الكتاب: النكت في القرآن الكريم (في معاني القرآن الكريم وإعرابه) المؤلف: علي بن فَضَّال بن علي بن غالب المُجَاشِعِي القيرواني، أبو الحسن (المتوفى: 479هـ) دراسة وتحقيق: د. عبد الله عبد القادر الطويل دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة: الأولى، 1428 هـ - 2007 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- النكت في القرآن الكريم أبو الحسن المجاشعي الكتاب: النكت في القرآن الكريم (في معاني القرآن الكريم وإعرابه) المؤلف: علي بن فَضَّال بن علي بن غالب المُجَاشِعِي القيرواني، أبو الحسن (المتوفى: 479هـ) دراسة وتحقيق: د. عبد الله عبد القادر الطويل دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة: الأولى، 1428 هـ - 2007 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ـ[النكت في القرآن الكريم (في معاني القرآن الكريم وإعرابه) ]ـ المؤلف: علي بن فَضَّال بن علي بن غالب المُجَاشِعِي القيرواني، أبو الحسن (المتوفى: 479هـ) دراسة وتحقيق: د. عبد الله عبد القادر الطويل دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة: الأولى، 1428 هـ - 2007 م عدد الأجزاء: 1 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فاتحة الكتاب مدنية، والبقرة مدنية، وآل عمران مدنية، والنِّسَاءَ مدنية، والمائدة مدنية، والأنعام مكية نزلت جُملةً ما خلا ثلاث آيات، فإنها نزلت بالمدينة، وهي قوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ) [151] إلى تمام الثلاث. والأعراف مكية، والأنفال مدنية، وهي أول ما أنزل. وبراءة مدنية، وهي آخر ما أنزل بالمدنية. قال أبن عباس: قلت لعثمان: ما حملكم على أن قرنتم بين الأنفال وبراءة، والأنفال من المثاني، وبراءة من المئين، فلم تكتبوا بينهما سطر (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فقال عثمان: إن السورة والقصة والآية كُنَّ إذا نزلْن على النبي صلى الله [عليه] وسلم قال لبعض من يكتب الوحي: ضعوها إلى موضع كذا، أو إلى جنب كذا، وإن براءة نزلت والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتقدم فيها إلينا بشيءٍ، وقصتها تُشبهُ قصة الأنفال، فخفنا أن تكون منها وخفنا أن لا تكون منها، فمن ثم قرنا بينهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 ولم نكتب سطر (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) . يونس مكية، هود مكية، ويوسف مكية، والرعد مكية، وإبراهيم مكية ما خلا آيتين منها، فإنهما نزلتا بالمدينة في قتلى بدر من المشركين، وهما: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا) [28] إلى تمام الآيتين، الحجر مكية، والنحل مكية، ما خلا ثلاث آيات من آخرها، فإنها نزلت بين مكة والمدينة في منصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد قتل حمزة - رضي الله عنه -، ومثل المشركون به، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لئِنْ أظفرنا الله بهم لنُمثلنَّ بهم مُثلاً لم تمثل بأحدٍ من العرب. فأنزل الله تعالي بين مكة والمدينة: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) [126] إلى آخر السورة، وما نزل بين مكة والمدينة فهو مدني، وسورة بني إسرائيل مكية، والكهف مكية، ومريم مكية، وطه مكية، والأنبياء مكية، والحج مكية، ما خلا ثلاث آيات منها، فأنها نزلت بالمدينة في ستة نفرٍ: ثلاثة منهم مؤمنون وثلاثة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 كافرون فأما المؤمنون: فعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وحمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأما الكافرون فعتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد ين عتبة. فأنزل الله - عز وجل - بالمدينة: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) [الحج: 19] إلى تمام الثلاث آيات. سورة المؤمنين مكية، والنور مدنية، والفرقان مكية، والشعراء مكية ما خلا خمس آيات من آخرها، فإنها نزلت بالمدينة، وهي قوله - عز وجل -: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [224 - 227] يعني حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة. هؤلاء شعراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, إلى آخر السورة، والنمل مكية، والقصص مكية، والعنكبوت مكية، والروم مكية، ولقمان مكية ما خلا ثلاث آيات منها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 فإنها نزلت بالمدينة، وذلك أنه لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أتته أخبار اليهود، فقالوا: يا محمد بلغنا أنك تقول: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء: 85] أفعنيتنا أم عنيت قومك؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: عنيت الجميع، فقالوا: يا محمد أما تعلم أن الله جل وعز أنزل التوراة على موسى بن عمران - عليه السلام - والتوراة فيها أنباء كل شيء، وخلفها موسى فينا ومعنا؟ ، قال النبي صلي الله عليه [وسلم] لليهود التوراة وما فيها من الأنباء قليل في علم الله - عز وجل - فأنزل الله تعالى في المدينة: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) [لقمان: 27] إلى تمام الآيات الثلاث. وآلم السجدة مكية، ما خلا ثلاث آيات منها، فإنها نزلت بالمدينة في علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - والوليد بن عقبة بن أبي معيط، وذلك أنه شجر بينهما كلام، قال الوليد لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أنا أدرب منك لساناً، وأحد سناناً، وأرد للكتيبة، فقال له علي - رضي الله عنه - اسكت، فإنك فاسق: فأنزل الله تعالى بالمدينة: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ) [18] إلى تمام الآيات. الأحزاب مدنية، سبأ مكية، فاطر مكية، يس مكية، والصافات مكية، ص مكية، والزمر مكية، ما خلا ثلاث آيات منها، فإنها نزلت بالمدينة في وحشي قاتل حمزة - رضي الله عنه - وذلك أنه أسلم ودخل المدينة، فكان يثقل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النظر إليه فتوهم أن الله - عز وجل - لم يقبل إسلامه، فأنزل الله - عز وجل - بالمدينة: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) [53] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 إلي تمام الثلاث آيات، والحواميم السبع كلهن مكيات، وسورة محمد - صلى الله عليه وسلم - مدنية، وسورة الفتح مدنية، والحجرات مدنية، وق مكية، والذاريات مكية، والطور مكية، والنجم مكية، والقمر مكية، والرحمن مكية، والواقعة مكية، وسورة الحديد مدنية، وسورة المجادلة مدنية، وسورة الحشر مدنية، وسورة الممتحنة مدنية، وسورة الصف مدنية، والجمعة مدنية، والمنافقون مدنية، والتغابن مكية، ما خلا ثلاث آيات من آخرها، فإنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، وذلك أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جفاء أهله وولده به، فأنزل الله - عز وجل - بالمدنية: (يَا أَيُّهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [التغابن: 14] إلى آخر السورة. الطلاق مدنية، التحريم مدنية، الملك مكية، والقلم مكية، والحاقة مكية، وسأل سائل مكية، نوح مكية، سورة الجن مكية، المزمل مكية ما خلا آيتين منها، فإنهما نزلتا بالمدينة: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) [20] إلى تمام الآيتين. ثم الفرقان بعد ذلك كله مكي إلى أن يبلغ: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر: 1] فإنها مدنية، لم يكن مدنية، إذا زلزلت مكية، والعاديات مكية، القارعة مكية، والتكاثر مكية، والعصر مكية، الهمزة مكية، الفيل مكية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 لإيلاف قريش مكية، وقبل هما سورة واحدة، أرأيت مكية، والكوثر مكية، الكافرون مكية، النصر مكية، تبت يدا أبي لهب مكية، الإخلاص مكية، الفلق مدنية، الناس مدنية. (ومن سورة الفاتحة ) البسملة: روى السُّدي عن أبي مالك عن ابن عباس في قوله - عز وجل -: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 الرَّحِيمِ) الباء: بهاءُ الله، السين: سناءُ الله، والميمُ: مُلك الله: والله: الذي يأله إليه خلقهُ، والرَّحمن: قال المترحم على خلقه: الرحيم بعباده فيما ابتدأهم به من كرامته. ويروى عنه أيضاً، أنه قال: الرحمن الرحيم اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الأخر، وقيل: في الجمع بينهما أن الرحمن أشد مبالغة، والرحيم أخص منه. فالرحمن لجميع الخلق، والرحيم للمؤمنين خاصة، قال محمد بن يزيد: هو تفضل بعد تفضل، وإنعام بعد إنعام، ووعد لا يخيب آمله. وأصل الرحمة رقة في القلب، والله تعالى لا يوصف بذلك، إلا أن معنى الرقة يؤول إلى الرضا؛ لأن من رحمته فقد رضيت عنه. وإذا احتملت الكلمة معنيين: أحدهما يجوز عن الله، والآخر لا يجوز عليه، عدل إلى ما يجوز عليه. ومثل ذلك همزة الاستفهام تأتي في غالب الأمر على جهل من المستفهم، فإذا جاءت من الله - عز وجل - كانت تقريراً وتوبيخاً: نحو: (أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) [يونس: 59] ، قال مقاتل بن سليمان في الاستفتاح: من حساب الجمل سبعمائة وسبع وثمانون سنة من مدة هذه الأمة. قال الخليل: (بسم الله) افتتاح إيمان ويمن، وحمد عاقبة، ورحمة وبركة وثناء وتقرب إلى الله - عز وجل -، ورغبة فيما عنده، واستعانة ومحبة له، علم الله - عز وجل - نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق: 1] ، وقال: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الحاقة: 52] وقال نوح - عليه السلام -: (بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) [هود: 41] ليجعلها سنة لأمته في افتتاح الذبائح والطعام والشراب والكلام، وأن يذكرونه عند كل حركة وسكون، وإذا قاله العبد يسر الله تعالى ما بين يديه من السماء إلى الأرض وثبته وحرسه من وسواس الشيطان، واعتراض المعترضين وفساد المفسدين وكيد الحاسدين، وهي تحية من الله - عز وجل - خص بها نبيه، وجعله باللسان العربي ما لم يكن لسائر الأمم، إلا ما كان من سليمان، فلما وردت على العرب اضطروا إلى قبولها وتدوينها والإقرار بفضلها ولفظوا بها عند وجوب الشكر وطلب الصبر. قال غير الخليل: هو أدب من آداب الدين، ومدح لله تعالى وتعظيم وشعار للمسلمين، وتبرك للمستأنف، وإقرار بالعبودية، واعتراف بالنعمة، واستعانة بالله - عز وجل - وعبادة له، مع ما فيه من حسن العبارة، ووضوح الدلالة، والإفصاح والبيان لما يستحقه الله من الأوصاف. وفيه من البلاغة والاختصار، في موضعه بالحذف على شرائطه. إذ موضوع هذه الكلمة على كثرة التكرير، وطول الترديد، وفيه الاستغناء بالحال الدالة على العبارة عن ذكر أبداً، لأن الحال بمنزلة الناطقة بذلك، وفيه من البلاغة تقديم الوصف بالرحمن تشبيهاً بالأسماء الأعلام. مسألة: ومما يسأل عنه من الإعراب أن يقال: ما موضع الباء من (بسم الله) ؟ والجواب: أن العلماء اختلفوا في ذلك، فذهب عامة البصريين إلى أن موضع الباء رفع على تقدير مبتدأ محذوف تمثيله: ابتدائي بسم الله، فالباء على هذه متعلقة بالخبر المحذوف الذي قامت مقامه تقديره: ابتدائي كائن أو ثابت أو ما أشبه ذلك بسم الله، ثم حذفت هذا الخبر، وكان فيه ضمير فأفضى إلى موضع الباء، وهذا بمنزلة قولك: زيد في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الدار، ولا يجوز أن يتعلق الباء بابتدائي المضمر؛ لأنه مصدر، وإذا تعلقت به صار من صلته، وبقي المبتدأ بلا خبر. وذهب عامة الكوفيين وبعض البصريين إلى أن موضع الباء نصب على إضمار فعل، واختلفوا في تقديره، فذهب الجمهور منهم إلى أنه يضمر فعلاً يشبه الفعل الذي يريد أن يأخذ فيه، كأنه إذا أراد الكتابة أضمر: أكتب، وإذا أراد القراءة أضمر: أقرأ، وإذا أراد الأكل والشرب أضمن: آكل وأشرب. ومما يسأل عنه أن يقال: لم جرت الباء؟ والجواب: أنها لا معنى لها إلا في أسماء، فعملت الإعراب الذي لا يكون إلا في الأسماء وهو الجر. ويقال: لم حركت وأصلها السكون؟ والجواب: أن يقال: حركت للابتداء بها؛ لأنه لا يصح أن يبتدأ بساكن؛ لأن اللسان يجفو عنه. ويقال: فلم اختير لها الكسر؟ والجواب: أن أبا عمر الجرمي قال: كسرت تشبيهاً بعملها، وذلك أن عملها الجر وعلامة الجر الكسرة، فأعترض عليه بعد موته بأن قيل: الكاف تجر، وهي مع ذلك مفتوحة، فأنفك أصحابه من هذا الاعتراض بأن قالوا: أرادوا أن يفرقوا بين ما يجر ولا يكون إلا حرفاً نحو الباء واللام، وبين ما يجر، وقد يكون اسماً نحو الكاف: وأما أبو علي فحكى عنه الربعي أنهم لو فتحوا أو ضموا الكاف لكان جائراً؛ لأن الغرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 التوصل إلى الابتداء، فبأي حركة توصل إليه جاز، وبعض العرب يفتح هذه الباء وهي لغة ضعيفة. مسألة: ومما يسأل عنه أن يقال: ما وزن (اسم) وما اشتقاقه؟ والجواب: أنه قد أختلف فيه، فذهب البصريون إلى أنه من (السَُمُو) ، لأنه سما من مسماه، فبينه وأوضح معناه. وذهب الكوفيون إلى أنه من (السَّمَةِ) ، لأن صاحبه يُعرفُ به. وقول البصريين أقوى في التصريف، وقول الكوفيين أقوى في المعنى. فمما يدل على صحة قول البصريين قولهم في التصغير: (سُمَيُّ) ، وفي الجمع: (أَسْمَاءُ) وجمع الجمع: (أَسَامٍ) ، ولو كان على ما ذهب إليه الكوفيون، لقيل في تصغيره: (وسِيمُ) ، وفي جمعه: (أَوسُمُ) وفي امتناع العرب من ذلك دلالة على فساد ما ذهبوا إليه. وأيضاً فإنا لم نر ما حذفت فاؤه دخلت فيه همزة الوصل، وإنما تدخل فيه تاء التأنيث، نحو: عدة وزنة. وقد قيل: هو مقلوب جعلت الفاء مكان اللام، كأن الأصل: (وسم) ثم أخرت الواو وأعلت، كما قالوا: (طاد) ، والأصل: (واطد) قال القطامي: مَا اعتاد حُبُّ سُلَيمَى حينَ مُعتَادِ وَلا تَقَضَّى بَواقِي دَينِهَا الطَّادِي فوزنه على هذا (عالف) . وكذا قيل في (حادي عشر) : أنه مقلوب من واحد، ووزن اسم (إعل) أو (افع) والأصل: (سُمو، أو سمو) بإسكان الميم فأعل على غير قياس، وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 الواجب أن لا يعل، لأن الواو والياء إذا سكن ما قبلهما صحتا، نحو: (صنو، وقنو، ونحي، وظبي) وما أشبة ذلك. وقيل: وزنه: (فعل) بضم الفاء، وقيل: (فعل) بكسرها، لقولهم: (سم، وسم) ولم يسمع (سم) بفتح السين. أنشد أبو زيد: بسم الذي في كل سورة سمة قد أخذت على طريق تعلمه يروى بضم السين وكسرها، ثم حذفت الواو على غير قياس، وكان يجب أن تقلب ألفاً كما فعل في نحو: (ربا، وعصا، وعرا) ، وما أشبه ذلك، لأن الواو والياء إذا تحركتا وأنفتح ما قبلهما قلبتا ألفا على كل حال، إلا أنهم أرادوا أن يفرقوا بين المتثبت وغير المتثبت فالمتثبت، نحو: أخ وأب، لأنك إذا ذكرت كل واحد منهما دل على نفسه وعلى معنى آخر. ألا ترى أنك إذا ذكرت أباً دلك على أب، وإذا أخاً دلك على أخ أو أخت. إلا أن هذا المحذوف أتى على ضربين: أحدها: لم يقع فيه عوض من المحذوف، نحو: أب وأخ. والثاني: عوض فيه من المحذوف همزة، نحو: اسم وابن، وهذه الأسماء التي دخلتها همزة الوصل مضارعة للفعل؛ لأنها مفتقرة إلى غيرها، فصارت: بمنزلة الفعل المفتقر إلى فاعله، وأصل هذه الهمزة أن يكون في الأفعال فلما ضارعت هذه الأسماء الأفعال أسكنوا أوائلها، وأدخلوا فيها همزات الوصل. وفي (اسم) خمس لغات. يقال: (اسم) بكسر الهمزة، و (اسم) بضمها في الابتداء و (سم) و (سم) و (سمى) بمنزلة هدى. هذه اللغة حكاها ابن الأعرابي. فأما ما أنشد أبو زيد من قول الشاعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 لأحسنها وجهاً وأكرمها أباً وأسمحها نفساً وأعلنها سما فيجوز أن يكون (فعلاُ) مثل (هدى) ، وتكون الألف منقلبة عن لام الفعل، ويجوز أن تكون الألف ألف النصب التي تدخل في نحو قولك: رأيت زيداُ. وهذا الاحتمال على مذهب من ضم السين. فأما من كسرها، فالألف ألف النصب على كل حال. مسألة: ومما يسأل عنه أن يقال: مم أشتق قوله (الله) وما أصله؟ والجواب: أن فيه خلافاً. ذهب بعضهم إلى أنه من (الولهان) ، قيل: لأن القلوب تله إلى معرفته. وقيل: اشتقاقه من (أله، يأله) إذا تحير، كأن العقول تتحير فيه عند الفكرة فيه. قال الشاعر، وهو زهير: وبيداء قفر تأله العين وسطها مخفقة غبراء صرماء سملق وقال الفراء: هو من (لاه، يليه، ليها) إذا أستتر، كأنه قد أستتر عن خلقه. ويروي عن علي بن لأبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: معناه المستور عن درك الأبصار، محتجب عن الأوهام والخطرات. وأنشدوا في ذلك: تاه العباد ولاه الله في حجب فالله محتجب سبحانه الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وذهب الخليل وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن: إلى أنه اسم علم غير مشتق من شيء. والذي يذهب إليه المحققون: أنه من التأله، وهو: التعبد والتنسك، قال رؤبة: لله در الغانيات المده سبحن واسترجعن من تألهي أي: من تعبدي وتنسكي حكى أبو زيد: تأله الرجل يتأله: وهذا يحتمل عندنا أن يكون أشتق من اسم الله - عز وجل -، على حد قولك: استحجر الطين، واستنوق الجمل، فيكون المعنى أنه يفعل الأفعال المقربة إلى الله تعالى التي يستحق بها الثواب، ويحتمل أن يكون الاسم مشتقاً من هذا الفعل، نحو: تعبد، وتسمى الشمس: الإهة والإلاهه، روي لنا ذلك من قطرب، وأنشد. تروحنا من اللعباء قصراً وأعجلنا الالهه أن تغيبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 كأنهم سموها إلاهة على نحو تعظيمهم لها، وعبادتهم إياها، ولذلك نهاهم الله - عز وجل - عن ذلك، وأمرهم بالتوجه في العبادة إليه دون خلقه، فقال الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [فصلت: 37] ، ويدل على هذا ما حكاه أحمد بن يحيي: أنهم يسمونها (إلهة) غير مصروفة. فدل ذلك على أن هذا الاسم منقول إذا كان مخصوصاً، وأكثر الأسماء المختصة الأعلام منقول، نحو: زيد وعمرو. وقرأ ابن عباس: (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) [الأعراف: 127] أي: وعبادتك، وكان يقول: كان فرعون يُعبَدُ ولا يَعْبُدُ، وأما قراءة الجماعة: (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) ، فهو جمع إله، كإزار وآزرة، وإناء وآنية. والمعنى على هذا: أنه كان لفرعون أصنام يعبدها شيعته وأتباعه، فلما دعاهم موسى - عليه السلام - إلى التوحيد حضوا فرعون عليه وعلى قومه، وأغروه بهم. ويقوي هذه القراءة، قوله تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ) [الأعراف: 138] . وأما الأصل في قولنا: (الله) فقد اختلف قول سيبويه في ذلك؛ فقال مرة: الأصل: (إله) ، ففاء الكلمة على هذا همزة، وعينها لام، والألف ألف فعال زائدة واللام هاء. وقال مرة: الأصل (لاه) ، فوزنه على هذا (فعل) ، ولكل من هذين القولين وجه. وإذا قدرته على الوجه الأول فالأصل (إله) ، ثم حذفت الهمزة حذفاً لا على طريق التخفيف القياسي في قولك: الخب وضوء في ضوء، فإن قال قائل: فلم قدرتموه هذا التقدير، وهلا حملتموه على التخفيف القياسي إذا كان تقدير ذلك سائغاُ غير ممتنع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 والحمل على القياس أولى من الحمل على الحذف الذي ليس بقياس؟ قيل له: إن ذلك لا يخلو من أن يكون على الحذف الذي ذكرناه وهو مذهب سبيويه، أو على الحذف القياسي وهو مذهب الفراء، وذلك أن الهمزة ...... (ومن سورة البقرة ) فصل: (إذا) في الكلام على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون ظرفاً زمانياً، وفيها معنى الشرط، ولا يعمل فيها إلا جوابها، نحو ما في هذه الآية من قوله تعالى: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا) [البقرة: 14] فالعامل في إذا (قَالُوا) ، لأنه الجواب، ولا يجوز أن يعمل فيها (لَقُوا) ، لأنها في التقدير مضافة إلى (لَقُوا) ولا يعمل المضاف إليه في المضاف. وكذا: (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) [البقرة: 14] . والثاني: أن يكون ظرفاً مكانياً، نحو قولك: خرجت فإذا الناس وقوف. ويجوز أن تنصب وقوفاً على الحال، لأن (إذا) ظرف مكان، وظرف المكان يكون إخباراً عن الجثث. وهذه المسألة التي وقع الخلاف فيها بين سيبويه والكسائي لما اجتمعا عند يحيي ابن خالد بن برمك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 حدثنا أبو الحسن الحوفي بمصر عن أبي يكر بن الأذفوي عن أبي جعفر أحمد بن محمد النحاس عن علي بن سليمان، ثنا أحمد بن يحيي ومحمد بن يزيد، قالا: لما ورد سيبوبه بغداد شق أمره على الكسائي فأتى جعفر بن يحيي والفضل بن يحيي، فقال: أنا وليكما وصاحبكما وهذا الرجل قد قدم ليذهب بمحلي، فقالا له: فاحتل لنفسك فإنا سنجمع بينكما، فجمعا بينهما عند أبيهما، وحضر سيبويه وحده، وحضر الكسائي ومعه الفراء وعلي الأحمر وغيرهما من أصحابه، فسألوه: كيف تقول أظن العقرب أشد لسعة من الزنبور، أو فإذا هو إياها؟ قال: أقول فإذا فإذا هو هي. فأقبل عليه الجميع، فقالوا: أخطأت ولحنت، فقال يحيى: هذا موضع مشكل، أنتما إماما مصريكما، فمن يحكم بينكما؟ فقال الكسائي وأصحابه: الأعراب الذين على الباب، فأدخل أبو الجراح ومن وجد معه ممن كان الكسائي وأصحابه يحملون عنهم، فقالوا: نقول: (فإذا هو إياها) وانصرف المجلس على أن سيبويه قد أخطأ، وحكموا عليه بذلك، فأعطاه البرامكة وأخذوا له من الرشيد، وبعثوا به إلى بلده، فما لبث بعد هذا إلا يسيراً حتى مات. ويقال إنه مات كمداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 قال علي بن سليمان: وأصحاب سيبويه إلى هذه الغاية لا اختلاف بينهم يقولون: إن الجواب على ما قال سيبوبه: فإذا هو هي: وهذا موضع الرفع، وهو كما قال علي بن سليمان، وذلك أن النصب إنما يكون هو الحال، نحو قولك: خرجت فإذا الناس وقوفاً، وجاز النصب ها هنا، لأن (وقوفاً) نكرة، والحال لا تكون إلا نكرة، فإذا أضمرت بطل أمر الحال، لأن المضمر معرفة، والمعرفة لا تكون حالاً فوجب العدول عن النصب إلى الرفع نحو ما أفتى به سيبويه من أنه يقول: فإذا هو هي، كما تقول: فإذا الناس وقوف. والوجه الثالث: أن يكون جواباً للشرط، نحو قوله تعالى: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) [الروم: 36] . و (نَحْنُ) مبتدأ، و (مُسْتَهْزءُونَ) الخبر، وموضع الجملة نصب لـ (قَالُوا) ، كما تقول: قلت حقاُ أو باطلاً، و (نَحُنُ) مبنية لمشابهتها الحروف، وفي بنائها على الضمة، أوجه: أحدها: أنها من ضمائر الرفع، والضمة علامة الرفع. والثاني: أنها ضمير الجمع، والضمة بعض الواو، والواو تكون علامة للجمع، نحو: قاموا ويقومون. وقال الكسائي: الأصل (نحن) بضم الحاء، فنقلت الضمة إلى النون. وهذا القول ليس عليه دلالة تعضده. وقال الفراء. بنيت (نحن) على الضم، لأنها تقع على الاثنين والجماعة فقووها بالضمة لدلالتها على معنيين، و (يَعْمَهُونَ) [البقرة: 15] في موضع نصب على الحال والعامل فيه (يَمُدُّهُمْ) [البقرة: 15] . * * * قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] ، والمثل والمثل والمثيل بمعنى واحد، كما يقال: شبه وشبه وشبيه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 والاستيقاد استفعال من الوقود، والوقود بالضم مصدر وقدت النار وقوداً، والوقود بالفتح الحطب، والنار معروفة، وألفها منقلبة عن واو، وأصل منافع النار خمسة: الاستضاءة بها، والإنضاج والاصطلاء والتحليل والزجر. والإضاءة: أصله الوضوح. يقال: ضاءت النار، وأضاءت لغتان، ويقال: جلسوا حوله وحوليه تثنية حول، وحواليه: تثنية حوال وأحواله، وهو جمع. قال امرؤ القيس: ألست ترى السمار والناس أحوالي والذهاب بالشيء كالمرور به، والظلمة معروفة ونقيضها الضياء. والمعنى في الآية أن مثل المنافقين مثل قوم كانوا في ظلمة فأوقدوا ناراً، فلما أضاءت النار ما حولها أطفأها الله وتركهم في ظلمات لا يبصرون، فالظلمة الأولى التي كانوا فيها الكفر، واستيقادهم النار قولهم: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ، فلما أضاءت لهم ما حولهم واهتدوا، خلو إلى شياطينهم، فنافقوا وقالوا إنما نحن مستهزؤون، فسلبهم الله نور الإيمان وتركهم في ظلمات الكفر لا يبصرون. ثم ضرب لهم مثلاً آخر شبيهاُ بهذا، فقال: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) [البقرة: 19] ، والصيب: المطر، والظلمة: ظلمة الليل، وظلمة السحاب، والرعد دليل على شدة ظلمة الصيب وهوله. أراد: أو مثل قوم في ظلمات ليل ومطر، فضرب الظلمات لكفرهم مثلاً، والبرق لتوحيدهم مثلاً. (أَوْ) ها هنا الإباحة، أي: إن شبهتهم بالمثل الأول كنت مصيباً، وإن شبهتهم بالمثلين فكذلك أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: كيف شبه المنافقين وهم جماعة بالذي استوقد ناراً وهو واحد؟ وفي هذا ثلاثة أجوبة: أحدها: أن يكون (الذي) في معنى الجميع كما قال تعالى: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [الزمر: 33] وكما قال الشاعر: وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد والثاني: أن تجعل النون محذوفة من الذي، والأصل عنده (الذين) كما حذفها الأخطل في التثنية وذلك قوله: أبني كليب إن عمى اللذا قتلا الملوك وفككا الأغلالا ومنهم من أنكر ذلك في الآية وحمله على أن (الذي) اسم مبهم كـ (من) يصلح أن يقع للجميع ويصلح أن يقع للواحد كما قال: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) [الأنعام: 25] وقال في موضع آخر: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) [يونس: 42] فأخرج الأول على اللفظ، والثاني على المعنى وهذا وجه حسن، وقد ذكر أن (الذي) يأتي في معنى (الذين) الأخفش وغيره، فهذان وجهان: الأول منهما على حذف النون، والثاني على أنه اسم مبهم يقع للواحد والجمع. والثالث: أن يكون الكلام على حذف كأنه قال: مثلهم كمثل أتباع الذي أستوقد ناراً ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه قال الجعدي: فكيف تواصل من أصبحت خلالته كأبي مرحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 يريد: كخلالة أبي مرحب. فصل: قوله: (مَثَلُهُمْ) مبتدأ، و (كَمَثَلِ الَّذِي) الخبر، والكاف زائدة، والتقدير: مثلهم مثل الذي أستوقد ناراً، ومثل زيادة الكاف هاهنا قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11] والمعنى ليس مثله شيء، ولا يجوز أن تكون الكاف غير زائدة، لأنه يصير شركاً، وذلك أنك كنت تثبت لله مثلاً، ثم تنفي الشبه عن ذلك المثل، ويصير التقدير: ليس مثل مثله شيء، وهذا كما تراه، فأما قول محمد بن جرير أن (مثلاً) بمعنى: ذات الشيء، كأنه قال: ليس كهو شيء، فبيس بشيء، لأنه يرجع إلى ما منعنا منه أولاً من إثبات المثل، ومثل زيادة الكاف ما أنشده سيبويه لخطام المجاشعي: وصاليات ككما يؤثفين وهذا قبيح لإدخال الكاف على الكاف، والآية إنما فيها إدخال الكاف على مثل، وهذا حسن، وقد أدخلوا (مثلاً) على الكاف، وقال الراجز: فأصبحوا مثل كعصف مأكول و (اسْتَوْقَدَ نَارًا) وما أتصل به من صلة (الذي) ، والعائد على (الذي) المضمر الذي في: (اسْتَوْقَدَ) . وتقريبه على المبتدئ، أن يقال له: كأنك قلت: الذي أستوقد هو ناراً. و (لما) في الكلام على ثلاثة أوجه. أحدها: أن تدل على وقوع الشيء لوقوع غيره، وهذه محتاجة إلى جواب نحو قولك: لما قام زيد قمت معه، والتي في الآية من هذا الباب، فإن قيل: فأين الجواب؟ قيل: محذوف تقديره: فلما أضاءت ما حوله طفئت، ومثله قوله تعالى: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) [الصافات: 103 - 105] قال: فاز أو ظفر، والعرب تحذف للإيجاز قال أبو ذؤيب: عصاني إليها القلب إني لأمره مطيع فما أدري أرشد طلابها يريد: أرشد أم غي، ثم حذف. والوجه الثاني: أن تكون بمعنى (إلا) حكى سيبويه. نشدتك الله لما فعلت، أي: إلا فعلت وعليه تأولوا قوله تعالى: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) في قراءة من شدد الميم. والثالث: أن تكون جازمة نحو قوله تعالى: (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ) [آل عمران: 142] ، وهي (لم) زيدت عليها (ما) وهي جواب من قال: قد فعل، فتقول أنت: لما يفعل، فإن قال: فعل، قلت: لم يفعل. و (ما) في موضع نصب، لأنها مفعول (أَضَاءَتْ) ، و (ذَهَبَ) فعل ماض مستأنف، والياء من (بِنُورِهِمْ) يتعلق بذهب، وأما (في) فتعلق بـ: (تَرَكَهُمْ) ، وقوله: (لَا يُبْصِرُونَ) في موضع نصب على الحال والعامل فيه (تَرَكَهُمْ) أي: تركهم غير مبصرون. * * * قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) [البقرة: 26] . الاستحياء: من الحياء ونقيضه القحة، وفي الحديث: (من كلام النبوة: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) قال المازني: الناس يغلطون في هذا، يظنونه أمراً بالقحة، وليس كذلك وإنما معناه: إذا فعلت فعلاً لا يستحيا من مثله فاصنع منه ما شئت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 قال الخليل: الضرب يقع على جميع الأعمال إلا قليلاً، تقول: ضرب في التجارة، وضرب في الأرض، وضرب في سبيل الله، وضرب بيده إلى كذا، وضرب فلان على يد فلان إذا أفسد عليه أمراً أخذ فيه وأراده. وضرب الأمثال إنما هو جعلها لتسير في البلاد، يقال: ضربت القول مثلاً، وأرسلته مثلاً وما أشبه ذلك. والبعوض: القرقس، وهو هذا الذي يسميه العامة (البق) واحدة بعوضة، قال العجاج. وصرت عبداً للبعوض أخصفا وفوق: ظرف: وهو نقيض تحت. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً) [البقرة: 26] أنه جواب ما إذا؟ الجواب للعلماء فيه قولان: أحدهما: ما ذكر عن ابن عباس وابن مسعود - رضي الله عنهما - أن الله تعالى لما ضرب المثلين قيل هذه للمنافقين يعني قوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) [البقرة: 17] ، وقوله: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) [البقرة: 19] قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال. فأنزل الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) [البقرة: 26] إلى قوله (أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [البقرة: 27] ، والمعنى على هذا: أن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً بالصغير والكبير إذا كان في ضربه بالصغير من الحكمة ما في ضربه بالكبير. ويروى عن الربيع بن أنس أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 البعوضة تحيا ما جاعت فإذا شبعت وسمنت ماتت، فكذلك القوم الذين ضرب الله لهم هذا المثل في القرآن إذا امتلأوا من الدنيا أخذهم الله عند ذلك ثم تلا: (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام: 44] والقول الثاني: يروى عن الحسن وقتادة وغيرهما من أهل العلم أنه لما ضرب الله المثل بالذباب والعنكبوت تكلم قوم من المشركين في ذلك وعابوا ذكره، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وذهب بعض أهل العلم إلى أن الاختيار التأويل الأول من قبل أنه متصل بذكر المثلين اللذين ضربهما الله للمنافقين في سورة البقرة، فكان لذلك أولى من أن يكون جواباً لما ذكر في سورة غيرها، إذ كان ذكر الذباب في سورة الحج وذكر العنكبوت في سورة العنكبوت، والأظهر في هذا أن يكون جواباً لما قيل في الذباب والعنكبوت لما فيهما من الاحتقار والضالة، فأخبر الله تعالى أنه لا عيب في ذلك. فصل: للعرب في يستحي لغتان: منهم من يقول: (يستحي) بياء واحدة، وبذلك قرأ ابن كثير في رواية شبل، ومنهم من يقول: (يستحي) بياءين، وبه قرأ الباقون، فوجه هذه القراءة: أنه الأصل. وجه القراءة الأخرى: أنه حذف استثقالاً لاجتماع الياءين، كما قالوا: لم أك، ولم أدر وما أشبه ذلك، والاختيار في القراءة إثبات الياءين، لأنه إذا اعتل لام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 الفعل فلا ينبغي أن يعل العين لئلا يجتمع في الكلمة اعتلالان، لأن ذلك إخلال، ولأن أكثر القراء عليها، ولأنها لغة أهل الحجاز، والأخرى لغة بني تميم، وقال أبو النجم. أليس يستحي من الفرار وقال رؤية في الياء الواحدة: لا أستحي الفراء أن أميسا وفي (ما) ثلاثة أوجه: أحدها أن تكون صلة، كأنه قال: إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً بعوضة. والثاني: أن تكون نكرة مفسرة بالبعوضة كما تكون نكرة موصوفة في قولك: مررت بما معجب لك، أي: بشيء معجب لك. والثالث: أن تكون نكرة، وتكون (بَعُوضَةً) بدلاً منها. فأما (بَعُوضَةً) ففي نصبها ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون مفعولاً ثانياً ليضرب. والثاني: أن تكون معربة بتعريب (ما) كما قال حسان: فكفى بنا فضلاً على من غيرنا حب النبي محمد إيانا وحقيقة البدل. والثالث: يحكى عن الكوفيين زعموا أن النصب على إسقاط حرف الخفض، كأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 قيل: ما بين بعوضة فما فوقها، وحكوا أن العرب تقول: (مطرنا ما زبالة فالثعلبية) ، (وله عشرون ما ناقة فجملاً) وأنكر المبرد هذين الوجهين. وأجود هذه الأوجه: الوجه الأول، وذلك أن (يضرب) لما صارت لضرب الأمثال صارت في معنى (جعل) ، فجاز أن تتعدى إلى مفعولين، وإذا كانت كذلك من جملة ما يدخل على المبتدأ والخبر، هذا أقيس ما يحمل عليه، وإنما اخترته لأنني وجدت في الكتاب العزيز ما يدل عليه، وذلك بأنني وجدت فيه قوله تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ) [يونس: 24] ، فمثل الحياة الدنيا: مبتدأ، وكماء: الخبر، كما تقول: إنما زيد كعمرو، ووجدت فيه (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ) [الكهف: 45] فأنت ترى كيف دخلت (اضْرِبْ) على المبتدأ والخبر فصار هذا بمنزلة قولك: ظننت زيداً كعمرو. ويجوز الرفع في (بَعُوضَةً) من وجهين. أحدهما: أن تكون خبراً لمبتدأ محذوف يكون في صلة (ما) على أن تكون (ما) بمنزلة (الذي) ، فيكون التقدير: إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما هو بعوضة، أي: الذي هو بعوضة. والوجه الثاني: أن يكون على إضمار مبتدأ، لا يكون في صلة (ما) ولا تكون (ما) بمعنى (الذي) كأنه قال: إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما، قيل: ما هو؟ قيل: بعوضة، أي: هو بعوضة، كما تقول: مررت برجل زيد. وقد قيل: أن (ما) هاهنا يجوز أن تكون كافة للفعل، فيستأنف الكلام بعدها، وهو على معنى المفعول، قال الشاعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 أعلاقة أم الوليد بعدما أفنان رأسك كالثغام المخلس واختلف في معنى (فوق) هاهنا فقيل: فما فوقها في الكبر، وقيل: فما فوقها في الصغر، وروي عن قتادة وابن جريح أن البعوضة أضعف خلق - يعني من الحيوان - ولذلك اختار بعض أهل العلم (فَمَا فَوْقَهَا) فما هو أكبر منها، واختار قوم فما فوقها في الصغر، لأن الغرض المطلوب هاهنا الصغر. * * * قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة: 29] . أصل الخلق: التقدير. والأرض في الكلام على ثلاثة أوجه. الأرض المعروفة، والأرض قوائم الدابة، ومنه قول الشاعر. وأحمر كالديباج أما سماؤه فزيا وأما الأرض فمحول والأرض الرعدة، وفي كلام ابن عباس: أزلزلت الأرض أم بي أرض؟ وأصل الجمع: الضم ونقيضه الفرق. والسماء: كل ما علاك فأظلك، وهي في الكلام على خمسة أوجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 السماء التي تظل الأرض، السماء السقف، والسماء السحاب، سمى بذلك لعلوه، والسماء المطر، لأنه نزل من السماء، والسماء المرعي، لأنه بالمطر يكون، قال الشاعر. إذا سقط السماء بأرض قوم وهبناه وإن كانوا غضابا والسبع: عدد المؤنث، والسبعة عدد المذكر، والسبع مشتق من ذلك، لأنه مضاعف القوى، كأنه قد ضوعف سبع مرات، ومن شأن العرب أن تبالغ بالسبعة والسبعين من العدد، نحو قوله تعالى (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) [التوبة: 80] ، والسبعة: تصرف في حلائل الأمور: فالأيام سبعة والسموات والأرض سبع وأعلام النجوم سبعة: زحل والمشترى وعطارد والمريخ والزهرة والشمس والقمر، والبحار سبعة، وأبواب جهنم سبعة في أشباه لذلك. ولفظه (كل) تستعمل للعموم مرة نحو قوله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) [الرحمن: 26] وقد يكون غير عموم نحو: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ) [الأحقاف: 25] و (شيء) عبارة عن كل موجود، هذا مذهب الجماعة، وذهب قوم إلى أنه يقع على الموجود والمعدوم. والعليم: في معنى العالم، قال سيبويه: إذا أرادوا المبالغة عدلوا إلى (فعيل) نحو: عليم ورحيم. وجاء في التفسير عن ابن عباس أن معنى استوى إلى السماء صعد أمره، وقيل معناه: تحول فعله، كما تقول: كان الأمير يدبر أمر أهل الشام ثم أستوى إلى أهل الحجاز، أي: تحول فعله وتدبيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وروي عن الربيع بن أنس: أن استوى بمعنى ارتفع على جهة علو ملك وسلطان، لا علو انتقال وزوال، وفي هذا بعد؛ لأن الله تعالى لم يزل عالياً على كل شيء بمعنى الاقتدار عليه، وأكثر أهل العلم على أن المعنى عمد وقصد. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: لم جاء: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ) على لفظ الجمع؟ وفي هذا جوابان: أحدهما: أن معنى السماء معنى الجمع وإن كان مخرجها مخرج الواحد؛ لأنها على طريقة الجنس كما يقال: أهلك الناس الدينار والدرهم. والجواب الثاني: أن السماء جمع، واحدها (سماوة) و (سماءة) وذكر قطرب ما لفظه لفظ الواحد ومعناه معنى الجمع فقال منه: (وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم: 4] وقوله: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) [الشعراء: 77] وقوله: (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الشعراء: 16] ، قال الشاعر: ألا إن جيراني العشية رائح دعتهم دواع من هوى ومنادح وإذا كانت سماء جمع سماوة، وسماءة كانت بمزلة حمام وحمامة دجاج ودجاجة. فصل: ومما يسأل عنه: كيف اتصل قوله تعالى: (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) بقوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 والجواب: أنه يتصل كما يتصل تفصيل الجملة بعضه ببعض؛ لأنه لما وصف نفسه تعالى بما يدل به على القدرة والاستيلاء وصل ذلك بوصفه بالعلم؛ إذ بهما يصح الفعل على جهة الإحكام والاتقان. ووجه آخر: وهو أنه دل على أنه عالم بجميع ما فعله وبما يؤول إليه حاله. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: هل يوجب (ثُمَّ) في قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) أن يكون خلق السماء بعد الأرض؟ قيل: لا يوجب من قبل أن قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) إنما يدل على أنه جعلها سبعا بعد ما خلق الأرض، وقد كانت السماء مخلوقة كما قال أهل التفسير أنها كانت قبل دخانا، وقال الأخفش: هو كما تقول للصانع: اعمل هذا الثوب، وإنما معك غزل، وقد اعترض قوم من الجهال في هذا فقالوا: إذا كان قوله: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [فصلت: 9] (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ) [فصلت: 10] إلى قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ) [فصلت: 11] إلى قوله: (طَائِعِينَ) [فصلت: 11] موافقا لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) [البقرة: 29] في أنه يوجب أن خلق السماء بعد الأرض، ثم قال في موضع آخر: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا) [النازعات: 27] ثم قال:، فأوجب هذا أن يكون خلق الأرض بعد السماء، فظنوا لجهلهم أن هذا متناقض، وهذا معناه بين؛ لأنه قال: دحاها أي بسطها، ولم يقل خلقها، وكانت قبل دحوها ربوة مجتمعة، ثم بسطها وأرساها بالجبال وأنبت فيها النبات، وأما علام يدل عليه قول ابن عباس ومجاهد في (بَعْدِ ذَلِكَ) فإنها تكون بمعنى (مع) . كأنه قال، والأرض مع ذلك دحاها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة: 30] القول: موضوع في كلام العرب للحكاية، نحو قولك: قال زيد كذا وكذا، وقلت: خرج عمرو وما أشبه ذلك. والرب: السيد، يقال رب الدار ورب الفرس، ولا يقال الرب بالألف واللم إلا الله تعالى، وأصله من ربيته إذا قمت بأمره، ومنه قيل للعالم رباني؛ لأنه يقوم بأمر الأمة. والملائكة: جمع ملك: واختلف في اشتقاقه: فذهب الجمهور من العلماء إلى أنه من الألوكة وهي الرسالة، قال صاحب المعنى: الألوك الرسالة، وهي المالكة على (مفعلة) والمالكة على (مفعلةٌ) : قال غيره: إنما سميت الرسالة ألوكا: لأنها تولك في الفم، مشتقاً من قول العرب: الفرس يالك اللجام، أي: يمضغ الحديدة، قال عدي بن زيد: ئأبلغا النعمان عني مالكا أنه قد طال حبسي وانتظار ويروى مالكا. قال لبيد: وغلام أرسلته أمه بألوك فبذلنا ماسأل وقال عبد بني الحسحاس: ألكني إليها عمرك الله يا فتى بأية ما جاءت إلينا تهاديا وقال الهذلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 ألكني إليها وخير الرسو ل أعلمهم بنواحي الخبر فالملائكة على هذا (معافلةٌ) ؛ لأنه مقلوب جمع ملاك في معنى مألك، قال الشاعر: فلست لانسي ولكن لملاك تنزل من جو السماء يصوب ووزن ملاك (معفلٌ) محول من مألك على وزن (مفعلٍ) ، فمن العرب من يستعمله مهموزاً والجمهور منهم على إلقاء حركة الهمزة على اللام وحذفها، فيقال ملكٌ، وبهذه اللغة جاء القرآن. وقال أبو عبيدة: أصله من لاك إذا أرسل، فملاك على هذا القول (مفعلٌ) ، ملائكة (مفاعلةٌ) ، ولا قلب في الكلام، و (الميم) في هذين الوجهين زائدة، وذهب ابن كيسان إلى أنه من الملك وأن وزن ملاك (فعالٌ) مثل: شمال، وملائكة (فعائلةٌ) ، فـ (الميم) على هذا القول أصلية، والهمزة زائدة. والجعل في الكلام على أربعة أوجه. أحدها: أن يكون بمعنى الخلق، وذلك نحو قوله تعالى: {وجعل الظلمت ..... } [الأنعام: 1] . والثاني: أن يكون بمعنى التسمية نحو قوله تعالى: {وجعلوا لله ...... } [إبراهيم: 30] أي سموا له. والثالث: أن يكون بمعنى عملت، نحو قولك: جعلت المتاع بعضه فوق بعضٍ. والرابع: أن يكون بمعنى طفق، نحو قولك: جعل يقوا كذا وكذا. والخليفة: الإمام، والخليفة من استخلف في أمر، وجمعه (خلائفُ) فأما الخلفاء فجمع (خليفٍ) ، مثل: كريم وكرماء. والإفساد: ضد الإصلاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وأصل السفك: صب الدم/ كذا قال صاحب العين، وقد يقال: سفك الكلام أي: نثره، ورجل سفاك الدماء سفالك الكلام، قال الشاعر. إذا ذكرت يوماً من الدهر على فرع ساقٍ أذرت الدمع سافكا واختلف في وزن (دمٍ) ؛ فقال بعضهم: دميٌ على وزن (فعل) واحتج بقول الشاعر. فلو أنا على حجرٍ ذبحنا جرى الدميان بالخبر اليقين وقيل: وزنه (فعلٌ) ، والأصل (دميٌ) وإنما الشاعر لما رد الياء في التثنية؛ لقلة الاسم حركةُ؛ يعلم أنه كان متحركاً قبل ذلك، ويقا للقطعة من الدم (دمةٌ) ، ذكره صاحب العين. والتسبيح: التنزية لله تعالى، يقال: سبح يسبح تسبيحاً. والسبوح: المستحق للتنزية والتعظيم. والقدوس: المستحق للتطهير، والتقديس: التطهير، وقد حكى سيبويه أن منهم من يقول: سبوح قدوس بالفتح، والضم أكثر في الكلام، والفتح أقيس؛ لأنه ليس في الكلام (فعولٌ) إلا سبوحاً وقدوسا (وذروحا) لواحد الذرايح، يقال ذرحرح حكاه سيبويه. و (سُبحان) اسم للمصدر، ومعناه التنزيه، قال الأعشى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 أقول لما جاءني فجره سبحان من علقمة الفاجر قال أبو العباس: أي براءة منه، قال وهو معرفة علم خاص لا ينصرف للتعريف والزيادة، وقد اضطر الشاعر فنونه، قال أمية. سبحانه ثم سبحانا يعود له وقبلنا سبح الجودي والجمد فصل: ومما يسأل عنه أن يقال ما (إذا) ؟ والجواب: أنها ظرف يدل على الزمان الماضي، فإن قيل: ما العامل فيها؟ قيل: فعل مضمر تقديره: أذكر إذ قال ربك للملائكة، فأما قول أبي عبيدة. إنها زائدة واحتجاجه على ذلك بقول الأسود بن يعفر: فإذا وذلك لا مهاة لذكره والدهر يعقب صالحاً بفساد فغلط من قبل أن معنى الأصل منه مفهوم، فلا يحكم بالزيادة وعنها مندوحة، وتأويل وإذا وذلك: فإذا ما نحن فيه وذلك افكأنه قال: فإذا هذا وذلك، فأشار إلى الحاضر والغائب. ولا يجب أن يقدم على القول بالزيادة في القرآن ما وجد عنها مندوحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 فإن قيل: فما الذي يدل على العامل في (إذا) اذكر، وأنه محذوف؟ والجواب: أن فيه قولين: أحدهما: أن الأية التي قبلها تذكر بالنعمة والعبرة في قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . [البقرة: 28] فكأنّه قيل اذكر النعمة في ذلك، واذكر إذ قال ربك للملائكة. والقول الثاني: أنه لما جرى خلق السموات والأرض، دل على ابتداء الخلق كأنَّه قال: وابتداءُ خلقكم إذ قال ربك للملائكة. وعلى الأول جمهور العلماء، والعرب تحذف إذا كان فيما بقى دليل على ما ألقي، قال النمر بن تولب: فإن المنية من يخشها فسوف تصادفه أينما يريد: أينما كان وأينما ذهب. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: ما المراد بالخليفة؟ وفي هذا جوابان: أحدهما: أن المراد به آدم وذريته: جعلوا خلائف من الجن الذين كانوا يسكنزن الأرض. والقول الثاني: أن المراد بالخليفة أمم يخلف بعضهم بعضاً، كلما هلكت أمة خلفتها أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 ويروى عن ابن عباس وابن مسعود - رضي الله عنهما - أن آدم - عليه السلام -، يكون خليفة لله تعالي؛ يحكم بالحق في أرضه، إلا أن الله تعالى أعلم الملائكة أن يكون من ذريته من يسفك الدماء ويفسد الأرض. ويسأل عن الألف من قوله: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30] ؟ وقد اختلف فيها؛ فقال أبو عبيدة والزجاج: هي ألف إيجاب كما قال جرير: ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح هذا إيجاب وليس بلستفهام، وهذا القول غير مرضي، وإنما غلط من قال هذا من قبل أن الله تعالى قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] فلا يجوز أن يشكوا فيما أخبرهم الله تعالى فيستفهموا منه، فلهذا منعوا أن يكون استفهاماً. وليس يوجب الاستفهام الشك في أنه سيجعل، وإنكا يوجب الشك في أن حالهم يكون مع الجعل، وترك الجعل في الاستقامة والصلاح سواء. وأصل الألف للاستفهام، قال علي بن عيسى قال بعض أهل العلم: هو استفهام، كأنهم قالوا أتجعل فيها من يفسد. وهذا حالنا في التسبيح والتقديس، أم الأمر بخلاف ذلك، فجاء الجواب على طريق التعريض من غير تصريحٍ في قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] ، قال: وهذا الاختيار؛ لأن أصل الألف للاستفهام، فلا يعدل بها عنه إلا أن لا يصح التأويل عليه. سمعت أبا محمد مكي بن أبي طالب - بعض شيوخنا - يقول: الاستفهام فيه معنى الإنكار، ولا يجب أن تحمل الألف عليه، وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 يسميها ألف التعجب؛ كأن الملائكة تعجبت من ذلك. وأمَّا أنا فأرى أنها ألف استرشاد، كأن الملائكة استرشدتِ الله وسألته: ما وجه المصلحة في ذلك؟. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: من أين علمت الملائكة أنهم يفسدون في الأرض؟ ففي هذا جوابان: أحدهما: أن الله تعالى أعلمهم أنه يكون من ذرية هذا الخليفة من يفسد في الأرض ويسفك الماء، فاقتضى ذلك أن سألوا هذا السؤال، وهذا معنى قول ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما. والجواب الثاني: أن الجن كانوا في الأرض، فكفروا وأفسدوا وسفكوا الدماء فلما أخبرهم الله تعالى أنه جاعل في الأرض خليفة، أحبوا أن يعلموا هل سبيله في ذلك سبيل من كان فيها من الجن. وإلى القول الأول يذهب أهل النظر، فإن قيل: فليس في القرآن إخبار بذلك قيل: هو محذوف، اكتفى منه بدلالة الكلام؛ إذ كانت الملائكة لا تعلم الغيب. وقيل في قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] أنه ناب عن الجواب الذي هو (نعم) . وقيل معناه: إني أعلم من المصلحة والتدبير مالا تعلمون. وقيل معناه: إني أعلم مالا تعلمون من أن ذلك الخليفة يكون من ذريته أهل طاعةٍ وولايةٍ، وفيهم الأنبياء. وقيل: إني أعلم مالا تعلمون من إضمار إبليس المعصية وانطوائه عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 فصل: قد تقدم أن موضع (إذ) نصب على إضمار فعل و (الواو) عاطفة جملة {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] جملة في موضع نصب بـ: {قَالَ} ، قوله: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30] إلي قوله: {وَنُقَدِّسُ لَكَ} في موضع نصب بـ: {قَالُواْ} ، و (الواو) في قوله: {وَنَحْنُ} واو الحال، وتسمى: واو القطع وواو الاستئناف وواو الابتداء وواو (إذ) كذا كان يمثلها سيبويه، ومثلها الواو في قوله تعالى: {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [آل عمران: 154] أي إذ طائفة. كذا هاهنا؛ إذ نحن نسبح، والعامل في الحال هاهنا {أَتَجْعَلُ} كأنَّه قال: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء وهذه حالنا من التسبيح. و (الباء) من {بِحَمْدِكَ} يتعلق بـ: {نُسَبِّحُ} ، و (اللام) من {لَكَ} يتعلق بـ: {نُقَدِّسُ} ، قوله {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} في موضع نصب بـ: {قَالَ} الذي قبله. و (إن) تكسر في أربعة مواضع: بعد القول نحو ما في الآية، وبعد القسم وبعض العرب يفتحها بعد القسم والكسر أكثر، وفي الابتداء، وإذا كان في خبرها اللام. * * * قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34] . أصل السجود: الخضوع، يقال سجد وأسجد إذا ذل وخضع قال الأعشى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 من يلق هوذَةَ يَسجُد غير مُتَّئبٍ إذا تعصَّبَ فوق التاجِ أوْ وَضَعَا وقال آخر: فكلتاهما خرت واسجد رأسها كما سجدت نصرانة لم تحنف ويقال في الجمع (سجد) ، قال الشاعر: بجمع تضل البلق في حجراته ترى الأكم فيها سجَّداً للحوافرِ أي مذللة، ويقال نساءٌ سجد، إذا كن فاترات الأعين، قال: والهوى إلى حور المدامع سجد. والإسجاد: الاطراق وإدامة النظر في فتور وسكونٍ، قال الشاعر: أغرك مني أن ذلك عندنا وإسجاد عينيك الصيودين رابح و (آدم) : أفعل من الأدمة وهي السمرة، وقيل: أخذ من أدمة الأرض. ومعنى أبى وامتنع واحد، والاستكبار والتكبر والتعظم والتجبر واحد، ونقيضه التواضع. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: أكان إبليس من الملائكة حتى استُثنى منهم أم لا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 والجواب أن العلماء اختلفوا في ذلك: فذهب قوم إلى أنه لم يكن من الملائكة، وجعل الاستثناء هاهنا منقطعاً، كقوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] . وأنشد سيبوية: والحرب لا يبقى لجا حمها التخيل والمراح إلا الفتى الصبار في النجـ دات والفرس الوقاح واحتج على صحة هذا القول بقوله تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] فنفى المعصية عنهم نفياً عاماً، واحتج أيضاً بقوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} ، ومتى أطلق لفظ (الجنّ) لم يجز أن يعنى به إلا الجنس المعروف، واحتج أيضاً بأن إبليس له نسل وذرية، قال الحسن: إبليس أبُ الجن، كما أن آدم أبُ الأنس. واحتج أيضاً بأن إبليس مخلوق من النَّار، والملائكو روحانيون خُلقوا من الريح، وقال الحسن: خُلقوا من النور لا يتناسلون ولا يأكلون ولا يشربون، وقال الله تعالى في إبليس وولده: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف: 50] واحتج أيضا بقوله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} [فاطر: 1] ، فعمها بالوصف بالرسالة، ولا يجوز على رسل الله أن تكفر، ولا أن تفسق، كما لا يجوز على رسله من البشر من قبل أنهم حجة الله على خلقه فالملائكة [11/ط] بهذه المنزلة، ولو جاز عليهم الفسق لجاز عليهم الكذب، فكأن يكون لا سبيل إلى الفرق بين الصدق والكذب فيما أخبروا به عن الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وذهب الجمهور من العلماء إلى أنه من الملائكة، وأحتجوا بأنَّه لو كان من غير الملائكة لما كان ملوماً في ترك السجود، ن الأمر إنما يتناول الملائكة دون غيرهم، قال: وأمَّا ما احتج به من أنهم: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 60] وأنه أنفى نفياً عاماً، فإن العموم قد يختصُّ من الشيئ، نحو قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] ، وقد علم أن المعنى: وأوتيت من كل شيء يؤتاه الملوك، ولم يرد جميع الأشياء قال: وأمَّا احتجاجه بقوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50] فإن الجن جنس من الملائكة، وقيل يقع الجن على جميع الملائكة؛ لاجتنانها عن العيون، قال أعشى بن ثعلبة: ولو كان شيء خالداً أو معمراً لكان سليمان البري من الدهرِ براهُ إلهي واصطفاهُ عبادُه وملكه ما بين ثريا إلى مصرِ وسخر من جنًّ الملائك تسعة قياما لديه يعملون بلا أجرِ وقال تعالى" {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158] ، وقال: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات: 158] ، فالجنَّ هاهنا الملائكة بلا خلاف؛ لأنَّ قريشاً قالت: الملائكة بنات الله، فرد الله عليهم. وأما قوله: إن لإبليس نسلاً وذرية، والملائكة ليست كذلك، فلا دليل فيه؛ لأنَّ الله تعالى لما أهبطه إلى الأرض ولعنه تغيرت حاله عن حال الملائكة، فإذا كان كذلك لم تصح الدلالة بذلك، وأما قوله: أنه مخلوق من النار والملائكة خلقوا من الريح، فقال الحسن: الملائكة خلقوا من النور، والنار والنور سواء، وقوله: الملائكة لا يطعمون ولا يشربون، والجن يطعمون ويشربون، فقد جاء عن العرب ما يدل على أنهم لا يطعمون ولا يشربون. أنشد أبو القاسم الزجاجي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 قال أنشدنا ابن دريد قال أنشدنا أبو حاتم: ونارٍ قدْ حضأتُ بعيدَ وهنٍ بدارٍ ما أريدُ بها مقاما سوى تحليل راحلةٍ وعينٍ أكالئها مخافةَ أنْ تناما أتوا ناري فقلتُ: منونَ أنتم؟ فقالوا: الجنُّ، قلت: عموا ظلامًا فقلت إلى الطعامِ، فقال منهم زعيم: نحْسُدُ الأنسَ الطعاما لقدْ فضلتمُ بالأكلِ فينا ولكنْ ذاك يعقبكم سقاما فهذا يدل علة أنهم لا يأكلون ولايشربون؛ لأنهم روحانيون. وجاء في بعض الأخبار النهي عن التمسح بالعظم والروث، قال: لأنَّ ذلك طعام الجن، وطعام دوابهم، فإن صحَّ ذلك، فلأنهم لما سكنوا الأرض خالفوا حكم الملائكة؛ لأنهم خرجوا من جملتهم بعصبية إبليس. زقيل في تأويل الحديث، أنهم يتشممون ذلك ولا يأكلون، والقول الأول: قول الحسن، والثاني: قول الجمهور من العلماء، وروي عن ابن عباس القولان جميعاً. وروي عن ابن مسعود، قال: كانت الملائكة تقاتل الجن، فسبي إبليس وكان صغيراً مع الملائكة، فتعبد معها بالأمر بالسجود، فلذلك قال الله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50] . ويُسأل عن سجود الملائكة لآدم على أي وجه كان؟ وفيه جوابان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 أحدهما: أنه كان على وجه التحية لآدم، والتكرمة والعبادة لله تعالى لا لآدم، وهو قول قتادة. والثاني: أنه كان على معنى القبلة، كما أُمروا بالسجود إلى القبلة. والوجه الأول أبين. فصل: ويُسأل عن قوله: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34] . ما معنى (كان) ؟ الجواب: أنَّ بعضهم قال المعنى: وصار من الكافرين، وقيل: كان في علم الله من الكافرين، وقال بعضهم: كان كافراً في الأصل. فصل: * * * قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا} في موضع نصب؛ لأنَّها معطوفة على {وَإِذْ} الأولى كأنَّه قال: واذكر إذ قال ربُّك للملائكة. وقال أبو عبيدة: لا موضع لها، وقد نبهنا على فساد هذا فيما تقدم. وإبليس: اسم أعجمي لا ينصرف في المعرفة للتعريف والعجمة. قال الزجاج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وغيره من النحويين: هو اسم أعجمي معرب استدلوا على ذلك بامتناع صرفه، وذهب قوم إلى أنه عربي مشتق من (الإبلاس) . وأنشدوا للعجاج. يا صاح هلْ تعرفُ رسماً مكرسًا قال: نعم أعرفهُ وأبلسا وقال رؤبة: وحضرتْ يومَ الخميسِ الأخماس وفي الوجوهِ صفرةٌ وإبلاس أي: اكتئابٍ وكسوفٍ، وزعموا أنَّه لم ينصرف استثقالاً له، لأنَّه اسم لا نظير له من أسماء العرب، فشبهته العرب بأسماء العجم التي لا تنصرف. وزعموا أنَّ (إسحاق) الذي لا ينصرف من أسحقه الله إسحاقاً، وأنَّ (أيوب) من آب يؤوب، وأن (إدريس) من الدرس في أشباه لذلك، وغلطوا في ذلك؛ لأنَّ هذه ألفاظ معبرة وافقت ألفاظ العربية (7) ، وكان أبو بكر بن السراج (8) يمثل ذلك على جهة التبعيد لمن يقول: إن الطير ولد الحوت، وغلطوا أيضاً في أنه لا نظير له في أسماء العرب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 والعرب تقول: إزميل اسم للشفرة: قال الشاعر: همُ منعوا الشيخَ المنافى بعدما رأى حمةَ الإزميل فَوقَ البراجمِ وقالوا: إحريض للطلع، وإخريط لصبغ أحمر، ويقال: هو العصفر. قال الراجز: ملتهبٌ تلهبَ الإحريضِ وقالوا: سيف إصليت: ماضِ، كثيرُ الماء. قال الراجز. كأنني سيفٌ إصليتُ وقالوا: ثوب إضريحٌ، أي: مشبع الصبغ. وقالوا: من الصفرة خاصة. قال النابغة: تحييهُمُ بيضُ الولائدِ بينهمْ وأكسيةُ الإضريجِ فوقَ المشاجبِ وهذا كثير، وإنما أوردنا هذه الأشياء لزعمهم أنه لا نظير له. وإبليس: نُصب على الاستثناء المتصل في مذهب من جعله من الملائكة، وعلى الاستثناء المنقطع في مذهب من جعله من غير الملائكة. * * * قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة: 41] يُسأل: ما معنى قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 والجواب: أن المعنى ولا تكونوا أوَّل كافرٍ بالقرآن من أهل الكتاب، وقد كانت قريش كفرت به بمكة. وقيل: المعنى ولا تكونوا السابقين إلى الكفر فيتبعكم الناس، أي: لا تكونوا أئمةٌ في الكفر به. وقيل: المعنى ولا تكونوا أوَّل جاحدٍ أن صفة النَّبي في كتابكم، والهاء في {بِهِ} على هذا القول تعود على النبي - عليه السلام - وفي القول الأول تعود على القرآن. وقيل: المعنى ولا تكونوا أوَّل كافر بما معكم من كتابكم؛ لأنكم إذا جحدتم ما فيه من صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كفرتم به. والأول: قول أبي العالية، والقول الثاني: قول ابن جريح، والقول الثالث: حكاه الزجاج. فصل: ومما يُسأل عنه: أن يقال لم وحد {كَافِرٍ} في قوله: {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} وقبله جمع؟ وفي هذا أجوبة: قال الفراء: لأنه في مذهب الفعل، معناه: أول من كفر بع، ولو أريد الاسم لم يجز إلا بالجمع، مثل قولك للجماعة: لا تكونوا أوَّل رجال يفعلون ذلك. لا يجوز أن تقول: لا تكونوا أول رجل يفعل ذلك. وقال أبو العباس: هذا الذي قاله الفراء خارجٌ من المعنى المفهوم؛ لأنَّ الفعل هاهنا الاسم سواء، إذا قال القائل: زيد أول رجل جاء لمعناه: أول الرجال الذين جاؤوا رجلاً رجلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وكذلك إذا قال: أوَّل كافر به، وأوَّلَ مؤمن، فمعناه: أوَّلُ الكافرين وأوَّلُ المؤمنين لا فصل بينهما في لغة ولا قياس ولا فيما يتقبله النًّاس. قال: ومجازه لا تكونوا أوَّلَ قبيل كافر به، وأوَّلَ حزب كافر به، وهو مما يسوغ به النًّعت؛ لأنَّا نقول: جاءني قبيل صالحٌ وحيٌ كريمٌ. ونظير ما ذكره أبو العباس، قول الشاعر: وإذا هم طعمُوا فألأمُ طاعمٍ وإذا همُ جاعوا فشرُّ جياعِ. وقال الزجاج: في هذه المسألة إذا قلت: الجيشُ رجلٌ، فإنما يكره من هذا أن يُتوهم أنك تقلله. فأما إذا عُرف معناه فهو سائغٌ جيدٌ، تقول: جيشهم إنما هو رجلٌ وفرسٌ، أي: ليسوا بكثير الأتباع، فيدلُّ المعنى على أنك تريد: الجيش خيلٌ ورجالٌ، وهو في فاعلٍ ومفعولٍ أبين، كقولك: الجند مقبلٌ، والجيش مهزومٌ. قال غيره: لا يجوز، نحن أوَّلُ رجلٍ قامَ، ويجوز نحنُ أوَّلُ قائمٍ. قال علي عيسى: إن جعل الواحد بإزاء الجماعة إذا لم يكن فيه معنى الفعل كان قبيحاً، ألا ترى أنه يقبح: أخوتك أوَّلُ رجل، وإنما يحسنُ: أخوك أوَّلُ رجل؛ لأنك ذكرت واحداً فقابلت به واحداً علة معنى الجميع، ولا يجيء على ذلك القياس إذا ذكرت جميعاً إلا أن تقابل به الجميع. وقد علمنا أنَّهم جعلوا لفظ الواحد في موضع الجمع الإيجاز. وأبين هذه الأقوال قول أبي العباس. فصل: ويُقال: إذا كانوا أوًّلَ كافر به، ما في ذلك من تعظيم الأمر عليهم في أن لا يكونوا ثاني كافر؟ فالجواب: لأنهم إذا كانوا أئمة في الضلالة، كانت ضلالتهم أعظم على نحو ما جاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 من قولهم: من سنًّ سُنَّةَ خيرٍ كان له أجرها وأجر من يعمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنَّ سنَّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من يعمل بها إلي يوم القيامة. ونصب {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} ؛ لأنه خبر كان، وأما نصب قوله: {مُصَدِّقًا} فلأنه حال من الهاء المحذوفة؛ كأنه قال: وآمنوا بما أنزلته مصدقاً لما معكم، ويصلح أن ينتصب بـ: {آمَنُوا} ، كأنه قال: آمنوا بالقرآن مصدقاً، ومعكم ظرف، والعامل فيه الاستقرار، كأنه قال: وآمنوا بما أنزلت مصدقاً للذي استقر معكم، وهذا الاستقرار مع الظرف الذي يتعلق به من صلة الذي. * * * قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] . استعينوا: اسْتَفْعِلُوا، من العون، وأصله: استعونوا، فاستُثقلت الكسرة على الواو، فنقُلت إلى العين فانقلبت ياء لانكسار ما قبلها؛ لأنه ليس في كلام العرب واو ساكنة قبلها كسرة. والصبر: نقيض الجزع. وأصل الصلاة عند أكثر أهل اللغة الدعاء. من [ذلك] قول الأعشى. عليكِ مثْلُ الذي صلَّليتِ فاغتمضي يوماً فإنَّ لجنْبِ المرءِ مُضطجعا أي: دعوت. ومثله: وقابلها الرَّيحُ في دنّها وصلى على دنهت وارتسمْ أي: دَعَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وقيل: أصلها اللزوم من قول الشاعر: لمْ أكنُ من جنتها - عَلِمَ الله - وإني لحرها اليوم صالِ أي: ملازمٌ لحرها، فكأنَّ معنى الصلاة ملازمة العبادة على الحد الذي أمر الله تعالى به. وقيل: أصلها من الصلا، وهو عظم العجز لرفعه في الركوع والسجود. ومن هذا قول النابغة: فآبَ مصلوهُ بعينٍ جليةٍ وغودرَ بالجولانِ حزمٌ زنائلٌ أي: جاؤوا في صُلا السابق، وعلى القول الأول أكثر العلماء. ومنه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] ، أي: دعاؤهم، والأصل على ما قلنا الدعاء، وهو: اسم لُغَويٌ، فأضيف إلى ذلك الدعاء عمل بالجوارح، فقيل: صلاة، وصار اسماً شرعياً. ومثل هذا (الصوم) أصله الإمساك في اللغة. وجاء في الشرع: الإمساك عن الطعام، فصار اسماً شرعياً بهذه الزيادة. والكبيرة: نقيض الصغيرة، ويقال: كبرُ الشيء فهو كبير، وكبرُ الأمر، أي: عظم، وأصل الخشوع التذلل. قال جرير. لما أتى خبرُ الزبير تَضَعْضَعَت سور المدينةِ والجبال الخشعُ ومنه: خشعتْ الأصوات، أي: سكنت وذلت. فصل: ومما يسأل عنه: أن يقال: ما وجه الاستعانة بالصلاة؟ والجواب: أنه لما كان في الصلاة تروة القرآن، وفيها الدعاء والخضوع لله .... كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 ذلك معونة على ما ينازع إليه النفس من حب الرئاسة والأنفة من الانقياد إلى الطاعة. وهذا الخطاب وإن كان لأهل الكتاب، فهو أدب لجميع العباد. ويقال: ما معنى الاستعانة بالصبر؟ قيل: المعنى استعينوا بالاستشعار للصبر. وقيل: استعينوا بالصبر، أي: بالصوم. ويُسأل عن معنى: (كبيرة) هاهنا، والجواب: أن الحسن والضحاك قالا: ثقيلة، والأصل في ذلك أن ما يكبر يثقل على الإنسان حمله كالأجسام الجافية. ويسأل عن الهاء في قوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} على ما تعود؟ والجواب: إنها تعود على اإجابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا قول، وإن لم يجر للإجابة ذكر، لأنَّ الحال تدل عليها. وقال قوم: تعود على الاستعانة؛ لأن استعينوا تدل على الاستعانة. ومثله قول الشاعر: إذا نهي السفيهُ جرىَ إليهِ وخالفَ والسفيهُ إلى خلاف. أي: جرى إلى السفه، ودل السفيه على السفه، ومثل الأول: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] يعني: القرآن، ولم يجر له ذكر، وقيل: تعود على الصلاة، وهو القول المختار، وجاز أن يرد عليها لقربها منه، وقيل: يعود إليهما جميعاً، وإن كان الضمير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 واحداً وهما لااثنان، كما قال الله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] فرد الضمير إلى واحد. وقال الشاعر: أمَّا الوسامة أو حسنُ النساءِ فقدْ أوتيتِ منهُ أو أن العقل محتنكُ وهذا كثير في كلامهم. فصل: ومما يُسأل عنه أن يقال: لم خصَّ الخاشعَ بأنها لا تكبرُ عليه دون غيره؟ والجواب: أنَّ الخاشعَ قد توطأ له ذلك بالاعتياد له، والمعرفة بما له فيه، فقد صار لذلك بمنزلة من لا يشق فعله عليه، ولا يثقل تناوله. ويقال: لمن هذا الخطاب؟ والجواب: أنه لأهل الكتاب على هذا أكثر أهل العلم. وقال بعضهم: هو لجميع المسلمين. فصل: * * * قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85] فيُسأل عن قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ} ، ما معنى {هَؤُلَاءِ} هنا؟ وكيف يتصل به {تَقْتُلُونَ} ؟ وما موضعه من الإعراب؟ فالجواب: إن فيه ثلاثة أقوال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 أحدها: أنَّ معناه النداء، كأنه قال: ثم أنتم با هؤلاء تقتلون أنفسكم. والثاني: أنَّ معناه التوكيد لأنتم، والخبر تقتلون - أعني - خبر أنتم؛ لأنه مبتدأ. والثالث: أنه بمعنى الذي، وصلته (تقتلون) ، وموضع (تقتلون) رفع إذا كان خبراً، وإذا كان (هؤلاء) بمعنى الذين فلا موضع لتقتلون؛ لأنه صلة. قال الزجاج: ومثلة في الصلة: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17] . أي: وما التي بيمينك. وأنشد النحويون: عدسْ ما لعبادٍ عليكِ إمارةٌ أمنتِ وهذا تحملين طليقُ وهذا القول الأخير على مذهب الكوفيين، ولا يجييزه أكثر البصريين، وقد ذهب إليه جماعة من المتأخرين ممن يرى رأي البصريين. * * * قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} [البقرة: 96] . الزحزحة: التنحية، والعذاب: اسم للتعذيب، وهو بمنزلة الكلام من التَّكليم، والتَّعمير: طول العمر، وعمر الشيء ومدته سواء. وقوله: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ} فيه ثلاثة أقوال: أدها: أنه كناية عن {أَحَدُهُمْ} الذي جرى ذكره في قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 والثاني: أنه كناية عن التعمير، والثالث: أنه عماد. ومنع الزجاج هذا القول الأهير، قال: إذا جاءت الباء في خبر (ما) لم يصلح العماد عند البصريين لا يجوز عندهم: ما هو بقائم زيدٌ، ولا ما هو قائماً زيدٌ. قال غيره: إذا كانت (ما) غير عامله في الباء جاز، كقولك: ما بهذا بأسٌ. فصل: ومما يسأل عنه: أن يقال: ما موضع {أَنْ يُعَمَّرَ} ؟ والجواب: رفعٌ، فإن قيل: من أي وجهٍ" قيل: من وجهين: أحدهما: الابتداء وخبره: بمزحزحه، أو يكون على تقدير الجواب لما كنى عنه، كأنه قيل: وما هو الذي بمزحزحه؟ فقيل: هو التعمير. والوجه الآخر: أن يرتفع بمزحزحه ارتفاع الفاعل بفعله، كما تقول: مررت برجل معجب قيامُهُ، وقيل في معنى بمزحزحه: بِمُبِعِبِدهِ، وقال ابن عباس: بمُنجيه، وهو قول أبي العالية أيضاً. * * * قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106] قال ابن دريد: النسخ نسخك كتاباً عن كتاب، قال صاحب العين: النسخ أن تُزيل أمراً كان من قَبلُ يعمل به تنسَخه بحادث غيره، كالآيه ينزل فيها أمر ثم يخفف عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 العباد فينسخ تلك الآية آية أخرى، فالأولى منسوخةٌ والأخرى ناسخةٌ. والنسأ: التأخير، والآية: القطعة من القرآن. قال ابن عباس: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} يقول ما نبدلُ من آيةٍ. فصل: ومما يسأل عنه: أن يقال: ما معنى (ماننسأها) بالهمز؟ قيل: نؤخرها، قيل: فما معنى التأخير هاهنا؟ ففي هذا جوابان: أحدهما: أن يكون المعنى نؤخرها فلا ننزلها، وننزل بدلاً منها مما يقوم مقامها في المصلحة أو تكون أصلح للعباد منها. والثاني: أن يكون المعنى نؤخرها إلى وقت ثانٍ، ويأتي بدلاً منها في الوقت المتقدم ما يقوم مقامها. فأما من تأول ذلك على معنى يرجع إلى النسخ، فلا يحسُن إذا كان محصوله في التقدير: ما ننسخ من آية أو ننسَخها، وهذا لا يصح. ويقال: عل يجوز نسخ القرآن بالسُّنة؟ فالجواب: أن بعض أهل العلم أجازه، ولعضهم منعه. واختلف في القراءة فقرأ ابن عامر: "مَا نُنْسِخْ مِنْءَايَةٍ" بضَمَّ النون وكسر السين، وقرأ الباقون: {مَا نَنْسَخْ} بفتحها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 فأما ننسخ: فَمنْ نَسَختُ فأنا ناسخٌ، والشيء منسوخ، وأما نُتْسِخ ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون بمعنى ما نُنْسِخُكَ يا محمد، وهو قول أبي عبيدة. يُقال: نسخت الكتاب وأنسختُهُ غيري. والثلتي: أن يكون ننسخ جعلته ذا نسخ، كما يقال: أقبرته جعلته قبرٍ. ويروى ان الحجاج صلب رجلاص، فقال له قومه: اقبرنا فلاناً، اي: اجعله ذا قبر. واختلف في (نَنْسَاهَا) ، فقرأ ابن كثير وأبو عمرو {نَنْسَأَهَا} بالهمزة وهو جزم بالشرط، ولا يجوز حذفها عندهما، لأن سكونها علامة الجزم، وقرأ الباقون {نُنسِهَا} بضم النون وكسر السين على أم يكون من النسيان، أو يكون من الترك، والأول قول قتادة، والثاني قول ابن عباس. فصل: ومما يُسأل عنه: أن يقال: كيف يجوز على الجماعة الكبيرة أن تنسى شيئاً كانت حافظةٌ له حتى لا يذكره ذاكر منها؟ والجواب: أن فيه قولين: أحدهما: أنه إذا أمر الناس بترك تلاوته نسي على مرور الأيام. والثاني: أن يكون معجزة للنبي - عليه السلام -، وقد حاءت أحاديث متظاهرة في أنها نزلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 أشياء من القرآن ثم نسخت تلاوتها، فمنها ما ذكر أبو موسى الأشعري أنهم كانوا يقرؤون: (لو أنَّ لابن آدم واديين من ذهبٍ لابتغى لهما ثالثاً، ولا يملأ جوفَ ابن آدم إلا التُراب ويتوب اللهُ على من تاب) . ثم رفع. ومنها: عن قتادة عن أنس أن السبعين من الأنصار الذين قتلوا ببئر معونة كانوا يقرؤون فيهم كتاباً: (بلَّغوا عنَّا قومنا أنَّا لقينا ربَّنَا ورضي عنَّا وأرضانا*, ثم إن ذلك رفع. ومنها: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتَّة) . ومنها: ماروي عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قال: كنا نقرأ: (لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم) . ومنها ما حكي أن سورة الأحزاب كانت تعادل سورة البقرة في الطول. فصل: ومما يسأل عنه: أن يقال: على كم وجه يصحُّ النسخ؟ والجواب: على ثلاثة أوجه: نسخ الحكم دون اللفظ، ونسخ اللفظ دون الحكم، ونسخهما جميعاً. فالأول: كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} إلى قوله: {يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [الأنفال: 65-66] . والثاني: كآية الرجم، كانت منزلة فرفع لفظها وبقي حكمها. والثالث: يجوز وإن لم يقطع بأنه كان كالذي قيل أنه كان على المؤمنين فرض قيام الليل ثم نسخ، ولا يجوز إلا في الأمر والنهي، ولا يجوز في الخبر والقصص، لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 ذلك يؤدي إلى الكذب، والقرآن منزه عن ذلك. ويقال: ما معنى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ؟ وفيه جوابان: أحدهما: أن يكون المعنى: بخير منها لكم في التسهيل والتيسير، كالأمر بالقتال الذي سهل على المسلمين في قوله: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] ، أو مثلها، كالعبادة بالتوجه إلى الكعبة بعدما كان إلى بيت المقدس. والثاني: أن يكون المعنى بخير منها في الوقت الثاني، أي: هي لكم في الوقت الثاني خير من الأولى لكم في الوقت الأول أم مثلها في ذلك، وهو: معنى قول الحسن، كأنَّ الآية في الوقت الثاني في الدعاء إلى الطاعة والزجر عن المعصية مثل الآية الأولى في وقتها، فيكون اللطف بالثانية كاللطف بالأولى، إلا أنه في الوقت الثاني يستقيم بها دون الأول، والجواب الأول معنى قول ابن العباس. * * * قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] يقال: رغبت في الشيء أحببته، ورغبت عنه كرهته، والملَّة: الدين. وفي (إبراهيم) أربع لغات: إبراهيم، وإبراهام، وإبراهِم، وإبرلاهَم. والاصطفاء: افتعال، من الصفوة، والطاء مبدلة من تاء الافتعال؛ لأن الطاء تشبه الصاد في الاستعلاء والإطباق، وهي من مخرج التاء، فاختاروها ليكون العمل من جهة واحدة. والسَّفة: الخفة. والمعنى: ومن يَمِلْ عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه. واختلف في {سَفِهَ نَفْسَهُ} ، فقال الأخفش: أهل التأويل يزعمون أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 المعنى: سَفَّهَ نفسَهُ. وقال يونس: أراها لغة. قال الزجاج: ذهب يونس إلى أن فَعِلَ للمبالغة، كما أن فَعُلَ كذلك. قال: ويجوز على هذا سَفِهْتُ زيداً بمعنى سَفَهْتُ. وقال أبو عبيدة: معناه: أهلك نفسهُ، وأوبق نفسهُ. قال ابن زيد: إلا من أخطا حظه، فهذا كله وجه واحد في التأويل. وقال آخرون: هو على التفسير، كقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء: 4] وهو قول الفراء، قال: العرب توقع سفه على نفسه وهي معرفة، وكذا: {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58] . أنكر هذا الزجاج، وقال: معنى التمييز لا يحتمل التعريف؛ لأن التمييز إنما هو واحد يدل على جنسه، فإذا عرفته صار مقصوداً، وقيل: هو تمييز على تقدير الانفصال، كما تقول: مررت برجل مثله، أي: مثل له. وقيل: هو على حذف حرف الجر، كما قال تعالى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة: 235] ، أي: على عقدة النكاح. قال الشاعر: نغالي اللحم للأضياف نياً ونبذله إذا نضج القدور كأنه قال: نغالي باللحم. قال الزجاج: وهذا مذهب صحيح، والاختيار عنده أن يكون سفه في معنى جهل، وهو موافق لما قال ابن السراج في: {ببَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58] لأن البطر مستقل للنعمة، غير راض بها. ويقال: لم قال: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130] فحص الآخرة بالذكر وهو في الدنيا كذلك؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 والجواب: أن الحسن قال: المعنى أنه نمن الذين يستوجبون على الله الكرامة وحسن الثواب. فلما كان خلوص الثواب في الآخرة دون الدنيا وصفه بما ينبئ عن ذلك. وفي هذا الآية دلالة على أن ملة نبينا - صلى الله عليه وسلم - هي ملة إبراهيم - عليه السلام - مع زيادات في ملة نبينا، فبين أن الذين يرغبون من الكفار عن هذه الملة، وهي تلك الملة قد سفهوا أنفسهم، وهذا قول قتادة زالربيع. * * * قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] وصَّى، وأوصى، وأمر، وعهد بمعنى. ومما يسأل عنه: أن يقال: على ما يعود الهاء من {بِهَا} ؟ والجواب فيه قولان: أحدهما: أنها تعود على الملة وقد تقدم ذكرها، وهو قول الزجاج. والثاني: أنها تعود على (الكلمة) التي هي أسلمت لرب العالمين، قاله بعض أمر اللغة. ويسأل: بما ارتفع {يَعْقُوبُ} ؟ والجواب. أن فيه قولين: أحدهما: أنه معطوف على إبراهيم، والتقدير: ووصى بها يعقوب، وهذا معنى قول ابن عباس وقتادة. والثاني: أنه على الاستئناف، أي: ووصى يعقوب أن يا بني، والفرق بين التقديرين أن الأول لا إضمار فيه، لأنه معطوف، والثاني فيه إضمار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 فصل: ويسأل عن قوله: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] كيف نهاهم عن الموت وليس الموت إليهم، فيصح أن يُنهًو عنه؟ والجواب: أن أبا بكر بن السراج، قال: لم يُنهو عن الموت وإن كان اللفظ على ذلك، وإنما نُهوا في الحقيقة عن ترك الإسلام لئلا يصادفهم الموت عليه، فإنه لابد منه، وتقديره: اثبتوا على الإسلام لئلا يصادفكم الموت وا، ـم على غيره. ومثله في الكلام: لا أرينك هاهنا، فالنهي في اللفظ للمتكلم وهو في المعنى للمخاطب، كأنه قال: لا تتعرض للكون هاهنا، فإن من كان هاهنا لا أراه. * * * قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] . القصاص: القود، والحياة: نقيض الموت، والألباب: العقول، أحدها لب. وهذا من الكلام الموجز. ونظيره من كلام العرب: القتل أنفى للقتل، إلا أن ما في القرآن أوجه وأفصح وأكثر معاني. والفرق بينهما في البلاغة من أربعو أوجه. وهو أنه أكثر في الفائدة، وأوجز في العبارة، وأبعد من الكلفة بتكرير الجملة، وأحسن تأليفاً بالحروف المتلائمة. أما الكثرة في الفائدة ففيه كل ما في (القتل أنفى للقتل) ، وزيادة معاني حسنة، منها إبانة العدل لذكره القصاص؛ لأنه ليس في قولهم القتل أنفى للقتل بيان أنه قصاص، ومنا إبانة الغرض المرغوب فيه وهو الحياة، ومنها الاستدعاء بالرغبة والرهبة وحكم الله به. وأما الإيحاز في العبارة، فإن الذي هو نظير القتل أنفى للقتل، وقله تعالى: {الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} . وهذة عشرة أحرف، والأول أربعة عشر حرفاً. وأما بعده من الكلفة بالتكرير الذي فيه على النفس مشقة، فإن قولهم: القتل أنفى للقتل تكرير غيره أبلغ منه، ومتى كان التكرير كذلك فهو مقصر في باب البلاغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وأما الخسن بتأليف الحروف المتلائمة، فإنه يدرك بالحسَّ، ويوجد في اللفظ؛ لأن الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة؛ لبعد الهمزة من اللام، وكذا الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من الألف إلى اللام، فباجتماع هذه الأمور التي ذكرنا صار أبلغ منه وأحسن، وإن كان الأول حسناً بليغاً، وقد أخذه الشاعر، فقال: أبلغْ أبا مالكٍ عني مُغلغَلةً وفي العِتَابِ حياةٌ بين أقوامِ فصل: ويسأل عن معنى (لَعَلَّ) هاهنا: والجواب: أن فيها ثلاث أقوال: أحدها: أن يكون بمعنى اللام، كأنه قال: (لتتقوا) . والثاني: أن يكون للرجاء والطمع، كأنه قال: على رجائكم وطمعكم في التقوى. والثالث: على معنى التعرض، كأنه قال: على تعرضكم للتقوى. وقيل في {تَتَّقُونَ} قولان: أحدهما: لعكم تتقون القتل بالخوف من القصاص. وهو قول ابن زيد. والثاني: لعلكم تتقون ربكم باجتناب معاصيه. * * * قوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 الأصل في أيام: أيواء؛ لأن الواحد يوم، ولكن الواو والياء إذا اجتمعتا وسبقت الأولى منها بالسكون قلبت الواو ياءً، وأدغمت في الياء التي بعدها. ويسأل عن قوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} ما هي؟ والجواب: أن عطاء وابن عباس، قالا: ثلاثة أيام من كل شهر، ثم نسخ ذلك. وقال ابن أبي ليلى: المعنىُّ به شهر رمضان، وإنما كان صيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوعاً. فصل: ويسأل عن {الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} ؟ ، وفيه جوابان: أحدهما: أن المعنى به سائر الناس من شاء صام ومن شاء أفطر وافتدى لكل يوم بإطعام مسكين، ثم نسخ ذلك، وهو قول ابن عباس والشعبي. والثاني: أنه نزل فيمن كان يطيقه ثم صار إلى حال العجز عنه، وهو قول السدي. ويسأل عن (الهاء) في {يُطِيقُونَهُ} على ما يعود؟ وفيه جوابان: أحدها: أن يعود على الفداء؛ لأنه معلوم وإن لم يجرِ له ذكر، وعلى القول الأول أكثر العلماء. فصل: ويسأل عن الناصب، لقوله: {أَيَّامًا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 والجواب: أنه يجوز أن يكون ظرفاً، والعامل فيه فعل مضمر يدل عليه {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] كأنه قال: الصيام أياماً معدودات، ولا يجوز أن يعمل فيه {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} ؛ لأن فيه التفرقة بين الصلة والموصول؛ لأن {كَمَا كُتِبَ} في موقع المصدر، وكذلك لا يجوز أن يعمل فيه {الصِّيَامُ} الذي في الآية لهذه العلة، ويجوز أن يكون مفعولاً على السعة، كقولك: اليوم صمته، وكأنه قال: صوموا أياماً معدودات. وقال الفراء: هو "مفعول لما لمْ يسمَّ فاعله". وخالفه الزجاج في ذلك، ومثله الفراء بقولك أعطي زيد المال. قال الزجاج: لأنه لا يجوز عنده رفع الأيام كما يجوز رفع المال، وإذا كان المفروض في الحقيقة هو الصيام دون الأيام، فلا يجوز ما قاله الفراء إلا على السعة. * * * قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ا للَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] . الشهر: معروف، وجمعه في القلة أشهر، وفي الكثرة شهور، وأصله: من الاشتهار، وأصل رمضان الرمض، وهو شدة وقع الشمس على الرمل وغيره. كذلك قال ابن دريد: واشتقاق رمضان من هذا؛ لأنهم سموا الشهور بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق أيام رمض الحر، وقالوا في جمعة: رمضانات. ,انشد صاحب العين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 إن شهراً مباركاً قد أتانا مِثلَ ما بعد قبله رمضانُ وروي عن مجاهد أنه قال: لا تقل رمضان، ولكن قل كما قال الله تعالى: شهر رمضان، فإنك لا تدري ما رمضان. حدثنا أبو الحسن عن أبي بكر الأذقوي، ثنا أبو جعفر أحمد بن محمد النحاس قال: قرئ علي أحمد بن محمد بن الحجاج عن يحيي بن سليمان، قال: حدثني عبيد الله ابن موسى، ثنا عثمان بن الأسود عن مجاهد، قال لا تقل رمضان، ولكن قل كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ} فإنك لا تدري ما رمضان. قال يحيي بن سليمان وثنا يعلى بن عبيد، ثنا طلحة بن عمرو عن مجاهد وعطاء أنهما كانا يكرهان أن يقولا رمضان، ويقولان: نقول كما قال الله تعالى: شهر رمضان، لعل رمضان اسم من أسماء الله تعالى. وليس العمل على ما لا قالا؛ لأن الأخبار جاءت بخلاف ذلك. وقد روى مالك في الموطأ يرفعه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صام رمضانَ لإيماناً واحتساباً غُفَر له ما تقدم من ذنبه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وحدثنا أبو الحسن عن أبي بكر، ثنا أبو جعفر، قال: قرئ علي أحمد بن شعيب عن إسحاق بن إبراهيم، ثنا يحيي بن سعيد، قال ثنا المهلب بن أبي حبيبة، قال أحمد وأخبرنا عبيد الله بن سعيد، يحيي عن المهلب بن أبي حبيبة، قال حدثني الحسن عن أبي بكرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يقولنَّ أحدُكم صمتُ رمضانَ، ولا قمتُه كلَّه، فلا أدري أكره التزكيه أم قال لابد من غفلةٍ ورقدةٍ) . واللفظ لعبيد الله. وحدثنا أبو الحسن عن أبي بكر عن أبي جعفر ثنا عمران بن خالد، ثنا شعيب، ثنا ابن جريح، قال أخبرني عطاء، قال: سمعت ابن عباس - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمرأة من الأنصار: (إذا كان رمضانُ فاعتمري فيه، فإن عمرةّ فيه تعدلُ حجةٌ) . فصل: ومما يسأل عنه، أن يقال: ما معنى: {أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} ؟ والجواب أن فيه قولين: أحدهما: أنه أنزل كله في ليلة القدر إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك نجوماً. وهو قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 والثاني: أن معناه أنزل في فضله قرآن، كما تقول: أنزل في عائشة قرآن. وقد قيل إن المعنى: ابتدئ إنزاله في ليلة القدر من شهر رمضان. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: ما معنى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ؟ فيه جوابان: أحدهما: أن المعنى فمن شهد منكم تامصر وحضر ولم يغب؛ لأنه يقال: شاهدُ بمعنى حاضر. والجواب الثاني: أن يكون التقدير: فمن شهد منكم الشهر مقيماً. فصل: ومما يسأل عنه، أن يقال: بم ارتفع: {شَهْرُ رَمَضَانَ} ؟ والجواب: أنه يرتفع من ثلاثة أوجه. أحدها: أن يكون خبر مبتدأ محذوف يدل عليه قوله: {أَيَّامًا} [البقرة: 184] ، كأنه قال: هي شهر رمضان. والثاني: أن يكون بدلاً من الصيام، كأنه قال: كتب عليكم شهر رمضان. والثالث: يرتفع بالابتداء، ويكون الخبر {الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] . وإن شئت جعلت: {الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وصفاً، وأضمرت الخبر، حنى كأنه قال: وفيما كتب عليكم شهر رمضان. أي: صيام شهر رمضان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: لِمَ لمْ يكن عن الشهر؛ لأنه قد جرى ذكره، كقولك: شهر رمضان المبارك من شهجه فليصمه؟ قيل: كقوله: {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة 1-2] و {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة 1-2] وما أشبة ذلك مما أعيد بلفظ التعظيم والتفخيم. وأما دخول الفاء في قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} فإن شئت جعلتها زائدة، كما قال الشاعر: لاتجزعي إنْ منُفساً أهلكتُهُ وإذا هلكتُ فعند ذلك فاجزعي لابد أن يكون إحدى الفائين هاهنا زائدة؛ لأن (إذا) إنما يقتضي جواباً واحداً، وإن شئت أن تقول: دخلت الفاء؛ لأن فيه معنى الجزاء، لأن شهر رمضان وإن كان معرفة فليس بمعرفة معينة؛ ألا ترى أنه شائع في جميع هذا القبيل لا يراد به واحد بعينه. ويجوز فيه النصب من وجهين: أحدهما: على الأمر، كأنه قال: صوموا شهر رمضان. والثاني: أن يكون على البدل من {أَيَّامٍ} . وقد قرأ بذلك مجاهد، و {هُدًى لِلنَّاسِ} في موضع نصب على الحال. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: كيف جاز أن يعطف الظرف على الاسم في قوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} ؟ فالجواب: أنه بمعنى الاسم، كأنه قال: أو مسافراً ومثله: {دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 أَوْ قَائِمًا} [يونس: 12] ، أي: دعانا مضطجعاً. ويسأل عن اللام في قوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} على ما عُطفت؟ وفيه جوابان: أحدهما: أنها معطوفة على الجملة؛ لأن المعنى شرع لكم ذلك، فأريد منكم ولتكملوا العدة، ومثله: وكذلك {نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75] أي: وليكون من الموقنين أريناه ذلك. والوجه الثاني: أن يكون على تأويل محذوف دل عليه ما تقدم، كأنه لما قال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} قال: فعل الله ذلك ليسهل عليكم، ولتكملوا العدة. قال الشاعر: بادتْ وغير آيهنَّ مع البلى إلا رواكد جمرهن هباءُ ومشججٌ أما سواءُ قذالهِ فبدا وغير سارهُ المعزاءُ فعطف على تأويل الكلام الأول، كأنه قال: بها رواكد ومشججُ. وهذا قول الزجاج، والأول قول الفراء. ورفع قوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} بالابتداء، والخبر محذوف، كأنه قال: فعليه عدةٌ من أيام أخر. ويجوز النصب في العربية على تقدير: فليعد عدةّ أيام أخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 لإتمام ما أفطر. ولم ينصرف {أُخَرَ} لأنها صفة معدولة عما يجب في نظائرها من الألف واللام ونظائرها، نحو: الصغر والكبر. فأما من قال لم ينصرف لأنها صفة فيلزمه أن لا يصرف {لِبَدًا} [البلد: 6] و (حُطَماً) . ومن قال لم ينصرف أن الواحد غير مصروف يلزمه ألا يصرف (غضاباً) و (عطاشاً) ؛ لأن الواحد غير مصروف. * * * قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْ لِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] . يسألون: من السؤال، والصد: المنع. وهذه الآية نزلت في سرية للنبي - صلى الله عليه وسلم - التقت مع عمرو بن الحضرمي في آخر يوم من جمادى الآخرة فخافوا أن يخلوهم ذلك اليوم فيدخل الشهر الحرام، فلقوهم وقتل عمرو بن الحضرمي، فقال المشركون: محمد يحل القتال في الشهر الحرام، وجاؤوا فسألوه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فأنزل الله هذه الآية, هذا قول الحسن. وقال غيره: السائلون المسلمون. وأختلف في أمر القتال في الشهر الحرام. فذهب الجمهور من العلماء إلى أنه منسوخ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وذهب عطاء إلى أنه على التحريم. والوجه الأول أظهر لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] . فصل: ويسأل عن جرَّ {قِتَالٍ} ؟ والجواب: أنه بدل من الشهر، وهو بدل الاشتمال، ومثله قوله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج 4-5] وقال الأعشي: لقدْ كان في حول ثواءٍ ثويته تقضى لبانات ويسأم سائم وقال الكوفيون: هو جرٌّ على إضمار (عن) . وقال بعضهم: هو على التكرير، وهذه ألفاظ متقاربة في المعنى وإن أختلفت العبارة. فصل: ويسأل عن جرَّ {الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ؟ وفيه جوابان: أحدهما: أن يكون معطوفاً على {سَبِيلِ اللَّهِ} ، كأنه قال: وصدٌّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، وهو قول أبي العباس. والثاني: معطوف على الشهر الحرام، كأنه قال: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام. وهذا قول الحسن والفراء. وأنكر بعضهم هذا؛ لأنه فيما زعم لم يسألوا عن المسجد؛ لأنهم لا يشكون فيه، وليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 كما ذهب إليه من قبل أن القوم لما استعظموا القتال في الشهر الحرام، وكان القتال عند المسجد الحرام يجري مجراه في الاستعظام حمع بينهما في السؤال، وإن كان القتال إنما وقع في الشهر الحرام خاصة، كأنهم قالوا: هل استحللت الشهر الحرام والمسجد الحرام؟ ولا يجوز حمله على (الباء) في قوله: {كُفْرٌ بِهِ} ؛ لأنه لا يعطف على المضمر المجرور إلا بإعادة الجار إلا في ضرورة شعرٍ. وسأشرحه في سورة النساء. فصل: ومما يسأل عنه قوله: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} ؟ والجواب: أن الفتنة في الدين وهي الكفر أعظم من القتل في الشهر الحرام. ويسأل: بما ارتفع {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ؟ والجواب: أنه مرفوع بالابتداء وما بعده معطوف عليه، وخبره {أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} وهذا قول الزجاج. وأجاز الفراء رفعه من وجهين، فقال: إن شئت جعلته مردوداً على {كَبِيرٌ} تعني: قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به. وإن شئت جعلت الصد كبيراً، يريد القتال فيه كبير، وكبير الصد عن سبيل الله وكفر به. وخطأه علماؤنا في ذلك، قالوا: لأنه يصير المهنى في التقدير الأول: قل القتال في الشهر الحرام كفر بالله، وهذا خطأ بإجماع. ويصير التقدير في الثاني: وإخراج أهله منه أكبر عند الله من الكفر، وهذا خطأ بإجماع. وللفراء أن يقول في هذا المعنى: وإخراج أهله منه أكبر من القتل فيه لا من الكفر به، لأن المعنى في إخراج النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين معه. فأما الوجه الأول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 فليس له منه تخلص. * * * قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [ال بقرة: 257] . الولي: النصير والمعين، وجمعه: أولياء، وأصله: من الولي، وهو القرب. قال علقمة: تكلفني ليلى وقد شط وليها وعادت عواد بيننا وخطوب واخنلف في الطاغوت، فقال قوم: هو كاهن، وقال آخرون: هو صنم، وقال آخرون: هو الشيطان، وقيل: هو كل ما عبد من دون الله. وأصله: من الطغيان، يقال: طقى يطغى، وطغا يطغو، وهو (فلعوت) ؛ لأنه مقلوب، وأصله: طيغوت، أو طغووت على إحدى اللغتين، ثم قدمت اللام، وأخرت العين ف صار طيغوتا، أو طوغوتا فقلب لتحرك حرف العلة وانفتاح ما قبله، والطاغوت: يقع على الواحد والجمع بلفظه، ويذكر ويؤنث. قال الله تعالى: {اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} [الزمر: 17] وقال في هذه الآية: {أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ} ، وقد قيل: هو واحد وضع موضع الجمع في هذا الموضع. كما قال العباس بن مرداس: فقلنا أسلموا إنا أخوكم فقد برئت من الإحن الصدور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وجمع (طاغوت) : طواغيت، وطواغت، وطواغٍ على حذف الزيادة، وطواغي على العوض من الحذف. فصل: ويسأل عن معنى قوله: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} والجواب: أن الظلمات هاهنا: الكفر، والنور: الإيمان. وقال قتادة: من ظلمات الضلاله إلى نور الهدى. ويسأل عن قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} فقال: كيف يخرجونهم من النور وهم لم يدخلوا فيه؟ وفي هذا أربعة أجوبة: أحدها: أنه كقول القائل: أخرجني أبي من ميراثه، وهو لم يدخل فيه، وإنما ذلك لأنه لو لم يعمل ما عمل لدخل فيه، فصار لذلك بمنزلة الداخل فيه الذي أخرج عنه. قال الشاعر: فإن تكن الأيام أحسن مرة لي فقد عادت لهن ذنوب. ولم يكن لها ذنوب من قبل ذلك. والجواب الثاني: يروى عن مجاهد، قال: نزلت في قوم ارتدوا عن الإسلام، فكأنهم خرجوا من نور الإسلام بعدما دخلوا فيه. والجواب الثالث: أنها نزلت في المنافقين، كأنهم كانوا في نور بما أظهروه من الإسلام وخرجوا منه بما أبطنوه من الكفر. والجواب الرابع: أنهم كانوا في نور ولدوا فيه، فلما كبروا وكفروا خرجوا منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 ويدل على صحة هذا القول، قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) . * * * قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260] . الاطمئنان: السكون والتوطؤ، والجزء: النصيب، والصور: الإمالة، والصور أيضا: القطع. ومما يسأل عنه أن يقال: ما سبب سؤاله أن يؤيه كيف الإحياء؟ وفي هذا جوابان: أحدهما: أنه رأي جيفة تمزقها السباع، فأراد أن يعرف كيف الإحياء وهذا قول الحسن وقتادة والضحاك. والجواب الثاني: أن نمرود لما نازعه في الإحياء أراد أن يعرف ذلك علم بيان بعد علم الاستدلال. وهذا قول ابن إسحاق. وزعم قوم أنه شك وهذا غلط ممن قاله؛ لأن الشك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى كفر لا يجوز على أحد من الأنبياء عليهم السلام. فصل: ويسأل عن قوله: {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ؟ والجواب: أنه أراد ليزداد قلبي يقينا إلى يقينه. وهذا قول الحسن وسعيد بن جبير، والربيع ومجاهد. ولا يجوز أن يريد: ليطمئن قلبي بالعلم بعد الشك لما قدمناه. ويقال: ما كانت الطير؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 والجواب: أن مجاهد وابن جريح وابن زيد وابن إسحاق قالوا: الديك والطاووس والغراب والحمام. أمر أن يقطعها أو يخلط ريشها بدمها، ثم يفرقها على كل جبل جزءاً جزءاً. وقرأ جمزة: {فَصِرْهُنَّ إِلَيْكَ} وقرأ الباقون: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة: 260] بالضم. وقد قلنا أن معنى: صر اقطع، وهو قول ابن عباس، وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد. وقال توبة بن الحمير. أذنت لي الأسباب حتى بلغتها بنهضي وقد كاد ارتقائي يصورها. أي: يقطعها. وقال عطاء وابن زيد: المعنى اضممهن إليك، وذا من صاره يصوره إذا أماله. قال الشاعر: وجاءت خلعة دهسن صفايا يصور عنوقها أحوى زنيم يصف غنما وئيسا يعطف عنوقها. فأما من قرأ بالكسر فيحتمل الوجهين المتقدمين. قال بعض بني سليم: وفرع يصير الجيد وحف كأنه على الليت قنوان الكروم الدوالح يريد: تميل الجيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 فصل: * * * قوله تعالى: {إِذْ قَالَ} ؛ موضع {إِذْ} نصب من وجهين: أحدهما: أن يكون على إضمار (اذكر) كأنه قال: اذكر إذ قال إبراهيم. وهذا قول الزجاج. والثاني: أن يكون معطوفاً على قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة: 258] . كأنه قا: ألم تر إذ قال إبراهيم. وإذا كان معنى: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} قطعهن؛ فـ {إِلَيْكَ} من صلة خذ كأنه قال: خذ إليك أربعة من الطير فصرهن، وإذا كان معناها أملهن واعطفهن، فـ: {إِلَيْكَ} متعلقة به؛ وهذه الألف التي في قوله: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} ألف تحقيق وإيجاب. كما قال جرير. ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح والطير: جمع طائر، مثل راكبٍ وركْبٍ، وصاحبٍ وصَحْبٍ. والطير" مؤنثة. ونصب {سَعْيًا} عل الحال، والعامل فيها {يَأْتًِينَّكَ} ، وقوله: {أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} في موضع نصب بـ: {أَعْلَمْ} . {من سورة آل عمران } * * * قوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [آل عمران: 3] قي في قوله: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} يعني من كتاب ورسول، وهو قول مجاهدة وقتادة والربيع وسائر أهل العلم. فإن قيل: لمَ قال: {بَيْنَ يَدَيْهِ} ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 قيل: لأنه ظاهر له طظهور ما بين يديه. وقيل في معنى {مُصَدِّقًا} قولان. أحدهما: أنه مصدق لما بين يديه لموافقته إياه في الخبر. والثاني: أنه مصدق، أي: يُبخبِرُ بصدق الأنبياء. وفي قوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} قولان. أحدهما: بالصدق في إخباره. والثاني: بالحق، أي: بما توجبه الحكمة من الإنزال كما توجبه الحكمة من الإرسال وهو حق من الوجهين. فصل: والجواب أن فيها ثلاثة أقوال. أحدها: أنها تَفْعلةٌ، وأصلها: تَورَيةٌ، وتحركت الياء زانفتح ما قبلها، فانقلبت ألفا. وتَفْعَلةٌ في الكلام قليل جداً. قالوا: تَنفَلةٌ في تَنْفُلَةٍ. والقول الثاني أنها تَفْعِلَةٌ، والأصل: تَورِيَةٌ، مثل: توقيَة، وتوفيٍة، فنقلت إلى تَفْعلَةٍ، وقلبت ياؤها، وهذان قولان رديئان، وهما للكوفيين. وأما البصريون: فتورية عندهم: فوعَلَةٌ، وأصلها: ووريةٌ، مثل: حوقلةٍ، ودوخلةٍ فأبدلوا من الواو الأولى تاء كما فعلوا في تولج، والأصل: وولَج؛ لأنه من الولوج، وقلبوا الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وهذا القول المختار؛ لأن توقيةً لا يجوز فيها توقاة، وتفعلةٌ قليل في الكلام. واشتقاق تورية من قولهم: زريت بك زنادي، كأنها ضياء في الدين، كما أن ما يخرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 من الزناد ضياء. وأما الإنجيل، فهو: إفْعيلٌ، من النجلِ. واختلف في معناه، فقال علي بن عيسى النجلُ: الأصل؛ لأن الإنجيل أصل من أصول العلم. قال غيره: النجلُ الفرع ومنه قيل للولد نجل، فكأن الإنجيل فرع على التوارة يستخرج منها. وعندى أنه من النجل، وهو السعة. يقال: عين نجلاء، أي: واسعة، وطعنة نجلاء. ومنه قول الشعر: قد أطعن الطعنة النجلاء عن عرض وأكتم السر فيه ضربة العنق. فكأنه قد وسع عليهم في الإنجيل ما ضيق فيه على أهل التوارة. وكل محتمل. * * * قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِ يلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] . المحكم: مأخوذ من قولك: أحكمت الشيء إذا ثقفته وأتقنته، وأم الكتاب: أصل للكتاب، والمتشابه: الذي يشبه بعضه بعضاً فيغمض، والزيغ: الميل، والابتغاء: التطلب، والفتنة: أصلها الاختبار، ومنه قولهم: فتنت الذهب بالنار، أي: اختبرته، وقيل: معنها خلصته، والتأويل: المرجع. يقال: آل الأمر إلى كذا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 أي: رجع. وأكثر العلماء يعبر عنه بالتفسير. والأول الأصل قال الأعشى. على أنها كانت تؤول حبها تأول ربعي السقاب فأصحبا أي: كان حبها صغيراً فآل إلى العظم كما آل السقب - وهو الصغير من أولاد النوق - إلى الكبر. والراسخون: الثابتون، والإيمان: التصديق. فصل: ومما يسأل عنه: أن يقال: ما المحكم، وما المتشابه هاهنا، والجواب فيه خلاف، قيل: المحكم: الناسخ، والمتشابه: المنسوخ. وهذا قوا ابن عباس وقتادة. وقال مجاهد: المحكم: ما لم تشتبه معانيه، والمتشابه: ما اشتبهت: ما اشتبهت معانيه، نحو: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26] ، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًىْ} [محمد: 17] . وقال محمد بن جعفر ن\بن الزبير: المحكم ما لايحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً، والمتشابه: ما يحتمل أوجهاً. وقال ابن زيد: المحكم الذي لم يتكرر لفظه، والمتشابه: ما تكرر لفظه. قال جابر ابن هبد الله: المحكم ما يعلم تعيين تأويله، والمتشابه: ما لا يعلم نعيين تأويله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 نحو: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [الأعراف: 187] . فهذه خمسة أقوال للعلماء. ويقال: ما معنى: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} ؟ والجواب: أنهم يحتجون به على باطلهم. فإن قيل: ففيمن نزلت؟ والجواب: نزلت في وفد نجران لما حاجوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في عيسى بن مريم - عليه السلام - فقالوا أليس هو كلمة الله وروحاً منه، فقال: بلى، وقالوا: حسبنا، فأنزل الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7] ثم أنزل: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59] . وقيل: بل كل من احتج بالمتشابه لباطله، فالآية فيه عامة - كالحرورية والسبئية، وهو قول قتادة. ومما يسأل عنه الملحدون هذه الآية، وذلك أنهم يقولون: لم أنزل في القرآن المتشابه والغرض به هداية الخلق؟ والجواب: أنه أنزل للاستدعاء إلى النظر الذي يوجب العلم دون الاتكال على الخبر من غير نظر، وذلك أنه لو لم يعلم بالنظر أن جميع ما أتى به النبي - عليه السلام - حق لجوز أن يكون الخبر كذباً وبطل دلالة السمع. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: ففي أي شيء يقع المتشابه؟ قيل: في أمور الدين، كالتوحيد ونفي التشبيه، الآ ترى أن قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] يحتمل في اللغة أن يكون كاستواء الجالس على سريره، ويحتمل أن يكون بمعنى القهر والاستيلاء، كما قال الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق واستواء الجالس لا يجوز على الله - عز وجل - ونحو قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] ، يحتمل في اللغة أن يكون ساق الإنسان وساق الشجرة، والشَّدة من قولهم: قامت الحرب على ساق. والوجهان الأولان لا يجوزان على الله في أشباه لذلك. ومما يسأل عنه أن يقال: لم أفرد {أُمُّ الْكِتَابِ} ؟ وفي هذا جوابان: أحدهما: أنه أراد هن أم الكتاب، كما يقال: من نظير زيد؟ ، فيقول مجيب: نحن نظيره. والثاني: أنه استغنى فيه بالإفراد عن الجمع، كما قال: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] ولم يقل آيتين. ويسأل: هل يعرف الراسخون في العلم تأويل المتشابه؟ وفي هذا جوابان: أحدهما: أن تأويل المتشابة لا يعلمه إلا الله. والوقف على هذا عند قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} ويبتدئ {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] ، فعلى هذا ليس للراسخين من المزية إلا قولهم: {آمَنَّا بِهِ} وذلك نحو: قيام الساعة وما بيننا وبينها من المدة، وهذا قول عائشة والحسن ومالك - رضي الله عنه - ومن حجتهم: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُْْْ} [الأعراف: 53] . والجواب الثاني: أن الله تعالى يعلمه، والراسخون يعلمونه قائلين: آمنا به. وهذا قول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 ابن عباس ومجاهد والربيع. وقرأ ابن عباس فيما حدثني أبو محمد مكي بن أبي طالب المقرئ (وهو ما يعلم تأويلة إلا الله ويقول الراسخون في العلم يقولون آمنا به) . وهذه القراءة بعيدة من وجهين: أحدهما مخالفة المصحف، والثاني: تكرار اللفظ؛ لأن اللفظ الثاني يغني عن الأول. وموضع: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} على هذا القول نصب على الحال. ومثله قول الشاعر: الريح تبكي شجوة والـ برق يلمع في غمامه. وعلى الوجه الأول يكون موضع: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} رفعاً؛ لأنه خبر المبتدأ، وقوله: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} في موضع نصب على الحال من الكتاب، أي: أنزله وهذه حاله. * * * قوله تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 27] . الإيلاج: الإدخال، والولوج: الدخول. ومما يسأل عنه هاهنا: أن يقال: ما معنى {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} ؟ فالجواب: أن المعنى يجعل ما نقص من أحدهما زيادة في الآخرة، وهذا قول ابن عباس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 والحسن ومجاهد والسُّدي والضحاك وابن زيد. وقيل، معناه: يدخل أحدهما في الآخر؛ لمجيئه بدلاً منه في مكانه. وإلى هذا ذهب الجبائي من المعتزلة. فصل: ويسأل عن قوله: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} ؟. وفيه جوابان: أحدهما: يخرج الحي من النطفة وهي ميتة، والنطفة من الحي، كذلك الدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة. وهذا قول عبد الله ومجاهد والضحاك والسُّدي وقتادة. والجواب الثاني: يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن. وهذا قول الحسن. واختلف في الَمْيت والَميّت، فقيل: الَمْيت - بالتخفيف - الذي قد مات والميَّت - بالتشديد - الذي لم يمت، وقال أبو عباس: لا فرق بينهما عند البصريين. وأنشد: ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء. إنما الميت من يعيش كئيباً كاسفاً باله قليل الرجاء. فجمع بين اللغتين. * * * قوله تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 34] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 يسأل عن معنى قوله تعالى {بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} ؟ وفيه جوابان: أحدهما: أنهم في التناصر للدين بعضهم من بعض، أي: في الاجتماع، كما قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67] ، أي: في الاجتماع على الضلالة، والمؤمنون بعضهم من بعض، أي: بعضهم أولياء بعض في الاجتماع على الهدى. وهذا قول الحسن وقتادة. والجواب الثاني: أن بعضها من بعض في التسلسل، أي: جميعهم ذرية آدم ثم ذرية نوح، ثم ذرية إبراهيم عليهم السلام. فصل: ويسأل: ما وزن {ذُرِّيَّةٌْ} ، وفيه ثلاثة أوجخ. أحدها: أن وزنها (فُعلِيّةٌ) من الذرًّ، مثل: قمرية. والثاني: أن وزنها (فعولةٌ) والأصل فيها (ذُرُّورةٌ) ، إلا أنه كره التضعيف فقلبت الراء الأخيرة ياء فصارت (ذُرُّويَةّ) ، ثم قلبت الواو ياء، لاجتماع الواو والياء وسبق الأولى منهما بالسكون، وكسر ما قبل الياء الساكنة؛ لتصح، فقيل: (ذُرَّيَّةٌ) . والثالث: أن أصلها (ذُرُؤةٌ) من: ذرأ الله الخلق، فاستثقلت الهمزة فأبدلت ياء، وفعل بها ما فعل بالوجه الذي ذكرناه آنفاً. واجتمع على تخفيفها كما اجتمع على تخفيف (بَرِيَّة) . ويسأل عن نصب {ذُرِّيَّةٌ} ؟ وفي النصب جوابان: أحدهما: أن يكون بدلاً من آدم وما بعده، وإن كان آدم غير ذرية لأحد، وذلك إذا أخذتها من (ذر الله الخلق) . والثاني: أن يكون نصباً على الحال، ويجوز رفعها على إضمار مبتدأ محذوف كأنه قال تلك ذُرِّيَّةٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] . المكر: أصله الالتفاف، ومنه قولهم لضرب من الشجر: مكر؛ لالتفافه، وامرأة ممكورة: ملتفة. ومما يسأل عنه، أن يقال: ما معنى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} ؟ وفي هذا جوابان: أحدهما: مكروا بالمسيح بالحيلة عليه لقتله، ومكر الله بردتهم بالخيبة؛ لإلقائه شبه المسيح على غيره. هذا قول السُّدى. والجواب الثاني: أن المعنى، ومكروا بإضمار الكفر، ومكر الله لمجازاتهم بالعقوبة على المكر. فإن قيل المكر لا يحسن من الحكيم، قيل: إنما جاز هذا على مزاوجة الكلام، نحو قوله: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] . فهذا أحد وجوه البلاغة، وهي على أربعة أضرب: أحدها: المزاوجة، نحو: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} ، والمجانسة، نحو قوله: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 37] ، والمطابقة، نحو {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا} [النحل: 30] بالنصب على مطابقة السؤال، والمقابلة، نحو قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 22-25] . * * * قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] التوفي: القبض، يقال: توفيت حقي واستوفيت بمعنى واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 ومما يسأل عنه هاهنا أن يقول: ما معنى {مُتَوَفِّيكَ} هاهنا؟ وفيه أجوبة: أحدها: أن المعنى قابضك برفعك من الأرض إلى السماء غير وفاة الموت، وهذا قول الحسن وابن جريح وابن زيد. والجواب الثاني: أني متوفيك وفاة النوم؛ لأرفك إلى السماء، وهو قول الربيع، قال: رفعه نائماً. والجواب الثالث: إني متوفيك وفاة الموت، وهو قول ابن عباس، ووهب ابن منبه، قالا: أماته ثلاث ساعات. فأما النحويون، فيقولون: هو على التقديم والتأخير، أي: إني رافعك ومتوفيك؛ لأن الواو لا يقتضي الترتيب بدلالة قوله تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 16] والنذر: قبل العذاب، بدلالة قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] . وموضع {إِذَ} نصب على أحد وجهين: إما على قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54] إذ قال الله. وإما على إضمار: اذكر. ويجوز أن يكون موضعها رفعاً على تقدير ذلك إذ قال الله، وتمثيله: ذلك واقع إذ قال الله، ثم حذفت (واقعاً) وهو العامل في (إذ) وأقمت (إذ) مقامه. (وإذ) مبنية على السكون؛ لافتقارها إلى ما يوضحها، فأشبهت بعض الكلمة، وبعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 الكلمة لا يعرب، نحو: الزاي، من زيد، والجيم من جعفر. * * * قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْكُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] . في هذه الآية حجة على من أنكر القياس؛ لأن الله تعالى احتج بذلك على المشركين، ولا يجوز أن يحتج عليهم إلا بما فيه طريق القياس؛ لن قياس خلق عيسى من غير ذكر، كقياس آدم وهو في عيسى أوجب، لأن آدم - عليه السلام - من غير أنثى ولا ذكر. وهذه الآية نزلت في السيد والعاقب من وفد نجران، وذلك أنهما قالا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: هل رأيت لداً من غير ذكر، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهذا قول ابن عباس والحسن وقتاده. فصل: ويسأل عن رفع قوله: {فَيَكُونُ} ولِمَ لَمْ يجر نصبه على جواب الأمر الذي هو {كُنْ} ؟ والجواب: أن جواب الأمر يجب أن يكون غيره في نفسه أو معناه، نحو: إإتني فأكرمك، وائتني فتحسنَ إلىَّ. ولا يجوز (قم فتقوم) ؛ لأن المعنى يصير: قم فإن تقم فقم، وهذا لا معنى له، فلذلك لم يجز في الآية. فإن قيل فقد جاء: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] ، قيل: هذا معطوف على قوله: {أَنْ نَقُولَ} وقوله تعالى: {فَيَكُونُ} ، معناه: فكان، إلا أنه أوقع الفعل امستقبل في موضع الماضي، ومثله قول الشاعر: وانضج جوانب قبره بدمائها فلقد يكون أخا دم وذبائح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران: 64] . يسأل من المخاطب هاهنا من أهل الكتاب؟ وفيه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن المخاطب نصارى نجران، وهذا قول الحسن ومحمد بن جعفر ابن الزبير والسُّدى وابن زيد. والثاني: أن المخاطب يهود المدينة، وهو قول قتادة والربيع وابن جريح، ومعنى هذا أنهم أطاعوا أحبارهم طاعة الأرباب. والثالث: أن المخاطب الفريقان، وهذا ظاهر التلاوة. ويسأل عن {سَوَاءٌ} ما معناه هاهنا؟ قيل معناه: مستوٍ، فموضع اسم المصدر موضع اسم الفاعل، كأنه قال: تعالوا إلى كلمة مستوية. وقرأ الحسن {سَوَاءٍ} بالنصب على المصدر. ويسأل عن موضع {أَنْ} من قوله: {أَلَّا نَعْبُدَ} ؟ والجواب أنها تحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون في موضع جر على البدل من {كَلِمَةٍ} ، كأنه قال: تعالوا إلى أن لا نعبد إلا الله. والوجه الثاني: أن تكون في موضع رفع، كأنه قال: هي أن لا نعبد إلا الله. ومن رفع فقرأ "أنْ لاَ نَعْبُدُ"، فأنْ مخففة من الثقيلة، كأنه قال: أنه لا نعبد إلا الله، ومثله: {أَفَلَا يَرَوْنَ} [طه: 89] ، وإذا كانت مخففة من الثقيلة كانت من عوامل الأسماء، وثبتت النون في الخط، وعلى الوجه الأول تكون من عوامل الأفعال ولا تثبت النون في الخط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 ومن قرأ "أنْ لاَ نَعْبُدْ إِلاَّ اللهَ" بالإسكان فـ {أَنْ} مفسرة كالتي في قوله تعالى: {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا} [ص: 6] ، فالمعنى: أي لا نعبد إلا الله، ولا {لَا} على هذا جازمة؛ لأنه نهي. * * * قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 146] . يقال: كأًيًّن وكَاين وكاءٍ بمعنى، قال الشاعر: كأين في المعاشر من أناس أخوهم فوقهم وهم كرام فشدد، وقال جرير: وكائن بالأباطح من صديق يراني لو أصبت هو المصابا فخفف. وفذ هذا لغات أخر، وتعليله من طريق التصريف يطول شرحه، وجملتها أنها (أي) دخلت عليها (كاف) التشبيه، كما دخلت عل (ذا) في قولك: كذا، وغيرت في اللفظ كما غيرت في المعنى؛ لأنها نقلت إلى معنى (كم) في التكثير، والأصل التشديد، وإنما وقع التخفيف لكراهة التضعيف، كما قالوا: لا سيْما، والأصل: لا سيًّما. وقرأ ابن كثير {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ} كذلك نافع وأبو عمرو. وقرأ الباقون "قَاتَلَ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 فصل: ويسأل بم ارتفع {رِبِّيُّونَ} ؟. وفيه جوابان؟ أحدهما: أنه مفعول لم يسم فاعله لـ (قُتِلَ) ، وهذا يجئ على مذهب الحسن؛ لأنه قال: لم يقتل نبي قط في معركة. والثاني: أنه مبتدأ و {مَعَهُ} الخبر، كأنه قال: قُتل ومعه ربيُّون. وموضع قوله: {مَعَهُ رِبِّيُّونَ} ، نصب على الحال من المضمر في (قُتل) أي: قُتِلَ ذلك النبي وعه الربيون، وهذا يجئ على معنى قول أبي إسحاق وقتادة والربيع والسُّدي. ويجوز أن يرتفع {رِبِّيُّونَ} بالظرف الذي هو {مَعَهُ} وهو مذهب أبي الحسن. ويجئ أيضا على مذهب سيبويه؛ لأن الظرف إذا اعتمد على ما قبله جاز أن يرفع. والربيون: العلماء، هذا قول ابن عباس والحسن، وقال مجاهد وقتادة الجموع الكثيرة. * * * قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} [آل عمران: 180] قرأ حمزة {وَلَا تَحْسَبَنَّ} بالتاء وفتح السين؛ وقرأ الباقون بالياء. فمن قرأ بالتاء فالفاعل المخاطب وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - و {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} مفعول أول لـ {تَحْسَبَنَّ} و {خَيْرًا لَهُمْ} المفعول الثاني. و {هُوَ} فصل، وأهل الكوفة يسمونه عمادا، وفي الكلام حذف تقديره: ولا تحسبن يا محمد بخل الذين يبخلون خيرا لهم. وإنما احتجت إلى هذا المحذوف ليكون المفعول الثاني هو الأول في المعنى؛ لأن هذه الأفعال تدخل على المبتدأ والخبر، والخبر هو المبتدأ في المعنى إذا كان الخبر مفرداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وأما من قرأ بالياء فـ {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} فاعلون، والمفعول الأول ليحسبن محذوف لدلالة {يَبْخَلُونَ} عليه تقديره: ولا يحسبن الذين يبخلون البخل هو خيراً لهم، وهذا كما تقول العرب: منكذب كان شراً له، أي: كان الكذب، فحذف (الكذب) لدلالة (كذب) عليه، ومثله: إذا نهي السفية جرى إليه وخالف، والسفيه إلى خلاف أي: خالف إلى السفه. فأما فتح السين وكسرها فلغتان، ويروى أن الفتح لغة النبي - صلى الله عليه وسلم -. {ومن سورة النساء } * * * قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] . يسأل عن معنى قوله: {تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} ؟ وفيه جوابان. أحدهما: أن المعنى يسأل بعضكم بعضاً بالهه والرحم، وهذا قول الحسن ومجاهد. والثاني: أن المعنى: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، وهذا قول ابن عباس وقتادة والسُّدي والضحاك والربيع وابن زيد. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: ما وجه النصب في: {الْأَرْحَامَ} ، قيل على الوجه الأول: يكون معطوفاً على موضع {بِه} ، كأنه قال: وتذكرون الأرحام في التساؤل. الوجه الثاني: يكون معطوفاً على اسم الله تعالى. وقرأ حمزة "الأرحامِ" بالجر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 والنحويون لا يجيزون هذا؛ لأنه لا يجوز عطف الظاهر على المضمر المجرور إلا بإعادة الجار. قال سيبويه: لأنه لا ينفصل فصار كبعض الحرف، ومثله بعضهم بالتنوين، وذلك أنه يعاقبه، ويحذف في الموضع الذي فيه التنوين، وذلك قولك: ياغلام، تحذف الياء تخفيفاً كما تحذف التنوين من قولك: يا زيد. وقال المازني: المعطوف والمعطوف عليه شريكان، لا يجوز في أحدهما ما لا يجوز في الآخرة، فكما لا تقول: مررت بزيدوك، كذلك لا تقول: مررت بك وزيٍذ، فإن احتج محتج بقول الشاعر: فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجب وبقول الآخر: تعلق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكعب غوط نفانف قيل: هذا من ضرورات الشعر ولا يحمل القرآن عليه. وقد احتج له بعضهم بأنه على إضمار الباء؛ لتقدم ذكرها في قوله: {بِهِ} ، واستشهد بقول الشاعر: أكل امرئٍ تحسبين امرءاً ونارٍ توقد في الليل نارا أراد: وكل نارٍ، فحذف (كلَّ) لدلالة ما في صدر البيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] . خفتم: من الخوف، والخوف والخشية بمعنى. والإقساط: العدل. ويسأل عن اتصال هذا الكلام بعضه ببعض، كيف يصح؟ وفي هذا جوابان. أحدهما: أن المعنى: فإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى، فكذا خافوا في النساء، وذلك أنهم كانوا يتحرجون في يتامى النساء ولا يتحرجون في النساء، وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة والسُّدي والضحاك والربيع. والجواب الثاني: أن المعنى: وإن خفتم إلا تقسطوا في نكاح اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء غيرهن. وهذا قول عائشة والحسن، وبه قال أبو العباس. فصل: ومما يسأل عن قوله: {مَا طَابَ لَكُمْ} ، كيف جاءت {مَا} هاهنا، والموضع موضع (مَنْ) ؛ لأن (ما) لما لا يَعْقْل، و (مَنْ) لمن يَعقِل؟ والجواب: أن {مَا} هاهنا مصدرية، كأنه قال: فانكحوا من النساء الطيب، أي: الحلال. وهذا مجاهد وبه أخذ الفراء. ويروى عن مجاهد أيضاً: فانكحوا النساء نكاحاً طيباً. قال أبو العباس: {مَا} هاهنا للجنس، كقولك: ما عندك؟ فالجواب: رجل أو امرأة. وقيل: لما كان المكان مكان إبهام جاءت {مَا} لما فيها من الإبهام، كما تقول العرب: خذ من عبيدي ما شئت. وأما {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} فمعناه: اثنين اثنين، وثلاثاً ثلاثاً، وأربعاً أربعاً، فعدل عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 هذا ليدل على هذا المعنى، وهو نكرة، وأمتنع من الصرف للعدل زالوصف. وقال قوم: هو معرفة، لأنه لا يدخله الألف اللام. والوجه ما قدمناه؛ لأن النكرة توصف به، قال صخر الغي: منيت بأهن تلاقيني المنايا أحاد في شهر الحلال وقال تميم بن أبي [بن] مقبل. ترى النعرات الزرق تحت لبانه أحاد ومثنى أصعقتها صواهلة وقيل: لم ينصرف للعدل والتأنيث؛ لأن العدد كله مؤنث. وقيل: لم ينصرف؛ لأنه عدل على غير ما يجب في العدل، لأن أصل العدل أن يكون في المعارف. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: لم جاءت (الواو) هاهنا، ولم تأت (أو) ؛ لأنه لا يجوز أن يجمع بين تسع؟ والجواب: أنه على طريق البدل، كأنه قال: وثلاث بدلاً من مثنى، ورباع بدلاً من ثلاث، ولوجاء بـ: (أو) لجاز أن لا يكون لصاحب المثنى ثلاث، ولا لصاحب الثلاث، رباع. ويوضح هذا: أن مثنى بمعنى اثنتين، وثلاث بمعنى ثلاث. فأما من أجاز تزويج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 تسع بهذه الآية فمخطئ؛ لأنه لو كان كذلك لما جاز أن يتزوج دون تسع، وأيضاً فلو أراد الله تعالى ذلك لقال: فانكحوا تسعاً، لأن هذا التكرار عِيُّ، وتسع أخصر منه؛ وهذا على طريق التخيير لا للإيجاب. * * * قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26] يسأل عن دخول (اللاًّم) في قوله: {لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} ؟ وفيها ثلاثة أجوبة: أحدها: أن معناها (أنْ) ، و (أنْ) تأتي مع (أردت وأمرت) ؛ لأنها تطلب الاستقبال لذا استوثقوا لها باللام، وربما جمعوا بين (اللام) و (كي) لتأكيد الاستقبال، قال الشاعر: أردت لكيما لا ترى لي عثرة ومن ذا الذي يعطى الكمال فيكمل ولايجوز أن تقع (اللام) بمعنى (أنْ) مع الظن؛ لأن الظن يصلح معه الماضي والمستقبل، نحو: ظننت أن قمت، وظننت أن تقوم، وهذا قول الكسائي والفراء، وأنكره الزجاج، وأنشد: أردت لكيما يعلم الناس أنها سراويل قيس والوفود شهود قال: ولو كانت (اللام) بمعنى (أنْ) لم تدخل على (كي) كما لا تدخل (أنْ) عل (كي) ، قال: مذهب سيبويه وأصحابه أن (اللام) دخلت هاهنا على تقدير المصدر، أي: الإرادة للبيان، نحو قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 و {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72] ، وقال كثير: أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلي بكل سبيل أي: إرادتي لهذا، وهذا الجواب الثاني. والجواب الثالث: أن بعض النحويين ضعف هذين الوجهين بأن جعل اللام بمعنى (أنْ) لم يقم به حجة قاطعة، وحمله على المصدر يقتضي جواز: ضربت لزيد، بمعنى: ضربت زيداً، وهذا لا يجوز، ولكن يجوز في التقديم والتأخير، نحو: لزيد ضربت، وللرؤيا تعبرون؛ لأن عمل الفعل في التقديم يضعف كعمل المصدر في التأخير، ولذلك لم يجز إلا في المتصرف، فأما {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72] فعلى تأويل: ردف ما ردف لكم، وعلى ذلك: يريد ما يريد لكم. وهذه الأقوال كلها مضطربة، وقد قيل إن مفعول {يُرِيدُ} محذوف تقديره: يريد الله تبصيركم ليبين لك. * * * قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] القتل: معرفو، وقتل العمْدِ: ما قصد به إتلاف النفس كائناً ما كان بحجر أو عصىً أو حديدٍ أو غير ذلك، وهذا قول عبيد بن عمير وإبراهيم وروى أنس أن يهودياً قتل جارية بين حجرين، فأتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقتله بين حجرين، (كل شيء خطأ إلا السيف، ولكل خطأ أرش) . والجزاء والمجازاة واحد، واللعنة: الإبعاد والطرد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: هل القاتل يخلد في النار، أو له توبة؟ والجواب: أن العلماء أختلفوا في ذلك: فقال الضحاك وجماعة من التابعين: نزلت هذه الآية في رجل قتل رجلاً من المسلمين، فارتد عن الإسلام، وسار إلى المشركسن، ونزلت هذه الآية فيه، والتغليظ فيها لارتداده عن الإسلام. وقال جماعة من التابعين: الآية الهينة وهي: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] نزلت بعد الشدية وهي: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93] ، وذهبوا إلى أن للقاتل توبة. وقال عمر وعلي وابن مسعود - رضي الله عنهم -: كنا نبت الشهادة فيمن عمل الموجبات حتى نزلت: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . وقال أبو مجلز: هي جزاؤه إن جازاه أدخله جهنم خالداً فيها، ويروى هذا أيضاً عن أبي صالح. وروي عن مجاهد أنه قال: المعني إلا من تاب وندم على ما فعل. وروي عن ابن عباس وزيد بن ثابت، وجماعة من التابعين - رضي الله عنهم - أنهم قالوا: الآية ثابتة في الوعيد؛ لأن الله تعالى غلظ فيه. وكرر الوصف بقوله: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] . 25/و. وقال عكرمة وابن جريح وبعض المتكلمين: المعنى ومن يقتل مؤمناً متعمداً، أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 مستحلاً لذلك؛ لأن المستحل لما حرم الله تعالى كافر؛ لأنه أحل ما حرم الله، فالخلود إذا إنما هو من هذه الطريقة. والعرب تتمدح بإنجاز الوعد وخلف الوعيد، ويروى عن أبي عمرو أنه سمع عمرو بن عبيد ينكر هذا فعابه عليه، وأنشد: وإني وإن أوعدته ووعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي وجاء في الحديث "من وعدَه اللهُ على عمل ثواباً فهو منجز له ومن أوعده على عملٍ عقاباً فهو بالخيار إن شاء عذب وإن شاء غفر له". * * * قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95] . قرأ نافه وابن عامر والكسائي {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} بالنصب، وقرأ الباقون بالرفع، وقرئ في غير السبعة {غَيْرُ} بالجر فوجه النصب: أنه حال، وإن شئت كان استثناء. وأما الرفع: فعلى أنه نعت لقوله: {الْقَاعِدُونَ} . وأما الجر: فعلى أنه نعت للمؤمنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وأجود هذه القراءات: الرفع؛ لأن الوصف على {غَيْرُ} أغلب من الاستثناء. وقد زعم بعضهم أن النصب على معنى الاستثناء أجود؛ لتظاهر الأخبار بأنه نزل لما سأل ابن أم مكتوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حاله في الجهاد وهو ضرير فنزل: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} . وهذا ليس بشيئ؛ لأن {غَيْرُ} وإن كانت صفة فهي تدل معنى الاستثناء لأنها في كلتا الحالتين قد خصصت القاعدين عن الجهاد بانتقال الضرر. * * * قوله تعالى: {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125] . اختلف في الحنيف: هو المستقيم، وإنما قيل لأعوج الرجل حنيف تفاؤلاً، يقال: حنف في الطريق إذا استقام عليه، فكل من سلك طريق الاستقامة فهو حنيف. ويسأل: ما في اتباع إبراهيم من الحسن، دون اتباع ملة موسى وعيسى وغيرهما من النبيين؟ والجواب: أن إبراهيم - عليه السلام - قد رضى به جميع الأمم، وكلن يدعو إلى الحنيفية لا اليهيودية ولا النصرانية ولا الوثنية، فهو محق في دعائه إليها، وكل من استجاب له بإذن الله فيها فقدمع من المعاني المرغبة ما ليس لغيره. واختلف في معنى الخليل: فقيل: هو المصطفى بالمودة المختص بها. وقيل: هو من الخلة وهي الحاجة، فخليل الله على هذا المحتاج قال زهير: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وإن أتاه خليل يوم مسألة يقول لا غائب مالي ولا حرم ويسأل عن نصب {حَنِيفًا} ؟ وفيه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن يكون حالاً من {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} ، وكان حقه أن تكون فيه الهاء؛ لأن (فَعِيلاً) إذا كان بمعنى (فَاعل) للمؤنث تثبت فيه الهاء نحو: رحيمة وكريمة وما أشبه ذلك، إلا أنه جاء مجئ (ناقة سديس وريح خريق) . والجواب الثاني: أنه حال من المضمر في {وَاتَّبَعَ} ، والمضمر هو النبي - صلى الله عليه وسلم -. والثالث: أنه يجوز أن يكون حالاً من إبراهيم، والحال من المضاف إليه عزيزة، وقد جاء ذلك في الشعر قال النابغة: قالت بنو عامر: خالوا بني أسد يا بؤس للجهل ضراراً لأقوام أي: يا بؤس الجهل ضراراً. واللام مقحمة لتوكيد الإضافة. * * * قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 159] . وفيه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه يعود على الكتابي، والمعنى: ليؤمنن الكتابي بالمسيح قبل موت الكتابي، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وابن سيرين وجويبر. والثاني: قبل موت المسيح أي: ليؤمنن الكتابي بالمسيح قبل موت المسيح - عليه السلام - إذا خرج في آخر الزمان، وهذا يروى عن أبي مالك وقتادة وابن زيد عن ابن عباس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 والحسن بخلاف. والثالث: أي يكون المعنى ليؤمنن لمحمد - صلى الله عليه وسلم - قبل موت الكتابي وهذا يروى عن عكرمة بخلاف. واختلف النحويون في المضمر المحذوف ما هو؟ فذهب البصريون إلى أن المعنى: وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به قبل موته. وذه الكوفيون إلى أن المعنى: وأن من أهل الكتاب إلا ليومنن به. وأهل البصرة لا يجيزون حذف الموصول وتبقية الصلة ومثله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] . {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 164] ، يجئ على مذهب البصريين: (وإن منك أحدٌ) ، (وما منا أحد إلا له مقام معلوم) ، قال الشاعر: لو قلت ما في قومها لم تيثم يفضلها في حسب وميسم تقديره: لو قلن في قومها أحد يفضلها في حسب وميسم لم تيثم. و {وَإِنْ} في قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ} نافيه، كالتي في قوله تعالى: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} [الملك: 20] ، وأكثر ما تأتي (إنْ) نافية مع (إلاًّ) وقد تأتي مع غير (إلاًّ) نحو قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الأحقاف: 26] ، أي: في الذي مكناهم، وهو قليل. * * * قوله تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 162] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 اختلف في نصب {الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} : فذهب البصريون إلى أنه نصب على المدح، وهو قول سيبويه وأنشد لخزنق بنت هفان: لايبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر النازلين بكل معترك والطيبون معاقد الأزر علة تقدير: أعني الناولين، وهذا: أعني المقيمين الصلاة. واختلف في تأويل {الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} : فذهب قوم إلى أن المراد بهم الأنبياء. وذهب آخرون إلى أن المراد بهم الملائكة. وهذا الوجه عندي أظهر؛ لقطع قوله: {وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} ؛ لأن الملائكة لا توصف بإيتاء الزكاة والأنبياء يوصفون به. وذهب قوم إلى أنه معطوف على {قَبْلِكَ} ، أي يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ومن قبل المقيمين الصلاة، ثم حذف (قَبل) لدلالة (قبل) عليه. وقيل هو معطوف على الكاف من {إِلَيْكَ} أو الكاف من {قَبْلِكَ} ، وهذا لا يجوز عند البصريين؛ لأنه لا يعطف على الضمير المجرور بغير إعادة الجار وقد شرحناه عند قوله تعالى: {وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] . وكذا قول من قال هو معطوف والميم من قوله: {مِنْهُمْ} . وأما من زعم أنه غلط من الكاتب فلا يجب أن يلتفت إلى قوله، وإن كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 قد روي عن عائشة - رضي الله عنها - وإبان بن عثمان؛ لأنه لو كان كذلك لم تكن الصحابة لتعلمه الناس على الغلط وهم الأئمة. وأجود ما قيل في هذا القولان الأولان. * * * قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176] الاستفتاء: استدعاء الفُتيا. والفُتيل: الإخبار بالحكم ولا يقال للإخبار بالحكم عن علة الحكم فُتيا إلا أن تذهب به مذهب الحكم بالمعنى على البناء له على حكم غيره ليصحح به. والكلالة: ما عدا الوالد والولد، هذا قول أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - يروى عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: ما عدا الولد - على تشكك منه - وقال الحسن: الإخوة والأخوات. وعلى القول الأول جمهور العلماء، وهو الوجه؛ لأنه من تكلل النسب غير اللاصق به، وإنما اللاصق الوالد والولد. وفي الكلام حذف، والتقدير فيه: إن امرؤ هلك ليس له ولد وقد ورث كلالة وله أخت. وقال العلماء: أصول الفرائض ثمانية عشر: اثنا عشر في أول السورة، وأربعة في آخرها، واثنان سماهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العصبة وفريضة الجد. وقيل هي تسعة عشر، لقوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] ، وفي قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176] دلالة على أن للبنتين الثلثين؛ لأن الله تعالى سوى بين البنت والأخت في النصف، فقيست البنتان على الأختين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 فصل: ويسأل عن أي الفعلين أعمل من قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء176] والجواب: أن المعمل الثاني هو {يُفْتِيكُمْ} ، والتقدير: يستفتونك في الكلالة قبل الله يفتيكم في الكلالة. فحذف الأول لدلالة الثاني، ولو أعمل الأول لقال: يستفتونك قل الله يفتيكم فيها في الكلالة. وإعمال الفعل الثاني عند البصريين أجود وعليه جاء القرآن نحو قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 5] ، فأعمل {يَسْتَغْفِرْ} ، ولو أعمل {تَعَالَوْا} لقال: تعالوا يستغفر لكم إلى رسول الله. فأما في الشعر فقد جاء إعمال الأول كما ىجاء إعمال الثاني، فمن إعمال الأول قول امرئ القيس: فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني ولم أطلب قليل من المال يريد: كفاني قليل من المال ولم أطل، ولو أعمل الثاني لا نفسد المعنى. ومن إعمال الثاني قول طفيل: وكمتا مدماة كأن متونها جرى فوقها واستشعرت لون مذهب فأعمل (استشعرت) ولو أعمل (جرى) لقال: جرى فوقها واستشعرت لون مذهب، ومثل ذلك قول كثير: فضى كل ذي دين فوفى غريمه وعزة ممطول معنى غريمها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 فأعمل (وفًّي) ولو أعمل (قَضى) لقال: قضى كل ذي دين فوفاه غريمه، وهو كثير في الشعر والكلام وقوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} . ارتفع {امْرُؤٌ} بإضمار فعل يفسره ما بعده تقديره: إن هلك امرؤ هلك، ولا يجوز إظهاره؛ لأن الثاني يغني عنه. وقال الأخفش هو مبتدأ و {هَلَكَ} خبره. والأول أولى؛ لأن الشرط بالفعل أولى. وقوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] ، في {أَنْ} ثلاثة أقوال: أحدها: أن المعنى كراهة أن تضلوا، فهي على هذا في موضع نصب مفعول له. والثاني: أنه على إضمار حرف النفي، كأنه قال: أن لا تضلوا، وتلخيصه: لئلا تضلوا. والأول مذهب البصريين والثاني مذهب الكسائي. ومثل الأول قزله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ، أي: أهل القرية. ومثل الثاني قول القطامي يصف ناقته. رأيناه ما يرى البصراء فيها فالينا عليها أن تباعا يريد: أن لا تباعا، ومثل الأول قول عمرو بن كلثوم. فأعجلنا القرى أن تشتمونا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 أي: كراهة أن تشتمونا. والثالث: قاله الأخفش وهو أن (أنْ) مع الفعل بتأويل المصدر، وموضع (أنْ) نصب بـ {يُبَيِّنُ} ، وتقديره: يبين الله لكم الضلال لتجتنبوه. {من سورة المائدة } * * * قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25] يسأل عن موضع "أخي" من الأعراب؟ وفيه أربعة أوجه: أحدها: الرفع على موضع {إِنِّي} . والثاني: العطف على المضمر في {لَا أَمْلِكُ} وحسن العطف عليه وإن كان غير مؤكد؛ لأن الحشو الذي هو {إِلَّا نَفْسِي} قام مقام التوكيد. والثالث: أن يكون موضعه نصبا بالعطف على الياء في {إِنِّي} . والرابع: أن يكون معطوفا على {نَفْسِي} . * * * قوله تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 26] . يسأل عن انتصاب {أَرْبَعِينَ سَنَةً} ؟ وفيه جوابان: أحدهما: أن ينتصب بـ: {مُحَرَّمَةٌ} ، وهو معنى قول الربيع، وهذا القول يجوز دخولها إياها. والثاني: أنه منتصب بـ: {يَتِيهُونَ} ، وهو معنى قول الحسن وقتادة؛ لأنهما ذكرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 أنه ما دخلها أحد منهم، وقيل إن يوشع بن نون وكالب بن يوقنا دخلاها. وجاء عن الربيع أن مقدار التيه كان مقدار ستة فراسخ، وقال مجاهد: كانوا يصبحون حيث أمسوا، ويمسون حيث أصبحوا، وروي عن ابن عباس أن موسى - عليه السلام - مات في التيه بخلاف عنه. وكان الحسن يقول لم يمت فيه. وكذا في دخول مدينة الجبارين خلاف عنه وعن ابن عباس أيضاً. * * * قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} [المائدة: 61] . يسأل عن معنى: {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} ؟ وفيه جوابان: أحدهما: أنهم دخلوا به على النبي - صلى الله عليه وسلم - وخرجوا به إلى أحوالٍ أخر، كقولك: هو يتقلب في الكفر ويتصرف فيه. والثاني: [أنهم دخلوا به في أحوالهم، وخرجوا به إلى أحوال أخر] . و (قد) تدخل في الكلام على وجهين: إذا كانت في الماضي قرينة من الحال، وإذا كانت مع المستقبل دلت على التقليل. وموضع (الباء) من قوله: {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} نصب على الحال؛ لأن المعنى: دخلوا كافرين وخرجوا كافرين؛ لأنه لا يريد أنهم دخلوا يحملون شيئأ، وهو كقولك: خرج بثيابه، خرج لابساً ثيابه، ومثله قول الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 ومستنة كأسنان الخرو ... ف قد قطع الحبل بالمرود أي: وفيه المرود، يعنى هذه صفته. * * * قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة: 69] . يسأل عن قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} ثم قول: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} ؟ وفيه جوابان: أحدهما: أن المعنى آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وهم المنافقون، وهذا قول الزجاج. والثاني: أن المعنى من دام على الإيمان والإخلاص، ولم يرتد عن الإسلام. ويسأل عن قوله: {َالصَّابِئُونَ} ؟ وفيه أجوبة: أحدها: أنه ارتفع لضعف عمل {إِنَّ} ، وهذا قول الكسائي، وقال أيضا يجوز أنه ارتفع؛ لأنه معطوف على المضمر في {هَادُواْ} ، كأنه قال: هادوا هم والصابئون. وفي هذا بعد؛ لأن الصابئي وهو الخارج عن كل دين عليه أمة عظيمة من الناس إلى ما عليه فرقة قليلة لا يشارك اليهودي في اليهودية، ومع ذلك فالعطف على المضمر المرفوع من غير توكيد قبيح، وإنما يأتي في ضرورة الشعر كما قال عمر بن أبي ربيعة: قلت إذ أقبلت وزهر تهادى كنعاج الملا تعسفن رملا والثاني: أنه عطف على (ما) لا يتبين معه فيه الإعراب مع ضعف (إن) ، وهذا قول الفراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 والثالث: أنه على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون كذلك، وهذا قول سيبويه. وقال الشاعر: وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق وقوله تعالى: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 71] . قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي "أن لا تكون فتنة"، وقرأ الباقون "ألا تكون" بالنصب. ولم يختلفوا في رفع {فِتْنَةُُ} ويجوز نصبها. فمن قرأ بالرفع جعل (أن) مخففة من الثقيلة، وأضمر الهاء، وجعل {حَسِبُواْ} بمعنى {عَمُواْ} ، وعلى هذا الوجه تثبت النون في الخط. أما النصب: فعلى أنه جعل (أن) الناصبة للفعل، ولم يجعل {حَسِبُواْ} بمعنى (العلم) وعلى هذا الوجه تسقط النون من الخط. وأما رفع {فِتْنَةُ} فعلى أن تكون {تَكُونَ} بمعنى الحضور والوقوع، فلا تحتاج إلى خبر. ويجوز أن تكون ناقصة، فتنصب {فِتْنَةُ} على الخبر، ويضمر الاسم. وأما قوله: {كَثِيرٌ مِنْهُمْ} ، فيرتفع من ثلاثة أوجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 أحدها: أن يكون بدلاً من الواو في {صَمُّوا} . والثاني: أي يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: هم كثير منهم. والثالث: أن يكون على لغة من قال (أكلوني البراغيث) ، وعليه قول الشاعر: يلومونني في اشتراء النحيل أهلي فكلهم يعذل. وقال الفرزدق: ألفيتا عيناك عند القفا أولى فأولى لك ذا واقيه ويجوز في الكلام النصب على الحال من المضمر في {صَمُّواْ} ، إلا أنه لا يجوز أن يقرأ به إلا أن تثبت رواية بذلك. * * * قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة: 95] . قيل في قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} قولان: أحدهما: وأنتم محرمون بالحج. وقيل: وأنتم قد دخلتم الحرم. وقرأ عاصم وحمزه والكسائي "فجزاء مثل ما قتل" بالرفع وترك الإضافة، وقرأ الباقون بالإضافة فمن قرأ "فجزاء مثل ما قتل" بالرفع، فجزاء: مبتدأ، ومثل ما قتل: الخبر، ويكون المعنى على هذا: أنه يلزمه أشبه الأشياء بالمقتول من النعم؛ من قتل نعامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 فعليه بدنة. وقد حكم بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن: وإن قتل أروى فعليه بقرة، وإن قتل غزالاً أو أرنباً فعليه شاة، وهذا قول ابن عباس والسدي ومجاهد وعطاء والضحاك. وأما من قرأ بالإضافة فإن بعض النحويين أنكر عليه ذلك؛ لأنه من إضافة الشيء إلى نفسه. وليس كذلك؛ لأن (الجزاء) ها هنا مصدر، وهو غير (المثل) وإنما هو فعل المجازي. (ومثل) ها هنا بمعنى ذات الشيء كما تقول: مثلك لا يفعل كذا، وأنت تريد: أنت لا تفعل كذا، وكذلك (مثل) نحو قوله تعالى: {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: 122] . إنما يريد كمن هو في الظلمات. وعلى هذا حمل محمد بن جرير قوله تعالى: "ليسَ كَمِثْلِهِ شَيء"، أي: ليس كذاته شيء. والواجب على القاتل على هذه القراءة أن يقوم الصيد بقيمة عادلة ثم يشترى بثمنه مثله من النعم يهدى إلى الكعبة. * * * قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] قال ابن عباس وأنس وأبو هريرة والحسن وطاووس وقتادة والسَّدي: نزلت في رجل يقال له (عبد الله) وكان يطعن في نسبه، فقال: يا رسول الله من أبي؟ فقال حُذافَة، وهو غير الذي ينسب إليه، فساءه ذلك، فنزلت هذه الآية. وقيل: نزلت لأنهم سألوا عن أمر الحج لما نزلت: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ، فقالوا: أفي كل عام؟ قال: لا، ولو قلت نعم لوجبت. ويروى عن مجاهد وأبي أمامة وعباس وأبي هريرة بخلافٍ، ويذكر أن السؤال الأول والثاني كانا في مجلس واحد. فصل: ويسأل عن قوله: {أَشْيَاءَ} لمَ لمْ ينصرف؟ وفيه بين العلماء خلاف: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 قال الخليل وسيبويه: أصله (شَيئانُ) على وزن (طَرفَاء) ، ثم قدمت الهمزة التي هي لام الفعل إلى موضع الفاء وأسكنت الشين، فقيل (أشياء) والهمزة في آخره للتأنيث فلم ينصرف لذلك. وقال الأخفش والفراء: أصله (أشيِئَاء) على وزن (أَفْعِلاء) ، ثم خفف وشبهاه بـ: (هين وأهوناء) و (صديق وأصدقاء) ، واختلفا في الواحد: فجعله أحدهما كهين وجعله الآخر كصديق. قال المازني: قلت للأخفش كيف تصغر (أشياء) ؟ ، فقال: أُشَيئِاءُ، فقلت خالفت أصلك، وإنما يجب أن تصغر الواحد ثم تجمعه بالألف والتاء، فانقطع. وقال الكسائي: هو (أًفْعَال) إلا أنه لم ينصرف؛ لأنهم شبهوه بحمراء؛ لأنهم يقولون: أشياوات كما يقولون حمراوات، فألزمه الزجاج أن لا ينصرف (أبناء) و (أسماء) ؛ لأنهم يقولون: أبناوات وأسماوات. وقال أبو حاتم هو أفعال كبيت وأبيات إلا أنه شذ فجاء غير مصروف. وقال محمد بن الحسن الزبيدي: توهمت العرب أن همزته للتأنيث فلم تصرفه. * * * قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 112] . يسأل كيف معنى هذا السؤال؟ والجواب: أن فيه ثلاثة أقوال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 أحدها: أن المعنى: هل يقدر، وكان هذا في ابتداء أمرهم، قبل أن تستحكم معرفتهم بالله تعالى، وبما يجوز عليه من الصفات، ولذلك أنكر عليهم عيسى - عليه السلام - بقوله: {اتَّقُوا اللَّهَ} . والثاني: أن المعنى: هل تفعل. والثالث: أن المعنى: هل يستجيب لك ربُّك. قال السُّدي: هل يطيعك ربك 'ن سالته؟ فهذا على أن (استطاع) بمعنى (أطاع) كما تقول: استجاب بمعنى أجاب، وأنشد الأخفش: وداع دعا: يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب وإنما حكى سيبويه (أسطاع) في معنى (أطاع) بقطع الهمزة وزيادة السين. وقرأ الكسائي "هلى تستطيعُ ربَّكَ" بالتاء ونصب (ربًّك) والمعنى في هذه القراءة: هل تستدعي إجابة ربك، وأصله: هل تستدعي طاعته فيما تسألُ من هذا، وهذا قول الزجاج. وقيل معناه: هل تقدر أن تسأل ربك. وموضع (إذ) من الإعراب نصب، والعامل فيها (أوحيت) ويجوز أن يكون العامل: اذكر إذ قال الحواريون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116] . يسأل عن معنى سؤاله تعالى لعيسى - عليه السلام -؟ وفيه جوابان: أحدهما: التوبيخ لمن ادعى ذلك عليه، كما يقرر الرجل البرئ بحضرة المدعى عليه ليبكت المدعي بذلك، وهذا قول الزجاج. والثاني: أن الله تعالى أراد أن يعرفه أن قومه آلَ أمرهم إلى هذا الأأمر العجيب المنكر، وهذا على تأويل قول السُّدي: أنه قيل له في الدنيا. فصل: ويسأل: هل قيل له هذا في الدنيا، أو سيقال له؟ وفي هذا جوابان: أحدهما: أنه سيقال له يوم القيامة، وهو قول ابن جريح وقتادة والزجاج لقوله: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119] . والثاني: أنه قيل له ذلك حين رفعه الله تعالى إليه في الدنيا، وهو قول السُّدي؛ لأنه الفعل بلفظ الماضي، ولا ينكر أن يأتي الفعل الماضي ومعناه الاستقبال في مثل هذا، وقد جاء في القرآن منه مواضع كثيرة، نحو قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام: 27] وقال: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة: 166] وقال: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] وقال: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ} [الأعراف: 50] ، وهذا إنما يأتي لصدق المخبر فيما يخبر؛ لأنه يصير في الثبات والصحة بمنزلة ما قد وقع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 قال ابو النجم: ثم جزاه الله عنا إذ جزى جنات عدن في العلالي العلا يريد: إذا جزى. فصل: ويسأل عن قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] . قال الزجاج المعنى: تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك. قال غيره: تعلم حقيقتي ولا حقيقتك مشاهدة. وقيل: تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك التي هي نفسي، يعني التي تملكها، وحقيقة ذلك: تعلم ما أخفي ولا أعلم ما تخفي، إلا أنه ذكر النفس على مزاوجة الكلام؛ لأن ما تخفيه كأنه إخفاء في النفس. وموضع (إذ) نصب؛ لأنها معطوفة على (إذ) الأولى، فالعامل فيهما واحد، ويجوز أن يكون عطف جملة على جملة. والألف في {أَنْتَ} تسمى ألف التوبيخ، ويجوز فيها ثلاثة أوجه: التحقيق في الهمزتين، وتحقيق الأولى وتليين الثانية، وتحقيقهمات جميعاً وإدخال ألف بينهما، وقد شرحنا ذلك في سورة البقرة. * * * قوله تعالى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117] . الرقيب: الحفيظ، هذا قول السُّدي وابن جريح وقتادة. والمراقبة: في الأصل المراعاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 والشهيد هاهنا العليم وقيل: المُشاهد. ويسأل عن موضع (أنْ) من الإعراب؟ وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون موضعها جراً على البدل من المضمر في (به) . والثاني: أن يكون موضعها نصباً على البدل من (ما) . والثالث: أن لا يكون لها موضع من الإعراب، ولكن تكون مفسرة بمنزلة (أي) كالتي في قوله: {أَنِ امْشُوا} [ص: 6] . ويسأل عن الوجهين الأولين: كيف جاز أن توصل (أنْ) بفعل الأمر، ولم يجز أن يوصل (الذي) به؟. والجواب: أن (الذي) اسم ناقص يقتضي أن تكون منيبة عنه كإنابة الصفة للموصوف، وفعل الأمر لا يصح فيه هذا؛ لأنه إنما يتبين بما علمه عند المخاطب. فأما (أنْ) فحرف لا يجب فيه ذلك كما لا يجب أن يكون في صلته عائد. فصل: ويسأل عن قوله تعالى: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} ؟ وفيه جوابان: أحدهمت: أنه أراد وفاة الرفع إلى السماء وهذا قول الحسن. وقال غيره: يعني وفاة الموت. والأولى أولى؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لينزُلنَّ ابن مريم حكماً عدلاً، فَلَيَقْتُلَنَّ الدَّجَّالَ". ونصب {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ} ؛ لأنه خبر (كان) و (أنت) فصل، وقرأ الأعمش: "كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبُ" بالرفع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 جعل (أًنتَ) مبتدأ و (الرَّقيبُ) الخبر والجملة خبر (كان) ، ومثله قوله قيس بن ذريح: تبكي على لبني وأنت تركتها وكنت عليها بالملا أنت أقدر فإن تكن الدنيا بلبنى تغيرت فللدهر والدنيا بطون وأظهر ولا يدخل الفصل إلا بين معرفتين، أو بين معرفة ونكرة تقارب المعرفة، نحو: كنت أنت القائم، وكنت أنت خيراً منه. {من سورة الأنعام } * * * قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنهام: 3] . يسأل عن العامل في الظرف من وقوله: {فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} ؟. وفي هذا جوابان: أحدهما: أن (في) متعلقة بما دل عليه اسم الله - عز وجل -؛ لأنه وقع موقع (المدبر) كأنه قال: وهو المدبر في السموات وفي الأرض. والجواب الثاني: أن تكون {فِي} متعلقة بمحذوف، كأنه قال: وهو الله مدبر في السموات وفي الأرض. وقوله: {فِي الْأَرْضِ} معطوف على {فِي السَّمَاوَاتِ} . ويجوز فيه وجه آخر وهو أن يكون المعنى: وهو الله ملكه في السموات، وفي الأرض يعلم سركم وجهركم، أي: ويعلم سركم وجهركم في الأرض، ولا يجوز أن يتعلق بالاستقرار؛ لأن ذلك يؤدي إلى احتواء الأمكنة عليه والله تعالى لا تحتويه الأمكنة ولا الأزمنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] . يقال كيف كذبوا مع علمهم بأن الكذب في الآخرة لا ينفعهم، وأن الله تعالى يعلم ذلك منهم؟. والجواب: أن للآخرة مواقف، فموقف لا يعلمون فيه ذلك، وموقف يعلمون فيه، وهو استقرارهم في النار، وقال الحسن: جروا على عادتهم في الدنيا لأنهم منافقون. ويجوز في (فتْنتُهُم) الرفع والنصب: فالرفع على أنه اسم (تكن) و {أَنْ قَالُوا} الخبر. والنصب على أن يكون خبراً {إِلَّا أَنْ قَالُوا} الاسم. وهو الوجه؛ لأمرين: أحدهما: أن الخبر أولى بالنفي، والاسم اولى بالإثبات. والثاني: أن قوله: {إِلَّا أَنْ قَالُوا} . يشبه المضمر من قبل أنه لا يُوصف ولا يْوصف به، والمضمر أعرف المعارف، وإذا اجتمع في كان اسمان أحدهما أعرف من الآخر كان به الأعرف اسماً لها والآخر خبراً لها وكذا المعرفة والنكرة تكون المعرفة اسماً والنكرة خبراً، قال الشاعر: وقد علم الأقوام ما كان داءها بثهلان إلا الخزي ممن يقودها فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: لم أنث {تَكُنْ} والاسم مذكر؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 والجواب: لأنه وقع على مؤنث وهو (الفتنة) ، وهي أقرب إلى الفعل مثل قول لبيد: فمضى وقدمها وكانت عادة منه إذا هي عردت إقدامها قال الزجاج: يحوز أن يكون التقدير في قوله إلا أن قالوا: إلا مقالتهم، فتؤنث لذلك، وهذا وجه جيد صحيح. * * * قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 27] . يقال: وقف يقف وقوفاً، ووقف غيره يقفه وقفاً، وحكى عن أبي عمرو أنه أجاز (ما أوقفك هاهنا) مع إخباره أنه لم يسمعه من العرب، وهو غير جائز عند علمائنا. ومما يسأل عنه أن يقال: لم جاز {وَلَوْ تَرَى} و (لو) إنما هي للماضي؟ والجواب: لأن الخبر لصحته وصدق المخبر به صار بمنزلة ما وقع، وقد ذكرنا له نظائر. ويقال: (لو) فيها معنى الشرط فلمَ لمْ تجزم؟ قيل: لمخالفتهما حروف الشرط، وذلك أن حروف الشرط ترد الماضي مستقبلاً، نحو قولك: إن قمتَ قمتُ معك، كما تقول: إن تقم أقم معك، و (لو) لا تفعل ذلك الفعل، فلم تجزم لذلك. ويسأل عن جواب (لو) ؟ والجواب: أنه محذوف، وتاقديره: أرايت أمراً هائلاً، وهذه الأجوبة تحذف لتعظيم الأمر وتفخيمه، نحو قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: 31] . يريد: لكان هذا القرآن، مثله قول امرئ القيس: وجدك لو شيء أتانا رسوله سواك ولكن لم نجد لك مدفعا يريد: لو أتانا رسوله سواك لما جئنا. وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية حفص وحمزة "ولا نُكذَّبَ ونكونَ" نصب فيهما جميعاً. وقرأ الباقون بالرفع. وفي النصب أوجه: أحدها: أن يكون على إضمار (أنْ) ، وهو الذي يسميه الكوفيون نصباً على الصرف، تقديره: وأن لا نكذب وأن يكون، وإنما احتجت إلى إضمار (أن) ليكون مع الفعل مصدراً، فتعطف مصدراً على مصدر، كأنه في التقدير: ياليتنا اجتمع لنا الرد وترك التكذيب مع الإيمان، ويجوز أ، يكونوا قالوه على الوجهين جميعاً، فاكذبوا على الوجه الأول. وأجاز الزجاج أن تكون (الواو) بمنزلة (الفاء) في الجواب، فيصير كقولك: لو رددنا لم نكذب بآيات ربنا ولكنا من المؤمنين فاكذبوا في هذا، وهو مذهب الكوفيين؛ لأن أكثر البصريين لا يجيز أن يكون الجواب إلا بالفاء. وأما الرفع فعلى القطع والاستئناف، أي: ونحن لا نكذب بآيات ربنا رددنا أو لم نرد. قال سيبويه: دعني ولا أعود، أي: وأنا لاأعود على كل حال تركتني أو لم تتركني، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 ويدل عليه {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28] ويجوز أن يكون على إضمار مبتدأ، أي: ونحن لا نكذب. * * * قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] . الدابة: كل ما دب من الحيوان. ومما يسأل عنه أن يقال: لم قال: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} وقد علم أن الطائر لا يطير إلا بجناحيه؟ والجواب: أن هذا إنما جاء للتوكيد ورفع اللبس؛ لأنه قد يقول القائل: طرفي حاجتي، أي: أسرع فيها، فجاء هذا التوكيد لإزالة اللبس، وهو كما تقول: مشى برجليه. ومعنى قوله: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} ، أي: في الحاجة وشدة الفاقة إلى مدبر يدبرهم في أغذيتهم وكسبهم ونومهم ويقظتهم وما أشبه ذلك. ويسأل عن قوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ؟ وفيه جوابان: أحدهما: أنه قد أتى فيه بكل ما يحتاج إليه العباد في أمور دينهم مجملاً ومفصلاً. والثاني: أنه ذكر فيه جميع الاحتجاجات على مخالفيه. * * * قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55] يسأل: ما المشبه وماالمشبه به في قوله: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ} ؟ وفيه جوابان: أحدهما: التفصيل الذي تقدم في صفة المهتدين وصفة الضالين شبه بتفصيل الدلائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 على الحق من الباطل في صفة غيرهم من كل مخالف للحق. والثاني: أن المعنى كما فصلنا ما تقدم من الآيات لكم نفصله لغيركم. وقرأ حمزة والكسائي وأبوبكر عن عاصم {وَليَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} بالياء ورفع اللام، وقرأ نافع بالتاء ونصب اللام، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحفص عن عاصم بالتاء ورفع اللام. فمن قرأ بالياء وضم اللام جعل (السًّبيل) فاعلاً وذكره وهي لغة بني تميم. ومن قرأ بالتاء ونصب اللام جعل المخاطب فاعلاً ونصب (السَّبيل) ؛ لأنه مفعول تقديره: ولتستبين أنت يا محمد سبيل المجرمين. ومن قرأ بالتاء ورفع اللام جعل (السَّبيل) فاعله وأنثها وهي لغة أهل الحجاز. وقد روي في في الشاذ. {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ} بالياء وفتح اللام على تقدير: وليستبين السائل سبيل. * * * قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 74] . الأصنام: جمع صنم، الصنم ما كان مصوراً، والوثن ما كان غير مصور. والآلهة: جمه إله، كإزارٍ وآزرة. وفي (آزر) ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أسم أب إبراهيم، وهو قول الحسن والسًّدي وسعيد بن جبير وابن إسحاق. والثاني: أنه اسم صنم، وهو قول مجاهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 والثالث: أنه صفة عيب قال الفراء معناه: معوج عن الدين. وقيل: هو لقب له واسمه تارج. وهو في هذه الأقوال مجرور الموضع على البدل من (أبيه) ولا ينصرف؛ لأنه أعجمي معرفة. وأما على قول مجاهد فقال الزجاج: يكون منصوباً على إضمار فعل دل عليه الكلام، كأنه قال: أتتخذ آزر إلهاً أتتخذ أصناماً آلهة. وقرئ في الشواذ (آزر) ، وتقديره: وإذ قال لإبراهيم لأبيه يا آزر أتتخذ أصناماً آلهة. والعامل في (إذ) فعل مضمر تقديره (اذكر) . فوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 78] . البزوغ: البروز والطلوع، يقال: بزغ يبزغ بزوغاً. والأفول: الغيبوبة. ومما يسأل عنه أن يقال: ما في أفولها من الدلالة على أنه لا يجوز عبادتها، وقد عبدها كثير من الناس مع العلم بذلك؟ والجواب: أن الأفول بعد الطلوع تغير والتغير صفة نقص ودلالة على أن للمغير مدبراً يدبره، وأنه مسخر محدث، وما كان بهذه الصفة وجب أن لايعبد. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: لمَ لمْ يقل: هذي ربي: كما قال: {بَازَغَةً} ؟ والجواب: أن التقدير هذا النور الطالع ربي، ليكون الخبر والمخبر عنه جميعاً على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 التذكير، كما كانا جميعاً على التأنيث في {الشَّمْسَ بَازِغَةً} ، هذا الذي قاله العلماء، وعندي أن قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً} إخبار من الله تعالى، وقوله: {هَذَا رَبِّي} من كلام إبراهيم - عليه السلام -. والشمس مؤنثة في كلام العرب فأما في كلام سواهم فيجوز أنها ليست كذلك، وإبراهيم - عليه السلام - لم يكن عربياً فحكى لنا الله تعالى ما كان في لغته. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: لم أنث الشمس وذكر القمر؟ والجواب: أن تأنيثها تفخيم لها لكثرة ضيائها، وعلى حد قولهم: نسابة وعلامة، وليس القمر كذلك؛ لأنه دونها في الضياء. ويقالك لمَ دخل الألف واللام فيها وهي واحدة، ولم يدخل في زيد وعمرو؟ قيل: لأن شعاع الشمس يقع عليه أسم الشمس، فاحتج إلى التعريف إذا قصد إلى جرم الشمس أو إلى الشعاع، على طريق الجنس أو الواحد من الجنس، وليس زيد ونحوه كذلك. * * * قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109] يقال لم أقسموا، وما الآية التي طلبوا؟ والجواب: أنهم أرادوا أن يتحكموا على النبي - صلى الله عليه وسلم -. بأقسامهم، وسألوا أن يحول الصفا ذهباً. وقيل: سألوا ما ذكره الله تعالى في الآية الأخرى من وقله: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} [الإسراء: 90] ، الآيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 ومعنى قوله: التنبيه على موضع الحجة عليهم في أنه ليس لهم مالا سبيل لهم إلى علمه، وقيل المخاطب بهذا المشركون، وهو قول مجاهد وابن زيد، وقيل المؤمنون، وهو قول الفراء وغيره. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {إِنَّهَا} بالكسر، وقرأ عاصم في رواية حفص وحمزة والكسائي بالفتح، قال ابن مجاهد وأحسب ابن عامر، وقرأ حمزة وابن عامر {تؤْمِنُونَ} بالتاء، وقرأ الباقون بالياء. فوجه الكسر: أن (إن) جواب هاهنا؛ لأنه استئناف على القطع بأنهم لا يؤمنون، ولو فتحت وأعمل فيها (يُشْعُركُم) لكان عذراً لهم. وأما الفتح فعلى أن تكون (أن) بمعنى (لعل) حكى الخليل: إئت السوق أنَّك تشتري لنا شيئاً، وقال عدي بن زيد: أعاذل ما يدريك أن منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد والتقدير على هذا: لعلها إذا جاءت لا يؤمنون. وقال الفراء تكون (لا) صلة، نحو قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] ، كقوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95] . وقال الأحفش، التقدير وما يشعركم بأنها إذا جاءت يؤمنون، فجعل (لا) زائدة، وجعل (أن) في موضع نصب على حذف حرف الجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 117] . يقال: لم جاز في صفة القديم تعالى (أعْلَم) مع أنه لا يخلو أن يكون (أعْلَم) بالمعنى ممن يعلمه أو ممن لا يعلمه وكلاهما لا يصح فيه (أَفْعَلَ) ؟ والجواب أن المعنى: هو أ'لم به ممن يعلمه، لأنه يعلمه من وجوه تخفى على غيره، وذلك أنه يعلم ما يكون منه وما كان وما هو كائن من وجوه لا تحصى. وأما موضع (منْ) من الإعراب: فقال بعض البصريين: موضعها نصب على حذف (الباء) حتى يكون مقابلاً لقوله: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} . وقال الفراء والزجاج: موضعها رفع: لأنها بمعنى (أي) كقوله تعالى: {أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} [الكهف: 12] . وهذه المسألة فيها خلاف، وسأشرحها في موضعها إن شاء الله. قال أبو علي. (من) في موضع نصب بفعل مضمر يدل عليه (أعلم) ، كأنه قال: إن ربك أعلم يعلم من يضل عن سبيله. وزعم قوم أن (أعلم) بمعنى (يعلم) ، وهذا فاسد ولا يجوز أ، يكون (من) في موضع جر بإضافة (أعلم) ؛ لأن (أفعل) لا يضاف إلا إلى ما هو بعضه، وليس ربنا تعالى بعض الضالين، ولا بعض المضلين فامتنع ذلك لذلك. * * * قوله تعالى: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 128] . المثوى: موضع الثواء، والثواء الإقامة، قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} [القصص: 45] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 قال الأعشى: لقد كان في حول ثواء ثويته تقضي لبانات ويسام سائم والخلود: البقاء، يقال: خلد يخلد خلداً وخلوداً، والرجل حالد، والخالد اسم من أسماء الجنة، ويقال: أخلد الرجل إذا أبطأ عنه الشيب، وخلد أيضاً، كذلك أخلد إلى الأرض وخلد، ويقال: أصاب فلان خلد الأرض إذا وجد كنزاً. ومما يسأل عنه أي يقال: ما معنى الاستثناء في قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} ؟ وللعلماء في ذلك عشرة أجوبة: أحدها: قاله ابن عباس وهو أ، هـ قال: لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله تعالى في خلقه بأن لهم جنة ولا ناراً، وهذا الاستثناء لأهل التوحيد دون أهل الكفر، وهو منقطع على هذا القول. والجواب الثاني: عنه أيضاً وهو أنه لأهل الإيمان، قال: الخلود البقاء فيها، ثم استثنى أهل التوحيد أنهم لا يخلدون فيها كما يخلد أهل الكفر، وإنما يخلدونها فيقمون فيها بقدر ذنوبهم ثم يخرجون. والجواب الثالث: وهو له أيضاً قال: قد جعل الله أمد هؤلاء القوم في مبلغ عذابهم إلى مشيئته، والاستثناء على هذا لأهل الكفر، وهو متصل. والجواب الرابع: للفراء وهو ان العزيمة قد تقدمت بالخلود وهو لا يشاء تركه. والجواب الخامس: لمحمد بن جرير وهو أنه استثنى الزمان الذي هو مدة قيامهم من قبورهم إلى أن يصلوا إلى المحشر؛ لأنهم حينئذ ليسوا في جنة ولا نار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 والجواب السادس: للزجاج قال: أوجب لهم النار بقوله {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا} وقامهم في الحشر والوقوف للمحاسبة ليس هم في نار. وهو كالجواب الذي قبله. والجواب السابع: أنه على الزمان الذي هم فيه من قيام في المحشر إلى أن يدخلوا النار، وهو استثناء من الخلود فيها وهو متصل. والجواب الثامن: للزجاج أيضاً وجماعة معه قالوا: الاستثناء في الزيادة من العذاب لهم، أي: إلا ما شاء الله من الزيادة في عذابهم، والاستثناء على هذا القول منقطع، والنحويون مختلفون في تقديره بـ: (لكن) وكذلك جميع أصحابه، والفراء يقدره بـ: (سوى) وكذا من تابعه. والجواب التاسع: قاله بعض أصحاب المعاني وهو أن (ما) في الآية بمعنى (من) والاستثناء منقطع، والمعنى: إلا من شاء الله إخراجه من النار، يعني الموحدين الذين يخرجون بالشفاعة. وقيل: بل هو متصل و (ما) بمعنى (من) والتقدير: إلا ما شاء الله أن يعذبه بأصناف العذاب، يعني الكفَّار. والاستثناء في هذين الجوابين من الأعيان، وعلى ما تقدم قبلها من الأزمان. و (ما) قد تقع في معنى (من) قال الله تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران: 35] أي: من، وقال: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وكذلك: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 1] وهو كثير، وحكى أبو زيد أن أهل الحجاز كانوا إذا يمعوا الرعد يقولون: سبحان ما سَبَّحتَ له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 والجواب العاشر: ذهب إليه بعض المتكلمين قال المعنى: إلا ما شاء الله من الفائت قبل ذلك من الاستحقاق، كأنه قال: خالدين فيها على مقدار مقادير الاستحقاق إلا ما شاء الله من الفائت قبل ذلك، والفائت من العقاب يجوز تركه بالعفو عنه، والاستثناء على هذا متصل. قال بعض شيوخنا: المعنى: إلا ما شاء الله من تجديد الجلود بعد إحراقها وتصريفهم في أنواع العذاب معها، أي: خالدين فيها على صفة واحدة إلا ما شاء الله من هذه الأحوال والأمور التي ذكرت، و (ما) على بابها على هذا القول. * * * قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 137] . الشركاء هاهنا الشياطين، زينوا للمشركين وأدَ البنات وهو دفنهن وهن في الحياة خوفاً من الفقر والعار، وهذا قول الحسن ومجاهد والسدي، وقيل: هم الغواة من الناس، وقيل: شركاؤهم في نعمتهم وأموالهم، وقيل: شركاؤهم في الاشراك والكفر وما يعتقدونه وينالون عنه، وقيل: هم قوه كانوا يخدمون الأوثان ويقومون بأمرها وإصلاح شأنها وما تحتاج إليه، وهذا قول الفراء والزجاج. وفذ هذه الآية أربع قراءات: قراءة الجماعة: {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 ووجه هذه القراءة ظاهرة. إلا ابن عامر فإنه قرأ {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} ، بضم (الزاي) ونصب (الأولاد) وجر (الشركاء) ، فهذه الرواية المشهورة عنه. ورويت عنه رواية أخرى وهي جر (الأولاد) و (الشركاء) جميعاً، فهذه ثلاث قراءات. والقراءة الرابعة: {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} ، بضم (الزاي) ورفع (قتل) وجر (الأولاد) ورفع (الشُّركاء) وأظنها قراءة أبي عبد الرحمن السلمي. ووجه قراءة ابن عامر أنه فرق بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، كأنه قال: قتل شركائهم أولادهم، والشركاء في المعنى فاعلون، وهذا ضعيف في العربية، وإنما يجوز في ضرورة الشعر نحو قول الشاعر: فزججتها متمكنا زج القلوص أبي مزادة وأما القراءة الثانية: فوجهها أنه جعل (الشركاء) بدلاً من (الأولاد) لمشاركتهم إياهم في النسب والميراث، ويقال إن الذي حمله على هذه القراءة أنه وجد (شركائهم) في مصاحف أهل الشام بالياء. وأما القراءة الرابعة: وهي شاذة، فعلى أنه لما قال {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ} قيل: من زينة؟ قيل: شركاؤهم، أي زينه شركاؤهم، ومثله قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ} [النور: 36-37] على مذهب من قرأ {يُسَبِّح} على ما لم يسم فاعله. وأنشد سيبويه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 يبك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح كأنه قال: ليبك يزيد، قيل: من يبكيه؟ قال: ضارع لخصومه. {ومن سورة الأعراف } * * * قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ} [الأعراف: 11] . الخلق: التقدير، والتصوير: جعل الشيء على صورة من الصور، والصورة: بنية على هيئة ظاهرة. ومما يسأل عنه أن يقال: كيف جاء: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا} ، والقول كان قبل خلقنا وتصويرنا؟ والحِجَاب: الحاجز المانع من الإدراك، ومنه قيل حاجب الأمير، وقيل للصرير (محجوب) . فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: من أصحاب الأعراف؟ وفي هذا أجوبة: أحدها: أنهم فضلاء المؤمنين، وهو قول الحسن ومجاهد. وقيل: هم الشهداء، وهم عدول الآخرة. وقيل: هم ملائكة يرون في صورة الرجال، وهو قول أبي مجلز. وقيل: هم قوم أبطأت بهم صغائرهم إلى آخر الناس، وهو قول حذيفة. وقيل: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، قوله: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} قيل: هم أصحاب الأعراف، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود والحسن وقتادة. وقيل: هم أهل الجنة قبل أن يدخلوها، وهو قول أبي مجلز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وعن هذا ثلاثة أجوبة: الأول: أن المعنى خلقنا آباءكم، ثم صورنا آباءكم، وهذا يروى عن الحسن من كلام العرب: نحن فعلنا بكم كذا وكذا، وهم يعنون أسلافهم، وفي التنزيل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} [البقرة: 63] . أي: ميثاق أسلافكم الذين كانوا على زمن موسى - عليه السلام -. والثاني: أن المعنى خلقنا آدم ثم صورناكم فيى ظهره، وهو قول مجاهد. والثالث: أن الترتيب وقع في الإخبار؛ كأنه قال ثم إنَّا نخبركم أنَّا قلنا للملائكة؛ كما تقول: أنا راجل ثم أنا مسرع، وهذا قول جماعة من النحويين منهم: علي بن عيسى والسيرافي وغيرهما، وقال الأخفش: (ثم) هاهنا بمعنى (الواو) ، وأنكره الزجاج، وقال الشاعر: سألت ربيعة من خيرها أبا ثم أما فقالت لمه أي: ليجيب أولاً عن الأب ثم الأم. * * * قوله تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف: 46] . الآعراف: المواضع المرتفعة؛ أخذ من عرف الفرس، وكل مرتفع من الأرض عرف، قال الشماخ: فظلت بأعراف تعالى كأنها رماح نحاها وجهة الريح راكز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] واعدَ: فاعل من الوعد، وموسى: اسم أعجم لا ينصرف للتعريف والعجمة. قال السدي: أصله (موشا) فـ: (مو) : الماء، و (شا) : الشجر، قال: وذلك أن جواري امرأة فرعون وجدنه بين ماء وشجر، فسمى باسم المكان الذي وجد فيه. وقال غيره: معناه من الماء رفعتك. وجمع (موسى) (موسَون) في الرفع و (موسين) في الجر والنصب، تحذف الألف لالتقاء الساكنين، وتترك الفتحة تدل عليها، هذا مذهب البصريين، وقال الكوفيون: بقال في جمعه (موسون) مثل قولك قاضون. فأما موسى الحديد فيقال في جمعه: (مواسٍ) ، قال الشاعر: عذبوني بعذاب قلعوا جوهر راسي ثم زادوني عذاباً نزعوا عني طساس بالمدى قطع لحمي وبأطراف المواسي. وهي مؤنثة، قال الشاعر: فإن تكن الموسى جرت فوق بظرها فما ختنت إلا ومصان قاعد. واختلف في اشتقاقها: فقال البصريون: هي (مُفْعَل) من أحد شيئين إما من أوسيت الشعر إذا حلقته، أو من أسوت الشيء إذا أصلحته، فعلى القول الأول تكون الواو أصلية، والألف في آخره منقلبة عن ياء، وعلى القول الثاني تكون الواو منقلبة عن همزة، والألف منقلبة عن واو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وقال الكوفيون: هي (فُعْلَى) من ماس يميسُ، فعلى هذا القول تكون الواو منقلبة عن ياء، لسكونها، وانضمام ما قبلها، والألف زائدة للتأنيث. والإتمام: التكميل، والميقات: الوقت. فصل: ومما يسأل عنه ان يقال: كيف كانت المواعدة هاهنا، والمواعدة إنما تكون من اثنين؟ وفي هذا جوابان: أحدهما: أن تكون (فَاعَل) قد يكون من واحد، نحو: عافاه الله، وعاقبت اللص، وطارقت النعل. فكذلك هاهنا. والجواب الثاني: أن القول كان من الله تعالى، والقبوبل من موسى فصارت مواعدة. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: لم قال: {ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} ، ولم يقل: أربعين ليلة؟ وفي هذا أجوبة: قال مجاهد وابن جريح ومسروق كانت العدة ذا القعدة وعشر ذي الحجة. وقال غيرهم: واعدة ثلاثين ليلة يصوم فيها ويتقرب بالعبادة، ثم أتمت بعشر إلى وقت المناجاة. وقيل: واعدة ثلاثين ليلة، فلم يصمها موسى - عليه السلام -، فأمره الله نعالى بعشرٍ زيادة عليها؛ ليصوم فيها لتكون مناجاته بعقب صومٍ؛ لأن خلوف فم الصائم عند الله كرائحة المسك. ويقال: لمَ قال: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} ، وقد دل ما تقدم على هذه العدة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 قيل: للبيان الذي يجوز معه توهم أتممنا الثلاثين بعشرٍ منها، كأنه كان عشرين ثم أتم بعشر فتم ثلاثين. * * * قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف: 148] . الاتخاذ: افتعالُ من الأخذ، والجليُّ: ما كان للزينة من الذهب والفضة. وقيل: إن العجل عمل من الذهب والفضة. والعجل: ولد البقرة القريب العهد بالولادة، واشتقاقه من التعجيل لصغره. وهو (العِجُّول) أيضاً. والجسد: كالجسم، والخُوارُ: الصوت. ويقال: كيف خار العجل، وهو مصوغ من ذهب؟ وعن هذا أجوبة: قال الحسن: قبض السامري قبضة من تراب من أثر فرس جبريل - عليه السلام - يوم قطع البحر، فقذف ذلك التراب في فيِ العجل، فتحول لحماً ودماً. وقال غيره: احتال السامري بإدخال الريح فيه حتى سمع له صوت كالخوار. وقيل: بل لما جمع الحليًّ أتى بها إلى هارون - عليه السلام -، فقال له: إني أريد أن أصنع بهذا الحليًّ ينتفع به بنو إسرائيل، فادع الله أن ييسره علىًّ، فدعا الله له، فأجرى الله تعالى في العجل ريحاً حتى خار. * * * قوله تعالى: {سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأعراف: 177] . ساء: فعا ماض لا يتصرف إذا أريد به معنى (بئسَ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 ونصب {مَثَلًا} ؛ لأنه تفسير للمضمر في ساء وبيان، وتقديره: ساء المثل مثلاً. وفي الكلام حذف آخر تقديره: ساء المثل مثلاً مثل القوم، ثم حذف المثل الأول لدلالة المنصوب عليه، وحذف الثاني وأقام المضاف إليه مقامه للإيجاز ولأن المعنى مفهوم. * * * قوله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف: 190] . الإيتاء: الإعطاء. وقرأ نافع وعاصم من طريق أبي بكر {جَعَلَا لَهُ شُرَكَا} ، وقرأ الباقون {شُرَكَاء} ، وأنكر بعضهم القراءة الأولى، وقال لو كان (شِرْكاً) لقال: جعلا لغيره شِرْكاً؛ لأنه بمعنى (النصيب) . والجواب عن هذا أن الزجاج قال الممعنى: ذا شركٍ، كما قال: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة: 177] . وقيل: هو على التفحيش، أي: كان له شركاً، والشرك: مصدر، والشركاء: جمع شريك، ككريم وكرماء. ويسأل: إلى من يرجع الضمير في {جَعَلَا} ؟ وفيه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه يرجع إلى النفس وزوجها من ولد آدم لا إلى آدم وحواء، وهو قول الحسن وقتادة. والثاني: أنه يرجع إلى الولد الصالح، بمعنى المعافاة في بدنه، فذلك صلاح في خلقه لا في دينه، وثنى؛ لأن حواء كانت تلد في كل بطن ذكراً وأنثى. والثالث: أنه يرجع إلى آدم وحواء، فإنهما جعلا له شريكاً في التسمية، وذلك أنهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 أقاما زماناً لا يولد لهما، فمر بهما الشيطان، ولم يعرفاه، فشكوا إليه، فقال لهما: إن أصلحت حالكما حتى يولد لكما أتسميانه باسمي؟ فقالا: نعم، وما اسمك؟ قال: الحارث، فولد لهما، فسمياه (عبد الحارث) . وهذا القول بعيد ولا يجوز مثل هذا على نبي من أنبياء الله تعالى، والقول الأول أوضح هذه الأقاويل. * * * قوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193] . الهمزة في قوله: {أَدَعَوْتُمُوهُمْ} همزة تسوية كالذي في قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6] ، و (أَم) معادلة لها. ويسأل على من يعود الضمير في قوله: {أَدَعَوْتُمُوهُمْ} ؟. وفيه جوابان: أحدهما: أنه يعود إلى قوم من المشركين قد صبؤوا بالكفر، وهو قول الحسن. والثاني: أنه يعود إلى الأصنام، وهو قول أهل المعاني. ويقال: لم قال: {أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} ، ولم يقل: أم صمتم؟ والجواب: أنه أتى بذلك، لإفادة الماضي والحال؛ لأن المقابلة قد دلت على الماضي، واللفظ دل على معنى الحال، قال الشاعر: سواء عليك الفقر أم بت ليلة بأهل القباب من غير بني عامر فقابل الفعل الماضي بالاسم المبتدأ، كما قوبل في الآية المبتدأ بالفعل الماضي، وساغ هذا فيه لأنها جملة من مبتدأ وخبر قابلت جملة من الفعل والفاعل. {ومن سورة الأنفال } * * * قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 يسأل عن الكاف هاهنا، ما شبه بها؟ وعن ذلك ثلاثة أجوبة: أحدها: أن المعنى: قل الأنفال لله والرسول مع مشقته عليهم؛ لأنه أصلح لهم كما خرجك ربك من بيتك بالحق مع كراهتهم؛ لأنه أصلح لهم. والثاني: أن المعنى: هذا الحق كما أخرجك ربك من بيتك بالحق. والثالث: أن المعنى: يجادلونك فل الحق متكرهين كما تكرهوا إخراجك من بيتك الحق. وهذ الأقوال كلها من عن أصحاب المعاني. وزعم بعضهم: أن (الكاف) بمعنى (الباء) ، أي: بما أخرجك ربك، وهذا لا يعرف. فصل: ويسأل: بما تتعلق (الكاف) ؟ والجواب: أنها تتعلق بما دل عليه: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] ؛ لأن في هذا معنى بنزعها من أيديها بالحق كما أخرجك ربك من بيتك. وجواب ثان: وهو أن يكون التقدير: يجادلونك في الحق كما كرهوا إخراجك في الحق؛ لأن فيه هذا المعنى وإن قدم ذكر الإخراج. وجواب ثالث: وهو أن يعمل فيه معنى الحق بتقدير: هذا الذكر الحق كما أخرجك ربم من بيتك بالحق. ويقال: لم جاز أن يكره المؤمنون ما أمر الله تعالى به من الإخراج؟ وفيه جوابان: أحدهما: أنه تكره الطباع من طريق المشقة ألتي تلحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 والثاني: أنهم كرهوا قبل أن يعلموا أن الله تعالى أمر به، أو أن النبي - عليه السلام - عزم عليه، فلما علموا أرادوه. والقول الأول أبين، لقوله تعالى: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} [الأنفال: 6] . * * * قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمُ} [الأنفال: 17] . يقال: بم قتلهم الله تعالى؟ والجواب: بإعانته للمؤمنين، وإلقاء الرعب في قلوب المشركين، وجاء في التفسير عن ابن عباس والسُّدي وعروة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبض قبضة من التراب فرماها في وجوههم وقال: (شَاهَتِ الوجُوه) فبثها الله على أبصارهم حتى شغلهم بأنفسهم. ويقال: كبف جاز نفي الفعل عنه، وقد فعل؟ وفي هذا جوابان: أحدهما: أنه أثبته تعالى لنفسه لقوة السبب المؤدي إلى المسبب. والثاني: أنه أثبته النبي - عليه السلام - بالاكتساب، ونفاه عنه؛ لأنه الفاعل في الحقيقة فأثبته لنفسه تعالى. * * * قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] . جاء في التفسير أن القائل هو: (النضر بن الحارث بن كلدة) ويروى ذلك عن سعيد بن جبير ومجاهد. وذلك أنه قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 علينا حجارة من السماء أو إئتنا بعذاب أليم، وأهلكنا ومحمداً ومن معه. فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] أي: وفيهم قوم يستغفرون، يعني المسلمين، يدل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] ، ثم قال: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} [الأنفال: 34] خاصة {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34] ، يعني المسلمين، فعذبهم الله بالسيف بعد خروج النبي - عليه السلام - وفي ذلك نزلت: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1] ، وهذا معنى ابن عباس وقال مجاهد في قوله: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} علم الله أن في أصابهم من يستغفر. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: لم طلبوا العذاب من الله تعالى بالحق، وإنما يطلب بالحق الخير والثواب والأجر؟ والجواب: أنهم كانوا يعتقدون أن ما جاء النبي - عليه السلام - بيس بحقٍ من الله، وإذا لم يكن كذلك لم يصبهم شيئ. ويقال: لم قال: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} ، والإمطار لا يكون إلا من السماء؟ وفي هذا جوابان: أحدهما: أنه يجوز أن يكون إمطار الحجارة من مكان عال دون السماء. والثاني: أنه على طريق البيان بـ (من) . وقرئ: {وَإِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ} بالنصب على أنه خبر كان، و (هو) فصل. وقرئ: {إنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ} بالرفع على أن (هو) مبتدأ، والحق خبره، والجمله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 خبر كان، ومثل ذلك: {وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76] ، وقرئ {وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} ، وكذلك قوله: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117] و {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} على ما فسرنا. {من سورة التوبة } يقال: لمَ لمْ تستفتح (براءة) بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؟ وفي هذا جوابان: أحدهمت: أنها ضمت إلى (الأنفال) بالمقاربة، فصارتا كسورة واحدة، إذ الأولى في ذكر العهود والثانية في رفع العهود، وهذا يروى عن أبي بن كعب، ويروى عن ابن عباس أنه قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن عمدتم إلى (براءة) وهي من المئين وإلى (الأنفال) وهي من المثاني فجعلتموها في السبع الطوال، ولم تكتبوا بينهما {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؟ فقال عثمان: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - تنزل عليه الآيات، فيدعو بعض من يكتب له، فيقول: (ضع هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا) وتنزل الآيات فيقول مثل ذلك، وكانت (الأنفال) من أول ما نزل من القرآن بالمدينة، وكانت (براءة) من آخر ما أنزل من القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننا أنها منها، فمن هنا وضعناها في السبع الطوال، ولم نكتب بينهمت سطر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . والجواب الثاني: أن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أمان، (وبراءة) نزلت برفع الأمان، وهذا قول أبي العباس، فلم تكتب في أولها، وروى ابن عباس ذلك عن علي رضي الله عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 ويسأل عن الرفع لـ (براءة) ؟ وفيه جوابان: أحدهما: إضمار المبتدأ أي: هذه براءة. والثاني: أن ترتفع بالابتداء، وإن كانت نكرة؛ لأنها موصوف، والخبر في قوله: (إلى الناس) . * * * قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 3] الأذان: الإعلام، هذا قول ابن زيد. والحج الأكبر: الوقوف بعرفة، هذا قول عطاء ومجاهد. والحج الأصغر: العمرة. وأركان الحج: الإحرام بعد الإغتسال، ثم التلبية، ثم طواف القدوم ثم السعي بين الصفا والمروة، ثم المبيت بمنى، ثم الصلاة بمسجد إبراهيم - عليه السلام -، ثم الوقوف بعرفة، ثم المصير إلى مزدلفة والمبيت بها، ثم الوقوف بالمشعر الحرام، ثم المصير إلى جمرة العقبة ورميها، ثم حلق الرأس، ثم النحر، ثم طواف الزيارة، ثم الإحلال، ثم الرجوع إلى منىً والمقام بها ثلاثة أيام، ثم العمرة لمن شاءها. وقد قيل: يوم الحج الأكبر يوم النحر، يروى هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن علي - رضي الله عنه - وعن ابن عباس - رضي الله عنه - وسعيد بن جبير وعبد الله بن أبي أوفى وإبراهيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 واختلف عن مجاهد: فقال مرة بالقولين جميعاً، وقال مرة: أيامها كلها، ويروى مثل ذلك عن سفيان، وبالقول الأول أخذ أبو حنيفة، ويروى مثله عن ابن الزبير. فصل: ويسأل عن قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ، بم ارتفع؟ وفيه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه معطوف على (براءة) ، وهو قول الفراء والزجاج. والجواب الثاني: أنه مبتدأ والخبر محذوف، أي: عليكم أذان من الله، وفيه معنى الأمر، وهذا قول علي بن عيسى. والثالث: أنه مبتدأ والخبر في قوله: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، على حذف الباء، كأنه قال: بأن الله. وعلى الوجهين الأولين يكون موضع (أن) نصباً على أنه مفعول له. وقرأت القراء {وَرَسُولُهُ} بالرفع، وقرأ عيسى بن عمر {وَرَسُولَهُ} . بالنصب، وقرأ بعض أهل البدو {وَرَسُولِهِ} بالجر. فأما الرفع فمن وجهين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 أحدهما: أن يكون معطوفاً على المضمر في (برئ) وحسن العطف عليه وإن كان غير مؤكد؛ لأن قوله تعالى: {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} قام مقام التوكيد. والثاني: أن يكون ميتدأ، والخبر محذوف تقديره: ورسوله برئ أيضاً، ثم حذف الخبر لدلالة خبر (أنَّ) عليه. وذكر سيبويه وجهاً ثالثاً: وهو أن يكون معطوفاً على موضع (أنَّ) ، وهذا وهم منه؛ لأن (أًنَّ) المفتوحة مع ما بعدها في تأويل المصدر، فقد تغيرت عن حكم المبتدأ وصارت في حكم (ليت) و (لعل) فكأن في إحداثها معنى يفارق المبتدأ، فكما لا يجوز العطف على مواضعهن فكذلك موضع (أنَّ) لا يجوز العطف عليه، وإنما يجوز العطف على موضع (إنَّ) المكسورة، كما قال الشاعر: فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب ولعل سيبويه توهم أنها مكسورة فحمل على موضعها، وقد قرئ في الشواذ {إنَّ اللَّهِ} بالكسر، ولعله تأول على هذه القراءة. فأما النصب: فعلى العطف على اللفظ، ومثله قول الراجز: إن الربيع الجون والخريفا يدا أبي العباس والصيوفا وأما الجر: فحمله قوم على القسم، وهي قراءة بعيدة شاذة. * * * قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] . يسأل عن موضع {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ} من الإعراب؟ وفيه جوابان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 أحدهما: أن موضعه نصب؛ لأنه معطوف على اسم (إن) ، ويكون المعنى: وإن الذين يكنزون الذهب والفضة يأكلونها. والثاني: أن يكون رفعاً على الاستئناف. ويسأل: لم قال: {يُنْفِقُونَهَا} . ولم يقل: (يُنفقُونَهما) ؟ في هذا أجوبة: أحدها: أنه يرجع إلى ما دل عليه الكلام، كأنه قال: ولا ينفقون الكنوز. والثاني: أنه لما ذكر الذهب والفضة دل على (الأموال) ، فكأنه قال: ولا ينفقون الأموال. والثالث: أن الذهب مؤنث، وهو جمع واحده (ذَهْبة) ، وهذا الجمع الذي ليس بينه وبين واحده إلا (الهاء) يذكر ويؤنث، قال الله تعالى: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] وقال: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20] فذكر. ثم لما اجتمعا في التأنيث، وكان كل واحد منهما يؤخذ عن صاحبه في الزكاه على قول جمهور أهل العلم جعلهما كالشيء الواحد، ورد الضمير إليهما بلفظ التأنيث. والرابع: أنه اكتفى بأحدهما عن الآخر للإيجاز، ورد الضمير إلى الفضة؛ لأنها أقرب إليه، وإن شئت إلى الذهب، على مذهب من يؤنثه، والعرب تكتفي بأحد الشيئين عن الآخر للإيجاز والاختصار. قال الشاعر: رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئاً ومن أجل الطوى رماني ولم يقل: (بريئين) ، وكذا قول الآخر: نحن بما عندنا وأنت بما عنـ دك راضٍ والرأي مختلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 ومثله قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] ، وتقدير هذا عند سيبويه: أن الخبر الأول محذوف لدلالة الثاني عليه، كأنه قال: والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه، ثم حذف، وقال أبو العباس: هو على التقديم والتأخير، كأنه قال: والله أحق أن يرضوه ورسوله، وقد قيل: أنه اقتصر على أحدهما لأن رضا الرسول - عليه السلام - رضا الله تعالى، فترك ذكره؛ لآنه دل عليه مع الإيجاز، وقيل: أنه لم يذكر تعظيماً له بإفراد الذكر. * * * قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] هذه الآية نزلت في قوم أيأس الله تعالى نبيه من إسلامهم، وروى الحسن وقتادة أن النبي - عليه السلام - قال: لأزيدن على السبعين، فأنزل الله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [المنافقون: 6] ، وكان النبي - عليه السلام - يدعو لهم بالمغفرة رجاءً أن يكون لله تعالى بهم لطف فيستجيب له، فلما أيأيه كف عن ذلك. ويسأل عن صيغة الأمر في قوله: {أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} ؟ والجواب: أنه للمبالغة عن اليأس من المغفرة، وخص عدد السبعين للمبالغة، وذلك أن الغرب تبالغ بالسبعة والسبعين، ولهذا قيل للأسد سبعٌ؛ لأنهم تأولوا فيه لقوته أنه ضوعفت له سبع مرات. * * * قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة: 118] . هذا معطوف على وقله تعالى: {لقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 117] . ويسأل عن هؤلاء الثلاثة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 والجواب: أنهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرار بن ربيعة، وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وجابر: هؤلاء الثلاثة من الأنصار. ويسأل عن قوله: {خُلِّفُوا} عن ماذا خلفوا؟ والجواب: أن مجاهداً قال: خلفوا عن التوبة، وقال قتادة: خلفوا عن غزوة تبوك. والظن هاهنا بمعنى اليقين، ومثله قول دريد بن الصمة: قلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد {ومن سورة يونس } * * * قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} [يونس: 27] . الكسب: اجتلاب النفع، والجزاء المكافأة، والسيئة: نقيض الحسنة. ويسأل عن ارتفاع {جَزَاءُ} ؟ وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون مبتدأ والخبر {بِمِثْلِهَا} على زيادة الباء، وهذا قول أبي الحسن؛ لأنه وجد في مكان آخر {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ، ويجوز أن تكون الباء متعلقة بخبر محذوف تقديره: وجزاء سيئة كائن بمثلها، ثم حذفت كما تقول: إنما أنا وأمري بيدك وما أشبه ذلك. والثاني: أن يكون فاعلاً بإضمار فعل تقديره: استقر لهم جزاء سيئة بمثلها ثم حذفت (استقر) فبقي (لهم جزاء سيئة بمثلها) ثم حذفت (لهم) لدلالة الكلام على أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 هذا مستقر لهم. ويجوز أن يكون {وَجَزَاءُ سَيِّئَة} مبتدأ والخبر محذوف تقديره: لهم جزاء سيئة بمثلها، وإن شئت قدرته: جزاء سيئة بمثلها كائن، وهذه إجازة أبي الفتح. * * * قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 64] . يسأل عن (البشرى في الحياة الدنيا) ما هي: وفيه أجوبة: أحدها: أنها بشرى الملائكة - عليهم السلام - للمؤمنين عند الموت. والثاني: الرؤيا الصالحة يراها الرجل، أو ترى له، وهذا في خبرس مرفوع، والأول قول قتادة والزهري والضحاك. والثالث: أن البشري القرآن. والرابع: أن المؤمن يفتح له باب إلى الجنة في قبره فيشاهد ما أعد له في الجنه قبل دخولها. * * * قوله تعالى: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يونس: 65] . العزة: القدرة. ويسأل عن صيغة النهي في قوله: {وَلَا يَحْزُنْكَ} ؟ والجواب: أن هذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 ويسأل: لمَ كسرت {إِنَّ} هاهنا؟ والجواب: أنها كسرت للاستئناف بالتذكير لما ينفي الحزن، ولا يجوز أن تكون كسرت لأنها وقعت بعد القول؛ لأنه يصير حكاية عنهم، وأن النبي - عليه السلام - يحزن لذلك وهذا كفر. ويجوز فتحها على تقدير (اللام) كأنه قال: ولا يحزنك قولهم؛ لأن العزة لله جميعاً. وقد غلط القتبي في هذا وزعم أن فتحها يكون كفراً، وليس كما ظن، وسواء فتحت أو كسرت إذا كانت معمولة للقول إلا إذا تعلقت بغير القول، ولا خلل في القراءة، ومثل الفتح قول ذي الرمة: فما هجرت النفس يامي أ، ها قلتك ولكن قل منك نصيبها ولكنهم يا أملح الناس أولعوا بقول إذا ما جئت هذا حبيبها وقال القتبي عند ذكر هذه المسألة: إذا قلت هذا قاتل أخي - بالتنوين - دل على أنه لم يقتل، وإذا قلت هذا قاتل أخي - بحذف التنوين - دل على أنه قتل، وهذا غلط بإجماع من النحويين؛ لأن التنويت قد يحذف وأنت تريد الحال والاستقبال، قال الله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] ، يريد: بالغاً الكعبة، وقال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] ، أي: ستذوق. * * * قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس: 71] . يقال: أجمعت على الأمر، وأجمعت الأمر، أي: عزمت عليه. واختلف في انتصاب قوله: {وَشُرَكَاءَكُمْ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 فقال الفراء: هو نصب بإضمار فعل، كأنه قال: وادعوا شركاءكم، وقال: كذا هو في مصحف أبي. وقال غيره: أضمر {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} ؛ لأن (أجمعوا) يدل عليه. وروى الأصمعي: أنه سمع نافعاً يقرأ {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} ، فهذا يدل على هذا الإضمار. ويقال: أجمعت الأمر وجمعت الأمر وأجمعت عليه. وذهب المحققون من أصحابنا إلى أنه مفعول معه تقديره: مع شركائكم، كما أنشد سيبويه: فكونوا أنتم وبني أبيكم مكان الكليتين من الطحال ويدل على صحة هذا القول قراءة الحسن {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} فعطف على المضمر في (أجمعوا) ، وحسن العطف عليه؛ لأن الفصل قام مقام التوكيد. قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس: 92] . اختلف في قوله: {نُنَجِّيكَ} . فقال ـكثر المفسرين: معنى ننجيك نخلصك ببدنك أي: بجسمك؛ لأنه لو سلط عليه دواب البحر فأكلته لادعى قومه أنه لم يمت، فالمعنى على هذا: نخرجك ببدنك بعد موتك. وقال أبو العباس المبرد: الناس يغلطون في هذا، إنما المعنى في {نُنَجِّيكَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 نلقيك بنجوةٍ من الأرض. والنجوة ما أرتفع من الأرض، قال الشاعر: فمن بنجوته كمن بعقوبه والمستكن كمن يمشي بقرواح وقوله: {بِبَدَنِكَ} أي: بدرعك، والدرع يسمى بدناً. قال غيره: المعنى ببدنك دون روحك. * * * قوله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} [يونس: 98] . القرية مأخوذ من قريت الماء إذا جمعته، والخزي: الهوان والوضع من القدر وأصله العيب. ويسأل عن {فَلَوْلَا} ؟ وفيها جوابان: أحدهما: أنها بمعنى (هلا) يكون تحضيضاً، نحو قول الشاعر: تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضوطري لولا الكمي المقنعا ويكون تأنيباً، نحو قولك: لولا امتنعت من الفساد، كما تقول: هلاَّ، والمعنى على هذا: هلا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس، والأصل: فلولا كان أهل قرية، فخذف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 والجواب الثاني: أن (اولا) بمعنى (ما) للنفي، وهذا قول ذكره ابن النحاس، ولم أسمع غيره، والتقدير على هذا: ما كانت قرية آمنت فنغعها إيمانها إلا قوم يونس. ويسأل عن هذا الاستثناء ما هو؟ والجواب: أنه استثناء منقطع في اللفظ؛ لأنه بعد {قَرْيَةٌ} ، متصل في المعنى إذ المعنى: فلولا كان أهل قرية. ويونس اسم أعجمي لا ينصرف للعجمة والتعريف، وليس من الأنس والاستئناس وإن وافق اللفظ اللفظ. * * * قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [يونس: 104] . الشك: التوقف بين الحق والباطل، والدين هاهما: الملًّة. ومما يسأل عنه أن يقال: لم قال: {إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} وهم يعتقدون بطلان هذا الدين؟ وعن هذا ثلاثة أجوبة: أحدها: أن يكون التقدير: من كان شاكاً في أمري وهو مصمم على أمره فهذا حكمه. والثاني: أن يكون المعنى أنهم في حكم الشاك لاضطراب أنفسهم عند ورود الآيات. والثالث: أن يكون فيهم الشاك وغير الشاك، فجرى على التغليب. وهذه الأقوال كلها عن أصحاب المعاني. زيقال: لمَ جعل جواب {إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ} (لا أعبُدُ) ، وهو لا يعبد غير الله شكوا أو لم يشكوا؟ والجواب: أن المعنى لا تطمعوا أن تشككوني بشككم حتى أعبد غير الله كعبادتكم، كأنه قال: إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين يعبدون من دون الله بشككم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 {ومن سورة هود - عليه السلام -} * * * قوله تعالى: {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود: 43] معنى آوي: أنضم، والعصمة: المنع. ومما يسأل عنه أن يقال: لم دعاه إلى الركوب معه وقد نهى أن يركب معه كافر؟ والجواب: أن الحسن قال: كان منافقاً يظاهر بالإيمان، وقال غيره: دعاه على شريطة الإيمان. ويسأل عن قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ} ؟ وفيه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن يكون استثناء منقطعاً، كأنه قال: لكن من رحم معصوم. والثاني: أن يكون المعنى: لا عاصم إلا من رحمنا، كأنه في التقدير: لا عاصم إلا الله. والثال: أن يكون المعنى: لا عاصم إلا رحمة الله فنجاه، وهو نوح - عليه السلام -. وقيل (عاصم) هاهنا بمعنى معصوم، والتقدير على هذا: لا معصوم من أمر الله إلا من رحمه الله، و (فاعل) قد يأتي في معنى (مفعول) ، وعلى هذا قوله تعالى: {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} ، وقال الحطيئة: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي و (عاصم) مع (لا) بمنزلة اسم واحد مبني على الفتح لتضمنه معنى (من) ؛ لأن هذا جواب (هل من عاصم) وحق الجواب أن يكون وفق السؤال، فكان يجب أن يكون (لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 من عاصم) إلا أن (من) حذفت، وضمن الكلام معناها، فبني الأسم، وخبر (لا) (اليوم) ، والعامل في (اليوم) الخبر المحذوف، كأنه في التقدسر: لا عاصم كائن اليوم، ولا يجوز أن يعمل (عاصم) في (اليوم) لأنه يصير في صلته، ويبقى بلا خبر. * * * قوله تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] يسأل عن قوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} ؟ وفيه جوابان: أحدهما: أنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك، وكان ابنه لصلبه، عن ابن عباس وسعيد بن جبيروالضحاك، واحتجوا بقوله: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} [هود: 42] . وقدره بعضهم: ليس من أهل دينك. والثاني: أنه لم يكن ابنه لصلبه، ولكن كان ابن امراته، وروى عن الحسن ومجاهد أنهما قالا: كان لغير رشدةٍ. وقال أصحاب المعارف اسمه (يام) . وقرأ الكسائي {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} ، جعله فعلاً ماضياً، وقرأ الباقون {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَلِحٍ} ، وفي هذه القراءة وجهان: أحدهما: أن يكون المعنى: أنه ذو عمل غير صالح: ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 والثاني: أنه لما كثر منه ذلك أقام المصدر مقام اسم الفاعل، كما قالت الخنساء: ترتع ما رتعت حتى إذا ذكرت فإنما هي إقبال وإدبار ومن كلام العرب: إنما أنت أكلٌ وشرب. وقد روي عن ابن عباس ومجاهد وإبراهيم أن المعنى: إن سؤالك هذا عمل غير صالح، فعلى هذا الوجه لا يكون في الكلام حذف. * * * قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44] . يقال: أقلع السحاب إذا ارتفع، وغاض الماء إذا غاب الأرض، والجودي: جبل بناجية آمد. قال أمية: سبحانه ثم سبحاناً يعود له وقبلنا سبح الجودي والجمد ومعنى {قُضِيَ الْأَمْرُ} وقع إهلاك قوم نوح. ونصب {بُعْدًا} على المصدر وفيه معنى الدعاء، ويجوز أن يكون من قول الله تعالى، ويجوز أن يكون من وقل المؤمنين. وقد جمعت هذه الآية من عجيب البلاغة أشياءً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 منها: أن الكلام خرج مخرج الأمر على حهة التعظيم لفاعله من نحو: كن فيكون، من غير معاناة ولا لغوب. ومنها: حسن تقابل المعاني. ومنها: حسن ائتلاف الألفاظ. ومنها: حسن البيان في تقدير الحال. ومنها: الإيجاز من غير إخلال. ومنها: تقبل الفهم على أتم الكمال. إلى غير ذلك من المعاني اللطيفة، وقد رأيت في معنى هذه الآية في نصف سفر من سفار التوارة، وأنت تراها هاهنا في غاية الإيجاز والاختصار والبيان؛ ويروى أن كفار قريش لما تعاطوا معارضة القرآن عكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوماً؛ ليصفوا أذهانهم، وكانوا من فصحاء العرب، وأخذوا فيمات أرادوا، فلما سمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض: هذا كلام لا يشبه كلام المخلوقين وتركوا ما أخذوا فيه وافترقوا. قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69] . السلام في الكلام على أربعة أوجه: السلام التحية، والسلام اسم من أسماء الله - عز وجل -، ومنه قوله تعالى: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 127] ، والسلام جمع سلامة مثل حمام وحمامة، وقد قيل في قوله تعالى: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ} ، أي: دار السلامة؛ لأن من صار إليها يسلم من آفات الدنيا وعذاب النار، والسلام ضرب من الشجر وهو من العضاه، سمي بذلك؛ لأنه لعظمه يسلم من العوارض الداخلة عليه. والحنيذ: المشوي، وهو (فعيلٌ) بمعنى (مَفْعُولٌ) أي: محَنُودٌ، كما يقال: طبيخ ومطبوخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 قال العجاج: وهربا من حنذه أن يهرجا وقيل: حنيذ نضيج ومما يسأل عنه أن يقال: لم قدم إلى الملائكة الطعام وهو يعلم أنهم لا يأكلون؟ والجواب: أنهم لما أتوه في غير صورهم توهم أنهم أضياف، قال الحسن أتوه في صورة الآدميين فاستضافوه. ويسأل عن البشرى التي أتوا بها؟ والجواب: انها كانت بإسحاق، هـ1اقول الحسن، وقال غيره: كانت بهلاك قوم لوط. وفرأ حمزة والكسائي {سلْمٌ} ، وقرأ الباقون {السَّلَامِ} . وقيل في (سِلْم) أن معناه (الُسالَمةُ) . وقيل (سِلْمٌ) و (سَلامٌ) بمعنى، كما يقال: حل وحلال، وحرم وحرام، وإثم وآثام. قال الشاعر: وقغنا فقلنا: إيه سلم فسلمت كما اكتل بالبرق الغمام اللوائح ويسأل: لم نصب {قَالُوا سَلَامًا} ، ورفع {قَالَ سَلَامٌ} ؟ والجواب: أن الأول على معنى: سلمنا سلاماً، كأنه دعاء له. والثاني على معنى: عليكم سلامٌ. إلا أنه خولف بينهما لئلا يتوهم الحكاية؛ ولأن المرفوع أبلغ؛ لأنه حاصل، والمنصوب مجتلب، الأول على هذا مصدر لفعل مضمر، والثاني مبتدأ وخبره محذوف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وأجاز بعضهم أن يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: أمرنا سلامٌ. قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] . يسأل عن معنى {فَضَحِكَت} ؟ والجواب: أنها ضحكت سروراً بالسلامة. وجاء في التفسير: أنها كانت قائمةً بحيث ترى الملائكة. وقيل: كانت منوراء الستر تسمع كلامهم. وقيل: كانت قائمة تخذم الأضياف، وإبراهيم - عليه السلام - جالس. وقيل: ضحكت تعجباً من حال الأضياف في امتناعهم من أكل الطعام. وقيل: ضحكت تعجباً من حال قوم لوط إذ أتاهم العذاب وهم في غفلة، وهذا قول قتادة. وقيل ضحكت تعجباً من أن يكون له ولد، وهي عجوز قد هرمت، وهذا قول وهب بن منبه. وقال مجاهد: ضحكت بمعنى حاضت، قال الفراء لم أسمعه من ثقة، ووجهه أنه على طريق الكناية. قال الكميت. فأضحكت السباع سيوف سعد لقتلى ما دفن ولا رؤينا و {يَعْقُوبَ} مرتفع بالاستئناف، وفيه معنى البشارة، وهو ولد إسحاق، بشرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 بنبي بين نبيين، وهو (إسحاق) أبوه نبي، وابنه نبي. فأما من قرأ "مِنْ وَرَاءَ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ"، فإنه نصب بإضمار فعل يدل عليه (بَشَّرنَا) كأنه قال: ومن وراء إسحاق وهبنا لها يعقوب. وأجاز بعضهم أن يكون معطوفاً على {إِسْحَاقَ} ، كأنه قال: فبشرناها بإسحاق ويعقوب من وراء إسحاق. قالوا: والوراء بمعنى الولد، والظاهر في الكلام أن بمعنى خلف. ومنع أكثر النحويين العطف هاهنا؛ لأنه لا يجوز العطف على عاملين مع تأخره عن حرف العطف، فلا يجوز: مررت بزيدٍ في الدار والبيت عمروٍ، وكذا إن قلت: مررت بزيدٍ في الداروفي الدار عمروٍ. وإنما لمْ يجز العطف عل عاملين؛ لأنه أضعف من العامل الذي قام مقامه، وهو لا يجرُّ ولا ينصب، أعنى حرف العطف. وأجازه الأخفش، وأنشد: سألت الفتى المكي ذا العلم ما الذي يحل من التقبيل في رمضان فقال لي المكي أما لزوجة فسبع وأما خلةٍ فثمانِ قرأ حمزة وابن عامر وحفص عن عاصم {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} ، نصباً على ما ذكرناه من إضمار فعل، أو على أنه في موضع جر، وهو مذهب الأخفش. وقرأ الباقون رفعاً على الابتداء {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ} الخبر، ويجوز أن ترفعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 بالظرف الذي هو {وَرَاءِ} وهو قياس أبي بالحسن الأخفش. * * * قوله تعالى: {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [هود: 72] . البعل: الزوج، وأصله القائم بالأمر، ومن هذا قيل للنخل بعلٌ، وهو الذي استغنى عن سقي الأنهار العيون بماء السماء؛ لأنه قائم بأمره في استغنائه عن تكلف السقي. وبعل اسم صنمٍ، ومنها قوله تعالى: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} [الصافات: 125] . والعجيب والعجاب بمعنى واحد، قال ابن إسحاق: كان لإبراهيم - عليه السلام - حين بُشَّر بإسحاق ويعقوب مئة وعشرون سنة ولسارة تسعون سنة. ويسأل عن النصب في وله: {شَيْخًا} ؟ والجواب: أنه منصوب على الحال، والعامل فيه معنى التنبيه الذي في (ها) ، كأنه قال: انتبه وانظر. وإن شئت جعلت العامل فيه معنى الإشارة، أي: أشرتُ إليه شيخاً. وإن شئت أعملت فيه مجموعهما. وكذا ما جرى مجراه، تقول: هذا زيدٌ مقبلاً، ولا يجوز: مقبلاً هذا زيدٌ؛ لأن العامل غير متصرف، فإن قلت: ها مقبلاً ذا زيدٌ، وجعلت العامل معنى الإشارة لم يجُز، وإن جعلت العامل معنى التنبيه جاز. ويجوز الرفع في {شَيْخًا} من خمسة أوجه: أحدها: أن تجعل {شَيْخًا} بدلاً من {بَعْلًا} ، كأنك قلت: هذا شيخ. والثاني: أن يكون {بَعْلًا} بدلاً من {هَذَا} و (شيخٌ) خبر المبتدأ. والثالث: أن يكون (بعلي) و (شيخ) جميعاً خبراً عن (هذا) ، كما تقول: هذا حلوٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 حامضٌ، أي: جمع الطعمين. والرابع: أن يكون (بعلي) عطفَ بيانٍ على هذا و (شيخ) خبر المبتدأ. والخامس: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنك قلت: هو شيخٌ. * * * قوله تعالى: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّ بْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81] . يقال: سرى وأسرى: سير الليل، قال الله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 4] فهذا من سرى، وقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] ، وقال امرؤ القيس. سريت بهم حتى تكل مطيهم وحتى الجياد ما يقدن بأرسان وقال النابغة: أرت عليه من الجوزاء سارية تزجي الشمال عليه جامد البرد فقال أسرت، وقال سارية أخذه من (سرى) فجمع بين اللغتين. و (القطْعُ) القطعة العظيمة تمضي من الليل. قال ابن عباس: طائفة من الليل. وقيل: نصف الليل، كأنه قطع نصفين. وقرأ ابن كثير ونافع {فَاسْرِ} من سريتُ، وقرأ الباقون {فَأَسْرِ} . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {إِلَّا امْرَأَتَكَ} بالرفع على البدل من {أًحَدَُ} ، كأنه قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك، وقرأ الباقون {إِلَّا امْرَأَتَكَ} بالنصب على الأصل في الاستثناء من أحد. شيئين من أحدٍ. شيئين: إما من الأهل، وإما من أحد، فالتقدير الأول: فاسر بأهلك إلا امرأتك فهذا استثناء من موجب، والتقدير الثاني: ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك، وهذا استثناء من منفي به. * * * قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود: 106] . الشقاء والشقاوة والشقوة بمعنى، والياء في شقي منقلبة عن واو. والزفير: ترديد الصوت من الحزن، وأصله: الشدة، من قولهم مزفور للشديد الخلق، وزفرت النار إذا سمع لها صوت من شدة توقدها. والشهيق: صوت فظيع يخرج من الجوف بمد النفس، ويقال: الزفير أول نهاق الحمار والشهيق آخره. والخلود: البقاء في أمد ما، والفرق بين الخلود والدوام: أن الدائم الباقي أبداً، والخالد الباقي في أمد ما، ولذلك يوصف القديم تعالى بأنه دائم ولا يوصف بأنه خالد. السعادة ضد الشقاوة. والجذُّ: القطع، قال النابغة: تجذ السلوقي المضاعف نسجه ويوقده بالصفاح نار الحباحب واختلف في تأويل هاتين الآيتين، وهما من أشد ما في القرآن إشكالاً، والكلام فيهما يأتي على ضربين: أحدهما: على معنى الاستثناء. والثاني: على معنى تحديد الخلود بدوام السموات والأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 قال ابن زيد بن أسلم: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] استثناء في الزيادة من العذاب لأهل النار، والزيادة من النعيم لأهل الجنة، وقد بينه بقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] ، و {إِلَّا} على هذا بمعنى (سوى) . قال قتاجة: الله أعلم بثنياه، ذكر لنا ناساً يصيبهم سفع من النار بذنوبهم، ثم يدخلهم الجنة برحمته، يسمون (الجهنميين) ، والاستثناء على هذا متصل من الموحدين الذين هم من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. العاصين، قال: وهم الذين أنفذ فيهم الوعيد ثم أخرجوا بالشفاعة و {مَا} على هذا القول بمعنى (منْ) كما قال تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} [الجمعة: 1] ، وكما تقول العرب إذا سمعت الرعد: سبحان ما سبحت له. قال الفراء والزجاج وغيرهما: هو استثناء من الزيادة في الخلود لأهل النار ولأهل الجنة، و {إِلَّا} بمعنى (سوى) ، حكى سيبويه: لو كان معنا رجل إلا زيد لهلكنا؛ أي: سوى. وقيل: المعنى إلا من شاء ربك أن يتجاوز عنه، وهو استثناء من الجنس، وهذا كقول قتادة. وقيل: إن {مَا} بمعنى (منْ) والاستثناء من الأعيان، والتقدير: إلا من شاء ربك أن يخرجه بتوحيده من النار ويدخله الجنة، وإلا من شاء ربك من أهل الجنة ممن يدخله النار بذنوبه وإصراره ثم يخرجه منها، وهو أيضاً كقول قتادة. وروي عن السُّدي أنه قال: الاستثناء لأهل الشقاء هو لأهل التوحيد الذين يدخلون النار فلا يدومون فيها مع أهلها بل يخرجون منها إلى الجنة، في أهل السعادة استثناء مما يقضي لأهل التوحيد المخرجين من النار، فالاستثناء لأهل الشقاء على هذا من الأعيان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 و (ما) بمعنى (منْ) ولأهل السعادة من الزمان، و (ما) على بابها، وقد روي مثل هذا عن الضحاك، وهو قريب من قول قتادة. وقال يحيي بن سلام البصري: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] . يعني ما سبقهم به الذين دخلوا قبلهم من الفريقين، واحتج بقوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} [الزمر: 71] ، قال: والزمرة تدخل بعد الزمرة، فلابد أن يقع بينهما تفاوت في الدخول، والاستثناء على هذا من الزمان. وقال الفراء والزجاج وغيرهما: هو استثناء تستثنيه العرب وتفعله، كقولك: والله لأضربن زيداً إلا أن أرى غير ذلك، وأنت عازم على ضربه، والضمير عائد على المؤمنين والكافرين الذين تقدم ذكرهم. وفال المازني: هو استثناء من الزمان الذي هم فيه، في قبورهم إلى أن يبعثوا. وقال الزجاج أيضاً مثل هذا. وقال جماعة من المفسرين: الاستثناء واقع على مقامهم في المحشر والحساب؛ لأنهم حيئنذ ليسوا في جنة وى نار. زقال جماعة من أصحاب المعاني: هو استثناء واقع على الزيادة في الخلود على مقدار دوام السموات والأرض في الدنيا، ثم قال: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} من الزيادة في مدة الخلود على دوام السموات والأرض في الدنيا. قال أبو عبيدة: عزيمة المشيئة تقدمت بخلود الفريقين، فوقع الاستثناء، والعزيمة قد تقدمت بالحتم في الخلود، وهو كقول الفراء والزجاج في بعض ما روي عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وروى عن الزجاج أيضاً أنه استثناء يجوز أن يكون وقع على قوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} من أنواع العذاب التي لم تذكر. وفي أهل الجنة استثناء مما دل عليه الكلام، كأنه قال: لهم نعيم ما ذكر وما لم يذكر مما شاء الله. قال بعض الكوفيين: {إِلَّا} بمعنى (الواو) أي: خالدين فيها مادامت السموات والأرض وما شاء ربك من الزيادة على دوامهما في الدنيا. وقال بعضهم: هو استثناء في أهل الشقاء على تقدير: إلا ما شاء ربك من الوقت الذي يسعدهم فيه بدخول الجنة، وفي ا÷ل السعادة إلا ما شاء ربك من الوقت الذي أشقاهم فيه بدخول النار للزمان الذي يكونون فيه، وهو في الموضعين للموحدين العصاة. وقال جماعة: الاستثناء لأهل التوحيد، والمعنى: إلا ما شاء ربك أن يتجاوز عنهم، ولا يدخلهم النار، قال أبو مجلز: جزاؤه إن شاء تجاوز عنهم والاستثناء عنهم والاستثناء من الأعيان وهم العصاة من الموحدين، و (ما) بمعنى (منْ) ، وكان الحسن يقول: استثنى ثم عزم إن ربك فعال لما يريد، وأنه أراد أن يخلدهم بقوله: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107] . وقال بعضهم المعنى: خالدين فيها بعد إعاجة السموات والأرض؛ لأنه تعالى يفنيهما حتى تكونا كما آخراً كما كانتا أولاً، ثم يعيدهما، فاستثنى {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} ، فوقع الاستثناء على موقفهم في الحساب حتى يفرغ منه. وقيل: الاستثاء واقع على الموقفين على النار من المؤمنين، فإذا أخرجوا من النار بالشفاعة، وأدخلوا الجنة سقط الاستثناء عنهم وعن أهل النار، وبقي كل فريق فيها بعد مخلداً أبد الآبدين، وهو كقول قتادة والضحاك. فهذه أقوال العلماء، وفيها تدخل إلا أني أوردتها على ما سمعتها من شيوخنا - رضي الله عنهم - وأما تجديد الخلود بدوام السموات والأرض فقال قتادة: مادامت السموات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 والأرض مبدلتين. وقال عبد الرحمن بن زيد: مادامت السماء والأرض أرضاً: مادامت سموات أهل الآخرة وأرضهم، وقيل: العرب تستعمل دوام السموات والأرض في معنى الأبد؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن ذلك لا يتغير فخاطبهم الله تعالى على قدر عقولهم وما يعرفون. قال زهير: ألا لاَ أرى على الحوادث باقيا ولا خالداً إلا الجبال الرواسيا وإلا السماء والنجوم وربنا وأيامنا معدودة واللياليا لأنه توهم أن هذه الأشياء تخلد ولا تتغير. وقال عمرو بن معدي كرب: وكل أخٍ مفارقة أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان لأنه توهم أم الفرقدين لا يفترقان قال يحيي بن سلام: الجنة في السماء والنار في الأرض، وذلك ما لا انقطاع له. قال عمرو بن عبيد قال بعض أهل العلم: إنما عنى بقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} [هود: 107] بعدكا يعيدهما، وذلك أنه يفنيهما، فكأنه قال: خالدين فيها بعد ما يعيد السموات والأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 وقال أحمد بن سالم: المعنى في أهل النار خالدين فيها ما دامت سموات أهل النار وأرضهم، وكذلك في أهل الجنة مادامت سمواتهم وأرضهم، قال: وسماء الجنة العرش والكرسي. وقد أشبعتُ القول على هاتين الآيتين في كتاب (مُتخيًّر الفريد) . وقرأ الكسائي وحمزة وحفص عم عاصم {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} [هود: 108] بضم السين، وقرأ الباقون {سَعِدُوا} بفتحها، وفي ضم السين بعد، ومجازة: أنه استعمل على حذف الزيادة وعلى هذا قالوا: (مسعُود) وإنما هو من أسعده الله، وقالوا (محبوب) وحقه أن يقال: (مُحَبُّ) . قال عنترة: ولقد نزلت فلا تظني غيره مني بمنزلة المحب المكرم وهذا وإن كان الأصل فمحبوب أكثر من الاستعمال، وزعم بعضهم: أن (سعد) يتعدى ولذلك بناه لما يسم فاعله؛ لأن اللازم لا يجوز رده إلى ما لم يسم فاعله. * * * قوله تعالى: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} [هود: 111] . قرأ ابن كثير ونافه {وَإِنْ كُلًّا} بالتخفيف على أنهما أعملا (أنْ) مخففة كعملها مثقلة، وقرأ ابن عامر بتشديد {وَإِنَّ} على الأصل، وكذلك إلا أنهما خففا الميم، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بتخفيف (إنْ) وتشديد الميم. وهذه اللام لام القسم دخلت على (ما) التي للتوكيد، زقيل: هي لام الابتداء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 دخلت على معنى (ما) ، وحكى عن العرب: إني لبحمد الله لصالحٌ. فأما من شددها ففيها خمسة أوجه: أحدها: أن المعنى: لممها، فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت واحدة ووقع الإدغام، قال الشاعر: وإني لمما أصدر الأمر وجهه إذا هو أعيا بالسبيل مصادره والثاني: أنها بمعنى (إلا) كقول العرب: سألتك لما فعلت. والثالث: أنها مخففة شددت للتأكيد، وهو قول المازني. والرابع: أنها من (لممت الشيئ) إذا جمعته، إلا أنها بنيت على (فعْلى) قلم تصرف مثل تتْرى. والخامس: أن الزهري قرأ {لمَّا} بالتنوين بمعنى شديد، و (كلٌّ) معرفة؛ لأنها في نية الإضافة. {من سورة يوسف - عليه السلام} * * * قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2] . يسأل عن قوله: {قُرْآنًا} بم انتصب؟ وفيه وجهان: أحدهما أنه بدل من الهاء في {أَنْزَلْنَاهُ} ، كأنه قال: إنا أنزلنا قرآنا عربياً. والثاني: أنه توطئة للحال؛ لأن {عَرَبِيًّا} حال، وهذا كما تقول: مررت بزيدٍ رجلاً صالحاً، تنصب (صالحاً) على الحال، وتجعل (رجلاً) توطئةً للحال. وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، يعني: كي تعقلوا معاني القرآن؛ لأنه أنزل على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 معاني كلام العرب. * * * قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3] . القصص والخبر سواء. وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} قيل معناه: من الغافلين عن الحكم الذي في القرآن. وأجمع القراء على النصب في {الْقُرْآنَ} ؛ لأنه وصف لمعمول {أَوْحَيْنَا} وهو {هَذَا} ، أو بدل، أو عطف بيان. ويجوز الجر على البدل من (ما) . ويجوز الرفع على تقديره (هو) كأنه قال: بما أوحينا إليك هذا: قيل: ما هو؟ قال: القرآن، أي: هو القرآن. ولا يجوز أ، يقرأ بهذين الوجهين إلا أن يصح يهما رواية؛ لأن القرآن سنة. * * * قوله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] . قال الحسن الأحد عشر إخوته، والشمس والقمر أبواه. ويقال: لم أعيد ذكر {رَأَيْتُهُمْ} ؟ وفيه جوابان: أحدهما: أنه أعيد للتوكيد لما طال الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 والثاني: ليدل أنه رآهم ورأى سجودهم له. وقيل في معنى السجود هاهنا: أنه سجود التكرمة، وقيل سجود الخضوع. ويسأل عن العامل في {إِذَ} ؟ والجواب: أنه غعل مضمر، كأنه قال: اذكر إذ قال يوسف، وقال الزجاج: العامل فيه {نَقُصُّ} أي: نقصُّ عليك إذ قال يوسف، وهذا وهمٌ، لأن الله تعالى لم يقص على نبيه - عليه السلام - هذا القصص وقت قول يوسف. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: لم قال: {سَاجِدِينَ} بالياء والنون، وهذا الجمع لمن يعقل، ولا يكون لما لا يعقل؟ والجواب: أنه لما أخبر عنهم بالسجود الذي لا يكون إلا لمن يعقل أجراهم مجرى من يعقل، كما قال: {أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18] ، أمروا كما أمر من يعقل. وقرأ ابن عامر {يَا أَبَتَ} بالفتح، وقرأ الباقون بالكسر، ووقف ابن كثير {يَا أَبَه} بالهاء، ووقف الباقون على التاء. فوجه قراءة ابن عامر لأنه أراد (الألف) فحذفها واكتفى منها بالفتحة، وهذه الألف بدل من ياء. وأما الكسر فعلى أنه أراد الإضافة إلى النفس، فحذف الياء واكتفى منها بالكسر. وأجاز الفراء (يا أَبَتْ) والتاء عوض من ياء المتكلم المحذوفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] . الهَمُّ: مقاربة الشيء من غير دخول فيه. واختلف في معناه هاهنا. فقال بعضهم: هممت المرآة بالعزيمة على ذلك، وهمَّ يوسف لشدة المحبة من جهة الشهوة، وهو قول الحسن. وقال غيره: همَّا بالشهوة. وقال بعض المفسرين: هَّمت به أي عزمت، وهم بها أي: بضربها. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: ما البرهان الذي رآه؟ والجواب: أن ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير ومجاهداً قالوا: رأى صورة يعقوب - عليه السلام - عاضاً على أنامله. وقال قتادة: نودي يا يوسف، أنت مكتوب في الأنبياء وتعمل عمل السفهاء، وروي عن ابن عباس أنه قال: رأى ملكاً. * * * قوله تعالى: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [يوسف: 26] . المراودة والإرادة من أصل واحد. واختلف في الشاهد: فقيل: كان صبياً في المهد، وهو قول ابن عباس، وأبي هريرة وسعيد بن جبير، وهو أحد من تكلم في المهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وقال ابن عباس مرة أخرى: كان رجلاً حكيماً، وكذلك قال عكرمة ومجاهد، وروي مثل ذلك عن سعيد بن جبير والحسن وقتادة، وروي عن مجاهد أيضاً أن الشاهد قد القميص. و {مِنْ} في قوله: {مِنْ قُبُلٍ} لابتداء الغاية، أي: كان القد من هنالك. و {مِنْ} في قوله: {مِنَ الْكَاذِبِينَ} للتبغيض. * * * قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف: 35] . بدا: ظهر وفاعله مضمر، تقديره: ثم بداءٌ ليسجننه. ودل {لَيَسْجُنُنَّهُ} عليه. * * * قوله تعالى: {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [يوسف: 75] . الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، ومن كرمهم: (من أشبه أباه فما ظلم) ، أي: ما وضع الشبه في غير مكانه، ومن هذا يقال: سقاء مظلوم، إذا لم يرب، ومنه سمي النقص. ظلماً، قال الله تعالى: {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33] . ويسأل عن معنى قوله: {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 75] ؟ والجواب: أن معناه: جزاء من وجد في رحله أخذه رقاً فهو جزاؤه عندنا. كجزائه عندكم، وذلك أنه كان من عادتهم أن يسترقوا السارق، وهو قول الحسن ومعمر وابن إسحاق والسدي، فهذا تقدير المعنى. فأما الإعراب فيحتمل وجهين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 أحدهما: أن يكون المعنى: جزاؤه استرقاق من وجد في رحله، فهذا الجزاء جزاؤه، كما تقول: جزاء السارق القطع. والثاني: أن يكون المعنى: جزاؤه من وجد في رحله فالسارق جزاؤه، فيكون مبتدأ ثانياً والفاء جواب الجزاء والجملة خبر {مَنْ} . ويجوز في {مَنْ} وجهان: أحدهما: أن يكون خبراً بمعنى (الذي) ، كأنه قال: جزاؤه الذي وجد في رحله مسترقاً، وينصب (مسترقاً) على الحال. والثاني: أن يكون شرطاً، كأنه قال: جزاء السرق إن وجد في رحل رجلٍ منا فالموجود في رحله جزاؤه استرقاقاً. * * * قوله تعالى: {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف: 77] . يسأل عن قوله تعالى: {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} كيف نسبوا السرق إلى يوسف - عليه السلام -؟ والجواب: أن سعيد بن جبير وقتادة وابن جريح قالوا: سرق يوسف صنما كان لجده أبي أمه، فكسره وألقاه على الطريق. وقيل: أنه كان يسرق من طعام المائدة ويعطيه للمساكين. وقال ابن إسحاق: إن جدته خبأت في ثيابه (مِنْطٌَقَة) إسحاق لتملكه بالسرقة؛ محبة لمقامه عندها. ويسأل عن (الهاء) في قوله: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} ؟ والجواب: أنه أسر قوله: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا} ، أي: ممن قلتم له هذا، وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة. وأنَّث، لأنه أراد الكلمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وقال الحسن: لم يكونوا أنبياء في ذلك الوقت، وإنما أعطوا النبوة بعد ذلك. * * * قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] . العير: جماعة القافلة إذا كان فيها حمير، وقيل: إن قافلة الإبل سميت عيراً على التشبيه بذلك، والعير - بفتح العين - الحمار. والقريه هاهنا مِصْرٌ، وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة. وكان الأصل: واسأل أهل القرية وأهل العير، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه للإيجاز؛ لأن المعنى مفهوم. وقيل: ليس في الكلام حذف؛ لأن يعقوب - عليه السلام - نبي يجوز أن تخرق له العادة وتكلمه القرية والعير. * * * قوله تعالى: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف: 98] . الاستغفار: طلب المغفرة. ومما يسأل عنه أن يقال: لم أخر يعقوب - عليه السلام - الدعاء لولده مع محبته إصلاح حالهم؟ وعن هذا أجوبة: أحدها: أنه أخرهم إلى السحر؛ لأنه أقرب إلى الإجابة، وهو قول ابن مسعود وإبراهيم التميمي وابن جريح وعمرو بن قيس. وقيل: أخرهم إلى يوم الجمعة، وهو قول ابن عباس رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: سألوه أن يستغفر لهم دائماً، فلذلك قال: {سَوْفَ} . وقيل: أخر ذلك لحنكته واجتماع رأية؛ لينبههم على عظيم ما فعلوه، ويردعهم، ألا ترى أن يوسف لحداثة سنه كيف لم يؤخر بل قال اليوم يغفر الله لكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110] . الاستيئاس: استفعال من اليأس وهو انقطاع الطمع. والظن: قوة أحد النقيضين. قرأ عاصم وحمزة والكسائي {كُذِبُواْ} بالتخفيف، وقرأ الباقون {كُذِبُوا} ، وقرئ في الشواذ {كُذِبُواْ} . فمعنى قراءة من خفف: أن الأمم طنت أن الرسل كذبوهم فيما أخبروهم به من نصر الله لهم وإهلاك أعدائهم، وهو قول ابن عباس وابن مسعود وابن جبير ومجاهد وابن زيد والضحاك. وأما من شدد فالمعنى: أن الرسل أيقنوا أن الأمم قد كذبوهم تكذيباً عمَّهم حتى لا يفلح فيهم أحد، وهو قول الحسن وقتادة وعائشة. والظن على القول الأول بمعنى الشك، وعلى القول الثاني بمعنى اليقين. وأما من قرأ {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} فالضمير في {ظَنُّوا} عائد على الكفار وفي {كُذِبُوا} عائد على الرسل - عليهم السلام، وهو قول عائشة وهذه القراءة تروى عنها. {ومن سورة الرعد } * * * قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2] . والعَمَدُ والعُمُدُ جميعاً بمعنى، واحدها (عَمُود) ، إلا أن (عُمُداً) جمع (عَمُودٍ) و (عَمَداً) اسم للجمع، ومثله: أَديمٌ وأَدَمٌ، وإِهَابٍ وأَهَبٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 ويسأل عن قوله تعالى: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} ؟ وعنه جوابان: أحدهما: أنها بغير عمد ونحن نراها كذلك، وهو قول قتادة وإياس بن معاوية. والثاني: أنها بعمد لا نراها، وهو قول ابن عباس ومجاهد. وأنكر بعض المعتزله هذا القول، قال: لأنه لو كان لهما عمد لكانت أجساماً غلاظاً، وكانت ترى والله - عز وجل - إنما دل بهذا على وحدانيته من حيث لا يمكن أحد أن يقيم جسماً بغير عمد إلا هو فلذلك كان هذا التأويل خطأ. والجواب عن هذا أنه: إذا رفع السموات بعمد وتلك العمد لا ترى، فيه أعظم قدرة، كما لو كانت بغير عمد. وقال النابغة في العمد: وخيس الجن إني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد * * * قوله تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الرع د: 5] . العَجَبُ والتًّعَجُب: هجوم ما لايعرف سببه على النفس. قرأ نافع والكسائي {أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} على الإستفهام في الأول والخبر في الثاني، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم بالاستفهام في الموضعين جميعاً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 إلا أن حمزة وعاصماً يهمزان همزتين، وقرأ ابن عامر على الخبر في الأول والاستفهام في الثاني، وعنه في ذلك خلاف. ومما يسألعنه أن يقال: ما العامل في {إِذَا} ؟ والجواب أن العامل محذوف تقديره: أإذا كنا تراباً نبعث، ودل عليه {لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} . فإن قيل: فهل يجوز أن يعمل فيه {لخَلْقٍ} أو {لجَدِيدٍ} ؟ قيل: لا يجوز ذلك؛ لأن اللام لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. فإن قيل: فهل يجوز أن يعمل فيها {كُنَّا} ؟ قيل: لا يجوز؛ لأنها مضافة إليه، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. * * * قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَ هُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11] . المُعَقَّبَاتُ: المتناوبات، وقيل المعقبات هاهنا ملائكة الليل ملائكة تعقب ملائكة النهار، وهو قول الحسن وقتادة ومجاهد، وروي عن ابن عباس: أنها الولاة والأمراء، وقال الحسن: هي أربعةٌ من الملائكة يحتمعون عند صلاة الفجر، وصلاة العصر. ويسأل عن قوله: {مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} ؟ وفيه جوابان: قال الحسن: يحفظونه بأمر الله، وهو قول قتادة أيضاً. وقال ابن عباس: الملائكة من أمر الله. وقال مجاهد وإبراهيم: يحفظونه من أمر الله من الجن والهوام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وقيل المعنى: عن أمر الله، كما تقول: أطعمته عن جوع وكسوته عن عري. وأصجُّ هذه الأقوال أن يكون المعنى: له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه. واختلف في الضمير الذي في {لَهُ} : فقال بعضهم: يعود على {مِنْ} في قوله: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} [الرعد: 10] . وقيل: يعود على اسم الله - جل ثناؤه - وهو عالم الغيب والشهادة. وقيل: على النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7] . وهو قول عبد الرحمن بن زيد. * * * قوله تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} [الرعد: 13] . الرعد: ملكٌ يزجر السحاب، هذا قول ابن عباس. وقال علي بن عيسى: هو اصطكاك أجرام السحاب بقدرة الله سبحانه. والخِيفًةُ والخوف بمعنى واحد. والصواعق جمع صاعقة، وتميم: صاعقة. والجدال: الخصومة. والمحال: الأخذ بالعقاب هاهنا، يقال، ما حلته مما حلة، ومحالاً، ومحلت به محلاً، قال الأعشى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 فرع نبع يهتز في غصن المجرد غزير الندى شديد المحال وهذه الآية نزلت في رجل جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مجادلة، فقال: يا محمد، ممر ربك، أمن لؤلؤ أم ياقوت أم ذهب أم فضة؟ ، فأرسل الله عليه صاعقة ذهبت بقحفه، وهو قول بن مالك ومجاهد. وقيل: نزلت في أرْبد أخي لبيد بن ربيعة لما أراد هو وعامر بن الطفيل قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أربد لعامر: أنا أشغله بالحديث فاضربه أنت، فأقبل أربد يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ليشغله وهم عامر بضربه - عليه السلام -، فجفت يده على قائم السيف، فرجعا خائبين، وأصابت أربد في طريقه صاعقة فأحرقته، وأما عامر فابتلى بغدة كغدة البعير، فكان يقول: أغدة كغدة البعير، حتى قتلته، وقال لبيد يرثى اخاه أربد: أخشى على أربد الحتوف ولا أرهب نوء السماك والأسد فجعني البرق والصواعق بال فارس يوم الكريهة النجد وكان اسم أربد (قيساً) ولم يكن من أبي لبيدٍِ، وكان عامر قد قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن جعلت لي نصف ثمار المدينة، وجعلت لي الأمر بعدك أسلمت، فقال النبي - عليه السلام - (اللهم اكفني عامراً واهد بني عامر) ، فانصرف وهو يقول: والله لأملأنها عليك خيلاً جرداً ورجالاً مرداً، ولأربطن بكل نخلة فرساً. فأصابته غدة في طريقه ذلك، فكان يقول: أغدة كغدة البعير وموتاً في بيت سلولية. فصل: ويسأل عن معنى قوله: {يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} ؟ ففيه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه ملكٌ يسبح ويزجر السحاب بذلك التسبيح، وهو قول ابن عباس. والثاني: أنه يسبح بما فيه من الدلالة على تعظيم الله تعالى ووجوب حمده. والثالث: أنه يسبح بما فيه من الآية التي تدعو إلى تسبيح الله - عز وجل -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15] . الطاعة والطوع: الانقياد. والكَرَه والكُرْه والكراهة بمعنى. والظلال جمع ظل وهو ستر الشخص ما بإزائه. والغُدو والغداه وغدوة بمعنى. والآصال جمع أصر والأصل جمع أصيل وهو العشي، وقد يقال في جمعه أصائل. قال أبو ذؤيب: لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأقعد في أفيائه بالأصائل ويسأل عن معنى قوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد: 15] ؟ والجواب: أن الحسن وقتادة وعبد الرحمن بن زيد قالوا: المؤمن يسجد طوعا والكافر يسجد كرها، والمعنى على هذا أن السجود واجب لله تعالى، فالمؤمن يفعله طوعاً والكافر يؤخذ بالسجود كرها، أي: هذا الحكم في وجوب السجود لله. وقيل: المؤمن يسجد طوعا والكافر في حكم الساجد كرها لما فيه من الحاجة والذلة التي تدعو إلى الخضوع لله تعالى. وأما سجود الظلال فبما فيها من أثر الصنعة، وقيل: إن الكافر إذا سجد لغير الله سجد ظله لله تعالى. * * * قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} [الرعد: 35] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 الأنهار: جمع نهر كجمل وأجمال، ويجوز أن يكون جمع نهر، كفرد وأفراد، والنهر المجرى الواسع من مجاري الماء على وجه الأرض، وأصله الاتساع، ومنه النهار لاتساع الضياء، وانهرت الدم إذا وسعت مجراه، قال الشاعر: ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها أي: وسعت فتقها. والأكل: مصدر، والأُكُل - بضم الهمزة - المأكول. ومما يسأل عنه أن يقال: ما معنى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ} ؟ وفيه جوابان: أحدهما: أن ثمارها لا تنقطع كانقطاعها في الدنيا في غير أزمنتها، وهو قول الحسن. والثاني: أن التنعيم به لا ينقطع. ويسأل عن معنى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ} ؟ وفيه أجوبة: أحدها: أن المعنى صفة الجنة التي وعد المتقون (تجري من تحتها الأنهار) ، فتجري من تحتها الأنهر وما بعده خبر المبتدأ الذي هو {مَثَلُ الْجَنَّةِ} . والجواب الثاني: أن {مَثَلُ} هاهنا بمعنى (الشبه) والخبر محذوف تقديره: مثل الجنة التي هي كذا وكذا أجل مثل. والجواب الثالث: أن التقدير: وفيما يتلى عليكم مثل الجنة وهو قول سيبويه. {ومن سورة إبراهيم - عليه السلام -} * * * قوله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ} [إبراهيم: 31] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 يسأل عن قوله: {يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} ما موضعه من اإعراب؟ والجواب جزم من ثلاثة أوجه: أحدها: جواب الأمر الذي هو {قُلْ} ؛ لأن المعنى في: {قُلْ} إن تقل لهم يقيموا الصلاة. والثاني: أنه جواب أمر محذوف تقديره: قل لعبادي أقيموا الصلاة يقيموا الصلاة. والثالث: أنه على حذف لام الأمر، كأنه قال: قل لعبادي ليقيموا الصلاة، وإنما جاز حذف (اللام) هاهنا؛ لأن في الكلام عليها دليلاً، غعلى هذا يجوز، قل له يضربُ زيداً، ولا يجوز: يضربْ زيداً؛ لأنه لا دليل على اللام، ولا عوض منها، وهذا قول الزجاج. * * * قوله تعالى: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46] . قرأ الكسائي {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولُ مِنْهُ الْجِبَالُ} بضم اللام الأخيرة وفتح الأولى، وقرأ الباقون: بكسر الأولى وفتح الثانية. ومعنى قراءة الجماعة: وما كان مكروهم لتزول منه الجبال، أي: ليبطل الحق والإسلام؛ لأنهما ثابتان بالدليل والبرهان، فهما كالجبال. وأما قراءة الكسائي فمعناها: الاستعظام لمكرهم، كأنها تزول منه الجبال لعظمه. و {إِنْ} في القراءة الأولى بمعنى (ما) وهو قول ابن عباس والحسن، وعلى القراءة الثانية {إِنْ} مخففة من الثقيلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 وقد قيل في معنى القراءة الأولى: إن هذا نزل في (نمرود بن كوش بن كنعنان) حين اتخذ التابوت وأخذ أربعة من النسور فأجاعها أياماً وعلق فوقها لحما وربط التابوت إليها فطارت النسور بالتابوت، وهو ووزيره فيه إلى أن بلغت حيث شاء الله تعالى، فظن أنه بلغ السماء، ففتح باب التابوت من أعلاه فرأى بعد السماء منه فهاله الأمر، فصوب النسور وسقط التابوت، وكانت له8 وجبة فظنت الجبال أنه أمر نزل من السماء فزالت عن مواضعها لهول ذلك. فالمعنى على هذا: وإنه كان مكرهم لتزول منه الجبال، أي: قد زالت: وفي التأويل الأول: همت بالزوال، ويروى أن عمر وعلياً - رضي الله عنهما - قرءا: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} ، فهذا يدل على التأويل الأول ويدل عليه أيضاً قوله: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 90] ، أي: إعظاماً لما جاؤوا به. {ومن سورة الحجر } * * * قوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر: 1] . جر {قُرْآنٍ} ؛ لأنه معطوف على {الْكِتَابِ} تقديره: تلك آيات الكتاب وآيات قرآن مبين. وأجاز الفراء الرفع على تقدير: وهو قرآن مبين، أو يكون معطوفاً على آيات، وأجاز النصب على المدح وأنشد: إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم وذا الرأي حين تغم الأمور بذات الصليل وذات اللجم وزعم أن المدح تنصب نكرته ومعرفته، أما قوله (معرفته) فصحيح) ، وأما (نكرته) فإن أصحابنا لا يجيزون ذلك، لأنه لا يمدح الشيء الذي لا يعرف، وإنما يمدح ما يعرف، والنكرة مجهولة فلذلك امتنع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2] . يقال (رُبَّ) بالتشديد، و (رُبَ) بالتخفيف، فال أبو كبير: أزهير إن يشب القذال فإنني رب هيضل مرس لففت بهيصل زعم بعضهم أنها لغة، وليست بلغة عندنا، وإنما اضطر الشاعر فخففها، والدليل على ذلك: أن كل ما كان من الحروف على حرفين فإنه ساكن الثاني نحو: هل ومن وقد وما أشبه ذلك، ويقال: رُبَّما ورُبَما ورُبَّتَمَا ورُبَتَمَا، و (التاء) لتأنيث الكلمة، و (ما) كافة وهي تبع للتخفيف عوض من التضعيف، وحكى أبو حاتم هذه الوجوه بفتح الراء لغة. فصل: ومما يسأل عنه هاهنا أن يقال: لم جاز {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، ورُبَّ للتعليل؟ وعن هذا جوابان: أحدهما: لأنه أبلغ في التهديد، كما تقول: ربما ندمت على هذا، وأنت تعلم أنه يندم نطماً طويلاً، أي يكفيك قليل الندم فكيف كثيره. والثاني: أنه يشغلهم العذاب عن تمني ذلك إلا في أوقات قليلة. وقرأ ابن نافع وعاصم {رُبَمَا} بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد على الأصل. وساغ التخفيف هاهنا وإن لم يكن من الضرورات؛ لأنها لما وصلت بـ (ما) كثرت وثقلت فخففت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 قوله تعالى: {قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 71-72] . قال ابن عباس: لعمرك، أي: وحياتك. قال لي بعض شيوخنا: أقسم الله تعالى بحياة نبيه إجلالاً له ومحبة. والسكرة هاهنا: الجهل. والعمه: التحير، قال رؤبة: ومهمة أطرافه في مهمه أعمى الهدى بالجاعلين العمه ومما يسأل عنه أن يقال: كيف قال: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الحجر: 71] ؟ وعنه جوابان: أحدهما: أنه أراد هؤلاء بناتي فتزوجوهن إن كنتم فاعلين، وهذا قول الحسن وقتادة، وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} كناية عن طلب الجماع. والثاني: أنه أراد نساءهم؛ لأنهم أمته ونساؤهم في الحكم كبناته، وهو قول الزجاج. ويعترض في الجواب الأول: كيف يجوز أن يتزوج الكافر بالمؤمنة؟ والجواب: أنه كان ذلك في شريعتهم جائزاً، وقد كان في أول الإسلام، وهو وقل الحسن. وقيل: قال ذلك لرؤساء الكفار؛ لأنهم يكفون أتباعهم. * * * قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر: 74] . يسأل عن سجيل؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وفيه للعلماء ثمانية أقوال: أحدها: أنها حجارة صلبة وليست كحجارة الثلج والبرد. والثاني: أنه فارسي معرب (سنك) و (كل) عن ابن عباس وقتادة. والثالث: أن معناه شديد عن أبي عبيده، وأنشد: ......................... ضربا تواصى به الأبطال سجيناً إلا أنه أبدل اللام نوناً. والرابع: أنه مثل السجل في الإرسال، وهو الدلو، قال بعض بني أبي لهب: من يساجلني يساجل ماجداً يملأ الدلو إلى عقد الكرب الخامس: أنه من استجلته، أي: أعطيته. السابع: أنه من السجل وهو الكتاب، قيل: كان على هذه الحجارة كتابة. الثامن: أنه من أسماء سماء الدنيا، وهي تسمى سجيلاً، وهذا قول ابن زيد. وقيل: أصله (سجين) وهو اسم من أسماء جهنم ثم أبدلت النون لاما، وهذا كقول أبي عبيدة، قال الشاعر في إبدال النون لاماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 وقفت فيها أصيلاً لا أسائلها أعيت جوابا وما بالربع من أحد يريد أصيلالاً. * * * قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87] . قال ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد: هي سبع سور من أول القرآن، وروى عن الحسن وعطاء: أنها فاتحة الكتاب، وقال ابن عباس وابن مسعود من طريقة أخرى بهذا القول. ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن السبع المثاني أم القرآن. وسميت السبع الطوال مثاني، لأنها تثنى فيها الأخبار والأمثال والعبر، وقد روي أيضاً عن ابن عباس أن المثاني جميع القرآن. * * * قوله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر: 91] . قال الكسائي: هو من العضيهة وهي الكذب، أي: جعلوا القرآن كذباً. وقيل معنى {عِضِينَ} : أنهم جعلوه فرقاً: قالوا فيه: هو سحر، وقالوا: كهانة، وقالوا: شعر وقالوا: أساطير الأولين، وهو قول قتادة. ولام الفعل من {عِضِينَ} على القول الأول هاء، وعلى القول الثاني واو؛ لأنه من العضو، كأنهم عضوه أعضاء، إلا أن اللام حذفت وعوض منها هذا الجمع، أعني جمع السلامة وهو مختص بمن يعقل إلا أنه جاز هاهنا؛ لأنه عوض من المحذوف، ومثله: عزون وثبون وما أشبه ذلك. * * * قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 أي: أفرق، قال أبو ذؤيب وكأنهن ربابة وكأنه يسر يفيض على القداح ويصدع ومما يسأل عنه أن يقال: ما {مَا} هاهنا؟ والجواب: أنها تحتمل أن تكون مصدرية، فيكون التقدير: فاصدع بالأمر، وتحتمل أن تكون بمعنى (الذي) فهذا الوجه محتاج إلى عمل، وذلك أن الأصل: فاصدع بما تؤمر بالصدع به فحذفت الباء اجتمعت الإضافة والألف واللام، وهما لا يجتمعان، فحذفت الألف واللام فصار: فاصدع بما تؤمر بصدعه، ثم حذفت المضاف وأقمت المضاف إليه مقامه، على حد {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ، فصار: اصدع بما تؤمر به، ثم حذفت الباء على حد حذفها من وقول الشاعر: أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا ما وذا نسل فصار: فاصدع بما تؤمره، ثم حذفت الهاء لطول الاسم بالصلة على حد قولك: ما أكلت الخبز، أي: الذي أكلته الخبز، فبقي {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} . {ومن سورة النحل } * * * قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] قال الحسن وابن جريح؛ عقابه لمن أقام على الكفر. وقال الضحاك: فرائضه وأحكامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وقيل أمره: القيامة، فعلى هذا الوجه يكون (أتى) بمعنى (يأتي) . وجاز وقوع الماضي هاهنا لصدق المخبر بما أخبر، فصار بمنزلة ما قد مضى. وقد شرحناه فيما تقدم. * * * قوله تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26] . يقال: لم قال: {مِنْ فَوْقِهِمْ} ، وقد علم أن السقف يخر من فوقهم؟ وعنه جوابان: أحدهما: أنه للتوكيد، كما تقول لمن تخاطبه: قلت أنت كذا وكذا. والثاني: أنه جاء كذلك ليدل أنهم كانوا تحته؛ لأنه يجوز أن يقول الرجل: خر عليَّ السقف وتهدم على المنزل: ولم يكن تحتها. وقال ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد: نزل هذا في نمرود. وقيل: في بختنصر. * * * قوله تعالى: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا} [النحل: 66] . يقال: سقيته إذا ناولته ليشرب، وأسقيه إذا جعلت له ماء ليشربه دائماً، من نهر أو غيره، يقال: سقى وأسقى بمعنى، قال لبيد. سقى قومي بني مجد وأسقى نميراً والقبائل من هلال ووما يسأل عنه أن يقال: على ما يعود الضمير في {بُطُونِهِ} ؟. والجواب: أ، العلماء اختلفوا في ذلك. فذهب بعضهم: إلن أن {الْأَنْعَامِ} جمع، والجمع يذكر ويؤنث، فجاء هاهنا على لغة من يذكر، وجاء في سورة (المؤمنين) على لغة من يؤنث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وذهب آخرون: إلى أنه رد على واحد الأنعام، وأنشد: .................... وطاب ألبان اللقاح فبرد رده إلى اللبن. وقيل: الأنعام، والنعم سواء، فحمل على المعنى، وأنشدوا للأعشى. فإن تعهديني ولي لمة فإن الحوادث أودى بها حمله على الحدثان وقيل: المعنى نسقيكم مما في بطون الذكور. وقيل: (من) تدل على التبغيض، فكأنه قال: نسقيكم من بطون بعض الأنعام؛ لأنه ليس لجميعها لبن. وقال إسماعيل القاضي: رد إلى الفحل، واستدل بذلك على أن اللبن للرجل في الأصل. * * * قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} [النحل: 67] . السكَرُ: ما يسكرُ، والرزق الحسن: الخل، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير والشعبي وإبراهيم وعبد الرحمن بن زيد والحسن ومجاهد وقتادة: السكَرُ: ما حرم من الشراب، والرزق الحسن: ما أحل منه، وقيل: هو ما حلا طعمه من شراب أو غيره، وهو من قول الشعبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 ويسأل عن (الهاء) في {مِنْهُ} علام يعود؟ وفيها جوابان: أحدهما: أنها تعود على المذكور. والثاني: أنها تعود على معنى الثمرات؛ لأن الثمرات والثمر سواء، وكذا (الهاء) في قوله: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] ، قيل: يعود على الشراب؛ وهو العسل، هذا قول الحسن وقتادة. وقال مجاهد: يعود على القرآن. * * * قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [النحل: 73] . يسأل: بما نصب {شَيْئًا} ؟ وفيه جوابان: أحدهما: أنه بدل من {رِزْقًا} ، وهو وقل البصريين. والثاني: أنه مفعول به بـ: {رِزْقًا} ، وهو قول الكوفيين وبعض البصريين. وفيه بعد؛ لأنه (الرزق) اسم، والأسماء لا تعمل، والمصدر (الرزق) هذا قول المبرد. * * * قوله تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] . يقال: ألحد ولحد بمعنى واحد، وذلك إذا مال، ومنه أخذ اللحد؛ لأنه في جانب القبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 ويسأل: من الذي ألحدوا إليه؟ والجواب: أن ابن عباس قال: كان من المشركين يقولون إنما محمداً - صلى الله عليه وسلم - (بلعام) . وقال الضحاك: كانوا يقولون يعلمه (سلمان) . وقوله: {لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} يعني به القرآن، كما تقول العرب للقصيدة: هذه لسان فلان، قال الشاعر: لسان السوء تهديها إلينا أجيت وما حسبتك أن تجيبا وقرأ حمزة والكسائي {يُلْحِدُونَ} بالفتح، وقرأ الباقون بالضم وهما لغتان. قزله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا} [النحل: 112] . قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: القرية: مكة. وقيل: كل قرية كانت على هذه الصفة، فهي التي ضرب بها المثل. والأنعم: جمع نعمة، كشدة وأشد، وقيل واحدها (نُعْمٌ) كغصن وأغصن، وقيل: واحدها (نعماء) كبأساء وأبؤسٍ. ومما يسأل عنه أن يقال لم قال: {لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} ، والجوع لا يلبس؟ والجواب: لما يظهر عليهم من الهزال وشحوب اللون، فصار كاللباس. وقيل: إن القحط بلغ بهم إلى أن أكلوا القد والوبر مخلوطين بالدم والقراد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 ويسأل عن وقوله تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ} ؟ والجواب: أنه استعارة، والعرب يقول: اركب هذا الفرس وذقه، أي: أختبره، وكذا يقولن: ذق هذا الأمر، قال الشماخ: فذاق فأعطته من اللين جانباً كفى ولها أن يغرق السهم حاجز يصف قوساً. وقال آخر: وإن الله ذاق حلوم قيس فلما رآى خفتها قلاها * * * قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116] . نصب {الْكَذِبَ} بـ: {تَصِفُ} ، و {مَا} مصدرية. وقرئ في الشاذ {لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكُذُِبُ} ، جمع كذوب، وهو وصف للألسنة. وقرئ أيضاً {الْكَذِبِ} بالجر على أنه بدل من {مَا} . والألسنة: جمع لسان على مذهب من يذكر، ومن أنث قال في جمعه (ألسن) . قال العجاج: وتلحج الألسن فينا ملحجاً وهذه الآية نزلت في تحريمهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 {ومن سورة بني إسرائيل } * * * قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1] . المسجد الحرام بمكة، والمسجد الأقصى ببيت المقدس، وهو مسجد سليمان - عليه السلام -، عن الحسن وقيل: الأقصى لبعد المسافة بينهما. قال الحسن: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - النغرب في المسجد الحرام، ثم أسرى به إلى بيت المقدس في ليلته، ثم رجع فصلى الصبح في المسجد الحرام، فلما أخبر المشركين بذلك كذبوه وقالوا: يسير مسيرة شهر في ليلة واحدة! ، وسألوه عن بيت المقدس، فطوى الله تعالى له الأرض حتى أبصرها، فكان ينظر إليها ويصف لهم. وقيل: كان تلك الليلة في المسجد الحرام، كما قال الحسن وقتادة. وقيل: كان في بيت أم هانئ، وقال: من المسجد الحرام؛ لأن الحرم كله مسجد. ومعنى قوله: {بَارَكْنَا حَوْلَهُ} يعني بالثمار والأنهار، وقيل: باركنا حوله لما حوله من الأنبياء عليهم السلام؛ ولهذا جعل مقدساً. ومعنى {سُبْحَانَ} : براءة وتنزيه، قال الأعشى: أقول لما جاءني فجره سبحان من علقمة الفاجر ويسأل عن نصب {سُبْحَانَ} ؟ والجواب: أنه نصب على المصدر إلا أنه لا ينصرف؛ لأنه جعل اسما للتسبيح فهو معرفة، وفي آخره زائدتان، فجرى مجرى (عثمان) ونظيره من المصادر (برة) في أنه لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 ينصرف، قال النابغة: إنا اقتسمنا خطتينا بيننا فحملت برة واحتمات فجار وقال أبو عبيدة: هو منادى، كأنه قال: يا سبحان الذي، ولا يجيز هذا حذاق أصجابنا؛ لأنه لا معنى له. وقوله: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} ، تقديره عند البصريين: باركنا ما حوله، فحذفت (ما) وهي موصوفة، وبقيت الصفة التي هي {حَوْلَهُ} تدل على المحذوف. وقال الكوفيون: هي موصولة. ولا يجيز البصريون حذف الموصول. قزله تعالى: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا} [الإسراء: 2] . {وَآتَيْنَا} : أي أعطينا. ويسأل عن نصب قوله: {ذُرِّيَّةَ} [الإسراء: 3] ؟ وفي نصبها وجهاً: أحدهما: أن يكون بدلاً من {وَكِيلًا} ، كأنه في التقدير: ألا تتخذوا من دوني وكيلاً ذرية من حملنا مع نوح. والثاني: أن يكون منادى، كأنه قال: يا ذرية من حملنا مع نوح. هذا على قراءة من قرأ {أَلَّا تَتَّخِذُوا} بالتاء، وأما من قرأ {أَلَّا يَتَّخِذُوا} بالياء، فـ: {ذُرِّيَّةَ} في قوله بدل من {وَكِيلًا} كما كان في أحد الوجهين الأولين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} [الإسراء: 13] الإنسان يقع على المذكر والمؤنث، فإن أردت الفصل قلت: للمذكر (رجل) وللمؤنث (امرأة) ، ومثل ذلك: فرس، هذا مشترك، فإن أردت الفصل قلت: (حصان) و (مهر) وفي الهماليج (برذون) و (زمكة) ، وكذلك: بعير، يقع على المذكر والمؤنث، فإن فصلت قلت: (جمل) و (ناقة) . واشتقاق الإنسان: من الإنس أو الأنس. وهو (فعلان) من ذلك، هذا مذهب البصريين. وقال الكوفيون: هو من النسيان، وأصله (إنسيان) حذفت الياء منه استخفافاً، وأحتجوا على ذلك بقول العرب (أنيسيان) ، وهذه الياء عند البصريين زائدة، وهذا التصغير شاذ، مثله عندهم عشيشة ومغيربان الشمس ولييلية في أشباه ذلك. والطائر هاهنا: عمل الإنسان، شبه بالطائر الذي يسنح ويتبرك به، والطائر الذي يبرح فيتشاءم به، والسانح: الذي يجعل ميامنه إلى مياسرك، والبارح الذي يجعل مياسره إلى ميامنك، وألصل في هذا أنه كان سانحاً أمكن الرائي، وإذا كان براحاً لم يمكنه، وإنما خاطب الله تعالى العرب على عادتهم وما يعرفونه. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: طائرة عمله. ويقال: لم قال: {أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} ، ولم يقل في يده؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 والجواب: لأنه في العنق ألزم، لأنه يصير بمنزلة الطوق، لأن محل ما يزين من طوق أو غيره وكذا موضع الغل. ونصب {حَسِيبًا} [الإسراء: 14] على الحال، والعامل فيها {كَفَى} [الإسراء: 14] ، وقيل: هو نصب على التمييز، والأول أقيس. وموضع {بِنَفْسِكَ} رفع؛ لأنه فاعل {كَفَى} والباء زائدة، وقال أبو بكر بن السراج المعنى: كفى الاكتفاء بنفسك، فالاعل على هذا محذوف. وقرأ ابن عامر {يَلْقَهُ} بضم الياء وتشديد القاف، وقرأ الباقون {يَلْقَاهُ} بالتخفيف وفتح الياء. وقرئ {وَيخْرِجُ لَهُ كِتَابًا} وقرئ {وَنُخْرِجُ لَهُ كِتَابًا} . فمن قرأ {وَنُخْرِجُ لَهُ كِتَابًا} فمعناه: يظهر له كتاباً، فتنصب (كتاباً) على هذا الوجه؛ لأنه مفعول. ومن قرأ (وَيخْرِجُ لَهُ كِتَابًا} نصب (كتاباً) على الحال، أي: ويخرج له طائرة كتاباً. ولو قرئ: ويخرج له كتاب، لجاز على ا، هـ الفاعل، وكذا لو قرئ: ويخرج له كتاب له، على ما لم يسم فاعله لجاز، إلا أن القراءة سنة. ونصب {مَنْشُورًا} على الحال من {يَلْقَاهُ} في القراءتين جميعاً. * * * قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16] . الأمر: ضد النهي، والإتراف: التنعيم، والفسق: الخروج عن الطاعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 والمعنى: أمرناهم بالطاعة ففسقوا، وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير. وهذه قراءة السبعة، ومثله أمرتك فعصيتني. وقرئ {أَمَرْنَا} ومعناه: طثرنا، وقيل جعلناهم أمراء، وألأول أجود؛ لأن القرية الواحدة لا يكون فيها عدة أمراء في وقت واحد. وقرئ {ءامَرْنَا} بالمد أي: كثرنا. وذكر ابن خالويه: أن بعضهم قرأ {أَمِرْنَا} بكسر الميمبغير مد، وذكر أن معناها: كثرنا، وأن (أمر) يأتي لازماً ومتعدياً. ويسأل: لم خص المترفون؟ والجواب: لأنهم الرؤساء، ومن سواهم تبع لهم، كما أمر فرعون وكان من عداه من القبط تبعاً له. * * * قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: 31] . الإملاق: الفقر، هذا قول ابن عباس ومجاهد، وذلك أنهم كانوا يؤدون البنات خوفاً من الفقر، غنهاهم الله عن ذلك. والزنا يمد ويقصر، قال الشاعر: أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 والخرطوم: الخمر، إلا أن القرآن جاء بالقصر، والإسراف: مجاوزة الحد، والسلطان هاهنا: القود والدية، وهو وقل ابن عباس والضحاك، وقال قتادة: هو القود. ومما يسألعنه أن يقال: كيف قال: {خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} ، أفيجوز قتلهم لغير إملاق؟ قيل: لا، وإنما نهي عن قتلهم البتة، ثم أشعرهم بمكان الخوف، ومثله قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة: 41] ، لم يأمرهم أن يكونوا ثانياً ولا ثالثاً. ويقال: ما معنى: {كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32] أتراه الآن ليس بفاحشة؟ والجواب: أنه كان عندهم في الجاهلية فاحشة، وهو كذلك الآن، ومثل هذا في القرآن كثير. ويقال: ما موضع {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ} [الإسراء: 33] ؟ والجواب: أنه يحتمل النصب والجزم، فأما النصب: فعلى قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] وأن لاتقتلوا. وأما الجزم: فعلى النهي. ويسأل عن الضمير في قوله: {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} علام يعود؟ وفيه جوابان: أحدهما: أنه يعود على الولي، وهو قول قتادة. والثاني: أنه يعود على المقتول، وهو وقل مجاهد. والقول الأول أبين. وقرأ ابن كثير {كَانَ خِطَاءً} مكسور الخاء ممدودة مهمورزة، وقرأ ابن عامر {خِطئًا} بالفتح والهمز من غير مد، وقرأ الباقون {خِطْئًا} مكسورة الخاء ساكنة الطاء مهموزة من غير مد، هذه لغات. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: {فَلا تُسْرِف ِفي القَتْلِ} بالتاء جزماً، وقرأ الباقون بالياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 فالتاء على أنه خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل: هو لولي المقتول. والولي: الوارث من الرجال. * * * قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] قال ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وقتادة وإبراهيم وابن جريح وابن زيد والضحاك ومجاهد: الرؤيا ما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء، فلما أخبر المشركين بما رأى كذبوا به. وقيل: هي رؤيا نوم، وهي رؤيته التي رأى أنه سيدخل مكة، وروي هذا عن ابن عباس من جهة أخرى. والشجرة الملعونة: الزقوم، وقد ذكرها الله تعالى في مكان آخر، فقال: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان: 43-44] ، هذا قول ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وابن مالك وقتادة وإبراهيم ومجاهد والضحاك وابن زيد، وكانت فتنتهم بها أن أبا جهل قال: النار تأكل الشجر، فكيف تنبت فيها، وارتد قوم، وزاد الله في بصائر آخرين. وقال أصحاب المعاني: يجوز أن تكون الزقزم نبتاً من النار أو من جوهر لا تأكله النار، وكذلك سلاسل النار وأغلالها وعقاربها وحياتها، وكذلك الضريع وما أشبه ذلك. والفتنة هاهنا: الاختبار. * * * قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [الإسراء: 71] . الفتيل: ما يكون في شق النواة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 واختلف في الإمام هاهنا: فقيل: إمامهم نبيهم، وهو قول مجاهد وقتادة. وقال ابن عباس والحسن والضحاك: إمامهم كتاب عملهم. وقيل: كتابهم الذي أنزله الله تعالى فيه الحلال والحرام والفرائض، وهو وقول ابن زيد. وقيل: من كانوا يأتمون به في الدنيا، وهو وقل أبي عبيدة. ويسأل عن قوله: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء: 72] ؟ والجواب: أن ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد قالوا: من كان في هذه الدنيا وهي شاهدة له من تدبيرها وتصريفها أعمى عن اعتقاد الصواب فهو في الآخرة التي هي غائبة عنه أعمى. وقرأ أبو عمرو {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى} بالإمالة، وفخم {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} ، واستشهد بقوله: {وَأَضَلُّ سَبِيلًا} ، أي: أشد عمى، وهو من عمى القلب، وقرأ ابن كثير وابن عامر ونافع وحفص عن عاصم بالتفخيم فيه جميعاً، وقرأ الكسائي وحمزة وأبو بكر عن عاصم بالإمالة فيهما جميعاً. وقيل: فهو في الآخرة أعمى عن طريق الجنة. واحتج قوم لقراءة أبي عمرو بأن الأول رأس آية فجازت إمالته، وليس الثاني كذلك ففخك. وقد ذكرنا أنه من عمى القلب، ولا يجوز أن يكون من عمى البصر؛ لأنه لا يقال: هذا أعمى كم هذا، كما لا يقال: هذا أحمر من هذا، وكذا جميع الألوان والعاهات والخلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 ونصب {يَوْمِ} [الإسراء: 71] بفعل مضمر تقديره: اذكر يوم ندعو. وقيل: هو منصوب بـ (يعيدهم) يوم ندعو، وهو وقل الزجاج. * * * قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] . اختلف في الروح هاهنا: فقيل: هو جبريل - عليه السلام -، هذا قول ابن عباس. وقال علي - رضي الله عنه - هو ملك له سبعون ألف وجه لكل وجه سبعون ألف فم لكل فم سبعون ألف لسان يسبح لله تعالى بجميع ذلك. - وقيل: الروح ما تكون به الحياة. - وقيل: الروح ملك يقوم يوم القيامة صفاً، وتقوم الملائكة صفاً، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38] ، قال قتادة: سأل عن ذلك ذوم من اليهود، وقيل سأل عنه اليهود. وقيل: في قوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] أي: من الأمر الذي يعلمه ربي. ومما يسأل عنه أن يقال: لمَ لمْ يجابوا عن الروح؟ والجواب: لما في ذلك من المصلحة، ليوكلوا إلى علم ما في عقولهم من الدلالة، مع ما في ذلك من الرياضة. وقيل: إنهم وجدوا في كتابهم: أنه إن أجابهم عن الروح فليس بنبي. * * * قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 {أَوِ} هاهنا للإباحة، أي: إن دعوت بأحدهما كان جائزاً، وإن دعوت بهما جميعاً كان جائزاً. وهذان الاسمان ممنوعان، أي: لم يتسم أحد بهما غير الله تعالى. و (ما) في {أَيًّا مَا} صلة، كقوله تعالى: {عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} [المؤمنون: 40] . وقيل: هي بمعنى (أي شيء) كررت مع اختلاف اللفظين للتوكيد، كقولك: ما رأيت كالليلة ليلة. و {أَيًّا} نصب بتدعو. وقرئ {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ} {أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} ، بكسر اللام والواو على أصل التقاء الساكنين، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع والكسائي بضم الواو واللام، وهو أجود؛ والعلة في ذلك أن بعدهما ضمة العين فكرهوا الخروج من كسر إلى ضم وليس بينهما إلا حاجز ضعيف، وهو الساكن، ومن زعم من النحويين أن ضمة الهمزة من (ادعو) ألقيت على اللام والواو، فقد أخطأ، لأن هذه الهمزة لاحظ لها في الحركة، وإنما تحرك عند الابتداء، فإذا اتصل الكلام سقطت الحركة، وقد كسر بعضهم اللام، وضم الواو جمع بين اللغتين، ولو ضم اللام وكسر الواو لكان جائزاً في العربية، إلا أنه لا يقرأ إلا بما صح عن السلف رضي الله عنهم. {من سورة الكهف } * * * قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} [الكهف: 1] القيم: المستقيم، والعوج: العدول عن الحق إلى الباطل، يقال: ليس في الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 عوج، وكذلك ليس في الأرض عوج، ويقال: في العصا عوج بالفتح. وأجمع العلماء على أنه على التقديم والتأخير، أي: أنزل على عبده الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً. قال ابن عباس والضحاك: أنزله مستقيماً معتدلاً. وقيل: ولم يجعل له عوجاً أي: لم يجعله مخلوقاً، ويروى هذا عن ابن عباس أيضاً. ووزن (قيم) فيعل، واصله (قيوم) فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء فيها، وهذا حكم كل (واو) و (ياء) اجتمعتا وسبقت الأولى منهما بالسكون، نحو: سيد وميت وطي ولي، والأصل: سيود وميوت وطوي ولوي، ففعل بهذه الأشياء ما ذكرناه، وقرأ الأعمش {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 1-2] ، وروى أن عمر قرأ {الْحَيُّ الْقَيُّامُ} ، والأصل فيه القيوام، ففعل به ما قد ذكرناه، وكذلك: القيوم، أصله: قيووم. ونصب {قَيِّمًا} [الكهف: 2] على الحال من الكتاب، والعامل فيه {أَنْزَلَ} . * * * قوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5] الكلمة هاهنا: قولهم: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف: 4] ، واختلف في نصبها: فقال قوم: انتصب على تفسير المضمر، عل حد قولك: نعم رجلاً زيد، والتقدير على هذا: كبرت الكلمة كلمة، ثم حذف الأول؛ لدلالة الثاني علبه، ومثله كرم رجلاً زيد، ولؤم صاحباً عمرو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وقال قوم: انتصب على التمييز المنقول على الفاعل، عل حد قولك: تصببت عرقاً، وتفقأت شحماً، قال الشاعر: ولقد علمت إذا الرياح تناوحت هدج الرئال تكبهن شمالاً وهذا البيت إذا حذف منه (تكبهن شمالا) بقي موزوناً، وكان من مرفل الكامل إذا حركت اللام، فإن أسكنتها كان من المذال، وهو على الضرب الثاني من الكامل، ويحكى أن أول من نبه على هذا أبو عمرو بن العلاء. وقيل: نصب {كَلِمَةً} على الحال من المضمر في {كَبُرَتْ} . وقرأ ابن كثير {كَبُرَتْ كَلِمَةٌ} بالرفع، فجعل كبرت بمعنى عظمت. وأما قوله تعالى: {تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} ، فهو نعت لمحذوف تقديره: كبرت كلمة تخرج من أفواهم، ترفع (كلمة) المضمرة، كما ترفع (زيد) من قولك: نعم رجلاً زيد، ورفعه من وجهين: أحدهما: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، والتفسير في الآية على هذا: هي كلمة تخرج، ولا يجوز أن يكون {تَخْرُجُ} وصفاً لـ {كَلِمَةَ} الظاهرة؛ لأن الوصف يقرب النكرة من المعرفة، والتمييز والتفسير والحال لا تكون البتة، ولا يجوز أن يكون حالاً من {كَلِمَةً} المنصوبة لأمرين: أحدهما: أن الحال يقوم مقام الوصف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 والثاني: أن الحال لا يكون من نكرة في غالب الأمر. ولكن يجوز أن يكون {تَخْرُج} وصفاً لـ {كَلِمَةً} على مذهب من رفع كلمة. * * * قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف: 9] الكهف: الغار، والرقيم: قيل: هو لوح أو حجر أو صحيفة كتب فيه اسماء أصحاب الكهف وخبرهم حين أووا إلى الكهف؛ لأنه من عجائب الأمور، وجعل في خزائن الملوك، وقيل: جعل على باب كهفهم، ورقيم على هذا بمعنى مرقوم، مثل: جريح ومجروح وصريع ومصروع، يقال: رقمت الكتاب أرقمه، وفي القرآن: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين: 9] ، ومن هذا قيل: في الثوب رقمٌ، وقيل للحية: أرقمٌ، لما فيه من الخطوط، وهذا الذي ذكرناه من أنه كتاب كتب فيه حديثهم قول مجاهد وسعيد بن جبير، وفي بعض الروايات عن ابن عباس: أنه الوادي الذي كانوا فيه، وروي مثل ذلك عن الضحاك، وقيل: الرقيم الجبل الذي كانوا فيه، وهو قول الحسن، وقيل: الرقيم اسم كلبهم، وجاء في التفسير عن الحسن: أنهم قوم هربوا بدينهم من قومهم إلى كهف وكان من حديثهم ما قصه الله تعالى في كتابه. وقيل في قوله: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} ، أن معناه: أكانوا أعجب من خلق السموات والأرض وما فيهن؟. و {أَمْ} هاهنا بمعنى: بل أحسبت، وفيها معنى التعجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وحدثني أبي عن عمه إبراهيم بن غالب حدثنا القاضي منذر بن سعيد حدثنا أبو النجم عصام بن منصور المرادي القزويني، حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام حدثنا زياد بن عبد الله بن البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي قال حدثني بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير وعكرمة عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - في خبر طويل. أن النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط أنقذتهما قريش إلى أحبار اليهود بالمدينة، وقالوا لهما: إسألاهم عن (محمد) ، وصفا لهم صفته، وأخبراهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار اليهود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالا لهم ما قالت قريش وقالا: أخبرونا عن صاحبنا، فقالت لهما أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث، نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فهو رجل متقول فارؤوا فيكم رأيكم، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان أمرهم؟ فإنه كان لهم حديث عجب، وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبأه، وسلوه عن الروح، ما هو؟ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي، وإن لم يفعل، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم، فأقبل النضر وعقبه حتى قدما مكه على قريش فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين (محمد) ، وقصا عليهم القصة، فجاءوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه عن ذلك فقال - عليه السلام -: أخبركم بما سألتم عنه غذاً، ولم يستثن، فانصرفوا عنه، فمكث - عليه السلام - خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه فذ لك وحياً، ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غداً، واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه، وأحزن النبي - صلى الله عليه وسلم - مكث الوحي عنه، وشق ما يتكلم به أهل مكه عليه، ثم جاءه جبريل - عليه السلام - عن الله تعالي بسورة الكهف، فيه معاتبة على حزنه عليهم، وخبر ما سألوا عنه من أمر الفتيه، والرجل الطواف، والروح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لجبريل - عليه السلام - حين جاءه: لقد احتبست عني يا جبريل حتى سؤت ظناً، فقال له جبريل: وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك، وما كان ربك نسبا، فافتتح السورة تعالى: بحمده، وذكر نبوة رسول الله لما أنكروه عليه من ذلك فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} يعني: محمداً، إنك رسول مني، أي: تحقيق لما سألوا عنه من نبوتك، {لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} ، أي معتدلاً لا اختلاف فيه، {لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} ، أي: عاجل عقوبته في الدنيا، ثم مرَّ في السورة. * * * قوله تعالى: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف: 12] اختلف العلماء في قوله: {أَيُّ الْحِزْبَيْنِ} ، فقال الخليل: {لِنَعْلَمَ} مُلغى، و {أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} مبتدأ وخبر، والتقدير: لنعلم الذي نقول فيه: أي الحزبين أحصى، قال يونس: {أَيُّ الْحِزْبَيْنِ} حكاية. وقال الفراء: الكلام فيه معنى الاستفهام، فلذلك لم يعمل فيه {لِنَعْلَمَ} . قال سيبويه: (أي) ها هنا مبنية، وذلك لحذف العائد عليها، كأن الأصل: لنعلم أي الحزبين هو أحصى، فلما حذف (هو) رجعت (أي) إلى أصلها وهو البناء؛ لأنها بمنزلة (الذي) و (من) و (ما) . قال الكسائي: المعني لنعلم ما يقولون، ثم ابتدأ: أي الحزبين أحصى، ومثل هذه الآية قوله: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى} [الكهف: 19] ، وقوله: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم: 69] ، وأنشد سيبويه: ولقد أبيت من الفتاة بمنزل فأبيت لا حرج ولا محروم استشهادا لقول الخليل، وتأوله على تقدير: لا حرج ولا محروم في مكانٍ، على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 الابتداء والخبر، وجعل الجملة خبراً (لبات) ، وقدره الخليل: فأبيت بمنزلة الذي يقال له لا حرج ولا محروم. وأما النصب في {أَمَدًا} : فقال الزجاج: إنه تمييز، وهذا وهم؛ لأن {أَحْصَى} فعل وليس باسم، قال الله تعالى: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6] . وقال مرة أخرى: هو منصوب بـ: {لْبَثُوا} على الظرف، وهذا القول أصح من الأول. وأي الحزبين ها هنا يراد به: الفتية من حضرهم من أهل زمانهم. * * * قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَ ارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 22] . الرجم: القذف، على قتادة، وروي عن ابن عباس أنه قال: أنا والله من ذلك القليل الذي استثنى الله تعالى، كانوا سبعة وثامنهم كلبهم. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: لم دخلت (الواو) في قوله: {وَثَامِنُهُمْ} ، وحذفت فيما سوى ذلك؟ والجواب: أنها دخلت لتدل على تمام القصة، وموضعها مع ما بعدها نصب على الحال. وقيل: دخلت تعطف جملة على جملة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وقال بعضهم: خصت بعدد السبعة؛ لأن السبعة أصل للمبالغة في العدة؛ لأن جلائل الأمور سبعة. وأما من يقول هي واو الثمانية، ويستدل بذلك على أن للجنة ثمانية أبواب، لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71] ، فشيء لا يعرفه النحويون، وإنما هو من قول بعض المفسرين. ولو حذفت هذه الواو لكان جائزاً؛ لأن الضمير في قوله: {وَثَامِنُهُمْ} يربط الجملتين، وذلك نحو قولك: رأيت زيدا وأبوه قائم، ولو قلت: رأيت زيدا أبوه قائم لكان جائزا وتقول: رأيت زيدا وعمرو قائم، فلا يجوز حذف الواو؛ لا ضمير هاهنا يربط الجملتين. ولو دخلت الواو في قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ} [الكهف: 22] لكان جائزا عند النحويين. * * * قوله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف: 25] . اختلف العلماء في هذا. فقال قوم: هذا إخبار من الله تعالى بمقدار لبثهم، ثم قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: إن حاجك المشركون فيهم قل: الله أعلم بما لبثوا، هذا قول مجاهد والضحاك وعبيد بن عمير. وقال قتادة: هو حكاية عن قول اليهود؛ لأجل قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف: 26] ، فكأنه في التقدير: سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقولون كذا وكذا، ويقولون ولبثوا في كهفهم، وقد ذكرنا عن ابن عباس أنه قال: أنا من ذلك القليل الذي استثناه الله تعالى. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: كيف جاء قوله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ} ، وإنما يقال: ثلاثمائة سنة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وعن هذا جوابان: أحدهما: أن التقدير: ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة، على المستعمل، إلا أنه وضع الجميع موضع الواحد على الأصل؛ لأن الأصل أن تكون الإضافة إلى الجميع. قال الشاعر: ثلاث مئين قد مضين كواملا وها أناذا قد أبتغي من أربع فجاء به على الأصل. والثاني: أن العرب تستغني عن الواحد بالجمع، وعن الجمع بالواحد، فمما استغنى فيه عن الواحد بالجمع قولهم: قدر أعشار، وثوب أخلاق، ومما استغنوا فيه بالواحد عن الجمع قوله: بها جيف الحسري فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب وقال آخر: كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميص وقال الله تعالى في الاستغناء بالجمع عن الواحد: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} [هود: 14] ، الخطاب: للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال للكفار: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود: 14] ، يدل على ذلك قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 14] ، ومما جاء من قوله تعالى على الاستغناء بالواحد عن الجمع قوله تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [الحج: 5] ، وهو كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 وهذا كله على قراءة حمزة والكسائي، فأما الباقون فإنهم نونوا {ثَلَاثَ مِائَةٍ} . وفي نصب {سِنِينَ} قولان: أحدهما: أنه بدل من ثلاثمائة. والثاني: أنه تمييز، كما تقول: عندي عشرة أرطال زيتا، قال الربيع بن ضبع الفزاري: إذا عاش الفتى مئتين عاما فقد ذهب المسرة والفتاء وزعم بعضهم: أنه على التقديم والتأخير، تقديره: ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة وازدادوا تسع سنين. * * * قوله تعالى: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} [الكهف: 38] الأصل: لكن أنا هو الله ربي، فألقيت حركة الهمزة على النون فصار: (لكننا) فأسكنت النون الأولى كراهة لاجتماع المثلين، ثم أدغمت في الثانية فصار: لكنا هو الله ربي؛ ويجوز فيها خمسة أوجه: أحدها: لكن هو الله ربي؛ لأن ألف (أنا) محذوف في الوصل، قال الشاعر: وترمينني بالطرف أي أنت مذنب وتقلينني لكن إياك لا أقلي والثاني: لكنا هو الله ربي، وهذان الوجهان قرئ بهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 والثالث: لكننا هو الله ربي، بطرح الهمزة وإظهار التنوين. والرابع: لكن هو الله ربي، بالتخفيف. والخامس: لكن أنا هو الله ربي، على الأصل. * * * قوله تعالى: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63] . قال المفسرون: شغل قلبي بوسوسته حتى نسيت الحوت. ويسأل عن موضع (أن) ؟ والجواب: أن موضعها نصب على البدل من الهاء، كأنه في التقدير: وما أنساني أن أذكره إلا الشيطان. * * * قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79] . يقال: سفينة وسفائن سفن وسفين. واختلف في المساكين والفقراء: فذهب بعضهم إلى أنهما بمعنى، وليس كذلك؛ لأن الله تعالى فرق بينهما في آية الصدقة فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] . وفرق بينهما أكثر أهل العلم، واختلفوا في أيهما أشد حاجة: فذهب جمهور الفقهاء إلى أن المسكين الذين له بلغة، واحتجوا بهذه الآية؛ لأن الله تعالى جعل لهم سفينة. وذهب جمهور أهل اللغة إلى أن المسكين الذي لا شيء له، وأن الفقير هو الذي له بلغة وأنشدوا: أما الفقير الذي كانت حلو بته وفق العيال فلم يترك له سبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 واختلف في (وراء) : فقال قوم: هو نقيض قدام. وقال قتادة: هو بمعنى أمام، ومثله: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} [الجاثية: 10] ، وهو محتمل؛ لأنه من المواراة، قال الشاعر: أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا أي: أمامى. * * * قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109] . قال أصحاب المعاني: المعنى: قل لو كان البحر مداداً لكتابة معاني كلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي، فحذف لأن المعنى مفهوم، والنفاد: الفراغ. ومما يسأل عنه أن يقال: الكلمات لأقل العدد، وأقل العدد العشرة فما دونها، فكيف جاء هاهنا أقل العدد؟ والجواب: أن العرب تستغني بالجمع القليل عن الكثير، وبالكثير عن القليل، قال الله تعالى: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37] ، وغرف الجنة أكثر من أن تحصى، وقال: {هُمْ دَرَجَاتٌ} [آل عمران: 163] ، وقال حسان: لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما وكان أبو علي الفارسي ينكر الحكاية التي تروى عن النابغة، وأنه قال له: قللت جفناتكم وأسيافكم، فقال: لا يصح هذا عن النابغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 {ومن سورة مريم } (عليها السلام) * * * قوله تعالى: {كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} [مريم: 2] . قد فسرنا قواتح السور فيما تقدم. ومما يسأل عنه هاهنا أن يقال: بم ارتفع {ذِكْرُ رَحْمَتِ} ؟ وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: هو ذكر. والثاني: أن يكون مبتدأ والخبر محذوف تقديره: فيما يتلى عليك ذكر رحمة ربك. ونصب {عَبْدَهُ} برحمة. * * * قوله تعالى: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 6] . قال أبو صالح: يرثني النبوة، وقال الحسن ومجاهد: يرثني العلم والنبوة، وقال السدي: يرث نبوته ونبوة آل يعقوب. ويجوز في {يَرِثُنِي} الرفع والجزم، فالرفع على النعت لولي، وهي قراءة السبعة إلا أبا عمرو والكسائي فإنهما قرآ بالجزم، والجزم على أنه جواب الدعاء. * * * قوله تعالى: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 25] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 السري: الجدول في قول البراء بن عازب، وقال ابن عباس ومجاهد وابن جبير: هو النهر، وقال الضحاك وقتادة وإبراهيم: هو النهر الصغير، وقال الحسن وابن زيد، السري: النهر معروف في كلام العرب. قال لبيد: قتوسطا عرض السري وتصدعا مسجورة متجاورا قلامها فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: لم أمرت بهز الجذع، والله قادر أن يسقط عليها الرطب من غير هز منها؟ والجواب: أن الله تعالى جعل معائش الدنيا بتصرف أهلها وتطلبهم لها. ويسأل: بم انتصب {رُطَبًا جَنِيًّا} ؟ وفيه جوابان: أحدهما: أنه مفعول لـ: {هُزِّي} ، أي: هزي جنياً يتسلقط عليك، هذا قول المبرد. وقال غيره: هو نصب على التمييز، والعامل فيه {تُسَاقِطْ} . وقرأ أبن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي وابن عامر وأبو بكر عن عاصم {تُسَاقِطْ} بالتاء، ورد الضمير إلى النخلة، والباء في قوله: {بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} زائدة. وقرأ حمزة {تُسَاقِطُ} أراد: تتساقط، فحذف التاء الثانية لأنها كراهة لاجتماع التائين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 وقرأ حفص عن عاصم {تُسَاقِط} بضم التاء وكسر القاف مخففة السين، جعله مثل: يطارق النعل، ويعاقب اللص. قرئفي غير السبعة {تَسَاقِط} على أن الضمير للجذع. وقرأ نافع والكسائي وحمزة وعاصم فر راوية حفص {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا} وقرأ {مِنْ تَحْتِهَا} الباقون بفتح الميم على معنى (الذي) . واختلف فيمن ناداها: فقال ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي: ناداها جبريل - عليه السلام -. وقال مجاهد ووهب بن منبه وسعيد بن جبير وابن زيد: ناداها عيسى. فعلى التأويل الأول يكون (تحت) بمعنى المحاذاة، والمعنى: فناداها جبريل من البستان الذي تحتها؛ لأنه يقال: داري تحت دارك، بمعنى: محاذية لها. وعلى التأويل الثاني يكون المعنى: فناداها من تحت ثيابها. وكل الوجهين محتمل. * * * قوله تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم: 27] . الفري: العمل العجيب، قال الراجز: قد أطعمنني ذقلاً حوليا مسوسا مدوداً حجريا قد كنت تفرين به الفريا وقال قتادة وكعب وابن زيد والمغيرة بن شعبة يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: هارون رجل صالح في بني إسرائيل ينسب إليه من عرف بالصلاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وقيل: هو هارون أخو موسى، نسبت إليه، لأنها من ولده، كما يقال: يا أخا بني فلان، وهو قول السدي. وقيل: كان رجلاً فاسقا معلنا بالفسق فنسبت إليه. قال الكلبي: هارون أخوها من أبيها. ومعنى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم: 26] قالت كلموه. فصل: ومما يسأل عنته أن يقال: لم قال: {بَغْيًا} وهو صفة مؤنث؟ والجواب: أن ما كان على (فعول) فوصف به النمؤنث كان بعير (هاء) ، نحو/ امرأة شكور وصبور، إذا كان بمعنى (فاعل) ، فإن كان بمعنى (مفعول) ثبتت فيه (الهاء) نحو: حلوبة وقتوبة. والأصل في (بَغْيًا) : بغوي، فاجتمعت الواو والياء وسبقت الأولى بالسكون فوجب القلب والإدغام، وكسرت الغين لتصبح الياء ساكنة. فصل: ويسأل عن قوله تعالى: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: 29] ، بم نصب {صَبِيًّا} ؟ والجواب: أ، هـ منصوب على الحال، و {كَانَ} بمعنى الحدوث، وهي العاملة في الحال، ومثل كان هاهنا قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280] أي: حضر ووقع. ومثله قول الربيع: إذا كان الشتاء فأدفئوني فإن الشيخ يهدمه الشتاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 ويجوز أن تكون زائدة، نحو قول الشاعر: جياد بني أبي بكر تسامى على كان المسومة العراب والعامل في الحال على هذا الوجه {نُكَلِّمُ} . * * * قوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] . يسأل: كيف جاز {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} ، وليس في الجنة ليل ولا شمس ولا قمر؟ والجواب: أن العرب خوطبت على قدر ما تعرف، فذكر البكرة والعشي ليدل على المقدار، وكانت العرب تكره (الوجبة) وهي أكلة واحدة، وتستحب الغداء والعشاء، فأعلمهم الله تعالى: أن لهم في الجنة مثل ما كانوا يحبون في الدنيا. * * * قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم: 77] هذه الآية نزلت في العاص بن وائل السهمي، وذلك أن خباب بن الأرت صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قيناً بمكة يعمل السيوف فباع من العاص سيوفاً، فأعملها له حتى إذا صار له عليه مال جاء يتقاضاه، فقال له: يا خباب، أليس يزعم محمد هذا الذي أنت على دينه، أن في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب أو فضة أو ثياب أو خدم؟ قال خباب: بلى، قال: فأنظرني إلى يوم القيامة حتى أرجع إلى تلك الدار، فأقضيك هنالك حقك، فوالله لا تكون أنت ولا اصحابك يا خباب آثر عند الله مني وأعظم حظاً، فأنزل الله تعالى فيه: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} إلى آخر الآية. قرأ حمزة والكسائي {وَلَدًا} بضم الواو وإسكان اللام، وقرأ الباقون بفتح الواو، فأما الفتح فهي اللغة المشهورة، وأما الضم وإسكان اللام، فيجوز فيه وجهان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 أحدهما: أن يكون (وُلْد) و (وَلَد) بمعنى، كما يقال: رُشْدٌ ورَشَدٌ، وعُدْمٌ وعَدَمٌ، قال الشاعر: فليت فلانا كان في بطن أمه وليت فلاناً كان ولد حمار وقال الحارث بن حلزة: ولقد رأيت معاشراً قد أثمروا مالاً وولداً وقال رؤبة: الحمد لله العزيز فرداً لم يتخذ من ولد شيء ولدا والثاني: أن يكون الولد جمع الولد، كقولهم: أُسْدٌ وأًسَدٌ، ووُثْنٌ ووَثَنٌ، وهي لغة قريش. {ومن سورة طه } * * * قوله تعالى: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 2] . اختلف في معنى: {طه} . فقيل: هو اسم للسورة، وقيل: هو اختصار من كلان يعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: هو بالسريانية ومعناه: يا رجلاً وهو قول ابن عباس ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير. ويجوز في (طه) أربعة أوجه: أحدها: (طَهَ) بفتح الطاء والهاء والتفخيم. والثاني: (طِهِ) بإمالتها جميعاً. والثالث: (طاهي) بتفخيم الأول وإمالة الثاني. والرابع: (طهْ) بتسكين الهاء، وفيه وجهان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 أحدهما: أن يكون المعنى (طأ) ثم أبدل من الهمزة هاء، كما يقال: هرقت الماء، وهنرت الثوب وهرحت الدابة، في معنى: أرقت وأثرت وأرحت. والثاني: أن يكون على تخفيف الهمز كأنه (طَ يا رجل) كما تقول: رَ يا رجل، ثم أدخلت الهاء للوقف. وقد قرئ بهذه الوجوه كلها: فالوجه الأول: قراءة ابن كثير وابن عامر ونافع في إحدى الروايتين. والثاني: قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر وعباس عن أبي عمرو. والثالث: عن أبي عمرو، وروي عن نافع بين الإمالة والتفخيم في إحدى الروايتين. ويروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع رجله في الصلاة، فأنزل الله تعالى عليه (طَهَ) أي: طء الأرض برجلك، فهذا يقوي إسكان الهاء. * * * قوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} [طه: 29-34] . الأرز: الظهر، يقال: آزرني فلان على كذا، أي: كان لي ظهراً، ومنه المئزر لأنه يشد على الظهر. قرأ ابن عامر {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} بقطع الألف {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} بضم الألف، وقرأ الباقون بوصل الألف الأولى وفتح الثانية، فمن قرأ {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} بقطع الألف {وَأَشْرِكْهُ} بضم الألف، فالألف ألف المتكلم، وجزم؛ لأنه جواب الدعاء الذي هو {وَاجْعَلْ لِي} ، ومن وصل الألف وفتح الثانية جعله بدلاً من قوله: {وَاجْعَل لِي} ويسأل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 عن قوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي} ، أين مفعول {وَاجْعَل} ؟ وفي هذا جوابان: أحدهما: أن يكون الكلام على التقديم والتأخير، حتى كأنه قال: واجعل لي من أهلي هارون أخي وزيراً، فـ {هَارُونَ} مفعول أول، و {وَزِيرًا} مفعول ثان. وإن شئت جعلت {وَزِيرًا} مفولاً أولاً، و {لِي} مفعولاُ ثانياً، وهذا الوجه الثاني. ويجوز في هارون وجهان: أحدهما: أن يكون نصباً بإضمار فعل، كأنه قال: أعني هارون أخي، أو: استوزر لي هارون أخي؛ لأن {وَزِيرًا} يدل عليه. والثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه لما قال: واجعل لي وزيراً من أهلي، قيل له، من هذا الوزير؟ قال: هارون أخي، فهذا وجه في الرفع، إلا أن القراءة بالنصب، فإن رفع رافع من القراء فهذه وجه. ويجوز في النصب أن تضمر (أريد) كأنه قيل له: من تريد؟ قال: أريد هارون أخي. ويسأل عن قوله: {نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} [طه: 34] ؟ وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون نعتاً لمصدر محذوف، كأنه في التقدير: نسبحك تسبيحاً كثيراً ونذكرك ذكراً كثيراً. والوجه الثاني: أن يكون نعتاً لظرف محذوف تقديره، نسبحك وقتاً كثيراً، ونذكرك وقتاً كثيراً. * * * قوله تعالى: {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه: 58-59] . قوله: {مَكَانًا سُوًى} قال السُّدي وقتادة: عدل، وقال ابن زيد: مستوٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم {سُوًى} بضم السين، وقرأ الباقون بكسرها، والضم أكثر وأفصح؛ لأن (فُعَل) في الصفات أكثر من (فِعَل) وذلك نحو: حطم ولبد، فهذا أكثر من باب عدى، وقد قرئ {بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} و {طُوًى} ، والضم أفصح لما ذكرناه، ومثل ذلك: ثِنى وثُنى وعِدى وعُدى. قال أبو عبيدة: السوى النصف والوسط، قال الشاعر: وإن أبانا كان حل ببلدة سوى بين قيس عيلان والغزر و {يَوْمُ الزِّينَةِ} : يوم عيد لهم، كذا قال السُّدي وابن إسحاق وقتادة وابن جريح وابن زيد. وقيل يوم الزينة: يوم سوق لهم يتزينون فيه، وهو قول الفراء. ويسأل عن قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} كيف رفع {يَوْمُ الزِّينَةِ} ، وجعله الموعد، وإنما الموعد مصدر؟ وفي هذا وجهان: أحدهما: أن يكون على الحذف، كأنه في التقدير: يوم موعدكم يوم الزينة ثم حذف على حد قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ، وإن شئت قدرته، قال موعدكم يوم الزينة، ذم حذفت على ما قدمناه، ومثله قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] ، تقديره: مواقيت الحج أشهر معلومات، وكذلك قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] ، أي: مدة حمله وفصاله ثلاثون شهراً. والثاني: أن تجعل (موعد) ظرف زمان، فتخبر بالظرف عن الظرف، وهذا كقولهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 أتت الناقة على مضربها، أي: على زمان ضرابها، ومثله قولك: كان ذلك مغار ابن همام، وإمارة الحجاج، وخلافة عبد الملك، ومقتل الحسين وما أشبه ذلك. ويقال: جئته خفوق النجم وطلوع الشمس، فجعلوه هذه المصادر ظروفاً. وقد قرأ الحسن {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} بالنصب، وهو أيضاً على حذف، كأنه في التقدير: محل موعدكم كائن يوم الزينة، أو واقع؛ لأنه لم يعدهم في يوم الزينة، ولكنه وعدهم الاجتماع معه في يوم الزينة. وقوله تعالى: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه: 59] في موضع رفع على تقدير: موعدكم يوم الزينة. ويوم حشر الناس ضحى، وتكون (أن مع الفعل) مصدراً، ثم حذفت (يوماً) لدلالة ما تقدم عليه. ويجوز أن يكون في موضع جر، تعطفه على (الزينة) حتى كأنه في التقدير: موعدكم يوم الزينة ويوم حشر الناس ضحى. * * * قوله تعالى: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه: 63] . قال مجاهد: {بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} بأولى العقل والضرف والأنساب، وقال أبو صالح: بسراة الناس، وقال قتادة: ببنبي إسرائيل، وكانوا أولي عدد ويسار، وقال ابن زيد: طريقتكم التي أنتم عليها في السيرة. وقرأ ابن كثير {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} بتشديد النون من {هَذَانِ} وتخفيف {إِنْ} وقرأ عاصم من طريقة حفص {إِنْ هَذَانِ} بتخفيف النون وتخفيف {إِنْ} ، وقرأ أبو عمرو بتشديد {إِنَّ} ونصب {هَذَينِ} ، وقرأ الباقون {إِنْ هَذَانِ} بتشديد {إِنَّ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 ورفع {هَذَين} . فوجه قراءة ابن كثير: أنه جعل {إِنَّ} مخففة من الثقيلة، وأضمر فيها أسمها، ورفع ما بعدها على الابتداء والخبر، وجعل الجملة خبر (إن) ، هذا قول البصريين، وفيه نظر؛ لأن (اللام) لا تدخل على خبر المبتدأ إلا في ضرورة شعر، نحو قوله: أم الجليس لعجوز شهربه ترضى من اللحم بعظم الرقبه وقال الكوفيون: (إنْ) بمعنى (ما) و (اللام) بمعنى (إلاَّ) ، والتقدير: ما هذان إلا ساحران، وهذا قول جيد، إلا أن البصريين ينكرون مجئ (اللام) بمعنى (إلاَّ) . والقول على قراءة عاصم من طريق حفص كالقول على قراءة ابن كثير. فأما تشديد النون في قراءة ابن كثير ففيها وجهان: أحدهما: أن يكون تشديدها عوضاً من ألف (هذا) التي سقطت من أجل حرف التثنية. والثاني: أن يكون للفرق بين النون التي تدخل على المبهم والتي تدخل على التمكين، وذلك أن هذه النون إنما هي وجدت مشددة مع المبهم. وقد قيل: إنما شددت للفرق بين النون التي لا تسقط في الإضافة، والنون التي تسقط في الإضافة. وأما قراءة أبي عمرو: فوجهها بين: لأن (إنَّ) تنصب الاسم وترفع الخبر، إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 أنها مخالفة للمصحف، وقد قرأ بذلك عيسى بن عمر، واحتجا بأنه غلط من الكاتب، وقد روي مثل ذلك عن عائشة رضي الله عنها، رواه أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائسة، وكان عاصم الجحدري يقرأ كذلك، فإذا كتب كتب {إِنْ هَذَانِ} ، واحتجوا له بقول عثمان - رضي الله عنه -: (أرى في المصحف لحناً ستقيمه العرب بألسنتها) ، وهذان الخبران لا يصححهما أهل النظر، ولعل أبا عمرو وعيسى بن عمر وعاصماً والجحدري ما قرؤوا إلا ما أخذوه عن الثقات من السلف. وأما قراءة الجماعة: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} فذهب قوم إلى أن (إنَّ) بمنزلة (نعم) ، وأنشدوا: ولا أقيم بدار الهون إن ولا آتى إلى الغدر أخشى دونه الخمجا وأنشدوا أيضاً: بكر العواذل في الصبو ح يلمنني وألومهنه ويغلن شيب قد علا ك وقد كبرت فقلت إنه وهذا القول لا يصح عندنا لأمرين: أحدهما: أنها إذا كانت بمعنى (نعم) ارتفع ما بعدها بالابتداء والخبر، وقد تقدم أن (اللام) لا تدخل على خبر مبتدأ جاء على أصله. والثاني: أن أبا علي الفارسي قال: ما قبل (إنَّ) لا يقتضي أن يكون جوابه (نعم) ؛ لأن إن جعلته جواباً لقوله: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [طه: 62] قالوا: نعم هذان لساحران كان محالاً أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 وقيل: الهاء مضمرة بعد (إنَّ) ، وفيه أيضاً نظر من أجل دخول اللام في الخبر ولأن إضمار الهاء بعد (إنَّ) المشددة إنما يأتي في ضرورة الشعر، نحو قوله: إن من يدخل الكنيسة يوماً يلق فيها جاذراً وظباء وقيل: لما كانت (إنَّ) مشبهة بالفغل، وليست بأصل في العمل ألغيت هاهنا، كما تلغي إذا خففت، وهذ قول علي بن عيسى الرماني، وهو غير صحيح؛ لأنها لم تلغ مشددة في غير هذا الموضع، وأيضاً فإنها قد أ'ملت مخففة نحو قوله تعالى: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} [هود: 111] . في قراءة من قرأ كذلك؛ لأنها إنما عملت لشبهها بالفعل كما ذكره والفعل قد يعمل وهو محذوف، نحو: لم يك زيد قائما، ولم يخش عبد الله أحداً وما أشبه بذلك، وقد أعمل اسم الفاعل والمصدر لشبهها بالفعل، ولا يجوز إلغاؤهما، وأيضاً فإن (اللام) تمنع من هذا التأويل؛ لأن (إنْ) إذا ألغيت ارتفع ما بعدها بالابتداء و (اللام) لا تدخل على خبر المبتدأ كما قدمناه. وقيل: {هَذَانِ} في موضع نصب إلا أنه ملني لأنه حمل على الواحد والجمع وهما مبنيان، نحو: هذا وهؤلاء، وهذا أيضاً غير صحيح؛ لأنه لا يعرف في غير هذا المكان؛ لأن التثنية لا تختلف ولا تأتي إلا على طريقة واحدة، والواحد والجمع يختلفان، فجاز فيهما البناء ولم يجز في التثنية؛ لأن فيها دليل الإعراب وهو (الألف) ومحال أن تكون الكلمة مبنيه معربه في حال. وقيل: هذه الألف ليست بالأف تثنيه، وإنما هي ألف (هذا) زيدت عليها النون، وهذا قول الفراء، وهو أيضاً غير صحيح؛ لأنه لا تكون تثنية لا علم للتثنية فيها، فإن قيل: النون علم التثنية، قيل: النون لا يصح على التثنية لأنها لم تأت في غير هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 الموضع كذلك، ألا ترى أنها تسقط في نحو قولك؛ غلاماُ زيد، فلو كانت علم التثنية لم يجز حذفها، وإنما النون في قولك (هذان) عوض من الألف المحذوفة هذا قول السيرافي، وقال أبو الفتح: هذه النون دخلت في المبهم لشبهه بالتمكن وذلك لأنه يوصف ويوصف به ويصغر، فأشبه المتمكن من هذه الطريقة، ألا ترى أن المضمر لما بعد من المتمكن لم يوصف ولو يوصف به ولم يصغر. وقال الزجاج: في الكلام حذف، والتقدير: أنه هذان لهما ساحران، فحذف (الهاء) فصار: إن هذان لهما ساحران، ثم حذف المبتدأ الذي هو (هما) فاتصلت اللام بقوله: {لَسَاحِرَانِ} فصار: إن هذان لساحران، فـ {لَسَاحِرَانِ} على هذا القول خبر مبتدأ محذوف وذلك المبتدأ مع هبره عن {هَذَانِ} و {هَذَانِ} مع خبره خبر (إنًّ) ، وقد ذكرنا ما في حذف (الهاء) من القبح، وأنه من ضرورة الشعر، وأما ما ذكره من إضمار المبتدأ تخيلاً للم فتعسف لا يعرف له نظير. وأجود ما قيل في هذا أنها لغة بالحارث بن كعب؛ لأنهم يجرون التثنية في الرفع والنصب والجر مجرى واحداً، فيقولون: رأيت الزيدان ومررت بالزيدان، قال بعض شعرائهم: فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى مساغاً لناباه الشجاع لصمما وقال آخر: تزود منا بين أذناه طعنة دعته إلى هابي التراب عقيم وقال آخر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 واها لريا ثم واها واها ياليت عيناها لنا وفاها هي المنى لو أننا نلناها بثمن نرضي به أباها إن أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها وقال آخر: أي قلوص راكب نراها طاروا علاهن فطر علاها يريد: طاروا عليهن فطر عليها فأبدل الياء ألفاً. وزعم بعض المتأخرين أن هذه الألف مشبهة بألف (يفعلان) فلما لم تنقلب هذه لم تنقلب تلك، وهذا فاسد؛ ذلن هذه ضمير في حيز الأسماء وتلك علامة التثنية وهي حرف، والألف في (يفعلان) لا يصح أن تنقلب؛ لأنه لا يتعاقب عليها ما يغير معناها، لأنها لا تكون إلا فاعله أو ما يقوم مقام الفاعل وهو ما يسم فاعله، والألف في (هذان) حرف إعراب وفيه دليل الإعراب والعوامل تغير أواخر الكلم؛ لتعاورها وتعاقبها عليها. * * * قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} [طه: 77] . اليبس: المكان اليابس وجمعه أيباس. قال المفسرون المعنى اجعل لهم طريقا يابساً في البحر يعبرون فيه لاتخاف لحوقاً من عدوك ولا تخسى من هول البحر الذي انفرج لك. ومعنى قوله: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] ، أي: ما سمعتم به، وجاءتكم به الأخبار، ومثله قول أبي النجم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 أنا أبو النجم وشعري شعري أي: شعري الذي سمعت به وعلمته. قرأ حمزة {لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} ، وقرأ الباقون {دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} ، وأجمعوا على {وَلَا تَخْشَى} [طه: 77] بالألف. فتحتمل قراءة حمزة وجهين: أحدهما: أن يكون جزاءً، والثاني: أن يكون نهياً. وأما قراءة الجماعة فإنه يكون حالاً، كأنه في التقدير: وأسر بعبادي غير خائفٍ ولا خاشٍ، ومثله قراءة حمزة {يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [آل عمران: 111] . أي: ثم هم لا ينصرون، كذلك في الآية الأخرى: لا تخف وأنت لا تخشى. وقد ذهب بعضهم إلى أن {تَخْشَى} في موضع جزم بالعطف على {لَا تَخَافُ} ، وأن الألف تثبت في موضع الجزم على حد قول الراجز. إذا العجوز غضبت فطلق ولا ترضاها ولا تملق وهذا وجه ضعيف لا يحمل القرآن عليه. * * * قوله تعالى: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: 117] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 يقال: زوج وزوجة، وعلى اللغة الأولى جاء القرآن، ومن اللغة الثانية قول الشاعر: وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي كساع إلى أسد الشرى يستبيلها والظمأ: العطش، ويضحى: ينكشف إلى الشمس، قال عمر بن أبي ربيعة: رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخصر يقال: ضحى الرجل يضحي إذا برز للشمس، قال ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير: لا تعطش ولا يصيبك حر الشمس. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: لم قال: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} ، ولم يقل: فتشقيا؟ والجواب: أن المعنى على ذلك؛ لأنه خطاب له ولزوجته، إلا أنه اكتفى بذكره عن ذكرها، لأن أمرها في السبب واحد فاستوى حكمهما في استواء العلة. ومما يسأل عنه أن يقال: كيف جمع بين الجوع والعري، وبين الظمأ والضحو، والظمأ من جنس الجوع، والضحو من جنس العري؟ وعن هذا جوابان: أحدهما: أن الصحو الانكشاف إلى الشمس على ما تقدم، والحر عنه يكون، والظمأ أكثر ما يكون من شدة الحر، فجمع بينهما في اللفظ لاجتماعهما في المعنى، وكذلك الجوع والعري يتشابهان من قبل أن الجوع عري في الباطن من الغذاء، والعري ظاهر للجسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 والجواب الثاني: أن العرب تلف الكلامين بعضهما ببعض اتكالاً على علم المخاطب، وأنه يرد كل واحد منهما إلى ما يشاكله، قال امرؤ القيس: كأني لم أركب جواداً للذة ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل لخيلي كري كرة بعد إجفال وكلن حقه أن يقول: كأني لم أركب جواداً للذة، ولم أقل لخيلي كري، ولم أسبأ الزق الروي، ولم أتبطن كاعباً، كما قال يغوث: كأني لم أركب جواداً ولم أقل لخيلي كري نفسي عن رجاليا ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل لأيسار صدق أظهروا ضوء ناريا وقد تأول قول امرئ القيس على الجواب الأول، وذلك أنه جمع في البيت الأول بين ركوبين: ركوب الجواد وركوب الكاعب، وجمع في الثاني بين سباء الخمر واإغارة لأنهما يتجانسان. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: لم جاز أن تعمل (إنَّ) في (أنَّ) بفصل، ولم يجز من غير فصل؟ والجواب: أنهم امتنعوا عن ذلك كراهة للتعقيد بمداخلة المعاني المتقاربة، فأما المتباعدة فلا يقع فيها تعقيد بالاتصال؛ لأنها مبانية مع الاتصال لألفاظها، فذلك جاز {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 118-119] ، ولم يجز: إن إنك لا تظمأ فيها؛ لأنه بغير فصل. وقرأ نافع وعاصم من طريقة أبي بكر {لَا تَظْمَأُ فِيهَا} بالكسر، وقرأ الباقون بالفتح. فمن كسر عطف على {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ} [طه: 118] ، ومن فتح فيجوز فيه وجهان: أحدهما: أن يكون في موضع نصب عطفاً على اسم (إنَّ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 والثاني: أن يكون في موضع رفع على تقدير: ولك أنك لا تظمأ فيها. {ومن سورة الأنبياء } (عليهم السلام) * * * قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء: 2] يسأل عن معنى {مُحْدَثٍ} ؟ وفيه وجهان: أحدهما: أن المعنى محدث إنزاله، فحذف لدلالة الكلام عليه. والثاني: أن الذكر هاهنا الموعظة، والمعنى: ما يأتيهم ذكر، أي: موعظة محدثة إلا استمعوها وهو يلعبون. ويجوز في {مُحْدَثٍ} الرفع والجر والنصب: فالجر: بالرد على ذكر، والرفع: على موضع ذكر، والنصب على الحال. ويسأل عن موضع قوله: {الَّذِينَ} في قوله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء: 3] ظ وفيه ستة أجوبة: أحدها: أن موضعه رفع على البدل من الواو في {وَأَسَرُّوا} . والثاني: أن موضعه رفع بإضمار فعل تقديره: يقول الذين ظلموا. والثالث: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الذين طلموا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 والرابع: أن يكون رفعاً بـ: {وَأَسَرُّوا} على لغة من قال: أكلوني البراغيث. فهذه أربعة أوجه في الرفع. والخامس: أن يكون في موضع نصب بإضمار (أعني) . والسادس: أن يكون في موضع جر بدلاً من (الناس) في قوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ} [الأنبياء: 1] . وقد ذهب بعضهم إلى أنه نعت للناس. فهذه سلعة أوجه. * * * قوله تعالى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الأنبياء: 44] النقص: نقيض الزيادة، واختلف العلماء في معنى {نَنْقُصُهَا} : فقال بعضهم: ننقصها بخرابها: وقيل: بموت اهلها، وقيل ننقصها من أطرافها بما يفتح الله - عز وجل - على نبيه منها، وما ينقص من الشرك بإهلاك أهلها، وقيل: ننقصها بموت العلماء؛ لأنه من أشراط الساعة، وقد جاء في الحديث: (إن الله لا ينزع العلم انتزاعاً ولكن ينتزعه بموت العلماء فيتخذ الناس رؤوسا جهالاً فيضلون ويضلون) ، وكان يقال: الأطراف مكان الأشراف. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: ما الأصل في قوله: {أَنَّا} ؟ والجواب: أن الأصل فيها أننا، فحذفت إحدى النونات كراهة لاجتماع ثلاث نونات، والوجه أن تكون المحذوفة الوسطى؛ لأن الثالثة اسم مع الألف ولا يجوز حذفها، والأولى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 ساكنه ولو حذفتها لا لتقى مثلان فيجب إسكان الأولى وإدغامها في الثاني، فيجتمع إعلالان، والعرب تفر من مثل هذا. وقيل في قوله: {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} أن معناه: أفهم الغالبون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توبيخاً لهم، وهو قول قتادة، وقيل: من يحفظهم مما يريد الله إنزاله بهم من عقوبات الدنيا والآخرة. * * * قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] . النفش: الرعي ليللاً، هذا قول شريح، وقال الزهري: النفش: العمل بالنهار أيضاً. ومما يسأل عنه أن يقال: كيف أضاف الحكم إليهما، وإنما المتسبب في الحكم أحدهما؟ والجواب أن المعنى: إذا اسرعا في الحكم من غير قطع به، ويجوز أن يكون المعنى: إذطلبا الحكم في الحرث، ولم يبتدئا به بعد، ويجوز أن يكون داود - عليه السلام - حكم حكماً معلقاً بشرط يفعله معه. كل ذلك قد قيل. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: ما الحرث الذي حكما فيه؟ والجواب أن قتادة قال: كان زرعاً وقعت فيه الغنم ليلاً ورعته، وقال ابن مسعود وشريح: كان كرماُ قد نبتت عناقيده، قال ابن مسعود: كان داود - عليه السلام - حكم لصاحب الكرم بالغنم، فقال له سليمان - عليه السلام -: غير هذا يا نبي الله، قال: وما ذاك؟ قال: تدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا عاد الكرم كما كان دفع كل واحد منهما إلى صاحبه، وفي هذه الآية دلالة على النظر والاجتهاد. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: كيف قال: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ} وهما اثنان؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وعن هذا جوابان: أحدهما: أنه وضع الجمع موضع التثنية، والعرب تفعل ذلك وعليه قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] . قال ابن عباس: اخوان فصاعداً. وقال تعالى: {وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ} [الأعراف: 150] ، جاء في التفسير أنهما لوحان. والثاني: أن يكون أدخل معهما المحكوم لهم. والأول أولى؛ لأن المحكوم لهم، لم يحكموا وإنما حكم لهم. وداود وسليمان عطف على قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73] ، وكذلك قوله: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ} [الأنبياء: 74] ، {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ} [الأنبياء: 76] . * * * قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] . النون: الحوت، وجمعه نبنان قياساً لا سماعاً. وذو النون: يونس بن متي - عليه السلام -. قال ابن عباس والضحاك: غضب على قومه. وقيل: خرج قبل الأمر بالخروج على عادة الأنبياء عليهم السلام. ومعنى {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} أي: لن نضيق عليه، ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] . أي: ضيق، وهو وقل ابن عباس ومجاهد والضحاك، وقال تعالى: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد: 26] ، والمعنى على هذا: فطن أن لن يضيق عليه فنادي في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك. والظلمات هاهنا: ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت، وهذا قول ابن عباس وقتادة، وقال سالم بن أبي الجعد: كان حوت في بطن حوت. وقدر بعض السلف حذف حرف الاستفهام، كأنه قال: أفظن أن لن نقدر عليه، وأنكره علي بن عيسى، وقال لا يجوز حذف حرف الاستفهام من غير دليل عليه، وقال الأصمعي: ما حذفت ألف الاستفهام إلا وعليها دليل، وقد جاء حذفها على خلاف ما قال، أنذد النحويون لعمر بن أبي ربيعة. ثم قالوا تحبها قلت بهراً عدد القطر والحصى والتراب أي: أتحبها؟ وروي عن الشعبي وسعيد بن جبير أنهما قالا: خرج مغاضباً لربه، وهذا لقول مرغوب عنه، ولا يجوز مثل هذا على نبي من أنبياء الله تعالى، وقال بعضهم: غضب لما عفا الله عنهم إذا آمنوا، وهذا القول أيضاً لا يصح؛ لأنه يؤدي إلى الأعتراض على الله تعالى فيما فعله، وأنشد من هذا ما رواه بعضهم من أن المعنى في قوله: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} ظن أننا تعجز عنه، وهذا كفر، فمن ظن أن الله تعالى لا يقدر عليه، لا يجوز هذا كله على أنبياء الله تعالى. وفي هذه الآية دلالة على أن الصغائر تجوز على الأنبياء - علبهم السلام، وهم معصومون عن الكبائر، ومعصومون عن الكبائر والصغائر في حال الرسالة. وكان بقاء يونس - عليه السلام - في بطن الحوت حياً معجزة له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 وقيل في قوله: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} معناه: من الظالمين لنفسي في خروجي عن قومي قبل الإذن. ومغاضب: اسم الفاعل من غاضب، و (فاعل) في غالب الأمر إنما يكون من اثنين، نحو: قاتلته وضاربته، إلا أن (مغاضباً) هاهنا من باب: عاقبت اللص وعافاه الله وطارقت النعل. وما أشبه ذلك في أنه من واحد. * * * قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] . قال ابن عباس: حصب جهنم وقودها، وقال مجاهد: حطبها، وقال الضحاك: يرمون فيها كما يرمى بالحصباء، وقيل: الحصب كل ما ألقي في النار. حدثني أبي عن عمه إبراهيم بن غالب عن القاضي منذر بن سعيد عن أبي النجم عصام بن منصور عن أبي بكر عبد الله بن عبد الرحيم حدثنا أبو محمد عبد الملك ابن هشام حدثنا زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق قال: جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معه، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أفحمه ثم تلا عليه وعليهم: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} ، ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقبل عبد الله ابن الزبعري حتى جلس، فقال له الوليد ابن المغيرة: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفاً ولا قعد، وقد زعم محمد أنَّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال عبد الله بن الزبعرى: والله لو وجدته لخصمته، فاسألوا محمداً، أكلُّ ما نعبد من دون الله في جهنم مع من عبده، فنحن نعبد الملائكة واليهود تعبد عزيزاً والنصارى تعبد عيسى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 ابن مريم - عليه السلام -، فعجي الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعرى، ورأوا أنه قد احتج وخاصم، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال - عليه السلام - (من أحب أن يعبد من جون الله فهو مع من عبده في النار، إنما يعبدون الشياطين ومن أمرتهم بعبادته) . فأنزل الله تعالى عليه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء: 102] . أي: عيسى وعزيز ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله فاتخذتهم من يعبدهم من أهل الضلالة أرباباً من دون الله، فنزل فيما ذكروا لأنهم يعبدون الملائكة وأنهم بنات الله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] إلى قوله: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 29] ، ونزل فيما ذكر من أمر عيسى - عليه السلام - وأنه يعبد من دون الله، وعجب الوليد ومن حضر من حجة عبد الله الزبعرى وخصومته {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57] ، أي: يصجون عن أمرك، ثم ذكر عيسى، فقال: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف: 59] ، إلى آخر القصة، قال أبو ذؤيب في الحصب: فأطفئ ولا توقد ولا تك محصبا لنار العداة أن تطير شكاتها * * * قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104] . الطي: نقيض النشر. واختلف في السجل: فقيل: الصحيفة تطوى على ما فيها من الكتابة، وهو قول ابن عباس ومجاهد. وقال ابن عمرو والسدي: السجل ملك يكتب أعمال العباد. وروي عن ابن عباس من جهة أخرى أن السجل كاتب كان للنبي - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 قرأ عاصم وحمزة من طريقة حفص والكسائي {لِلْكُتُبِ} وقرأ الباقون {لِلْكتَبِ} . ويختلف حكم (اللام) في قوله: (للكتاب) و (للكتب) بقدر اختلاف العلماء في معنى (السجل) : فعلى مذهب من جعل (السجل) ملكاً وكاتباً فـ (اللام) يتعلق لنفس (طي) ؛ لأن الكتب مفعولة في المعنى، وذلك أن التقدير: كما يطوي السجل الكتاب أو الكتب، وهذا القول: كضرب زيد لعمرو وأما على مذهب من جعل (السجل) الصحيفة فتحتمل (اللام) وجهين: أحدهما: أن يكون الكتاب بمعنى الكتابة، والنقدير: يوم نطوي السماء كطي السجل للكتابة التي فبه، أي: من أجلها؛ ليصونها الطي، وهذا كما تقول: فعلت ذلك لعيون الناس، أي: من أجل عيون الناس. والثاني: أن تعلقها بـ: {نَطْوِي} فيكون التقدير: يوم نطوي السماء للكتاب السابق بأنها تطوى كطي السجل، أي: كطي الصحيفة على ما فيها. {ومن سورة الحج } * * * قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1] . الزلزلة: شدة حركة الأرض، وزعم بعضهم: أن الأصل في (زلزل) : زل، فضوعف للمبالغة، وأهل البصرة يمنعون من ذلك يقولون (زل) ثلاثي، و (زلزل) رباعي، وإن اتفق بعض الحروف في الكلمتين؛ لأنه لا يمتنع مثل هذا، ألا ترى أنهم يقولونه: دمث ودمثر، وسبط وسٍ بطرٌ، وليس أحدهما مأخوذاً من الآخر، وإن كان معناها واحداً؛ لأن الزاي ليست من حروف الزيادة. والساعة: كناية عن القيامة. والعظيم: نقيض الحقير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 والذهول: الذهاب عن الشيء دهشاً وحيرة، قال الشاعر: صحا قلبه يا عز أو كاد يذهل والحمل: بفتح الحاء، ما كان في البطن، والحملك بالكسر ما كان على ظهر أو رأس، أما ما كان على الشجرة فقد جاء فيه الفتح والكسر: فمن فتح فلظهوره عن الشجرة بالماء الذي يصيبها كظهور ما يكون على الظهر أو الرأس. قال الشعبي وعلقمة: الزلزلة من أشراط الساعة في الدنيا، وروى الحسن في حديث يرفعه: أن زلزلة الساعة يوم القيامة. قال الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام، وتضع ما في بطنها لغير تمام، وتراهم سكارى من الفزع وما هم بسكارى من شرب الخمر. والفرق بين المرضع والمرضعة: أن المرضع التي أرضعت وانقطع رضاعها، والمرضعة هي التي ترضع ولم ينقطع رضاعها. قال امرؤ القيس في المرضع: فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع فألهيتها عن ذي تمائم محول وإنما خصت التي في حال رضاعها بظهور التأنيث فيها؛ لأنه جار على الفعل، نحو: أرضعت فهي مرضعة، والثاني إنما هو على طريق النسب، أي: ذات رضاع، ويقال: رَضَاعٌ ورِضَاع ورَضاعةٌ ورِضَاعىٌ، ويقال: رضع بكسر الضاد وهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 الفصحى، ويقال: رضع بالفتح، وينشد هذا البيت على اللغتين: وذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها أفاويق حتى ما يدر لها ثعل ويقال: سُكارى وسَكارى وهو الباب. وقرأ بعضهم {سَكْارَى} شبهه بصريع وصرعى؛ ذلك أن السكران مشرف على الهلكة، وباب (فعلى) موضوع لهذا نحو: قتلى وصرعى وزمنى وهلكى. وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} : يا: حرف نداء، وهو نائب عن الفعل الذي هو (أدعو) و (أنادي) ، واختلف قول أبي علي فيه: فمرة جعل فيه الضمير الذي كان في (أدعو وأنادي) ، ومرة قال لا ضمير فيه، وهو الوجه؛ لأن الحروف لا يضمر فيها. وأي: منادى مفرد مبني على الضم، وكذا حكم كل منادى مفرد معرفة. وإنما بني لأنه أشبه المضمر من ثلاث جهات: أحدها: أنه مخاطب، والمخاطب لا يكون إلا مضكراً (كافاً) أو (تاء) . والثانية: أنه معرفة كما أن المضمر لا يكون إلا معرفة. والثالثة: أنه مفرد أي مضاف، كما أن المضمر لا يضاف. فمتى سقطت واحدة من هذه الخصال أعرب المنادى. و (ها) : عوض من قطع الإضافة عن (أي) ؛ لأنها لا تكون أبداً في غير هذا الموضع إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 مضافة لفظاً أو معنى؛ لأنها تدل على بعض الشيء، وبعض الشيء مضاف إلى جميعه. واشتقاقها من (أويت) ، ففعلوا بها ما فعلوا بـ: (طيَّ) و (لي) ، وأصلها (طوي) و (لوي) ، وكذا الأصل في (أي) (أوي) ، والاشتقاق في الأسماء المبهمة عزيز لا يكاد يوجد منه إلا حروف يسيرة لإيغالها في شبه الحرف، والحرف غير مشتق نحو: من وإلى وهل وما أشبه ذلك و {النَّاسُ} نعت لـ (أي) لا يستغنى عنه؛ لأنه المنادى في المعنى، وإنما جاءوا بـ: (أي) ليتوصلوا بها إلى نداء ما فيه الألف واللام، وكان أبو الحسن الأخفش يقول في (الناس) وما يجري مجراه: هو صلة لـ (أي) . وأجمع النحويون على الرفع في {النَّاسُ} إلا المازني، فإنه أجاز النصب وشبهه بقولك: يا زيد الظريف، حمله على (أي) ، وهذا غير مرض منه؛ لأن (الظريف) نعت يستغنى عنه، وليس كذلك (الناس) . و (الألف واللام) في (الناس) للعهد، وقيل للجنس، وتأول على قول سيبويه: أنهما بدل من الهمزة؛ لأن الأصل (أناس) فحذفت الهمزة، وجعلت (الألف واللام) عوضاً منها، وقال الفراء: الأصل (الأناس) فألقيت حركة الهمزة على (اللام) وحذفت، فصار (الناس) فاجتمع المتقاربان فأسكن الأول وأدغم في الثاني، وقال الكسائي: يقال يا ناس وأناس، فالألف واللام دخلتا على (ناس) . فمن قال: (أناس) أخذه من الأنس أو الإنس، وهو (فعال) ، ومن قال: (ناس) أخذه من ناس ينوس غذا ذهب وجاء، ومنه قيل: ذو نواس لذؤابة كانت عليه، ويجوز أن يكون من ناس في المكان إذا قام فيه، وإن كان (الناووس) عربياً كان مشتقاً من هذا، وقال ابن الأنباري هو من (نسيت) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 والأصل فيه (نسي) ثم قلب فصار (نيساً) فقلبت الياء ألفاً؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، فقيل: (ناس) ، ويبطل هذا بقول العرب في تصغيره (نويس) ولو يقولوا (نييس) ولا (نسي) . والعامل في {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} [الحج: 2] {تَذْهَلُ} [الحج: 2] أي: تذهل كل مرضعة عما أرضعت وفي يوم ترونها. * * * قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} [الحج: 4] . الهاء في {عَلَيْهِ} تعود إلى الشيطان. ويسأل عن قوله: {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} [الحج: 4] ، لم فتحت (أنَّ) ؟ وفيه جوابان: أحدهما: أنه عطف على الأولى للتوكيد، والمعنى: كتب عليه أنه من تولاه يضله، وهذا قول الزجاج، وفيه نظر؛ لأن الأكثر في التوكيد إسقاط حرف العطف، إلا أنه لا يجوز كما يجوز (زيد) فأفهم في الدار. والثاني: أن يكون المعنى: فلأنه يضله. * * * قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج: 11] الحرف: الطرف، والطمئنان: التمكن، والفتنة: هاهنا: المحنة، والانقلاب: الرجوع، والخسران: ضد الربح. والمولى في الكلام على تسعة أوجه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 المولى: السيد، والمولى: العبد، والمولى: المنعم، المولى: المنعم عليه، والمولى: ابن العم، والمولى: واحد الموالي وهم العصبة، والمولى: الوليُّ، والمولى: الصهر، والمولى: الأولى، من قوله تعالى: {اللَّهِ مَوْلَاهُمُ} [الأنعام: 62] أي: أولى بهم، والمولى: الحليف. وقيل المولى هاهنا: الولب والناصر، والعشير: الصاحب المعاشر. قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج: 11] ، أي: شاكاً، وأصل الحرف: الطرف، ومن كان متطرفاً لم يطمئن ولم يثبت وكذلك هذا إنما عند الله على ضعف في العبادة كضعف القائم على حرف؛ لأنه لم يتمكن في الدين. فصل: ويسأل عن قوله تعالى: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} [الحج: 13] ، لم دخلت هذه (اللام) هاهنا، وأنتم لا تجيزون: ضربت لزيداً؟ وفي هذا للعلماء ثلاثة أجوبة: أحدها: أن في الكلام حذفاً، تقديره: يدعو والله لمن ضره أقرب من نفعه، فاللام على هذا جواب القسم المحذوف. وجواب ثان: وهو أن اللام في موضعها، وفي الكلام تقديم وتأخير، والأصل: يدعو من لضره أقرب من نفعه، وهذا أن {يَدْعُواْ} معلقة؛ لأنها الذي ضره أقرب من نفعه يدعو، ثم حذفت (يدعو) الأخيرة للاجتزاء بالأولى منهما، ولو قلت: يضرب لمن خيره أكثر من شره يضرب، فحذفت الأخير لجاز، والعرب تقول: عندي لما غيره خير منه، كأنه قال: للذي غيره خير منه عندي، ثم حذف الخبر في الثاني والابتداء من الأول، كأنه قال عندي شيء غيره خير منه، وعلى هذا قالوا: أعطيتك لما غيره خير منه، على حذف الخبر. وقيل: المعنى لمن ضره أقرب من نفعه لا يجب لأن يدعى، قـ (منْ) على هذا القول والقول الذي قبله مبتدأ، والخبر محذوف، وعلى قول المبرد يكون موضعها نصباً بـ: (يدعو) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وقد قيل: اللام زائدة. * * * قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] يسأل عن قوله: {خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} ، كيف ثنى ثم جمع؟ والجواب: أنه يراد بالخصمين هاهنا الفريقان من المؤمنين والكافرين اختصموا في يوم بدر، وهذا قول أبي ذر، وقال ابن عباس: الخضمان أهل الكتاب وأهل القرآن، وقال الحسن ومجاهد وعطاء: المؤمنون والكافرون، وهذا كقول أبي ذر إلا أن هؤلاء لم يذكروا يوم بدر. ويجوز في الكلام: هذان خصم اختصموا، وهؤلاء خصم اختصموا، قال الله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21] ، وذلك أن الخصم مصدر يقع على الواحد والاثنين والجماعة من المذكر والمؤنث، وهكذا حكم المصادر إذا وصف بها أو أخبر بها، نحو: عدل ورضا وصوم وفطر وزور ودنف وحري وقمن وما أشبه ذلك. وقيل: كان أحد الخصمين (حمزة) مع قوم من المؤمنين خاصموا قوماً من أهل بدر من المشركين. * * * قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27] . الأذان: الإعلام، وأصل الحج: القصد، والضامر: المهزول، والفج: الثنية، والعميق: البعيد. والأيام المعلومات: عشر ذي الحجة، فأما المعدودات: فأيام التشريق، هذا قول الحسن وقتادة، وسميت هذه معدودات لقلتها، وسميت تلك معلومات للحرص على علمها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 بحسابها من أجل الحج في آخرها. والبهيمة: أصلها من الإبهام؛ وذلك أنها لا تفصح كما يفصح الحيوان الناطق. والأنعام: الإبل خاصة، واشتقاقها من النعمة، وهي (اللين) سميت بذلك للين أخفافها؛ لأنها ليست كذوات الحافر، وقد يجتمع معها البقر والغنم، ويسمى الجميع أنعاماً اتساعاً، فإن انفردا لم يسميا أنعاماً. والبائس: الذي به ضر الجوع، والفقير: الذي لا شيء له، كأن الحاجة فقرت ظهره، أي: كسرت فقاره، وفقار الظهر: الخرز التي تكون فيه، يقال: فقارة وفقار وفقرة وفقر. والتفث: مناسك الحج كلها، وهذا قول ابن عباس وابن عمر، وقيل: التفث: كشف الإحرام وقضاؤه كحلق الرأس والاغتسال. وقيل للبيت (عتيق) ؛ لأنه أعتق من أن يملكه الجبابرة، وهو قول مجاهد. وقيل: لأنه قديم، وهو أول بيت وضع للناس بناه آدم - عليه السلام -، وجدده إبراهيم - عليه السلام -، وهو قول ابن زيد وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - هو أول بيت وضعت فيه البركة. والطواف هاهنا طواف الإفاضة بعد التعريف إما يوم النحر وإما بعده وهو طواف الزيارة. ويسأل عن قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} ، علام يعود الضمير؟ وفيه جوابان: أحدهما: أنه يعود على (إبراهيم) قال ابن عباس: قام في المقام فقال: يا أيها الناس إن الله دعاكم إلى الحج، فأجابوا بلبيك اللهم لبيك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 وقال الحسن: الضمير يعود على النبي - عليه السلام -، أي: وأذن يا محمد في الناس بالحج، فأذن في حجة الوداع. وقوله: {يَأْتُوكَ رِجَالًا} ، أي: مشاة على أرجلهم، وهو جمع (راجل) ، كصاحب وصحاب، يدل على ذلك قراءة من قرأ {يَأْتُوكَ رِجَالًا} . {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} : أي على جمع ضامر، أي مهزول من السفر، وقال {يَأْتُين} ؛ لأن كل ضامر في معنى الجمع، والجمع مؤنث، ويجوز أن يعنى بالضامر هاهنا الناقة، لأنه يقال: ناقة ضامر وضامرة وقد قرأ بعضهم {يَأْتِونَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} ، حمل على المعنى: أي: يأتي ركاب كل ضامر من كل فج عميق. قرأ الكسائي {ثُمَّ لْيَقْضُوا} [الحج: 29] بإسكان اللام، وهذه القراءة فيها بعد عند البصريين من جهة إسكان (اللام) ؛ لأن هذه (اللام) أصلها الكسر، وإنما تسكن إذا وقع قبلها حرف يتصل بها كالواو والفاء كما يفعل بـ: (هو) إذا اتصلتا به، نحو: فهو وهو وما أشبه ذلك، فهذا مشبه بعضد في عضد، و (اللام) معها في نحو: فليقم وليخرج مشبهة بفخذ في فخذ وليست (ثم) مالفاء والواو؛ لأنه حرف قائم بنفسه يحوز الوقوف عليه، ولا يجوز الوقوف على الواو والفاء، إلا أن أبا علي اعتذر له بأن قال: (ثم) على ثلاثة أحرف ساكنة الأوسط فكأنه وقف على الميم الساكنة المدغمة ثم ابتدأ (ليقضوا) . فأما في قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا} {ولْيُوفُوا} وما أشبه ذلك فإسكان اللام حسن جميل، وكسرها جائز على الأصل، وكسر اللام في قوله: (ثُمَّ لْيَقْضُوا) أقيس، والإسكان يجوز على الوجه الذي ذكره أبو علي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 قوله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج: 45] . خاوية: خالية، وعروشها: سقوفها، هذا قول الضحاك، والمشيد: المجصص وهو المبني بالشيد وهو الحجارة والجيار، قال قتادة: مشيد رفيع، قال عدي بن زيد: شاده مرمراً وجلله كِلـ ... ساً فللطيرِ في ذَراهُ وكُورُ وقال آخر: كحية الماء الطي والشيد وقد عاب قوم من الملحدة قوله تعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} وقالوا: ما الفائدة في ذكر: بئر معطلة وقصر مشيد، وأبدوا فيه وأعادوا، وهذا لجهلهم بجوهر الكلام وغامض المعاني وإشارة البلاغة؛ لأن الله تعالى ذكر هذا وما أشبهه على طريق العظة ليعتبر بذلك، ألا تراه تعالى قال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج: 46] ، يريد: لو ساروا لرأوا آثار قوم أهلكهم وأبادهم، ومازالت العرب تصف ذلك في خطبها ومقامتها، يروى عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه كان يقول في خطبته: (أين بانو المدائن ومحصنوها بالحوائط، أين مشيدو القصور وعامروها، أين جاعلو العجيب فيها لمن بعدهم، تلك منازلهم خاوية، وهذه منازلهم في القبور خالية {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98] ) وكان سلمان إذا مر بخراب قال: يا خرب الخربين أين أهلك الأولون؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 قال الأسود بن يعفر: ماذا أؤمل بعد آل محرق تركوا منازلهم وبعد إياد أرض الخورنق والسدير وبارق والقصر ذي الشرفات من سنداد أرضاً تخيرها لدار أبيهم كعب بن مامة وابن أم دؤاد جرت الرياح على مكان ديارهم فكأنما كانوا على ميعاد نزلوا بأنقرة يسيل عليهم ماء الفرات يجيء من أطواد فإذا النعيم وكل ما يلهى به يوماً يصير إلى بلى ونفاد ويروى عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه سمع رجلاُ ينشد هذه الأبيات فتلا: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان: 25-28] . فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: علام عطف {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج: 45] ؟ وفيه جوابان: أحدهما: أن يكون معطوفاً على قرية، فيكون المعنى: إهلاك القرية والبئر المعطلة والقصر المشيد. والثاني: أن يكون معطوفاً على عروشها، فيكون المعنى: وكم من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وعلى البئر [بئر] معطلة وقصر مشيد. قال المفسرون: تهدمت الحيطان على السقوف وتعطلت بئرها وقصرها المشيد. والبئر: مؤنثة، وجمعها: آبار وأبور في القلة، وفي الكثرة: بئار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52] . التمني في الكلام على ثلاثة أضرب: أحدها: التلاوة وشاهده الآية، وقال الشاعر: تمنى كتاب الله أول ليلة وآخرها لاقى حمام المقادير والثاني: ما يتمناه الإنسان من الأماني. والثالث: الكذب ومنه قول عثمان: (والله ما تمنيت منذ أسلمت) ، ومر أعرابي بابن داب وهو يحدث، فقال له: أهذا شيء سمعته أم تمنيته. والأمنية في الآية: التلاوة، قال ابن عباس والضحاك وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب ومحمد بن قيس: نزلت هذه الآية لما تلا النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لترجى) ، وكان هذا من إلقاء الشيطان. ومما يسأل عنه أن يقال: كيف جاز عليه الغلط في تلاوته؟ وفيه جوابان: أحدهما: أنه كان على سبيل السهو الذي لا يعرى منه بشر، فنبهه الله تعالى على ذلك. والثاني: أنه إنما قاله في تلاوة بعض المنافقين عن إغواء الشيطان، فأوهم أنه من القرآن. وقوله: {مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [الحج: 52] في موضع نصب، والمعنى: ما أرسلنا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 قبلك رسولاً ولا نبياً، و (من) زائدة، ومثله {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6] ، أي: خيلاً ولا ركاباً. * * * قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج: 63] . اللطيف: المحيط بتدبير دقائق الأمور، الذي لا يخفى عليه شيء يتعذر على غيره، فهو لطيف لاستخراج النبات من الأرض بالماء، وابتداع ما يشاء، وقيل: اللطيف الذي يلطف بعباده من حيث لا يحتسبون. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: بم ارتفع {فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج: 63] وقبله استفهام، وهلا انتصب على حد قولك: أفتأتني فأكرمك؟ والجواب: أنه خبر في المعنى، وإن خرج مخرج الاستفهام، كأنه قال: قد رأيت أن الله تعالى ينزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة، وهو تنبيه على ما قد كان رآه ليتأمل ما فيه. قال الشاعر: ألم تسأل الربع القواء فينطق وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق ومعناه: سألته فنطق، وإن شئت قلت معناه: فهو ينطق، وكذا في الآية: فهي تصبح. {ومن سورة المؤمنين } * * * قوله تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} [المؤمنين: 20] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 طور سناء: جبل الشام، وهو الذي نودي موسى - عليه السلام -، وقال ابن عباس ومجاهد: معناه جبل البركة، وقال الضحاك وقتادة: معناه الحسن، وقال ابن الرماني: يجوز أن يكون رفيعاً من (السناء) ، وفي هذا القول نظر؛ لأنه جعله (فيغالاً) ، نحو: ديماس، وهذا الوزن منصرف، وسيناء غير منصرف، إلا أن للمحتج له أن يقول: جعل اسما للبقعة وهو معرفة؛ فلم ينصرف لذلك، ولا يجوز أن تكون همزته للتأنيث؛ لأن همزة التأنيث لا تدخل فيما كان على هذه البنية: مما لأوله مكسور، وإنما يكون هذا البناء ملحقاً نحو: علباء وزيزاء وما أشبه ذلك، ولا يوجد في الكلام مثل: حمراء بكسر الحاء، وهذا على قراءة نافع وأبي عمرو وابن كثير؛ لأنهم قرؤوا بكسر السين، وقرأ الباقون بفتح السين، فعلى هذا يجوز أن تكون همزته للتأنيث فيكون (سيناء) مثل (بيضاء) ، وفيه لغة أخرى وهي: طور سنين، وجاء القرآن باللغتين. والأطوار: جبال بالشام طور سيناء وطور زيتاء وهما بأرض بيت المقدس. وقرأ أبو عمرو وابن كثير {تَنْبُتُ} بضم التاء، وقرأ الباقون بفتحها. واختلف في هذه (الباء) : فقال قوم: يقال (نبت) و (أنبت) بمعنى، وأنشد الأصمعي لزهير: رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطيناً بها حتى إذا أنبت البقل فالباء على هذا لتعدي الفعل. وقيل: الباء زائدة، والمعنى: تنبت الدهن كما قال الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 نحن بنو جعدة أرباب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج أي: نرجو الفرج. وقيل: (الباء) ليست بزائدة، والمفعول محذوف و (الباء) في موضع نصب على الحال تقديره: تنبت ثمرها بالدهن، أي: وفيه الدهن، كما قال الشاعر: ومستنة كاستنان الخرو ف قد قطع الحبل بالمرود أي: وفيه المرود. فهذا على مذهب من ضم (التاء) ، فأما من فتحها فيجوز وجهان: أحدهما: أن تكون للتعدي على حد قولك: ذهبت بزيد، وأنت تريد: أذهبت زيداً فكأنه في التقدير: تنبت الدهن، ومثله: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} [القصص: 76] ، أي: تنيء العصبة، وليس قول أبي عبيدة إنه مقلوب، وإن المعنى فيه: ما إن مفاتحه لتنوء العصبة بها بشيء لأن هذا القلب إنما يقع من الضرورة نحو قول الشاعر: كانت فريضة ما أتيت كما كان الزناء فريضة الرجم وكذا قوا امرئ القيس: يضيء الفراش وجهها لضجيعها كمصباح زيت في قناديل ذبال أي: في ذبال قناديل: والثاني: ان تكون (الباء) في موضع نصب على الحال، والتقدير: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 تنبت وفيها الدهن، أي: تنبت دهنه، ومثله، خرج بثيابه، والمعنى: خرج لابساً ثيابه، وهو في الكلام كثير. * * * قوله تعالى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [المؤمنون: 36] . معنى هيهات: بعد، والتقدير: بعداً لما توعدون، وهو صوت مثل: صه ومه، وهذه الأصوات إنما تأتي في الأغلب في الأمر والنهي، إلا أن هذا جاء في الخبر، ونظيره (شتان ماهما) أي: بعد بعضهما من بعض جداً. وهذه الأصوات كلها مبنية لإيغالها في شبه الأفعال، وإنما جعلت هكذا للإفهام بها كما تفهم البهيمة بالزجر. قال ابن عباس: المعنى في (هيهات) بعد بعيد، والعرب تقول: هيهات لما تبغي وهيهات منزلك، قال جرير: فأيهات أيهات العقيق ومن به وأيهات خل بالعقيق نواصله ويقال هيهات وأيهات، وفي (هيهات) لغات: منهم من يقول: هيهات على أنه واحد، واختلف في الوقف عليها، فاختار الكسائي الوقف بالهاء؛ لأن التاء زائدة، واختار الفراء الزقف بالتاء، لأن قبلها ساكناً فصارت كتاء (بنت) و (أخت) . والثاني: أن من العرب من يقول: هيهاتُ هيهاتُ بالضم. والثالث: أن منهم من يقول: هيهاتِ بالكسر. والوقف على هذين الوجهين بالتاء؛ لأنها بمنزلة التاء في مسلمات، وهي (تاء) جمع، وليس (هيهات) على هذه اللغة واحداً. ومن العرب من ينون فيقول: هيهاتاً، وهيهاتٌ، كذلك قال الزجاج وغيره. والفرق بين التنزين وحذفه: أن من نون جعل هذه الأسماء نكرة، ومن لم ينون جعلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 معرفة؛ والتنوين يدخل في الأصوات للفرق بين المعرفة والنكرة، نحو: إيِه وإيٍه، وغاقِ وغاقٍ في حكاية صوت الغراب، وكذلك: ماءِ ماءٍ في حكاية صوت الشاء. ومن العرب من يقول: هيهاهِ هيهاهِ بالهاء. وموضع {لِمَا تُوعَدُونَ} رفع؛ أن المعنى: بعد ما توعدون. * * * قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} [المؤمنون: 44] معنى تترى: يتبع بعضهم بعضاً، كذا قال ابن عباس ومجاهد وابن زيد. وأصلها من (المواترة) ، وكان قبل العلب (وترى) فأبدل من الواو تاء؛ لأن التاء أجلد من الواو وأقوى، كما فعلوا في: تخمة وتمة لأنهما من الوخامة والوهم، وكذلك تجاه وتراث وتولج وما أشبه ذلك. والعرب تختلف في (تترى) : فمنهم من ينونها فيقول {تَتْراً} وهي قراءة أبي عمرو وابن كثير، والألف على هذا الإلحاق بمنزله (علقى) الملحق بجعفر، و (أرطا) في أحد القولين. والأصل (تَتْرَيٌ) فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ومن كانت هذه لغته لم يمل. ومنهم من يقول: (تترى) بغير تنوين، يجعل الألف للتأنيث، وبذلك قرأ الباقون، ومنهم من يميل؛ لأنها ألف تأنيث بمنزلة الألف التي في غضبى وسكرى، ومنهم لا يميل على الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] الطيبات هاهنا: الحلال، وقيل: الطيبات ما يستلذ، فعلى الوجه الأول يكون أمراً واجباً، وعلى الثاني يكون أمراً على طريق الإباحة. والأصل في (كلوا) (أؤكلوا) ، فكره اجتماع همزتين، فحذفت الثانية استثقالا لها؛ لأن الثقل بها وقع، فوليت همزة الوصل متحركا فحذفت للاستغناء عنها. واختلف في قوله: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ} [المؤمنون: 51] : فقيل: هو خطاب لعيسى - عليه السلام -، وهو خطاب لواحد، كما تخاطب الواحد مخاطبة الجمع: نحو قولك للواحد: يا أيها القوم كفوا عنا أذاكم. وقيل هو للحكاية لما قيل لجميع الرسل. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: ما موضع (إِنَّ) من قوله: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون: 52] ؟ وفيها جوابان: أحدهما: أ، موضعها نصب، والتقدير: ولأن هذه أمتكم، فهي مفعول له. والثاني: أن موضعها جر على العطف على قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ} [المؤمنون: 51] . وفي قوله: {وَأَنَا رَبُّكُمْ} [المؤمنون: 52] تقوية لقول سيبويه في قوله: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] ، وعطفه على موضع {أَنَّ} ، وموضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 الدليل من هذه الآية: أن {أَنَاْ} من ضمائر الرفع، وقد عطفه على {أَنَّ} على مذهب من جعلها في موضع نصب. ونصب {أُمَّةً وَاحِدَةً} على الحال، والكوفيون يسمون الحال (قطعاً) ، وربما قالوا: نصب على الاستثناء. واختلف في الأمة هاهنا: فقيل: الأمة الملة، وهوقول الحسن وابن جريج، أي: دينكم دين واحد، والأمة قد تقع على الدين، نحو قوله: {وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] أي: على دين. قال النابغة: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع وقيل: الأمة هاهنا الجماعة، والمعنى: جماعتكم جماعة واحدة في الشريعة، والجماعة تسمى أمة. نحو قوله تعالى: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص: 23] . والأمة في غير هذا المكان: الحين، ومنه: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] . والأمة: الرجل العالم المنفرد، نحو قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] . والأمة: القرن من الناس وغيرهم، نحو قوله تعالى: {أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38] . والأمة: القامة، نحو قول الشاعر: وإن معاوية الأكرمين حسان الوجوه طوال الأمم * * * قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 اختلف في {اسْتَكَانُوا} : فقيل: هو (استفعل) من الكون، والمعنى: ما طلبوا الكون على صفة الخضوع. وقيل: هو من (السكون) ، إلا أن الفتحة أشبعت فنشأت منها ألف، فصار (استكانوا) ، وهو على هذا القول (افتعلوا) ، أي: استكنوا، قال الشاعر في إشباع الفتحة: فأنت من الغوائل حين ترمى ومن ذم الرجال بمنتزاح أي: بمنتزح، وقال عنترة: ينباع من ذفرى غضوب جسرة زيافة مثل الفنيق المكرم يريد: ينبع، فأشبع الفتحة على ما قدمنا. * * * قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99] . يسأل: لم جاز {ارْجِعُونِ} بلفظ الجمع؟ وفيه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه استغاث أولا بالله تعالى واستعان به، ثم رجع إلى مسألة الملائكة في الرجوع إلى الدنيا هذا القول رواه ابن جريج. والثاني: أن العظماء يخبرون عن أنفسهم كما تخبر الجماعة، فخوطبوا كما تخاطب الجماعة. والثالث: أنه جمع الضمير ليدل على التكرار، فكأنه قال: رب ارجعن ارجعن ارجعن، وهذا قول المازني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 {ومن سورة النور } * * * قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: 1] . في (السورة) للعلماء أقوال: أحدها: أنها مأخوذة من سور البناء، وهي ارتفاعه، وقيل: هو ساف من أسوافه، فعلى القول الأول تكون تسميتها بذلك لارتفاعها في النفوس، وعلى القول الثاني تكون تسميتها بذلك لأنها قطعة من القرآن. وقيل: السورة الشرف والجلالة، قال النابغة. ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب فإنك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهم كوكب وقيل: أصلها الهمزة واشتقاقها من (أسأرت) إذا أبقيت في الإناء بقية، ومنه الحديث: (إذا شربتم فأسئروا) ، إلا أنه اجتمع على تخفيفها كما اجتمع على تخفيف (برية) و (روية) وهما من: برأ الله الخلق وروأت في الأمر. وأصل الفرض: الحز، ثم اتسع فيه فجعل في موضع الإيجاب. والرأفة: التحنن والتعطف، يقال: رأفة ورآفة. والطائفة هاهنا: رجلان فصاعداً، وهو قول عكرمة، وقيل: ثلاثة فصاعداً، وهو قول قتادة والزهري، وقيل: أقله أربعة، وهو قول ابن زيد. واختلف في قوله: {فَرَضْنَاهَا} : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 فقيل: معناه فصلنا فيها فرائض مختلفة، كما تقول: فرضت له كذا، أي جعلت له نصيبا منه. وقيل: أوحيناها عليكم وعلى من بعدكم إلى يوم القيامة. فصل: ومما يسأل عنه قوله: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3] ؟ وفي هذا أجوبة: أحدها: أنها نزلت على سبب. وهو أن رجلا من المسلمين استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن يتزوج (أم مهزول) ، وهي امرأة كانت تسافح ولها راية على بابها تعرف بها، فنزلت هذه الآية، وهذا قول عبد الله بن عباس وابن عمر، قال مجاهد والزهري وشعبة وقتادة والشعبي: حرم الله تزويج أصحاب الرايات. والثاني: أن النكاح هاهنا الجماع، والمعنى: أنهما اشتركا في الزنا فهي مثله، وهذا قول الضحاك واين زيد وسعيد بن جبير، وروي مثل ذلك عن ابن عباس في أحد قوليه. والثالث: أن هذا الحكم كان في كل زان وزانية ثم نسخ بقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] ، وهو قول سعيد بن جبير، ووجه هذا: أن يكون قوله: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} [النور: 3] خبرا وفيه معنى التحذير، فكأنه نهي في المعنى، ثم نسخ؛ وإنما احتيج إلى هذا التأويل من قبل أن النسخ لا يصح في الأخبار، وإنما يصح في الأوامر والنواهي. ويسأل عن قوله تعالى: {سُورَةٌ} بم ارتفع؟ والجواب: أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه سورة، ولا يجوز أن يكون مبتدأ: لأنها نكرة ولا يبتدأ بالنكرة حتى توصف، وإن جعلت {أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} صفة لها بقي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 المبتدأ بلا خبر، هذا قول أكثر العلماء. ويجوز عندي أن تكون مبتدأة على إضمار الخبر، والتقدير: فيما يتلى عليكم سورة أنزلناها، ولا يجوز أن نقدر هذا الخبر متأخراً؛ لأن خبر النكرة يتقدم عليها، نحو قولك: في الدار رجل، وله مال، ولا يحسن: رجل في الدار، ومال له؛ وإنما قبح ذلك لقلة الفائدة. وقرأ عيسى بن عمر {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} على إضمار فعل يفسره {أَنْزَلْنَاهَا} ، والتقدير: أنزلنا سورة أنزلناها، إلا أن هذا الفعل لا يظهر؛ لأن الظاهر يكفي منه. وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} [النور: 2] مبتدأ، والخبر محذوف، والتقدير: فيما يتلى عليكم الزاني والزانية فاجلدوا كل واحد منهما، هذا قول سيبويه، وتلخيصه: أن المعنى: فيما يتلى عليكم حكم الزانية والزاني فاجلدوا؛ وإنما احتيج إلى هذا التقدير؛ لأن المتلو إنما هو حكمهما لا أنفسهما. والفاء دخلت في قوله: {فَاجْلِدُوا} جوابا لما في الكلام من الإبهام؛ إذ لا يقصد بها زانية بعينها ولا زان بعينه ولذلك رفعا. ويجوز النصب على وجهين: أحدهما: إضمار فعل يدل عليه {فَاجْلِدُوا} . والثاني: أن يكون منصوبا بـ: (اجلدوا) على تقدير زيادة الفاء، كما تقول: زيدا فاضرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 قرأ ابن كثير {فَرَضْنَاهَا} بالتشديد و {رَأْفَةٌ} بفتح الهمزة، وقرأ الباقون بالتخفيف وإسكان الهمزة، التشديد للمبالغة، وأما فتح الهمزة وإسكانها فلغتان. * * * قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور: 26] . الخبيث: نقيض الطيب. واختلف في معنى قوله: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور: 26] : فقال ابن عباس والضحاك ومجاهد والحسن: الخبيثات من الكلم للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من الكلم، والطيبات من الكلم للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من الكلم. وقال ابن زيد: الخبيثات من السيئات للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من السيئات، والطيبات من الحسنات للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال، للطيبات من الحسنات. وقيل: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء. ثم جمع ذلك في قوله: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور: 26] فرد الضمير على الطيبات والطيبين. وقال الفراء {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} يعني به عائشة - رضي الله عنها - وصفوان بن المعطل، وهوبمنزلة قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11] والأم تحجب بالأخوين، فجاء على تقليب لفظ الجمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] . النور: الضياء، ونقيضه الظلمة، والمشكاة الكوة في الحائط يوضع عليها زجاجة ثم يكون المصباح خلف تلك الزجاجة، ويكون للكوة باب آخر يوضع المصباح فيه. ويقال/ زُجاجة وزِجاجة وزَجاجة. والمصباح: (مفعال) من الصبح، ويقال: مِصْبَحُ كمِفْتَاحٌ ومِفْتَحٌ. واختلف في معنى قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : فقيل: منورهما بالشمس والقمر والنجوم، وهذا قول ابن عباس وأبي العالية والحسن. وقيل: هادي أهل السموات والأرض، وهذا أيضا يروى عن ابن عباس. وفي تقدير قوله: {نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} من جهة الإعراب وجهان: أحدهما: أن يكون على حد المضاف، تقديره: ذو نور السموات والأرض، ثم حذف على حد قوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ} [البقرة: 177] ، وقوله: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] . والثاني: أن يكون مصدراً وضع موضع اسم الفاعل، كما قال تعالى: {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} [الملك: 30] ، أي: غائرا، وكما قالت الخنساء: ترتع ما غفلت حتى إذا ادكرت فإنما هي إقبال وإدبار ويسأل عن الضمير في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ} علان يعود؟ وفيه أجوبة: أحدها: أنه يعود على اسم الله - عز وجل -، وهو قول ابن عباس، وفي هذا تقديران: أحدهما: أن يكون على معنى: مثل نوره الذي جعله في قلب المؤمن كمشكاة صفتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 كذا وكذا، فأضاف النور إلى نفسه، كما يقال بيت الله، وناقة الله، للتعظيم لهما. والثاني: أن يكون نور المصباح أعظم نور يعرفه الناس، فضرب الله تعالى المثل به، وشبه نوره بأعظم نور يعرفه الناس؛ لأنه تعالى خاطب العرب على قدر ما يفهمون. وقال الحسن المعنى: مثل نور القرآن في القلب كمشكاة. ويروى عن ابن عباس أيضاً: أن النور هاهنا (الطاعة) أي: مثل طاعة الله في قلب المؤمن. وقيل: يعود الضمير على النبي - صلى الله عليه وسلم -، أي: مثل نور النبي في المؤمنين. واختلف في قوله: {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} [النور: 35] : فقال ابن عباس: لا شرقية تشرق عليها الشمس فقط، ولا غربية تغرب عنها الشمس فقط، بل هي شرقية غربية؛ لأنها أخذت بحظها من الأمرين. وروي عنه أيضا أنه قال: هي وسط الشجر. وروي عن قتادة: أنها ضاحية للشمس. وقال الحسن: ليس من شجر الدنيا، فتكون شرقية أو غربية. وقوله تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور: 35] ، أي: نور هدى التوحيد على نور الهدى بالقرآن، وقيل: نور على نور يضيء بعضه بعضا، وهو قول زيد بن أسلم. قرأ نافع وابن عامر وابن كثير وعاصم من طريق حفص {دُرِى} بضم الدال، نسبوه إلى (الدر) في صفائه وبياضه، وقرأ أبو عمرو والكسائي {دِرِّيءِ} بكسر الدال والهمز، أخذه من (الدرء) وهو الدفع، كأنه يدفع الظاهر بنوره، وقرأ حمزة وعاصم من طريق أبي بكر {دُرِّيءُ} بضم الدال والهمزة، وفي هذه القراءة نظر؛ لأن (فعيل) في الكلام لم يأت منه سوى (مريق) وهو بناء شاذ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 وقرأ عاصم وحمزة من طريق أبي بكر {تُوقِدُ} بضم التاء والقاف مخففة، أعاد الضمير على الزجاجة، وقرأ أبو عمرو وابن كثير {تَوقَدَ} فتح التاء والقاف والدال، أعاد الضمير على المصباح، وجعلا الفعل ماضيا، وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم {يُوقِدُ} بالياء مخففا، أعادوا الضمير على المصباح أيضا، وجعلوا الفعل مستقبلا لما لم يسم فاعله. واختلف في المشكاة: فقيل: هي رومية معربة. قال الزجاج: يجوز أن تكون عربية؛ لأن في الكلام مثل لفظها (شكوة) وهي قرية صغيرة، فعلى هذا تكون (مشكاة) (مفعلة) منها، وأصلها، مشكوة، فقلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. * * * قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] . اللجنة: معظم البحر الذي لا يرى له ساحل. ومعنى الآية: أن أعمال الذين كفروا كسراب بقيعة في أنه يظن شيئا وليس بشيء، وهذا من التشبيه المعجز؛ لأنه تشبيه ماله حقيقة بما ليس له حقيقة، لما كان عاقبة ماله حقيقة إلى لا شيء. {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} في أن أعمالهم مظلمة، وبالغ الله تعالى في صفة هذه الظلمات لكثرة حيرة الذين كفروا في أعمالهم وجهلهم. واختلف العلماء في قوله: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} : فقال الجمهور من العلماء المعنى: لا يراها ولا يقارب رؤيتها؛ لأن دون هذه الظلمة لا يرى فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 وقال بعضهم: يراها بعد جهد ومشقة رؤية تخيل لصورتها؛ لأن حكم (كاد) إذا لم يدخل عليها حرف نفي أن تكون نافية، وإن دخلها حرف نفي دلت على أن الأمر وقع بعد بطء. فالأول كقوله تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} [النور: 43] ، فهذا نفي إلا أنه قارب ذلك، وقال: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] ، والمعنى فعلوا بعد بطء. وقيل: (كاد) هاهنا دخلت للنفي كما يدخل الظن بمعنى اليقين، قال الحسن: لم يرها ولم يقارب الرؤية، قال الشاعر: ما كدت أعرف إلا بعد إنكار وقال ذو الرمة: إذا غير النأي المحبين لم يكد على كل حال حب مية يبرح ويروى: رسيس الهوى من حب مية يبرح. والظلمات: ظلمة البحر وظلمة السحاب وظلمة الليل، وكذا حال الكافرين ظلمة واعتقادهم ظلمة ومصيرهم إلى ظلمة؛ وهي نار يوم القيامة. * * * قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} [النور: 43] . البرد: حجارة تنعقد من الثلج، والسنا: النور. قيل: في السماء جبال برد مخلوقة، وقيل: بل المعنى قدر جبال يجعل منها بردا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 واختلف النحويون في {مِن} الثانية والثالثة: فجعل بعضهم الثانية زائدة، فعلى هذا المعنى يكون التقدير: ينزل من السماء جبالا فيها من برد، و {مِن} في قوله: {مِنْ بَرَدٍ} لبيان الجنس، كما قال تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30] . وقال بعضهم: الثالثة زائدة، والمعنى على هذا: وينزل من السماء من جبال فيها بردا، أي: وينزل من السماء بردا من جبال فيها، فهذا يدل على أن في السماء جبال برد، و {مِنَ} الثانية على هذا القول لابتداء الغاية، وهي مع {جِبَالٍ} بدل منقوله: {مِنَ السَّمَاءِ} بإعادة الجار، كما قال تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَا} [الأعراف: 75] ، وهو بدل الاشتمال؛ لأن السماء تشتمل على الجبال، كما تقول: يعجبني شعبان الصوم فيه، أي: يعجبني الصوم في شعبان. * * * قوله تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [النور: 57] . الحسبان والظن سواء، يقال: حسب يحسب بكسر السين وفتحها، يروى أن الفتح لغة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقرأ حمزة وابن عامر: {ولَا يَحْسَبَنَّ} بالياس وفتح السين، فـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} على هذا فاعلون، والمفعول الأول ليحسبن محذوف، والتقدير: ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين أو إياهم معجزين، وحسن حذف المفعول الأول لأنه هو الذي كان مبتدأ، وحذف المبتدأ جائز لدلالة الخبر عليه، نحو قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] أي: أمرنا حطة أو طلبتنا حطة، وكذلك: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد: 21] أي: طلبتنا طاعة. وقرأ الباقون بالتاء وكسر السين، فلا حذف على هذه القراءة؛ لأن الفاعل مضمر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - والذين كفروا مفعول أول، ومعجزين مفعول ثاني. {ومن سورة الفرقان } * * * قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان: 27] هذه الآية نزلت في أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط، قال ابن عباس: صنع عقبة طعاما ودعا أشراف مكة، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم، فامتنع أن يطعم أو يشهد عقبة بشهادة الحق، ففعل ذلك، فأتاه أبي بن خلف وكان خليله فقال، أصبوت؟ فقال: لا، ولكن دخل علي رجل من قريش فاستحييت أن يخرج من منزلي ولم يطعم، فقال: ما كنت لأرضى حتى تبصق في وجهه، وتفعل به كذا وتفعل، ففعل ذلك. فأنزل الله - عز وجل - هذه الآية فيهما. والظالم هاهنا: عقبة، والمكنى عنه: أبي، ولم يسميا؛ لتكون الآية عامة في كل من فعل فعلهما، ثم أبي بن خلف قتل يوم أحد قتله النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده كذا روى قتادة، وقتل عقبة يوم بدر صبرا. * * * قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59] . قال بعض النحويين (الباء) في قوله: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} بمعنى: عن، والمعنى: فاسأل عنه خبيرا، و (الباء) تبدل من (عن) مع (سل) و (سألت) ، قال علقمة: فإن تسألوني بالنساء فإنني بصير بأدواء النساء طبيب والخبير هاهنا: الله تعالى، هذا قول ابن جريج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وقال بعضهم: (الباء) على أصلها، والمعنى: فاسأل بسؤالك خبيرا أيها الإنسان يخبرك بالحق في صفته، ودل (فاسأل) على السؤال، كما قالت العرب: من كذب كان شرا له، أي: كان الكذب، ودل عليه كذب، وكما قال الشاعر: إذا نهي السفيه جرى إليه وخالف والسفيه إلى خلاف * * * قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] . نصب {سَلَامًا} ؛ لأنه ليس بحكاية، ولو كان حكاية لرفع، كما قال في آية أخرى: {قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} [هود: 69] ، أي: سلام عليكم، وإنما المعنى أنهم قالوا قولا يسلمون به. قال سيبويه المعنى: قالوا سدادا من القول، أي: سلمنا منكم، قال سيبويه: ولم يؤمر المسلمون ذلك الوقت بالقتال، فأنزل، وهي منسوخة بآية القتال، ولم يتكلم سيبويه في شيء من الناسخ والمنسوخ إلا في هذه الآية. قوله - عز وجل -: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} [الفرقان: 69] قيل معناه: يلقى جزاء الآثام كما قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] . أي: جزاء السيئة سيئة مثلها، وكذلك {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الزمر: 48] ، أي: عقاب ما كانوا به يستهزئون؛ لأن ما كانوا به يستهزئون لا يحيق بهم يوم القيامة. قرأ عاصم من طريقة أبي بكر {يُضَاعِفُ} و {يَخْلُدْ} بالرفع على الاستئناف والقطع، و {يَلْقَ} جواب الشرط الذي هو {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} . وقرأ الباقون بالجزم، إلا أن اين عامر يقرأ {يُضَعَّفُ} بالرفع على الاستئناف، وابن كثير {يُضَعَّفْ} بالتشديد والجزم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 ووجه أنه بدل من {يَلقَ} ، ومثله قول الشاعر: متى تأتينا تلمم بنا في ديارنا تجد حطبا جزلا ونارا تأججا فأبدل (تلمم) من (تأتنا) ، وبدل الفعل من الفعل لا يكاد يوجد إلى في الشرط والجزاء. * * * قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74] . يسأل عن توحيد (إمام) هاهنا، وهو يرجع إلى جماعة؟ وفيه خلاف: قال بعضهم: وحد لأنه مصدر من: أم فلان فلانا إماما، كما تقول: قام قياما وصام صياما، ومن جمعه فقال (أئمة) فلأنه قد كثر في معنى الصفة. وقيل: جاء على الجواب، كقول القائل: من أميركم؟ فيقول المجيب: هؤلاء أميرنا، قال الشاعر: يا عاذلاتي لا تردن ملامتي إن العواذل ليس لي بأمير وقيل المعنى: واجعل كل واحد منا إماما، فأجمل والمعنى معنى التفصيل. {ومن سورة الشعراء } * * * قوله تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16] . يسأل عن قوله تعالى: {رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} لم أفرد وهما اثنان؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وفيه خلاف: قال بعضهم: المعنى: كل واحد منا رسول رب العالمين. وقيل: الرسول في معنى الرسالة، فالتقدير على هذا ذوو رسول رب العالمين، وهذا كقولهم: رجل عدل، ورضا، ورجلان عدل ورضا، ورجال عدل ورضا، قال كثير: لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول أي: برسالة. وقيل: الرسول يقع على الاثنين والجميع، كما يقع على الواحد، قال الهذلي: ألكني إليها وخير الرسول أعلمهم بنواحي الخبر * * * قوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 22] قيل: في قوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} ثلاثة أقوال: أحدها: أن المعنى: اتخاذك بني إسرائيل عبيدا أحبط ذلك. والثاني: أن المعنى أنك لما ظلمت بني إسرائيل ولم تظلمني اعتدت بها نعمة علي. والثالث: أن المعنى: لا يوثق بهذه النعمة منك مع ظلمك بني إسرائيل في تعبيدك إياهم. وكل ذلك حجة على فرعون وتقريع له. ويجوز في موضع {أَنْ} وجهان: أحدهما: أن تكون في موضع نصب مفعولا له، أي: لأن عبدت. والثاني: أن تكون في موضع رفع على البدل من نعمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 197] . {أَنْ يَعْلَمَهُ} في موضع نصب؛ لأنه خبر {أَوَلَمْ يَكُنْ} ، ويجوز أن تنسب {آيَةً} وتجعلها الخبر، وتجعل {أَنْ يَعْلَمَهُ} الاسم، ويجوز أن يكون قوله: {أَنْ يَعْلَمَهُ} مبتدأ والخبر {آيَةً} والجملة خبر {أَوَلَمْ يَكُنْ} واسمها مضمر فيها، كأنه في التقدير: أو لم تكن القصة لهم أن يعلمه علماء بني إسرائيل آية. هذا على قراءة من قرأ بالتاء وأما من قرأ بالياء فإنه يضمر الأمر أو الشأن، ونحو من ذلك قول الشاعر: إذا مت كان الناس صنفان شامت وآخر مثن بالذي كنت أصنع أي: كان الأمر، وأنشد سيبويه لهشام أخي ذي الرمة: هي الشفاء لدائي لو ظفرت بها وليس منها شفاء الداء مبذول أي: ليس الأمر. وعلماء بني إسرائيل يعني بهم: عبد الله بن سلام، هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة. * * * قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] . الشعراء هاهنا: الذين تعاطوا معارضة القرآن. والغاوون: أتباعهم كانوا يتبعونهم ليسمعوا ما يقولون ليشيعوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [الشعراء: 227] يعني به: حسان بن ثابت، وقيل يعني به: شعراء النبي - عليه السلام - كلهم، وقيل يعني به: شعراء المسلمين. وعلى القول الأول جمهور العلماء. وارتفع قوله: {والشعراء} بالابتداء، و {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} الخبر، ويجوز النصب على إضمار فعل، كأنه في التقدير: ويتبع الغاوون الشعراء يتبعهم الغاوون، ثم يحذف الأول لدلاله الثاني عليه، ومثله قولك: زيد ضربته، وزيدا ضربته، إلا أن الرفع أجود، ومن هنالك أجمع عليه القراء المشهورون. وانتصب قوله: {أَيَّ مُنْقَلَبٍ} [الشعراء: 227] ؛ لأنه نعت مصدر محذوف تقديره: وسيعلم الذين ظلموا منقلبا أي منقلب ينقلبون. والعامل في (أي) (ينقلبون) ، ولا يجوز أن يعمل فيها (سيعلم) ؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، وإنما يعمل فيه ما بعده، والعلة في ذلك: أن الاستخبار قبل الخبر، ورتبة الاستخبار التقديم، فلم يجز أن يعمل فيه الخبر؛ لأن الخبر بعده، وذلك أنه موضوع على أنه جواب مستخبر. {ومن سورة النمل } * * * قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [النمل: 6-7] . الإيناس: الأبصار، والقبس: قطعة من النار، قال الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 في كفة صعدة مثقفة فيها سنان كشعلة القبس والاصطلاء: التسخين إلى النار. وفي (لدن) أربع لغات: لدن، ولدن، ولدى، ولد، والعرب مجمعة على جر ما بعدها إلا مع (غدوة) فإنهم قد ينصبونها بعد (لدن) ؛ وإنما نصبت بها لأن هذه النون شبهت بالنون في (عشرين) فنصب ما بعدها على التشبيه بالتمييز، هذا قول سيبويه. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: ما معنى قوله: {أن بورك من في النار} [النمل: 8] ؟ وعنه جوابان: أحدهما: أنه يعني به (الملائكة) . والثاني: أنه يعني به (القديم تعالى) ، وحسن ذلك لكلامه لموسى - عليه السلام - من النار، وإظهار الآيات، وهو قول ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وقتادة. ومما يسأل عنه أن يقال: لم قال لامرأته {سَآتِيكُمْ} [النمل: 7] وهي واحدة؟ وعن هذا جوابان: أحدهما: أنه أقامها مقام الجماعة في الأنس بها والسكون إليها في الأمكنة الموحشة. والثاني: أنه على طريق الكناية، والعرب قد تستعمل مثل ذلك. والبركة: ثبوت الخير، قال الفراء يقال، بارك الله لك وباركك، وبارك فيك، وبورك في زيد وبورك عليه. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 قرأ الكسائي وعاصم وحمزة {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} على البدل من (شهاب) ، وقرأ الباقون {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} على الإضافة. قال الفراء: هو بمنزلة قوله: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} [يوسف: 109] ، مما يضاف إلى نفسه إذا اختلف اسماه لفظاه. وهذا عند البصريين غلط؛ لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه، وإنما يضاف إلى غيره ليخصصه أو ليعرفه، فأما قوله تعالى: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} فتقديره عندهم: ولدار الساعة الآخرة، ثم حذف الموصوف وأقيمت صفتع مقامه، ومثله قوله تعالى: {حَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9] ، إنما معناه: حب النبت الحصيد، ومن كلام العرب: صلاة الأولى ومسجد الجامع، والتقدير فيهما: صلاة الفريضة الأولى، ومسجد اليوم الجامع، وكذا قراءة من قرأ {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} إنما معناه: بشهاب نار؛ لأن الشهاب قد يقع على غير النار، فصار هذا من باب: ثوب خز، وخاتم فضة، والمعنى: من خز، ومن فضة، ومن قبس. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: ما موضع {إِذ} ؟ والجواب: أن موضعها نصب بإضمار فعل، كأنه قال: اذكر إذ قال، وهذا قول الزجاج، وقال غيره: هو منصوب بـ: {عَلِيمٍ} أي: عليك إذ قال. ويسأل عن موضع قوله: {أَنْ بُورِكَ} [النمل: 8] ؟ قال الفراء: يجعل {أَنْ} في موضع نصب إذا أضمرت اسم (موسى) في (نودي) ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 وإن لم تضمر اسمه في (نودي) فهي في موضع رفع، أي: نودي ذلك، قال: وفي حرف أبي بن كعب "أن بوركت النار". وتلخيص الوجه الأول: أن يكون المعنى: ونودي موسى بأن بورك، ثم حذف (الباء) فوصل الفعل إلى (أن) . وتلخيص الوجه الثاني: أن يكون المعنى: ونودي البركة و {مَنْ حَوْلَهَا} في موضع رفع؛ لأنه معطوف على موضع (من) الأولى. * * * قوله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [النمل: 24] الخبأ: أصله من خبأت الشيء أي سترته وأخفيته، وخبء السموات: الأمطار والرياح، وخبء الأرض: الأشجار والنبات. ومما يسأل عنه أن يقال: ما موضع (أن) من {أَلَّا يَسْجُدُوا} [النمل: 25] ؟ والجواب أن التقدير مختلف: أما من خفف {ألا يسجدوا} فإن المعنى عنده ألا يا قوم اسجدوا، فاسجدوا على هذه القراءة مبنى؛ لأنه أمر، والعرب تحذف المنادى وتدع حرف النداء ليدل عليه، قال الشاعر: يالعنة الله والأقوام كلهم والصالحين على سمعان منجار والمعنى: يا قوم لعنة الله، وقيل: (يا) هاهنا للتنبيه، وليس بحرف نداء، قال ذو الرمة: ألا يا اسلمي يا دارمي على البلا ولا زال منهلا بجرعائك القطر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 روى الفراء عن الكسائي عن عيسى الهمداني قال: لم أسمع المشيخة يقرؤونها إلا بالتخفيف على نية الأمر، قال: وهي حرف عبد الله بن مسعود "هلا تسجدون" بالتاء، فهذا تقوية لقوله: (ألا يا) ؛ لأن قولك: (ألا) تقوم بمنزلة قولك: قم، وفي حرف أبي "ألا تسجدون"، قال: وهو وجه الكلام؛ لأنها سجدة. ومن قرأ "ألا يسجدوا" فشدد، فلا ينبغي لها أن تكون سجدة؛ لأن المعنى: وزين لهم الشيطان ألا يسجدوا، فعلى هذا القول يكون موضع (أن) نصبا على البدل من {أَعْمَالَهُمْ} . وقال علي بن عيسى المعنى: وزين لهم الشيطان أعمالهم لئلا يسجدوا. وقيل موضع (أن) جر على البدل من {السَّبِيلِ} ، كأنه قال: فصدهم عن أن يسجدوا، و (لا) على هذا الوجه زائدة. * * * قوله تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] يسأل عن معنى قوله: {كَرِيمٌ} ؟ وفيه أجوبة: أحدها: أنه مختوم وذلك لكرمه. والثاني: أنه جعلته كريما لكرم صاحبه، فإنه من عند ملك: والثالث: أنه حقيق بأن يؤمل الخير العظيم من جهته. والرابع: أن الطير حملته وذلك لكرمه. والخامس: أنه جعلته كريما من قبل أن صاحبه يعطيه الجن والإنس. وقيل: أنها قالت كريم قب أن تعلم أنه من سليمان، قال الفراء: ولا يعجبني ذلك؛ لأنهم زعموا أنها كانت قارئة قد قرأت الكتاب قبل أن تخرج إلى ملئها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 والملأ: الأشراف لأنهم ملاء بما يراد منهم. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: كيف قال: {وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] ولم تكن تلك اللغة عربية، وقال علي بن عيسى: هو حكاية للمعنى، وقيل: بل كان بالعربية؛ لأن المكتوب إليها كانت من العرب، وهي بلقيس بنت شراحيل، وقيل: هي بنت الهدهاد الحميري. ومما يسأل عنه أن يقال: لم قدم {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} [النمل: 30] على قوله {وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؟ وفيه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن قوله: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} كان عنوانا. والثاني: أن (الواو) لا ترتب، فالكلام على التقديم والتأخير، قال حسان: بهاليل منهم جعفر وابن أمة علي ومنهم أحمد المتخير والثالث: أن الكتاب إلى كافرة فخشي سليمان أن يكون منها مكروه في اسم الله تعالى فقدم اسمه قبله. والقراءة {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} بالكسر، قال الفراء: ولو فتحت (إن) والتي قبلها لكان حائزا على قولك: ألقي إلى أنه من سليمان وأنه اسم الله، وقع التكرير على الكتاب، فعلى هذا يكون موضعها رفعا على البدل من الكتاب، قال: ويجوز نصبها على سقوط الجار منهما، قال: وهي في قراءة أبي: "وأن بسم الله الرحمن الرحيم"، وفي ذلك حجة لمن فتحهما؛ لأن (أن) إذا كانت مخففة مفتوحة مع الفعل، أو ما يحكى لم تكن إلا مخففة النون. * * * قوله تعالى: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ} [النمل: 31-32] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 يسأل عن موضع (أن) من قوله: {أَلَّا تَعْلُوا} ؟ والجواب: أنها تحتمل أن تكون في موضع رفع على البدل من كتاب، كأنه قال: ألقي إلي أن لا تعلوا علي. ويجوز أن تكون في موضع نصب على تقدير: بأن لا تعلو علي. قال الزجاج: كان الكتاب (بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله سليمان إلى بلقيس بنت شراحيل: لا تعلوا علي وأتوني مسلمين) . * * * قوله تعالى: {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل: 33] . قال الزجاج: يروى أنه كان معها ألف (قيل) ، مع كل (قيل) مائة ألف رجل، ولذلك قالوا: قال: وقيل كان من كل (قيل) ألف رجل، وهذا أشبه. وجاء أنهم عرضوا عليها القتال بقولهم: نحن أولو قوة، عن ابن زيد. ومعنى قوله: {أَفْسَدُوهَا} [النمل: 34] خربوها. وقوله: {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل: 34] استبعدوهم، قال ابن عباس: وذلك إذا دخلوا عنوة. وقيل في قوله: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل: 34] أنه من قول الله تعالى، وأن كلامها ينقضي عند قوله: {أَذِلَّةٌ} ، فقال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} . وقيل: هو من كلامها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 قال الزجاج: أنفذت إليه لبنة من الذهب مع امرأة في حريرة، فأمر سليمان أن يطرح لبن من ذهب ولبن من فضة تحت أرجل الدواب، ليريها هوان ما بعثت به. قال الفراء: ذكروا أن رسولها مع الهدية كانت امرأة واحدة. قال علي بن عيسى: قيل أرسلت إليه بوصائف وغلمان على زي واحد، وقالت: إن ميز بينهما ورد الهدية، وأبي إلا المتابعة على دينه فهو نبي، وإن قبل الهدية فإنما هو من الملوك، وعندنا ما نرضيه به، وهو قول ابن عباس. قال الفراء: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ} [النمل: 36] إنما يريد: فلما جاء الرسول سليمان، قال: وهي في قراءة عبد الله "فلما جاءوا سليمن" على الجمع، ولم يقل جاؤوا، وصلح (جاء) لأن المرسل كان واحداً يدل على ذلك قول سليمان: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} [النمل: 37] ، فعلى هذا القول يكون الضمير في (جاء) عائداً إلى الرسول. قال غير الفراء: الضمير يعود على المال، أي: فلما جاء المال سليمان؛ لأن قوله: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} [النمل: 36] يدل على ذلك. وقيل: يعود على المرسل؛ لأن قولها: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ} [النمل: 35] يدل عليه. وقيل: يعود على المهدى؛ لأن المهدى والهدية سواء. وقيل في قوله: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35] ، إنه جمع في موضع الواحد، وقد تقدم شرح هذا فيما مضى من الكتاب. * * * قوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} [النمل: 82] . قال ابن عمر: إذا لم يأمر الناس بمعروف ولم ينهوا عن منكر خرجت الدابة. وجاء في خبر مرفوع أنها تخرج من شعب بني مخزوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 واختلف في معنى قوله: {تُكَلِّمُهُمْ} : فيه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن المعنى تكلمهم بما سوؤهم من أنهم صائرون إلى النار، وأنها تكلمهم كلاماً صحيحاً يفهمونه. وقيل: إنها تكتب على جبين الكافر (كافر) وعلى جبين المؤمن (مؤمن) . والثاني: أن معنى (تكلمهم) يجرحهم من الكلم، [70/ب] وشدد لتوكيد الفعل والمبالغة فيه. والثالث: أن كلامها: {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} [النمل: 82] . وقيل: إنما تخرج من بين الصفا والمروة. وموضع {أَنَّ} في مذهب من فتحها نصب، والمعنى: بأن الناس. قال الفراء: وفي قراءة عبد الله {بأَنَّ النَّاسَ} ، وهذا يؤكد النصب، وفي قراءة أبي {تُبينُ لُهم أَنَّ النَّاسَ} ، وهذا حجة لمن فتح {أَنَّ} إلا أن أهل المدينة يكسرونها على الاستئناف. {ومن سورة القصص } * * * قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص: 8] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 اللام في {لِيَكُونَ} لام كي، أي: لكي يكون لهم، إلا أنه أخبر بعاقبة الأمر، ولهذا يسميها بعض النحويين (لام العافية) ، ويسميها قوم (لام الصيرورة) ، أي: فصار لهم عدواً، ومثل هذه اللام قولهم: تلد للموت، ويبني للخراب، أي: هذا عاقبة ما تلم وما يبني، وهذه اللام (لام الجر) دخلت على الفعل فأضمر بعدها (أن) ليكون (أن مع الفعل) بتأويل المصدر، والمصدر اسم، وتكون اللام داخله على اسم؛ لأنها من عوامل الأسماء، ويجوز إظهار (أن) مع هذه اللام، تقول: جئتك لأن تكرمني وما أشبه ذلك. قال ابن إسحاق: التقطوه ليكون لهم ولداً فكان عاقبة أمره أن كان لهم عدواً وحزناً. قال قتادة في قوله: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [القصص: 9] أن المعنى فيه: أنهم لا يشعرون أن هلاكهم على يديه. * * * قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [القصص: 33] جاء في التفسير أن موسى - عليه السلام - أخذ بلحية فرعون وهو صغير، فقال فرعون لامرأته: هذا الذي نخافه أن يذهب بملكنا، ألا تري ما فعل؟ فقالت: إنه صغير لا يعقل ما يفعل، ولكن ألق بين يديه ذهباً وجمرةً من النار، فإن أخذ الذهب كان كما قلت، وإن أخذ الجمرة علمت أنه يفعل ما يفعله بغير عقل، ففعل فرعون ذلك، فأراد موسى أن يأخذ الذهب فصرفه عنه جبريل - عليه السلام -، فأخذ الجمرة فأحرقت يده فجعلها في فيه فلذلك صار لا يفصح، وهو معنى قوله تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه: 27] ؛ لأن تلك العقدة حدثت من الجمرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 وقرأ حمزة وعاصم {رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} [القصص: 34] بضم القاف على النعت، وقرأ الباقون بالجزم على أنه جواب الدعاء، ومثله قوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 5-6] ، قرئ رفعاً وجزماً. وأهل المدينة يخففون الهمزة فيقولون: "رِدَاً يُصَدِّقُنِي" * * * قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68] . جاء في التفسير أن المعنى: ويختار للنبوة من شاء. {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} أن يتخيروا غير ما اختار اللهتعالى؛ لأنهم لا يعلمون وجه المصلحة. قال الحسن: ما كان لهم أن يختاورا الأنبياء فيبعثوهم. قال الفراء: يقال (الخِيْرَة والخِيَرَة) و (الطَيْرة والطِيَرَة) . و {مَا} في قوله: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} نفي، والوقف المختار: قوله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} ويبتدأ: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} ، فلا يجوز أن تكون {مَا} غير نافية، فقد ذهب ليه بعض القدرية؛ لأن من أصل مذهبهم أن الخير من الله دون الشر، والأول هم الذهب. * * * قوله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [الق صص: 76] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 قال ابن جريح: كان قارون ابن عم موسى لأبيه وأمه، وقال ابن إسحاق: كان ابن خالته، وقال قتادة: إنما بغى عليه بكثرة ماله. قال علي بن عيسى: (الكنز) جمع المال بعضه إلى بعض، إلا أنه قد كثر لما يخبأ تحت الأرض، ولا يطلق اسم (كنز) في أٍماء الشريعة إلا على مالا تخرج زكاته، والوعيد الذي جاء فيه. والمفاتح: جمع مفتح جاء على حذف الزيادة، وقيل: يقال (مفْتَحٌ ومفْتَاحٌ) غمن قال (مفْتَحٌ) قال في الجمع (مَفَاتِحٌ) ، ومن قال (مفْتَاحٌ) قال في الجمع (مَفَاتِيحٌ) . ومعنى (تنوء) تثقل، يقال: ناء بحمله ينوء إذا نهض نهوضاً يثقل، ومنه أخذت (الأنواء) لأن الطالع إذا غاب الغارب ينوء، وقيل: لأن الغارب إذا غاب ناء الطالع، أي: نهض متثاقلاً، وقيل: لأن النجوم تنهذمن المشرق نهوضاً بثقل. قال قتادة: (العصبة) ما بين العشرة إلى الأربعين، قال ابن عباس: يجوز أن يكون ثلاثة، وقيل: مفاتحه خزائنه، وقيل: المفاتح على بابها، وكان يحملها سبعون بغلاً، وكانت من جلود قدر كل مفتاح منها إصبع، وقيل: كان يحملها أربعون بغلاً، وقيل: مفاتحه أمواله، وقيل: كان أربع مائة ألف، وقيل: إنه قال إذا كان لموسى النبوة، وكان الذبح والقربان الذي يقرب في يد هارون، فما هي يدي، أو مالي؟ فهذا كان بغيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 فصل: ويسأل عن قوله: {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} ، وإنما العصبة هي التي تنوء بها؟ والجواب: أنه يقال: نؤت بالحمل، وأنأت غيري، ونؤت بغيري، كما تقول ذهبت وأذهبت غيري وذهبت به فالباء والهمزة تتعاقبان في تعدي الفعل، ولهذا لا يجوز أن يجمع بينهما لاتقول: أدخل بزيد الدار، ولكن: أدخل زيداً الدار، ودخل بزيد الدار {دُخِلَت} [الأحزاب: 14] إن شئت، ومثل ذلك قوله تعالى: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} [مريم: 23] ، وإنما معناه: فجاء بها، وقيل: إنما جاز ذلك لأنه (دخل) فيها معنى (تميل) ، أي: تميل بالعصبة، فأما قول أبي عبيدة: إنه مقلوب وإن المعنى لتنوء العصبة بها، كما قال: إن سراجاً لكريم مفخرة تحلا به العين إذا ما تجهره أي: يحلا بالعين، فقلب. وقال آخر: كانت عقوبة ما جنيت كما كان الزناء عقوبة الرجم وقال امرؤ القيس: يضيء الظلام وجهها لضجيعها كمصباح زيت في قناديل ذبال أي: في ذبال قناديل، والذبال في القناديل. وهذا ليس بشيء ولا يجب أن يحمل القرآن عليه؛ لأن هذه تجري مجرى الغلط من العرب، ومثل هذا في شعرهم كثير، قال الآخر: مثل القنافذ هدجون قد بلغت نجران أو بلغت سواءتهم هجر وكان حقه أن يقول (هجر سوءاتهم) لأن السوءات هي التي تبلغ هجر، وقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 غداة أحلت لابن أصرم طعنة حصين عبيطات السدائف والخمر والعبيطات: مفعولة، والطعنة: فاعلة فقلب، ومن أغلاطهم. قول الراجز: برية لم تعرف المرققا ولم تذق من البقول الفستقا ظن (الفستق) من البقول، فأما قول خداش بن زهير. وتركب خيلاًلا لا هوادة بينها وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر فذهب جمهور العلماء إلى أن المعنى: وتشقى الضياطرة الحمر بالرماح، فقلب، وليس الأمر عندي كذلك، وإنما أن رماحهم تشرف عن هؤلاء الضياطرة، فإذا طعنوا بها فقد شقيت الرماح؛ لأن منزلتها أرفع من أن يطعنوا بها، وكذا قول زهير: فتنتج لكم غلمان أشام كلهم كأحمر عاد ترضع فتفطم قالوا: إنما هو أحمر ثمود فغلط فنسبه إلى عاد، وليس هذا عندي غلطاً، لأن ثموداُ تسمى عاد الآخرة، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى} [النجم: 50] . وإنما سموا ثمود لأن الله تعالى لما أهلك عاداً بقيت منهم بقية تناسلوا فهم ثمود، فاشتق لهم من الثمد وهو الماء القليل؛ لأنهم قلوا عن عدد عاد الأولى، وهذا كثير في الشعر يجري مجرى الغلط ولا يجب أن يحمل القرآن عليه. * * * قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [القصص: 82] اختلف العلماء في {وَيْكَأَنَّ} : فذهب الفراء إلى أصلها (ويلك) فحذفت اللام وجعلت (أنَّ) مفتوحة في موضع نصب بفعل مضمر، كأنه قال: ويلك أعلم أنه، وأنشد لعنتره: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها قول الفوارس ويد عنتر اقدم قال: وحدثني شيخ من أهل البصرة قال سمعت أعرابية تقول لزوجها: أين ابنك ويلك؟ ، فقال لها: ويكأنه وراء البيت، قال معناه: أما ترينه وراء البيت، قال الشاعر: سألتاني الطلاق أن رأتا ما لي قليلاً قد جئتماني بنكر ويكأن من يكن له نشب يحـ بب ومن يفتقر يعش ضر وقال البصريون: (وي) كلمة ينبه بها على أمر من الأمور، وهي حرف مفصول من كأن، وذلك أنهم لما رأوا الخسف نبهوا من تكلم على قدر علمه. وقيل: هي كلمة يستعملها الرجل إذا فاجأه أمر مفظع وقيل: معناها: ألا كأنه، وأما كأنه. وقيل: المعنى: وي بأن الله تعالى، كأنه قال: تنبيهك بهذا، إلا أنه حذف. وقيل: المعنى: ألى تر أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، لا لكرامة (قارون) بسط الرزق له. فعلى مذهب البصريين تكتب (وي كأنه) منفصلة. وعلى مذهب الفراء تكتب (ويكأنه) متصلة، وقد حكى الفراء الوجه الأول، ولم ينكره إلا أنه قال: لم تكتبها العرب متصلة، ثم قال: ويجوز أن يكون كثر بها الكلام فوصلت بما ليس منها، كما اجتمعت العرب على كتابة (يابنم) فوصلوها لكثرتها، فأجاز ما ذهب إليه البصريون، ولم يجز البصريون قوله، فصار قول البصريين إجماعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 وقرأ الفراء {لَخُسف بِنَا} بضم الخاء على ما لم يسم فاعله. وقرأ الحسين {لَخَسَفَ بِنَا} أضمر في خسف اسم الله تعالى ويسوغ هذه القراءة قراءة عبد الله {لا تخَسَفُ بِنَا} . {ومن سورة العنكبوت } * * * قوله تعالى: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [العنكبوت: 22] . يسأل عن قوله: {وَلَا فِي السَّمَاءِ} كيف وصفهم بذلك، وليسوا من أهل السماء؟ وعن هذا جوابان: الأول: أن المعنى: لستم بمعجزين هرباً في الأرض ولا في السماء. والثاني: أن المعنى: ولا من في السماء معجز، فحذف (مَن) لدلالة (مَنْ) الأولى، قال حسان: أمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء كأنه قال: ومن يمدحه وينصره. قال الفراء ومثله: اضرب من أتاك وأتى أباك، وأكرم من أتاك ولم يأت زيداً، أي: ومن أتى أباك، ومن لم يأت زيداً. * * * قوله تعالى: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَ اصِرِينَ} [العنكبوت: 25] . قرئ {مَوَدَةَ بَيْنِكُمْ} بالرفع والإضافة. وقرئ {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} منوناً رفعاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 و (بينكم) نصباً. قرئ {مَوَدَّةَ بَيْنِكُم} بالنصب والتنوين. وقرئ {مَوَدَّةً بَيْنِكُم} بالنصب والإضافة. فأما من قرأ (مَوَدَةُ بَيْنِكُم} بالرفع، فيجوز فيه وجهان: أحدها: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هي مودة بينكم، وكذا من رفع ونون. والوجه الثاني: أن يكون خبر (إنَّ) وتكون (ما) بمعنى الذي، والمعنى: إن الذي اتخذتم بينكم أوثانا مودة. وقال الفراء: {مَوَدَّةٌ بَيْنِكُم} رفع بالصفة، وينقطع الكلام عند قوله: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} ، ثم قال: ليس مودتكم تلك الأوثان، ولا عبادتكم إياها بشيء إنما مودة ما بينكم في الحياة الدنيا، ثم ينقطع الكلام. فـ: (ما) على هذا الوجه صلة في (إنما) كافة، وتفسير هذا أنه يجعل {مَوَدَّة بَيْنِكُمْ} مبتدأ، و {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الخبر. وأما من نصب فيجوز في قراءته وجهان: أحدها: أن يكون مفعولاً له، أي: للمودة بينكم. والثاني: أن يكون بدلاً من الأوثان. ويجوز في {أَوْثَانًا} الرفع على أن تكون (ما) بمعنى (الذي) كأنه قال: إن الذي اتخذتم بينكم أوثان، أي: ليست آلهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 {ومن سورة الروم } * * * قوله تعالى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم: 4] . البضع: ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقيل: ما بين الثلاثة إلى نصف العقد، وقيل: ما بين الثلاثة إلى السبعة، وقيل: ما بين الثلاثة إلى التسعة، والقول الأول جاء في خبر مرفوع، وما سوى ذلك أقوال أهل اللغة. أجمع القراء على ضم (الغين) من {غُلِبَتِ الرُّومُ} ، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ} جعلهم فاعلين، فقيل له: علام غلبوا؟ فقال: على أدنى ريف الشام. وجاء في التفسير: أن فارس ظفرت بالروم، فحزن لذلك المسلون، وفرح به مشركو أهل مكة؛ لأن أهل فارس ليسوا أهل كتاب، وكانوا يعبدون الأوثان (ففرح المشركون بغلبتهم) ومال المسلمون إلى الروم؛ لأنهم أهل كتاب، وكان لهم نبي، قالوا: ويدل على ذلك قوله: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} . ثم قال: {وَيَوْمَئِذٍ} ، أي: يوم يغلبون، يعني: الروم {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} إذا غلبوا، وقد كان ذلك كله، ويروى أن فارس غلبت على أطراف الشام من بلاد الروم، ثم بعد سنتين وأشهر غلبت الروم فارس، واستنفذت ما أخذت فارس من بلاد الشام، ففرح المسلمون بذلك لأمرين: أحدهما: ميلهم إلى الروم. والثاني: ظهور ما أخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يقع في ذلك الوقت. ومما يسأل عنه أن يقال: لم بنيت {مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 والجواب: أنهما قطعتا من الإضافة، وتضمنتا معناها، فصارتا كبعض الاسم وبعض الاسم لا يعرب فوجب البناء لأنه ليس بعد الإعراب إلا البناء، وحركتا لالتقاء الساكنين. فأما الضم ففيه أربعة أقوال: أحدها: أنهما لما قطعتا من الإضافة جعلتا غايتين فأعطيتا غاية الحركات وهي الضمة. والثاني: أنه لما كان لهما في الأصل تمكن بنيا على الضم إشعاراً بذلك، كما فعلوا بالمنادى. ألا ترى أنهما يعربان إذا أضيفتا أو نكرتا كما يفعل بالمنادى. والثالث: أن الضم لا يدخلها في حال الإعراب، وإنما يدخلهما الفتح والكسر في النصب والجر فلما بنوهما أعطوهما حركة لا تكون لهما في حال تمكنهما. والراع: أنهما لما قطعتا من الإضافة ضعفتا فقويتا بالضمة. فهذه أربعة للبصريين؟ فأما الكوفيون فلهم قولان: أحدهما: أنهما لما تضمنتا معناهما في أنفسهما ومعنى المضاف إليه قويتا بالضمة، وهذا قول الفراء وقد طرده في أشياء: من ذلك أنه قال ضم أول فعل ما لم يسم فاعله؛ لأنه يدل على نفسه وعلى الفاعل وضم (منذُ) لأنه يدل على معنى (منْ وإلى) لأنك إذا قلت: ما رأيته منذ يومين، فمعناه: ما رأيت من أول اليومين إلى آخرهما، وكذلك (نحن) ضم لأنه يقع على التثنبة والجمع. والقول الثاني: أنهما لو فتحتا لأشبهتا حالهما متمكنتين، ولو كسرتا لأشبهت المضاف إلى المتكلم فأما السكون فلا سبيل إليه؛ لأن ما قبلهما ساكن، فلم يبق إلا الضم فأعطيتاه، وهذا قول هشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 وأجاز الفراء تنوينهما والمراد بهما مع ذلك الإضافة، وأنشد: كأن محطا في يدي حارثية صناع علت مني به الجلد من عل وأنسد: ونحن قتلنا الأزد شنوءه فما شربوا بعد على لذة خمرا قال ولو نصب ونون كان وجهاً، وكان كما قال: فساغ لي الشراب وكنت قبلاً أكاد أغص بالماء المعين وأجاز أيضاً: جئت من قبل ومن بعد بالجر والتنوين. وهذا يجوز إذا كانت نكرتين، فأما ما أنشد من الضم والتنوين والنصب فهو من ضرورات الشعر. وللبصريين فيه مذهبان: أحدهما: أن يترك على ضمه وينون ويقدر أ، التنوين لحقه بعد البناء وهذا مذهب الخليل. والثاني: أنه إذا لحقه التنوين ضرورة رد إلى النصب؛ لأنه الأصل، كما يرد ما لا ينصرف إلى أصله إذا نون، ومثل ذلك (المنادى المفرد) إذا نون يبقى على ضمه عند الخليل، ويرد إلى النصب عند أبي عمرو، قال الشاعر: سلام الله يا مطر عليها وليس عليك يا مطر السلام هذا قول الخليل وأصحابه، وأبو عمرو ينشد: ضربت صدرها إلى وقالت يا عديا لقد وقتك الأواقي بالنصب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 وأجاز الفراء (من قبل ومن بعد) بلا تنوين على نية الإضافة، وأنشد: إلا علالة أو بداهة سانح نهد الجزاره ومثله: يا من يرى عارضاً أسر به بين ذراعي وجبهة الأسد قال: وسمعت أبا ثروان العكلي يقول: قطع الله الغداة يد ورجل من قاله. قال المبرد: إنما يحذف هذا وما أشبهه اكتفاء بالثاني من الأول؛ لأن المعنى مفهوم وليس في (قبل وبعد) ما يدل على المضاف إليه، وفي هذين البيتين ما يدل على الإضافة. وقيل: المعنى إلا علالة سائح وبداهته، ثم حذف، ومثله قوله تعالى: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} [الأحزاب: 35] ، يريد والحافظاتها فحذف، وأجاز هشام: جئت قبل وبعد، بالنصب على نية الإضافة، وكل هذا ينكره البصريون. * * * قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الروم: 24] . قيل: خوفاً من المطر في السفر، وطمعاً فيه في الحضر. وفي قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} ثلاثة أقوال: أحدها: أنه حذف (أن) والتقدير: ومن آياته أن يريكم، فلما حذف (أن) ارتفع الفعل، قال طرفة: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي يريد: أن أحضر، فحذف ألا تراه أظهرها في قوله: (وأن أشهد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 والثاني: أن المعنى ومن آياته آية يريكم، ثم حذف لدلالة (من) عليها، قال الشاعر: وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت ,أخرى أبتغي العيش أكدح يريد: فمنهما تارة أموت فيها وأخرى أبتغي العيش فيها، فخذف لدلالة (من) على المعنى. والثالث: أنه على التقديم والتأخير، والمعنى: ويريكم البرق من آياته، فهذا على غير حذف. * * * قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] . يقال ما معنى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} ، وهل يهون عليه شيء دون شيء؟ وفي هذا ثلاثة أجوبة: أحدها: أن المعنى: وهو أهون عليه عندكم، ثم حذف، وهذا قول المفسرين. والثاني: أن (هون) بمعنى (هين) . كما قال: لعمرك ما أدري وإني لأوجل على أينا تعدو المنية أول وقال آخر: تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد أي: بواحد، وهذا قول أهل اللغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 والقول الثالث: أن الهاء في عليه تعود على (الخلق) ، أي: والإعادة على الخلق أهون من النشأة الأولى؛ لأنه إنما يقال له كن فيكون، وفي النشأة الأولى: كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً ثم كسيت العظام لحماً ثم نفخ فيه الروح، فهذا على المخلوق صعب والإنشاء يكون أهون عليه، وهذا قول النحويين، ويروى مثله عن ابن عباس. قال الفراء: حدثني حبان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} يقول على المخلوق؛ لأنه يقول له يوم القيامة (كن فيكون) . فأما ما يروى عن مجاهد من أنه قال: الإنشاء عليه أهون من الابتداء، فقول مرغوب عنه، لأنه لا يهون عليه شيء دون شيء تبارك تعالى. * * * قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ} [الروم: 41] . قيل: البر: أهل البادية، والبحر: القرى التي على الأنهار العظيمة، هذا قول قتادة. قال مجاهد: البر: ظهر الأرض، والبحر: البحر المعروف (تؤخذ كل سفينة غصباً) . وقيل: البر: الأرض القفر، والبحر: المجرى الواسع للماء عذباً كان أو مالحاً. وقيل: البر: البرية، والبحر: الريف، والمواضع الخصبة. وأصل (البر) من البِرَّ؛ لأنه يبر بصلاح المقام فيه، وأصل (البحر) الشق، ومنه (البحيرة) ، ومنه قيل (بحر) لأنه شق في الأرض، ثم كثر فسمي الماء الملح بحراً، وأنشد ثعلب: وقد عاد ماء الأرض بحرأ فزادني إلى مرضي أن أبحر المشرب العذب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 والفساد: ضد الصلاح، وقيل الفساد هاهنا: المعاصي، وقيل: هو على الحذف، والتقدير: ظهر الفساد في البر والبحر. قال الفراء: أجدب البر، وانقطعت مادة البحر بذنوبهم، كان ذلك ليذاقوا الشدة في العاجل. * * * قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} [الروم: 51] . قال الخليل: الفعل الماضي هاهنا في موضع المستقبل، والمعنى: ليظلن. ومما يسأل عنه أن يقال: أين جواب الشرط في قوله: {وَلَئِنْ} ؟ والجواب: أغنى عنه بجواب القسم وكان أحق بالحكم لتقدمه على الشرط، ولو تقدم الشرط لكان الجواب له، كقولك: عن أرسلنا ريحاً لظلوا والله يكفرون. وهذه (اللام) يسميها البصريون لام التوطئة، ويسميها الكوفيون لام إنذار القسم. ويسأل عن (الهاء) في قوله: {فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا} ؟ وفيها ثلاثة أجوبة: أحدها: أنها تعود على السحاب، والمعنى ولئن رأوا السحاب مصفراً؛ لأنه إذا كان كذلك لم يكن فيه مطر. والثاني: أنها تعود على الزرع؛ لأنه قوله: {إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} [الروم: 50] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 يدل عليه، فأما من قرأ {إِلَى آثَارِ} على الإفراد، فيجوز أن تعود الهاء على (أثر) ؛ لأنه يدل على الزرع. والثالث: أنها تعود على الريح، أي: فرأوا الريح مصفراً، وهو قول الحسن، ومجازه: أن الريح تأنيثها غير حقيقي، والمؤنث الحقيقي إنما يكون في الحيوان، فذكر الوصف، كما قال تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 275] ، والموعظة مؤنثة. {ومن سورة لقمان } * * * قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27] . يقال: مد النهر ومده نهر آخر، قال الفراء: تقول العرب: دجلة تمد بئارها وأنهارنا، والله يمدنا بها، ونقول أمددتك بألف فمدوك. قرأ أبو عمرو {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ} بالنصب، ورفع الباقون، فالنصب على العطف على {مَا} من وقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ} ، والرفع: على القطع مما قبله، ويكون رفعاً بالابتداء، {يَمُدُّهُ} في موضع نصب على الحال، والخبر محذوف، كأنه قال: والبحر يمده من بعده سبعة أبحر مداد، ثم حذف؛ لأن المعنى مفهوم، أو يضمر (يكون مداداً) وإلى هذا ذهب الفراء، ولا يجوز أن تعطفه على المضمر في وقوله: {فِي الْأَرْضِ} كأنه في التقدير: ولو أن ما أستقر في الأرض من شجرة أقلام هو والبحر؛ لأن البحر لا يكون أقلاماً. وموضع {مَا} رفع بإضمار فعل، كأنه في التقدير: ولو وقع، أن ما في الأرض؛ لأن {لَوْ} بالفعل أولى، لما فيها من معنى الشرط، ولا يجوز أن تعطف البحر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 على موضعها؛ لأنها مفتوحة، وقد ذهب عنها معنى الابتداء. {ومن سورة السجدة } * * * قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} [السجدة: 23] . يسأل علام تعود (الهاء) في قوله: {مِنْ لِقَائِهِ} ؟ وفي هذا أجوبة: أحدها: أن المعنى: فلا تكن في مرية من لقاء موسى الكتاب، فهو يعود على الكتاب، هذا قول الزجاج. والثاني: أنها تعود على الأذى، والمعنى: فلا تكن في مرية من لقاء الأذى، كما لقي موسى، وهو قول الحسن. والثالث: أنها تعود علة موسى، والتقدير: فلا تكن يا محمد في مرية من لقاء موسى. وقيل: يعود على الابتداء، والمعنى: فلا تكن في مرية من لقاء إيتائك الكتاب كما أوتي موسى. {ومن سورة الأحزاب } * * * قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33] قرأ نافع وعاصم {وَقَرْنَ} بفتح القاف، وقرأ الباقون {وَقِرْنَ} بالكسر، فأما من قرأ {وَقَرْنَ} فهي قراءة نظير، وذلك أنه لا يخلو أن يكون من (الوقار) أو من (القرار) فلا يجوز أن يكون من (الوقار) لأنه إنما يقال: وقر يقر: وعد يعد، فإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 أمرت قلت: (قِرْنْ) كما قرأت الجماعة، وهذا يدل على ميزان قولك: عدن، ولا يجوز أن يكون من (القرار) لأنه إنما يقال: قر في المكان يقِرُّ بكسر القاف، وقرت عينه تقر، فلو كان من (القرار) لقيل: اقررن، ثم يستثقل تكرير (الراء) فتنتقل حركتها إلى القاف، ثم تحذف إحدى الرائين لالتقاء الساكنين، وتحذف همزة الوصل للاستغناء عنها فيبقى (قرن) كما قرأت الجماعة، فهذان الوجهان يجوزان في قراءة من كسر، وأما الفتح فبعيد إلا أنه قد حكي: قررت في المكان أقر، وهي لغى حكاها الكسائي، فيجوز على هذا أن يكون الأصل (أقررن) ثم فعل باقررن، ثم ألقيت فتحة الراء على القاف، وحذفت لالتقاء الساكنين، وحذفت الهمزة للاستغناء عنها، كما فعل فيما تقدم، وأكثر ما يجيء هذا في (فعلت) نحو: ظَلْتْ ظِلْتُ ومَسْتُ ومِسْتُ وأًحْسَسْتُ وأَحِست، وأنشد أبو زيد: خلا أن العتاق من المطايا ... حسين به فهن إليه شوس إلا أن الفراء حكى: هن ينحطن من الجبل، في معنى: ينحططن. وقيل في التبرج: التبختر، وقيل: التكسر، وهو قول قتادة، وقيل الظهور. * * * قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] قرأ عاصم {خَاتَمَ النَّبِيِّينَ} بفتح التاء وهي قراءة الحسن، وقرأ الباقون بالكسر. كأن المعنى عنده: هو آخر النبيين، ويروي عن علقمة أنه قرأ {خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين: 26] ، أي: آخره مسك. قال المبرد: (خاتم) فعل ماض على وزن (فاعل) وهو في معنى: ختم النبيين، فنصب في هذا الوجه على أنه مفعول، وفي حرف عبد الله "وِلَكِنْ نَبِيَّاً خَتَمَ النَّبِيَّينَ"، وقراءة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 كسر يدل على هذا المعنى؛ لأنه اسم فاعل من ختم، كضارب من ضرب. والنبيين: في مذهب من كسر في موضع جر بالإضافة، وكذا في مذهب من فتح، إلا عند المبرد فإنه في موضع نصب على ما قدمناه. ويجوز في {رَسُولَ اللَّهِ} وجهان: النصب والرفع. فالنصب: على أنه خبر {كَانَ} أي: ولكن كان محمد رسول الله. والرفع: على معنى: ولكن هو رسول الله. وهذه الآية نزلت في زيد بن حارثة، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تبناه فكان يقال زيد ابن رسول الله، وكان النبي - عليه السلام - خطب زينب بنت جحش امرأة زيد بعد أن طلقها زيد فامتنعت. فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ} [الأحزاب: 36] ، إلى آخر القصة، وأنزل: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] ، فلما نزلت هذه الآية قال زيد: أنا ابن حارثة، وأذن الله تعالى لنبيه في تزويج زينب. قال قتادة: أولاد النبي - عليه السلام -: القاسم، وبه كان يكنى، وإبراهيم، والطيب، والمطهر، قال غيره: وعبد الله، قيل: الطيب والمطهر وعبد الله أسماء كانت لواحد. * * * قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ} [الأحزاب: 50] نصب (امرأة) بإضمار فعل تقدير: وأحللنا لك امرأة مؤمنة إن وهبت. ومما يسأل عنه أن يقال: لم قال: {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} . ولم يقل: إن وهبت نفسها لك؟ والجواب: أنه لو قال ذلك لتوهم أنه يجوز لغيره، فذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ليزول اللبس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 قال علي بن الحسين: هذه امرأة من الأزد يقال لها: أم شريك، وقال الشعبي: هي امرأة من الأنصار، وقيل: هي زينب بنت جحش، وقال ابن عباس: لم يكن عند النبي - عليه السلام - امرأة وهبت نفسها له. * * * قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} [الأحزاب: 51] . كلهن: توكيد للمضمر في {يَرْضَيْنَ} ، أي: ويرضين كلهن، ولا يجوز نصبه على توكيد المضمر في {آتَيْتَهُنَّ} ؛ لأن المعنى ليس عليه، لا يريد: آتيتهن كلهن، وإنما يريد: يرضين كلهن. {ومن سورة سبأ } * * * قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10] . التأويب: سير النهار، والاساد: سير الليل. وقيل: في {أَوِّبِي مَعَهُ} سبحي، وهو قول ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة. تأويله عند أهل اللغة: سبحي معه مؤوبة، أي: سبحي معه في النهار، وسيري معه. وقيل تأويله: رجعي معه التسبيح، لأن أصله من آب يؤوب، أي: رجع. وقيل معناه: سيرى معه حيث شاء. وجاء في التفسير: أن الحديد لان في يده حتى صار كالشمع، قال: وأسيل له الحديد حتى صار كالطين، فكان يعمل به ما يشاء. فأما النصب في قوله: {وَالطَّيْرَ} ففيه أربعة أوجه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 أحدها: أنه معطوف على قوله: {فَضْلًا} ، والتقدير: آتينا داود منا فضلاً والطير يا جبال أوبي معه، وهذا قول الكسائي. والثاني: أنه نصب بإضمار فعل، كأنه قال: وسخرنا له الطير، وهو قوب أبي عمرو. والثالث: أنه مفعول معه، كأنه قال: يا جبال أوبي معه مع الطير، قال الشاعر: فكونوا أنتم وبني أبيكم مكان الكليتين من الطحال أي: مع بني أبيكم والرابع: أن يكون معطوفاً على موضع الجبال؛ لأن موضعها نصب بالنداء، كما تقول: يا زيد والضحاك، قال الشاعر ألا يا زيد والضحكاك سيرا فقد جاوزتما خمر الطريق وروي أن الأعمش أو غيره قرأ {وَالطَّيْرُ} بالرفع، وكذلك قرأ يعقوب، وأجازه الفراء، ورفعه من وجهين: أحدهما: أن يكون معطوفاً على لفظ (الجبال) ، كما تقول: يا زيد والضحاك، وهو اختيار الخليل، وأبو عمرو يختار: يا زيد والضحاك. والثاني: أن يكون معطوفاً على المضمر في {أَوِّبِي} ، وهو قول الفراء، وحسن العطف على المضمر المرفوع وإن لم يؤكد؛ لأن قوله: {مَعَهُ} قام مقام التوكيد، كما قال في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 آية أخرى: {مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148] ، فقامت {لَا} مقام التوكيد، وقد جاء العطف من غير توكيد ولا فصل في نحو قول عمر بن أبى ربيعة: قلت إذ أقبلت وزهر تهادى كنعاج الملا تعسفن رملا وهو قبيح، وكان حقه أن يقول: هي وزهر. * * * قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ: 15-16] . قال الزجاج: (سبأ) مدينة بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام. قال غيره: هي قبيلة، وقيل: (سبأ) رجل، وهو أبو اليمن، وللعرب فيها مذهبان. منهم من يصرفها، يجعلها اسماً للحي، أو اسماً لمكان، أو لأب: قال جرير: تدعوك تيم في قرى سبأ فدع أعناقهم جلد الجواميس ومنهم من لا يصرفعل، يجعلها اسماً لقبيلة أو لمدينة أو لبقعة أو لأم، قال الشاعر: من سبأ الحاضرين مأرب إذ يبنون من دون سيله العرما والعرم: المسناة، واحدها (عرمة) وكأنه مأخوذ من (عرامة) الماء، ويقال أيضاً (محبس الماء) ، قال الأعشى في العزت: ففي ذاك للمؤتسي أسوة ومأرب قفى عليها العرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 رخام بنته لهم حمير إذا جاءه ماؤهم لم يرم الخمط: كل شجرة ذات شوك، وقيل: الخمط: شجرة الأراك، وهو قول ابن عباس، والحسن وقتادة والضحاك. وأكُُلُهُ: ثمره، يقال: أُكل وأُكل، بضم الهمزة: فأما الأكل بالفتح فمصدر أًكَلَ. والأثل: الطرفاء: وقيل: خشب وهو قول الحسن، والمعروف أن الأثل شجر يشبه الطرفاء. والسدر: شجرة النبق، وقيل: السدر هاهنا السمر، وهو شجر أم غيلان. وقرئ {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} بالإضافة، وهي قراءة أبي عمرو، وقرأ الباقون {أُكُلٍ} بتنوين {أُكُلٍ} ، جعلوا {خَمْطٍ} بدلاً من {أُكُلٍ} وهو بدل بعض من كل. حدثني أبي عن عمه إبراهيم بن غالب عن القاضي منذر بن سعيد قال: حدثنا أبو النجم عصام بن منصور المرادي عن أبي بكر أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام قال كان عمرو بن عامر فيما حدثني أبو زيد الأنصاري: رأى جرذاً في سد مأرب الذي يحبس عليهم الماء فيصرفونه حيث شاءوا من أرضهم فلما رأي ذلك علم أنه لا بقاء للسد على ذلك، فاعتزم على النقلة عن اليمين، وكاد قومه؛ فأمر أصغر ولده إذا أغلظ له أن يقوم إليه فليطمه، ففعل ابنه ما أمره به، فقال عمرو: لا أقيم ببلد لطم وجهي فيه أصغر ولدي، وعرض أمواله، فقال أشراف كم أشراف اليمن: أغتنموا غضبة عمرو، واشتروا أمواله، ففعلوا، وانتقل في ووولد ولده، وقالت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 الأزد: لا نتخلف عن عمرو بن عامر، فباعوا أموالهم وخرجوا معه، فساروا حتى نزلوا بلاد (عك) ، فحاربهم عك، فكانت حربهم سجالاً ففي ذلك يقول عباس بن مرداس: وعك بن عدنان الذين تلعبوا بغسان حتى طردوا كل مطرد. وغسان: ماء بسد مأرب، كان شربا لولد مازن من بني الأزد بن الغوث، فسموا به، ويقال: غسان: ماء بالمشلل قريب من الجحفة، قال حسان بن ثابت: إما سألت فإنا معشر نجب الأزد نسبتنا والماء غسان قال: ثم ارتحلوا وتفرقوا في البلاد فنزل آل جفنة بن عمرو بن عامر الشام، ونزلت الأوس والخزرج يثرب، ونزلت خزاعة بطن مر، ونزلت أزد السراة السراة، ونزلت أزد عمان عمان، ثم أرسل الله على السد السيل فهلك به، ففيه أنزل الله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ: 15] . قال: ويقال: من ولد عمر بن عامر (ربيعة بن نضر بن أبي حارثة بن عمرو) ومن ولد ربيعة (النعمان بن المنذر) ، فيما يقال، وقالت العرب: (تفرقوا أيدي سبأ) ، فأجري هذا مثلاً، وأنشد الفراء: عيناً ترى الناس إليها نسبا من صادر ووارد أيدي سبأ * * * قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ: 20] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 قرأ الكسائي وعاصم وحمزة {صَدَّقَ} بالتشديد، وقرأ الباقون {صَدَقَ} بالتخفيف، فمن شدد نصب (الظَّنَّ) لأنه مفعول بصدق، وذلك أنه قال: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} [النساء: 119] {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ} [الحجر: 39] فقال: ذلك بالظن فصدق ظنه. وأما من خفف فذهب الفراء إلى أن المعنى: ولقد صدق عليهم إبليس ظنه بالرفع، على أن قوله: {ظنه} بدل من {إبليس} ، قال: ولو قرأ قارئ (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه) لجاز كما تقول: صدقك ظنك وكذلك ظنك؛ لأن (الظَّنَّ) يخطئ ويصيب. * * * قوله تعالى: {لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] قال المفسرون معناه: وأنا لعلى هدى وأنتم في ضلال مبين. ومعنى {أَوْ} هاهنا معنى (الواو) ، قال الفراء، وكذلك هو في المعنى، غير ان العربية على غير ذلك لا تكون (أو) بمنزلة (الواو) ولكنها تكون في الأمر المفوض، كما تقول: إن شئت فخذ درهماً أو اثنين، وليس له أن يأخذ ثلاثة، قال والمعنى في قوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ} إنا لضالون أو لمهتدون، وإنكم أيضاً لضالون أو مهتدون، وهو يعلم أن رسوله المهتدي وأن غيره الضال، قال: وأنت تقول في الكلام للرجل يكذبك: والله إن أحدنا لكاذب، فكذبته تكذيباً غير مكشوف، وهو في القرآن وفي كلام العرب كثير يوجه إلى أحسن مذاهبه إذا عرف، كقول القائل: والله لقد قام زيد، وهو كاذب، فيقول العالم بأن الأمر على خلاف ذلك، قال: (إن شاء الله) أو قال: (فيما أظن) فيكذبه بأحسن من تصريح التكذيب. قال علي بن عيسى: هذا على الإنصاف في الحجاج، كما يقول القائل: أحدنا كاذب، وحقيقة {أَوْ} هاهنا أنها لأحد الأمرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 قوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [سبأ: 33] قال الحسن وابن زيد المعنى: بل مكركم في الليل والنهار، وكذلك في العربية يتسع في الكلام فتضاف الأحداث إلى الزمان، ويخبر عن الزمان بما يقع فيه، فيقال: صيام النهار وقيام الليل، والمعنى: الصيام في النهار، والقيام في الليل، ويقولون: ليل قائم ونهار صائم، والليل والنهار غير صائمين، قال الشاعر: لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت وما ليل المطي بنائم وأضاف الليل إلى المطي على الاتساع، ووصف الليل بالنوم، وهذا على حد قولك: ليلي نائم، فيقول السامع: ليس ليلك بنائم. * * * قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [سبأ: 48] فيجوز في {علم} وجهان: النصب والرفع، فالنصب من وجهين: أحدهما: أن يكون نعتاً لربي، كأنه قال: قل إن ربي علاَّم الغيوب يقذف بالحق. والثاني: أن يكون نصباً على المدح، كأنك قلت: أعني علام الغيوب. وأما الرفع فيجوز من وجهين أيضاً: أحدهما: يكون بدلاً من المضمر في {يَقْذِفُ} [سبأ: 48] ؛ لأن في {يَقْذِفُ} ضميراً تقديره: يقذف هو. والثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: هو علام الغيوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 وقد قيل: هو مرفوع على موضع {أَنْ} قبل دخولها، كما تعطف على موضعها بالرفع، وليس بوجه. {من سورة الملائكة } * * * قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10] العزة: المنعة، ويقال: عز الشيء إذا امتنع، ومنه قيل، شاة عزوز إذا كانت عسرة الحلب، وقيل: أصله من عز إذا غلب، ومنه يقال: من عزَّ بَزَّ، أي: من غلب سلب، قالت الخنساء: وكنا القديم سراة الأديم والناس إذ ذاك من عز بزا والعزاز: أطراف الأرض؛ لأنها ممتنعة لعسر المشي فيها، ومن كلام الزهري لرجل كان يأخذ عنه، ويقوم إذا رآه حتى إذا ظن أنه قد استنفد ما عنده ترك القيام، فقال له: إنك في العزاز بعد فعد إلى القيام: أي: أنت في الطرف. والصعود: ضد الهبوط، وهما المصدران، فأما (الصعود) و (الهبوط) بفتح الأول فاسمان: يقال: صعد يصعد صعوداً، إذا ارتفع، وأصعد في الأرض يصعد إصعاداً، قال الشاعر: هواي مع الركب اليمانين مصعد جنيب وجثماني بمكة موثق والكلم: يذكر ويؤنث، تقول: هذه كلم وهذا كلم، وكذلك كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا (الهاء) يجوز فيه التذكير والتأنيث، نحو: هذه نخل وهذا نخل. قال الله تعالى: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 وقال: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20] وقرأ أبو عبد الرحمن: {الكَّلاَمُ الطَّيِّبِ} . والفرق بين الكلام والكلم: أن (الكلام) يقع على الجملة القائمة بنفسها، نحو قولك: زيد قائم، و (الكلم) إنما هو جمع كلمة، كلبنة ولبن وخلفة وخلف، أنشد الفراء: مالك ترغين ولا ترغو الخلف وتضجرين والمطي معترف ومما يسأل عنه أن يقال: علام يقوم الضمير الذي في قوله: {يَرْفَعُهُ} ؟ وفيه ثلاثة أجوبة: أحدهما: ان المعنى: والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب. والثاني: أن المعنى: والله يرفعه. والثالث: أن الكلام يرفع العمل الصالح، ويجوز في {الْعَمَلُ} على هذا الوجه النصب بإضمار فعل تقديره: ويرفع الكلم الطيب العمل الصالح يرفعه، ذم حذفت؛ لأن الثاني يفسره، ومثله: قام زيد وعمراً ضربته وأجاز الفراء أن تنصب على تقدير: يرفع الله العمل الصالح يرفع، فيكون {اللَّهِ} فاعلا. * * * قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [فاطر: 12] الأجاج: الشديد المرارة، وأصله من أجت النار، كأنه يحرق من شدة المرارة، ويقال: ماء ملح، ولا يقال: مالح، وما ملح أجاج، إذا كان فيه مرارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 والفلك: السفن، وهو يقع على الواحد والجمع بلفظ واحد والتقدير مختلف: فإذا كان واحداً كان بمنزلة (قفل) و (برد) ، قال الله تعالى: {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الشعراء: 119] فجعله واحداً، وإذا كان جمعاً كان بمنزلة (أسد) و (وثن) وعليه قوله: {وترى الفلك} ، وإنما كان كذلك لأنهم جمعوا (فلاً) على (فعل) وجاز أن يجمع (فعل) على (فعل) وليس بابه من قبل أن (فعلاً) و (فعلا) يشتركان؛ نحو: رُشْد ورَشَد، وسُقَم وسَقَم، وعُدْم وعَدَم، وحُزْن وحَزَن، وعُرْب وعَرَب، وعُجْم وعَجَم في أشباهٍ لذلك، و (فعل) يجمع على (فعل) نحو: أسد وأسد، ووثن ووثن، فجمعوا (فعلا) كجمع (فعل) ، وهذا مذهب سيبويه وإن لم يصرح به. ويقال: مخرت السفينة، إذا شقت الماء تمخر مخرا فهي ماخرة والجمع مواخر. ومما يسأل عنه أن يقال: الحلية إنما تخرج من الملح دون العذب، فكيف قال: {تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً} ؟ وعن هذا جوابان: أحدهما: أنه كذلك إلا أنه جمع بينهما في ذلك لاصطحابهما؛ لأن المعنى قد عرف، ومثل ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورً} [نوح: 15-16] . والقمر إنما هو في سماء الدنيا، غير أنه وإن كان قد اختص بمكان من السموات فهو فيها، وكذلك البحران وان كان اللؤلؤ والمرجان يخرجان من أحدهما فهو يخرج منهما وإن اختص خروجهما من أحدهما. والقول الثاني: أن في البحر عيوناً عذبة واللؤلؤ والمرجان يخرجان من بينهما، ذكر أنهما يتكونان في الماء العذب الذي في تلك العيون، فقد اشترك العذب والملح فيهما. * * * قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر: 27] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 الجدد: جمع (جدة) وهي الطريقة، وجدد: طرائق، قال الشاعر: كأن سراته وجدة ظهره كنائن يجري بينهن دليص يعني بالجدة: الخطة السوداء التي في متن الحمار، والدليص: البراق. والغرابيب: حجارة سود واحدها (غريب) ، وقال (سود) والغرابيب لا تكون إلا سوداً للتوكيد، كما تقول: رأيت زيداً زيداً، إذا أردت التوكيد, وقيل: هو على التقديم والتأخير، كأنه قال: وجدد سود غرابيب؛ لأنه يقال: أسود غربيب, وأسود حالك، وأسود حلكوك, وأسود حانك بمعنى واحد. وقوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} أضاف الفعل إلى نفسه، وكان الأول بلفظ الغائب، لقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ} ؛ لأن الضمير هو المظهر في المعنى فقام أحدهما مقام الآخر. ونصب {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} على الحال، وهي حال مقدرة؛ لأن الثمرة أول ما تخرج لا تختلف ألوانها، وإنما تختلف عند البلاغ، والحال على أربعة أوجه: هذا أحدها، وهو الحال المقدرة. والثاني: حال مؤكد، نحو قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام: 153] ، فهذه حال مؤكدة؛ لأن صراط الله لا يكون إلا مستقيماً، ومثله: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [البقرة: 91] لأن الحق لا يكون إلا مصدقاً. والثالث: حال منقلبة، نحو قولك: قام زيد ضاحكاً؛ لأنه يجوز أن يقوم عابساً، ففرقت بين المعنيين. والرابع: حال منفية، نحو قولك: ما لزيد غير ملتفت ولا مقبل علينا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 وأجمع القراء على رفع (العلماء) ونصب (اسم الله تعالى) ، وهو الصواب الذي لا معدل عنه، إلا أن طلحة بن مصرف قرأ كذلك: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] فرفع (اسم الله تعالى) ونصب "العلماءَ" ويروى مثل ذلك عن أبي حنيفة، وأكثر أهل العلم يذهب إلى أنه لحن، وقد اعتذر بعضهم لهذا بأن قال: هو على القلب، كما تقول: تهيبني الفلاة، في معنى تهيبت الفلاة، وكما قال الشاعر: غداة أحلت لابن أصرم طعنه حصين عبيطات السدائف الخمر فنصب (الطعنة) وهي فاعلة، ورفع (العبيطات) وهي مفعولة، والمعنى: أن الطعنة التي طعنها أحلت له العبيطات؛ لأنه نذر أن لا يأكل عبيطاً من اللحم ولا يشرب خمراً حتى يقتل فلاناً ويأخذ بثأره، فلما قتله أحل له ذلك القتل وما كان حرم، ومثله قول امرئ القيس: حلت لي الخمر وكانت امرءا عن شربها في شغل شاغل وقال قوم: {يَخْشَى} هاهنا بمعنى يراعي، والتقدير: إنما يراعي الله من عباده العلماء، لأنهم هم المخاطبون الذين يفهمون ما يخاطبهم به، ومن سواهم تبع لهم، ومثل ذلك قولهم: ما تركت ذلك إلا خشيتك، أي: مراعاة لك. وقيل: {يَخْشَى} بمعنى: يعلم، والمعنى: كذلك يعلم الله من عباده العلماء، وهذه التأويلات بعيدة. {ومن سورة يس } * * * قوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6] . الإنذار: التخويف، و (اللام) في {لِتُنْذِرَ} لام كي، قال قتادة المعنى لتنذر قوماً لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 ينذر آباؤهم، على جحد؛ لأن عرب الجاهلية لم يكن فيهم نبي قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهذا التأويل إنما يصح إذا كان (القوم) هاهنا يعني بهم العرب المضرية والعدنانية، فأما القحطانية فقد كان فيهم هود وصالح وشعيب - عليه السلام -، ومبعد أيضا من قبل أن قيساً بعث فيهم خالد بن سنان، وهو الذي أطفأ نار الجمرة التي كانت ببلاد قيس، وروي أن بنته وفدت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأكرمها، وقال: (هذه بنت نبي ضيعه قومه) ، وقال عكرمة المعنى: لتنذر قوماً كالذي أنذر آباؤهم، فعلى هذا يكون الإنذار لجميع الناس، وتحتمل {مَا} على هذا الوجه أن تكون بمعنى (الذي) ، فيكون التقدير: لتنذر قوماً كالذي أنذر آباؤهم. وتحتمل أن تكون مصدرية والتقدير: لتنذر قوماً كإنذار آبائهم. * * * قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] قال قتادة ومجاهد في قوله: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} أي: أعمالهم: وقال مجاهد: {وَآثَارَهُمْ} خطاهم إلى المساجد قال غيره: {وءاثارهم} ما أثروا من الآثار الصالحة أو غير الصالحة، فعمل بها فلهم أجر من عمل بها بعدهم، أو وزره وهو قول الفراء. و (الإمام) هاهنا الكتاب الذي تثبته الملائكة عليهم السلام، وتكتب فيه أعمال العباد. وأجمع القراء على النصب في قوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ} على إضمار فعل، والمعنى: أحصينا كل شيء أحيناه، قال الفراء: والرفع وجه جيد، قد سمعت ذلك من العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 38-39] العرجون: الكباسة، وهو القنو أيضاً والقنا والعثكول والعثكال، والقديم: البالي. ويسأل عن قوله: {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} ؟ وفيه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنها تجري لانتهاء أمرها عند انقضاء الدنيا. والثاني: أنها تجري لوقت واحد لا تعدوه، وهو قول قتادة. والثالث: أنها تجري إلى أبعد منازلها في الغروب. وقوله: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} [يس: 40] قيل معناه: حتى يكون نقصان ضوئها كنقصانه، وقال أبو صالح: لا يدرك أحدهما ضوء الآخر، وقيل: الشمس لا تدرك القمر في سرعة سيره، ولا الليل سابق النهار وكل على مقادير قدرها الله تعالى. والفلك: موضع النجوم من الهواء، وأصله: الاستدارة، ومنه قيل: فلكة المغزل، ويروى أن بعضهم قرأ {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} أي لا نهاية. وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ} بالرفع، وقرأ الباقون بالنصب، فمن رفع جعله مبتدأ، والخبر في قوله: {قَدَّرْنَاهُ} وهذا كما تقول: زيد قام وعبد الله أكرمته، وأما النصب فعلى إضمار فعل يدل عليه {قَدَّرْنَاهُ} ، كأنه قال: وقدرنا القمر قدرناه منازل، ثم حذف الفعل الأول لدلالة الثاني عليه، كما تقول: زيد قام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 وعمراً أكرمته، والنصب أجود من الرفع؛ لأنك تعطف فعلاً على فعل، قال الربيع بن ضبع الفراري: أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا والذئب أخشاه إن مررت به وحدي وأخشى الرياح والمطرا يريد: وأخشى الذئب أخشاه، وأما الرفع فهو عطف جملة على جملة وفي الكلام حذف، والتقدير: والقمر قدرناه ذا منازل، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، ولا يجوز أن يكون بلا حذف؛ لأن القمر غير المنازل وإمما يجري في المنازل, ولا يجوز أن تنصب {مَنَازِلَ} على الظرف؛ لأنه محدود والفعل لا يصل إلى المحدود إلا بحرف جر نحو: جلست في المسجد، ولا يجوز: جلست المسجد، وإنما يصل الفعل بغير حرف إلى الظرف المبهم نحو: أمام ووراء وفوق وتحت ويمنة ويسرة وما كان في معناها. * * * قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس: 51-52] . الصور: قرن من نور ينفخ فيه يوم القيامة، واشتقاقه من: صرت الشيء أصوره، أي: أملته وعطفته، كأنه قال: يميل الناس إلى الحشر ويعطفهم. وقيل: الصور جمع صورة بمعنى الصور، والمعنى: ينفخ في صور بني آدم، وأصل الصورة أيضاً من الميل؛ لأنها تمال إلى هيأة من الهيئات. والأجداث: القبور، واحدها: جدث، هذه لغة أهل العالية، وأهل السافلة يقولون (جدف) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 والويل: بمعنى القبوح، هذا قول الأصمعي، وقال المفسرون: هو وادٍ في جهنم. وموضع قوله: {فِي الصُّورِ} رفع؛ لأنه مفعول لم يسم فاعله لـ {نُفِخَ} ، كما تقول: جلس في المكان. ويحتمل قوله هذا وجهين: أحدها: أن يكون (هذا) نعتاً للمرقد، فتبتدئ حينئذ {مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} . والثاني: أن يكون الوقف على قوله: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} ، وانقطع الكلام، ثم قالت الملائكة: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} وفي حرف عبد الله: "من أهبنا من مرقدنا هذا"، وهو بمعنى البعث، والبعث: بمعنى الإيقاظ هاهنا، يقال: بعثت ناقتي فانبعثت، أي: أثرتها فثارت، وهب من منامه وأهبه غيره، وانبعث من منامه وبعثه غيره. والنسول: الإسراع في الخروج، يقال: نسل ينسل نسولاً, قال الشاعر: عسلان الذئب أمسى قارباً برد الليل عليه فنسل قال امرؤ القيس: وإن تك قد ساءتك مني خليقة فسلي ثيابي من ثيابك تنسل وقال قتادة في قوله: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا} يعني بين النفختين. وقال ابن زيد: قوله: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} من قول الكافرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 وقال قتادة: هو من قول المؤمنين, والأول أعني: أنه من قول الملائكة، قول الفراء. * * * قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] يقال: من المخاطب في قوله: {كُنْ} ؟ وفيه ثلاثة أجوبة عن الزجاج: أحدها: أنه لم يقع، وإنما هو إخبار لحدوث ما يريد، كأنه في التقدير: إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يكونه فيكون, فعبر عن هذا المعنى بـ: {كُن} ؛ لأنه أبلغ فيما يراد. والثاني: أن المعنى: إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول من أجله {كُنْ فَيَكُونُ} ، فالمخاطب في هذين الوجهين معدوم, وجاز أمر المعدوم؛ لأن الآمر هو الموجد له. والثالث: أن هذا إنما هو في التحويلات نحو قوله: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] و {كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} [الإسراء: 50] وما أشبه ذلك. ولفظ الأمر في الكلام على عشرة أوجه: أحدها: الأمر لمن دونك، نحو قولك لغلامك: قم. والثاني: الندب، نحو قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] . والثالث: الإباحة، نحو قوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10] . والرابع: الدعاء، نحو قوله: {آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [البقرة: 201] ، ونحو قوله: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا} [البقرة: 286] والخامس: الرغبة، نحو قوله: ارفق بنفسك، أحسن إلى نفسك. والسادس: الشفاعة، نحو قولك: هب لي ذنبه، شفعني فيه. والسابع: التحويل، نحو قوله: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] و {كُونُوا حِجَارَةً} [الإسراء: 50] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 والثامن: التهديد، نحو: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] ، {قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [يونس: 102] . والتاسع: الاختراع والإحداث، نحو: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] والعاشر: التعجب، نحو: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38] ومن قرأ {فَيَكُونُ} عطف على قوله: {أَنْ نَقُولَ لَهُ} ، ولا يجوز أن يكون جوابا لـ {كُنْ} ؛ لأن حق الجواب أن يكون مخالفا لما هو جواب له: إما باختلاف اللفظ، أو باختلاف الفاعل، فاختلاف اللفظ نحو قولك: قم تكرم، واخرج فيحسن إليك، وأما اختلاف الفاعل فنحو قولك، قم أقم معك، واخرج اخرج معك، وقوله: {كُنْ فَيَكُونُ} قد اتفق فيه الأمران: اتفاق اللفظ، واتفاق الفاعل، فصال بمنزلة قولك: قم تقم، وهذا لا فائدة فيه. فأما من رفع فعلى القطع؛ كأنه قال: فهو يكون، والرفع أجود من النصب، قال علي بن عيسى: الامر هاهنا أفخم من الفعل فجاء للتعظيم والتفخيم، قال: ويجوز أن يكون بمنزلة التسهيل والتهوين وانشد: فقالت له العينان سمعا وطاعة وحدرتا كادر لما يثقب والملكوت والملك بمعنى واحد إلا أن الملكوت أكثر مبالغة. {ومن سورة الصافات } * * * قوله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات: 6] . التزيين: التحسين، وحفظ الشيء: صونه، والمارد: الخارج إلى الفساد العاتي. واختلف القراء فقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وابن كثير {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} وقرأ عاصم من طريق أبي بكر {بِزِينَةِ} ينون (زينة) وينصب (الكواكب) ، وقرأ حمزة وحفص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 عن عاصم {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} بالتنوين وجر الكواكب. فمن أضاف ولم ينون جعل المصدر الذي هو (زينة) مضافا إلى الكواكب، وأما من نون ونصب (الكواكب) فإنه نصبها (بزينة) ، كأنه قال: ولقد زينا السماء الدنيا بأن زينا الكواكب؛ لأن تزيين الكواكب تزيين للسماء. ومن نون وجر جعل الكواكب بدلا من زينة، كأنه قال: ولقد زينا السماء الدنيا بالكواكب، وهذا من بدل الشيء من الشيء الذي هو هو؛ لأن الكواكب هي الزينة، ومثله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى: 52-53] ، أجاز الفراء الرفع في (الكواكب) مع تنوين (زينة) على أن تكون (الكواكب) هي (الزينة) للسماء، قال: يريد زيناها بتزينها الكواكب. قال تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات: 51] القرين والمقارن، والصاحب والمصاحب ألفاظ متقاربة المعنى، والمديون المجازون، والسواء الوسط، سمي سواء لاستواء المسافة منه إلى جميع جوانبه، قال ابن عباس: كان القرين رجلا من الناس، وقال مجاهد: كان شيطانا. وروي عن أبي عمرو {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات: 54] بكسر النون، رواه حسين (فأطلع) بقطع الألف والنحويون لا يجيزون ذلك؛ لأن السماء إذا أضيفت حذفت منها النون، فكان يجب أن يقال: هل أنتم مطلعي وإنما يقال: (يطلعون) في (يطالعونني) بحذف إحدى النونين، كما قرأ نافع {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} ، فهذا يجوز في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 الفعل ولا يجوز في الاسم، وأنشد الفراء: وما أدري وظني كل ظن أمسلمني إلى قوم شراح يعني: شراحيل، والمبرد يروي هذا البيت (يسلمني) . قال الفراء في قوله: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} هذا الرجل من أهل الجنة كان له أخ من أهل الكفر وأحب أن يرى مكانه، فيأذن الله له، فيطلع إليه في النار ويخاطبه، فإذا رآه قال: {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات: 56] ، قال: وفي حرف عبد الله (لتغوين) ولولا رحمة ربي {لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات: 57] معك في النار. والعامل في قوله: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا} [الصافات: 53] مضمر، كأنه قال: ندان ونجازى إنا لمدينون، ولا يجوز أن يعمل فيه {لَمَدِينُونَ} [الصافات: 53] ؛ لأن الاستفهام لا يعمل ما بعده فيما قبله. ويقال: مت ومت، وكان القياس أن يقول من يقول: (مت) (أمات) إلا أنه جاء (فعل يفعل) ومثله: دمت أدوم وفضل يفضل، وقد حكى الكسائي: مت تمات ودمت تدام على القياس، كما تقول: خفت أخاف ونمت أنام. * * * قوله تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات: 62] الألف في قوله: {أَذَلِكَ خَيْرٌ} ألف تبكيت وتقريع، وشجرة الزقوم: هي الشجرة الملعونة في القرآن، وكانت فتنتهم بها أن أبا جهل قال: النار تأكر الشجر، فكيف ينبت فيها الشجر!! وللعلماء عن هذا جوابان: أحدهما: أنها شجرة من النار. والثاني: أنها من جوهر لا تأكله النار، وقد استقصيت شرح هذا في سورة بني إسرائيل، وذكر ابن إسحاق أن أبا جهل لما سمع {شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} قال: أتعلمون ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 شجرة الزقوم؟ قالوا: لا، قال: عجوز يثرب، بسمن الحجاز، والله لنتزقمها تزقما. فأنزل الله تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان: 43-45] . فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: إنما يشبه الشيء بما يعرف، ورؤوس الشياطين لا تعرف، فكيف شبه طلع هذه الشجرة برؤوس الشياطين وهي لا تعرف؟ وعن هذا ثلاثة أجوبة: أحدهما: أن رؤوس الشياطين ثمرة شجرة يقال لها الأستن، وإياه عني النابغة: تحيد عن أستن سود أسافله مشي الإماء الغوادي تحمل الحزما وهذه الشجرة تشبه بني آدم، قال الأصمعي: ويقال له (الصوم) ، وأنشد: موكل بشدوف الصوم يرقبه من المغارب مهضوم الحشا زرم يصف وعلا يظن هذا الشجر قناصين فهو يرقبه. والجواب الثاني: أن الشيطان جنس من الحيات، أنشد الفراء: عنجرد تحلف حين أحلف كمثل شيطان الحماط أعرف وأنشد المبرد: وفي البقل إن لم يدفع الله شره شياطين يعدو بعضهن على بعض والثالث: أن الله تعالى شنع صور الشياطين عن الناس، فاستقر في قلوبهم أنها شنعة، فشبه طلع هذه الشجرة بما استقرت شناعته في القلوب، قال الراجز: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 بصرتها تلتهم الثعبانا شيطانة تزوجت شيطانا. وقال أبو النجم الرأس قمل كله وصئبان وليس في الرجلين إلا خيطان فهي التي يفزع منها الشيطان وقال امرؤ القيس: أيقتلني والمشرفي مضاجعي ومسنونة زرق كأنياب أغوال فشبه أسنته بأنياب الأغوال، ولا يقول أحد أنه رأى الغول، ومن قاله من العرب فكاذب، نحو ما يحكى عن تأبط شرا، وهذا قول المحققين من أصحابنا. * * * قوله تعالى: {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 87-89] قيل في قوله: {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} قولان: أحدها: أن المعنى: أي شيء ظنكم به أسوأ ظن. والثاني: فما ظنكم برب العالمين أنه يصنع بكم. وقيل في قوله: {فنظر نظرة في النجوم} أقوال: أحدهما: أن المعنى نظر في علم النجوم ليعلمهم أنه علمهم مثل ما يعلمون، فيكون إنكاره لعبادتهم الأصنام وقولهم بعلم النجوم على بصيرة، لئلا يحتجوا عليه بأنه لا يحسنها، وكان يقال: (من جهل شيئا عاداه) ، فقال: إني سقيم، أي: سأسقم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 والثاني: أنه نظر في نجوم الأرض، وهو جمع نجم وهو ما لم يقم على ساق فرآها تجف وتذوي، فقال: إني سقيم، أي: سأسقم وأذهب كما تذهب هذه النجوم. وقيل: فنظر نظرة في النجوم، أي: فيم ينجم، له من الرأي، أي: يظهر، يقال نجم النبت إذا ظهر، فقال: إني سقيم. قال الفراء في قوله: {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} أي: مطعون، ويقال: إنها كلمة فيها معراض، أي: كل من كان في عنقه الموت فهو سقيم وإن لم يكن به حين قالها سقم ظاهر، قال: وهو وجه حسن. وروي عن يحيى بن المهلب عن الحسن بن عمارة عن المنهال بن عمرو عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب في قوله تعالى: {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} [الكهف: 73] ، وقال: لم يس ولكنها من معاريض الكلام، وقد جاء عن عمر - رضي الله عنه - (إن في المعاريض لما يغنيط عن الكذب) . وقيل: (كذب إبراهيم - عليه السلام - ثلاث كذبات) : قوله {إِنِّي سَقِيمٌ} ، وقوله {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء: 63] ، وقوله في (سارة) هي أختي، وهذا على ما ذهب إليه الفراء من المعاريض: {إِنِّي سَقِيمٌ} سأسقم، و {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} على طريق التبكيت لهم، وكأنه فعله لتعظيمهم إياه، وسارة أخته في الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 وقيل: الكذب يجوز في المكيدة والتقية ومسرة الأهل بما لا يضر. * * * قوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ ال صَّابِرِينَ} [الصافات: 101-102] . قوله: {مَاذَا تَرَى} من الرأي، أي: ما رأيك في ذلك، وقال الفراء المعنى: ماذا تريني من رأيك أو ضميرك، و (رأى) في الكلام على خمسة أوجه: - بمعنى أبصر، نحو: رأيت. - وبمعنى علم، نحو: رأيت زيدا عالما. - وبمعنى ظن، نحو قوله: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج: 6-7] ، فالأول بمعنى الظن، والثاني بمعنى العلم. - وبمعنى أعتقد، نحو قوله: وإنا لقوم لا نرى القتل سبة إذا ما رأته عامر وسلول - وبمعنى الرأي، نحو قولك رأيت هذا الرأي. فأما (رأيت في المنام) فمن رؤية البصر، فلا يجوز أن تكون (ترى) هاهنا بمعنى تبصر؛ لأنه لم يشر إلى شيء يبصر بالعين، ولا يجوز أن تكون بمعنى (علم) أو (ظن) أو (اعتقد) ؛ لانه هذه الأشياء تتعدى إلى مفعولين، وليس هاهنا إلا مفعول واحد، مع استحالة المعنى، فلم يبق إلا أن يكون من (الرأي) والمعنى: ماذا تراه. واختلف في جواب {لَّمَّا} : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 فقيل: هو محذوف، والمعنى: فلما أسلما وتله للجبين وناديناه فازا أو ظفرا بما أرادا. وقيل: (الواو) زائدة: والمعنى: فلما أسلما تله للجبين. والتل: الصرع. وقيل في معنى قوله: {بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} : أطاق أن يسعى معه، وهو قول مجاهد، وقال عبد الرحمن بن زيد: هو السعي في العبادة. وقيل: إنه أمر أن يقعد مقعد الذابح، وينتظر الأمر بإمضاء الذبح على ما رآخ في منامه، ففعل، وقيل: إنه أمر على شرط التخلية والتمكين، فكان - كما روي - أنه: كلما اعتمد بالشفرة انقلبت، وجعل على حلقه صفيحة من نحاس، وقيل: بل ذبح، ووصل الله تعالى ما فراه بلا فصل. واختلف في الذبيح: فقيل: هو إسماعيل، وقيل: هو إسحاق، روى محمد بن خالد عن سلم بن قتيبة عن مبارك عن الحسن عن الأحنف عن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - أنه قال: الذبيح إسحاق، وروى أبو الخطاب حدثنا أبو داود عن زيد عن عطاء عن سماك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 ابن حرب عن محمد بن المنتشر عن مسروق أنه كان يقول: الذبيح إسحاق، وروى إسحاق بن إبراهيم الشهيدي عن يحيى اليمان عن إسرائيل عن ثور عن مجاهد عن ابن عمر قال: الذبيح إسماعيل، وروى محمد بن عبيد حدثنا مسلم بن إبراهيم عن الحجاج بن الحجاج عن الفرزدق همام بن غالب قال: سمعت أبا هريرة على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: الذبيح إسماعيل، والأول قول علي وابن مسعود والحسن وكعب الأحبار، والثاني قول محمد بن كعب وسعيد بن المسيب وابن عباس والحسن بخلاف. وقيل: كان الذبيح يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة. وجاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أنا ابن الذبيحين) ، فهذا يدل على أن الذبيح (إسماعيل) ؛ لأن النبي - عليه السلام - من ولد إسماعيل، والذبيح الثاني (عبد الله) أب النبي - صلى الله عليه وسلم -. حدثني أبي عن عمه حدثنا القاضي منذر بن سعيد حدثنا أبو النجم عصام بن منصور عن أبي بكر أحمد بن عبد الله البرقي عن أبي محمد عبد الملك بن هشام عن زياد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري عن يزيد بن عبد الله عن عبد الله بن دريد الغافقي قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحدث، قال: كان عبد المطلب نائماً في الحجر، فأتاه آت، فقال: احفر طيبة، قال عبد المطلب: وما طيبة؟ قال: فذهب عني، قال عبد المطلب: فلما كان الغد رحعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر برة، قلت: وما برة؟ قال: فذهب عني، فلما كان من الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر المضنونة، قلت: وما المضنونة؟ قال: فذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت، فجاءني فقال: احفر زمزم، قلت وما زمزم؟ قال: لا ينزف أبدا ولا يندم، وهي بين الفرث والدم عند نقرة الغراب الأعصم عند قرية النمل، قال: فلما بين شأنها، وعرف موضعها، وعرف أنه قد صدق، غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث، وليس له يؤمئذ ولد غيره، فحفر فلما بدا له الفئ كبر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه، فقالوا له: يا عبد المطلب، إنما بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقا فأشركنا معك فيها، فقال: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم وأعطيته من بينكم، قالوا له: فأنصفنا، فإنا غير تاركيكحتى نخاصمك فيها، قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه، قالوا كاهنة بني سعد ابن هذيم، قال: نعم، وكانت بأطراف الشام، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أبيه من بني عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر والآرض إذ ذاك مفاوز، فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام فُني ماء عبد المطلب، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من معهم من قبائل قريش فأبوا عليهم، فقالوا إنا بمفاوز، ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم، فلما رأي عبد المطلب ذلك قال لأصحابه ماذا ترون؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع رأيك، فمرنا بما شئت، قال: فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن من القوة، فكلما مات رجل دفنه أصحابه في حفرته، ثم واروه حتى يكون آخركم رجلاً، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب، قالوا نعم ما أمرت به، ففعلوا ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشاً، ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نبتغي لأنفسنا فرجاً لعجز، فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد ارتحلوا، فارتحلوا حتى إذا فرغوا، وقبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون، تقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها، فلما انبعثت به انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب وشربوا، واستقموا حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 اسقيتهم ودعا عبد المطلب قبائل قريش فقال: هلم إلى الماء، فقد سقانا الله فاشربوا واستقوا، فشربوا واستقوا، ثم قالوا له: والله لقد قضي لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في زمزم أبداً، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو سقاك زمزم فارجع إلى سقايتك راشداً، فرجع ورجعوا، ولو يصلوا إلى الكاهنة، قال: وكان قد نذر حين لقي من قريش ما لقي (لئن ولد له عشرة نقر ثم بلغوا معه حتى يمنعوه لينحرَّن أحدهم عند الكعبة، فلما ولد له عشرة، وعلم أنهم سيمنعونه، أحب أن يفي بنذره، فجمع بنيه وأخبرهم بذلك، ودعاهم إلى الوفاء لله تعالى، فأطعوه، قالوا: كيف نصنع؟ قال: ليأخذ كل رجل منكم قدحاً ثم يكتب عليه اسمه، ثم إئتوني، ففعلوا، وأتوه فدخل بهم على (هبل) في جوف الكعبة، وكان (عبد الله) أحب ولده إليه، فكان يرى أن السهم إذا أخطأه فقد أشوى، فلما أخذ صاحب القداح القدح ليضرب بها، قام عبد الطلب يدعو الله عند هبل، فضرب صاحب القداح، فخرج القدح على عبد الله، فأخذ عبد المطلب يدعو الله عند هبل، فضرب صاحب القداح، فخرج القدح على عبد الله، فأخذ عبد المطلب بيده وأخذ الشفرة، ثم أقبل إلى أساف ونائلة ليذبحه، فقالت إليه قريش من أنديتها، فقالوا ما تريد يا عبد المطلب؟ قال: أذبحه، قالوا به: والله لا ندعك تذبحه، لئن فعلت لا يزال الرجل يأتي بابنه حتى يذبحه، فما بقاء للناس على هذا، وساعدهم بنوه، فقال له المغيرة بن عبد الله المخزومي: لاندعك تذبحه حتى تعذر فيه، فإن كان فداء فديناه بأموالنا، وقالت له قريش: اذهب إلى عرافة بالحجاز لها تابع، فسلها وأنت على رأس أمرك، فذهب وذهبوا معه إلى خيبر، فسألوه العرافة عن ذلك، فقال: ارجعوا عني اليوم حتى يأتي تابعي فأسأله، فرجعوا، فلما كان من الغد، عادوا إليها، فقالت لهم: قد جاءني الخبر، كم الدية فيكم؟ قالوا عشرة من الإبل، وكانت كذلك، قالت: فارجعوا إلى بلادكم ثم قربوا صاحبكم وقربوا عشراً من الإبل، ثم اضربوا عليه وعليها بالقداح فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم. فإن خرجت الإبل فانحروها عنده، فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم، فرجعوا إلى مكة فلما اجمعوا على ذلك قام عبد المطلب يدعو الله، ثم قربوا عبد الله وعشراً من الإبل، وعبد المطلب يدعو، فخرج القدح على عبد الله، فزادوا عشراً، وضربوا فخرج على عبد الله، فزادوا عشراً فخرج على عبد الله، فزادوا عشراً فخرج على عبد الله، إلى أن بلغت مائة فخرجت على الإبل، فقالت قريش ومن حضر: قد انتهى، رضى ربك يا عبد المطلب فقال: لا والله، حتى أضرب عليها ثلاث مرات ففعل، فخرج في جميع ذلك على الإبل، فنحرت وتركت لا يصد عنها إنسان ولا سبع، فكان النبي - عليه السلام -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 يقول (أنا ابن الذبيحين) فهذا يدل على أن الذبيح إسماعيل - عليه السلام - لأن النبي من ولده. * * * قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] . {أَوْ} هاهنا لأحد الأمرين على طريق الإبهام من المخبر، قال سيبويه: هي تخيير، كان الرائي خير في أن يقول: هم مائة ألف أو يزيدون. وقال بعض الكوفيين: {أَوْ} بمعنى (الواو) كأنه قال: ويزيدون. وقال بعضهم: هي بمعنى (بل) ، وهذان القولان عند العلماء غير مرضين قال ابن جني: هي شك من الرائي. وأجود هذه الأقوال الأول والثاني. {ومن سورة ص } * * * قوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص: 1-2] الذكر هاهنا: الشرف، وهو قول ابن عباس، كأنه قال: والقرآن ذي الشرف، وقال الضحاك وقتادة: ذي الذكر: ذي التذكير. قال قتادة في قوله: {فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} أي: في حمية وفراق، وقال عبد الرحمن بن زيد: الشقاق: الخلاف، وأصله من المشاقة وهو أن يصبر كل واحد من الفريقين في شق، أي: في جانب، ومنه يقال: شق فلان العصا، إذا خالف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 قال الفراء: أجمع القراء على إسكان (صاد) إلا الحسن فإنه جرها بلا تنوين لاجتماع الساكنين شبهه بقولهم: خاز باز، وتركته في حيص بيص، وأنشد: لم يلتحصني حيص بيص لحاصي قال و {ص} في معنى: وجب والله، نزل والله، حق والله، فهي جواب لقوله: {وَالْقُرْآنِ} كما يقول: نزل والله. قال ابن عباس: هو اسم من أسماء الله تعالى، وقال السدي: هو من حروف المعجم، وقال الضحاك معناه: صدق الله، وقال قتادة: هو اسم من أسماء القرآن. واختلف في كسر {ص} فقال الفراء: هو لالتقاء الساكنين، وقال غيره: هو أمر من المصاداة، كأنه قال: صاد القرآن، أي: عارضة بعملك وقابله، وهذا قول الحسن. وقرأ بعضهم {ص} بالفتح اسماً للسورة، ولم يصرفه للتعريف والتأنيث، ويجوز أن يكون موضع (صاد) في هذا الوجه نصباً، كأنه قال: اتل صاد، ولو رفع لجاز على تقدير: هذه صاد، فأما من أسكن فيجوز أن يكون في موضع نصب على تقدير: اتل، وعلى تقدير حذف حرف القسم في مذهب من جعلها قسماً، ويجوز أن يكون في موضع رفع على تقدير: هذه ص، في مذهب من جعلها اسما للسورة. الصافنات. وقرئ {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ} أي: المتخيرة. والجياد: جمع جواد، وياؤها منقلبه عن واو، وأصلها (جواد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 والخير هاهنا الخيل وكان النبى - صلى الله عليه وسلم - يسمي (زيد الخيل) (زيد الخير) قال قتادة والسدى: الخير الخيل هاهنا ويقال طفق يفعل كذا وكذا، وجعل يقول كذا وكذا، وأخذ يفعل.. كل ذلك بمعنى واحد. والكرسي أصله من التكرُّس وهو الاجتماع ومنه قيل للجر (كراسة) ؛ لأنها مجتمعة. والجسد هاهنا: شيطان، قال ابن عباس: اسمه (صخر) وقال مجاهد: اسمه (آصف) ، وقال السُّدي اسمه (حبقيق) . واختلف في قوله (فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) فقيل: كشف عراقيبها وضرب أعناقها، وقال: لا تشغلني عن عبادة ربي مرة أخرى، وهو قول الحسن. وقال ابن عباس: مسح أعرافها، وعراقيبها حبالها قال الزجاج: هذا لا يوجب ذنبا، واستعظم ضرب أعناقها، وكشف عراقيبها، وقال: لعله أوحي إليه بذلك، وأبيح له؛ لأن ضرب أعناق الخيل لا يوجبه تأخره عن الصلاة. قال الفراء في قوله (وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ) أي صنماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وقيل: كان سليمان، - عليه السلام. يحب بعض ولده فجعله في السحاب خوفاً عليه، فعوقب بذلك وألقي جسد ولده ميتاً على كرسيه. * * * قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} [ص: 34] أي: ابتليناه، وقيل: سلب ملكه أربعين يوماً، وكان ملكه في خاتمه، فلما أخذه الشيطان رماه في البحر، فوجده سليمان بعد أربعين يوماً في بطن سمكة. وقيل: كان ذنبه أنه وطئ في ليلة عدداً كبيراً من جواريه حرصاً على كثرة الولد. وقيل: كان ذنبه أنه وطئ امرأته في الحيض. وقيل: كانت له امرأة سباها من المغرب، وقتل أباها، فاتخذت صنماً على صورة أبيها، فكانت تسجد له، وكان اتخاذها له بعلم سليمان، فعوقب على تمكينها من ذلك. قال الفراء في وقوله: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32] . يعني: الشمس، كان قد عرض هذا الخيل، وكان غنمها من جيش قاتله، فظفر به، فلما صلى الظهر دعا بها فلم يزل يعرضها حتى غابت الشمس، ولم يصل العصر، وكان مهيباً لا يبتدأ بشيء حتى يأمر به، فلم يذكر العصر، ولم يكن ذلك عن تخير منه، فلما ذكرها قال: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} يقول: آثرت حب الخير: يعني الخيل، والعرب تقول للخيل: خير. يروى عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. في قوله {عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} أنه قال: يعني صلاة العصر، وهو قول قتادة والسدي، قال الزجاج: أراها صلاة كانت مفروضة عليه في ذلك الوقت؛ لأن صلاة العصر لم تفرض على غير نبينا - عليه السلام. وأضمر (الشمس) في قوله: {تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} أي: سترت، ولم يجر لها ذكر؛ لأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 شيء قد عرف، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] يعني: القرآن، ولم يجر له ذكر، وقال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] يعني: الأرض، ولم يجر لها ذكر. هذا قول جميع النحويين. قال الزجاج: وما أراهم اعملوا الفكر في هذا؛ لأن في الكلام ما يقوم مقام ذكر الشمس، وهو قوله: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ} [ص: 31] فالعشي يدل على معنى الشمس. * * * قوله تعالى: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} [ص: 84] قرأ حمزة وعاصم برفع الأول ونصب الثاني، وقرأ الباقون بنصبهما جميعاً، وهي قراءة الحسن، والأولى قراءة الأعمش وابن عباس ومجاهد. فمن رفع الأول جعله خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: أنا الحق، أي: ذو الحق والحق أقول. قال الفراء: هو مبتدأ والخبر محذوف، كأنه قال: فالحق مني: وذكر أن مجاهداً قرأ {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} . والأول معنى قول ابن عباس قال الفراء: وقد يكون رفعه على تأويل: الحق لأقومن، كما تقول: عزمة صادقة لآتينك؛ لأن فيه تأويل: عزمة صادقة أن آتيك، قال: ومثله: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ} [يوسف: 35] . ومن نصب فعلى تقدير: فالحق لأملان، فينصب على المصدر، وإن كان فيه الألف واللام؛ لأنه يؤدي عن قولك: حقاً لأملان، ويكون قوله: {وَالْحَقَّ أَقُولُ} اعتراضاً بين الكلامين. ونصب {وَالْحَقَّ} الثاني بـ {أَقُولُ} ، ويجوز رفعه على الابتداء، {أَقُولُ} الخبر، و (الهاء) محذوفة؛ كأنه قال: والحق أقوله، كما قال امرؤ القيس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 فلما دنوت تسدَّيتُها فَثَوبٌ نَسيتُ وَثَوباً أجُرُّ يروى: فثوب وثوباً بالرفع والنصب، فالرفع على ما ذكر لك، والنصب على أنه مفعول مقدم. {ومن سورة الزمر } * * * قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] . الأزواج: الأصناف، ويعني بالأنعام هاهنا: الإبل والبقر والضأن والمعز، من كل صنف اثنين، وهو قول قتادة والضحاك ومجاهد. قال الحسن: أنزل لكم من الأنعام: جعل لكم. وقيل: أنزلها بعد أن خلقها في الجنة. وقيل: الظلمات الثلاث هاهنا: ظلمة ظهر الرجل، وظلمة البطن، وظلمة الرحم، وقيل: بل ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي وعبد الرحمن بن زيد. * * * قوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64] الألف هاهنا: ألف إنكار. ويسأل عن نصب قوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي} ؟ وفيه جوابان: أحدهما: أن يكون منصوباً بـ: (أعبد) ، كأنه قال: أفغير الله أ'بد، فيكون {تَأْمُرُونِّي} اعتراضاً، وحقيقته، أفغير الله أعبد فيما تأمرونني أيها الجاهلون. والثاني: أن يكون التقدير: أتامروني أعبد غير الله أيها الجاهلون، فلا يكون {تَأْمُرُونِّي} اعتراضاً، ولكن على التقديم والتأخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 ويسأل عن موضع {أَعْبُدُ} من الإعراب؟ وفيه جوابان: أحدهما: أنه لا موضع لها من الإعراب؛ وذلك إذا جعلت التقدير: أعبد غير الله فيما تأمرونني أيها الجاهلون. والثاني: أن يكون موضعه نصبا على الحال، وذلك إذا لم تجعل {تَأْمُرُونِّي} اعتراضا، فيكون التقدير: أتأمرونني عابدا غير الله، فخرجه مخرج الحال، ومعناه: أن أعبد، على تقدير المصدر، والمصدر قد يأتي في موضع الحال، نحو قولك: جئته ركضا ومشيا وكلمته مشافهة وشفاها. وارتفع {أَعْبُدَ} لأنك لما حذف (أن) رجع الفعل إلى أصله، قال طرفة: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي يريد: أن أحضر، فلما (أن) ارتفع الفعل، ورواه بعضهم بالنصب على إضمار (أن) ؛ لأن الثانية تدل عليها. قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] يسأل عن دخول هذه (الواو) هاهنا، وعن جواب {إِذَا} من قوله: {حَتَّى إِذَا} ؟ فذهب المبرد إلى أن (الواو) زائدة، والمعنى: حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها، وكان ينكر قول من يقول هي (واو الثمانية) قال: لأن هذا غير معروف في كلام العرب، وأنشد: فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 قال: المعنى: فلما أجزنا ساحة الحي انتحى. قال ابن الرماني: جاءت (الواو) هاهنا للتصرف في الكلام، وقال أيضا: جاءت لتدل على أبواب الجنة الثمانية، وهو قول أكثر المفسرين. وأكثر النحويين يمنع ذلك. والجواب على هذا محذوف، والتقدير: حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وكان كيت وكيت فازوا ونالوا المنى وما أشبه ذلك، وهذا معنى قول الخليل؛ لأنه قال في بيت امرئ القيس الذي تقدم ذكره. الجواب محذوف، والتقدير: فلما أجزنا ساحة الحي خلونا ونعمنا، قال بعض الهذليين: حتى إذا أسلكوهم في قتائدة شلا كما تطرد الجمالة الشردا فحذف جواب (إذا) ؛ لأن هذا البيت آخر القصيدة. وقيل: (الواو) واو حال، دخلت لتدل على أنهم إذا جاءوها وجدوا أبوابها مفتحة، فلم يعقهم عائق عن الدخول، وحذفت من الأول، كأن جهنم قد أغلقت، وأقيموا على أبوابها؛ لأنه أشد لخوفهم وفزعهم؛ لأن البلاء توقعه أشد من وقوعه. {ومن سورة المؤمن (غافر) } * * * قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] . يسأل: عن الإماتة الأولى، والإماتة الثانية، والإحياء الأول، والإحياء الثاني؟ وفيه جوابان: أحدهما: أن الإماتة الأولى إماتتهم عند خروجهم من الدنيا، والإحياء الأول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 إحياؤهم بمسألة منكر ونكير، والإماتة الثانية إماتتهم بعد المساءلة، والإحياء الثاني إحياؤهم للبعث يوم القيامة، هذا قول السدي. والثاني: أن الإماتة الأولى كونهم نطفة، والإحياء الأول إحياؤهم في الدنيا، والإماتة الثانية إماتتهم عند خروجهم من الدنيا، والإحياء الثاني إحياؤهم يوم القيامة. * * * قوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28] . قيل: هذا المؤمن كان إسرائيليا يكتم إيمانه من آل فرعون، وقيل: كان قبطيا من آل فرعون. ويسأل عن قوله: {أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} ما علة دخول {أَنْ} هاهنا، وما موضعها من الإعراب؟ والجواب: أنها دخلت لتدل على أن القتل إنما كان من أجل الإيمان، ولو حذفت لم يدل على هذا، وإنما يدل على قتل رجل مؤمن لا من أجل إيمانه، والتقدير: أتقتلون رجلا من أجل أن يقول، أي: لأن يقول، وتلخيصه من أجل قوله، ولو حذفت {أَنْ} كان التقدير: أتقتلون رجلا قائلا ربي الله؛ لأن {يَقُولَ} حينئذ نعت لرجل، كما تقول: مررت برجل يأكل، أي: رجل أكل. وموضع {أَنْ} نصب على المفعول له. وقوله: {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} روي عن الخليل أن (بعضا) هاهنا زائدة، والمعنى: يصيبكم الذي يعدكم. وقال بعض المفسرين: {بَعْضُ} هاهنا بمعنى: كل، وبه قال ابن قتيبة. وهذان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 القولان غير مرضيين عند العلماء؛ لأن (بعضا) اسم ولا يصح زيادة الأسماء، وإنما يزاد الحرف في بعض المواضع، و (بعض) ضد كل، فلا يدل على ضدها؛ لأن المعاني إن فعل ذلك بها تشكل، قال ابن الرماني: إنما قال: {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} على المظاهرة بالحجاج، أي: أنه يكفي بعضه فكيف جميعه، وقيل: بعضه في الدنيا، وقيل: كان يتوعدوهم بأمور مختلفة، فخوفهم ببعض تلك الأمور. {ومن سورة حم السجدة } * * * قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] قد تقدم في سورة البقرة أن السماء قد تقع في معنى الجمع، وهي هاهنا كذلك؛ لقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12] فرد الضمير على الجمع. جاء في التفسير: أنه تعالى خلقها أولا دخانا، ثم نقلها إلى حال السماء من الكثافة والالتئام. وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى} معناه: قصد، وروي عن الحسن أنه قال: ثم استوى أمره ولطفه إلى السماء، حدثنا أبو الحسن الحوفي عن أبي بكر الأذفوي حدثنا أبو جعفر أحمد ابن محمد النحاس قال: قرئ على إسحاق بن إبراهيم عن هناد بن السري حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي سعيد بن المرزبان عن عكرمة عن أبي عباس قال هناد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 وقرأته أنا على أبي بكر: أن اليهود أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن خلق السموات والأرض؟ فقال: خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين وخلق الجبال وما فيهن يوم الثلاثاء وخلق الشجر والماء والمدائن والعمارات يوم الأربعاء فهذه أربعة أيام، فقال تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت: 9] ، ثم قال: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 10] ويقول: لمن سأل. وخلق يوم الخميس السماء وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة - صلوات الله عليهم، إلى ثلاث ساعات بقيت منه، فخلق في أول ساعة من هذه الثلاث الآجال، وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء مما ينفع الناس، وفي الثالثة خلق آدم - عليه السلام -، وأسكنه الجنة أمر الملائكة بالسجود له، وأخرجه منها في آخر ساعة. قالت اليهود: ثم ماذا يا محمد؟ قال: ثم استوى على العرش، قالوا: قد أصبت لو تممت ثم استراح يوم السبت. فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - غضبا شديدا، فنزلت: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق: 39] . قال أبو جعفر روي عن عطاء عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أن الله تعالى خلق يوما واحدا فسماه (الأحد) ، ثم خلق ثانيا فسماه (الاثنين) ثم خلق ثالثا فسماه (الثلاثاء) ثم خلق رابعا فسماه (الأربعاء) ثم خلق خامسا فسماه (الخميس) ثم جمع الخلق فسماه (يوم الجمعة) . وروى عبد الله بن أبي رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيدي فقال: (خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه فيها يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم - عليه السلام - بعد العصر في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 قال أبو جعفر: الحديثان ليسا بمتناقضين؛ لأن إن عملنا على الحديث الأول فالخلق في ستة أيام، وليس في التنزيل أنه لا يخلق بعدها شيئا، فيكون هذا متناقضا، وإن عملنا على الثاني فليس في التنزيل أنه لم يخلق قبلها شيئا. قال ابن عباس فيما روى عنه أبو مالك وأبو صالح: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} كان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس فجعله سماء واحدة ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين الخميس والجمعة. قال غيره: قد صح أن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام مقدار كل يوم ألف سنة من أيام الدنيا، فكان بين ابتدائه في خلق ذلك وخلق القلم الذي أمره بكتابة ما هو كائن إلى قيام الساعة يوم وهو ألف سنة، فصار ابتداء الخلق إلى الفراغ منه سبعة آلاف سنة. قال ابن عباس: إقامة الخلق في الأرض سبعة أيام، كما كان الخلق في سبعة أيام، ومدة الدنيا سبعة آلاف سنة. قال العلماء: نظير خلق الأرض في يومين، ثم لما فيها من تتمة أربعة أيام، قول القائل: خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام ثم إلى الكوفة في خمسة عشر يوما، أي في تتمة هذا العدد، ولا يريد أنه سار من بغداد إلى الكوفة في خمسة عشر يوما، وقد فسرنا هذا فيما تقدم بأشبع من هذا. * * * قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] . يسأل عن الضمير في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَهُنَّ} علام يعود، وكيف جمع، وإنما تقدم ذكر الشمس والقمر؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 والجواب: أن الضمير يعود على الآيات، والمعنى: واسجدوا لله الذي خلقهن، أي: خلق الآيات، وليس يعود الضمير على الشمس والقمر فتجب تثنيته. {ومن سورة حم عسق } * * * قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [الشورى: 32] . الجواري: السفن، واحدها جارية. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر {الجَوَارِي} بالياء في الوصل، ووقف ابن كثير وحده على الياء، وقرأ الباقون بحذف الياء في الوصل والوقف. فإثبات الياء هو الأصل في الوقف، وحذفها على التشبيه بحذفها مع التنوين؛ لأن التنوين وحرف التعريف يتعاقبان على الكلمة، فأعطى أحدهما حكم الآخر، فمن أثبتها في الوقف فعلى الأصل، ومن حذفها فعلى التشبيه بما وقف عليه من المنون. والأعلام: الجبال، واحدها علم، قالت الخنساء: ومعنى يظللن: يدمن ويقمن، ويقال: ظل يفعل كذا وكذا، إذا فعله نهارا، وبات يفعل كذا وكذا، إذا فعله ليلاً. والواكد: الثوابت، والإيباق، الإهلاك والإتلاف هذا قول ابن عباس ومجاهد والسدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 وقرأ نافع وابن عامر {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا} [الشورى: 35] بالرفع على القطع. وقرأ الباقون {وَيَعْلَمَ} بالنصب على إضمار (أن) . والكوفيون يقولون: نصب على الصرف، وإنما أضمرت (أن) ليكون مع الفعل مصدراً فيعطف على مصدر ما قبله، ومثله قول الشاعر: للبس عباءة وتقر عيني أحب إلي من لبس الشفوف أي: (وأن تقر عيني) ، أضمر (أن) ؛ لأن في صدر الكلام مصدراً وهو (لبس) . * * * قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51] قال الفراء هذا: كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرى في منامه ويلهمه - يعني الوحي، قال: ومن وراء حجاب كلم موسى - عليه السلام - أو يرسل رسولاً مثل ما كان من الملائكة التي تكلم الأنبياء عليهم السلام. قال غيره: إرسال الرسول أحد أقسام الكلام، كما يقال: عتابك السيف، كأنه قيل: إلا وحياً أو إرسالا. وقيل المعنى: (إلا أن) ، كما تقول: لألزمنك أو تقضيني حقي. فلا يكون الإرسال على هذا الوجه كلاماً. قرأ نافع وابن عامر {أَوْ يُرْسِلَ} بالرفع، وهو وجه، على تقدير: أو هو يرسل رسولاً، وقرأ الباقون بالنصب على إضمار (أن) كأن في التقدير أو أن يرسل رسولاً. ولا يجوز أن يكون معطوفاً على {يُكَلِّمَهُ} ؛ لأن المعنى يصير: وما كان لبشر أن يكلمه الله، ولا كان أن يرسل رسولاً، وهذا إبطال النبوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 {ومن سورة الزخرف } * * * قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] . القريتان هاهنا: مكة والطائف، ويعني بالرجل هاهنا: الوليد بن المغيرة القرشي أو حبيب ابن عمرو الثقفي، وهو قول ابن عباس، وقال مجاهد يعني بالرجلين عتبة بن ربيعة من أهل مكة وابن عبد يا ليل من أهل الطائف، وقال قتادة: يعني من أهل مكة (الوليد بن المغيرة) ومن أهل الطائف (عروة بن مسعود الثقفي) وقيل: يعني بالذي من الطائف (كنانة ابن عمرو) ، وهو قول السدي. وفي الكلام حذف، والتقدير: لولا أنزل هذا القرآن على أحد رجلين من القريتين عظيم، ولا يجوز أن يكون على غير حذف؛ لأن رجلاً لا يكون من قريتين، وقيل التقدير: لولا أنزل هذا القرآن على رجل من رجلين من القرية، ثم حذف؛ لأن المعنى مفهوم. * * * قوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] . الأصل في (سل) : (اسأل) فألقيت حركة الهمزة على السين، وانفتحت السين، فاستغنى عن همزة الوصل فبقى (سل) ، ومن العرب من يقول (اسأل) على الأصل، ومنهم من ينقل الحركة إلى السين ويترك همزة الوصل على حالها فيقول (اسال) ومثله في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 أن همزة الوصل دخلت على متحرك (الحمر) وليس لهما نظير إلا إذا سميت رجلاً بالباء من قولك: (اضرب) فإنك تقول هذا (إب) وهو مذهب الخليل، وقال غيره (رب) . ومما يسأل عنه أن يقال: من الذي أمر أن يسألهم؟ وفيه جوابان: أحدهما: قال الضحاك وقتادة يعني به: أهل الكتابين. والثاني: أنه يعني به: الأنبياء - عليهم السلام - حين جمعوا له ليلة الإسراء، وهوقول عبد الرحمن بن زيد. وفي الكلام على الوجه الأول حذف، والتقدير: وسل أمم من أرسلنا من قبلك، وهو كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ، وقيل: سلهم وإن كانوا كفاراً فإن تواتر خبرهم تقوم به الحجة. والآلهة: جمع إله، مثل: إزار وآزرة، وكان المشركون يعظمون الأصنام تعظيم ملوك بني آدم، وكان ذلك التعظيم كالعبادة لها، والمشركون مع ذلك مقرون أن الله تعالى هو خالقهم ورازقهم، ويدل عليه قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] . * * * قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81] في {إِنْ} هاهنا وجهان: أحدهما: أن يكون نفياً، كأنه قال: ما كان للرحمن ولد، ومثله قوله: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الأحقاف: 26] أي: في الذي ما مكناكم. والوجه الثاني: أنها شرط، والتقدير: قل إن كان للرحمن ولد على زعمكم فأنا أول العابدين وقيل في العابدين ثلاثة أقوال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 أحدها: أنه من العبادة كأنه قال: فأنا أول من يعبده على أن لا ولد له؛ لأن من جعل له ولداً لم يعبده حق العبادة، هذا قول المبرد. والثاني: أن (عابدين) هاهنا بمعنى (جاحدين) ، والمعنى: أنه لا ولد له على الحقيقة، وإذا كان كذلك وجب أن يجحد ادعاء من ادعاه وينكر ولا يعتقد. والثالث: أن معنى عابدين هاهنا بمعنى الآنفين، يقال عبدت من كذا أعبد عبداً. قال الشاعر: ألا هزئت أم الوليد وأصبحت لما أبصرت في الرأس مني تعبد وقال الفرزدق: أولئك قومي إن هجوني هجوتهم وأعبد أن يهجا كليب بدارم قال مجاهد المعنى: قل إن كان للحمن ولد فأنا أو العابدين لله في تكذيبكم، وقال عبد الرحمن بن زيد وقتادة المعنى: قل ما كان للرحمن ولد، وروي عن ابن عباس فيما روى السُّدي أن المعنى: قل لو كان للرحمن ولد لكنت أول من عبده بأن له ولداً، ولكن لا ولد له. والرحمن: اسم ممنوع، ومعنى ممنوع: أنه لا يسمى به غير الله تعالى، وقيل: إن الجاهلية لم تكن تعرفه، فلما نزل قالوا: لا نعرف هذا الاسم، وقيل: إنه لما نزل قالوا: لا نعرف (الرحمن) إلا هذا الذي باليمامة، وقد جاء في الشعر الجاهلي، قال الشاعر وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 (سلامة بن جندل) : عجلتم علينا حجتين عليكم وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق * * * قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَ نَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف: 85-88] . الساعة هاهنا: القيامة. ومعنى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} أي: إلا من شهد بأنه أهل العفو عنه. ومعنى قوله: {الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} أي: يدعون إلها، إلا أنه حذف. قرأ عاصم {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ} وكذلك قرأ حمزة، وهي قراءة السلمي وبعض أصحاب عبد الله بن مسعود، وقرأ أهل المدينة {وَقِيلِهِ} بالنصب، وهي قراءة الحسن أيضا، وروي عن الأعمش أو غيره {وَقِيلِهِ} بالرفع. فمن جر عطفه على (الساعة) كأنه قال: وعنده علم الساعة وعلم قيله يا رب، وقيل: ويجوز أن يكون معطوفاً على (الحق) من قوله: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} ، {وَقِيلِهِ} . ومننصب أضمر فعلاً تقديره: ويعلم قيله يارب، وهو اختيار أبي إسحاق، وقال الفراء: كأنه قال: وشكى شكواه إلى ربه، قال: وهي في إحدى القراءتين، قال: ويجوز نصبه على قوله: {نَسْمَعُ سِرَّهُمْ} [الزخرف: 80] {وَقِيلِهِ} ، وقال الرماني التقدير: إلا من شهد الحق وقال قيله يارب أن هؤلاء قوم لا يؤمنون، على جهة الإنكار عليهم، ويجوز أن يكون معطوفاً على موضع الساعة؛ لأن معنى قوله: {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} ، ويعلم الساعة، والساعة مفعولة وليست ظرفاً؛ لأن الله تعالى لا يعلم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 ساعة دون ساعة تعالى عن ذلك. وأما الرفع فعلى أنه معطوف على {عِلْمُ السَّاعَةِ} ، والمعنى: وعنده علم الساعة وقيله، أي: وعنده قيله. قال مجاهد: ولا تشفع الملائكة وعيسى وعزير عليهم السلام إلا من شهد بالحق، وهو يعلم الحق، وقال قتادة: إلا من شهد بالحق الملائكة وعيسى وعزير عند الله شهادة بالحق. {ومن سورة الدخان } * * * قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان: 3-5] أي: أنزلنا القرآن، والليلة المباركة: ليلة القدر، وهوقول قتادة وعبد الرحمن بن زيد، قالوا: أنزل القرآن جملة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - نجوماً في نيف وعشرين سنة، وقال عكرمة: الليلة المباركة: ليلة النصف من شعبان، قيل: الليلة المباركة: في جميع شهر رمضان؛ تقسم فيها الآجال والأرزاق وغيرهما من الألطاف، وهو قول الحسن. وسميت (مباركة) لانها يقسم فيها أرزاق العباد منالسنة إلى السنة، وقيل في {أَنْزَلْنَاهُ} أي: ابتدأنا إنزاله. ويسأل عن نصب قوله: {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} ؟ وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون مصدراً؛ أي: أمرنا أمراً؛ لأن معنى {فِيهَا يُفْرَقُ} كمعنى (فيها يؤمر) فدل يفرق على يؤمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 والقول الثاني: أنه منصوب على الحال، على أحد وجهين: إما أن يكون على تقدير: ذا أمرٍ، ثم حذف: كما قال: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ} ، أو يكون وضع المصدر موضع الحال كما يقال: جاء مشياً وركضاً، أي: ماشياً وراكضاً. * * * قوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 29] يقال ما معنى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ} ؟. وفيه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن المعنى: أهل السماء والأرض؛ لأنهم يسخط الله تعالى عليهم في مكان خزي. والثاني: أن المعنى: لو كانت السماء والأرض ممن يبكي على أحد لم تبك على هؤلاء؛ لأنهم عصاة مجرمون. والثالث: أن المعنى: أنه لم تبك عليهم كما تبكي على المؤمن إذا مات مصلاه ومصعد عمله، وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير، والأول قول الحسن. * * * قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] يسأل عن معنى: {الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} هاهنا؟ وفيه جوابان: أحدهما: أن يكون على طريق النقيض، المعنى: ذق إنك أنت الذليل المهين، إلا أنه جاء على جهة الاستخفاف، وهذا في الكلام مستعمل بقول الرجل للرجل يستجهله ويستحمقه: ما أنت إلا عاقل. والثاني: ذق العذاب إنك أنت العزيز في قومك الكريم عليهم، وما أغنى عنك ذلك شيئاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 قال قتادة: نزلت في أبي جهل، وذلك أنه كان يقول: أنا أعز من بها وأكرم، فقيل له: أأنت الذي كنت تقول ذلك في قومك وتطلب العز والكرم بمعصية الله، ذق هذا العذاب. ومما جاء على طريق النقيض قوله تعالى: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] ، قيل معناه: أنت السفيه الغوي؛ لأنهم إنما قالوا ذلك عن طريق الاستخفاف به، قال الحسن المعنى: ذق إنك أنت العزيز الكريم عند نفسك، والمعني به أبو جهل. ويجوز في قوله: {أَنْتَ} وجهان: أحدهما: أن يكون توكيداً للكاف، و {الْعَزِيزُ} خبر {إِنَّ} . والثاني: أن يكون {أَنْتَ} مبتدأ، و {الْعَزِيزُ} خبره، والجملة خبر {إِنَّ} . * * * قوله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [الدخان: 56] . يقال لم استثنى هاهنا الموتة الأولى، وهي قد انقضت؟. والجواب: أنه استثنى من غير الجنس، والتقدير على مذهب سيبويه: لكن الموتة الأولى، ومثله: ما زاد إلا ما نقص، أي: لكن نقص. قال الفراء: (إلا) هاهنا بمعنى (سوى) والتقدير: سوى الموتة الأولى، ومثله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] . وقال غيره: {إِلَّا} بمعنى (بعد) ، والتقدير: بعد الموتة الأولى، وإنما جاز أن تقع (إلا) موقع (بعد) لأن (إلا) لإخراج بعض من كل، و (بعد) لإخراج الثاني عن الوقت الأول. والموتة: المرة الواحدة من الموت، والميتة الموت، والميتة - بفتح الميم - الميتة، وكثير من المحدثين يغلط في مثل هذا فيقول في (البحر) : (هو الطهور ماؤه والحل ميتته) - بكسر الميم - والصواب فتحها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 {ومن سورة الجاثية } * * * قوله تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَ ا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية: 3-5] . يقال: ما الآيات في السموات والأرض؟ والجواب: الدلائل، وهي من وجوه كثيرة: منها: أنه يدل خلقها على خالف لها؛ لأنه لا يكون بناء بغير بان. ومنها: أنها أعظم الخلق. ومنها: أنها محكمة على اتساق ونظام، وهذا يدل على أن صانعها واحد، وعلى أنه قديم؛ لأنه صانع غير مصنوع. ومنها: أنها ممسكة مع عظمها وثقل جرمها بغير عمد ... إلى أشباه ذلك. ويسأل: عن الآيات في خلق الإنسان؟ والجواب: أنها من وجوه: منها: خلق الإنسان على ما هو به من وضع كل شيء في موضعه لما يصلح له، وذلك يقتضي أن الصانع عالم بموضع المصالحة. ومنها: جعل الحواس الخمس على الهيئة التي تصلح لها. ومنها: آلة مطعمه ومشربه، ومثال ذلك، كل هذا في تدبير محكم. قرأ الكسائي وحمزة {آيَات} بالكسر، وقرأ الباقون بالرفع في الثانية والثالثة، فمن كسر (التاء) جعل (الآيات) في موضع نصب على التكرير للتوكيد، والعرب تؤكد بتكرير اللفظ، نحو قولك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 رأيت زيداً زيداً. ومثله قوله الراجز: لقائل يا نصر نصراً نصرًا هذا مذهب حذاق النحويين، وقال الأخفش: هو عطف على عاملين، كأنه قال: إن في السموات والأرض لآيات وفي خلقكم آيات، فعطف على (إن) و (في) وأنشد: سألت الفتى المكي ذا العلم ما الذي يحل من التقبيل في رمضان فقال لي المكي أما لزوجة فسبع وأما خلة فثماني فعطف (خلة) على زوجة، و (ثمانياً) على سبع، وأنشد سيبويه: أكل امرئ تحسبين امراً ونار توقد بالليل نارا فعطف (ناراً) الأولى على (امرئ) الأول، وعطف (ناراً) الثانية على (امرئ) الثاني، ومثل ذلك: وهون عليك فإن الأمور بكف الإله مقاديرها فليس بآتيك منهيها ولا قاصر عنك مأمورها والعطف على عاملين عند البصريين لا يجوز، لا تقول: في الدار زيد والسوق عمرو، وأنت تريد: وفي السوق عمرو؛ لأن حرف الجر ضعيف، فلا يعمل بعد الفصل بالأجنبي. وأما من رفع فإنه جعل (الآيات) الثانية رفعاً بالابتداء والخبر المجرور الذي {َفِي خَلْقِكُمْ} [الجاثية: 4] وجعل (الآيات) الثالثة تكريراً للثانية، قال الفراء: العرب تقول: إن لي عليك مالاً وعلى أخيك مال كثير، فينصبون الثاني ويرفعونه، وأجاز الفراء رفع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 (الآيات) وفيها (اللام) وأنشد قال: أنشدنا الكسائي: إن الخلافة بعدهم لذميمة وخلائف طرف لما أحقر وذكر أن أبيا قرأ {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ} ، وكذلك في الثالثة، وأجاز الكسائي: في الدار لزيد، والبصريون لا يجيزون ذلك. {ومن سورة الأحقاف } * * * قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] . العارض: الدفعة من المطر هاهنا، وأصل العارض: الماء ولا يلبث. ومنه قيل: الدنيا عرض، ولذلك قالوا لخلاف الجوهر؛ لقلة بقائه، وقيل سمي السحاب عارضاً لأخذه في عرض السماء قال الأعشى: يا من يرى عارضاً قد بت أرقبه كأنما البرق في حافاته الشعل والضمير يعود على العذاب، أي فلما رأوا العذاب الذي تقدم ذكره معترضاً مستقبل أوديتهم ظنوه مطراً. وقوله: {مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} نكرة، وإن كان بلفظ المعرفة؛ لأن الانفصال مقدر فيه، والمعنى: فلما رأوه مستقبلاً أوديتهم، وكذلك {مُمْطِرُنَا} إنما معناه: ممطر لنا، واسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال والاستقبال كان الانفصال مقدراً فيه، نحو قولك: هذا ضارب زيد غداً، وشاتم عمر الساعة، والمعنى سيضربه وهو يشتمه، وعليه قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] وقوله: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] ، قال جرير: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 يا رب غابطنا لو كان يطلبكم لاقى مباعدة منكم وحرمانا يريد: يا رب غابط لنا؛ لأن (رُبَّ) لا تدخل على معرفة، وإنما تدخل على النكرة وكذلك {كلُّ} . * * * قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29] . يسأل: عن معنى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا} ؟ وفيه جوابان: أحدهما: أن المعنى: صرفناهم بالرجم بالشهب، فقالوا إن هذا لأمر كبير، هذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير. والثاني: أن المعنى عدلنا بهم إليك. وقيل: قرفوا بالتوفيق. قال ابن عباس: كانوا سبعة نفر، وقال زر بن حبيش: كانوا تسعة نفر. قال ابن عباس: كانوا من أهل نصيبين، وقال قتادة، صرفوا إليه من (نينوى) وهي مدينة يونس عليه السلام, {ومن سورة محمد - صلى الله عليه وسلم -} * * * قوله تعالى: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 6] يسأل عن معنى: {عَرَّفَهَا لَهُمْ} ؟ وفيه جوابان: أحدهما: أنه تعالى عرفها لهم، فوصفها على ما يشوف إليها؛ فعلموا ما يتسوجبون بأعمالهم من الثواب، وما يحرمون بارتكاب المعاصي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 والثاني: أن المعنى؛ طيبها لهم بضروب الملاذ من (العرف) والعرف: الرائحة الطيبة التي تتقبلها النفس تقبل ما تعرفه ولا تنكره. وقيل: طبقات الجنة أربع: طبقة نعيم وهي أعلاها، وهي طبقة النبيين. ثم طبقة نعيم للمؤمنين المجازين بأعمالهم، ثم طبقة نعيم للمعوضين من غيرهم، ثم طبقة نعيم للمفتدين بالتفضل عليهم. وللطبقات تفاوت، والمراتب لا تتفاوت، كما قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ} [الحديد: 10] ، وقال: {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] . * * * قوله تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد: 18] . يسأل عن موضع {ذِكْرَاهُمْ} من الإعراف؟ والجواب: أن موضعها رفع، والتقدير: فأنى لهم ذكراهم إذا جاءتهم الساعة. وأنى: بمعنى: (من أين لهم) ومثل: {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} ، أي ليس ينفعه ذكره ولا ندامته. * * * قوله تعالى: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد: 21] . يسأل عن معنى قوله تعالى: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} ، وبم ارتفع؟ وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون المعنى: قولوا أمرنا طاعة وقول معروف، قال مجاهد: أمر الله تعالى بذلك المنافقين، وقال غيره: هو حكاية عنهم يقولون: طاعة وقول معروف قبل فرض الجهاد؛ لأن نقيضه قوله: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد: 21] . والثاني: أن المعنى طاعة وقول معروف أمثل، وأليق من أحوال هؤلاء المنافقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 وقيل: المعنى: طاعة وقول معروف خير لهم من جزعهم عند نزول فرض الجهاد وهو قول الحسن، و {طَاعَةٌ} على القول الأول خبر مبتدأ محذوف، وعلى القول الثاني مبتدأ محذوف الخبر. {ومن سورة الفتح } * * * قوله تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِ نْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25] قال قتادة: لولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات بمكة. قال ابن زيد: المعرة: الإثم، وقال: ابن إسحاق: غرم الدية وكفارة قتل الخطأ عتق رقبة مؤمنة، ومن لم يطق فصيام شهرين، قال: وهي كفارة الخطأ في الحرب، قال الفراء: كان بمكة مسلمون من الرجال والنساء، فقال الله تعالى: لولا أن تقتلوهم وأنتم لا تعرفونهم فتصيبكم منعم معرة، يعني: الدية، ثم قال: {لَوْ تَزَيَّلُوا} أي: لو خلص الكفار من المؤمنين لأنزل الله بهم القتل والعذاب. ومما يسأل عنه أن يقال: ما موضع قوله تعالى: {أَنْ تَطَئُوهُمْ} ؟ وفيه جوابان: أحدهما: أن موضع {أَنْ} رفع على البدل من رجال في قوله: {وَلَوْلَا رِجَالٌ} والتقدير: ولولا وطئ رجال ونساء، أي: قتلهم، وهو بدل الاشتمال، ومثله: نفعني عبد الله علمه، وأعجبتني الجارية حسنها، ومثله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} ، ومثل ذلك قول الأعشى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 لقد كان في حُولٍ ثَواءٍ ثَوَيتُه تَقضَّى لُبَاناتٍ، ويسْأمُ سَائِمُ أي: في ثواء حول. والثاني: أن يكون موضعها نصباً على البدل من (الهاء والميم) في {تَعْلَمُوهُمْ} ، والتقدير ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموا أن تطؤوهم، أي: لم تعلموا وطأهم، وهو بدل الاشتمال أيضا. * * * قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] . يسأل عن الاستثناء في قوله: {إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} كذا يسميه المفسرون والفقهاء، وهو في الحقيقة شرط؟ وفيه أجوبة: أحدها: أنه تأديب من الله تعالى ليتأدب الخلق بذلك، فيقولوا: سأفعل ذلك إن شاء الله. والثاني: أنه تقييد لدخول الجميع أو البعض، وهو قول علي بن عيسى. والثالث: أنه على التقديم والتأخير، والمعنى: لتدخلن المسجد الحرام آمنين إن شاء الله، والاستثناء واقع على دخولهم آمنين. فهذه ثلاثة أقوال للبصريين، وقال بعض الكوفيين {إِنْ} بمعنى (إذ) والمعنى: إذ شاء الله، ولا يجوز عند أهل البصرة. * * * قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى} [الفتح: 29] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 الشطأ: فراخ الزرع التي تخرج من جوانبه، ومنه شاطئ النهر، أي: جانبه، وأشطأ الزرع فهو مشطئ. وآزره: عاونه، واستغلظ: طلب الغلظ، والسوق: جمع: ساق، وساق الشجرة حاملتها. وقيل: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} : علامة نور تجعل في وجوههم يوم القيامة، وهو قول ابن عباس والحسن وعطية، وقال مجاهد: علامتهم ف الدنيا من أثر الخشوع. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال ما معنى قوله: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} ؟ وفيه جوابان: أحدهما: أن هذه الصفات التي تقدمت مثلهم في التوارة، تم الكلام، ثم قال: ومثلهم في الإنجيل كزرع من صفته كيت وكيت. والثاني: أن المعنى: أن صفته في التوراة والإنجيل الصفة التي تقدمت. فعلى القول الأول يكون الوقف على {التَّوْرَاةِ} ، وعلى القول الثاني يكون الوقف على {الْإِنْجِيلِ} ، والإشارة بذلك إلى الوصف المتقدم ذكره. {ومن سورة الحجرات } * * * قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 جاء في التفسير: أن أعراباً جفاة جاءوا، فجعلوا ينادون من وراء الحجرات: يا محمد، أخرج إلينا، وهو قول قتادة ومجاهد وكانوا من بني تميم. قال الفراء: أتاه وفد بني تميم، وهو نائم في الظهيرة، فجعلوا ينادون: أخرج إلينا يا محمد، فاستيقظ، فخرج إليهم، ونزل: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} ، ثم أذن لهم بعد ذلك، وقام شاعرهم وشاعر المسلمين وخطيبهم وخطيب المسلمين فعلت أصواتهم بالتفاخر، فنزلت: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] . وقيل: نزلت في قوم كانوا يسبقون النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقول إذا سئل عن شيء. والحجرات: جمع حجرة، وفيها ثلاث لغات: حُجُرات - بضمتين - وحُجَرات - بفتح الجيم - وحُجْرات - بإسكانها، والأولى أفصح. قال الشاعر: أما كان عباد كفيا لدارم بلى ولأبيات بها الحجرات * * * قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7] . يسأل عن قوله: {لَوْ يُطِيعُكُمْ} في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ والجواب: أنه على طريق المجار؛ لأن حقيقة الطاعة: موافقة الداعي الأجل فيما دعا إليه من الأدون، ولا يجوز أن يقال: إن الله تعالى يطيع العبد، كما لا يجوز أن يقال: إن العبد أمر ربه ونهاه، ولكن دعاه فأجابه، فكان الطاعة هاهنا: الإجابة لما سألوا منه. والعنت: المعاندة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 ويسأل عن خبر {أَنَّ} ؟ والجواب: أن النحويين يجعلونه في الظرف الذي هو {فِيكُمْ} ، وهذا القول فيه نظر؛ لأن حق الخبر أن يكون مفيداً، ولا يجوز: النار حارة؛ لأنه لا فائدة في الكلام، ومجاز هذا القول أنه على طريق التنبيه لهم على مكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما يقول القائل للرجل يريد أن ينبهه على شيء؛ فلان حاضر، والمخاطب يعلم ذلك، فهذا وجهه. والوجه عندي؛ أن يكون الخبر في قوله: {لَعَنِتُّمْ} ؛ لأن الفائدة واقعة به؛ والمعنى: واعلموا أن رسول الله لو يطيعكم لعنتم، كما تقول: إن زيداً لو أكرمته لقصدك، وما أشبه ذلك. {ومن سورة ق } * * * قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق: 1-3] . قد تقدم في صدر الكتاب ما قيل في فواتح السور، ومما لم نذكره هنالك بعض ما قيل في {ق} : قيل: {ق} جبل محيط بالدنيا، وقد ذكرنا قول الحسن؛ أنه اسم للسورة، وقيل معناه: قضي الأمر؛ وكذا قيل في {حم} [غافر: 1] : حمَّ الأمر، أي: دنا، قال الفراء: هو قسم أقسم به. والمجيد: العظيم الكريم، يقال: مجد الرجل، ومجد: إذا عظم وكرم: إذا عظم كرمه، والأصل من مجدت الإبل مجوداً إذا عظمت بطونها لكثرة أكلها من الربيع. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: أين جواب القسم؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 والجواب عن ذلك: أنه محذوف، والتقدير فيه: قاف القرآن المجيد ليبعثن، ويدل عليه قوله: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا} . وكذا جواب (إذا) محذوف، وتقديره أإذا متنا وكنا تراباً بعثنا أو رجعنا، ويدل عليه قوله: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} ، أي: أمر لا ينال، وهو جحد منهم، كما تقول للرجل يخطئ في المسألة: لقد ذهبت مذهباً بعيداً من الصواب، أي: أخطأت. ويقال: عجيب وعجاب وعجاب، وهذه أبنية للمبالغة، ومثله كبير وكبار وكبار، وله نظائر. * * * قوله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17] . يسأل عن توحيد {قَعِيدٌ} ؟ وعنه جوابان: أحدهما: أنه واحد يراد به الجمع، قال الفراء: حدثني حيان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: {قَعِيدٌ} قال: يريد قعوداً عن اليمين وعن الشمال، وهذا كما تقول: أنتم صديق لي، وكما قالوا: (رسول) في معنى (رسل) وقال الهذلي: ألكني إليها وخير الرسول أعلمهم بنواحي الخبر فجل (الرسول) في معنى (الرسل) ، والعلة في هذا: (أن فعيلاً) و (فعولاً) من أبنية المصادر نحو: الزئير والدوي والقبول والولوع، والمصدر يقع بلفظ الواحد، ويراد به التثنية والجمع: لأنه جنس، والجنس يدل على واحده على ما هو أكثر منه. الجواب الثاني: أن يكون المعنى: عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد، ثم حذف اكتفاء بأحد الاسمين عن الثاني؛ لأن المعنى مفهوم، قال الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 نحن بما عندنا وأنت بما عندك راضٍ، والرأي مختلف والمعنى: نحن بما عندنا راضون، وأنت بما عندك راضٍ، فحذف، وقال الفرزدق. إني ضمنت لمن أتاني راجياً وأبي، وكان وكنت غير غندور يريد: وكان أبي غير غندور، فحذف، ولم يقل: وكنا غير غدورين، ومثله: رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئاً ومن أجل الطوى رماني ولم يقل: بريئين، ومثله: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] وقوله: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً} [الأنبياء: 91] وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم. قال مجاهد: القعيد: الرصد، وقال أيضا: عن اليمين ملك يكتب الحسنات وعن الشمال ملك يكتب السيئات، وهو قول الحسن، وزاد الحسن: حتى إذا مات طويت صحيفة عمله، وقيل له يوم القيامة: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14] ، ثم قال: عدل والله من جعله حسيب نفسه. * * * قوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق: 24] . جهنم: اسم أعجمي لا ينصرف للتريف والعجمة، وقيل: هو عربي: وأصله من قولهم: بئر جهنام إذا كانت بعيدة القعر، فلم ينصرف في هذا الوجه للتعريف والتأنيث. ويسأل عن التثنية في قوله: {أَلْقِيَا} ؟ وفيها خمسة أجوبة: أحدها: ان العرب تأمر القوم والواحد بما يؤمر به الاثنان؛ يقولون للرجل الواحد: قوما، واخرجا، ويحكى أن الحجاج قال: يا حرسي اضربا عنقه، يريد: اضرب، قال الفراء: سمعت من العرب من يقول: (ويلك ارحلاها ويلك ارحلاها) ، وأنشد قال أنشدني بعضهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 فقلت لصاحبي لا تحبسانا بنزع أصوله واجتز شيحا ولم يقل: لا تحبسنا، قال وأنشدني أبو ثروان: وإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا قال: ونرى ذلك منهم أن أدنى أعوان الرجل في إبله وغنمه اثنان، وكذلك الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة، فجرى كلام الواحد على صاحبيه، ألا ترى أن الشعراء أكثر شيء قيلا: يا صاحبي ويا خليلي، قال امرؤ القيس: خليلي مرا بي على أم جندب نقض لبانات الفؤاد المعذب ثم قال: أم ترياني كلما جئت طارقاً وجدت بها طيباً وإن لم تطيب فرجع إلى الواحد؛ لأن أقل الكلام واحد في لفظ الاثنين، وأنشد أيضاً: خليلي قوما في عطالة فانظرا أثاراً ترى من نحو بابين أو برقا ولم يقل: تريا، فهذا وجه. والجواب الثاني: أنه ثنى ليدل التكرير، كأنه قال: الق الق، فثنى الضمير ليدل على تكرير الفعل، وهذا لشدة ارتباط الفاعل بالفعل، حتى صار إذا كرر أحدهما فكأن الثاني كرر؟ ، وهذا قول المازني، ومثله عنده: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99] ، جمع ليدل على التكرير، كأنه قال: ارجعن ارجعن ارجعن. وقد شرحناه. والثالث: أن الأمر تناول السائق والشهيد، كأنه قال: يا أيها السائق ويا أيها الشهيد ألقيا في جهنم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 والجواب الرابع: أنه ثنى؛ لأن إلقاءه في النار لشدته بمنزلة إلقاء اثنين للواحد. والجواب الخامس: أنه يريد (النون الخفيفة) كأنه قال: ألقين، فأجرى الوصل مجرى الوقف، فأبدل من النون ألفا. كما قال: وذا النصب المنصوب لا تنسكنه ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا وعليه تأول بعضهم قول امرئ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل من قال: أراد (قفن) ؛ لأن يخاطب واحداً بدلالة قوله في آخر القصيدة: أحار ترى برقاً أريك وميضه كلمع اليدين في حبي مكلل وهذا الجواب أضعف الأجوبة؛ لأنه محال أن يوصل الكلام والنية فيه الوقف. * * * قوله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30] قال أنس: طلبت الزيادة، وقال مجاهد: المعنى معنى الكفاية، أي: لم يبق مزيد لامتلائها، ويدل على هذا القول: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119] ، ولا يمتنع القول الأول لوجهين: أحدهما: أن هذا القول كان منها قبل دخول جميع أهل النار فيها. والآخر: أن تكون طلبت الزيادة على أن يزاد في سعتها، ومثله حمل بعضهم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة ألا تترك دارك فقال: (وهل ترك لنا عقيل من دار) ؛ لأنه كان قد باع دور بني هاشم لما خرجوا إلى المدينة. فعلى هذا يكون على المعنى الأول أي: وهل بقي زيادة، وجاء في التفسير: أن الله تعالى يخلق لجهنم آلة الكلام فتكلم، وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 بعضهم: هو على التمثيل، وأنشد: امتلأ الحوض وقال قطن مهلاً رويداً قد ملأت بطني وكذا قول عنترة: وشكا إلي بعبرة وتحمحم والأول هو المذهب؛ لأنه لا يمتنع أن يخلق الله لها آلة فتتكلم؛ لأن من أنطق الأيدي والأرجل والجلود قادر على أن ينطق جهنم، وكذا قوله: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] ، هو قول وليس على طريق التمثيل. وقيل في هذا الجمع إنه إنما أتى كذلك؛ لأنه لما أخبر عنها بفعل من يعقل جمعها جمع من يعقل فهذا يؤكده ما قلناه. وقال الكسائي: المعنى أتينا نحن ومن فينا طائعين. وفيها من يعقل فغلب على ما لا يعقل، وكل حسن جميل. {ومن سورة الذاريات } * * * قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17-18] . يسأل عن نصب {قَلِيلًا} ؟ وفيه وجهان: أحدهما: أنه نعت لمصدر محذوف تقديره؛ هجوعاً قليلاً من الليل ما يهجعون، فعلى هذا الوجه تكون {مَا} زائدة، و {يَهْجَعُونَ} خبر {كَانُوا} ، والتقدير: كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 والوجه الثاني: أن يكون {قَلِيلًا} خبرً لكانوا، والمعنى: كان هؤلاء قليلاً، ثم قال: من الليل ما يهجعون، أي: ما يهجعون شيئاً من الليل. فعلى الوجه الأول يهجعون عجوعاً قليلاً، وعلى القول الثاني لا يهجعون البتة. والهجوع: النوم، وهو قول ابن عباس وإبراهيم الضحاك، والأول قول الحسن والزهري. و {مَا} في القول الأول صلة، وفي القول الثاني نافية، وقيل {مَا} مصدرية، والتقدير؛ كانوا قليلاً هجوعهم، وقدر بعضهم {قَلِيلًا} نعتاً لظرف محذوف، أي: كانوا وقتاً قليلاً يهجعون، وكل محتمل، قال قتادة: لا ينامون عن العتمة ينتظرونها لوقتها؛ كأنه عد هجوعهم قليلاً في جانب يقظتهم للصلاة، ولا يجوز أن تجعل {مَا} نفياً وينصب بها {قَلِيلًا} ؛ لأن ما بعد النفي لا يعمل فيما قبله. * * * قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 22-23] . قال الضحاك: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} ، أي المطر، لأنه سبب الخير، قال مجاهد: {وَمَا تُوعَدُونَ} من خير أو شر، وقيل: ما توعدون؛ الجنة؛ لأنها في السماء قال الفراء؛ أقسم بنفسه إن الذي قال لكم حق مثل ما إنكم تنطقون، قال: وقد يقول القائل كيف اجتمع {مَا} و {إِنَّ} وقد يكتفى بإحداهما من الأخرى؟ وفي هذا وجهان: أحدهما: أن العرب تجمع، بين الشيئين من الأسماء والأدوات إذا اختلف لفظهما، في الأسماء، قال الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 من النفر اللاتي الذين إذا هم يهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا فجمع بين (اللاتي) و (الذين) وأحدهما مجزي من الآخر، وأما في الأدوات فقول الشاعر: ما إن رأيت ولا سمعت به كاليوم طالي أينق جرب فجمع بين (ما) و (إن) وهما جحدان أحدهما يجري مجرى الآخر. وأما الوجه الآخر: فإن المعنى لو أفرد بـ: {مَا} لكان المنطق في نفسه حقاً لا كذباً، ولم يرد به ذلك، وإنما أراد به أنه لحق كما أن الآدمي ناطق، ألا ترى أن قولك: أحق منطقك؟ معناه: أحق هوأم كذب؟ وإن قولك؛ أحق أنك تنطق؟ معناه؛ ألك النطق حقاً؟ والنطق له لا لغيره، وأدخلت {أن} ليفرق بين المعنيين، قال: وهذا أعجب الوجهين إلي. وهو كما قال؛ لأن الوجه الأول ضعيف، أما البيت الأول فالرواية المشهورة فيه: من النفر البيض الذين إذا هم يهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا وأما البيت الثاني فلأن (لا) فيه زائدة، والعرب تزيد (إن) مع (ما) ، نحو قول النابغة: فما إن كان من نسب بعيد ولكن أدركوك وهو غضاب وكذا قول الآخر: فما إن طبنا جبن ولكن منايانا ودولة آخرينا وهذا إن شاع في الحروف فإنه في الأسماء، بعيد و (ما) و (أن) اسمان في تأويل المصدر، إلا أنه يجوز أن تكون (ما) حرفاً فيسوغ زيادتها، ولا يسوغ إذا كانت مصدرية؛ لأنها في حيز الأسماء، ولا يستحسن زيادة الأسماء، وأما الحروف فيستحسن زيادتها لا سيما (ما) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 نحو قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 159] ، و {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء: 155] ونحو قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} [البقرة: 26] فـ: {مَا} في أحد القولين زائدة، وقد زادت العرب (ما) زيادة لازمة نحو قولهم: افعل ذلك آثراً ما. قرأ الكسائي وحمزة وعاصم من طريقة أبي بكر {مَثَلً} بالرفع، وهي قراءة الأعمش، وقرأ الباقون بالنصب، وهي قراءة الحسن، فالرفع على أنه نعت للحق، وأما النصب ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون في موضع رفع؛ لأنه مبني لأضافته إلى غير متمكن وهو الاسم الناقص، قال الشاعر: لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت حمامة في غصون ذات أوقال فبنى (غير) لمخت مبهمة أضافها إلى مبني وهو (أن) ، وموضع (غير أن نطقت) رفع، وكذلك (مثل) مبهم أضيف إلى مبني، فهذا وجه. والوجه الثاني: أنه منصوب على الحال، وهو قول الجرمي، وفيه بعد؛ لأن (حقا) نكرة والحال لا تكون من النكرة، إنما شرطها أن تكون نكرة بعد معرفة قد تم الكلام دونها، نحو قولك: جاء زيد راكباً، تنصب (راكباً) لأنه نكرة جاء بعد (زيد) وهومعرفة يجوز أن يوقف دونه؛ لأنك لو قلت: جاء زيد، لكان كلاماً تاماً، وهذه الحال منتقلة، إلا أنه قد جاء عن العرب حرف شاذ، وهو قولهم: وقع أمر فجأة، نصبوا (فجأة) على الحال من (أمر) وأمر نكرة، ولو حمله حامل على أنه منصوب على المصدر لكان وجهاً؛ لأن المعنى: وقع أمر وفاجأ أمر سواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 وقيل؛ إن {مِثْلَ مَا} حال من مضمر في {حقٌ} ؛ لأنه وإن كان مصدراً فهو في موضع اسم الفاعل، واسم الفاعل يتضمن الضمير، نحو قولك؛ هذا زيد قائم، ففي (قائم) ضمير، ألا ترى أنك لو أجريت (قائماً) على غير من هو له لأظهرت الضمير؛ فقلت: هذا زيد قائماً أبوه، وقائم أبوه، إن شئت، فـ (الهاء) في (أبوه) هو الضمير الذي كان في (قائم) ، ولم يبق في (قائم) ضمير. والوجه الثالث: أنه منصوب على المصدر، كأنه قيل؛ إنه لحق حقاً كنطقكم، وهو قول الفراء، وزعم أن العرب تنصبها إذا رفع بها اسم، فيقولون؛ مثل من عبد الله ويقولون: عبد الله مثلك، وأنت مثله، وعلة النصب فيها؛ أن الكاف قد تكون داخلة عليها فتنصب إذا ألقيت الكاف، قال؛ فإن قال قائل؛ أفيجوز أن نقول: زيد الأسد شدة، فتنصب (الأسد) إذا ألقيت الكاف؟ قلت: لا، وذلك أن (مثل) تؤدي عن الكاف والأسد، ولا يؤدي عنها، ألا ترى قول الشاعر: وزعت بكا لهراوة أعوجي إذا ونت الركاب جرى وثابا أن الكاف قد أجزأت عن (مثل) ، وأن العرب تجمع بينهما، فيقولون: زيد كمثلك، وقال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، قال: واجتماعهما دليل على أن معناهما واحد. وهذا لا يجوز عند البصريين، و (الكاف) هاهنا زائدة، وإنما لم يجز عندهم؛ لأنه لا ناصب هنالك وإنما ينصب الاسم إذا حذف منه حرف الجر إذا كان قبله فعل ينصبه، نحو قولك: أمرتك الخير، أنت تريد: أمرتك بالخير، وأنت إذا قلت: إنه لحق كمثل ما أنكم تنطقون، فحذفت الكاف لم يبق ما ينصب (مثل) ؛ لأنه فعل هنالك، وإنما قبله (حق) وهو مصدر، والمصدر لا يعمل في المصدر إلا أن يضمر له فعل تقديره: إنه لحق يحق حقاً مثل نطقكم، ثم حذفت الفعل والمصدر جميعاً وأقمت نعت المصدر مقامه، فهذا يجوز على هذا التقدير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 {ومن سورة الطور } * * * قوله تعالى: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} [الطور: 23] . الكأس: القدح بما فيه، ولا يسمى كأساً إذا لم يكن فيه شيء، قال الشاعر: صددت الكأس عنا أم عمرو وكان الكأس مجراها اليمينا وقد تسمى الخمر نفسها كأساً، قال علقمة: كأس عزيز من الأعناب عتقها لبعض أربابها حانية حوم ومعنى {يَتَنَازَعُونَ} يتعاطفون كأس الخمر، قال الأخطل: نازعته طيب الراح الشمول وقد صاح الدجاج وحانت وقعة الساري واللغو واللغا: كل ما لا خير فيه من الكلام، قال الراجز: عن اللغا ورفث التكلم والتأثيم والإثم والآثام واحد. وقرأ ابن كثير {لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} بالنصب، وقرأ الباقون بالرفع والتنوين. فمن نصب أعمل {لَا} في الموضعين، وهي تنصب النكرة بلا تنوين؛ لأنها مشبهة بـ: (إن) / وذلك أن (إن) موجبة و (لا) نافية، والعرب تحمل النقيض على النقيض، كما لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 تحمل النظير على النظير، فلما كانت (إن) تنصب الاسم وترفع الخبر، أعملوا (لا) ذلك العمل، وحكى يونس: لا رجل أفضل منك، تنصب (رجل) وترفع (أفضل) ؛ لأنه خبر (لا) إلا أنها نقصت عن حكم (إن) فلم تعمل إلا في النكرة، وذلك أن (إن) مشبهة بالفعل، و (لا) مشبهة بـ: (إن) فلما كانت مشبهة بالمشبه قصرت على شيء واحد، ولهذا نظير، وذلك أنك تقول: تالله ووالله وبربك ووربك، وتقول: تالله، ولا يجوز: تربك؛ وذلك أن (التاء) بدل من (الواو) و (الواو) بدل (الباء) فلما كانت (التاء) مبدلة من مبدل قصرت على شيء واحد، وكذلك: فلان من آل فلان، ولا يجوز: فلان من آل المدينة؛ لأن (الألف) من الآل بدل من (الهمزة) و (الهمزة) بدل من (أهل) فصارت بدلاً من بدل فقصرت على شيء واحد، وكذلك: أسنى القوم، إذا دخلوا في السنة، وسواء كانت مخصبة أو مجدية، فإذا قالوا: استنوا، لم يقع إلا على المجدية؛ لأن (التاء) بدل من (الياء) و (الياء) بدل من (الواو) و (الهاء) على الخلاف في ذلك؛ لأنه يقال: سانهت وسانيت، وقالوا: سنوات وسنة سنهاء، وهذا كله مذهب سيبويه، وذهب غيره من النحويين، إلى أن (لا) مبنية على ما بعدها على الفتح، وليس ما بعدها معرباً ولكنه مبني لتضمنه معنى الحرف؛ لأن حق الجواب أن يكون وفق السؤال و (لا) جواب لمن قال: هل من رجل عندك؟ فجوابه: لا رجل عندي، وكان يجب أن يقول: لا من رجل، إلا أن (من) حذفت، وضمن الكلام معناها، ووجب البناء؛ لأن كل ما تضمن معنى الحرف يبنى، فإن قال: هل رجل عندك؟ قلت: لا رجل عندي ترفع لا غير؛ لأن الكلام لم يتضمن معنى (من) والنصب أبلغ في المعنى لتضمنه معنى (من) لأن (من) يدخل في (النفي) لاستغراق الجنس، نحو قولك: ما جاءني من رجل، فقد نفيت جميع الرجال، ولو قلت: ما جاءني رجل، لجاز أنك تريد: جاءني اثنان فصاعداً، ومن هذا الوجه كان النصب في قوله: {لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} أجود؛ لأنه أشد في المبالغة. ومن رفع جهل {لَا} جواباً لـ (هل) من غير (من) وهذا يقتضي الرفع، والرفع على الابتداء، و {فِيهَا} الخبر، و {تَأْثِيمٌ} عطف على لغو، وإذا نصبت جعلت {فِيهَا} خبراً لـ: {لَا} ويجوز هاهنا خمسة أوجه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 أحدها: نصب الاثنين. والثاني: رفع الاثنين، وقد قرئ بهما، قال الشاعر في الرفع: وما هجرتك حتى قلت معلنة: لا ناقة لي في هذا ولا جمل ويجوز نصب الأول بلا تنوين ونصب الثاني بتنوين قال الشاعر: لا نسب اليوم ولا خلة اتسع الخرق على الراقع ويجوز رفع الأول منوناً ونصب الثاني بلا تنوين، قال الشاعر: فلا لغو ولا تأثيم فيها وما فاهوا به أبداً مقيم ويجوز نصب الأول بلا تنوين ورفع الثاني بتنوين، قال الشاعر: وإذا تكون كريهة أدعى لها وإذا يحاس الحيس يدعى جندب هذا وجدكم الصغار بعينه لا أم لي إن كان ذاك ولا أب وحق قوله: (ولا أب) أن يكون منوناً إلا أنه قافية، والقوافي لا تنون في الوصل. فهذه خمسة أوجه، فإن حذفت (لا) الثانية لم يجز فيما بعد الواو إلا التنوين رفعاً ونصباً، نحو قولك: لا غلام وجارة، ولا غلام وجاريةً، قال الشاعر: لا أب وابناً مثل مروان وابنه إذا هو بالمجد ارتدى وتآزرا وهذه الوجوه كلها تجوز في قولنا: (لا حول ولا قوة إلا بالله) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 {ومن سورة النجم } * * * قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 1-3] . النجم هاهنا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الثريا إذا سقطت مع الفجر، وهذا قول مجاهد. والثاني: أن النجم هاهنا أحد نجوم القرآن، وهو أيضا عن مجاهد، كأنه قال: والنجم إذا نزل، أي؛ والقرآن إذا نزل، فهو قسم به. والقول الثالث: أن النجم واحد ويراد به الجماعة، أي: والنجوم إذا سقطت يوم القيامة، كقوله تعالى: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} ، وهذا قول الحسن، والنجم في كلام العرب يأتي ويراد به الجمع على طريق الجنس قال الراعي: وباتت تعد النجم في مستحيرة سريع بأيدي الآكلين جمودها والمستحيرة هاهنا: شحمة مذابة صافية؛ لأنها من شحم سمين. و {غَوَى} من الغي، يقال: غوى يغوي غياً، قال الشاعر: فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما و {الْهَوَى} : ميل الطباع إلى ما فيه الاستمتاع، وهو مقصور، وجمعه: أهواء، فأما (الهواء) الممدود؛ فكل منخرق، قال الله تعالى: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم: 43] ، أي: خاوية منخرقة لا تعي شيئاً، قال زهير: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 كأن الرحل منها فوق صعل من الظلمان جؤجؤه هواء أي: خاو ومنخرق، و (عن) في قوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} بمنزلة (الباء) كأنه قال؛ وما ينطق بالهوى، أي: برأية وهواء. واختلف في قوله: {وَالنَّجْمِ} وما جرى مجراه من الأقسام التي اقسم الله بها: فقيل تفضيلاً لها وتنويهاً بها، وقيل: بل المقسم به محذوف، ورب النجم ورب الطور ورب التين والزيتون وما أشبه ذلك. * * * قوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 5-10] . قال ابن عباس وقتادة والربيع: شديد القوى هاهنا: جبريل. وأصل المرة: شدة الفتل، يقال في الحبل: هو شديد المرة، أي: أمررت فتله وشددته، والمرة والقوة والشدة سواء، قال الشاعر: ألا قل لتيا قبل مرتها اسلمي تحية مشتاق إليها متيم أي: قبل شدة عزيمتها في السير. والأفق: واحد الآفاق، وهي نواحي السماء, وقال تسمى نواحي الأرض آفاقاً على التشبيه، قال الشاعر في المعنى الأول: أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قمراها والنجوم الطوالع وقال امرؤ القيس في المعنى الثاني: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 وقد طوفت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب والتدلي: الامتداد إلى جهة الأسفل. والقاب والقاد والقيد سواء، والمعنى: فكان قدر قوسين أو أدنى. وقيل إنما مثل بالقوس؛ لأن مقدارها في الأغلب لا يزيد ولا ينقص. وقيل: فاستوى جبريل ومحمد - عليهما السلام - بالأفق الأعلى، وقيل: الأفق الأعلى، مطلع الشمس. واختلف في {هُوَ} : فقيل: {هُوَ} مبتدأ، وخبره {بِالْأُفُقِ} ، والجملة في موضع نصب على الحال. والثاني: أنه معطوف على المضمر في {اسْتَوَى} أي: استوى هو وهو، وحسن ذلك كراهة أن يتكرر (هو) ؛ لأن الوجه أن لا يعطف على المضمر المرفوع إلا بعد التوكيد، نحو قولك: قمت أنا وزيد، ونحو قوله: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] ، إلا أنه حسن هاهنا لما ذكره، وهذا قول الفراء، وأنشد: ألم تر أن النبع يخلق عوده ولا يستوي والخروع المتقصف وكان حقه أن يقول: ولا يستوي هو والخروع، إلا أنه لم يقل، وهو في الآية أحسن منه هاهنا، ومثل ذلك قول الشاعر: قلت إذ أقبلت وزهر تهادى كنعاج الملأ تعسفن رملاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 قال الربيع: فاستوى جبريل - عليه السلام - وهو بالأفق الأعلى، فـ: (هو) على هذا كناية عن جبريل - عليه السلام - وهذا هو القول الأول، و (هو) كناية عن محمد - عليه السلام - في القول الثاني. قال القتبي: الكلام على التقديم والتأخير في قوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم: 8] ، والمعنى: ثم تدلى فدنا، وهذا لا يجوز في (الفاء) ؛ لأنها مرتبة، وليست كالواو، ولا يحتاج هاهنا إلى هذا التقدير؛ لأن المعنى بين، والتقدير: ثم دنا وامتد في دنوه. * * * قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 11-15] . الفؤاد هاهنا: القلب, والمراء: الجدال بالباطل، والسدرة واحدة السدر، وهو شجر النبق، وقيل: سدرة المنتهى في السماء السادسة إليها ينتهي من يعرج إلى السماء، هذا قول ابن مسعود والضحاك، وقال غيرهم: إليها تنتهي أرواح الشهداء وجنة المأوى: جنة الخلد، قيل هي في السماء السابعة، وقال الحسن: جنة المأوى: هي التي يصير إليها أهل الجنة. قال إبراهيم في قوله: {أَفَتُمَارُونَهُ} أي: أفتجحدونه. وقال غيره: المعنى: أفتجادلونه، وجاء في التفسير، عن عبد الله بن مسعود وعائشة ومجاهد والربيع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل في صورته التي خلقه الله تعالى عليها مرتين، قال ابن مسعود: رآه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 وله ستمائة جناح، وقال ابن عباس: رأى ربه بقلبه، وروي مثل ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأجمع العلماء، على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرج به، إلا أنه روي عن الحسن أنه قال: عرج بروحه، يذهب إلى أنها رؤية النوم، وهذا القول مرغوب عنه؛ لأنه لا فضيلة له في ذلك؛ لأن الإنسان يرى في منامه مثل ذلك ولا تكون معجزة. * * * قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19-20] . {اللَّاتَ وَالْعُزَّى} : ضمان، واشتقاق {اللَّاتَ} من لويت إذا تحبست ووقفت، يقال: لويت عليه، وما لويت عليه، ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] ، والعكوف واللي سواء؛ وذلك أنهم كانوا يلزمونها بالعبادة، ويعكفون عليها ولا يلوون على سواها والأصل فيها: لوية، فحذفت الياء كما حذفت من (يد) و (دم) طلباً للاستخفاف، ثم فتحت (الواو) لوقوع علامة التأنيث بعدها، ثم قلبت (ألفا) لتحركها وانفتاح ما قبلها، فقيل: لات، والألف واللام في (اللات) زائدتان وليستا للتعريف، وكذلك في {الْعُزَّى} ؛ لأن هذه الأصنام معارف عندهم كالأعلام نحو: زيد وعمرو، يدل على ذلك قوله تعالى: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] ألا ترى كلها بغير ألف ولام، وكذلك قول الشاعر: أما ودماء ما تزال كأنها على قنة العزى وبالنسر عندما الألف واللام في (النسر) زائدتان، هذا قول الأخفش، وتابعه عليه أبو علي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 الفارسي، فأما من قرأ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ} بالتشديد فإنه من (لتت السويق) ذكروا أن رجلاً كان يلت السويق هنالك عند هذا الصنم فسمي الصنم باسمه. {ومن سورة القمر } * * * قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 1-2] . جاء في التفسير: أن القمر انشق على زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال الزجاج: وقد عاند قوم وارتكبوا العناد، فقالوا: لم ينشق وإنما المعنى: سينشق، وقد روى ذلك عن جماعة، حدثنا الشيخ الفقيه أبو محمد عبد الله بن الوليد عن التميمي قال حدثنا ابن مقسم، قال حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج قال حدثنا القاضي إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا مسدد، قال حدثنا يحيى عن شعبة وسفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرقتين: فرقة فوق الجبل وفرقة دونه، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اشهدوا) ، قال مسدد وحدثنا يحيى عن شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر مثله، قال القاضي إسماعيل وحدثنا علي بن عبد الله، قال حدثنا سفيان قال أخبرنا ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله قال: انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (اشهدوا اشهدوا) ، وبهذا الإسناد عن ابن مسعود أنه قال: انشق القمر، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اشهدوا) ، قال إسماعيل وحدثنا محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 ابن أبي بكر، عن محمد بن كثير عن سليمان عن حصين عن محمد بن جبير عن أبيه قال: انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى صال فرقتين على هذا الجبل وعلى هذا الجبل، فقال ناس: سحر محمد القمر، فقال رجل: إن كان سحره وسحركم فلم لم يسحر الناس كلهم، قال محمد بن أبي بكر أخبرني زهير بن إسحاق عن داود عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: ثلاث ذكرهن الله قد مضين: اقتربت الساعة وانشق القمر، فقد انشق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والدخان والروم. قال إسماعيل وحدثنا حجاج بن منهال عن حماد بن سلمة وعطاء بن السائب عن عبد الله بن حبيب قال: كنا بالمدائن، فجئنا إلى الجمعة، فخطبنا حذيفة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإن الله تعالى يقول: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} ، ألا إن اليوم المضمار وغداً السباق، ألا وأن الغاية النار، قال: فلما كانت الجمعة الأخرى، قال مثل ذلك، ثم قال: والسابق من سبق إلى الجنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 وروي مسروق عن عبد الله قال، مضى اللزام ومضت البطشة ومضى الدخان ومضى القمر ومضى الروم، والأخبار في هذه كثيرة. وسمي القمر قمراً لبياضه، والأقمر: الأبيض، وهو يسمى قمراً من الليلة الثالثة، وقيل: إذا حجر، أي: بان السواد حوله، وقيل: إذا بهر، وذلك يكون في السابعة، فإذا انتهى واستوى قيل له بدر، وذلك ليلة الرابع عشر سمي بذلك لتمامه، ومنه اشتقاق البدرة، وقيل: سمي بذلك لمبادرته الشمس بالطلوع، والعرب تقول للهلال أول ليلة: ليلة عتمة سخيلة حل أهلها برميلة، وابن ليلتين: حديث أمتين كذب ومين، وابن ثلاث: قليل اللباث، وابن أربع: عتمة ربع لا جائع ولا مرضع، وابن خمس: عشاء خلفات قعس، ويقال: حديث وأنس، وابن ست: سر وبت، وابن سبع: دلجة الضبع، وابن ثمان: قمر اضحيان، وابن تسع: يلتقط فيه الجزع، وربما قالوا: مقطع الشسع، وابن عشر: مخنق الفجر، وربما قالوا: ثلث الشهر، وليس له اسم بعد ذلك لقربه من الصباح. وسمي الهلال هلالاً لإهلال الناس عند رؤيته، والإهلال: الصياح، ومنه: استهل الصبي، إذا صرخ عند الولادة. * * * قوله تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 16] العذاب: اسم للتعذيب، بمنزلة: الكلام من التكليم والسلام من التسليم، في أنهما اسمان لمصدرين، وليس بمصدرين. والنذر: قيل هو جمع (نذير) بمنزلة: رغيف ورغف، وقيل: هو واحد، وفي الآية دلالة على أن (الواو) لا ترتب؛ لأن النذر قبل العذاب، بدليل قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] * * * قوله تعالى: {فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ} [القمر: 24] نصب {بَشَرًا} بفعل مضمر يدل عليه {نَتَّبِعُهُ} ، والتقدير: أنتبع بشراً منا واحداً نتبعه، إلا أنه حذف اكتفاء بالظاهر الذي هو {نَتَّبِعُهُ} ولا يجوز إظهاره، ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 نتبعه، إلا أنه حذف اكتفاء بالظاهر الذي هو {نَتَّبِعُهُ} ولا يجوز إظهاره، ولا يجوز أن يكون منصوباً بـ: {نَتَّبِعُهُ} ؛ لأنه عامل في (الهاء) ، ولا ينصب أكثر من مفعول واحد، ويجوز في الكلام الرفع، على الابتداء و {نَتَّبِعُهُ} الخبر، إلا أن النصب أجود؛ لأن الاستفهام أولى: لأنه يقتضي الفائدة، والفائدة أصلها أن تكون بالفعل. * * * قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] . يسأل عن نصب {كُلَّ} ؟ وفيه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه منصوب بإضمار فعل يدل على {خَلَقْنَاهُ} كأنه في التقدير: إنا خلقنا كل شيء خلقنا، ثم حذف على ما تقدم في قوله: {أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا} [القمر: 24] ومثله: زيداً ضربته، إلا أنه مع الاستفهام أجود. والثاني: أنه جاء على ما هو بالفعل أولى؛ لأن {إِنَّا} يطلب الخبر في {خَلَقْنَاهُ} فهو على قياس: أزيداً ضربته، وهذا الوجه في القوة مثل قوله: {أَبَشَرًا مِنَّا} [القمر: 24] والثالث: أنه يدل على البدل الذي المعنى يشتمل عليه، كأنه قال: إن كلا خلقناه بقدر، وكان سيبويه يقول: الرفع أجود هاهنا، إلا أن العامة أبوا إلا النصب. والرفع على الابتداء والخبر والجملة خبر {إِنَّا} . {ومن سورة الرحمن } * * * قوله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] يسأل عن معنى: {بِحُسْبَانٍ} ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 والجواب: أن المعنى: بحساب يقال: حسبت الشيء حسباً وحسباناً، بمنزلة: الشكران والكفران، وقيل: هو جمع حساب، كشهاب وشهبان، قال ابن عباس وقتادة وابن زيد: بحسبان، أي بحساب ومنازل يجريان فيهما. وفي تقدير الخبر وجهام: أحدهما: أن يكون {بِحُسْبَانٍ} الخبر. والثاني: أن يكون الخبر محذوفاً لدلالة المجرور عليه، والتقدير: والشمس والقمر يجريان بحسبان، والتقدير في الوجه الأول: وجرى الشمس والقمر بحسبان، والمعنيان يتقاربان، إلا أنك تقدر في الوجه الأول حذف مضاف وحذف الخبر، وتقدير على الوجه الثاني حذف الخبر فقط، وحذف شيء واحد أولى من حذف شيئين. * * * قوله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] . النجم من النبات: ما لم يقم على ساق، نحو: العشب والبقل، والشجر: ما قام على ساق. ويسأل عن معنى {يَسْجُدَانِ} ؟ وفيه جوابان: أحدهما: أن ظلهما يسجد لله بكرة وعشياً، هذا قول جاهد وسعيد بن جبير، وكل جسم له ظل فهو يقتضي الخضوع بما فيه من الصنعة. والثاني: وهو قول الفراء: أنهما يستقبلان الشمس إذا أشرقت ثم يميلان حين ينكسر الفيء، فذلك سجودهما. وقيل: سجودها: الخضوع لله بالأقوات المجعولة فيهما للناس وغيرهم من الحيوان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 والاستمتاع بأصناف الرياحين وما في الأشجار من الثمار الشهية، وصنوف الفواكه اللذيذة، فلا شيء أدعى إلى الخضوع والعبادة لمن أنعم بهذه النعمة الجليلة مما فيه مثل الذي ذكرنا في النجم والشجر. * * * قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 31-32] . يسأل عن معنى: {سَنَفْرُغُ} ؟ والجواب: أن معناه: سنعمل عمل من يتفرغ للعمل لتجويده من غير تصحيح فيه، وهذا من أبلغ الوعيد وأشده؛ لأنه يقتضي أن يجازى العبد بجميع ذنوبه، وليس من الفراغ الذي هو نقيض المشتغل؛ لأن الله تعالى لا يشغله شيء عن شيء. والثقلان: الإنس والجن، سميا بذلك لعظم شأنهما إلى ما في الأرض من غيرهما، فهو أثقل وزناً لعظم الشأن بالعقل والتمكين والتكيف لأداء الواجب في الحقوق. ومما يسأل عنه أن يقال: لم كرر في هذه السورة {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} في عدة مواضع؟ والجواب: أنه ذكر آلاء كثيرة، فكرر التقرير، ليكون كل تقدير لنعمة، والعرب تكرر مثل هذه الأشياء للتوكيد، نحو قولك: اعجل اعجل، وتقول للرامي ارم ارم، قال الشاعر: كم نعمة كانت لكم كم كم وكم وقال آخر: هلا سألت جموع كندة يوم ولوا أين أينا؟ وقال الفرزدق: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 ألفينا عيناك عند القفا أولى فأولى لك ذا واقية وقال عوف بن الخرع: فكادت فزارة تصلى بنا فأولى فزارة أولى فزارة وقرئ {سَنَفْرُغُ} و {سَنَفْرُغُ} ، فمن قرأ {سَنَفْرُغُ} فهو على بابه، مثل: دخل يدخل وخرج يخرج، ومن قرأ {سَنَفْرُغُ} فتح (الراء) من أجل حرف الحلق؛ لأن حرف الحلق إذا كان عيناً أو لاماً جاء في غالب الأمر على (يفعل) بالفتح، إذا كان من (فعل) وحروف الحلق ستة وهي: الهمزة، نحو قرأ وسأل، والهاء، نحو: ذهب ووهب، والعين، نحو: جعل وصنع، والحاء، نحو: سمح ولحج، والغين، نحو: فغر وولغ، والخاء، نحو: سلخض وبخع، وما أشبه ذلك. {ومن سورة الواقعة } * * * قوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة: 1-5] . الواقعة هاهنا: اسم من أسماء القيامة. ويسأل عن معنى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} ؟ والجواب أن المعنى: ليس لواقعتها قضية كاذبة فيها؛ لإخبار الله تعالى بها، ودلالة العقل عليها، وقيل: ليس لها نفس كاذبة في الخبر بها، وقيل: الكاذبة هاهنا: مصدر مثل العاقبة والعافية. وقيل: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} تخفض قوماً بالمعصية، وترفع قوماً بالطاعة؛ لأنها إنما وقعت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 للمجازاة، فالله تعالى يرفع أهل الثواب ويخفض أهل العقاب، وأضاف ذلك إلى الواقعة؛ لأنه فيها يكون، وقيل: إن القيامة تقع بصيحة عند النفخة الثانية، وهو قول الضحاك. وقوله: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا} ، أي: زلزلت زلزالاً شديداً، هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة، ومنه يقال: ارتج السهم، عند خروجه عن القوس. {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} : فتت فتاً، فكذا قال ابن عباس ومجاهد وابن صالح والسدي، والعرب تقول: بس السويق، أي: لته، والبسيسة: السويق أو الدقيق يلت ويتخذ زاداً قال بعض لصوص غطفان: لا تخبزا خبزاً وبسا بسا ورفع قوله: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} على الاستئناف، أي: هي خافضة رافعة، وأجاز الفراء النصب، والنصب على الحال، وهذه حال مؤكدة؛ لأن القيامة إذا وقعت فلابد أن تكون خافضة رافعة. ويسأل عن موضع قوله تعالى: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا} ؟ والجواب: أنه بدل من قوله: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} ، وهذا كما تقول: سآتيك إذا قام زيد إذا خرج، والمعنى: سآتيك إذا خرج زيد، وهكذا المعنى: إذا رجت الأرض رجاً عند وقوع الواقعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75-76] . المواقع: جمع موقع، وأصله من وقع يقع، والأصل في يقع: يوقع؛ لأن كل (فعل) على (فَعَلَ) وفاؤه الواو فإنه يلزم (يَفْعَل) نحو: وعد يعد ووزن يزن، والأصل: يوعد ويزون، فسقطت (الواو) لوقوعها بين (باء) و (كسرة) ، والعرب تستثقل ذلك إلا أن تقع فتحة حرف الحلق وهو (العين) ، و (مَفْعل) يلزم هذا القيبل في المصدر، والمكان نحو قولك: وعدته موعداً، وهذ موعد القوم، قال سعيد بن جبير المعنى: فـ: {لَا} على هذا القول صلة، وقال الفراء: هي نفي، أي: ليس الأمر كما يقولون، ثم استؤنف: أقسم. وقيل في {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} قولان: أحدهما: أنه يعني بها القرآن؛ لأنه نزل نحوماً على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا قول ابن عباس ومجاهد. والثاني: أنه يراد بها مساقط نجوم السماء ومطالعها، وهو قول قتادة وروي مثله عن مجاهد في بعض الروايات عنه، وقال الحسن: مواقعها: انكدارها وانتشارها يوم القيامة. * * * قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] يقال: مسستُ الشيء أمسه مساً، ويقال: لامَساس ولامِساس. واختلف في قوله: {إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} : فقال: ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وجابر بن زيد وأبو نهيك ومجاهد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 المعنى: لا يمس الكتاب الذي في في السماء إلا المطهرون من الذنوب وهو الملائكة، وقيل: إلا المطهرون في حكم الله عز وجل، وقيل: لا يمس القرآن إلا المطهرون، أي: من كان على وضوء، وهو قول مالك. واختلف في {لَّا} : فقيل: هي نافية، و (يَمَسُّ) فعل مستقبل، والمعنى: ليس يمسه، على طريق الخبر، وليس بنهي. وقيل: هو نهي، وجاء على لغة من يقول: مد يا فتى، ومس يا فتى؛ لأن في هذا الفعل لغات: منها: أن تفتح آخره فتقول: مسَّ ومدً. وهذا أفصح اللغات. ومنها: أن تضمه فتقول: مسُّ ومدُّ. ومنها: تكسره فتقول: مسَّ ومدَّ، قال الراجز: قال أبو ليلى لحبل مده حتى إذا مددته فشده إن أبا ليلى نسيج وحده ومنها: أن يفتح ما كان على (فَعِلَ) (يَفْعَل) نحو: مس وسف؛ لأنه من مسست وسففت، ويضم ما كان على (فَعَلَ) (يَفْعُل) نحو: مد وعد، ويكسر ما كان على (فَعْل) (يفْعَل) نحو: مر وفر، وهذه لغات أهل نجد، فأما أهل الحجاز فإنهم يظهرون التعيف، فيقولون: أمسس وأمدد وأفرر، وعليه قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ} [البقرة: 217] ، فإذا ثنوا أو جمعوا لم يجز إظهار التضعيف، ورجعوا إلى اللغة الأولى كراهة لاجتماع المثلين. وقال الفراء في قوله: {لَا يَمَسُّهُ} أي: لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به، يعني القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 قوله تعالى: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 81-82] . المدهن: المظهر خلاف ما يبطن، ومنه قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] ، ويعني به هاهنا: تامنافقون، وقال الفراء: يعني به: الكافرون، يقال: أدهن، أي: كفر، وأصله: من الجهن، كأنه يذهب في خلاف ما يظهر، كالدهن في سهولة ذلك عليه وإسراعه إليه. وقوله: {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} فيه قولان: أحدهما: أن المعنى: وتجعلون حظكم من الخبر الذي هو كالرزق لكم أنكم تكذبون به. والثاني: أن المعنى: وتجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون. قال الفراء: جاء في الأثر أن معنى {رِزْقَكُمْ} شكركم، قال: وهو حسن في العربية، لأنك تقول: جعلت زيارتي إياك أنك استخففت بي، فيكون المعنى: جعلت ثواب الزيارة ذلك، ومثله: قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] .، أي: ما يقوم لهم مقام البشارة عذاب أليم؛ لأن البشارة لا يكون إلا في معنى الخير. * * * قوله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة: 90-91] قال علي بن عيسى: دخل كاف الخطاب كما دخل في: ناهيك به شرفاً وحسبك به كرماً، أي لا تطلب زيادة على حلالة حاله، فكذلك سلام لك منهم، أي: لا تطلب زيادة على سلامتهم جلالة وعظم ومنزلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 ومما يسأل عنه أن يقال: لم كان التبرك باليمين؟ والجواب: أن العمل يتيسر بها؛ لأن الشمال يتعسر العمل بها من نحو: الكتابة والتجارة والأ'مال الدقيقة. قال الفراء: المعنى في قوله: {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} : فسلام لك أنم من أصحاب اليمين، فألقيت (أنَّ) وهو معناهما، كما تقول: أنت مصدق ومسافر عن قليل، إذا كان قد قال: إني مسافر عن قليل، وكذلك تجده في قولك: إنك مسافر عن قليل، قال: والمعنى: فسلام لك أنت من أصحاب اليمين، ويكون كالدعاء له، كقولك: سقياً لك من الرجال، وإن رفعت (السلام) فهو دعاء، وقال قتادة المعنى: فسلام لك أيها الإنسان الذي هو لك من أصحاب اليمين من عذاب الله، وسلمت عليه الملائكة، وقيل المعنى: سلمت مما تكره؛ لأنك من أصحاب اليمين. قال أبو الفتح بن جني: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: مهما من شيء فسلام لك إن كان من أصحاب اليمين، ولا ينبغي أن يكون موضع {إِنْ كَانَ} إلا هذا الموضع؛ لأنه لو كان موضعه بعد (الفاء) يليها لكان قوله: {فَسَلَامٌ لَكَ} جواباً له في اللفظ لا في المعنى، ولو كان جواباً له في اللفظ لوجب إدخال (الفاء) عليه؛ لأنه لا يجوز في سعة الكلام: إن كان من أصحاب اليمين سلام له، فلما وجد (الفاء) فيه ثبت أنه ليس بجواب لقوله: {إِنْ كَانَ} في اللفظ، وإذا ثبت أنه ليس بجواب له في اللفظ ثبت أن موقع {إِنْ كَانَ} بعده لا قبله، قال: فإن قيل: إنما يدل (الفاء) التي تكون جواباً لقوله: {إِنْ كَانَ} لأجل الفاء التي تدخل جواباً لـ (أمَّا) ؛ لأنه لا يدخل حرف معنى على مثله، قيل: إنما يدخل (الفاء) التي لـ (أما) عليه: لأنه ليس بجواب لقوله: {إِنْ كَانَ} ، فلو كان جواباً له لما دخلت هذه (الفاء) في قوله: {مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ} على أن (فاء) (أما) قد تكون موقعه بعد (الفاء) لا تليها، فأما ما استدل به أبو علي على قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 أن ما بعد (أما) لا يكون موقعه إلا بعد (الفاء) تليها، فإنه غير دال على صحة قوله؛ لأنه قال: امتناع (أما زيداً فإنك تضرب) ، يدل على أن ما بعد (أما) لا يجوز أن يقع إلا بعد (الفاء) يليها، قال: ولأنه لو جاز أن يقع بعد (أما) بعد (الفاء) لا يليها، لما امتنع: (أما زيداً فإنك تضرب) ، لأنه كان يكون التقدير: مهما يكن من شيء فإنك تضرب زيداً، قال: فلما امتنع هذا علمت أنه إنما امتنع؛ لأن التقدير: مهما يكن من شيء فزيداً أنك تضرب، ولما لم يجز هذا لم يجز: أما زيداً قلإنك تضرب؛ لأن التقدير به هذا، ولو كان التقدير به: فإنك تضلاب زيداً، لجاز كما يجوز: مهمت يكن من شيء فإنك تضرب زيداً، فيقال: هذا لا يدل؛ لأن قولك: مهما يكن من شيء زيداً فإنك تضرب؛ لم يجز؛ لأن (إن) لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، ولذلك لم يجز: أما زيداً فأنك تضرب؛ لأن (إن) لا يعمل ما بعدها فيما قبلها؛ لأن زيداً الآن مقدم في اللفظ على (أن) ، ولم يمتنع لأن التقدير به يكون مقدماً على (إن) لأنه إن قدرته أن يكون موضعه قبل (إن) أو بعد (إن) لم يجز؛ لأنه مقدم في اللفظ على (إن) وإنما كان يكون ذلك دليلاً لو كان ما بعد (إن) يعمل فيما قبلها إذا وصل بها، ولا يعمل قيها، فأما إذا كان ما بعد (إن) لا يعمل فيما قبلها أوليه أو لم يله فإن هذا لا يدل؛ لأنه إنما امتنع أن تنصب (زيداً) إذا ولي (إن) بما بعد (إن) ؛ لأن ما بعدها لا يعمل فيما قبلها، وهذه العلة موجودة فيما تقدم (إن) ولم يلها. و (أما) لها في الكلام موضعان: أحدهما: أن تكون لتفصيل الجمل، نحو قولك: جاءني القوم فأما زيد فأكرمته وأما عمرو فأهنته، ومن هذا الباب قوله: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} . والثاني: أن تكون مركبة من (أنْ) و (ما) عوضا من (كان) وذلك قوله: أما أنت منطلقاً انطلقت معك، والمعنى: إن كنت منطلقاً انطلقت، فموضع (أنْ) نصب؛ لأنه مفعوله له. وأنشد سيبويه: أبا خراشة أما أنت ذا نفر فإن قومي لم ياكلهم الضبع أي: إن كنت، والضبع: السنة الشديدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 {ومن سورة الحديد } * * * قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [الحديد: 11] القرض: أخذ الشيء من ماله بإذن مالكه على أنه يضمن رده له. والمضاعفة: الزيادة على مقدار مثله أو أمثاله، وقد وعد الله سبحانه على الحسنة عشر أمثالها، قال الحسن: القرض هنا: التطوع من جميع الدين. وقرأ ابن كثير {فَيُضَاعِفَهُ} بغير ألف مشددا و (الفاء) مضمومة، وقرأ مثله ابن عامر إلا أنه فتح الفاء، وقرأه الباقون {فَيُضُاعِفَهُ} بألأف وضم، إلا عاصماً فإنه فتح. فالضم على القطع، أي: فهو يضاعفه له، كما قال: ألم تسأل الربع القواء فينطق وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق وقال الفراء: هو معطوف على (يُقْرِضُ) وليست بجواب، كقولك: من ذا الذي يحسن ويحمل؟ ومن نصب فبإضمار (أن) ، كأنه قال: فإن يضاعفه له، وقال الفراء: هو جواب الاستفهام، ومنع ذلك البصريون، لأن الاستفهام لم يتناول القرض وإنما يتناول المقرض، وأجازه بعضهم؛ لأن المعنى يؤول إلى القرض؛ لأن الاستفهام عن المقرض استفهام عن قرضه وقيل في: {مَنْ ذَا} قولان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 أحدهما: أنه صلة لـ: (من) ، وهو قول الفراء، قال: ورأيتها في مصحف عبد الله {مَنْ ذَا الَّذِي} والنون موصولة بالذال. والقول الثاني: أن المعنى من هذا الذي، و {مَّن} في موضع رفع بالابتداء، و {الَّذِي} خبره على القول الأزل، وعلى القول الثاني يكون {ذَا} مبتدأ و {الَّذِي} خبره والجملة خبر {مَّن} . * * * قوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 21] . العرض: انبساط الشيء في الجهة المقابلة لجهة الطول، وضد العرض الطول، وإذا اختلف مقدار العرض والطول فمقدار الطول أعظم. ويقال: لم ذكر العرض دون الطول؟ الجواب: أن العرض أقل من الطول، وإذا كان العرض كعرض السماء والأرض كان الطول في النهاية التي لا يحيط بها إلا الله تعالى، وقد قال في آية أخرى: {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران: 133] ، والمعنى: كعرض السموات، فحذف (الكاف) ؛ لأن المعنى مفهوم، والدليل على أن (الكاف) مراده وجودها في قوله: {كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} . * * * قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَ جْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27] . الرهبانية: أصلها من الرهبة، وهو الخوف، إلا أنها عبادة مختصة بالنصارى لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا رهبانية في الإسلام) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 والابتداع: ابتداء أمر لم يحتذ على مثل، ومنه وقول: البدعة خلاف السنة. ويسأل عن قوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} ؟ والجواب: أن قتادة قال: ابتدعوا رفض النساء، واتخاذ الصوامع. وقيل: ما كتبناها عليهم إلا أنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، فما رعوها حق رعايتها، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد، قال ابن عباس: ابتدعوا لحاقهم بالبراري والجبال، فما رعاها الذين بعدهم حق رعليتها، وذلك لتكذيبهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: ما كتبناها عليهم: ما فرضناها عليهم، وقيل: ما كتبناها عليهم البتة. ونصب {رَهْبَانِيَّةً} على هذا الوجه بإضمار فعل تقديره: ابتدعوا رهبانية ابتدعوها، ونصب {رِضْوَانِ اللَّهِ} على البدل من (الهاء) في {مَا كَتَبْنَاهَا} ، وهو قول الزجاج، وعلى القول الآخر يكون معطوفاً على ما قبله. {ومن سورة المجادلة } * * * قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة: 7] . النجوى هاهنا: المتناجون، فأما قوله: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} [المجادلة: 10] ، فمعناه: التناجي، وأصله السر، قال قتادة: كان المنافقون يتناجون بينهم فيغيظ ذلك المؤمنين، وقيل: كانوا يوهمون أنه حديث على المسلمين من حرب أو نحوها، وهو قول عبد الرحمن بن زيد، وقيل: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - اليهود عن النجوى؛ لأنهم كانوا يتناجون إلا بما يسوء المؤمنين. ويجوز في {ثَلَاثَةٍ} و {خَمْسَةٍ} الجر والرفع: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 فالجر: على أنه نعت على اللفظ، والرفع: نعت على الموضع؛ لأن {مِنَ} زائدة، والمعنى: ما يكون نجوى ثلاثة، ومثله: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] و {غَيْرُهُ} . ويجوز أن تكون النجوى بمعنى التناجي، فتكون {ثَلَاثَةٍ} مجرورة بالإضافة، وفيه بعد من قبل حذف الموصوف؛ لأن التقدير: ما يكون من نجوى نفر ثلاثة، ولا يحوز الرفع على هذا الوجه. * * * قوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} [المجادلة: 19] . الاستحواذ: الاستيلاء على الشيء بالاقتطاع له، وأصله من: حاذه يحوذه حوذاً، مثل: حاز يحوزه حوزاً، وهو أحد ما جاء على أصله ولم يعل، وكان قياسه: استحاذ، مثل: استقام واستعان، إلا أنه جاء على أصله، كما يقال: حوكة وقومة وأغيلت المرأة وأغيمت السماء، وقالوا: استنوق الجمل، واستتيست الشاة، والقياس في هذه الأشياء: حاكة وقامة وأغالت المرأة وأغامت السماء واستناق الجمل واستتاست الشاة. {ومن سورة الحشر } * * * قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5] . اللينة: كل نخلة سوى العجوة، وهذا قول ابن عباس وقتادة، وقال مجاهد وعمرو بن ميمون وعبد الرحمن بن زيد: كل نخلة لينة، وقال سفيان: اللينة: الكريمة من النخل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 قال الفراء: حدثني حبان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع النخل كله إلا (العجوة) وهو (البرني) في قول الفراء، والمستعم في الكلام أن (البرني) غير (العجوة) فيما يستعمله الآن أهل الحجاز، وذكر ابن إسحاق: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقطع نخل بني قريظة والنضير إلا (العجوة) فقالوا: محمد يزعم أنه أرسل مصلحاً وهو يقطع النخل وهذا إفساد، فأنزل الله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} ، أي بأمر الله، وجمع لينة: ليان. قال امرؤ القيس: أضرم فيها الغوي السعر ويقال: لين، بمنزلة: سدرة وسدر، ويقال: لين، مثل: سدرة وسدر، كسرة وكسر قال: ذو الرمة: طراق الخوافي واقع فوق لينة ندا ليلة في ريشة يترقرق ويحتمل اشتقاق {لِينَةٍ} وجهين: أحدهما: أن يكون من اللين، سميت بذلك للين ثمرتها. والثاني: أن يكون من اللون، فـ: (الياء) على هذا القول بدل من (واو) ؛ لأنه لون من التمر. * * * قوله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 16] . جاء في التفسير أن الإنسان هاهنا: إنسان بعينه كان من الرهبان وقع في بلية فأغواه الشيطان بأن قال له: إن خلصتك أتسجد لي سجدة واحدة، فأجابه إلى ذلك وسجد له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 فلما سجد واحتاج إليه ...... ، حتى قتل وكان يسمى (برصيصاً) هذا قول ابن عباس وابن مسعود، قال مجاهد: هو عام في جميع الكفار من الناس. * * * قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الحشر: 24] . أجمع القراء المشهورون على كسر (الواو) وضم (الراء) من {الْمُصَوِّرُ} ، وروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قرأ {الْمُصَوِّرُ} بكسر الواو وفتح الراء، وروي {الْمُصَوِّرُ} بفتح الواو والراء جميعاً، وروي عن الأعمش {الْمُصَوِّرُ} . فمن نصب {الْمُصَوِّرَ} وفتح (الواو) ، وجعل {الْمُصَوِّرُ} مفعولاً بـ: {الْبَارِئُ} [الحشر: 24] ، وهو نعت لمحذوف تقديره: البارئ الإنسان المصور، أو آدم المصور. ومن كسر فهو يريد هذا المعنى إلا أنه شيه هذا بالحسن الوجه على تقدير قول من قال ك هذا الضارب الرجل، كما تقول: هذا الحسن الوجه، فيجر (الرجل) على التشبيه بالوجه، ويشبه (الضارب) بالحسن؛ لأنهما وصفان ولأنهما يجتمعان في الجمع المسلم، ولأن كل واحد منهما يأتي تأنيثه على حد تأنيث الآخر، نحو حسن وحسنة، كما تقول: ضارب وضاربة، وقد نصبوا (الوجه) في وقلهم: هذا الحسن الوجه على التشبيه، كقولك: هذا الضارب الرجل. فأما الرفع في {الْمُصَوِّرُ} فإنع بعيد، ويروى عن الأعمش، ووجهه فيما ذكروا أن المعنى الْمُصَوِّرُ في القلوب بآياته وعلامات ربوبيته، ولا يستحسن العلماء هذه القراءة لبعدها. {ومن سورة الممتحنة } * * * قوله تعالى: {وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} [الممتحنة: 1] . يسأل عن موضع: {أَنْ تُؤْمِنُوا} ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 والجواب: أن موضعها نصب، والمعنى: يخرجون الرسول ويخرجونكم؛ لأن تؤمنوا بالله، أي: من أجل ذلك، فـ {أَنْ} مفعول له. و {إِيَّاكُمْ} معطوف على الرسول، إلا أنه ضمير منفصل، والكاف والميم في موضع جر بالإضافة عند الخليل وحكي: إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب، أنكر ذلك أكثر العلماء؛ لأن (إِيَّا) مضمر والمضمر لا يضاف، وقال المبرد: (إِيَّا) اسم مبهم أضيف إلى الكاف والميم، ولا يعرف اسم مبهم غيره؛ وهذا أيضاً قد أنكر عليه؛ لأن المبهم لا يضاف، وأنه ليس بمبهم وإنما هو مضمر بمنزلة (الكاف) من (رأيتك) ويدل على أنه مضمر كونه على صفة واحدة لضرب واحد من الإعراب، وهذا شرط المضمر، وقال ابن كيسان: إنما جيء بها ليعتمد عليها (الكاف) ؛ لأنها لا تقوم بنفسها، وقال الكوفيون: (إِيَّاك) اسم بكماله، وقال الأخفش: الكاف للخطاب لا موضع لها بمنزلة الكاف في (ذلك) وكذا الهاء والياء في إياه وإياي، وهذا القول هو المختار عند أبي علي وأصحابه. * * * قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] . قيل في {الْكَوَافِرِ} قولان: أحدهما: أن المعنى: لا تمسكوا بعصم النساء الكوافر، وهو الظاهر. والثاني: أن المعنى: ولا تمسكوا بعصم الفرق الكوافر، ذكره أبو الفتح ابم جني، والآية تدل على القول الأول. * * * قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة: 13] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 اختلفوا في {الْكُفَّارُ} هاهنا: فقيل: الكفار هاهنا يريد به: الذين يكفرون الموتى، أي: يدفنونهم؛ لأنهم إذا دفنوهم يئسوا منهم فكذلك هؤلاء الذين غضب الله عليهم قد يئسوا من البعث كما يئس هؤلاء الذين دفنوا الموتى منهم. وقيل: الكفار هاهنا يريد به: الكفار بالله، والمعنى: أنهم قد يئسوا من البعث كما يئس الكفار الذين هم في القبورمن ثواب الله ورحمته؛ لأنهم إذا صاروا إلى القبور عاينوا ما أعد الله لهم من العذاب؛ لأنه جاء في الحديث أنه يفتح لهم أبواب من النار فيشاهدون مواضعهم فيها. وقيل المعنى: كما يئس كفار العرب أن يحيى أهل القبور. وقيل: هم أعداء المؤمنين من قريش، قد يئسوا من خير الآخرة كما يئس كفار العرب من النشأة الثانية. {ومن سورة الصف } * * * قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُ مْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف: 10-12] . التجارة: طلب الربح في شراء السلعة، فاستعير هاهنا لطلب الربح في عمل الطاعة. والجهاد: مقاتلة العدو. ومما يسأل عنه أن يقال: لم جاز {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} فيما يقتضي الحمل على التجارة، ولا يصلح: التاجارة تؤمنون، وإنما: التجارة أن تؤمنوا بالله؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 والجواب: أنه جاء على طريق ما يدل على خير التجارة لا على نفس الخبر إذ الفعل يدل على مصدره وانعقاده بالتجارة في المعنى لا في اللفظ، وفي ذلك توطئة لما يبنى على المعنى في الإيجاز. ويسأل عن جزم {يَغْفِرْ لَكُمْ} ، {وَيُدْخِلْكُمْ} ؟ أحدهما: أنه جواب {هَلْ} ؛ لأنها استفهام وجواب الاستفهام مجزوم، وهو قول الفراء، وأنكر هذا القول أصحابنا، وقالوا: الجلالة لا توجب المغفرة. والقول الثاني: أنه محمول على المعنى: لأن قوله تعالى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} معناه: آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا في سبيل الله، فهو أمر جاء في لفظ الخبر، ويدل على ذلك أن عبد الله بن مسعود قرأ: " ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" ولا يمتنع أن يأتي الأمر بلفظ الخبر كما أتى الخبر بلفظ الأمر في قوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75] ، والمعنى: فمد له الرحمن مداً، لأن القديم تعالى لا يأمر نفسه، ومثل ذلك: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38] ، فلفظه لفظ الأمر، ومعناه الخبر أي: ما أسمعهم وأبصرهم، أي: هؤلاء ممن يجب أن يقال لهم ذلك. {من سورة الجمعة } * * * قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجمعة: 1] التسبيح: التنزيه لله تعالى، والقدوس: المطهر من العيوب، والتقديس: التطهير، ومنه يقال: القدس حظيرة الجنة، ويقال: للسطل قدس؛ لأنه يتطهر به، والعزيز: الممتنع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 وقيل الغالب، ومنه قوله تعالى: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23] ، والحكيم: المحكم للأشياء، وأصل أحكم: منع، قال الأصمعي: قرأت في كتاب بعض الخلفاء: (أحكموا بني فلان عن كذا) ، قال الشاعر: أبني كليب أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا ومن هذا أخذت حكمة الدابة للحديدة. ومما يسأل عنه أن قال: لم جاز {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} ، و {مَا} إنما يقع على ما لا يعقل، والتسبيح إنما هو لمن يعقل؟ وعن هذا جوابان: أحدهما: أن {مَا} هاهنا بمعنى (من) كما حكى أبو زيد عن أهل الحجاز أنهم كانوا إذا سمعوا الرعد قالوا: سبحان ما سبحت له. والثاني: أن (ما) أعم من (من) وذلك أنها تقع على ما لا يعقل وعلى صفات من يعقل، فقد شاركت (من) في من يعقل وزادت عليها بكونها لما لا يعقل فصارت أعم منه، فجاءت لتدل على أن التسبيح من جميع عاقلهم وغير عاقلهم عام، ويدل على هذا قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] . * * * قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] . جاء في التفسير: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب يوم الجمعة فقدم دحية الكلبي بتجارة من الشام وفيها كل ما يحتاج إليه الناس، فضرب الطبل ليؤذن الناس بقدومه، فخرج جميع الناس إلا ثمانية نفر، فأنزل الله سبحانه: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} ، يعني التي قدم بها، {أَوْ لَهْوًا} يعني الضرب بالطبل. ويسأل عن قوله: {انْفَضُّوا إِلَيْهَا} ، ولم يقل: (إليهما) ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 وفي حرف عبد الله {انْفَضُّوا إِلَيْهِ} ، ففي القراءة الأولى عاد الضمير إلى النجارة وفي القراءة الثانية على اللهو، وجاز أن يعود الضمير على أحدهما اكتفتء به، وكأنه على حذف، والمعنى: وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها، وإذا رأوا انفضوا إليه، فحذف (إليه) لأن (إليها) يدل عليه. قال الفراء: إنما قال: {إِلَيْهَا} ؛ لآنها كانت أهم إليهم، وهم بها أسر من الطبل؛ لأن الطبل إنما دل على التجارة، والمعنى كله له. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: لم قدم التجارة على اللهو هاهنا، وأخرها في وقوله: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ} ؟ والجواب: أن التجارة هي المطلوبة، والفائدة فيها، واللهو لا فائدة فيه، فأعلمهم أنهم إذا رأوا تجارة وهي المرغوب فيها عندهم أو لهواً ولا فائدة فيه فينفضون، وعجزهم بذلك وبكتهم لأنهم يعذرون في بعض الأحوال على التجارة ولا يعذرون على اللهو؛ لأنه ليس مما يرغب فيه العقلاء كما يرغبون في التجارة، ثم قال لنبيه - عليه السلام -: قل لهم: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ} الذي لا فائدة فيه {وَمِنَ التِّجَارَةِ} التي فيها الفائدة، فأخر الأول هاهنا ليعلمهم أن ما عند الله خير مما لا فائدة فيه ومن الذي فيه فائدة، والعرب تبتدي بالأدنى ثم تتبعه بالأعلى، نحو قولهم: فلان يعطي العشرات والميئات والآلاف. {ومن سورة المنافقين } * * * قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 الخشب: جمع خشبة، مثل: بدن وبدنة، والخشب: جمع خشبة أيضاً، مثل: شجرة وشجر، وقيل: خشب جمع خشاب، وخشاب جمع خشبة كما يقال: ثمرة وثمار، فعلى هذا يكون (خشب) جمع الجمع، وكذلك (ثمر) من قوله تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42] ، فخشبة وخشب بمنزلة شجرة وشجر، وخشب وخشاب بمنزله جبل وجبال، وخشاب بمنزلة كتاب وكتب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو الكسائي "خُشْبٌ" بإسكان الشين، وقرأ الباقون {خُشُبٌ} بالضم، وخُشْبٌ مخففة من خُشُبُ كما يقال: رسلٌ في رُسُلٍ وكتْبٌ وكُتُبٍ. * * * قوله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8] . جاء في التفسير: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في غزوة من غزواته، فالتقى رجل من المسلمين يقال له (جعال) وأخر من المنافقين على الكاء فازدحما عليه فلطمه (جعال) وأبصره (عبد الله بن أبي) فغضب، وقال: ما أدخلنا هؤلاء القوم ديارنا إلا لتلطم ما لهم قاتلهم الله، يعني جعالاٍ وقومه، ثم قال: إنكم لو منعتم أصحاب هذا الرجل القوت، يعني: النبي - صلى الله عليه وسلم - لتفرقوا وانفضوا، فانزل الله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} [المنافقون: 7] ، ثم قال عبد الله بن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منهت الأذل، وسمعها (زيد بن أرقم) فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} [المنافقون: 8] نصب {الْأَذَلَّ} ؛ لأنه مفعول و {الْأَعَزُّ} فاعل، وأجاز الفراء: (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) على أن (لَيُخْرِجَنَّ) غير متعد؛ لأنه من خرج يخرج، قال: كأنك قلت: ليخرجن العزيز منها ذليلاً، وفي هذا بعد، لأن {الْأَذَلَّ} معرفة، ولا يجوز أن تكون الحال معرفة، إلا أنه ربما قدرت الألف واللام كأنهما زائدتان، وفد حكى سيبويه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 أدخلوا الأول فالأول، أي: ادخلوا متتابعين، فهذا على تقدير طرح الألف واللام، قال: وقرأ بعضهم: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} بنون مضمومة، وهذا يدل على هذه الإجازة، ونصب {الْأَعَزُّ} ؛ لأنه مفعول، قال: ومعناها: لنخرجن الأعز في نفسه ذليلاً. * * * قوله تعالى: {فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10] . يسأل عن نصب: {فَأَصَّدَّقَ} ؟ والجواب: أنه منصوب؛ لأنه جواب التمني بالفاء، وكل جواب بالفاء نصب إلا جواب الجزاء فإنه رفع على الاستئناف؛ لأن الفاء في الجزاء وصلة إلى الجواب بالجملة من المبتدأ والخبر، وإنما نصب الجواب للإيذان بأن الثاني يجب أن يون بالأول، ودلت الفاء على ذلك، ولا يحتاج إلى ذلك في الجزاء، لأن حروف الجزاء تربط الكلام. وقرأ أبو عمرو وحده {وَأَكُونْ} بالنصب والواو، وقرأ الباقون {وَأَكُنْ} ، وقيل لأبي عمرو: لم سقطت من المصحف؟ فقال: كما كتبوا (كلمن) ، يعني: أنها كذا يجب أن تكون، وإنما حذفت من المصحف استخفافاً، وهي قراءة عبد الله، وأجاز الفراء: النصب مع حذف الواو، والنصب على العطف. وأما من قرأ {وَأَكُن} فإنه عطف على (الفاء) قبل دخولها؛ لأنها لو لم تدخل لكان الفعل مجوماً، وكل جواب يكون مصدراً منصوباً بالفاء فهو مجزوم بغير (الفاء) إلا الجحد فإنه لا يكون إلا بـ: (الفاء) ، و (الفاء) تدخل جواباً لسبعة أشياء وهي: الأمر والنهي والتمني والجحد والاستفهام والعرض والشرط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 {ومن سورة التغابن } * * * قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن: 6] . قال علي بن عيسى: أنفوا من اتباع بشر؛ لأنه من جنسهم، فهو كما قال في موضع آخر {أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ} [القمر: 24] ، وكل متكبر من العباد مذموم؛ لأن كبره طريق إلى ترك تعلم ما ينبغي أن يتعلم، والاتباع لمن ينبغي أن يتبع. ويقال: ما معنى {أَبَشَرًا} هاهنا؟ والجواب: أن البشر والإنسان سواء، وقيل: إنه مأخوذ من البشرة وهو ظاهر الجلد. وفي رفع {أَبَشَراٌ} وجهان: أحدهما: أنه فاعل بإضمار فعل يدل عليه {يَهْدُونَنَا} ، كأنه قال: أيهدينا بشر يهدوننا، وإنما احتجت إلى لإضمار فعل؛ لأن الاستفهام بالفعل أ, لى. والقول الثاني: أنه مبتدأ {يَهْدُونَنَا} وخبره، وهو قول أبي الحسن الأخفش. {ومن سورة الطلاق } * * * قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4] . المحيض: بمعنى الحيض، والمحيض أيضاً: موضع الحيض وزمانه. والارتياب: الشك، وجاء في التفسير في قوله: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} لأن المعنى: إذا لم تدروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 للكبر أم لدم الاستحاضة، فالعدة ثلاثة شهور، وهو قول الزهري وعكرمة وقتادة، وقيل: إن ارتبتم فلم تدروا الحكم في ذلك فعدتهن ثلاثة أشهر. ويشأل عن خير قوله: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} ؟ والجواب: أنه محذوف وهو جملة تقديرها: واللائي لم يحضن عدتهن ثلاثة أشهر، ودل عليه ما قبله. و {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ} مقطوع مما قبله؛ لأن أجلهن مؤقت، وهو موضع حملهنا. * * * قوله تعالى: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} [الطلاق: 10-11] . يسأل عن نصب {رَسُولًا} ؟. وفيه ثلاثة أجوبة: أحدهما: أن يكون بدلاً من {ذِكْرًا} من وجهين: أحدها: أن يكون القرآن، فيكون {رَسُولًا} المعنى يشتمل عليه، ويكون الذكر هو الرسول، فكأنه في التقدير: قد أنزل الله إليكم ذكراً ذا رسول. والوجه الثاني: أن يكون الذكر الشرف، فيكون الرسول هو الذكر في المعنى، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] . والثاني: أن يكون منصوباً بـ: (جعل) ؛ لأن {أَنْزَلَ} يدل عليه لما قال أنزل ذكراً، دل على أنه جعل رسولاً، ومثله قول الشاعر: بادت وغير أيهن مع البلى إلا رواكدا حمرهن هباء ومشجج أما سواء قذاله فبذا وغير ساره المعزاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 لأنه لما قال: (إلا رواكد) ، دل على أن بها رواكد، فحمل قوله: ومشجج على المعنى. والثالث: أن يكون منصوبا بإضمار (أعني) . وأجاز الفراء: الرفع في {رَسُولًا} ؛ لأن {ذِكْرًا} رأس آية والإئتناف بعد الآيات حسن. {ومن سورة التحريم } * * * قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1] . قال الفراء: نزلت في (مارية القبطية) ، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجعل لكل امرأة من نسائه يوما، فلما كان يوم عائشة - رضي الله عنها - زارتها حفصة فخلا بيتها، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مارية وكانت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت حفصة، وجاءت حفصة إلى منزلها فإذا الستر مرخي، وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أتكتمين علي؟ قالت: نعم، قال: فإنها علي حرام، يعني (مارية) وأخبرك أن أباك وأبا بكر سيملكان من بعدي، فأخبرت حفصة عائشة الخبر، ونزل الوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال: ما حملك على ما فعلت؟ قالت له: ومن أخبرك أني قلت ذلك لعائشة؟ قال: {قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3] ، ثم طلق حفصة تطليقة واحدة، واعتزل نساءه تسعة وعشرين يوما، ونزل عليه: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} من نكاح مارية، ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] فكفَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن يمينه، والتحلة: الكفارة، فأعتق رقبة، وعاد إلى مارية، ثم قال: عرف حفصة بعض الحديث، وترك بعض الحديث، وهذا الذي قال الفراء قول زيد بن أسلم ومسروق وقتادة والشعبي وعبد الرحمن بن زيد والضحاك. وفي (النبي) لغتان: الهمز وترك الهمز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 فمن همز أخذ من أنبأ، وهو (فعيل) بمعنى (مفعل) أي: منبئ، والمنبئ: المخبر؛ لأنه يخبر عن الله تعالى، ويقال: سميع بمعنى مسمع، قال عمرو بن معدي كرب: أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع يريد: المسمع. وجمع (نبئ) بالهمز: نباء، قيل: كريم وكرماء، قال عباس بن مرداس: يا خاتم النباء إنك مرسل بالحق كل هدى الإله هداكا ويقال: نبي بغير همز، ويحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون من (أنبأ) إلا أنه خفف بترك الهمز، كما قالوا: برية وروية، وأصلها الهمز. والوجه الثاني: أنه يحتمل أن يكون من (النباوة) وهي المرتفع من الأرض، فالارتفاع ذكره سمي بذلك، وجمعه على هذا: أنبياء، بمنزلة: غني وأغنياء، وترك الهمز أفصح. ويروى أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا نبيء الله بالهمز فقال: لست بنبيء الله ولكنني نبي الله، فهذا يدل على ترك الهمز، وكأنه كره التقعير. * * * قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] . يقال: لم جمعت القلوب؟ وعن هذا أجوبة: أحدها: أن التثنية جمع في المعنى، فوضع الجمع موضع التثنية، كما قال تعالى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] ، وإنما هو داود وسليمان عليهما السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 والثاني: أن أكثر ما في الإنسان اثنان نحو: اليدين والرجلين والعينين والخدين، وما أشبه ذلك، وإذا جمع اثنان إلى اثنين صار جمعا، فيقال: أيديهما وأرجلهما، ثم حمل ما كان في الإنسان منه واحدا على ذلك لئلا يختلف حكم لفظ أعضاء الإنسان. والثالث: أن المضاف إليه مثنى فكرهوا أن يجمعوا بين تثنيتين فصرفوا الأول منهما إلى لفظ الجمع؛ لأن لفظ الجمع أخف؛ لأنه أشبه بالواحد؛ لأنه يعرف بإعرابه ويستأنف كما يستأنف الواحد، وليست التثنية كذلك؛ لأنها لا تكون إلا على حد واحد، ولا تختلف، ومن العرب من يثني فيقول: قلباهما، قال الراجز فجمع بين اللغتين: ومهمهين قذفين مرتين ظهرا هما مثل ظهور الترسين وقال الفرزدق: بما في فؤادينا من البث والهوى فيبرأ منهاض الفؤاد المشعف ومن العرب من يفرد، ويروى أن بعضهم قرأ {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [طه: 121] . قال الفراء في قوله: {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} يعني: عائشة وحفصة قد صغت قلوبهما، وذلك أن عائشة قالت: يا رسول الله: أما يوم غيري فتتمه وأما يومي فتفعل فيه، فنزلت: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} [التحريم: 4] . ومعنى صغت: زالت ومالت إلى ما كان من تحريم، وقيل: زاغت إلى الإثم، وهو قول ابن عباس ومجاهد والضحاك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4] . المولى في الكلام على تسعة أوجه: المولى: السيد، والمولى: العبد، والمولى: المنعم، والمولى: المنعم عليه، والمولى: الولي، والمولى: ابن العم، والمولى: واحد الموالي وهم العصبة من قوله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} [مريم: 5] ، والمولى: أولى من قوله تعالى: {وَهُوَ وَلِيُّهُمْ} [الأنعام: 127] ، أي: أولى بهم قال لبيد: فغدت كلا الفرجين تحسب أنه مولى المخافة خلفها وأمامها أي: أولى. وفي {جِبْرِيلُ} أربع لغات: جبريل: بكسر الجيم، وجبريل: بفتحها، وجبرئيل: بفتح الجيم وكسر الهمزة، وجبرئل، وقد قرأ بذلك كله؛ فقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم بكسر الجيم دون همز {جِبْرِيل} ، وقرأ الكسائي وحمزة جبرئيل مفتوح الجيم مهموز بين الراء والياء، وقرأ أبو بكر عن عاصم جبرئيل على وزن (فبرعيل) ، وقرأ ابن كثير جبريل بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز، ومن العرب من يقول: جبريلُّ بتشديد اللام، ومنهم من يبدل من اللام نوناً. وقيل في {صَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} ثلاثة أقوال: أحدها: خيار المؤمنين، وهو قول الضحاك. والثاني: الآنبياء، وهو وقل قتادة، و {ظَهِيرٌ} في هذين القولين في معنى ظهراء، والظهير: المعين، وقع الواحد موقع الجمع وكذا: {صَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} واحد في معنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 الجمع، كما قال: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنعام: 45] ، ومثله: {سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 67] . والقول الثالث: أنه عنى (أبا بكر) وقيل (عمر) وقيل (علي) رضي الله عنهم. وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ} يجوز في قوله: {هُوَ} وجهان: أحدهما: أن يكون فصلاً دخل ليفصل بين المبتدأ والخبر، والكوفيون يسمونه (عماداً) والثاني: أن يكون مبتدأ و {مَوْلَاهُ} الخبر، والجملة خبر {إِن} . ومن جعل {مَوْلَاهُ} بمعنى السيد والخالق كان الوقف على قوله: {مَوْلَاهُ} وكان {جِبْرِيلُ} مبتدأ و {ظَهِيرٌ} خبره. ومن جعل {مَوْلَاهُ} بمعنى ولي وناصر جاز أن يكون الوقف على قوله: {جِبْرِيلُ} ، وجاز أن يكون على قوله: {صَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} ويبتدأ {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} ، فيكون {ظَهِيرٌ} عائداً على {وَالْمَلَائِكَةُ} * * * قوله تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] . قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم وخارجة عن نافع {وَكُتُبِهِ} وقرأ الباقون "وَكَتَبِهِ"، والمعنى واحد، إلا من قرأ بالإفراد جعل الواحد في موضع جمع، ومن قرأ على الأصل؛ لأن الله تعالى قد أنزل عدة كتب قبل مريم - عليها السلام - وقد آمنت بجميعها، ويجوز أن يعود قوله: "وكَتَبهِ" على التوارة؛ لأنها كانت أظهر عندهم، وإذا حمل على الجمع أراد التوارة وصحف إبراهيم وإدريس وآدم - عليهم السلام - وغيرها من الصحف التي أنزل الله تعالى. ويسأل عن قوله: {مِنَ الْقَانِتِينَ} ، كيف قال: من القانتين، ولم يقل من القانتات؟ والجواب: أن القنوت يقع من المذكر والمؤنث، وإذا اجتمعا غلب الذكر على المؤنث، فكأنه في التقدير: كانت من العباد القانتين، فعم في القانتين، ولأنها كانت في قنوتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 وخدمتها لبيت المقدس مقام رجل أو رجال. {ومن سورة الملك } * * * قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] . قال علي بن عيسى: معنى {تَبَارَكَ} تعالى؛ لأنه الثابت الدائم الذي لم يزل ولا يزال؛ وذلك أن أصل الصفة: الثبوت، من البروك وهو ثبوت الطير على الماء، ومنه البركة لثبوت الخير بها، قال: ويجوز في معنى {تَبَارَكَ} تعالى من جميع البركات منه، إلا أن هذا المعنى مضمن في الصفة غير مصرح به، وإنما المصرح به: تعالى باستحقاق التعظيم والُملْكُ: القدرة والسلطان، وأصله من أصل المَلك، وأصل المَلك من الشد، يقال: ملكت العجين إذا شددته، وقد شرح في الفاتحة. * * * قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] . الابتلاء: الاختبار، يقال: بلوت هذا الأمر وابتليته أي: اختبرته، قال زهير: فأبلاهم خير البلاء الذي يبلو ويقال: لم يبل من يخبر، أي: يعلم، والجواب لتقوم الحجة، لئلا يبقى للخلق على الله حجة، ويكون الثواب والعقاب بعد العلم بوقوع الأمر دون العلم بأنه سيكون كذلك. وقوله تعالى: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} مبتدأ وخبر، ولا يعمل فيه {لِيَبْلُوَكُمْْ} لأن البلوى لم تقع على قوله: {أَيُّكُمْ} ، وفي الكلام لإضمار فعل، والتقدير: ليبلوكم؛ لينظر أيكم أطوع له، وكذلك قوله تعالى: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم: 40] ، وإنما يأتي هذا ونحوه في أفعال علم، ولو قلت: اضرب أيهم ذهب أو يذهب، لم يكن إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 نصباً لأن الضرب ليس من هذا القبيل، ومن هذا القيبل قوله تعالى: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} [الكهف: 12] ، وقوله: {لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم: 69] ، وقوله: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} [الكهف: 19] ، وقد شرحنا ذلك. * * * قوله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] . يسأل عن موضع {مَنْ} من الإعراب؟ والجواب: أنها في موضع رفع؛ لأنه فاعل {يَعْلَمُ} والتقدير: يعلم الذي خلق ما في الصدور، ولا يجوز أن تكون مفعولة لـ {يَعْلَمُ} ؛ لأن المعنى لا يصح على ذلك، وذلك أن (من) لمن يعقل دون ما لا يعقل فلو جعلت _من) مفعولة لصار المعنى أنه يعلم العقلاء خاصة ولا يعلم سواهم وهذا لا يصح على القديم. * * * قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} [الملك: 19] . يقال ما معنى: {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ} ؟ والجواب: أنه تعالى وطأ لهن الهواء، ولولا ذلك لسقطن، وفي ذلك أكبر آية، قال مجاهد وقتادة: الطير تصف أجنحتها تارة وتقبضها أخرى. ومما يسأل عنه أن يقال: كيف عطف {يَقْبِضْنَ} وهو فعل على {صَافَّاتٍ} وهو اسم، ومن الأصل المقر لأن الفعل لا يعطف على الاسم، كذلك الاسم لا يعطف على الفعل؟ والجواب: أن {يَقْبِضْنَ} وإن كان فعلاً فهو في موضع الحال وتقديره تقدير اسم فاعل، و {صَافَّاتٍ} حال، فجاز أن يعطف عليه، فكأنه قال: أو لم يروا أن الطير فوقهم صافات وقابضات، وقد جاء مثل هذا في الشعر، قال الراجز: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 بات يعيشها باتر يعدل في أسواقها وجائر * * * قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22] . يقال: ما معنى الاستفهام هاهنا، وقد علم أن من يمشي على صراط مستقيم أهدى ممن يمشي مكباً؟ والجواب: أنه إنكار وتبكيت وليس باستفهام في الحقيقة؛ لأن الاستفهام إنما يكون عن جهل من المستفهم بما يستفهم عنه، وهذا لا يجوز على القديم تعالى، ومثل هذا الإنكار قوله تعالى: {أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] . وكذلك قوله تعالى: {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام: 143] فأما قوله: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59] ، فإنما جاز هذا وقد علم أنه تعالى لا خير مما يشركون من قبل أنهم كانوا يعتقدون أن فيما يشركون خيراً، فخاطبهم على قدر اعتقادهم من جهة التبكيت لهم والإنكار عليهم، وفيه حذف والتقدير: أعبادة الله خيراً أم عبادة ما يشركون، مثله: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ} [يوسف: 39] . ويقال: أكب الرجل على الرجل فهو مكب، وكببتُهُ أنا، وهذا من نوادر الفعل، وذلك أن (أًفْعَلَ) لازم و (فَعَلَ) متعد، والأصول المقررة بخلاف ذلك، نحو قولك: قام وأقمته وخرج وأخرجته، فيكون (فَعَلَ) لازما في مثل هذا، و (أَفْعلَ) متعدياً، ومثل (أًكَبَّ) قولهم: أنزفت البئر، إذا ذهب ماؤها، وأنزفتها أنا، وأقشع الغيم، وقشعته الريح، وأنسل ريش الطائر، ووبر البعير إذا تقطع وسقط، ونسلته أن نسلاً، وأمرت الناقة، إذ رد لبنها، ومريتها أنا إّذا استدررتها بالمسح، وأشنق البعير إذا رفع رأسه، وشنقته أنا إذا مددته بالزمام، وقال الله تعالى في (كبَّ) متعدياً: {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [النمل: 90] ، وكذلك: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} [الشعراء: 94] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30] . يقال غار الماء يغور غوراً، إذا غاض في الأرض. والمعين: الذي يراه العيون، وقيل المعين: الجاري، وهو قول قتادة والضحاك، فعلى القول الأول يكون (مفعولاً) من العين، كمبيع من البيع ومكيل من الكيل، وعلى القول الثاني يكون في تقدير (الفاعل) وتكون (ميمه) أصلية، ويكون من الإمعان في الجري، ويجوز أن يكون في معنى (مفعول) فتكون (الميم) زائدة، كأنه قد أجري عيوناً، قال الفراء: العرب تقول: (أصبح ماؤكم غوراً ومياهكم غوراً) ، ويقال: هذا ماء غور وبئر غور وماءان غور ومياه غور، فلا يجمعون ولا يثنون ولا يقولون: غوران ولا أغور، وهو بمنزلة: الزور، يقال: هؤلاء زور لفلان، وكذلك: الضيف والصوم والفطر وفي تقديره وجهان: أحدهما: أن يكون في تقدير: ذا غور. والثاني: أن يكون المصدر وضع موضع اسم الفاعل، كما قالوا: جاء ركضاً ومشياً، أي: راكضاً وماشياً. {ومن سورة القلم } * * * قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1] . النون: في قول ابن عباس ومجاهد: الحوت الذي عليه الأرضون وجمعه (نينان) سماعاً لا قياساً، وروي عن ابن عباس من طريقة أخرى: أن (النون) الدواة، وهو قول الحسن وقتادة، وقيل: (النون) لوح من نور ذكر في خبر مرفوع، وقيل: هو اسم للسورة، وحكمه في الإعراب إذا كان اسماً للسورة حكم {الم} [البقرة: 1] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 وقرأ الكسائي وعاصم في طريقة أبي بكر {ن وَالْقَلَمِ} بالإخفاء، وقرأ الباقون بالإظهار، وقال الفراء: وإظهار أعجب إلي؛ لأنها هجاء، والهجاء كالموقوف عليه وإن اتصل، ومن أخفاها بني على الاتصال. * * * قوله تعالى: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} [القلم: 6] . يسأل عن (الباء) هاهنا؟ وفيها ثلاثة أجوبة" أحدها: أنها زائدة، والتقدير: أيكم المفتون. والثاني: أنها بمعنى (في) والتقدير: في أي فرقكم المفتون، أي: المجنون، وهذا قول الفراء. والقول الثالث: أن {الْمَفْتُونُ} بمعنى: الفتون، كما يقال: ماله معقول، وليس له محصول، وهذا قول ابن عباس. قال مجاهد: المفتون: المجنون، وقال قتادة في {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} أيكم أولى بالشيطان، جعل (الباء) زائدة. قال الراجز: نحن بني جعدة أصحاب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج أي: نرجو الفرج. * * * قوله تعالى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْ بَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم: 16-20] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 السمة: العلامة، يقال: وسمه يسمه وسماً وسمةً. والخرطوم: ما نتأ من الأنف، وهو الذي يقع به الشم، ومنه قيل: خرطوم الفيل، وخرطمه: إذا قطع أنفه، وجمعه: خراطيم. قال قتادة المعنى: سنسمه على أنفه، وروي عن ابن عباس في {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} سنحطمه بالسيف في يوم بدر، قال الفراء: أي سنكويه ونسمه سمة أهل النار، ومعناه: سنسود وجهه، وهو وإن كان الخرطوم قد خص بالسمة فإنه كأنه في مذهب الوجه؛ لأن بعض الوجه يؤدي عن البعض والعرب تقول: والله لأسمنك وسماً لا يفارقك. وقيل: الخرطوم: الخمر، والمعنى، سنسمه على شرب الخبر، قال الشاعر: أبا حاضرٍ من يزن يعرف زناؤه ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا والجنة: البستان، والصرام: الجداد في النخيل بمنزلة: الحصاد والقطاف في الزرع والكرم، يقال: صرمت النخل وجددتها، وأصرمت هي وأجدت إذا حان ذلك منها. ومصبحين: داجلين وقت الصبح. ولا يستثنون: لا يقولون (إن شاء الله) . والطائف: الطارق بالليل، فإذا قيل: (أطاف به) صلح في الليل والنهار. وأنشد الفراء: أطفت بها نهاراً غير ليلٍ وألهى ربها طلب الرخال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 والرخال: الإناث من أولاد الضأن، والصريم: الليل الأسود، قاله ابن عباس، وأنشد أبو عمرو: ألا بكرت وعاذلتي تلوم تهجدني وما انكشف الصريم وقال آخر: تطاول ليلك الجون البهيم فما ينجاب عن صبحٍ صريم إذا ما قلت أقشع أو تناهى جرت من كل ناحيةٍ غيوم ويسمى النهار صريما، وهو من الأضداد؛ لأن الليل ينصرم عند مجيء النهار، والنهار ينصرم عند مجيء الليل، وقيل: الصريم: المصروم، أي: صرم جميع ثمارها، والمعنى: فأصبحت كالشيء المصروم، وقيل: الصريم: الصحيفة، أي: أصبحت بيضاء لا شيء فيها، وقيل: الصريم: منقطع الرمل الذي لا نبات فيه، قال الفراء المعنى: بلونا أهل مكة كما بلونا أصحاب الجنة، وهم قوم من أهل اليمن كان لرجل منهم زرع وكرم ونخل، وكان يترك للمساكين من زرعه ما أخطأه المنجل، ومن النخل ما سقط عن البسط، ومن الكرم ما أخطاه القطاف، فكان ذلك يرتفع إلى شيء كثير، ويعيش به اليتامى والأرامل والمساكين، فمات الرجل وله بنون ثلاثة، فقالوا: كان أبونا يفعل ذلك والمال كثير والعيال قليل، فأما إذ كثر العيال وقل المال فإنا لا نفع ذلك، ثم تآمروا أن يصرموا في سدف، أي: في ظلمة باقية من الليل؛ لئلا يبقى للمساكين شيء، فسلط الله على مالهم ناراً فأحرقته ليلاً. و {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ} [القلم: 25] أي: على منع، من قولهم: حاردت السنة إذا منعت قطرها، وقال الفراء: على قصد، وقال أيضاً: على قدرة وجد في أنفسهم، وأنشد في الحرد بمعنى القصد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 أقبل سيل جاء من أمر الله يحرد حرد الجنة المغلة في كل شهرٍ دائمٍ الأهلة وقيل: {عَلَى حَرْدٍ} على جد من أمرهم، وهو قول مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن زيد، وقال الحسن: على جهد من الفاقة، وقال سفيان: على حنق، قال الأشهب بن رميلة: أسود شرى لاقت أسود خفية تساقوا على حردٍ دماء الأساود وقيل: {عَلَى حَرْدٍ} على غضب. قال: قلما جاءوا إليها ليصرموها لم يروا شيئاً إلا سواداً، فقالوا: إنا لضالون ما هذا بمالنا الذي نعرف، لي: ضللنا عن جنتنا، وقيل: ضالون عن طريق الرشاد في إدراك جنتنا قال قتادة: أخطانا الطريق، وقيل: ضالون عن الحق في أمرنا، ولذلك عوقبنا بذهاب ثمرتنا، ثم قال بعضهم: هو مالنا، وحرمنا بما ضنعنا بالأرامل والمساكين، {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28] ، أي: أعدلهم طريقة، وكانوا قد أقسموا ليصرمنها في أول الصباح، ولم يقولوا (إن شاء الله) فقال لهم أوسطهم، وهو أخ لهم: أم أقل لكم لولا تسبحون، أي: تستثنون، والتسبيح هاهنا: الاستثناء، وهو أن يقول: (إن شاء الله) . وموضع (الكاف) نصب؛ لأنها نعت لمصدر محذوف، والتقدير: إنا بلوناهم بلاء كما بلونا أصحاب الجنة. {ومن سورة الحاقة } * * * قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة: 1-5] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 {الْحَاقَّةُ} : اسم من أسماء القيامة؛ لأنها يحق فيها الجزاء، وكذلك القارعة؛ لأنها تقرعقلوب العباد. وثمود وعاد: قبيلتان من الجبلة الأولى، وهي ستة: عاد وثمود وطسم وجديس وأميم وإرم. والطاغية: قيل معناه: الخصلة الطاغية، وقيل معناها: الطغيان، بمنزلة العاقبة والعافية، قال ابن عباس: القارعة: يوم القيامة، وقال قتادة: الطاغية: الصيحة المتجاوزة في العظم، وقال ابن عباس والضحاك وقتادة وابن زيد: الحاقة: القيامة. فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: لم كرر لفظها، ولم يضمر لتقدم ذكرها؟ والجواب: أنها كررت، ولم تضمر للتعظيم والتفخيم لشأنها، ومثله: {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة: 1-2] ، ومثله قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1-2] . ويسأل عن موضع {الْحَاقَّةُ} من الإعراب؟ وفيها جوابان: أحدهما: أن تكون مبتدأة، وقوله: {مَا الْحَاقَّةُ} خبرها، كأنه قال: الحاقة أي شيء هي. والثاني: أن تكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هذه الحاقة، ثم قيل: أي شيء الحاقة، تفخيماً لشأنها، وتلخيص المعنى: هذه السورة الحاقة. وقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} ، {مَا} في موضع رفع بالابتداء، وهي استفهام، و {الْحَاقَّةُ} الخبر، والجملة في موضع نصب على المفعول الثاني لـ {أَدْرَاكَ} من قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 قوله تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة: 17] الإرجاء: الجوانب، واحدها (رجا) ، وهو يكتب بالألف؛ لأن تثنيته بالواو، قال الشاعر: فلا يرمي بي الرجوان إني أقل القوم من يغني مكاني والملك: واحد ويراد به الجماعة؛ لأنه جنس، ولا يجوز أن يكون واحداً بعينه؛ لأنه لا يصح أن يكون ملك واحد على أرجائها، أي: جوانبها في وقت واحد، ومثل ذلك قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 1-2] ، أي: إن الناس؛ لأنه قال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر: 3] ، ولا يستثنى من الواحد، ومثله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] أي: المفسدين من المصلحين، وكذا قول العرب: أهلك الناس الدينار والدرهم، أي: الدنانير والدراهم. * * * قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة: 41-42] . قول الشاعر: ما ألفه بوزن، وجعله مقفى، وله معنى. وقول الكاهن: السجع، وهو كلام متكلف يضم على معنى يشاكله. ومما يسأل عنه: لم منع الرسول - عليه السلام - من الشعر؟ وعن هذا جوابان: أحدهما: أن الغالب من حال الشعراء أنه يبعث على الشهوة، ويدعو إلى الهوى، والرسول - عليه السلام - إنما يأتي بالحكم التي يدعو إليها العقل للحاجة إلى العمل عليها، والاهتداء بها. والثاني: أن في منعه من قول الشعر دلالة على أن القرآن ليس من صفة الكلام المعتاد بين الناس، وأنه ليس بشعر؛ لأن الذي يتحدى به غير شعر، ولو كان شعراً لنسب إلى من تحدى به وأنه من قوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 ويسأل عن نصب قوله: {قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} و {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة: 42] . وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون نعتاً لمصدر محذوف، أي: إيماناً قليلاً ما تؤمنون، وإدراكاً قليلاً تذكرون. والثاني: أن يكون نعتاً لظرف محذوف، أي: وقتاً قليلاً تؤمنون ووقتاً قليلاً تذكرون، و {مَا} على هذا التقدير صلة. وإن شئت جعلت {مَا} مصدرية، فيكون التقدير: قليلاً إيمانكم وقليلاً أذكاركم، وتكون في موضع رفع بـ: {قَلِيلًا} . {ومن سورة المعارج } * * * قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} [المعارج: 1-2] . قال مجاهد: هذا السائل هو الذي قال: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال: 32] ، وهو النضر بن الحارث، وقال الحسن: سأل المشركون فقالوا: لمن هذا العذاب الذي تذكر يا محمد؟ فجاء جوابهم بأنه {لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} ، وقيل: (اللام) في قوله: {لِلْكَافِرِينَ} بمعنى (على) أي: واقع على الكافرين، وقال الفراء: هي بمعنى (الباء) أي: بالكافرين واقع، وهو قول الضحاك. وقرأ نافع وابن عامر "سال سائل" بغير همز في {سَأَلَ} وهمز الباقون. فمن همز جاز في (الباء) على قوله وجهان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 أحدهما: أن تكون بمعنى (عن) وعلى هذا تأويل قول الحسن؛ لأنهم سألوا عن العذاب: لمن هو. والقول الثاني: أن (الباء) على بابها للتعدي، والتقدير: سأل سائل بإنزال عذاب واقع، وهذا على تأويل قول مجاهد أنه يعني به النضر بن الحارث. ومن ترك الهمز جاز في قراءته ثلاثة أوجه: أحدها: أنه خفف الهمزة استثقالاً لها. والثاني: أنها لغة، حكى سيبويه: سلت أسال على وزن: خفت أخاف، قال حسان: سالت هذيل رسول الله فاحشة ضلت هذيل بما سالت ولم تصب والثالث: أنه من (السيل) يقال: سال يسيل سيلاً، والتقدير: سال سيل سائل بعذاب واقع، و (الباء) على هذا القول للتعدي وفي القولين الأولين يجوز أن تكون للتعدية على قول مجاهد، وبمعنى (عن) على قول الحسن. * * * قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج: 15-16] . لظى: اسم من أسماء جهنم، والنزع: الاقتلاع، وقيل: {نَزَّاعَةً} للتكثير، والشوى هاهنا جلدة الرأس، والشوى في غير هذا الموضع: الأطراف، كاليدين والرجلين، والشوى أيضاً: كل ما يعدو المقتل، يقال: رماه فأشواه. ويسأل عن الرفع في قوله: {لَظَى (15) نَزَّاعَةً} ، ما موضعها من الإعراب؟ والجواب: أن فيها ثلاثة أوجه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 أحدها: أنها مبتدأة، و {نَزَّاعَةً} خبره، والجملة خبر (إن) و (الهاء) ضمير القصة، وهو الذي يسميه الكوفيون (المجهول) ويسمونه أيضاً (عماداً) . والثاني: أن تكون {لَظَى} خبر (إن) و {نَزَّاعَةً} خبر ثان، كما تقول هذا حلو حامض. والثالث: أن تكون بدلاً من (الهاء) على شريطة التفسير، كأنه قال: إن لظى نزاعة للشوى. ويجوز أن تجعل {نَزَّاعَةً} خبر مبتدأ محذوف، أي: هي نزاعة. وقد قرأ بعضهم {نَزَّاعَةً} بالنصب، والنصب على الحال، وتكون لظى في معنى: متلظية، فتعمل في الحال، وهي قراءة بعيدة. * * * قوله تعالى: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} [المعارج: 36-37] . المهطع: المسرع، هذا قول أبي عبيدة، وقال الحسن: {مُهْطِعِينَ} : مطلعين، وقال عبد الرحمن بن زيد: لا يطرفون أي: شاخصين. وواحد (العزين) عزة، والعزة: الجماعة، ومعنى {عِزِينَ} جماعات في تفرقة. والختلف في المحذوف من (عزة) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 فقيل فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه (واو) والأصل: عزوة؛ لأنه من: عزوته، أي: نسبته، والعزة منتسبة إلى غيرها من الجماعات. والثاني: أن المحذوف (ياء) وهي من: عزيت؛ لأنه يقال: عزوت وعزيت بمعنى واحد. والثالث: أن المحذوف (هاء) والأصل: عزهة، وهو من: العزهاة، وهو المنقبض عن النساء المجتمع عن اللهو معهن، قال الأحوص: إذا كنت عرهاة عن اللهو والصبا فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا وهذا الجمع في الأسماء المحذوفة عوض من الحرف المحذوف، ومن هذا الباب: ثبون وعضون وسنون كل هذا محذوف اللام، وهذا الجمع له عوض من المحذوف. {ومن سورة نوح - عليه السلام -} * * * قوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [نوح: 4] . يسأل عن {مِنْ} هاهنا؟ وفيها وجهان: أحدهما: أنها بمعنى (عن) أي: يصفح لكم عن ذنوبكم. والثاني: أن المعنى: يغفر لكم ذنوبكم السالفة، وهي بعض الذنوب التي يصار إليهم، فلما كانت ذنوبهم التي يستأنفونها لا يجوز الوعد بغفرانها على الإطلاق؛ إذ يجري ذلك مجرى الإباحة لها، فقيدت بهذا التقييد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 وقد قيل: إن المعنى: يغفر لكم من ذنوبكم بحسب ما يكون من الإقلاع عنها، فهذا على احتمال بعض إن لم يقلعوا عن بعض. وأجاز الأخفش أن تزاد {مِنْ} في الواجب، فالتقدير على هذا: يغفر لكم ذنوبكم. * * * قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] قال ابن عباس ومجاهد والضحاك المعنى: مالكم لا ترجون لله عظمة، وقيل معنى ترجون: تخافون، قال أبو ذؤيب: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عوامل أي: لم يخف، والنوب: النحل. و (اللام) على هذا متعلقة بما دل عليه الكلام، والتقدير: مالكم لا ترجون عظمة الله. * * * قوله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} [نوح: 22] . الكبار والكبار والكبير بمعنى واحد، إلا أن بينها تفاوتاً في المبالغة، فالكبار أشدها مبالغة، والكبار دون ذلك، ويروى أن أعرابيا سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} فقال: ما أفصح ربك يا محمد، وهذا من جفاء الأعراب؛ لأن الله تعالى لا يوصف بالفصاحة. {ومن سورة الجن } * * * قوله تعالى: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} [الجن: 3] . الجد هاهنا: العظمة؛ لانقطاع كل عظمة عنها، لعلوها عليها، ومن هذا قيل لأب الأب (جد) لانقطاعه، لعلو أبوته، وكل من فوقه لهذا الولد (أجداد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 والجد: الحظ، لانقطاعه بعلة شأنه، والجد: ضرب من السير لانقطاعه عما هو دونه، وأصل الجد: القطع، والجد: ضد الهزل - بالكسر -؛ لانقطاعه عن السخف، وكذا الجد: الانكماش في الشيء لانقطاعه عن التواني، والجد - بالضم - البئر القديمة، لانقطاعه من يعرف حالها في وقت حفرها، والجد: ساحل البحر، ومنه (جدة) سمي بذلك؛ لانه آخر الأخر ومنقطعها، قال الحسن ومجاهد وقتادة {جَدُّ رَبِّنَا} جلاله وعظمته، وروي عن الحسن: غنى ربنا. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ} و {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا} و {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} و {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} بالفتح في الأحرف الأربعة، وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم كذلك، إلا قوله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} فإنها قرأ بكسر الهمزة، وقرأ الباقون ذلك كله بالفتح إلا ما جاء بعد قول أو فاء جزاء. فمن فتح حمل على قوله: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ} ، ومن كسر {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} ، فزعم الفراء: أن حبان حدثه عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: أوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد اقتصاص أمر الجن وأن المساجد لله، قال: وكان عاصم يكسر ما كان من قوله الجن، ويفتح ما كان من الوحي؛ لأن ما بعد القول لا يكون إلا مكسوراً. * * * قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 18-19] . قال الفراء والزجاج: المساجد: مواضع السجود من الإنسان: الجبهة واليدان والركبتان والرجلان، وقال الحسن: هي المساجد المعروفة، والمعنى فلا تدع مع الله أحداً كما تدعو النصارى في بيعها، والمشركون في بيت أصنامها، وكان يقول: من السنة أن تقول إذا دخلت المسجد: (لا إله إلا الله لا أدعو مع الله أحداً) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 وقوله: {لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} يراد به: النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قال: (لا إله إلا الله) كادوا يكونون عليه جماعة متكافئة بعضهم فوق بعض ليزيلوه بذلك عن دعوته بإخلاص الإلهية. وقال ابن عباس: كاد الجن يركبونه حرصاً على سماع القرآن فيه، وهو قول الضحاك، ويروى عن الحسن وقتادة أنهما قالا: تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه، فيأبي الله إلا أن يظهر على ما ناوأه، كما قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [الصف: 8] . {ومن سورة المزمل } * * * قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} [المزمل: 1-3] . المزمل: المتلفف في ثيابه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أنزل عليه الوحي أخذته شدة وكرب، فيقول: زملوني زملوني، وكذلك {الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] ؛ لأنه كان يقول مرة: دثروني دثروني. قال الفراء: {الْمُزَّمِّلُ} : الذي تزمل في ثيابه وتهيأ للصلاة في هذا الموضع، وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصل المزمل: المتزمل، فأبدلت من التاء زاياً وأسكنت وأدغمت في التي بعدها، وقيل: المزمل، ويقال الرجل في ثيابه أي: تلفف، قال امرؤ القيس: كأن أبانا في أفانين ودقه كبير أناسٍ في بجاد مزمل ويسأل عن نصب قوله: {نِصْفَهُ} ؟ والجاب: أنه بدل من الليل، وهو بدل بعض من كل، كأنه في التقدير: قم نصف الليل إلا قليلاً، وهو بمنزلة قولك: قطعت اللص يده، وأكلت الرغيف ثلثيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 قوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} [المزمل: 11] . قوله: {وَالْمُكَذِّبِينَ} مفعول معه، أي: مع المكذبين، كما تقول: تركته والأسد، أي: مع الأسد، والمعنى: أرضى بعتاب المكذبين، أي: لست تحتاج إلى أكثر من ذلك، كما تقول: دعني وإياه فإنه يكفيك ما ينزل به مني، وهو تهديد. * * * قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} [المزمل: 20] . {أَنْ} هاهنا مخففة من المثقلة، و (الهاء) مضمرة معها، والتقدير: أنه سيكون منكم مرضى، و {مَرْضَى} اسم {يَكُونُ} و {مِنْكُمْ} الخبر، والجملة خبر {أَنْ} ، ولا يلي الفعل (أن) المخففة إلا مع العوض، والعوض نحو: السين هاهنا، ونحو {لاَ} من قوله: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} [طه: 89] . * * * قوله تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20] . {هُوَ} : فصل، وهو الذي يسميه الكوفيون عماداً ونصب {خَيْرًا} ؛ لأنه مفعول ثان لـ {تَجِدُوهُ} ، والفصل يدخل بين كل معرفتين لا يستغني أحدهما عن الآخر، أو بين معرفة ونكرة تقارب المعرفة، نحو قولك: زيد هو خير منك، وكان عمرو هو أفضل من بكرٍ، والمواضع التي يدخل فيها الفصل أربعة: يدخل بين المبتدأ والخبر، وبين اسم كان وخبرها، وبين اسم (إن) وخبرها، وبين مفعولي الظن. {ومن سورة المدثر } * * * قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 قال ابن سيرين وعبد الرحمن بن زيد: اغسلها بالماء، وقيل: لا تلبسها على معصية، وقيل: قصرها ولا تطلها، فإن ذلك يكون سبباً لطهارتها، وقيل: {ثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ، أي: لا تغدر فتدنس ثيابك، فإن الغادر دنس الثياب، وقيل: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} يقول وعملك فأصلح، وهذه الأقوال الثلاثة عن الفراء، وقيل: المعنى: قلبك فطهر، وكنى بالثياب عن القلب واستشهدوا بقول امرئ القيس: وإن تك قد ساءتك مني خليقة فسلي ثيابي من ثيابك تنسل أي: قلبي من قلبك. * * * قوله تعالى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] . قال الفراء: المعنى: لا تعط في الدنيا شيئاً ليصب أكثر منه. ورفع {تَسْتَكْثِرُ} ؛ لأنه في موضع الحال، والمعنى: لا تمنن مستكثراً. وقرأ عبد الله بن مسعود: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} ، فهذا شاهد على الرفع؛ لأن (أن) إذاحذفت رفع الفعل، ومنه قول طرفة: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغي وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي * * * قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر: 16-20] . {كَلَّا} زجر وردع، والمعنى: ليرتدع ولينزجر عن هذا، كما أن (صه) بمعنى: اسكت، و (مه) بمعنى: أكفف، وكأنه قيل: لينزجر فإن الأمر ليس على ما توهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 والعنيد والمعاند سواء، وهو الذاهب عن الشيء على طريق العداوة له، والإرهاق: الإعجاب بالعنف، والصعود: العقبة الصعبة المرتقى، وهو الكؤود أيضاً، والتفكير: من الفكرة، وهو تطلب الرأي والتقدير والتخمين. وهذه الآية نزلت في (الوليد بن المغيرة) . حدثني أبي عن عمه قال: حدثنا القاضي منذر بن سعيد قال: حدثنا أبو النجم عصام ابن منصور قال: حدثنا أبو بكر عبد الله بن عبد الرحيم البرقي قال: حدثنا أبو محمد عبد الملك ابن هشام قال: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاث المطلبي قال: اجتمع نفر من قريش إلى الوليد بن المغيرة، وكان ذا سن فيهم، وكان أيام الموسم، فقال لهم: يا معشر قريس أنه قد حضر هذا الموسم وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فاجمعوا فيه رأياً واحداً ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم بعضه بعضاً، قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس أقم لنا رأياً نقول به، قال: بل أنتم فقولوا أسمع، قالوا: نقول (كاهن) ، قال: لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهان، فما هو بزمزمة الكاهن ولا مسجعه، قالوا: فنقول: (أنه مجنون) ، قال: لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته، قالوا: فنقول (شاعر) ، قال: لا والله ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله، رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر، قالوا: فنقول (ساحر) ، قال: ما هو بساحر، قد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثه ولا عقده، قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول منه أن تقولوا: ساحر جاء بقولٍ هو سحر يفرق بين المرء وابنه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا بذلك، فجعلوا يجلسون بسبيل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا ذكروا له أمره، فأنزل الله في الوليد فيما كان منه: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر: 11-19] ، إلى آخر هذه القصة. قال الفراء: قال الكلبي: يعني بالماء الممدود: العروض والذهب، قال: وحدثني قيس عن إبراهيم بن المهاج عن مجاهد قال: ألف دينار، وكان له عشرة من البنين لا يغيبون عن عينه في تجارة ولا عمل. وقوله: {قُتِلَ} أي: لعن. * * * قوله تعالى: {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ} [المدثر: 35-36] . اختلف في {نَذِيرًا} : فقيل: هو مصدر بمعنى: الإنذار، وقيل: هو اسم فاعل بمعنى: منذر. ويسأل عن نصبه؟ وفيه ستة أقوال: أحدها: أنها حال من {لَإِحْدَى الْكُبَرِ} ؛ لأنها معرفة، وهو قول الفراء، قال: والنذير: جهنم، قال وتقديره تقدير إنذار. والثاني: أنه بدل من (الهاء) في قوله: {إِنَّهَا} . والثالث: أنه نصب بإضمار (أعني) ، كأنه قال: أعني نذيراً للبشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 والرابع: أنه على تقدير: جعلها نذيراً للبشر. والخامس: أنه مصدر، أي: إنذاراً للبشر؛ لأنه لما قال: {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} دل على أنه أنذرهم بها إنذاراً. والسادس: أنه حال من المضمر في {قُمْ} [المدثر: 2] في أول السورة، كأنه قال: يا أيها المدثر قم نذيراً للبشر، فأنذر، ونذير على هذا الوجه بمعنى المنذر، وهو قول الكسائي. {ومن سورة القيامة } * * * قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 1-2] . يسأل عن دخول {لَا} هاهنا؟ وفيها ثلاثة أجوبة: أحدها: أنها صلة، نحو قوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد: 29] ، والمعنى: ليعلم. والثاني: أنها بمعنى (ألا) التي يستفتح بها الكلام، كأنه قال: ألا أقسم بيوم القيامة، ثم أخبر أنه لا يقسم بالنفس اللوامة. والثالث: أنه جواب لما تكرر في القرآن من إنكارهم البعث؛ لأن القرآن كله كالسورة الواحدة، وهو قول الفراء، واختيار أبي علي. وقرأ قنبل: "لأقسم" بجعلها جواب القسم، قالوا: وحذف النون؛ لأنه أراد الحال، ولولا ذلك لقال: (لأقسمن) ، والنون لا تدخل في فعل الحال، وأكثر ما يستعمل اللام في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 القسم ومعها النون، إلا أن بعضهم أجاز حذفها كما حذفت (اللام) وتركت النون، قال الشاعر: وثتيل مرة أثارن فإنه فرغ وإن أخاكم لم يثأر يريد: لا ثارن، فحذف اللام. والقول على قوله: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1] كالقول على {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} . * * * قوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 4] . يسأل عن نصب {قَادِرِينَ} ؟ والجواب: أنه نصب على الحال، والعامل فيه أحد شيئين: إما نجمعها قادرين، وإما على تقدير: بلى نقدر قادرين، إلا أنه لم يظهر (نقدر) استغناءً عنه بـ: {قَادِرِينَ} ، وهو كقولك: قاعداً وقد سار الركب، أي: تقعد وقد ساروا. * * * قوله تعالى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14] . يسأل عن (الهاء) في {بَصِيرَةٌ} ؟ وفيها ثلاثة أجوبة: أحدها: أن المعنى: بل الإنسان على نفسه عين بصيرة. والثاني: أن المعنى: بل الإنسان على نفسه حجة بصيرة، أي: بينة. والثالث: أنها للمبالغة، كما نقول: رجل علامة ونسابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 وقال الرماني: التقدير: بل الإنسان على نفسه من نفسه بصيرة جوارحه شاهدة عليه يوم القيامة. * * * قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22-23] . الناضرة: الناعمة الحسنة البهجة، وهو قول الحسن، وقال مجاهد: مسرورة. و {نَاظِرَةٌ} : مبصرة، ودخل {إِلَى} يدل على أن {نَاظِرَةٌ} بمعنى: مبصرة؛ لأنه لا يقال: نظرت إليه، بمعنى: انتظرته، وأما من زعم أن المعنى: ثواب ربها منتظرة، فليس بشيء؛ لأن الله تعالى أخبر أنهم في النعيم والنضرة بقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} ، ولا يقال لمن كان في النعيم: هو منتظر للثواب؛ لأن النعيم هو الثواب. وقد حمل قوماً تعصبهم أن زعموا أن {إِلَى} واحد (الآلاء) ، وليست بحرف، وكأن التقدير: نعمة ربها ناظرة؛ لأن الآلاء: النعم، وهذا لا يجوز لما قدمنا ذكره من أنه من كان في النعيم فلا يقال: هو منتظر النعم. وقد تناصرت الأخبار بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، وهي مشهورة في أيدي الناس، مع دلالة قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] ؛ لأنه لو كان غيرهم محجوباً لما كان في ذلك طرداً لهم ولا تعنيفاً؛ لأن المساواة قد وقعت فإذا كان أعداء الله محجوبين عنه، فأولياؤه غير محجوبين. * * * قوله تعالى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة: 29] . {السَّاقُ} : الشدة، يقال، قامت الحرب على ساقها، أي: على شدة، وأصله: أن الإنسان إذا عانى أمراً شديداً كشف عن ساقه، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] ، عن شدة، قال الراجز: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 قد كشفت عن ساق فشدوا والمعنى: والتفت شدة آخر الدنيا بشدة أول يوم الآخرة، وقيل: المعنى: اشتد الأمر عند نزع النفس حتى يتقلب ساق على ساق، ويلتف بها عند تلك الحال. * * * قوله تعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} [القيامة: 31-33] {لَا} بمعنى (لم) ، أي: لم يصدق ولم يصل، ولا يجوز أن تدخل (لا) على الفعل الماضي إلا على معنى التكرير؛ لئلا يشبه الدعاء. والأصل في (تمطى) : تمطط، أي: تمدد: ومنه: مططت في الكتابة، فأبدلوا من إحدى الطائين (تاء) كراهية التضعيف، كما قال الراجز. تقضي البازي إذا البازى كسر يريد: تقضض، ثم أبدلت (الياء) من (تمطى) ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. {ومن سورة الإنسان } * * * قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1] . الإنسان هاهنا: آدم - عليه السلام - قال الفراء: كان شيئاً ولم يكن مذكوراً، وذلك من حين خلقه الله من طين إلى أن نفخ فيه الروح. و {هَلْ} بمعنى (قد) ، هذا المشهور عن العلماء، وقال ابن الرماني: قد قيل إن معناها: أأتى على الإنسان، والأغلب عليها الاستفهام والأصل فيها (قد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] . يسأل عن نصب قوله: {عَيْنًا} وفيه أجوبة: أحدها: أنه منصوب على البدل من {كَافُورًا} [الإنسان: 5] . والثاني: أنه على تقدير: ويشربون عيناً. والثالث: أنه على الحال من {مِزَاجُهَا} [الإنسان: 5] ، وهو قول الفراء، وقيل: يمزج بالكافور ويختم بالمسك، قال الفراء: إن شئت نصبتها على القطع من قولك: {مِزَاجُهَا} [الإنسان: 5] من (الهاء) في المزاج. والرابع: أن المعنى: يعطون عينا. ومعنى {بِهَا} كمعنى (فيها) ، وقيل: المعنى (منها) . * * * قوله تعالى: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان: 14] يسأل عن نصب {وَدَانِيَةً} ؟ وفيها ثلاثة أجوبة: أحدها: أنها معطوفة على {جَنَّةً} [الإنسان: 12] ، والمعنى: وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً، ودانية عليهم، أي: وجنة دانية ثم حذف الموصوف. والثاني: أنها معطوفة على {مُتَّكِئِينَ} [الإنسان: 13] ، فهو حال على هذا القول. والثالث: أنه نصب على المدح، كقولك: عند فلان جارية جميلة وشابة بعد طرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 وأجاز الرماني أن يكون معطوفاً على موضع {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا} [الإنسان: 13] . * * * قوله تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ} [الإنسان: 15-16] الأكواب: جمع كوب، والكوب: إبريق له عروة واحدة، قيل: هو من فضة إلا أنه صفاء القوارير لا يمنع الرؤية. واختلف القراء في قوله: {قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ} ، نونهما جميعاً أهل المدينة، ونون أبو عمرو الأول، والباقون قرأوا بلا تنوين، وهو الأصل؛ لأنه لا ينصرف، فأما من نون فقد عللت قراءته بأشياء: منها: أنه وقع في المصحف بألف فتوهم أنها ألف التنوين فنون. ومنها: أنها لغة لبعض العرب، ذكر الكسائي أنه سمع من العرب من يصرف جميع مالا ينصرف إلا (أفضل منك) . ومنها: أن هذا الجمع إنما امتنع من الصرف؛ لأنه لا نظير له في الآحاد، وأنه غاية الجموع، وأنه لا يجمع، ثم إن العرب قد تجمعه، حكى الأخفش: هن مواليات فلان، جمع موالي، وموالي جمع مولاة، وفي الحديث: (أنتن صواحبات يوسف) ، جمع صواحب، وصواحب جمع صاحبة، وقال الفرزدق: وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم خضع الرقاب نواكسي الأبصار يريد: نواكسين، وهو جمع نواكس، ونواكس جمع ناكس، فلما جمع هذا الجمع أشبه الواحد، فنون كما ينون الواحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 والقول على قوله: {سَلَاسِلَ} [الإنسان: 4] كالقول على قوله: {قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ} [الإنسان: 15-16] . ومن نون الأول ولم ينون الثاني فلأن الأول رأس آية، والفواصل تشبه بالقوافي فتنون، ولم ينون الثاني؛ لأنه ليس برأس آية، وقد قال الزجاج: إن من نونهما جميعاً أتبع الثاني الأول، لأنه نون الأول؛ لأنه فاصلة ونون الثاني اتباعاً له كما قالوا: (جحر ضب خرب) ، فجر (خرباً) لمجاورته (ضباً) وهو نعت لجحر. * * * قوله تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان: 21] . السندس: الديباج الرقيق الفاخر الحسن، والإستبرق: الديباج الغليظ وهو معرب. وقرأ ابن محيصن بترك الصرف، وقرأ نافع وحمزة وعاصم في رواية أبان والمفضل "عاليهم" بتسكين (الياء) ، ونصب الباقون. وقرأ نافع وحفص عن عاصم {خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} بالرفع، وقرأ حمزة والكسائي بالجر، وقرأ ابن كثير وعاصم من رواية أبي بكر بجر "خضر" ورفع "إستبرق"، وقرأ أبو عمرو وابن عامر برفع "خضر" وجر "إستبرق". فمن أسكن (الياء) جعل {عَالِيَهُمْ} مبتدأ و {ثِيَابُ} الخبر. ومن نصب جعله ظرفاً، كقولك: فوقهم، وهو قول الفراء، وأنكره الزجاج، وقال: هو نصب على الحال من المضمر في {عَالِيَهُمْ} ، ويجوز أن يكون من المضمر في رأيتهم، وإنما أنكره الزجاج؛ لأنه ليس باسم مكان، كخارج الدار وداخلها، وهو مذهب سيبويه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 ومن رفع {خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} ردهما على {ثِيَابُ} ، فـ {خُضْرٌ} وصف، و {وَإِسْتَبْرَقٌ} عطف. ومن كسرهما ردهما على {سُنْدُسٍ} . ومن جر {خُضْرٌ} ورفع {خُضْرٌ} رد {خُضْرٌ} إلى {سُنْدُسٍ} و {إِسْتَبْرَقٌ} إلى {ثِيَابُ} . ومن رفع {خُضْرٌ} وجر {إِسْتَبْرَقٌ} رد {خُضْرٌ} إلى {ثِيَابُ} و {إِسْتَبْرَقٌ} إلى {سُنْدُسٍ} . وهذه القراءة أجود القراءات. * * * قوله تعالى: {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان: 31] نصب {الظَّالِمِينَ} بقع مضمر تقديره: ويعذب الظالمين أعد لهم، ولا يجوز نصبه بإضمار {أَعَدَّ} لأنه لا يتعدى إلا بحرف جر، إلا على قراءة ان مسعود؛ لأنه قرأ {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ} وأجاز الفراء الرفع في {وَالظَّالِمِينَ} وجعله مثل قوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] ، والوجه: النصب بإضمار فعل؛ لأن في صد الكلام فعلاً، وهو قوله: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الإنسان: 31] ، فأضمر فيه فعلاً ليعتدل الكلام بعطف فعل على فعل، كما قال: أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا والذئب أخشاه إن مررت به وحدي وأخشى الرياح والمطرا. {ومن سورة المرسلات } * * * قوله تعالى: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [المرسلات: 1] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وقتادة وأبو صالح: {وَالْمُرْسَلَاتِ} : الرياح، وروي عن ابن مسعود وأبي صالح أيضاً أنها الملائكة، وقيل: {عُرْفًا} أي: بالمعروف، فعلى هذا يكون مفعولاً له، وقيل: {عُرْفًا} أي: متتابعين، ومن قولهم: جاؤوا إليه عرفاً واحداً، فعلى هذا يكون نصباً على الحال. * * * قوله تعالى: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] . قال مجاهد: أقتت بالاجتماع لوقتها يوم القيامة، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} [المائدة: 109] وقيل: أقتت: أجلت لوقت ثوابها، وقيل: أقتت: جعل لها وقت يفصل فيها القضاء بين الأمة. وقرأ أبو عمرو {وُقِّتَتْ} بالواو، وهو الأصل؛ لأنه من الوقت، وقرأ الباقون {أُقِّتَتْ} بإبدال الهمزة من الواو، وهو مطرد في كلام العرب، نحو: جوه وأجوه، ووعد وأعد وأدور وأدر، وما أشبه ذلك. * * * قوله تعالى: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36] يسأل عن هذا فيقال: قد قال تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل: 111] ، وقال هاهنا {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} [المرسلات: 35] ؟ الجواب: أن ابن عباس قال: هذه مواقف يؤذن لهم مرة في الكلام ومرة لا يؤذن لهم في الكلام، وقال الزجاج: أي لا ينطقون بحجة وهذا كقول القائل يتكلم بغير حجة هذا ليس بكلام. {ومن سورة يسألون } * * * قوله تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا} [النبأ: 21-24] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 المرصاد: المرقب، وهو مفعال من الرصد، والأحقاب: جمع حقب وهو ثمانون سنة، والبرد: النو، والعرب تقول: منع البرد البرد، أي: منع البرد النوم، وقال الشاعر: بردت مراشفها على فصدني عنها وعن قبلاتها البرد ومما يسأل عنه أن يقال: قد ذكر الله تعالى أنهم خالدون فيها أبداً، وقد حدد خلودهم هاهنا بقوله: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} ؟ وللعلماء في هذا عشرة أقوال: أحدها: أن المعنى: أحقاباً لا انقطاع لها، كلما مضى حقب جاء بعده حقب، والحقب ثمانون سنة من سني الآخرة، وهذا قول قتادة. والقول الثاني للربيع، وهو أنه قال: هذه أحقاب لا يعلم عددها إلا الله تعالى. والثالث للحسين: وهو أنها أحقاب ليس لها عدة إلا الخلود في النار، ولكن قد ذكروا أن الحقب الواحد سبعون ألف سنة، كل يوم من تلك السنين ألف سنة لقوله تعالى: {كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] . والرابع للمبرد قال المعنى: أنهم لايثون فيها أحقاباً، هذه صفتها. والخامس: لخالد بن معدان، قال: يعني له: أهل التوحيد. والسادس لمقاتل، قال: هي منسوخة بقوله: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} [النبأ: 30] ، وفيه نظر؛ لأنه خبر، والنسخ لا يكون في الخبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 والسابع عن ابن مسعود، وهو أنه قال: ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد. والثامن: يروى عن أبي هريرة قال: ليلتين على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد، وقرأ: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} إلى قوله: {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [هود: 106-107] . والتاسع عن الحسن، قال: لو لبثوا في النار كعدد رمل عالج لكان لهم يوم يستريحون فيه، وهذا قول ثان له. والعاشر: أن قوله: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} يعود إلى ذكر الأرض، كأنه لما قال: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} [النبأ: 6] . قال: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} ، ولا يمتنع مثل هذا وإن تقدم في صدر الآية ذكر الطاغين، وجاء بعد ذلك: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا} ؛ لأن العرب تفعل مثل ذلك، قال الله تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} [الفتح: 9] ، والتسبيح لله تعالى، والتعزيز والتوقير للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ويروى أن ابن كيسان أو غيره من العلماء سئل عن قوله: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} فلم يجاوب إلا بعد عشرين سنة، فقال في الجواب: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا} فإذا انقضت هذه الأحقاب التي عذبوا فيها بمنع البرد والشراب بدلوا بأحقاب أخر فيها صنوف من العذاب، وهي أحقاب بعد أحقاب لا انقضاء لها، وهذا أحسن ما قيل فيه. {ومن سورة النازعات } * * * قوله تعالى: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [النازعات: 16] . قرأ الحسن (طوى) بكسر الطاء، وقال: طوى بالبركة والتقديس مرتين، قال طرفة: أعاذل إن اللوم في غير كهنه على طوى من غيك المتردد. أي: لومك مكرر، قال الفراء: {طُوًى} واد بين المدينة ومصر، ومن أجرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 (طوى) قال هو موضع يسمى (مذكر) ، ومن لم يجره جعله معدولاً عن جهته، كما تقول: عمر وزفر، قال: ولم نجد اسماً من الواو والياء عدل عن وجهته غير (طوى) ، فالإجراء فيه أحب إليَّ؛ إذ لم أجد له في المعدول نظيراً. وقيل: لم ينصرف {طُوًى} لأنه معرفة، وهو اسم للبقعة، فاجتمع فيه التعريف والتأنيث. * * * قوله تعالى: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} [النازعات: 25] . قال ابن عباس ومجاهد والشعبي {الْأُولَى} قوله: {عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 24] ، وقال الحسن وقتادة: عذاب الدنيا وعذاب الآخره، وقال مجاهد: أول عمله وآخره. * * * قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37-41] . قال البصريون: المعنى: فهي المأوى له، فحذف العائد؛ لأن المعنى مفهوم، ومثله قوله تعالى: {مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} [ص: 50] ، أي: الأبواب منها. وقال الكوفيون: الألف واللام عقيب الإضافة، والمعنى: فهي ماواه، ومثله: زيد أما المال فكثير، وأما الخلق فحسن، تقديره عند البصريين: أما الماعل عنده وأما الخلق منه، وتقديره عند الكوفيين أما ماله وأما خلقه. {ومن سورة عبس } * * * قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس: 1-2] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 هذه الآية وما بعدها نزلت في عبد الله ابن أم مكتوم، وهو قول ابن عباس وقتادة والضحاك، وابن زيد وابن إسحاق، قال إبن إسحاق: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد وقف مع الوليد ابن المغيرة يكلمه وقد طمع في إسلامه، فمر به عبد الله بن أم مكتوم فوقف يسألأه عن شيء، أو قال: يستقريه القرآن، فشق ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أضجره؛ لأنه يشغله عما كان فيه من أمر الوليد، وما طمع فيه من إسلامه، فلما أكثر عليه انصرف عنه عابساً وتركه فعاتبه الله تعالى على ذلك. وموضع {أَنْ} نصب على أنه مفعول له، أي: أن جاءه الأعمى، لأن جاءه، وزعم الكوفيين أنها بمعنى (إذ) ، وليس بشيء. * * * قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} [عبس: 24-25] . قرأ حمزة والكسائي وعاصم {أَنَّا} بفتح الهمزة وقرأ الباقون بالكسرة، والكسر على الاستئناف، والفتح على البدل من {طَعَامِهِ} ، فموضعها على هذا جر، كأنه قال: فلينظر الإنسان إلى أنَّا صببنا الماء، وهذا بدل الاشتمال، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هو أنَّا صببنا الماء. {ومن سورة كورت } قزله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التكوير: 1-2] . ارتفعت {الشَّمْسُ} بفعل مضمر تقديره: إذا كورت الشمس كورت، ولا يجوز إظهاره؛ لأن ما بعده يفسره، وإنما احتيج إلى إضمار فعل؛ لأن {إِذَا} فيها معنى الشرط، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 والشرط بالفعل أولى، وقال ألأخفش والكوفيون: هو مبتدأ، و {كُوِّرَتْ} الخبر، وجواب {إِذَا} {عَلِمَتْ} [التكوير: 14] ، وهو الناصب لـ {إِذَا} . * * * قوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير: 24] . قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي {بِضَنِينٍ} بالظاء، وقرأ الباقون بالضاد، وكذلك هو في المصحف. فمن قرأ بالظاء فمعناه: متهم، ومن قرأ بالضاد معناه: بخيل، والقراءة بالضاد أجود، لا يقال: اتهمته على كذا، وإنما يقال اتهمته بكذا، ومجاز القراءة بالظاء أنه وضع {عَلَى} موضع الباء. * * * قوله تعالى: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير: 26-27] . قال الفراء: العرب تقول: إلى أين تذهب، وأين تذهب، ويقولون: ذهبت الشام، وخرجت الشام، وذهب السوق، وانطلقت السوق، سمعناه في هذه الثلاثة الأحرف (خرجت وذهبت وانطلقت) ، وقال الكسائي: سمعت العرب تقول: (انطلق بنا الغور) بالنصب، وأنشد الفراء: تصيح بنا حنيفة إذ رأتنا وأي الأرض تذهب للصياح يريد: إلى أي الأرض. ولم يحك سيبويه من هذا إلا: ذهبت الشام، وعلى هذا جاء قوله: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} ، معناه: فإلى أين تذهبون، وقيل المعنى: فأين تذهبون عن الحق الذي قد ظهر أمره إلا إلى الضلال. {ومن سورة انفطرت } * * * قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفطار: 17-18] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 قرأ ابن كثير وأبو عمرو {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ} بالرفع جعلاه بدلاى من قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} ، كأنه في التقدير: وما أدراك ما يوم لا تملك. وقرأ الباقون بالنصب على البدل من قوله: {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} [الانفطار: 15] ، وهذا قول البصريين، وقال الكوفيون: هو في موضع رفع، إلا أنه مبني؛ لأنه مضاف إلى الفعل، والبصريون يقولون: إذا أضيف إلى فعل معرب لم يبن. وإنما إذا أضيف إلى فعل مبني كالماضي. {ومن سورة المطففين } قوله تعالى {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 1-3] . التطفيف: التنقيص، ويروى عن ابن مسعود أنه قال: الصلاو مكيال، فمن وفى وفي له، ومن طفف فقد سمعتم ما قال الله تعالى في المطففين. والرفع في المصدر الذي ليس له فعل الوجه، نحو قوله: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} ، فإن كان له فعل كان الوجه النصب، نحو: حمداً وشكراً، فلذلك أجمع القراء على الرفع والنصب جائز. قال الفراء: نزلت هذه السورة أول ما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وكان أهلها إذا تبايعوا كيلاً أو وزناً استوفوا وأفرطوا، وإذا باعوا نقصوا، فنزلت {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] ، فآمنوا فهم أوفى الناس كيلاً إلى يومهم هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 وقوله: {عَلَى النَّاسِ} أي: من الناس، {عَلَى} بمعنى (من) . وقوله: {كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ} أي: كالوا لهم ووزنوا لهم، فـ {هُمْ} في موضع نصب، ويجوز أن يكون {هُمْ} في موضع رفع على التوكيد للضمير، والوجه الأول أولى؛ لأنها في المصحف بغير ألف، ولو كانت توكيداً لثبتت الألف التي هي للفصل. * * * قوله تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [المطففين: 13] . نزلت في النضر بن الحارث؛ لأنه كان يقول: هذه أساطير الأولين فيما يسمع من القرآن. واختلف في واحد {أَسَاطِيرُ} : فقيل: واحدها (أسطورة) ، وقيل: (إسطارة) ، وقيل: هو جمع (أسطار) ، و (أسطار) جمع سطر، كفرخ وأفراخ، وقيل: هو جمع (أسطر) إلا أن كسرته أشبعت فنشأت عنها ياء. * * * قوله تعالى: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 27-28] . قيل: {تَسْنِيمٍ} عين ماء تجري من علو الجنة، ويقال: تسنمتهم العين، إذا أجريت عليهم من فوق. ويسأل عن نصب {عَيْنًا} ؟ وفيه أوجه: أحدها: أن (تَسْنِيماً) معرفة فـ {عَيْنًا} قطه منها، أي حال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 والثاني: أن يكون {تَسْنِيمٍ} مصدراً، يجرى مجرى قوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد: 14] ، فيكون مفعولاً به. والثالث: أنه على المدح، أي: أعني عيناً. والرابع: أن المعنى: يسقون عيناً. وأجاز الفراء: أن يكون على تقدير: سنم عيناً، أي: رفع عيناً، وهذا أيضاً يكون على الحال فهذه خمسة أوجه. {ومن سورة انشقت } * * * قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6] الكدح: السعي، يقال: كدح في أمره يكدح كدحاً. ويسأل عن (الهاء) في قوله: {فَمُلَاقِيهِ} ؟ وفيها جوابان: أحدهما: أن المعنى: فملاقي ربك. والثاني: أن المعنى: فملاقي كدحك، أي: عملك وسعيك. * * * قوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق: 20] قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: {لَتَرْكَبَنَّ} بفتح (الباء) على معنى: لتركبن يا محمد، وقرأ الباقون: {لَتَرْكَبُنَّ} بالضم، على تقدير: تركبن إيها الناس، والأصل: لتركبون، فدخلت النون للتوكيد، فسقطت نون الإعراب؛ لأنهما لا يجتمعان، فصار: لتركبون، فالتقى ساكنان (الواو) و (أول المشدد) فحذفت (الواو) لالتقاء الساكنين، وتركت الضمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 وقيل في قوله: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} أقوال: أحدها: أن المعنى: لتركبن منزلة عن منزلة، طبقاً عن طبق، وذلك أن من كان على صلاح دعاه إلى صلاح قومه، ومن كان على فساد جعاه إلى فساد قومه، إن كل شيء يصير إلى شكله. والثاني: أن المعنى: جزاء عن عمل. والثالث: لتركبن حالاً عن حال من إحياء وإماتة. قال الفراء: وقد فسر: لتصيرن الأمور حالاً بعد حال، لشدة هول يوم القيامة، قال: العرب تقول (وقع في بنات طبق) ، وإذا وقع في أمر شديد. و {عَنْ} بمعنى (بعد) ، كما قال: {عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} [المؤمنون: 40] ، أي: بعد قليل، قال الشاعر: قربا مربط النعامة مني لقحت حرب وائل عن حيال أي: بعد حيال. {ومن سورة البروج } * * * قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج: 1-4] . البروج: المنازل العالية، واحدها: برج، وهي هاهنا منازل الشمس والقمر الثمانية والعشرين، تقطع الشمس كل برج منها في شهر، ويقطعه القمر في يومين وثلث، فيكون مسيرة فيها ثمانية وعشرين يوماً، ويستسر ليلة أو ليلتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 وقال الفراء: هي النجوم المعروفة، وقيل: هي قصور في السماء. واليوم الموعود: يوم القيامة، وخو يوم الجزاء وفصل القضاء، وقد روي في خبر موفوع، وهو قول الحسن أيضاً وقتادة وعبد الرحمن بن زيد. والشاهد: النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمشهود: يوم القيامة، وهو قول الحسن بن علي رضي الله عنهما، وتلا: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] ، {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود: 103] ، وهو قول ابن عباس وسعيد بن المسيب، وروي عن ابن عباس أيضاً: أن الشاهد هو الله تعالى والمشهود يوم القيامة، وجاء في خبر مرفوع: أن الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة، وهو قول قتادة، وقيل: الشاهد يوم النحر، والمشهود يوم عرفة، وهو قول إبراهيم. والأخدود: شق في الأرض، قال ذو الرمة: من العراقية اللاتي أحيل لها بين الفلاة وبين النخل أخدود يصف جدولاً ويسأل عن معنى {ذَاتِ الْوَقُودِ} ، فيقال: لم خصت بذات الوقود، وكل نار لها وقود؟ وعن هذا جوابان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 أحدهما: أنه قد تكون ناراً ليست ذات وقود كنار الحجر، ونار الليل، فقيدت هاهنا للفرق. والثاني: أنه معرف، فصار مخصوصاً كأنه وقود بعينه. واختلف في {أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} : فقيل: هم قوم مؤمنون أحرقهم قوم من المجوس، وهذا مروي عن بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وقيل: كانوا من بني إسرائيل، وهو قول الضحاك. وقيل: {قُتِلَ} بمعنى: لعن، أي: لعنوا يتحريفهم في الدنيا. وقيل: لإن الكفار الذين كانوا قعوداً على النار، خرج إليهم منها إنسانا فأحرقهم عن آخرهم. وقيل: كانوا نصارى من أهل نجران، حدثني أبي عن عمه عن منذر بن سعيد عن أبي النجم عصام بن منصور عن أبي بكر أحمد بن عبد الله البرقي، قال: حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام، قال: حدثنا زياد بن عبد الله قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال: كان أ÷ل نجران جاهلية يعبدون نخلة، فوقع إليهم رجل من أهل ملة عيسى يقال له (فيميمون) ، وكان أهل نجران يبعثون أولادهم إلى ساحر هنالك يتعلمون منه، فأنفذ رجل يقال له (الثامر) ابناً له يسمى (عبد الله) ليتعلم السحر، وكان (فيميمون) على طريقه، فعدل إليه (عبد الله) وأعجبه ما رأي منه، فاتبعه على دينه، وسأله أن يعلمه اسم الله الأعظم، وكان (فيميمون) إذا أتى بعليل دعل له بذلك الاسم فيشفى، فقال لعبد الله: يا ابن أخي إنك لن تقدر أن تحمله وأخشى ضعفك عنه، فلما رأى (عبد الله) أن صاحبه قد ضن عليه بالاسم، عمد إلى قداح فجمعها، فلم يدع اسما الله تعالى إلا كتبه في قدح منها ثم أوقد ناراً وأقبل يقذف فيها قدحاً قدحاً حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذفه فيها، فوثب القدح حتى خرج منها لم يضره شيئاً، فأخذه ثم أتى صاحبه فأخبره فقال له: ما هو؟ فقال: كذا وكذا، قال: وكيف علمت؟ فأجبره بما صنع، فقال: يا ابن أخي قد أصبته، فأمسك على نفسك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 وما أظنك أن تفعل، فجعل (عبد الله) إذا دخل نجران لا يلقى أحداً به ضر إلا قال له: أتوحد الله، وتدخل في ديني، وأدعو لك أن تعافي من هذا البلاء؟ فيقول له: نعم، فيوجد ويسلم، ويدعو له، فيشفى، حتى لم يبق بنجران أحد به ضر إلا أتاه فاتبعه على أمره، ودعا له، فعوفي. ورفع شأنه إلى ملك نجران، ودعاه، وقال له: أفسدت على أهل قريتي، وخالفت ديني ودين آبائي، لأمثلن بك. فقال له: إنك لا تقدر على ذلك، فجعل الملك يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح على رأسه فيقع إلى الأرض ليس به بأس، ويبعث به إلى مياه بنجران كالبحور لا يقع فيها شيء إلا هلك، فيلقى فيها فيخرج ليس به بأس، فلما غلبه، قال له (عبد الله) : إنك لا تقدر علي حتى توحد الله وتؤمن بما آمنت به، فإنك إن فعلت سلطت علي فقتلتني، قال: فوحد الله ذلك الملك وشهد شهادة عبد الله ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله، وهلك الملك مكانه، واستجمع أهل نجران على دين (عبد الله) ، وكان على ما جاء به عيسى من الإنجيل وحكمه، ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث من بعد. قال: ثم إن ذا نواس الحميري سار إليهم بحنوده فدعاهم إلى اليهودية، وكان قد تهود اتباعاً لجده (تبع الأوسط) الذي يقال له: (أسعرتبان) فامتنعوا، فخيرهم بين ذلك وبين القتل، فاختاروا القتل، فخذ لهم أخدوداً، وأوقد فيه ناراً، وألقاهم فيها، فيقال إن آخر من ألقي منهم امرأة معها طفل، فتوقفت، فقال لها ابنها - وهو أحد من تكلم في المهد - يا أم إنما هي ساعة ثم الجنة، فألقت بنفسها، وأفلت منهم رجل يقال له (دوس ذو ثعبان) على فرس له، فسلك الرمل، فأعجزهم، فمضى على وجهه ذلك حتى أتى قيصر صاحب الروم، فاستنصره، فقال له: بعدت بلادك عنا، ولكني سأمتب لك إلى ملك الحبشة، فإنه على هذا الدين، وهو أقرب إلى بلادك، فكتب له، فبعث معه النجاشي - ملك الحبشة - سبعين ألفاً من الحبشة، وأمر عليهم رجلاً منهم يقال له (أرباط) وهو كان سبب دخول الحبشة اليمن. قال ابن إسحاق، ويقال: كان فيمن قبل (ذو نواس) (عبد الله بن التامر) ، قال وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه حدث: أن رجلاً من أهل نجران حفر خربة له في زمان عمر - رضي الله عنه -، فوجد (عبد الله بن التامر) تحتها دفن فيها قاعداً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 واضعاً يده على ضربه في رأسه ممسكاً عليها بيده، فإذا أخرت يده عنها تتعب دماً وإذا أرسلت يده ردها عليها، فامسك دمها، في يده خاتم فيه مكتوب (ربي الله) فكتب إلى عمر - رضي الله عنه - في ذلك، فكتب: أن أقروه على حاله، وردوا عليه الدفن الذي كان، ففعلوا. والوقود: بالفتح: الحطب، وبالضم: المصدر. قال الفراء: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} جواب القسم، كما كان جواب: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] ، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9] . و {النَّارِ} جر على البدل من الأخدود، قال بعض الكوفيين: الألف واللام تعاقب الإضافة والمعنى: قتل أصحاب الأخدود ناره، وهو على تقدير مذهب البصريين: النار منه، وقال أبو عبيده: النار جر على الجوار، كما قالوا: جحر ضب خرب. * * * قوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج: 14-15] . قرأ حمزة والكسائي {الْمَجِيدِ} جراً، ورفع الباقون. فمن جر فعلى النعت للعرش، وأضاف المجد إلى العرش؛ لأنه يدل على مجد صاحبه. ومن رفع جعله مردوداً إلى قوله: {ذُو} . قوله تعالى: هل {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} [البروج: 17-18] . قيل المعنى: قد أتاك حديثهم، والمعنى: تذكر حديثهم تذكر معتبر، فإنك تنتفع به، وهذا من الإيجاز الحسن، والتفخيم الذي لا يقوم مقامه التصريح لما يذهب الوهم في أمرهم كل مذهب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 و {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} بدل من الجنود في موضع جر، أجاز بعضهم: أن يكون في موضع نصب بإضمار فعل، كأنه قال: أعني فرعون وثمود. * * * قوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21-22] . قرأ نافع {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} بالرفع، رده على {قُرْآنٌ} ، وجر الباقون، وردوه على اللوح. و {لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} : أم الكتاب عن مجاهد، وقيل معناه: أنه حفظه الله بما ضمنه. {ومن سورة الطارق } * * * قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 1-4] . الطارق: الآتي ليلا، وهو هاهنا النجم؛ لأنه يطرق ليلاً، قالت هند بنت عتبه: (نحن بنات طارق نمشي على النمارق) . والثاقب: المنير المضيء، والعرب تقول: أثقب نارك، أي: أشعلها. وقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} ، ما: استفهام، وهي في وضع رفع بالابتداء، و {الطَّارِقُ} ، خبره، والجمله في موضع نصب؛ لأنه مفعول ثان لـ {أَدْرَاكَ} . وقيل: {الطَّارِقُ} هو الثاقب، وهو زحل، هكذا قال الفراء. . وقوله: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} ، قرأ عاصم وحمزة وابن عامر {لَمَّا} بالتشديد، وقرأ الباقون بالتخفيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 فمن شدد جعل {لَمَّا} بمعنى (إلا) حكى سيبويه: نشدتك الله لما فعلت، في معنى: إلا فعلت، و {حَافِظٌ} خبر {إِنْ} ، وقيل الأصل: (لمن ما) فأدغمت النون في الميم. ومن خفف فـ (ما) بعده عنده صلة، و (اللام) جواب القسم، والمعنى: لعليها حافظ. وقال بعضهم: (اللام) بمعنى (إلا) و (إن) بمعنى (ما) ، والمعنى: ما كل نفس إلا عليها حافظ. وأنكر الكسائي تشديد الميم، وهو جائز عند البصريين. * * * قوله تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 6-9] . قال الفراء: دافق: بمعنى مدفوق، كما قال: {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] ، قال الفراء: وأهل الحجاز لذلك أفعل من غيرهم، يعني: وضع الفاعل في معنى المفعول. والترائب: موضع القلادة من المرأة، هذا قول ابن عباس، وكذلك هو في اللغة، واحدها (تريبة) قال الشاعر: كالزعفران على ترائبها شرقاً به اللبات والصدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 وقد يقال في جمع تريبة: تريب، قال المثقب: ومن ذهب يسن على تريب كلون العاج ليس به غضون والمعنى: من بين صلب الرجل وترائب المرأة. والابتلاء: الاختبار. واختلف في معنى قوله: {عَلَى رَجْعِهِ} : فقال الضحاك: على رجع الإنسان ماء، كما كان. وقال عكرمة ومجاهد: على رجع الماء في صلبه، أو في إحليله. وقال الحسن وقتادة: على رجع الإنسان بالإحياء بعد الموت. ويسأل عن الناصب لقوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} ؟ وفيه اختلاف على قدر اختلاف العلماء في معنى (الرجع) : فقال الزجاج: العامل فيه فعل مضمر يدل عليه {عَلَى رَجْعِهِ} ؛ تقديره: يرجعه يوم تبلى السرائر، ولا يجوز أن يعمل فيه {عَلَى رَجْعِهِ} ؛ لأنه مصدر ولا يجوز أن يفرق بينه وبين صلته. وقيل: العامل فيه {قَادِرٌ} وهذا على مذهل من قال: إن معنى {عَلَى رَجْعِهِ} على بعثه وإحيائه بعد الموت، ويكون جواباً لقولهم: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون: 82] ، وما أشبه ذلك مما فيه إنكارهم للبعث، وقيل: وهو نصب على إضمار (أعني) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 {ومن سورة الأعلى } * * * قوله تعالى: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى: 4-5] . الغثاء: ما حمله السيل، وهو الهشيم اليابس. والأحوى: الأسود، وفي تقدير {أَحْوَى} قولان: أحدهما: أنه على التقديم والتأخير، والمعنى: فجعله أحوى غثاء، أي: أسود والعرب تكني عن الأخضر بالأسود والأدهم، قال الله تعالى في صفة الجنتين: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 64] ، أي: خضراوان من الري، و {أَحْوَى} على هذا حال من (الهاء) في {جَعَلَهُ} . والثاني: أن يكون غير مقدم، ويكون التقدير: فجعله غثاء أسود، و {أَحْوَى} على هذا المذهب نعت لـ {غُثَاءً} . * * * قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 6-7] . قال الحسن: المعنى: فلا تنس إلا ما شاء الله أن تنساه، برفع حكمه وتلاوته، وهو قول قتاده، وقيل: إلا ما شاء الله كالاستثناء في الإيمان وإن لم يقع مشيئة إلا النسيان منه، وقيل: إلا ما شاء الله نسيانه مما لا يكلفك بأدائه، وذلك أن التكليف مضمن بالذكر. وقوله: {فَلَا تَنْسَى} خبر على تقدير: سنقرئك فبيس تنسى، وقيل: هو نهي، و {تَنْسَى} بمعنى تترك وتثبت فيه الأبف، وهو مجزوم. كما قال الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 إذا العجوز غضبت فطلق ولا ترضاها ولا تملق وهذا من الضرورات لا يجب أن يحمل القرآن عليه. قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 18-19] . قال قتاجة: ما قصه الله تعالى في هذه السورة في الصحف الأولى، وقيل: من قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] إلى آخر السورة في الصحف الأولى، وقيل: كتب الله تعالى كلها أنزلت في شهر رمضان، وأنزل القرآن لأربع عشرة ليلة منه, وقيل: القرآن في الصحف الأولى، والتقدير على هذه الوجوه: معاني القرآن أو معنى ما تقدن ذكره في الصحف الأولى. وواحد الصحف: صحيفة، كما يقال: سفينة وسفن، وقد يقال: صحائف، كما يقال: سفائن. {ومن سورة الغاشية } * * * قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُ وعٍ} [الغاشية: 1-7] . {هَلْ} بمعنى (قد) ، و {الْغَاشِيَةِ} : القيامة؛ لأنها تغشى العباد، ومعنى {خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ} أي: في الدنيا، قيل: يعنى بذلك: الرهبان، وقال الحسن وقتادة: عاملة لم يعملها الله في الجنيا، فأعملها في النار. والآنية: المنتهية في الحرارة، وهو قول ابن عباس وقتادة، وهو على وزن (فَاعلَة) من أنى يأني إذا انتهى، فأما على قوله: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ} ، فهو (أًفْعلةٌ) جمع إناء، مثل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 إزار وآزرة. والضريع: الشبرق، وهو سم، عن ابن عباس، وقيل: {مِنْ ضَرِيعٍ} اي: يضرع آكله في الإعفاء عنه لصعوبته. * * * قوله تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} [الغاشية: 22-23] . المسيطر: المتسلط على غيره بالقهر، وقال ابن عباس (بمسيطر) بجبار، وهو قول مجاهد أيضاً، وقال ابن زيد: بجبار بالإكراه على الإيمان، وهذا قبل فرض الجهاد. وقوله: {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} قال الفراء: يكون مستثنى من الكلام الذي كان التذكير يقع عليه، وإن لم يذكر، يريد أنه استثناء منقطع، وسيبويه يقدر الاستثناء بـ: (لكن) ، والفراء يقدره بـ: (سوى) ، و (لكن) فيه أظهر. * * * قوله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 25-26] الإياب: الرجوع، يقال: آب يؤوب أوباً إذا رجع. وقرأ بعضهم {إِيَابَهُمْ} بالتشديد، وأصله: إيوابهم، على (فيغال) فاجتمعت الواو والياء وسبقت الأولى منهما بالسكون، فقلبت الواو ياء وأغمت الياء فيها. {ومن سورة الفجر } * * * قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر: 1-5] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 {وَالْفَجْرِ} : انشقاق عمود الصبح، {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} : عشر ذي الحجة. {وَالشَّفْعِ} : الخلق بما له من الشكل. {الْوَتْرِ} : الخالق الفرد؛ لأنه لا مثل له، هذا قول ابن عباس وأكثر أ÷ل العلم، وقال الحسن: {الشَّفْعِ} : الزوج، و {الْوَتْرِ} : الفرد، وروى عن ابن عباس أيضاً: أن {الشَّفْعِ} : يوم النحر، و {الْوَتْرِ} : يوم عرفة، وهو قول عكرمة والضحاك، وقيل: {الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} : الصلاة المكتوبة منها شفع ومنها وتر، وروي عن أبي الزبير: أن {الشَّفْعِ} : اليومان الأولان من أيام النحر، و {الْوَتْرِ} : اليوم الثالث. وقيل: االعشر: عشر ليال من أول المحرم. والحجر: العقل؛ لأنه يمنع صاحبه. و {إِرَمَ} : مدينة، قيل هي الإسكندرية، هذا قول القرظي، وقال المقبري: هي دمشق، وقيل: هي مدينة مبنية من الذهب والفضة في البرية غيبت عن الناس، وقيل: هي قبيلة، فعلى الأقوال الأول تكون (عاد) منسوبة إلى (إرم) ، وعلى القول الآخر تكون (عاد) هي إرما، وقيل: إرم: ساك بن نوح، ولم ينصرف (إرم) في الأقوال الأول؛ لأنها معرفة مؤنثة، وإذا جعل اسم رجل فزعم الفراء: أنه يترك اجراؤه؛ لأنه كالأعجمي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 وقيل: {ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر: 7] ذات الطول، هذا قوا ابن عباس ومجاهد، وقال ابن زيد: ذات العماد في إحكام البنيان. * * * قوله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 21-22] . الدك: تسوية الأرض وبسطها، ومنه الدكان لاستوائه. قال الحسن: المعنى: وجاء أمر ربك وقضاء ربك، وقال المتكلمون: يفعل الله فعلاً يسميه مجيئاً، ومثل هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ينزل ربنا في كل ليلة إلى السماء الدنيا) أي: أمره وهذا كما تقول: ضرب الأمير فلاناً، أي: ضربه صاحبه بأمره، ولا يجوز أن يكون المجيء انتقالاً؛ لأن الانتقال لا يصح على القديم تعالى. {ومن سورة البلد } * * * قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1-2] {الْبَلَدِ} : مكة، قال الفراء أي: هو حلال لك، وذلك يوم فتح مكة، لم تحل قبله، ولا تحل بعده، أي: تقتل من رأيت قتله، فقيل له (ابن خطل) متعلق بأستار الكعبة، فأمر بقتله، وقيل: لم تحل لنبينا - صلى الله عليه وسلم - ساعة من النهار، وهو قول عطاء. * * * قوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] . قيل: النجدان: الطريقان، طريق الخير وطريق الشر، وقيل: هدى الطفل إلى ثدي أمه، وأصل النجد: المرتفع من الأرض، ونقيضه: تهامة؛ لأنها لما انخفضت تهمت ريحها، يقال: تهمت ريحه وتمهت اذا تغيرت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 قوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد: 11-15] . الاقتحام: الدخول على مشقة، والعقبة: الطريقة الصعبة المرتقى، والفك: التفرقة، يقال: فككته أي: فرقته، نحو: فك القيد والغل، ومعنى {فَكُّ رَقَبَةٍ} أي: فرق بينها وبين الرق، والمسغبة: المجاعة، والمقربة: القربى، والمترية: الفقر، ومن قولهم: تربت يداه. قرأ ابن كثير وأبو عمرو الكسائي {فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ} على الفعل الماضي، وقرأ الباقون {فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ} رد الفعل على الفعل، فالمعنى على القراءة الأولى: فلا اقتحم العقبة فك رقبة أو أطعم، والمعنى على القراءة الثانية: وما أدراك ما العقبة؟ أي: هي فك رقبة، جعله جواب لقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ} . ونصب {يَتِيمًا} بـ: {إِطْعَامٌ} ، كما تقول: أعجبني ضرب زيد لأنه مصدر، والمصدر يعمل عمل فعله، والفاعل محذوف، قيل تقديره: أو إطعام أنت، وقيل تقديره: أو إطعام إنسان. {ومن سورة الشمس } * * * قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 5-10] . اختلف في {مَا} هاهنا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 فقيل: بمعنى (من) أي: من بناها ومن طحاها ومن سواها. وقيل: هي مصدرية، وتقديره: والسماء وبنائها، والأرض وطحوها ونفسٍ وتسويتها. و {طَحَاهَا} بسطها، و {دَسَّاهَا} : أخفاها، وقيل: هو نقيض {زَكَّاهَا} أي: زكاها بالعمل الصالح، ودساها بالعمل الفاسد. ... كما يقال: زكا يزكو. وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ} جواب القسم، وهو على حذف (اللام) ، وتقديره: لقد أفلح، وقيل {دَسَّاهَا} ... فأبدلت السين، كما قيل: تظنى، والفلاح: البقاء والخلود، وقيل: الفلاح: الفوز وقيل: الفلاح: الملك. * * * قوله تعالى: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 13-15] . نصب {نَاقَةَ اللَّهِ} بإضمار فعل، أي: اتركوا ناقة الله وسقياها، أي: احذروا ناقة الله وسقياها، وربما قال بعض النحويين: نصب على التحذير، وأجاز الفراء: الرفع، على أن معنى التحذير باق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 وعاقر الناقة أحمر ثمود وهو (قدار) ، قال الشاعر: ولكن أهلكت لواء كثيراً وقبل اليوم عالجها قدار والدمدمة: ترديد الحال المستكرهة، وقيل: أصله (دم) فضعفـ وقيل: دم عقر. قال الضحاك في قوله: {وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} لم يخف الذي عقرها عقباها، وقيل المعنى: ولا يخاف الله عقبى ما فعل من الدمدمة. وقيل: {فَسَوَّاهَا} أي: سوى العقوبة لهم، وقيل: سوى أرضهم عليهم. وقرأ أبو عمرو وابن كثير وحمزة والكسائي وعاصم {وَلَا يَخَافُ} بالواو لأنها في ... ، وقرأ نافع وابن عامر {فَلَا يَخَافُ} لأنها في مصاحف أهل المدينة والشام كذلك. فمن قرأ بالفاء جاز أن يقف على قوله: {فَسَوَّاهَا} ، ومن قرأ بالواو لم يجز له أن يقف؛ لأنها واو حال، ولا يجوز الوقف دون الحال. {ومن سورة الليل } * * * قوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [الليل: 3] {مَا} بمعنى (من) وقيل: بمعنى (الذي) ، وقيل: جاءت على لغة من يقول: سبحان ما سبحت له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 وأجاز الفراء: الجر في {الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} على البدل من {مَا} ، وفي القراءة الأولى يكون {الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} نصباً بـ: {خَلَقَ} ، والفاعل مضمر، أي: خلق هو، وإن شئت جعلت {مَا} مصدرية، والتقدير: وخلقه الذكر والأنثى. * * * قوله تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 19-20] يسأل عن نصب {ابْتِغَاءَ} ؟ الجواب: أنه استثناء منقطع، والمعنى: لكن ابتغاء وجه ربك، قال الفراء: نصب الابتغاء في جهتين: إحداهما: أن تجعل فيها نية إفاقه. والأخرى: على اختلاف ما قبل {إِلَّا} وما بعدها، والمعنى: ما ينفق إلا ابتغاء وجه ربه، قال: والعرب تقول: ما في الدار أحد إلا كلباً، وهذا هو الاستثناء المنقطع، قال: وهذا مذهب أهل الحجاز فأما بنو تميم فإنهم يجعلون الثاني بدلاً من الأول: وأنشد؟ وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس قال: ولو رفع رافع {ابْتِغَاءَ} لم يكن خطأ؛ لأنك لو ألقيت {مِن} من {نِعْمَةٍ} لصار: وما لأحد عنده نعمة إلا ابتغاء، فهذا يكون على البدل، كما تقول: ما أتاني من أحد إلا أبوك. {ومن سورة الضحى } * * * قوله تعالى: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 1-3] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 الضحى: صدر النهار، وقيل: الضحى ... الضحاء ممدود مفتوح الأول، وهو قريب من نصف النهار. وهو قريب من نصف النهار. وسجا: سكن، وقال الحسن: غشي بظلامه، والأول قول قتادة والضحاك. وودعك: تركك. وقلى: أبغض، والقلى البغض، إذا كسرت (القاف) قصرت، وإذا فتحت مددت، قال الشاعر: عليك سلام لا مللت قريبة ومالك عندي، إن نأيت قلاء. والتقدير: ما ودعك ربك وما قلاك، إلا أن (الكاف) حذفت اكتفاء بالأولى، ولتتفق رؤوس الآي، ومثله: أعطيتك وأحسنت، والمعنى إليك. قال الفراء:: الضحى النهار كله، وسجى أظلم وذلك في طوله. * * * قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 6-8] . آوى: ضم، وقيل في {ضَالًّا} ثلاثة أقوال: أحدها: وجدك لا تعرف الحق، فهداك إليه. والثاني: وجدك ضالاً عمل أنت عليه الآن من النبوة والشريعة فهداك إليه. والثالث: وجدك في قوم ضلال، أي: فكأنك منهم. {ومن سورة ألم نشرح } * * * قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5-6] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 العسر الأول هو العسر الثاني، واليسر الأول غير اليسر الثاني، وقد جاء في الحديث: (لن يغلب عُسرٌ يُسرَين) ، ووجه ذلك: أن العسر معرف، فهو واحد؛ لأنه ذلك المعرف بعينه، واليسر منكر، ولو كان اليسر الثاني هو الأول لتكرر وفيه الألف واللام ليعرف ذكره، كما تقول: رأيت رجلاً، وأكرمت الرجل، قال الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15-16] عرف الثاني لما كان هو الأول، وقال: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور: 35] ، ومثل تكرير {الْعُسْرِ} وفيه الألف واللام والثاني هو الأول قول الشاعر: [لا أرى] الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقيرا فالموت في ذلك كله شيء واحد. {ومن سورة والتين } * * * قوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ} [التين: 1-2] . {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} : نوعان من الشجر نبه الله [عليهما] ونوه بهما، فأقسم بهما، وقيل: التين والزيتون: جبلان، فالتين بدمشق والزيتون ببيت المقدس، وقال عبد الرحمن بن زيد: التين مسجد دمشق، والزيتون بيت المقدس، وقال الحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة: التين هو الذي يؤكل، والزيتون هو الذي يعصر. {وَطُورِ سِينِينَ} : جبل بين الحجاز والشام، وهو الذي كلم الله موسى بن عمران عليه، وهذا قول الحسن، يقال: طور سينين وطور سيناء بمعنى واحد، وقيل: سينين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 بمعنى: حسن، لأنه كثير النبات والشجر، وهو قول عكرمة، وقال مجاهد وقتادة: الطور الجبل، وسينين بمعنى: مبارك، وكأنه قيل: جبل الخير. * * * قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 6-8] . قيل في قوله: {غَيْرُ مَمْنُونٍ} ثلاثة أقوال: أحدها: أن المعنى غير منقوص. والثاني: أن المعنى غي مقطوع. والثالث: أن المعنى غير محسوب، ومن قولك: مننت عليه بكذا، أي: حسبته عليه، وهو قول مجاهد. والهمزة في {أَلَيْسَ اللَّهُ} همزة تقدير، مثل الذي في قول جرير: ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح ودخلت (الباء) في خبر {أَلَيْسَ} وإن كان قد انتقض معنى النفي؛ لأن الهمزة وإن نقلت النفي إلى الإيجاب، فإنها لم تنقل (ليس) عن حكمها، وقيل: المعنى: أليس الله بأحكم الحاكمين صنعاً وتقديراً؛ لأنه لا خلل فيه ولا اضطراب ولا ما يخرج به عما تقتضيه الحكمة. {ومن سورة العلق } * * * قوله تعالى: {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 7] . {أَنْ} في موضع نصب؛ لأنه مفعول له، والمعنى إن الإنسان ليطغى لأن رآه استغنى، ومن أجل أن رآه استغنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 و (رأى) هاهنا بمعنى: علم؛ لأنه لا يقال: زيد رآه، ومن رؤية العين، وإنما يقال: زيد رأى نفسه، ولكن من رؤية القلب يجوز، نحو: زيد رآه عالماً، ورآه استغنى، وكذا الأفعال المؤثرة، ولا يجوز أن يعمل في ضمائر ما يكون خبراً عنه، فأما قولهم: عدمتني وفقدتني، فلأنه جرى على المجاز، ألا ترى أنه لا يصح أن يعدم نفسه ولا يفقدها، وإنما يعدمه غيره. * * * قوله تعالى: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 15-18] . السفع: أصله من سفعته النار إذا غيرته عن حاله. والناصية: شعر مقدم الرأس، وهو من ناصى يتاصي مناصاة إذا وصل. والنادى: المجلس، يقال: نادي وندي، والجمع: أندية، قال سلامة بن جندل: يومان يوم مقامات وأندية ويوم سير إلى الأعداء تاوب والزبانية: الأعوان واحدها: زبنية، هذا قول أبي عبيدة، وقال الكسائي: زنبي، وقيل: هو جمع لا واحد له، واشتقاق الزبانية من الزبن: وهو الدفع، ومنه يقال: حرب زبون، قال الشاعر: فوارس لا يملون المنايا إذا دارت رحا الحرب الزبون والزبانية هاهنا: الملائكة، هذا قول ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك. و (النون) في {لَنَسْفَعًا} : نون التوكيد الخفيفة، والاختيار عن البصريين أن تكتب بالألف؛ لأن الوقف عليها بالألف، واختار الكوفيون: أن تكتب بالنون؛ لأنها نون في الحقيقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 وخفض {النَّاصِيَةِ} ؛ لأنها بدل من {النَّاصِيَةِ} الأولى، وحكى الفراء: أن بعضهم قرأ {نَاصِيَةٌ} بالنصب على تقدير: لنسفعاً بها ناصية، ينصها على القطع. {ومن سورة القدر } * * * قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] . (الهاء) للقرآن، وإن لم يجر له ذكر؛ لأنه قد عرف المعنى. وليلة القدر: ليلة يغفر الله تعالى فيها السيئات، وقيل: ليلة الحكم بما يقضي الله تعالى في السنة من كل أمر، وهو قول الحسن ومجاهد، وقيل: هي في العشر الأواخر من شهر رمضان، لم يطلع عليها بعينها الناس، وقيل: إنما أخفاها الله تعالى عن العباد ليستكثروا من العبادة في سائر أيام العشر طلباً لموافقتها، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أريتها وأنسيتها) وروي عنه: (التمسوها لثلاث أو لخمس أو لسبع) ، قال مالك: أراه أراد: لثلاث بقين أو خمس بقين أو سبع بقين، وقيل: هي الإفراد من العشر الأواخر، وقال بعضهم: التمسوها في الشهر كله، وقال آخر: التمسوها في السنة وهذا كله تحريض على كثرة العمل طلباً للموافقة، وقيل: قد فسرت ليلة القدر بقوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] ، وقيل: ليلة القدر ليلة عظيم الشأن، ومن قولك: رجل له قدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 4-5] . قيل الأصل في {تَنَزَّلُ} : تَتَنَزَّلُ، فحذفت (التاء) الثانية استقالاً لاجتماع التاءين، وكانت الثانية أولى بالحذف؛ لأن الأولى دخلت لتدل على الاستقبال، وقيل: تنزًّلُ الملائكة بكل أمر في ليلة القدر [إلى السماء الدنيا] . حتى يعلمه أهل الدنيا، وحتى يتصور تنزل أمر الله تعالى إليها، فتنصرف آمالهم إلى ما يكون منها [فيقوي رجاؤهم] بما يتجدد من تفضل الله تعالى فيها. والروح: جبريل - عليه السلام -، مالك عظيم تقوم الملائكة يوم القيامة صفاً، ويقوم وحده صفاً. وقيل (السلام) في ليلة القدر سلام الملائكة بعضهم على بعض، وقيل: نزولهم بالسلامة والخير والبركة، وقيل: سلام هي من الشر، وهو قول قتادة. وقرأ الكسائي {مَطْلِعَ} بكسر اللام، وفتح الباقون. فمن كسر جعله للوقت، وأكثر ما يأتي ما كان (فَعَلَ يَفْعَلُ) نحو: المقتل والمنظر والمدخل والمخرج، إلا أنه شذت أحرف فجاء الزمان والمكان فيها على (مَفْعِلٍ) وهي: المطلع والمشرق والمغرب والمنبت والمجزر والمسكن والمسجد، وحكى الفراء: طلعت الشمس مطلعاً على المصدر، فعلى هذا تستوي القراءتان، وكأنه اجتزأ بالاسم عن المصدر، كما قالوا: أعطيته عطاء وأكرمته كرامة، فأما قوله: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 نَبَاتًا} [نوح: 17] . فقيل: أتى على حذف الزيادة، وقيل: المعنى: أنبتكم فنبتم نباتاً، فنبات من غير (أنبت) على هذا القول. و {حَتَّى} بمعنى (إلى) والتقدير: إلى مطلع الفجر. يجوز في {هِيَ} وجهان: أحدهما: أن تكون هي مبتدأة و {سَلَامٌ} الخبر. والثاني: أن يكون {سَلَامٌ} و {هِيَ} الخبر. {ومن سورة لم يكن } * * * قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} [البينة: 1-2] . حركت (النون) من {لَمْ يَكُنِ} لالتقاء الساكنين، فإن قيل: لمَ لمْ ترجع (الواو) وهي إنما حذفت لسكون (النون) و (النون) قد تحركت؟ قيل: حركة (النون) عارضة لا يعتد بها، فكأن السكون باق. وعطف {الْمُشْرِكِينَ} على {أَهْلِ الْكِتَابِ} ، والتقدير: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ومن المشركين، وقيل: لا يجوز ذلك؛ لأن المشركين كفار، وأهل الكتاب قد لا يكونوا كفاراً، ولكنه مفعول معه، أي: مع المشركين، ويدل على صحة هذا التأويل: أن عبد الله بن مسعود قرأ "لَمْ يَكُنِ الُمشْركُونَ وأَهْلِ الْكِتَابِ مُنْفَكِّينَ"، وقيل: بل يجوز أن تعطف {الْمُشْرِكِينَ} على {أَهْلِ الْكِتَابِ} ؛ لأن (من) لإبانة الجنس، كما تقول: هذا ثوب من خز؛ لأن الكفار قد يكونون من غير أهل الكتاب ومن غير المشركين، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 كقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30] ؛ لأن الرجس قد يكون غير الأوثان. قال الفراء: يريد بقوله: {مُنْفَكِّينَ} أي: لم يكونوا منتهين حتى البينة، وهي بعث محمد - صلى الله عليه وسلم -، قال: وقال آخرون: لم يكونوا تاركين صفته في كتابهم أنه نبي حتى ظهر، فلما ظهر تفرقوا واختلفوا، ويصدق ذلك: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 4] . والانفكاك هاهنا: التفرق، ومنفكين هاهنا: من قولهم: ما انفك زيد قائماً، وأجاز ذلك الفراء، وإذا كانت كذلك وجب أن يكون لها خبر، ولا خبر هاهنا، [فلما] كان كذلك وجب الوجه الأول. و {رَسُولٌ} بدل من {الْبَيِّنَةُ} ، وقال الفراء: هو مستأنف، والتقدير: هو رسول من الله، أو: هي. وفي قراءة أبي "رَسُولاَ مِنَ الله" بالنصب. على القطع، أي: الحال، والبينة: الحجة. * * * قوله تعالى: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] فيه قولان: أحدهما: أن المعنى: ذلك دين الملة القائمة أو الشريعة. والثاني: أن المعنى: ذلك دين الأمة القائمة أو الفرقة القائمة، والقائمة والقيمة بمعنى واحد. * * * قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [البينة: 6] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 يجوز في {الْمُشْرِكِينَ} أن يكون معطوفاً على {الَّذِينَ كَفَرُوا} وذلك على مذهب من جعله هنالك مفعولاً معه، ويجوز أن يكون معطوفاً على {الَّذِينَ كَفَرُوا} كما كان فيما قبل. {ومن سورة إذا زلزلت } * * * قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا} [الزلزلة: 1-3] . الزلزلة: الحركة الشديدة، وهذه الزلزلة تكون يوم القيامة، والزلزلة بالكسر: المصدر، والزلزال بالفتح: الاسم، ومثله: القَلقَال والقِلقَال، والوَسواس والوِسواس. قرأ أبو جعفر {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زَلزَالَهَا} بالفتح. وأثقالها: كنوزها من الذهب والفضة، وقيل: أمواتها. {وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا} أي: الكافر، يقول: أي شيء لها وما شأنها تغيرت عما كانت عليه. وقيل: إن الأرض تتكلم يوم القيامة، قال علي بن عيسى: يكون ذلك على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يقبلها الله تعالى حيواناً قادراً على الكلام. والثاني: أن يحدث الله تعالى الكلام فيها. والثالث: أن كلامها ببيان يقوم مقام الكلام. وجواب {إِذَا} محذوف، والتقدير: إذا زلزلت الأرض زالزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان ما لها رأيت أمراً هائلاً، أو حشر الناس، وهذا الجواب هو العامل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 في {إِذَا} ، ولا يجوز أن تعمل فيهل {زُلْزِلَتِ} ؛ لأنها مضافة إليه والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. {ومن سورة والعاديات } قوله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} [العاديات: 1-5] . العاديات: الخيل، والضبح: لهث يتردد من أنفاسها، وقيل: إن الضبح حمحمة الخيل عند العدو، وقيل: شدة النفس عند العدو، قال ابن مسعود: العاديات هي: الإبل، والقول الأول أظهر، وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وعطاء. قيل: أقسم بالعاديات لعظم شأنها في الغارة [على أعداء] الله من المشركين، وقيل التقدير: ورب العاديات، والموريات: التي توري النار أي: تظهرها بسنابكها، تقول: أورى القادح النار، وتسمى النار التي تظهر تحت السنابك (نار الحباحب) لضعفها، قال النابغة في صفة السيوف: تقد السلوقي المضاعف نسجه وتوقد بالصفاح نار الحباحب. والمغيرات: جمع مغيرة، ومن قولك: أغرت على العدو. والنقع: الغبار، و (الهاء) في قوله: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} يعود على المكان الذي أغيرت فيه أو الوادي، وقيل: يعود على فرس المقداد بن الأسود؛ لأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 كان أشد الخيل ذلك اليوم، وقيل لم يكن تلك المغيرة إلا ثلاث من الخيل فرس المقداد أحدها، وهو ضمير لم يجر له ذكر ولكنه قد عرف. {ومن سورة القارعة } * * * قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 6-11] . قال الحسن: في الآخرة ميزان له كفتان توزن فيه أعمال العباد، وقال مجاهد: {ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} على جهة المثل، ويروى عن عيسى - عليه السلام -، أنه سئل فقيل له: ما بال الحسنة تثقل علينا والسيئة تخف علينا؟ فقال: لأن الحسنة حضرت مرارتها وغابت حلاوتها، فلذلك ثقلت عليكم وعادت في مكروهكم، فلا يحملكم ثقلها على تركها، فإن بذلك ثقلت الموازين يوم القيامة، والسيئة حضرت حلاوتها، وغابت مرارتها فلذلك خفت عليكم وعادت في محبوبكم، ولا يحملكم عليها خفتها فإن بذلك خفت الموازين يوم القيامة. وراضية: في معنى مرضية. وقيل في قوله: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} قولان: أحدهما: أنه يهوي على أم رأسه في النار، وهو قول قتادة وأبي صالح. وقيل: أمه هاوية أي: ضامته وكافلته هاوية، أي: النار شبهت له بالأم، لأن الأم تضمه إليها وتكفله، فصارت النار له كالأم. {ومن سورة التكاثر } * * * قوله تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 5-7] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 كلا: زجر. و {عِلْمَ} اليقين: العلم الذي [يثلج الصدر] بعد اضطراب الشك فيه، وتقديره في الإعراب: علم الخبر اليقين، فحذف المضاف، ومثله: {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9] ، وأهل الكوفة يقولون: هو إضافة الشيء إلى نفسه، وهذا لا يجوز عند البصريين. وقوله: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} قيل: ترونها في الوقف، وهو قول الحسن. وقرأ ابن عامر والكسائي {لتُرَونَ} بالضم على ما لم يسم فاعله، وقرأ الباقون بالفتح على ما سمى فاعله، إلا أن الكسائي وابن عامر [فتحوا التاء] في لترونها. ولا يجوز همز هذه الواو على قياس: أثؤب في أثوب وأعد في وعد؛ لأن الضمة هاهنا عرضة لالتقاء الساكنين. {ومن سورة العصر } * * * قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر: 1-3] . العصر: الدهر، عن ابن عباس والكلبي، وقال الحسن وقتادة: هي صلاة العصر. والإنسان: في موضع (الناس) ، ولذلك جاز الاستثناء منه. والخُسر: أصله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 إهلاك رأس المال، فالإنسان في هلاك نفسه وهو أكثر رأس المال بمنزله ذلك. إلا المؤمن العامل بطاعة ربه الصابر على ذلك والمتواصي بالحق، وقيل: المراد بذلك (أبو بكر) و (عمر) رضي الله عنهما. {ومن سورة الهمزة } * * * قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] قال محمد بن إسحاق: نزلت في أمية بن خلف، وذلك أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - فهمزة ولمزة، فأنزل الله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} . والهمزة: الذي يشتم الرجل علانية، قال حسان: همزتك فاختضعت لذل نفس بقافية تأجج كالشواظ واللمزة: الذي يصيب الناس سراً ويؤذيهم، قال رؤية: في ظل باطلي ولمزي وقيل: الهمزة: الكثير الطعن على غيره بغير حق، العائب لمن ليس فيه عيب، يقال: رجل همزة كما يقال: ضحكة وهزأة، قال ابن عباس اللمزة: المغتاب العياب. * * * قوله تعالى: {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهمزة: 2-3] . {الَّذِي} في موضع جر على البدل من {هُمَزَةٍ} ، ولا يجوز أن يكون نعتاً؛ لأنه معرفة، و {هُمَزَةٍ} نكرة. ويجوز أن يكون في موضع نصب على إضمار (أعني) ، ويجوز أن يكون ي موضع رفع على إضمار (هو) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 وفي حرف عبد الله "وَيْلٌ للهُمَزَةٍ اللُمَزَةٍ" فعلى هذا الوجه يكون نعتاً. والويل: القبوح، كذا قال الأصمعي، وقال المفسرون: هو وادٍ في جهنم. وقرئ {جَمَعَ مَالًا} و {جَمَعَ} ، والتشديد للمبالغة. قرأ الحسن {لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} أي: الجامع والمال، وروى: {لَيُنْبَذَنَّ} يعني: الجامع والمال والعدد؛ لأنه قد قرئ {جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ} . * * * قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} [الهمزة: 5-6] . الحطمة: الحاطمة، قال الراجز: قد لفها الليل بسواق حطم ويقال: رجل حطم، أي: أكول، وأصول الحطم: الكسر. وارتفع {نَارُ اللَّهِ} بإضمار مبتدأ تقديره: هي نار سورة الله. {ومن سورة الفيل } * * * قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] . {تَرَ} هاهنا بمعنى: تعلم، وليس من رؤيو العين؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما رأى أصحاب الفيل، وفي ذلك العام ولد النبي - صلى الله عليه وسلم -/ وأصحاب الفيل: الحبشة الذين قصدوا الكعبة ليهدموها، وزعيمهم (أبرهة الأشرم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 والأبابيل: الجماعات، قال الفراء: لا واحد لها بمنزلة: شماطيط وعباديد، قال: وحكى عن الرؤاسي أنه سمع: إبالة، في الواحد، قال الفراء: وسمعت من العرب كم يقول: (ضغث على إيالة) ، وقيل: واحدها (أبُّول) كعجول وعجاجيل، وقيل: واحدها (إبيل) كسكين وسكاكين، وقيل: واحدها (إبيال) كدينار ودنانير، وقيل: هو اسم للجمع. والعصف: الزرع المتحطم، وقيل: العجين، قال الراجز: فأصبحوا مثل كعصف مأكول وسجيل: قيل: هو معرب، وقيل: طين مطبوخ كالآجر، وقيل: كان طائر يأتي ومعه حجران في رجليه وواحد في منقاره، مثل الحمص وأكبر من العدس، فلا يصيب أحداً إلا قتلته، وأصابت (أبرهة فرجع وقد أمدت عليه جراحاته فلما بلغ صنعاء هلك. {ومن سورة قريش } * * * قوله تعالى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] . الإيلاف: التآلف، اختلف في (اللام) : فقيل: يتعلق بقوله: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل: 5] {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} وقال الخليل وسيبويه المعنى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 وقال الفراء: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} [الفيل: 1] {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} ؛ لأنه ذكر أهل مكة النعمة عليهم بما صنع بالحبشة، وقال أيضاً تقديره: أهعجب يا محمد لإيلاف قريش، يعجبه من نعمه عليهم في إيلافهم. {ومن سورة الماعون } * * * قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون: 2] . يدع: يدفعه عنفاً به؛ لأنه لا يؤمن بالجزاء عنه، فليس له وازع، يقال: دعه يدعه دعا، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: يدع اليتيم عن حقه، أي يدفعه. * * * قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 4-7] . يجوز في قوله: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} أن يكون في موضع جر علىالنعت للمصلين، ويجوز أن يكون في موضع نصب على إضمار (أعني) ، وفي موضع رفع على إضمار (هم) . والماعون: ماعون البيت مثل: الدلو والقصعة والفأس والقداحة، وقيل: الزكاة، وقال ابو عبيدة: كل ما فيه منفعة، وأنشد: بأجود منه بما عنده إذا ما سماؤهم لم تغم وأصله: القلة، يقال: ماله سعنٌ ولا معنٌ. {ومن سورة الكوثر } * * * قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 3] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 الكوثر: الخير الكثير، وهو (فَوعَل) من الكثرة، وقيل: هو نهر في الجنة، ويروى عن عائشة - رضي الله عنها - إنها قالت: من أراد أن يسمع خرير الكوثر فليضع إصبعيه في أذنيه، وروي عنها إنها قالت: في حافتي الكوثر قباب الدر والياقوت، وروي عن ابن عمر أنه قال: يجري على الدر والياقوت، ويروى عن الحسن: أن الكوثر: القرآن، وقال عطاء هو حوض النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} ضع يديك حذو منكبيك، وقيل: ضع اليمنى على اليسرى حذاء النحر في الصلاة، وهو قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وقيل: انحر النوق في الأضحية والهدي. وقوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} أي: مبغضك، والأبتر: المنقطع عن الخير، وقيل: الذي لا عقب له، وهو قول مجاهد، ونزل في العاص بن وائل، قال: محمد لا عقب له. {ومن سورة الكافرون } * * * قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 1-2] . قال الزجاج المعنى: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} في الحال، {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} [الكافرون: 3-4] في المستقبل إذا لم تؤمنوا {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 5] في المستقبل: لأنه قد آيس من إيمانهم. قال أبو إسحاق: ..... النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعبدوا إلهه يوماُ، ويعبد إلههم يوماً، أو جمعة وجمعة، أو شهراً وشهراً، أو سنة وسنة، فأنزل الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} مجامعه {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} مشاهدة، {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} مشافهة {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] . {ومن سورة النصر } * * * قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3] . (الفاء) جواب {إِذَا} [النصر: 1] . و {تَوَّابًا} : خبر كان. ويروى أنه نعيت له نفسه. {ومن سورة أبي لهب } * * * قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 2] . تبت: خسرت، وأبو لهب: عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر بكنيته دون اسمه؛ لأنها كانت أغلب عليه، وقيل: كان اسمه عبد العزى، فكره الله تعالى أن ينسبه إلى العزى [وأنه ليس يعبد لها] ، إنما هو عبد الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 وقوله: {أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ} يجوز في {مَا} وجهان: أحدهما: أن تكون نافية، والمعنى: ما أغنى عنه ماله. والثاني: أن تكون استفهاماً، وموضعها نصب، والتقدير: أي شيء أغنى عنه ماله. * * * قوله تعالى: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: 3] . جاء في التفسير: أن (أم جميل) حمالة الحطب، كانت تحمل الشوك وتلقيه في طريق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: حمالة الحطب (نمامة) ، والأول قول ابن عباس والضحاك وابن زيد، والثاني قول عكرمة ومجاهد وقتادة. والجيد: العنق، والمسد: الليف. قال الفراء: يرتفع {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} من جهتين: أي: يصلى وامرأته نار جهنم، و {حَمَّالَةَ} صفة لها هذا وجه. والوجه الآخر: يقول: ما أغنى عنه ماله وامرأته في النار، فيكون {فِي جِيدِهَا} الرافع بها يعني: أن {امْرَأَتُهُ} مبتدأ، و {فِي جِيدِهَا} الخبر، وإن شئت جعلت {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} رافعة لها، أي: خبراً، كأنك قلت: ما أغنى ماله وامرأته هكذا. ومن نصب {حَمَّالَةَ} فعلى القطع؛ لأنها نكرة؛ الانفصال مقدر فيها، أو على الشتم والذم والوجه الأول لا يجوز عند البصريين. {ومن سورة الإخلاص } * * * قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1-2] . قال الفراء: سأل الكفار النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: ما ربك؟ أمن ذهب أم من فضة؟ ايأكل أم يشرب؟ فأنزل الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ} ، والتقدير على هذا: قُل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 الحديث الذي سألتم عنه {اللَّهُ أَحَدٌ} فـ {هُوَ} مبتدأ و {اللَّهُ} مبتدأ ثاني و {أَحَدٌ} خبر المبتدأ الثاني، والجملة خبر عن الأول، هذا مذهب البصريين. وقال الكسائي: {هُوَ} عماد حكى ذلك الفراء وخطأه فيه؛ لأنه ليس قبله ما يعتمد عليه، وهو كما قال؛ لأن العماد إنما يكون بين معرفتين لا تستغني إحداهما عن الأخرى، أو بين معرفة ونكرة تقارب المعرفة، وذلك في باب الابتداء، وباب كان، وباب (إنًّ) ، وباب الظن. * * * قوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} {اللَّهُ} مبتدأ، و {الصَّمَدُ} خبره، وقيل: {اللَّهُ} بدل من {أَحَدٌ} كأنه في التقدير: قل هو الله الصمد. واختلف في {الصَّمَدُ} : فقيل: هو السيد، وأنشد اللغويون: ألا بكر الناعي بخير بني أسد بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد وقيل: {الصَّمَدُ} الذي لا جوف له: {الصَّمَدُ} الفرد، وقيل {الصَّمَدُ} الذي لايطعم، وقيل {الصَّمَدُ} الذي لا كفء له. والأصل في: {أَحَدٌ} وحد، فأبدلوا من (الواو) (همزة) كما قالوا: امرأة أناة، والأصل وناة وقيل: أحد بمعنى أول، ولا بدل في الكلام، ومنه يقال: يوم الأحد. وقرأ أبو عمرو {أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ} بغير تنوين، حذفه لالتفاء الساكنين، رواه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 عند هارون، وروى نصر عن أبيه عن أحمد بن موسى: {أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} ، وقيل: إنه نوى الوقف لأنه رأس آية فلذلك حذف التنوين، والوجه الأول أولى، قال الشاعر: فألفيته غير مستعتب ولا ذاكر الله إلا قليلا * * * قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] ..... ويجوز في {كُفُوًا} وجهان: أحدهما: أن يكون خبراً لـ {يَكُنْ} . والثاني: أن يكون حالاً من {أَحَدٌ} .... في الأصل وصفاً فلما ..... على الحال .... . لمبة موحشا طلل يلوح كأنه خلل ويكون {لَهُ} الخبر، وهو قياس قول ..... أن تخبر النكرة عن النكرة؛ لأن فيها فائدة والفائدة في قوله {لَهُ} . {ومن سورة الفلق } * * * قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق: 1-3] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 {مَا} في موضع جر بلإضافة {شَرِّ} إليها، وفي دلالة على أن الله تعالى قد خلق الشر. وقرأ عمرو بن عبيد {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} بالتونين، لأنه كان ... أن الله لم يخلق الشر .... من وجهتين: أحدهما: أنه كان يبطل معنى الاستعاذة. والثاني: أنه يعمل ما بعد النفي فيما قبله، وهذا لا يجوز. * * * قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق: 3] . الغاسق: الليل، ووقب: دخل في كل سيء، وروي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: الغاسق: .... سمي الليل غاسقاً؛ لأنه أبرد من النهار، وأصل الغسق: البرد، ومنه قوله تعالى: {إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ: 25] . {ومن سورة الناس } * * * قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: 4-6] . الوسواس: الصوت الخفي، والوسواس: صوت الحُلي .... فإذا استغفر العبد خنس، وقيل في الوسواس ثلاثة أقوال. أحدها: أن المعنى من شر الوسوسة التي ..... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 والثاني: أن المعنى من شر ذي الوسواس وهو الشيطان. والثالث: أن يكون من الجن بياناً أن منهم .... وقوله تعالى: {النَّاسِ} معطوفاً على {الْوَسْوَاسِ} ، وقال الفراء {فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} {النَّاسِ} وقعت هاهنا على الجن والإنس، كقولك: يوسوس في صدور الناس جهنم وانسهم، وحكى عن بعض العرب قال: جاء قوم من الجن فقيل: من أنتم؟ فقالوا: أناس من الجن، والقول الأول أوجه. قيل: أمر أن يستعاذ من شر الإنس والجن. تمَّ بحمدِ اللهِ وَمَنِّهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582