يؤخذ قراد البعير ليسكن ثم يجعل الخطام في عنقه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 728 السّمك الأجناس المائية موصوفة بالخمول وليس فيها خصلة من الفطنة، إلا ما يحكى عن صيد الجرذان ودابة تحمل الغريق حتى تؤدّيه إلى الساحل. والتبوظ ضرب من السمك ينتهي إلى الشبكة فلا يستطيع النفوذ منها فيعلم أنه لا ينجيه إلا الوثوب، فيجمع جراميزه قيد رمح فيثب ويغوص في الطين أيام الجزر. والسمك قيل يكون له اللسان والدماغ في الماء العذب لا الملح البحتري في بركة: يقمن فيها بأوساط مجنّحة ... كالطير ينقضّ من جوّ خوافيها «1» السرطان له ثمان أرجل ويستعين مع ذلك بأسنانه فكأنه يمشي على عشر وعيناه في ظهره وينسلخ من جلده في السنة سبع مرات، ويتخذ جحرا له بأبان أحدهما يشرع إلى الماء والثاني إلى اليبس. ومتى انسلخ سد الباب الذي في الماء لئلا تدخل عليه الحيّة فتأكله وترك الباب الذي يلي اليبس لتصيبه بالريح فيعصب لحمه. السلحفاة تكون بريّة وبحريّة وتصيد الحيات وتبيض في الشطّ، وفيها يقول محمد بن عبد الملك: وسلحفاة سمح ... سكونها والحركه شبّهتها بديلميّ ... ساقط في المعركه مستتر بترسه ... عمّن عسى أن يهلكه الضّفدع يتعيش في الماء ويبيض في الشطّ، ولا عظم له، وقد يتخلق من الأرض إذا أصابها المطر، تراه غبّ المطر إذا كان ديمة في الضحاضح «2» حيث لا بحر ولا نهر ولا بئر، حتى يزعم ناس أنها كانت في الحساب. وقيل: إن المخ في خراسان يكبس في الأزاج ويحال بينه وبين الريح والهواء والشمس فمتى انخرق في تلك الخزانة خرق فدخله الريح استحال الريح كلّه ضفادع. ولا ينق الضفدع في الماء إلا إذا أدخل فيه حنكه الأسفل ومتى أبصر إنسانا أو القمر أو الفجر أمسك عن النقيق وتولع الحيات بأكله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 729 قال الشاعر: ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدلّ عليها صوتها حيّة البحر وقيل في الخرافيات إن الضفدع كان ذا ذنب فسلبه لما راهن على الصبر عن الماء. وفي قرآن مسيلمة لعنه الله: يا ضفدع كم تنقّين نصفك في الماء ونصفك في الطين. لا الماء تكدرين ولا الشراب تمنعين. ونهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن قتله. قال الخوارزمي: أرّقني والديك لم ينطق ... صوت غريق نصفه لم يغرق وجاحظ العين ولما يخنق ... بلحظ مخنوق ولفظ أشرق وفيه: كعقد الناكح حين ينزل التّمساح لا يكون إلا في نيل مصر، ويأكل الإنسان. وقيل: إن بطنه كقباء «1» مفروج وكل شيء يأكل بالمضغ دون الإبتلاع فإنه يحرك فكّه الأسفل إلا التمساح فإنه يحرك الأعلى. التنّين ينكره أكثر الناس إلا بعض الشاميين يزعم أنه إعصار فيه نار يخرج من بخار الأرض فلا يمرّ على شيء إلا أحرقه. (7) وممّا جاء في أحوال الحيوانات وطبائعها المتزاوجة من الحيوانات ليس التزاوج إلا في ذي رجلين دون ذوات الأربع، وذلك في الإنسان والحمام وأجناسها. وأما الدجاج والحجل فإنها تمكن كل ذكر من نفسها. البائضة والوالدة كل ما لا أذن ظاهرة لجنسه فإنه يبيض وماله أذن ظاهرة فإنه يلد ولا يبيض. وما يبيض على ثلاثة أضرب: هوائي ومائي وأرضي. فالطائر منها ما يبيض في السقوف والأجذاع كالخطاطيف، ومنها ما يبيض على شعف الجبال، حيث لا يوصل إليه كالرخم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 730 والمائية منها ما يبيض في الأرض ويحضن كالبق والضفدع والسلحفاة والسراطين تبيض في بيوت لها في شطوط الأنهار لها بابان والأرضيّ كالحيّة والضب. ما يكثر نسله وما يقل ّ السمك يكثر منسلها ويأكل بعضها بعضها. وكذلك الضبّ يخرج سبعين حسلا ولولا أن بعضها يأكل بعضا لصارت الصحاري ضبابا. والخنزيرة تضع عشرين خوصا لكن يموت أكثرها لعجزها عن تربيتها. ويخرج من جوف العقرب عقارب كثيرة. قال صاحب المنطق: نسل الأسد يقل جدا لأنه يجرح الرحم فتعقم «1» ، والجوارح من الطيور يقلّ فراخها والبغاث «2» يكثر. قال: بغاث الطير أكثرها فراخا ... وأمّ الصقر مقلاة نزور «3» وأقلّ الخلق عددا وذرأ الكركدن. فأما الطيور فأما الطيور تزق وتحضن كالحمام لم يكن لها أكثر من فرخين ما تلقم فزاد الله في عدد فراخه، والعقارب والضباب والسمك وكل ما لا تحضن ولا تزق ولا تلقم كثير أولادها جدا. ما يكسب وقت ما يولد الفروج والعنكبوت والفأر والجري والنحل ما يكون من غير تناسل البعوض والبق والبرغوث لا يكون من توالد تخلق من عفن المياه، وقيل: الكمأة قد تتعفن فتتولد منها الأفعى. ما تناسل من الأجناس المختلفة أما البغل فمعروف والذئب والضبع يتسافدان وولدهما السمع، والذئب، والكلبة وولدهما الديسم. وقال صاحب المنطق: تتوالد السلوقية من الثعلب، والثعلب يسفد الهرة الوحشية. وحكي عن صاحب الطيور أنا رأينا كثيرا منها يتسافد، ورؤي أشياء عجيبة من أولادها. وادّعى جهلة أن الزرافة تنتج من بين الإبل الوحشية، والبقرة الوحشية لما رأوا اسمه بالفارسية اشتركا وبلنك، أي بعير وبقر ونمر، وقالوا في الجاموس إنه بقر وضأن، ولم يقولوا في النعامة هذا، وإن سمي اشتر مرك. وادّعوا تسافد الجن والأنس واستدلوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 731 على ذلك بقوله تعالى: وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ «1» وقالوا الواقواق من نتاج بعض الحيوانات وبعض النبات القوّة على الجماع الإنسان يغلب جميع الحيوانات في السفاد لأن ذلك دائم منه في جميع الأزمنة وعلى جميع الأحوال. والإبطاء في الفراغ للجمل والورل والذبان والعناكب والضفادع والخنازير. وأما الكلاب والذئاب فتلتحم وكذلك الذبان وقال النوشجان: أقبلت من خراسان، في بعض طرق أجبالها فرأيت أثر ست أرجل أكثر من ميلين فسألت فقيل لي أن الخنزير في زمن الهياج يركب ذكره الأنثى. وهي ترتع وتمرّ فهذا أثرهما وكثرة عدد الجماع من العصافير. وكل جنس يحبل إلا البغل فإنه وإن أحبل لم ينم وقفط «2» تيس بني حمار مشهور. المتسافد ذكوره الخنازير والحمار والحمام كل ذلك، للذكر الذكر، وللأنثى الأنثى ما يتغاير يتغاير الخنزير والحمل والفرس إلا أنها لا تتزاوج وحمار الوحش يغار ويحمي أناثه الدهر كله، وأجناس الحمام تتزاوج ولا تتغاير والقرد يتزاوج ويتغاير. أشراف الحيوانات قيل: أشرف السباع ثلاثة: الأسد والببر والنمر. وأشرف البهائم ثلاثة: الكركدن والفيل والجاموس وأشرف المركوبات: الخيل والإبل. وأشرف الطير: العقاب. وقيل: الرياسة في الهواء للعقاب، وفي الماء للتمساح وفي الغياض للأسد. وقيل: الطير هوائي والسمك مائي يعني أكثر استقرارهما في هذين الموضعين. ومن الحيوان ما لا يصلح أمره إلا بالرئيس كالنحل والغرانيق والكراكي، وأما الإبل والحمير والبقر فالرياسة لفحل الهجمة ولعير العانة «3» ولثور الربرب «4» . وقيل: لكل شيء سادة حتّى النمل. ما يتعادى من الحيوانات قيل: أشد العداوة عداوة الجوهر وما يتعادى على ضربين: ضرب يعادي جنس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 732 جنسه. وذلك نوعان: أحدهما كل نظير صاحب كالأسد والفيل فإنهما يتقاتلان وكل قد يقتل الآخر. والفرس المائي يقتل التمساح ويتغالبان. والحيّة وسام أبرص يتقاتلان والأسد والنمر والأسد والجاموس. ومنها ما لا يضرّ الآخر ولا يقوى الآخر عليه كالسنور مع الجرذ، والذئب مع الشاة، والدجاج مع ابن آوى، والحمام والشاهين والشاة أشد فرقا من الذئب منها من الأسد. والدجاج يخاف ابن آوى أكثر ما يخاف الثعلب والحمام أشد فرقا من الشاهين منه للبازي والصقر. القويّ المتفادي من الضعيف الجاموس يخشى البعوض خوفا شديدا، ينغمس في الماء والفيل يهرب من الهرّة. وقيل: إنما يهرب من الأسد إذا ظنّه سنورا عظيما. والحية إذا أصابها خدش تسلّط عليها الذرّ «1» فيهلكها. واللبوة إذا وضعت قصد الذرّ شبلها فيأكله، ولذلك قال المتنبّي: يذبّ أبو الشبل الخميس عن ابنه ... ويسلمه عند الولادة للنمل «2» ما تقوى أناثها كلّ صنف من الحيوان ذكورها أجرأ وأقوى إلا الفهد والذئب واللبوة. الأكلة للنّاس من السباع الأسد والنمر والببر «3» . وقيل لا يعرض ذلك للناس إلا بعد الهرم والعجز عن الصيد. والذئب أشد الناس مطالبة فإن عجز عوي مستغيثا بالذئاب. الآكل بعضها بعضا السمك يأكل بعضه بعضا أكلا ذريعا والذئب متى رأس ذئبا أدمى أكله لا محالة: قلت وكنت كذئب السوء لما رأى دما ... بصاحبه يوما أحال على الدم والجرذ إذا خصي أكلها أصحابها. الصابرة عن الطعام الحيّة وسام أبرص والعضاة والتمساح تسكن في أعشتها الأربعة الأشهر الشديدة البرد، فلا تطعم شيئا وسائر الحيوانات تسكن بطن الأرض كذلك كل همج لا تبرز في الشتاء إلا النمل والذرّ والنحل فإنها تدّخر ما يكفيها. المدّخرة الإنسان والنملة والذّرة والجرذ والفأر، والعنكبوت والنّحل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 733 إختلاف الحيوان في الأكل الحيوان على ثلاثة أضرب: المشتركة كالإنسان والعصفور والغراب والسمك تأكل الحيوانات والنبات. والآكلة للحم في غالب الأمر كالحمام. ثم تختلف فمنها ما يأكل جنسا واحدا كالنحل تأكل العسيل والعنكبوت يعيش من مصّ الذباب. إختلاف مشيها من الحيوان ما لا يسيح بالمشي، فالضبع عرجاء تخمع، والذئب أقزل أشنج النسا كأنه يتوخّى إذا مشى، والأسد إذا مشى ينخلع كأنه رهيص. والسنور والفهد في طريق الأسد. والغراب يحجل كأنه مقيد. والجراد يمشي ويطير والعصفور يثب ويجمع رجليه معا. وكذلك القنبر والحمر وما أشبهها والقطاة مليحة المشي مقاربة الخطو وبه شبه مشي المرأة قال: فدفعتها فتدافعت ... مشي القطاة إلى الغدير «1» والذباب يمشي مشيا سبطا، والبرغوث يمشي ويثب وسمي طامر بن طامر لوثوبه. وكلّ ذي أربع وذي إثنين إذا تكسر إحدى رجليه تحامل على الأخرى إلا النعامة قال: وإنّي وإيّاه كرجلي نعامة الطويلة العمر . ممّا يوصف بطول العمر الحيّة، فإنه يقال لا تموت حتف أنفها، ويقطع ثلث جسمها فتعيش، إن سلمت من الذرّ. والدخال يقطع بنصفين فيمران في الطريقين. والضبّ طويل الذماء مع هشم «2» الرأس والطعن الخائف الذي لا يحتمله غيره. ويقال اللهم واقية كواقية الكلاب وذلك لسلامتها من الآفات والكبش تقطع إليتيه فيعيش. ما يحدّ بصره الفرس والهدهد والعقاب والنسر. وأما السنّور والفأر والجرذ والسباع فإنّها تبصر بالليل كما تبصر بالنهار والخفاش يبصر فيما بين الضوء والظلمة لكثرة شعاعها في بصرها. وأما ما يبصر بالليل فالأسد والسنور والنمر والأفعى. ما يصدق سمعه قيل: أسمع من قراد لأنه يسمع تحرّك البعير فيقصده وإن كان قد أتى عليه سنون. والفرس والقنفذ والدلدل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 734 الموصوف باللجاج الخنفساء والذّباب لا ينطرد وإن طرد، والدودة الحمراء تروم الصعود إلى السقف كلّما سقطت عادت. الحاذق بالبناء الزنبور يعمل بيوتنا مدوّرة كأنّها من كاغد «1» مزردة «2» والسّرفة «3» تبني بيتا حسنا وقيل أصنع من سرفة وكذلك التبوظ «4» . الحاذق بالنّسج . العنكبوت ودود القزّ تخرج القز من جوفها. ما يحيض الكلب والأرنب والضبع والخفاش، وقيل: ذوات الأربع كلها تحيض. الموصوف بالحمق الرخمة والحباري وأنثى الذئاب، وتسمى الجهيزة، لأنها تتكفّل ولد الضبع وتترك ذا بطنها. قال: كمرضعة أولاد أخرى وضيعت ... بني بطنها هذا الضّلال عند القصد والضبعة والنعجة والعنز، وكذلك الطاووس والقدرج مع حسنها والزرافة. الموصوف بالجبن العقعق والغراب والعصفور والصقر والصفرد. ما يصدق شمّه الذئب صادق الإسترواح، ولذلك قيل: يستخبر الريح إذا لم يسمع ... بمثل مقراع الصّفا الموقع «5» وجلّ الوحشيّات على ذلك والنعامة صادقة الشمّ. وأعجب من ذلك الذرّة نحو أن يشمّ رجل جرادة يابسة فيتهافت عليها. والفرس يتشمّم رائحة الحجر من مسيرة ميل ومن ذلك السنّور والكلب ويبلغ من صدق شمه أنه يقصد الحجرة فيشمّها فتعرف الكلاب بتشممه وجار الضبع فتقصده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 735 ما يسلخ كل ذي جسد محرز فإنها تسلخ كالحيّة والسرطان كل طائر لجناحيه غلاف كالجعل والدبر والسلخ للطير تحسرها، وللحوافر عقائقها، وللإبل طرح أوبارها وللجراد جلودها وللأيائل قرونها وللأشجار ورقها وللاسروع أن يصير فراشا وللبعوض أن يصير دعموصا. ما يتناسل قيل: إن البعوض يصير دعمومصا، والبعوض يستحيل برغوثا، والأسروع فراشا والذباب والزنابير أول ما يتولد يكون دودا، ثم يتطور. وقيل: العقاب والحدأة يتبدلان فيصير الذكر أنثى وهذا غريب. وقيل: ليس ذلك بأغرب من الشجرة التي تثمر البلوط سنة، والعفص سنة. وقيل: الضبع سنة أنثى وسنة ذكر ولم تذكر العرب ذلك. ما يكون وحشيا وغيره . الفيل والسنانير والحمير والظباء. فالظباء تسمّى عفرا، والتيوس الوحشيّة نعاجا وهي بالمعز أشبه. وليس بينها وبين الظباء تسافد. والخنزير وحشي، وغير وحشي، وهو ذو ظلف ولا مشابهة بينه وبين ذوات الأظلاف بغير ذلك. وليس في الإبل وحشيّ إلا وحوش الإبل فيما يزعمون. ومما يكون أهليا ولا يكون وحشيا الكلب وأما الضبع والذئب والأسد والنمر والببر. فلا تكون إلا وحشيّة وكذلك الثعلب وابن آوى. وقد يعلم الأسد فينزع نابه ويطول في الناس لبثه ومع ذلك يتشزن «1» ولا تؤمن عرامته «2» . وخبر من ربي الذئب ثم أكل شاته قد ذكر، وحكي أن بعضهم ضرى أسدا فاصطاد به، وذئبا فصاد به الظبي، وزنبورا فاصطاد به الذباب. ومن الوحشيات ما إذا صار مع الناس يترك السفاد، ومنها ما يترك الطعام كالصالحية. ما يعايش الناس الكلب والسنّور والفرس والبعير والحمار والبغل والغنم والبقر ونحو ذلك ومن الطيور الدجاج والحمام والخطاف والزرزور والخفاش والعصفور، وليس فيها أطول عمرا من البغل ولا أقصر عمرا من العصفور. وعلل ذلك بقلّة السفاد وكثرته. ما يتكفّل بولد غيره الذئب وتقدّم، والنعام تحضن بيض غيرها وحمل على ذلك قول الشاعر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 736 كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا والدجاجة تحضن بيض الحمام وبالعكس. وكاسر العظام يتعهد فرخ العقاب، وذلك أنها تفرخ ثلاثا فتعجز من شرهها عن تربية ما فوق الاثنين. الكاسية بالليل البوم والصدى والهامة والصونع والخفاش وغراب الليل. والبومة تدخل على كل طائر في بيته بالليل تأكل فراخه. والبعوض قد يؤذي بالنهار. ما يحضن البيض وما لا يحضن الطيور تحضن، والضبّ لا يحضن بل يغطيها بالتراب وينتظر أيام انصداعها، ثم ينبش عنها التراب. ما يتعيّن مكانه وما لا يتعيّن الخلد والفأرة والنمل والنحل والضبّ لها مساكن معلومة تأويها. وأما أكثر الطيور فلا تتخذ بيتا ترجع إليه، بل ذكورها سيّارة وإناثها يقمن إلى تمام خروج الفراخ من البيض وتذهب. وأكثر الطيور قواطع كالخطاف والزرزور والغراب والحدأة وأما السمك فكذلك. منها ما يجيء من أقصى البحار كأنه تتحمض بحلاوة الماء وعذوبته. ما ادعي فيه المسخ إختلف الناس في المسخ. فأكثر الدهريّة يجحدون ذلك، وأقروا بالخسف والطوفان. وجعلوا الخسف كالزلزلة. وقال بعضهم: لا ينكر أن يفسد الهواء في ناحية فتتغير تربتهم فيعمل ذلك في طباعهم على الأيام، كما عمل في الزنج والصقالبة فتصير القوة من جنس أرضهم ألا ترى أن جراد البقول وديدانها خضر والقمل في رأس الشباب أسود، وفي المخضوب أحمر. ولم ير أهل الكتاب أقروا بالمسخ غير أنهم أجمعوا على أن الله تعالى جعل امرأة لوط حجرا. وأجازا أكثر المسلمين ذلك. فقال بعض: إن الممسوخ لا يتناسل ولا يبقى إلا بقدر ما يصير موعظة وعبرة. وبعض أجاز تناسله حتى جعلوا الضبّ والكلاب من أولاد تلك الأمم. وقالوا في الوزغ إن أباها لما نفخ في نار إبراهيم وفي نار بيت المقدس أصمّه الله تعالى وأبرصه فكل سام أبرص من ولده حتى صار في قتله أجر عظيم. وعن عروة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال للوزغ الفويسق والحيّة كانت صورة إبل فلما أعانت إبليس مسخت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 737 وقالت العرب: إن الله تعالى مسخ عطارد تشبيها بهذا. وقال الجاحظ: قلت لعبيد الكلابي وكان مشغولا بالإبل أبينكم وبين الإبل قرابة؟ قال: نعم، خؤلة. فقلت: مسخك الله بعيرا، فقال: إن الله لا يمسخ أنسانا على صورة كريم بل لئيم. وقيل كانت الفأرة يهودية طحّانة والأرضة يهوديّة والضبّ يهوديا، ولا يضيفون شيئا من ذلك إلى النصرانية. ما ادّعي تكليفه زعم بعض الناس أنّ الأشياء كلّها مكلّفة وأنها أمم تجري مجرى الناس، وتأوّل قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ «1» وقال تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ «2» الآية وقال: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ «3» والطير. واتبعوا ظاهر الآيات. والعقرب والحية والغراب والوزغ «4» والكلب عاصيات معاقبات. وقالوا: لم يكن من خشاش «5» الأرض إلا كان يطفئ النّار عن إبراهيم عليه السلام، إلا الوزّغ فإنها كانت تنفخها. المنسوب إلى مكان من البهائم ذئب الخمر وأرنب الخلة «6» وتيس الرمل وضبّ السحاب، وهو نبت يحسن حاله به، وقنفذ برقة «7» . وشيطان الخماطة «8» ، وغول القفر، وجان العشرة. وكان لهذه الأشياء اختصاص بهذه الأمكنة وقوة. وذلك غير ممتنع. وكان يقال من دخل تبّت كان مسرورا من غير سبب، ما دام بها. ومن أقام بالموصل حولا ثم تفقد عقله وجده ناقصا. وقيل حمّى خيبر «9» وطحال البحرين ودمامل الجزيرة وجرب الزنج. جملة من اختلاف الخلق . كل حيوان أصل لسانه إلى داخل إلا الفيل. وكل سمك في العذب بلسان ودماغ وكل ذي عين من ذوات الأربع، فالأشفار لجفنها الأعلى، إلا الإنسان فللأعلى والأسفل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 738 وكل حيوان ذي صدر فصدره ضيق إلا الإنسان والفيل والبقر. وللجواميس أربعة أخلاف «1» في بطونها، وللشاة خلفان، وللناقة أربعة، وللسنّور والكلب ثمانية أطباء «2» . والخنزيرة كثيرة الأطباء. وللفهد أربعة وللظبية إثنان. واللحية تكون للرجل والديك والتيس. والجمل له القنون «3» والكوسة «4» من السمك في بطنه شحم طيّب إن اصطادوه ليلا وإلا فلا. أحوال جماعة من الحيوانات قيل: الضفدع إذا أبصر النار تحيّر ولم ينق. والخنفساء والجعل إذا دفنا في الورد ماتا وفي العذرة يحييان. قال المتنبّي: كما تضرّ رياح الورد بالجعل وإذا دخلت الخنفساء في إست الحمار غشي عليه ولا يفيق حتى تخرج. والزنبور إذا غرق في الزيت مات ويحيا بالخلّ. والذباب إذا غرق في الماء مات وإذا دفنته بعد في التراب حيي. والأسد إذا رأى قربة منفوخة انهزم، واللبوة تضع ولدها حين تضعه شبلا ميتا فيأتيه أبوه في الثالث فينفخ في منخرية فينبعث، وتضع الذئبة ولدها لحما لا صورة له ثم تلحسه حتى تستوي صورته. من لدغته العقرب فأدخل في إسته قطعة جليد برأ وقيل بل هذا لمن لدغه الزنبور. والمرأة إذا لدغت فجومعت برئت. زبد الجمل الهائج يذهب العقل. إذا مدت على باب البيت شعرة من ذنب فرس عتيق لم يدخله البعوض ما دامت الشعرة ممدودة. الحمار إذا أكل خرء الثعلب مات، والفأرة إذا أكلت المرداسنج ماتت، وإذا حفي الكلب فدهن إسته ذهب حفاه. والثور إذا دهن إسته لم يحف. والقنفذ لا ينام والفهد لا يسهر والغداف إذا أخرج فرخه هرب منه لأنه يخرج أبيض فيجتمع عليه البعوض لزهومة رائحته فيبتلع منها ما يقيمه. إذا رأت الحية إنسانا عريانا تهرب منه. النمل لا يتوالد من تزاوج لكنه يلقى في الأرض شيئا يسيرا فيصير بيضا ثم يتصور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 739 (8) وممّا جاء في الصيد والذبائح ما يجوز أكله من الصيد وما لا يجوز قال الله تعالى: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ «1» . وقال عدي بن حاتم: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: أنا قوم نصيد بهذه الكلاب، فقال: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه، فكل ما أمسك عليك وإن قتل، إلا أن يأكل الكلب فإن أكل الكلب فلا تأكل. فإني أخاف أن يكون مما أمسك على نفسه. وقال عدي: يا رسول الله أرمي الصيد فلا أجده إلا بعد ثلاثة. قال: إذا رأيت أثر سهمك فيه تعلم أنه قتله، فكل. وفي حديث آخر: ما تجد أثر سبع. وفي حديث آخر: وما تأخر عنك للغد فلا تأكله فإنك لا تدري أرميتك قتلته. وفي رواية كلّ ما أصميت «2» ودع ما أنميت. وقال جابر: نهي عن صيد كلب المجوسي. جواز أكل ما صيد بالقوس . قال أبو ثعلبة: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلّ ما ردّت إليك قوسك. وفي آخر ذكيا أو غير ذكي. وروى عدي بن حاتم عنه صلّى الله عليه وسلّم: ما أصاب بحدّه فكل وما أصاب بعرضه فلا تأكل. وفي آخر: إن أتيته وقد سبقك بنفسه فكل، وإلا فلا تأكل حتّى تذكى. ما ذبح بغير سكين قال عدي: قلت يا رسول الله إني أرسل كلبي فيأخذ الصيد فلا أجد ما أذبحه به إلا المروة والعصا، فقال: أجر الدم بمائت وأذكر اسم الله عليه. وقال صلّى الله عليه وسلّم: إذا أنهرت الدم فكل، وفي حديث ما خلا السنّ والعظم. النهي عن المثلة بالحيوان والحثّ على تحسين الذّبح . قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لعن الله من يمثل «3» بالحيوان. ونهى أن تصبّر البهيمة وأن يؤكل لحمها إذا ضرب، وقال صلّى الله عليه وسلّم: لا تتخذوا الروح غرضا: وقال: إن الله كتب الإحسان في كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليد «4» أحدكم شفرته وليرح ذبيحته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 740 من تجوز منه الذكاء قال أبو العشر الدارمي عن أبيه: قال: قلت: يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا في اللبة والحلق؟ قال: بلى لو طعنت في حلقها لأجزأ عنك. وسئل صلّى الله عليه وسلّم عن ذبيحة النصارى لكنائسهم وأعيادهم، فقال: إن لم تأكلوها فإني آكلها فأطعموني. وقال ابن عباس: نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذبيحة نصارى العرب وذبيحة الغلام. وروى جابر عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل عن ذبيحة المرأة والصبيّ، فقال: إذا ذكر اسم الله عليه فلا بأس. وكانت العرب تقول ما ذكر اسم الله عليه فلا تأكلوه. وما ذبحتم لغير الله فكلوه فأنزل الله تعالى: ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم الله عليه، وإنه لفسق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 741 الحد الخامس والعشرون في فنون مختلفة (1) كلمات من الحكم في أبواب مختلفة أجمعوا على أن الظفر مأسور بالصّبر، والقدرة مقرونة بالحيلة، والإدراك موصول بالتأني. كتب كسرى إلى قيصر: أخبرني بأربعة أشياء ما أخالها إلا عندك ما عدو الشدة وصديق الظفر ومدرك الأمل ومحتاج الفقر. وفي كتاب جاودان ثلاثة لا يصدّقون: صبر الجاهل على المصيبة، وعاقل أبغض من أحسن إليه. وحماة أحبّت كنتها. وثلاث لا يستصلح فسادهن: العداوة بين الأقارب، وتحاسد الأكفاء، والركاكة في الملوك. وثلاث لا يفسد صلاحهنّ: العبادة في العلماء، والقناعة في المستبصرين، والسخاء في ذوي الأخطار. وثلاث لا يشبع منهن: العافية والحياة والمال. وقيل: إذا رأيت الفيل يمشي على الشرف فأطلبه في البئر. وقيل: ستة لا تخطئهم الكآبة: فقير قريب العهد بالغني، ومكثر يخاف على ماله، وطالب مرتبة فوق قدره، والحسود والحقود وخليط أهل الأدب وهو غير أديب. وقالت الهند: ثلاث يسرعن إلى العقل الفساد: طول الكفاية، والتعظيم الدائم وإهماء النفس. وقيل أربعة تضيع: سراج في نهار، ومطر في سبخة «1» ، وطعام عند غير ذي شهرة وزفاف بكر إلى عنين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 742 وقال مسلم بن قتيبة: لا يجب الصبي أن يكون سخيّا فإنه لا يعرف فضل السخاء، وإنما يعطي ما في يده ضعفا. وقال الأصمعي المهلكات أربع: الكبر والحسد والبخل والحرص. وقال معاوية ثلاثة ما اجتمعن في حرّ: مباهتة الرجال وغيبتهم، وملال أهل المودة. وقيل: إنما يحسن الاختيار لغيره من يحسنه لنفسه. وقال صالح بن عبد القدوس: ما شيء إلا وفيه منفعة، فقال بعض من حضره: لو علق رجل بإحدى يديه أي منفعة فيه؟ قال: لا يعرق إبطه. النية أساس الأعمال والأعمال، ثمار النيّات. وقالت الترك: حفظ مرتبة خير من خفض مرتبة. وقال أبو الأسود الدؤلي: إذا كنت في قوم فحدّثهم بقدر سنك، وخاطبهم بلفظ محلك، ولا ترتفع عن الواجب فتستقل، ولا تنحط فتحتقر. أربعة لا تكتم: العقل والحمق والغنى والفقر، قيل: سمّي الجار لتجيره والصديق لتصدقه، والرفيق لترفق به. قيل: ما استقصى حرّ قط. قال الله تعالى: عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ «1» ،. فلم يعاتب النبي صلّى الله عليه وسلّم حفصة على ما كان منها. قال الأقطع رفيق الصناديقي: وقعت إلى بلدة قاصية من خراسان فسألوني هل تعرف شيئا من شعر الصاحب فأنشدتهم: بودّي لو يهوى العذول ويعشق «2» فقال فضولي: هذا للبحتري، فقلت: لقد قال ذلك رجل بنيسابور فضرب ثلاثمائة سوط. فسكت عمّي أبو الحسن الصوفي على الرئيس أبي الفضل: أنا إن لم أك أهوا ... ك فرأسي في حر أمي «3» توقيع للصاحب: وإذا أردتم أن تسروا عامرا ... فتعمّدوا بصنيعكم أصهارها قال القاضي أبو الحسن: استعار رجل من الخلاد شعره فقال: يا بني نحن أكلنا شعر الطائي والبحتري ومن يجري مجراهما. وهؤلاء أكلوا شعر النابغة حتى خرؤا مثل هذا الشعر. وأنت إذا أكلت شعري فأي شيء تخرأ؟ قال حكيم الحياء: يمنع من عمل السيئات، والحمية تمنع من عمل الحسنات. قال أبو عبد الرحمن خالد بن الأصم لأبي العتاهيّة: أي خلق الله أصغر؟ قال: الدنيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 743 لأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة. قال: بلى أصغر منها من عظمها. ثلاث يخبلن العقل: الخصومة الدائمة، والدين الفادح والمرأة السليطة «1» . وقال أبو يوسف: تعلّموا كل علم إلا النجوم، فإنه يكثر الشؤم، والكيمياء فإنه يورث الإفلاس، والجدال في الدين فإنه يورث الزندقة. من هانت عليه نفسه فلا تأمنن شرّه. قال حكيم: من الذي بلغ جسما فلم يبطر واتبع الهوى فلم يعطب، وجاور النساء فلم يفتتن بهنّ، وطلب إلى اللئام فلم يهن، وواصل الأشرار فلم يندم، وصحب السلطان فدامت سلامته؟ قيل: جماع خير الدنيا والآخرة في ثلاث: أجر وشكر وذكر. فالأجر ثواب الله الذي لا يكون أجمع منه نفعا وأدوم ولا أكرم منزلة، والذكر فوق منزلة الشكر، ودون منزلة الأجر لأن الأجر أشد اشتمالا على جميع الخلق. حكاية يقال إن المنصور أشخص «2» رجلا من الكوفة سعى به أن عنده أموالا لبني أمية فلما مثل «3» بين يدي المنصور، قال: أيها الرجل أخرج لنا من ودائع بني أمية التي عندك؟ فقال: أوراثهم أنت يا أمير المؤمنين أم وصيّهم؟ قال: لا. قال: فلم أدفع أموالهم إليك؟ قال: إن بني أمية خانوا المسلمين وأنا القائم بأمرهم. قال: عليك بيّنة أن هذا المال من تلك الخيانات، فقد كان للقوم أموال من وجوه شتّى فإن ثبتّ على حكم خرجت منه. فأطرق ساعة ثم قال: يا ربيع خلّ الرجل. فقال الرجل: ما عندي مال ولكن رأيت الاحتجاج أقرب إلى الخلاص فإن رأى أمير المؤمنين أن يحضر خصمي فلعله يفلجني بالحجة، فإن في مالي سعة فبعث المنصور إلى الساعي فأحضره فقال: يا أمير المؤمنين إن هذا الساعي عبد لي أبق «4» وقد سرق لي مالا فهدّده فاعترف. العجب العجب ما عدم فيه العادة. ولذلك قيل الدهر أبو العجب لإتيانه بما لم تجر عادة بمشاهدته. وقيل: للنظام أي شيء أعجب؟ قال: الروح وقيل لأبي عصل فقال: السمّ. وقيل: لسلم الخلال. فقال: النار. وقيل لأبي شمر فقال: الذكر والنسيان. وقيل لبطليموس فقال: تدبير الفلك. قال ابن الرومي: وعجيب الزمان غير عجيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 744 قال الطائي: إلا إنّها الأيام قد صرن كلها ... عجائب حتّى ليس فيها عجائب وذكر أن أفلاطون سأل جماعته عن العجب. فقال: كل ما حضره حتى انتهى إلى بقراط فقال: العجب ما لا يعرف سببه. قال الخبزارزي: عجبت وأعجب منّي امرؤ ... رأى ما رأيت ولم يعجب وقال بعضهم: لو سرقت الكعبة ما بقيت الأعجوبة أكثر من أسبوع. (2) ذكر خصال معدودة خصلة محمودة قال أنوشروان: وعنده جماعة ليتكلم كل واحد بكلمة نافعة. فقال الموبذ: الصمت المصيب أبلغ حكمة. وقال مهنود: تحصن الاسرار أنفع رأي. وقال مهادر: لا شيء أنفع للرجل من المعرفة بقدر ما عنده من الفضل وحسن الاجتهاد في طلب ما هو مستحق له. وقال موسى: الاحتراز من كل أحد أحزم رأي وقال بزرجمهر: لا يروح المرء على نفسه بمثل الرضا بالقضاء. فقال أنو شروان: كل قد قال فأحسن ولا خلاص لأحد إلا التثبت للإختيار والاعتقاد للخيرة. خصلتان قال صلّى الله عليه وسلّم: منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا. وقال بعضهم: شيئان لا يستطيع الرجل فراقهما ظلّه وعقله. إثنان يهون عليهما كل شيء: العالم الذي يعلم العواقب، والجاهل الذي لا يدري ما هو فيه. شيئان ينبغي للعاقل أن يحذرهما الزمان والأشرار. شيئان يديران الناس القضاء والرجاء. فسد جلّ الأمور ومن خصلتين إذاعة الأسرار وائتمان أهل الغدر. خلّتان في الجاهل سرعة الإجابة وكثرة الالتفات. اثنان يستحقان البعد: من لا يؤمن بالمعاد ومن لا يستطيع غضّ بصره وكفّ جوارحه «1» من المحارم. ثلاث خصال ثلاثة تضر بأربابها: الإفراط في الأكل اتكالا على الصحة، والتفريط في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 745 العمل اتكالا على القدر، وتكلف ما لا يطاق اتكالا على القوة. ثلاثة من لم تكن فيه لم يجد طعم الإيمان: حلم يردّ به جهل الجاهل، وورع يحجزه «1» عن المحارم، وخلق يداري به الناس. ثلاثة من كنّ فيه استكمل الإيمان: من إذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق، وما إذا رضي لم يخرجه رضاه إلى الظلم، ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له. ثلاثة هنّ للكافر مثلهن للمسلّم: من استشارك فأنصحه، ومن ائتمنك على أمانة فأدّها إليه، ومن كان بينك وبينه رحم فصلها. وقال إبليس: إذا ظفرت من ابن آدم بثلاثة لم أطالبه بغيرها: إذا أعجب بنفسه واستكثر عمله وتمنى على بليّة. ثلاثة لا يمنّ بها أحد فيسلّم: صحبة السلطان، وإفشاء السرّ إلى النساء وشرب السم للتجربة. ثلاثة تزيد في الانس بين الإخوان: الزيارة في الرجال والحديث على المائدة ومعرفة الأهل والحشم. أربع خصال قال صلّى الله عليه وسلّم أربع من الشقاء: جمود العين، وقساوة القلب، والإصرار على الذنب، والحرص على الدنيا. وقال أمير المؤمنين: من استطاع أن يمنع نفسه أربع خصال فهو خليق بأن لا ينزل به من المكروه ما ينزل بغيره: اللجاجة والعجلة والعجب والتواني. فثمرة اللجاجة الحيرة، وثمرة العجلة الندامة، وثمرة العجب البغضة، وثمرة التواني الذلّة. كليلة أربع خصال من حسن النظر: الرضا بالزوجة الصالحة، وغضّ البصر، والإقدام على الأمر بمشاورة، وكظم الغيظ «2» . أربع خصال إذا أفرط فيهن المرء استهوته: النساء والصيد والقمار والخمر. أربع خصال يمتن القلب: الذنب على الذنب، وملاحاة الأحمق، وكثرة مصاقبة النساء والجلوس مع الموتى. قيل: ومن الموتى؟ قال: كل عبد مترف وكل من لا يعلم فهو متى. أربعة تجرئ على الذنوب: الحرص والتواني والرغبة في الدنيا والاستخفاف بالذنوب. أربع القليل منها كثير: الوجع والنار والدين والعداوة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 746 أربعة يختبرون عند اللقاء: الشجاع، والأمين بالأخذ والإعطاء، والأهل والولد عند الفاقة، والإخوان عند النوائب. خمس خصال أمير المؤمنين خمس خصال يذهبن ضياعا: سراج في الشمس، ومطر في سبخة، وامرأة حسناء زفت إلى عنّين «1» وطعام اجتهد صاحبه فيه فقدم إلى شبعان أو إلى سكران. ومعروف صنعته إلى من لا يشكرك عليه. قال أزدشير «2» : أوصيكم بخمسة فيهن راحة أبدانكم ودوام سروركم وصلاح أموركم: الرضا بالقسم والقمع «3» لفاحش الحرص والتنزه من الحسد والتعزّي عند مضنون به أدبر ومرجوّ فات وترك السعي فيما لا يوافق نجحه وتمامه. فإن من لم يرض بما قسم له طالت معتبته. ومن فحش حرصه ذلّت نفسه ومن أتى إلى المنافسة والحسد لمن فوقه لم يزل مغموما ومن أطال أساه على ما أدبر عنه لم يزل مهموما فيما لا منفعة فيه. ومن شغل نفسه بتمنّي الأشياء لم يخل قلبه من الأحزان وحمل على نفسه عبأ ثقيلا ليس للراحة فيه غاية. ومن سعى فيما لا تمام له كانت عاقبته الحسرة والندامة. قال ابن المقفع: المشتطون «4» في خمسة متندمون: المفرط إذا فاته العمل، والمنقطع عن إخوانه إذا نابته النوائب، والمستمكن من عدوه ثم يفوته لسوء تدبيره، والمفارق للزوجة الصالحة إذا ابتلي بالطالحة، والجريء على الذنوب إذا حضره الموت. خمسة أقبح شيء فيمن كن فيه: الفسق في الشيخ، والحدّة في السلطان والكذب في ذي الحسب، والبخل في ذي الغنى، والحرص في العالم. خمسة المال أحب إليهم من أنفسهم: المقاتل بالأجرة، وحفار القنى والآبار، والتاجر في البحر، والرقاء «5» يتعرّض للسع الحية للطمع، والمخاطر على شرب السم. ستّ خصال قال معاوية: ستة أشياء تعرف في الجاهل: الغضب من غير شيء، والكلام من غير نفع، والعطية في غير موضعها، وإفشاء السر، والثقة بكل أحد، وقلّة معرفة الصديق من البدو. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 747 ستّة من مات منها فهو قاتل نفسه: من أكل طعاما قد أكله مرارا فلم يوافقه، ومن أكل فوق ما تطيقه معدته، ومن أكل قبل أن يستمرئ «1» ما قد أكل، ومن رأى بعض أخلاط جسده قد همّ بهيجان ورأى دلائل ذلك فلم يستدركها بالأدوية الممكنة، ومن أطال حبس الحاجة إذا هاجت به، ومن أقام بالمكان الموحش وحده. ستة أشياء لا ثبات لها: ظلّ الغمامة، وخلة الأشرار، وعشق النساء الثناء الكاذب، والمال الكثير، والسلطان الجائر. لا يوجد العجول محمودا، ولا الغضوب مسرورا، ولا الحرّ حريصا، ولا الكريم حسودا، ولا ذو الشره غنيا، ولا الملول ذا إخوان. لا خير في القول إلا مع الفعل، ولا في المنظر إلا مع المخبر، ولا في المال إلا مع الجود، ولا في الصدق إلا مع الوفاء، ولا في العفة إلا مع الورع، ولا في الحياة إلا مع الصحة والأمن والسرور. لا فقر كالحرص، ولا بلاء كالشره، ولا غنى كالقناعة، ولا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق. قال ابن المقفع: العجب آفة العمل، واللجاجة قعود الهوى، والحمية سيف الجهل، والبخل لقاح الحرص، والمراء لقاح الشنآن «2» ، والمنافسة أخو العداوة. سبع خصال المرأة بزوجها، والولد بوالده، والمتأدب بمؤدبه، والجند بقائده، والناسك بالدين، والعامة بالملوك، والملوك بالتقوى، والعقل بالتثبّت. سبعة يهزأ منهم: مدّعي الشجاعة، وشدّة النكاية في الأعداء وبدنه سليم لا أثر فيه، ومنتحل الزهد والاجتهاد وهو غليظ الرقبة، والمرأة الخليّة تعيب ذات زوج، والعالم يناظر الجاهل ويماريه، والمفضي بسرّه من لا يجرّب، والمودع ماله من لم يختبره، والمحكّم بينه وبين خصمه من لا يعرفه. سبعة يكثرون السخط: الملك المترف، والشيخ القلق، والسفيه، والأديب العديم الحلم، والباذل نصيحته للأخرق، والمكلف العمل بغير رفق. ثمان خصال ثمانية أن أهينوا فلا يلوموا إلا أنفسهم: الجالس على مائدة لم يدع إليها، والمتأمر على ربّ البيت، وطالب النصر من أعدائه، وطالب الفضل من اللئام، والداخل بين إثنين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 748 من غير أن يدخلاه، والمستخفّ بالسلطان، والجالس مجلسا ليس له بأهل، والمقبل بحديثه على من لم يسمع منه. الأدب خير ميراث وحسن الخلق خير قرين، والتوفيق خير قائد، والاجتهاد أربح بضاعة، ولا مال أعود من العقل، ولا مصيبة أعظم من الجهل ولا ظهير «1» أوثق من المشورة، ولا وحدة أوحش من العجب. تسع خصال تسعة لا ينامون: مدنف «2» لا طبيب له، والكثير المال يخاف على ماله، والهامّ بدم يسفكه، ومتمنّى الشر للناس العامل في غشهم، والمحارب يخاف البيات، والغارم لا مال عنده، والعاشق لا ينال بغيته، والمطلع على السوء من أهله، والمغصوب ماله. عشر خصال عشرة يمتحنون عند أعمالهم: المقاتل عند الحرب، والقنع عند الحاجة، وذو التؤدة عند الغضب، والتاجر عند المبايعة، والصديق عند الشدائد، والعالم عند العلم والناسك عند الصبر على العبادة، والجواد عند العطاء، والأمين عند الوديعة. عشرة تقبح في عشرة أصناف: ضيق الذرع «3» في الملوك، والغدر في الأشراف، والكذب في القضاة، والخديعة في العلماء، والغضب في الإبرار، والحرص في الأغنياء، والسفه في الشيوخ والمرض في الأطباء، والتهزؤ في الفقراء، والفخر في القراء. (3) حكايات دالة على رقاعة قائلها زعموا أن الصخور كانت ليّنة وأن كلّ شيء يعرف وينطق وإن الأشجار والنخيل لم يكن عليها شوك. قال: قد كان ذا كم زمن القحل ... والصخر مبتلّ كطين الوحل وقيل: إن الشوك اعتراها في صبيحة اليوم الذي ظهرت فيه العتاة «4» . رأى أحمق ثورا فقال: ما أحسنه من بغل، لولا أن حافره مشقوق. قال حكيم لعليل: كل الثلج فقال وأرمي بثفله. حكى ابن مرداس عن بعض الثناة أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 749 مطرا أجرف سنبله، وبرقت برقة فقال: ما أحسن ما عملت أسرجت له حتى لا تفوته حبّة. وكان كوشيد دخل بيته فنطح باب داره فغضب، وحلف لا يدعه في داره واتخذ بابا آخر إلى شارع آخر، فاجتمع أهل المحلة يسألونه أن يرضى عن بابه وتشفعوا عنده فرضي، وسألوه أن يعمل لهم دعوة لصلح الباب ففعل ودعاهم. ودخل بعض الكبار الحمام فسرق ثوبه فقال له الحمّامي: لعلك جئت بلا ثوب. وكان بأصبهان رجل يعرف بميمة بن بطل حمل لبدا إلى السوق ليبيعه، فسيم بثمن بخس، فقال: إذا كان كذلك أنا أحق به ودفع ثمنه إلى الدّلال وحمله إلى داره. نظر حمصيّ إلى منارة فقال لصاحبه: ما أطول قامة الذين بنوا هذه، فقال يا أحمق إنما بنوها على الأرض ثم أقاموها. أتى نصراني عبد الله بن الهيثم فقال: أريد أن أسلم على يديك فقال: يا ابن الزانية تريد أن توقع بيني وبين عيسى بن مريم. نظر رجل في جبّ «1» فرأى شخصه فدعا أمه وقال: إن في البئر لصا فنظرت فرأت شخصها فقالت: ومعه قحبة. ماتت امرأة حائك بشيراز فحرق سراويله، فقال له في ذلك، فقال: المصيبة ما نالت إلا هذه الناحية. وقيل لمزبد: موسى لطم عين ملك الموت فاعورّ، فقال: دعوه فإنّ طريق الأصلع على أصحاب القلانس. قيل لأبي العبّاس بن الأصبهي لم لا تصلي؟ فقال: السورة القصيرة أستحي أن أقرأها، والطويلة لا أحفظها. قال بعضهم: رأيت شيخا بحمص الإمام يخطب، وهو يشكر الله تعالى. فسألته عن حاله فقال: صعد المنبر هذا تسعة كلهم زمروا بأيري أليس ذا نعمة؟. لما مات العطوي ازدحم الناس إلى جنازته وكان له ابن معتوه فتنحى جانبا، وقال: كلوه بسم الله بخلّ وخردل. (4) حكايات عن البهائم روي أن أرنبا وثعلبا تحاكما إلى الضبّ فقالا جئناك لتحكم بيننا يا أبا الحسل. قال: في بيته يؤتي الحكم. فقال الأرنب: إني جنيت ثمرة. فقال: حلوا جنيت. فقال: إن هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 750 أخذها منّي. فقال لنفسه بغى الخير، فقال: وإني لطمته. فقال: البادئ أظلم. فقال: فلطمني. قال: كريم أنتظر فقال أحكم بيننا. فقال: حدث حديثين امرأة فإن لم تفهم فأربعا يعني وفي طريقته في الحكم. وحكى أن عدي بن أرطأة بن إياس بن معاوية، قاضي البصرة جلس في مجلس حكمه وعدي أمير، وكان أعرابي الطبع. فقال له: يا هناة أين أنت؟ قال: بينك وبين الحائط. قال: فاسمع منّي، قال: للاستماع جلست. قال: إني تزوجت امرأة قال: بالرفاء والبنين، فقال: وشرطت لأهلها أن لا أخرجها من بينهم، فقال الشرط أملك أوف لهم به. قال: وأنا أريد الخروج. قال: في حفظ الله. قال فاقض بيننا قال: قد فعلت. وقيل: إن الثعلب نظر إلى عنقود فلم ينله فقال إنه حامض: أيها العائب سلمى ... أنت منها كثعاله رام عنقودا فلمّا ... أبصرا العنقود طاله قال في هذا حامض ... لمّا رأى أن لا يناله روى أن ضبعا صادت ثعلبا فقال لها: منّي عليّ أم عامر، قالت: اختر خصلتين إما أن آكلك أو أخصيك. فقال لها: تذكرين يوم نحكتك قالت: لا. فانفتح فوها فأفلت الثعلب فضربت العرب المثل: قالت: عرض على خصلتي الضبع. وزعموا أن الفيل والحمار تجمّعا في مرعى فطرد الفيل الحمار، فقال: لم تطردني وبيننا رحم؟ قال: وما هي؟ قال: إن في غرمولى شبها من خرطومك، فقبل منه. بلع ذئب عظما وبذل لكركي أجرة على أن يخرج العظم من حلقه، فأدخل الكركي رأسه فأخرج العظم ثم قال للذئب: هات الأجرة فقال: أنت لم ترض أن أدخلت رأسك في فم الذئب ثم أخرجته سالما حتى تطلب الأجرة أيضا. وقيل للحمار: لم لا تجتر؟ قال: أكره مضغ الباطل. وهذا كمثل الأعرابي لما أرمي إليه علك فقال: تعب الحنجرة وخيبة المعدة. لقي كلب أصبهاني كلبا رازيا بالريّ فقال له: ما أطيب أصبهان إني أرى الخبّازين يرمون بالرغفان على قارعة الطريق. فقال الكلب الرازي: لا أعمل خيرا من الخروج إلى أصبهان. فلما خرج أوّل ما لقي دكان خبّاز من الطريق الذي يشرع «1» إليّ دولكاباذ فجاز «2» بها، وأخذ الخباز يطرح الخبز على الوجه والكلب أخذ يأكل. فنظره الخبّاز فأحمى السفود «3» ومدّه إلى خرطومه وتناول سبخة يرميه بها، فقال الكلب: عليّ هذا السعر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 751 تصاحب ثعلبان فلقيا أسدا فقال أحدهما للآخر: ما الحيلة؟ فقال: عليّ الحيلة. فقال الأسد: ما الخبر؟ فقالا: إنا ورثنا أغناما من أبينا ونريد أن نقسمها بيننا. قال: أين هي؟ قالا: قريب. فتبعهما حتّى أتيا إلى مجرى ماء يخرج من بستان، فقال أحدهما للآخر: أدخل فأخرج الأغنام. فدخل فأبطأ فقال أخوه: أنظر إلى بطنه حتى أدخل أخرجه من الغنم. فدخل وجلس الأسد ينتظر فصعدا إلى السطح فقالا: اذهب فقد اصطلحنا. فغضب الأسد وزأر فقالا: لا تكن باردا فما رأينا من يغضب من صلح الخصمين غيرك. اشتكى الأسد فعاده السباع كلها إلا الثعلب. فقال الذئب: أنظر إلى الثعلب كيف استخف بك؟ فلم يأتك. وتطاير الخبر إلى الثعلب فأتاه، فقال له الأسد: يا ابن الفاعلة تأخرت عن الخدمة. فقال: إني مذ بلغني مرضك كنت في طلب دواء لك حتّى وجدته. قال: وما هو؟ قال: لا يصلح إلا مرارة الذئب فقال وأنّى لي بذلك؟ فقال أنا آتيك به، فإذا أتاك فاقتله وتنال مرارته. فأتاه به فقفز إليه الأسد فأفلت وعدا بدمه فتبعه الثعلب. فقال: يا صاحب السراويل الأحمر، إذا جلست عند الملوك فاعقل كيف تتكلم؟ وقيل للثعلب: أتحمل كتابا إلى الكلب وتأخذ مائة دينار؟ فقال: أما الكراء «1» فواف، ولكن الخطر عظيم. ووقع ثعلبان في شرك صياد فقال: أحدهما للآخر: أين نلتقي يا أخي؟ فقال: في الفرّايين بعد ثلاث. ودخل كلب مسجدا فبال في المحراب، وكان هناك قرد، فقال له: أما تستحي تبول في المحراب؟ فقال: ما أحسن ما صوّرك حتى تتعصب له. وزعموا أن أسدا وذئبا وثعلبا اشتركوا فيما يصيدون فاصطادوا حمارا وظبيبا وأرنبا. فقال: الأسد للذئب: اقسم بيننا واعدل. فقال: أما الحمار فلك، وأما الظبي فلي، وأما الأرنب فللثعلب فغضب الأسد وضربه ضربة أندر «2» رأسه، فوضعه بين يديه. ثم قال للثعلب: أقسم بيننا وأعدل. فلما رأى الثعلب ما صنع بالذئب خشي أن يصيبه مثله، فقال: أما الحمار فلك تتغذى به، وأما الأرنب فخلالا تتخلل به فيما بينك وبين الليل، وأما الظبي فلك تتعشى به. فقال له الأسد: ويحك يا ثعلب ما ينبغي لك إلا أن تكون قاضيا من علّمك هذا القضاء؟ قال: الرأس الذي بين يديك. نظر سقراط إلى شوك في الماء وعليه حيّة، فقال: ما أشبه الملاح بالسفينة. وزعموا أن البازي قال للديك: ما أرى في الأرض أقل وفاء منك قال: وكيف؟ قال: أخذك أهلك بيضة فحضنوك ثم خرجت على أيديهم وأطعموك في أكفهم، ونشأت بينهم حتى إذا كبرت صرت لا يدنو منك أحد إلا طرت ههنا وههنا، وصحت وصوّت «3» وأخذت أنا من الجبال فعلّموني وألفوني ثم يخلّى عنّي فآخذ صيدي في الهواء فأجيء به إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 752 صاحبي. فقال له الديك: إنك لو رأيت من البزاة في سفافيدهم مثل الذي رأيت أنا من الديوك كنت أنفر مني؟ وفي أمثال الهند أن ثعلبا قيض على أرنب فقال له الأرنب: والله ما هذا لقوتك ولكن لضعفي. وقف جدي على سطح فمرّ به ذئب فأخذ الجدي يشتمه فقال: لست تشتمني إنما يشتمني المكان الذي تحصنت به. كانت أفعى نائمة فوق حزمة شوك فحملها السيل، فقال ذئب لا تصلح هذه السفينة إلا لهذا الملاح. أراد ثعلب أن يصعد على حائط فتعلق بعوسجة فعقرت يده فأخذ يلومها فقالت: يا هذا قد أخطأت حين تعلقت بي ومن عادتي أن أتعلق بكل شيء. وقف كلب على قصّاب فأخذ يكثر النبح فقال له: إن ذهبت، وإلا ضربت رأسك بهذه القطعة من اللحم، وتشاغل عنه «1» فوقف الكلب ينتظر ثم قال: تضرب رأسي بشيء ولا أمر. دخلت فأرة الحمام فلما خرجت رأت سنورا فقال لها طاب حمامّك فقالت: لو لم أرك يا ابن البظراء. وقيل: إن جملا وحمارا توحشّا فوجدا مرعى خاليا يرتعان فيه، فقال الحمار يوما وقد بطرا: إني أريد أن أغنّي. فقال الجمل: اتق الله فينا فإني أخشى أن ينذر بنا فنؤخذ، قال: لا بد ثم نهق فسمعته قافلة مارة فأخذوهما. فأبى الحمار أن يمشي فحمل على الجمل، فمرّوا به في عقبه. فقال الجمل: إني طربت لغناك المتقدّم وأريد أن أرقص رقصة. فقال الحمار اتق الله إني أسقط فلا تفعل فرقص فأسقط الحمار فوقصه «2» . قال وهب: قال النمر اللهم إن جلدي الذي خلق على أثر من تزين به بقدر أن يترك عليه. بعث ابن هبيرة إلى المنصور في الحرب: بارزني فامتنع فقال: لأسبقن امتناعك ولأعيرنك «3» به. فقال: مثلنا في ذلك مثل خنزير قال الأسد: قاتلني، فقال: لست بكفؤي ومتى قتلتك لم يكن لي عزّ بقتل خنزير. فقال الخنزير لأخبرن السباع بنكولك «4» فقال: احتمال تعيرك أهون من التلطخ بدمك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 753 (5) أمثال من أبواب مختلفة ما قرع عصا عصا إلا سرّ قوما وساء آخرين نعم كلب في بؤس أهله. مصائب قوم عند قوم فوائد. قوس ولا وتر وسهم ولا قد، وعين ولا نظر ونحل ولا عسل ... متى تقل تقل. الضبع تأكل ولا تدري ما قدر استها ما شم حمارك أي ما غيرك. (6) من أمثال العوام عصفور مهزول على خوانك خير من كركي على خوان غيرك. الحبّ لغيري ونقل الحشيش عليّ. لا تسبّ أمي اللئيمة فأسب أمك الكريمة. إن لم يجيء معك فاذهب معه. تمرة وزنبور. كل ما بكر شرّ. لا تأكل خبزك على خوان غيرك. أنا أجره إلى المحراب وهو يجرني إلى الخراب. باع كرمه واشترى معصرة. أعتق من الحمأة أقدم من الحنطة. أحمق من الجمل الذي يضرب إسته ويصيح رأسه. إذا لم تجده لم تجلده. طريق الأقرع على أصحاب القلانس. حيث تقطع يخرج الدم. ذهب الحمار يطلب قرنين فرجع بلا أذنين. كأنه بلع عيرا فبقي ذنبه خارجا. من لا يثق بإسته لا يشرب الإهليلج. ضرطت فلطمت عين زوجها. من يظفر من وتد إلى وتد يدخل أحدهما في إسته. من أكل على مائدتين احتتف. المنخل جديد سبعة أيام من كان له دهن دهن إسته. من لم يقاوم الحمار تعلق بالأكاف. كل ما في القدر تخرجه المغرفة. من كان دليله البوم كأن مأواه الخراب. من كان طبّاخه الجعران ما عسى أن تكون الألوان. الخصيّ ابن مائة سنة وإسته ابنة ستين. إذا بطر الحائك اشترى بخبزه رمانا. قامت البنت تعلم الأم النيك. من استحى من ابنة عمه لم يولد له منها. لا يشعر الشبعان ما يقاسيه الجائع. ماش خير من لاش. إذا كان بولك صحيحا فأرم به وجه الطبيب. البحر ملآن والكلب يلحس بلسانه. من عبد الله في خلق الله شيء لا يشبه صاحبه فهو سرقة. ليس كل من سود بيته يقول أنا حداد. ولا كل من دمعت عيناه يقول أنا طباخ. أحوج ما تكون إلى اليهودي يقول اليوم السبت. تذاكر عاميان الأطعمة، فقال أحدهما: السمك أحب إليّ من اللحم فقال الآخر شجّة «1» يشجّني القصاب خير من قبلة يقبلني السمّاك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 754 (7) ولهم أمثال بإزاء أمثال يقولون المولى يرضى والعبد يشق إسته بإزاء السيد يعطي والعبد يألم. لا يعرف مفساه من محساه، بإزاء لا يعرف قبيلا من دبير. لا في حرها ولا في إستها، بإزاء لا في العير ولا في النفير «1» . بالكلمة اللينة تخرج الحيّة من جحرها بإزاء لطف الكلام يخدع الكرام. هو يضرط من إست واسع، بإزاء هو يغرف من بحر. قدم خيرك ثم أيرك بإزاء قدّم خيرا تجده. الساجور «2» خير من الكلب بإزاء الجل خير من الفرس. تبخرنا ففسونا فلا لنا ولا علينا بإزاء ما ربحنا ولا خسرنا. ومما يضادّه لا تفعل الخير لا يصيبك الشر، بإزاء الفعل الخير ودعه. لا يكون بعد الظمأ إلا موت مريح، بإزاء غمرات «3» ثم ينجلين. النسيئة «4» نسيان والتقاضي هذيان، بإزاء القرض فرض. الجماعة مجاعة بإزاء طعام الإثنين يكفي الأربعة. ويد الله مع الجماعة. ما كره من الكلام قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا يقل أحدكم خبثت نفسي، ولكن ليقل قست وكأنه كره أن ينسب الخبث إلى نفسه. وقال أيضا: لا يقولنّ المملوك ربّي وربّتي ولكن سيدي وسيدتي. وقال أيضا: لا تسبّوا الدهر فإن الله هو الدهر. قال عبد الرحمن بن مهدي عنى قولهم وما يهلكنا إلا الدهر. ونهى صلّى الله عليه وسلّم أن يقال قوس قزح، وقال قولوا قوس الله فإن قزح شيطان. كانوا ينسبون إليه هذا المتلون أيام الربيع عن ابن عمر ومجاهد أنهما كرها أن يقال استأثر الله بفلان بل يقال مات. وكرهوا أن يقول قراءة فلان وسنة أبي بكر وعمر، وكره مجاهد مسيجد ومصيحف. وقال عمر رضي الله عنه: لا يقول أحدكم أهريق ماء ولكن ليقل أبول. وسأل عمر رجلا شيئا فقال: الله أعلم. فقال عمر قد خزينا إن كنا لا نعلم أن الله أعلم. إذا سئل أحدكم عن شيء إذا كان لا يعلمه قال: لا علم لي بذلك. وسمع عمر رضي الله عنه رجلا يقول اجعلني من الأقلين. فقال: عليك من الدعاء بما يعرف وكره عمر بن عبد العزيز قول الرجل: ضعه في إبطك. فقال: هل قلّت تحت يدك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 755 قال الحجّاج لأم عبد الرحمن بن الأشعث عمدت إلى مال الله فجعتله تحت ذيلك، فقال الغلام فوضعته تحت إستك فزجره تفاديا من القذع «1» والرفق. وقال مسعود لا تسموا العنب كرما فإن الكرم هو الرجل المسلم. سمع الحسن رجلا يقول: طلع سهيل فبرد الليل، فقال: إن سهيلا لم يأت ببرد. وقال ابن عباس لا تقولوا والذي خاتمه على فهمي إنما يختم الله على فم الكافر، وكره أن يقال انصرفوا عن الصلاة وقال قولوا قد قضوا الصلاة. وكره مجاهد أن يقال دخل رمضان وقال: قولوا دخل شهر رمضان وكره أن يقال ضرّة بل يقال جارة، ويقول لا تذهب من رزقها بشيء. (8) حكايات متفرقة من أبواب مختلفة قال أعرابي لرجل: أكتب لابني تعويذا قال: ما اسمه؟ قال: فلان قال وأمه قال ولم عدت عن اسمي قال لأن الأم لا يشكّ فيها. قال اكتب فإن كان ابني فعافاه الله وإن لم يكن فلا شفاه الله. من هانت عليه نفسه فلا تأمن شره. قيل للحسن بن سهل ما بال كلام الأوائل حجة؟ قال: لأنه مر على الاسماع قبلنا فلو كان ذيلا لما تأدّى «2» إلينا مستحسنا. قال بعضهم: ما رأيت أعق «3» من أربعة أشياء: الدينار إذا كسر، والذراع إذا عقر والطومار «4» إذ نشر، والثوب إذا قصّ. عاد عروة بن الزبير إلى الشام إسماعيل بن بشار فقال عروة لغلامه: أنظر كيف ترى المحمل؟ قال: معتدلا. فقال إسماعيل: الله أكبر ما أعدل الحق والباطل قبل الليلة، فضحك عروة. لما دخل الشعبي على عبد الملك قال: أنا الشعبي فتبسّم عبد الملك وقال أما علمت أنه لا يدخل علينا لا من نعرفه فرأى الأخطل وهو يقول أنا أشعر الناس فقال: من هذا؟ فقال: أما علمت أن الملوك لا يسألون فاعتذر وقال أنا سوقة ولا أعرف مثل هذا. ومن يوثق لي؟ فقال: أمير المؤمنين فقال عبد الملك: إذا صرت كفيلا فمن الحاكم؟ كان تميم الداري خطب أسماء بنت أبي بكر في جاهليته فماكس «5» في المهر فلم يزوّج. فلما جاء الإسلام جاء بعطر ليبيعه فساومته أسماء فماكسها فقالت له: طال ما ضرّك مكاسك فاستحى منها لما عرفها وسامحها في البيع. كانت بنت سعيد بن العاص عند الوليد بن عبد الملك فلما مات عبد الملك لم تبكه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 756 فقال لها الوليد: ما يمنعك من البكاء على أمير المؤمنين ولا مصيبة أجل من فقده فقالت: ما أقول أستزيد الله في سلطانه حتى يقتل لي أخا آخر. فقال: أي والله لقد كسرنا ثناياه وقتلناه. قالت: لقد علمت من شقت إسته بالملمول. قال: ألحقي بأهلك ألذ من الرفاء والبنين. وقف يزيد بن عبد الملك على حائك وإلى جانبه فرس رائع مربوط فجعل يتعجب منه فقال: ما رأيت كاليوم فرسا كأنه بغلة فأعجب يزيد به، فقال وأريك ما هو أعجب وأخرج سيفا كأنه بقلة فساومه يزيد فيه بأربعة آلاف دينار فأبى وقال أريك، أعجب من ذلك ثم رفع سترا فبدت جارية كفلقة قمر، فقال: هل لك أن تنزل عنها بألف دينار فأبى وقال: ولم أريتنيها قال لتعلم أن الله له نعم على أقنا الناس. وقال بعض الأنصار: من أدمن إتيان المساجد رأى فيها ثماني خصال: أخا مستفادا وعلما مستظرفا وآية محكمة، ورحمة منتظرة، وكلمة تدل على هدى، وأخرى تردّ عن ردى، وترك الذنوب حياء أو خشية. شكا أهل الكوفة سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فردّه مع محمد بن سلمة الأنصاري وأمره أن يطوف في مساجدهم يسألهم عن سيرته فجعلوا يقولون: خيرا، حتى أتى مسجد بني عبس فقام أسامة بن زيد العبسي فقال: كنت والله لا تعدل في القضية ولا تعزو في السيرة، ولا تقسم بالسويّة فقال: اللهم إن كان كاذبا فأطل عمره وأدم فقره ولا تنجيه من معاريض الفتن فرؤي شيخا كبيرا يمشي على محجن «1» فيقول شيخ أعمى أدركته دعوة العبد الصالح. دخل بعض الشعراء على أمير فأنشده: إن الأمير يكاد من كرم ... أن لا يكون لأمّه بظر فقال أعطوه شيئا لئلا يهذي، وأحب أن لا يعود يمدحنا. ودفع رجل إلى خياط ثوبا ليخيطه فقال لأخيطنه لا تدري أقباء أم قميص؟ فقال لأمدحنك ببيت لا تدري إهجاء أم مديح وكان الخياط أعور فقال فيه: خاط لي عمرو قبا ... ليت عينيه سوا ولما أنشد النابغة النعمان قوله: تخفّ الأرض ما بنت عنها ... وتبقى ما بقيت بها ثقيلا «2» غضب وقال: لا أدري أهجوتني أم مدحتني؟ فقال: حللت بمستقر العزّ منها ... وتمنع جانبيها أن تزولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 757 فرضي كل موضع اعتدت فيه السلامة فلا تزايله. وقال المأمون يوما لمن عنده أنشدوني بيتا يدل على أنه لملك فأنشد قول امرئ القيس: أمن أجل إعرابية حلّ أهلها ... جنوب الملا عيناك تبتدران فقال: ما هذا مما يدل على ملكه، قد يكون لسوقة إنما ذلك قول يزيد بن عبد الملك: إسقني من سلاف ريق سليمى ... واسق هذا النديم كأس عقار «1» فأشارته إلى هذا النديم دلالة على أنه ملك، وقوله: ولي المحض من ودّهم ... ويغمزهم نائلي «2» سئل بعضهم عن بلد، فقال: به البقّ والحمّى وأسد حففنه ... وعمرو بن هند يعتدي ويجور (9) مفردات من الأبيات البديعة قال طرفة: أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشرّ أهون من بعض «3» وقال النابغة: ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث أيّ الرجال المهذّب «4» ؟ وقال آخر: لعمرك ما شيء مرنت بذكره ... كآخر يأتي بغتة فيروع «5» وقال آخر: يمونني الأجر العظيم وليتني ... نجوت كفافا لا عليّ ولا ليا «6» وقال أبو نواس: ولما قرعنا بابه قام خائفا ... وبادر نحو الباب ممتلئا ذعرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 758 وقال أبو تمّام: كالبكر توحشها مضاجع بعلها ... والحيض علتها وليس بحائض «1» وقال الخبزارزي: كن في الجماعات حيث كانوا ... فالموت عرس مع الجميع وله: مالي أحوط حول دجلة حائطا ... لولا اعتراض حماقتي وفضولي ما أهون الموت على النوائح وقال إسماعيل: صاح أبصرت أو سمعت براع ... ردّ في الضرع ما قرى في الحلاب وقال آخر: وأترك الشيء أهواه فيعجبني ... أخشى عواقب ما فيه من العار وقال آخر: فلو أنّ لي تسعين قلبا تشاغلت ... جميعا فلم يفزع إلى غيرها قلب وقال آخر: دلّا على حيلة فيها لنا فرج ... إن الدليل على خير كمن فعلا وقال آخر: ولي ظنّان بينهما رجاء ... يكذّب سوء ظنّي حسن ظنّي وقال هارون المعتصم: إذا ما خانني يوما جوادي ... جعلت الأرض لي فرسا وثيقا «2» وقال آخر: وأسرع نسياني الذي لا يهمّني ... ونسياني الشيء المهمّ قليل وقال آخر: أنت والله حمار ... قاعد بين حمير وقال آخر: هوّن الأمر تكن في راحة ... قلّما هوّنت أمرا لا يهون «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 759 وقال المتنبّي: لله حال أرجّيها وتخلفني ... وأرتجي كونها دهري وتمطلني وقال محمد بن يحيى: قتلت أعزّ من ركب المطايا ... وجئتك استلينك في الكلام يعزّ عليّ أن ألقاك إلا ... وفيما بيننا حدّ الحسام ولكنّ الجناح إذا أصيبت ... قوادمه أسفّ على الآكام وقال الطاهر: ولم أرد بدبّة قبله ... يدقّ على بابه دبدبه وقال أبو القاسم التنوخي: تخيّر إذا ما كنت في الأمر مرسلا ... فمبلغ آراء الرّجال رسولها وقال آخر: إذا تخازرت وما بي من خزر ... ثم كسرت العين من غير عور «1» وجدتني ألوي بعيد المستمر ... أحمل ما حملت من خير وشرّ وقال أبو القاسم الأعمى: إن الجديد إذا ما زيد في خلق ... تبيّن النّاس أن الثّوب مرقوع وقال ابن طباطبا: آمن سربله الاش ... فاق سربال المروغ وقال الخبزارزي: أحبّ فمن ذا الذي كلفه ... وملّ فمن ذا الذي أستعطفه فلا أحد في الرّضى سرّه ... ولا أحد في القلى عنّفه وكنّا كما قد علمت ... فماذا التعدّي وماذا السّفه وفي النّاس من يتجنّى الذنوب ... وإذا قد تجاوز حدّ الصفه وما كلّ من كان ذا قوّة ... يناوي الضعيف إذا استضعفه «2» ويزعمني صدفا خاليا ... من الدرّ في مثل ما صرفه ولو شئت عرفته من أنا ... وإن كان بي جيّد المعرفه وفرعون يعرف من ربّه ... ولكنّ طغيانه سوّفه وسل من تعرض لي بالهجا ... وعن عرضه أين قد خلفه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 760 وقال ابن الرومي: وامتناع النفس مما تشتهي ... خشية الإنفاق نقص في النسب والبحتري: أضيع في معشري وكم بلد ... يعدّ عود البكاء من حطبه وقال جحظة: إذا الشهر هلّ ولا رزق لي ... فعدى أيامه باطل وقال المتنبّي: توهّم القوم إن العجز قربنا ... وفي التقرّب ما يدعو إلى التهم وقال ابن الرومي: توقّي الداء خير من تصدّ ... لأيسره وإن قرب الطبيب «1» وقال آخر: خرجنا لم نصد شيئا ... وما كان لنا أفلت وقال المتنبّي: خذوا ما أتاكم به واعذروا ... فإنّ الغنيمة في العاجل «2» وله: ذكر الفتى عمره الآتي وحاجته ... ما فاته من فضول العيش أشغال وقال ابن طباطبا: طمعت يا أحمق في قمرها ... لو أمكن القمر قمرناها «3» وقال أبو حكمية في حرب محمد والمأمون: تجافت بي الأحزان عن كل مرقد ... وأرمضني ما فيه أمة أحمد وما ضرّ قوما يسفكون دماءهم ... صفا الملك للمأمون أو لمحمّد وقد نصبوا حربا تحرق بينهم ... لكلّ رقيق الشفرتين مهنّد وقال الخبزارزي: فمن شغل قلبي بما نلته ... ذهلت به عن جميع الأمور وقال آخر: كأن من بشاشتنا ظللنا ... بيوم ليس من هذا الزّمان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 761 وقال الخبزارزي: ليس للثعلب حظّ ... في غزال عند ذئب وقال المتوكل: لا أعدم الذمّ حين أخطي ... وليس لي في الصّواب حمد وقال ابن الرومي: وليس حصول فائدة حصولا ... إذا ما أخطأ الغرض الحصول وقال الصنوبريّ: وتجشّم المكروه ليس بضائر ... ما خلته سببا إلى المحبوب «1» وقال الموسوي: وسرّ الفتى حمل النّجاد وربّما ... رأى حتفه في صفحتي ما تقلّدا «2» وقال البحتري: والشيء تمنعه تكون بفوته ... أحرى من الشيء الذي تعطاه «3» ونحوه: إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع وقال آخر: تعلمت فعل الدهر حتّى سبقته ... فأنساني التلميذ فعل المعلّم وقال آخر: وأراك تشكو الدهر تظلمه ... كلّ امرئ عاشرته دهر وقال ابن نباتة: فهو كالشّمس بعدها يملا البد ... ر وفي قربها محاق الهلال «4» وقال أبو تمام: قد كنت كالسائل الأيام مجتهدا ... عن ليلة القدر في شعبان أو رجب وقال آخر: ومن راح ذا حرص وجبن فإنّه ... فقير أتاه الفقر من كلّ جانب قال قدامة: أصح الأقسام في الشعر قول زهير: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 762 (10) أبيات منقولة من الفارسية قال بعضهم: ترى الديك فوق السطح في كلّ ساعة ... وتنكر إن كان الحمار على السطح وقال محمد الأموي: إذا ما كنت في طرفي كساء ... ولم يكن الكساء يعم كلّك فلا تتبسطنّ فيه ولكن ... على قدر الكباء فمدّ رجلك «1» وقال: وما ليس يشبه أربابه ... فلا شكّ في أنّه من سرق وقال: وحقّ لمن قد صحّ تمييز عقله ... إذا ما رأى الدينار أن يترك الفلسا وقال آخر: فانظر لذاك فليس يعلم كلّ ما ... في الخفّ غير الله والإسكاف وقال ابن طباطبا: مثلي كبائع طشته بشرابه ... سرّا لئلا يعلم الجيران لما تملى ظلّ في غثيانه ... يشكو الصّداع فعاده الأخذان «2» فدعوا بطشت كي يقيء فقال مه ... لو كان طشت لم يكن غثيان وقال ربيعة الرقي: فأنت كذئب السوء إذ قال مرّة ... لعمروسة والذئب غرثان مرمل «3» أأنت التي في كل قول سييتني ... فقالت متى إذا قال ذا عام أول «4» فقالت ولدت العام بل رمت غدرة ... فدونك كلني لا هنا لك مأكل وقال طريح: وإذا استوت للنمل أجنحة ... حتّى يطير فقد دنا عطبه وقال بعضهم: وقد خرق الأشواق شبعان مرتو ... فقال رغيف واحد يشبع الخلقا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 763 وقال: لاطم الأشفى مضرّ كفّه ... ومرامي الدهر رام كبده وقال: لا تقصدنّ كلّ دخان ترى ... فالنّار قد توقد للكيّ وقال آخر: ومن يروم نزول البئر عن غرض ... فليس في الشرط أن يحصي مراقيها وقال آخر: من لسعته حيّة مرّة ... تراه مذعورا من الحبل وقال آخر: إذا سقط الجدار ولم يغبّر ... فما بعد السقوط له غبار وقال آخر: كدود نشا في الحلّ ليس ببارح ... كأن ليس في الدنيا مكان يعاد له وقال آخر: ما رسول لليث إلا عنقه ... فلهذا عنق الليث غليظ (11) تمثل كل ذي صناعة بصناعته سأل الرشيد بختيشوع عن حرب شاهدها، فقال: لقيناهم في صحن مقدار البيمارستان، فما كان مقدار ما يختلف الرجل مقعدين حتى صيرناهم في أضيق من المخنقة، ثم قتلناهم بمبضع ما سقط إلا على كل رجل. سئل جعفر الخيّاط عن حرب فقال لقيناهم في صحن مقدار الطيلسان فما كان مقدار ما يخيط الرجل درزا حتى تركناهم في أضيق من الحر ثم قاتلناهم فلو طرحت إبرة ما وقعت إلا على زرّ رجل. وسئل معلم فقال: لقيناهم في صحن مقدار الكتاب فما لبثوا إلا مقدار ما يقرأ فتى مقدار عشر حتى تركناهم في أضيق من الرقم فقتلناهم في أقل ما يكتب صبي لوحين قال بعضهم: مشق الحبّ في فؤادي لو حين فأغرى جوانحي بالتلاقي قيل لجارية عربية: بم تعرفين الصبح؟ قالت: إذا برد الحلي. وقيل ذلك لنبطية فقالت: إذا جاءني الغائط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 764 (12) معارضات 1- عرضت جارية على المهدي فقال لبشار امتحنها فقال: أحمد الله كثيرا فقالت: حين صيرت ضريرا فقال: اشتر الملعونة فإنها حاذقة. عارض أبو العنبس البحتري في قوله: من أي ثغر تبسّم فقال: من أي سلح تلتقيم ... وبأيّ كف تلتطم أدخلت رأسك في الحرم ... ............. فولّى البحتري فقال أبو العنبس: وعلمت أنك تنهزم 2- قال ميمون بن مهران: رأيت البارزي وحاله متماسكة فسألته فقال: كنت من جلساء المستعين فقصده الشعراء فقال: لست أقبل إلا ممّن قال مثل قول البحتري: لو أنّ مشتاقا تكلّف فوق ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر «1» فرجعت إلى داري وأتيته، فقلت: قد أتيتك بأحسن مما قال البحتري في المتوكل: ولو أن برد المصطفى إذ لبسته ... يظنّ لظنّ البرد أنّك صاحبه «2» وقال وقد أعطيته ولبسته ... نعم هذه أعطافه ومناكبه فقال: ارجع إلى منزلك وافعل ما آمرك به فبعث إليّ سبعة آلاف دينار، وقال: إدخر هذه للحوادث بعدي ولك الجراية والكفاية ما دمت حيا. قال وهذه حالة شبيهة: كما كان بعد السيل مجراه مرتعا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 765 3- وكان بشّار يعطي أبا الشمقمق في كل سنة مائتي درهم فأتاه سنة فقال: هات جزيتك. فقال: أي جزية هي قال: هو ما تسمع. فقال بشار له: لأهجونّك، فقال أبو الشمقمق: إني إذا ما شاعر هجانيه ... ولحّ في القول له لسانيه بشار يا بشّار فقال بشّار وأمسك وعلم أنه يكملها بقوله: يا ابن الزانية. وقال لا يسمعن هذا منك أحد ودونك الدراهم. وروي أنه أتاه مرة فامتنع من أعطائه فقال قد سمعت الصبيان يقولون: إن بشارا لدينا ... مثل تيس في سفينة فرفع مصلاه عن دراهم وقال له: خذ هذه ولا تكن راوية للصبيان. 4- اجتمع ثلاثة جنب غدير يقال له بطياثا فقال أحدهم: نلنا لذيذ العيش في بطياثا فقال الآخر: وقد حثثنا القدح احتثاثا فارتج على الثالث فقال: وأم عمرو طالق ثلاثا فقيل له في ذلك فقال: جلست على طريق القافية 5- ودخل الغالي على أبي عباد الوزير وهو عليل فأنشده: حالفك الفضل والكمال ... والبذل والجاه والنّوال «1» فقال: حالفني السقم والسعال ... ونقرس ما إن له زوال «2» وقال بعضهم مررت بجارية ذات جمال فأنشدتها: ويح نفسي وكيف لي ... أن أنيك التي أرى فقالت: ذاك شيء يبيحه ... في الورى كلّ من يرى «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 766 هو للضيف عندنا ... أول الزاد والقرى 6- قال الجمّاز: دخلت على الرشيد وبين يديه طبق فيه ورد، فقال: قل في هذا شيئا فقلت: كأنه خدّ محبوب يقبّله ... فم الحبيب وقد أبدى به خجلا فقالت جارية على رأسه، ألا قلت: كأنّه لون خدّي حين تدفعني ... يد الرشيد لأمر يوجب الغسلا فضحك وقال: قومي لننظر. 7- قصد أعرابي المأمون فقال: قد قلت شعرا، فقال: أنشده، فأنشد: حيّاك ربّ الناس حيّاك ... إذ بجمال الوجه رداكا بغداد من نورك قد أشرقت ... وأورق العود بجدواكا فأطرق المأمون ساعة ثم أنشد: حيّاك ربّ النّاس حيّاك ... إن الذي أملت أخطاك أتيت شخصا كيسه قد خلا ... ولو حوى شيئا لأعطاكا فقال: يا أمير المؤمنين أن بيع الشعر بالشعر ربا فاجعل بينهما محللا فضحك وأمر له بمال. وقيل من أحسن شعر القدماء قول عبيد: اللّيل ليل والنهار نهار فأنشد ما جنّ ذلك فقال: القرع قرع والخيار خيار ... والدب دبّ والحمار حمار 8- اجتمع قوم عند رجل فلم يحضره شيء فرهن قطيفته، ولما قعدوا للشراب غنّى المغنّي: أترى الذين تخمّلوا جنوا فقال صاحب البيت: فلا أدري أجنوا أم لا؟ ... فاستغربوا ضحكا وخلصوا قطيفته (13) كلمات مجانين 1- خرف النمر بن تولب فكان هجيراه: أصبحوا الضيف أغبقوا الراكب. وخرفت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 767 امرأة فكان هجيراها: زوّجوني زوجوني. فقال عمر لأصحابها: ما لهج «1» به أخو عكل خير مما لهجت به صاحبتكم. 2- كان سكران يمرّ بشيراز فتلقّاه ابن ممشاد المعدل فأخذ السكران بأيره وقال: أيترك القاضي أن أدخل هذا في بنته. فقال: إن احتاج إلى ختن «2» وارتضاك فنعم ومرّ. 3- ومزّق مجنون ثوب رجل وقال: علوان الرّفاء يريده كما كان. 4- وكان بهلول يتشيّع فقال: إسحاق الكندي كثر الله في الشيعة مثلك. وكان يغنّي بقيراط ويسكت بدانق، وكان جيد القفا وكان يعبث به كل من يمرّ فحشا قفاه بالعذرة، وجلس على قارعة الطريق، فكل من صفعه يقول له: شمّ يدك. 5- وبعث الرشيد إلى بهلول فأحضره وأجلسه في صحن الدار وأم جعفر تراه من حيث لا يراها، وعيسى بن جعفر جالس، فقال الرشيد: يا بهلول عدّ لنا المجانين فقال: أولهم أنا. قال: هيه. قال: وهذه، وأشار إلى موضع أم جعفر فقال له عيسى: يا ابن اللخناء تقول هذا لأختي. فقال بهلول: وأنت الثالث يا صاحب العربدة «3» فقال الرشيد: أخرجوه. فقال: وأنت الرابع. 6- وعدا عيناوة يوما بين يدي الصبيان فدخل دارا وصعد سطحها وأشرف على الصبيان، وقال: من أين أبلاني الله بكم؟ فقال له رجل في الدار: أرجمهم بالحجارة، فقال: أخاف إن رجعوا إلى آبائهم يقولوا إنه بدا يحرّك يديه فيأخذوني فيغلوني «4» ويقيّدوني. وأخذ الطائف مجنونا فأمر به إلى الحبس فقال: إني حلفت أن لا أحبس عن منزلي، فضحك منه وأطلقه. وأخذ أعرابي إدعوا أنه سكران، فقال الوالي استنكهوا الخبيث فلم يشمّوا رائحة، فقال قيئوه فقال: تضمن عشائي أصلحك الله. (14) حكم مجانين 1- وعظ بهلول الرشيد وهو متوجه إلى الحج فقال: ما هكذا حج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال له: هل لك في جائزة تقضي بها دينك؟ فقال: الدين لا يقضي بالدين أي ما تعطيني ليس هو لك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 768 2- ونظر بهلول إلى مجنون يوم العيد وهو يقول: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم فلطمه بهلول على وجهه وقال: ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه. 3- وعدا مجنون من صبيان ثم دخل دارا وكان ثمّ رجل له ذؤابتان فقال له: يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض، فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا؟ فأغلق الباب وأتاه بطبق تمر، وقال: كل فأخذ يأكل والصبيان يصيحون فقال: فضرب بينهم بسور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب. 4- كان مجنون تؤذيه الصبيان فقال له رجل: تريد أن أطردهم؟ فقال: نعم وتنطرد معهم. وقيل لمجنون: فيم يسعى هذا الخلق؟ قال: فيما لا يجدونه. هم يطلبون الراحة وهي لا تكون في الدنيا. 5- قال الرشيد لبهلول من أحب الناس إليك؟ قال: من أشبع بطني. قال: فأنا أشبع بطنك فأحببني قال: الحب لا يكون نسيئة. 6- استقبل جعيفر امرأة صبيحة فبادر إليها واعتنقها فاجتمع الناس فضربوه فقال: علّقوا اللحم للبزا ... ة على ذروتي عدن ثم لامو المحبّ في ... هـ على خلعه الرسن لو أرادوا عفافه ... نقبوا وجهه الحسن «1» 6- ومثل هذه الحكاية وإن لم تكن مما نحن فيه- ما روي أن ابن زيدان كان عند يحيى بن أكثم يملي عليه فقرص خدّه فغضب فأنشأ يقول: أيا قمرا خمشته فتغضبّا ... وأصبح لي من تيهه متجنّبا «2» إذا كنت للتخميش والعضّ كارها ... فكن أبدا يا سيدي متنقّبا ولا تظهر الأصداغ للنّاس فتنة ... وتجعل منها فوق خدّك عقربا فتقتل مشتاقا وتفتن ناسكا ... وتترك قاضي المسلمين معذّبا (15) خرافات على سبيل التهكّم 1- رأى حمدويه المخنث بمكان منكر صاحب شرطة فقعد على روثة يريه أنه يخرأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 769 فلما دنا منه قام فقال له: ما كنت تفعل؟ فقال: كنت أخرأ فإذا تحته روث فقال: أتروث هذا؟ فقال: مالك وهذا، كل إنسان يخرأ ما يريد. 2- قيل لعبد الرحمن القاضي: لم سمّي العصفور عصفورا؟ قال: لأنه عصى وفر. قيل: فالطفشل، قال: لأنه طفا وشال. 3- جعل سخفاء واحدا منهم على جنازة فمرّ بهم جحا فقالوا له: صلّ على هذا الفقير الغريب فصلّى. فلما كبّر ضرط والتفت إليهم وقال: إن كان على صاحبكم دين فاقضوه، فهذا من ضغطة القبر. وقال له أبوه: قبر هذا الجب فقبره من خارج فقال: ويحك إنما يقبر من داخل فقال: اقلبوه. 4- قال علي بن عبد العزيز القاضي: قوم إذا خرؤا خلّوه وانصرفوا ... أليس ذا كرما ناهيك من كرم وقال: لقيت أبا يحيى عشية جئته ... كريم المحيا طاهر البشر وأقلب كريم كنصل السيف يهتزّ للنّدى ... كما اهتزّ ماض للضريبة واقلب «1» وأير حمار داخل في حر أمه ... ولا تقلبن هذا فليس بو اقلب «2» 5- قال بعضهم: ركبت سفينة من بغداد إلى واسط، فإذا أنا بشيخ له رواء وهيبة. وكنّا جماعة رفقة كل منّا يشتهي مداعبة الشيخ ويتحاماه لهييته، إلى أن بلغنا المقصد، فقلت للشيخ: أوصني. فقال: إذا جاءتك الريح فأرسلها ولو بين الركن والمقام. فقلت: زدني، فقال يا بنيّ النيك من قدّام يضعف الركبتين فإيّاك أن تستعمله في الصيف خاصة، والنيك بغير بزاق أنظف للكف، ثم قال: تمسّك بهذه الأربعة تكن لقمان زمانك. 6- قال المبرّد سأل رجل فقيها، فقال: علّمني. فقال: أنا مستعجل فخذ جملتها أجحد ما عليك وادع ما ليس لك واستشهد بشهود غيب، وأخّر اليمين إلى أن تنظر فيها. 7- كان رجل وامرأته يبوّلان في الفراش فاتفقا أن يتعاقبا في النوم ويحتفظ كل بصاحبه. فنام الرجل وسهرت المرأة قابضة على متاعه فلما همّ بالبول نبهته. فقام وبال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 770 ونامت المرأة من بعده فقبض على متاعها فلما همّت بالبول، كانت ننزّ من جانب إذا قبض على جانب. 8- ولّى أبو العير أبا العجل وكتب له عهدا نسخته: يا أبا العجل وفّقك وسدّدك وليتك خراج ضياع الهواء ومساحة الهباء وكيل ماء الأنهار وعد الثمار، وصدقات البوم وكيل الزقوم وقسمة الشوم بين الهند والروم. وأجريت لك من الأرزاق بغض أهل حمص لأهل العراق وأمرتك أن تجعل ديوانك ببرقة «1» ومجلسك بأفريقية، وعيالك بميسان «2» ، واصطبلك بهمدان «3» وخلعت عليك خفّي حنين، وقميصا من دين، وسراويل من سخنة عين فدر في عملك كل يوم مرتين والحمد لله على ما ألهمنا فيك فقابلنا بالشكر فيما نوليك. 9- قالت جارية مات أبوها: وا أبتاه وا خيلاه فقالت لها امرأة: ويلك ومتى كان له خيل؟ قالت: كان يريد أن يشتري. 10- ونظر مزيد إلى أهل الكوفة وقد أخرجوا صبيانهم للإستسقاء فقال: لو كان دعاؤهم مستجابا لما بقي في الأرض معلم. أسلم نصراني فقالت أمه: سخنت عينك محمد بعد لم يعرفك وعيسى تبرأ منك. 11- وكان أعرابي يمدح أميرا فضرط فقال: والله أنه لينطق كل عضو مني بمدح الأمير. 12- وقال المأمون لأعرابي: إن عددت من جوارحك عشرة أولها كاف أعطيتك عشرة آلاف درهم. فقال كوع كرسوع كبد كفل كف كشح كعب كاهل كرش. وولّي الأعرابي فإذا إنسان يبوّل فعاد وقال كمرة فأعطاه. (16) فتاوى على سبيل الحماقة 1- قيل لابن مجاهد ما أول الدخان؟ قال: الحطب الرطب. وقيل: أين في القرآن الهريسة؟ قال: بقرة صفراء وفومها واضربوه ببعضها، وفار التنور، ولتركبن طبقا عن طبق. ذهب طبري إلى مفت فقال: كنت في صلاتي، فخرج من دبري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 771 شيء. فقال: أكان مثل حمصة؟ قال: أكبر. قال: كبندقة؟ قال: أكبر، قال: كجوزة؟ قال: أكبر. قال: أراك قد خريت. 2- وقال بعضهم رأيت جملا بحمص يتبع بقرة فقلت أهذا ولدها؟ فقالوا: لا، بل يتيم في حجرها. 3- مرّ العتابي بمنصور النمري فرآه كئيبا فسأله، فقال: امرأتي عسرت ولادتها. فقال: أكتب على حرها هارون فقال: ما هذا أتهزأ بي؟ فقال: أعني قولك في هارون: أن أخلف القطر لم تخلف مواهبه ... أو ضاق أمر ذكرناه فيتّسع «1» 4- كان بعض أهل نصيبين شديد الغفلة، وكان يسوق عشرة أحمرة فركب حمارا منها، وعدّها فرآها تسعة. فنزل وعدها فوجدها عشرة فقال: أمشي وأربح حمارا أجود. (17) بلاغات من لم يختلف للكتاب 1- كتب معاوية بن مروان إلى الوليد بن عبد الملك: بعثت إليك بقطيفة خزّ أحمر أحمر فكتب إليه: قد وصلت وأنت أحمق أحمق أحمق والسلام. 2- قال أبو القاسم بن بابك الشاعر أنشدني ابن القراني لنفسه: أنتيا ابن شيار أنت تحكم في الدين كزار غير فرار. ولست كالقاضي الذي يتبع العار. وأمير المؤمنين الطائع أطال الله بقاءه وأدام عزّه وتأييده وسعادته وكفايته لك مختار. فقلت: لم طولت هذا البيت فقال هو خليفة ولا يجوز أن ينقص دعاؤه. 3- قال دعبل: كان لي صديق يقول شعرا فاسدا فقال يوما: إن ذا الحبّ شديد ... ليس ينجيه الفرار ونجا من كان لا يأ ... من من ذلّ المخازي فقلت هذا لا يجوز. فالبيت الأول راء والثاني زاي. فقال: لا تنقطه. قلت: فالأول مرفوع والثاني مجرور. فقال: أنظر إلى حماقته. أقول له: لا تنقطه وهو يشكله. 4- وقال محمد بن العبّاس لوكيل: ما حال غلتنا بالأهواز؟ فقال: أما متاع أمير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 772 المؤمنين فقائم على سوقه. وأما متاع أم جعفر فمسترخ. وقال بعضهم: احتمجت من الخديعتين يعني الأخدعين. 5- كان عبد الله بن عوانة يقول: الحمد لله واصطأفر الله، والله فأكبر، وقال المشي إلى بيت الله أعني به الطلاق الثلاث، ثلاثين حجّة. أحرار لوجه الله وسبيلي حبيس في دواب الله فقلت موفقا إن شاء الله تعالى. 6- قال رجل للرئيس بن العميد إذا رأيت وجهك رأيت الباءة يريد البهاء فقال إذا وجهي سقنقور «1» أنشد عبد الله بن فضلويه: قيامة يوم لا دواء له ... إلا الطلاء وإلا الطيب والطرب فقيل له: ويلك إنما هو يوم الحجامة «2» فقال: أعذروني فإني لا أعرف النحو ولبعض أهل خراسان: أنا شذره أنا هذبه ... أنا زين الخطبون ولنا باب اش هشت ... كربه بيبرمون ولنا رهوذة ... كل يوم دهمون يحملوه كل يوم ... ذي سوى ما يطبخون وقال: ولنا برج حمام ... كان جدّي قد بنى فيه بيض وحمام ... ودجاج ورنا أحسنت والله أمي ... حين جاءت بأنا وقال رجل: لأعين الطبيب إني لأجد في بطني وجعا لا أدري ما هو؟ قال: فخذ أيش هو، واجعل فيه ما اسمه ودقّه بقول أنت. (18) لعب الاعراب البقيري وهو جمع تراب يقطع نصفين ويقال خذ أيّهما شئت. وعظيم وضاح عظم يرمي به أحد الفريقين فمن وجد من الفريقين ركب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 773 أصحابه الفريق الآخر من الموضع الذي وجد فيه إلى الموضع الذي رموا به. والحظيرة أن يرمي أحد الفريقين بمخراق من خلفه فإن عجزوا عن أخذه رموا به إليهم، فإن أخذوه ركبوهم. الدارة التي يقال لها الخراج، والشبحة التي يقال لها نجو بالفارسية. ولعبة الضبّ أن يصور الضبّ ثم يحوّل أحدهم وجهه فيضع يده على موضع فيقول عين الضب أو ذنبه أو كذا. فإن أخطأ ركب هو وأصحابه، وإن أصاب حوّل وجهه فيصير هو السائل. تمّ بحمد الله الجزء الثاني من كتاب: محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء للراغب الأصبهاني رحمه الله. وذلك في يوم الثلاثاء: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 774