الكتاب: النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام المؤلف: أحمد محمد بن علي بن محمد الكَرَجي القصَّاب (المتوفى: نحو 360هـ) تحقيق: الجزء 1: علي بن غازي التويجري الجزء 2 - 3: إبراهيم بن منصور الجنيدل الجزء 4: شايع بن عبده بن شايع الأسمري دار النشر: دار القيم - دار ابن عفان الطبعة: الأولى 1424 هـ - 2003 م عدد الأجزاء: 4   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام أبو أحمد القصاب الكتاب: النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام المؤلف: أحمد محمد بن علي بن محمد الكَرَجي القصَّاب (المتوفى: نحو 360هـ) تحقيق: الجزء 1: علي بن غازي التويجري الجزء 2 - 3: إبراهيم بن منصور الجنيدل الجزء 4: شايع بن عبده بن شايع الأسمري دار النشر: دار القيم - دار ابن عفان الطبعة: الأولى 1424 هـ - 2003 م عدد الأجزاء: 4   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الكتاب: النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام المؤلف: الإمام الحافظ / محمد بن على الكرجي القصَّاب تحقيق: د. علي بن غازي التيجري دار النشر: دار القيم ـ دار ابن عفان الطبعة الأولى 1424 هـ - 2003 م عدد الأجزاء: 4 تنبيه: [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] قام الأخ المفضال على ابن جابر - جزاه الله خيرا بتحويل الكتاب (كاملا) وقام الفقير إلى عفو الله - العلي القادر - بتصويبه وفهرسته وموافقته للمطبوع وقد تم تصويب الأجزاء الثاني والثالث والرابع ـ على نسخة حولها لي الدكتور / نافع - أكرمه الله وأثابه وجزاه خيرا - والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 المقدمة قال الشيخ الإمام العلامة أبو أحمد محمد بن علي بن محمد الفقيه الكرجي المعروف بالقصاب رضي الله عنه: هذا كتاب، نكت القرآن الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام والمنبية عن اختلاف الأنام في أصوله الدين وشرائعه، وتفصيله وجوامعه، وكل ما يحسن مقاصده، ويعظم فوائده من معنى لطيف في كل فن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 تدل عليه الآية من جليلها وغامضها، وظاهرها وعويصها، أودعتها بعون الله تعالى كتابي هذا عدة على المخالفين، وحجة على المبتدعين، إذ هي بحمد الله شافية ملخصة كافية، فمن أضرب عن اللجاج، وقصد واضح المنهاج عرف بها ما أشكل من خدع أهل التمويه، ومن يقصد اللدد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 والتشبيه، فإن أكثر من ضل منهم ضل بتركه تميز كتاب ربه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، واقتصاره على مخاريق أهل الكلام، وما وشّوه به من رائق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 النظام الذي لا يفيد محصولا، ولا يشيد معقولا أو لا يفكر أن الله قد عبد بهذا الدين قبل أن يخلق أبو الهذيل، وأتباعه والنظام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وأشياعه، وكانت حجته على عباده واضحة بكتابه. ويعولون عليه، ويدعون من خالفهم إليه متبعين فيه قوله تبارك وتعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) ، وهل يحسن بذي حجي أن يعين عقله في اتباع من يجهل عدله، ولا يفحص عن دينه بروية نظره، ويأتي الأمر من أقصد أبوابه، فيعلم أن ما لم يكشف عنه القرآن الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 جعله الله لكل شيء تبيانا لم يكشف عنه سواه. وهل كل من زخرف من المبتدعة كلاما، وعدَّ فيما ألفه من البدعة إماما إلا بشر مثله. فما باله يعول عليه، ويتهم نفسه في خلاف ما سبق إليه. قال محمد بن علي: فأول ما نبدأ به في هذا الكتاب أن نحمد الله على حسن الهداية، ونستمده بالكفاية، ونصلي على سيد المرسلين محمد، صلى الله عليه وعلى آله أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 سورة الفاتحة أقول - والله أعلم -: إن في قول: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) إضمار قل: كأنه - إن شاء الله - قال: قل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) ليكون الكلام منسقا، فيكون رفع الحمد على الحكاية. وهذا أقرب - والله أعلم - مما قاله أبو عبيد: من أن العرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 ترجع من الخبر إلى المخاطبة، وما قاله حسن غير مدفوع. والقراءة في قوله : (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) بالألف: أحسن - والله أعلم - لأن العرب لا تكاد تقول: فلان ملك كذا إلي للروحانيين من الناس، ويقولون: مالك يومه وساعته يصنع فيهما ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 أحب، ولا يقولون: ملك اليوم، والله تعالى مالك يوم القيامة، وملك من يحضره من الخلق، والملك صفة من صفات الاقتدار، منوط بالاستعلاء والسلطان والقهر، واليوم لا يقهر ولا يستعلي عليه. إنما يفعل كل هذا بالخلق من الناس، وسائر الروحانيين من أهل السموات والأرضين. وما احتج به أبو عبيد من قوله: (لمن الملك اليوم) وإن كان حسنا، فليس بدافع لما قلناه، لأن من كان له الملك ذلك اليوم جاز أن يكون مالكه، وحسن أن يوصف بملك اليوم، والملك في اليوم، ولو كان قال: لمن ملك اليوم، كان الاحتجاج به أشبه لأنه كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 يكون: الله مضافا إليه، ولا يكون ظرفا له. وإذا كان اليوم ظرفا للملك، فالاحتجاج به على تصحيح (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) الذي هو مضاف إلى اليوم يبعد وجهه، وإن كان محتملا. * * * قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) . دليل على نفي الاستطاعة، إذ الصراط المستقيم: هو دين الل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 الذي ارتضاه، وكتابه الذي أنزله، فمن لا يقدر على الوصول إليه إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 بهداية منه عديم الاستطاعة،، ويحققه قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) فصار صراطهم بنعمة ربهم، لا باشتياقهم إليه باستطاعة أنفسهم. ولو كان ذكر الهداية دالا على بيان الصراط والإيضاح لا على العودة ما كان لاختصاص النعمة بالذكر معنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 ولما كان فيهم من يمتاز عنهم بالغضب والضلال، إذ لو كانوا مستغنين بالإيضاح والبيان لهم، لاستوى الجميع في سلكه، ولما احتاجوا إلى منعم يسلك بهم بعد نعمته عليهم في البيان لهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 سورة البقرة * * * قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) إثبات القدر، ونفي الاستطاعة، وختم على نفي الإيمان عنهم. ودليل على أنهم بعد وضوح الطريق لهم بنذارة النبي - صلى الله عليه وسلم - محتاجون إلى توفيق به يؤمنون، إذ لو كان ضلالهم عن الإيمان بجهلهم بسبيله لساروا فيه بعد النذارة. وقد أزال الريب تعالى عن ذلك، وأغنى عن الإغراق وحققه بقوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ردٌّ على المرجئة: * * * وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) رد على المرجئة من جهتين: إحداهما نفي الإيمان بالقول الذي لا يكون عندهم إلا به. والأخرى: أنهم يفرقون بين الإيمان واليقين، فيزعمون أن اليقين خلاف للإيمان، حتى إنهم يتأولون قوله في سورة المدثر: (وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 أي: يزدادون يقينا، فرارا من لزوم الحجة لهم في زيادة الإيمان. وأرى الله تبارك وتعالى قد سمى الإيمان بالآخرة يقينا بقوله قبل هذه الآية: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) وعليهم فيها حجة ثالثة: من أن الإيمان ذو أجزاء، وهم لا يجعلونه إلي جزءا واحدا، ولم يقع النكير عليهم في تسميتهم الإيمان بالآخرة إيمانا إذ هو لا محالة كذلك، إنما نفاه عنهم حيث كانوا غير صادقين في قولهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 رد علي الجهمية: وفي قوله: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) رد على الجهمية. إذ قد جمع بين الخداع منهم له وللمؤمنن. وهذا هو الذي ينكرونه أشد الإنكار من أنه لا يضاف إليه ما يجوز إضافته إلى الخلق. وهو المخبر عنهم - جل وتعالى - بهذا الفعل، ومعلوم أنهم لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 يصلون إلى إرادتهم، لا أن نفس القول به منكر - والمنكر إرادة الفعل - وكيف يكون منكرا وقد قاله عز وجل، ولم يجعله إخبارا عمن نسب الفعل إليه،! رد على القدرية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وفي قوله (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) رد على القدرية والمعتزلة: إذ هم غير منكرين أن المرض المنسوب إليهم ليس مرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 الأوجاع، وأنه كناية عن كفر أو نفاق، وقد قال: (فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) كما ترى. وسمعت من يحتج عنهم، ويزعم أن المرض الأول كفر، والثاني عقوبة (1) ، كأنه قال: فزادهم عقوبة. وهذا خروج من كلام العرب، ومحيل جهة الكلام عن جهة الاستقامة، إذ الزيادة في الشيء لا تكون إلا من جنسه. ومحال أن يقال: زيدت الظلمة بالنور سوادا، وزيد النور بالظلمة ضياء. والعجب ممن يدقق الكلام، ويزعم أنه نسيج العويص، ثم يأتي بمثل هذا الذي لا يشكل على عالم ولا جاهل، مع أنه لو كان غير محال أيضا، ما جاز ترك ما يقتضيه ظاهر اللفظ من كلام الله - عز وجل - بقول البشر إذا لم يتفقوا عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وفيه أيضا دليل على أن الشيء يوضع موضع غيره إذا احتمل معناه، ويسمى به ولا يكون كذبا. خصوص في عموم: * * * قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) إثبات لإجازة الخصوص في ذكر العموم، لإحاطة العلم بأن جميع الناس لم يؤمنوا إذ أكثر من في عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمخاطبون بهذه الآية ناس في اللغة غير داخلين تحت الإيمان في الآية. وفي قوله: (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ) : دليل أيضا على أن الشيء الواحد يجوز أن يسمى به أشياء محتلفة إذ تسميته - جل وتعالى - إياهم بالسفه، وهم كفار، وتسمية غيرهم في قوله: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ) وهم مسلمون، دليل على إجازة ذلك، وزوال النكير عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وهذا هو الموضع الذي يغلط فيه الجهمية من أن الاسم إذا وقع على شيء لم يجز أن يوقع على مالا يشاكله في الصفات، فيزعمون أن الله لا يوصف بوجه ولا يدين ولا حب ولا كراهة لمشاركته المخلوق في ذلك، ولدخوله تحت التأليف والحد والإدراك، ولا يعلمون أن معنى المصنوع من وجه الخلق ويديه، والمخلوق من حبه وكراهته، وأشباه ذلك، قد باين بينه وبين خالقه الذي ذلك فيه كائن في الأول بلا أول ولا صنعة، وفي المخلوق مكون بأول وصنعة، وزائل متغير هنالك، ومنه - جل وتعالى - دائم باق، واتفاقهما بالاسم إذ اختلفا في المعنى كاتفاق الكافر والمسلم في اسم السفه، واختلافهما في المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 في قوله: (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) رد عليهم واضح لو عقلوه، لأن الاستهزاء عندهم من صفة المخلوقين، وقد أخبر الله - تعالى - عن نفسه كما ترى. في البيع والشراء: * * * قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) من جهة الفقه: أن البيع والشراء يصحان، وإن لم يوقعا بلفظهما لأنه - جل وتعالى - أفادنا في هذه الآية أن البيع والشراء اسمان موصوفان للدفع والأخذ والمبادلة، واعتياض الشيء من الشيء وأن معنى التجارة طلب الأرباح، ونماء الأموال، وغيرها من الزيادة في الخير، كقوله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 فسمى الإيمان والجهاد تجارة. وقال: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) ، وأشباه ذلك. فإذا دفع الدرهم، وأخذ السلعة، فقد تاجر كل واحد منهم صاحبه، وبايعه وشاراه، وإن لم يقل البائع: قد بعت، ولا المشتري: قد اشتريت. في الأمثال والمبالغة والرد على القدرية والمعتزلة: قولي تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) إلى قوله (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) . حجة أولا في ضرب الأمثال، ورد على القدرية والمعتزلة، وحجة في أن من أراد المبالغة في ذم شيء أو مدحه فجائز له الإفراط فيه، ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 يكون كاذبا ولا آثما لإحاطة العلم بأن من وصفه - جل وعلا - في هذه الآية بالصمم والبكم والعمى كان له سمع يسمع به، ولسان ينطق به، وعين يبصر بها، لكنه لما لم يصغ إلى مواعظ الله، واستكبر عن النطق بشهادة الحق من التوحيد، وتنكب طرق الهداية، وصفه بكل ذلك إذ زالت عنه حقيقة الانتفاع بما أريد منه. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) دليل على أن الذي في قوله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) من نعت الرب لا نعت الاسم، كما يزعم من يقول بخلق القرآن إذ لو كان كما يزعم لدلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 هذه الآية على أن للناس أربابا مع الله - جل الله - فأمرهم بعبادته دون سائر الأرباب، وإن كانت العبادة لا تصلح إلا له فإعداد غيره ردا معه من أنكر المنكر وأبين الكفر، كزعمه أنه أمره في سورة " اقرأ "، بقراءة اسمه المخلوق عنده دون غيره، وهذا هو نهاية الجهل، ومجاوزة الحد فيه لو تدبره. رد على القدرية: * * * وقوله: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) إذ قد أخبر عن نفسه بأنه يضلهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 فإن قيل: فقد قال على إثره: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ) فنسب النقض إليهم. قيل: نحن لم نزعم أن الله لما قضى عليهم نقض العهود صار فعل النقض منسوبا إليه، بل هو منسوب إلى الناقض، وزعمنا أن الإيمان بتصديقه في كل ما أنزل في كتابه لازم لنا وفرض علينا، فلما وجدناه مخبرا بإضلالهم عن نفسه، وبالنقض عنهم صدقناه في جميعها، فقلنا كما قال، وآمنا بما أنزل، ولم ننقض إحدى الآيتين بالأخرى. وكذا قولنا في كل ما كان من هذا النمط في القرآن من أن القضاء عليهم بالمعاصي والكفر منه، والفعل بهما من فاعله، والعقوبة عليه والظلم زائل عنه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) ، وأشباهها من الآيات، ولم يكن لنا في علم كيفية ذلك فائدة إذ ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 هو مما كلفناه، وهو شيء من فعله وصنعه، ولا ضرنا لحوق الحيرة بنا، إذ حجبنا عن معرفة كيفية علمه، كما هو عنده، إذ نحن عبيد لا يؤثر نقصان العلم في عبوديتنا، ولا يجوز لنا مزاحمة مالكنا في علمه بنا وصنعه فينا. وهذا هو موضع إرهاقهم، وأخذ الضيق عليهم، إذ لا يجدون محيصا من الوقوع في الكفر الصريح بتكذيبه في أحدهما، أو الرجوع إلى قولنا إن رغبوا في المحاماة على الإيمان. وهي ثلاثة أشياء: نفي الظلم عن نفسه، ونسبته إضلال القوم إليه، وإخباره بالفعل عنهم. فإن زعموا أنه صادق في إخبار الفعل عنهم، ونفي الظلم عن نفسه، كاذب في نسبة الإضلال إليه، صرحوا بالكفر، وكفونا مؤنة إثبات القضاء في الشر. وإن صدقوه في الثلاثة معا، ولم يستطيعوا غيره، قيل لهم: فماذا نقمتم من قولنا حين عرفنا بالصدق ربنا، وآمنا بالثلاثة كلها، وأقررناها أماكنها، ونسبنا إلى كل ما نسبه ولم نجاوز حده، ورغبنا إليه في المعونة على القيام بالأمر والنهي، كما تستغل العبيد المأمورون، ولم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 نزاحم ربنا في معرفة أفعاله كيف يصرفها، إذا كانت عقولنا الناقصة لا تدرك علمه التام، وقضاءه العام. أليس هذا تعقب حكمه الذي قالت: (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) ،. أوليس الفكر في ذلك، والإلحاح في معرفته، كالفكر في بدو الخالق ومنتهاه الذي مكايد الشيطان به المؤمنين ليستفزهم به، ويردهم عن دينهم بوساوسه المتلونة عليهم منه، رد على المتكلمين: في قوله تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 رد لقول من زعم أن اسم الميت لا يقع إلا على من فارق الحياة، وأن من لم يكن فيه حياة - قط - فهو موات لا ميت، وقد قال - تبارك وتعالى -: (وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ) ، ولم يقل: مواتا، وواحد الأموات ميت. وفيه أيضا رد على التكلمين فيما يزعمون: أن كل شيء ينمي ويزيد - كالشجر، والنبات، وما لا تعرف له روح ظاهرة - حي، إذ النطفة تنمي وتزيد وتحرك، والمضغة والعلقة يربوان ويكبران، وقد سمى الله - تعالى - كل ذلك ميتا كما ترى. في تثبيت خبر الواحد: وفي قوله تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) إلى قوله (وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) تثبيت خبر الواحد، إذ عجزهم عن إخبار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 خالقهم بأسامي الأشياء المثبتة له غيب السموات والأرض، وعلم كتمانهم وإبدائهم عندهم كان بإنباء آدم إياهم بها عن ربهم، وهو واحد وقوله - تعالى -: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) مخبر عن أن الجنة مخلوقة، وأن قول من قال: تخلق بعد زور وبهتان وتكذيب للقرآن. اختصار الكلام: * * * وقوله: (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) حجة في اختصار الكلام، وإشارة إلى المعنى، لإحاطة العلم بأنهما لم ينهيا عن الدنو، إنما نهيا عن أكلها، فلما لم يوصل إلى الأكل إلا بالاقتراب منها استغنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 والله أعلم - به من ذكر الأول. في قوله تعالى: (فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) دليل على أن معنى الظلم: الخلاف ووضع الشيء في غير موضعه، إذا لم يكن هناك من الظلم بأكل الشجرة، فسمي الحيف عليه ظلما غير أنفسهما، حيثما أوقعا عليه الحيف باستيجاب العقوبة التي تألم به، ووضعها إياها موضع الثواب التي تنعم به لو أطاعه في ترك أكلها. ولو قال قائل: إن الظلم وقع بالشجرة منهما، إذ قد أمر بتركها في الجنة، فصارا سببا لإخراجها واستحالتها عن حالة الطيب إلى حالة النتن - كانت اللغة محتملة له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 في معنى الحين في قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) دليل على أن الحين: يقع، على القليل والكثير من الأوقات لأنه لا محالة هاهنا العمر كله. خصوص ورد على القدرية: * * * قوله تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى) خصوص لا محالة، لأن الهدى لم يأت إبليس ولا الحية. وفيه رد على القدرية، لاستواء الجميع في المعصية، واختصاص آدم وحواء بالهداية إلى التوبة في قوله: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ) ، ولم يقل: تاب، وكانت الكلمات والتوبة معا من إنعامه على بعض العصاة دون بعض، وقد استويا في المعصية، واختلفا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 العقوبة، فأين موضع العدل الذي يدعونه بجهلهم من حيث لا يعرفونه، وقد وضع عنهم تفتيشه. دليل أن " مَنْ " تكون للواحد والجماعة: * * * وقوله: (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ) حجة في أن "من " تكون للواحد والجماعة، وهي هاهنا في موضع الجمع لقوله: (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) ، ولم يقل: عليه، وتبع، موحد - والله أعلم - لتقدمه على الأسماء المضمرة في " عليهم " أو محمول على اللفظ. ولد الولد: * * * وقوله تعالى: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) دليل على أن ولد الولد وإن أسفل، لا يزول عن اسم البنوة، إذ لا نشك أن من خوطب بهذا من بني إسرائيل أسباط أسباط إسرائيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 بدرجات كثيرة، وقد سماهم الله بنيه. وضع الشيء موضع غيره: * * * قوله تعالى: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) يعني - لا محالة - فرقنا بآبائكم، ومن أنتم نسلهم، وهم ينظرون، إذ كان من خوطب بهذا في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يشهد ذلك، ولا نظر إليه بعينه، وهذا من سعة لسان العرب، ووضعهم الشيء موضع غيره إذا فهمه السامع بالإشارة، إلى المعنى وفيه حجة للحسن البصري حيث قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 " خطبنا عتبة ابن غزوان - وا يكن لحقه ة! انما عنى أنه خطب أهل البصرة، وهو بصري - " وخطبنا ابن عباس "، ولم يحضر خطبته، لأنه كان بسجستان أيام ولي ابن عباس البصرة، فعنى أنه خطب أهل بلده، ولم يكن كاذبا في قوله وكذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 قوله: (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) أي: اتخذه آباؤكم. * * * وقوله: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) هم - لا محالة - آباؤهم ومن هم من نسله، إذ هم المصابون بالصاعقة، والمبعوثون بعد الموت، وما يحقق ذلك - وإن كان لا شك فيه - أنه قال بعد تمام الكلام وذكر المن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 والسلوى: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) فرجع إلى ذكر آبائهم، ومن كان كل ما ذكره حادثا فيهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 تكرير في كلام العرب: * * * قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) . رد على من يزعم أن العرب ليس في كلامها تكرير ولا تأكيد، وأن كل لفظة لها تقتضي معنى مفردا، وأراه تبارك وتعالى قد ذكر الركوع على الانفراد، وهو - لا محالة - داخل في الصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 معنى الظن: في قوله: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) . دليل على أن الظن من الأضداد: يكون بمعنى اليقين والشك، وهو هاهنا يقين لأنه مدح للخاشعين. والقراءة في قوله: (إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا) برفع الهاء على الفعل المستقبل أحسن منها بفتحها على الماضي، إذ لو كان كذلك لكان - والله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 أعلم - تشابهت بالتاء لتقدم الاسم عليها. وإن كان فتحها على أن تحمل الفعل على لفظ البقر جائزا، فرفعها أحسن لما ذكرنا، ثم لا يضرك ثقلت الشين أو خففتها والتثقيل أحب إلي. * * * قوله: (إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ) حجة لمن قال: إن ما كان من أوصاف المؤنث على وزن فعول فهو بغير هاء، كقولهم: امرأة صبور وشكور. * * * قوله: (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا) رده - والله أعلم - على الميت ولم يرده على النفس. * * * قوله: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) ليس بشك، لأن الله تعالى لا يشك، وكيف يشك بشيء هو خالقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وناقله من حال إلى حال ولكنه - والله أعلم - على ما تتكلم به العرب من نحو ذلك، إذ القرآن نازل بلسانهم. وكان بعض المتقدمين يزعم أن هذا وقوله: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) وأشباههما " أو " فيه بمنزلة الواو، أو بمعنى "بل"، كأنه يقول: " وأشد قسوة " " ويزيدون " وما قلناه أحب إلي وكلاهما حسن، وأحسن منهما معنى أن تكون كالحجارة، تنبيها لهم بما يعرفون من قسوة الحجر، ويكون (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) بما يعرفه الله دونهم والله تعالى أعلم به. * * * قوله: (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ) دليل على أن ألفاظ العباد بالقرآن غير مخلوقة، لأنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 - لا محالة - كانوا يسمعون من غيره، وقد أضافه إلى نفسه،. * * * قوله: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فالظن بمعنى الشك، وقد صح التضاد فيه لشهادة القرآن بكلا المعنين. فإن قيل: فما وجه ذمهم بالأمية، والأمية من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل: لم يذمهم بها، لأنها مذمومة في نفسها، بل فيها ظهور أمارة النبوة له، أن يكون وعى الوحي كله بما أيد من الحفظ وعصم من النسيان بقوله: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) وهو أمي. وفيه أيضا دليل على ما قلناه: إن الشيئين قد يتفقان في الاسم، ويختلفان في المعنى، ولو كان كل صفة تكون في غير نبي لا يجوز أن تكون في نبي، لما جاز أن يكون في البشرية نبي، إذ هم مساوون لهم في الأكل والشرب والنوم والجماع، وسائر أوصاف البشر، ألا ترى أن الله تبارك وتعالى ذم الكفار حيث أنكروا بعثه رسولا فيه بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 صفاتهم، من أكل الطعام والمشي في الأسواق فقال: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ) ثم قالت في تمام الكلام: (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) ، فأعد هذا القول منهم ضلالاً وقال في موضع آخر: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قدم كل هذا من أقاويلهم، وأنكره من أمثالهم، وأخبر بأن الرسل لا يضرهم مشاركة من شاركهم في بعض صفاتهم، إذ انفردوا بالنبوة التي لا مشاركة فيها. شرى المصاحف وبيعها: * * * قوله: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) . يؤيد قول من أجاز شرى المصاحف وبيعها: إذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 الوعيد منه جل وعلا واقع على الناسبين إليه ما اختلقوا فيه، والمدعين عليه مالم ينزله، ليسلكوا فيه بالاكتساب مسلكا للإطاحة فيه بكتب الحق التي أنزل الله، لا أن الوعيد وقع على الاكتساب دون الاختلاق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 إذ لو كان الاكتساب ببيع التوراة محرما، ما نفق اختلاقهم في وجوه مكاسبهم به. وفيه دليل: على أن الكتب المودعة أباطيل الكفر والسحر، وكل ما يخالفه الحق، لا يجوز الشرى والبيع فيها. * * * وقوله: (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) رد على المؤقتين من تلقاء أنفسهم باستحسانهم، إذ كل توقيت لا حجة فيه يعمل عليها من كتاب أو سنة أو إجماع، ادعاء مالا علم لمؤقته، ومردود عليه كرد الله على هؤلاء، وإبطال قولهم فيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 ادعوه من مس النار لهم أياما معدودة، وأرادوا بالأيام المعدودة: الأيام التي اتخذوا فيها العجل وهي أربعون يوما. * * * قوله: (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) ينبئ أن الخطيئة هاهنا: الشرك، لقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فدل على أن الكاسب السيئة والمحاط به لم يؤمن، وإذا كان كذلك لم يكن للمعتزلة متعلق بقوله: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) . لأن السيئات هاهنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 - والله أعلم - أنواع الكفر. وليس في قوله: (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) ما يدل على أن أصحاب السيئات لم يكونوا كفارا، لأن معناه - والله أعلم - أن من قال هذا القول منهم عند الموت، فيوشك، ولم يقل: " له عذاب أليم ". * * * قوله: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 دليل واضح على أن القرآن غير مخلوق، وأن التوراة غير مخلوقة، وأنه ليس بحكاية، قد جمع كل هذا الإضافة إياه إلى الله، وهم لم يسمعوه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلو لم يكن القرآن بجميع جهاته غير مخلوق لقال - والله أعلم -: حتى يسمع مثل كلام الله أو حكاية كلام الله، أو قراءة كلام الله، فلما قال: كلام الله، أبطل كل ذلك، فمن ادعى شيئا منه خالف الله تعالى، وكان قوله مردودا. ومثله: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ) . وقال إخبارا عن الوليد بن المغيرة: (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 فرد عليه ما قال: إنه قول البشر، فلا يكون قول بشر على شيء من الأحوال. والوليد لم يسمعه إلا من رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - أو من أصحابه، وكلهم بشر وألسنتهم ألسنة البشر، وهو بين. فإن احتج محتج بقوله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) ، قيل: لا يجوز أن ينفى على البشر، ويثبت للملك، لأن الملك تلفظ فيه كما تلفظ البشر به. فإذا نفاه عن البشر كان عن الملك أيضا منفيا، وإذا كان ذلك كذلك لم يكن وجهه - والله أعلم - إلا أنه قول جاء به الرسول الكريم من عند الله، وهو قوله الله لا قوله، فأضيف إليه على معنى أنه الآتي به، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وهذا مثل قوله (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) . وأضيف الإهلاك والإنجاء إليهم، وإنما هو المهلك والمنجي، ولكنه لما كانوا هم الجايئين به من عنده بهذا الإهلاك والإنجاء - أضيف إليهم. وقال الله لمريم: (أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ) . والله هو الواهب لا محالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وكقوله في عيسى عليه السلام: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ) والله الخالق على الحقيقة، كذلك (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وهو قول الله على الحقيقة، وأضيف إلى الرسول المجيء به. تسمية الشيء باسم الغير إذا كان منه بسبيل * * * قوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ) . حجة: لمن يسمي الشيء باسم غيره إذا كان منه بسبيل، إذ الأنفس في هذا الموضع أهل دينهم لا ذات أنفسهم، لأنهم جنس واحدة يتولد بعضهم من بعض، يبين ذلك قوله (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 فلو كان المراد بهذا الخطاب ذات أنفسهم لم يكن في إخراج غيرهم ما ينقض ميثاقهم المأخوذ عليهم في ترك إخراج أنفسهم. الرد على المرجئة: * * * قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ) رد على المرجئة، إذ المتمسكون بدين موسى - صلى الله عليه وسلم - قبل إنزال الفرقان كانوا مستكملي الإيمان عندهم. وقد سماهم الله تبارك وتعالى بترك الإيمان بالقرآن، والاقتصار على الإيمان بالتوراة - كفارا. وليس يخلو ما دعوا إليه من الإيمان بالقرآن، من أن يكون عند المرجئة مضافا إلى أصل الإيمان، أو معدوما في عداد الشرائع، فإن كان مضافا إلى أصل الإيمان فهو نقض لقولهم فيما أنكروه من تخزية ونفي الزيادة فيه. وإن كان سلوكا به سبل الشرائع فهم لا يسمون شيئا من الشرائع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 إيمانا وقد سماه الله تعالى في هذه الآية، إيمانا، ولا يسمون تارك شريعة كافرا، وقد سمى الله من لا يؤمن بالقرآن في هذه الآية كافرا. حجة على الجهمية: * * * قوله تعالى: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) إلى قوله (فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) حجة على الجهمية والمعتزلة: لوصفه نفسه بعداوة من يعاديه، وملائكته ورسله، من الكفار، وهذا هو الذي ينكرونه أشد الإنكار. الرد علي القدرية: * * * قوله: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) مثبت مقالتنا في الرد على القدرية، لإضافة فعل التفرقة بالسحر إليهم ونفي ضرهم به إلا بإذنه، كقولنا: إن فعل المعصية منسوب إلى العبد وقضاءها إلى الرب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 فمن آمن بالتفرقة وكفر بالإذن كفانا مؤنة الاشتغال به ومن آمن بهما رجع إلى قولنا فيه. في التوفيق * * * وقوله: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) . دليل واضح لمن تدبره أن حرمان التوفيق أقعدهم عن الإيمان لما حسدوا عليه غيرهم وتبين لهم حقيقته، إذ محال أن يحسدوا غيرهم على ما هو باطل عندهم وفي أيديهم بزعمهم ما هو خير منه. هذا ما لا يذهب على مميز، إذ لو كانوا قادرين على أنفسهم أن يخرجوا إلى ما عرفوه من الحق في أيدي غيرهم لاستغنوا بالتعجيل إليه عن مقاساة الحسد الذي لا يحصل إلا على التحسر ومضض الغيظ. والذي يجوز لنا أن نتكلم فيه، ولا نرهب أن يكون مزاحمة في علمه، ولا نقضا لكتابه وجحودا بوحيه - أن التوفيق ليس بحق لهم عند الله فيكون ظالما لهم بمنعه عنهم، بل هو تفضل ينعم به على من يشاء ويحجبه عمن يشاء، والقرآن يشهد لنا بذلك في غير موضع في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 هذه السورة، وفي سورة آل عمران في قوله: (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ) فلا يجوز لنا أن نقول في إضلال من أضل أكثر من التسليم له، والإيمان بما أنزل في كتابه وتصديقه بما لا نعرف حقيقة علمه كما عرفنا حقيقة علم التوفيق كيف حجب عن غير أهله، وهذا الذي يتصور في عقول القدرية من أن إضلالهم والقضاء عليهم بما أمروا خلافه ثم يعاقبون عليه - ظلم توسوس به اللعين إليهم وإلينا. لكن نقول: إن علمنا بعداوته إلينا يحول بيننا وبين أن نعمل عليه وتكذيبنا بالقرآن إن قلنا بمقالتهم يورطنا فيما هو أعظم من تصور ما لا يضرنا جهله في عقولنا، إذ ليس هو بأمر ولا نهي نحتاج إلى معرفتهما لندين الله بهما، والذي نحتاج إليه في أصل إيماننا بالخالق هو: علمنا بأنه عادل في جميع جهاته، غير جائز على أحد من خلقه، والمتصور في عقولنا من ذلك ليس بمحيل إمكانه في عدله بل عقولنا لنقصانها إذ هي مخلوقة، ونحن مخلوقون - تعجز عن إدراك علم الخالق المنزه عن النقصان، ولو جاز لنا أن نرد مالا تحمله عقولنا، ولا تتسع له صدورنا، ولا نسلم فيه للقرآن ولما جاء رسول الله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 صلى الله عليه وسلم، به من البيان - لسلكنا بأنفسنا طريق السدى ومن لا يؤمر ولا ينهى، ولكان الرسول غير مبعوث إلينا والتنزيل غير نازل فينا، وهذا خروج من الإسلام، بل خروج من العبودية وجحود بالربوبية. وهل يجوز لعاقل أن يعد تعظيم ربه في خلاف كتابه والمزاحمة في علمه، وقد دللنا في غير موضع من كتابنا على أن الله - جل وتعالى - قد أنزل في كتابه ما أخبر به عن إضلال من نسب ضلاله إليه، ووصف نفسه بضد الجور وأنه لا يظلم أحدا مثقال ذرة، فإن كان القوم يعدون تعظيمه في تكذيبه فنحن نعده في تصديقه. بل نعد تكذيبه - جل جلاله - من الكفر الصريح الذي لا التباس فيه. وإن قالوا: لا نكذبه ولكن هذا مزيد في كتابه ولم ينزله الله على نبيه - هدموا الإسلام، وخرجوا من قول الجماعة، متبعهم ومبتدعهم، إذ إطلاقهم موجود على أن جميع ما حواه الدفتان نازل من عند الرحمن. ويقال للقدري: إن كنت نفيت هذا عنه - جل وتعالى - وأعددته تنزيها من أجل أنه متصور عندك بضد العدل، وأنك غير واصل إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 العلة التي تسلك به سبيل الحق الدال على العدل من حيث يقبله عقلك، ولا تشمئز منه نفسك، فما العلة التي أوجبت عندك غسل جميع الجسد من خروج النطفة، ولم توجبه من خروج النجو، والنجو أنجس وأنتن منها. وما الذي أوجب أن يكون الفجر ركعتين، والظهر أربعا، والمغرب ثلاثا، وما الذي أوجب أن تترك المغرب والفجر في السفر على حالهما، وأبيحت الحطيطة في غيرهما وما الذي سوى بين دية الطفل الرضيع والشيخ الكبير، وأشباه هذا مما يطول الكتاب بذكره. وما العلة في خلق كافر سوي بصير ومؤمن زمن أعمى، وعبد مخول، وملك مقتدر، وبهائم خلقت لأكل العتاة وركوب العصاة، ومتصور هذا كله عندك بصورة العدل وانتظام الحكم، وقضاء المعاصي وحده بصورة الجور، أم جميعه متصور في عقلك بصورة واحدة فتدخله تحت جحودك وإنكارك، وتقول: إن كل ما ظهرت فيه أمارات الجور بتمييز عقلك الناقص وبخبرتك الضعيفة، نزهت عنه ربك وكابرت عليه خصمك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 ولم تضع نفسك موضع العبيد الذين لا يشاقون الله في الأحكام بما يتصور لهم في الأوهام، ويعلمون أن كل ما أمر ونهى وختم وقضى حق وعدل منتظم فصل، عرفوه أم لم يعرفوه، والإيمان به واجب، واستعماله لازم من غير فكر في كيفيته ولا اشمئزاز في تلونه، معولين فيه على قوله (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) . دعوى: وفي قوله: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) دليل على أن كل مدعي دعوى، محتاج إلى تثبيتها وإقامة البرهان عليها، ثم لا يقبل ذلك البرهان، إلا أن يكون مأخوذا عن الله - جل وتعالى - لقوله في الآية التي قبل هذه حيث ادعى القوم أن لا تمسهم النار إلا أياما معدوة: (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) . فلم يصحح لهم دعواهم إلا بعهد لهم يكون عنده، أو ضمان يسبق منه لهم، ليكون الارتياب زايله عن صحتها ومحققا لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وفي قوله: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) دليل على أن " كل " يخبر بها عن الجميع وعن الواحد، فأما الجميع هاهنا فعلى المعنى، وأما التوحيد فعلى اللفظ والجنس. قال الله - جل وعلا - في سورة بني إسرائيل: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) فوحد"يعمل ". تطهير: وفي قوله: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) من جهة الفقه أن ذكر التطهير ليس بدال على النجاسة في كل موضع، إذ نحن على يقين من أن البيت لم يكن نجسا بنجاسة القذر فأمر بتطهيره منه، وكذلك أمره الجنب بالتطهر في قوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا) ليس بدال على إزالة قذر، إذ الجنب بخروج النطفة منه لا ينجس نجاسة الأقذار، ولا المحدث بخروج البول والغائط منه ينجس، وإنما يطهر أعضاء وضوئه، والجنب جميع بدنه استعبادا لا تطهير قذر، فليس لاعتلال من اعتل، واستدل على نجاسة الكلاب بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 " طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبع مرات " معنى يعول عليه ويوجب أن يكون ذكر الطهور دالا على إزالة قذر حادث في الإناء بولوغ الكلب فيه، ونحن لا ننكر أن حكم التطهير واقع على إزالة الأقذار أيضا، ولكنا نزعم أنا إذا أمرنا بتطهير شيء أصله طاهر قبل الحدث عليه فهو تطهير تعبد، لا تطهير إزالة نجس الأقذار، وإذا أمرنا بتطهير شيء أصله نجس فهو تطهير ذلك النجس. فلم نعرف البيت ولا بدن المؤمن ولا الإناء قبل ولوغ الكلب فيه ولا الكلب نجسا، فحكمنا على الأمر بتطهيرها أنه تطهير تعبد لا تطهير إزالة شيء، وحكمنا على تطهير الأرض من البول أنه تطهيرها من إزالة نجاسة البول، لإحاطة علمنا بأن البول لا محالة نجس بنجاسة الأقذار، ونزعم مع ذلك أن النجاسة نجاستان: فإحداهما نجاسة ذات، والأخرى نجاسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 فعل فما كان من نجاسة الذات لم يطهر إلا بالماء لإزالة عينه به. وما كان من نجاسة فعل فطهارته تركه. وهذا مشروح في كتابنا المؤلف في الطهارة. وما أمر به إبراهيم وإسماعيل - صلى الله عليهما وسلم - من تطهير فهو من نجاسة فعل المشركين وإحضار أصنامهم فيه وحوله، فأمر - والله أعلم - بإبعادها عنه وتطهيره بالصلاة والذكر. ردٌّ على المرجئة: قوله إخبارا عن إبراهيم وإسماعيل - صلى الله عليهما وسلم -: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) رد على المرجئة فيما يزعمون أن الاستثناء في الإيمان شك فيه. أفتري إبراهيم وإسماعيل عندهم كانا شاكين في إسلامهما حيث دعوا ربهما أن يجعلهما مسلمين وهما مسلمان، أم لم يكونا أسلما عندهم قبل الدعاء فدعوا أن يرزقاه، أو لا يعتبرون - ويحهم - أنهما كانا لا محالة مسلمين، ومع الإسلام نبيين، فرغبا أن يزاد في إسلامهما الذي لا نهاية لفضايله وزيادة الخشية في إقامة فرائضه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وقد دللنا على أن العمل يسمى إيمانا كتسمية القول والتصديق. وأن الإيمان والإسلام يجمعهما اسم وإن فرق بهما غيره في كتابنا المجرد في وصفه وشرح زيادته ونقصه. ولو لم يكن من الدليل على أن دعاءهما للازدياد إلا إشراك من لم يكن مخلوقا من ذريتهما فيه عند دعوتهما - لكان قد أزال كل ريب فيه ولبسة تحول بين الوصول إليه. فأي المعنيين اعترفوا به من هذين لزمتهم به الحجة: إن أثبتوا كمال الإسلام لهما قبل الدعاء انتقل عليهم قولهم في إنكار الاستثناء. وإن زعموا أنهما لم يكونا كاملي نهايته انتقض عليهم في إنكار الزيادة فيه، ولا سبيل إلى ثالث إلا ما ألزمناهم من نفي جميعه عنهما قبل المسألة. وهذا كفر بعينه لم يلتزموه لفظاعة توهمه فكيف تقلده، ومسألتهما التوبة في مكانهما من الله واستغفار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في جلالته إذ يقول: " إنه ليغان على قلبي، وإني لأتوب إلى الله في اليوم مائة مرة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 تحذير لنا شديد كيف يكونوا مع الله - جل جلاله - بهذه المنزلة مع طهارتهم وتلوثنا. معاني الملة والإسلام والدين والشريعة والصراط: وفي قوله: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) أبين البيان أن الملة والإيمان والإسلام، والدين والشريعة والصراط والمنهاج أسامي تجمع المرتضى من دين الله الذي اختاره لنفسه ودعا إليه عباده، وينوب بعضها عن بعض، ويقع على أجزائه التي لا يستغني بعضها عن بعض. ألا تراه - جل ثناؤه - كيف بدأ الآية بذكر الملة ثم أخبر أنها الإسلام والإسلام منها بقوله: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) ثم قال: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ) - أي بالملة والله أعلم لرجوع الهاء عليها - (إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ) فسماها نبياه مخبرين عنه شيئا بعدما سماها إسلاما، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 ثم سمياه إسلاما بعدما سمياه شيئا بقوله: (فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) وقال عز وجل في سورة الحج: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) فجمع بين الدين والله والإسلام في آية واحدة. وقال في سورة المائدة: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) وقال في سورة الأنعام: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ) . وفي سورة عسق: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ) . وقال في غير موضع: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا) ثم أخبر عن هذا كله باسمين وجمعه فيهما، فقال في سورة آل عمران: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) . وقال في سورة المائدة: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين سأله جبريل - عليه السلام - قال له: الإيمان كذا، والإسلام كذا وكذا سمى له جزءا جزءا باسمه على التفصيل الذي ينوب عن جميعه واحد بعينه. وأكبر غلط القوم في ذلك، وما لبس عليهم جهلهم بأجزاء الإيمان وتصوره عندهم في صورة جزء واحد. ولولا أن هذا الكتاب مقتصر به على النكت غير مقصود به الإتيان على نهاية التلخيص، لشرحناه بأكثر من هذا الشرح وذكرنا جميع الآيات الدالة على تسمية العمل إيمانا وسنلوح منها على تأليف السور في أماكنها جملا يستغني بها الغائص على النكت عن إطالة شرحنا - في كتابنا المجرد فيه إن شاء الله. * * * قوله: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) . حجة في تسمية العم والجد أبا كتسمية الأب، لأن إسماعيل عم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 يعقوب وإبراهيم جده وإسحاق أباه، فسموا كلهم آباء. وفيه حجة لمن يزعم أن العم يزوج صغار بنات أخيه لوقوع اسم الأب عليه. فإن قيل: فلعله إنما سمى إسماعيل في هذه الآية إما لاقترانه مع الأب والجد اللذين اسم الأبوة شامل لهما بكل حال، كما سميت الأم إذا اقترنت مع الأب، فقيل: أبوان، وكما يقال: الأسودان، وعدل العمرين، وأشباه ذلك، ولو انفرد لم يسم بغير العم، كما لا تسمى الأم إذا انفردت أبا، والماء إذا انفرد أسود، وأبو بكر إذا انفرد عمر. قيل: لا نعلم هذا واردا في السريانية، كما نعرفه في العربية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 والله - جل وتعالى - وإن كان مخبرا عنهما بالعربية، فإنما يخبر عنهم ما قالوا، ولم يبلغنا أن في لسانهم هذا النمط من الاقتران، وهذا وإن كان هكذا، فليس بحجة شافية في تزويج العم صغار ولد الأخ، لأن أكثر ما في ذلك جواز تسمية العم باسم الأب، وإعداده صدقا غير كذب. والتزويج باب آخر يحتاج معه، إلى شرط آخر مع التسمية، كما يحتاج الأب الأدنى الكافر في المسلمة إلى شرط الإسلام، والأخ الصغير إلى شرط البلوغ، ويحتاج العم المسمى باسم الأب ليجري مجراه إلى شرط الأدنى في التزويج، ولو كان بوقوع اسم الأب عليه يجرى مجراه بكل حال، جاز أن تحجب به الإخوة من قبل الأب والأم، أو الأب في الميراث، كما يحجبان بالأب، ولا خلاف بين المسلمين أنهما يحجبانه ولا يحجبهما. وحرم على ابن أخيه ما نكح من النساء، لأنها امرأة أبيه. وحرم عليه ما نكحه بنو أخيه لأنهن حلائل بنيه. وهذا لا يقوله بشر نعلمه، فليس للإباحة له تزويج صغار ولد أخيه - بوقوع اسم الأب عليه وحده من بين هذه الأشياء - وجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 في الشهادات: * * * قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) دليل على أن: العلم شهادة يجوز إقامتها، وإن لم يكن الشهود قد أدركوا المشهود عليه، ألا ترى الله - جل جلاله - كيف جعل هذه الأمة شهودا على قوم نوح.؟ ولم يدركوهم ليسمعوا قولهم، فتقبل شهادتهم عليهم يوم القيامة إذا جحدوا رسالة نوح بما استيقنوا علمه من كتاب الله، (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) مع جميع ما قص عليهم من أخباره معهم. وكذا روى أبو أسامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت، فيقول: يا رب نعم، فيقال لقومه: هل بلغكم، فيقولون: ما جاءنا من نذير. فيقال له: من يشهد لك، فيقول: محمد - صلي الله عليه وسلم - وأمته، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فيجاء بكم، فتشهدون " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وفيه أيضا: دليل على أن شهادة المسلم على سائر الملل جائزة، كان معروفا بالعدالة في المسلمين أو غير معروف، لأن الله جل وتعالى عدل هذه الأمة عليهم عدالة عامة، فإذا أقام الشهادة على أهل دينه لم يقبل إلا أن يكون عدلا فيهم، لاشتراط الله تبارك وتعالى فيه شرطا آخر في قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) فاشترط فيها عدالة ثانية سوى حظه في قوله: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) أي عدلاً وفي تسميته تبارك وتعالى: من كان على غير دين الإسلام ناسا في قوله: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) وفي غير موضع في كتابه - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 دليل: على أن من كان على دين الإسلام تاركا لكثير من أخلاق أهله بذنوب يقترفها على نفسه - أحرى أن لا يزول عنه اسم الناس، وأن الخبر المروي عن أبي هريرة - حيث يقول: " ذهب الناس وبقي النسناس " - تعريضا بالمخلطين، واهي الإسناد، لأن ابن جريج مدلس ولم يذكر سماعه من ابن أبي مليكة، ورواه عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 ابن جريج الثورى وهو مدلس (2) . فإن قيل: كيف يعدل، من لا يعرف بالعدالة على غير دين الإسلام، والحاكم لا يعرف من صدقه ولا أمارة عدله ما يعرفه الله منه يوم يشهد على قوم نوح. قيل: قد عدلهم تعديلا عاما في الظاهر، ولم يخبر عن الاقتصار بهم على ذلك الموضع وحده بشيء يسلم له. فإن قيل: فلعلها تقبل من أجل - محمد - صلى الله عليه وسلم - معهم وهو عدل لا شك فيه - كسره عليه امتناعه من قبول شهادة غير عدل مع عدل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 رد علي المرجئة: * * * قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) رد على المرجئة: لتسمية الله الصلاة نفسها إيمانا، ألا تراه قال في ابتداء الآية: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) . فلما صرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القبلة التي كان عليها وهي: قبلة بيت المقدس إلى الكعبة - قالوا: يا رسول الله، أرأيت الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس، فأنزل الله (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) أي إيمان من مات منكم على تلك القبلة والله أعلم. وهذا كما تقدم من قوله: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 أي: من أنتم من نسلهم. (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) حجة لن يرى السعي بينهما غير مفروض، وذلك أن الأنصار كانوا في جاهليتهم يتحرجون الطواف بينهما، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية، وأعلمهم أن التحرج من شعائره خطأ، والعمل به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 تطوع خير، والتطوع لا يكون فريضة، فإن زعم زاعم: أن (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا) استئناف شيء غيره لا إخبار عن الطواف بهما جعله مجهولا. وأولى المعاني به - والله أعلم - أن يكون إخبارا عن الطواف، كما قال - جل وتعالى -: في كفارة العاجز عن صوم شهر رمضان: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) ، أي زاد على مسكين، فكان تطوع هذه الزيادة لا محالة غير مفترض، إذا كان إطعام مسكين واحد مجزيا، وكان الطواف بالبيت مجزيا عن، السعي بين الصفا والمروة فصار السعي تطوعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 غير أنا نقول: من التطوع المؤكد الذي لا نبيح تركه؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنه. * * * وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُو ا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) . دليل: على أن التوبة من الذنوب على وجهين: فما كان من ذنب يمكن تلافي التفريط فيه في المستقبل لم تصح حتى يصلح في المستقبل ما أفسد في الماضي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 ألا تراه - عز وجل - كيف اشترط إصلاح ما أفسد بكتمان البينات والهدى، وبيانه للناس بعدما كتموا، وقالت (فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) ، ولوندموا على الكتمان، ولم يصلحوه في المستقبل بالبيان ما نفعتهم التوبة، إذ ندمهم على فعل يستطيعونه بعد الندم، ويقدرون أن يوصلوا منفعته إلى المكتومين عنهم لا ينفعهم، وهو كالمداجاة (1) والله - جل جلاله - لا مداجاة معه. وما كان من شيء لا يمكن رده، فالندم كاف منه كمواقعة الزنا، وشرب الخمر وأشباههما إذا فات لا يمكن تلافيه بالرد، فأكثر ما فيه الإضمار على ترك المعاودة، وهذا ليس برد. حجة خانقة علي المرجئة". * * * قوله: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) إلى قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) حجة خانقة   (1) المداجاة هي: المداراة في الأمر والمساترة فيه، مأخوذ من داجي الرجل مداجاة إذا ساتره بالعداوة. انظر لسان العرب (14/ 249) مادة دجا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 للمرجئة جدا، لأنه - جل وتعالى - لم يثبت لهم الصدق إلا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وغيرهما من الأعمال التي ذكرها معهما، وهم لا يخالفون أن من لم يكن صادقا كان إيمانه غير ثابت له. * * * قوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) حجة لمن قال: الوصية لمن كان غير وارث من الأقربين باقية، لأن آي المواريث إن كانت نسخت وصية الوارثين فلم تنسخ وصية غيرهم، ومن اعتل بإبطال الوصية لهم بحديث عمران ابن حصين في العبيد فقد أغفل كل الإغفال، وناقض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 نفسه كل النقض، إذ من أصله أن السنة لا تنسخ القرآن، فنسخ بتوهم في حديث عمران لا بنص فيها. فإن قال قائل: لم يجعله نسخا بل جعله بيانا: قيل: البيان يكون تفسير جملة أو تفصيل مبهم، فأما إزالة الشيء وإبطال حكمه فهو النسخ بعينه. ومن إغفاله في ذلك أنه أنزل عتق العبيد في المرض منزلة الوصية وهو وغيره يرون الرجوع في الوصية، وتغييرها قبل حلول الموت بالموصي فهل يجيز - ليت شعري - الرجوع في عتق العبيد المعتقل في المرض فيخرج من قول الأمة. ودعواه في أن عبيد المعتق عجم للقرابة بينهم وبين معتقهم لو صح تأويله في الوصية ما قبلت، إذ هي حكم على شيئين على عجمهم - وقد يجوز أن يكون الأعجمي قرابة للعربي - وعلى نفي القرابة بكل حال، وهذا لا يقبل إلا بخبر لا بتوهم، وهو موضوع بشرحه في كتاب الوصايا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 في الجهاد. وفي قوله: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) دليل: على أن المريض يلحقه من رخصة الجمع بين الصلاتين ما يلحق بالمسافر، لأن الله قد جمع بينهما في رخصة الإفطار. * * * قوله: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) دليل على تحريم قتل الصبي من أولادهم، والمرأة إذا لم تقاتل. ولو جعله محتج حجة في منع قتل الرهبان وأصحاب الصوامع الكافين عن قتالنا، وجد إن شاء الله مساغا، وهو موضوع بشرحه في كتاب الجهاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وقوله (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ) يؤكد قول من أجاز الزيادة في البيان بلا لبسة إذ لا يمكنه في كاملة يمكنه في تسمية الثلاثة والسبعة بالعشرة. ولقد بلغني عن بعض المعنفين أنه قال في (كاملة) : ليست بتأكيد، إنما أراد أن صيام العشرة الأيام للمتمتع كاملة حجة. فهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 القول لو عري من الخطأ في الدعوى، لم يعر منه في اللغة، إذ لو كان كذلك لكان عشرة مكملة لا كاملة، يقال: أكملت له كذا فأنا مكمل، ولا يقال: كملته فأنا كامل، قال الله جل وتعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ولم يقل: كملت. حجة على الجهمية: * * * قوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ) حجة على الجهمية واضحة فيما ينكرون من الحركة والنزول إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 سماء الدنيا وأشباه ذلك. * * * قوله: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) إلى قوله (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) . حجة على القدرية والمعتزلة في خصلتين: إحداهما: أنه جعل إنزال كتابه الحاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه لا معقولهم فمن اقتصر منهم على معقوله وجعله حاكما بينه وبين خصمه، علمنا أن حكمه غير نافذ، إذ جعل الله له وجها وهو كتابه فأتاه من غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 والأخرى: قوله (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) والإذن لا يخلو من أن يكون راجعا على الاختلاف، أو على الهدى، وعلى أيهما رجع فهو حجة عليهم لا محالة، لأنهم ينكرون إذنه في الاختلاف بكل حال، وينكرونه في الهدى خوفا من لزومهم في الضلالة حتى إنهم ليجعلون الإذن هاهنا وفي قوله: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) بمعنى العلم، وهذا لو لم يكن مستحيلا في اللغة أيضا، ثم أزيل به لفظ الإذن إلى لفظ العلم لكان غير مقبول إلا من منزله أو رسوله أو جماعة الأمة وكيف وكسر الألف يبطل تأويلهم في جميع اللغات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 في القياس والتقليد وفي إنزاله - جل وتعالى - الكتاب حاكما بيننا في اختلافنا حجة لنا في باب الفقه في إبطاله التقليد والقياس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 والاستحسان إذ ليس شىء من ذلك مسمى بالكتاب والمحتج منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 على تثبيتها متأول لا متبع نص، ولو قبلنا تأويله في تثبيت ما ننكره بمثله لقبلنا منه نفس ما تأول له بجنسه. في إتيان المرأة في دبرها: * * * قوله: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 دليل على أن المرأة لا توطأ إلي حيث تكون حرثا، والحرث ما ينبت. وفي قوله (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) كالدليل على أن الآتي في دبرها - والدبر ليس بحرث - عادٍ لا محالة. والاستدلال بهذا أحسن من الاستدلال بأذى الحيض والجمع بينه وبين الغائط لأن ذلك قياس، وما استدللنا به نص. أيمان: * * * وقوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 دليل على أن اليمين بالله تجتنب على كل حال - بر فيها الحالف أم فجر وكان الربيع بن أنس يقول: في قوله: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) كان الرجل يحلف ألا يصل رحمه، ولا يصلح بين الناس كأنه يذهب - والله أعلم - إلى أن في (تَبَرُّوا) ضمير لا كأنه قال: لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن لا تبروا، ولا تتقوا، ولا تصلحوا بين الناس. فنهوا أن يجعلوا أيمانهم بالله سببا لترك ذلك - والله أعلم - أي ذلك هو. نفقة: وقوله تعالى (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) حجة في إيجاب نفقة صغار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الأولاد. وليس هو عندي كذلك، إذ الرزق والكسوة واجب لهن بالزوجية قبل ولادتهن، وقبل حاجة الزوج إلى من ترضع أولاده منهن، فلا وجه لاعتبار نفقة الصغار بهذا، ولو كان متخوفا من هذا الموضع، ما كان على الأزواج نفقة الزوجات قبل أن يلدن، وهذا لا يقوله بشر، ولا أعلم أحدا جعل للزوجة أجرة على الرضاع مضافة إلى نفقة الزوجية ولا ذكرها الله إلا للوالدات المطلقات إذا أرضعن بعد الطلاق، قال الله تبارك وتعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) فلم يذكر أجرة، ثم قال في سياق الكلام: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 فلم يذكر أجرة الرضاع إلا بعد الفصال وكذا قال في سورة الطلاق في الوالدات المطلقات: (وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) فأخذ نفقة الصغار بإعطاء الوالدة أجرة الرضاع بعد انقطاع نفقة الزوجية بالطلاق - وعلمنا أن الواصل "إليها من الأجرة لا محالة بسبب الرضاع لا بسبب الزوجية أشبه، والله أعلم. ويحتمل أن يكون الفصال فصال المولود عن الرضاع قبل سنتين برضا الزوجة فإن كان كذلك، فالاسترضاع في هذا الموضع من الأجنبيات، لأمن الوالدات، والمعول فيما نكتنا على الآية في سورة الطلاق. * * * وقوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) دليل: من جهة الإعراب أن الليالي غلبت على الأيام في العدة لقوله: " وَعَشْرًا) " ولم يقل: " وعشرة " ولا نعلم المؤنث غالبا على المذكر في شيء من الأمكنة إلي الليالي على الأيام. في الإيلاء * * * قوله: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 حجة لمن يقف المولي ويجعل عزيمة الطلاق باللسان لا بالإضمار إذ لابد للفظها من أن تفيد شيئا على تخريج كلا المذهبي. فنقول إن الطلاق لزمه بعد الأربعة الأشهر لعزمه عليه في الأربعة لولا ذلك لفاء وخرج من حكمه قبل انصرامها في قول من يوقعه. وفي قول من يوقفه يجعل العزم بالنطق بعد الأربعة أمدا مضروبا لا سبيل عليه فيه، وحكم الطلاق حادث بعده، وهو بالعزم، فلا عزم حينئذ إلا النطق بالطلاق الذي به يقع في جميع الأماكن ولا يقع بالإضمار الخلو من الإظهار شيء، ويؤكده ما ذكرناه من قوله: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) إذ هو لا محالة بالنطق الذي ينعقد به النكاح لإباحته له الإكنان في نفسه - قبل خلو الأجل من عدتها - ما يريد فعله بعد العدة وإزالته الجناح عنه به (7) ، ويالتعريض معا بما نهى عن النطق به حينئذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 مصرحا، فلم يوجب الإكنان عليه عقدا، ولا التعريض به حكما إلى أن جاء العزم بعد العدة على النكاح بالنطق، ولو كان العزم بالإضمار كما يكون بالإظهار لحرم الإكنان كما يحرم العقد. والعزم إن كان مقتضبا معنى الإضمار في بعض الأحوال، فهي كلمة منوطة بإمضاء الشيء وقطعها أي. وذلك غير بين إلا بالكلام الذي يكون فصلاً في الذي بيده عقدة النكاح: وقوله (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) دليل على أن الذي بيده عقدة النكاح الزوج، لأن لكل واحد منهم فضلا على صاحبه حثه الله على ترك نسيانه، منهن بالتجافي عن النصف ومنهم بإكماله. ومن قالت: هو الولي كان الفضل من جانب واحد في العفو من قبل المرأة كان أو من عند وليها وكان ابن عيينة يحدث عن ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 شبرمة قال: كلمت أبا الزناد في ذلك، فقال: هو الولي وقلت أنا: هو الزوج ورأيت إذ كان وليها هو الذي تزوج بها فطلقها قبل أن يدخل بها فأبت أن تعفو أله أن يعفو عن نفسه، فسكت. وهذه لطيفة حسنة من قول ابن شبرمة وكان قوله على تأويل ما قلناه. * * * قوله: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) مخاطبة للأزواج في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 الإتمام، فيكون العفو في هذا الموضع بمعنى الزيادة والنماء، لا بمعنى النقصان والمحق. والعفو من الأضداد فإذا أتم لها الصداق كان أقرب إلى التقوى إذ الزائد على ما يجب عليه أقرب إليها من الذاهب بكله. وقد اتفق القراء على إرسال الواو، وأنه بالتاء وذلك مما يزيل الالتباس عنه أنه مخاطبة الأزواج، إذ لو كان إخبارا عنهن لكان يكون بالياء وإثبات النون، أو عن الولي كان بالتاء ونصفا الواو، والذي يزيل كل لبسة أنه الزوج قوله: (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) ولو كان الطلب لكان الذي بيده عقدة الإنكار، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 باب: من المواضع الذى يكون الظن فيه بمعنى اليقين: قال محمد بن علي: ومن المواضع الذي يكون الظن فيه بمعنى اليقين والعلم قوله: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) . وفي قوله: (بِإِذْنِ اللَّهِ) وهو رد على من يجعل الإذن من الله بمعنى العلم، إذ لو كان العلم من الله بغير معنى المعونة والإطلاع ما كان لاتكال الفئة القليلة عليه معنى، ولاستوى في العلم القليلة والكثيرة، ولما كان للقليلة مطمع في غلبها الكبيرة، بل نعقد المعونة بطلب الكثيرة في عرف البشر، وما تدل عليه عقولهم، وقد حقق جل وتعالى طمعهم بقوله: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 رد على من يقول بخلق القرآن: * * * قوله: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ) حجة: على من يقول بخلق القرآن، وينفي الكلام عن الله، وقد أخبر الله عن نفسه - جل وتعالى - بأن في الرسل من كلمه، وهذا هو الموضع الذي يحسن فيه حذف (هو) المفعول به، لا الموضع الذي يغلطون فيه فيدعون حذفها من قوله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) رد علي القدرية والمعتزلة: * * * قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِي دُ (253) . حجة على القدرية والمعتزلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 شديدة: لابتدائه الآية بنفي الاقتتال عنهم بغير مشيئته وتوكيده ذلك في آخر الآية وذكر الإرادة في الامتثال من الفريقين بلفظها. نفي العلم عن الإذن: * * * قوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) . أخمد بأنفاسهم في نفي العلم عن الإذن، ومثبت عليهم معنى الإطلاق، إذ لو كان الإذن علما ما بان سلطانه في إطلاق الشفاعة، ولكان كل من شاء شفع إذ علمه بشفاعتهم لا يحجز على شافع شفاعة إذا أرادها. وقد أخبر قبل هذا عن يوم القيامة بأنه لا شفاعة فيه حيث يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ) ثم استثنى منهم - أي من الشافعين في هذه الآية - من يأذن له فيها - أي يطلق له. ومن جعل الإذن هاهنا بغير معنى الإطلاق، فقد جعل لله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 شريكا في سلطانه، إذ جعل إذنه لعباده مرفوعا واستئذانهم له في الشفاعة عنهم موضوعا. والعجب لقوم يحملهم خوف لزومهم إطلاق الإذن في قوله: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) على إنكاره في كل موضع فيقعون في أعظم مما فروا منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 ردٌّعليه الجهمية، قوله (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) حجة على الجهمية، ولقد بلغني عن قوم متحذلقين منهم يغلطون بحذاقة أنهم قالوا: كرسيه علمه. واحتجوا بمصراع منتحل لشاعر لا يعرف ولا المصراع وهو: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 ولا يكرسىء علم الله مخلوق. وهذا المصراع لو كان من قول حسان بن ثابت قد أنشده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصوبه له. لكان إعداد الكرسي من أجله علما خطأ من جهتين: إحداهما: أن الكرسي في القرآن مثقل غير مهموز والمصراع قد خففه وهمزه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 والثانية: ما دللنا عليه في غير موضع من كتابنا من أن الكلمة إذا كان لها ظاهر معروف وباطن محتمل لم يجز أن تزال عن ظاهرها المعروف إلى باطنها المحتمل إلا بإجماع الأمة أو بنص آية أو سنة. فإن قيل: فليس قد رواه مطرف عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) قال: علمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 قيل: هذا حديث فيه وهن إلا من مطرف، وأما من جعفر بن أبي المغيرة، لأن الصحيح المشهور عن ابن عباس ما حدثناه عبد الرحمن ابن سلم الرازي (2) ، قال سهل بن زنجية الرازي قال: وكيع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 عن سفيان عن عمار الدهني، عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: " الكرسي موضع قدميه، والعرش لا يقدر قدره أحد " وكيف يكون العلم موضع قدميه، وهل يقرون هم بالقدمين، حتى لا تكون الرواية عن ابن عباس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 متعارضة. وهل حكم ما تعارض من الروايات لو استوت الدعاء مناف إلا لأخذ بأظهرها، وكيف ورواية مطرف عن جعفر لا تكافئ رواية مسلم البطين مع أن الثوري رواه عن مطرف فلم يجاوز به سعيدا كما تجاوزه ابن إدريس وكلاهما وهم، والله أعلم، لأن الروسي في القرآن مثقل وهذه الرواية لم ترد على التخفيف والهمز كما ذهب إليه القوم، ولا نعرف في لغة شاذة ولا معروفة عن عربي أنه سمى العلم بالكرسي المثقل إلا ما جاء في هذه الرواية ويزول به فيها تعارض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 عن رجل واحد بعينه. فلا نترك اللغة السائرة الشهيرة عند الخاصة والعامة من لباب العرب والدخلاء فيهم في الكرسي المثقل، والمخفف المهموز لا أصل له في شيء من اللغات - واللغة لسان مسلم له لا يدرك بالنظر والمقاييس ولا يمكن فيه التبديل. باب: * * * وقوله تعالى: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) إلى قوله: (بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ) دليل على أن: الميت بعد المساءلة وما يصيبه معها لا يشعر بطول مكثه في البرزخ حتى يبعثه الله يوم القيامة إذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 لو كان يشعر بمكث مائة عام كان لا يقول ما قال. فإن قيل: فإنما لم يشعر بطول مكثه، لأنها لم تكن موتته المتصلة بحشره الناقلة به إلى آخرته، ولو كانت تلك الموتة - لشعر. قيل له: فقد قال تبارك وتعالى: (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) فأخبر عمن قد أماته تلك الموتة بما ترى، فلو كانوا يشعرون لعلموا أنهم أقاموا طويلا ليس قليلا ومثل هذا كثير في القرآن. فإن قيل: قد روي في الأخبار أشياء تدل على أن الموتى يعلمون ويشعرون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 قيل: عامتها أخبار واهية الأسانيد والقرآن مكذب لها فيما ذكرنا، ومحقق ذلك بقوله: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) . وما كان منها صحيحة فلها معان واضحة مثل وقوف رسول الله صلى الله عليه وسلم على قليب بدر، ونداء من فيه من قتلى قريش وقوله: " ما أنتم لأسمع منهم، غير أنهم لا يطيقون الجواب. فهذه الآية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في وقتها خاصة فيهم ليقر الله عين رسوله عاجلا بإسماعهم قوله، وتحقيق ما كانوا يكذبون فيه حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 يقبروا فإذا قبروا لم يسمعهم. ومثل ما روي في الشهداء، فإنهم وإن قتلوا فهم أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله. * * * قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) أخنق آية للمعتزلة، لأنهم إن ذهبوا به إلى البيان كفروا فيحصل عليهم أنها إلى الله وحده. * * * قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) دليل على أن الزكاة في أموال التجارة وفيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 أخرجت الأرض من الثمار والحبوب إذ النفقة في هذا الموضع وفي عامة القرآن لا تكون إلا الزكاة والدليل عليه قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) إذ لو كانت النفقة على النفس لجاز أن ينفق عليها الرذال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 والرفيع، فبان بغير إشكال أنه النفقة على الغير وهو إخراج حقه إليه، والحق عام يدخل فيه المساكين والعيال وصدقة التطوع. والفرض لا يخرج فيها إلا خيار الأموال لقوله في هذا الموضع وفي قوله (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الضب " لا تتصدقوا بما لا تأكلون " في العسر واليسار: قوله (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) دليل على أن من عليه حق محكوما عليه بدفعه، حكمه حكم الموسر حتى تثبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 عليه العسرة، إذ لو كان حكمه حاكم الإعسار ما اشترطه الله ولا جعله منظرا بما عليه إلى ميسرته، ومن جعل أصل الناس الإعسار حتى يظهر يسارهم، فقد خالف عندي معنى هذه الآية. فإن قال: فأصل الإنسان أنه طفل معدم، واليسار حادثة فيه، فلم لا يحاكم بأصله حتى يعلم حدوث اليسار فيه. قيل، قد يرث الطفل بالميراث ألوفا ويوصى له بها فيقبلها وصاية له، والشيخ الكبير معدم لا شيء له، فليس لاعتبار حيال العسرة بولادة الإنسان على العدم وجه. فما كان بالغا صحيح العقل غير محجور عليه، فحكمه فيما لزمه للناس حكم الواجد حتى يثبت عدمه عند الحاكم بالبينة العادلة، تثسهد على ظاهر عدمه، وعليه اليمين فيما غاب عن عيون المشهود من ناض الأموال، ثم يكون منظرا إلى ميسرته. ورأي مطالبة الحكام البينة بإثبات الشهادة علي يسار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 من شهدوا عليه يوم أشهدهم من الحشو الذي لا يحتاج إليه. وإبطاله شهادتهم إذا عريت من هذا الإثبات وترك القضاء على الشعوب عليه بشهادتهم حتى يشهد من يثبت الشهادة كذلك من الجهل الذي لا يعذر أحد به، واتلاف حقوق المسلمين بلا طائل من حجة ولا التباس من شبهة. وأرى أكثر حكام زماننا يستعملونه ويبطلون حقوق الناس به، والله المسعان. الصداق: ومن طريف ما أحدثوه وقبيح ما استحسنوه، ترك حبس الأزواج المعترفين بصدقات نسائهم المدخول بهن إذا لم يطالبن بها قبل الدخول، واعتلالهم بأن الصداق ثمن بضع، فإذا سلمته قبل أخذ الثمن لم يكن لها أن تطالب بحبسه في الحكم، وعليه أن يعطيها فيما بينه وبين الله. فيقال لزعيمهم: لم لا تحبس بحق هو معترف بوجوبه ممتنع من أدائه، إلا أنه غير واجب عليه، وهو بالمطالبة مظلوم، أو واجب عليه ظالم بتأخيره، فإن قال: مظلوم. قيل: لم هو مظلوم، ألأنه لم يجب عليه قط، أم كان منسيا به لم يحن أجله ولن يستطيع أن يقوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وإن قال: كان واجبا عليه بالعقد فأبطله الدخول، قيل: فلم يجب عليه أداؤه إليها فيما بينه وبين ربه وقد أبطله الدخول، وإن قال: هو ظالم لها في الباطن غير ظالم في الظاهر، كابر في الدعوى، وجار في الفتوى. وإن قال: هو ظالم في الحالين. قيل: فلم لا تحول بينه وبين الظلم وأنت تقدر عليه، ويقال له: ألها أن تطالبه به قبل الدخول، فإن قال، بلى. قيل: فطالبته وامتنع أتحبسه، فإن قال: بلى، قيل: كيف تحبسه ولم يتلف شيئا، والذي جعل الصداق ثمنه حاصل في يد غيره ومحول دونه. فإن قال: آخذه من يدي من هو في يديه، بأن أسلم المرأة منه. قيل: ولم تفعل ذلك، ولأن يزول الظلم عنه بوصوله إلي البضع المشترى بالصداق، وليحق حبسه إذا أخذ شيئا ولم يسلم ثمنه، فإن قال: نعم. قيل: أفتحبسه بإرادة التحول ولا تحبسه بالتحول نفسه، ما أراك إلا تكابر عقلك ويقال: له أسلمت المرأة البضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 فإن قال: بغير ثمن. كابر عقله. وإن قال: بثمن. قيل: بثمن يجب أو لا يجب، فإن قال: بثمن لا يجب. كفى خصمه محنته. وإن قال: بثمن يجب. قيل: فقد ماطل بدفعه، فكيف الوصول إلى أخذه وأنت لا تحبسه ولا تبيع عليه عقارا، أرأيت إن ماتت في المطالبة قبل أن تأخذه، أيكون الوارث بمثابتها لا يحبس خصمه، فيصير حقا تاليا لا يصل إلى الورود، ولا إلى الوارث إلى القيامة. أم يحبس للوارث بما لم يحبس للموروث، فيكون زيادة في القبح والإحالة. وقد رأينا الله - جل وعلا - جعل الدخول سببا لوجوب جميع الصداق، فلا يبطل نصفه بالطلاق. فأرى هذا الزاعم يوهن ما وكده الله، وليت شعرى ما الفائدة إذا في قوله: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) ، وفي قوله: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وهذا لا محالة بعد الدخول لكنايته بالإفضاء عنه، ومتى وقته الذي يجب دفعه فيه إذا كان قبل الدخول لا يحبس به مسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 يعقل من أجل أن لكل واحد منهما أن يقول: لا أدفع حتى أقبض، وبعد الدخول لا يحبس من أجل تسليم المرأة بضعها قبل الأخذ. فأرى الصداق من بين الحقوق قد عاد متلاشيا تالفا وأهملت تلاوة هذه الآيات وغيرها فيه، والله يعظم سماعه فكيف احتباؤه، ولا أعلم حكمين أحدثا في الإسلام أوحش منهما، أحدهما هذا والآخر الذي قابله من طرح بينه لم يشهد - يعني من أشهدهم عليه. وجوب كتابة الدين: قال محمد بن علي: أرى الناس تركوا استعمال آيات من القرآن محكمات وأغفلوا الإصابة في تخريج إهمالها: فمنها ترك كتابة ما داينوا، والكتاب موجودون ولم يستثن منها إلي التجارة المدارة بينهم، وقالت تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 إلى قوله: (وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ) ثم إلى قوله (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا) . ومنها: أنهم إذا كتبوها أيضا لم يتول إملاءه من عليه الحق استطاعه أو لم يستطعه. ومنها: أن وليه - إذا عجز عنه بأحد وجوه العجز - لا يتولاه عنه. أحسنه أو لم يحسنه. ومنها: ترك إشهادهم في مبايعاتهم، وكل هذا قد نص عليه أمر من الله جل وتعالى فيه، قال الله تعالى (فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) ، وقال: (فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) وفي البيوع قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) فهذا ما أهملوا استعماله من هذه السورة سوى ما في غيرها مما سنأتي عليه في موضعه إن شاء الله، ورأيت بعض من تطرق إلى التسهيل فيها - بل رمقها بعين المنسوخ بما لا التباس فيه أنه وضعه غير موضعه - زعم أن قوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) دله على ترك الكتابة وقوله: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) دله على ترك الإشهاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 فلولا أن الغفلة شاملة للخلق والنقص لاحق بهم لكان هذا الإفراط فيها يكشف عن عورة قائله، وينبئ عن عتهه. إذا كان الله بجوده اشترط عدم الكتاب في السفر فما بال الكتابة تسقط في الحضر مع وجود الكتاب، أم كيف تسقط في سفر فيه كاتب في الرفقة وإذا أباح ترك الارتهان الذي جعله عن ما من الكتاب عند عدم الكاتب فكيف يسقط الإشهاد في التباين، لأنه أباح ترك الارتهان إذا أمن بعضنا بعضا، ولكن صاحب هذا القول رجل جليل لا يصرف هذا منه إلا إلى السلامة والسهو والغفلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 سورة آل عمران حجة على القدرية والمعتزلة: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) حجة على القدرية والمعتزلة واضحة لو تدبروه، ولاكتفوا به من سائر ما عليهم في غيره من كتابه، وذلك أنه وصف الزائغة قلوبهم باتباع متشابهه ابتغاء تأويله، ثم آيسهم من بلوغه بما أخبر من انفراده بعلمه دون جميع الخلق، ووصف بالفتنة من ابتغى علمه فصار الطمع في بلوغ علم التشابه به بعد انفراد الجليل به، والخوض في تصرفه تقدما إلى الباطل على بصيرة، وجهلا لا يعذر أحد به. ووصف الراسخين في العلم بصفة ومدحهم بقول ظن القدرية والمعتزلة أنهم أسعد بهما من خصومهم، وأن خصومهم هم المتبعون متشابهه، ولو تأملوا بعض ما مدح به الراسخون لانعكست ظنونهم وفضلوا بالتزام ما نحلوا خصومهم من حيث لا التباس فيه وهو قوله: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) فمدحهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 بالدعاء المحال لديه، ونسبتهم زيغ القلوب إليه، وهذا عندهم كالافتراء عليه، ولا يعتبرون أن الله جل جلاله ما مدحهم إلا بالحق ولا دعوه إلا بالصدق، فإنه مزيغ القلوب وهاديها فسألوه التثبيت على الإيمان بما أخبر عنهم في صدر المدح حيث يقول: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) خشية أن يلحق قلوبهم زيغ يسلك بهم سبيل الزائغين من المتبعة متشابه القرآن الموصوفين بالفتنة في ابتغائه. فأي حجة تلتمس أوضح من هذه لو أضربوا عن اللجاج، ولم يصروا على البهت والعناد، وهل دون ما شرحناه في هذا الفصل إشكال، أو تناقض أو محال، أوليس ما مدح به الراسخون - في هذه الآية - الراهبون من الزيغ بعد الهداية يوافق ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يدعو به، فيقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك " فقالت له امرأة من نسائه: أو تخاف علينا وقد آمنا بك وبما جئت به، فقال: " إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أن يقيمها أقامها وإن شاء أن يزيغها أزاغها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وهذا حديث يؤمنون به ولا يردونه إلا أنهم يتأولون في الأصابع أنها النعم حذرا من نقض قولهم في إنكار الصفات ويحتجون بأن العرب تسمي المنظر الحسن من العشب الخضر الريان الزهر بالأصبع، فيزعمون أن كل نعمة يقع عليها اسم أصبع، وأن معنى قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن: بين نعمتين من نعمه، وليس قصاراهم إلا وضع الشيء في غير موضعه، أولا يفكرون أن العرب وإن سمت النعمة بالأصبع فهذا الموضع منه بعيد؛ إذ القلوب لو كانت محروسة بين نعمتين ما خشي الزيغ عليها، فكيف يدعو رسول الله، صلى الله عليه وسلم بثباتها، وهي مثبتة بغاية التثبيت محروسة بنعمتين عندهم ولئن كان زيغها ممكنا عندهم مع النعمتين، فكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 رسول الله - عز وجل - يدعو بتثبيتها إذ لا يجوز عندنا وعندهم عليه أن يدعو بالمحال - إنه لأبلغ - في تثبيت ما أنكروه وتصديق ما جحدوه، ونحن نسامحهم في تثبيت الصفات عليهم من هذا الحديث، إذ لنا في غيره من الأخبار وفيما هو مسطر في القرآن سعة ومندوحة بحمد الله ونعمته. رد على الجهمي: * * * وقوله: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) حجة على الجهمية، إذ قد بين الله نصاً أنه يحب من تبع رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن جعله جزاء لما أحبوه، ومقابلة لهم على ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 أضمروه، ثم قال: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) فأخبر عن نفسه - جل جلاله - أنه يحب قوماً ولا يحب آخرين. خصوص في ذكر العموم: * * * قوله: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) دليل على الخصوص في ذكر العموم لإحاطة العلم بأنه لم يصطفهم على محمد - صلى الله عليه وسلم - كذلك قوله في البقرة: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) إذ لم يفضلهم على من كان قبلهم من الأنبياء، من غير ولد إسرائيل، ولا فضلهم على، محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى جميع الأنبياء، فكأنه أراد عالم زمانهم. ومثله قول موسى عليه السلام - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) يعني - والله أعلم - أول مؤمني قومه، إذ تقدمه بالإيمان آدم ومن بينهما من الأنبياء والرسل، ومن آمن بهم من الدهم الكثير. وكان بعضهم يقول في: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) أي أول من آمن أنك لا ترى في الدنيا، وهذا ليس بشيء، لأن كل من قبله من الأنبياء كان يؤمن أن الله لا يرى في الدنيا والقول هو الأول، والله أعلم. حجة للمتنسكين: قوله إخبارا عن امرأة عمران: (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا) حجة للمتنسكين، فيما يقولون: فلان في رق الدنيا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وفلان عبد شهوته، وترك الشهوات فصار حرا، ولا يكون شيء من ذلك كذبا، فيقال: كيف يصير حراً من لم يزل حراً، وكيف يكون للدنيا رقٌ على الأحرار، ألا ترى أن جنينها كان حرا فنذرت أن تحرره أي لا تشغله عن العبادة بشيء فأخبر الله عنها بما قالت وتقبل منها نذرها. حجة في تسمية المخلوقين بالسيد: وفي قوله: (وَسَيِّدًا وَحَصُورً) دليل على أن تسمية المخلوقة بالسيد من أجل أن الله جل وعلا، يسمى به ليس بمنكر لأن يحيى، صلى الله عليه وسلم، وإن كان نبيا فهو مخلوق مع أن السيد من أسامي الله، عز وجل، غير نازل في القرآن. وقد يسمى بما نزل في القرآن المخلوق فلا يكون منكرا،، فالمؤمن والعالم والبصير والحكيم من أساميه، وهي تسمى بها الناس، فلا يكون منكرا. والسيد وإن لم يكن من أساميه في القرآن، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وإجماع الناس أنه في أساميه جل وعز، فإن كان نكيره عند من ينكره من أجل أنه مزاحمة حقه في اسمه، فقد دللنا على جوازه بما يغني عن إعادته، وإن كان من أجل أنه يسمى به فاسق، فالله، جل وعلا، سمى به نبيا، والمؤمن والعالم والحكيم يسمى به الصالحون والفاسق. والفاسق وإن كان فاسقا بذنوبه فقد سمي مؤمنا بإيمانه والبصير ضد الأعمى، وقد يكون فاسدا وصالحا. والحاذق بالصنائع يسمى حكيما، وبصيرا، وعالما، وربما كان في دينه فاسقا. فما بال السيد من بينها يخص بالنكير، ويباح سائره، ونرى الفاسق المتسلط يسمى جبارا ويسمى متكبرا، وكلاهما من أسامي الله، وهما في الله - جل جلاله - مدح، وفي الفاسق ذم، فلا يكون شيء من ذلك منكرا، إذ الأسامي أمارات يعرف بها الأشخاص لا غير. ولو كان كل اسم سمي به مسمى لا يجوز أن يسمى به غيره إلا أن يشبهه بجميع صفاته، ما جاز أن يسمى أحد بأسامي الأنبياء، والملائكة من أجل أنهم يخالفونهم في بعض صفاتهم وإن وافقوهم في بعضها، وذلك مخالفة القرآن وهدم اللغة والخروج من العرف والعادة، ولا أحسب إعداد تسمية الناس بالسيد نكيرا إلا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 نسك العجم والجهال بلغة العرب. أليس مالكها المماليك يسمون سادة، وقد تكلم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة، وهم عرب نساك أفضل من أظلته الخضراء بعد النبيين وتكلم به التابعون بعدهم والفقهاء، والأئمة ودونوه في المصنفات ورددوه في المناظرات، لا ينكره منكر ولا يعيبه عائب، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لوفد قدم عليه: " من سيدكم والمطاع فيكم،. وقال: " إن ابني هذا سيد، وعسى الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وقال في سعد بن معاذ: " قوموا إلى سيدكم، وأشباه ذلك مما يطول الكتاب بذكره. وإن كان ينكر أن يسمى به غير رئيس، لأنه واقع على الرؤساء، فإذا سمي به غيرهم كان كذبا عنده - فقد دللنا في سورة البقرة على أن: من أراد المبالغة في مدح الشيء، أو ذمه فتكلم بما يكون ظاهره إفراطا لم يكن كذبا، واحتججنا فيه بقوله عز وجل: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 فليس فيه معنى النكير بوجه من الوجوه إلا في حالة واحدة أكرهها. بل أنهى عنها، وهو أن يعرف إنسان بعينه بنفاق فلا يسمى به، لحديث بريدة الأسلمي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا تقولوا للمنافق سيد فإن يكن سيدكم فقد أغضبتم ربكم " وهذا الحديث أيضا: حجة في جوازه، إذ في نهيه أن يسمى المنافق به دليل على أن تسمية غير المنافق به جائز. قال محمد بن علي: وكذلك المولى إذا سمي به إنسان يجري في الجواز مجرى السيد لا يخالفه، والحجة فيه واحده، لأنه يقال: مولى العبد ومولى الأمة، ومولى النعمة، وأشباه ذلك، قال الله - تبارك وتعالى - إخبارا عن زكريا: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من كنت مولاه فعلي مولاه، والمولى في اللغة. هو الناصر قال الله تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) فالعلم يحيط أنهم خالقهم ورازقهم ومدبر أمورهم كهو للمؤمنين منفرد بنصر المؤمنين دونهم. حجة لمن يقول بالقرعة: * * * قوله: (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) . رد على من يقول القرعة قمار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وقال الله - تبارك وتعالى - في سورة الصافات إخبارا عن يونس، صلى الله عليه وسلم،: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه وأقرع في ستة مملوكين لرجل أعتقهم عند موته لا مال له غيرهم، فأعتق بالقرعة اثنين، وأرق أربعة. وعمل بها الصحابة من بعده، والأئمة الصالحون، فكيف يكون قمارا مع هذه الحجج الواضحة، والأعلام النيرة، ولكن من شاء جنَّن نفسه. وضع الكلمة موضع غيرها: قوله في عيسى، صلى الله عليه وسلم: (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 دليل على أن من وضع الكلمة موضع غيرها، لا يكون كاذبا إذ لا يشك أحد من المسلمين أن عيسى ليس بخالق، وإنما أراد - والله أعلم - أنى أصور لكم صورة طير، فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله - أي بإطلاق الله - لا محالة لا بعلمه كما تزعم القدرية: أن الإذن بمعنى العلم، إذ لو كان (فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ) بمعنى علمه، لا بإطلاقه لكان خالق الطير عيسى لا ربه، إذ كان، جل وتعالى، لا يخلق بعلمه إنما يخلق بقدرته، ويدبر بعلمه، وهذا من قولهم: هي النصرانية بعينها، بل زيادة عليها. في القضاء والقدر: قوله تعالى، إخبارا عنه - صلى الله عليه وسلم - (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ) حجة عليهم في إنكارهم إضافتنا الأفعال إلينا وقضاءها وخلقها إلى الله، جل جلاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 إذ لا محالة أن الله هو: مبرئ الأكمه والأبرص، ومحيي الموتى، وقد نسبه إلى عيسى في الإخبار عنه، بما جعله له آية، وكذا نقول: إن الله جل جلاله خالق أفعالنا، والقاضي علينا بذنوبنا ونحن فاعلين لها، وهو واضح لمن تميزه واستعان بالله على معرفته ولحوق لطيفة نكتته. ناسخ ومنسوخ: * * * قوله تعالى: (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) دليل: على أن في الكتب المنزلة قبل الفرقان ناسخا ومنسوخا كهو فيه. وأن الله ينسخ على ألسنة أنبيائه ما أنزله من وحيه كما ينسخه بوحيه. قوله قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) دليل: على أن الإيمان والإسلام وإن فرق بينهما اسم فقد يجمعهما اسم، وهو رد على المرجئة. قوله (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) . رد على الجهمية ولا أراهم إلا متحكمين مع جهلهم فيما يجعلون المكر وأشباهه منه على المجاز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 أفتجيزون لمن يقوله إن قوله: (خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) على المجاز لا على الحقيقة، كما المكر وأشباهه على المجاز لا على الحقيقة - فيوافق الدهري في قوله، وينسب السموات والأرض إلى الأزل. وما الذي جوز لهم دعواهم فيما يشتهون من المجاز، ولم يجوز لغيرهم فيما يشتهيه، هل هذا إلي التحكم بعينه بعد الجهل في نفسه،! دليل على أن العرب تسمي باسم واحد المعاني الكثيرة: * * * وقوله: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) دليل على أن العرب تسمي بالاسم الواحد المعاني الكثيرة إذ وفاة عيسى، صلى الله عليه وسلم، ليست بوفاة موت وتسمى وفاة الميت وفاة. ومثل هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 قوله: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا) فسوى في الاسم بين الوفاتين مع اختلاف المعنين وفيه حجة على الجهمية في امتناعهم من تسمية الشيء باسم غيره إذا خالفه في بعض صفاته * * * وقوله: (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) مثله قولنا بكون الطهارة واقعة على الأقذار وغيرها على ما بينت في قوله: (أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) . * * * و قوله: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) ، دليل على أن الجعل لا يكون بمعنى الخلق في كل موضع كما تزعم الجهمية أن قوله: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) هو بمعنى خلقناه. وقد غلطوا، إنما هو بمعنى صيرناه، وكذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 قوله: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) أي: ومصير الذين اتبعوك فوق الذين كفروا. وكان بعض ملطفي نحلتنا يزعم: أن الجعل إذا تعدى إلى مفعولين، كان بمعنى الصيرورة، وإذا تعدى إلى مفعول واحد كان بمعنى المخلوق، ولا أحسب هذا منه إلا هفوة، لأن قوله تبارك وتعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورً) متعدي إلى مفعولين، والشمس مخلوقة، وقد يجوز أن يقال: " جعل " في الشمس والقمر ها هنا بمعنى صير، على تأويل أن الشمس خلقت غير مضيئة، والقمر غير منور، ثم صير لهما ضياء ونورا، وأصل المجعولين من متبعي عيسى فوق الذين كفروا مخلوق، ثم صيروا فوقهم. فهذا توجيه قول اللطف فيما قال في الجعل المتعدي إلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 مفعولين - ولكنه يكسره من جهتين: إحداهما: أن ضوء الشمس ونور القمر خلقة فيهما ونعوت من نعوت ذاتهما، وليست رفعة متبعي عيسى على الذين كفروا خلقة فيهم ولا نعتا من نعوت ذاتهم، فالصيرورة تحسن فيما ليس من نعوت الذات، ولا تحسن في النعوت الذاتية. والأخرى: أن هذا الملطف أراد أن يجعل الفرق بين الجعلين بذكر المتعدي إنما المفعولين ذريعة إنما نفي الخلق عن القرآن، إذ الجعل فيه متعدي إلى مفعولين، وقوله: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) متعدي إلى مفعول واحد وأصل القرآن ليس بمخلوق، ثم صير عربيا، كما يحتمل أن تكون الشمس خلقت غير مضيئة، ثم صير لها ضوء، ولكنه كلام الله غير مخلوق، أنزله بلسان العرب، ليفهم عنه كما أنزل التوراة بالعبرانية والإنجيل بالسريانية، ليفهم كل عنه، وبأي لسان أنزل كتبه فهي غير مخلوقة. والنكتة التي هي أم الاحتجاج في نفي الخلق عن القرآن وسائر الكتب المنزلة هي تثبيت الكلام على الخالق، والدالة على أنه متكلم، فإذا أخذ اعتراف المنكر بهذا استغني به عن سائر الحجج، إذ الكلام يكون نعتا من نعته ولا يقدر الخصم على أن يقول بخلقه، فنفي الخلق عن القرآن بما خرج من معنى الجعل دعامة تضعف عند الاحتجاج، وللجعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 مواضع يدل عليه سياق الكلام، فإذا اقتضى الخلق فهو خلق، وإذا اقتضى صيرورة فهو صيرورة. ضرب الأمثال والنهى عن المراء: * * * قوله: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) حجة: في ضرب الأمثال، ونهي عن المراء، وكان بعض مثبتي القياس يجعله حجة في تثبيت القياس، وهو عندي غلط فاحش، من أجل أن القياس: هو تشبيه الشيء بالشيء، وعيسى لا يشبه خلقه خلق آدم في شيء من الأشياء من أجل أنه مولود، وآدم مصنوع، وهو حادث من أنثى، وآدم غير حادث من أنثى ولا ذكر، وهو ولد، وآدم والد، ففي أي شيء يشبهه، إلا في أنه لحم ودم وصورة مؤلفة يستويان في الأكل والشرب والنوم وأشباهه، وهذا شيء يشاركه فيه جميع الناس، فأي فائدة تكون حينئذ في ضرب الكل به مع آدم عليهما السلام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 إنما الفائدة فيه: أن الناس لم يكن في عرفهم أن تلد أنثى من غير ذكر، فلما أحدث الله خلق عيسى، وأخرجه من بطن مريم من غير مسيس ذكر لها تعاظم عندهم مالم يكن في عرفهم وعادتهم، حتى هلك فيه من هلك، فأعلمهم الله، أنه خلقه بقدرته من غير ذكر في بطن أمه كما خلق آدم، وكانت قدرته محيطة بخلقهما من غير نطفة. فإن كان القائس يزعم: أن الله لما حرم شيئا واحدا كان قادرا على تحريم شيئين، فلعمري إنه قد أصاب الشبه من المثل المضروب في خلق آدم وعيسى صلى الله عليهما وسلم. وان كان يزعم أنه يحرم شبه ما حرمه الله، وفرض عليه فعله اعتمادا على أن الله لما خلق آدم جعل نظيره في الخلق عيسى، وكان حتما عليه أن يفعله - افترى على الله وأخطأ الشبه من باب المقايسة في المثل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 رد على الجهمية: وقوله (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) حجة: على الجهمية في الكلام والنظر؛ إذ لو كان الكلام على المجاز ما ضرهم حجبه عنهم ولا كان للمسلمين فيه تمتع، ولا نشك أنه جعل حجب كلامه عنهم عقوبة، فإن جاز أن يكون ذلك على المجاز جاز أن يكون - (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) - على المجاز، وإن كان العذاب حقيقة، فالكلام والنظر مثلهما قوله (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) حجة على القدرية والمعتزلة بينة؛ إذ قد أخبر نصًا عن نفسه أنه يحجب الهداية عن ظالم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 بكفره بعد ماتبين له طريق الهداية فسلكها بإيمانه، فهو لا يستطيع الرجوع إليه للحائل من منعه دونه. النهى عن مزاحمة الرب: * * * قوله تعالى: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) حجة على من يعجب من قولنا فيما نزعم أن الله مضل من يعذبه على ضلاله وقاض على من يعصيه بعصيانه ويدخلهم النار بعدله، فيردونه من أجل أنه متصور في عقولهم بصورة الجور. فيقال لهم: أفيتصور في عقولكم إمكان مكان يمتد فيه طول الجنة إذ كانت السموات والأرض مستفرغة في عرضها، ويكون للنار مكان مع كبرها وكثرة أهلها،. فإن قال: هو متصور في العقول من حيث تعرفه الخليقة. قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 محالة، إذ العقول نائية عن ذلك من حيث أطباع بشريتها. وإن قال: ذلك غير ممكن في العقول ولكنه ممكن في قدرة الخالق من حيث لا ارتياب فيه ولا رد لقوله، ولا مزالا عن ظاهرة بالتأويلات المنكرة. قيل: وكذلك التصور في عقولكم من عذاب من أضل، وقضيت عليه المعصية والكفر بصورة الجور في علم الخالق - عدل لا ريب فيه، ومسلم فيه له من أن يزال لفظ عن ظاهره، أو يتأول عليه تأويل تدفعه اللغة والنظر معا، وقد حوى فصل غير هذا صنيعه، جل وعلا، بالبهائم في الفلوات ومرض الصغار وتخويل بعضه بعضا والمخول عاص، والخول مطيع، وأشباه ذلك مما لا يتصور في عقول الخليقة بصورة عدل، وهو عدل لا شك فيه وعلم كل هذا عنا موضوع، والفكر في كيفيته مرفوع. رد على القدرية والمعتزلة: قوله (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 حجة على القدرية والمعتزلة، لأنهم يزعمون أن القتل غير مكتوب على أحد، وأن من قتل آخر فقد قتله بغير أجله، فماذا يقال لقوم يعمدون إلى نص القرآن، فيخالفونه،! وكان القدماء منهم ينسبون الحسن البصري إلى أنه منهم. فحدثني محمد بن عبد الغفار قال الحسن بن علي الحلواني قال: عبد الصمد بن عبد الوارث عن الأسود بن سنان عن عسل بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 سفيان قال: أتيت الحسن فقلت: إني خارج، وإن الناس يسألوني عن قولك في القدر، فما تقول في رجل عدا على رجل فقتله، قال: قتله بأجله وعصى ربه. فامتحنه عسل بما عرفه من مذهب القوم، فلما أجابه بهذا الجواب برئ من التهمة. وحدثني محمد قال: الحسن بن علي بن محمد، قال: سليمان بن حرب ويحيى بن آدم قالا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 حماد بن زيد عن خالد الحذاء قال، قدمت من الشام فبلغني أن الحسن تكلم في شيء من القدر، فأتيته فقلت: يا أبا سعيد، حدثني عن آدم أللأرض خلق أم للسماء، قال: للأرض. قلت: فهل كان يستطيع أن يعتصم من الشجرة، قال: لا والله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 قلت: قوله (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) ، قال: خلق هؤلاء لجنته، وهؤلاء لناره. وحدثنا محمد قال: عبد الله بن خالد بن يزيد اللؤلؤي قال: داود بن محبر قال: مبارك بن فضالة عن الحسن في قوله تبارك وتعالى: (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12)) قال: الشرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وقال في قوله: (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) قال: خلقهم للاختلاف، وفي قوله: (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) قال: أعماله كتبت لابد أن يواقعوها، وفي قوله: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ) قال: خلقنا. وفي قوله (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) قال: كثرنا مترفيها. وفي قوله: (مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) قال: يقول: إنكم يا بني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 إبليس لن تضلوا من عبادي إلا من أوجبت له النار. وفي قوله: (يحول بين المرء وقلبه) قال: يحول بين الكافر وبين الإيمان، وبين المؤمن وبين الكفر. وحدثنا: محمد قال: عبد الله بن خالد، داود ابن محبر قال: أبو الأشهب عن الحسن في قول الله: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) قال: حيل الله بينهم وبين الإيمان. وحدثنا: محمد قال الحسن بن على الخلال الحلواني، قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 الحجاج ابن نصير قال: سهل السراج عن الحسن في قول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) قال: تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا. وحدثنا محمد قال: الحسن بن علي، قال: أبو الوليد الطيالسي وسليمان بن حرب، عن مرحوم العطار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 عن أبيه وعمه قالا: سمعنا الحسن يقول: لا تجالسوا معبدا الجهني فإنه ضال مضل. والأخبار عن الحسن فيما يبرئه من القدر كثيرة، لو ذكرناها في هذا الفصل لطال، وفيما ذكرنا كفاية عما تركنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 فإن قيل: فقد قال بعد هذه الآية التي احتججت بها: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا) فنسب الاستزلال إلى الشيطان والكسب إليهم. وقال في سورة البقرة: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ) . قيل: قد تقدم قولنا في أن الفعل منسوب إلى فاعله، والقضاء إلى الله جل الله. وذكرنا في بعض فصول هذه السورة، ما أخبر عن عيسى ابن مريم أنه يبرئ الأكمه والأبرص منسوبا إليه. ولا شك أن الله مبريها مع أنه قد قال - عز وجل - في سورة الأنفال: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) فأزال بذلك كل ريب، والملك إذا عاقب عبدا على يدي بعض عبيده، فهو معاقبه وإن لم يتول بيده، ألا تراه يقول في سورة التوبة: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 والشيطان أيضا عبد له يملكه، فإذا استزل عبدا، فبإطلاقه، وبما سبق في قضائه لا باقتدار نفسه ألا تراه يقول: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) فليس يتبعه إلا من قضي عليه، والمعصوم لا وصول له إليه. وفي قوله: (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) زوال كل ريب أن أحدا لا يملك مع الله شيئا، وأنه المالك وحده، فمن زعم أنه يملك أمر نفسه في ضر أو نفع أو إيمان أو كفر، فقد افترى على الله، وجعل نفسه شريكا لله، تعالى الله. في القدرية والمعتزلة: وقولهم: إن المقتول ميت بغير أجله. * * * قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) موجب على القدرية والمعتزلة: الكفر فيما يزعمون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 أن المقتول ميت بغير أجله، لإخبار الله ذلك عنهم، ثم قال ردا عليهم: (وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) . فإن قيل: فقد فرق بين الموت والقتل بقوله: (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) . قيل: خاطبهم على ما يعرفون من ألفاظهم باختلاف الأسباب، والمرجوع فيه إلى مفارقة الحياة، وهذا بأي اسم تقدمه من معاني أسبابه يسمى موتا. ألا تراه - جل وعلا - حين رد عليهم قولهم: (لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا) ، رد بلفظة واحدة فقال: (وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) ولم يقل يميت ويقتل كما قال: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) إذ الموت آت عليهم، والعرب تسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة كقولهم قدم، ووافى، وجاء، وهم به يريدون في كل هذه الألفاظ حلوله بالموضع. ويقولون: ذهب، وانطلق، وخرج، وشخص، وهم يريدون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 مفارقته المكان الذي كان حالا به، وأكثر بلية المبتدعة ضيقهم عن سعة لسان العرب التي نزل القرآن بلسانها، فإذا أرادوا الاقتداء بها في بعض الأمكنة غلطوا عليها، فيأتون بمثل ما قدمنا ذكره من الكرسي والإذن والأصبع، وما سنأتي عليه في موضعه إن شاء الله تعالى. قوله (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) حجة عليهم: لأنهم ينكرون أن يكون الله جل وعز يخذل أحدا. وهذا شيء خالفوا فيه الإجماع مع مخالفة الكتاب، إذ الناس بأجمعهم عالمهم وجاهلهم يقولون عند الشتيمة: مالك خذلك الله، يريدون الدعاء عليه بالخذلان، كما يقولون: قاتلك الله، ولعنك، متواصين على جوازه على الله، وإن كرهوه في التشاتم. رد على الجهمية: * * * قوله: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ) حجة على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 الجهمية في السخط وعلى القدرية: في البوءة، إذ ما باءوا به من سخطه ضد الخير ما كان * * * وقوله: (الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) لم يغادر لبسة تشبه عليهم قولهم في القتل لو أنصفوا. * * * وقوله: (وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) حجة عليهم، لأن إرادة الله - جل وتعالى - في حرمان حظهم من الآخرة حائلة بينهم وبين المسارعة إلى الإيمان - الذي ينمي لهم حظ الآخرة، وكيف يقدرون أن يكتسبوا بالطاعة حظ الآخرة، والله يريد ألا يجعله لهم، وهذا من العدل الذي لا يحيطون بمعرفته فيتصور عندهم بصورة الجور. رد على القدرية: * * * وقوله: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) حجة عليهم في الإملاء منه للكفار، ولقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 بلغني أن بعض جهلة القدرية كاشف الأمة بالخلاف فيما أطبقوا عليه من فتح " أنما " الأولى وكسر الثانية، فكسر في قراءته الأولى، وفتح الثانية جرأة على الله، واغترارا بحلمه. يريد بذلك أن يحعل الإملاء من الله لهم لخير يريده بهم لا للازدياد في إثمهم. ولا يبالي بما يلحق الكلام من الخلل والقلب، وسوء النظم، وبما لا يليق بالله في حكمته وجليل علمه. وهذا ما زعمنا: أنهم إذا أرادوا متابعة العرب تبعوها بأقبح الوجوه وأفحش الغلط، وماذا عسى يحسن أن يكون إملاؤه لهم في الخير حتى يزيلوا الكلام عن جهته، ويجعلوا بدل الإثم خيرا، أيعدوا هذا الخير الذي جعلوه بدل الإثم لهم من أن يكون في طول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 عمر أو مال أو ولد، وكل ذلك مما يزيد في إثمهم، ولا ينجيهم من عذاب ربهم، قال الله تبارك وتعالى: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ) وقال: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وقال: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) وأشباه ذلك فكيف يملي لهم فيما هو خير لأنفسهم. وفي قوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ) رد على الإمامية، فيما يزعمون: أن الإمام لابد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 من علمه الغيب. لأن الله نفاه عن جميع خلقه نفيا عاما ومنهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضى الله عنه، فلم يستثن به ولا بأحد من ولده، وأكد ذلك بقوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ) أي يجتبيه فينزل عليه الغيب. إنه لا يعلمه إلا بالوحي لا بغيره، والإمام لا يوحى إليه، وكذلك في سورة الجن: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 سورة النساء في الإماء: * * * وقوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) . دليل على أن الإماء لا قسم لهن. إذ كان الله جعلهن والحرة الواحدة عوضا من الأربع مع خيفة الجور في ترك الخروج إليهن بحقوقهن والقسم منها. * * * وقوله: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ) . يثبت نفقة الزوجات، وصغار الأولاد، لأن السفهاء في هذا الموضع النساء والصبيان، فلما أمر، جل وتعالى، برزقهم وكسوتهم علمنا: أنهم نساؤه وصبيانه، إذ ليس ذلك بفرض عليه في الأجنبيين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وفي نهيه عن إيتائهم المال توكيد لحظر الشرى والبيع مع الصبيان، من أجل أن من لم يجز إيتاؤه مالا بلا عوض فهو بعوض أشد حظرا لعجزه عن معرفة ما يدخل عليه من الغبن والتضييع. والنساء وإن كن قد دخلن معهم في ذلك، فإجازة الشرى والبيع جائز معهن من موضع آخر، وهو جري القلم عليهن بالبلوغ، وإحاطة معرفتهن بالغبن، واحترازهن من الخلابة، وقد أمر الله بدفع أموال اليتامى إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد، واسم اليتم واقع على الذكور والإناث، قال الله، جل وتعالى، على أثر هذه الآية: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) في أكل مال اليتيم: * * * وقوله: (وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 يبيح عندي للفقير إذا ولي مالي يتيم أن يأكل منه بلا قرض، ولكن لا يجوز له أن يتجاوز ما لا غني عنه، وذلك ما يتماسك به بدنه عندما يخاف تلفه ويواري عورته، ويقيه من حر أو برد غير متبجح في الشهوات، وفضول الكسوة، ولا يفعل ذلك إلا عند انقطاع جميع حيله، ونزول الضرورة به التي يسمى معها فقيرا، ولا أعرف وجه من قال: " المعروف " هو القرض، إذ القرض يباح للغنى أيضا أن يأخذه لنوائبه ثم يرده من مكانه، بل يكون ذلك من صلاح مال اليتيم إذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 ما أخذه وليه قرضا مضمونا عليه حتى يرده، وما لم يأخذه قرضا فهلاكه من مال اليتيم، إذا هلك بغير عدوان، وإذا كان ذلك كذلك، فأين يبين موضع الرخصة للفقير،. وكان الحكم بن عتيبة يقول في قوله: (وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) . قال يأكل من مال نفسه بالمعروف حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم. فهذا لا أدرى ما وجهه، إذ لو كان له مال يأكل منه بمعروف أو سرف ما سمى فقيرا، ولا خرج من خطاب المتعففين إلى خطاب المتوسعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 وصايا: * * * وقوله: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) كان سعيد بن المسيب يعده منسوخا بآي المواريث، وكان ابن عباس يذهب به إلى أنه حث للميت على الوصية لهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وكان الحسن ومجاهد يجعلونها محكمة. فأما: قول ابن عباس، فلا أدرى ما وجهه،! وقد ذكر الله القسمة، والقسمة تكون بعد الموت. اللهم إلا أن يكون فيهم من كان يقسم ماله عند الموت على فرائض الله، فأمر أن لا يستفرغ ماله في القسمة ويوصى لهم، وكيف تمكن القسمة عند الموت وفي الناس من تكون زوجته حبلى، وهو لا يدري ما في بطنها. فأما قول سعيد فإن كانت آي المواريث أينما نسخته، فلم تنسخ إلا رزق من يرث من ذوى القربى، فما بال من ليس منهم وارثا، واليتامى والمساكين يحرمون من أجلهم، ولا أحسب القول إلا ما قال مجاهد والحسن، لأن ظاهر الآية يوجب إعطاءهم إذا حضروا، فيعطى اليتامى والمساكين، ومن ليس بوارث من الأقربين ما طابت به أنفسهم قل أم كثر، لأنه جل وتعالى يحد فيه حدا، والمخاطب بإعطاء هذا الوارثون وأولياؤهم، فمحال أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 يعطوا أنفسهم شيئا جعله الله في أموالهم لغيرهم. مواريث: * * * قوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) . مثبت للاثنتين ثلثي التركة، ومغني عن التطرق إلى التأويلات في فوق، ثم يكون فوق، واقفا على ثلاث فصاعدا، لأن تسمية حظ الذكر يمثل حظ الأنثيين نص لا تأويل فيه. ألا ترى أن نصيب الابن الواحد مع الابنة الواحدة ثلثي المال، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 وقد سماه الله جل وتعالى حظ الأنثيين، فهو واضح لا إشكال فيه. ووجه آخر واضح أيضا، وهو أنه لما قال: (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ) وجب أن يكون للثلاث فصاعدا الثلثان، فلما فصل ميراث الواحدة بالنصف كان لما زاد عليها الثلثان بالنص للأولي وهو بين. * * * قوله: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) حجة لمن جعل لها مع الزوج والمرأة ثلث ما يبقى بعد نصيبهما، إذ لا وارث بعدهما غير الأبوين، وقد أخبر الله نصا أن ما لا يرثه أبَوَا هالكٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 لم يكن للأم إلا ثلثه، فإذا أعطيناها ثلثيه، لم نكن في الظاهر سالكين بها مسلك ما سمي لها. ولا أعرف فيما انتحلناه من هذا بين أهل الفرائض خلافا، إلا ما روي عن ابن عباس: أنه جعل لها ثلث جميع أصل التركة، وهو - رحمه الله - وإن كان تأسى بنمط ساير القسم في التركات، فقد فضل الأم على الأب، ولا نعلم أن الله جل وعلا فعله في شيء من الأمكنة. مواريث خصوص: * * * قوله: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) خصوص وهو - والله أعلم - من بعد وصية تبلغ الثلث فأدنى، وأرى الناس قد ألقوا رواية الحارث عن على - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 قضى: بالدين قبل الوصية، وأنتم تقرءون: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) ، وهذا - والله أعلم - مما يوهن رواية الحارث، ويحقق عليه ما نحل من الكذب، إذ على - رضى الله عنه - في جلالته ومنزلته من الإسلام لا يخفي عليه أن الله تبارك وتعالى لم يقدم الوصية على الدين ليبقى الدين على الميت إذا هلك، ويسعد أهل الوصايا بما أوصي لهم. إنما أفادنا أن الدين والوصايا مقدمان على الميراث، فليس في ذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 الوصية في اللفظ قبل الدين ما يوقع لبسه، والله أعلم. نكاح: * * * وقوله: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) . نص على تحريم الجمع بينهما بنكاح كان أو بملك اليمين. ولا أعرف للالتباس الواقع في أمرهما إذا كانتا مملوكين - من أجل أن الله قال في موضع: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) وجها، إذ لو جاز أن يقع فيها التباس جاز أن يقع، في الأخت من النسب والرضاع والعمة والخالة، ونساء الآباء، وحلائل الأبناء إذا ملكن، إذ لا خلاف بين الناس أن نساء الآباء وحلائل الأبناء قد يملكن بعد وقوع هذا الاسم عليهن ونحن وكثير من العلماء نجيز ملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 الأخت - من نسب ورضاع - والعمة والخالة، وقد شملتهن الآية بالتحريم، فما بال الالتباس يقع في الأختين المملوكتين من بينهن، والآية المحرمة للجمع بينهن، والمحرمة من ذكر معهما واحدة، وهل قوله: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) في أول سورة النساء إلا مبيحة لجمع أكثر من أربع إماء للوطء، وفي سورة "سأل سائل " إلا مبينة وجه الوطء المحلل الذي لا يخرج من حفظ الفروج، وليس في هذا من الإشكال ما يحتاج إلى هذا الشرح كله، ولا أحسب الرواية عمن قال: " أحلتهما آية، وحرمتهما آية " إلا وهما من الراوي، إذ المحكي عنه هذا أجل من أن يشتبه عليه ما ليس بمشتبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) واقع - والله أعلم - على المحصنات بالأزواج خصوصا دون المحصنات بالإسلام عموما، إذ لو كان واقعا على المسلمات عموما ذوات الأزواج، وغير ذواتهم ما حلت امرأة أبدا باسم التزويج، ولكان التحليل في الوطء بملك اليمين دون غيره، ولكان قوله جل جلاله: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) فارغا من الفائدة أو ناسخا لقوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) في أشباه له، لأنهن كن يحرمن باسم الإحصان الشامل للإسلام والتزويج. والمسميات قبلهن من الأمهات ومن معهن بالتسمية فكان يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 عاما، وفي ذلك هدم الإسلام ومنع أهله من التزويج. * * * وقوله تعالى: (إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) مقصود به السبيات من المشركات اللواتي يسترققن بالاستيلاء دون الإماء ذوات الأزواج من المؤمنات. وذلك لأن سبيهن يفرق بينهن وبين أزواجهن بلا إحداث طلاق منهم، ويحلهن لمن صرن له إماء بعد حيض الحائل ووضع الحامل. ولا أحسب الرواية عن ابن مسعود - رضي الله عنه - في نزول الآية في المسلمين والمشركين تصح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 إذ حكم الإسلام، وإجماع أهل الملة كافة على أن لا يحل فرج واحد لرجلين في حال، فإن كانت الآية نازلة في المسلمة أيضا فهي إذا تبيح للمالك الأول وطي أمة شغلها بزوج قبل أن يكون بيعها طلاقها للمالك الثاني - إذ كلاهما مالك رق، والمرقوق ملك يمينه - فالاقتصار بتحليل الوطء على أحدهما: تحكم في معنى الآية إن كانت نازلة فيه. ولئن كان بيع الأمة طلاقها من أجل أنها محصنة مستثناة بالملك في تحليل الوطء لتزويج سيدها إياها من غيره ما دام ملكه عليها قائما خطأ، لأن الملك الحادث عليها بالبيع إن كان يحرمها على الزوج لفضل قوته على عقدة النكاح - فالملك الأصلي أحرى أن يمنع من ثبوت عقد النكاح أو يبيح وطئها بعد النكاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وقد روي عن ابن عباس أيضا أنه جعل بيعها طلاقها، وما أحسبه ثابتا عنه، إذ هو وابن مسعود - رضي الله عنهما - أعظم قدرا، وأفقه نفرا من أن يذهب عليهما هذا مع وضوحه وقلة تشابهه. فأما احتجاج من احتج لإبطال طلاق الأمة إذا بيعت بتخيير النبي، صلى الله عليه وسلم، بريرة بعد ما اشترتها عائشة وأعتقها، فهو عندي بعيد منه، لأن عائشة - رضى الله عنها - امرأة لا يحل لها ملكها الإماء وطيا، كما يحل للرجال، حتى يلحقها حظ من استثناء قوله: (إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) . فليس لاعتباره بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كان رأى بيعها طلاقا لم يخيرها، وقد أبانها الطلاق الحادث عليها بالشرى - وجه، بل هو وهم منه أغفل فيه مقصده، والله يغفر لنا وله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 فالتحريم في الآية واقع على المحصنات ذوات الأزواج من المسلمين والمشركين، وإباحة ما وراءهن على سائر النساء، إلا تزويج المرأة على عمتها، أو خالتها بسنة رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - والاستثناء على السبايا دون سائرهن والمسميات من الأمهات وغيرهن مستغنيات بالتسمية. الشريعة: * * * قوله: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 دليل على أن لنا أسوة بمن مضى في جميع الشرائع والأحكام، إلا ما دلنا عليه كتاب، أو سنة، أو إجماع من نسخه عنا وتبديله بغيره لنا. في تفسير حلائل أبنائكم: * * * قوله: (وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ) يحتج قوم من أهل الكلام به، فيزعمون أن حليلة السبط حلال للجد، لاشتراط الله - جل وتعالى - ولد الصلب، وذلك غلط، إنما نزلت هذه الآية - فيما بلغنا - حيث أنكر المشركون تزويج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، امرأة زيد بن حارثة، وكان قد تبناه، فكان يدعى زيد بن محمد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 فقالوا: كيف يتزوج بحليلة ابنه، ويزعم أن الله حرم على المسلمين حلائل الأبناء، فنزلت الآية: (وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ) . ونزلت: (وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ) ونزلت: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) فإن قيل: فكيف يجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن حلائل الأبناء قبل أن ينزل الله هذه الآية في تحريمهن مع من حرم معهن، قيل: قد يجوز أن تكون نزلت: ((وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ) ، (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) فلما قال مشركو مكة ما قالوا في تزويجه امرأة زيد، نزل هذا الحرف، فضم إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 كما كان نزل: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فلما جاء ابن أم مكتوم وشكي عجزه عن الجهاد نزل: (غَيْرُ أُولِي) فألحق به، والله " أعلم. وقد دللنا على أن اسم الولد لا يسقط عن الأسباط وإن سفلوا في سورة البقرة واحتججنا فيه بقوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا) ، وقوله في غيرها: ((يَا بَنِي آدَمَ) فإذا كان الابن مولودا فأسباطه أبناء الجد لا شك فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 رد على القدرية: * * * وقوله تعالى: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) حجة على القدرية واضحة لو أنصفوا ولم يكابروا لحجتين: إحداهما، قوله: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ) ، (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) وعوده له بعد بدء ما أصابك من حسنة، وما أصابك من سيئة " فكيف يقدر المرء أن يحترز مما يصيبه، وقد كرره جل وتعالى مرة بعد أخرى، ولم يقل: ما أصبت، فهذه إحدى الحجتين. والأخرى: أنه قد قال جل وعز: (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) تكذيبا لقولهم فيما فرقوا بين الإصابتين، فمحال أن ينقضه على إثر النكير والتكذيب، فيقول: الحسنة من عندي، والسيئة من نفسك. هذا ما لا يذهب على ذي حجي إذا تدبره، وكثير من أهل نحلتنا يزعمون: أن في قوله: (مَا أَصَابَكَ) ضمير " يقولون " وهو كما قالوا، إن شاء الله، كأنه قال: (فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 ، كما قال عز وجل: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا) فيه: والله أعلم ضمير يقولون. وهذا وإن كان كذلك، فالاحتجاج به عليهم لا وجه له، لإنكارهم واعتلالهم بأنه ليس بمسطور، وما احتججنا به غير مستطيعين رده. * * * قوله: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) حجة عليهم: لإخباره في ابتداء الآية عنهم بالكسب، وفي سياقها عن نفسه بالإضلال لهم، وتوكيده ذلك بقوله: (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) . وهذا أيضا من المواضع التي يحسن فيها حذف هاء المفعول ألا تراه يقول في موضع آخر: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) ، فأثبت الهاء لجواز الحذف والإثبات. ثم قال: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 ولقد بلغني عن بعضهم أنه قال في هذا وفي قوله: (يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ) وأشباهه في القرآن إنه ينسبهم إلى الضلال كأنه يومي إلى أنه يضلل من يشاء بالتثقيل بمعنى أنهم ضلال. وهذا قول يستغني سامعه بقبحه عن إيراد الحجة في نقضه، ومن كان هذا مبلغ علمه باللغة لم يحسن به التروس بالبدعة. شأن الصلاة: * * * قوله تعالى (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) حجة لمن يقول: إن المسافر بالخيار في إتمام الصلاة وقصرها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 ورد على من يقول: فرضه ركعتان. إذ لو كان كذلك ما رد الأمر إليهم وأزال عنهم الجناح في القصر، ولكان فاقصروا على لفظ الأمر، والله أعلم. * * * وقوله: (إِنْ خِفْتُمْ) - شرطه، فثبتت رخصة القصر في الخوف بالقرآن وفي الأمن بالسنة. وعلى جوازه دهماء الأمة، واختلافهم في أنواع الأسفار لا في الأمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 صلاة الجماعة: * * * وقوله: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) حجة لمن يزعم أن صلاة الجماعة فرض، إذ لا تجوز أفعال الضرورة - من التقدم والتأخر والانتظار - في صلاة يستطيع المنفرد أن لا يفعلها ولو فعلها فسدت عليه، إلا وإقامتها في الجماعة فرض، ويؤيد هذا من قوله: " تواعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحراق بيوت من تخلف عنها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 وهذه النكتة من الكتاب والسنة، وإن كان فيها متعلق، فليس الأمر عندي كذلك، إذ ابتداء الآية ليس فيه أمر بإقامتها كذلك. إنما هو تعليم له، صلى الله عليه وسلم، كيف يصليها بأصحابه، واستدلاله بأفعال الضرورة فيها على إيجابها ليس كذلك، إذ العمل على الجملة في الصلاة مفسد لها، وقد عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة أعمالا وأمر بأخرى منها: حمله أسامة، وفتحه الباب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وأمره بقتل الحية، والعقرب. فلم يجز أن يباح سائر الأعمال فيها اعتبارا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عمل بعضها والموجب بصلاة الجماعة المعتبر بصلاة الخوف وما ذكرنا من السنة لا يقول بالقياس. فكيف يجوز له الاعتبار بأعمال الضرورة فيها على إيجابها، بل يلزمه أن يسلم لكل هذه الأشياء في مواضعها ولا يحمل غيرها عليها. والذي يسلط عليه النظر - والله أعلم - أن صلاة الخوف صليت في جماعة ليبادر بالفراغ منها خروج الوقت إذ لا يمكن لجيش أن يصلي واحد بعد آخر قبل ذهاب الوقت، ولعلها صليت مع ذلك في آخر الوقت فكان أضيق عليهم. وما احتج به من وعيد النبي، صلى الله عليه وسلم، بتحريق البيوت، فهو - والله أعلم - للمنافقين لا للمسلمين، ألا تراه، صلى الله عليه وسلم، يقوله في الحديث: " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 لقد هممت أن يحطب حطب ويؤمر بالصلاة فينادى بها ثم آمر، رجلا يؤم الناس ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عن الصلاة فأحرق عليهم ". وقال في آخر الحديث: " والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا من شاة سمينة أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء. فكيف يدع صلى الله عليه وسلم فرضا يتواعد غيره على تركه بحرق البيوت ويشتغل بحرقها، هلا كان يحرقها بعد الفراغ من فرض الجماعة لو أعدها فرضا،! وقوله صلى الله عليه وسلم: " لشهد العشاء " محقق أنه للمنافقين لأنه قد قال: في غير هذا الحديث أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والصبح، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وأما احتجاجه بحديث ابن أم مكتوم فإن عاصما رواه عن أبي رزين عن ابن أم مكتوم وفيهم من يرسله، فيقول: إن ابن أم مكتوم سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك فقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 عارضه حديث عتبان بن مالك وهو أصبح إسناداً منه لا محالة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 والذي يزيل الريب كله حديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: " صلاة الجماعة تزيد على صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة ". وكل حديث روي في ذلك لا يكافي حديث مالك. هذا، ونحن نؤكد صلاة الجماعة ولا نبيح تركها لمن قدر عليها بأي وجه كان، ولا نرخص في تركها إلا من عذر بين من غير أن نعدها فرضا، فمن رأى إتيانها من وكيد السنة ولم ير في تركها رأي الرافضة ثم تخلف عنها من غير عذر وصلى في منزله ضيع حظ نفسه وأجزأته صلاته في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 بيته، وفاتته درجات الحاضرين من غير أن يكون لفرضه من التاركين وقد رأى النبي، صلى الله عليه وسلم، الرجل الذي أمره بإعادة الصلاة ثلاث مرات وحده وما يحسنها " فلم يعب عليه انفراده، إنما عاب عليه ما عمله، ولم يقل: لا تصلها إلا في جماعة، فإنها لا تجزيك إلا فيها، وقال لمن صلى في رحله: " إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الصلاة مع الإمام فليصلها معه فإنها له نافلة". فجعل فرضها للأولى التي انفرد بها ولم يجعلها التي صلاها في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 جماعة، وقوله: (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) دليل على أن الجماعة قد يجوز أن يخبر عنهم بلفظ الواحد، لأنه - جل وتعالى - لم يقل: أعداء مبينين، ومثله في القرآن كثير. رد على الشبراة: * * * قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) . رد على المعتزلة في باب الوعيد وعلى الشركة في باب الذنوب: فأما الرد على المعتزلة: فإنهم يزعمون أن من مات على ذنوبه غير تائب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 منها فهو مخلد في النار، وقد أخبر الله في هذه الآية: أن في المحتقبين ذنوبا ماتوا عليها من غير توبة - من يغفر له، ولم يوئيس من الغفران إلا الكفار الذين يموتون بكفرهم فأما من تاب من الكفر واستغفر من الذنوب من الموحدين فليس بداخل في هذه الآية، إذ يقول تبارك وتعالى في الكفار: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) وقال: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) فعلمنا أن قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) واقع على من مات كافرا. وقال في المؤمنين المذنبين: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وقال: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وقال: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) فعلمنا أن قوله: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) لمن مات على غير توبة، إذ التائب من الكفر والذنب قد محصت التوبة عنهما ما احتقباه فحصلت الآية لغيرهما. وأما الرد على الشراة في باب الذنوب، فإنهم يعدون صغيرها وكبيرها كفرا فإذا كان الكفر كفرا والذنب كفرا، فما الشيء الذي يغفره الله بعد الشرك لمن يشاء، هذا ما لا يذهب على المميزين إذا أبصروه وأعملوا الفكر فيه مع أنه بحمد الله جلي واضح، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 رد على من يقول بخلق القرآن: * * * قوله: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) حجة على من يقول بخلق القرآن، إذ لو كان القيل على المجاز ما كان يقال فيه هذا، وكيف يجوز أن يقال: من أصدق قيلا من حائط فلان إذا مال، فسقط، هذا يستحيل في اللغة والعقول لو تدبروه. رد على الجهمية: * * * قوله: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) حجة على الجهمية وبلغني أنهم يجعلون الخليل في هذا الموضع: الفقير، كأنه: اتخذه فقيرا إليه، يذهبون به إلى الخلة بفتح الخاء فرارا مما يلزمهم في الخلة بضمها، ويحتجون ببيت لزهير بن أبي سلمى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وإن أتاه خليل يوم مسألة يقول لا غائب مالي ولا حرم والخليل وإن كانت العرب تسمي به الفقير فهي لا تأبى من تسمية الصديق به بل تسميتها الصديق به أكثر، وعلى ألسنتها أسير، ولو كان تسمية الفقير به أشهر عندها من تسمية الصديق به، لكان إعدادهم إياه هاهنا فقيرا من الإفراط في الجهل، والنقيصة في العقل، إذ هو موضوع موضع الفضيلة لإبراهيم، صلى الله عليه وسلم، فكيف يمدح إبراهيم بشيء يشاركه فيه جميع الناس قبله وبعده، كافرهم ومسلمهم، بل يشاركه فيه جميع الروحانيين من البهائم والحشرات وسائر الخلق من الجن والشياطن، إذ لا نعلم أحدا من هؤلاء إلي فقيرا إلى الله، وهل أتى على إبراهيم وقت لم يكن فيه فقيرا إلى الله قبل النبوة وبعدها،! ثم اتخذه فقيرا إليه، وهل خص الله إبراهيم، وحده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 بالفقر إليه من بين سائر العالم، حتى يذهب بتأويل الخليل إليه وهل كان قبل اتخاذه إياه - فقيرا إليه - غنيا عنه، أو يجوز أن يكون أحد من الملائكة وحملة العرش والأنبياء والمرسلين غنيا عن الله في شيء من الأحوال، ولا أعلم المساكين يفزعون إلى اللغة في وقت، إلا غلطوا طريقها، وجاءوا بأفظع مما يفرون منه. وبيت زهير يمدح به هرم بن سنان. قد يجوز أن يكون لهرم خليل يحبه فيسأله في حمالات وديات ولوائح يتوسلون به إلى هرم - فلا يرده عنها فيكون الخليل في بيت زهير أيضا صديقا، وإن كان غير ضار كينونته فقيرا. حجة على مثبتي الاستطاعة. * * * وقوله: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) حجة على مثبتي الاستطاعة بكل حال، وقد أخبر الله نصا عن المأمورين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 بالعدل بين النساء أنهم لا يستطيعونه ولو حرصوا. وهذه آية يحتج بها في باب الفقه، ولكن هذه النكتة فيها حجة عليهم بينة مع أن نفي هذه الاستطاعة أبين في العيان والتجارب من أن يضطر فيها إلى الخبر، إذ كل امريء عارف من نفسه بأنه غير مالك لقلبه، والاستطاعة - لا محالة - سلطان مفرق على الجوارح، والقلب ملكها، فسلطانه الإضمار والنبوّ، كما أن سلطان اليد البسط والقبض، وسلطان العين النظر والغض، فإذا رأينا بعض أجزاء الاستطاعة بالعيان غير مملوك علمنا أن وقوعه من حيث لا حيلة في رده مخلوق، وإذا ثبتت خلق بعض شيء بعينه ثبت خلق جميعه، وإن كان اللطيفة في إدراك علم بعضه أخفى منها، في بعض، وكيف يجوز مكابرة العيان والمشاهدة، ونحن نرى قلبا نابئا عما يحب بقاءه، وباقيا فيه ما يحب فناءه، ونرى أشياء يشتهيها العبد ويحرص على فعلها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 وأشياء يحترز منها جهده وطاقته وهي تقع به على كراهيته لها حتى إن الرجل ليحرص على مواقعة معصية ويعمل فيها حيله، ويتمكن منها فيحال بينه وبينها وهو متلهف متعدد على فواتها متحسر على بعدها منه، وآخر يحرص على عمل الطاعات استفرغ مجهوده في الوصول إلى فعلها لا يستطيع إتمامها، فأين تثبت الاستطاعة مع مشاهدة هذه الأشياء عيانا، فهل يمكن الوصول إلى كلا الفعلين من الطاعات والمعاصي إلا بقضاء سابق. رد على المرجئة: * * * قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) رد على المرجئة فيما ينكرون من زيادة الإيمان، إذ قد أمر المؤمنين بأن يؤمنوا. رد على الجهمية: * * * وقوله: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 رد على الجهمية، إذ قوله: (وَهُوَ خَادِعُهُمْ) لا محالة رد لقولهم، وإبطال لفعلهم وتثبيت لفعله، ولا يخلو العدل المضاف إليهم من مجاز أو حقيقة في الإخبار، فإن كان حقيقة فجوابه أحق بالحقيقة منه، وإن كان مجازا فلا ذنب لهم فيه، ولا يستوجبون عقوبة عليه، وهذا لا يجوز توهمه فكيف تقوله ولا ثالث له،! * * * قوله: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) حجة على القدرية والمعتزلة. قوله (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) حجة على المعتزلة والمرجئة. فأما على المعتزلة فقوله: (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا) ولم يقل: تطبعت وأما على المرجئة: فذكر قلة الإيمان، وما كان له قليل كان له كثير وصار ذا أجزاء. حجة علما الجهمية: * * * وقوله: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) حجة على الجهمية وهي من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 كبار الحجج عليهم. ويحتجون بأن الكلام منه على المجاز، والمجاز لا يؤكد بالمصدر، وقد أكده - جل وعلا - كما ترى، فجاء بالتكليم. ولقد بلغني عن بعض المتحذلقين من أستاذيهم أنه لما نظر إلى ما يلزمه في هذه الآية من تأكيد المصدر تطرق إلى تأويل أقبح من المجاز، فقال: معنى كلمه، أوجد كلاما سمعه، فقبحا لقوم يدعون الفلسفة في دقيق العويص ثم ينسلخون منه انسلاخ الشعرة من العجين، أليس من أصولهم - ويحهم - أن لا يقبلوا شيئا يدفعه العقل، فأي عقل يقبل أن يسمي الكلام كلاما قبل أن يتكلم به، فلو أنهم حيث خالفوا القرآن ثبتوا على المعقول، كان أقل لفضيحتهم عند أنفسهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 فكانوا يقولون: أنطق جبريل بما أراد به مخاطبة الرسول من غير أن يتكلم تعالى الله به فكان يكون لإيجاده ما سمعه حينئذ معنى في العقل، وإن كان أيضا خلاف الحق، ويكون اسم الكلام لم يقع عليه قبل أن يتكلم به، فإن توهم هذا متوهم قيل له: إنما كنا نثبت عليك نفى الخلق عن القرآن ما دمت تؤمن به، وهو يكذبك، فإذا صرت تكفر بأصله اشتغلنا بغيرك ممن يؤمن به. فنحتج منه عليه، وما عسى يقولون في قوله - جل جلاله - (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) أيجوز أن يكون الكلام الذي أوجده بزعمهم من غير أن يتكلم به يقول: (إِنِّي أَنَا اللَّهُ) ، فهلا قال: - ويحهم - إنه هو الله رب العالمين،. وقالت - تبارك وتعالى - (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فهلا كان: أنه جاعل في الأرض خليفة، ويكون الجواب منهم قالوا: أيجعل فيها - بالياء - ونحن نسبح بحمده، ونقدسه - بالهاء -، ومثل هذا كثير في القرآن، وهم مع خلافهم القرآن وخروجهم من العقول، قد غلطوا في اللغة أفحش غلط، فيما زعموا: أن (كلم الله) أوجده خلافا خلقه له، لا كلاما تكلم به - إذ لو كان كذلك، لكان: وأكلم الله موسى إكلاما كما قالت: (ثم أماته فأقبره) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 أي: جعل له قبرا، فيكون أكلمه: جعل له كلاما، ولو لم يذهبوا بإيجاده إلى معنى المخلوق، لكانوا مصيبين، لأنه - جل جلاله -: إذا أسمعه ما تكلم به، فقد أوجده، ولكن لا يصير بإيجاده له مخلوقا إذا لم يكن في الأصل مخلوقا ولقد بلغني عن بعض سفهائهم أنه ذهب بالتكليم إلى الكلم من الجراحة، ولم يحفل بتحويل المدح ذماً حرضا على تصحيح مقالته في نفي الكلام عن خالقه وتحقيق الجرح منه على نبيه، صلى الله عليه وسلم. ولولا ما أحببت من وقوف أهل السلامة من أهل نحلتنا على فضائحهم ليتعوذوا بالله منها لصنت هذا الكتاب عن إيراد هذه الحماقات فيه. ميراث: * * * وقوله: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ) دليل على أن الإخوة والأخوات لا يرثون مع إناث الأولاد، كما لا يرثون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 مع ذكورهم، لشمول اسم الولد لهن كشموله لهم، ولا يجوز ترك نص القرآن وتوريثهم معهن بغير طائل من حجة، ولو جاز أن يوقع اسم الولد على الذكور في هذا الموضع دون الإناث جاز أن لا تحجب الأم عن الثلث بإناث الأولاد ولا الزوج عن النصف والزوجة عن الربع بهن، ولا أعرف حجة في حجب هؤلاء أكثر من أن اسم الولد لازم لهن كما يلزم الذكور، فتخصيص الذكور به في آية الكلالة وتعميمه في آية الأبوين والزوج والزوجة - لا أعرف وجهه وسبيل العموم أن لا يخص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 فالاختلاف موجود في ميراث الأخوات مع البنات فإن حصل إجماع في توريث الإخوة معهن وإلا فهم أسوة أخواتهم في الإسقاط في حكم الآية. وليس في حديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 أبي قيس عن هزيل من القوة ما يخص به عموم الكتاب. فمن ذهب إليه وعدل أبا قيس وكان مع الجمهور الأعظم من الفرضيين فهو وجه. ومن كان مع ابن عباس ومن تبعه عليه لم نعنفه كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 كل التعنيف. وبالله التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 سورة المائدة " أوفوا بالعقود " قوله عز وجل (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا) . دليل على أن من اكتسب في حجه، والتمس فضل تجارته لم يخل بطلبته، وأن نيته في كلا القصدين موصلة إلى جميع الطلبين، وكذا قال في سورة البقرة: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) والفضل - والله أعلم - في كلا الموضعين: طلب نيل الدنيا، من التجارة والكسب. ألا تراه يقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا) ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 فأطلق ما كان منع منه عند نداء الجمعة، وهي التجارة، وحديث أبى أمامة التيمي في الكرى بين في الآية من سورة البقرة، فليس لأحد من المتعمقين أن يحظر سعة رحمة الله بالتضييق على عباده في الجمع بين طلب الآخرة والدنيا، إذ المباح من طلبها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 غير مؤثر في الإرادات ولا بمفسد مقاصد الطلبات، والله - جل وعلا - عارف بضمائر قاصديه وغير مخيب آمال مؤملينه وشاكر لكل نيته على ما أودع طويته. فإن قيل: أوليس نهيه عن البيع عند النداء لصلاة الجمعة معارضا للآيتين، قيل: معاذ الله أن يكون معارضا لهما، إذ الاشتغال بالبيع مانع من حضور الجمعة وليس الاكتساب في الحج بمانع من فعل المناسك وشهود المشاهد، مع أنه لو قدر على حضور الجمعة مع البيع بعد النداء لها ما كان منعه من فعل بعينه يعارض فعلا سواه، إذ المعارضة لا تكون إلا في اجتماع منع وإطلاق على فعل واحد، فيلتمس حينئذ لهما مخرج لا على فعلين مختلفين. نكتة شنآن قوم: وقوله عز وجل: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) دليل على أن: العدوان غير المقابلة، وهو ما زاد عليها ألا تراه - جل جلاله - يقول: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) ، وقال: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) فالمقتصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 على مثل ما فعل به مقابل، والزائد عليه متعدي، ويؤيده من السنة حديثه، صلى الله عليه وسلم: " المستعان ما قالا فعلى البادي ما لم يعتدي المظلوم " (1) . وفيه من جهة الفقه مايؤيد قول الشافعي - رضي الله عنه - في إباحته للمظلوم أن يأخذ من مال ظالمه مثل ظلامته علم به أم لم يعلم، وأن ما خرجه من الحديث المروي: " أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك " كما خرجه.   (1) رواه مسلم في صحيحه (4/ 0 0 0 2) ح (587 2) كتاب: البر والصلة والآداب، باب: النهي عن السباب. ومعنى الحديث كما قال النووي في شرح صحيح مسلم (16/ 140) : ما معناه: أن إثم السباب الواقع من اثنين مختص بالبادي منهما كله إلا أن يتجاوز الثاني قدر الانتصار فيقول للبادي أكثر مما قال له ... ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 لا يكون خاطئا ما دام يأخذ حقه فإذا استوفاه، وأراد شيئا سواه استوجب كما كان ظالمه بأول درهم أخذه خائنا. قال محمد بن علي: وأرى جماعة يحملهم شنئان داود الأصفهاني على العدوان عليه بإلزامه ما لم يلزمه والتقول عليه ما لم يقله، وداود وإن كان عندنا غير مرضي لتخاليط بلغتنا عنه، وصحت برواية الثقات عليه فليس بأعظم جرما ممن صد عن المسجد الحرام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه - رضي الله عنهم - من كفار قريش، وله بهم أسوة في ترك العدوان عليه، فمما يلزمونه ظلما ولا يلزمه: تحليل شحم الخنزير لتسمية اللحم بالتحريم في قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) وهذا هو التعدي بعينه، وإضاعة المراقبة من ملزمه إن كان عالما، وإغفال متفاوت منه إن كان مجتهدا لإعواز الوصول إلى زكاة الخنزير بوجه من الوجوه الذي يصير به الحيوان ذكيا، فلما كان إفاتة روح الخنزير بوقذه وفري أوداجه وقطع حلقومه ومريه سيان كان شحمه إن لم يحرم باسمه حرم بأنه جزء من أجزاء الميتة المحرمة بنص القرآن، إذ اسم الميتة غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 مزائل خنزيرا فارقته الحياة، فصار لحمه وشحمه وعروقه وعصبه وكل ما فارقته الروح من بدنه ميتاً كله. فكيف يلزم المسكين إباحة الميتة وهو من أشد الناس لزوما للنص، وهل يصل إلى شحم الخنزير معرى من شمول اسم الميتة له، حتى يلزمه إباحته، وإنما أفرد الله تحريم لحمه بالذكر، وهو أعلم واسم الميتة شاملة تأكيدا على ما كان آكلوه يفردونه ويفردون المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، واسم الميتة - لا محالة - شامل لجميع هذه الأشياء، فحرمها - جل وتعالى - عليهم مذكورة بأساميها المعروفة عندهم فيها، فلا وصول إلى لحم الخنزير ولا شحمه إلا بشمول اسم الميتة لهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 ومن جليل الفائدة في قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) بعد معرفة تحريمها - تعليمه إيانا أن ما حرم أكله علينا لم تحلله الشفرة لنا وأن ذبحه بمنزلة عقره، والعقير لا يكون ذكيا بل يكون ميتة، فالخنزير - كيف قتل - عقير لا ذكي، وشحمه ميتة. ويلزمونه أيضا: إباحة أكل الغائط، وشرب البول والقيح. وكيف يلزمه وقد قال الله - تبارك وتعالى - في هذه السورة: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) أفيرتاب بشر بأنها ليست من الطيبات وهي معدودة في أعداد النجاسات والمرفوضات، والنفوس بأسرها نابية عنها وغير طيبة بأكلها، حتى المجوس تأكل الميتة وتأباها وتجذرها، فهل يقع اسم الطيبات على ما هذه حاله عند جميع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 العالم مسلمهم وكافرهم ومنتظفهم وأوساخهم،. وهل هي إلا لاحقة بالخبائث التي قال الله - تبارك وتعالي - في سورة الأعراف في رسوله صلى الله عليه وسلم: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) . فهذه الأشياء وما يضاهيها من الإلزامات لا تليق بأهل العلم ومن أنه مسئول محاسب، وأخاف أن يكون تفكها بالسخافة وتنادوا بالبطالة، ولو جعلوا بعض هذا التشنيع عليه في شيء بلغني عنه - إن كان قاله فإني لا أيقنه ولا نظرت في كتبه - كان أشبه. بلغني أنه قاله: لا يجوز الصيد بشيء من الجوارح إلا الكلاب وحدها، لأن الله - تبارك وتعالى - قال: (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ) ، فدلت على أنه قصد بها الكلاب دون سائرها. وهذا قوله يستغني سامعه بقبحه عن استماع نقضه، ودال علي تزييف قوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 هذا الرجل دون سائر ما حكي عنه، فإن من خفي عليه أن قوله: (مكلبين) هو من نعت المعلمين لا من نعت الجوارح جدير أن لا يعد في عدد العلماء والمميزين من الفهماء. والقرآن فيه اختصار شديد فكأنه - والله أعلم -: وما علمتم من الجوارح مكلبين لها، ولو لم يدل عليه إلي كسر اللام، لوجب أن يعلم أنهم متخذوها ضارية بالتعليم لها لتكلب على الصيد لا أنهم جاعلوها كلابا، وقد خلقها الله كذلك، وسميت كلابا قبل تعليمهم مع أن مكلبين لو كانت مفتوحة اللام أيهما ما جاز أن نخص بها الكلاب دون سائر الجوارح، إذ جميعها يستجلب على الصيد استكلابا واحدا، وإن كان بعضها أقوى عليه من بعض. والاستكلاب في لغة العرب: التوثب على الشيء والتسرع إليه، فهو واقع على كل من كان هذا منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أباح للمحرم قتل الكلب العقور، فهل يجوز لأحد أن يقول: إن المحرم محظور عليه قتل الأسد، والدب، والذئب، والنمر وأشباه ذلك؛ لأن قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا يقع إلا على الكلاب المنفردة بهذا الاسم دون من يستحقه من السباع بما فيه من معنى الاستكلاب، ويقولون: استجلب فلان على كذا إذا أكثر فعله ولم ينكر عليه ولم يزل الناس من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليوم في الشرق والغرب يعلمون الفهودة، والصبورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 والبزاة والعقبان والشواهين والبواشق، وغيرها ويصيدون بها، علما منهم بأنها مستكلبة على ما ترسل عليه من أنواع الصيد لا ينكره منكر ولا يعيبه عالمهما ولا ينهى عنه عالم إلا شيء ذكر عن طاووس، ما أحسبه ثبت عنه، والإجماع عند هذا الرجل من أكبر الحجج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وذكر غير واحد في حديث عدي بن حاتم أنه قال: قلت: يا رسول الله: إنا نصيد بهذه الكلاب والطير،. وسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن قتل البازي فقال: "كل " وفي حديث أبي رافع سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 عن الصايد جملة من غير تفسير. فمثل هذا إذا خالفه مخالف يجوز أن يستعظم، فأما إذا ألزم مالا يلزمه لم يلحقه عاره وحسن إنكاره. طهارة: * * * وقوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) ، دليل على غير شيء: فأولها: أن المريض مخصوص بإباحة التيمم له، وجد الماء أو لم يجده. إذ محال أن يبيح للصحيح التيمم بعد عدم الماء، والمريض في مثل حالة عدمه، إلا وفيه معنى يكون به مخصوصا دون الصحيح لئلا يكون ذكره فارغا بلا فائدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 والفائدة فيه ما قلنا من إباحة التيمم له واجدا للماء أو عادما له. والثاني: أن في ذكر المرض خصوص - والله أعلم - هو أنه المرض، الذي لا يصدر معه على إمساس الماء جوارحه، مثل الجرح المخوف من الجدري والحصبة إذا غطيا بدنه وفتحاه، وأشباه ذلك دون الحمى وأوجاع الجسد التي لا تكلم. والثالث: اختصار في قوله: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ) وكناية عن الأحداث، إذ هو - لا محالة - أو جاء أحد منكم من الغائط وقد كان منه حدث من بول أو غيره. والرابع: أن في قوله: (منه) دليل على أن التيمم ضربتان، إذ المقتصر على ضربة مفرغ ما عبق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 من الصعيد وغباره في الوجه، فيكون ماسحا يديه بغير شىء منه. حجة على المعتزلة والقدرية: * * * قوله: (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) حجة على القدرية والمعتزلة. حجة على المرجئة: * * * قوله: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) حجة على المرجئة، إذ ليس يخلو قولهم في تجريد الإيمان بالقول من أن يكون محسوبا لهم بلا مشاركة القلوب له، أولا يسمى القول بالشهادة إيمانا حتى يشاركه الضمير وتصدقه القلوب، فإن كان القول خاليا من الضمير هو: الإيمان عندهم فقد كذبكم الله - جل وتعالى - نصا بقوله: (وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وسماهم مسارعين في الكفر إذا اقتصروا على القول دون القلوب. وإن كان لا يكون الإيمان بالإقرار وحده حتى تساعده القلوب، فقد أقروا بأن العمل من الإيمان، إذ تصديق الضمير فعل من القلب بإجماع الأمة لا ينكره منكر، والقلب أحد أركان الجسد، بل ملكها ورئيسها، والقول شيء، لا يضاف في الجسد إلا إلى اللسان وحده، إذ لا سبيل إلى الإيجاد إلا به، فما بالهم ينكرون تسمية العمل إيمانا، وقد سموه هذه التسمية التي لا تشكل على أحد ينظر فيها، وما بال عمل بعض الجسد يستحق اسم الإيمان ولا يستحقه سائرها من سائره، وهل إطلاق القول في الشهادة وضمير القلب على صدقه إلا من المفترض الذي أمر الله عباده بالخروج إليه منه، فإذا ائتمروا له سمي ذلك الائتمار منهم إيمانا، وتكون الصلاة والزكاة أمرا مثلهما. فإذا ائتمر مؤتمر بأدائهما لم يسم ايتماره إيمانا، هل هذا الأمر إلا من التحكم الصراح الذي لا التباس فيه،. فإن استحسن مستحسن منهم أن يكابر عقله، ويجحد خصمه ما يشهد العيان له بصحته، ويتصور بصورة المجانين عند جميع العالم، فيزعم أن ضمير القلب على الشيء وقوله له ليس بعمل يضاف إليه، ويضاف بطش اليد إليها، ويكون من عملها، أو يزعم أن ضمير القلب جزء من أجزاء القول الذي لا سلطان لغير اللسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 عليه، حرم كلامه وانقطع نظامه وإلا فليوقن بأن ما جحده في التفصيل قد أثبته في الجملة، وأن العمل إذا سمي إيمانا كان نسبته إلى اختلاف أسماء الجوارح وحركاتها لا يغير حكمه أقر به الجاهل، أم جحده. حجة على المعتزلة: * * * وقوله: (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) حجة على المعتزلة والقدرية لذكر الفتنة بلفظها ونفي النفع والضر عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - في دفعها. فإن قيل: الفتنة هاهنا الاختبار. قيل: لو كان كذلك كان - والله أعلم - ومن يرد الله فتواه لا فتنته، كما قال لموسى - صلى الله عليه وسلم -: (وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا) . وكيف يريد اختبار قوم لم يرد تطهير قلوبهم، وهو لو كان كذلك لكان أبلغ في الحجة عليهم حيث يزعمون بألسنتهم أنه جل وتعالى يختبر من لا يطهر قلبه من دنس الكفر، ولا يخلو بالإيمان أبدا، وكيف يطهر وقد منعه التطهير بارتفاع إرادته عنه،. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وهل هذا إلا الذي أنكروه ولم يجيزوا عليه أن يدعو إلى الهداية من قد أضله، ويعذب على فعل هو قضاؤه، فأرى تأويلهم في الفتنة قد أوقعهم فيما هو أشد عليهم مما فروا منه. وهذا وإن كان من أكبر الحجة عليهم، فليست الفتنة هاهنا بمعنى الاختبار، إذ الاختبار عام على جميع الناس، قال الله تبارك وتعالى. (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) وقال: (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ) وقال: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) والفتنة هم المرادون بها خاصة لقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ) . في شأن اليهود الذين تحاكموا إلى النبي، صلى الله عليه وسلم: * * * قوله: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) نازل من الله في اليهود الذين تحاكموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حد الزانية، إذ القصة مبتدئة بذكرهم ومختومة بهم فابتداؤها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) وفي سياقها ما يحققه وهو: (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ) . (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ) أي: في حد الزانيين (وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ) أي: حكمه في رجمهما. وكان تغييرهم حكم الرجم - إلى تحميم الوجوه، والضرب والطواف وادعاؤهم على الله - كفرا، إذ ألغوا له حكما لم ينسخه، وادعوا عليه تبديل مالم ينزله، ثم ساق جل جلاله تمام القصة وقال: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) فباء بالكافرين والظالمين والفاسقين أهل التوراة من اليهود، والإنجيل من النصارى، وأهل الفرقان من ثلاثتها بنعمة الله سالمون. د محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 ابن الحسين بن محمد الهمداني، د. بكر بن سهل بن إسماعيل الدمياطي، د. عبد الله بن يوسف التنيسي د. أبومعاوية محمد بن خازم د. الأعمش، عن عبد الله بن مرة عن البراء بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 عازب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالي:وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) ، (ووَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْظالمونَ (45) ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) قال: " هي في الكفار وحدها. فيقال لمن يحتج بها من الشراة وغيرهم في تكفير أهل القبلة بالذنوب: ما حجتكم في التسوية بين الجميع، وأهل الفرقان عالمون بأن أحكام الله المنزلة في كتابه حق والحكم بها عليهم فرض، وأنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 بتركها عاصون، وعلى إضاعتها معاقبون، وهم مع ذلك مسلمون، ومن أنزلت فيهم الآيات يهود ونصارى لا يرتاب بكفرهم جميع أهل النحل. أيجوز لمتوهم يتوهم أنهم قبل أن يحكموا رسوله الله - صلى الله عليه وسلم -،ويدعوا حكم التوراة يكونوا كافرين، ولا ضرهم رد نبوته وجحود رسالته، فاستوجبوا الكفر بترك حكم التوراة في الزمنين، كما تزعمون أن الموحد من المسلمين يكفر بترك حكم الله إلى ضده. فإن قالوا: إن هذا يجوز توهمه وتحققه بان كفرهم وكفيت مؤنتهم. فإن قالوا: بل كانوا قبل الحكم برد النبوة كفارا فصار تغييرهم الحكم زيادة في كفرهم، قيل لهم: فما وجه تكفيركم من قبل نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وصار بها مسلما - بتركه استعمال حكم الله. أيكون زيادة في كفر ليس فيه، أم يكون مضموما إلى إسلام ليس من جنسه، أم يحبط إحسان عمر طويل بإساءة لحظة، ويهدم به ما أصلتموه في باب العدل. أم تكون نفس واحدة كافرة بإساءتها مؤمنة بإحسانها، تستوجب بنصيب إيمانها الخلود في الجنة، وبنصيب كفرها الخلود في النار، هذا - والله - أفحش مقال وأقبح انتحال. فإن قال الشراة: ليس من النصفة أن تحتج علينا بأن الآية نزلت في الرجم الذي أدته إليك الأخبار، ونحن لا نؤمن بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 قيل لهم: اجعلوه في أي حكم شئتم، أليس يكون منزلا في غير أهل الفرقان، فإن قالوا: أفلا يجوز أن يكون نزوله فيهم، فيدخل من عمل بعملهم معهم،. قيل: بلى إذا ساووهم في الكمال كانوا مثلهم في الأفعال، وسموا به كفارا وإن عملوا ببعض أفعالهم، ولم يساووهم في جميع صفاتهم كانوا عصاة بذلك الفعل. فنقول من حكم بضد حكم الله مدعيا به على الله أو جاحدا بما أنزله من أحكامه فهو كافر، لأن من جحد القرآن، وقد شهد الله بإنزاله، أو نسب إليه ما لم ينزله، فقد كذب عليه، ومن كذب عليه لم يرتب بكفره، لقوله تبارك وتعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) فسماهم كفارا، فمن كان تاركا لما أنزل الله في أحكامه على هذه الصفة، فقد ساوى من أنزلت فيهم الآيات من اليهود والنصارى واستحق اسم الكفر والظلم والفسق. ومن حمله حرص الدرهم والدينار، أو بلوغ ثأر، أو شهوة نفس على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 ترك حكم الله، وهو عالم بعدوانه عارف بإساءته، حذرٌ من سوء صنيعه، مصدق لربه فيما أنزل من الأحكام، شاهد عليها بالحق المفترض عليه العمل به، ولم يساوهم فيها، وهو باق على إسلامه عاص لربه، فأفعاله تستوجب عقوبته إن لم يجد بالصفح عنه. فإن تاب لحق بالتائبين، ومن يستوجب المغفرة من المذنبين، ومن لحقه الموت قبل التوبة كان له طريقان: أحدهما: الرجحان في الوزن قال تبارك وتعالي: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) وقال: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) . أفيأتي بالخردلة من الشر ولا يأتي بها من الخير، وهو عدل لا يجور ولا يظلم أو يلحق إساءة يوم بالكفر فيثقل به كفة السيئات لترجح على اكتساب طول عمره جبال الحسنات. إن هذا إلى الافتراء عليه جل جلاله وتكذيبه سبحانه أقرب منه، إلى تعظيمه، وتكفير من خالف أمره، بل هو الكفر بعينه، وسنلخصه بشرح حججه في كتابنا " المجرد " في الرد على المخالفة إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 والآخر: التفضل بالعفو وترك الماقشة في الوزن، قال الله تبارك وتعالى: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ) . وقالت: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا) فهذا لا محالة في المسلمين كله في الظالم والقاصد والسابق، لقوله تبارك وتعالى بعد انقطاع سياق الكلام: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 فسماهم في آية واحدة كفارا وظالمين، كما سمى اليهود والنصارى في تلك الآيات، وسمى بالظلم والاقتصاد، فعلمنا أن الظلم وإن جمعه اسم فهو يفارق به غيره، وكذلك الكفر قد يكون بالله، ويكون بنعمه. والكفر في اللغة: ستر الحق فيجوز أن يكون الحاكم بغير ما أنزل الله ساترا لأحكامه وهو مسلم، ويكون ساترا لها وهو كافر وتختلف درجات الكفر في صفاقة، الستر ورقته، فيكون الجاحد بالغا أقصى عرضة والعاصي مجامعه في الفعل الظاهر مخالفه في الضمير الباطن فلا يستويان في العقوبة ولا يلتقيان في الدرجة، هذا مالا يذهب على من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 قصد الحق بنصح واستقامة، وأضرب عن اللجاج والغلبة بباطل الاحتجاج. فيه تثبيت قول الشافعي - رضي الله عنه - الدم أنجس من الذكر: * * * قوله: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) حجة للشافعي، رضي الله عنه، فيما عيب عليه من قوله: الدم أنجس من الذكر. وقالوا: كيف يفضل جنس من النجس على جنس من الطاهر، إنما كان يجوز أن يقول: أنجس من الذكر لو كان الذكر نجسا، وكان يفضل الدم في النجاسة عليه لئلا يستحيل كلامه. فهذه الآية تصوب قوله. ألا تراه قال جل جلاله قبلها: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ) ، ونحن لا نشك أن إيمانهم بالله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وما أنزل من كتبه خير لا شر وقد قال جل وعلا كما ترى: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ) فأنبأهم بشر من شر عندهم هو خير في الحقيقة، والشافعي، رضي الله عنه، عربي اللسان يتكلم على سعة لسان العرب، فكأنه قال: الدم أنجس من الذكر الذي يظن ظان أن الوضوء من مسه لنجاسته لا للتعبد، والذكر طاهر في الحقيقة وقد أكده تبارك وتعالى بما قال في سياق الآية، (أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) : إذ مكانهم خير ومكان أهل الكتاب شر، ولم يكونوا بالإيمان به وبكتابه ضلالا عن سبيله، وقال في أهل الكتاب: (وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) ومثل هذا قوله: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ولا خالق غيره فيكون هو أحسن منه وهو خير الوارثين) وهو الوارث دون غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 حجة على المعتزلة والقدرية: * * * قوله تعالى: (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) حجة على المعتزلة والقدرية خانقة لهم، إذ الجعل في هذا الوضع كيف تؤول من خلق أو صيرورة كسر قولهم ولم يجدوا عنه محيصا بحيلة، فقد أعد - جل وعلا - عبادتهم الطاغوت في عداد العقوبة وجمع بينه وبين الغضب واللعنة وتحويل صورهم إنما الخنازير والقردة. مبطل تأويل الجهمية: * * * وقوله تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) مبطل تأويل الجهمية في معنى اليد وإعدادهم إياها مرة نعمة، ومرة قوة، ونحن لا ننكر أن العرب قد تخبر عن النعمة والقوة معا باليد غير أن هذا ليس موضعه، بل هو موضع اليدين المسماتين بهما دون القوة والنعمة، إذ اليد - إذا كانت بمعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 النعمة جمعت على أيادي، وقد قال كما ترى: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) فجمعها على الأيدى التي لا تكون إلا جمع اليد لا جمع النعمة، وقد ثنى يديه فقال: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) فأبطل تأويل القوة، إذ كانت القوة لا تثنى، وكذا في سورة " ص " قال: (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) فثناها، فالعجب لقوم لا يرضون للخالق بما رضيه لنفسه فينزهونه بجهلهم عما ليس بتنزيه، ويمدحونه بما هو ذم بل داع إلا التعطيل، وتكذيب القرآن والله المستعان. حجة على المعتزلة والقدرية: * * * قوله: (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) حجة على المعتزلة والقدرية. فإن قيل: فما وجه قوله: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا) وهو أعلم أنهم لا يقدرون على الإيمان إلا بتيسيره عندك،. قيل: قد دللنا في غير موضع من هذا الكتاب وغيره على أن فعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 الفاعل مضاف إليه وإن كان التسيير والمنع من غيره. وهذا غير مستحيل في معقولهم أيضا لو تدبروه، لأنهم يجدون عبدا مخلوقا فيه آلة فعل لا يقدر مع منع مالكه عليه، فإذا أطلقه له ففعله كان الفعل منسوبا إلى الفاعل لا إلى المطلق، والأمر غير الإطلاق، فإذا أمر المخلوق - الذي يجوز في صفته العدل والجور ويكونان جميعا منه - عبده بما لا يستطيع فعله، ثم عاقبه على تركه كان جائزا عليه. إذ غير محال في صفة المخلوق أن يبتدئ بالجور وبالعدل ويختم بهما، وجائز أن ينظر في عدله وجوره مخلوق مثله، فيعرف جوره من عدله ولا يخفى عليه شيء من طريقهما، لأنه وإن خفي على واحد عرفه الآخر، وإذا كان ذلك من الخالق الذي لا يجوز في صفته الجور لم يجز أن يكون معدوما منه إلا في العدل وإن تصور بغيره، إذ المتصور في العقول من ضد العدل يقمعه إحالة نسبة الجور إليه. ونفي هذا الفعل عنه يدفعه إنزاله في كتابه وإخباره متفرجا به عن نفسه ولم يكن تنزيهنا له عن نسبة ما لا نعقل من عدله إليه بأحق من تنزيهه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 عن نسبة الكذب إليه والصدق والعدل معا من صفاته فسواء نفي عنه الصدق أو نسب إليه الجور تعالى عنهما علوا كبيرا. وليس يسلم من أنكر القضاء والقدر من تكذيبه وإن سلم عند نفسه من تجويره. ومن قال:: إن المتصور في العقول من الجور عجز عن معرفته، والإيمان بالقضاء تصديق لربه، سلم من كلا الأمرين ورضي بالعبودية، ولم يزاحم في الربوبية. * * * قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا) دليل على أن من حلف أن لا يطعم شيئا لوقت، فشرب شرابا أنه يحنث، لأن الآية نزلت في الذين ماتوا وهم يشربون الخمر قبل تحريمها، ويؤيده قوله في سورة البقرة إخبارا عن طالوت: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 فأوقع اسم الطعم على الشراب. ولو حلف أن لا يشرب شيئا فطعم طعاما لم يحنث، لأن اسم الشراب لا يقع على الطعم كما يقع اسم الطعم على الشرب. * * * قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) دليل على أن لا فدية على المحرم في بيض النعامة وسائر الطير، لأن اسم القتل لا يقع عليه إلا أن يكسره وفيه فرخ حي، فيموت في يده فيكون حينئذ عليه فداؤه. فإن قيل: أوليس قد قال في الآية قبلها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ) ، والبيض مما تناله الأيدي كما تنال الفرخ. قيل: النيل مجمل، والقتل مفسر، والمفسر يقضي على المجمل مع أن البيضة لا يقع عليها اسم صيد في اللغة لخلوها من الحركة والروح، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 ولا أعرف حجة من جعل فيه قيمة ولو صح حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، جعل فيه إطعام مسكين أو صيام يوم - قلت به، ولكنه رواه عنه ابن جريج، وهو مدلس ولم يذكر سماعه منه. * * * وقوله: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا) دليل على أن الخاطيء لا جزاء عليه وسواء قتلته رمية الخطأ أو أخذه ومات في يده، إلا أن يذبحه بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 ما يأخذه حيا فيكون عليه جزاؤه، لأنه قد عمد ذبحه، وإن لم يعمد * * * وقوله: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا) دليل أيضا على أن من أخذ من المحرمين صيدا ثم أرسله لم يكن عليه جزاءه لأنه وإن كان عاصيا بأخذه فالشرط في الجزاء واقع على المقتول، والجزاء كاسمه - لا مجازى إلا من أفتت نفسه. المحرم: * * * وقوله: (لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ) دليل على أن المحرم عليه جزاء ما أصاب من الصيد كلما أصابه كما عليه في أول إصابته، إذ لا يكون ذواق الوبال إلا في الجزاء الذي تكرهه النفوس وتشح على أموالها فيه. ولا أعرف للمسقطين عنه الجزاء في ثاني إصابته وجها واعتلالهم بقوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 : (وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ) في إسقاط الجزاء عنه غير متوجه لمن تدبره، فما الفائدة إذا في قوله: (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ) ، مع إيجاب الكفارة عليه وذواق وباله بها، والعفو في اللغة لا يقع إلا ما عري من العقوبات، وهذا قد عوقب بالكفارة سترا لخطيئته وتمحيصا لذنبه، ولا يجوز - والله أعلم - في العفو والعود إلا ما قال عطاء من أن العفو هو عما كان في الجاهلية، والعود في الإسلام، وجائز أن يكون الانتقام منه بالكفارة غير مصروف به إلى عذاب الآخرة. ولا يشك أحد أن كل عائد في ذنب مستحق للانتقام منه في الآخرة إن لم يلحقه عفو ربه أو تحطه عنه كفارة مجهولة فيه. فهل يجوز لأحد أن يقول: أجعل على قاتل الخطأ مع الدية عتق رقبة كفارة لذنبه؛ إذ الدية من حقوق الآدميين، والرقبة من حقوق الله، فإن عاد ثانية إلى القتل اقتصرت به على الدية دون الرقبة ليلقى الله بذنبه، فيعاقبه عليه، وينتقم منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 أو يقول: إن الكفارة على الحالف بالله مرة واحدة، فإن عاد لم تكن عليه كفارة، وأشباه ذلك. وما بال ذنب المحرم في قتل الصيد المنهي عنه في حال إحرامه يخص بهذا الحكم دون غيره،. هذا من أعجب ما قيل وأظرف ما انتحل، فإن قيل، خص هذا الذنب بهذا الحكم لقوله: (وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ) ، وسكوته عن سائر الذنوب. قيل: أفنجعل سكوته عن العائد إلى ذنب عمله مرة دالا على سقوطه الانتقام منه،. فإن قال: نعم كفانا مؤنة الاشتغال به، إذ الانتقام لا يستأهله إلا المعتدون المنتهكون محارم الله، فمن يسقط عنه الانتقام بفعل يفعله كان ذلك الفعل مباحا له. وإن قال: هو مستوجب للانتقام إن لم يعفوا عنه كلما أذنب. قيل: فذكره بالانتقام في باب المحرم وسكوته في غيره من الذنوب في الاستيعاب واحد، وإن أكده بالذكر في موضع دون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 موضع. في السمك: * * * وقوله: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ) دليل - والله أعلم - على أن الطافي وما حسر عنه البحر شيئا من السمك - حلال، لأن اسم الصيد لا يقع إلا على ما يكون ممتنعا بالحياة فيصطاد بالحبل وقد فصل - جل وعلا - بينه وبين الطعام - بالواو - والطافي والمحسور عنه إن شاء الله من طعامه، ومن المفسرين من قال: صيده طري السمك، وطعامه مالحه، وقد يحتمل أن يكون كل ما كان عيشه في الماء ولم يعش في البر داخلا في صيد البحر، ويكون حلا إذا أخذ. ويحتمل: أن يكون قوله: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) على ما كانوا يعرفون من صيده وروي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، حديثان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 أحدهما مجمل والآخر مفسر، لو صح طريقهما كان فيهما بيان شاف. أحدهما: حديث أبي هريرة وجاء في البحر: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته ما، فهذا مجمل يحكم للاحتمال الأول. والثاني: حديث ابن عمر: " أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالجراد والنون فهذا مفسر يحكم للثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 فلما اعتل الحديثان وضعف دعائمهما لم يحلل من الميتة شيء، وإن كانت من صيد البحر وطعامه. والميتة محرمة بجملتها في غير آية من القرآن إلا ما اجتمعت عليه الأمة من أنه داخل في طعام البحر وصيده، وهو الجراد والنون دون ما سواهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 فنبيح جملتها بالاتفاق، والطافي وما انحسر عنه البحر ميتا بالدليل الذي قدمنا ذكره وشمول اسم الميتة المتفق على إباحته لهما. ونقول: إن كل ما أمكن ذبحه من دواب البحر فأخذه صايد حيا وذبحه بما يقع عليه اسم ذبح من قطع الحلقوم والمريء فهو حل بالقرآن وما لم تكن ذكاته بقتل الحلقوم والمريء،، وإن أخذ حيا وقتل لم يؤكل، لأنه عقير، والعقير لاحق بالميتة بريا كان أو بحريا إلا دابة يتفق الجميع على أنها وإن احتملت الذكية لم تذكي فيسلم لإجماعهم. قوله إخبارا عن عيسى، صلى الله عليه وسلم: (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) حجة على الجهمية فكل ما ذكر في القرآن من النفس والسمع والبصر واليدين فهو لا محالة ذات لا عرض - يعرف كيفيته من نفسه - جل جلاله - ولا يبلغ أحد من خلقه كنهه ولا بلوغ حده كما يبلغونه من المخلوقين، إذا المخلوق محدث والخالق أزلي، والمخلوق متغير، والخالق باق على حال واحدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 من الكمال الذي يعرفه من نفسه، والمخلوق ميت والله حي دائم. فهو وإن وافقه بالاسم في هذه الأشياء، فقد خالفه بما ذكرناه من المفارقة في المعنى ولو عقلوا المساكين لعلموا أن من ليس بمصنوع ولا محدث - مخلوق أزلي في جميع صفاته. فكيف ما كانت تلك الصفات ليست بمشاركة، وأن صفات الخلق الموافقة له في الأسماء بعيدة منه. فكان لا يحملهم بالجهل على نفي صفات ذاته المذكورة في كتابه واحتيال التأويلات التي هي إنما التعطيل أقرب منها إلى التثبيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 سورة الأنعام سعة لسان العرب: قوله عز وجل: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) دليل على سعة لسان العرب، إذ - لا محالة - أن المخلوق من طين هو آدم، صلى الله عليه وسلم، أبو البشر، وسائر الناس - سوى عيسى - صلى الله عليه وسلم - مخلوقون من نطفة. وهذا نظير ما مر في سور البقرة من قوله: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ) بآبائكم، (خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) أي خلق أباكم الذي أنتم من نسله. ويحتمل أن يكون الله - جل جلاله بقدرته - أذاب الطين وحوله نطفة فأودعه الأصلاب، فيكون كل من خلق من نطفة مخلوفا من طين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 ألا تراه يقول: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ، ثم سمى النطفة ماء، فقال: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) والله أعلم أي ذلك هو. وفي كل هذه الآيات - لا محالة - خصوص؛ لأن عيسى، صلى الله عليه وسلم، ما كان منيا يمنى، ولا خلق من ماء دافق بل خلقه الله بقدرته في بطن أمه آية للعالمين من غير نطفة. إضمار: * * * قوله: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) أي أول من أسلم من أهل زمانه إذ قد كان قبله مسلمون. ومثله قول موسى، صلى الله عليه وسلم - والله أعلم -: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) أي أول قومي إيمانا. * * * قوله: (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) يحتمل معنية: أحدهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 رجوع من الخبر إلى المخاطبة. والثاني: أن يكون فيه إضمار واختصار كأنه: " قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم وقيل لي: لا تكونن من المشركين. وأيهما هو فهو دال على سعة اللسان والله أعلم بما أراده. دليل أن القرآن يخاطب بأحكامه من أدرك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومن لم يدركه: * * * قوله: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) موجبه أن القرآن منذر به ومخاطب بأحكامه من أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن لم يدركه إلى يوم القيامة، وهو من المواضع التي يحسن فيه حذف هاء المفعول كأنه - والله أعلم -: ومن بلغه القرآن والهاء محذوفة، إذ لا يجوز لأحد أن يحمله على ومن بلغ من الأطفال فيجعل الخطاب والنذارة به خاصة لمن كان في زمان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، موجودا دون من ولد بعده فيهدم الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 حجة على المعتزلة والقدرية: * * * قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) حجة على القدرية والمعتزلة شديدة، لأن الجعل إن كان عندهم خلقا كما يزعمونه في القرآن، فقد أقروا بألسنتهم أنه - جل وعلا - خالق الشر إذ الأكنة المانعة من التفقه، والوقر الحائل أبينهم وبين الاستماع شر لا خير. وإن كان بمعنى صير فقد أقروا بأنه مصير موانع تحول بين الإجابة إلى القرآن، وكيف ما تأولوا الجعل في هذا الموضع كان عليهم لا لهم. قال محمد بن علي: زعم قوم من مردة المعتزلة والقدرية المفرطين في التمرد والكفر وإن كانوا كلهم مردة - أن الله - جل جلاله - لا يعلم الشيء حتى يكون خشية أن يلزمهم في علمه بمعصية العاصي قبل فعلها ما يكسر قولهم، إذ لا يجوز عليه أن يعلم كون للشيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 مقدر أحد، أحد على إزالته، فكفروا في الجلي الواضح خشية ما يلزمهم في الدقيق الخفي - وهذا وإن كان لا يشكل على مسلم، ولا يبعد عنه فهمه ويحيط علمه بأن الخالق لا يجوز أن يخلو من علم ما يكون قبل كونه إذ في خلائه من ذلك - تعالى عنه - خلاء من الغيب الذي هو محيط به وغير مشارك فيه - فإذا تلي فيه قرآن كان أشد لطمأنينة قلبه وأقمع لنزعات عدوه قال - جل جلاله - في هذه السورة: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وقال: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) إلى آخرالسورة، والقرآن مملوء بذكر هذا النوع قبل هذه السورة وبعدها، ولو لم يكن فيه إلا ما في آخر سورة المائدة من قوله: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ) إلى آخر السورة لكفى فقد علمنا جل ثناؤه وتقدست أسماؤه بما يكون في المعاد من قول الناس قبل يكون، وبما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 يكون من أفعال العباد في الدنيا وأقوالهم قبل تكون فقال: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) . وقال: (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ) وقال: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) وأشباه ذلك. فمن نسب إلى ربه ما نسبوا فقد كفر من ثلاثة وجوه: أحدها: أنه ينسب ربه - جل وعلا - إلى الجهل، إذ الشيء بعد حدوثه يستوي فيه الخلق والخالق والعالم والجاهل وتعالى الله أن يكون موصوفا بالجهل. والثاني: أنه يزعم: أن الأشياء تكون قبل مكونها ومن زعم أن الأشياء تكون بذاتها من غير مكون فقد قال بقول الدهرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 والثالث: رده لهذه الآيات مع ما يضاهيها مفرقا في القرآن؛ فإن زعم: أن الله قد أنزلها وأخبر عن نفسه بغير الصدق - تعالى عنه - كفر من جهة تكذيبه له، وإن قال: إن الله لم ينزلها فقد نسب رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الافتراء عليه، وأهل القبلة كافة إلى قبول باطل عنده، فيكفر من هذه الجهة، نعوذ بالله من مثل هذه الحماقات الهائلة من بين الضلالات، ونسأله التمسك بما هدانا إليه من الحق وزينه في قلوبنا بجوده وكرمه. حجة على المعتزلة والقدرية: * * * قوله: (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) . حجة على المعتزلة والقدرية، فيقال لهم: أخبرونا عن من كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يحب إيمانه ويكبر عليه إعراضه والله يعظه فيه هذه الموعظة ويخبر أن خروجه عن مشيئته في الهداية أخرجه إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 الإعراض ولو شاء هدايته كان مبتدئا فلا تخلوا هذه المشيئة التي لم تصحبه من الله - جل الله - من أن تكون متقدمة لخلقه فيخلقه على ما سبق له منها، أو مقرونة بخلقة فلا يعرف غيرها، أو معونة منتظرة لا سبيل له إلى الهداية إلا بها. أو ليس على الأحوال الثلاثة مضطرا إليها في الهداية، فكيف يهتدي من لم يشأ الله هدايته، أم كيف يقدر أن يضل من سبقت له مشيئة ربه في هدايته، أليس الله جل جلاله غالبا غير مغلوب قاهرا غير مقهور، ومريدا نافذ الإرادة، والخلق مريدون ممنوعون، ومجتهدون محجوبون، وممتنعون محمولون على ما لا يريدون، أليس يقول جل جلاله: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) ولو أنصفنا القوم لما كان لهم علينا أكثر من أن نريهم أن الله جل جلاله قد دعا إلي الهدى من حجبه عنه، وأوجب العقوبة على من قضى عليه الخطيئة، فإذا أريناهم هذا من حيث لا يشكل على فهم، وتلونا في صحته القرآن مرة بعد أخرى، وأخبرنا عنه بما أخبر عن نفسه وهو صادق. لم يكن علينا أن نريهم زوال الظلم عنه في هذا الفعل بخلقه لاتفاقهم معنا على أنه جل جلاله منزه عن الظلم، وقد تطوعنا عليهم في غير موضع من كتابنا بما يزيل وساوس الشيطان في تصور الظلم لهم فأريناهم أن معرفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 كنه عدله بعقول ناقصة غير ممكن وأن القدر حين صار سره لم يجز أن يطلع عليه غيره، وأن العبيد المأمورين ليس لهم أن يقولوا لا نؤمن من فعل ربنا إلا بما تقبله عقولنا، إذا الامتناع من ذلك خروج من العبودية ومزاحمة في الربوبية، فما الفائدة إذا في قوله: (فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ،. أوليس اعتبار أفعال الله بخلقه بأفعال بعضهم ببعض، وأخذ معرفة عدله من عدلهم من ضرب الأمثال له، ومزاحمته في العلم الذي لا يعلمه خلقه، وهل يجوز لهذا الخلق الحقير الذليل المتناهي في الجهل العادي طوره فيما نهي عن تفتيشه أن يقول: ليس من العدل عندي أن يجعل الغائط والبول والتعب والنصب عقوبة لآدم صلى الله عليه وسلم على خطيئته، فإذا تاب منها لم ترفع العقوبة عنه، بل يصل بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 حياته وولده بعده قبل مواقعة الذنوب وبعدها، وفيهم أنبياء وصالحون وأطفال ماتوا قبل بلوغهم وعصيانهم. أم نقول: إن آدام لم تقبل توبته، فنخالف القرآن كما هو في سجيته،. حيث يقول جل وعلا: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) فلذلك بقيت العقوبة - فيه على أنه لا يستطيع أن يقول في ولده شيئا، وإن كان كل ما يقول من هذا النمط كفرا وطغيانا. وكيف يستطيع ذلك والله جل وعلا يقول: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) ، أوليس هذا وما تقدم قولنا فيه من مرض الصغار والعبيد والأحرار والأصحاء والزمني وتشويه الصور وتحسينها وخلق الذكر والأنثى والبهائم والحشرات وأشباه ذلك - إذا جمل على فطرة العقول الناقصة العاثرة المزاحمة فيما ليس لها تصور عندها بصورة الجور، وهو لا شك عدل وإن كنا نجهله ولا نبلغ غوره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 فما بال القدر وحده يستعظم من بين هذه الأشياء، أما له أسوة بها، وعلينا الإيمان بجميعها من غير أن ننسب إلى الله ظلما فيها. تأكيد:. * * * قوله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) . رد على من قال: ليس في القرآن تأكيد، وكيف يخلو من التأكيد إذا قال: (يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) وقد علم أن الطائر لا يطير إلا بجناحيه. * * * قوله: (ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) دليل على أن كل روحاني يحيا ويحشر وإن صغر خلقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 حتى البق والبعوض والقمل والبرغوث، ويؤيد ذلك قوله: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) فالخلق عام لكل شيء. * * * قوله: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) حجة على المعتزلة والقدرية في خلق الأفعال، إذ الجعل عندهم بمعنى الخلق، فإما أن يرجعوا عن القول بخلق القرآن، وأما أن يقروا بخلق الأفعال، إذ قد تلونا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 عليهم في الخير والشر جعلاً ففي الخير هذا وفي الشر ما تقدمه من قوله جل وعلا: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) مع أنهم إذا جعلوه بمعنى الصيرورة أيضا لم يسلموا من كسر قولهم فيها، إذ المصَّيرون خلاف الصائرين، ولا سلموا من المشيئة في الضلالة والهدى. وعليهم في الظلمات حجة أخرى، إذ ليست تخلو من أن تكون ظلمات بعينها أو كناية عن الأغطية الحاجزة عن النظر إلى ضياء المصدقين بآيات الله، وأيهما كان من هذين فالحجة عليهم واضحة به. حجة عليهم: * * * قوله: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) حجة عليهم: وهم يظنون أنها لهم فيقال للمتحذلقين في الدقة منهم: أخبرونا عن عملهم المعمول بتزين الشيطان وكانوا قادرين على فعله بأنفسهم دون تزيينه، فإن قالوا: بلى. قيل: فقولكم والشر من الشيطان إذاً لغو لا فائدة فيه. مع ما يلزمهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 من نسبة الله إلى أن ينزل في كتابه حشوا جل الله وتعالى عن ذلك وإن قالوا: لم يقدروا على الانفراد به دون تزيينه. قيل لهم: أفتكون معاقبة الله من عصى بقوة غيره عدل وتكون عقوبته من عصاه بقضائه جورا، فإن قالوا: كان عليه أن لا يقبل تزيينه، قيل: وهو يقدر على أن لا يقبله، فإن قالوا: بلى، رجعوا عن قولهم وعادوا في إغراء الشيطان من الشر، وإن قالوا: لم يقدروا على ترك القبول منه. رجعوا فيما يلزمهم من باب العقوبة. ويقال لهم: أخبرونا عن هذا الشيطان الذي تنسبون إليه الشر أيخلو من أن يكون الله - جل وتعالى - خلقه وجعل الشر سجيته، وسلطه على من قضى عليه الشقاوة، أو خلقه نقيا من الشر فتشرر. فإن قالوا: خلقه شريرا مسلطا، أقروا بكل ما أنكروه، وإن قالوا: خلقه نقيا من الشر فأحدث الشر وتشعر به قيل لهم: أفإحداثه للشر بآلة جعلت فيه أم بغير آلة، فإن قالوا: بغير آلة، جعلوه شريكا مع الله - تعالى الله - يخلق كخلقه مبتدئا بما يريد. وإن قالوا: بل إحداثه بآلة مجهولة فيه له. قيل لهم: ولولا الآلة ما قدر على إحداثه، فإن قالوا: نعم، ولابد من نعم، قيل لهم: وكيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 تنسبون إليه شيئا فعله بآلة مجهولة فيه لا بقدرة وسلطان، ولو قالوا: إن الله - تبارك وتعالى - قضى الخير والشر معا، وجعل أوفر الحظ من الشر للشيطان يغوي به من حقت عليه كلمته بإذن الله: خرج كلامهم صحيحا، وتخلصوا من الدواخيل والتأويلات المستكرهة، لأن السلطان والإرادة والخلق كان يكون مسلما لله والشيطان في البين واسطته يسلطه على من أراد تضليله بعدله، معصوما منه من أراد هدايته بفضله. وبعد فلو كان الشيطان متسلطا بغير آلة غير مسلط بقضاء - ومعاذ الله أن يكون كذلك - لكان علمه به قبل خلقه أنه سيتسلط ويغوي، فخلقه على ذلك لا ينجيهم من كسر قولهم، فكيف وهو يقوله في كتابه: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) وقال (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وما أخذ أخذهما من الآيات. آقيستراب بعد هذه البراهين بأن الله مالك الخليقة وخالق آلاتهم وأفعالهم وأنهم ممنوعون من خير لم ييسره، متسارعون إلى ما قدره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 وقضاه والشيطان نقمة مخلوقة لأعداء الله، معصوم منه أولياؤه، لا يصل إليهم من شره إلا وساوسه من بعيد حتى يأتي محتوم قضائه فيزلهم بإذنه نعوذ بالله من غضبه. * * * قوله: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ) إلى قوله: (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) حجة عليهم أيضا. * * * قوله: (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) وقوله في سورة الزمر: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) يحتج بهما، من يزعم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 أن المرتد إذا رجع عن ردته إلى الإسلام وجب عليه إعادة كل عمل عمله من فرائضه مثل الصلاة والصوم والحج وأشباهها، من أجل أن الشرك أحبطها، وليس هو عندي كذلك، لأن هاتين الآيتن مجملتان، والتي في سورة البقرة مفسرة، قال الله تبارك وتعالى: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) فأخبر أن الردة تحبط عمل من مات عليها، فأما من تاب وراجع الإسلام، فعمله باق على حاله، إنما يلزمه إعادة ما تركه في أيام كفره، وقد ذكرناه بحججه في كتاب الصلاة. في الاقتداء: * * * قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) يوجب الاقتداء بأهل الخير ممن يحيط العلم أنهم مقيمون على الحق، ولا يكون ذلك إلا للأنبياء، فأما من دونهم وإن كانوا لا يعرون من الحق ولا يظن بهم سواه، فالاقتداء بهم غير واجب. وفيه أيضا: دليل عند قوم على أنا ومن تقدمنا في الأمم في الشرائع سيان، وروي عن ابن عباس: أنه قال: دخلت على، النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ سورة (ص) فسجد فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 وقد قص الله عليه الأنبياء وفيهم داوود - صلى الله عليه وسلم - قال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) ، فهو يحتمل ما ذهب إليه، ويحتمل أن تكون هذه القدوة في شرائع التوحيد لا في شرائع الإسلام، إذ الشرائع - لا محالة مختلفة - ألا تراه يقول: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) وجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بإطلاق السبت وإحلال الغنائم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 وتفرقة الذبائح والأكل منها، والصلاة في كل موضع ترهق وأشباه ذلك فمن تأول القول الأول جعل هذه الأشياء وما ضاهاها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 مخصوصة بالتغيير، وسعى بيننا وبينهم في سائرها، وهذا مكتوب بشرحه في كتاب شرح النصوص. حجة على المعتزلة والقدرية: * * * قوله: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا) حجة على المعتزلة والقدرية، إذ ليس يخلو خلقهم من أحد ثلاثة أشياء: إما أن يكونوا خلقوا ليؤمنوا أو يكفروا أو لا يؤمنوا ولا يكفروا. فلما وجدنا نفسا واحدة مؤمنة أو كافرة علمنا أن لا قسم لها في الثالثة، بلا ارتياب، فإن كانت المخلوقة للإيمان كافرة، أو المخلوقة للكفر مؤمنة - فهي لا محالة لربها قاهرة، بأن تكون أنفذ أمراً في نفسها من أمر خالقها وهذا كفر غير ملتبس. فإن قيل: لم يخلقها لواحدة من الثلاثة، ولكنه خلقها لأن تكون إن شاءت مؤمنة، وإن شاءت كافرة لقوله: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) . قيل: أفليست بهذه المشيئة التي تؤمن بها أو تكفر أداة تستعمله في الكفر فتكفر بقوتها، كما تستعمله في الإيمان سواء، ولولاها ما قدرت على واحد منهما، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 فإن قال هذا القائل: نعم - ولابد من نعم - قيل له: أراك قد برأت الكافر من كفره، وأزلت عنه الحول والقوة في الوصول إلى الكفر إلا بتلك الإرادة التي لا يقدر على الكفر إلا بها، وتلك الأداة - لا محالة - من صنع الخالق فيه. فإن قال: لا أقول خلقت المشيئة فيه مختارة، بل أقول: إنها خلقت فيه لأن يؤمن فكفر. واحتج بقول الله تبارك وتعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) فقد أخبر نصا أنه خلقهم لعبادته جميعا فعبد بعضهم غيره قيل: هذه آية فيها - لا محالة - خصوص، ألا ترى الأطفال والمجانين قد شملهم اسم الخلق، ولم يشملهم اسم العبادة لعجزهم عنها، وهذا مثل ما ذكرنا في سورة البقرة (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 فهو واقع على بعضهم دون بعض، ولو كان واقعا على الجميع أيضا لما كان راداً لقوله: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) ولا لقوله: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وأشباهها من القرآن. ولكان وجهه وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدوا بمشيئتي. أيجوز أن يؤخذ ببعض القرآن دون بعض إذا لم يكن الوجوب عن العمل به منسوخا، أم أيهما أولى أن يكون حقا في النظر والمعقول - الذي لا يجوز عندهم خلافه - أن تكون مشيئة العباد تبعا لمشيئة الله أم مشيئته تبعا لمشيئتهم، هذا ما لا يشكل على منصف يستشعر الحق ويضرب عن العصبية واللجاج. ججة عليهم: * * * قوله: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 حجة عليهم قاطعة لكل شبهة؛ إذ قد جمع تبارك وتعالى بين تزيين العمل لهم، وإنبائهم به في الآخرة في آن واحد. فكيف يرتاب من أنصف من نفسه بعد هذا أنه عدل في الحالتين معا، ثم أكده بعد ذلك بقوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا) وفي سياق المعنى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) ثم قوله على إثر ذلك كله: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) أو ليس بجعله - جل وعلا - من أقسم به أن يؤمن بآية واحدة - وهو لا يقدر مع كل هذه الآيات على الإيمان إلا بمشيئته - دليل على من ارتاب بعد ما تبين من هذا البيان الذي لا يشكل على إنسان أكثر جهلا وأشد مكابرة. ولو لم يكن من الحجة عليهم إلا أنفسهم حيث يلجئون في الإصرار على خطأ يضح هذا الوضوح ولا يتركونه بل يجادلون عليه أشد جدال وينسبون ما خالفه إلى أمثل محال لكفى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وهل ذلك إلا من خذلان حائل بينهم وبين التبصر، حاجز بينهم وبين التذكر، أفتراهم بإيضاحنا لهم أسعد ممن لا يقدر على الإيمان مع تنزيل الملائكة عليه، وكلام الموتى إياه، إذ لم تصحبه مشيئة ربه، لا لعمر الله، ما يقدرون على ذلك، بل هم أسوة المذكورين في الآية نعوذ بالله من الضلالة. حجة: * * * وقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) حجة عليهم من جهات أحدها: ما يلزمهم في الجعل، خلقا كان أو صيرورة، وذلك أنهم ينفون عنه - جل وعلا - كل ما تصور في عقولهم بخلاف العدل. فيقال لهم: بما استوجب الأنبياء المطيعون لربهم أن يخلق أو يصير لهم أعداء يلحقهم أذاهم أوتألم من نزعاته قلوبهم، والعدو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 الناشئ خلاف المجهول، إذ الناشئ متسلط والمجهول مسلط. والثانية: ما يلزمهم في إنكار وقوع اسم واحد على شيئين مختلفين إلا بعد استواء صفاتهم. وقد سمى الله تعالى الإنس بالشياطين كما سمى الجن به، وصفاتهم مختلفة لا شك فيها. والعرب تسمي الحيات شياطين وهي خلاف الجن والإنس. وزعم المفسرون: أن قول الله تبارك وتعالى: (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) مراد به رءوس الحيات. وعليهم في الوحي مثلها، إذ الوحي من الله وحي بالحق، ومنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 وحي في الباطل، وقالت أيضا: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ) أفيجوز أن يكون الشيطان بوحيه خالقا، كما يزعمون أن الله جل جلاله إن كان له سمع وبصر وصورة ذاتية فهو مخلوق، لمشاركة المخلوق إياه في هذه الأشياء. والعجب لهم حيث يزعمون أنهم نسيج الفلسفة وعروق الدقة، ثم يذهب عليهم هذا الجلي الواضح أفلا يعلمون أن الشيطان لما كان له وحي وإن كان في الباطل، فجاز أن يسمى به موحدا: وإن لم يكن خالقا، جاز أن يكون لله سمع وبصر فيسمى به سميعا بصيرا ولا يكون مخلوقا، كما كان له وحي يوحيه إلى أنبيائه في الحق تشاركه في اسم الوحي شياطين هو خلقهم وهو خالق وإن أوحى. والشياطين مخلوقون وإن أوحوا، ومباينة سمعه وبصره لأسماع الخلق وأبصارهم كمباينة وحيه لوحيهم، بأن وحيه حق ووعيهم باطل، ووحيهم مضمحل ذاهب، ووحيه باق، وكذا سمعه وبصره باقيان غير مأوفين وتغير معيبين، وأسماع الخلق وأبصارهم معيبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 مأفونه بالصمم والعور والفناء، وهي مع ذلك مصنوعة، وسمعه وبصره غير مصنوعة، فلم يكن مستنكرا أن يتفقا بالاسم كما اتفق الوحيان بالاسم، وكما اتفق الجني والإنسي والحية في الشيطنة بالاسم، وكل غير صاحبه، لا يوجب أن يكون الجني باسم الشيطنة إنسيا، ولا الإنسي جنيا ولا الحية واحدا منهما، وغير منكر ولا محال أن يشترك كل فيها، والأشخاص مختلفة غير متفقة في الصورة والتركيب والأفعال. والثالثة: عدم فعل الوحي المزخرف لو شاء بقوله: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) وقد مضى شرحه في قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا) فأغنى عن إعادته هاهنا. إضمار تقليد: * * * قوله: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا) فيه - والله أعلم - ضمير "قل " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 وهو حجة في ترك التقليد واضحة، إذ قد علمنا أن الحكم لا يكون غيره، ولا يبتغي سواه وكذا قال: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) ، فأضافها إلى نفسه، فكل من احتج بحجة لم يعدها إليه فهي غير مقبولة منه، ولا على رادها حرج في الرد. والحكايات عن أهل العلم وإن اعتبرتها وطابت بها النفوس، فهي غير موجبة حكما إلا أنه لا يجوز الإزراء بهم ونسبة الخطأ إليهم ليوضع بذلك منهم، لأنهم - إن شاء الله - مجتهدون فيما قالوه ومأجورون على ما قصدوه من حجة الله، واتباع حكمه المنزل في كتابه. ولكنهم لما جاز عليهم الإصابة وضدها لم يجز أن يبتغي حكما غير الله، وكان المتبع حكم رسوله، وإجماع أهل دينه متبعا حكمه غير خارج منه لفرضه طاعة رسوله واتباع حكمه وإيعاده على مشاقة الجماعة والشذوذ عنهم. وكلاهما مصونان عن الخطأ وجديران بإضافة الحق والتفرد والنفر ليسوا كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 قال محمد بن علي: ويضطرنا إفراط المبتدعة في قبح مقالاتهم إلى ذكر أشياء قد أغنى الله المؤمن بما زينه في قلبه، وحببه إليه من الإيمان وأزال عنه ظلمة الريب بجوده عن أن يتلى عليه فيه قرآن يؤيده. وأرجو أن يعذر الله - عز وعلا - فقد عرف مقصدنا بهذا الكتاب وطمعنا في أن يرد الله به ضالا عما استشعرته نفسه وزينه له عدوه ومعه عليه به خائن منسوب إلى الأستاذية في فنه، فمنه ما قدمنا ذكره من التلاوة في تصديق علمه - جل وعلا - بالأشياء قبل كونها، وإبطال قول من زعم أنه لا يعلم، وإيضاح وجوه كفره في مقالته، ومنه ما أنا ذاكره في هذا الفصل إن شاء الله. وهو قوله: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) ، فذكر تمام كلمته بالعدل والصدق فيهما ويدخل تحتها عذاب من قضي عليه ما استوجبه به ودعاؤه إلى الهداية من حجبه عنها، وإنزاله في كتابه علينا وهو مجمع كلماته التي تمت بالصدق والعدل، فكيف يجوز لأحد أن ينفي العدل عن جامع ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 على عبد، وقد أنزلهما معا في كتابه وأخبر أنه صادق في تنزيله، عدل فيما تمت كلماته به أو ليس المحوج إلى إثبات صدق خالقه وعدله عليه مع الإيمان به - لو سلم أيضا من الكفر - يكون متناهيا في الجفوة، وهو مع ذلك يوهم أن ذلك من تنزيهه عن الجور، وإنما كان يجوز أن يطالب بهذا لو لم ينزلهما معا في كتابه ثم رأى ناسيا ينسب إليه ما لا يليق بصفاته. فأما من يريد أن يجعل جهله بكنه معرفة عدله ذريعة إلى جحود القرآن وضرب بعضه ببعض، وتأول ما لم يجحده على شهوته فهو إلى الرجوع عن نحلته أحوج منه إلى المطالبة بتثبيت ما هو ثابت بحمد الله ونعمته. وقد أريناه من نظير ما أنكره ولا يقدر على جحوده ما لو تبصره ونظر فيه لشغله طلب الحجة لنفسه في غيره من نظير ما أنكره - عن مطالبتنا بواحد القرآن مملو حججنا فيه. وكان في بعض ما قدر أنه قد انفصل من تلك النظائر أن قال: في فصل احتجاجنا عليه بالبهائم المخلوقة في الفلوات بلا أقوات معدة ولا مساكن مبنية تقي من حر أو برد، وإباحة صيدها للكفار والعصاة من ولد آدم، والتخلية بينهم وبين ركوبها والإعناف عليها بالسير، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 وثقل الحمل وذبحها للمأكلة - الفرق بينهم وبين ولد آدم أنهم غير مخاطبين وولد آدم مخاطبون. فقلنا له: فمن لم يكن مخاطبا يجوز أن يفعل به ما يتصور في العقول بصورة الظلم أم لا يجوز على الخالق إلا التسوية بين الجميع في العدل، ولئن كان إنكاره علينا إثبات القضاء والقدر وخلق أفعال البشر من غير جهة وتنزيه الله عن الجور ونسبة ما لا يليق به من الظلم إذا زعمنا ذلك - فلعمري - أن احتجاجنا عليه بالبهائم لا يلزمه، لأنهم غير مخاطبين كما قال. فليرنا الوجه الذي أنكره منه، لنجيبه عنه، وما عسى يقول في ترك عقوبة آدم بعد التوبة فيه وفي ولده وفي تذليل العبيد للسادة، وخلق الزمن المطيع، وتسوية خلق الكافر والعاصي وما أشبه ذلك وهم مخاطبون. وإن كان إنكاره من جهة تصوره عنده بصورة الجور، فليعلم أن ما أعده انفصالا في باب البهائم غير منفصل فليعد لجميعها جوائز يتصور في العقول بصورة العدل، ولن يستطيع ذلك. وإلا فليردعه العجز عما التمس منه عن الإصرار على ما يكذبه القرآن، والرجوع إلى ما يصدقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 والشهادة على جميع أفعال خالقه وصنعه في خلقه بالعدل عرفه أم لم يعرفه، والذي يشبه على من لم يكن منهم مكابرا - يقود رياسته بالجهل، ويأنف أن تخطيء نفسه بعد نشوء الصغير على نحلته، وهرم الكبير على خدعته - مثل قوله في هذه السورة: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) فيجدون الإضلال منسوبا إليهم فيقدرون أنه إذا نسب إليهم في حال لم يجز نسبته إلى غيرهم وينسون أن الله تبارك وتعالى قد نسبه إلى نفسه جل جلاله في حالة، وإلى الشيطان في ثانية، وإليهم في ثالثة فقال: (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ) وقال: (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وما يضاهي هاتين من القرآن. وقال: (وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) ، وقال إخبارا عنه أيضا: (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) ونسبه في هذه الآية التي ذكرناها من سورة الأنعام، وفي غيرها إليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 فليس يخلو من أن يكون كل قادرا على ما نسب إليه، وفاعلا لما أخبر عنه أو يكون بعضهم لبعض تبعا فيه فاعلا بقوة غيره، فليختر أي الوجهة شاء، إذ لا ثالث لهما. فإن كان كل مضلا، كما أخبر عنه ظاهر القول، فقد أقر بأن الله مضل بعد ما أنكره. وإن زعم: أن معه من يفعل مثل فعله في الإضلال، فإن اختار أن يكون بعضهم لبعض تبعا، وبقوة صاحبه فاعلا فليس يقدر أن يقول: إن الله - جل وعلا - تبع للشيطان، والآدمي فيه، وفاعل بقوتهما. فيحصل عليه أنهما لله تبع، وبقوته يضلان. وعجزهما عن الإضلال بقوة أنفسهما غير مؤثر في عبوديتهما. ونسبة الله إلى العجز في الإضلال إلا بقوتهما كفر لا محالة. وهكذا قوله: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) ، وقوله: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) هو بمشيئة الله لا محالة لقوله: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) ، (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا) . ومشيئتهم تبع لمشيئته، إذ هم عبيد، ومحال أن تكون مشيئته تبعا لمشيئتهم وهو معبود. وكلا المشيئتين في القرآن، فمن رد مشيئته وثبت مشيئتهم كفر به وبما أنزل، ومن ثبتهما آمن بجميع ما أنزل وجعل الضعيف من مشيئة المخلوق تبعاً لمشيئة الخالق القوي فمن أراد الحق وأضرب عن الهوى لم يشكل هذا عليه، ومن تبع هواه وقاد من الرياسة ما أوتيه وأنف من الرجوع إلى الحق، فقد قال - تبارك وتعالى: (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) وقال: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) . ذبائح: * * * قوله: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) دليل على أن الغراب وإن لم يكن داخلا في ذوي المخالب - محرم بإيقاع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، اسم الفسق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 وفي إباحته، صلى الله عليه وسلم، قتله للمحرم والحلال، وفي الحل والحرم دليل على أنه لا يحل بالشفرة، إذ لو حل بها ما جاز قتله للمحرم ولا غيره، ولا هو مع ذلك في عداد الصيد، إذ لو كان في عداده ما جاز لنا قتله، ولا قرن بينه وبين الفأرة والكلب العقور. وهل أحد أحق بوقوع اسم الفسق عليه ممن يأكل فاسدا،. وكذا قال في سورة المائدة في وآخر ذكر تحريم المنخنقة وما حرم معها: (ذلكم فسقٌ) . فإن قيل: فما الدليل على أن الغراب لما أبيح للمحرم قتله لم يحل بالشفرة ذبحه، والقتل يترجم به عن الذبح في اللغة ويوضع موضعه، والشاهد على صحته: أن المحرم نهي عن قتل الصيد، فلم يجز له ذبحه، إذ النهي وقع على إفاتة نفس الصيد في حال الإحرام لا على قتله بمعنى يصير به عقيراً غير مذبوح. قيل: أول الدليل عليه نفس ما اعتللت به من لفظ القتل الشامل للذبح، إذ لو لم يكن كذلك لجاز أن يكون ذبح الغراب محرما على المحرم ومباحا له إفاتة نفسه بالقتل لا بالذبح. والثاني: أن تسميته إياه بالفسق مخرجه من جهة المأكولات وملحقه بالخبائث الممنوعات بقوله: (ويحرم عليهم الخبائث) والخبيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 كيف أفيتت نفسه باسم الذبح أو غيره عقير ولو قال قائل: إن المحرم لما نهي عن الصيد كان ذبحه في حال إحرامه وعقره ألمفيت نفسه قتلا كله كان مذهبا قويا بل هو أول شيء عليه فبه أقول وأجعله ذريعة إلى تحريم ذبيحة السارق والغاصب من أجل أن الذبحة لا تحلل المذبوح إلا مقرونة بالإباحة. ألا ترى أن الموقوذة مفعول بها ما أفات نفسها وهي حرام، والشفرة قد أتت من حلقوم المذبوح للأصنام ومريها على ما أتت عليه من نسيكة المسلم. فحلت إحداهما دون الأخرى والفعل واحد بعرض الإباحة من المهَلَّة لغير الله، لا غير، فكان سبيلها سبيل العقيرة، وإن كان بالشفرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 من مذبحها وقد أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بإكفاء القدور من غنم النهب، وقد ذكيت بالشفرة فلم تبلغ - والله أعلم - منها مبلغ التحليل للنهي عن النهبة ومحال أن يأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بإكفاء القدور، وما فيها حلال يصلح للأكل والبيع، فيفسده. وكيف يجوز ذلك وقد نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن إضاعة المال ونقول: إن ما أحل أكله من الحيوان لا يحل أبدا حتى تصحب أعمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 الشفرة في أوداجها أو منحرها الإباحة، فإذا عريت من الإباحة واقترنت بالحظر، فما أذهب حياته بأي وجه ما كان سوى الإباحة فهو عقير، والعقير مقتول لا مذبوح. * * * قوله: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) نظير ما مضى في سورة البقرة من قوله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) ألا تراه سمى الكافر ميتا وفيه روح، ثم قال: فأحييناه - أي بالإسلام - فأقام الحياة والموت مقام الإسلام والكفر، حيث أراد المبالغة وهذا سائر في لغة العرب. قال الشاعر: ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء وروي في التفسير أن الآية في عمار وأبي جهل فالمحيا بالإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 عمار، والمتروك في الظلمات أبو جهل. * * * قوله: (كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) حجة على المعتزلة والقدرية: والزينة نظير المشيئة، لأنهم يجدونها في موضع منسوبة إلى الشيطان مثل قوله: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) وفي موضع منسوبة إليه وهو قوله: (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) وفي موضع غير مسمى فاعلها مثل الموضع الذي ابتدأنا به الآية، وقوله: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ) وأشباهها، فقطع جل جلاله الريب كله وأخبر أن الشيطان نقيض لذلك غير سابق له بقوته بقوله: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) فكل مشيئة منسوبة في القرآن إلى غيره، وزينة أو إضلال فهو تبع له، إذ مستحيل أن يكون جل جلاله تبعاً لهم ومزينا أو مضلا وشائيا بقوتهم، وكيف يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 كذلك وهو يملكهم ولا يملكونه، خلقهم كيف أراد بجميع صفاتهم وآلاتهم وهو في جميع صنيعه فيهم وفي غيرهم عدل، عقل الخليقة عدله أم لم يعقلوه. فهذا واضح لا لبسة فيه لمن شرح الله صدره ولم يكابر عقله. * * * وقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا) حجة عليهم شديدة إذ الجعل إن كان بمعنى الخلق، فقد أخبر نصا بلا تأويل أنه خلقهم مجرمين للمكر. وإن كان بمعنى الصيرورة: فقد أخبر أنه مصيرهم كذلك، ثم نسب الإجرام الذي خلقه فيهم إليهم وأوعدهم عليه في آية واحدة فقال: (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)) . تم وصل الآية بأخرى ذكر فيها إرادته في الهداية والإضلال فقال: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) فأزال كل ريب يرتابون به فإن كانوا يريدون تثبيت مقالتهم بالقرآن فالقرآن هذا سبيله يكذبهم كما ترى ومنزله يفعل بهم ما فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 وإن نبذوه وراء ظهورهم واقتصروا على عقولهم فليعملوها في غير هذا الفن، فإن الله جل جلاله أقوم بحجته منهم وغني عما ينزهونه به من خلاف كتابه. ولقد بلغني أن بعض جهلتهم - وإن كانوا بأسرهم جهالا - زعم أن الإرادة في قوله: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) ، (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ) مردودة إلى العبد لا إليه كأنه يقول: من يرد من الله أن يهديه هداه ومن يرد أن يضله أضله، فخالفه اللغة ولم يحصل لنفسه حجة. فأما خلافه اللغة، فإن الله جل وعز مرفوع بفعله بإجماع الآراء، ولو كان كما زعم كان فمن يرد الله نصباً. ولو كان القراء أيضا كلهم قرأوا (الله) نصبا ما كان له فيه حجة، إذ لا يجوز على الله أن يسأله عبد من عباده محالا فيعطيه. أليس من مذهبهم أن الله لا يجوز عليه إضلال أحد، فكيف يريدون منه شيئا هو منزه عن فعله عندهم فيعطيهم، هل بين أن يبتليهم بالإضلال وبين أن يضلهم بإرادتهم منه ومسألتهم إياه فرق، أم هل في العالم أحد يسأل الله أن يضله، بل كل يسأله الهداية ولا يسأله الإضلال ولا يريده منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 قوله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا) حجة على الجهمية واضحة فيما يزعمون أن الجعل في القرآن بمعنى الخلق وحده، وهذا لا محالة غير الخلق، إذ لا يجوز لأحد أن يقول: إنهم خلقوا لله نصيبا، ولو أنهم تركوا المزاحمة في اللغة التي لا يعقلونها، وتركوها لأهلها كانوا عن مثل هذه الإلزامات القبيحة في معزل. * * * قوله: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ) حجة على المعتزلة والقدرية: إذ مضى قولنا في التزيين الذي نسبه الله مرة إليهم ومرة إلى الشيطان، ومرة إلى نفسه بما يغني عن الإعادة ومضى شرحها أيضا في: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ) قياس: * * * وقوله: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) . حجة على القائس: يقال لهم: أرأيتم تحريمكم على الآكل من عدس أخذه بعدس متفاضلا من أجل أنه استفاده بفعل محرم عندكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 وهو رزق حسن مفصل من جملة المحرمات، وأنتم قائلون بالعلل ألا جعلتم بعض قياسكم في ترك الاقتداء من أخر الإناث من أهل هذه الآية في أكل ما رزق الله الجميع وقدم الذكور فقال جل وعلا: (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا) فعابهم الله بذلك ونسبهم إلى الافتراء عليه فكنتم تقولون لا يجوز طرد العلل وإن اتفقت حتى يكون معها تعبد يؤيدها إذ لوجار طردها في كل موضع لجاز لهؤلاء المفترين على الله أن يقولوا: إنما أخرنا الإناث بتحريم هذا الرزق عليهم، لأنا رأيناك أخرت الإناث في أمكنة لم تؤخر فيه الذكور مثل الجهاد، والقضاء، والإمارة، ورأيناك أسقطت إناث ولد الأخ والعم - البنات دون ذكورهم في الميراث - فاقتدينا بك في تحريم ما في بطون أنعامنا على إناثنا. أما كان يكون هذا القول منهم زيادة في الافتراء عليه لو قالوه؛ إذ هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 جل جلاله محلل الأشياء ومحرمها كيف شاء على عباده، فليس للعباد أن يفعلوا مثل فعله، بل ينزلوا عند أمره ونهيه مقتصرين على ما حرم عليهم غير زائدين فيه من تلقاء أنفسهم بما يتصور عندهم من التشبيهات التي فارقتها العبادات المحرمات، وقد رأيناه جل ثناؤه يقسم في كتابه بكثير مما خلق. ألنا أن نقتدي به في ذلك، فنقسم بالليل والنهار وأشباهها، أم نلزم ما نهينا عنه من الحلف بغيره، وتدلنا هذه الآية النازلة في المفترين على الله، إذ حرموا ما رزقهم الله، افتراء على الله على أن نقتصر على تحريم الستة الأصول ولا يضم إليها سابعا وإن أشبهها في العلة عندنا فنتقدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 بين يدي أمره ونهيه ونحرم ما لم يحرمه وهل عاب أولئك بأكثر من اختراعهم تحريم ما لم ينزله، فإن قالوا: لم يعبهم باختراع شيء بل عابهم بتحريم ما حلله بقوله: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وقد ظلمتنا في الإلزام؛ إذ هم بتحريم ما حلل ونحن نحرم ما حرم ونزيد عليه في التحريم أشباهه ولو كنا حللنا التفاضل في الحنطة أو الشعير كان إلزامك مستقيما. قيل لهم: لم نحتج عليكم بنفس ما فعل أولئك فقط دون غيره إنما أريناكم أن العلة التي اطردت لهم هي مثل علتكم سواء، فلم تنفعهم، وأنتم وإن لم تسلكوا سبيلهم في نفس الحنطة والشعير المفصلين مع الأربعة بالتحريم فقد فعلتم مثل فعلهم في تحريم جملة ما أباح من التجارات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 بقوله: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) . وإذا كان لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يخص من الجملة ولكم مثله فما فضله إذاً عليكم، وقد أخبر الله عنه أن ما قاله فبوحي. أفيجوز أن يكون من يوحى إليه ومن لا يوحى إليه يفعلان فعلا واحدا، ويلزم قولهما لزوما واحدا، ومع ذلك ليس يخلو تحريمكم ما عدا الأصول الستة من أن تنسبوه إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أو إلى أنفسكم، فإن كنتم تنسبونه إلى أنفسكم فقد جعلتم لأنفسكم مالم يجعله الله لكم وجعلتموها مستعبِدة بعد أن كانت مستعبَدة وإن كنتم تنسبونه إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فليس تخلو نسبتكم ذلك إليه من إفصاح أو ظن فالإفصاح معدوم والظن لا يغني من الحق شيئا، وهذا مشروح بتلخيصه في كتابنا المؤلف في شرح النصوص. فإن قالوا: لم ننسبه إليه نصاً ولا إلى أنفسنا اختراعا ولكنا لما أمرنا بالمثل في جزاء الصيد بتشبيهنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 دلنا على أن التشبيه في كل موضع جائز. قيل: أفتسمون المثل المحكوم به بتشبيهكم نصا أو قياسا، فإن قالوا: نسميه نصا لصحبة الإطلاق من الله له - وهو: الحق - بطل قولهم في الاحتجاج بهذه الآية في تثبيت القياس وشهدوا على أنفسهم أن ما حرموه من السابع بغير نص ولا حجة، بل بظن متبع، إذ النص مقرون بعدمه فيه. والحجة في القياس بالآية زائلة فيترك تسميتهم المثل قياسا. وإن قالوا: نسميه قياسا. قيل: أفتثبتون القياس بالقياس وأنتم مقرون بأن القياس فرع لا أصل، وإذا اختلف الناس في فرع لم يجز تثبيته إلا بأصل عندنا وعندك، والأصل لا يكون إلا نصا. أفمن النصفة عندكم لو كان تثبيت الفروع بالفروع جائزا أيضا أن تثبتوا على خصمكم حقا عندكم باطلا عنده بنفس ذلك الشيء بغير حجة من غيره، وهو لو قبل تثبيت ما أنكر عليه ما أنكره. ومع ذلك فإنكم غير سالمين من تحريم السابع بالظن على كل حال سميتم المثل في جزاء الصيد نصا أو قياسا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 إذ لو كان إطلاقه للحاكمين العدلين النظر في ذلك المثل مسمى بلفظ القياس لكان استدلالكم به بأنه مطلق لكم مثله في كل موضع ظنا والظن لا يحلل شيئا ولا يحرمه. زكاة الثمر: * * * قوله: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِ هِ) حجة في إيجاب العشر على الثمر قوتا كان أو غيره لدخول الزيتون والرمان تحت أداء الحق يوم الحصاد بالتسمية وسائر الثمار في الجنات في الجملة والهاء في: (أكله) و (ثمره) و (حقه) راجعة - والله أعلم - على جنس المذكورات كلها والجنس مذكر موحد. فإن قيل: كيف يشتمل أداء الحق على جميع ما ذكر في الآية، ولا يكون مقصودا به الزرع وحده لذكر الحصاد والحصاد واقع عليه دون سائره، قيل: هو عند العامة كذلك، فأما العرب التي نزل القرآن بلغتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 فإنهم يوقعون اسم الحصاد على الزرع وغيره، إذ الحصاد عندها قطع الشيء واستئصاله قال الله تبارك وتعالى: مخبرا عن أهل القرية الظالمة: (فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) أي مستأصلين بالعذاب والموت والله أعلم. قال محمد بن علي: فما كان من الحبوب والنخل والأعناب محدودا بمبلغ الأوساق فالعشر ساقطة عنه دون بلوغ الحد فصاعدا. وما كان لأحد فيه - فالقرآن يوجب على جملته ولم يسقط عنه بترك تسمية الحد، فعلى ما حصد من قليله وكثيره العشر بجملة الكتاب ولقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر، وما سقي بالنواضح والسواني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 والغرب فنصف العشر. ركوب البقر: * * * وقوله: (وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا) دليل على أن جميع أنواع الأنعام يحمل عليها ويركب بقرة كانت أو غيرها؛ لأن الحمولة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 في اللغة غير مقتصر بها على حمل الأمتعة دون الناس ولا البقر خارج من جملة الأنعام فيها في الشعر والصوف: * * * قوله: (وفَرْشاً) دليل على إباحة المرعزي والصوف والشعر ذكيا كان ما أخذ منه أو ميتا أو حيا، إذ محال أن يعدد علينا شيئا في عداد نعمه، وينشيئه لنا، وفيه محظور من صوف الميتة أو المرعزي فلا يبينه. وكيف يجوز ذلك، وهو يقول: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) فلا في تفصيل المحرم ذكر صوف الميتة وشعرها والمرعزي، ولا في المستثنى بالاضطرار. أفلا يدل ذلك أنه في جملة المعفو عنه، بل محلل ممنون به بقوله: (وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا) أي وأنشأ لكم - والله أعلم - حمولة وفرشا، وقال أيضا: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 أوليس جل جلاله قد ذكر كلا بلفظه وأنعم به علينا لأثاثنا وأمتعتنا،. أفيكون فيه مستثنى بالتحريم فلا يوضحه، بل كل داخل تحت جملة إنعامه. فإن قيل: إنما قصد بالإنعام علينا فيها قصد لحومها، واللحوم لا تصل إلي بالذكاة ولا تحل بالموت. قيل: أفنجعل ما قطع منها وهي حية من صوفها وشعرها محرما كما تجعل ما قطع من لحومها في حال حياتها، فإن قيل: ليس الصوف والشعر مثل اللحم، لأن اللحم البائن منها بالقطع يصير ميتة بمفارقة جزء الروح لها، والصوف والشعر لا يصيران ميتة. قيل: ولم لا يصيران ميتة، لأنه لم يكن فيهما علة، فإن قال: لأنه لم يكن فيهما روح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 قيل: فما الذي حرمهما إذا أخذا من الميتة ولم يكن فيهما روح فتحرمه كما حرمت الميتة بمفارقة الروح، فإن قال: أجعل أعلاهما الناتئ من البهيمة طاهرا وباطنهما المنغرز في جلدها نجساً فلذلك أبيح ما جزء وأحرم ما نتف من حي لخروج أسفله وأعلاه والأسفل نجس. قيل: ما العلة في نجاسة أسفله وطهارة أعلاه، فإن قال: أعلاه حي فلذلك أبحته، وأسفله ميت فلذلك حظرته - أحال القول من جهتين إحداهما: أنه جعل شيئا واحدا بقطعه واحدة في جسد حي بعضه حيا وبعضه شيئا، وهذا مستحيل لا شك فيه. والثاني: أنه شهد لأعلاه بالحياة وكان ينبغي أن يكون إذا قطع أحق بأن يسمى ميتا لمفارقة الحياة له بعد قطعه، كما يفارق بضعة من لحمها إذا قطع منها حية. وإن قال: أعلاه ميت وأسفله حي زاده في الإحالة حيث أباح الانتفاع بما يسميه ميتة. افتراه بعد جزه صارت فيه روح حللته أو دباغة طهرته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 فإن قال: لا أقول: إنه حي ولا ميتة، ولكنه كالشيء المخلوق بلا روح مثل: الخثسب وأشباهه، ولكنه مغروز في جلد حي ندي، فإذا جز لم تصل الندوة إليه فهو طاهر لذلك أصاب القول في الجز، والبهيمة حية، وبقي الانفصال عليه في نتفه حية وميتة وجزه ميته، فيقال له: أفلا اقتصرت فيما نتف علا غسل الندوة المستبطنة وأبحته بعد ذلك، وأبحت ما جز من الميتة بلا غسل لعدم خلوص الندوة إليه إلا أن تعلم بنجاسة أصابته فتغسله لها لا للندوة. فهذا بين لمن تدبره واضح لمن ميزه. وليس اعتلال من اعتل لنجاسة الصوف والشعر بعظم الميتة وقرنها - وجها يلزم قايسا ولا غيره، إذ العظم والقرن عضوان من أعضائها تألم البهيمة بكسرها، وفيهما دسم ومخ، وماكان هذا سبيله ففيه روح لا محالة، فإذا ماتت لم يمت منها شيء دون شيء بل يموت جميعها موتا واحدا وكل مفارق حياة فاسم الميتة واقع عليه. فإن قام الدليل على إباحة شيء منها وأخرجه من جملتها، وإلا فهي محرمة بنص القرآن، والشافعي رضي الله عنه، أحد من يقول بنجاسة الصوف والشعر إذا جز من ميتة، ويزعم أنهما يموتان بموت ذوات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 الروح. والعجب له - رحمة الله عليه - مع تدقيقه كيف ذهب عليه أن اسم الميتة لا يقع إلا على ما كان حيا، ففارقته الحياة، وهو يجيز أن يجز منها ويسميه طاهرا ولا يميز هو ولا غيره ما قطع منها سواه، لأنه يصير ميتة، ومن تأمل أمر الصوف والشعر لم يجز له أن يسميه، وهو على حي ميتا ولا حيا، لأنه إن كان حرم بعد موت من هو عليه باسم الميتة وسمي قبل أن يموت أيضا ميتا فأبيح كان أحد المعنيين من الإباحة أو الحظر خطأ بغير شك. وإن سمي حيا فجز لم تبق حياته بمزايلته الجسد، كما لا تبقى حياة القطعة من لحم الحيوان إذا أخذت منه وهو حي. والصحيح أن يكون كالحجر والخشب وأشباه ذلك، يكون في حالة حياة من هو عليه وبعده واحدا. إلا أنه يغسل ما أخرج من مغرز الجلد للندوة الواصلة إليه منه. وقد احتج الشافعي - رضي الله عنه - بالقرن والعظم وزاد شيئا فقال: العظم قبل الدباغ وبعده سواء، فمن الذي واطأه منا على أن الإهاب حل بالتغيير والاستحالة دون التعبد حتى يقول: إن الصوف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 والشعر لعدم استحالتهما وارتفاع دباغتهما حرما. ولو لزمنا أن لا نبيح إلا بالتغير أيضا للزمنا ذلك فيما سميناه ميتة قبل التغيير كما سمينا الإهاب ميتة، فأما الصوف والشعر اللذان لم نسميهما قط ميتة فمراعاة تغييرهما واستحالتهما من حال إلى حال لا وجه له، فإن قال قائل: أراك تعيد القول وتبديه في إحالة إيقاع اسم الميتة على ما لم يكن فيه حياة فارقته، وتنسب الشافعي إلى الإغفال في تسمية الصوف والشعر ميتة من أجل أنه لا حياة فيهما عندك، وقد زعمت في سورة البقرة في فصل قوله جل وعلا: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ) أنه أوقع اسم الميتة على النطفة ولا حياة فيها ورددت به على المتكلمين في تسميتهم كل نام وزائد حيا من أجل نمائه وزيادته، وهذا نقض لذاك أو ذاك كسر لهذا - أغفل إغفالا شيئا، وذلك أني نفيت أن يقع اسم الميتة ها هنا على الصوف والشعر بمعنى النجاسة المحرمة الذات وهناك استشهدت بقوله: (وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا) على أن كل ما لم يكن له روح ظاهرة يسمى ميتة، ولكن طاهر الذات غير نجس، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دل على طهارة النطفة بفركه من ثوبه بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 الأيام، وترك غسله منه، وقال تبارك وتعالى: (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا) . وقال: (وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) فسمى الأرض ميتة وهي طاهرة. فاللغة غير دافعة أن ما لا حياة فيه، ولا روح تتردد في جسمه من الموات كله يسمى ميتة وميتا، ولكن طاهر، ولا يجوز أن يكون شيء من الروحانيين إذا فارقته الحياة، وكانت له نفس سائلة فصارت ميتة يكون طاهرا، وهو وإن جامع ميتة الموات مختلف في المعنى بأن ذلك نجس وهذا طاهر والخلاف بيننا وبين الشافعي - رضي الله عنه - في الصوف والشعر في نفي وقوع اسم الميتة النجسة عليهما لا في نفي إعدادهما في عداد ما يقع عليه اسم ميتة الموات فافهمه ولا تغلط علينا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 ركوب البقر: قال محمد بن علي: وفي إباحة ركوب جميع الأنعام والحمل عليها غير هذه الآية أيضا قال الله تبارك وتعالى: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) . (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وهذه أيضا تؤيد ما قلناه في الصوف والشعر والوبر. فإن قيل: فما لك لم تقتصر في إباحة الركوب والحمل على الإبل وحدها دون البقر، لحديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل يسوق بقرة؛ إذ ركبها، فقالت إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا للحرث " فكنت تخصها بالسنة وإن شملها اسم الأنعام كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 خصصت الشاة بالعجز عن حمل راكب أو متاع. قيل: البقر يطيق كما تطيق الإبل، ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين حدث عن البقرة بالنطق لم ينه عن ركوبها، وقد حدث معها بنطق ذيب أخذ منه بعض الرعاة شاة أخذها من غنمه فقال: كيف تصنع بها يوم السبع، فهل يجوز لراع أن يترك شاة في فم ذيب وهو يقدر على استخلاصها من أجل نطق ذلك الذيب، فإن قيل: الذئب وإن تكلم فلم يخبر عن ربه بشيء يمنع انتزاع الشاة منه، والبقرة قد أخبرت أن الله لم يخلقها للركوب بل خلقها للحرث، ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: " آمنت به أنا وأبو بكر وعمر وفي هذا تصديقها. قيل: قد يمكن أن يكون هذا في أمة خلت قبل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خلق بقرهم للحرث وحده دون سائر الأعمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 ونسخ الله ذلك في هذه الأمة وأباح لهم استعمالها وركوبها بهذه الآيات كما نسخ كثيرا من شرائعهم مثل أكل النار قربانهم ونسخ السبت وأشباهه، والقرآن لا يخص بمثل هذا الخبر، وسيما وهو محتمل ما قلنا. وقد قيل في الفرش: إنها صغار الإبل كالفصلان والحمولة كبارها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 أيمان: * * * وقوله: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) دليل على أن اسم الشحم جامع لكل سمين من اللحم وإن تفرق به أسماء، إذ محال أن يستثنى شيء من غير جنسه وقد استثنى جل جلاله الألية والمبعر والمختلط بالعظم، ولا يكون - والله أعلم - إلا سمين اللحم ودسمه من الشحم كما ترى، فمعظمه المعروف عند العامة ما في بطونها ثم يخلص اسمه إلى كل ما ذكرناه، ويقول العرب للسمين من الرجال: فلان شحيم، يذهبون به إلى الضخم أو السمن. فالآكل شيئا من ذلك إذا حلف على اجتناب الشحم إذا لم ينو معظمه حانث، والله أعلم. * * * قوله: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّ بِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 حجة للمعتزلة والقدرية علينا فيما يقدرون ولو ميزوا ما الذي أنكر عليهم لعلموا أنه لا متعلق لهم فيه، والذي أنكر جل جلاله من قولهم - وهو أعلم - احتجاجهم به لا أنهم قالوا غير حق. وكيف لايكون حقا، وقد قاله الله في هذه السورة نفسها حيث يقول: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 فليس لهم أن يحتجوا على الله - جل وعلا - بما لم يطلعهم عليه من عدله، ونحن لا نقول أن لأحد من خلق الله أن يعول على هذا القول، وإن كان حقا، لأنه مأمور بغيره ومطالب بإقامة ما لا يقيمه سواه مما يؤثر فيه ويؤجر عليه. * * * قوله تعالى: (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) - والله أعلم - في استشعار نفعهم بهذه الحجة وهي غير نافعة لهم، وكيف ينفعهم، وهو يقول على إثرها: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) ، فهذا يبين - بلا إشكال - أن وجه إنكار مقالتهم عند احتجاجهم به لا نفس القول. قال محمد بن علي: وبلية القوم إضاعة النصح لدين الله، واتخاذ كل ما احتمله ظاهر الكلام دينا، ولا يحفلون بتناقضه عليهم، ولا يعرفون مع ذلك سعة لسان العرب وتصاريف الكلام وتعارضه، إذ في الكلام ما يحتمل وجوها مستعملة كلها، وفيه ما يحتمل وجهين لا يجوز استعمال أحدهما، وفيه ما لا يجوز استعمال ظاهره بتة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 وفي التعارض ما يتوجه اختلافه، وفيه ما لا يتوجه إلا بنسخ. فما يحتمل وجوها مستعملة كلها كثير يطول الكتاب بشرحه، وليس على القوم فيه حجة، وما يحتمل وجهين لا يجوز إلا استعمال أحدهما: قوله جل وعلا في هذه السورة (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ) وفي بني إسرائيل: (خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ) فظاهر الكلام دال على أن الولد المنهي عن قتله هو المخشي ببقائه الإملاق، ومن لم يخش ببقائه الإملاق مباح قتله. فلم يجز استعمال هذا المعنى بحيلة، وإن احتمله، وكان اتباع ما يدل على منع قتل الأولاد جميعا، من خشي الإملاق منهم ومن لم يخش، من قوله على إثر الكلام: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) أولى لدخول الأولاد جميعا مع الأجنبيين تحته، وإنما كانت الجاهلية تقتل أولادها خشية كثرة العيلة، ودخول الفقر عليهم إذا كثروا، فأنزل الله تبارك وتعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) وما لا يجوز استعماله بتة: * * * قوله: (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 وفي غير موضع مثله (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أو، (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) "ولعل " كلمة شك وتمن، فلم يجز أن تحمل على ظاهرها فينسب الشك والتمني إلى الله، ويوصف بما ليس من نعوته، وكيف يتمنى إيمان قوم ب " لعل " وهو - جل جلاله - عالم بأنهم لا يؤمنون إلا بمشيئته، وقد أنزل في كتابه فقال: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) وأخبر عن قوم يتمنون الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا ويصدقوا فقال: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) فهذه الأشياء وما يضاهيها على سعة اللسان تقول العرب: فعلنا بفلان كذا لعله يفعل كذا. وهذا أيضا حجة عليهم فيما ينفون عنه من صفات تكون عندهم للمخلوقين، وقد أخبر عن نفسه - جل وتعالى - ب " لعل ما كما ترى، فلم تؤثر في ربوبيته ومباينة خلقه. فكيف يجوز مع هذه الأشياء أن يتعلق بظاهر قوله: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 ويتأول النكير عليهم على خلاف ما قلنا، وأول الكلام وآخره ينقضه، أم كيف يعد متعارضا وقد دللنا على أن مشيئته فوق مشيئة خلقه، لا يجوز أن يكون تبعاً لمشيئتهم. أفتراه - ويحهم - نسخ ما القرآن مملوء به وبذكره من مشيئته وسلطانها على مشيئة عباده، وإضلال من أضل منهم بعدله، وإنعامه على من أنعم بفضله بما نسب إليهم من مشيئتهم وضلالهم في بعض المواضع، وبما دل عليه ظاهر (سيقول) فأبطل إلاهيته الأزلية، وسلطانه النافذ قبل خلق الخلق وبعده، وجعل مشيئتهم التي هو خلقها فيهم مستعلية عليهم ومتقدمة بين يديه وقاهرة لإرادته. إن الكفر في هذا لأوضح من أن يتوصل إليه بهذا التدقيق والإغراق. نعوذ بالله منه. حجة عليهم: قوله: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) حجة عليهم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 باب العدل الذي يحملونه على عقولهم، إذ قد أخبر - جل وتعالى - عن وقت يأتي فيه بعض آياته لا يقبل إيمان من آمن فيه من الكفار، ولا اكتساب من اكتسب خيرا من الموحدين، وهذه الآية عندنا طلوع الشمس من مغربها فإن آمنوا به فذاك، وإلا فليعدوها أي آية شاءوا ليس هذا وقت موقت قبل الموت لا يقبل ذلك فيه أفمن العدل عندهم أن يقبل إيمان كافر في وقت لا يقبل اكتساب مؤمن ولا إيمان كافر في غيره، أم يقروا بأنه عدل وإن لم يعرفوا وجهه، فنقول: وكذلك من قضى عليه المعصية، ثم عذبه عليها، عدل عليه، وإن لم نعرف وجهه. ولا أراهم - بحمد الله ونعمته - يريدون الاحتجاج بشيء إلا عاد عليهم في باب العدل، وخرج بهم إلى الكفر. فإن قالوا: هذه الآية الموت نفسه لا أجل قبله. قيل لهم: أفهم الموت بعد وقوعه أو اقتراب حينه عند آخر أنفاس الحال به، فإن قالوا: بعد وقوعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 قيل لهم: فكيف يؤمن ميت أو يكسب خيرا حتى يقبل منه أولا يقبل، وإن قالوا: هو اقتراب حينه. أعيد عليهم الكلام في باب العدل، إذ إلغاء الإيمان واكتساب الخير في أي وقت ألغيا، قبل الموت قربت مدته منه، أو بعدت - إلغاء، والعادل إذا ألغى خيرا ولم يقبله من فاعل كان ضد العدل في عقول الخلق ومن ينفي القدر تنزيها لله عن الجور. فإن احتجوا بقوله: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) أصابوا في التلاوة ونقضوا أصولهم في المقالة؛ إذ مدارهم كان في نفي القدر وخلق الأعمال على قياد العدل الذي يعقلونه بعقولهم، فإذا خرجت مقاليد الحالة من أيديهم، وانفتحت لنا عليهم، لم يبق لهم علينا إلا إتمام كسر قولهم في الوعيد، وإن كنا قد علمناه في الفصل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 سورة النساء في قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) ونتمه بعون الله على نسق الآيات في السور إذا انتهينا إليها، غير أنا نسألهم عند تلاوة هذه الآية - إذ هي دعامة مقالتهم في باب الوعيد، وإن كانوا قد كسروا بها باب العدل - سؤالاً فنقول لهم: أخبرونا عمن تاب من ذنوبه عند نزول الموت قبل انقطاع آخر أنفاسه، ومن مات على تمرده من غير ندم ولا توبة في الوعيد والخلود في النار سواء،. فإن قالوا: نعم. لزمهم في باب العدل ما يلزمهم. وإن كانوا قد علموه جملة واحدة ويقال لهم: أسلمتم لهذه الآية في منع التوبة وإبطالها عمن حضره الموت تسليما، أم تصححونه بعقولكم ولكم عليه شواهد من غيرها من حيث لا ينكسر قولكم في العدل وإن كان قد انكسر باحتجاجكم بهذه الآية. فإن قالوا: لم ينكسر. كابروا في الجواب، وجاروا في الخطاب. وإن قالوا: بل نصححه بعقولنا. قيل، فما وجه تصحيح من عصى الله مائة عام ثم تاب قبل موته بيوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 وهو صحيح نشيط لم ينزل به دليل موت ولا أتاه رائده، فقبلت توبته، وأطاعه آخر مائة عام إلا يوما قبل موته، أخطأ فيه خطية واحدة، فتاب منها آخر نهار يومه، وقد نزل به الموت ولاح رائده، فلم يقبل توبته وخلد في النار بخطيئته، أكانت تلك الخطيئة الواحدة أثقل في ميزانه من ذنوب مائة عام إلا يوما واحدا تاب فيه منها وهو صحيح،. أم رجاء الصحيح في البقاء وخوف العليل من الموت، فرق بين حاليهما، وكلاهما منقطع الحياة في علم الله إلا يوما واحدا، تاب فيه واحد في أول نهاره من ذنوب مائة عام إلا يوما واحدا، وآخر في آخره من ذنب واحد فأرى التوبة إذا يبطلها المرض وتصححها الصحة. فإن قالوا: ولا من هذا الصحيح التائب في أول نهاره يقبل، لانقطاع عمره في علم الله - خالفوا الأمة كافة، وانفردوا بقول لم يسبقهم إليه سابق مبتدع ولا متبع، فيقال لهم: على ذلك، فكم المدة التي تكون بين التائب وبين الموت تقبل فيها توبته، فأي مدة وقتوها طولبوا بإقامة البرهان عليها من كتاب الله ولن يجدوا إلى ذلك سبيلاً قال محمد بن علي: فلما رأينا الله تبارك وتعالى يدعو إلى التوبة دعوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 واحدة، ويعد القبول ممن تابه بقوله: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) بلا وقت مؤقت ولا أجل مضروب سوى الآية الآتية - التي ابتدأنا الفصل بها، ثم قال في هذا الموضع: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ) علمنا أنها لا محالة خاصة نازلة في قوم بأعيانهم، كما قال في فرعون: (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) ، إذ لا سبيل إلى تحديد حد في القريب الذي ذكر فيه قبول التوبة حيث يقول (يتوبون من قريب) لأن أمل الحياة قائم في الإنسان ما بقي فيه نفس واحد، وإذا كان لنا أن ننظر في هذا القرآن ونتكلم في وجوهه فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنزل عليه أحق أن يتكلم فيه بما أراه الله، مع ما أيده به من الوحي وأخبر أنه لا ينطق عن الهوى، وقد صح عنه أنه قال: " إن الله ليقبل توبة عبده ما لم يقع الحجاب ". قيل: وما وقوع الحجاب، قال: " أن تموت النفس وهي مشركة " و " إن الله يقبل توبة العبد ما لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 يغرغر " فيقول: كل تائب مقبول توبته في أي وقت أحدثها من عمره، عليلا كان أو صحيحا، عند الموت أو قبله، إلا من أدركه طلوع الشمس من مغربها، وهو غير تائب، فإن توبته حينئذ لا تقبل منه إذا تاب، وتكون الآية مصروفة إلى قوم بأعيانهم لا تدخل معهم غيرهم، وكذا قال أبو العالية إن الآية لأهل النفاق، وأحسبه أراد منهم من كان على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويكون حجبها عن أولئك من العدل الذي لا نعقله كما لا نعقل عدله في القضاء والقدر وما ذكرنا معه فيما مضى من كلامنا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 فصول الآيات وبسطها لغيرهم من الفضل عليهم، فهذا وجه الآية التي هي دعامة مقالتهم في باب التوبة. ثم نرجع إلى فصل الاحتجاج عليهم بإتيان الآية التي لا ينفع بعدها الإيمان واكتساب الخير. وإن قالوا: الآية هي حضور القيامة، قالوا محالاً إذ الإيمان في القيامة لا وصول إليه ولا إلى اكتساب الخير، ألا ترى أنهم لما تمنوا أن يكونوا مؤمنة تمنوا معه الرد إلى الدنيا، ليؤمنوا بما كفروا ويصدقوا بما كذبوا فيها: (فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) ، وقد أخبر الله عن إيمان من يؤمن في الدنيا ويكتسب الخير فلا ينفعه هذا ولا هذا بعد إتيان الآية، وكذا قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون وذلك حين (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 ولنا عليهم في قبول التوبة عند الموت حجة أخرى واضحة وهي إجماع الناس كافة على أن من أسلم من الكفار عند الموت حرم ميراثه كفار ولده وورثه مسلمون ورثته وصلي عليه ودفن في مقابر المسلمين، والتوبة من الكفر أجل توبة، والكفر أعظم خطرا من الذنب، فمحال أن يقبل من أحدهما دون الآخر. فإن شبه على أحد بأن التوبة لا تقع إلا من الذنوب، وأن تارك الكفر لا يسمى تائبا كذبه القرآن. قال الله تبارك وتعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) فسمى تركهم لذلك القول واستغفارهم منه توبة. وقال أيضا: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ) ، فجعل التوبة من الكفر والزنا توبة واحدة وسماها باسم واحد، فغير جائز أن يترك آيات التوبة كلها في الكفار والموحدين بلا وقت مؤقت لآية تحتمل الخصوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 وقد يجوز أن يكون شي المنافقين من نافق في إظهار القول بالتوبة عند الموت ليحظى بها عند الناس، فيذكر بالجميل إذا مات، وقلبه معتقد على خلاف ما أظهر، فنزلت الآية فيه، وفي أشباهه. وأما مناقضتهم في خلود من مات من الموحدين بلا توبة مع الكفار في النار فقد حواه كتابنا المجرد فيه، فكرهنا إعادته في هذا الفصل لطوله، إلا ما ذكرنا، ونذكر مع الآيات في مواضعها إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 سورة الأعراف في التقليد: * * * قوله: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) حجة بينة في نفي التقليد؛ لأن الهاء في (دونه) لا تخلو: إما أن تكون راجعة على الرب أو على التنزيل، وقد نهى عن اتباع غيره كما ترى. (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) نظير ما مضى في سورة البقرة من قوله: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ) أي خلقنا من أنتم ذريته، وصورنا من صورناكم على صورته، وهو آدم، والله أعلم. قوله إخبارا عن إبليس: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) . حجة على المعتزلة والقدرية، لأن الله - تبارك وتعالى - لم يرد عليه ذلك وإنما أخبره بعقوبته وعقوبة من اتبعه وليس يخلو من أن يكون خلقه وهو يعلم ما يحدث ويقول أو لا يعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 فإن كان علم - وقد علم لا محالة - فقد خلقه لذلك، ولابد من القول بهذا، لأن النافي عنه علمه به كافر لا شك فيه. ستر العورة ومعنى الوصية: * * * وقوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ) حجة في ستر العورات، وفيه من الفقه أن من أوصى بثلثه لبني فلان اشترك فيه الذكر والأنثى من ولده لدخولهن مع البنين في الاستتار. ولم يقل: يا بني آدم وبناته، لأن الذكور يغلبون الإناث في الاسم فاقتصر عليهم - وهو أعلم - في الذكر دونهن. وإن كانت الوصية لذكور بني فلان لم يدخل الإناث معهم. ومثله: (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) قد دخل فيهم بناته * * * وقوله: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) مثله، وفي قوله: (وَقَبِيلُهُ) وهو دليل على أن الاسم الواحد واقع على معاني شتي، إذ القبيل في هذا الموضع - والله أعلم - أشياعه وأعوانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 وقال في موضع آخر: (أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أي عيانا إن شاء الله. القدرية: * * * وقوله: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) آية يغالط بها القدرية والمعتزلة - العامة منا، وأين القضاء من الأمر، ومن الذي قال: إن الله أمر بالزنا والسرقة، وشرب الخمر، كما أمر بالصلاة والصوم حتى يحتجوا علينا بقوله: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) . ونحن مقرون أن الله لا يأمر بالمعاصي، بل ينهى عنها ويوعد عليها العقوبة. ولئن كان هؤلاء القوم لا يفرقون بين الأمر والقضاء على الحقيقة ولا يريدون بهذه الآية المغالطة والتلبيس على العامة، إن المصيبة في جنونهم لأعظم من أن يشتغل بمناقضتهم فيما يدق من بدعتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 القضاء حكم مغيب عن العباد مقرون بسابق علمه فيهم لا يستطيعون الخروج منه إلى خلاف ما علمه منهم. والأمر إفصاح ونطق وتسمية الشيء الذي يؤمرون به، إذ محال أن يقدر العبد على معرفة فعل يأمره مولاه به، فيهتدي إليه قبل يأمره، وللسيد فيه علوم وإرادات لا يقدر العبد على معرفتها قبل الإفصاح له بها فهل قال أحد منا: إن الله قال لعبيده: ازنوا أو أقيموا الزنا، أو حافظوا على الزنا، كما قال: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) ، وكما قال، (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) بل قال: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) . إن هذا منهم لإفراط في الجهل والجنون إن كان حقيقة، وصفاقة وجه إن كان مغالطة. * * * وقوله: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ) حجة عليهم إذ المهتدي بدأ مهتديا والضال حق عليه ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 خلق له من الضلالة. ألا تراه يقول في موضع آخر: (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) ، فالحق لا محالة منه يحق أليس بينا في سياق الكلام أن القول منه جل وعلا حق قبل فعل الجن والإنس أفعالا استوجبوا بها دخول النار، فلذلك لم تؤت كل نفس هداها. وهل يقدر من حق عليه الضلالة أن يبطلها عن نفسه، أو من هدي أن يضل،. فإن احتجوا بقوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) . قيل لهم: ويحكم ما تفرون أبدا من شيء إلا وقعتم فيما هو أعظم منه. هل تخلو هدايته ثمود من أن تكون هداية بيان، أو هداية حكم وإيجاب إرادة، فإن كانت هداية بيان، فلا حجة فيها علينا. وإن كانت هداية حكم وإيجاب إرادة، فكيف غلبوا إرادته في إيجاب الهداية، وقهروا حكمه النافذ في كل شيء، فعقروا ناقته وعتوا عن أمره وكفروا بنبيه صالح - صلى الله عليه وسلم -،. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 أما تعلموا أن البيان والدعوة عامان والهداية خاصة، قال الله تبارك وتعالى: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) ، فجعل الدعوة عامة والهداية خاصة. في تذكير فعل المؤنث: * * * قوله: (حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ) من جهة اللغة حجة في تذكير فعل المؤنث وإن كان واحدا للاستغناء بالهاء الدالة على الفرق بينه وبين المذكر ومثله: (لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) و (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ، ومثله كثير في القرآن وهذا إذا كان الفعل مقدما، فأما إذا تأخر لم يجز إلا تأنيثه، ولو أنث وهو مقدم على التأكيد لكان حسنا قال الله تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا) و (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) ومثله كثير. التستر فى الصلاة: * * * وقوله: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) حجة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 الاستتار في الصلاة وقد تقدمت الحجة في الاستتار في غير صلاة بقوله: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ) . تحريم الخمر: * * * قوله: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ) حجة في تحريم الخمر الذي يطالب العامة فيه بلفظ التحريم، ولا يعلمون، أن الحظر والمنع والتحريم بمعنى واحد؛ إذ فعل شيء قد نهى الله عنه وأمر باجتنابه وأخبر أنه من عمل الشيطان وأكده بقوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) ، لا محالة إثم، وصاحبه آثم، وهو في عداد ما يلحق الإثم بشاربه، وقد نسقه جل وعلا بالواو على الفواحش بلفظ التحريم. في تحريم التقليد: قوله في تمام هذه الآية: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) حجة في تحريم التقليد؛ إذ لا يجوز لبشر يحرم شيئا أو يحلله مبتدئا به، ولا يجوز أن يكون إلا تبعاً لله فيهما ناسبا إليه ما يفعله منهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 فمن دان الله من المميزين بشيء لا يستطيع أن يتلو فيه قرآنا ولا يروي فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبرا صحيحا ولا اجتمع له عليه أهل ملته، إذ كلاهما مع القرآن مقبول بالقرآن لم يسلم من هنا الآية. قال الله وجل من قائل: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) وليس في هذا عند من أنصف واتقى الله برؤية وتمييز وقيعة في متقدم سلف ولا عالم خلف فنحن نعلم بل نشهد أن واحدا منهما لا يفتر على الله كذبا، ولكنه سالك في كل ما أحل وحرم إما سبيل نص أو تأويل. فما سلك فيه نصا لا يتعذر على المميز الوصول إليه، وما سلك به تأويله فهو مصيب عند نفسه، محمود على صوابه، معذور بخطائه عند ربه غير قادر على أكثر مما فعله واجتهد في طلبه، فعلى المميز أن يشهد بفضله ويعرف قدمته وسابقته ولا يعول على نظره في اجتهاده كما عول في اتباع النص الذي يستوي كل في إصابته، وكل آمن من خطأ يلحقه فيه. والمجتهد نفسه السابق إنما ما حكم فيه باجتهاده لا يقدر أن يشهد على الله بما أداه إليه اجتهاده فكيف يقلد " ولو كان الحاكم باجتهاده يصيب حقيقة الحق لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 من حكم له بلحن حجته أن يدع أخذ ما حكم له به على خصمه، ولكان لا يتواعده عليه النار لأن حكمه - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان حقا في نفسه، فهو على ما أوجب ظاهر ألفاظ الخصوم لا على ما استسروه من خداع بعضهم لبعض. فإذا كان الحكم، من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، على هذه الحال لا يحلل شيئا ولا يحرمه إلا على ظاهر الحكم حتى يطلعه الله على السرائر، فمن بعده من الحكام والمفتين أولى أن لا يحل ويحرم بقولهم شيئا، وإن ما كانوا فاضلين حتى يتبين للناظر موضع الحجة، فيقول عليها، لا على القول، فإذا اجتهد بنفسه وهو مميز، فأصاب أو أخطأ، لم يكن عليه عتب ولا كان قائلا على الله ما لا يعلم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 والمقلد غير مجتهد فيكون معذورا بتحمل خطأ غيره إلا أن يكون غير مميز فلا بد للأعمى من اتباع البصير. فإن كان ممن يضبط السماع ويعرف مراتب الرجال ولا يميز نفس المحكوم فيه قلد الأقرب فالأقرب من العلماء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقلد أهل زمانه إذ هم على مقدار ما يشهد له نظره أجدر بالإصابة وآمن ممن بعدهم. وإن كان لا يعرف مراتب الرجال، ولم يضبط السماع قلد آمن أهل زمانه وأشهدهم وأشهرهم وأرفعهم ذكرا بالعلم والإشارة إليه في بلده وغير بلده مشافهة، أو قابلاً من آمن أمثاله عنده إذا عجز عن الوصول إلى مشافهته، ولم يسعه قبول الفتوى من كل من أسرع إليها ولا ممن عرفه بالصلاح إذا لم يكن له شهرة في العلم مقصودا إليه فيه، ولن يعدم مثل هذا في كل عصر إن شاء الله. * * * قوله: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ) حجة على القدرية والمعتزلة، لأنه جل وتعالى نسب الافتراء والكذب إليهم وسماهم بذلك ظالمين، ثم أخبر عما ينالهم من نصيبهم من الكتاب وليس يخلو هذا النصيب المضاف إليهم من أن يكون نفس ما أتوه أو عقوبته وأيهما كان فهو قبل العمل والعمل جار عليه لا محيص لفاعله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 قوله: (يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) حجة عليهم فيما يزعمون أن كل فعل مضاف إلى فاعله فهو منفرد به غير محمول عليه ولا معان فيه. أفيجوز أن نقول: إن رسل الله - جل وعلا - منفردون وتوفي الناس غير فاعله بقوة الله وإرادته، كما يزعمون أن الله لما أضاف الافتراء والتكذيب والضلال وأفعال الشر إلى من أضاف كان منفردا بفعله من غير أن يكون مكتوبا عليه ولا مرادا به. أولا يعتبرون أن الفعل وإن أضيف إلى فاعل فغير محيل أن يكون مرادا به محمولا عليه، وأن اللغة المجيزة أن يضاف إلى من ليس بفاعل أصلا فعل كإضافة التوفي إلى الرسل، وخلق الطير من الطين إلى عيسى - صلى الله عليه وسلم - وليس لواحد منهما صنع فيما أضيف إليه مجيزة أن يضاف إلى فاعل المعصية فعله، ولا يحيل أن يكون مكتوبة عليه، لأن عجز عاجز عن معرفة عقوبة من هذا سبيله في معصيته من حيث لا يثلم في عدل - من لزومهم ظاهر لفظ إضافة الأفعال إلى العباد وتركهم لفظ إضافة المشيئة إلى الله، أو من رجوعهم إليه في باب الوعيد وتركهم إياه في باب الصفات وفزعهم إلى المعقول في باب العدل في القدر وحده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 غير جاهلين مخالفة القرآن مع قيادة العقول ومساهلتهم أنفسهم في إخوانه من خول العبيد ومرض الصغار وأشباههما، وترك قيادة العقول فيها. إن هذا إلى التفكه بالبطالة أقرب منه إلى إقامة التوحيد كفعل العبيد. ومثل قوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) في غير موضع من القرآن قال الله وجله من قائل: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ) . وقال: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ، وقال: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وهو المتوفي لهم لا محالة قال الله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) . * * * قوله: (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا) حجة في أن العرب تسمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 بالاسم الواحد المعاني الكثيرة كما تسمي الشيء الواحد بأسماء شتى. وفيه حجة على المعتزلة والجهمية فيما يزعمون: أن الله لما وصف باليدين استحال أن يكونا صفتين، لأن ذلك لا يكون إلا مخلوقا عندهم أفيزعمون أن الأخت من النسب لا تسمى بالأخت من أجل أن هذا الاسم يسمى به غيرها، وقد سماها الله جل وعلا به فقال: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ) . والعرب تقول للرجل تظهر منه الخصلة من الخير أو الشر: إن لهذه أخوات، وتقول: فلان أخو صبر وأخو ورع، ثم تسمى به الأخ من النسب فيجتمع كل ذلك في الاسم ويختلف في المعنى، فيما ينكر أن يكون لله - جل وعلا - يدان مبسوطتان وسمع وبصر فينفق بهما ولا يكون ذلك تشبيها بالبشر، إذ كل ذلك من البشر مخلوق فان، ومنه جل وعلا باق غير مخلوق، إن هذا منهم لأضيق رواية، أو أظهر مكابرة، وليت شعري حيث ذهبوا باليد إلى القوة والنعمة فرارا من التشبيه بالمخلوقين هل يسلموا مما فروا منه، أو للمخلوقين قوة ونعمة، فإذا هم لم يخلصوا على أكثر من أن أجازوا تطبيقا وردوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 غيره، وكلاهما الجائز عندهم والمردود - من صفات الخلق، وهذه غفلة متجاوزة أو عناد قبيح. وكما قالوا في ضحك الله تبارك وتعالى: لمعانُ نوره لا الضحك الذي يشاركه فيه المخلوقين. وقالوا: هو كقول العرب: ضحك المزن، إذا بدأ فيه لمعان البرق، وضحكت الكرسفة وهل ضحك الكرسفة، والمزن غير مخلوقين حيث حملوا ضحكه على ضحكهما، أو لا يرون أن للشمس والقمر والكواكب نوراً ولمعاناً وهي مخلوقة كلها، أفيجوز نفي النور عنه تبارك وتعالى، وهو يقول: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) لأن شاركه فيه ما ذكرناه. وهلا أنكروا الضحك بواحده؛ إذ الضحك غير ذلك كله أيضا. قال الله تبارك وتعالى: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 وما الذي جعل الوفاق الواقع من ولد آدم له من صفاته هو المنكر، والوفاق في كل هذه الأشياء محتملا جائزا عندهم، هل في ذلك إلا مضاهاة القرآن بالحدث إذ قد نطق بالسمع والبصر واليد والحب والغضب والمكر والسخط وأشباه ذلك. وهلا نفوا الكيد والقوة وأشباهها عنه؛ إذ لولد آدم أيضا كيد وقوة، وقد نطق القرآن بهما، قال الله تبارك وتعالى: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) وقال: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وقال: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) ، وقال في النساء: (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 وفي الشيطان: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) مع ما يطول الكتاب من مثل هذا. فما بال بعض هذه الأشياء يكون تشبيها وبعضها غير تشبيه، وفاق بالاسم وليس المفرق بينهما أكثر من أن ما فيه جل وعز غير مخلوق، وما في الآدميين وسائر الخلق مخلوق. جملة وخصوص واختصار ومعاني الإضلال: * * * قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) جملة وخصوص واختصار؛ إذ هو لا محالة من مات منهم على ذلك، إذ من تركه وتاب خارج منه بما ذكر من آيات التوبة والمغفرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 وفيه دليل: على أن المشيئة المضافة إلى العباد مفسرة بمشيئته المضافة إليه بإضلاله إياهم؛ إذ لا يجوز كما وصفنا في غير موضع أن تكون مشيئته تبعاً لمشيئتهم، ولا ضلالهم سابقا لإضلاله إياهم. وكذا ذكر المكذبين بآيات الله المستكبرين عنها في هذه الآية جملة لا ينسخ آيات التوبة والمغفرة ولا تكون آيات التوبة مجملة وهذه مفسرة. وفي قوله: (لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ) دليل على أنها تفتح للمؤمنين، ويدخل الجنة من صدق بآياته وخضع لها. هذا واضح غير مشكل لمن ميزه وانقاد للحق. معاني المهاد: * * * قوله: (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) دليل على أن الشيء وإن كان موضوعا لمعنى فجائز أن يسمى به ضده؛ لأن المهاد اسم موضوع للراحة والوطء قال الله تبارك وتعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) فجعله في عداد النعم، وقال: (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) أي يوطئون، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 ومنه سمي الفراش مهادا؛ لأنه يوطأ ويريح، قال الله تبارك وتعالى: (وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وقد سمى في هذا الموضع النار تحت الكافرين مهادا، لأنها وإن لم توطأ لهم ولم ترح أجسادهم فهي مبسوطة تحتهم. ومثله البشارة اسم موضوع للسرور والفرح قال الله تبارك وتعالى: (فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) ثم نقلها جل وعلا إلى الغم والحزن فقال: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) . * * * قوله: (وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ) إلى قوله: (أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) حجة على المعتزلة في باب الوعيد؛ إذ أصحاب الأعراف لا محالة محبوسون عن الجنة بذنوب لم يتوبوا منها؛ إذ لو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 كانوا ماتوا تائبين منها ما حبسوا على الأعراف، ولأدخلوا الجنة مع الداخلين من فور فراغهم من الحساب، وقد أخبر الله - جل وعلا - أنه يدخلهم الجنة بعد ما حبسهم عنها مدة كما ترى. فإن قالوا: ليس هؤلاء المعتقرين أصحاب الأعراف، كان أوفد للحجة عليه، إذ هم لا محالة، وإن أخطئوا أصحاب الأعراف - من أصحاب النار. * * * قوله: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 حجة على الجهمية؛ لأن الاستواء في هذا الموضع هو الاستقرار، فقوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) أي استقر عليه، فهو بما استقل العرش منه جل جلاله له حد عند نفسه لا بحد يدركه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 خلقه والمحيط بالأشياء علمه سبحانه. وقولهم: الاستواء: الاستيلاء من غير جهة خطأ. فأولها: المكابرة في اللغة، تقول العرب: استوى فلان على الفرس أي استقر عليه، قال الله تعالى: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) أي: استقرت السفينة عليه. أفيجوز أن يقال: استولت السفينة على الجبل، وإذا كان الرجل في شيء، ثم تركه وعمد لغيره يقال: استوى إلى كذا، قال الله تبارك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) ويقال: استوى الميزان والحساب إذا اعتدلا، واستوى الراكع وغيره إذا اعتدل بعد الانحناء. فهذه وما شاكلها مواضع الاستواء لا نعرف في شيء من شواذ اللغات ولا مشهورها أحدا عد الاستواء استيلاء، إذ الاستيلاء: هو الغلبة والقهر والتملك. فهل كان العرش ممتنعا عليه خارجا من يديه حتى استولى عليه، والثانية: أن الاستيلاء إذا كان اسما واقعا على الغلبة والقهر، فلا يجوز أن يكون في الله حادثاً، لأنه جل وتعالى قاهر غالب في الأول، والاستواء يجوز أن يحدثه بعد خلق العرش، فقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) بين أن الاستواء بعد خلق السموات والأرض. والثالثة: مكابرة العقول ومقابلة الأمة عالمهم وجاهلهم بالخلاف فيما ليس فيه لبس ولا إشكال. * * * قوله: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) حجة على الجهمية فيما فرق جل وعلا بين الخلق والأمر ولم يجز أن يقع على القرآن الذي هو أمر خلقا وهو بين. دعاء: * * * وقوله: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) دليل على أن الجهر الشديد في الدعاء عدوان، ألا تراه يقول: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) ... * * * قوله: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) دليل على أن الشيء يوضع موضع غيره ويسمى باسمه، إذ الرحمة في هذا الموضع لا محالة خلاف الرحمة في قوله: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 قوله: (حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ) أي: أقلت الرياح - والله أعلم - سحابا والسحاب جمع لقوله (ثِقَالًا) ، و (سُقْنَاهُ) مردود - والله أعلم - على لفظ السحاب أو على إضمار المطر. * * * قوله: (لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) أي إلى بلد ميت، وهو أعلم. في ضرب الأمثال: * * * قوله: (كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) حجة في ضرب الأمثال وتقريب المعاني بها إلى الأفهام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 قياس: ولقد بلغني أن قوما يجعلون هذا وأشباهه في القرآن حجة في تثبيت القياس وهذا جهل غير مشكل، إذ القياس عندهم تحريم شيء وتحليله من أجل غيره، وليس إخراج الله جل جلاله الموتى من إخراج الثمرات بالماء، ولكنه تعريف الخليقة بأن القادر على إخراج الثمرات قادر على إخراج الموتي. فإن كان القياس يزعم أن محرم شيء بعينه قادر على تحريم شبهه أو للمبتدي بتحريم شيء أن يحرم شيئين فقياسه صحيح. وإن أراد أن للمأمور أن يتقدم بالآمر في تحريم شيء فيحرم ما يشبهه عنده، فالاحتجاج بهذه الآية وأشباهها لا وجه له، بل أخاف أن يكون الحكم على الله بأنه حرم ما حرمه من أجل علة فيه افتراء عليه، وقولا بما لا علم لقائله به، مع أنا لو علمناه أيضا أنه حرم ما حرمه من أجل علة فيه لكان علمه بالعلة علم يقين، وعلمنا بعلة الشبه عندنا علم شك وكان والمجوز لنا أن نحمل غيره عليه، ولو كانت العلة بنفسها محرمة حرم الأصل المحمول عليه الفرع قبل أن يحرمه الله، وهذا لايقوله بشر وقد مضى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 قولنا في: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) في سورة الأنعام بما يغني عن إعادته في هذا الموضع. الإذن: * * * قوله: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) حجة على القدرية والمعتزلة فيما يجعلون الإذن من الله بمعنى العلم. أفيجوز أن يقول خرج نبات البلد الطيب بعلمه لا بإطلاقه، وكيف يجوز ذلك وقد قال جل وعلا: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) ، ألا ترى أنه جل ثناؤه أخبر عن إخراجه في أول الكلام، وعن خروجه في آخره، فلم يكن ذلك مؤثرا في الأول، فبما ينكرون أن تكون الأفعال منسوبة إلى فاعلها، وإن كان القضاء قد سبقها عليه بها. قوله تعالى إخبارا عن هود عليه السلام: (قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 حجة على القايسين والمقلدين. وفي قوله إخبارا عن صالح عليه السلام: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا) . دليل عاما أن بناء القصور ليس بمنكر وأن البناء الطايل غير مؤثر في نسك الناسكين، إذ محال أن يذكرهم آلاء الله في شيء بنيانه معصية وقد قال: (فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) ولو كان بناء القصور منكرا لكان داخلا في الفساد لا في الآلاء. وفي قوله إخبارا عن قوله شعيب عليه السلام: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) حجة على المعتزلة والقدرية: ألا تراه - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 كيف أعد الرجوع في ملتهم افتراء على الله، وأخبر قومه أن لا يفعل إلا أن يشاء الله فاستثنى بمشيئة الله التي لا محيد له ولا لقومه عنها. ومن كان منجَّا من ملتهم ممنونا عليه به جدير بأن يتبرأ من الحول والقوة في القيام على شيء لا تصحبه مشيئة الله فيه. في الطاعة: * * * قوله: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) دليل على استنزال الرزق بالطاعة وحرمانه بالمعصية وهو يصدق الحديث المروي في " إن العبد ليحرم الرزق بذنب يصيبه) . * * * قوله: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) حجة على الجهمية في ذكر المكر، وكذا قال في سورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 النمل: (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) . * * * قوله: (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) وقوله بعده: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) حجة على المعتزلة والقدرية أيضا. * * * قوله: (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) دليل على سعة اللسان، إذ المضافون إليهم من الرسل هم المضافون إلى الله جل جلاله. ألا تراه يقول: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا) ، فكانوا رسله بما أرسلهم، ورسلهم بما أرسل إليهم. ومثله عبيد الناس وإماؤهم مضافون إليهم، وهم عبيد الله وإماؤه، قال الله تبارك وتعالى، (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) فأضافهم إليهم كما ترى، وكل هذا ينبي عن سعة اللسان الذي يضيقه أهل البدع من المعتزلة وغيرهم. وكذلك قوله: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) ولم يقل: فاسمع، ولا فاعلم، وقال: (وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 ولم يقل: لا يفقهون، أو يقول: ونوقر آذانهم فهم لايسمعوا، فكل هذا دليل على سعة اللسان. فكيف يستقيم لمبتدع أن يتعلق ببعض هذا اللسان دون سائره، فيزعمون أن الله تبارك وتعالى لما نسب الفعل إلى فاعل لم يجز أن يكون مفعولا به، أو محمولا عليه بقضاء سابق أوقدر موافق. وكذلك قوله إخبارا عن الملأ: (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) والعليم اسم من أسماء الله. وقال: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) فلم يضر الله شيئا من وفاق أساميهم مع اسمه، إذ كان ذلك من حق اللغة المحتملة لكل من علم شيئا حقا كان أو باطلا أن يسمى به عليما، وكذا قلنا: إن الله - جل جلاله - له سمعه وبصره اللذان هما غير مخلوقين بل أزليين سميع بصير، كما أن المخلوق بسمعه وبصره المخلوقين المحدثين الزائلين سميع بصير، لا يوجب أن يكون الخلق بسمعه المخلوق لأن الله يسمى به خالقا ولا الله بسمعه الأزلي مخلوق، لأن سمى سمع خلقه سمعا ولكنه من ضاق عن سعة اللسان لم يكن لجهله نهاية ولا بالدين عناية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 قوله إخبارا عمن آمن من سحرة فرعون: (وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) حجة على المعتزلة والقدرية، إذ كل ما أخبر الله تعالى عنهم في هذه الآية لا محالة مدح لهم، أفيجوز عندهم على الله جل جلاله أن يثني على قوم بدعاء محال، والإسلام بأيديهم يثبتون عليه ما شاءوا ويتركونه إذا شاءوا لا يخافون أن ينتزع منهم كرها. أليس سؤالهم تركه لهم حتى يتوفاهم عليه وهم مالكوه - قد أمنهم الله من الانتزاع منهم بما أظهر لهم من عدله - سؤال محال، ولكنهم سألوا سؤال حق ورهبوا مكر الله الذي لا يأمنه إلا القوم الخاسرون، واقتدوا في ذلك بنبي الله يوسف صلى الله عليه وسلم في إخبار الله جل وتعالى عنه: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) فإن قالوا: لم يرهبوا الله أن ينتزعه منهم، ولكنهم خشوا أن يفتنهم الشيطان. قيل لهم: فمن مالك الشيطان، فإن قالوا: الله جل وعلا. قيل: أفيجوز عليه عندكم وهو عدل أن لا يحول بينه وبين من يريد تفتينه وانتزاع الإسلام منه، سيما وقد أمره أن يثبت عليه، وأوعد على تركه ما أوعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 فإن قالوا: لا يعصمه منه، بل يكله إلى استطاعة نفسه، قيل: وهو قادر على غلبته فيما يريد من تفتينه أم لا، فإن قالوا: قادر رجعوا فيما يلزمهم من أن مسألتهم ومسألة يوسف صلى الله عليه وسلم مسألة محال. وإن قالوا لا يقدرون، أقروا بما يراد لهم من أن انتزاع الإسلام الذي دعوا بتركه في أيديهم غير مأمون، وسواء خيف ذلك من قبل الله أو من قبل عدو هو مالكه، وقادر على أن يمنعه من ظلم من يريد تفتينه فلا يمنعه بل كان قادرا على أن لا يخلقه مسلطا ولا متسلطا، فخلقه كيف شاء لماشاء ووضع عنا تفتيشه. في نفي الخلق عن القرآن ورؤية الرب تعالى في الآخرة: * * * قوله: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) حجة على الجهمية واضحة، إذ لو كان القرآن مخلوقا كما يزعمون لكان " وكلمه كلام ربه " فإن الله جل وتعالى قادر على أن ينطق كلاما هو خالقه بكلام غيره، كما ينطق من شاء من الحيوان والموات وغير ذلك من خلقه. وقد أخبر عن نفسه جل وتعالى كما ترى أنه قال لموسى، صلى الله عليه وسلم، وأجابه موسى، وليس في قوله عز وجل: (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 حجة أن الله تبارك وتعالى لا يري في القيامة، ولا يكون منه ظهور للخلق، وكيف يجوز ذلك وهو يقول: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) والتجلي هو: الظهور في اللغة لا محالة، فكان المنكر عندنا ظهوره للبشر من بين سائر خلقه. إنما قوله: هو قوله (لن تراني) في الدنيا لأني لم أحكم لك بذلك، فأما في الآخرة فلابد من رؤيته لقوله: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) فهم الكفار لا محالة. ثم ساق الكلام فجعل في تمام عقوبتهم (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) .، أفيرتاب مميز بأن الحجاب لا يخص به إلا وهناك من لا يحجب، هذا ما لا يذهب على من تبحره، وليس يرتفع الحجاب بتة عن محجوب وإن قرب محله وكثرت جائزته، ما لم يعاين ملكه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 فإن احتجوا بقوله: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ) قيل لهم: كيف تدركه وهو محتجب عنها،! فإذا ظهر لهم في الآخرة كما ظهر للجبل في الدنيا نظروا إليه، فإن كنتم تنكرون الظهور فقد دللنا على بطلان قولكم بآيتين. وإن كنتم تزعمون: أنه وإن ظهر لهم، فنظروا، لم يبصروه، فهذا مستحيل في العقول أن تنظر عين إلى شيء غير مستور، والعين مبصرة فلا تبصره، والعقول عندكم أكبر الحجج، وإن كنتم تنكرون الإحاطة به فنحن نوافقكم عليه، فنقول: الإحاطة غير النظر، لأنا نرى السماء ولسنا نحيط بجميعها. وقد يجوز أن يكون لا تدركه الأبصار بمعنى لا تحيط به، وأولى المعنيين به - والله أعلم - الأول، أن تحجبه عن الأبصار حقبة ولا يحجب الأبصار عنه شيء لأن الحجب لا تحجب الخلق عنه كما تحجبه عنهم، وقد قال تبارك وتعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 فظاهر الناظرة: الناظرة بالأعين، ومن قال: الناظرة بمعنى منتظرة فقد ترك الظاهر، وإن كانت اللغة محتملة لما قال في بعض الأوقات. ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، أعرف بما أنزل عليه من مجاهد، مع أن قول مجاهد لا يدفع نظر العين، لأنه قال: هي منتظرة تنتظر الثواب لتثاب، والنظر إلى الله - جل وعلا - من أجل الثواب، وهي الزيادة التي قال الله تبارك وتعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 كذلك رواه صهيب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإسناد الصحيح، والأخبار السنية في الرؤية كثيرة قد ذكرناها في الكتاب المصنف في الرد على أهل الأهواء بالأخبار. الأمر والنهي: * * * وقوله: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 حجة على الجهمية في الكتابة: * * * وقوله: (وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ) يعني والله أعلم لكل شيء أريد منهم من الأمر والنهي وكذا قوله: إن شاء الله في القرآن حيث يقول: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) . * * * قوله: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا) حجة على الجهمية، لأنه - جل وتعالى - أخبر أن الإله لا يكون إلا متكلما هاديا. ومثله: (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) فقد قرن القول بالضر والنفع، وجعل كل ذلك من نعت الإله، فكيف لا يكون جل وعلا متكلما، وما أدحض حجة القوم في اتخاذ العجل إلها إلا بعدم الكلام. أم كيف يكون قوله مخلوقا، وهو - جل وتعالى - بجميع صفاته غير مخلوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 وكذا أخبر عن إبراهيم حيث نبه قومه عن آلهتهم بأنها غير آلهة قال: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فأخبر قومه أن الإله لا يكون إلا ناطقا. الغضب في الأمر، وإذا خاف على نفسه في الأمر بالمعروف: * * * قوله: (وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) حجة في الأمر بالمعروف، وجواز تناول من يؤمر عليه. ودليل على أن الآمر وإن خرج في شدة غضبه لله - جل وعز - إلى ما لا يحمد من الأمور معفو له عنه، لأن الغضب غير مملوك، فإذا حدث على المرء استفزه. فإن كان لله - جل وعلا - عفي لصاحبه عما كان من نحو ذلك. وإذا كان لغيره نوقش في القليل والكثير. وفي قوله إخبارا عن هارون: (قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي) دليل على أن من خاف على نفسه وسعه وجاز له السكوت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 في الرد على الصوفية: * * * قوله: (فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ) دليل على أن الشغل بالأعداء ليس بمؤثر في نسك الناسكين ودرجات المقربين، لأن هارون نبي، وقد اشتغل بما لو وصل إليه من شماتة الأعداء لم يحط من في درجته عند الله، ولا بزوال الشماتة كان يزداد قربة. وروي عن نبينا - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يتعوذ بالله من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 شماتة الأعداء، فلم تؤثر في درجة القربة كما يزعم المتنطعون من المتصوفة. المعتزلة: * * * قوله: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَ ا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ) حجة على المعتزلة والقدرية: ألا تراه كيف خاطب ربه - عز وجل - بأن اتخاذ السفهاء العجل من فتنته وإضلاله، فلم ينكر عليه، وقد تقدم قولنا في سورة المائدة في قوله: (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 بما يغني عن إعادته من أن الفتن لو كان بمعنى الاختبار كان فتونا لا فتنة. ويقال لهم: لا تعدوا الفتنة في هذا الموضع إلا اختبارا، كيف اختبرهم باتخاذ العجل - وهو: شرك - وهم قبل اتخاذه مؤمنون، أأخرجهم من الإيمان إلى الشرك لينظر كيف تمسكهم بالشرك وكيف صبرهم عليه، كما يختبرهم بالأوجاع، والمصائب والأنفس، لينظر كيف يصبرون ويشكرون، هذا ما لا يعرف وجهه، ألا تراه - جل جلاله - يقول: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) ، وقال: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) فالاختبار هذا وجهه الذي يعقل. وبعد: فإن الاختبار نفسه على جميع تصرف وجوهه لو تدبروه، لما خرج لهم في باب العدل مخرجا ما يعقلونه بعقولهم، إذ ليس يخلو المختبرون بالمصائب من أن يجروا فيها على سابق علم مختبرهم بها أو على حادث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 فلما كان نسبة الحادث إليه كفرا غير ملتبس، حصل عليهم السابق الذي لا يعرف العباد وجه جميع الاختبار والعلم السابق عليهم في باب العدل إلا بالتسليم له، عقلوه أو لم يعقلوه، كما قلنا في باب القضاء والقدر (1) ومرض الصغار، وخولة العبيد وأشباه ذلك. المعتزلة: * * * قوله: (قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ) حجة عليهم، وليت شعري حيث قرأوه بالسين غير معجمة ونصب الألف من الإساءة أي شيء نفعهم، كأنه ليس في القرآن من المشيئة غير هذا الحرف. أو من الذي لا يقوله منا: إن العذب بالإساءة، وإن كانت الإساءة مكتوبة عليه، فقد فعلها، حتى يصحفوا - لالتماس الحجة على خصمائهم - حرفا من كتاب الله عليهم، وما عسى يقدرون عليه من تصحيف قوله: (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) وأشباهه في القرآن إن هذا لأسخف سخافة بعد فرط المكابرة. * * * قوله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 حجة عليهم لأنه جمع بين فعل المنسلخ من الآيات، وبين تسوية الشيطان له، وذكر فعله قبل ذكر مشيئته فيه وبعده، وأخبر أنه لو شاء رفعه بالآيات ولم يصفه بما لم يرتضه من أفعاله، فهل يرتاب منصف متيقظ مضرب عن اللجاج والعصبية أن نسبة الفعل إلى فاعله ليس بمؤثر في القضاء والقدر، ولا القضاء والقدر بمسقطي اللوم عن الفاعلين أفعالا نهوا عنها، وأنهم جانون بفعل أفعال وإن كانت قد قضيت عليهم، وإن الله - جل جلاله - ليس بظالم لهم فيما أعد لهم من العقوبة عليها وإن كان قضاها عليهم، ولا بجائر فيما أمرهم به من اجتناب ما لايستطيعون الاحتراز منه إلا بعصمته والمسارعة إلى ما لا يقدرون عليه إلا بمعونته، وأن الذي بقي عليهم من تقرر صحة هذا عندهم رفض مفتاح الجهل الذي يريدون به فتح مغالق عدله الذي لا وصول إليه بعقول ناقصة، وهو مع ذلك - جل ثناؤه - عدل صادق غير نسي، أفيجمع كل ما ذكرناه في صدر الفصل في آية واحدة ولا تكون حقا، والقائل به لا يكون على هدى، هل الصدود عن هذا إلى غيره إلا من الجهل الغالب أو الكفر المصرح. المعتزلة: * * * قوله: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 حجة عليهم. وهو أيضا من المواضع التي يحسن فيها حذف هاء المفعول به، لأنه لا محالة من يهده الله ومن يضلله. * * * قوله: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) حجة عليهم، إذ ليس يشك عارف باللغة أن ذرأنا هو خلقنا كما قال في موضع آخر: (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) . وقال: (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) أي في الرحم، والله أعلم. فأي حجة يلتمس أكبر من أن يكون - جل وتعالى - قد أخبر عن نفسه نصا أنه خلق لجهنم كثيرا من الجن والإنس، أم كيف يقدر من هو مخلوق للنار أن يذهب بعمله إلى الجنة. وفي قوله: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) دليل على أن تمام الكثير من القليل مخلوقون للجنة. وبلغني عن بعض سفهائهم أنه قال: (ذرأنا) بمعنى طرحنا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 وهذا من الأمكنة التي إذا أرادوا متابعة اللغة تابعوها بأقبح وجوه الغلط. ألا يعلمون - ويحهم - أن ما كان بمعنى الطرح فهو أذريت بالألف وسقوط الهمزة كما يقولون: أذري الجمل راكبه، إذا طرحه عن ظهره وألقاه إلى الأرض. وكما تبدد الريح الشيء فتطرحه يمينا وشمالا قال الله تبارك وتعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ) . وبلغني عمن هو أجهل من هذا منهم أنه أنشد بيت المثقب حجة في هذا المعنى: تقول إذا ذرأت لها وديني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 بالذال معجمة، فماذا يقال لقوم يبلغ بهم الحرص على تصفح مقالتهم، والأنفة من الرجوع إلى الحق مثل هذه الأشياء القبيحة، نعوذ بالله من الضلالة. * * * قوله: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا) نظير ما مضى في سورة البقرة. قوله: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) حجة على المعتزلة والقدرية والجهمية معا، إذ الاستدراج لا محالة كالمكر، وقد أخبر - جل وتعالى - عن نفسه كما ترى. * * * قوله: (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) حجة على الجماعة أيضا في الإملاء والكيد، فالاستدراج والإملاء كاسر قولهم فيما يدعونه من معرفة العدل الذي لا يعقلونه والكيد مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 الاستدراج في باب نفي الصفات عنه جل وعلا. قوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) حجة عليهم، إذ سمى نبيه صلى الله عليه وسلم، بما سمى به نفسه من المبين، ألا تراه يقول: (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) . وقد يقع على السحر الأمم المبين، قال الله تعالى: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) . وكذلك الوفاق الواقع بينه وبين الخلق في جميع أسمائه أو في أكثرها مثل: الصادق، والعالم، والملك، والجبار، والقادر، والقاهر، والرحيم، واللطيف وأشباهها، وكل هذه الصفات ذاتية قد شاركه فيها خلقه. أيشك أحد أن الرحيم واقع على الرحمة، والقادر واقع على القدرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 والعالم واقع على العلم، وكذلك أخواتها، فلا تكون رحمته ولا قدرته ولا علمه ولا سائرها مخلوقا، وكل ذلك من الرحمة والقدرة وأشباههما في الخلق مخلوق، وكل هذه الأشياء وإن لم تكن محسوسة بيد ولا نظر فهي ثابتة في الموصوف بها من الخلق ومنه، وكذلك السمع والبصر، واليدان والكيد، والقوة والبطش، والمكر، وأشباه ذلك مثله من حيث لا التباس فيه عند منصف منقاد للحق. قوله: (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) حجة عليهم. * * * قوله: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) حجة عليهم واضحة فما بقي شيء من منافع الدين والدنيا إلا وقد دخل تحت هذه الآية ما أراهم إلا يكابرون عقولهم. * * * قوله: (وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) حجة عليهم في نفي الاستطاعة. فيقال لهم: أخبرونا عن العامل بالطاعة، أيسمى ناصر نفسه أم لا، والعامل بالمعصية أيسمى خاذل نفسه أم لا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 فإن قالوا: بلى. قيل: أفلا تراه يقول، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) ، أفيرتاب منصف أن العامل بالطاعة معان عليها بالتوفيق، والعامل بالمعصية مخذول بحجب التوفيق عنه،. وان قالوا: لا يسمى العامل بالطاعة ناصر نفسه، ولا العامل بالمعصية خاذلها ولا ظالمها - كابروا في القول وخرجوا من العرف والعادة. قول: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا) حجة على الجهمية بنعمة الله شديدة. أليس بينا - من حيث لا التباس فيه - أن الذي قرر عندهم به بطلان آلهتهم عبادتهم ما لا يستجيب دعوة داع، ولا له رجل ماشية، ويد باطشة، وعين مبصرة وآذان سامعة، وأن لله - جل وتعالى - كل هذه الأشياء ولكنها غير مخلوقة فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 أو لايفكرون - ويحهم - أن البعل قد عبد وهو رجل وفرعون وهو رجل لهما أيدي باطشة وأرجل ماشية، وأعين مبصرة وآذان سامعة، ولكنها لما كانت مخلوقة كخلق أجسادهم كانوا عبادا أمثالهم. فالحاصل من هذا عند من هداه الله وهذب طبعه وفتح عيون قلبه أن المعبود هو الله الواحد الموصوف بهذه الصفات التي وإن شاركه فيها خلقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 بالاسم والذات، فهي فيه غير مخلوقة ولا مستدرك كنه صفتها كهيئتها عنده، وفيهم مخلوقة وهو خالقها. * * * قوله: (قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) حجة في الاعتصام بالله، وأمن الأنفس من وصول ضرر الكائدين إليها إلا بمشيئته عز وجل. وفيه أن هذه الفضيلة لم يخل منها محمد - صلى الله عليه وسلم - وإن كان قد سبقه إليها نوح وهود - صلى الله عليهما وسلم -. قوله: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ) . و (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ) . (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) وأشباه هذا لا تعلق لهم فيها لما دللنا عليه في سورة الأنعام، من أن الشيطان من بعض عقوبات الله مخلوق لمثل هذه الأشياء بالوسواس لا بسلطان نافذ، وهو مع ذلك ضعيف الكيد لقوله: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 وقد سمى الله كيد النساء عظيما، فهل يقولون: إنهن متسلطات على الشيطان أيضا مع رجال البشر، فينسبون الشر الذي هو عندهم منسوب إلى الشيطان إليهن، إذ كان العظيم الكيد أقرب إلى أن يكون لضعيفه قاهرا، وأجدر بالاستعلاء عليه. لا، ولكنه على ما أخبرت من أن الشيطان مخلوق لأذى البشر كالسباع والحيات وسائر المؤذيات، وتسليط بعضها على بعض، وكما خلقت الفراعنة لأذى الأنبياء. ومعرفة العدل في جميع ذلك غائب عنا منفرد بعلمه ربنا. الشرك: * * * وقوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) إلى قوله: ((فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا) دليل على أن الشرك على وجهين: فشرك في طاعة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 وهو - والله أعلم - هذان لأن أحداً لا يشك أن آدم وحواء لم يشركا بالله شرك كفر وعبادة، ولكنهما عصيا في القبول من إبليس واغترا بقوله: إن الولد إذا سمي عبد الحارث عاش كما اغترا به في أكل الشجرة. وشرك في كفر وعبادة وهو فعل الكفار في عبادة الأصنام، وافتراء اليهود والنصارى في ادعاء الأولاد على الله جل الله. وكان الحسن يقول: إن الجاعلي شركاء فيما آتاهم الله صالحا في هذا الموضع هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولادا فهودوهم ونصروهم. ولا أدري ما وجهه، لأن أول الآية لا يدل عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 سورة الأنفال قوله عز وجل: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) رد على المرجئة من وجوه: أحدها: أنه ذكر عامة الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة وجعلها من الإيمان، وذلك أنه ذكر قبل (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) التقوى وإصلاح ذات البين، ثم نسق في هذه الآية عملا بعد عمل وذكر فيها التوكل وهو: باطن. والثاني: أنه ذكر زيادة الإيمان بتلاوة الآيات عليهم وهم ينكرونه. والثالث: أنه لم يثبت لهم حقيقة الإيمان إلا باجتماع خصال الخير من الأعمال الظاهرة والباطنة وهم يثبتون حقيقة بالقول وحده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 والرابع: أنه - جل وتعالى - قال بعد ذلك كله: (لَهُمْ دَرَجَاتٌ) وقد أثبت لهم الإيمان بشرائطه وحقيقته، وهم لا يجعلون للمؤمن في إيمانه إلا درجة واحدة، ولا يجعلون للإيمان أجزاء. فكيف يستقيم أن يسمى المرء بالإقرار وحده مستكمل الإيمان وقد سمى الله - جل جلاله - كل ما حوته الآية إيمانا. فإن قيل: فما لك تنكر على القوم أن يشهدوا لأنفسهم بحقيقة الإيمان وقد شهد الله لهم في هذه الآية؟ قيل: لم أنكر حقيقة الإيمان، وإمكانه في كثير من الخلق، وكيف أنكر شيئا أكمله الله لملائكته وأنبيائه وشهد لأهل هذه الآية به، إنما أنكرت عليهم ما أنكرت من جهتين: إحداهما: أن الله شهد بحقيقته لأهل هذه الآية، بخصال كثيرة وهم يشهدون لأنفسهم بخصلة واحدة. أيجوز أن أشهد على مقر بكلمة الإخلاص مصدق بها، ذكر عنده ربه فلم يوجل قلبه، أو فرط في الصلاة، ولم يؤت الزكاة بحقيقة الإيمان، والله - جل وعلا - لم يشهد له به، فأساوي بينه وبين من كل ذلك كائن فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 أم كيف يجوز أن يكون إيمان هذين يستوي من غير أن يكون أحدهما زائدا على صاحبه فيه، وكيف ينكر الزيادة والنقصان في شيء، ولا محالة كل زائد على شيء فالآخر أنقص منه. فإن كانوا يزعمون إيمانهما في كلمة الإخلاص قولا واحدا فنحن لا نأباه. وإن زعموا أن اسم الإيمان لا يقع على غيرها، فنحن لا نخالف كتاب ربنا. وقد حوت هذه الآية وغيرها - مما سنأتي عليها في مواضعها على نسق السور إن شاء الله - ما حوت من العمل المسمى بالإيمان. والأخرى أن تحت الحقيقة معنيين، فإن كانوا يقولون: إنهم حقا مؤمنون بخصال بأعيانها فيهم في وقت القول عند أنفسهم، فنحن لا ننكره، وإن قالوا: إنهم حقا مؤمنون لا يأمنون مكر الله - جل جلاله - في السلب، ولا يحذرون القطع بهم عند الخاتمة، فهذا هو المنكر الذي لا نواطئهم عليه ولا نسلمه لهم لتكذيب الخبر والمشاهدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 ذكر الطهارة: * * * وقوله: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) دليل على أن المزيل للأنجاس هو الماء لا غير، وأن الماء إذا طهر الأنجاس استحال أن تنجسه الأنجاس، إلا أن يصير مستهلكا فيها أو يغلب عليه روائحها، فيسلم في الغلبة للاتفاق، وفي الاستهلاك لزوال العين والإجماع معا. ذكر الجهاد: * * * قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) دليل على اختصار الكلام والإشارة إلى المعنى؛ إذ النهي عن تولية الأدبار مقصود لا محالة به الهزيمة والفرار، لا أنه نهى أحداً أن يول كافرا ظهره، وهو مريد لقتاله ناوي الإقبال عليه. * * * قوله: (فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) ردعلى الجهمية في إنكارهم الغضب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 قياس واستطاعة: * * * قوله: (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ) دليل على نفي الاستطاعة، وما يدل عليه العقل من الغلبة بالتظاهر، ولو كان كل ما دل عليه العقل حقا لكانت الكثيرة معانة في القتال غير محتاجة إلى معونة النصر. فهذا يبين أن دليل العقل إذا خلا من النص غير مستعمل في الدين. وقد دخل في معنى هذه الآية القائسون في الفقه، والمستعملون عقولهم من أهل البدع غير مراعي فيه خبر السماء الدال على حقائق الحق،.. *، معاني في الاستطاعة: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) دليل على أشياء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 أولها: وقوع اسم الدواب على الناس كما يقع على البهائم، لأن كل ماش داب. والثاني: إجازة تسمية السامع الناطق أصم أبكم إذا تباعد عما أريد منه من السماع والنطق، وامتنع من استماع الموعظة والنطق بما تأمره به، وإن كان ناطقا سامعا في كل شيء سواها. وهذا نظير ما مضى في سورة البقرة في قوله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) . والثالث: أن الاستطاعة في الإنسان لو كان لها في الحقيقة سلطان في الخير والشر لكانت كل نفس منفوسة فيها خير، ولما عري منه أحد، وإلا فما الفائدة إذا في قوله: (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) . أولا يدلهم على أن الاستطاعة المركبة في الإنسان، وإن كانت كائنة فيه مع الفعل فغير مستغنية بنفسها، ومحتاجة إلى من يمدها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 بمعونة الحركة كما السمع مركب فيه. ومن حكمه في العقل أن يسمع فهو محتاج إلى من يسمعه، ولا يستطيع بنفسه أن يسمع إلا ما أذن له في سماعه. فكذلك الاستطاعة لا تقدر أن تنفذ إلا فيما أذن لها فيه. هذا واضح لمن تدبر معنى الآية وغاص على نكتها. والرابع: ما دل عليه قوله، (لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) من أنه - جل جلاله - يعلم الشيء قبل كونه - سبحانه وتعالى - عما يقول الظالمون علوا كبيرا، فليس شيء أوحش عند المؤمنين من تثبيت مثل هذا على الجهلة قاتلهم الله وأسحقهم. المعتزلة: * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) حجة على الجهلة أيضا شديدة، لأنه - جل وتعالى - ابتدأ الآية بالأمر في الاستجابة، ثم قال على إثره بلا فصل وللخروج من خطاب الأمر إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 غيره: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) . أمره من لا يملك قلبه - وهو الحائل بعدله بينه وبين مراده بالاستجابة إلا مما لا يقدر المؤتمر عليه إلا بمعونة آمر، ولا وصول له إليه باستطاعة نفسه،. أوليس هذا متصور في عقول الجهلة بصورة الجور، وهو نفس ما بيننا وبينهم فيه الخلاف والمناقشة لا ما أثرناه من نظرائه عليهم. فهل يتوجه هذا في عقولهم الناقصة العاثرة في طرق العدل، أم ظاهر ما يعقله منه جور، وهو لا شك عنده عدل وعلينا الإيمان به وإن لم نعقله، وشاهدون بأنه عدل من جميع جهاته، ولولا أنا شرطنا أن نأتي على نسق الآيات في السور وندل على كل ما دلت عليه من الحجج على كل فريق لقطعنا ذكر المعتزلة والقدرية من الكتاب بعد هذه الآية؛ إذ كل ما توصلنا إليه من نظائر ما أنكروه في الرد عليهم قد استغنينا عنه بهذه الآية، لأنها نفس النكتة التي عليها المدار، وفيها جرى الخصومات قديما وحديثا، ولكن الشرط أملك بنا - بعد إكثار حمد الله على نعمه في هذه الآية - منا. الحذر وخلق الشر * * * قوله: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) دليل على وجوب المراعاة وأخذ الحذر والاحتراس من الفتن قبل وقوعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 وفيه أيضا دليل على خلق الشر، إذ محال أن يأمر باتقاء ما لا أصل له، ألا تراه يقول: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وفيه أيضا أنه أمر باتقاء ما لايقيهم منه غيره. معاني ذكر المعرفة بوجوب تذاكر النعم والفكر: قوله: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) . دليل على غير شيء: فأحدها: المعرفة بوجوب تذكر النعم، والفكر في حسن صنيع الله والثاني: أن الشكر يستخرج من العبد، فإذا أغفلها أغفل الشكر معها. والثالث: ذكر الخصوص في الناس، ووقوعه على بعضهم لأن المستضعفين أيضا أناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 والرابع: وقوع اسم الناس على الصالح والطالح، لأن الناس لا محالة هاهنا الكفار. والخامس: ندب الخلق كلهم إلى التبرؤ من الضر والنفع، وتسليم أن كل ذلك منه - عز وجل. والسادس: توحيد وصف الجماعة القليل كما يوصفون بالكثير " لأنه - تبارك وتعالى - لم يقل: إذ أنتم قليلون. فضائل القرآن: * * * قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) جامع كل فضيلة، وحائز كل غنيمة، لأن جعل الفرقان كاشف كل غمة، وجابر كل كسر، ومؤمن من كل فزع ورعب، ومزيل خوف الفقر، ومفرع روح الاستغناء بالله عن كل من دونه، ومتحد ظليل كنف الغار إليه من فتنة الدنيا وعوائق جميع أهلها والمنتشرين فيها من خلقها، وتكفير السيئات وغفران الذنوب من وراء ذلك كله في المعاد، فإن الله - جل جلاله - لا يخلف الميعاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 قوله: (وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا) حجة على المعتزلة والقدرية، إذ ليس يخلو هذا القضاء من أن يكون سابقا في هلاك من يهلك عن بينة، وحياة من يحيا عنها، فينقذه في ذلك الوقت، أو مبتدأ فيهم، وأيهما كان، فالله فاعله. وهكذا الآية التي بعدها: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) بل قد زاد فيها كما ترى، وجعل مرجع الأمور كلها إليه. ذكر الجهاد: * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) إلى قوله (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) دليل على أن لا يصلح في الحرب إلا مدبرا واحدا، وأن منازعته والخلاف عليه داع إلى الفشل وتشويش الأمر، والصبر - والله أعلم - في الآية جامع للثبات ولزوم طاعة الأمير في تدبير الحرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 تزيين الشيطان: وقد مضى قولنا في تزيين الشيطان قبل هذا في سورة الأنعام بما يغني عن إعادته في هذا الموضع غير أن في قوله: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) إلى قوله: (وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) زيادة لم نذكرها هناك وهي أنهم يجعلون الشر من الشيطان على الحقيقة بقوة وسلطان له فيه، وقد أنبأ الشيطان عن نفسه في هذا الموضع بأنه لا يقدر على ضر أحد ولا نفعه، وأن تزيينه غرور، وقوله كذب لا حقيقة. فإن كانوا يزعمون أن تزيين الشر قد يكون من الشيطان، لا أن نفس الشر منه فنحن لا نخالفهم، بعد أن لا يقولوا: إنه منفرد به؛ إذ لا يصلح أن يفرد بهذا الفعل، وقد قال الله - تبارك وتعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) . فإن زعموا أن حقيقة الشر منه فأمحل الحال أن ينسب إليه ما هو متبرئ منه، مع أنه ليس يعجب منهم أن يكذبوا على الشيطان وقد كذبوا على الله. ومثل هذا قوله في سورة إبراهيم: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 فقد تبرأ من السلطان كما ترى، فكيف يكون الشر منه وهو لا ينفذ سلطانه فيه بأكثر من أن له جزءا في التزيين، وذلك الجزء أيضا مخلوق فيه ذكر زوال النعمة بإحداث الشر عقوبة. * * * وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) دليل على أن الله - جل وعلا - قد يسلب النعم بفعل المعصية عقوبة لفاعليها، ولا أحسب - والله أعلم - قوله في سورة الرعد: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) إلا على هذا المعنى من أنه لا يغير ما بهم من النعم حتى يحدثوا أحداثا يعاقبهم الله عليها، فيغير ما بهم، ويكون الإحداث سببا للتغيير. في ذكر الجهاد: قول: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ) دليل على أن التحرز وأعمال الواسطات غير مؤثرة في توكل المؤمنين. ألا ترى أنه - جل جلاله - قد قال في هذه السورة بعينها: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 وقال: (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ) . ثم أمر بإعداد القوة - وهي في التفسير الرمي - ورباط الخيل لإرهاب العدو. ذكر قبول الإجماع: * * * قوله: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) حجة على قبول الإجماع ولزومه لزوم نص القرآن؛ إذ محال أن تتفق الألسن على شيء إلا وقد ائتلفت قلوب الناطقين به؛ لأن الألسنة مترجمة عن الضمائر ما حوتها، وقد أخبر الله تعالى كما ترى أنه مؤلفها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 ذكر الجهاد والمفاداة والمال: * * * قوله: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) دليل على أن المفاداة بالمال جائزة، لأن الله - جل وعلا - وإن كان أنكر الإبقاء على الأسرى قبل الإثخان، فقد أباح لهم ما أخذوا من المال بالفداء وسماه غنيمة فقال: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا) . * * * قوله: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ) يعني - والله أعلم - ما أخذوه بالفداء من الأموال، ولكنه سبق في كتابه أن يحل لهم الغنائم ولا يشقيهم بالعذاب. وفيه رد على المعتزلة والقدرية فيما ينكرون من الكتاب السابق جملة. إغاثة الملهوف: * * * قوله: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) دليل على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 وجوب إغاثة الملهوف ونصر المظلوم وإن كان بعيدا. رد على المرجئة في باب الإيمان: * * * قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) رد على المرجئة: فيما أضاف الهجرة والجهاد والنصرة والإيواء إلى الإيمان، وقد شهد لقوم في أول السورة تحقيقه، ولم يذكر هذه الشرائط، وذكر لأولئك شرائط لم يذكرها لهؤلاء، فدل على أن الإيمان ذو أجزاء، وأن كل خير يفعله المؤمن متقربا به إلى الله، فهو من الإيمان فرضا كان أو تطوعا، لأن الجهاد والنصرة والإيواء قد يكون نافلة في بعض الأوقات إذا لم يكن التصور والمؤوى مضطهدا. والجهاد إذا قامت به طائفة فهو للباقي فضيلة لا فريضة. فإن قال قائل: فالنصرة والإيواء في هذا الموضع مقصود به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكانا فيه، صلى الله عليه وسلم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 فرضين - بقي عليه الجهاد الذي لا يتهيأ له فيه شيء من أن الخارج فيه بعد الكفاية متطوع بخروجه. وفيه دليل: على أن اسم الإيمان شامل المؤمن بقليل الإيمان وكثيره، وأن مستحقه بكلمة الإخلاص قبل أن تفرض الفرائض لم يستكمل أقاصي درجاته وأنه إنما سمي مؤمنا في ذلك الوقت، لأنه لم يكن مخاطبا بغيرها، فلما أتى بما خوطب به سمي ائتماره ذلك إيمانا، لأن الله - تبارك وتعالى - أفرد قول تلك الكلمة وحدها بالإيمان ومنعه من غيرها، فكل مؤتمر لأمر من أمر الله فأتماره إيمان كما كان ائتمار قائلي كلمة الإخلاص إيمانا. ولا أحسب المرجئة المساكين أوتوا إلا من قلة بصرهم باللغة، حيث قدروا أن شيئا بعينه إذا سمي باسم لم يجز أن يسمى به غيره، أو أن الاسم لا يقع على المسمى إلا بعد كمال ذلك الشيء الذي سمي به فيه، وأغفلوا أن الله - جل وعلا - سمى نفسه عليما وحكيما، وهو عليم بكل شيء حكيم في جميع صنعه، ثم أجاز أن يسمى غيره عليما وحكيما، ولم يستكملوا ما استكمله - جل وتعالى - ولم يجز أن يستكملوه وقد استحقوا الاسم ببعضه، ويسمى الإنسان حسنا وقبيحا وطويلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 وقصيرا ببعض أجزاء الحسن والقبح والطويل، والقصر وأشباه ذلك، ثم يكون في الناس من هو فوقه في ذلك، والاسم واحد وإن اختلفت درجاته وتفاضل بعض فيه على بعض. وكذلك المؤمن في درجات إيمانه، لأن الذي يقع عليه الإيمان هو الائتمان وهو واحد في شيء كان أو شيئين، كما أن الحسن واحد، وإن كان في الوجه والعينين والشفتين وأشباه ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 سورة التوبة ذكر الرد على اللفظية: (1) * * * قوله: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ) حجة في أن اللفظ بالقرآن غير مخلوق؛ لأن العلم يحيط بأن المستجير لا يقدر على سماع القرآن إلا من لفظ النبي، صلى الله عليه وسلم، أو من لفظ واحد من أصحابه، وقد سمى الله تعالى ما يسمعه كلامه. وهذا موضوع بشرحه في كتابنا المجرد في الرد على المبتدعة.   (1) اللفظية: هم الذين يقولون: لفظي بالقرآن مخلوق. وأول من قال بذلك الحسن بن علي الكرابيسي، أحد المعاصرين للإمام أحمد بن حنبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 ذكر التوبة من الشرك: * * * وقوله: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) ، وكذلك ما قبله: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) حجة في أشياء: فأحدها: أن التوبة من الشرك تسمى توبة كما تسمى من الذنب؛ لأن معناها الرجوع عما كان عليه، والإضمار أن لا تعود في مثله، فسواء كان كفرا أوذنبا. ذكر تارك الصلاة والزكاة.. والثاني: أن تارك الصلاة والزكاة يكفر في الظاهر، لأن الله - جل وتعالى - لم يأمر بتخلية سبيل المشركين ولا سماهم إخوان المؤمنين إلا بإقامة الصلاة والزكاة مع التوبة وهي ثلاث شرائط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 فإذا ترك واحدا أو اثنين لم ينفعه الشرط الباقي، ولا أعلم بين الأمة خلافا في أن: الخارج من الكفر إلى الإيمان لو قال: أؤمن بالله وأؤمن بأن الصلاة والزكاة حق، ولكن لا أقيمهما وأقتصر على القول بالشهادة - أنه لا يقبل منه، وأنه كافر كما كان حلال الدم والمال، وأن الذي يحرم دمه بالشهادة هو الذي يحمل عليه في الحرب فيظهر القول بها أو يجيء متبرعا فيقولها ويسكت ليؤمر بالصلاة والزكاة على الأيام ولا يشترط ترك الصلاة والزكاة في وقت إسلامه. فكيف يجوز - والحال ما وصفت - من أن لا يثبت له الإسلام إلا بثلاثة شرائط، فإذا صار من أهله ثم ترك بعضها ثبت إسلامه على حاله لم ينقص منه شيء. أو ما باله إذا ترك الإيمان بأن يدعو مع الله شريكا، وهو مقيم على الصلاة والزكاة يكون كافرا، وإذا ثبت على الكلمة وترك الصلاة والزكاة لا يكون كافرا، فإن قال قائل: لا أقبل منه بدءا حتى يأتي بالثلاثة كلها، لأنها شرائط الله نصا في القرآن، فإذا قبلها وصار من أهل الإسلام ثم أحدث الترك جعلته ذنبا ولم أكفره بحدثه، وقد صار من أهله بالشرائط. قيل له: أفتقره إذا أحدث ترك الشهادة وحدها، ولا تستتيبه ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 تسميه مرتدا، فإن قال: بل أسميه مرتدا أو أستتيبه، فإن تاب وإلا قتلته. قيل: ولم تفعل ذلك إلا أنه ترك بعض الشرائط التي لم يكن داخلا في الإسلام إلا بها، فإن قال: نعم، ولابد من نعم. قيل: فتارك الصلاة والزكاة أيضا تارك بعض ما لم يكن داخلا في الإسلام إلا به، فسمه بتركهما مرتدا أو استتبه فإن تاب وإلا فاقتله. فإن قال، لا أفعل هذا في الصلاة والزكاة، وأفعله في الشهادة. بانت مكابرته وكان لا محالة مخطئا في إحدى الحالتين: إلا حيث لم يقبل بدءا إسلامه إلا بالشرائط الثلاثة. وأما حيث كفره بعد الدخول فيها بتركها بعضها دون بعض، ويقال له: لا تستتيبه بترك الصلاة والزكاة وتسميه كافرا، وتسميه بترك الشهادة كافرا أو لأنهما ليستا من الإيمان. فإن قال: نعم، وافق المرجئة، وكذبه نفس هذه الآية، وهو ثالث العنف الذي دلت عليه ورجع عن قوله فيما لم يقبل إيمان الكافر بدءا إلا بهما مع الشهادة. فإن قيل: فأنت تزعم أن جميع ما أمر الله به ونهى عنه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 الإيمان وتجادل المرجئة عليه، أفيكفر المرء بترك شيء منها، أو بمواقعة فاحشة منهي عنها، وتستتيبه عليها أم تسميه مذنبا ولا تستتيبه. قيل: بل أسميه مذنبا بترك سائر هذه الثلاثة، ولا أستتيبه مادام معترفا بأنها مفروضة عليه. فإن قيل: ما الذي فرق بينها وبين الثلاثة، قيل: فرق بينها أني وجدت الله - تبارك وتعالى - يأمر بقتل المشركين حيث وجدوا، قال - تبارك وتعالى -: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ) ثم أمر بالكف عنهم بهذه الشروط، فقال: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) . وقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) فجعلهم بهذه الثلاثة الأجزاء من الإيمان إخواننا فقال: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) . وسائر هذه الثلاثة وإن كانت من الإيمان مسماة بأجزائه، ففعلها زيادة في الإيمان وتركها نقص منه، وهو قولنا: إن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 ووجدت الله - تبارك وتعالى - أوجب على منتهكي حرماته حدودا لم تخرجهم من الإسلام ولا أمر بقتلهم، فقالت - تبارك وتعالى -: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ) . وحرم الزنا بقوله: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) ثم قال: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) ولم يأمر بقتل واحد منهما ولو كانا كفرا لأمر بقتلهما كما قال: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ) وهذان المعنيان من قطع السارق وجلد الزاني رد على الشراة: فيما يزعمون أن الذنوب كلها كفر (7) . ووجدناه - جل وتعالى - حيث أمر بالقتل أيضا في انتهاك محارمه جعله حدا لا كفرا فحرم القتل بقوله: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) ثم قال: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) ، فجعل السلطان للولي لا لنفسه - جل جلاله - ولو كان كفر بالقتل لأمر بالقتل، وإن لم يقتله الولي. وقال: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 ، فلم يخرجه من اسم الأخوة وقد قتل ولو كان كافرا لما سماه أخا، لأن الكافر ليس بأخي المؤمن، وهذه أيضا حجة على الشراة، لأنها في القرآن، ومثل هذا كثير في القرآن. ووجدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين رجم المحصنين من المسلمين صلى عليهم ودفنهم في مقابر المسلمين، ولم يحرم ميراث ورثتهم منهم، ولو كانوا كفروا لما صلى عليهم ولا دفنهم في مقابر المسلمين ولا ورث ورثتهم منهم، إذ من سنته، صلى الله عليه وسلم، أن لا يرث المسلم الكافر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 فهذه الأشياء وما يضاهيها سوى الثلاثة - وإن كانت من الإيمان - معدودة في أجزائه ليس يكفر بتركها المرء وسبيل الثلاثة غيرها. وروي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، بهذا اللفظ: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ". وروي عنه: " حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " فيحتمل أن يكون الأول مفسرا للثاني، ويحتمل أن تكون الصلاة والزكاة من حقها. وكذلك قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - حيث قاتل مانعيها: هذه من حقها، وساعدة إجماع من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 ، على القتال والإجماع حجة ولا أحسبه - رضي الله عنه - قاتلهم إلا بعد ما قالوا: لا نؤديها إليك ولا نخرجها بأنفسنا، والله أعلم. وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة فمن تركها فقد كفر " ومن ترك صلاة متعمدا فقد برئت ذمة الله وذمة رسوله، صلى الله عليه وسلم منه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 وهو أصح من حديث المخدجي عن أبي محمد لأنهما مجهولان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 مع أن الصنابحي قد رواه عن عبادة بن الصامت، فجاء فيه بكلام يدل على أن قوله: " ومن تركها فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 إنما هو ترك بعض خشوعها، وإتمام ركوعها وسجودها، لا أنه تركها فلم يصلها، وقد روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من ترك الصلاة حشر مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف ". وكل عمل تاركه سوى الثلاثة كسلا أو توانيا، وهو عارف بإساءته معترف بخطيئته غير جاحد بوجوبه - فهي معصية غليظة يلقى الله بها فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 وروى يعقوب القمي عن ليث بن أبي سليم عن سعيد بن جبير قال: من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر ومن ترك الزكاة فقد كفر، ومن ترك الحج متعمدا فقد كفر، ومن ترك يوما من رمضان فقد كفر، ومن ترك الجمعة متعمدا فقد كفر. وروى النضر بن جميل عن أشعث عن الحسن: " فيمن ترك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 صلاته متعمدا أن لا يعيدها " قال النضر: لأنه كفر. تارك الصيام والحج: فإن قيل: فتارك الصيام والحج - وهما في جملة ما بني عليه الإسلام يكفر عندك أو لا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 قيل: إنه وإن كان كذلك فلا يكفر بتركهما؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر المفطر عامدا في الجماع في رمضان بكفارة ولم يقتله. ومن حكمه أن يقتل من بدل دينه، ولا قال: كفرت، وأمر رجلا وامرأة أن يحجا عن أبيهما بعد موته ولو كان مات كافرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 لم ينفعه الحج عنه، ومن لم يكفر بإفطار يوم لم يكفر بإفطار الشهر كله، ولكن أسهم إسلامه التي بني عليه منه ذاهب عنه حتى يراجع، وليس هدم بعض البنيان هدما لكله، والله ولي الصواب. قال محمد بن علي: من حماقات الرافضة أنهم يتسرعون إلى آيات نازلة في قوم بأعيانهم فيحكمون بها لغيرهم، فتسير فيهم حتى ينشأ عليه طفلهم، ويهرم كبيرهم ويتوارثه الأبناء عن الآباء، فإذا فليت بقراءة ما قبلها وما بعدها عليهم استحيوا من أنفسهم، وقد أهلكوا بها من أهلكوا، فمن ذلك: صرفهم قوله جل وعلا: (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 إلى طلحة والزبير رضي الله عنهما، وزعمهم أنهم نكثوا بيعة علي - رضي الله عنه - فإذا تلي عليهم قوله (أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) علموا أنهما لم يهما بإخراج الرسول في حياته من داره، ولا بعد موته من قبره، ولا طعنوا في دين المؤمنين، فأيقنوا عند ذلك أن ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 تسرعوا إليه من صرف الآية إليهما ليس كما تسرعوا، وهذا شيء متداول بينهم فاش فيهم، يأخذه أصاغرهم عن أكابرهم، ويتوارثونه توارث الأموال لايشكون فيه. والآية نازلة - فيما بلغنا - في أبي جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وأبي سفيان وسهيل بن عمرو وهم كانوا أئمة الكفر الهامين بإخراج الرسول، صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 فقال الله - جل وعلا: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) فأخزى أبا جهل وأمية بن خلف وعتبة، ونصر عليهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، وشفى صدورهم بقتلهم يوم بدر، وتاب على أبي سفيان وسهيل. وفيه أيضا في الرافضة: قال محمد بن علي: ومنه أيضا صرفهم في سورة يونس: (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) إنما علي ومعاوية - رضي الله عنهما. وسمعت هذا من بعض من ناظرني في الإمامة شفاها فظننته اختراعا من عنده حتى قرأته بعد ذلك في كتاب صنفه بعض قدمائهم في الإمامة يقال له: علي بن فلان من أهل طوس وهو من كبار أئمتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 فمن تسمح له نفسه بأخلاق مروءته وصفاقة وجهه أن يجيء إلى معنى مبتدأ العشر كله من قوله: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) إلى (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى) وهو مملو بذكر الله - جل وعلا - وذكر شركاء الكفار من آلهتهم التي دعوها مع الله - جل الله - فيجعله في علي ومعاوية - رضي الله عنهما - جدير بأن يتقزز من ذكره فضلا عن أن يتخذ إماما في الدين ولكن (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 رد على المرجئة في باب الإيمان قوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَ عِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) رد على المرجئة فيما يزعمون أن المرء بكلمة الإخلاص وحدها مستكمل الإيمان، ومن كان مستكمل الإيمان فهو في الجنة. وأرى الله - جل وعز - لم يشهد بالفوز بالجنة والرحمة والرضوان في هذه الآية إلا بالهجرة والجهاد بالأموال والأنفس. وكذا قال في سورة البقرة: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) ، فلم يشهد لهم بالهدى والفلاح إلا بإقامة الصلاة والنفقة وكلاهما عمل، وفي هذه السورة التي نحن فيها (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) . فكيف يكون على هدى من يعد تارك الصلاة والزكاة مستكمل الإيمان كما يعد فاعلهما، ولا يجعل لأحدهما فضل درجة على صاحبه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 الإيمان، والإيمان لا محالة هدى. أفيجوز أن يجعل الله - جل جلاله - الهدى في القول والعمل، فنجعل نحن كماله في القول وحده، ولا نقول: إن القول بعض أجزاء الهدى. أم يجوز أن يوجب الله الفوز والفلاح والجنة بهما فنوجبه بأحدهما، إن هذا لغير مشكل على من شرح الله صدره ولم يكابر عقله. ومن طريف ما يحتجون به في تجريد الإيمان واستكماله بالقول وإيجاب الجنة به موت من أمر بها وحدها عليها قبل تفرض الفرائض على غيره فيقال لهم: ويحكم كيف لا يكون مستكمل شيء واحد من جاء به، أم كيف لا يستوجب الجنة من وعدها على ذلك الشيء الواحد، حتى تجعلوه ذريعة إلى استكمال إيمان الخليقة بعده، وقد أمروا بأكثر مما أمر وفرض عليهم ما لم يفرض عليه. أكانت كلمة الإخلاص مفروضة على ذلك والصلاة والزكاة وغيرها غير مفروضة على هؤلاء، حتى تسموا ايتماره في الكلمة إيمانا وايتمار هؤلاء في الصلاة والزكاة غير إيمان، إن هذا لغفلة بينه، أو مكابرة مفرطة، وهل يشك عاقل أن الإيمان ليس بصورة مصورة يستوي الجميع فيها، وأنه مصدر حادث من حدث محدث، مأمور به، فلما كانت الأحداث مفرقة في جسد المحدث الأمور فمنها نطق، ومنها إضمار، ومنها تحريك جارحة كان من أمر بإحداث النطق والإضمار دون تحريك الجوارح، فأحدث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 في وقته مؤمنا، وكان حدثه وهو النطق الذي أحدثه بلسانه وأضمر القلب على تصديقه إيمانا ليس عليه غيره، وكان قد أكمل ما أمر به، فلما أمر غيره بمثل ما أمر به وأضيف إليه سواه من إحداث حركة الجوارح لم يقدر أن يحدث إحداث الجوارح باللسان والقلب، فأحدثها بجوارحه مؤتمرا لله - جل وتعالى - كما ائتمر له الأول. فما بال إحداث حركة الجوارح بالأمر لا تسمى إيمانا، وإحداث حركة اللسان وإضمار القلب بالأمر تسمى إيمانا، هذا ما لا يذهب على منصف ميزه، فكل من ائتمر حقه في جميع ما أمره، وانتهى عما نهاه عنه، فهو مستكمل لما أريد منه من الإيمان، كما كان المقر بالشهادة قبل نزول الفرائض مستكملا لما أريد به منها وإنما جعلنا للإيمان أجزاء ودرجات على مقدار القيام بالفرائض، والشهادة أحدها، بل أعلاها كلها، فمن ترك شيئا من الفرائض سوى الشهادة والصلاة والزكاة إذا وجبت عليه، فهو ناقص الإيمان عن إيمان من لا يتركه، والناهض به زائد الإيمان على إيمان القاعد عنه، ثم تكون النوافل والسنن والفضائل من الإيمان فلا يكون له نهاية في الفضائل،، لأنها غير محدودة ولا متناهية في الكثرة والقلة. فأما الفرائض: فإن وقوع اسم الإيمان بها على المؤمن متناهي، لأن الفرائض محدودة مسماة، والدليل على أن النوافل والسنن والفضائل من الإيمان: الصلاة قد دللنا أنها من الإيمان وفيها فريضة وسنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 ونافلة فلا يجوز أن يكون بعضها من الإيمان وبعضها ليس من الإيمان. ودللنا على أن النفقة من الإيمان، وفيها فريضة ونافلة، وكلاهما من الإيمان. فهذا ما في القرآن في هذه الآية وأخواتها، مع ماسنأتي عليه إن شاء الله في مواضعه على نسق السور. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الإيمان بضع وسبعون بابا أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان " فجعل أعلا أجزائه الشهادة، وهي فرض، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق وهو فضيلة، وجعل كليهما من الإيمان، مع أن الشهادة إنما هي فرض مع إضمار القلب على الثبوت عليها أبدا مرة عند الدخول في الإيمان ببلوغ الطفل، أو إسلام الكافر، ثم تكريرها عند الأذان ومواضع التهليل في أماكن الدعاء، وضمها إلى التسبيح والاستغفار والتكبير في أيام التشريق، وخلف الفرائض، وإعمال اللسان بها في أماكن القربات بها فضيلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 وليست كالصلوات الخمس والزكاة عند حلول الحول، وسائر الأعمال التي لها أوقات محدودة تكون فرائض كما أقيمت. فهل يقولون - ويحهم - إن كلمة الإخلاص تكون إيمانا إذا كانت فرضا، وغير إيمان إذا كانت فضيلة، فيكفونا مؤنة الاشتغال بهم، أم نقرر هذه النكتة وحدها عندهم أن الإيمان لا نهاية له؛ إذ كانت الشهادة نفسها هذه سبيلها، وأن في الفضائل ما يكون إيمانا. أم يزعمون أن كلمة الإخلاص فرض في كل وقت أن يشهد بها الموحدون من غير أن يفتروا عن القول، فيخرجون من قول أهل الملة، ويوجبون على كل من أتت عليه لحظة يمكنه أن يشهد فلا يفعل الردة، إذ لا يمكنهم أن يجعلوا لها أوقاتا كأوقات الصلاة والزكاة. فإن قال قائل: فما حجتك في دخول من ترك شيئا من الفرائض الجنة وهي عندك من الإيمان، وقد زعمت أن الله - تبارك وتعالى - لم يوجب في صدر الآية التي بدأت الفصل بها الجنة إلا بالجهاد والهجرة وتاركهما عندك ناقص الإيمان، وأنت تزعم أنه يدخل الجنة مع نقصانه كما يدخل الزائد مع زيادته، قيل: إنما احتججت بالآية على من زعم أن الجهاد والهجرة ليسا من الإيمان، فأريته أن الإيمان ذو أجزاء، يجمع فرائض ونوافل، فإذا أتى المؤمن بجميع الفرائض، ولم يترك شيئا منها، أو تركها ثم تاب منها، فبدلت سيئاته حسنات حرمت عليه النار في حكم العلم ووجبت له الجنة، ولم يضره ما ترك من السنن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 والنوافل، ولا أثرت في إيمانه المفروض وأجزائه الواجبة. وكان ناقص الدرجة عن أجزاء فضائل الإيمان مستكملا لما أريد منه من إقامتها، وكانت زيادة الخشية والمراقبة والرهبة وإحضار الهم في الإقامة من نوافله أيضا، يتزايد المقيمون في درجاتها، وإذا ترك شيئا من الفرائض ثم مات بغير توبة صار في منتظري العفو، فإن عفي عنه ربه قبل إدخاله النار وأدخله الجنة فبفضله، وإن أدخله النار باستيعابه فقد وعده أن لا يتركه فيها بقوله: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) . وسنلخصه في سورة مريم إذا انتهينا إليه إن شاء الله، وليس جود العفو عن المذنبين قبل دخول النار وبعدها بموجب أن تكون أعمالهم التي أدينوا بتركها لا تكون من الإيمان، لأن الله - جل جلاله - إنما حرم الجنة وأوجب الخلود في النار على من ليس فيه شيء من أجزاء فرائض الإيمان، وذلك الكافر، وهذا هو الموضع الذي يغلط فيه المرجئة، فيظنون أن الكافر لما خرج من الكفر إلى الإيمان بكلمة الإخلاص كان جميع الإيمان مجموعا فيها له، ولا يعلمون أن هذه الكلمة وإن كانت أوكد أجزاء الإيمان، وكان الكافر مستوجبا لاسم الإيمان بها إذا قالها ولم يكن مستوجبا بغيرها قبلها - غير مانعة من أن يكون للإيمان جزء غيرها لا يستوجب المؤمن كماله إلا به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 أولا يعتبرون أن الله - تبارك وتعالى - قد أكد في فرائضه التي يعدونها شرائع الإيمان لا الإيمان - بعضها دون بعض، فحرم على المؤمن أن ينهر أبويه كما حرم عليه قتلهما. فهل يجوز لأحد أن يقول: تحريم القتل من الشرائع، وليس تحريم الانتهار من شرائع الإيمان؛ لأن صار تحريم القتل أوكد منه، لعظم العقوبة فيه، كما يزعمون أن سائر الكلمة ليس من الإيمان، وإن كانت فريضة، لأنها ليست في التأكيد مثل الكلمة إن كان حكم النظر أن كل مسمى باسم لا يجوز أن يجعل في أجزائه ما لا يكون في التأكيد مثله. وكوقوع اسم الإنسان على جميع شخصه، وفيه أجزاء مؤلفة بعضها أوجد قوة من بعض، وأعظم منفعة، وأضاء ضياء، فلا يقال: إن اسم الإنسان مخصوص به أعظم منفعة أعضائه، وأشد قوة جوارحه، وتكون سائر أجزاء البدن تبعاً له في أنه ذو حركة وسكون، لا أنه بعض أجزاء الشخص الذي لم يستحق الاسم إلا به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 في ذكر بيان النجاسة: * * * وقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) دليل على أن النجس نجسان: نجس فعل، ونجس ذات، وهو في هذا الموضع - والله أعلم -: نجس فعل، وهو شركهم، لا أن أبدانهم نجسة، وكيف تكون نجسة وليست بين خلقتهم وخلقة المؤمنين فرق في شيء من الأشياء، وقد أباح الله لنا أكل طعامهم في ديارهم وقد مسوها بأيديهم، فعجنوا العجيب، وخبزوا الخبز، وعندهم أذهان مائعة، وقد استخلصوها بأيديهم وترطبت بمماستهم، فهي لنا طلق حلال، ولو كانت أبدانهم نجسة لحرمت علينا تلك الأشياء كلها. وأباح لنا نساء أهل الكتابين وفيهم شرك وهن يضاجعن بأبدان رطبة ويابسة ويصيب أزواجهن من عرقهن وريقهن فلا تنجس عليهم أبدانهم، وفي أهل الكتاب لا محالة شرك لقولهم في المسيح والعزير، فإن قيل: فقد أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، ثمامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 بن أثال الحنفي حين أسلم أن يغتسل. قيل: ليس في ذلك ما يدل على نجاسة البدن، إذ لو كان كذلك لما نفعه الاغتسال، وحد النجاسة على حاله لم يتغير منه شيء، والنجاسة لا تزول ما دام لها عين قائمة، والذي يشبه - والله أعلم - أن يكون أمره بالاغتسال من أجل الجنابة التي كان يجنب أيام كفره فلا يغتسل لتحل له الصلاة، أو عبادة لا يعرف وجهها كغسل الآنية من ولوغ نجاسة الكلب سبعا، وأشباه ذلك. فإن قيل: فالميت يغسل قبل دفنه. قيل: ولا ذاك لعلة نجاسته، إذ لو كان للنجاسة لما نفعه غسل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 ألف مرة لقيام أصل النجس وعدم اضمحلاله، إذ لو كان لنجاسة ظاهرة لأجزأت غسل مرة واحدة ولم يبلغ به ثلاثا وخمسا وسبعا، ولا وضىء وضوء الصلاة، ألا ترى أن لو كان بدل الإنسي حيوان فارقته الروح، فتنجس ذاته لمفارقة الروح إياه - لم تطهر جيفته أبدا ولوغسلت بماء البحر، فغسل الميت عبادة لا إزالة نجس، والمؤمن لا ينجس حيا ولاميتا ألا ترى أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قبل عثمان بن مظعون وهو ميت حتى سالت دموعه على خده. والعلم يحيط أنه لا يقبل جيفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 نجسة. فإن قيل: فما تقول في جيفة الكافر إذا فارقته الحياة أنجسة هي أم طاهرة، قيل: بل نجسة، لأن كل ذي روح فارقته الحياة تنجست جيفته، وإنما سلمنا في جسد المؤمن إذا مات للخبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 فإن قيل: فما وجه أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، عليا بغسل أبيه بعد موته وهو مشرك. (1) قيل: هو خبر في إسناده نظر لأن أبا إسحاق السبيعي ناجية ابن كعب، وناجية ليس بالمشهور في المحدثين. رواه عن   (1) خبر أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، علي بن أبي طالب بغسل أبيه، رواه الإمام أحمد في المسند من طريق أبي إسحاق عن ناجية بن كعب انظر مسند الإمام أحمد بتحقيق أحمد شاكر (2/2 1 1) ح (759) وانظر أيضا (136/2) ح (807) وصحح الإسنادين أحمد شاكر، والألباني في الجنائز وبدعها ص (134) . ورواه أيضا أبوداود في سننه (3/ 4 21) ح (4 1 32) كتاب: الجنائز، باب: الرجل يموت له قرابة مشرك. والنسائي في سننه (1/ 110) ح (190) كتاب: الطهارة، باب: الغسل من مواراة المشرك وفي ص (4/ 79) ح (6 0 0 2) كتاب: الجنائز، باب: مواراة المشرك. والبيهقي في سننه (1/ 304، 305) كتاب: الطهارة، باب: الغسل من غسل الميت. وأخرجه أيضا في ص (398/3) كتاب: الجنائز باب: المسلم يغسل ذا قربته من المشركين ويتبع جنازته ويدفنه ولا يصلى عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 وأبو إسحاق مدلس ولم يذكر سماعه من ناجية، ورواه عن أبي إسحاق أيضا مدلسان ولم يذكرا سماعهما: الثوري وشريك ولا قالا فيه: " اغسل أباك " إنما قالا: " وار أباك "، وقد يواريه من غير غسل لو صح الخبر، ولو كان ثابتا أيضا ما كان وجه غسله الأوجه تعبد لا نعقل علته. فإن قيل: فهل في أمره عليا - رضي الله عنه - بالاغتسال بعد غسل - إن صح الخبر - ما يؤكد نجاسة جيفة الكافر، قيل: هي - بحمد الله - مؤكدة بما قدمنا ذكره. فأما بهذا فلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 تزداد تأكيدا من أجل أنا لا نشك أن عليا لم يأت النبي، صلى الله عليه وسلم، من غسل أبيه إن صح الخبر عريانا ولا بادي العورة فلو كان أمره للنجاسة لأمره بغسل ثيابه، أو مئزره مع جسده، ولكنها من العبادات - إن كان لها أصل - لا تعقل وجوهها. ومثل نجاسة المشرك قوله، (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) هو عند قوم نجاسة، وأنا أحتج لهم وعليهم فأقول: نجاسة العمل بها لا رجاسة ذواتها؛ لأن الخمر عصير عنبة طاهرة والنشيش لما حرم شربها لم تنجس ذاتها. ولو كان نجس ذاتها ما عادت إذا صارت خلا طاهرة، لأن النجاسة لا تعود طاهرة إذا كانت مائعة إلي بممازجة مقدار يغلبها من الماء لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 ولا أعلم بين الأمة خلافا - بل هو من الإجماع المحصل - أنها إذا تتخللها صنعة آدمي واستحالت خلا أنها طاهرة فهذا يدلك على أنها كانت نجسة الشرب لتحريمها، فلما حلت بزوال اسم الخمر عنها وحدوث اسم الخل فيها صارت تلك العين المائعة بعينها طاهرة الذات، طاهرة الشرب والذات والاصطناع بها والتمول في البيع وغيره. ومما يزيد ذلك تأكيدا أن الآنية الحاوية لها قد تنجست برطوبة الخمر عند من يراها نجسة الذات، فكان ينبغي له أن يقول: إن الخمر نفسها، وإن طهر ذاتها بالاستحالة إنما الخل، فهي نجسة بمماسة الآنية النجسة، إذ كانت النجاسات عنده لا يطهرها إلا الماء، والخل لا يطهر الأنجاس، فأما أن يقول: إن الخل وكل مائع يجري بسلاسته ورقته على النجاسة طهرت به. وإما أن يرجع عن قوله في نجاسة ذات الخمر، فلا يعتبر على نجاستها بتحريم شربها فليس كل محرم نجسا. ألا ترى أن الحرير والديباج محرما اللبس على الذكور وهما طاهران الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 في أنفسهما، ومحرم شرب الماء في آنية الذهب والفضة، والماء طاهر، والذي حرم منه فعل الشرب على تلك الحال، وكذلك العصير حرم شاربه في حال صلابته التي أحدثها النشيش عليه، وهو طاهر في نفسه إذا لم تمازجه نجاسة نجسته، والنشيش ليس بنجس، إنما تعبد الناس بترك هذا الشراب بعد النشيش في الشرب، فإذا شربوه خرجوا من التعبد وواقعوا المعصية. فمواقعة المعصية نجسة، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم رجم ماعز بن مالك، " اتقوا هذه القاذورات التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 حرمها الله عليكم " فسمى الزنا وما يضاهيه من المعاصي قاذورات. فهذا بين لا إشكال فيه أن أفعال المعاصي والكفر نجسة، ألا ترى أن نفس الميتة لما كانت نجسة فأبيح أكلها للمضطر لم ترتفع عنه العبادة في غسل فيه وبدنه إذا وجد الماء، وأنه ليس له أن يصلي، والماء موجود حتى يغسل أثر نجاسة الميتة عنه، لأنه وإن أبيح له أكلها فذاتها نجس لم تستحل على الآكل بإباحة الأكل له طاهرا، وكذلك نفس شراب أصله طاهر لم ينجس بأن حرم شربه إنما حرم فعل المعصية في شربه فهذا صحيح لا علة فيه، ولاغمة دونه عند من شرح الله صدره وأعاذه من دناءة أخلاق العامة، ولم يسرع إلى الشنعة. بما لا طائل له من حجة. ألا ترى أن الميسر هو القمار، والمقمور طاهر في نفسه درهما كان أودينارا أوثوبا أو أي سلعة كانت، والأنصاب حجارة، أو صنم منحوت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 من خشب أو مصبوب من صفر أو آنك أو ذهب أو فضة وكل ذلك طاهر لم يتحول المأمور نجسا لأن قمر. ولا الحجر والخشب وأشباهها، لأنه نهي عن عبادتهما والمقمور لأن نهي عن قمره. وقد سمى الله كل ذلك مع الخمر رجسا، فما بال الخمر وحدها من بين هذه الأشياء صارت بالتحريم نجسة الذات، وبقيت هذه الأشياء تكون طاهرة الذات محرمة الشرب، ولأنها مائعة وتلك جامدة، أم النشيش لما صلب عصيرها وجعله حاليا سكرا حوله الطاهر نجسا، وقد دللنا على أن النشيش غير نجس في نفسه فكيف ينجس غيره، ولا السكر في ذاته نجس إنما الدخول فيه محرم. أم الفعل في شرب الخمر منجس نفس الخمر وليس الفعل في القمار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 وعبادة الأصنام بمنجس أنفسها. ذكر الحرم أنه قبلة: وفي قوله، (فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) دليل على أنه - وهو أعلم - سمى الحرم كله مسجدا لمجاورته المسجد، إذ لو كان واقفا على المسجد وحده لجاز للمشركين دخول الحرم إذا تجنبوا المسجد، ومما يؤكد ذلك قوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ) . وذلك أن المشركين كانوا يقدمون بتجاراتهم إلى الحرم، وكان المسلمون يصيبون من أرباحها. فلما منع المشركون من دخول المسجد الحرام بهذه الآية شق عليهم فوت أرباحهم، وخشوا دخول العيلة عليهم، فنزلت: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) فلو كان النهي واقعا على المسجد نفسه لا على جميع الحرم، لكان دخولهم الحرم بتجاراتهم وإن جنبوا المسجد دارا عليهم بالأرباح ولم يخافوا العيلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 بفواتها. وفي وقوع اسم المسجد على الحرم دليل على أنه قبلة لأهل الأرض وسعة لهم في التوجه إليه إذا أرادوا الكعبة، كما جاء في الخبر: " إن البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها ". وهذا الحديث وإن كان من جهة النقل واهيا فقد عضده هذا المعنى. ذكر الجهاد والجزية: * * * قوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ) دليل على أن نساءهم وصبيانهم لا جزية عليهم، لأنهم لا يقاتلون بل قد نهي عن قتلهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 وفي قوله: (وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) دليل على توهين قول من قال: إن من أسلم من رجالهم وقد مضى بعض السنة فعليه من الجزية بقدر ما مضى منها، لأن الله - جل جلاله - جعل الجزية صغارا والصغار لاحق بالدافع وقت الدفع لقوله: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) وكيف يلزم المسلم صغار الجزية وقد أعزه الله بالإسلام، والإسلام يجب ما قبله وقال تبارك وتعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: " ليس على مسلم جزية ". ذكر تسمية الشيء باسم الشيء إذا جاوره: وقوله (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ) حجة في شيئين، أحدهما: جواز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 تسمية الشيء باسم الشيء إذا جاوره كما مضى في غير فصل من كتابنا، لأن القول - لا محالة - بالألسنة لا بالأفواه. والآخر: إجازة التأكيد في الكلام وإبطال قول من قال: لا تأكيد فيه، إذ الكلام لا يخرج من غير الأفواه. ذكر اختصار الكلام والإخبار عن المعاني المختلفة باللفظ الواحد والتقليد: * * * قوله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) دليل: على اختصار الكلام والإخبار عن المعاني المختلفة باللفظ الواحد، فمن ذلك أن الأحبار على الأغلب في اليهود والرهبان في النصارى، وقد أخبر عنهم في الإضافة بلفظ واحد. ومنه عطف المسيح - عليه السلام - على جماعتهم باتخاذه ربا دون اليهود. ومنه أن المعنى الذي اتخذته الأحبار والرهبان أربابا مخالف لما اتخذته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 المسيح عليه السلام، لأن السيد دعي ولدا، وكذب فيما جاء به من الدعوة إلى الله، والأحبار والرهبان أطيعوا فيما أمروا ونهوا من تحريم الشيء وتحليله، فنسبهم إلى أنهم اتخذوهم أربابا بفعلين مختلفين ولفظ الأرباب واحد. ومنه: أنه أوقع أسما هو له على خلقه ولم يكن نقضا فيما هو له ثم أشرك فيه أعداءه ونبيه. ومنه: أنه سمى سجود النصارى لعيسى، وقبول من قبل من الأحبار والرهبان - عبادة. وفي هذا أكبر دليل على نفي التقليد، وإعظام القول به. ومنه أنه سمى الجماعة مشركين من المؤتمرين - الأحبار والرهبان - والساجدين وعيسى الداعينه إلها مع الله - تعالى الله - من أجل أن الائتمار في تحليل الشيء وتحريمه لا يصلح إلا لله، كما لا يصلح السجود ودعوى الإلهية إلا له، فلما ائتمر هذا وسجد هذا كان قد أشرك كل مع الله من لا يصلح أن يكون معه فيه، فسمى كلا - وهو أعلم - مشركا، وإن كان سبب شركه وعقوبة فعله مختلفا. حجة لأهل السنة على المبتدعين: * * * قوله: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) حجة لأهل السنة على كل من أسر دينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 من أهل البدعة وما يحتجون به من قصة آسية ومؤمن آل فرعون وقوله (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) ودخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغار وأشباه ذلك، فهو قبل هذه الآية. وما أمات الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلا بعد ما أظهر دينه على الأديان، وأكمل له بقوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) أنزل هذا عليه في حجة الوداع، وهو واقف، صلى الله عليه وسلم، مع أصحابه - رضي الله عنهم - بعرفات مع أن أكثر ما يحتجون بها. وكل ما كان على شيء يزعم أنه من الدين، وهو يستره ولا يظهره خشية إنكاره، فقد عرف بطلانه قبل أن يسأل برهانه، واستوى في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 معرفة تزييفه العالم والجاهل، إذ من شرط الآية أن يكون بعد نزولها في دين الحق ظاهرا. فإن كتم عدم شرطه المشروط فيه، وفي عدم شرطه دخول الخلل عليه وزوال الحق عنه، فإن احتج محتج بما روي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ ". قيل: ليس فيه وقت مؤقت يعود فيه، ولو كان أيضا مؤقتا لعلمنا أن غرباء الدين بدءا كانوا يسترونه عن الكفار وعبدة الأوثان، ومن كان يقاتلهم عليه، وترى المبتدعة يسترونه عن أهل القبلة ومن هو مستعل عليهم، وعلى عبدة الأوثان والممتنعين من أداء الجزية من أهل الكتاب، فإن كان الخبر صحيحا وجازما يرجع عدد المسلمين في الشرق والغرب إلى من كان يسر الدين قبل إسلام عمر - رضي الله عنه - صح تأويل الخبر حينئذ، والا فلا متعلق للمحتجين من أهل البدعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 ذكر الزكاة في الكنوز: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الهاء راجعة إما على الكنوز، وإما على عدد الدنانير والدراهم، أو قطاع التبر من الذهب والفضة لا على لفظهما. فلا يشبه أن يكون هذا الكنز - والله أعلم - إلا المال الذي لا تؤدى زكاته، إذ لو أريدت جميع الأموال من الذهب والفضة، ما كان لقوله (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) معنى، ولا لقوله: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) . ومع ما جاء في القرآن من آيات الزكاة، وحبس الأموال حتى يحول عليها الحول، ولبطلت السنن المروية في الزكاة، ولعللت آي المواريث وكان كل من له مال قل أو كثر ينفقه ولا يحبسه للزكاة ولا للميراث،. ولا أحسب الزكاة إلا من سبيل الله، فإذا أخرجها فقد أنفق ماله في سبيل الله وكذا قال ابن عمر - رضي الله عنه: " ما أدى ركاته فليس بكنز". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 وقد أسندوه إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، من طريق ابن عمر، وجابر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 وأم سلمة. فإن احتج محتج بالحديث المروي عن أبي أمامة الباهلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 وغيره: أن رجلا من أهل الصفة مات وترك دينارا، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: " كية " وتوفي آخر وترك دينارين، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: " كيهان ". قيل: ليس في إسناد هذا الخبر ما يعارض به ماذكرنا من آي القرآن في الزكاة والمواريث، لأنه رواه عن أبي أمامة أبو الجعد مولى لبني ضبيعة وهو مجهول وعبد الرحمن بن العداء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 الكندي وليس ممن تثبت بروايتهما حجة، وسيما وقد رويا رواية تعارض القرآن في الظاهر. ورواه شهر بن حوشب وفيه ضعف، وحديث أبي ذر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 وقد دلت حديث ثوبان مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على ما قلنا وهو أصح إسنادا حيث يقول: " أيما رجل ترك كنزا بعده مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 وهذا مثل رواية عبد الله بن مسعود وأبي هريرة في المال الذي لا تؤدي زكاته، فرواه ثوبان مجملا بذكر الكنز، وروياه مفسرا. ولو صح حديث أبي أمامة أيضا، لاحتمل أن يصرف قوله في الكية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 والكيتين إلى غلول أو عقوبة كذب حيث يوهم الرسول، صلى الله عليه وسلم، أن لا شيء عنده، ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، يعده في عداد أصحابه من أهل الصفة، ثم يترك ما ترك، ولا نترك آي الزكاة والمواريث، ألا ترى أنه، صلى الله عليه وسلم، لم يقل لسعد ما قال لهما، حيث دخل عليه وهو مريض فقال: يا رسول الله قد بلغ بي من الوجع ما ترى وأنا ذو مال، بل لم يدعه أن يتصدق من ماله في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 الوصية إلا بالثلث، واستكثره ولم يقل: أنت ميت، ومالك كنز فأخرجه في سبيل الله قبل يحمى عليك في نار جهنم. وكذا قال لأبي لبابة حيث تيب عليه، وأراد أن ينخلع من جميع ماله قربة إلى الله - جل وتعالى " يجزيك منه الثلث ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 وقال له جابر بن عبد الله: كيف أقسم مالي بين ولدي، فأنزل الله - تبارك وتعالى -: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) . فدل الكتاب والسنة على أن الحابس ماله بعد أداء الزكاة المفروضة لا حرج عليه فيه، وكل شيء أخرجه بعد الزكاة في وجوه البر ونوائب الخير فهو فضيلة وقربة. فضائل أبي بكر - رضي الله عنه -: * * * قوله: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) رد على الرافضة في تقديم علي على أبي بكر - رضي الله عنهما -؛ إذ قد شهد الله - جل وتعالى - له بالصحبة والكينونة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 معه في الغار من دون الناس، ولخروجه من توبيخ الخطاب وترك النصرة بالمسابقة إلى ما قعد عنه غيره، والمشاركة له فيما يحذر المطلوب، إذ لا نصرة أنصر ممن بذل نفسه للمكروه وخرج مع المطلوب يؤنسه في وحدته ويشاركه فيما يتقيه من محذور عدوه. ولئن كان على - رضي الله عنه - قادرا على الخروج مع رسوله الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الغار فلم يخرج، أو أراد الخروج فرده وأخرج غيره لقد قدمه عليه تقديما ظاهرا، إذ رضيه لأنسه، وأشركه فيما نال من ثواب الله هناك، ولئن كان عن ذلك عاجزا لصغره، لقد سبقه إلى مكرمة لا يقدر مشاركته فيها أبدا، وبان فضله عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 ألا ترى أن الله - تبارك وتعالى - يقول: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) . ولو قبلوا الأخبار لجئنا في هذا الفصل من صحاحها بسبب الغار ما كان يزول بها عنهم كل ريب، مع أن ما أداه القرآن من ذلك - بحمد الله - شاف كاف لمن بصره الله وكشف عنه غمة الغباوة. المعتزلة: * * * قوله: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) حجة على المعتزلة والجهمية شديدة من جهات: أحدها: ما قدم من ذمهم في قوله: (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إلى قوله: (لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) . الثانية: ما ذكر من الكراهة التي هي عندهم من صفات الخلق ولا يميزون أن كراهة الخلق مخلوقة، وكراهته غير مخلوقة فهي مباينة واضحة بينه وبين خلقه. الثالثة: ما ذكر من تثبيطهم، فأي شيء يلتمسون أوضح من هذا أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 يكون ذمهم على التخلف عن أمر هو ثبطهم عنه، وكره خروجهم فيه، أوليس هذا من العدل الذي لا نعقله، وهذا نظير ما مضى في سورة الأنفال في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) . لأنه نفس ما بيننا وبينهم فيه الخصومة، لا مشابهه فيما أثرناه عليهم من أنواع صنعه في عدله. وقد قال في تمام ذكرهم: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ) فأخبر عنهم بما هم فاعلون قبل الفعل - سبحانه - أن يقدر بشر الحيدة عما علمه منه قبل فعله، والله المستعان على عقول تضيق عن هذا البيان الواضح أو تكابر في الخطب الفاضح. ذكر من يعد المعاصي كفرا: قال محمد بن على: ومن حماقات من يعد المعاصي كفرا أو يزعم أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 النار لا يدخلها إلا كافر احتجاجهم بقوله: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) . وإخراجهم المؤمن المذنب من جملة من تحيط به، وادعاؤهم أن محالا عندهم أن تذكر الإحاطة بقوم موصوفين فيدخل معهم غيرهم، وهذا هو نهاية الجهل والإفراط في الحماقة. أو ليس جائزا عندهم أن تكون لرجل ماشية من بقر وغنم أو غنم وحدها - عفر وسود - فيدخلها حظيرة فيقال: أحاطت حظيرة فلان ببقره ولا يذكر فيها غنمه، أو أحاطت بسود غنمه ولا يذكر عفرها، وقد أدخل كلا فيها، فيكون كلاما غير مستحيل أن تكون الحظيرة أحاطت بالمذكور وغير المذكور، وما عسى يقولون في قوله: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 أيقولون - ليت شعري - إنه غير محيط بالمؤمنين وبالبهائم وجميع الخلق، نعوذ بالله من الجهل. المعتزلة: وقوله: (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) رد على المعتزلة والقدرية من جهتين: إحداهما: أنه قال: (إِنْ تُصِبْكَ) ولم يقل " إن تصب " والمضاف غير مالك لما يصيبه والثانية: (لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) وهم ينكرون الكتاب السابق في كل شيء وهو نظير ما مضى في سورة النساء (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) . وحق قراءة من قرأ هناك: " فمن نفسك وأنا كتبتها عليك) إذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 جائز أن يكون بين هاهنا ما أجاز اختصاره هناك، والله أعلم. ذكر أشياء مختلفة في اسم واحد: * * * قوله: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) حجة في تسمية أشياء مختلفة باسم واحد؛ لأن إحدى الحسنين هاهنا - والله أعلم - الفتح أو القتل في سبيل الله، وكلاهما مختلف، والحسنة الجنة قال الله - جل وعز -: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) والحسنى صفة لجميع أسامي الله - جل الله - قال الله - تبارك وتعالى -: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) وهو حجة على المعتزلة في باب موافقة الأسماء الواقعة على ما سميت به، ولا تكون المسميات متفقات لاتفاق أسمائها كما ترى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 وقوله: (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا) حجة في إضافة الإصابتين إلى الله - عز وجل - ما كان منه وما كان بأيديهم، وهو فعل فعلوه هم بحركاتهم وأعمال أسلحتهم، وقد أضافه تعالى لنفسه كما ترى. ذكر المرتد يخرج الزكاة: * * * قوله: (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّ ا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) دليل على أن الكافر لا يصعد له عمل، ولا يقبل منه خير يثاب عليه في الآخرة، وأن مرتدا لو أخرج زكاة ماله في الردة، ثم راجع الإسلام لوجبت عليه الإعادة واستئناف ما دفع مرة أخرى، لأنه دفعه في حين لم يقبل منه والزكاة أعظم النفقات. المعتزلة والقدرية: * * * قوله: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) حجة على المعتزلة والقدرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 سديدة، إذ أخبر الله - جل وعلا - نصا عن إرادته في خروج أنفسهم على فإنا لو سامحناهم في زوال القضاء عنهم حيث دخلوا في الكفر والنفاق ما سامحناهم في الخروج منهما مع هذه الآية. وكيف يقدرون الانتقال عن شيء يريد الله قبضهم عليه، ولا يعتبرون - ويحهم - أن من كان إليه الدخول باختياره فالخروج أيضا إليه. فإن زعموا أن المذكورين في هذه الآية قدروا على الخروج والانتقال عما أراد الله، فقد كفروا - لامحالة - إذ المغلوب عن إرادته غير نافذ الأمر، وليس هذا من صفة الإله. وإن قالوا: لم يقدروا على الخروج عن إرادته انكسر قولكم فيما يزعمون أن الإرادة منه إرادة بلوى واختبار لا إرادة حكم واضطرار، فأين موضع البلوى والاختبار بعد موت المذكورين في هذه الآية. * * * قوله: (لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) بلغني أن قتادة كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 يقول: فيه تقديم وتأخير، كأنه يقول: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله أن يعذبهم، أي في الآخرة، وتزهق أنفسهم وهم كافرون، وقد يحتمل ما قال، ويحتمل غيره. كأنه يقول - والله أعلم -: ليعذبهم بها في الحياة الدنيا بما يمضهم من ذهاب أموالهم وفقد أولادهم ولا يثيبهم عليه في الآخرة كما يثيب المؤمن فلا يكون فيه تقديم، وأيها كان فالحجة في زهق أنفسهم على الكفر قائمة على القوم. ذكر الأصناف الذين يستوجبون الزكاة: * * * قوله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) . دليل على أن هذه الأصناف مواضع للصدقات، لا أنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 مشتركون فيها حتى يكون توزيعها على جميعهم فرضا لا يجزئ غيره. ألا تراه - جل وتعالى - يقول: (وَفِي الرِّقَابِ) (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) ، فغير لفظ النسق على لام الفقراء، وليس يعرف في معنى الاشتراك أن يقال: هذا لفلان وفلان، وفي كذا، ومما يزيده تأكيدا قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) ، فأخبر أن هؤلاء اللامزين ليسوا موضعا للصدقة، ولكن مواضعها كذا وكذا - والله أعلم - فقال: إنما الصدقات هذه مواضعها. ومما يؤيد قولنا أيضا أنها لو كانت اشتراكاً لبين - والله أعلم - مبلغ ما يعطى كل صنف منهم ليزول التشاح منهم، وكذا روي عن أصحاب رسول الله صلى الله أعليه وسلم، مثل: حذيفة وغيره، وعن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 التابعين مثل إبراهيم النخعي وغيره أنه يجعلها في صنف واحد ولا أعلم أحداً شدد فيها كتشديد الشافعي - رضى الله عنه - والشافعي ينهى عن تقليده وتقليد غيره. * * * وقوله: (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 الهاء في (إليه) راجعة على الملجأ وحده، لابتدائه به ولعمل المغارات، والمدخل - والمغارات عمله - أو على المعقل أو المكان لا على جميع ما ذكر، والله أعلم. قوله (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) ، الهاء راجعة على الله وحده والرسول تبع له. معنى الوعد: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ) دليل على أن الوعد يكون في الخير والشر، والإبعاد هو الذي يكون في الشر ولا يشاركه فيه الخير، وفصله بين المنافقين والكفار بالواو على تفريق الاسم بهم، لا على اختلاف المعنى - والله أعلم - لأن المنافق أيضا كافر وهذا كقوله: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) وأهل الكتاب أيضا مشركون لقولهم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 عزير والمسيح، ولكن فرق بينهما - والله أعلم - على غلبة اسم المشركين على أهل الأوثان، وأهل الكتاب على اليهود والنصارى،، وغلبة اسم الكفر على من أعلن به، واسم النفاق على من أسره. وكما قال: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) إلى قوله ((وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) . وكل هذا داخل في الميتة، والذي فصل بينها بالواو الأسامي الغالبة عليها لا المعاني المتفقة فيها. * * * وقوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) . دليل على أن زيادة البيان من فصيح كلام العرب ممدوح في أماكن الحاجة إليه، لأن كل ما تقدم الطاعة في هذه الآية داخل فيها فلم يضر رده مع غيرها في جملة الطاعات. ذكر حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " ما منكم أحد ينجيه عمله ": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 قوله: (أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ) يؤيد حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ما أحد منكم ينجيه عمله " قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة "، لأنه - تبارك وتعالى - بعد ما وصفهم به من كثرة الأعمال وعدهم الرحمة قبل الجنة حتى يكون دخولهم إياها برحمته لا بأعمالهم، إذ أعمالهم لو قيست ببعض النعم لاستفرغتها، فلا يحصل لهم إلا رحمته. فلما تغمدتهم وأدخلتهم دار كرامته عطف عليهم بفضل جديد ونعمة مثناة، فقال: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) ، و (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) ، و (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 والإحسان والعمل: ما أسلفوه في الأيام الخالية كله من نعمته عليهم وتوفيقه إياهم وهدايته لهم - سبحانه -. * * * قوله: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ) حجة في أشياء: فمنها: أن المرتد تقبل توبته، ولا يقتل بتبديل دينه كما روي في ظاهر الخبر: " من بدل دينه فاقتلوه "، فكان معنى " فاقتلوه ": إن لم يتب وبقي على الردة. ومنها حجة للنابغة فيما قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 لا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب وحجة للآخر: ولا عيب فينا غير عرق لمعشر كرام وأنا لا نخط على النمل لابتداء الآية بذكر النقمة، ومجيء لفظ الاستثناء بالإغناء.، وهو من غيرجنسه وكذا الشاعران ابتدأا البيت بذكر العيب ثم استثنيا منه بما هو مدح. ومنها: إشراك الرسول في الإغناء مع الله، والله هو المغني وحده وفيه حجة قي أن نسبة إغناء المخلوق إلى المخلوق جائز، ولايكون كذبا، بل هي منة من المعطي على المعطى، واجب عليه معرفة إنعامه وشكره عليه وإن كان أصلها من عند الله. ومنها: أن ذكر التوبة فيها حجة على المعتزلة في امتناعهم من جواز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 العفو على الله على المحتقب ذنبا مات عليه، وادعائهم أنه مخلد في النار من أجل أنه خلف لوعده عندهم، والثواب والعقاب عندهم واحد، فيقال لهم: إن كانت العلة في ذلك أن من أوعد قوما عقوبة ثم لم يفعلها كان خلفا وكذبا - ولا يجوز ذلك على الله - فهذه العلة قائمة في الدنيا قبل أن يصار إلى الآخرة، فما باله - جل وعلا - يقول قبل هذه الآية: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ) . فيخبر عن قوم بأن مأواهم جهنم ثم لا يجعلها مأواهم، بل يجعل مأواهم الجنة بإحداث التوبة. وما باله يقول: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) ، فيوجب عليه الخسران وحبط العمل، ثم يرده عليه بالتوبة ويجعله مفلحا بعد أن كان خاسرا. وهو حينئذ واحد قد وعد شيئا، ثم فعل به غيره، وإن كان بالتوبة فعل به ما فعل فلم يفعل به ما وعد. وتوبة هذا لم تحقق الوعد من الواعد على معنى ما ذهب إليه القوم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 وإن كان لله أن يترك ما وعد السمك من العقاب ولا يكون ذلك خلفا ولا كذبا، فسواء تركه بسبب شيء يحدثه الموعد، أو بغير سبب منه لأن السبب إحسان جديد من الفاعل، والإساءة في فطرة العقول لا تعود غير معقولة وقد فعلت. بل قولهم هذا جهل بلسان العرب، فإن العرب لا تعد الخلف إلي ترك إنجاز الوعد في الخير، فأما ترك إنجاز الإيعاد فهو عندها كرم وتفضل لا خلف ولا كذب، والقرآن نازل بلغتها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم،: " من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجزه له، ومن وعده على عمل عقابا فهو فيه بالخيار ". وقال الشاعر: وإني إذا أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 والله أحق من تكرم على عبده، فقد سمى نفسه كريما، والكريم يعفو عن قدره ويتجاوز عن حقه. وقد أمر الله بالتحفظ بالأيمان وقال رسوله الله، صلى الله عليه وسلم: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ". وروي " وهو كفارته ". وقال ابن عباس: " من حلف على عبده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 أن يضربه فكفارته تركه، ومع الكفارة حسنة ". وقد وعد الله يونس، صلى الله عليه وسلم، أن يهلك قومه، فآمنوا فلم يهلكهم فذهب مغاضبا، فعاقبه الله بحبسه في الظلمات (1) حين رأى من ربه ما أعده خلفا (2) ، ولم يكن في الحقيقة إلا كرما وجودا. وفي قوله - تبارك وتعالى - في أهل الأعراف: (أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) قطع لكل لبسة لمن تدبر في هذا المعنى.   (1) قصة يونس - عليه السلام - مع قومه ذكرها الله في مواضع من كتابه، منها ما ذكره في سورة يونس آية ما وهي قوله: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وفي سورة الصافات من آية (139) وهي قوله: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إلى آية (148) وهي قوله (فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) ولمزيد من التفصيل راجع في ذلك تفسير الطبري (1 1/ 171) وما بعدها، و (23/ 98) وما بعدها، ومعالم التنزيل للبغوي (2/ 369) ، (4/ 42) وما بعدها، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (87/ 384) ، (5 1/ 1 2 1) وما بعدها، وتفسير ابن كثير (4/ 1 23) ، (33/7) وما بعدها، وقصص الأنبياء لابن كثير (5/1 9 1) وما بعدها، والدر المنثور للسيوطي (4/ 391) وما بعدها، (7/ 1 12) وما بعدها، ومع الأنبياء في القرآن الكريم لعفيف طياره ص (306) وما بعدها. (2) هذا بناء على أن المغاضبة كانت لله، وهو قول الحسن البصري وفيه نظر، فالأنسب بمقام النبوة أن تكون المغاضبة لقومه لأجل الله. وانظر تفسير الطبري (7 1/ 77، 78) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 فإن قيل: فقد وصل الله الاستثناء في سورة الفرقان للتائبين من الكفر والذنوب حيث يقول: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وهو كلام واحد فالخلف غير لاحق به إذا فعل بالتائبين خلاف ما وعدهم، قيل: ليس هذا إلا في هذه الآية وحدها وقليل معها، وممكن أن يكون الاستثناء نازلا بعد نزول الآية، كما نزل: (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 بعد نزوله: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ، فيكون أسوة سائر القرآن الذي لا استثناء فيه عند الوعيد متصلا بسياق الآي. قال تبارك وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) ، وقال: (وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) إلى قوله: ((أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) . والقرآن مملوء بمثل هذا، والتوبة غير متصلة بآياته، ثم قد أُمر الكافرون والمؤمنون بالتوبة على الانفراد، فقال تبارك وتعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) ، وقال: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) . وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) وكل هذا على كلامين وما كان على كلام وعلى كلامين فهو عندنا نعمة وفضل وكرم ليس بخلف ولا كذب، بل العفو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 والكرم قبل التوبة أبين منه بعدها، مع أن معول الناس على العفو أكثر منه على التوبة. فالتوبة منقطعة بكثير من الناس قبل طلوع الشمس من مغربها، والعفو والغفران مبسوطان للمؤمنين، قال الله تبارك وتعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وقال، (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وقال: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا) وقد منع الله فرعون التوبة، ومنعها قوما من المنافقين في قوله (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ) . وقد دللنا عليه في آخر سورة الأنعام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 ومنعها ثعلبة بن حاطب (1) في هذه الآية في سورة التوبة، قال الله - تبارك وتعالى -: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) فجاء إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، لما بلغه نزول هذه الآية بصدقته فأبى أن يقبلها، ثم جاء   (1) هو ثعلبة بن أبي حاطب الأنصاري، وقيل ثعلبة بن حاطب وليس هو ثعلبة بن حاطب البدري بل هو آخر، انظر الإصابة (1/ 206) . وقال الذهبي في تجريد أسماء الصحابة (66/1) : (هو ثعلبة بن حاطب بن عمرو الأنصاري الأوسي بدري، قال: يا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ادع الله أن يرزقني مالا ... فذكر حديثا طويلا منكرا بمرة، وقيل: قتل يوم أحد. وكما ترى، هذه القصة منسوبة لشخصين، ولكن الأمر يهون إذا ما علمت أن هذه القصة لا تثبت وليست بصحيحة عن أي شخص من أصحاب رسول الله فضلا عن ثعلبة البدري، وقد أثبت عدم صحتها بالدليل القاطع الأستاذ عداب محمود الحمد في رسالته التي ألفها عن ثعلبة بعنوان " ثعلبة بن حاطب الصحابي المفترى عليه " وهي رسالة قيمة فراجعها إن شئت. وخلاصة الكلام على هذه القصة من الناحية الإسنادية أنها لا تصح ولا تثبت، انظر ثعلبة بن حاطب الصحابي المفترى عليه ص (64) وما بعدها، وص (83) ومابعدها، وص (91، 21) حيث ذكر من ضعفها من العلماء فقال ( ... ثم رواها البيهقي (458 هـ) في دلائل النبوة ونبه على ضعفها، كما نبه على بطلانها ابن حزم، وابن عبد البر، وابن الأثير في أسد الغابة، والهيثمي في مجمع الزوائد، والحافظ ابن حجر في مواضع من كتبه، والسيوطي..) إلى أن قال: وكثير من المعاصرين قد تنبهوا إليها أيضا منهم علامة مصر المحدث أحمد محمد شاكر في تعليقه على تفسير الطبري، وشيخي في هذا العلم الشريف العلامة المحدث محمد الحافظ التجاني، وقد تنبه إليها المحدث الشيخ ناصر الألباني ... ، وحين كتب الشيخ مقبل بن هادي الواقعي الصحيح المسند من أسباب النزول نبه على هذه القصة وبطلانها. وفي ص (91، 92) زاد في ذكر من ضعفها فذكر القرطبي، والذهبي، والعراقي، والمناوي، ومحمد رشيد رضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 بها إلى أبي بكر وعمر بعده، فلم يقبلاها، وهذا من العدل الذي لا يعقل علته، والعجب للمعتزلة كيف تتلاعب بهم الحماقة ويستفزهم الجهل فيغفلون في باب الوعيد العدل الذي يدعون الفلسفة في معرفته، وهو شعارهم وفى دثارهم، فليت شعري كيف يستقيم لهم فيه أن يكون عادل في تضييع حسنات مائة عام من الفرائض والنوافل، والقرآن مملوء بذكر مجازاتهم عليها بقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فلهم كذا وكذا - من أجل ذنب واحد يموت محتقبه عليه بغير توبة، فيخلد صاحبه مع الكفار - في النار - الذين أسخطوا الله عمرهم ولم يطيعوا طرفة عين. ويستقيم عندهم نفي القضاء والقدر، وخلق الشر والأفعال السيئة والحسنة خشية منهم أن ينثلم به العدل الذي لا يعرفون حقائقه. فإن قيل: فهل للكفار مطمع في العفو إذا ماتوا على كفرهم إذا كان ترك الوعيد عندك كرما لا خلفا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 قيل: قد اتفق الجميع على أن الكافر لا حظ له فيه، والإجماع لا يقابل بالرد، مع أن القرآن قد دل عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) . وليس في إنجاز الوعيد لأهله نقيضة على الموعد، وإن كان الكرم في تركه أظهر والكرم والفضل ليس بحق لأحد عند الكريم، فإن تفضل كان أهلا له، وإن عاقب كان عدلا منه، ونحن لا ننكر أن يكون الله بعدله يدخل النار بعض المذنبين من الموحدين بذنوبهم ثم يخرجهم منها بعد استيفاء جزائهم أو قبله، ويدخلهم الجنة برحمته، ولا يضيع لهم ما عملوا من الصالحات. فإن قيل: فلم يخلد الكافر في النار ولا يقتصر منه على مقدار عمره الذي كان في الدنيا كافرا، ثم ينجيه - كما يُنجي المؤمن - بعد استيفاء جزائه، قيل: قال الله - تبارك وتعالى من قائل -: (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) وليس هذا أول عدل لم نبلغ كيفيته. وقد يجوز أن يخلده - بإضماره كان على الكفر - لو خلد في في دنياه فيجازى بالخلود على إضماره. والمؤمن يخلد في الجنة بطويته كانت على الإيمان لو خلد في دنياه مع ما له من الحظ في وصول الكرامة إليه وتفضل ربه عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 وقد دللنا على أن التفضل ابتداء عطية لاحق لأحد قبله فيكون بمنعه عنه ظالما له وبعد، فلو قلت معناهم بعينه قالت عليهم، فقال: وكذلك من وعده على عمل صالح الخلود في الجنة والنجاة من النار، فعمل به أكثر عمره طمعا في وعده الذي لم يشترط عليه فيه حبطا بمعصية في النار الذين أسخطوا الله عمرهم، ولم يطيعوه طرفة عين بكلمة بها لشرطه على المرتد بالشرك إذا خلده في النار بذنب واحد أذنبه بعد العمل الصالح لكان خلفا لوعده، فلنسبة الكرم إليه في الصفح عن الوعيد على ذلك الذنب الواحد أو أخذه به وحده ثم الخلود في الجنة بالكثير من العمل الصالح بعده - أجدر وأليق بربوبيته، وأبعد من الخلف والجور جميعا، وأوجه في العدل والفضل معا. * * * قوله: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ) حجة عليهم وعلى الجهمية في ذكر السخرية التي جمع بينهما من نفسه ومنهم. ذكر الاستغفار: * * * قوله: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 دليل على أن منتهى الاستغفار الحاط عظام الذنوب المتوقع بها الغفران سبعين مرة، وهو يؤيد حديث أبي بكر الصديق، رضوان الله عليه -: " ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة " وحديث أنس: " كنا نؤمر - إذا صلينا من الليل - أن نستغفر في السحر سبعين مرة ". وأشباههما من الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 وفيه دليل أن الاستغفار للناس نافعهم ولاحق بهم؛ لأن الذي حال بين أهل هذه الآية وبين استغفار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لهم كفرهم لا غيره. المعتزلة: * * * قوله: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) حجة على المعتزلة لنسبة الكراهية هاهنا إليهم، وعند الخمسين من أول السورة إلى نفسه - جل وتعالى - حيث يقول: (وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) . ونحن لا نقول: إن القضاء والقدر يزيلان سعي الساعين وفعل الفاعلين، وكيف يزيلان أفعالا ينسبها الله إلى فاعليها، ولكننا نقول كما قال الله: إنهم لم يكرهوا حتى كره الله لهم، وسبق به قضاؤه عليهم، ونسكت عن تصحيح هذا عندنا بعقولنا علما منا بعدله وصدقه، وأن الجور والكذب ليسا من نعته. فلما رأيناه جمع بين كراهة فاعل لخير مأمور به وبين كراهته له، وجب علينا الإيمان به كما أنزله، وعلمنا أن القدر سره حجبه عنا معرفة كيفيته وتصرفه في عدله الذي لم يطلعنا على معرفته وانفرد هو - جل جلاله - به، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 ذكر الجنائز: * * * وقوله: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) أصل في سنة الصلاة على الموتى، إذ لا يخص الله - جل وتعالى - قوما بترك الصلاة عليهم إلا وهي سنة غيرهم. وفيه دليل - هو أشرف دليل - على أن الإمام إذا حضر جنازة فهو المقدم عليها في الصلاة دون الأولياء، كما تكون في سائر الصلاة، إذ لو كان الأولياء أحق منه - كما يزعم من يقول: إن الصلاة على الميت من الأمور الخاصة، فيتقدم الولي عليه - كان النهي - والله أعلم - واقعا على منع، ولي عبد الله ابن أبي ابن سلول النازل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 فيه هذه الآية من الصلاة عليه، لا على النبي، صلى الله عليه وسلم، الذي هو الإمام. وفيه دليل على إباحة الوقوف عند القبور وانتفاع المقبور بوقوف من يقف عنده من الداعين، إذ كل ما منع منه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في هذه الآية عقوبة للمقبور لا محالة. وفيه فضيلة لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لنزول القرآن بتصويب قوله في المشورة على النبي، صلى الله عليه وسلم، بترك الصلاة على المقصود بهذه الآية. ذكر الجهاد: * * * قوله: (وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 دليل على أن الجهاد لا يجب إلا على القادرين على التجهز له بالطول وهو الغنى، وقد بينه الله - جل وتعالى - في الأخرى حيث يقول (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ) . ودليل على أن النساء لا جهاد عليهن وإن أطقنه، لأنه - جل جلاله - قد ذكر الخوالف مرتين في الآية الأولى، والثانية، ولم يخرجهن إنما أخرج من تشبه في التخلف عنه بمن لا جهاد عليه، ورضي الكينونة معه عما هو مندوب إليه. وفي قوله: (ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) دليل من جهة الإعراب على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 أن المذكر يغلب على المؤنث في اللفظ؛ إذ الخوالف كن - لا محالة - مع القاعدين من الضعفاء والمرضي وعادمي النفقة الموضوع عنهم الحرب. المعتزلة: * * * قوله: (وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) حجة على القدرية والمعتزلة. - ذكر فضائل أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم: * * * قوله: (لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) إلى قوله: (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) شاهد لكل من حضر مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، غزوة تبوك من أصحابه بالجنة فيكونون مضمومين إلى العشرة المشهود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 لهم بها، وكل من شهد غزوة تبوك من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو معه في الجنة على ما كان فيه بشهادة هذه الآية له وهي حق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 ذكر تمنى العبد المال: * * * قوله: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) دليل على أن تمني المال ليطاع الله فيه، والحزن على فواته - طاعة، ورد على من يزعم من متنطعي المتصوفة أن عدم المال أربح للمرء من وجوده وإن كان ناويا طاعة الله فيه للمخاطرة دون القيام بها وأداء حق الله فيها. ذكر الاعتذار: * * * قوله: (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ) حجة في ترك قبول الاعتذار ممن يعرف كذبه بأي وجه عرف منه بعد أن يكون يقينا. فأما من جهل منه الكذب فقبوله اعتذاره واجب، لقول رسوله الله. صل الله عليه وسلم: " من اعتذر إليه فلم يقبل كتب عليه خطيئة صاحب مكس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 يعنى العشار (1) ، ومن تفضل عليه فلم يقبل لم يرد عليَّ الحوض ". (2) ذكر الطهارة: * * * قوله: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ) نظير ما مضى في رجاسة ونجاسة المشرك أنها رجاسة الأفعال لا رجاسة الذوات. أيضا في الاعتذار: * * * قوله: (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) دليل على أن من لم يقبل عذره من   (1) هذا التفسير من المؤلف لصاحب المكس، والعشار: هو الذي يأخذ عشر أموال الناس بغير وجه حق. انظر معجم مقاييس اللغة (4/ 324) مادة عشر، ولسان العرب (4/ 570) مادة عشر. (2) لم أجده بهذا اللفظ، إنما وجدته بلفظ: " من اعتذر إليه فلم يقبل لم يرد علي الحوض! كما سبق ذكره في الحديث السابق وهو من رواية عائشة أخرجه عنها أبو الشيخ هـ انظر في ذلك مجمع الزوائد (8/ 81) ، المقاصد الحسنة ص (630) ، وكشف الخفاء (2/ 232) واللآلىء الصناعة في الأحاديث الموضوعة (2/ 0 9 1) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 الكذابين بغير يمين فحلف قبل منه، لأن الله - تبارك وتعالى - لم يأمر برد اليمين عليهم كما أمر برد الاعتذار، حيث قال: (قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) إنما أخبر - جل وتعالى - عن نفسه بأنه لا يرضي عنهم، وإن رضى عنهم المحلوف له، ويؤيد هذا المعنى حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرضَ، ومن لم يرضَ بالله فليس من الله ". فالمتعذر إليه ينبغي له أن يقبل يمين المعتذر على الظاهر، ويكل سريرته إلى الله - جل وتعالى - * * * قوله تعالى: (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ) (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ) حجة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 إبطال أعمال الرياء، وإحباط أجر النفقة إذا لم تحتسب، والحث على استشعار الاحتساب فيها، واتخاذها قربة. قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " إذا دفع أحدكم زكاة ماله فليقل: اللهم اجعلها مغنما ولا تجعلها مغرما " (1) وقال: " إذا أنفق الرجل على أهله محتسبا كتبت له صدقة " (2) فكل من عمل عمل خير لم يحتسبه لم ينل ثوابا، لما في هذه الآية من الدليل. ذكر دفع الزكاة إلى الأئمة: * * * قوله: (وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ) دليل على أن دفع الزكاوات إلى الأئمة أفضل من تفرقتها بالأنفس لاستغنام دعوة الإمام له عند أخذها منه، قال الله - تبارك وتعالى - بعد هذا: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ)   (1) رواه ابن ماجه في سننه (573/1) ح (1797) كتاب الزكاة، باب ما يقال عند إخراج الزكاة،، مع اختلاف يسير حيث إن فيه: وإذا أعطيتم الزكاة فلا تنسوا ثوابها أن تقولوا: اللهم ... الحديث. وأورده السيوطي في الجامع الصغير، انظر: فيض القدير (1/ 290) ، والألباني في إرواء الغليل (3/ 343) وضعيف الجامع (1/ 152) وقال: موضوع، وعزاه في الإرواء لابن عساكر في تاريخ دمشق (2) أخرجه البخاري في صحيحه في عدة مواضع، منها ما أخرجه في كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، انظر الفتح (165/1) ح (55) ، والنسائي في سننه (5/ 96) ح (2545) كتاب الزكاة، باب: أي الصدقة أفضل، وابن حبان في صحيحه انظر الإحسان (219/6) ح (4225) باب النفقة، ذكر البيان بأن الصدقة إنما تكون للمنفق على أهله إذا احتسب في ذلك، وأورده السيوطي في الجامع، انظر فيض القدير (1/ 306) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أخذ صدقة قوم صلى عليهم، فأتاه أبو أوفى بصدقته فقال: " اللهم صل على آل أبي أوفى مرتين. تفضيل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين: * * * قوله: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) . شاهد لهم بالجنة أيضا، وفيهم العشرة وغيرهم، وقد سعد التابعون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 لهم أيضا بهذه الآية كما ترى. أفليست من سب واحدا منهم أو ممن شهد غزوة تبوك في الآية الأخرى أو تنقصه - مغبون الحظ، منحط الدرجة في الإسلام، مضاهي كتاب ربه بالرد، هذا مع ما يلحقه من لعنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: " لا تسبوا أصحابي، من سبهم فعليه لعنة الله (1) . ذكر زكاة أصناف الأموال: * * * قوله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) يقال: إنها نزلت في أربعة نفر من الأنصار، جد بن قيس.   (1) رواه الإمام أحمد في فضائل الصحابة 11/ 54) ح (11) ، والطبراني في الأوسط 2/ 503) ح (9867) - وأورده الهيتمي في مجمع الزوائد (10/ 21) ، وابن حجر في المطالب العالية (4/ 149) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 وأبي لبابة وخذام، وأوس. وهم الذين قال الله تبارك وتعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) وكانوا وعدوا أن يجاهدوا ويصدقوا. وإذا كانت الآية نازلة فيهم أحاط العلم أنهم كانوا غير مالكين لجميع أصناف الأموال من الناض والماشية والنبات والأمتعة. فليس لأحد أن يوجب على جميع الأموال الزكاة إلا ما خصت بالإسقاط عنها، بل عليه أن يجعل الأمر بأخذ الصدقات خاصَّا على بعض الأموال دون بعض، وهو موضوع بشرحه في كتاب الزكاة. ومن الدليل على صحة ما قلناه قوله على أثر الكلام: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 أي - والله أعلم - التي كانوا وعدوها؛ لأن الياء في " يعلموا " إخبار عن الغائبين. ذكر صفة الشاهد: * * * وقوله: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) دليل على أن شهادة المؤمنين مقبولة لبعضهم على بعض بالخير والشر، ولا تقبل إلي شهادة من جمع مع الإيمان أمانة وفضلا واتقاء لربه ومروءة، لأن المؤمنين الذين رأوا أعمال هؤلاء مع الله ورسوله كانوا كذلك، لا أن شهادة كل من شمله اسم الإيمان مقبولة، وإن كان بضد ما وصفنا به أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذين رأوا أعمال القوم معه، وذلك أنهم شهداء الله في أرضه، ولا يجوز أن يكون بها شهداء إلا المبرئين من العيوب، الطاهرين من أدناس الذنوب، أمناء فيما يقولون وعليه يشهدون، لا يحملهم شنآن قوم على قول القبيح فيهم بغير علم، علماء بما يكون جرحا ظاهرا، لا يتأولون على المرمى بآرائهم، يتوقون أن يجرحوا إلا بالنصوص المتيقنة المؤدية إلى حقائق الجرح دون غيرها، فإن كثيرا من الناس يرى الشيء محرما بتأويل فيه فيدين الله به وغيره يراه محللاً وهو أمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 يقتدي بصالح سلفه وصحابة نبيه، صلى الله عليه وسلم، قد تبين موضع الحجة فيما أداه إلى تحليل ما أدى الشاهد الآخر إلى التحريم. وإذا لم يجرح الرجل بالنصوص التي يستوي المجروحون بها في الذم، خاطر بدين السامعين بشهادته، وسيما إن كان مرموقا بعيد التوقي، فلعلهم يهجرون المشهود عليه بشهادته، والهجران محرم، أو تكون شهادته عليه بالخير في نحو ذلك، فيغر من يذكر إليه ويستنيم إلى حسن الثناء عليه من أمن عنده، فيودعه أمواله أو يناكحه، ويبايعه، ويشاركه، فيكون فيه هلاكه. وما استشهدنا به من دليل هذه الآية في شهادة المؤمنين قد روي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مثله في رواية سلمة بن الأكوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 قال: كنا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في جنازة، فأثنى القوم عليه ثناء حسنا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " وجبت " فقيل: يا رسول الله، ما وجبت " قال: " الملائكة شهداء الله في السماء، وأنتم شهداء الله في الأرض، فإذا شهدتم وجبت ". وقرأ رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) . المعتزلة: وقوله (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) حجة على المعتزلة واضحة إذ قد جمع بين الإضلال والهدى منه ولزوم الحجة للمضلين أو المهدين في آية واحدة متصلة المعاني بعضها ببعض، لا يقدرون أن ينفصلوا منها بدعاويهم الباطلة، فإذا كان المضلون مأخوذين ببيان ما يتقون لهم فأي شيء يلتمسه أوضح من هذا، ولا أحسب قوله: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) الأعلى هذا المعنى، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 وفيه من جهة الفقه أن الله - جل جلاله - قد بين المحرمات وفصلها من حيث لا التباس فيها، ولا يكون ذلك إلي منصوصا، إذ ما يكون اتقاؤه بالرأي والقياس لا يستوي الجميع فيه وهو غير مشكل لمن تبينه. * * * قوله: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ) إلى قول: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) حجة عليهم في عدم الوصول إلى التوبة المدعو إليها الخليقة إلا بمعونة منه - جل جلاله - ونحن لا ننفي الاستطاعة مع الفعل في الخير والشر عن المأمورين المنهيين بكل حال، ولكنا نزعم أن عامل الخير محتاج إلى توفيق لا يتم أمره إلا به، ومجتنب الشر محتاج إلى عصمة تحول بينه وبين ما تنازع إليه نفسه الأمارة بالسوء، فإذا لحقتها رحمة ربها أمدت بالعصمة، فحيل بينها وبين المعصية كما حيل بين يوسف، صلى الله عليه وسلم، وبينها بعدما هم بها، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) . وكل ذلك من الخير والشر بقضاء سابق، والخلق ميسرون لما خلقوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 له من خير أو شر، وعلم ذلك مخزون عنهم ومنفرد به من خلقهم، فمن زاحمه فيه تقدم إلى الباطل على بصيرة، وقد حرص موسى بن عمران، صلى الله عليه وسلم، على تعرف ذلك، وسأل عيسى بن مريم، صلى الله عليه وسلم، ربه، فمنعا، صلى الله عليهما وسلم، وألح فيه عزير فمحى الله اسمه من النبوة، ومع ذلك   (3) ذكر إلحاح العزير في السؤال عن القدر ومحو اسمه من النبوة وما تقدم من سؤال موسى عليه السلام، وعيسى عن القدر - الطبراني من طريق ميمون ابن مهران عن ابن عباس وهو بتمامه كما يلي: عن ابن عباس قال: الما بعث الله موسى، عليه السلام، وأنزل عليه التوراة قال: اللهم، إنك رب عظيم، ولو شئت أن تطاع لأطعت، ولو شئت أن لا تعصى ما عصيت، وأنت تحب أن تطاع وأنت في ذلك تعصى، فكيف هذا يارب، فأوحى الله إليه: أني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون. فانتهى موسى. فلما بعث الله عزيرا وأنزل عليه التوراة بعد ما كان رفعها عن بنى إسرائيل حتى قال من قال: إنه ابن الله قال: اللهم، إنك رب عظيم ولوشئت أن تطاع لأطعت، ولو شئت أن لا تعصى ما عصيت، وأنت تحب أن تطاع وأنت في ذلك تعصى، فكيف يارب، فأوحى الله إليه له أني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون. فأبت نفسه حتى سأل أيضا فقال: أتستطيع أن تصر صرة من الشمس، قال: لا. قال: أفتستطيع أن تجيء بمكيال من ريح، قال: لا. قال: أفتستطيع أن تجيء بمثقال من نور، قال: لا. قال أفتستطيع أن تجيء بقيراط من نور، قال: فهكذا إن لا تقدر على الذي سألت، إني لا أسال عما أفعل وهم يسألون، أما إني لا أجعل عقوبتك إلا أن أمحو اسمك من الأنبياء فلا تذكر معهم. يمحى اسمه من الأنبياء فليس يذكر فيهم وهو نبي. فلما بعث الله عيسى ورأى منزلته من ربه وعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، قال: اللهم، إنك رب عظيم، لو شئت أن تطاع لأطعت ولو شئت أن لا تعصى ما عصيت، وأنت تحب أن تطاع وأنت في ذلك تعصى، فكيف هذا يا رب، فأوحى الله إليه: أني لا أسال عما أفعل وهم يسألون، وأنت عبدي ورسولي وكلمتي ألقيتك إلى مريم وروح مني، خلقتك من تراب ثم قلت لك: كن، فكنت، لئن لم تنته ليفعلن بك كما فعلت بصاحبك بين يديك ... إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون. فجمع عيسى من تبعه وقال: القدر سر الله فلا تكلفوهم. اهـ أورده الهيتمي في مجمع الزوائد (7/ 199، 200) وقال: ( ... وفيه أبو يحيى القتال وهو ضعيف عند الجمهور، وقد وثقه ابن معين في رواية وضعفه في غيرها، ومصعب بن سوار لم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح. وأورده السيوطي في الدر المنثور (5/ 622) وما بعدها. وذكر سؤال عزير عن ذلك وحده ونهي الله له عن ذلك ثم عقوبته - الآجري في الشريعة ص (236) ، واللالكائي في " أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لا (4/ 727) ومابعدها، والبيهقي في الأسماء والصفات ص (221) . وأشار إليه ابن كثير في قصص الأنبياء ص (357) ثم قال (.. وهذا ضعيف منكرا وفي البداية والنهاية (2/ 42) وقال أيضا ( ... فهو منكر وفي صحته نظرا. وأورده السيوطي في الدر المنثور (6/ 622) وعزاه لابن أبي حاتم والبيهقي. ولا شك أن هذا من أخبار بني إسرائيل التي أغنى الله أهل الإسلام عنها بما أنزل عليهم وشرعه على لسان رسوله. قال الدكتور أحمد سعد حمدان في تعليقه على شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (728/4) عند ذكر ما جاء عن العزير (.. ونحن نعتقد أن مثل هذه القصة باطلة لا تصح وذلك لعدة أمور: - الأول: أن فيها إساءة إلى مقام الألوهية. وذلك لأن الله عز وجل عندما يختار أحدا من خلقه للرسالة أو النبوة فإنه يختار أفضل ذلك المجتمع في خلقه، وذلك لما في سابق علمه عز وجل عن خلقه، وهذا لم يتوفر في عزيرا حسب هذه الرواية، فيكون اختيار الله عز وجل لم يكن مصيبا تعالى الله وتقدس. الثاني: أن هذا طعن في مقام الأنبياء أنفسهم، إذ أنهم كانوا أول من يعصي الله عز وجل، فإنه إذا نهاه الله عز وجل عن أمر ولم يمتثل ثم نهاه أخرى ولم ينته فإن ذلك عصيان بين، ثم هو بلادة حس لا تليق بعوام المؤمنين فكيف تكون في مصطفين أخيار؟! الثالث: أنها تحمل في ثناياها هدم هذا البحث الذي قدمه المؤلف في إثبات القدر من أساسه، وذلك لأن اختيار الله عز وجل لعزير يعني أنه لا يعلم ما سيكون منه في المستقبل، فلما اختاره وظهر له عدم طاعته جرده من وصف النبوة) ثم قال ( ... وبهذا يتبين بطلان هذه القصة الإسرائيلية والتي تروى عن ابن بنت كعب الأحبار نوف البكالى ... ) إلخ كلامه فراجعه فإنه مفيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 فالخلق غير محتاجين إلى معرفته ولو احتاجوا إليه لما منعوا، والله أعلم. ذكر النفير: قوله (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 حجة في أن النفير والنفقة فرضان على الكفاية، وحجة عند المحصلين في قبول خبر الواحد؛ إذ لم يلزمهم الحذر بنذارتهم إلا وقد لزمهم خبر من أنذرهم، وكل واحد منفرد بنذارة قومه، والحجة بخبره لازم للمخبر عنه. المرجئة.: * * * قوله: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 حجة على المرجئة فيما ينكرونه من زيادة الإيمان ونقصه، وهذا نص القرآن ينطق بزيادته كما ترى. ذكر الطهارة: * * * قوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) قد بين بلا إشكال أن الرجس لا يكون نجسا بكل حال، إذ السورة لا تزيد أحداً نجاسة، وإنما زاد هؤلاء جحودهم بها كفرا إلى كفرهم، والرجس هو: الكفر، والشرك بفعله نجس، وهكذا اللاعب بالميسر وشارب الخمر وعابد الأنصاب أنجاس بأفعالهم، لا أن الميسر والخمر والأنصاب أنجاس الذوات، ولكنها أفعال نهي عنها فاعليها، فصارت أرجاسا، وقد لخصناه في أول السورة عند قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 سورة يونس ذكر تعليم منازل القمر: * * * وقوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) دليل على تعرف منازل القمر، وتعلم الحساب وأنه من العلوم النافعة التي قد ندب الناس إلى تعلمها، وليس بمشغلة عن الدين. * * * وقوله: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ) (إلى) فيه بمعنى اللام، والله أعلم. وهو من المواضع التي يحسن فيها، ما لم يتقدمها لفظ النظر كما يزعم المعتزلة والجهمية أن قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) معنى لربها منتظرة متى يثيبها، وهذا منهم جهل بلسان العرب، وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 لخصناه في كتاب الرد على الباهلي (1) . * * * وقوله: (كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) حجة عليهم في التزيين. ذكر وجوب السنة: وقوله!! : (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) دليل على أن سنن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كلها مسنونة بوحي، وهي إذا صحت برواية الثقات، لزمت لزومه. وفيه رد للقياس، إذ كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مع جودة خاطره وفضله فيه على جميع أمته، لا يخترع من تلقاء نفسه حكما ولا تحدى فيه على حكم إلا ما يوحى إليه، فمن بعده أحق أن لا يكون لهم إلا ما نص عليه لهم، غير متخذين اختراعهم وتشبيهاتهم - التي لا يأمنون فيها من الخطأ والزلل - دينا بين عباد الله، تحكم لهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 وعليهم حكم النصوص التي مما لا ارتياب فيها أنها الحق. رد على المعتزلة: * * * قوله: (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) حجة على المعتزلة والقدرية لذكر الكلمة السابقة التي ما يؤمنون بها ألبتة، وهي - والله أعلم - في اختلافهم أنهم يختلفون. قوله: (قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا) حجة على المعتزلة والجهمية في ذكر المكر. * * * قوله: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) حجة عليهم شديدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 فيما يزعمون أن كل فاعل منفرد بفعله من غير أن يكون معانا عليه، وقد أخبر الله نصا - كما ترى - أن من يسير في البر والبحر هو يسيره. وفيه حجة في خلق الأفعال، لأن السير فعل متصرف في الخير والشر لا محالة، والله يسير كل سائر كما ترى. فإن قيل: فقد قرئ: " هو الذي ينشركم " بالنون والشين (1) ؟ قيل: قرأه أبوجعفر يزيد بن القعقاع وحده دون سائر القراء، وليس بخارج عما أردناه، لوقوع الفعل عليهم بالنشر والتسيير. قوله (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا) فأنث الصفة ثم قال: (جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ) ولم يقل: عاصفة، فيشبه - والله أعلم - أن يكون رده على لفظها. وفيه حجة لمن يفعل ذلك.   (1) وهي قراءة سبعية قرأ بها ابن عامر وأبوجعفر. انظر في ذلك تفسير الطبري (11/ 100) ، والمبسوط في القراءات العشر في القراءات العشرة (170) ، حجة القراءات في القراءات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 ذكر الخصوص والعموم: * * * قوله: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) حجة على المعتزلة والقدرية شديدة؛ لأن الدعوة عامة والهداية خاصة. * * * قوله: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) حجة على الجهمية، إذ هم يقولون بأخبار الآحاد ويثبتونها. ومشهور عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " الزيادة النظر إلى وجه الله، تبارك الله وتعالى ". * * * قوله: (كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 حجة على المعتزلة والقدرية واضحة. فكيف يقدر على الإيمان من هذه سبيله لو تدبروه،. ذكر الظن: * * * وقوله: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) دليل على أن الظن لا يجوز استعماله في حال من الأحوال، إذ ما لا يغني من الحق شيئا ليس بحق، وضد الحق الباطل. وقد يجوز أن يكون قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) مصروفا بعضه الذي هو إثم إلى السيىء من الظنون، وسائره إلى الحسن منه، إذ كان من الظنون ما هو حسن وما هو سيئ، وقد جمعهما اسم واحد، ومع ذلك، فهو من الأضداد، إذ يكون بمعنى الشك وبمعنى العلم، والله أعلم بما أراد بالبعض الآخر، وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جملة: " إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث " كما ذكره الله جملة ههنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 في سورة يونس. * * * قوله: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ) نظير ما قبل هذا أن الميت بعد المساءلة لا يعلم شيئا ولا يشعر بطول المكث في القبر. قوله: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) حجة على المعتزلة والقدرية في أمره رسوله، صلى الله عليه وسلم، بالتبرؤ من الضر والنفع إلا بمشيئته، وقد شرحته في سورة الأعراف. قوله (فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) عرف بالألف واللام - والله أعلم - لقوله: (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 ، وكأن موسى لما ألقوا قال لهم: هذا الذي جئتم به أنتم هو السحر الذي نسبتموه إلى الحق، والحق لا يكون سحرا. وفي حرف عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب " سحر " بغير تعريف إلا أن أحدهما قرأ: " ما آتيتم به " والآخر " ما جئتم به ". وأحسب مجاهدا وأبا عمرو وأبا جعفر قرأوه على الاستفهام، استثقلوا تعريفه مع الاتصال فاستراحوا إلى الاستفهام اتباعا للخط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 وما قلناه معنى حسن لمن تدبره، والدليل عليه قوله: إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) . أفلا تراه أخبرهم أن الحق الذي جاء به فنسبوه إلى السحر يحققه الله، والسحر يحصل في أيديهم، والله أعلم بما أراد من ذلك. ذكر الذرية: * * * قوله: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) حجة في تسمية أشياء المختلفة باسم واحد؛ إذ اسم الذرية التي تعرفه العامة واقع على الصبيان والنساء دون الرجال البالغين قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لرجل في بعض غزواته: " الحق خالد بن الوليد فقل له: لا تقتلن ذرية ولا عسيفاً. والذرية تجمع الرجال والنساء البالغة والصغار، قالت الله - تبارك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 وتعالى -: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وقال (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) . وقال (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ) . وهي في هذا الموضع القليل كأنه - والله أعلم -: " فما آمن لموسى إلا قليل من قومه " كذلك حكي عن ابن عباس. ذكر الإيمان والإسلام: * * * قوله: (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) حجة لمن يقول: الإيمان والإسلام وإن فرق بهما اسم فجماعهما واحد. وفيه دليل على أن التوكل من الإيمان، وهو رد على المرجئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 ذكر صلاة الخائف: * * * قوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) حجة في تخلف الخائف عن الجمعة؛ لأن موسى وأخاه وقومهما - لا محالة - كان فرضهم أن يصلوا في مسجد بيوت المقدس، ولم يكن جعلت لهم الأرض كلها مسجدا وطهورا؛ إذ هذا من الخصال التي خص بها محمد، صلى الله عليه وسلم، وفضل بها على سائر الأنبياء، فأمرهما الله أن يصليا وقومهما في بيوتهم حيث خافوا فرعون وملأه أن يفتنوهم فلا نعلم صلاة حضورها فرض علينا إلا الجمعة، فإذا خشينا خوف وسعنا أن نصلي الظهر في بيوتنا ولا نحضر الجمعة. حجة الشافعي في أن العرب تبتدئ بالشيء من كلامها يبين آخر لفظها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 قوله (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا) حجة للشافعي - رضي الله عنه - فيما قال: إن العرب تبتدئ بالشيء من كلامها يبين آخر لفظها فيه عن أوله؛ إذ ابتداء القول في الدعاء إخبار عن موسى وحده دون أخيه، وآخره يدل على أن الدعاء كان منهما جميعا فيما يقول: (قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) . وفي دعوتهما حجة على المعتزلة والقدرية، ألا ترى أنهما دعوا عليهم بما يحول بينهم وبين الإيمان من الشد على قلوبهم، فأجيبا، فلو كان ما دعوا به محالا كما يزعمون لم يدعوا، ولو دعوا ما أجيبا. ذكر العلم: * * * قوله: (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 حجة لمن قال: من العلم ما يكون وبالاً ألا ترى أن الله - تبارك وتعالى - ذم هذا الاختلاف منهم، وقال (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) ة) . ويؤيده حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " إن من العلم لجهلا. قبول خبر الواحد: وقول: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) من أكبر الدليل وأوضحه على قبول خبر الواحد، لأنه - جل جلاله - لم يأمر رسوله، صلى الله عليه وسلم، بمسألة من أمر إلا وإذا أخبروه لزمته الحجة بقولهم، وكل واحد ممن يخبره منفرد لخبره، وإن صدقه غيره والحجة لازمة بقوله. * * * قوله: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 حجة على المعتزلة والقدرية واضحة. المعتزلة: * * * قوله: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) حجة على المعتزلة. ولقد بلغني عن بعض سفهائهم أنه قال: معناه: ولو شاء ربك لألجأ من في الأرض كلهم إلى الإيمان واضطرهم ولكنه تركهم مختارين. وهذا لو لم يكن خلافا للتلاوة وتركا لألفاظها، لكان في التأويل خطأ من غير إشكال. وكيف يكون كذلك وهو يقول: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) إذ الإذن هو الإطلاق، وقد دللنا على فساد قولهم في جعلهم الإذن علما في سورة البقرة وغيرها فأغنى ذلك عن إعادته. * * * قوله: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) فيه - والله أعلم - إضمار، كأنه قيل لي: أقم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 وجهك، وهو نظير ما مضى في سورة الأنعام: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 سورة هود * * * قوله: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) دليل على استنزال الرزق والعيش الطيب بالاستغفار والتوبة. ومثله إخبارا عن نوح، صلى الله عليه وسلم: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) . فلو أن رجلا ممن لا يولد له اشتهى أن يكون له ولد فاستغفر محتسبا مستعطفا به أولادا لولد له، وإن كان ميناثا (1) فأحب الذكور من الأولاد لم يعدمهم، فإن الله صادق في قوله لا يخلف ميعاده. ذكر الزنادقة: * * * قوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)   (1) الميثاء: هو الذي يلد الإناث فقط، ومنه قولهم: امرأة مئناث، ورجل مئناث إذا ولدا الإناث فقط وضده مذكار: الذي يلد الذكور. انظر لسان العرب (2/ 113) مادة أنث، والقاموس المحيط (1/ 167) مادة أنث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 ، وكذلك في سورة يونس: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) ، وقوله في سورة بني إسرائيل: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وكذلك قوله في سورة البقرة: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) حجة على الزنادقة والمعطلين؛ إذ عجز جميعهم عن إيراده، وقدرتهم على الأشعار والخطب ودقة الكلام في الحكمة والفلسفة والأسجاع العويصة - شاهد بصحته ودليل على منزله أنه حق واحد منفرد بما لا يشارك فيه. المعتزلة: وقوله: إخبارا عن نوح عليه السلام : (وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) حجة على المعتزلة والقدرية، خانقة لهم جدا لا يجدون عنها محيصا ولا عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 غيرها، وكيف يضربون عن هذه الآية وأخواتها ويفزعون إلى قوله: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) ،. وقد دللنا في سورة الأنعام على أنهم وضعوها غير موضعها بما يغني عن إعادته في هذا الموضع. * * * قوله: (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) حجة عليهم، فلولا أن القضاء سابق في سعادة المبادرين إلى الإيمان من قومه وبالشقاوة لمن تخلف عنه، ما كان لذلك معنى، ولكنه لما تكامل إيمان من قسم له أوحى إليه أنه لن يؤمن غيرهم. * * * قوله: (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) حجة عليهم. * * * وقوله: (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) حجة عليهم وعلى الجهمية في أن الاستواء الاستقرار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 معنى القوم: قوله إخبارا عن هود، صلى الله عليه وسلم: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا) . * * * وقوله: (يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) وما قال: (ومن قوم موسى) وكل ما في القرآن من ذكر القوم دليل على أن القوم وإن انفرد به الرجال في حال فهو يجمع الرجال والنساء في أكثر الأحوال، لإحاطة العلم بأن ذكر القوم في هذه الأمكنة قد جمع الرجال والنساء، وأن كل أمة سميت بالقوم وبعث إليها نبي، فهو مبعوث إلى الرجال والنساء. فأما الموضع الذي يكون القوم فيه رجالا دون النساء فقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ) . قال زهير: وما أدري ولست إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 قوله تعالى: (فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) حجة على المعتزلة في إيفائه إياهم نصيبهم من عبادة الأوثان، والله أعلم. وكذلك قوله: (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ) وهذه واضحة قاطعة كل ارتياب لهم لو تدبروها، فقد جمعت أيضا الأعمال منه لكل، وقد دخل فيه الكافر والمؤمن والعامل بالخير والشر. الصلوات الخمس: * * * وقوله: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) دليل على أن الصلوات الخمس تمحو الخطايا كما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، فماذا عسى يبقى من درنه؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 و (طرفي النهار) : الفجر والعصر، (وزلفا من الليل) : المغرب والعشاء. وقال في موضع آخر: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) فهي: الظهر (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) فقد دخل فيه العصر والمغرب والعشاء ثم قال ((وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) . فهذا ذكر الصلوات الخمس في القرآن. وقد ذكر الفجر وعشاء الآخرة بلفظهما في سورة النور فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ) . وقال في سورة البقرة: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 وروي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنها: العصر؛ لأن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين. المعتزلة: * * * قوله: (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) . حجة عليهم واضحة. قوله (وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ) . قالوا: في هذه السورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 وقال الحسن: في الدنيا وهو أشبه - والله أعلم - لأن الحق جاءه في السور كلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 سورة يوسف ذكر تسمية الجد أبا: قوله تعالى إخبارا عن يعقوب: (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ) حجة في تسمية الجد أبا، لأن إسحاق جد يوسف وإبراهيم جد أبيه. ذكر الشراة: قوله إخبارا عن إخوة يوسف: (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) مع كل ما ذكرهم به من الغدر بأخيهم وإلقائه في الجب، وكذبهم بعد رجوعهم إلى أبيهم رد على الشراة، فيما يزعمون أن الذنوب كفر، إذ ليس يقدرون أن يكفروهم وهم أنبياء، وقد فعلوا تلك الأفاعيل كلها، ثم أخبر عنهم في آخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 السورة بعد ندامتهم: (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) ولم يقولوا كفرنا، ولا رد الله عليهم ولا أبوهم قولهم. * * * وقوله: (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) وهم رجال وقول النابغة. .............................. وما أحاشي من الأقوام من أحد إلا سليمان .............. ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 ذكر ما روي أن البلاء موكل بالمنطق إخباراً عن يعقوب: قال: (قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) يؤكد أن البلاء موكل بالمنطق، لأنهم لم يعتلوا على أبيهم إلا بالشيء نفسه الذي سمعوه ينطق به لا غيره. ذكر البكاء: وقوله: " (وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) دليل على أن البكاء يكون من الفرح، ويكون كذبا وصدقا؛ إذ بكاؤهم لا يخلو من أن يجمع المعنيين، أو أحدهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 ذكر البيوع: * * * قوله تعالى: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ) دليل على أن الشراء قد يكون بمعنى البيع، إذ " شروه " لا محالة باعوه. وفيه حجة أن بيع الأحرار ظلم، وما أخذ من أثمانهم حرام؛ لأن الثمن البخس هو الحرام المأخوذ بظلم، قال الله تبارك وتعالى: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) . ثم قال: (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ) أي أخذه بالثمن. تسمية المخلوق بالرب: * * * قوله: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) حجة في أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 تسمية المخلوق بالرب غير منكر ولا حاط درجة الناسكين. وفيه بيان أن يوسف، صلى الله عليه وسلم، كان يضع نفسه مع صاحبه موضع المماليك ويسميه ربا. (1) وفيه بيان أن محافظة الحسن إلى الإنسان من أخلاق الأنبياء وذوي الفضل، وأن حرمة نسائهم أعظم من غيرهن؛ إذ في مواقعة المعصية معهن سوى تحريم الزنا خيانة وإضاعة حرمة. تسمية المخلوقين بالسادة: * * * قوله: (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ) حجة في أن تسمية المخلوقين بالسادة جائز لا يضر ناسكا ولا غيره. ذكر إباحة الانتصار: قوله إخبارا عن امرأة العزيز، ((قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)   (1) هذا بناء على أن المراد بقوله: (إنه ربي) عزيز مصر، وهو قول مجاهد والضحاك. وهناك قول بأن المراد بالرب هنا هو الله سبحانه وهو قول الزجاج. وانظر في ذكر هذين القولين في تفسير الآية تفسير الطبري (12/ 182) وتفسير للماوردي (2/ 258) ، وزاد المسير (4/ 253) ، تفسير القرطبي (9/ 165) ، التفسير الكبير (5/ 54) ، وروح البيان للألوسي (12/ 212) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 حجة في إباحة الانتصار ومقابلة الظالم بمثل فعله. قوله إخبارا عنها: (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) . دليل على صحة استفزاز المرء بالمواجيد حتى يفعل ما لايشعر به. غير أنه في الباطل، لأن ما أبهتهن من رؤية يوسف لم يكن بتأمل حق، وهذه حجة الصوفية وهي عليهم، لأنهن رأين رؤية عين، وهم لا يرون رؤية عين. ذكر المعاقبة: قوله إخبارا عنها: (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 حجة في أشياء: فمنها: ما دل آخر الكلام على أوله من أن النسوة كلهن اشتركن في مراودة يوسف وإن كان الخطاب في أول الكلام من امرأة العزيز بالوعيد له إن عصى أمرها. وهو نظير ما مضى في سورة يونس في قوله إخبارا عن دعوة موسى، صلى الله عليه وسلم: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا) . ومنها رد على المعتزلة والجهمية: فيما يزعمون أن الإنسان مالك نفسه، لا يحتاج إلى عصمة ربه عن المعاصي. وهذا نبي الله يوسف - صلى الله عليه وسلم - يدعو بصرف كيدهن عنه علما منه أن العصمة هي التي تنجيه وتحول بينه وبينه المعصية، فأخبر الله عن إجابة دعوته وصرف عنه كيدهن كما ترى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 ومنها: أن قول يوسف، صلى الله عليه وسلم: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) وإبلاء الله - جل وعلا - إياه اتعاظ لغيره أن لا يختار على سؤال العافية شيئا، وقد روي عن معاذ بن جبل أن النبي، صلى الله عليه وسلم، مر برجل وهو يقول: اللهم إني أسألك الصبر، فقال: " سألت الله البلاء، فاسأل الله العافية، وأنه، صلى الله عليه وسلم، عاد رجلا قد صار مثل الفرخ، فقال: " ما كنت في داعيا به، فقال: كنت أقول: اللهم ما كنت معذبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقد صرت كما ترى، فقال: " ألا قلت: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ". وروي في بعض الأخبار: أن يوسف، صلى الله عليه وسلم، لو سأل العافية ولم يسأل السجن لأعطي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 قوله: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) قد صح من حيث لا ارتياب فيه أن البلاء موكل بالمُنْطَقِ، وذلك أن هذين لم يكونا رأيا ما قالا، وكأنهما تحالما وبليا. قوله: (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) . نظير ما مضى في إباحة تسمية المخلوق بأسامي الخالق، ألا ترى أنه أخبر به عن نبيه، صلى الله عليه وسلم، ثم ذكره هو جل وعز، وكذلك قوله (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ) . وكذلك قوله: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) (قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ) ، وكل هذا حجة واضحة في إباحة ذلك، وقد لخصناه في سورة آل عمران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 قوله: (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) قد حقق ما قلناه في: (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) . ذكر تطرية النفس: قوله إخبارا عن يوسف، صلى الله عليه وسلم: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) حجة في تطرية النفس بالحق عند الحاجة إليها، ولا يكون من التزكية النهي عنها بقوله: (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) . وفيه أيضا حجة في تسمية المخلوقين بأسامي الخالق، إذ الحفيظ والعليم جميعا من أساميه جل وعز. خصوص في ذكر العموم وذكر الطاعة ونيل الدنيا: * * * قوله: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 دليل علي أشياء: فمنها: الخصوص في ذكر العموم، إذ لا محالة تمكين يوسف لم يكن في جميع الأرض بل كان بأرض مصر ومخاليفها دون سائر الأرض. ومنها: أن الطاعة تثمر الرزق في الدنيا ويعطى المؤمن الأجر عليها في الدنيا ولا ينقص ذلك من ثوابه عند الله شيئا، كما يعطى الكافر بالشيء يسكن له في الدنيا ولا يكون له في الآخرة نصيب. ومنها: أن نيل الدنيا إذا لم يشغل عن الآخرة غير مذموم، ويكون المعطى به موصوفا غير مسخوط عليه، وأنه وإن كان كذلك، فأجر الآخرة خير منه، لقوله - تبارك وتعالى - من قائل: (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) . تطرية: قوله إخبارا عن يوسف، صلى الله عليه وسلم: (قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) أوضح حجة وأبلغها نهاية في تطرية النفس عند الحاجة وتسميتها بأسامي الخالق، ألا تراه يقول في سورة المؤمنين: (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 فقد سمى يوسف، صلى الله عليه وسلم، نفسه بخير المنزلين في المعنى الذي أراده، ولم يكن منكرا عليه ولا مستقبحاً منه. وفيه حجة لمن يقول إذا أراد مدح إنسان: فلان خير من فعل كذا، وفلان أحسن الناس وجها، وإن كان في الناس من هو خير منه وأحسن، إذا أضمر القائل ناس عصره، وعزل من تقدمهم من الأفضل بنيته، فلا يكون كاذبا ولا آثما بما يدل عليه ظاهر قوله. وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " ألا أخبركم بخير الناس منزلة، رجل آخذ بعنان فرسه يجاهد في سبيل الله كلما سمع صيحة طار إليها " فلا يكون هذا الرجل خيرا من الأنبياء وصحابة الأنبياء، ولكنه خير أشكاله. ويدخل في هذا المعنى أن الخبر المروي في علي - رضي الله عنه -: " أنه خير البشر" (1) .   (1) أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (192/3) . وابن الجوزي في الموضوعات (1/ 347) وقال: لا يصح عن رسول الله. والذهبي في المغني في الضعفاء (155/1) في ترجمة الحر بن سعيد النخعي (167/1) وفي ترجمة الحسن بن محمد بن يحى العلوي، وفي الميزان (1/ 472) وقال: إنه باطل. وأورده الشوكاني في الفوائد المجموعة ص (347، 348) وقال عنه: موضوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 " وخير من ترك بعد النبي، صلى الله عليه وسلم، أو خير من خلف بعده " بكلا اللفظي لو صح أيضا كان يكون على هذا المعنى، فلا يكون خيرا من الأنبياء والذين هم من البشر، ولكنه خير من البشر الذين هم دونه، ولا خير من أبي بكر وعمر وعثمان الذين خلفوا بعد النبي، صلى الله عليه وسلم، ولكنه خير ممن بعدهم من المخلفين، فإما أن يقروا بهذا في علي - رضي الله عنه - وإما أن يكفروا بالله، فيزعمون أن يوسف خير من ربه - جل وتعالى - والآخذ بعنان فرسه خير من نبيه، صلى الله عليه وسلم، وهذا عظيم القول، وما بيناه واضح غير مشكل ولا ملتبس عند من تدبره. ذكر الاحتراز من العين: وقوله إخبارا عن يعقوب - صلى الله عليه وسلم -: (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا) حجة في الاحترازات خشية العين، لأن يعقوب، صلى الله عليه وسلم، نبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 وقد فكر في هذا وربه - جل وعلا - وإن كان قد بين أن احترازهم لم يغن عنهم شيئا، فلم ينكر وصاة أبيهم بذلك، وقال نبينا، صلى الله عليه وسلم: " العين حق ولو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين ". وفيه حجة على من ينفي القدر؛ لأن العين وإن كان حقا فليست تصيب إلا بقدر. ذكر المعاريض: * * * قوله: (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) إلى قوله: (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 حجة في جواز المعاريض، بل في إباحة الكذب فيما دعا إلى الصلاح والخير، ودفع الحرج فيه. وزوال المأثم في تكريره، وهو يؤيد حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " لا يصلح الكذب إلا في ثلاث أحدها: في الإصلاح بين الناس " ودليل في أن الوصول إلى الحقوق وصلاح ذات البين مباح بالحيل. وأن الحيل المنهي عنها المعدودة من أبي حنيفة - رضى الله عنه - ذماً هي فيما أحل حراما أو حرم حلالا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 وأن البلاء موكل بالقول فيما تشمئز منه النفوس أو يكون صفرا من المنافع، لأن يعقوب، صلى الله عليه وسلم، حيث قال: (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) قاله بقلب وجل ونفس مشمئزة. والمتحاملين ليوسف، صلى الله عليه وسلم، كذبا في رؤياهما تطربا وعبثا. فأما ما دعا إلى الصلاح من المواطئة على الأمور التي تجدي المنافع فبعيد من البلوى وجدير بأن يبلغ صاحبه إلى الحظ الأوفى. ذكر المحبة: * * * قوله: (قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) حجة في أن الحبة والشوق يبليان ويهلكان، والحرض: البالي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 الخالة بمنزلة الأم: * * * قوله: (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) دليل على أن الخالة بمنزلة الأم، لأن أم يوسف، صلى الله عليه وسلم، كانت ميتة. وإنما آوى إليه أباه وخالته، وكان يعقوب جمع بين أختين " ليا، وراحيل " أحلهما الله له. معنى العرش: * * * قوله: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) حجة في أن العرش هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 السرير - لا محالة - وأن عرش الله أيضا - جل جلاله - هو سريره الذي استوى عليه لا العلم كما يزعم الجهلة من الجهمية. : معنى خروا له سجداً: * * * قوله: (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا) يعني أبويه وإخوته وكان تحيتهم إذ ذاك، فأبدل الله هذه الأمة بها السلام. * * * وقوله: (وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا) يعني قوله في أول السورة: (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) . فكانت الكواكب إخوته، والشمس والقمر أبويه - أباه وخالته - هذا قوله بعض المفسرين أو معنى قوله. وأما الذي عندي في: (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا) أي: خر يوسف وإخوته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 وأبوه وخالته سجدا لله حيث جمع شملهم بعد تبديده. وسجود الشمس والقمر والكواكب له في المنام تأويله: ما أعطاه الله من الملك ومكنه من السلطان في البلاد والأمر والنهي والاجتباء، والنبوة، وتعليم الأحاديث، وقد أخبر ببعض ذلك عن أبيه في تأويل الرؤيا في أول السورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 سورة الرعد * * * قوله: (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) دليل على أن في النخيل ذكرا وأنثى؛ لأن النخيل من الثمرات، لقوله: (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ) وكذلك كل ثمرة. ذكر الجهمية: * * * قوله تعالى: (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) رد على الجهمية؛ إذ قد عجب - جل وتعالى - من كفرهم بالبعث، والعجب عندهم منفي عنه من أجل أنه من صفات المخلوقين، وقد حكاه عن نفسه - جل وتعالى - كما ترى، وليس شيء من صفاته مخلوقا، وإن شاركه المخلوق فيه بالاسم؛ إذ هو من المخلوق مخلوق، ومنه - جل وتعالى - غير مخلوق. وروي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " عجب ربنا - تبارك وتعالى - من قوم يقادون في السلاسل إلى الجنة وهم كارهون "، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 " ويعجب من شاب ليست له صبوة ". * * * قوله: (وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) حجة عليهم، والمحال: المكر وقالوا: الحيلة، وقالوا: الحول والقوة، (4) .. " ذكر محاسبة الكفار: * * * قوله: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) . حجة في أن الكفار يحاسبون، ومثله قوله في سورة النور (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) . وفي قوله في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 سورة الحاقة ما الحاقة: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) ثم قال في تمام الآية: (إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) فدل أنه في الكافر. * * * قوله تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) . وكذلك قوله: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا) حجة على المعتزلة والقدرية. * * * قوله: (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) حجة عليهم واضحة. قول: (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) حجة عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 سورة إبراهيم * * * قوله تعالى: (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) حجة على المعتزلة والقدرية بينة، لحكمه بالإخراج عليه، واشتراطه إذنه. والإذن: الإطلاق. * * * قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) حجة عليهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 قياس. * * * قوله: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِر َ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَ شَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) حجة في إبطال القياس لمن تمَيزه، وغاص (عليه. ألا ترى أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 الكفار كيف أردوا رسالة الرسل، لأن رأوهم يشبهونهم في البشرية. فكان عندهم أن الشيئين إذا استويا في الشبه وجب أن يستويا في الحكم. وكان محالاً عندهم أن يكون بَشَرٌ وَبشَرٌ يرسل أحدهما، ويفضل بالرسالة على شبهه في الجنسية، فصدقتهم الرسل فيما ادعوا عليهم من مساواة الجنسية، وخالفوهم في إيجاب مساواة الجنسية مساواة الحكم فقالوا لهم: (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) . ثم أكدوا ذلك بما أعلموهم أن ليس لأحد أن يحكم على غيره بحكم دون إطلاق الله إياه فقالوا: (وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) . فيقال لمثبتي القياس: ما أنكرنا منكم أن المسميات بتحريم التزايد فيها من الأنواع الستة مشابه من المسكوت عنه، ولكن إطباق الرسل على أن متشابه الأشياء لا يوجب الجمع بين أحكامها، حاظر علينا أن نجمع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 بين المسكوت عنه والملفوظ به في التحريم حتى يكون من الله جل جلاله، أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - المفروض طاعته، أو جماعة المسلمين المعصومين من الخطأ - إِذْنٌ في جميع أحكامها كما ابتدأ الملفوظ به المنصوص عليه بحكم التحريم، وكما ابتدأ الرسل بالمن عليهم، وباين بينهم وبين أشباههم المساوين في البشرية فخصهم بالرسالة، ثم لم يجعل حكم سائر المساوين لهم في الجنس أحكامهم في الرسالة، لأن أشبهوهم في الجنسية، فهلا يعتبر المعتبر أن الله - جل جلاله - لما ابتدأ على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض المتساويات في الأشباه، والمتفقات في الأغذية والأقوات بتحريم التزايد فيها كيف شاء لا معقب لحكمه لم يكن للناظر في سائر أشباهها أن يُسَوِّيَ بين أحكامها، كما لم يكن للمبعوثين إليهم أن يسووا بينهم وبين رسلهم في إبطال رسالتهم لأن أشبهوهم في البشرية. فهذا واضح لا إشكال فيه عند من شرح الله صدره، وَدَاله على أن للأشباه وإن اعتدلت في المثل، واتفقت في العنى لم يوجب بأنفسها اتفاق أحكامها في تناولها وحظرها، لأن اعتدال أنفسها اعتدال خِلْقة. وتناولها حكم عبادة وائتمار وانتهاء، فأحكام التناول منوطة بالمتعبد الآمر الناهي، غير مقتصر بها على اعتدال نفس تلك الأشباه، فمن وُفقَ لفهم هذا أغناه عن كثير من تطويل المطولين في نفي القياس. وَزَهَّده في سلك طريق القياسيين، وقرر عنده أن الأشياء متساوية المنافع معتدلة معاني ما يلتمس من أنفسها، متقاربة الخلق قبل نظر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 القائس فيه، ولكنها غير منبئة عن أنفسها بتحريم ولا بتحليل، فإذا حظر التعبد بعضها وسماها منفصلة بأساميها لم تجذب أشباه ذاتها إلى أنفسها حكم التعبد في غيرها، ولا عند القائس لو أنصف أوجب ذلك لاختلاف التعبد وأشباه تلك الأشياء في أنفسها إذا التعبد شيء والمتمول غيره. ذكر ضرب الأمثال. * * * قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ) . مع هذا النوع في السور حجة في ضرب الأمثال. باب الإذن. (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 رد على المعتزلة والقدرية فيما يزعمون أن الإذن من الله بمعنى العلم، لا أنه إطلاق فرارا مما يلزمهم في قوله: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) . فلو كان كما يقولون لكان المدخل إياهم الجنة فى هذه الآية غيره، هذا كفر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 ذكر كلمة الإخلاص. قوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) إلى قوله في الكلمة الخبيثة: (مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) دليل على أن كلمة الإخلاص جامعة للخير، نامية للحسنات، جالبة على قائلها كلما لفظ بها ثوابًا مجردًا، مثمرة له كل ما يقر الله به عينه في معاده إذا ورد عليه، وأن كلمة الكفر غير مثمرة لقائلها خيرًا. بل حاطة عنه خيرًا إن كان له، تاركة قائلها مفلسًا لا تنمي له شيئًا يقر الفَه عينه إذا ورد عليه. تثبيت المساءلة، ورد على المعتزلة. * * * وقوله: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 حجة على المعتزلة والقدرية، وبشارة لأهل السنة ومن يؤمن بالمساءلة في القبر، ودليل على أن القبر من منازل الآخرة. أفترى الميت باقي الاستطاعة يجيب سائله بحوله وقوته. وقد جمع الله - جل جلاله - بين تثبيته وتثبيت الحي في كلمة واحدة. أفلا يحقق لهم هذا أن قائل الشيء وفاعله - وإن كان قوله وفعله منسوبين إليه، لأنه قائلهما وفاعلهما - فغير قادر على الحقيقة أن يفعل خيرًا أو ينطق به إلا بالتوفيق، ولا الشر إلا بالخذلان، وهذا هو الوضع الذي لَبّس عليهم أمرهم ولم يعلموا أن الله - جل جلاله - لما كان له أن لا يشهد عباده خلق السماوات والأرض، ولا خلق أنفسهم أن يخزن علم هذا فينفرد هو به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 ويكون عنده عدلاً منتظما، وإن كان في عقول الجهلة جورًا متناقضًا. ورأيتهم مع جهلهم يؤمنون بأخبار الآحاد بل يحتجون بها في مصنفاتهم، ولكنهم صفاق الوجه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 قليل الرعة يتلقون ما لا يوافق هواهم، ويمتنع من تأويلاتهم المستنكرة بالرد. وقد صح في تثبيت الآخرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه في القبر إذا سئل مَن ربك، وما دينك، وأحسبهم لا يؤمنون بعذاب القبر ولا المسائلة خوفا مما يلزمهم في هذه الآية من جمع الله - جل وتعالى - بين التثبيتين، وبشارة من يؤمن بها جليلة في التثبيت. واللَّه لا يخلف الميعاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 ذكر رؤية الرب فى القيامة. * * * قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) و (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً) طَيِّبَة) (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) . وأشباهه في القرآن. يحتج به الجهلة من المعتزلة والجهمية في نفي رؤية العين عن الله - جل جلاله - في القيامة، ويزعمون أن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 " ترون ربكم يوم القيامة كما تَرونَ القمر ليلة البدر لا تُضَامُونَ في رؤيته " على هذا المعنى لا رؤية العين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 ونحن لا نخالفهم في هذا الموضع أنها ليست برؤية العين، غير أن الجمع بين هذه وبين حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جهل غالب، وغلط فاحش من وجوه: فمنها: أن هذه الأشياء كلها مذكورة في الدنيا، والرؤية في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الآخرة. ومنها: أن هذه الأشياء لا تتصرف (ترى) فيها، لأنها على معاني المجاز والاستعارة في كلام العرب، كما يقولون في إرادة الحائط قال اللَّه تبارك وتعالى: (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيد أَن يَنقَضَّ) ، ولا إرادة له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 كإرادة الإنسان التي تتصرف، لا يقال: ألم تر إلى صنيع زيد بعمرو رؤية، كما يقال في رؤية العين: رأيت الملك على سريره رؤية. ورأيت القمر أراه رؤية، ولا يقال: رأيت الله محسنًا إليَّ رؤية، ورأيته حكم في كتابه بكذا، ورأيته يأمر بقطع السارق، وجلد الزاني رؤية. قال زهير: ألم تر أن الله أهلك تبعًا وأهلك لقمان بن عاد وعاديًا فلم يجز لأحد أن يصرف هذا من قول زهير، وكان له أن يصرف قوله: نظرت إليه نظرة فرأيته على كل حال مرة هو حامله. أي نظرت إلى الفرس فرأيته يحمل الغلام على السهل، ومرة على الجبل. لأنه من رؤية العين. ومنها: أن قوله - صلى الله عليه وسم -: " كما تَرون القمر " قد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 قطع كل لُبسة أن الرؤية هي رؤية العين لا علم القلب، إذ محال أن يقول بصير: رأيت القمر وهو لايراه بعينه. ولقد بلغني عن سفيه من سفهائهم أنه قال: معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ترون ربكم كما ترون القمر لا تُضَامُون في رؤيته) . أي تعرفون ربكم يوم القيامة اضطرارًا لا شك فيها كما أن معرفتكم للقمر في الدنيا اضطرار لا شك فيه. فتأويله: أترى الأنبياء وأصحابهم والمؤمنون كلهم لم يعرفوا الله في الدنيا معرفة يقين لا شك فيها حتى يوافوا يوم القيامة فتزول شكوكهم في معرفته حينئذ، أو ترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) أمر بها لا وصول له إليه، أو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان شاكّا في علمه. أوليس يقول تبارك وتعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) ، ولم يزل ينفي الربوبية عن كل آفل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 من الكوكب والقمر والشمس حتى قال: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) ، فأداه ربه إلى اليقين الذي قال له: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) . أو ترى أنه - جل جلاله - حيث مدح المؤمنين بأنهم يؤمنون بالغيب مدحهم وهم شاكون في إيمانهم بأن الله ربهم، أو حيث قال: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) لم يصدقوه فيما قال قبل ورودهم القيامة، فماذا يقال لقوم يحملهم الحرص على تصحيح مقالتهم، والاحتجاج لباطلهم على مثل هذه الأمور الغلاظ الهائلة، بلِ المؤمنون والأنبياء والصالحون قبلهم كانوا كلهم موقنون بحقيقة ربوبية الله، وبكل ما دعاهم إليه من الحشر والنشر والقيامة قال الله تبارك وتعالى: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ) بل أكثر الكافرين أيضا يعلمون أن الله خالق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 الأشياء فضلا عن المؤمنين، قال الله تبارك وتعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) ، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) . وإذا كان كلما وصفناه كذلك بينا واضحًا فرؤية ربنا يوم القيامة هو لا محالة رؤية عين كما أن نظرنا إلى القمر في الدنيا رؤية عين، والاحتجاج على نفيه وإنكاره ب (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا) ، وأشباهه لا وجه له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 ذكر سعة لسان العرب. قوله إخبارًا عن إبراهيم: (رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) حجة لمن يقرأ في سورة الأنعام: (وَاَللَّهِ رَبِّنَا) بالنصب، لأن كل هذا من دعاء إبراهيم - صلى الله عليه - وكان في دعائه مخاطبًا ثم رجع إلى لفظ الخبر فقال: (وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) ، ولم يقل: وما يخفى عليك من شيء، فسواء رجع من لفظ المخاطبة إلى لفظ الخبر، ومن لفظ الخبر إلى لفظ المخاطبة إذ كل ذلك تحتمله سعة اللسان. فليس لاختيار الخفض في (رَبِّنَا) من أجل أن (وَاَللَّهِ) خبر وجه مع سعة اللسان تجيز كلاً ويسهل فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 سورة الحجر ذكر المعتزلة. * * * قوله تعالى: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) حجة على المعتزلة في الوعيد، إذ لو كانت ذنوب المسلمين تخلدهم مع الكفار في النار ما ودوا إسلامهم، ولا تحسروا ما رأوا من انتقال حالهم. ولو كان لا يسعد بالجنة إلا صالحوا المسلمين والأنقياء من الذنوب لكان - والله أعلم -: ربما يود الذين كفروا لو كانوا صالحين. أفلا يدلهم إعمال فكرهم في هذه الآية لو أعملوه على أنهم لا محالة مخلطوا المسلمين، ومن مات منهم بغير توبة، فأدخلوا النار بذنوبهم حتى إذا استوفوا عقوباتهم، أو ما أحب الله منها أخرجهم مِنَ النار وأدخلهم الجنة فتحسر أهل الخلود من الكافرين على ما به خرجوا وودوا حينئذ لو كانوا من أهله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 باب. * * * قوله: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) حجة عليهم في ذكر الكتاب الذي لا يؤمنون به بتة. فإن قالوا: الكتاب هو العدد لا ما جرى به القلم. واحتجوا بقوله تبارك وتعالى في المعتدة: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) ، وزعموا أن هذا هو العدد. قيل لهم: وهذا أيضا عندنا له مما جرى به القلم، لكنا نسامحكم في هذا الموضع فنقول: لا تعدون الكتاب إلا عددًا. أو ليس هو عدد أجلٍ مضروب للمهلكين قبل أعمالهم التي إذا عملوها مستوفاة على أنفسهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 انصرم مدة الأجل المضروب لهم فيها، فاستوجبوا الهلاك حينئذ، ولم يستوجبوا قبله بأول عمل عملوه. فإن قالوا: ليس بأجل مضروب لهم قبل العمل، ولكنها عدد أعمال إذا عملوها استوجبوا الإهلاك، أحالوا معنى الآية ونقضوا قولهم في باب الوعيد إذ من قولهم: إن الخلود واجب في النار على من مات بغير توبة من ذنب واحد، كما يستوجب بِعِداد ذنوب، وقد أخبر الله نصا كما ترى أنه لم يهلك قرية قط إلا بأجل معلوم، فالأجل إذًا على زعمهم مجهول غير معلوم وفي تسميته الأجل بالمعلوم أكبر الدليل على أنه قبل العمل لو تميزوه. إذ من قولهم: إن أعمال العباد غير مخلوقة، وهي مبتدعة باختيار عامليها إن شاءوا عملوهها، وإن شاءوا تركوها. فهل يجوز أن يكون لمن هذه سبيله أجل معلوم في الهلاك، والهلاك عقوبة ذنب عامله مستطيع لتركه. هذا ما لا يذهب على أفهام الفهماء إذا نظروا فيه بحسن روية، ونفاذ بصيرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 ذكر التأكيد فى كلام العرب. * * * قوله تعالى: (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) دليل على أن في كلام العرب تأكيدًا، بل جمع بين تأكيدين، لأن لأن (كُلُّهُمْ) تأكيد، و (أَجْمَعُونَ) تأكيد آخر) . فإن قيل: فما معنى قوله: (إِلَا إبليس) وإبليس من الجن لا من الملائكة بقوله في سورة الكهف: (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ) قيل: هو - واللَّه أعلم - مستثنى من الساجدين، لأنهم وإن كانوا ملائكة وإبليس جنيّا فكان في جملة المأمورين بالسجود لكينونته كان معهم حينئذ، والقرآن مختصر بليغ نازل بلغة العرب الذين يشيرون إلى المعاني تارة، ويؤكدون تارة، في لسانها من السعة ما فيه. وفي قوله: (يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) ، حجة فيما ذكرنا في سورة الأنعام عند انتهائنا إلى قوله: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) من أن في القرآن أشياء لا يجوز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 استعمال ظاهرها بتة إذا كان له معارض يدفعه، ولا يمكن توجيه ما عورض إلا باطراح ما عارضه، وبه يمكن استعمال المعارض بتوجيهها معًا، ألا ترى أن الله - جل جلاله - يستخبر إبليس عما هو أعلم به منه. أفيجوز لموحد أن يقول: إن الله تبارك وتعالى لم يعلم السبب الذي منع إبليس من السجود لآدم حتى أخبره. لا لعمر الله، لا يجوز ذلك بل تعالى ذو الجلال عن هذه الأشياء. وكيف لا يعلمه وهو خالقه، وخالق طويته وإضماره، ولكنه على ما تعرفه العرب من كلامها، وتستعمله في محاوراتها فتسأل عن الشيء تعرفه أو لتؤكد الحجة على المسؤول، ومثل هذا كثير في القرآن، قال الله تبارك وتعالى لموسى - صلى الله عليه وسلم -: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) وهو يعلمها ويراها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 ذكر المعتزلة. وقوله تعالى إخبارَا عن إبليس: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) حجة على المعتزلة والقدرية في إزالة سلطان إبليس عن عباده إلا من غوى منهم، والغي مكتوب عليه بما قدمنا ذكره من الآيات في السور قبل هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 سورة النحل وما دخل فيه من النهي عن التكبر: * * * قوله: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) خصوص لا محالة لخلو آدم منها، وعيسى - عليهما السلام - منها. وفيه حث على استشعار التذلل والتواضع، إذ مَن كان خلقه من نطفة ضعيفة فإعداده نفسه في عداد الخصماء جهل به، وإغفال لمراعاة ما خلق منه. وفيه دليل على أن التكبر متولد في الإنسان من قلة معرفته بنفسه. وفكره فيما خلق منه. وقد مضى في (المبين) الذي هو من أسامي الله، وقد سَمَّى به المخلوق ما يغني عن إعادته في هذا الموضع. * * * قوله: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ) حجة في إباحة لبس المرعزي، وكل ما يتخذ من الأوبار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 والأشعار. وقد لخصته في سورة الأنعام. * * * قوله: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) دليل عالى أن طلب الجمال والزينة إذا عري صاحبها من الفخر والخيلاء. وأراد بهما إظهار نعمة الله عليه ليس بمؤثر في نُسك الناسك، وليس من الدنيا المذمومة. ألا ترى أنه - جل جلاله - جعل ذلك في عداد النعمة على خلقه. * * * قوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) دليل على أن الكلأ مباح كماء السماء، لأن الشجر - واللَّه أعلم - هو الكلأ قرنه في الآية بالماء، وأخبر أنا نسيم فيه - أي نَرعى -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 وهو موضوع نشرحه في كتاب التجارات من شرح النصوص. السَّمَك. * * * وقوله: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) دليل على أشياء: فمنها: إباحة أكل السمك ما طفا منه، وما انحسر عنه، إذ ممكن أن يكون طفوه من فور خروج نفسه، والانحسار عنه كذلك، فلا يزول اسم الطري عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 وأخرى: أن ما يحدث عليه من التغيير بعد الطراة فغير مؤثر في تحليله إذا الطراءة متقدمة على التغيير، وإذا صار بها حلا لم يضره حدوث التغيير عليه. ذكر الحلى وركوب البحر. ومنها: أن لبس حلية البحر مباح للرجال والنساء. ومنها: أن الغوص في استخراجه مباح، ولا يكون تعرضًا للهلكة. ومخاطرة بالروح، وذلك لمن يحسن العوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 ومنها: أن ركوب البحر للتجارة مباح، وتؤيده الآية الأخرى: (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) ، إذ محال أن يجعله في جملة النعم، ويضم ذكره في المباحات، ويذكر ابتغاء فضله جملة فيه ثم يحظر ركوبه في حال دون حال. وليس في حديث ليث بن أبي سُلَيم عن نافع عن ابن عمر: " لا يركب البحر إلا حاج أو غازي أو معتمر " من القوة ما يعارض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 به القرآن، أو يخص به، لضعف ليث في نفسه، وسوء حفظه. الفتوى: * * * وقوله: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) دليل على أن من أفتى بغير علمٍ فَعُمل بفتواه كان إثم العامل عليه. تأكيد. * * * قوله: (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) دليل على إجازة التأكيد في الكلام، إذا السقف لا يخر إلا من فوق الإنسان، وقد أكده الله كما ترى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 فضيلة المؤمن وما يأتيه من البشارة عند موته. (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) دليل على أن الملائكة تسلم على المؤمن عند قبض روحه، وتبشره بما له عند ربه من الثواب. والملائكة: مَلَك الموت وأعوانه - صلى الله عليهم -. ومثل هذا قوله: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ) ، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 وِقوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) نظير ما مضى في سورة الأنعام من قوله: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) . والجواب فيهما واحد لا متعلق للمعتزلة والقدرية فيهما، للحجج التي ذكرناها هناك، وما أعقب جل ثناؤه تلك وهذه، ألا ترأه يقول على إثرها: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 ثم قال: (إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ) . فكيف ينكر عليهم قول شيء قد أخبر عن نفسه من هداهم وإضلالهم إلا على ما ذكرنا من أنه لم يجعل لهم الاحتجاج بما خزن علمه عنهم. وتفرد به - جل جلاله - وجعله سِرا من سره. فمغالطتهم لنا بما لا يذهب دقيقته علينا غير نافعة لهم، ولا منجيتهم من إلزاماتنا الكثيرة إياهم بحمد الله ونعمته. * * * وقوله تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) دليل على أن ما قال سفيه المعتزلة في تأويل: " ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر " غلط لا ارتياب فيه إذ حضور القيامة ومعاينة أحوالهما مُذِهب شكوك الكفرة، ومن كان لايؤمن بها، ويكذب على ربه في الدنيا، ويشك في ربوبيته، وإن المؤمنين غير شاكين في الدنيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 والآخرة. وفي قوله: (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) دليل على أن الله - جل جلاله - مبين لمن خبره جمع الإضلال والعذاب، والأمر والمنع على نفس واحدة موضع عدله عليه، وإزالة جوره عنه ليعلم أنه كما قال لا محالة: (لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) . في أن السجود لله براءة من الكبر. (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 دليل على أن من سجد لله فقد بَرِئ من الكبر، ووطن نفسه على الذل، ولم ينازع ربه في كبريائه وعظمته، ويؤيده ما قال قبل هذه الاَية: (يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) . فكيف يجد التكبر مساغا فيمن صغره السجود، وذله لربه جل وتعالى. ولا أحسب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إخبارا عن ربه: " الكبرياء ردائي والعظمة إزاري " إلا مصروفا إلى من يتكبر عن السجود لربه، ويمتنع من الإقرار بوحدانيته، قال الله تبارك وتعالى: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 فدل على أن المستكبرين ليسوا من الذين آمنوا، وذللوا أنفسهم بالسجود للَّه تبارك وتعالى. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبةٍ من خردل من كبر ". فدل على أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 الكافر الذي لم يخلط بكبره إيمانًا يحمله على السجود فيبرئه منه. وأرجو أن لا يكون المترفع من المؤمنين على غيره المختال في مشيته. وإن كان ذلك معدودًا منه في الذنوب العظام متكبرًا منازعًا ربه في كبريائه، لأن الخيلاء وإن كان ضربًا من الكبرياء فهو معدود في عداد الذنوب، والكبرياء الذي يكون كفرا هو الامتناع من السجود والاستنكاف منه كالنفاق الذي يكون في الإيمان كفرا، وفي الأعمال ذنبَا. قال الله تبارك وتعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 وقال: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) إلى: (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ثلاث من كن فيه فهو منافق خالص وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: مَن إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان "، فهذه أخلاق المنافقين ولكنها ليست نفاق كفر، وهي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 ذنوب عظام كبار لا يستوجب صاحبها بها الخلود في النار مع الكفار. وكذا الاستكبار إذا استكبر عن السجود كان كافرًا، وإذا ترفع على غيره، واختال في مشيته، وجرَّ ثوبه بطرًا كان ذنبًا عظيمًا ولم يكن كفرَا للحجج التي قدمناها في ابتداء الآية، ولغيرها قال الله تبارك وتعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وروي أن بعض فراعنة قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 " لا أسجد فتعلوني استي. استكبارًا عن السجود. لأنه غاية التذلل والاستكانة. وإذا سجد العبدُ لله بَرِئ من كِبر الكفر كله. وكذا إبليس حين امتنع أن يسجد لآدم بأمر الله كان ذلك منه تكبرًا قال الله تبارك وتعالى: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 وقال: (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) فإن قيل: فما معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الكِبر مَن سَفِه الحق، وغمص الناس ". قيل: معناه - والله أعلم - من سَفِه الحق الذي جاءت به الرسل من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 عند الله ونفر عنه، قال الله تبارك وتعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ) . ومعنى " غمص الناس ": استحقرهم - والله أعلم -وتقزز من مجالستهم لفقرهم وغناه كما استحقر صناديد المشركين من عاتب الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - عليهم فيهم، وأنفوا من مجالستهم حين تركهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقبل على الصناديد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 طمعا في إسلامهم فقال تبارك وتعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) . فهذا كله راجع - والله أعلم - إلى ما كان عليه الكفار. فأما من دخل في الإسلام، وأخذ بشرائعه، وصلى وصام وصار من أهل القبلة، فعليه أن يأخذ بأخلاق أهل الإسلام، ويخفض جناحه للمؤمنين، ويكون رحيما بالضعفاء، محبا للمساكين يقربهم ويدنيهم، ولا يبطر نعمة الله، ويمشي على الأرض هَونًا بخشوع واستكانة. فإن تمسك بالإسلام، وخالف أخلاق أهله فترفع على الناس لأمره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 ونهيه، ونخوة سلطانه وما أشبه هذا، ومشى المطيطاء، فكل ذلك منه ذنوب عظام كبار. ألا ترى أن الله تبارك وتعالى حيث بدأ العشر من سورة بني إسرائيل قال: ولا تقتلوا أولادكم، ولاتقربوا الزنا، (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) . فجعله في عداد الذنوب والمعاصي لا في عداد الكفر، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " براءة من الكبر لباس الصوف، واعتقال الشاة، ومجالسة الفقراء المؤمنين، وأكل أحدكم مع عياله ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 رد على المعتزلة. * * * قوله: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) دليل على أن الله - جل جلاله - بذاته في السماء على العرش. وليس في الأرض إلا علمه المحيط بكل شيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 وهذا والله من المصائب العظيمة أن يضطرنا جهل المعتزلة والجهمية. وسخافة عقولهم إلى تثبيت هذا عليهم، وهو شيء لا يخفى على نوبية سوداء. روى الشريد بن سويد قال: قلت: يا رسول الله، إن أمي أوصت أن نعتق عنها رقبة، وعندنا جارية نوبية. قال: " ادع بها ". فدعوت بها. فقال لها: " أين الله، " قالت: في السماء. قال: " من أنا، " قالت: أنت رسول الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 قال: " اعتقها فإنها مؤمنة ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 وهؤلاء الجهلة الأعداء لله يزعمون أنه في الأرض بنفسه كما هو في السماء، وفي كل موضع من البر والبحر والهواء، وينكرون أنه على العرش سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرَا. وكيف يكون كما يقولون - لعنهم الله - وهو يقول: (يَخَافُونَ رًبَهُم من فَوقِهِم) ، ويقول: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) ، ويقول: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) ، ويقول: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) ، وقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) ، وقال: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) ، وما يضاهي هذا من الآيات المنبئة عن الله - جل وعلا - أنه في السماء، وعلمه بكل مكان لا يخلو من علمه مكان. ثم اجتماع أهل الصلاة، والسائر على أَلسِنة الخاصة والعامة من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أُسري به إلى السماء، ودليل القرآن عليه قال الله تبارك وتعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) . أي في السماء - والله أعلم. وتحقق قوله: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) فلم عُرج به إلى السماء إذًا - ويحهم - وهو في الأرض معهم،. واحتجاجهم بقوله: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 فإنما هو علمه الذي لا يغيب عنه شيء. ومعناه: أنه لا يخفى عليه نجواهم كما قال (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) ، وَقَوله: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ) ، و (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) لا متعلق لهم فيه لأنه إله من في السماء من الملائكة، ومن في الأرض من الخلق يعلم سر الجميع وجهرهم سبحانه وبحمده. ذكر الرد على الجهمية في خلق القرآن * * * قوله: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 حجة على الجهمية والمعتزلة في خلق القرآن، وإعدادهم الجعل بمعنى الخلق في كل موضع. فيقال لهم: أخلقوا البنات ولهم البنين في هذه الآية. فإن قالوا: نعم، كفروا بربهم حيث جعلوا معه خالقًا سواه. وإن قالوا: ليس الجعل بمعنى الخلق، رجعوا عن قولهم في الجعل، وبطلت في الاحتجاج به على خلق القرآن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 ذكر قسمة الله فى الإناث. * * * قوله: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ) عِظة لمن يتسخط قِسمة الله له في الإناث، ولا يسلم لحكمه عليه. ولا تطيب نفسه به. استعارة الشىء. * * * قوله: (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 حجة في استعارة الشيء ووضعه موضع غيره، لأن المبشرين بالإناث كانت لا تصير ألوان وجوههم سودا. ولكن السواد كناية عما كان يعدوها من التغيير والصعوبة عليهم عند ذلك وهو - والله أعلم - على ما يتكلم به الناس: سَود الله وجه فلان كما سود وجهي. إذا صنع إليه صنيعًا سيئَا، وفضحه في الناس بأمر قبيح. وهو في غير هذا الموضع سواد ألوانها قال الله تبارك وتعالى: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) . وكذلك قوله:) (كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ) ، وقوله: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 وهو سواد ألوانها. * * * وقوله: (أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ) الهاء - واللَّه أعلم - راجعة فيهما على المولود. ذكر الاختصار والإشارة. (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) حجة في الاختصار والإشارة إلى المعنى، لأن قوله - جل جلاله -: (مَا تَرَكَ عَلَيْهَا) أي على الأرض، ولم يجر لها ذكر في الآية. ثم أخبر بتأخير الظالمين إلى أجلٍ مسمى لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون، ولم يخبر بعقوبتهم فاستغنى السامع بالإشارة إليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 وفي قوله: (مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ) دليل على أن اسم الدابة واقع على الناس لدبيبهم على الأرض، ومثله - قوله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) ، فقد دخل فيه الناس وغيرهم من الدبيب. ذكر القسم. * * * قوله: (تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) دليل على أنه قَسَم كما يكون بالواو. ودليل على أن المخبر عن نفسه جائز له أن يخبر بلفظ الغائب ولا يخبرِ بلفظ الإضافة، لأنه - جل جلاله - هو الله فقال: (تَاللهِ) . ولم يقل: بي، وهذا أيضاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 توكيد حجة من قرأ: (واللَّه ربَّنا) بالنصب. ذكر الفصاحة. وقوله: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) (الهاء) - والله أعلم - راجعة على الجنس، وفي سورة المؤمنين: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا) راجعة على اللفظ. وهو حجة لمن فعل ذلك في كلامه، ولا يكون عيبا عليه، ولا طعنا على فصاحته. ذكر معنى النجاسة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 قوله: (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) دليل على أنه ليس كل ما جاور نجاسة نجس، حتى يدل على نجاسته دليل آخر يسلم لها. وفي ذلك أكبر بيان على أن الماء القليل الذي لم تغيره النجاسة لا يجوز أن نحكم بنجاسته وأصله طاهر لمجاورة النجاسة، وتيقن كينونتها فيه حتى ينجسه عبادة برأسها، وكذلك سائر ما جاور النجاسة من غير الماء، كما أن اللبَن لما خلقه الله طاهرًا لم يضره مجاورة الدم له، وكان طاهرا على أصله. وكما خلق المني طاهرا فلم يضره كينونته في الصلب، وخروجه في الإحليل مخرج البول وكل ذلك أماكن نجسة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 وكما كان فَمُ الهر طاهرًا لم يضره مجاورة النجاسة له بأكل الفأر وغيرها، وكان سؤر مائه طاهرًا. فكل هذه الأشياء يدل على مجاورة النجاسة للأشياء الطاهرة لا يجوز أن يجعل علمًا لتنجيسها دون مراعاة التعبد فيها. وليس هذا منا بقياس غير المذكورات على المذكورات، ولكنه تنبيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 المعتبرين بمجاورة النجاسة للأشياء الطاهرة على تنجس ما جاورها على أن لا يعتبروا بها، ويراعوا العبادات في تنجيسها للإرادة. فإن قال قائل: أفيجعل ضَم الفرث إلى الدم في الذكر دليلا على نجاسة. قيل: لا يجوز ذلك، لأن الدم قد وقفنا على نجاسته من موضع آخر، ولم نقف على نجاسة الفرث، بل لنا أدلة على طهارته، وقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 يقرن الشيء بالذكر إلى ما لا يشاكله في الجنس ولا يوجب الجمع بين حكميهما. والأدلة على طهارة الفرث مذكورةٌ في كتاب الطهارة الذي ألفناه في شرح النصوص. ذكر الخمر. * * * قوله: (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) (الهاء) في: (مِنهُ) راجعة - والله أعلم - على لفظ (مِن) أو على العصير، أو الجنس لاَ عَلَى الثمرات والنخيل والأعناب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 وفيه دليل على أن الخمر لا يحل ثمنها، ولا تعد في عداد الأملاك لإفراد ذكرها بالسكر، وسائرها بالرزق الحسن. فما لم يكن رزقًا لم يجز أن يكون ملكًا، ولو كان أيضًا رزقًا لكان خبيثًا لتسميته سائرها بالحسن، والخبيث لا ثمن له. وفي ترك تعليمه خلقه كيفية اتخاذ الرزق الحسن، وإخباره عن اتخاذهم معدودًا في ذكر النعيم - دليل على أن اتخاذه كيف أحبوه مباح لهم، وإذا كان ذلك كذلك فإفساد العصير المتروك للخل بالخل قبل النشيش ليأمن النشيش غير مفروض، إذا النية في اتخاذه الرزق الحسن لا السكر القبيح، فليس في حدوث النشيش والمرارة عليه قبل الحموضة معنى يحرمه، قال الله تبارك وتعالى: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 فتارك العصير بنية الخل المنتظر إدراكه مصلح لا مفسد وقال رسولى الله - صلى الله عليه وسلم - لفيروز الديلمي به حين نهاه عن شرب الخمر، وسأله كيف نصنع بأعنابنا. قال: " زببوها ". قال: فما نصنع بالزبيب. قال: " انبذوه على غدائكم واشربوه على عشائكم، وانبذوه في الشنان ولا تنبذوه في القرب " فإنه إن تأخر عن عصره صار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 خلا "، ولم ينهه عن أكل ذلك الخل الحادث من عصير لم يفسد بالخل قبل استحالته إلى الخل. فهذا بين لمن تدبره. غير أني أحب على بيانه لمن قدر على الخل أن يفسد به عصيره قبل النشيش ليسلم من الاختلاف. فإن تركه لم أحرجه وكان مباحًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 ذكر النحل. * * * قوله: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ) وفي قوله: (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ) رد على الشافعي فيما يزعم أنما خرج من البطون نجس كله. ودليل على أن النحل خلق يسوقه الله حيث يشاء، فإذا اتخذت بيتًا في مُلك بشرٍ كان ما يخرج من بطونها رزقًا لحدوثها في ملكه، فإذا تحول إلى غير ملكه لم يكن له المطالبة به، وكان ما يحدثه في ملك من تحول إليه من العسل له كما كان ما أحدثه في ملك الأول، ثم كذلك كلما انتقل. فإن اتخذ في أرض موات لا مالك لها كان عسله لمن بادر إلى أخذه. وتحصيله بالحيازة والنقلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 ونفس النحل لا يصلح فيها البيع والشرى، ولا يقع عليها ملك، لعدم الوصول إلى إحرازها بوجه من الوجوه، وليست كالصيد من الطائر والدواب الذي إذا صِيد أُحرز وحبس حيث شاء صاحبه بقص أجنحة الطائر، ومنع الصيد من الخروج بغلق باب أو حائط أو تشكيل، والنحل لا يمكن فيها هذا، ألا ترى أنه يطين على مواضعها الصائرة فتخرج قبل أن يكشف أبواب أحجرة مواضعها، فهذا أحد وجوه منع البيع والشرى، وزوال الإملاك عنها. ووجه آخر: أنها غير مضبوطة بكيل ولا وزن ولا عدد. ولا محاط بالنظر إليها ليشتَرى جزافًا كَشِرى الصُّبر المصبوبة في الأرض، وسائر الجزاف المحاط بالنظر إليه. ولإعواز الوصول إلى قبضها فبائعها يعتاض ملكًا ولا يعوض مملوكًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 وما كان هذا سبيله فإن لم يكن زائدًا على بيوع الغرر والمخاطرات فهو مثلها ولا يجوز بيع عسلها قبل تحصيله منها، لأنه غير محاط به، ولأنه إذا بيع ما حواها وعسلها أخذ النحل من الثمن نصيبًا ففسد الجميع. ذكر المعتزلة. * * * قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) حجة على المعتزلة والقدرية شديدة لجمعه بين المشيئة والإضلال والهدى والسؤال عن العمل في آية واحدة، وهو قولنا الذي نقوله: إن الله - جل جلاله - لو شاء لجعل الناس كلهم مؤمنين، ولكنه لم يفعل فأضل قومًا فكفروا، وهدى قوما فآمنوا، فعذب الكافر بجنايته وقد قضاها عليه بعدله، وأثاب المؤمن على إحسانه، وقد هداه إليه بفضله. وكل هذا حكم منتظم، وعدل شامل، وفضل بين عقلته الخليقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 بعقولها أم لم تعقله، ولو لم يكن في القرآن من الرد عليهم إلا هذه الآية وحدها لكفتهم، فكيف وهو مملو بأمثالها بحمد الله ونعمته. ذكر القياس. (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إلى قوله: (عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) حجة في إبطال القياس واضحة لمن وفقه الله لفهمها، وأضرب عن اللجاج والعناد، وما ألفته نفسه من حلاوة قياسه والتحريم به والتحليل. وذلك أنه ابتدأ الآية بالحث على كل ما رزقنا الله من الحلال. وأخبر أنها نعمة علينا وأمرنا بالشكر عليها، ثم فصل ما حرم منه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 فقال: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) فصار كل ما عدا هذا داخلاً في الرزق، والحلال الطيب المعدود في النعم التي يجب الشكر عليها، ولا يذهب على مميز إنما يعد ما تقدمه فصل في معنى الاستثناء من الجملة لا ابتداء، ثم لم يقنع - جل جلاله - بذلك حتى قال على إثره: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) فليس لأحد من البشر أن يزيد في هذه الأنواع الأربعة المستثناة من جملة الرزق الحلال الطيب إلا طاعته مفروضة، لا يحرم ولا يحلل إلا ما أمره الله - جل جلاله - هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي حرم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير. وحرم التفاضل في أشياء مذكورة مسماة مذكورة معدودة، وحرم مهر البغي، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 وثمن الكلب، وعسب الفحل، ونهى عن بيوع بأعيانها مروية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 بروايات الثقات، فكل ما وجد نصا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مضموم إلى الأربع، وما لم يوجد فيه نص وكان تحريمه بآراء الرجال فهو في حكم الآية افتراء عند من تدبرها، وغاص على نكتها. فإن قال قائل: أفتجعل سعد بن أبي وقاص في تحريم البيضاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 بالسلت - والسلت ضرب من الشعير - وابن عباس في إعداد ما عدا الطعام في البيع بمنزلة الطعام قبل القبض والاستيفاء. مفتريين على الله. قيل: معاذ الله أن يكونا مفتريين، بل كانا فيما قالا موفقين مصيبين. فأما سعد بن أبي وقاصٍ - رضي الله عنه - فإنه كان من مذهبه أن الحنطة بالشعير لا يصلح إلا مثلا بمثل. فلما سئل عن البيضاء بالسلت - والسلت ضرب من الشعير رقيق القشر صغار الحب - قال: أيها أفضل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 قال: البيضاء. فنهى عنه. ولعل السلت بصغر حبه إذا يبس نقص. فسئل عن البيضاء بالسلت الرطب، فعلم أن السلت إذا يبس نقص عن البيضاء في الكيل، فيكون صنف من أنواع الستة بصنفٍ منها متفاضلاً، والدليل على ذلك ما قال: " سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شِرَى التمر بالرطب " - والرطب رطب ينقص عن التمر - فإذا نقص السلت الرطب إذا يبس عن البيضاء، وهما جميعًا منصوصين، وعند سعد مستويان كان التفاضل بينهما ربا. فإن قيل: فما وجه إعداد سعد الشعير بمنزلة الحنطة في أن لا يجيز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 التفاضل فيهما ورسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أجازه. قيل: ليس ذلك من جهة القياس. وقد وافقه على ذلك عبد الرحمن ابن الأسود بن عبد يغوث وابن معيقيب الدوسي، وإليه يذهب أهل المدينة، ويلحقون بهما سائر الأصناف، ولا يجيزون واحدَا باثنين، وإلا كانا من جنسين مختلفين. فأما قول سعد وعبد الرحمن بن الأسود فله وجه عندنا وهو أن سعدًا فني علف حماره، وعبد الرحمن علف دابته فأمرا غلاميهما أن يأخذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 حنطة يبتاعان به شعيرا، ولا يأخذا إلا مثلا بمثل. ولعلهما أرادا أن لا يأخذا إلا مقدار ما يكفي الحمار والدابة كل يوم، فمنعا التفاضل فيه من أجل تأخير قبض جميعه فكان يصير نسيئة فأمرا الغلامين أن لا يربيا، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما أباح فيهما نقدًا، وحرمه نسيئه. فهذا وجه متوجه من قول سعد، وهو أحسن وجه يوجه فيه. وأما قول ابن عباس - رضي الله عنه - في أنه قال: " كل شيء بمنزلة الطعام " فهو نصّ في قول حكيم بن حزام حيث قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الرجل يريد مني البيع ليس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 من عندي أفأنفقه له، قال: " لا تبع ما ليس عندك ". فإن قيل: أفليس وإن وافق قوله النص من حديث حكيم فقد قاله وهو لا يعرف النص. قيل: قاله على الظن، فقال: " ولا أحسب كل شيء إلا بمنزلة الطعام " ولم يحتم به، ولا خطره فوافق ظنه الحق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 وما في قول صحابي تكلم بكلمة وفقه الله فيها للحق في شيءٍ بعينه من الحجة للقائسين. أترى قول ذلك الصحابي - رضي الله عنه - في شيءٍ بعينه أكثر من أمر الله - جل وتعالى - العدلين بالمثل في جزاء الصيد الذي لايعدوا به موضعه، ولا يحمل غيره عليه. وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في أشياء نزل القرآن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 بتصديقه، وابن عباس - رضي الله عنه - وإن لم يكن له من الجلالة ما لِعُمرَ فهو صحابي فاضل جليل لاينكر له أن يتكلم في شيءٍ تَرِدُ سُنة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتصديقه. ولا يكون ذلك ذريعة إلى إباحة القياس، وحجة فيما ليست لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُنة يوافق قوله، ويصدق تحليله وتحريمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 ومن الدليل على أن هذا من قول ابن عباس لم يكن قياسًا، ولا رأى القياس دينًا مستعملاَ في كل ما عدم فيه النصوص: أنه جعل أجل الحامل المتوفى عنها زوجها آخر الأجلين، ولم يقسها على المطلقة، وأجاز لها أن تعتد حيث شاءت ولا تمكث في بيتها، ولم يقسها على ما أمر اللَّه المطلقة من المكث في بيتها، وترك الخروج إلى انقضاء أجلها إلا لفاحشة مبينة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 وفي ذلك دليل أيضا أن الصحابي قد تذهب عليه السنة التي يعرفها غيره، فلا تنحط بذلك درجة فضله وحق صحبته. فقد خَفِي على ابن عباس - رضي الله عنه - في هاتين المسألتين حديث سُبيعَة الأسلمية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 وحديث الفريعة أخت أبي سعيد الخدري بخلاف ما أفتى به. ذكر المعاني المختلفة باسم واحد. (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) يعني - والله أعلم - ما قصه في سورة الأنعام في قوله: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) إلى آخر الآية. وهذا تحقيق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 نزول الأنعام بمكة ونزول النحل بالمدينة إلا أربعين آية من أولها إلى قوله (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) والحسنة في هذا الموضع هي المدينة. وهذا أيضًا حجة في تسمية العرب المعاني المختلفة باسم واحد. * * * قوله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا) أيضًا حجة في تسمية العرب كثير المعاني باسم واحد، والأمة هاهنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 معلم الخير يأتم الناس به في الهدى. صفة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. * * * قوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) حجة في ترك الغِلظة والخرق عند الأمر بالمعروف والنهيْ المنكر واستعمال اللين واللطف فيهما، لأنه أجدر أن يلين له قلب المأمور. وأحرى أن تصل الموعظة إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 ذكر الاستطاعة. * * * وقوله: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ) دليل على أن الاستطاعة وإن كانت منسوبة إلى العبد فالمعونة عليها من عند الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 سورة بني إسرائيل * * * قوله: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) كان سفيان الثوري يقول: (إِلى) هو بمعنى: على. كأنه يقول: " على بني إسرائيل ". وهو حسن جدا. لكنا نسامح القوم فيها، لأنها قد تكون في هذا الموضع بمعنى: (أوحينا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 فى القياس. (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) حجة في ردّ القياس، إذ كانت الأشياء مفصلة إلى التحليل والتحريم، فقد أغنى الله عن القياس وأهله. ومثل هذا قوله في سورة الأنعام: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) . ذكر المعتزلة. * * * قوله: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) حجة على المعتزلة والقدرية في إلزام الطائر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 والطائر: ما قضى عليهم من الشقاوة والسعادة. قوله أيضاً: (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا) لا تدفع قولنا، لأن الله - جل جلاله - قد أخبر بالإضلال وهداهم عن نفسه في مواضع من كتابه هذا وكل ما يشاكله من إضافة الأفعال إلى العباد لا ينقض ماحكاه عن نفسه، إذا الأفعال جارية من فاعليها على ما سبق من القضاء عليهم فيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 فمن نسب الفعل إليهم، والقضاء إليه فقد قال بجميع المعنيين واستقام قوله. ومن أنكر القضاء، وردَّ كل آية فيها. فما بالهم يردون كتاب ربهم خشية كسر قولهم فيما لا يضر جهله. ولو أضربوا عن اللجاج، ولم يحملوا أمر الخالق على عقول أنفسهم لانتظم لهم القول بالقضاء، ونسبة الفعل إلى فاعله، وكانوا يصرفون لحوق الحيرة بهم في مصاحبة العدل عقوباتهم مع قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا) إلى ما أثرناه عليهم من أحواله في عقوبة آدم وولده، ومرض الصغار، وَخَول العبيد وأشباه ذلك. إذ لا موضع لإنكارهم معاقبة الجانين لقضائه غيره، وغير حمل حكمته الجليل - جل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 ثناؤه - على حكمة الحكيم منهم، أولا يعتبرون - ويحهم - أن الذي ينازعون عليه من يسمونه المشبهة ويصنفون عليهم فيه الكتب قد التزموه دونهم، فكأن قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وهو عندهم في الصورة ددن الأفعال حتى يضاهون بأفعاله وأفعال خلقه فيما ينكرون على من قَلَب عليهم نفس مقالتهم. فيقول لهم: إذا كان لكم أن تأخذوا معرفة عدل الله وحكمته من عدل خلقه وحكمتهم كان لغيركم أن يأخذ صورته من صورة خلقه. وأقل ما على القائلين بالعدل إطلاق سبيل هم سالكوه، ولا يحظرون على غيرهم نفس ما هم فاعلوه. (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 قد كفانا كل مؤونة في باب العدل، وأعلانا عليهم من كل جهة، إذ ليس يخلو (أَمَرنَا) من أن يقرأوها مخففة أو مثقلة، فإن قرأوها مخففة أقروا بكل ما أنكروه بألفاظ خصمائهم. وإن قرؤوها مثقلة قيل لهم: أفمن العدل عندكم تأمير مترف فاسق ومؤمره يجد مؤمنًا مطيعًا، أو تكثيرهم - فإن التثقيل يحتمل التأمير والتكثير، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 فإن قالوا: لا. كفروا، لأن الله قد أخبر عن نفسه بذلك. فإن قالوا: هو من فعل المخلوق بالمخلوق جَور، ومن الخالق بالمخلوق عدل. قيل: فهو عدل من حيث تعقلونه بعقولكم، أو من حيث تسلمون فيه لربكم. فإن قالوا: من حيث نعقله بعقولنا. قالوا: محالاً. وإن قالوا: من حيث نسلم فيه لربنا علمًا منا بأن الجور ليس من صفته، ولا الكذب من نعته، وقد أخبر عن نفسه بتأمير هؤلاء، أو بأمرهم فهو صادق في إخباره، عادل في فعله وإن لم نعقله نحن بعقولنا. أقروا بكل ما أنكروه. علموا أن المنكر هو أخذ معرفة عدله من عدل خليقته، وحكمته من حكمتهم، فإن المعروف والصواب من القول هو: أن الله لما أخبر عن نفسه بأنه ليس كمثله شيء واستحال عندهم أن تؤخذ صورته من صورة خلقه استحال عندهم أن تؤخذ حكمته من حكمتهم. وما يتصور جورًا أو عدلاً في أفعالهم، وقبيحًا منهم في حكمهم لم يجز أن يكون كذلك منه متصورَا، إذ لا فرق بين من تشبه بخلقه، وبين من تشبه خلقه به في أفعالهم لم ينفعه امتناعه من تشبيه صورته بصورهم، والتحكم ليس من شرط المحصلين. ومن لم ينصف خصومه في الاحتجاج عليهم لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 يقبل بيانه وأظلم برهانه. أو يكون - والله أعلم - حركناهم لعمل ما سبق عليهم من القضاء بالسبق. وقد قُرئ: (آمرنا) مطولة الألف. أي أكثرنا وهي عليهم أيضا. ذكر ما فى العاجلة. * * * قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) حجة عليهم إذا العاجلة لا محالة هي التي استحقوا بها النار، ولا يكون ذلك إلا مذمومَا غير مرضي. وقد أخبر الله نصا أنه عجلها لهم، بل أخبر مع التعجيل لهم بإرادته منهم بقوله: (لِمَنْ نُرِيدُ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 وأكده بما بعده حيث يقول: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) أفلا يرون ويحهم كيف أخبر عن إمداده إياهم بعطائه، وعن تفضيل بعضهم على بعض، وسبب التفضيل عطاؤه لا انفرادهم باكتساب الخير والشر. * * * قوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) في هذا الموضع أمرٌ أو وصية. وليس للقوم علينا فيه حجة لاَ في لفظِ القضاء أنه الأمر، ولاَ في الأمر بأن لا يعبد سواه، إذ قد دللنا على أن العرب قد تُسمي باسم الواحد المعاني الكثيرة. ودللنا على الفرق بين القضاء والأمر في سورة الأعراف عند قوله: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 إذ الأمر لا يكون إلا بإفصاح، والقضاء: إرادة في المأمور مغيبة عنه. ودقيقة العدل في جميعها على نفسٍ واحدة مغيب عن أفهام البشر منفرد ربنا - جل وتعالى - بعلمه. ذكر الاستطاعة. قوله في الوالدين: (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) حجة عليهم في الاستطاعة، إذ تربيتهما إياه ليس بقوة أنفسهما. ولا باقتدارهما بلِ الله رابهما ورابي الولد معهما ورازق الجميع. وموفيه. وقد نسبه الله إليهما كما ترى. وكذا فاعل المعصية والطاعة معا بقضاء الله ومشيته منسوبان إلى الفاعل لا يؤثر أحدهما في صاحبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 ذكر القربى. * * * وقوله تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) حجة في أن للمسكين وابن السبيل حقَا في الغنائم والصدقات جميعًا لأن ذكرهما مع ذي القربى - وذوي القربى ليس من أهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 الصدقات - دليل على أن المقصود بإعطائهما منه في هذه الآية الغنائم لا الصدقات. غير أنهما إن كانا مستغنيينِ بمال الغنيمة في عام الصدقة لم يكن لهما أن يأخذا منهما، لأن أخذهما بمعنى الحاجة إليه. فإذا استغنيا عنه وارتفع عنهما الاسم الذي يستوجبانها لم يكن لهم حق في مال ليسا من أهله. وإذا ضاق المال ولم يكن فيما يصل إليهما ما يزول به اسم الحاجة عنهما أخذا منهما معا، وحل ذلك لهما. وكذلك إن وقعت غنيمة وقد استغنيا بمال الصدقة لم يكن لهما حق. وجعل لمن لم يستغن بها ممن يأخذ بالاسم الذي كانا به آخذين. والحجة في أنهما يأخذان من كلا المالين أن اللَه - جل وتعالى - قد ذكرهما في آية الصدقات في التوبة فقال: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) إلى قوله: (وَابْنِ السَّبِيلِ) ، وذكرهما في آيتي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 الغنيمة في الأنفال والحشر فقال: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) ، وقال: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) . فقد أوجب لهما في كلا المالين حقًا لا يجوز إسقاطه. وما روي: " أهل الغنيمة كانوا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمعزِل من أهل الصدقة، وأهل الصدقة بمعزِل عن أهل الغنيمة". مصروف إلى سوى من ذكر في أهل الصدقة معهما. فلا يجوز أن نحرم المساكين وأبناء السبيل حقهم من المالين وقد أثبته الله لهم نصا برواية يمكن صرفها إلى غيرهم من غير معارضة ولا انتقاض. وفي قوله: (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) في سورة بني إسرائيل دليل على أن سهم المساكين إذا أعطوا جاز أن يُوضع في واحد دون ثلاثة، إذ المقصود - والله أعلم - اسم المسكنة لا العدد. ألا ترى أن الله - جل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 جلاله - جمعهم في اللفظ في سورة الأنفال، وسورة التوبة والحشر ثم أفرد لفظهم في سورة بني إسرائيل. وإذا كان ذلك كذلك والمقصود به المسكنة فسواء أخذوا من فيء أو غنيمة أوصدقة يُعطى العدد والواحد على ما سهل وتيسر على المفرق ولا حرج عليه. فإن قيل: أفيجوز أن يوضع أربعة أخماس خمس الغنيمة والفيء في صنف واحد من المذكورين في الآية كما زعمته في الصدقات. قيل: لا يجوز في الغنيمة ما يجوز في الصدقة. والفرق بينهما أن مال الغنيمة والفيء مقهور عليه المشركون، ومأخوذ منهم قسرا، مشروك فيه من ذكر في الآيتين. ومال الصدقات: طهرة لأهله متقرب به إلى الله طلب الثواب. ففي أي صنف وُضع لحق دافعه اسم القربة، واستوجب الطهرة. ولو كان لا يلحق دافع الصدقة اسم الطهر، ولا يستوجب الثواب حتى تصل إلى جميع المذكورين في الآية لوجب أن يتألف منه قوم على الإسلام إلى يوم القيامة، كما كانت المؤلفة تُعطى منه على عهد رسول الله - صلى اللَّه وأوجب إذا فقد المكاتبون في بلد يقسم به صدقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 أهله أو غيرهم من الأصناف أن تخرج إلى غيرهم، فكان يخرج سهما من صدقات أرض الخيل كلها في كل عام إلى غيره. وهذا خلاف ما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 جبل من أخذ صدقات أغنياء أهل اليمن ورده في فقرائهم. ولو لم يكن من الحجة في إجازة وضعها في صنف واحد إلا هذا الخبر لكفى. إذ ليس أحدٌ أعلم بالمراد في آية الصدقات ممن أنزلت عليه وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يقل لمعاذ بن جبل: خُذها من أغنيائهم فردها في الأصناف الثمانية، بلِ اقتصر به على فقراء اليمن. فكل هذا يدل على الأصناف المذكورة في الآية منهم أصناف مواضع الصدقة، ومن يستوجب دافعها إليهم ثواب صدقته فطهرة لسائر ماله، لا أنهم يشتركون فيها كاشتراك أهل الغنيمة والفيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 ومما يؤكد ذلك إجماع الأمة جميعا على أن صاحب الصدقة لو جاءه المصدق وقد أخرج صدقته، وثبت عنه لم يكن له أن يعيدها عليه. وقد دفعها إلى بعض من ذكر في الآية دون بعض إذ لا محالة لم يلحق العامل عليها منها شيء. غير أني أقول: إن العامل عليها إن لم يعوضه الإمام من موضع آخر حقًّا بما صار في يديه لابد من إعطائه لمِاَ لحقه من التعب والنصب في جميعها، فيكون أجرة له على عمله. ذكر السرف. وفي قوله: (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) تغليظ شديد على المنفقين في معاصي الله، إذا التبذير لا يقع إلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 عليها من أجل أن النفقة على ثلاثة وجوه: فمنها: ما يلتمس ثوابها من مفروض وغيره. ومنها: مباح وقد وضع الله الحرج فيها بقول: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) ، وبقوله: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) ، (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا) ، فلم يبق إلاّ نفقة المعصية فاستحق صاحبها اسم التبذير، وصار به من إخوان الشياطين. فكل ما حرم الله على العباد أكله أو شربه أو فعله فأنفق فيه منفق نفقة سُمي مبذرًا. صائرًا بها من إخوان الشياطين كفورًا لربه جل وتعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 والذي نختار من النفقتين القصد فيهما لقوله تبارك وتعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) . فنهيه جل وتعالى - عن مجاوزة الحد والإجحاف بالنفس في النفقة، وتركها بواحدة خشية السرف. أنزلت هذه الآية فيما بلغنا في دفعه - صلى الله عليه وسلم - قميصه إلى سائله من النساء، وقعوده في البيت عريان. والنهي واقع على ما تجحف هذه الإجحاف بالمنفق، ويكون مثله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 معدودًا في وجوه السرف. إذا السرف في اللغة سرفان: أحدهما: مجاوزة الحد في النفقة. وهو ما نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال بعد ذلك: " خير الصدقة ما تصدقت به عن ظهر غنى". والسرف الثاني: هو الخطأ في الفعل ما كان الفعل من شيء. قال جرير يمدح قوما: أعطوا هُنيدةَ تحدوها ثمانية ما في عطائهم منٌّ ولا سرف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 فلم يمدحهم بقلة العطية، لأن ذلك هجو. إنما مدحهم باجتناب الخطأ فيها. ألا ترى أنه قد ضَمّ السرف إلى المن ونفيها معًا عن القوم وكلاهما مدح، والسرف وإن كان منهيا عنه فليس بتبذير. إنما التبذير: ما يستعان به على المعاصي وحدها. والسرف قد يكون في طلب الثواب وغيره من المباحات، لأن دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قميصه إلى المرأة كان في التماس ثواب، فلما أخرجه إلى العُري نهُي عنه وأمر بالقصد، والقصد مع ذلك قصدان: فللموسع قصد على مقدار اتساعه، وللمقتر قصد على قدر إقتاره. قال الله تبارك وتعالى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) . * * * قوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 حجة في وجوب نفقة الآباء على الأبناء. إذ لوكانت النفقة غير واجبة لهم عليهم لكان في الناس من تسمح نفسه بترك الإنفاق، وكان مع عدم الإجبار عليه آمنًا من الإملاق. والآية عامة المخرج على جميع الآباء، فلا تدل إلاّ على الوجوب بل على الإجبار مع المنع. وفيها عظة للمغتمين بكثرة ولادة الأولاد خشية العجز عن القيام بنفقاتهم ومؤناتهم، وفي ضمانه تبارك وتعالى نفقتهم أمان للمضمون له ما يتقيه من العجز، ويحذره من دخول الفقر عليه بسبب أولاده. وبشارة يسكن إليها المؤمن ويزول اضطراب قلبه بما لا يخلف ضامنه من وعده. وإذا كان في حياته مضمونا له رزق أولاده وهو قيمهم فبعد وفاته أحرى أن تحسن خلافة ضامنه عليهم. وفي ذلك تطييب أنفس من يترك بعده أصاغر، وسكون قلوبهم إلى من لا يخلف ميعادًا، ولا يضيع لهالكٍ أولادا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 وفي تركه تبارك وتعالى ذكر القود عنِ الآباء في قتل من يقتلونه من الأولاد، وإفرادهم غيرهم بالقتل في قوله: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) ، لمن يزيل القود بين الآباء والأبناء متعلق. وإن لم يكن بالبين جدا. ذكر السرف فى القتل. * * * قوله: (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 دليل على أن لا تقتل نفسٌ بأنفس، لدخوله تحت السرف في ظاهر الفعل. وأجمع المفسرون من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم على أن السرف في القتل هو أن يقتل غير القاتل. فلما كان تحريم دم المقاد منهم قبل إحداث حدثهم على من تلفت نفسه به مثل دمه، وأعوز تحقيق القتل على واحد من المحدِثين على المقتول منفردًا به، لم يجز أن يشاط دمه المتيقن تحريمه بحدث أحدثه، لا يدري أتلفت نفس المحدث عليه به أم لا، إذ ليس أحد الدّمينِ بأشد تحريمًا من الآخر، وقد يجرح الرجل غيره جراحاتٍ ويسلم منها، ويجرحه غيره جراحة واحدة فيتلف منها، فلو تيقن مع إمكان هذا ووضوحه عند جميع العالم إعانة جرح كل واحد منهم على تلف المقتول لكان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 محسوبا عليه في علم الله - جل وتعالى - المحرم للقتل، والموجب به القود جزءا من أجزاء الجناية. فكيف يبيح عدم وصول الخلق إلى معرفة ذلك الجزء إفاتة جميع نفس جانِ واحد فضلا عن أنفس الجميع. وقد قال الله تبارك وتعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) ، وقال: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) . أفمِنَ العدل أن تُعدل نفسٌ واحدة بأنفسِ أَلفِ إنسان في إفاتة أنفسهم وكل واحد منهم محرم الدم بل اجتماعه مع غيره في الحادثة على المقتول. أم يكون قتل نفس حقا لا يجرح صاحبها إلا جرحًا. أليس الله يقول: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) ، وقال: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) . أفتكون إفاتة نفس مثل جرح جراحة قد يسلم منها المجروح في أكثر الأحوال. وهل يخلو كل واحد من المجتمعين على قتل المقتول من أن يكون منفردا بالقتل - فإن كان محالا في التجريح - أو غير منفرد به " فإن كان منفردا به فَلم لا نجعل عليه دية ثانية إذا عُفي من الولي عن القود واللَّه - جل وتعالى - يقول: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) ، كما يكون على المنفرد الذي لا شريك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 معه في الجرح، وإن كان غير منفرد بالقتل فكيف يفرد بالقَود من لم تبلغ جناية القَود، هذا غير مشكل لمن تدبره. وعدل القول في ذلك أن تجعل عليهم ديةٌ واحدةٌ في أموالهم موزعة بين الجميع، إذ لا وصول إلى الوقوف على من حدث التلف من جرحه بعينه وعتق رقبة واحدة يشتركون في ثمنها، فإن أعوزتهم الرقبة فالاحتياط أن يصوم كل واحد منهم شهرين متتابعين - إذ لا سبيل إلى الاشتراك في الصوم كما يشترك في ثمن الرقبة - ولا أوجبه عليهم إيجاب فرض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 إذ صوم شهرين متتابعين واجب على مُوقن القتل عند إعواز الرقبة، فأما من " يوقن الجرح ولا يكون القتل فلا صوم عليه إلا احتياطًا. فإن قيل: فإذا كان غير موقن للقتل فلم لا تسقط الدية والرقبة أيضًا. قيل: اليقين في القتل مرتفع على الانفراد، وغير مرتفع على الجمع فلما أمكن توزيع الدية وثمن الرقبة بين الجميع وزعت، ولما أعوز توزيع الصوم بين الجميع أسقطته إيجابًا واخترته احتياطًا، وقد دللنا على تَوهين رواية سعيد بن المسيب، عن عمر في كل شيء، لولادته لسنتين خلتا من خلافته، وما ذكر عن عمر من قتل نفر بواحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 بروايته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 وروي عن معاذ بن جبل، وابن الزبير، وعبد الملك، وسعيد بن جبير، وحبيب بن أبي ثابت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 لا يقتل اثنان بواحد. * * * قوله: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) دليل على تصرف الولي في مال اليتيم بما عادَ صلاحه على اليتيم. والله أعلم. فإن قال قائل: قد قبلنا قولك في جعل الدية على قاتل العمد لما ذكرت من قوله تبارك وتعالى في سورة البقرة بعد ذكر القصاص في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) فلم جعلت عليه عتق رقبة، وصيام شهرين متتابعين إذا أعوزها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 وهما كفارة قاتل الخطأ الذي تُقْبل توبته، وقاتل العمد لا تقبل توبته. وإنما الكفارة كاسمها تكفر معصية قتل الخطأ، وقتل العمد لا تكفره الكفارة، إذ لو كفرته ما منع التوبة من فعله. قيل له: ولم لا يقبل توبته. فإن قال: لأن الآية التي في سورة الفرقان منسوخة بالآية التي في النساء، من أجل أن الفرقان مكية والنساء مدنية. قيل له: أما نزول السورتين فكما ذكرت. ولكنه جل وتعالى ذكر في سورة النساء عقوبة قاتل المؤمن عمدًا، ولم يقل أنه حجب عنه التوبة فإن قال: ذكر الخلود في النار والغضب واللعنة دَليل على حجب التوبة. قيل: لا يجوز أن يجعل ذلك دليلاً، لأنه جل وتعالى قد ذكر الخلود واللعنة والغضب في عقوبة الكافر، ولم يحجب عنه التوبة فقال تبارك وتعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) . وقال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 وقال: (إِإِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) . وقال: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) ، وقال (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) إلى قوله: (وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) ولم يحجب التوبة عنهم. ثم قال في سورة النور وسورة المتحرم مدنيتان: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) . (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) . واسم الإيمان غير زائل عن قاتل العمد، وهو داخل في دعوة الآيتين إلى التوبة وفي كفارة سيئته بقوله: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) . وقال في سورة اَل عمران وهي مدينية) 9 ( أيضًا: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 وقال في سورة النساء: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) . فأوجب المغفرة في هاتين الآيتين إيجابا عاما ولم يستثنِ فيها أحدًا، والمغفِرة في اللغة مثل الكفارة، لأنهما جميعًا يستران الذنوب، ومنه سُمي مغفر الرأس، لأنه يستره، وسُمي الكَفّار في الزروع، لأنهم يسترون الحب إذا بذروه بالتراب. وكذلك الكفارة تستر الذنب، وتصير والمغفرة معًا حجابًا وسترا لعامل المعصية من النار، وسائر عقوبات الآخرة. فإبطال التوبة وحجبها عن قاتل العمد بما ذكر الله من عقوبته في الآية لا وجه له لمن تدبره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 فلو أنه قال: إن قاتل العمد بما ذكر الله من عقوبته مات بغير توبة يخلد في النار، واستوجب العقوبة المذكورة له في الآية، ولم يمنعه التوبة كان كلامه أشد استقامة وأحسن توجهَا كما أن الكافر المذكور عقوبته بالخلود واللعنة والغضب كذكر عقوبة القاتل إذا مات على كفره قبل إحداث التوبة منه استوجب ما ذكر به، وخلد في النار بكفره مع أن هذا وإن حسن توجهه من قوله فإنا لا نسلمه له في الموحدين وإن ماتوا بغير توبة، للحجج التي حواها فصول كتابنا هذا على نسق الآيات في السور، وعند الرد على المعتزلة والشراة، والأخبار الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نزل الموحدين في النار، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 وإخراج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان منها. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم بتأويل ما نزل عليه من التغليظ في آية قاتل العمد. ونحن وفقهاء المسلمين كافة من أصحاب رسول االله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين والأئمة بعدهم نخص بالسنة الصحيحة عموم القرآن، ونجعلها بيانا لجملته. وبعد فقد وجدنا آية في سورة المائدة تدل على أن التوبة مقبولة من قاتل العمد بلفظ التوبة - وإن كان كلما ذكرناه من تمهيد التوبة له شافيًا قال الله تبارك وتعالى - وهي آية مدينية -: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 ولا يشك أحد أن المحاربين قد يبلون لا محالة بالقتل إذا طال مكثهم في المحاربة، ولم يَستثنِ الله منهم القاتل، بل الفقهاء المتقدمون والأئمة المختارون كلهم على تفسير علي، وابن عباس في أن (أو) ليس بتخيير في هذه الآية، وأنه لا يقتل منهم إلا من قتل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 وقد أسقط الله عنهم جميع عقوباتهم بالتوبة، وذكرها بلفظها. ووعدهم المغفرة كما ترى في الآخرة، والصفح عن العذاب العظيم الذي ذكره بعد ذِكر الخزي في الدنيا بلفظ ما ذكر في سورة النساء: ) وَأَعَدَّ لَهم عَذَابًا عَظِيما) . قال محمد بن علي - رضي الله عنه: وإذا صح أن توبة قاتل العمد مقبولة، وله ممهدة فلا تصح له مع الندم إلا بعتق الرقبة، أو صيام شهرين إن عدمها لشمول اسم القاتل له. وليس سبب القتل من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 العامد والخاطىء بمزيل عنه اسم القتل، وقال الله تعالى بعد ذكر الرقبة: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) . فهذا نص لا قياس لما دللنا عليه من أن سبب القتل لم يُزل اسم القاتل عنه، ووجوب الكفارة بالفعل لا بسببه، وإسقاط القود عن قاتل الخطأ مسلم فيه لإجماع الأمة. ذكر تحريم الحكم والفتوى بغير علم، وترك قبول الطعن في المسلمين. * * * وقوله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 حجة فى أشياء: فمنها: تحريم الحكم والفتوى بغير علم. ومنها: ترك قبول الطعن في المسلمين بغير ثَبت - ولا ثَبت إلا بيقين المعاينة، أو السمع من المطعون عليه لا مِنَ الطاعن، أو قيام بينة عادلة معروفة بالصدق والأمانة من كل ترة أو حقد بينها وبين من يشهد عليه، غير سابقة إلى شهادتها. قيل: يستشهد عند الضرورات، وإقامة الشهادات لإقامة حد، ولا مبادرة إلى اغتياب من يطعن عليه عند من ليس بسلطان يقيم الحدود. متفكهة بهمزه ولمزه غير جارة بهما نفعًا إلى مسلم، ولا دافعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 مضرة عن موحد أو ذي عهد. فإن لم يحب ستر أخيه وإخفاء عيوبه جهده وطاقته ويكره أن يسير في الناس على لسان غيره فضلا عن أن يتفكه هو بها، ويذيعها فيمن يعرج بهتك الأستار أجدر أن يعد في عِداد الفجار. ولا يقبل قوله في الأخبار. وأرى نساك زماننا قد أهملوا هذا من أنفسهم، وأغفلوه في رعياتهم، وتسرعوا إلى تعليق العيوب على إخوانهم المؤمنين يوهمهم الشيطان أنهم بذلك إلى الله متقربون، ولدينه ناصرون، وبحقه قائلون. فقصارهم اتباع عورات المسلمين، وهتك أستار المستورين بعد الجهلة المغتابين فيفسقون من يجهلون حاله بشهادة من يشهد بفسقه غيبته المحرمة بنص القرآن، ويحققون الظنون على المستورين بإذاعة الكذابين. أليس يعلمون أن أهل الإفك ما أهلكهم إلا الظنون السيئة بأم المؤمنين، والخير من الصحابة الفاضلين صفوان بن المعطل - رضي الله عنه - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 حيث تخلف من وراء الجيش، وأقامت أم المؤمنين المبرأة بكلام رب العالين على التماس العقد حتى اجتمعا على غير تواطؤ، ولا إرادة سوء في منزل واحد، وَبَقِيَا معًا منفردَين حتى أبقا بالجيش، وهلك فيهما من هلك. أفترى شهادة المغتابين والمذيعين الفواحش بالبلاغات، وفقد المعاينات أبلغ في فسق المستورين من اجتماع هذين المعصومين رضي الله عنهما - على حال يقدح معشارها في قلوب المنافقين، وتطلق أَلسُن المفتونين على البرية الرضية أم المؤمنين وصاحبها الخير من المسلمين حتى أدتهم ظنونهم إلى ما أدت، ونزل فيهم في تكذيبهم، وفي براءة المرميين من الآيات في سورة النور ما نزل فيها: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) . وفيها: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 أوليست هذه الآيات - وإن كانت خاصة في براءتهما - فهى مأدبة وَعِظة لمن سمعها أن لا يهلك بما هلكوا، ولا يفعل في المسلمين ما فعلوا. وبعد فلو كان مفسق المستورين بالبلاغات، وقول المغتابين " ومن يفرح بهتك المؤمنين عاين ممن طعن عليه قبله بعض محارم الله يفعلها لكان مأمورًا بالستر عليه، وترك إذاعة فعله في غيره، والذب عنه جهده وكان في إسرار النصيحة إليه ما يؤدي حق ربه عليه. أوليس معروفًا عند علماء الحديث والفقهاء صنيع رسول الله - صلى الله عليه وسلم بماعز بن مالك وهو يُقِر على نفسه بفاحشة الزنا، ورده مرة أخرى، والمسألة عن عقله بعد استثبات معرفة الزنا والتحصين منه،. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 أوليس قال لهزال حين أخبره بعد رجمه إياه أنه المشير عليه بإتيانه: " يا هزال، لو سترته بثوبك كان خيرا لك مما فعلت به ". أوليس حين فرغ من رجمه، وركب مركبًا سمع قائلا يقول لآخر: انظروا إلى هذا ستر الله عليه فلم يستر على نفسه حتى رُجِم رجم الكلب، فسار صلى الله عليه وسلم قليلا فإذا بحمار ميت شابكٍ برجله، فقال: " أين فلان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 وفلان، " فقالا: نحن يا رسول الله. فقال: "انزلا وكلا من جِيفة هذا الحمار ". فقالا: غفر الله لك يا رسول الله، ومن يأكل من جِيفة هذا الحمار، فقال: " قد أكلتما آنفا من عرض أخيكما ما هو أشد تحريمًا عليكما من جيفة هذا الحمار"، فجعل القائل والمستمع في دَرجة العقوبة والتحريم واحدة. أوليس قد أشار أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - على آتي. أليس كعب بن عمرو البدري - رحمه الله - حين أخبرهما بصنيعه بالمرأة التي أرادت منه تمرا، فذهب بها إلى البستان، وفعل بها ما فعل من التقبيل والاعتناق، وكل شيء مكروه غير الجماع أن يستر على نفسه، ولم يذكرا أمره لأحد، ولا أقصياه ولا هجرا بل ظنا به أن قوله لهما ندم على فعله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 أو ترى شهادة الفاسق المغتاب أكبر من شهادة ثلاثة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإثباتهم على رؤية الزنا، والرابع يشهد بأنه قد رآه فوقها، وسمع نفسا غالبَا على من شهدوا، فجلد عمر - رضي الله عنه - الثلاثة، وفسقهم ائتمارَا لربه، وامتنع من قبول شهادتهم مدة حلافته وكان المشهود عليه عنده في حالته الأولى من ستره وفضله لم يحفه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 ولم يتغير له. فما بال نساك زماننا يوثر في قلوبهم على إخوانهم المؤمنين قول كل ناعق يغويهم بكذبه، ويهلكهم بغيبته حتى يتسرعوا إلى الهجران المحرم بنص السنة، وإلى إذاعة الفاحشة في المؤمنين الموعود عليها بنص القرآن أليم العذاب في الدارين معا، وما بالهم يتحلون بالفظاظة والغلظة على من زلت به قدم الستر بيقين. فكيف بالظنون والكذب المخترص، ولا يقتدون بما أدب الله به نبينا - صلى الفَه عليه وسلبم - وغيره حيث يقول: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) ، وقال لموسى وهارون - صلى الله عليهما - حين بعثهما إلى فرعون: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) فاستعمله رسول اللَه - صلى الله عليه وسلم سمعًا وطاعة لربه، فقال للرجل الذي استأذنه في الزنا: "أترضاه لأمك، أترضاه لأختك، " ولم يغلظ له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 وأمر من أخذ بيد علقمة بن عُلاَثة حيث مرَّ على خيم له فقطع أطنابها - وهو سكران - من يأخذ بيده حتى يبلغه إلى أهله. وقيل لعقبة بن عامر الجهني: إن لنا جيرانا يشربون الخمر، أفلا نرفعهم إلى السلطان. فقال: لا، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من رأى عورة فسترها فكأنما أحيا موءودة من قبرها "، وقال عليه السلام: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكن بالمؤمنين رحيمًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 ولايكونن عليهم غليطا ". وقال علي بن أبى طالب - رضي الله عنه - : " لو رأيت رجلا يشرب الخمر لم يره معي غيري فاستطعت أن أستره لسترته "، ومر سعيد بن المسيب بسارق أتريدون به السلطان. فأعطاهم دينارا حتى خلوه. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكرر على سارق،: " ما إخالك سرقت " مرة بعد أخرى. وهو يقر له. وكلح وجهه حين قطع بين يديه. فقالوا له: كأنك كرهت، فقال: " ومالي لا أكره وأنتم أعوان الشياطين على أخيكم " يحثهم على الستر ما استطاعوا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 ولا يرفعوه إلى الأئمة الذين ليس لهم تركها بعد رفعه إليهم. وقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 لصفوان في سارقه: " فهلا قبل أن يأتيني به "، وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: " أذنوا للفجر بليل ليسير السائر. ويخرج العاهر". فهذا وما يشاكله من الأخبار - التي لو تقصيناها لطال بها الكتاب - يأمر بالستر على ما فيه لله - جل وتعالى - حدود وقد أمر بترك الرأفة في إقامتها، فكيف فيما هو دونها من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 العيوب، أو الأمور التى يمكن فيها التأويلات، وتحسين الظنون. وائتلاف القلوب، وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "من بلغه عن أخيه شيء يكرهه، فما دام يجد له في الحق مساغا لم يذهب إلى غيره ". وروي عن لقيط بن أرطات السكوني: إن لنا جارًا يشرب الخمر ويأتي القبيح أفأرفع أمره إلى السلطان. قال: لقد قتلت تسعة وسبعين من المشركين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما أحب أني قتلت مثلهم، وأني كشفت قناع مسلم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 وقال أبو قلابة إذا بلغك عن أخيك أمر تكرهه فاطلب له المعاذير بجهدك، فإن طلبتها فلم تجدها فقل: لعل له عذرًا لا يبلغه علمي. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 فهذا وما يضاهيه من أخلاق المؤمنين المؤيدين بالتقوى، وما خالف هذا فهو من أخلاق المنافقين السارين بعيوب المؤمنين، ومن يحب تفرق الكلم، وانغراس العداوة والبغضاء بين أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد كره، غير واحد من الأئمة أن تجمع في مسجد مرتين خشية تشتت الكلم، وتفرق نظام الإسلام. فضلا عن تتبع العيوب بخاطر من الغيوب، واقتفاء ما لا علم لمعنفيه به كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 قال الله - جل وتعالى - في هذه الآية التي بدأنا الفصل بها. ومنها: التحفظ في الشهادة على الحقوق. وقد ذكره الشافعي - رضي الله عنه - في كتاب الشهادات. ومنها: حفظ السمع عنِ استماع المنكر كله، وغضّ البصر عن المحارم كلها. ومنها: أن الله - تبارك وتعالى - يسأل عن الإضمارات والطوايات المذمومة، وإن لم تساعدها الجوارح بالحركات، لأن الأفئدة محل الضمائر والنيات، وبها تصح جميع أعمال الجوارح والحركات. وليس في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إخبارا عن ربه - تبارك وتعالى - أنه يقول لملائكته: " إذا هَمَّ عَبدِي بسيئة فلا تكتبوها حتى يعملها " ما يدفع ذلك، لأن ذلك هو في الاهتمام بسيئة لا تعمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 إلا بالجوارح مثل القتل والزنا وأشباهه مما لا يستطاع فعلها إلا بالجوارح فتجاوز الله رفقًا بعباده ورحمة لهم عن الاهتمام بها دون الفعل. إذ الاهتمام يضاهي الخاطر والشهوة وهما غير مملوكين. فأما ما كان سلطانه فيه للقلب من الطوية على الكفر، وحفظ المنكر وأباطيل السحر وأشباهه فالإضمار عليه والقبول له عمل يكتبه الحافظ، ويسأل عنه الرب جل وتعالى. ومن زعم أن خطرة المعصية التي لا تتم إلا بالفعل يسأل عنها إذا طالت عليه، وتمكنت شهوته من قلبه وإن لم يعملها بجوارحه. واحتج بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا توجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) قيل: يا رسول الله: هذا القاتل قد عرفناه، فما بال المقتول، فقال: " إنه كان حريصًا على قتل صاحبه ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 فقد أغفل عندي، لأن المتواجهين بالسيفين كليهما مستعمل جوارحه ويريد ضرب صاحبه بعمل يده، واستعمال حديدته، ونفس إشارة الحديد إلى المسلم، والحمل عليه وتخويف به معاصٍ كلها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 معمولة بجارحة اليد وقوة البدن، فكان يصح تأويله لو كان أحدهما كافا يده مقتصرًا على إضمار قلبه، والآخر مضمرًا ومستعملاً. فأما وكلاهما مضمران مستعملان فهما فاعلان ولا وجه لتأويله مع الفعل وليس في قوله صلى الله عليه وسلم: " في النار " ما يسوي بين درجتيهما فيها إذ قد يجتمع في النار من يتباين في كثرة العذاب، وذواق مضضه. فيجوز أن تجمعهما النار، والقاتل أكثر عذابا من المقتول لزيادة جرمه وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " منهم من تأخذه النار إلى كعبه، ومنهم من تأخذه إلى ساقيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم ومنهم حتى ينغمس فيها ". * * * قوله: (قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) . وقوله في سورة الأنبياء: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 حجة فيما نقوله عند الاحتجاج على المبتدعين والمعطلين لو كان الأمر كما تقولون لما كان كذا وكذا ولوجب أن يكون كذا في الشيء الذي لو ابتدأه مبتدئ على غير تمثيل لكفر، وقد أبيح له أن يقول متمثلا لتقرب الحجة به على مخالفه ولا يحرج. ذكر التسبيح. * * * وقوله: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) دليل على أن ذا الروح وغيره مما لا حياة فيه، ولا حركة ظاهرة مثل الحجر والدر والخشب تسبح لا أنه مخصوص به الروحانيون دون غيرهم. ويحقق قول أبي صالح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 حيث جعل نقيض الباب تسبيحَا له، وقول مرثد اليزني حين أخبر: أن الزرع يسبح. ويوهن تفسير عكرمة (3) حيث خص الروحانيين بالتسبيح. ويؤيده الحديث المروي: " كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل ". وتسبيح الحصا في يد النبي صلى الله عليه وسلم، ويد من سبح فيها من أصحابه، وهذا أعم وأبلغ في قدرة الرب القادر على إنطاق كل شيء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 كما أنطق الروحانيين. ألا ترى أن السموات والأرض ليستا ذوات روح ظاهرة كالإنسان وسائر الحيوان، وابتداء الآية بذكر تسبيحها قبل تسبيح من فيها، وهو واضح لا إشكال فيه. ذكر الرقية. * * * قوله: (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) دليل على إباحة اتخاذ القرآن حرزا، وأن اتخاذ التمائم أحرازا هو المنهي عنها، لأن التميمة لا تكون إلا ما هي بغير لغة العربية من ألسنة العجم وغيرها من سائر ألسنة العرب - ولعله يكون شركَا وكلامَا مكروهَا - والقرآن حق فهو شفاء مَنِ استشفى به، وحرز من احترز به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 فإن قيل: إنما جعل قراءة القرآن في هذه الآية حجابًا بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين آية لهم خاصة. قيل: ليس ذلك بيناً في الآية، ولو كان بيناً أيضا ما ضرَّ أمته الاحتراز بما يكون في نفسه حرزًا، لأنهم لا يدّعون بذلك نبوة إنما يحترزون به من المكاره، وشر الجن والإنس. ويؤيد ما قلنا الحديث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 المروي في الرجل الذي رقى رئيس الحي بفاتحة الكتاب وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من كان آكلًا برقية باطل فلقد أكلت برقية حق ". وحيث قال للمرأة وهي ترقي بعض أزواجه: "ارقيها بكتاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 اللَّه، ولما جاء جبريل - عليه السلام - يوقي النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه قال: " بسمِ الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعوّذ الحسن والحسين فيقول: " أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامَّة، ومن كل عين لامَّة". ويقول: " بهذا كان أبوكما إبراهيم - صلى الله عليه - يعوذ إسماعيل وإسحاق " فكل ذلك يدل على أن المنهي عنه من النشر والتمائم ما كان بغير ذكر الله، فأما الاحتراز بذكر الله والقرآن فهو الحق الذي لا يرتاب فيه، أليس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الشيطان ليفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة " (3) ، وحديث أبي أيوب الأنصاري: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 مع الجنية في شأن آية الكرسي، وأشباه ذلك. * * * قوله: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) حجة على المعتزلة والقدرية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 ذكر الموعظة. * * * قوله: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى) . دليل على أن الإنصات للموعظة والإقبال على الواعظ واجب، وأن الكلام عندها أو محادثة بعضهم بعضا في مجمع يعظ فيه واعظ مذموم. وتهاون بالموعظة ولهو عنها، وفي ذلك زوال منفعتها وفهم ما أودع فيها. ذكر المعتزلة. * * * قوله: (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) حجة على المعتزلة والقدرية في الكتاب السابق، إذ تستطير إهلاك القرى وتعذيبها لا يكون إلا بإساءة أهلها. فهي بحمد الله حجة خانقة لهم، إذ محال أن يسطر إهلاك شيء من أجل شيء ويجعل عقوبة له إلا وقد سبق الكتاب في ذلك الشيء، ولا يكون مبتدأ بل يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 جاريًا على ما فرغ منه، فلو تميزوا هذا الفصل الواحد لأغناهم - بعون الله - عن غيره، ولعلموا أن إقحامهم على معرفة كُنهِ عدل الخالق. وحمله على فطرة عقولهم من أجهل الجهل. (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) دليل على تشريف هذه الأمة، وتفضيل رسولها على سائر الرسل - صلوات الله عليه وعليهم - وذلك أنه - جل جلاله - كان من حكمه في الأمم السالفة أن نزل العذاب بكل من كفر بآياته فصرفه عن هذه الأمة بترك إرسال الآيات الموجبة للعذاب على من كفر بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 قوله: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) حجة على المعتزلة والقدرية، وفي تفسير ابن عباس على الجهمية ذكر التاكيد. * * * وقوله: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ) حجة على من نفي التأكيد في كلام العرب من حيث لا إشكال فيه ولا لبسة دونه، لقوله إخبارا عن إبليس: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 بعدما قال: (قَالَ أَأَسْجُدُ) ، ولو كان التأكيد نافيا عنه لكان - والله أعلم - أرأيتك بلا (قال) ، ويكون (وقال) بالواو، ويكون كلاما مستأنفَا. * * * وقوله تعالى: (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) حجة على المعتزلة والقدرية، وبراءة إبليس اللعين ما ينسبونه إليه من القدرة على تضليل الخلق. ألا تراه كيف ألقى الله الاستثناء على لسانه حتى استثنى بالقليل، علمًا منه بأن المعصوم ومن سبق له الخير من ربه لا سبيل له عليه، إنما سبيله على من حقت عليه كلمة ربه فتبعه وتولاه. وسبق القضاء عليه أن يكون معه في دار الهوان، قال الله تبارك وتعالى: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) . وهذا السلطان منه على متوليه المشركين بربهم سلطان تسليط لا اقتدار بقوته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 ألا ترى أن من الكفار من قد سبق له في علم الله إيمان وانتقال من الكفر إليه فيذهب سلطانه حينئذ عنه، فلو كان سلطانا بغير تسليط لدام له عليه، أو كان على الجميع ولا يستثنى القليل فهذا واضح لا بعد فيه، ومما يؤيد به أنه يسلط قوله: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) وليس يخلو قوله: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) من أن يكون واقعا على الجميع مؤمنهم وكافرهم، أو على المؤمن دون الكافر، فإن كان واقعا على مؤمنهم خاصة فهم المستثنون بالقليل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 وسلطانه زائل عنهم بكل حال. وإن كان واقعا على جميعهم فقد صح أن سلطانه على الكافر سلطان تسليط. وعدته عدة غرور. الفزع إلى الله في الشدة دون الرخاء: * * * وقوله تعالى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) إلى قوله: (ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) . دليل على أن الفزع إلى الله في الشدة دون الرخاء خلق من أخلاق الكافرين. وأن المؤمن مندوب إلى مراعاة حق الله عليه، والتعرف إليه في الرخاء ليجاب عند الشدة فإذا أجيب ازداد ذكرا وخشية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 واقترابا وتفويضا ليكون عبدًا مؤتمرا لا وجلا خائفا، متبرئًا من الحول والقوة مستمدًا بالمعونة من ربه في كلا حاليه من الرخاء والشدة مثل هذا قوله في سورة النحل: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) . * * * قوله: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إلى قوله: (وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) حجة على المعتزلة والقدرية في نسبة التفتين إليهم على ما بينا في غير فصل من كتابنا من نسبة الفعل إلى فاعله، وزوال الضرر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 في تثبيته، وما في زوال القدر عن تحويل السنة. ذكر صلاة الليل. * * * وقوله تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) دليل على أن صلاة الليل وإن كانت على النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد تأكيدًا فهي نافلة له لا فرض عليه. وتفسير مجاهد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 من رواية ليث عنه لا يقوم للمعتزلة والجهمية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 والتفسير الذي روي عنه - صلى الله عليه - أنه قال: " هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي "لا يدفع تفسير مجاهد. أو جائز أن تكون شفاعته في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 ذلك الموضع، وكل موضع يحل به المرء فهو مقامه. * * * وقوله: (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ) حجة على المعتزلة والقدرية ذكر الاستشهاد ببعض الحق * * * وقوله: (أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 حجة في الاستشهاد ببعض الحق على بعض. ودليل على أن أحدا لا يلزمه حجة فيما يخاطب إلا من حيث يعقلها ويفهمها. وأن الشاهد يستدل به على الغائب ويكون حقا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 سورة الكهف * * * قوله: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) حجة على المعتزلة. (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) حجة في تثبيت الأسباب، ورد على جهلة الصوفية فيما يزعمون أن التوصل إلى الرزق بالطلب والسعي والحركة نقص في التوكل. وذلك غلط غير مشكل، ألا يرون أن الله - تبارك وتعالى - كان قادرًا على إزالة البِلى عن أصحاب الكهف بغير تقليب، فهل يزعمون - ويحهم - أن تقليبه إياهم يمينًا وشمالاً نقص في قدرته، أم يرجعون عن قولهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 فيعلمون أن الله - جل جلاله - لما جعل سبب البلى طول المكث على جنب قلبهم إلى الآخر ليزول البلى عن القوم بالسبب الذي جعله لهم ولغيرهم. ولما جعل الرزق موصولا إليه بالسعي والحركة حركهم للطلب ليصير إليهم رزقهم بالسبب الذي جعله له، ولم يكن سعي الساعي وحركته في طلب الرزق بالسبب المجعول له نقصا في التوكل، ولا تداوى المريض يكون نقصا في التوكل على هذا المعنى. الاستثناء. وقوله، (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّه) حجة على المعتزلة والقدرية واضحة، ألا ترى أن الله - جل جلاله - كيف أدب نبيه - صلى الله علحه ومملم - فأعلمه أن فعله الشيء وإن كان منسوبا إليه فبمشيئته يفعله، ونهاه أن يطلق القول في فعله بغير استثناء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 مشيئته. فإن قالوا: ليس الاستثناء لزوال القدرة في الأفعال إلا بمشيئته. ولكن لمخاطرة الموت ولحوقه قبل مجيء وقت فعله لزمهم أن يبطلوا الاستثناء في جميع الأحوال فيزعموا أن من قال: واللَّه لأفعلن كذا وكذا لوقت إن شاء الله فجاء الوقت ولم يفعله أن الحنث واقع به، إذ الاستثناء عندهم مصروف إلى مخاطرة الموت دون زواله القدرة في الفعل إلا بمشيئة الله، وهذا مقابلة الإجماع بالرد من جميع أهل النحل. ولا أعلم في جميع ما مضى من الحجج عليهم وإن كانت كبارا خانقة أقرب إلى أفهامهم إن أنصفوا من هذه، وذلك أنهم مقرون بالاستثناء في الأيمان أنها جائزة مزيلة للحنث عن الحالفين بها، وهذا إغفال مفرط منهم كشفه الله لنا بنعمته، وأنطق به ألسنتنا عليهم. فإما أن يخالفوا القرآن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 والرسول والإجماع في جواز الاستثناء في الأيمان فيبطلوه ويكفونا مؤونة الاشتغال بهم، وإما أن يقروا بأن الأفعال في جميع الأمكنة وإن كانت منسوبة إلى فاعليها فبمشيئة الله يفعلونها، كما أن الحنث في الأيمان إنما زال عنهم بترك فعل معقود على الأنفس فعله وزالت كفارته لإحاطة العلم بأن الله لم يشأ فعله فلذلك لم يفعله، ولو كان شاء فعله ولم يجد عنه محيصا ولفعله، فلما كان شرطه في فعل يفعله العاقد مشيئة ربه فزال الوقت قبل فعله علم من غير لبسة، ولا إشكال أن الله لم يشأ فعله فلذلك لم يفعله، ولم يلزمه كفارة الكذب لأنه عاد صدقًا. فإن قالوا: إذا أسقطتموها عنه لأنه عاد صدقا فأوجبوها عليه إذا حلف أن لا يفعل فعلًا ففعله لكذبه. قيل لهم: ولا هذا هو كاذب، لأنه إنما حلف أن لا يفعله إن شاء الله ذلك، فلما شاء فعله ففعله بمشيئته لم يكن كاذبًا. فإن قالوا: فهلا أسقطتم الحنث عنه إذ كان عقد يمينه على فعل شيء لوقت بلا استثناء فزال قبل أن يفعله لهذه العلة بعينها، وقلتم زوال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 مشيئة الله عنه في الفعل الذي كان عقد على فعله أقعده عن الفعل لا تفريطه فيسقط الحنث والكفارة عنه. قيل: هذا نفس ما فيه الخلاف بيننا وبينكم من أن الأفعال المعدودة في عداد الجنايات من الفاعلين وإن كانت بقضاء سابق، ومشيئة تابعة لمشيئة الخالق ففاعلوها على فعلها معاقبون، ولا يكون تصور الجور فيه عند الخليقة حقا بل هو باطل، وعقولهم لنقصها لا تبلغه، وهو عدل في الحقيقة عند الخالق، موجب الحث على هذا وجوب عبادة في الأمر والنهي اللذين قد دللنا على أن المسلك بهما مسلك القضاء خطأ في الحكم وإن كان حقّا في الأصل. وفي وجوب الحنث على الحالف وجوب الكفارة المجعولة فيه أيضا. حجة على ذكر الاستثناء. (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) حجة من يجيز الاستثناء في الأيمان وإن لم يكن موصولاً، حتى إن ابن عباس - رضي الله عنه - يجعل له الاستثناء بعد سَنة، والذي عندي فيه: أن الاستثناء لا يجوز إلا موصولا باليمين. إذ لو جاز أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 يتبع الاستثناء اليمين بعد قطعها والأخذ في غيرِها ما حنث أحد في يمين أبدًا، ولا وجبت على الحالف كفارة، إذ الكفارة لا يوجبها إلا الحنث. والحالف إذا قدر أن يخرج من الحنث بالاستثناء بعد قطع اليمين فقد أزال الكفارة عن نفسه في كل ما حلف عليه من الأيمان. وفي هذا إبطال آية الكفارة وإبطال حكمها. ومما يؤيد ما قلنا من أن الاستثناء لا ينفع الحالف بعد قطع يمينه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأتِ الذي هو خير، وليكفر عن يمينه "، فلو كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 الاستثناء ينفع بعد قطع اليمين لقال: " فليستثن ". ليخرجه من يمينه. ولم يقل: " فليأتِ الذي هو خير وليكفر عن يمينه "، ولدل الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - حين حرم جاريته على الاستثناء ليغنيه عن تحلة يمينه بالكفارة، أو لاستدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 بقوله: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) إذ هو أذكى الخليقة رأيًا وأجوده خاطرًا، ومحال أن يكون أحدٌ أعرف بما أُنزِل عليه منه. فهذا بين لا لُبسةَ فيه أن الاستثناء لا ينفع الحالف بعد قطع يمينه، ولا يخرجه من الكفارة إلا وصوله بها أو البر في يمينه. فالتوقيت بالسنة في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 ذلك فلا أعرف وجهه - والله جل وتعالى أعلم - بما أراده ابن عباس - رضي الله عنه -. فإن قيل: فما الفائدة إذَا في قوله: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) . قيل: يحتمل أن يكون ذكر ربه بالقول الذي أمر به حيث يقول: (وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) إلا بالاستثناء ويحتمل أن يكون تأديبَا له وحثًا على المستأنف. والله أعلم بما أراد منه. ذكر الدعاء ومجالسة صالح الفقراء. * * * وقوله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) دليل على أشياء: فمنها: حمل النفس على المكاره والتماس القربة إلى الله، وصرفها عما تنازع إليها من هوايا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 ومنها: إبطال الاستحسان ولأن الخطأ فيما يكون ظاهره قربة، لأنا لا نشك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمَ يلهُ عمَن عاتبه الله جل وتعالى فيه ويقبل على غيره إلا طمعا في إسلامهم. وإسلامهم في الظاهر قربة فعاتبه الله عليه كما ترى، ونهاه أن تعدو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 عيناه عمن أهمله طمعًا في إسلام غيره. وإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه المنزلة لا يصوب الله له مع حسن رأيه، وجودة خاطره ما يراه صوابا حتى تأتيه الرسالة فيما يريد فعله، فمن بعده من المستحسنين والقائسين أبعد من الصواب، وأقرب إلى العتاب فيما يحلون ويحرمون بآرائهم ونظرهم. وفي ذلك دليل أن كل شيء قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو فعل فعله، أو أمر أمره، أو نهي نهى عنه لم يوجد فيه عن الله تعالى نكير عليه فهو حق لم يأوِ فيه إلى هواه بلِ اتبع فيه ما أنزل إليه من ربه كان متلوا في القرآن أو غير متلو بقوله: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ) ، وبقوله: (إِن أَتًبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلي) . وبقوله: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) وما يشاكل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 هذا من آي القرآن إذ لا يخص موضعًا بإنكار فعله، ويدله على خلافه إلا وقد أقر له سائره، وأوجب على الخلق اتباعه. ومنها: أن الدعاء بالغدوات والعشيات أفضل وأجدر بالإجابة. ومنها: أن مجالسة الصالحين مأثورة على مجالس غيرهم، ومندوب إليها المؤمنون. ومنها: أن اجتناب دخول الغم على المؤمنين فرض على الموحدين. ومنها: أن استبدال مجالسة صالحي الفقراء بطالحي الأغنياء معصية. وإن لم يعمل المستبدل بأعمالهم. ومنها: أن النية الحسنة في ظاهر فعل منكر لا تنفع، واستعماله لا يجوز فقد دخل الآن في هذا ما حكي عمَّن كان يجنن نفسه، ويفعل أفعالاً ظاهرها منكر طلبًا للخمول، والسقوط من أعين الخلق لئلا يشار إليه بالأصابع فيفتتن، لإنكار الله - جل وتعالى - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 ما أنكر من ترك جلسائه والإقبال على من أغفل قلبه عن ذكره مع إرادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ما أراد، وحرصه على إسلام من أقبل عليه. وقد رأيت كثيرًا من نساك زماننا ومتصوفيهم مستحسن هذا الفعل من فاعله، وهو عندي منكر لما أعلمتك، ولا أراه مع ذلك إلا كتمان نعمة الله على المرء في عاقبه، وتوفيقه للصلاح وعصمته من الطلاح، أليس اللَّه يقول: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إذا أنعم الله على عبده نعمة أحب أن يرى أثر نعمته عليه "، وكان إذا مر بمبتلى قال: " الحمد لله الذي عافانا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 مما ابتلاه به، وفضلنا على كثير من خلقه تفضيلاً ". أفيجوز التشبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 بشيء تعوذ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوليس يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الذي يعمل العمل يسره فيطلع عليه. فيسره له أجران: أجر السر وأجر العلانية أوليس الله - جل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 وتعالى - قد مدح المعلنين بالطاعة كما مدح المسرين بها فقال: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) فأَمَّن خائف الفتنة في الأعمال الصالحة عن كراهة ما يوسوس إليه، والفزع إلى الله - جل وتعالى - في إزالته، ومكابدة عدوه بلزوم العمل الصالح الذي يريد إقعادَه عنه بوسوسة مثل هذا إليه، وليس الله - تبارك وتعالى - شيئًا أحدثه بنيات الطريق إلا بين بجوده خطأه لئلا يقتدي به كل الناس فيضلوا بعد البيان. ونحن نظن بمن حُكي عنه من السلف هذا جميلا وأنه لم يرد إلا الخير ولعل علمه عَزَب عن هذه الأشياء، فلم يفض على نُكَتها، مع أنه لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 يحك عن أحد من المعروفين المعدودين في أئمة الدين وأعلام الهُدى. وليس في تطويل سِبال أيوب السجستاني رضي الله عنه، ولبسه نِعال الفتيان، وتطويل ثيابه نكير؛ إذ ممكن أن يكون طول سباله. وأحفى ما بين جانبيه من الشارب، وطول ثيابه فوق ثياب أشباهه وأشكاله ولم يبلغ بها ما يكون خيلاء، وطولها ولم يرد الخيلاء. وهي لا تكون معصية إلا مع إرادة الخيلاء. أليس أبو بكر الصديق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 رضي الله عنه - قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين سمعه يقول: " من جرَّ إزاره خيلاء لم ينظرِ الله إليه يوم القيامة ": إن طرف إزأري يرتخي إلا أن أتعاهده، فقال: لست منهم، فإنك لا تريد به خيلاء ". والنعال لبسها مباح كيف كانت، وكان ابن عباس - رضي الله عنه - يلبس النعال السندية ويقول: " تطرد العقارب في الصيف، وتقي الرجل في الشتاء ". ومنها: أن مجالسة طغاة الأغنياء من زينة الدنيا، وقد أوصى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائشة بترك مجالستهم فقال لها: " إن سرك اللحوق بي فإياك ومجالسة الأغنياء، ولا تستبدلي ثوبًا حتى ترقعيه، فإنما يكفيك من الدنيا كزاد الراكب ". ونحن نعلم أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 لم ينهها عن مجالسة عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وهم من صالحي الأغنياء، إنما نهاها عن مجالسة أشرارهم وطغاتهم. المعتزلة. * * * وقوله: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا) حجة على المعتزلة والقدرية لقوله: (أَغْفَلْنَا) ، ولم يقل: غفلوا. ثم قال: (وَأتَّبَعَ هَوَاهُ) ، ولم يقل: (وأتبعناه هواه) ، ففيه أكبر الدليل على أن إضافة أفعالهم إليهم في مواضع الإضافة في القرآن غير دافع فعله بهم وإرادته فيهم إذ قد يجمع بينهما في حرف واحد كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 ترى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) . فإن قالوا: فإذا كان قد جمع بينهما فَلمَ اخترت أحدهما دون صاحبه. قيل: اخترت في أصل الإيمان ما يكون به إرادة المخلوق تبعا لإرادة الخالق، ويكون الخالق غالبا عليه، ولم أختر ما تكون به إرادة الخالق تبعًا لإرادة المخلوق، ويكون المخلوق غالبا لخالقه، فأضفت الفعل إلى الفاعل في الأمر والنهي، لئلا يلحق بالآمر والناهي ظلم، وليكون المقصر فيهما هو الموصوف بظلم نفسه وإن كان ذلك بقضاء ربه لأُومِنَ بجميع القرآن ولا أرد بعضه ببعض. ذكر الحرير. وفي قوله: (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) دليل على أن الذهب والحرير حرم على ذكور هذه الأُمة في الدنيا. لأنها دار عبادة، وفي الآخرة حل لهم كما ترى. وكذلك الشرب في أواني الذهب حرم في الدنيا على الذكور والإناث والخمر كذلك دون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 الآخرة. قال الله - تبارك وتعالى - (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ) ، وقال: (وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 المعتزلة. * * * وقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذً ا أَبَدًا (57) حجة على المعتزلة والقدرية واضحة لإضافة الإعراض إليهم، وإخباره عن الحائل بينهم وبين التفقه والسماع من الأكنة على قلوبهم، والوقر في آذانهم، ونفي الهدى عنهم. وفي إخباره عن نفسه - جل وعلا - بجعل الأكنة على قلوبهم والوقر في آذانهم في هذا الموضع، وإنكاره عليهم في أول سجدة المؤمن حيث يقول: (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ) دليل على أن الإنكار عليهم في هذا، وفي قوله: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) على معنى ما لم يجعل لهم الاحتجاجبه والاستنامة إليه عن الأمر والنهي اللذين أمروا بما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 أعلهما، لأنهم في الموضعين جميعًا قال غير الحق. وقد شرحناه في سورة الأنعام ملخصًا بحججه، وكررناه ههنا لذكر الأكنة فإنه نظيره سواء. ذكر أرأيت. قوله إخبارًا عن فتى موسى: (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) حجة في إجازة أرأيت في المخاطبات وإباحته في المحاورات، ورذ على مَن ينكر من أصحاب الحديث اللفظة في نفسها من أجل استعمال أهل الرأي لها، وذلك غلط غير مشكل لما ذكرنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 وقد ذكرها الله عن نفسه في غير موضع من كتابه فقال: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ) . وقال: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) ، وقال: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) . وقال أبو ذر في مخاطبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أمره أن يكف يده في الفتنة: " أرأيت إن دخل بيتي فلم ينكر عليه، وقال له رجل: أرأيت إن قتلت في سبيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 الله صابرًا محتسبا، وقال له آخر: أرأيت رقى تسترقيها، ودواء نتداوى به ونفثَا ننفثه هل يرد من قدر الله من شيء فما أنكر على واحد منهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 وقول الشعبي - رضي الله عنه -: " بغَّض هذا المسجد إليَّ الأرايتيون: أرأيت أرأيت " إنما أنكر منهم مرادهم به لا نفس الكلمة، كما قال الله - تبارك وتعالى -: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 فأنكر عليهم مرادهم بالشهادة، وكذبهم في إضمارهم خلافها لا نفس الكلمة، ولا أحسب سُمي أصحاب الحديث بالحشوية إلا من مثل هذه الأشياء وشبهها. والإفراط في كل شيء قبيح، والاقتصار فيه محمود. المعتزلة والنسيان. فإن احتج علينا المعتزلة والقدرية بقوله: (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) ، وبقوله في سورة يوسف: (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) في تثبيت قدرته، وما يحول بين المطيع وبين طاعته. وقالوا: هذا هو قولنا في الشر إنه من إبليس. قيل لهم: ليس معناه معنى القدرة والسلطان، إذ محال أن يقدر على إنساء شيء أراد الله ذكره إنما معناه: أن وساوسه تشغله حتى ينسى وقتا ثم يذكره، ألا ترى أنه يقول في سورة يوسف: (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 فلو كان إنساؤه إياه بمعنى الاقتدار عليه في نفس إزالة الشيء عنه ما ادكر بعد أُمة. والأُمّة: الحين في هذا الموضع. ذكر أن العلم موهبة من مواهب الله. وفي قوله تعالى: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) إلى آخر قصة الخضر مع موسى - صلى الله عليهما - أدلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 فمنها: أن العلم غير مقسوم على فضائل الرجال ودرجاتهم عند الله. حتى يكون من هو أعظم فضلا في عمله ودرجته أعلم في دينه، وغير جائز أن يكون الأدون الفضل أعلم في أشياء ممن فوقه في درجة الفضل، وإنما العلم موهبة من مواهب الله يخص به من يشاء من عباده، ويفضل بعضهم على بعض فيه فلا تحط زيادة علم واحدة درجة فضيلة الآخر، ولا فضيلة الآخر تحيل أن يكون من دونه أعلم منه. ألا ترى أن موسى - صلى الله عليه - قصر علمه عما كان يفعله الخضر - وهو لا محالة أفضل منه - ولم يتخط درجة نبوته وفضله، لأن سبقه الخضر إلى علم لم يعلمه. وهذا حجة لنا فيما نختار قول الأصاغر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأمكنة على قول الأكابر، ونرى الحجة في بعض الأشياء مع الأنزل من العلماء دون الأعلى منهم فلا تكون حطا من درجات الأكابر والفاضلين، ولا طعنا عليهم وبخسا لحقوقهم. ذكر أن قلوب المؤمنين مجبولة على إنكار المنكر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 ومنها: أن قلوب المؤمنين مجبولة على إنكار المنكر، وغير مالكة للصبر على احتماله، لأن موسى - صلى الله عليه - وعد الخضر أن يصبر على ما يراه منه، فلما رأى ما أنكره عليه. النكير على الوعد. ومنها: أن من وعد وعدًا يريد الوفاء به عند قوله ثم عارضه دون الوفاء مانع قطعه عنه لم يكن خلفا، ولا كان عليه حرج ومثل هذا الدليل حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مَن وعد أخاه ومن نيته أن يفي ولم يفِ فلا إثم عليه ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 بل لو رأى الرشد في ترك الإنجاز فلا حرج، وقوله - صلى اللَّه عليه وسلم -: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه "، وروي: " فليأت الذي هو خير وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 كفارته ". فقد أمره أن يعمد ترك الوفاء بما قال باليمين فما لم يؤكده باليمين أحرى أن يتداركه. والله أعلم. ومنها: أن المعاريض ليست بكذب، لأن موسى - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 عارض الخضر بالنسيان. كذلك قال ابن عباس: " أما إنه لم ينسَ، ولكنها كلمة من معاريض كلامه ". ومنها: أن الحق عند الله واحد، وإن كان قد جعل لكل بأن يتكلم فيه على اختلاف ظاهر الرأي، إذ إنكار موسى فعل الخضر - صلى اللًه عليهما - كان حقَا في الظاهر عنده، وفعل الخضر هو الحق عند الله في الباطن. ومنها: الحجة في قبول خبر الواحد، لأن موسى - صلى الله عليه - ترك ما عرفه من تحريم القتل، وخرق السفينة بخبر الخضر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 إذ كان عنده صادقًا ولزمته الحجة بقوله: حتى عاد الحرام عنده حلالاً. ومنها: أن إحياء الحقوق بذهاب بعضها قربة إلى الله إذا لم يوجد السبيل إليه إلا بذلك، لأن الخضر - صلى الله عليه - قد أنقص بخرق السفينة من ثمنها طمعًا في أن يبقى أصلها لأصحابها. ومنها: أن كسب الملاحين حلال، واشتراكهم في عمل السفينة جائز. ومنها: أن اسم المسكنة واقع على من له البلغة من العيش، لأن الخضر - صلى الله عليه - قد سمَّى من له سفينة يعمل فيها مسكينًا. وقد أخبر الله عنه به في جملة ما أخبر من الحق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 ومنها: أن للمسافر أن يستطعم من ينزل به إذا عدم ما يأكله، ولا تكون مسألة، لأنهما سألا حقهما لوجوب الضيافة على أهل المنازل للمارة. ألا تراه يقول: (فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا) ومنها: أن إباحة المكاسب وأخذ الأجرة على العمل وفي ذلك ْتجهيل من يحرم الكسب من الصوفية، لأن موسى - صلى الله عليه - قال له: (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) فلم ينكر الخضر ما قال، بل أعلمه أن الانتظار به إلى وقت اتخاذه الأجر لم يمكنه لما خَشي من ظهور الكنز بعد انقضاضه. ذكر المعتزلة وقتل الغلام الذي طبع على كافرا. وفي قوله تعالى: (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ) حجة على المعتزلة والله شديدة، لأن الأُمة بأسرها مجمعة على أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 المولودَ بين أبوينِ مؤمنينِ يكون مؤمنا، وهذا مولود طبع كافرا، وأبواه مؤمنان، وليس في ذلك ارتياب بتة لإباحة قتله، ولإخبار الكفر عنه بلفظه. فلو لم يكن من الحجة عليهم إلا هذا الغلام المخلوق كافرًا. وإباحة قتله قبل بلوغ الحنث وجري القلم عليه، والسلك به غير مسلك أبويه لكفى، فأين تحذلقهم، وادعى الفلسفة في معرفة عدل الله عندهم بعقولهم الناقصة العاثرة، وهل يقدرون في هذا الموضع إلا على التسليم لعدل لا يعرفونه ضرورة، فيلزمهم أن يسلموه في باب القضاء والقدر ضرورة، أو يكفرون بالقرآن وينسبون الخضر - صلى الله عليه - إلى أنه قتل في الحقيقة نفسا زكية بغير نفس كما رأى موسى - صلى الله عليه - من ظاهر فعله، وكيف لهم بذلك - ويلهم - وقد سلمه موسى للخضر وعلم أنه الحق. ثم أخبر الله نبيه - صلى الله عليه - وأنزله في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا مِن خلفه من غير إنكار عليه، بل أخبر أنه فعل بأمره تبارك وتعالى حيثما يقول إخبارًا عنه - صلى الله عليه -: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 ومنها: إباحة كنز الكنوز وحفظ الأموال على الصغار إلى وقت البلوغ. واختلف في الكنز أي شيء كان. فمنهم من قال: كان لوحين فيهما علم، وروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " كان ذهبا وفضة " من أيهما كان فهو حجة فيما قلناه، لأن اللوحين أيضًا قيمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 سورة مريم * * * قوله: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) حجة في تسمية المخلوقين بأسماء الله، إذا الولي اسم من أسمائه. وقد كثرت الحجج فيه، وليس للتكرير فيه موضع. ذكر ليس الخبر كالمعاينة. وقوله إخبارًا عن زكريا: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) إلى قوله: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 دليل على تثبيت الخبر المروي وصحته " ليس الخبر كالمعاينة ". وذلك أن زكريا - صلى الله عليه - لم يَشْكُ إلى ربه وَهَن عظمه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 واشتعال الشيب في رأسه إلا وهو موقن بإجابة دعوته، ثم بشره الله ببشارة الغلام فقال ما قال وهو عالم بأن ربه يقدر عليه فلا وجه له - والله أعلم - غير ما قلنا من أن المعاينة في الأشياء أبلغ من الخبر. وإن كان الخبر بالغا عند المؤمنين. ومثل هذا - والله أعلم - قصة إبراهيم - صلى الله عليه - حيث سأل ربه عن كيفية إحياء الموتى فقال له: (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) . وكان بعض الناس يقول في (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) : أنه طمأنينة قلبه إلى إجابة دعوته، والآية لا تدل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 على قوله، ولهذا القول أيضا خبر قد قيل قوله - صلى الله عليه وسلم - : " نحن أحق بالشك من إبراهيم " صلى الله عليه. ذكرمن حلف أن يكلم رجلاً. * * * قوله: (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) دليل على من حلف أن لا يكلم رجلا فكتب إليه أو أشار أنه لا يحنث، لأن زكريا لم يخرجه من الآية إفهام قومه بما قام عندهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 مقام الكلام في الفهم، ولم يكن كلاما، ويؤيده حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث أشار في الصلاة برد السلام، وأشار إلى أبي بكر رضي الله عنه - حين أراد أن يستأخر أن يثبت مكانه. والصلاة لا يجوز فيها الكلام فلم يقِم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 الإشارة مقام الكلام في قطع الصلاة، وقد أفهم بها إفهام الكلام، فلا يجوز أن يكون إبداء شيء يفهم فهم الكلام كلامًا. فإن قيل: ما تقول في رجل كتب بطلاق امرأته ولم ينطق به لسانه أيلزمه أم لا. قيل: حكم النظر ودليل الكتاب والسنة أن لا يلزمه من أجل أن الطلاق لما كان من حكمه أن يوقع بإفصاح النطق، وإرادَة القلب فكتبه كاتبا مريدا لوقوعه وهو يقدر على أن يلفظ به فسكت لم يجز أن يوقع عليه ما لا يلفظ به، وقد أجمعوا جميعا لا تنازع بينهم على أن الرجل لو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 أراد طلاق امرأته فتهجاه بقلبه مريدًا لوقوعه، قاصدا له لم يلزمه وإن كان كذلك حتى ينطق به، وليس بين تهجيه بقلبه وكتبه بيده فرق في النظر، لأن الكاتب إنما كتب تلك الحروف التي أمرها المريد على قلبه فقط، ولو كتبها ولم يرد إيقاع الطلاق بها لما لزمه عند الجميع طلاق. فحصل من هذا أنْ الموقع لطلاق الكتاب غير اللافظ أوقعه بالإرادة المفردة التي لا يقع بها طلاق عند بشر، فما باله يوقع بها إذا اقترنت مع فعل لا يقع به على الانفراد شيء ولا بها، وحكم ما لا يقع به في الاقتران والانفراد واحد وإن تميزه، أفنجعل حكم الكتابة أبلغ من حكم اللفظ الذي لا يوقع به إذا عري من الإضمار والقصد بينه وبين الحالف شيئا، هذا ما لا يذهب على ذي فهم إذا تدبره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 ولا أعلمهم يختلفون أن الولي لو كتب بتزويج من يزوج، وكتب الخاطب بالقبول مريدين بعقده وهما ناطقان سامعان عاريان من الخرس والطرش أن النكاح لا ينعقد به، ولو كتبت الثيب وهي ناطقة بالرضا لم يجز الأخذ به. والنكاح عقدة هذا الحل الذي يحله الحال بالكتابة فما بال الكتابة تعمل في الحل فلا تعمل في العقد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 فإن قيل: أفليس كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى وقيصر وغيرهما فلزمتهم الحجة بكتابه كما لزم الحاضرين بقوله. قيل له: نحن لم ننفِ أن الكتابة لا تفهم إفهام الكلام حتى يحتج علينا بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قوم، ولكنا نزعم أنها وإن أفهمت فهم الكلام فليست بكلام، وشرط الطلاق في الأصل أن لا يقع إلا على الناطق بالكلام، وليس شرط لزوم الحجة أن لا يلزم إلا بالنطق. ألا ترى أن القرآن حجة الله على خلقه أمره أن ينذر به الناس فقال: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) ، فكان يتلوه - صلى الله عليه وسلم - على الناس منذرَا به فيلزمهم به الحجة، وليس هو كلامه، وينذر فيه الرجل متبينًا لأمره ونهيه فيلزمه حجتهما وليس هناك نطق، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل الفعل فيلزم به الحجة، ويرى الشيء يعمل ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 ينكر، أو يبلغه فلا ينكره ويلزم بكل ذلك الحجة، وليس هناك كلام. فليس لاحتجاج الحجيج بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى من كتب في لزوم الحجة لزومها بالكلام متوصلًا به إلى إيقاع الطلاق وجه لمن تدبره. ونحن مقرون بأن الكتاب ينوب عن الكلام في الإفهام، ونرى الناس جميعا يستعملونه بينهم في الرقاع والكتب من بلد إلى بلد، وتنفذ كتب الأئمة بالولايات والأحكام فتفهِم فَهم الكلام وتقبل ولكنها لا تعد كلاما. ألا ترى أن رجلاً لو حلف أن لا يتكلم فكتبه كلاما أنه غير متكلم. ولو كان شَرْط لزوم الحجة أن لا يلزم في الأصل إلا بالكلام. ثم كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى وقيصر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 فلزمتهما الحجة بكتابه لكان الاحتجاج حينئذ أشبه للقائسين عليه كتاب المطلقين وكان يكون عندنا مسلما في وضعه، فكيف وليس شرط لزوم الحجة الكلام دون غيره كشرط الطلاق في الأصل. فإن قيل: فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " تجاوز الله لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تنطق به أو تعمل به " والكتابة عمل. قيل: الأمة تحدث أنفسها بشيئين: أحدهما: ما ينطق به، والثاني: ما يعمل به. والطلاق مما ينطق به، فنفسر ما احتج به حجته عليه لأنه حدث نفسه بالطلاق وهو من سلطان النطق فلم ينطق به، وليس للعمل سلطان على الطلاق نفسه، لأن الطلاق لا يعمل عملا إنما ينطق به نطقا، والذي عملت اليد فيه منه فهو حروف هجائية لا الطلاق الواقع على زوجته. أرأيت رجلا كتب حروف الطلاق في كتاب وهو لا يريد به طلاقا وقد كتبه ثم قال: قد طلقت هذه الحروف أيقع على امرأته طلاق. فإن قال: يقع عليها طلاق، فخالف كافة الأمة، وأبدع في الدين ما ليس فيه، وأحال القول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 وإن قال: لا يقع بذلك طلاق. قيل له: فما الذي يوقع على كاتب الطلاق طلاقا لِنية في الكتابة، أو الكتابة نفسها، أم مظاهران معًا في إيقاع الطلاق على الكاتب. فإن قال: النية وحدها، أم الكتابة وحدها أحال القول وخالف الأمة، فإن قال: الظاهر هو الذي يوقع. قيل له: هل رأيت شيئين كلاهما على الانفراد موصوفين بصفة زوال السلطان، فإن اجتمعا صار لهما بأنفسهما سلطان من غير أن يستعينا بشيء غير أنفسهما تقويهما وتجعل لهما سلطانًا. هذا ما لا يذهب على من ميزه من العامة، فكيف على أهل العلم المفتين، وعلى الدقائق غائصين. فإن قيل: فأنت لا توقع بالنطق وحده طلاقًا، ولا بالإرادة مفردة. فإذا اجتمعا أوقعت بهما وهو نفس ما أنكرته. قيل: النطق الذي لا أوقع به طلاقًا هو الذي يأوي فيه إلى ما لا يقع به طلاقًا كقوله: طلقتك من وثاقك، إذ لا إرادة فيما صرح به من هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 أو يكون نطق على الغلط من أن يريد أن يتكلم بشيء فيجري على لسانه الطلاق. فهذا وما يضاهيه لا يقع فيما بينه وبين الله. فأما النطق على الانفراد الذي يوقع طلاقا مع النية فمعوز توهمه. فكيف النطق به كما يكن كتب حروف الطلاق على القصد والغلط معًا. فإذا كان النطق الذي يقع به الطلاق لا يمكن إفراده على قصد كما يمكن إفراد كَتْب حرفه على النطق الذي قصد الكتابة دون إحضار النية في وقوعه - لأنه إذا نطق بقصد فقد جمع - كان الجمع بينه في الداخلة وبين ما أنكرناه من إفراد النية وإفراد الكتابة والجمع بينهما ظلمًا بينا - واللَّه أعلم -. فهذا حق النظر وما دل عليه لفظ الكتاب والخبر، فإن أمكن أحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 إيجاد الإجماع في إيقاع الطلاق بالكتابة من غير نطق به فالتسليم له واجب وإن أعوزه إيجاد الإجماع وهو معوز، فيما قلناه واضح لا إشكال وسواء كان الكاتب بالطلاق حاضرا أو غائبا، لأنه يمكنه أن يلفظ به في الغيبة والحضور ثم يكتبه فلا يقع أبدًا عليه طلاق ألا ينطق بقصده أحكام. ولد الزنا. وقوله تعالى إخبارا عن مريم: (قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) دليل على أن ولد الزنا يلحق بأمه، ويكون منسوبا إليها. ألا ترى أنها نسبت مولود البغي إليها كما ينسب إليها ولد الحلال فلم ينكر عليها الملَك، بل أعلمها بأن الله - جل وتعالى - هين عليه أن يرزقها غلاما بغير إمساس ذكر، ويجعله آية للناس. فهو واضح لمن تدبره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 ذكر الرطب للنفساء. * * * وقوله تعالى: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) دليل على أن الرطب للنفساء نافع. ذكر الإشارة. قوله إخبارًا عن مريم حيث قال لها قومها: (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 يؤكد ما قلنا من أن الإشارة وإن قامت في الإفهام مقام الكلام فليست بكلام، لأن مريم - صلى الله عليها كانت نذرت أن لا تكلم شيئا فلم تخرجها الإشارة إلى ابنها عيسى - صلى الله عليه وسلم - من النَذر، ولا عدت كلاما يخرجها منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 ذكر تربية المولود فى المهد. * * * وقوله: (قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) دليل على أن تربية المولود في المهد سنة المولود، لأن فعل مريم بابنها - عليهما السلام - سُنة ولنا قدوة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 الجهمية. قوله إخبارًا عن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) رد على المعتزلة والجهمية. إذ لا ينكر إبراهيم على أبيه ما لا يسمع ولا يبصر إلا ومعبوده يبصر ويسمع ويغني عن كل شيء. وقوله إخبارًا عن إبراهيم: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) حجة في إجازة السلام على ذي الرحم مِنَ الكفار، فيكون ذلك جائزًا بالقرآن، وعلى الأجنبيين ممنوعا بالسُّنة. وليس تأويل من تأول نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إبداء أهل الكتاب بالسلام من جهة أنه أمان، وتطرقه إلى جوازه بسلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 إبراهيم على أبيه بشيء، لأن النهي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظاهر واقع، والتأويل ظن من المتأول. ألا ترى أن الله - تبارك وتعالى - أمر موسى وهارون - صلى الله عليهما - في مخاطبة فرعون أن يقولا: (وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) . وقد أمرهما بتليين القول له، والسلام ألين القول فلم يجز لهما أن يخصاه به، وفرعون أجنبي منهما، وأجازه لإبراهيم على أبيه. فدل ذلك على أن ذا الرحم يخص به، والأجنبي لا حظ له فيه. فهذا أحسن وأولى من تأويل يرد به ظاهر سُنة ثابتة يشهد لها دليل القرآن واللًه أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 ذكر الولد الصالح. * * * وقوله: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 حجة فى أشياء: فمنها: أن طاعة المؤمن تثمر له الثواب في الدنيا والآخرة. ومنها: أن الولد الصالح من نعم الله على أبيه وجده وليس بفتنة عليهما، وأن الولد الذي قال الله - تبارك وتعالى -: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) هو الطالح لا الصالح، فتكون الآية عامة المخرج خاصة المعنى. إذ محال أن يَمتن على إبراهيم - بإسحاق وابنه يعقوب وهما فتنة. والدليل على صحة ذلك أنه قدقال قبل تلك الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) فجعله خاصا، فمن كان عدوا لأبيه فهو الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 فتنة عليه. ولا يجوز أن يكون يحيى بن زكريا فتنة على أبيه، ولا إسماعيل وإسحاق فتنة على إبراهيم. وقد يجوز أن يكون الولد الصالح فتنة على أبيه وجده ما دام صغيرًا، فإذا كبر وظهر صلاحه، وبانت طاعته عاد نعمة عليه والدليل عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبصر الحسن والحسين وهو على المنبر، عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل إليهما وحملهما وعاد إلى المنبر ثم قال: " صدق الله (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) ، إني لما نظرت إلى هذينِ الغلامينِ يمشيانِ ويعثرانِ لم أتمالك أن نزلتُ إليهما فحملتهما " (2) . فقال هذا فيهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 وهما صغيران فلما كَبِرا عادا نعمة عليه بما صار لهما من الجلال والمحل في الإسلام، فلم يجز أن يعدا حينئذ في عداد الفتن. ومنها: أن الثناء الحسن جليلة جميلة يُلبِس الله عبدَه المؤمن التقي. لأن لِسان صدق في هذا الموضع هو الثناء الحسن. والله أعلم. وإذا كان الله بجوده جعله في عداد النعم، ومدح به من جعله فيه لم يجز للمؤمن أن يكرهه، وكان له أن يفرح به ويعده من كبار نعم الله عليه. ومنها: أن الشيء إذا سمي به شيئا جاز أن ينقل إلى غيره لسعة اللسان، إذا اللسان المعروف عند العامة هو الذي ينطق به، وقد نقل في هذا الموضع إلى الثناء الحسن. ذكر تناول الأب مال ولده. قال محمد بن علي: وكان بعض النظار يجعل هذه الآية حجة في تناول الأب مال ولده، ويؤيده به الحديث المروي: " أنت ومالك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 لأبيك "، ويزعم أن الله لما وَهبَ إسحاقَ لأبيه، وقال في موضع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 آخر: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا) لم يكن للموهوب أن يمتنع على من وهب له، والهبة تصير ملكا للموهوب له، فكل ما أضيف إليها كان منها. وليس هو عندي كذلك، لأن الهبة في هذا الموضع هي هبة نِعمة لاَ هِبة مُلك، إذ لو كانت هبة ملك لجاز للوالد أن يبيع ولده كما له عند هذا الناظر - أن يأخذ ماله بغير أمره - ولما جاز للولد أن ينفق من ماله إلا بإذن أبيه، ولما جاز له وطء جاريته يشتريها بالمال الذي هو في يديه إذ كان ملكه لأبيه حتى يهبها له أبوه، ولما صحت فيه هبته أيضا، لأن أكثر حال الهبة أن تصير ملكا للموهوب له كما كان سائر ماله، ولكان الوالد أحق بوطئها، وَلمَا حكم على الموسر إذا كان له والد بصداق نسائه ونفقاتهن، ونفقة صغار أولاده وعبيده وخدمه، ودفع ديون الناس إذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 طالبوا بها، وفي ذلك عكس أحكام الإسلام كلها، وفي توريث الله - جل وتعالى - مع الوالد بعد موت الولد غيره، والاقتصار به على نصيب معلوم أوضح البيان، وأدل دليل على أنه غير مالك مال ولده في حياته إذ لو كان له مال في حياته لأخذه بعد وفاته، ولم يأخذ معه غيره والخبر المروي في: " أنت ومالك لأبيك " مرسل، ولا يثبت به حجة. وقد وصله من ليس محله محل الاتفاق ولا هو بحجة في أئمة النقل، وما كان هذا سبيله لم يصلح أن يتخذ دعامة ولا يكون حجة وسيما إذا دفعوا القرآن، وكان فيه عكس أحكام الإسلام. فإن احتج محتج بحديث عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن أولادكم من كسبكم فكلوا من أموالهم ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 وقال: " كسب الرجل له ". قيل: الخبر صحيح لا مطعن في إسناده، ولكنه موافق لما افتتحنا به هذا الفصل من أن الطاعة تثمر ثواب الدنيا والآخرة فالولد كسب الطاعة لا كسب التجارة المدارة بيننا في الأسواق. ألا ترى أن إسحاق ويعقوب وُهِبَا لإبراهيم جزاء على اعتزاله عبادة الأصنام. والدليل على أن فعل الطاعة تسمى كسبًا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 قوله تبارك وتعالى: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) . وقال: (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) . ومثله في القرآن كثير. وكان ولد المؤمن من كسبه أي كسب من طاعته، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فكلوا من أموالهم " خصوص في شيئين. أحدهما: إباحة الأكل الظاهر المخرج، وإن كان يحتمل غيره. والثاني: الاقتصار في الأكل على بعضه لقوله: " فكلوا من أموالهم "، ولم يقل: فكلوا أموالهم. ومن مقتضاه خصوصًا لا عمومًا، وقد قال تبارك وتعالى على إثر الآية المبتدأ بها الفصل: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 وقال في أيوب: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) فهل يجوز عند هذا الناظر أن يأخذ الرجل مال أخيه ومال أهله ويتملكه عليهما بغير إذنهما من أجل أن الله - تبارك وتعالى - جعلهما هِبة له كما جعل الولد هِبة لأبيه، وجعله رسوله - صلى الله عليه وسلم - كسبًا له. وكل هذا الاحتجاج لا يوهن نفقة الأبوين على الولد الغني زمِنينِ كانا أم صحيحين، وقد بيناه في كتاب آخر بحججه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 ذكر الرد على من يقول بخلق القرآن. * * * وقوله تعالى: (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) . حجة على من يقول بخلق القرآن، إذ لا يمكنه أن يقول في المناداة ما يتأوله في الكلام، وإن كان ما يتأوله فيه خطأ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 قوله: (وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) أكده بلا أشكال، لأن النجي لا يكون إلا من يكلم ويحاور. وفيه حجة على من ينكر أن الله - جل جلاله - بنفسه في موضع دون موضع، وأنه على العرش وعلمه في الأرض. إذ لو كان بنفسه في كل موضع كما يزعمون ما كان لقوله: (وَقَرَّبْنَاهُ) معنى، ولما كان لموسى فضيلة على غيره. إذا المعنى الذي يذهب إليه يستوي جميع الناس فيه كافرهم ومؤمنهم، وليس لما يتأوله من أن القرب قرب الطاعة، لما قربه بالمناجاة ولذا روي في الخبر: " أنه قربه حتى سمع صريف القلم ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 البكاء والتسبيح. (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) حجة في جواز البكاء في السجود، والاقتراب به من المعبود. وكذلك قوله في آخر سورة بني إسرائيل: (إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) . فهذا نظير تلك، وفيها زيادة دَليل هو أن التسبيح في السجود صلاة، وسجود القرآن سجود واحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 والقول فيها قول واحد، وأن كل كلام في الصلاة يراد به دعاء وذكر مباح في الصلاة لا يقطعها كما يقطعها الكلام في أمر الدنيا، وما ليس من سبب الصلاة. ذكر تكفير تارك الصلاة. وفي قوله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ) دليل على أن الإنسان يدرك ما يكفر، لقوله: إن إضاعتها تركها لا تأخيرها عن وقتها كما يزعم بعض المفسرين لقوله تبارك وتعالى: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ) ، فذكر الإيمان مع التوبة. وفيه تأكيد قولنا: في أن تارك الصلاة بلا عذر يكفر. * * * وقوله: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا) - والله أعلم - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 مستثنى من المسموع، إذ كل مسموعٍ مِنَ اللغو وغيره مسموع، وهو نظير ما مضى من رد استثناء إبليس من السَّاجدين في ذكر الملائكة. وكل هذا دليل على سعة لسان العرب، والقرآن بلسانها نزل. ذكر أنجزاء الأعمال مواريث. * * * قوله: (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا) حجة للصوفية فيما يسمون جزاء الأعمال مواريث، لأن الجنة وإن كانت من ميراث الآخرة فهي ثواب عمل وكل ثواب مثله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 ذكر أن العبادة ثقيلة. * * * وقوله: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ) دليل على أن العبادَة ثقيلة مملوة، والمؤمن مأمور بالصبر عليها إذ اسم الصبر لا يكون إلا مقرونَا بالكراهة والصعوبة. خصوص. * * * وقوله: (وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) خصوص لا محالة، لأن هذا قول بعض الناس دون بعض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 ثم قال: (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ) عموم، لأن الحشر لا يكون إلا للجميع. فأي شيء يلتمس في سعة اللسان بعد هذا، وابتداء الكلام خصوص وآخره عموم من غير حائل لفظ بينهما يرد خصوصًا إلى عموم المعنى المفهوم منه. ذكر المعتزلة. * * * وقوله: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) حجة على المعتزلة في الوعيد شديدة، لزعمهم أن الداخل من الموحدين النار لا يخرج منها أبدًا، وهذا نص القرآن يخبر بورود الجميع إياها وصدر المتقين عنها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 فإن زعموا أن الورود ليس بورود النار كذبهم أول الآية، لأنه ذكر الحشر وذكر جهنم بلفظها. فإن قالوا: قد قال: (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) كانت عليهم فيها حجتان: إحداهما: أنهم لا يقولون ولا غيرهم أن أحدا يخلد حول جهنم، ولا يعذب به ثم ينجو عنه حتى يصرفوا النجاة التي ذكره الله إلى الخلاص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 من حولها لا منها نفسها. والثانية: أن هاء التأنيث في قوله: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) قد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 أذهبت كل ارتياب بأنه ورود النار. إذ لو أريد حوله لكان: (إلا وارده) ، لأن الحول مذكر، فقد دل هذا على أنهم يحضرون حولها أجمعين ثم يردونها فينجوا المتقون، ويبقى الظالمون فيها جثيا. فإن قالوا: أليس قد رويتم في بعض تفاسيركم أن الورود هو ورد الحمى. قيل: ليس كلما نرويه نصححه، وكيف يكون صحيحا والله يقول: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) ، ونحن نرى عيايا أن الحمى إذا أخذت الظالم في وقت فارقت كما تفارق التقي، فلو كان كذلك لبقي جَمّ من الظلمة فيها أبدا، فهذا واضح أنه ورود جهنم في الآخرة لا ورود الحمى في الدنيا، ونحن نقول بعد تصحيح مقالتنا في الورود الذي في كتاب الله أنه ورود جهنم وأن الحمى من فيحها في الدنيا كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه إذا أخذت منا أحدًا أبردناها بالماء ائتمارًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقبولاً لوصيته، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 ولا يكون ذلك نقضًا للورود في الآخرة. وبعد فلو كانت روايته عن سعيد بن جبير أن الورود هو ورود الحمى لا ورود جهنم صحيحة، وكان القرآن لا يدفعها ما كان لهم علينا فيها شيء، بل كانت لنا عليهم إذ استعظامهم لخروج موحد من النار بعد دخوله إياها هو من أجل خلف الوعد الذي لا يجوز على الله عندهم. فإن كان إخراج من دخلها عظيمًا عندهم فينبغي أن يكون الصفح عمن أوعد إدخالها بذنوب اقترفها أعظم عندهم من الباب الذي يذهبون إليه. أولا يعلمون أن الخلف في اللغة هو: ترك إنجاز الخير، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 والصفح في الوعيد كرم لا خلف كما دللنا عليه في سورة التوبة عند انتهائنا إلى قوله: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ) . فإن كانت الاستراحة إلى قول سعيد بن جبير آثر عندهم في الورود مما يدل عليه القرآن فِرارًا من كسر قولهم في خروج من دخل النار منها فنحن نسامحهم، لأن الذي نريده من إيضاح خطأ ما ذهبوا إليه في الوعيد من أجل الخلف قلبه عليهم من قول سعيد بل العفو عن الموعد والاقتصار منه على حرِّ الحمى في الدنيا أبلغ فيما يريد، وأرجو أن يفعل الله ذلك بأكثر المؤمنين على رغم من إنافهم، فقد روى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 مغيرة، عن إبراهيم، عن الأسود عن عائشة - رضي اللَه عنها - قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " الحمى حظ كل مؤمن من النار"، ورواه أنس - رضي الله عنه - أيضا من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 رواية قتادة عنه مرفوعَا، وروى أبو حصين، عن أبي صالح الأشعري، عن أبي أُمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الحمى كير من جهنم فما أصاب المؤمن منها كان حظه من النار ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 وروى هذا الحديث أيضا شهر بن حوشب عن أبي ريحانة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 أنه عادَ رجلاً من وعك به فقال: " يقول الله - تبارك وتعالى -: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار "، وحديث أبي بردة عن أبي موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 في تجعيل اليهود والنصارى فداء للمسلمين من النار مشهور. فهذه الأخبار موافقة لتفسير سعيد بن جبير في الحمى والروايات الأخر أن قوما يخرجون من النار بعدما دخلوها فيسمون بعد إدخالهم الجنة الجهنميين، حتى يغيرون فيها، فيذهب الله عنهم سِيماء أهل النار موافقة لدليل القرآن في الورود، وأيهما كان من هذين فهو لنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 لا لهم، وأنا آمل أن يكون كل ذلك مؤتلفا غير مختلف، فيكون ما دل - عليه القرآن في الورود ورود لا يحرق ولا يؤلم كما روي في الخبر: " إذا ورد المؤمن النار لتحلة القسم نادته جهنم يا مؤمن أطفأ نورك لهبي ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 ويقول أهل الجنة إذا دخلوا الجنة: " ألم يعدنا ربنا أنا نرد النار، فيقال لهم: بلى، ولكنكم مررتم بها وهي خامدة ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 فإذا خرجوا منها سموا جهنميين، ويكون حظهم من ألمها ما وصل إليهم من مس الحمى وألمها إذ كانت من فيحها. فإن قيل: فَمَن الذي تسميهم الجهنميين، وكل يَرِدها ممن يخلد ومن يخرج منها. قيل: قد يجوز أن يكون الورود من جميعهم فمن لم تمس منه شيئا ولم تسمه بسمة وتغير من مَست منه ووسَمَته بسمة ويسمونهم جهنميين. فإن قيل: فما بالك تقول: مرة لا تمس منهم ولا تؤلمهم، ومرة تجعل الألم والمسيس خصوصا لقوم دون قوم. قيل: هي أخبار مروية بعضها أثبت من بعض وأقوى دعامة في الإسلام. ومن وجد شيئا من الرجاء والتأميل لم يضمن زوال الخلل كله عنه، والذي ليس بمخلول ما دَلت عليه التلاوة من القرآن. الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا مِن خلفه من أن الورود من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 الجميع ورود واحد ثم ينجي الذين اتقوا، وتكون نجاتهم على وجهين. فمن وردها لِتَحلة قَسَمه - جل وتعالى - صدر عنها بنعمته غير ممسوس بألم إن شاء الله. ومن وردها باقتراف ذنوبه أمسه الله من ألمها ما شاء، ثم أخرجه منها إذا شاء، وترك الظالمين فيها جثيًّا. ومن الأخبار الصحيحة التي لا نشك في أسانيدها خبر مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من قدّم من المسلمين ثلاثة من الولد لم تمسه النار إلا تحلة القَسم ". وخبر أبي نضرة، عن أبي سعيد وإن لم يوازِ هذا فهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 يقاربه في الصحة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها، ولا يحيون، وأما قوم دَخلوها بذنوبهم فإنهم يموتون فيها، ويصيرون كالحمم فيمكثون فيها ما شاء اللَه حتى إذا أراد الله أن يعتقهم انطلق بهم إلى نهر يقال له: الحياة، فينبتون فيه نبات الحبة في حميل السيل ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 وحديث جابر بن عبد الله حين أهوى بأصبعيه إلى أُذنيه وقال: صُمَّتا إن لم أكن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " الورود الدخول لا يبقى برّ ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن بردًا وسلاما كما كان على إبراهيم حتى إن لسقر - أو قال: لجهنم ضجيجًا من بردهم، (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) " فالمعول على هذا التصديق القرآن إياه في الورود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 وفي قوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا) . فدل أن من دخل النار من الموحدين فمسته مات فيها، إذ محال أن يخص الكافر بصفة في عذابه فيشاركه فيه المؤمن، والله أعلم. قال محمد بن على: ولأهل الأعراف حالة غير هذه كلها قد بيناها في موضعه. * * * قوله: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا) حجة على المعتزلة والقدرية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 ذكر زيادة الإيمان. وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) (حجة على المرجئة في زيادة الإيمان. ذكر القدرة. * * * قوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) حجة على المعتزلة والقدرية في إرسال الشياطين، وهو يؤيد ما قلناه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 قبل هذا من أن الشيطان مخلوق نِقمة لمن حقت عليه كلمة ربه يزعجه إلى معاصيه، والكفر بإرسال ربه عليه. ذكر سعة لسان العرب. * * * قوله: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) دَليل على أشياء: فمنها: تأكيد قراءة من قرأ في سورة الأنعام: (وَاَللَّهِ رَبِّنَا) بالنصب على سعة اللسان، بالرجوع من الخبر إلى المخاطب المواجه ألا تراه يقول: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) بالنون إلى الرحمن، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 ولم يقل: إلينا. ولو كان الاختيار في (رَبِّنَا) بالخفض على النعت لكان - والله - كلا هذا - والله أعلم - بالياء، يحشر على لفظ ما لم يُسَم فاعله إلى الرحمن. ومنها: الرد على من يقول: إن الله - جل جلاله - بنفسه في كل مكان، ولا يكون في مكان دون غيره ولو كان جل وتعالى كذلك ما كان لحشرهم إليه معنى، إذ هو معهم حيث يكونون. ومنها: إجازة الإخبار عن الجميع بلفظ واحد في قوله: (وَفْدًا) ، ولم يقل: (وفودا) . وكذلك: (وِرْدَا) عن المجرمين. * * * قوله: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 يؤيد ما قلنا أيضاً في تأييد: (واللهِ رَبِّنَا) ، لأنه قال لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) ولم يقل: جاءوا على لفظ الأول. وكل هذا دليل على سعة اللسان بالخفض والنصب في القراءة مختاران جميعًا لا يفضل واحد منهما على صاحبه، وفي هذا توسيع ما قلنا في سورة فاتحة الكتاب من أن فيها إضمار قل، وتسهيل الكلام بإسقاطه. ذكر أن البنوة والعبودة لا يجتمعان في حال واحدة. ) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) دليل واضح لمن تدبره أن البنوة والعبودة لا يجتمعان في حال واحدة، وأن من ملك ابنه عتق عليه، لأن الولد لا يكون عبدًا لأبيه في حكم هذه الآية. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 قوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) حجة على الجهمية في الوُدّ، وبيان لإعطاء المؤمن ثواب عمله في الدنيا والآخرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 سورة طه الرد على من يقول بخلق القرآن ولبس النجس. * * * قوله: (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) حجة على من يقول بخلق القرآن، ويزعم أن الله لا يجوز عليه الكلام فيقال له: من نادى موسى بهذا النداء. فإن قال: لم يناده ربه، إنما ناداه بعض ملائكته. قيل: (إِنِّى أَنَاْ) راجع على من. فإن قال: على الملك، كفر حيث جعله رب موسى - ولن يقوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 إن شاء الله -. وإن قال: هو راجع على الله - جل الله -. قيل له: أفيجوز أن يكون ذلك راجعَا عليه والنداء من غيره. فإن قال: لا يجوز، إنه محال. أقر بأن الله متكلم، وأن: (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) وكل ما بعده من (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) من الابتداء، والجواب لموسى كلامه، وكلامه لا يكون مخلوقا، لأنه صفة من صفاته، ولا يجوز عندنا وعنده وعند من يؤمن به أن يكون شيء من صفاته مخلوقا. ولو كان: نودي يا موسى، إنه هو ربك، وهو اختارك أنه لا إله إلا هو فاعبده، وأقم الصلاة لذكره، وكل ما بعده على هذا المعنى لكان قوله حينئذ أوجه في المخلوق في حق الكلام، وإن كان خطأ من كل جهة. فهذا وما يشاكله في القرآن واضح بلا لُبسة أن الله متكلم ناطق، وإذا كان متكلما ناطقا فما خرج منه من كلامه كان غير مخلوق، وانقطعت مادة ما يوردون من المحالات في التطرق إلى خلقه من الجعل وغيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 ويحتمل أن يكون قوله: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) حجة في لبس النجس، والاستمتاع بغير طاهر في غير حين العبادات فإذا جاء وقتها خلع وتجرد منه لها، وقد روي أن نعليه - صلى الله عليه - كانتا من جلد حمارٍ ميت، وظاهر الكلام في الأمر بالخلع يدل على أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 من أجل الوادي المقدس أمر بخلعهما لئلا يطأه بهما، لا أنه نهُي عن لبسهما بكل حال. ذكر الاستخبار. * * * وقوله تعالى: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) حجة في الاستخبار عن الشيء الذي يعلمه المستخبر ولا يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 حشوًا. ذكر إجازة الجواب فوق الاستخبار. (قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) دليل على إجازة الجواب فوق الاستخبار. ذكر - " الحيات. * * * قوله: (قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ) دليل على اختصار الكلام، لأن ذكر الخوف لم يتقدم في اللفظ فدل قوله: (وَلَا تَخَفْ) على أنه - صلى الله عليه - لما رأى عصاه تحولت حية فرق منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 وفيه دليل على أن أنفس البشر مجبولة على الخوف من المؤذيات، وأن الخوف اللاحق بها عند رؤيته لها لا يحط من درجة التوكل شيئًا، وفي ذلك دليل على أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فَمَن ترك منهن شيئا خيفة فليس منا " أنه خيفة ما يلحقه من الحرج في قتلهن فأعلم أنه مأجور من غير حرج مما يتقيه من ظهور الجان في خلقهن وصُورهن. وسيما إذا كُن في الصحاري لا ما يخاف من توثبها عليه، إذ لا يكلفه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 ما لاطاقة له به ونفسه مجبولة على خلافه. ذكر المعتزلة. * * * قوله: (لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) حجة على المعتزلة والجهمية شديدة لا مخلص لهم منها. إذ لو كان معنى السمع والبصر معنى العلم والإحاطة لاقتصر - والله أعلم - على (إِنَّنِي مَعَكُمَا) ولم يقل: (أَسْمَعُ) كما قال في سورة المجادلة: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) . فلما قال: (أَسْمَعُ وَأَرَى (46) بعد تمام المعنى الذي يشيرون إليه أزال كل ريب، وكشف كل غمة عن أنه يسمع بسمع، ويرى ببصر غير مخلوقين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 ذكر الساحر. * * * قوله: (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) دليل على أن أمر السحرة في أفاعلهم من تغيير خلق الصور تخييل لا حقيقة. فمن زعم أنهم يقدرون على تغيير الصور وتحويلها عما خلقها الله إلى غيرها فقد كفر، لمساواتهم بأفعالهم رب العالمين. ألا ترى أن الحاج إبراهيم في ربه حيث قال له: (أَنَا أحيى وَأُمِيت) فلجه بقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ) فبهت حينئذ إذ ماله معوز عنده. وما يلحق المسحور من ضرر الساحر فيما سوى هذا أيضا فبإذن ربه لقوله: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 قوله: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً) محقق لما قلنا: الأنفس مجبولة على الخوف من المؤذيات، بل هذا أوكد من الأول، لأن الحية التي تحولت إليها عصاه كانت على الحقيقة حَية. وما يخيل إليه من حبال السحرة وعصيهم كان باطلا لا حقيقة له. فخاف منهما معا خوفا واحدا لظاهر سعيها. وقوله إخبارا عن السحرة - (لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) يؤكد إجازة طلاق المكره، وكل فعل يكره عليه المرء (2) إذ لو لم يكن المكره مأخوذا بفعله ما احتاج إلى غفرانه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 ذكر المجرم. * * * قوله: (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) دليل على أن المجرم في القرآن واقع على الكافر. (لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) ففيه دليل على أن من دخل من الموحدين بذنبه النار مات فيها، ولم يشعر بعد الموت بألم العذاب حتى يخرج منها. إذ لا يجوز في عدل الله - جل وتعالى - من حيث يعقل القوم أن يسوي بين عذاب الكافر والمذنب، ويجمع عليهما الخلود. وذوق عذاب الأبد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 فإن قيل: كيف يموت في النار من ذاق الموت في دار الدنيا والله يقول: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى) . قيل: هذا في أهل الجنة ممن لم تمسه النار إلا تحلة القسمِ، لاَ فِيمن تمسه النار ببعض عذابها، ألا تراه يقول: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) . وقوله إخبارا عن السامري وغيره: (فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 يحتمل أن يكون النسيان راجعا على الموعد وهو قوله: (فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) . ويحتمل أن يكون نَسي أن العجل وإن كان له خوار مطالب بالنطق والصوت. ومنهم من يقول: إن النسيان أخبر به السامري عن موسى - عليه السلام - كأنه قال: نسي موسى أن العجل إلهه فتركه وطلب غيره وأجيبه. * * * قوله: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) إلى قوله: (إِلَّا يَوْمًا (104) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 دليل على ما قلنا: إن الميت لا يشعر بطول مكثه في البَرزخ، لولا ذلك لما أحالوا على لُبث عشرِ ويوم. فإن قال قائل: إنما هذا منهم على سبيل كذب ومكابرة كما هو في سجيتهم، واحتج بقوله - تبارك وتعالى - في سورة الروم: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وقال: ألا ترى أن الله قد أنكر عليهم قولهم فقال: (كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) . قيل: ليس إنكاره عليهم - والله أعلم - من جهة أنهم شعروا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 فأنكروا وكابروا، ألا ترى أنهم يتخافتون بينهم بذلك والمكابر وإن كابر فهو عارف بمكابرته في نفسه، وهؤلاء يتخافتون بينهم بذلك ولكنه - والله أعلم - على معنى أنهم مخدوعون بذلك فيظنون أنهم مكثوا ذلك، المقدار وأنه حق "، كما كانوا يخدعون بكفرهم في الدنيا. وإماتتهم أنهم لا يحشرون ولا يبعثون. ونفس الآية التي هي في سورة الروم حجة أيضاً في ذلك. ذكر الشفاعة. * * * وقوله: (يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) دليل على أن الشفاعة مأذون فيها لخصوص من الناس، وأن غير النبي - صلى الله عليه وسلم - يشفع فيشفع، وإن كانت الشفاعة العظمى له. وكذا قوله: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) دليل على أن هناك شفعاء، وفي زوال منفعتها عن قوم دليل على أن غيرهم يسعدون بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 اختصار. قال محمد بن علي: ومما يؤكد سعة لسان العرب، وإجازته الاختصار والإشارة إلى المعنى قوله - تبارك وتعالى - في هذه السورة: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) فابتداء الكلام بذكر العدو لهما وحذرهما - من صنيعه بهما، ثم قال: (فَتَشْقَى) فجعله لآدم وحده، ولم يقل: فتشقيا، لأنه إذا شقي شقيمت - والله أعلم - بشقائه. ويجوز أن يكون المعنى فيه مصروفا إلى أن عليه التكفل بأمرها وهو القائم عليها. فجرى اللفظ بتوحيده من هذه الجهة. ثم قال: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) ثم قال: (فَأَكَلَا مِنْهَا) فرجع إلى الإخبار عنهما بعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 أن ذكر الوسوسة إليه وحده، ثم قال: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) فوحد بالذكر، وهي لا محالة عاصية مثله بأكل الشجرة، لقوله في البقرة: (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فعمها بالنهي. وقال: (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) وهي أيضا متاب عليها. ثم رجع إلى لفظ التئنية فقال: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا) . ثم جاء بلفظ الجمع فأدخل إبليس والحية - وهو أعلم - معهما فقال: (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) . وكان ابن عيينة يقول: إن قوله لآدم: (إِن لَكَ أَلَا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعرَى) يعني به في الدنيا، وأولاده دَاخلون معه، ويحتج بأنه لو كان فى الجنة لما عريا فيها حتى بدت سوآتهما ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 وليس هو عندي كذلك ولا المراد به - والله أعلم - إلا الجنة. وكيف يكون ذلك في الدنيا وهو - جل وتعالى - بعد ذكر تحذيرهما ولم يخرج من تمام القصة، وصنع إبليس بهما وما وسوس إليهما من أمر الشجرة وما عوقبا به من بدُوِّ سوءاتهما وإهباطهما إلى الأرض. إنما قوله - تبارك وتعالى -: (إِنَ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعرَى) في الجنة إن قبلت تحذيري إياك من عدوك. ولن تعصيني بقبول قوله وتصديق وسوسته. فلما قبل قول عدوه وعصى ربه بأكل الشجرة أهبطه إلى الأرض فشقي وشقيت زوجه معه، وشقي بشقائهما أولاده، وصار عيشهما وعيش أولادهما بالتعب والنصب. ومما يصدق أن قوله: (إِنَ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعرَى) هو في الجنة، وهو على سبيل ضمان منه ووفاء من آدم، وقبوله ما حذر منه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 ليس على سبيل إعطاء في الدنيا وتمكن منه كما كان يأكل في الجنة رغدا حيث شاء وشاءت زوجته أنا نرى من أولاده الذين زعم ابن عيينة أنهم داخلون معه من يجوع في الدنيا ويعرى كثيرا من عيشه، وعيشه نكد غير رغد. فكيف جعل له ألا يجوع فيها ولا يعرى، وأعطاه ذلك وأدخل ولده معه فيه، ونحن نشاهد هذا في أولاده بالمعاينة من غير خبر، ولو كان جعل لهما جعل عطية، واقتدار مُلْك ما أصابهم ذلك طرفة عين، لأنه - جل جلاله - لا يخلف ميعاده بل هم أشقياء كما أخبر إياهم بمصيره إليه بعد المعصية، بل ضمان رزق عبيده في الدنيا ونعمه عليهم في المأكول والملبوس مأخوذ من غير هذا الموضع. والقرآن مملو به، قال اللَه تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) . (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) . وقال: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) ، وقال: (أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 وقال: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ) ، ومثله كثير، ثم أخبر عن تقديره وتنزيله بقدر على من يشاء وإذا شاء، إذ هو أعلم بعباده منهم بأنفسهم، وسائق إليهم بأرزاقهم في أوقات تصلح لهم فقال: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) ، وقال: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) . تفسير حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أربع ما جاوزهن ففيه الحساب ". وقال محمد بن علي - رضي الله عنه -: وليس في قول النبي - صلى، لله عليه وسلم -: " أربع ما جاوزهن ففيه الحساب، ما سدً الجوعة، وكف العطشة، وستر العورة، وكن البدن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 ما يحقق قول ابن عيينة - وضي الله عنه - في تأويله: (إِنَ لَكَ أَلا تجَوُعَ فِيها وَلَا تَعرَى) أنه في الدنيا، إنما هذا إن صح ففيه سعة للمؤمن أن تأخذه من الدنيا بسماحة إذ كان لابد منه، ويكون الحساب عليه فيما توسع فيه من فضولها المستغنى عنه، مع أن الخبر له معارض وهو قوله لأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - حيث أكلا معه عند أبي الهيثم بن التيهان، وقد أخرجهم الجوع الشديد: أكلتم وشربتم وهو من النعيم الذي تسألون عنه ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 يريد - والله أعلم - قوله: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) . وأخبار سوى هذا لو تقصيناها لطال الكتاب بها. ولبيانه موضع غير هذا وهو كتابنا المؤلف في تعارض الأخبار. ذكر السرف. * * * وقوله: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ) يؤكد ما قلنا من أن السرف هو: مجاوزة الحد في الفعل كله، لا في الإنفاق وحده، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 ويكون أيضا بمعنى الخطأ، وهو في هذا الموضع - والله أعلم - الكفر. لأنه قد جمع خطأ ومجاوزة للحد. إذ لا فعل أحق بأن يكون المرء مجاوزا فيه حده من الكفر. ثم خلق ورزق، وأعطى وأمات وأحيى، وله نِعم لا تحصى جل ربنا وتعالى. * * * وقوله: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فيه - والله أعلم - تقديم وتأخير كأنه: ولولا - كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 وفيه حجة على القدرية والمعتزلة في ذكر سابق الكلمة وهو - والله أعلم - نظير قوله: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) في معنى السبق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 سورة الأنبياء ذكر تثبيت خبر الواحد. * * * قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) حجة في تثبيت خبر الواحد، لأن كل واحد من المسؤولين مخبر عن ذلك على الانفراد، والحجة لازمة على المخبر بقوله. المعتزلة. * * * وقوله: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ) حجة على المعتزلة والجهمية فيما يزعمون أن الله - جل جلاله - لا يوصف بحدِ ذات، وأنه ليس على العرش. إذ محال عندهم أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 يكون في موضع دون موضع وقد قال تبارك وتعالى: (وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ) ، فوصفهم بأنهم عنده، ولو لم يكن جل جلاله أنه في موضع وعلمه في كل موضع ما كان لقوله: (وَمَن عِندَه) معنى. وبلغني عن بعض سفهائهم أنه تأول قوله: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) . فما عسى يستطيع أن يقول هاهنا والملائكة لا ثواب لهم، ولو كان لهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 أيضا ثواب لكان في القيامة. فيقول: - ويله - إنهم عند ثواب مجعول لغيرهم في الجنة. إنهم ليقولون قولا عظيما. وبؤكد قوله: (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) فهذا الآن على أن الله الذي يجوز أن يكون إلها دون من يتخذونه من الأرض، وهو في السماء لا محالة، وعلمه محيط بالأرض وغيرها. ذكر الرد على الجهمية في نفي الكلام عن الله عز وجل. وقوله إخبارا عن إبراهيم - صلى الله عليه -: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) حجة على الجهمية والمعتزلة في نفي الكلام عن الله - جل الله - فيصفون - ويلهم - ما وصف به المشركون آلهتهم، ألا يسمعون بخبر عن خليله - صلى الله عليه - بهذا، وعن تظليم القوم أنفسهم حيث اتخذوا إلها لاينطق، وهذا مرتضى من قولهم لولا ذلك ما قال: (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 فإنما نكسوا على رؤوسهم حيث رجعوا عن الحق إلى الباطل. وصوبوا لأنفسهم عبادة إله لا ينطق بعد أن كانوا ظلموها أفيجوز - ويحهم - أن يكون إله إبراهيم وآلهتهم بصفة واحدة لا ينطق ذاك ولا هؤلاء. أليس كان عجز آلهتهم عن الكلام نقصا فيها، وأحد علامات تحقق بطلان الإلهية عنها. فأراهم لا يرون - ويحهم - إلا على أن يصفوه صفة الموات، ومن لا يقدر على نطق ولا حركة، وهذا هو التعطيل بعينه نعوذ بالله منه. سعة لسان العرب. * * * قوله: (وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 دليل على سعة لسان العرب، ألا تراه كيف نسب العمل الخبيث إلى القرية، وإنما عمله أهلها، وهذا من الكلام الذي يأتي آخره عن أوله، لأنه حين قال: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ) حقق أن العمل كان منهم لا مِن القرية، ومثله كثير في القرآن إنما تركنا ذكره لأن الشافعي - رضي الله عنه - قد سبقنا إليه في كتاب الرسالة، فاقتصرنا منه على هذا الموضع وحده لئلا يعرو الكتاب منه. وفي تسمية العمل بالخبائث دليل على أن الأنجاس قد تكون فعلا. وتكون ذاتية، لا أنه مقتصر بها على الذاتيات المجسدات، ولا على أن كل موصوف بالخبث والرجس والنجس مقصود به ضد الطهارة كالغائط والبول وما ضاهاهما. ذكر الاحتراز. * * * وقوله: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 دليل على أن الاحترازات ليست تنقص في التوكل، إذ كان الله - جل وتعالى - قد جعل الدرع صيانة في الحروب، وجعلها في النعم التي طالب بشكرها. لماذا كان ذلك كذلك فالمكاسب كلها، وإعداد الأقوات غير مؤثرة في الثقة بالخالق، ولا معدودة في عداد خوف فوات الرزق. ذكر التسبيح. * * * وقوله: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) دليل على أن التهليل والتسبيح يجليان الغموم، وينجيان من الكرب والمصائب، فحقيق على من آمن بكتاب الله أن يجعلها ملجأ في شدائده، ومطية في رخائه ثقة بما وعد الله المؤمنين من إلحاقهم بذي النون في ذلك حيث يقول: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 ذكر القدرية. وقو له: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) حجة على المعتزلة والقدرية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 قوله: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) حجة على الجهمية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 سورة الحج ذكر المبالغة. * * * قوله: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) نظير ما مضى في سورة البقرة من إجازة المبالغة في الأشياء حتى يسمى بأضدادها كما يقال: فلان ميت، إذا كان بليدا في أمره خاليَا من المنافع. وفلان شيطان، إذا كان داهية، وأشباه ذلك. ألا تراه قال: ((وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى) ثم قال: (وَمَا هُمْ بِسُكَارَى) يعني - والله أعلم - من الشراب، ولكن من غلبة الفزع لما عاينوا من الزلزلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 الجهمية. * * * وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) حجة على المعتزلة والجهمية مغنية عن جميع ما تقدمها إذ هو يقول - جل جلاله - نصا من غير تأويل: إن الشيطان يضل وليه، ويهديه إلى عذاب السعير بما كتبه عليه من ذلك. ولا أعلم في جميع ما مضى من الحجة عليهم أبلغ من هذه ولا أقل التباسًا منها، فالحمد لله الذي وَقق أفهامنا لإثارتها، وهدانا لما ضمن من الحجة عليهم فيها. حذف هاء المفعول. * * * وقوله: (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 من المواضع التي يحسن فيها حذف هاء المفعول. معان. * * * وقوله: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) دليل على أشياء: فمنهاْ: أن الزيادة في السمن، وكثرة الثمن في البدن أفضل من تكثير اللحم بعدد المهازيل. ومنها: أنها إذا جعلت شعائر يحرم الانتفاع في الظهر، والدر إلى أن تنحر. ومنها: أن اسم البيت غلب على الحرم كله فسمي به، لأن العلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 يحيط أن الشعائر لا تنحر عند البيت نفسه إنما هو مناحرها أرض منى. ذكر الأكل مِنَ الهدى. * * * وقوله: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) إباحة الأكل من الهدي كله تطوعه وفرضه، إذ مخرج الإباحة في الأكل عام فمن خص منه شيئا فعليه أن يأتي بالبرهان. ولا أعلم منع الأكل من لحم هدية المفترض من الإجماع المحصل، بل يحيط العلم بأن كل من حج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن هديه تطوعًا، وكان فيهم لا محالة من كان هديه فرضا. ألا ترى أن عائشة - رضي الله عنها - روت أنهم خرجوا مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنهم من أهل بحج وعمرة. ومنهم من أهل بالحج ومنهم من أهل بعمرة، وأهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحج. فهب أن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أكل منه كان تطوعا لإفراده الحج. أيخلو من كان معتمرا أو قارنا مِنْ إن كان هديهم فرضا واللًه - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 تبارك وتعالى - يقول قولا عاما: (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا) ، فما كان من هدي متعة أو قِران فالأكل بظاهر القرآن منه مباح كهو من أكل المفرد الذي يكون تطوعا. إنما لا يأكل من جزاء الصيد والنذور والفدية، لأن هذه لا تسمى شعائر، إنما الشعائر - والله أعلم - ما يكون بسبب القِران. والنذور شيء أوجبه المرء على نفسه فليس له أن يأكل منها. والفدية وجزاء الصيد عقوبة فإذا أكل منه لم تتم العقوبة عليه. فإن عطب هذا الهدي الذي أبيح الأكل منه قبل محله لم يجز أن يأكل منه صاحبه، ولا أحد من أهل رفقته لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم سواء كان فرضا أو تطوعا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 وكان عطاء يجيز أن يأكل من المتعة ومن الإحصار، ويجيز من النذر ما دون الثلث ما لم يسمه للمساكين، فإذا سماه للمساكين لم يجز. فالإحصار عندي على وجهين: فإن كان المحصور اشترط المحل فله أن يأكل منه، لأن محلها حينئذ يكون حيث أحصر على حديث ضباعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 وإن لم يكن اشترط فالحصر وجه من وجوه العطب. إذ كل حادثة على الهدي دون محله تمنع من بلوغه المحل عطب فليس حينئذ أن يأكل منه، ولا نعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل عام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 الحديبية من هديه حين أحصر. فإن قال قائل: كيف أبحت الانتفاع بدر الشعائر وظهورها، وقد يحتمل أن يكون قوله: (لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) قبل أن تجعل شعائر. قيل: إن هذا وإنِ احتمله فالأظهر ما قلناه، لأن الله - جل جلاله - ذكر تعظيمها وأنها من تقوى القلوب قبل ذكر المنافع. والثواب في تسمين البدن يكون لما تنحر لله، فأما ما نحرت للمأكلة فلا ثواب فيها من جهة نفس النحر سمانًا. وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يسوق بدنة أن يركبها وكرره عليه ثلاثًا. فهذا يبين أن المنافع المباحة منها هي بعد التسمية مع أن منافعها قبل التسمية معروفة بملكها فلا يحتاج إلى التكرير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 ذكر ذبح الجنين: * * * وقوله تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) كان عطاء بن أبي رباح - رضي الله عنه - يتناوله فيما أرى التسمية على ذبح الجنين إذا خرج حيًا، ويزعم أنه إذا مات قبل أن يذبح لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 يؤكل. كأنه يذهب إلى أن بهيمة الأنعام الجنين. وليس ذلك ببين في تفسير الجنين، لأن الجنين لا ينسك به. فأما قوله في ترك أكله إذا مات وقد خرج حيا فكما قال، لأن كل حي خرجت نفسه من المأكول بغير ذبح أو ما يقوم مقامه في الصيد والمتوحش، والناد من الإبل والبقر، والساقط في البئر ميتة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ذكاة الجنين ذكاة أمه " واقع على من خرج ميتا. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 ذكر الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. * * * وقوله: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُ ورِ (41) دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن نصرة الله لا محالة نصرة دينه. إذ هو - جل وتعالى - قوي عزيز كما قال. لا يرام فإنما الواجب على أهل دينه نصرة دينه الذي شرعه لهم، ولا وصول إليه إلا بإيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ لو كانا غير مفترضين لاتساع القعود عنهما، وارتفعت المآثم في تضييعهما من أجل أن أحدًا لا يجبر على عمل تطوع، ولا يحرج بتركه، وفي ذلك زوال النصرة عن دين الله، ودخول الوَهَن عليه، وسببه قعود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر عنه وهم قادرون على التغيير لم يجز أن يسمى نهوضهم إليه تطوعًا. * * * وقوله: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) تفسير من ينصره - واللًه أعلم - ومدح لهم بقيامهم بأمور هي مفترضة عليهم كإقام الصلاة وإيتاء الزكاة مع التمكين والقدرة. وساقطان بعدمهما كما تسقط الصلاة بالعجز من زوال العقل، والزكاة بإعواز المال. وكان بعض أهل التمييز يزعمِ أنهما مفروضان على السلاطين دون الرعية ويحتج بقوله: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) . وهو عندي إغفال، إذ لو كان كذلك لكان - والله أعلم - أقاموا الصلاة وأخذوا الزكاة كما قال: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) ولكانت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 الصلاة والزكاة أيضا غير مفروضتين إلا على السلاطين دون الرعية، لأن الله تعالى - جل وتعالى - وصف الممكنين في الأرض بالأربعة الأوصاف وصفا واحدا. وهذا خروج من الإسلام. ذكر اختصار الكلام. * * * وقوله: (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) دليل على أشياء: فمنها: اختصار الكلام والإشارة إلى المعنى، لأن في (يُكذِبُوكَ) اسم محمد - صلى الله عليه وسلم - وهي اسم المفعول، ولم يذكر المفعول به من المكذبين ظاهرا ولا مكينا إلى ذكر موسى - صلى الله عليه وسلم - فاستغنى السامع بالإشارة إلى ما ذكر غير هذا الموضع، وعلم أن قوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 نوح كذبوا نوحًا، وعادًا كذبت هودًا، وثمود صالحًا، وقوم إبراهيم إبراهيم، وقوم لوط لوطًا، وأصحاب مدين شعيبًا، وفي أصحاب مدين خصوص لأن شعيبًا - صلى الله عليه وسلم - المكذب وبناته أيضًا من أصحاب مدين ولم يدخلوا في التكذيب. ومنه: أن المغتم بالشيء قد يتسلى بأن يكون له في مصيبته شريك. ألا ترى أن الله - جل جلاله - كيف عزى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمشاركة من مضى قبله من الأنبياء في تكذيب قومهم إياهم. واحتمال مضضه وأذاهم، فدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيره من الأنبياء - صلوات الله عليهم - كانوا يغتمون من تكذيب قومهم إياهم. ومنها: أن الإملاء للكافرين مكر بهم واستدراج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 وهو رد على المعتزلة والقدرية. اختصار. * * * وقوله: (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ) وكذلك ما بعده: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) حجة واضحة في اختصار الكلام، والاستغناء بما يدل عليه لسياقه عن الإفصاح بالمشار إليه، لأن القرية لم تكن ظالمة ولا مأخوذة إنما المراد بها أهلها. وفيه رد على المعتزلة فيما يزعمون أن العفو عن الموعودين بالنار لا يجوز على الله، لأنه كذب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 وقد دللنا في غير آية على بطلان قولهم بما يغني عن إعادته في هذا الموضع. فإذا كان العفو عن مستوجب النار الموعد بها كذبا عندهم ينفونه عن الله - جل الله - تعظيما له. والعفو كرم بإجماع العرب لا خلف. فما عسى يقولون في ظلم القرية وأخذها وأشباهه، وظاهر الظلم مضاف إليها، فهل يكفرون - ويحهم - بكل ما كان من هذا النمط في القرآن تعظيما لله عندهم بجهد لهم الذي يحملون أمر الخالق كله عليه، فيجيزون عليه ما يستجيزونه، وينفون عنه ما تضيق عنه، والله الحاكم بيننا وبينهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 ذكر المعتزلة. * * * وقوله: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِ هِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) حجة على المعتزلة والقدرية واضحة، وقد أخبر نصا عن نفسه أنه جاعل ما يلقي الشيطان في أمنية الرسول فتنة للذين في قلوبهم مرض، والقاسية قلوبهم، وأخبر عنه وعن نسخه أنه الحق، وأثنى على المؤمنين من أولي العلم بحقيقة المخبتين قلوبهم له، المهديين إلى الصراط المستقيم بهدايته، ولو كان إيمانهم بالآيات والثناء عليهم بها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 لا بِما قلنا لكان - والله أعلم: (وليعلم الذين أوتوا العلم أنها الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت لها قلوبهم) لأن الآيات مونثات. ذكر مرض المؤمن. وقوله: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) بشارة للمؤمن كبيرة، وتقوية الحديث المروي: " من مات مريضَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 مات شهيدا "، لأن الله - تبارك وتعالى - قد جمع بين ثواب الميت والمقتول في هذه الآية، ولم يفضل أحدهما على صاحبه بشيءْ. وأشركهما في الرزق الحسن والمدخل المرضي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 وقد دللنا على أن الموت والقتل - وإن فرق بهما اسم - فهو يجمعهما معنى واحد في سورة آل عمران بما يغني عن إعادته في هذا الموضع. فما كان سببه فعل بشر سمي قتلا، وما لم يكن سببه فعل بشر سمي موتا، وكلاهما موت، وصاحبه وإن سمي ميتا فهو يسمى مقتولا. ومقتولا وإن سمي ميتا. ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل من المشركين: " إن ربي قد قتل صاحبك البارحة "، ولو كان الأمر كما تزعم المعتزلة والقدرية أن المقتول ظلما مقتول بغير أجله. ولا يسمى ميتا إلا من مات ميتة نفسه، لكان حقا على الله أن يحييه ليذوق الميتة التي وعده حيث يقول: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 أليس يزعمون في باب الوعيد أن العفو عن الموعود بالنار لا يجوز عليه لأنه خلف عندهم. فهل يخلو مَن زهقت نفسه بسبب فعل غيره، وتعديه عليه من أن يكون ذائقا الموت الموعود به في قوله: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) . وبقوله: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) أو غير ذائقه. فإن كان ذائق تلك الموتة فلم لا يكون ميتا بأجله، ولا يكون فعل غير به مقضيَّا عليه. أم كيف يقدر هو بتعديه أن يقدم ما أخره الله عنه. أليس يقول: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 فقاتل المؤمن وإن كان متعديا عليه بفعله فمكتوب عليه تعديه، والمقتول ميت بأجله وإن كان ذائق تلك الموتة، فمتى يذوق تلك ويحهم وقد فارق الحياة وخرج من الدنيا. أفيذوقها في الآخرة أم يرده إلى الدنيا ليذيقه إياها بغير فعل بشر. وما الذي يفرق بين القِتْلَتين عندهم، وكلاهما سبب من البشر وإن كانا مطيعا بأحدهما عاصيا بالآخر، فيما أنا سائلهم فأقول: ما تقولون فيمن أمرنا الله بقتلهم من المشركين حيث وجدناهم فقتلناهم - وقتلهم لا محالة عقوبة لكفرهم -، أهم ميتون بآجالهم ويسمون ميتين، أم مقتولون بغير آجالهم وغير مسمين ميتين. فإن قالوا: بل هم مقتولون بآجالهم ميتون به. قيل: فلم لا كان المقتول ظلما ميتا بأجله، وكلاهما مفادت نفسه بسبب من العبيد، وهب أن المطيع والعاصي مختلفان في الفعل كيف تختلف المفعول به في وصول الفعل إليه وإفاتة نفسه به. وإن قالوا: بل مقتولون بغير آجالهم غير ميتين به. لزمتهم الحجة من جهتين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 إحداهما: أن فعلا بعينه معدودا من فاعل جورا على غيره قد رأوه جاريا في عداد العدل وهو فعل واحد، وإن كان بمفعولين مختلفي السيرة. والأخرى: ما يلزمهم في قولهم من بقاء الميتة الموعد بها من قتل بغير أجله. ويقال لهم: أخبرونا عن القتل الذي أمر المؤمنون به للكفار، أهو عقوبة لكفرهم أم غير عقوبة. فإن قالوا: عقوبة لكفرهم. قيل: فما وجه تثنية العقوبة عليهم في الآخرة بالنار، وكيف خروجه عندكم في العدل الذي تدعون التحذلق في معرفته، والله - جل وتعالى - يقول،: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) إلى قوله: (كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فإن قالوا: هو بعض أجزاء جزائهم، وطائفة من عقوبة كفرهم. وتمامه يجزون به في النار. قيل لهم: أَوَ للكفر عقوبة معروفة متناهية الحد يكون القتل بعضها. فإن قالوا: نعم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 قيل: فما وجه تخليدهم في النار، والتخليد لا نهاية له، وقد زعمتم أن عقوبتهم متناهية، والقتل طائفة منها. فإما أن يكون قولكم في نهاية الكفر وعقوبته خطأ، وإما أن يكون تخليدهم من العدل الذي لا تعقلونه، ويوجب عليكم القول بالقضاء. وإعداده في وجوه العدل وإن لم تعقلوه. وإن قالوا: ليس بعقوبة لكفرهم، لأن عقوبة الكفر تخليدهم النار بعد الحشر. قيل لهم: فما وجه قتلهم، وتصرفه في العدل الذي تحملونه على فطرة عقولكم. هذا مع ما يلزمهم من خلاف نص القرآن حيث جعل الله ذلك عقوبة لكفرهم وجزاء له. ويقال: هل يخلو أمره - جل وتعالى - بقتلهم إن كان غير عقوبة عندكم من أن يكون عدلا لا تعقلونه يلزمكم أن تؤمنوا بغيره وإن لم تعقلوه كإيمانكم بهذا، أو جورا عندكم تجحدون بتنزيله فيكفونا مؤونة الاشتغال تناقضكم لما تصرخون به من ظاهر كفركم. ولو قلتم كما قال، واتبعتم في جميعه القرآن، والرسول - صلى الله عليه وسلم - من أن المفات نفسه بفعل البشر وغير البشر ميت بأجله. الكافر مع خلود في النار معا عقوبة، وتبرأتم من عدل يخرج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 في فطرة عقولكم فيه، وسلمتم صرفته من العادل الذي يعرف كنهه سلمتم من جميع هذه المناقضات. وبعد فلو جاز أخذ معرفة العدل من الخالق بفلسفة المتفلسفين. وعقول العاثرين لكان من أمحل المحال أن يكون فعل واحد - وهو القتل - معدودا في حال مدحا وفي حال ذما، وفي حال طاعة. وفي حال معصية من فاعله، ووقوعه بالمفعول في حال سعادة وفي حال شقاوة، ولكن أحكام الله لا تضاهى بالرد، ولا تقابل بالفلسفة، ويؤمن بجميعها مسلما للخالق فيها علما من المؤمن بأنه - جل وتعالى - عدل كيف قضى وحكم، وأثاب وعاقب لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب. ذكر الرجوع من الخبر إلى المخاطبة. * * * وقوله: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا) حجة في الرجوع من الخبر إلى المخاطبة، ولو لم يجز ذلك لكان: يعرف في وجوه الذين كفروا المنكر. وفيه دليل على أن أهل الباطل تضيق صدورهم من الحق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 وقوله: (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ) نظير ما مضى في سورة المائدة من قوله: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ. لأنْ تلاوة الآيات ليس بشر، والنار شر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 سورة المؤمنون المرجئة. وقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) إلى قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) حجة على المرجئة واضحة، ألا تراه كيف نعت المؤمنين بنعوت العمل ولم يجعلهم وارثي جنته وفردوسه إلا بها. فكيف يكون مستكمل الإيمان من عري من هذه النعوت المذكورة في وصف المؤمنين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 خصوص. * * * وقوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) عام المخرج خاص لآدم - صلى الله عليه -. (ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً) الهاء غير راجعة إلى آدم، بل راجعة على ولده لأنهم شاركوه باسم الإنسية، وهي عموم منهم إلا عيسى - صلى الله عليه وسلم - فإنه غير مجعول نطفة بل مخلوق بقدرة الرب في بطن أمه، وحواء خارجة من الطين والنطفة معا، لأن خلقها بعد خلق آدم، وبعد نفخ الروح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 فيه من ضِلع من أضلاعه والضلع حينئذ عظم. فإذا كان القرآن هذا سبيله من الفصاحة يحصر ويعم، ويشير إلى المعنى على هذا الاختصار الشديد فإقحام كل عليه، وادعاء علمه من معرفة به افتراء على منزله سبحانه. ثم عم الجميع بالموت من خص في الأول ومن عم فقال: (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) * * * وقوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) . رد على من يزعم أن الله في الأرض بنفسه كهو في السماء، ولو كان كذلك ما كان في قوله: (وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ) فائدة، لأن من كان مع خلقه بنفسه علم أنه لا يغفل عنهم، ولكنه دل المرتابين على أن الطرائق السبعة لا تحجب خلقه عنه، ولا تنسيه أمرهم. وهو واضح لا إشكال فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 ذكر أبي حنيفة. وقوله إخبارًا عن بعض من كذبوا رسولهم واتهموه فيما جاء به عن ربه: (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) حجة على من يمهد عذر أبي حنيفة فيما رذَ من أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنها لم تصح عنده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. إذ كل ما كان صحيحا في الأصل لم يعذر راده باتهام رواته، ألا ترى أن الله - جل وتعالى - لم يمهد عذر هؤلاء فيما اتهموا رسولهم - صلى الله عليه - وظنوا أنه لا يجوز على الله ما نسبه إليه وادعاه عليه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 وكذا أبوحنيفة لما رد أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يردها على من زعم هذا الذي يمهد عذره - إلا تنزيَها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا يقول شيئا يأباه عقلُ مثله، فلو كان معذورا في اتهام الصادقين من النقلة لعذر أهل هذه الآية في اتهام الرسول الصادق. فلما لم يعذروا وفرض عليهم قبول قوله، واستعظموه لصدقه وجب على أبي حنيفة أن يقبل رواية الصادقين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تفضيل سهم الفارس على الراجل مسلم، ولا يردها استعظاما لذلك، ولا تنزيَها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تفضيله سهم بهيمة على سهم رجل مسلم وأشباهه فيما رد به الأخبار، مع أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: " سهم له وسهمان لفرسه " ليس كما ذهب إليه الأحمق، إنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 قال: " لفرسه " أي لما ينفق عليه في علفه ومؤونته. وهب أن هذا يعذر فيه - وإن لم يكن معذورا لأنها رواية - ما عذره في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 إعداد الجزية رشوة. وقد نزل القرآن بها، وقدِ اتفقت الأمة عليها. ولو لم يكن في إبطال القياس والاستحسان من المعتبر إلا ما يؤدي إلى مثل هذه الأشياء لكفى. فكيف والحجج في إبطالها أكثر من أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 تحصى) . فإن قيل: أفتجعل اتهام أبي حنيفة لرواة الأخبار كاتهام أولئك لرسولٍ يثبت صدقه بالآيات. قيل: الذي يوجب الحجة على المبعوث إليهم صدقه لا ما يثبت به الصدق، والآيات لا تتكلم فتخبر بالأمر والنهي وغيره عن الله. والمتكلم صاحب الآيات فإذا ثبت صدقه عند المخبر وجب عليه تصديقه، وقبول قوله فيما يحكيه عن غيره. وقد دللنا في كتاب شرح النصوص على أن الساحر قد يجيء بمعوز من الفعل، وقوله كذب كله. ولكنه لما جعل - تبارك وتعالى - في أطباع البشرية ألا يثبت عندها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 صدق المخبِرين إلا بأمارات فيهم يسكن إليها قلوب المخبَرين جعل للرسل آيات يتباينون بها سائر الخلق، لتوكيد الحجة على المبعوث إليهم. فأما لزوم الحجة فالصدق لا بالآيات، فبأي شيء ثبت صدق المخبِر عند المخبَر وجب قبول قوله عليه ولزمته الحجة به، وإن لم يكن مثل آيات الرسل. أليس الله - جل جلاله - قد أمر بقبول قول العدل من الشهود على ما يعرف - فظاهر عدالته وصدق لهجته - ولم يثبت صدقه عندنا بآية أوتيها كآيات الرسول. وأبو حنيفة ممن يقول بخبر الواحد، وقد ثبت عنده برواية هؤلاء بأعيانهم الذين رد أخبارهم أخبار كثيرة وقال بها، وجعلها حجة لمذهبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 أفيكونون عنده في حال صادقين، وفي أخرى كاذبين، فالآية حجة على ممهد عذره بما لا عذر فيه بينة لمن تدبرها عليه. * * * قوله: (مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) حجة على المعتزلة والقدرية فيما يزعمون أن المقتول ميت بغير أجله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 ذكر نقض ضلالة الضالين على أْلسنتهم. وقوله تعالى إخبارا عن فرعون وملئه: (فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) دليل على أن الله - جل جلاله - يجري نقض ضلالة الضالين على ألسنتهم فلا يشعرون بها، ولا أتباعهم ليحق كلمته على من قضى عليه الشقوة. ألا ترى أن فرعون مع ادعائه الربوبية قال مع ملئه: (فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا) ولم يحترز من تسمية نفسه بشرا، وقد سماها ربا لا ملؤه. قالوا: كيف تدعي الربوبية وأنت بشر مثلنا ومثل موسى وأخيه. وهكذا كل مبتدع يغني أتباعه عن فَلي قوله عليه، وهو ذا يناقض نفسه ولا يشعر هو ولا أتباعه كالباهلي الذي صنف كتابا في الرد على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 المشبهة ثم جعل رده تشبيهًا كله، ولم يشعر. * * * قوله: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) وحدت الآية وهما آيتان - والله أعلم - ردَّا على العجب من أمرهما أن تكون أنثى تحمل من غير ذكر، وتلد مولودًا بلا أَبٍ. اختصار " * * * وقوله: (وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) دخلت الواو - والله أعلم - على معين كأنه: (ماء معين) فاستغنى بالإشارة إليها كسائر ما تقدمه من الاختصار. ولو كانت من نعت القرار لكان بغير واو. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 المعتزلة. * * * وقوله: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) يحقق سوء خطر القدرية والمعتزلة، وضعف رويتهم، واغترارهم بحلم الله عنهم في تحريف القراءة في سورة آل عمران حيث كسروا: (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ) الأولى، وفتحو الآخرة، فما عسى يقدرون عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 هاهنا وقد قال نصا: (أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) ليس هو الخير يريدهم به، والإملاء والإمداد واحد، وقد شرحنا هناك بما يغني عن إعادته هاهنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 قال محمد بن علي: فنفى - جل جلاله - أن يكون ما يمدهم به مسارعة لهم في الخيرات، ثم بين من يسارع في الخيرات فقال: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 أردناه واحد - (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) فكأنه - والله أعلم - قال: لا نسارع لأولئك في الخيرات، ولكنا نسارع فيها لمن هذا صفتهم فيسارعون، والدليل على ذلك آية كذلك - والله أعلم: (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) فرجع إلى صفة الأولين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 أفلا يعتبرون - ويحهم - أن أحدا لا يسارع في خير إلا وقد سُورع له فيه، وأن الفعل المضاف إلى فاعله لا يدفع إمكان قضاء غيره عليه وتوفيقه له. بشارة للمشفقين. وفي قوله تعالى - تبارك وتعالى -: (وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بشارة للمشفقين من خشية ربهم والوجِلة قلوبهم مع صالح أعمالهم من الرجوع إلى ربهم، وتطييب أنفسهم بأن لا يرهبوا ظلما، ويطمئنون إلى أن الله - جل جلاله - لا يطالبهم فوق وسعهم، ووسعهم في صالح أعمالهم قد أحصاه كتاب ينطق لهم. * * * وقوله: (قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 الهاء في (بِهِ) ليست راجعة على الآيات، لأن الآيات مؤنثة. ويقال: هي راجعة على الحرم كأنه قال: كنتم تستكبرون بالحرم. ولا تتذللون فيه بعبادة ربكم. واختلف المفسرون في قوله: (تَهجُرُونَ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 فكان الحسن يقول: " تهجرون كتاب الله ونبيه - صلى الله عليه وسلم - ". وكان قتادة يقول: " تكلمون بالشرك والبهتان في حرم الله وعند نبيه - صلى الله عليه وسلم - ". يذهب إلى الهجر وهو القبيح من القول الفاحش منه. فهذا يجيء على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 قراءة من قرأ: (تهُجِرُون - بضم التاء، وخفض الجيم - ولعل قتادة قرأه كذلك، فلم يؤذه الراوي، فيكون شريك نافع في قراءته. فى سجايا الناس. * * * وقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) دليل على أن في سجايا الناس نُبوًا عما لم يسمعوا به، ولم تجرِ سنته فيمن قبلهم فصارت الحجة عليهم بذلك من حيث يعقلونها، ولا ينكرون تخصيصهم بما دعوا إليه، لتكون أوكد عليهم وأبعد لهم من أن يعذروا عند أنفسهم، لا أنها لا تلزمهم ولا تجب عليهم إلا بما سار سُنة في غيرهم، فقد أمر آدم بترك الأكل من الشجرة ولزمته حجة ربه، ولم يتقدم له في ذلك مقتدم. فليس لأحد رد حجة واضحة يوردها عليه مورد وإن لم يكن سمعها من غيره، ولا سبق موردها إليه سواه اعتمادًا على أن الله - جل ثناؤه - قال في هؤلاء: (أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 لأن ذلك منه - والله أعلم - على معنى النكير لا على الارتضاء. ذكر الجد. * * * وقوله تعالى: (أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) نظير ما يؤكد من الآيات أن الجد أب. قال محمد بن علي أبو أحمد: وليس في وقوع اسم الأب على الجد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 ما يجريه في الميراث مجراه بكل حال، ويسقط معه الإخوة والأخوات الذين وَرثهم الله نصا في القرآن. فقد دللنا في سورة البقرة على أن اسم الأبِ واقع على العم أيضا في قوله: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) . وإسماعيل لا محالة عم يعقوب، فلم تحجب به الإخوة والأخوات لوقوع اسم الأبِ عليه، والميراث بابٌ آخر يحتاج فيه إلى حجة مفردة. واسم الأب واقع على أب الأم نصا كوقوعه على أبِ الأب، قد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمي الحسن والحسين ابنيه. ويسميانه جدهما، ولا ميراث له بحال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 فليس في وقوع اسم الأب على الجد ما ينزله في الميراث منزلته. والذي نقول به في ميراثه - ونسأل الله التوفيق - إنما لم نجد الله - جل جلاله - فصل له ميراثا باسمه في كتابه، ولا وجدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصله مع غيره إلا مَا وَرِثه عن سبطه إذا انفرد جميع تركته فلا نجد شيئا نورثه إلا إجماع الأُمة، فعلينا أن ننظر إلى الفريضة فإذا كانت مجمعا عليها أعطيناه نصيبه، وإذا اختلف فيها أعطيناه الأقل الذي قد أجمع كل عليه، لنكون قائلين في جميع ميراثه بالإجماع، إذا المعول في توريثه على الإجماع، ومن الإجماع في أمره أيضا أنه مسمى بالعصبة وله حظ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألحقوا المال بالفرائض فما بقي فهو لأولى رجل ذكر "، وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 موضوع نشرحه في كتاب الفرائض من شرح النصوص. ذكر قبول خبر الواحد. قوله: (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) دليل على أن خبر الواحد يلزم قبوله بشرط معرفة المخبَر بصدق المخبِر وثبات عقله. ألا ترى أن حجج قريش كانت منقطعة بما عرفت من عقل النبي - صلى الله عليه وسلم - وصدقه فلزمهم خبره عن الله - جل جلاله - إذ لا علة لهم في رسوله - صلى اللَه عليه وسلم - يتعلقون بها، ويأوون في تكذيبه إليها. وهذا من أكبر ما يحتج به في تثبيت خبر الواحد لمن تدبره. وإن كان كلما ذكرناه قبله شافيا. ذكر الموازين. * * * وقوله تعالى: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 دليل أن الموازين للكافر والمؤمن معًا، وأن الأجساد والأعمال تُوزَن جميعًا، وفي تمام الآية ذهاب الريب على أن من خسر نفسه، وخلد في النار تحفه مثل به هو الكافر حيث يقول: (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) ومما يؤكد أن الإنسان يوزن مع عمله قوله: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يؤتى بالرجل العظيم السمين، الأكول الشروب فيوضع في الميزان فلا يزن جناح بعوضة " ثم تلا: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ، وقال في وزن المؤمن حين صعد عبد الله بن مسعود شجرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 فضحكوا من دِقة ساقيه: " أتضحكون من دقتهما، لهما في الميزان أثقل من أُحد ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 المعتزلة. قوله تعالى إخبارا عن أهل النار: (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) حجة على المعتزلة والقدرية، لأن الله - جل جلاله - لم يخُسهم بهذا القول، إنما أخساهم باتخاذهم المؤمنين سخريا، وضحكهم منهم. وكيف ينكر عليهم ما قالوا، وقد قال تبارك وتعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) . وقال على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 " إن الإنسان يُكتب شقيا وسعيدا في بطن أمه " برواية الثقات الذين لا يرتاب بصدقهم وإتقانهم. ولو كان أنكره أيضا لكان على نحو ما ذكرنا في سورة الأنعام عند قوله: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فيه - والله أعلم - ضمير (بِهِ) ، فاستغنى بالإشارة إليه على ما تفعله العرب الفصحاء في كلامها. كأنه يلهيهم أهوال القيامة عن التساؤل بالأنساب، فهي منقطعة المنافع، لا أنهم لا يتكلمون بتة ولا يتساءلون. وكيف يكون كذلك وقد قال اللَه تعالى: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) . وقال: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 فمعنى ما قلنا: من ترك التساؤل واضح لمن تدبره، ويؤيده قوله جل وعز: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) . * * * وقوله: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 حجة أيضاً في أن الميت لا يشعر بطول مكثه في البرزخ، ألا تراهم أجابوا بلفظ ما أجاب المارُّ على القرية الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه، (قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) . ورَد الله عليهم: (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) فدل على أنهم لم يكونوا يعلمون. * * * وقوله: (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا) وإنما سماه - وهو أعلم - قليلا عنده لا عندهم كما قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) . فالساعة عنده - جل جلاله - في القرب كغد، وقال صلى الله عليه وسلم: " بعثت في نفس الساعة فسبقتها كما سبقت هذه هذه " وأشار بالسبابة والوسطى. وكل هذا قريب عنده قليل وإن كان عند خلقه بعيدا طويلا كما قال: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 والأرض في هذا الموضع - والله أعلم - أرض القبر. فإن قيل: فما معنى (فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) ، وكلهم قَدِ استوى في الموت مع صاحبه. قيل: لم يُسمَع فيه شيء، ويحتمل أن يكونوا أرادوا من بقي بعدهم وعدُّوا أيام موتهم إلى أن ماتوا. والله أعلم كيف هو. والعجب لمن قرأ: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ) (قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا) على الأمر لا عَلى الخبر (1) ، وكيف يكون ذلك هو   (1) القراءة متواترة وهي لابن كثير وحمزة والكسائي، ومن ثَمَّ فلا وجه لتعجب المؤلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 شيء يسلمون في القيامة، ولا يعلم في شيء من الأخبار والروايات وَلا دَل عليه سياق الكتاب أن الله - تبارك وتعالى - يخاطب أهل النار بما قال من عند قوله: (أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ) إلى قوله: (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) . ثم يقول لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: قل لهم: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) ولو لم يكن من الدليل على أنهما جميعا (قال) على الإخبار عن نفسه - جل جلاله - إلا قوله: (قَالُوا لَبِثْنَا) لكفى، لأنه يقبح في كلام العرب أن يقال: قل لفلان كذا. قال: كذا، ولو كان في (قالوا) فإنه كانت القراءة على الأمر حينئذ أشبه وأوجه. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 لأنه كان يجوز أن يكون معناه: قل لفلان كذا وكذا. فيقول لك كذا. والله ولي الصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 سورة النور ذكر إقامة الحد: * * * قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وعيد شديد في ترك إقامة الحدود. والرأفة - لا محالة - تعطيل الحد بعد وجوبه، لا ما يلحق المرء عند إقامته من الرقة على المجلود، فإذا تركه فقد ضيعه وواقع نهي الله، وإذا أقامه مع الرقة لم يضره لحوق الرقة، إذ هو غير مالك لها، فقد أصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قطع السارق ما أصاب من الكراهة - وهو أعلم بتأويل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 ما أُنزل عليه - ولم يمنعه من قطع غيره بل حث عليه، وأوعد على الشفاعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 الحائلة بين إقامته وبين تعطيله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 وقال في قطع المخزومية: " لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعتها ". فقد وضح وضوحا لا التباس فيه أن الرأفة المنهي عنها تعطيل الحد، وترك إقامته بعد وجوبه. وأنا خائف على إيمان من عطله، لأنه - جل جلاله - قد جعل إقامته من شرطه كما ترى. * * * وقوله: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 دليل على أنه يقام علانية غير سر، ليتعظ به سائر الناس. الاختلاف: * * * وقوله تعالى: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) . اختلف المفسرون في تأويله: فكان الشعبي يقول: " ذلك في الجاهلية ". وكان سعيد بن المسيب يقول: " هي منسوخة، نسختها الآية التي بعدها: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) هي من أيامى النساء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 وكان الحسن يقول: " إذا حُد وحُدت لم يتزوج كل واحد منهما إلا مثله، ونسخ المشرك والمشركة ". وروى حبيب المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد المقبري. عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله " تصديقا لقول الحسن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 وقال مجاهد: " نزلت في بَغَايَا كُن في الجاهلية لهن رايات يعرفن بها ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 وقال عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: " نزلت في أم مهزول وحدها، استأذن مرثد بن أبي مرثد الغنوي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تزوجها فنزلت هذه الآية ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 وقال ابن عباس: " ليس هو بالنكاح إنما هو الجماع، لا يزني بها وهو يزني إلا زانٍ أو مشرك. قال محمد بن علي: أما قول الحسن فهو خلاف الإجماع، لأنا لا نعلم أحدا خالف في أن البِكْرَين إذا زنيا، أو الثيبين إذا عطل الجائرون حدّهما حل لكل واحد منهما أن يتزوج بمن زنى مرة، ومن لم يزنِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 بل قول الحسن أظرف من قوله، لأنه يبيح قبل الجلد أن يتزوجا. فإن كان مانعَا بالآية، فالآية تمنع الزاني لا المجلود، والزنا حادث بالفرج لا بالسوط. فكيف يجيز تزويج الزاني ويمنع تزويج المضروب. هذا إغفال غير مشكل، والحديث المرفوع في تصديقه ضعيف الإسناد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 لا تثبت بمثله حجة. وأما قول سعيد بن المسيب فإن الخطاب في قوله: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ) خطاب واقع على الأولياء في إنكاحهن لا على المتزوجين في نِكاحهن. فكيف ننسخ آية تحظر النكاح بآية تبيح الإنكاح، بل تأمر به أمرا. فإن كان أراد أن هذه المنكحة قد يجوز أن تكون زانية فأمر بتزويجها فليس في إمكان ذلك ما يبيح تزويج الزاني بغير زانية، والزانية بغير الزاني، إن كانت الآية الأولى قد منعت من جهة أن عضل الولي في إنكاح الزانية من زان، وإنكاح العفيفة من عفيف عضل واحد، فأمر أن لا يعضل وينكح. وقد أغنى الله عن وضع الإنكاح موضع النكاح بما استثنى في نفس الآية الأولى حيث يقول: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) . أوليس إن كانت الآية على المنع كما ذهب إليه ويحتاج إلى النسخ قد أباح فيها للزانية أن تنكح الزاني، وللزاني أن ينكح الزانية، فليست بنا حاجة إلى أن نلتمس إذنه - جل وتعالى - من موضع سواه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 ولولا صحة الرواية عن ابن المسيب - رضي الله عنه - لكان أرفع قدرًا عندنا، وأجل منزلة، من أن تثبت مثل هذا عليه، ولكن الإغفال لحق بكل من عَري من الوحي ولم يؤيد به، وهو - رضي الله عنه - قد اجتهد وأخذ ثواب المجتهدين وإن أغفل إصابة المصيبين، ولا أعلم رواية وردت أعجب أمرا من هذه أن تكون بتداول تداولها وتحملها الأكابر والفاضلون وأهل اللغة، وتدون في المصنفات من التفاسير وغيرها فيستتر موضع الإغفال فيها عن جماعتهم، والعجب للشافعي - رضي الله عنه - مع إغراقه في اللغة، وهو في نفسه لغة غير دخيل فيها كيف ذهب إلى قوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 فلو ذهب إلى رواية مجاهد فقد رواها كان أسلم له، لأن البغايا قد هلكن كلهن، وتزويج من يحدث الزنا من النساء بعدهن مباح للزاني وغير الزاني. قال محمد بن علي: والذي نقول به - ونسأل الله التوفيق - قول ابن عباس، لأن أول الآية مبتدأ بالخبر لا بالنهي، ولو كان نَهيَا كانت (الحاء) في (يَنكِحُ) موضعين مجزومة لا مرفوعة فكأنه - والله أعلم - أخبر أن الزاني لا يجامع في زناه إلا زانية مثله ترى الزنا محرمًا كما يراه، أو مشركة بربه والزانية لا يصلها إلا زان يرى الزنا محرمًا كما تراه أو مشركا وله محللاً، والمؤمنون محرم عليهم فعله محرمين له ومحللين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 وأصل النكاح في كلام العرِب: الوطء، ثم يسمى عقد التزويج به، لأن الأغلب في عقده أنه لمِ يُسمى به، ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نهى الرجال والنساء أن يتحدثوا بما يكون من بعضهم إلى بعض في المضاجعة قال: " ألا أخبركم مثل ذلكم مثله كمثل شيطان لقي شيطانة في الطريق فنكحها والناس ينظرون ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 وهذا أشهر في كلام العرب من أن يحتاج إلى إقامة البرهان عليه.. قال محمد بن علي: أرى الناس قد ألفوا من القاذف والشاهد وإكمال عدد الأربعة بهما وكدرء الحد عنهم إذا تكاملوا من جنسين عدولا كانوا أو غير عدول. وهو عندي خلاف الكتاب والسنة، والنظر والقياس معا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 فأما الكتاب فقوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) ، فنص الكتاب على جلد القاذفين وتسميتهم فساقا، واطراح شهادتهم دون إقامة أربعة شهداء على تصديق قولهم يبرئونهم من الجلد والفسق، واطراح الشهادة. فيقال لمن ألزم الواحد والاثنين والثلاثة اسم القذفة فإذا جاء رابع يقذف معهم أزال عن الثلاثة الاسم بمشاركة هذا الواحد لهم فيما كانوا بسبيله من لزوم القذف لهم، ووجوب الحد عليهم -: لمَ أزلت حد الله الذي نصَّ عليه في كتابه، وأزلت اسم الفسق عنهم، ولم يزله الله عنهم إلا بالتوبة، وعادوا عندك عدولا، ولا تقبل شهادتهم في جميع ما شهدوا عليه والله يقول: (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا) ، لأن الواحد قال خلاف قول أصحابه، أو هو شاهد وهم قذفة، أم عادوا كلهم شهودا بعد أن كانوا قذفة. وكل ما قال من هذه المعاني كابر في القول لا يشكل على السامع عالما كان أو جاهلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 فهبنا سمحنا له بتسمية الرابع شاهدا - ومعاذ الله أن نسمح - أليس الله - جل جلاله - اشترط أربعة شهداء، وهم أقاموا شاهدا واحدا، أتكون نفس واحدة أربعة أنفس، أم يكون حكمه حكم أربعة، وكان عدده واحدا فلم اشترط الله إذاً أربعة شهداء. ويقال له: أرأيت القاذف الواحد أيبرأ من قذفه بثلاثة شهداء حتى يكون هو رابعهم، أم يحتاج إلى إقامة أربع. فإن قال: يكفيه ثلاثة، خالف النص، لأن أقل ما يقع عليه اسم القاذف في قوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) واحد، فهلا كان: ثم لم يأتوا بثلاثة شهداء، وهو مع خلاف نص القرآن، مكاشف جماعة المسلمين بالرد. فإنا لا نعلم أحدا قال: إن الواحد إذا قذف مسلما يكفيه إقامة ثلاثة شهداء حتى إنهم قالوا في أربعة شهدوا على امرأة بالزنا أحدهم زوجها: يُلاعِن الزوج ويجُلَد الثلاثة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 وإذا كان هذا صورة الواحد، لأنه قاذف، فهكذا صورة الاثنين والثلاثة لأنهم قذفة، لا نعلم كتابا ولا سنة، ولا إجماعا ولا معقولا فرق بينهم، وما هو إلا توهم توهموه على عمر - رضي الله عنه - حين جلد الثلاثة لما خالفهم الرابع في حكاية رؤية الزنا. وعمر - رضي الله عنه - أعلم بكتاب الله من أن يذهب عليه هذا مع وضوحه، وبيانه وقلة تشابهه، ولكنهم يغلطون عليه، إذ ليس يخلو المجلودون بقضيته من أن يكون هناك قاذف للمقذوف ادعاء شهادتهم. أم هم قذفة لا غير. فإذا كان هناك قاذف فلم يعده عمرُ رابعا مع القوم فيزيل الحد عنهم. وإن كانوا هم القذفة فإنما جلدهم، لأنهم لم يأتوا بأربعة شهداء كما قال الله تعالى، والرابع لم يكن قاذفا فيجلده، لأنه قد يتحول فوق المرأة فيتنفس من ليس بمفض فرجه إلى فرجها ولا فِخاذها، ولا يكون عليه حد ولا تعزير أكثر من المأثم فيما بينه وبين ربه، أو يعزره إمام إن رأى ذلك كما عزَّر عمر - رضي الله عنه - الرجل والمرأة اللذين وجدا في لحاف واحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 فأي شيء أعظم من خلاف القرآن نصا لخطأ متوهم على عمر - رضي الله عنه - ما لم يفعله، وهو أَجَل من أن يدع نص كتاب الله في حكم قد بينه أوضح بيان، ولما لم يحك في خبره أن قاذفا ادعى شهادة أبي بكرة وصاحبيه علمنا أن عمر - رضي الله عنه - جلدهم لأنهم قذفة عنده لا شهود. إذ لا نعلم على شاهد حدا في شيء من الشهادات. وقد كان عدد من قذف عائشة - رضي الله عنها - خمسة رجال وامرأة، فجعلهم الله قذفة ولم يجعلهم شهودا فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) فجمع ثم قال: (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) . وعائشة وإن كانت مباينة لسائر المرميات، ومبرأة بوحي رب السموات فهن أحق بها فيما قال: (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) ، إذ لو لم يرد - جل وتعالى - أن يكون ذلك حكمًا في كل مرمية سواها إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 يوم القيامة لكان - وهو أعلم في تكذيب من رماها - بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) إلى قوله: (وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) وجاءوا معه فيما قال: (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) . أراد وهو أعلم أن يكون لمن بعدها، وكان لها فيما تقدم وتأخر كفاية تبرأ به. فإن قيل: فما الفرق بين القاذف والشاهد في هذا الباب. قيل: القاذف من يقول لامرأة: يا زانية، فترافعه إلى الحاكم، أو يقول لرجل: يا زان، فيطالبه عند الحاكم، بتصحيح ما رماه فيسأله الحاكم أربعة شهداء ليحمي به ظهره من جلد القذف، فإذا جاء بهم مجتمعين سمع شهادتهم، وأزال الحد عن القاذف، وأقام على المقذوف وحده من جلد مائة في البكر، والرجم في الثيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 وإن جاء بأقل من أربعة لم يسمع منهم، إذ ليس في شهادتهم ما يزيل الحد عن القاذف، ولا يوجب الحد على المقذوف. ولمن علِم صدق قذفه ولم يكن معه ثلاثة يعلمون مثل علمه أن يمتنع من إقامة الشهادة على المقذوف، إذ ليس في امتناعه إبطال حق، ولازوال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 ملك، ولا وجوب حد يحرج بالقعود عنه. فالعالمِ لا يضمها إلا مع ثلاثة يكون رابعهم، والحاكم لا يسمع ممن نقص عن العدد، فإن جاء بهم مجتمعين سمع منهم، فإذا بينوا الشهادة على رؤية الزنا كالمرود في المكحلة أزال عنه الحد، وحد صاحبه. وإن لم يأتِ بهم مجتمعين جلده للمقذوف. فإن سأل التأجيل أجله بإذن المرمي ما يوقت له، فإن جاء بهم وإلا جلده. ومما يزيده تأكيدًا قوله في الأزواج: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) ، فدل على أن الأجنبيين يبرأون من الجلد بشهود ليست أنفسهم فيهم، كما يبرأ الزوج من اللعان بشهود أربعة ليست نفسه فيهم، فهذا ما عليه من خِلاف الكتاب. وأما السنة فإن سعد قال يا رسول الله: أرأيت لو رأيت إن وجدت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 مع امراتي رجلاً، أمهله حتى آتي بأربعة شهداء، فقال رسول الله - صلى القَه عليه وسلم -: " نعم " ولم يقل له: يكفيك أن تأتي بثلاثة تكون رابعهم. فدل على أن دعواه على الرجل قذف له لا يبرأ منه إلا بأربعة شهداء. فإن قتله برئ من دمه بأربعة شهداء، وإن تركه حتى يتولاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرجم بشهادة الأربعة برئ هو من حد القذف. وأما الإجماع: فقد اتفق الجميع على أن المدعي لا يكون شاهدًا لنفسه ولا يستحق بقوله حقا، ولا يدفع عنه واجبًا. وأرى من يجعل الشاهد والقاذف واحدا، ويزيل الحد عنهم إذا أتموا أربعة - وهم قذفة - يوجب بهم رجم المقذوف، ويزيل بهم عن أنفسهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 حد القذف فقد أبطل بهم شيئا، وأوجب غيره بقول أنفسهم بلا شاهد مدعى ولا يمين منكر وفي ذلك هدم الإسلام، ورد قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " - البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 فإن زعم أنه يزيل عنهم حد القذف إذا أتموا أربعة، ولا يوجب على المقذوف حد الزنا زاد في الإحالة. فيقال له: لم أزلت عنهم حد القذف. لأنهم في الظاهر عندك صادقون أم كاذبون. فإن قال: أزلت عنهم لأنهم في الظاهر صادقون. قيل: فهم صادقون في الشهادة أَوْ في القذف. فإن قال: في الشهادة. قيل: كيف لا تحد زانيَا يشهد عليه أربعة والله - جل وتعالى - يقول: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) . ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أمر برجم المحصنين. وإن قال: هم صادقون في القذف. قيل: كيف يكونون صادقين ولم يقيموا على قولهم شهداء، والله يقول: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) ، وقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) أفليس الله العلي قد كذب الرامي إذا لم يأت بأربعة شهداء، فكيف يكون صادقا من كذبه الله. فإن قال: قد أقاموا أنفسهم. قيل له: فأجز إذاً في كل حق أن يقيموا أنفسهم إذا لم يكن غيرهم. فإن قال: لا يجوز في القذف أنفسهم، لأن الله شرط إقامة غيرهم. قيل: وكذلك لا يجوز في القذف أنفسهم، لأن الله شرط غيرهم في الأجنبيين والزوج معا. وأما النظر والقيا: فإن صاحب هذه المقالة لا يجيز إجازة غير العدول في شيء من الحقوق، فما باله يدرأ حد القذف إذا تكامل عدد القذفة أربعة عنهم. وحد القذف عنده حق من حقوق المقذوف، فهو يبطل حقا لغيره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 قد أوجب الله بنص القرآن، لأن تكامل عدد قذفته أربعة، والله - جل وتعالى - لم يزله عنه إلا بالشهود. فهب أنا نقيم أنفسهم له مقام الشهود، أنقيم عددهم مقام العدالة. إن هذا لأخبر بالقبح عن نفسه من أن يحتاج إلى إقامة شاهد عليه. وماله لا يقبل مائة شاهد لا يعرف عدالتهم وقد رضي الله بشاهدين في سائر الحقوق، وشرط العدد فيهما كشرط العدد في الزنا، لأنهما مع العدد محتاجون إلى شرط العدالة، فلم لا كان العدد في شهود الزنا ليس محتاجا إلى شرط العدالة. وقد استدل قائل هذا القول بما شرط الله من العدالة في موضع على أن ما أطلق منه في معنى ما شرط فيه، وأحسبه لا يزيل حد القذف عن واحد لو أقام أربعة غير عدول، فجعل عددهم لغوا لا يزيل بهم عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 غيرهم حدهم ويجيزهم لأنفسهم في زوال الحد عنهم في جهتين. إحداهما: عدم عدالتهم. والأخرى: إنزالهم - في القذف موضع الشهود، وهم قذفة بنص القرآن. ولو تقصينا الحجج في هذا المعنى لطال الكتاب به، وفيما ذكرنا كفاية لمن فهمه، وبصره رشده، ووفق رأيه. فإن قال قائل: فما الدليل على أن حَد القذف حق من حقوق المقذوف، ولم يبين الله ذلك في الآية. قيل: قد بينه على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: " مَن قذف مملوكه وهو بريء مما ت\قال، جُلِد له الحد يوم القيامة ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 فأضاف الحد إليه، وجعله حقا له. فإن قال: أفيجوز للإمام أن لايجلده إذا عفا المقذوف عنه بعد علمه به أم هو مثل المحارب يجب عليه القتل بقتل غيره، فيعفو وليه من الدم. فلا يكون للإمام تركه لعفو الولي عنه. قيل: بل عليه أن يجلده عفا المقذوف عنه أو طالب به، من أجل أنه وإن كان حقا من حقوقه، ووجب بسببه فقدِ انتهك محرما لله بين فيه عقوبة، ولم يجعل السلطان مفردا فيها له كما جعله لولي المقتول بقتله غير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 المحارب حيث يقول: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) . وإذا كان الله - تبارك وتعالى - قد أوجب في انتهاك هذا المحرم عقوبة. ولم يشترط فيها عفو من جعلها بسببه لم يجز تعطيلها. ولو أراد المقذوف العفو عن قاذفه من غير أن يجلد ظهره لعفا عنه قبل أن يأتي به الإمام، كما له أن يعفو عن سارق ماله ولايأتي به الإمام ليسلم من القطع كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصفوان في سارقه: " فهلا قبل أن تأتيني به "، وقال رسول الله - صلى اللًه عليه وسلم - جملة: " ليس للإمام أن يدع حدا يبلغه إلا أقامه ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 والقطع وإن كان من حقوق الله فهو بسبب مال الآدمي الذي ظُلم بسرقته، فلو رده السارق قبل القطع لسقطه ظلامة المسروق عنه. وطابت نفسه، فلم يسقط عن السارق ما وجب عليه من حد تعديه في انتهاك محرم الله طيب نفس من رجع إليه ماله بعد أن أوذي بأخذه. فكذلك القاذف لا يسقط عنه الحد طيب نفس المقذوف بالعفو الذي لم يسقط عن قاذفه عدوان قوله، وإثم جنايته، وَلا عَنِ المقذوف عارُ ما قيل فيه والسارق وقد سقط عنه إثم المال برده وبرئ من ظلامة صاحبه، فهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 أجدر بإسقاط الحد عنه لو أسقط من القاذف الذي هو مصر على قوله. غير نادم عليه كندم السارق على فعله برد ما أخذه. ومن جعل للمقذوف تعطيل حد الله وإن كان وجب بسببه، أو من جعل له أن يبطل أحدهما من السارق والقاذف بعفوه، ولم يجعل له إبطال الآخر، ألا ترى أن الله - تبارك وتعالى - حين أراد أن يجعل السلطان في عقوبة انتهاك محرم في الدنيا لغيره - جل جلاله - حرم القتل بقوله: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) لم يأمر به بعقوبة في الدنيا. ثم بين عقوبته في الآخرة: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) ، ثم جعل سلطان عقوبته في الدنيا لوليه في قوله: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) . فصار الحكم في انتهاك محارمه على ثلاثة وجوه: منها: ما جعل العقوبة في الدنيا عليها بيد غيره مثل هذا. ومنها: ما جعلها لنفسه، وأمر بإقامتها ولاة الأمر مثل القذف وحد الزنا، والسرقة والمحاربة، وشارب الخمر على لسان نبيه، صلى الله عليه وسلم.. ومنها: ما أبهمها ولم يبين فيها شيئا مثل عقوبة المقامر بالميسر، وآكل لحم الخنزير، والكذاب، وأشباه ذلك فهي مآثم على ما فاعلها يلقاه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 بها. وقد أجمعوا جميعا لا تنازع بينهم على أن جائيَا صحيح العقل، لا جِنة به لو جاء إلى الإمام فقال: قد قذفت محصنة بالزنا، ولا شهود لي فأقم علي حد القذف - لم يكن له تركه، وأوجب عليه إقامته. وقد يمكن أن يكون المقذوف يعفو عنه، فلو كان الحد يسقط بالعفو لوجب أن يقول له: أحضِر المقذوف لعله يعفو عنك. وفي إطباق المسلمين على إزالة القطع عن المسروق فضةً أو ذهباً على سقفِ مسجد يغلق بابه في غير حين الصلاة، أو حائطه، أو سرق بَواريه بالغَا ما بلغ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 إذ لا مالك له من البشر -: دليل على أن حد السارق وإن كان لله فبسبب مال الآدمي آذاه بأخذه، فإذا برأه الآدمي، أو تصدق به عليه بعد رفعه إلى الإمام لم يزل عنه، ووجب على الإمام إقامته بالقذف أسوة هذا لا يخالفه إن عفا المقذوف عنه قبل رفعه إلى الإمام، فإذا رفعه إلى الإمام أقامه عليه به ولم يلتفت إلى عفوه، وإذا كان الحائل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 بين حدود الله جملة في كلها مضادا لله في ملكه، فالعافي عن حد وإن وجب بسببه ممنوع عنه، ومحول دونه، وعلى الإمام أن يمضيه لله، ولا يحفل بعفوه. فإن قيل: فَمَالَك جعلته في صدر الكلام حقا من حقوق من أسقطت عفوه في هذا الموضع، وجعلت إنظار المقذوف لإتيان شهوده على القذف بإذن المقذوف. قيل: الإمام لا يعلم الغيب، والمقذوف خصم قاذفه يطالب بحده. فإذا بلغ الإمام بخصومته فعرفه، أو اعترف له القاذف وجب عليه إقامته، ولم يكن له تعطيل، ولصاحب الحق أن يعفو قبل أن يأتب الإمام به. * * * وقوله: (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) دليل على أن شهادة القاذف بعد التوبة مقبولة، وذنبه مغفور فيقال لمن يمتنع من قبول شهادته بعد التوبة: لم جعلت الاستثناء واقعا على بعض الكلام دون بعض، وخرجت عن لغة العرب وعرفها، وعادتها في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 كلامها، وتحكمت على لسانها - فنحن نسامحك فيما لا تعرفه، ونسألك من حيث تعرفه - أخبرنا عن القاذف أيفسق بالقذف أو بالضرب. فإن قال: بالضرب. قال: محال. وإن قال: بالقذف. قيل: فلم تجيز شهادة فاسق بنص القرآن، ونص شهادتك عليه. وشرط الفاسق أن لاتقبل شهادته ما دام فاسقا، وترد شهادة مضروب، والضرب لا محالة لم يفسقه، وأزلت اسم الفسق عنه بالتوبة، وامتنعت من قبول شهادته، وأجزت شهادة فاسق غير مضروب، ورددت شهادة عدل مغفور له ذنبه من أجل أنه مضروب على خطيئته، فأسقط إذاً شهادة البِكر الزاني إذا تاب بعد ضربه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 لأنه أعظم جُرمًا من القاذف. والقذف شطية منه في باب المآثم. وأسقط شهادة شارب الخمر بعدما يحد إذا تاب، وشهادة السارق إذا تاب بعد قطعه، ولا تجعل جهلك بلغة العرب وإيقاعك الاستثناء على بعض الكلام دون بعض محيلاً احكام الله عن جهتها. فإن قيل: أفليس قد روي عن عائشة - رضي الله عنها - وعبد الله بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " رد شهادة المجلود حدا "، والمحدود في الإسلام، كلا اللفظين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 قيل: إسناد الحديثين في نهاية من الضعف، ولو صَحا أيضا لما كان فيهما شيء يمنع من ذلك لجهتين، إحداهما: أنه لم يقولا: رد شهادة المجلود التائب، وكذلك نقول: لا تجوز شهادة المجلود في القذف عمره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 إن لم يتب، فإذا تاب عليه. جازت شهادته بنص القرآن في وقوع الاستثناء، والجهة الأخرى: أن الحديثين ليس فيهما رد شهادة المجلود في القذف خاصة ولا المحدود في الإسلام في القذف خاصة. أفترد شهادة كل محدود على ظاهر الحديث، أم تتحكم فيه كما تحكمت في استثناء القرآن. قال محمد بن علي: وفي قوله: (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا) بعد لزوم اسم الفسق له بالقذف لا بالضرب من حيث لا التباس فيه أكبر الدليل على أن شهادته في نفس ما يفسق به مردودة بنص القرآن، فلا يكون أحد الشهود وَلا مَن كثر عددهم معه يقبلون، ولا يكونون إلا قذفة أبدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 ذكر من اغتاب أخاه: وفي قوله (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) دليل واضح على أن من اغتاب مسلما، وأوصل إليه أذى القول في شَتم نفس، أو آباء فتوبته منه تحط ذنبه، وتغفر خطيئته وإن لم يحلله صاحبه. ألا ترى أن القاذف قد عمَّ المقذوف، وآذاه بقذفه ثم أوجب الله له المغفرة والرحمة بتوبته منه، ولم يشترط عليه تحليل المقذوف عنه. فالقصاص والمظالم ما كان في مال أو نفس أو جرح دون الكلام. والله أعلم. فإن قيل: أفليس قد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة حين قالت: ما أطول ذيل امرأة مرت بها، وما أقصر أخرى. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اغتبتهما، قومي فتحلليهما"، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 قيل: هي أخبار واهية الأسانيد، وليس لها من القوة ما يُنسخ بها القرآن، أو يخُص بها. فيحتاج لمن وصل إلى استحلال من آذاه بكلامه، أو قفاه بغيبة أن يستحله، فإن لم يصل إليه أو وصل فلم يفعل فحكم الآية ما أخبرتك به. اللعان: * * * وقوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) إلى قوله: (وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 دليل على أن كل زوج رَمَى زوجته حرَّة كانت أو أَمَة، مُسلمة أو ذِمية فاللعان بينهما واجب لا يزيله افتراق أحوال الأزواج، وأنه باسم الزوجية لا بغيرها. وليس في حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده في منع اللعان بين أربعة ما يدفع به عموم الآية في اللعان، ونحن وإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 خصصنا بالسنة عموم القرآن فبالصحيحة، وهذه واهية الإسناد لعمرو بن شعيب ومن دونه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 والعجب لمن اعتل لإبطال اللعان بين الأَمة والحرة بأن الأَمة لا رجمَ عليها، والله يقول: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ) أفتستحيل. ليت شعري أن تدرأ عن نفسها بشهادتها عذابها من جلد خمسين. ولئن كان كل زوجة لاَ رجم عليها تبطل اللعان بينها وبين راميها من الأزواج، أن رامي الحرة البِكر قبل دخوله بها لأسعد الناس بإبطال اللعان بينه وبينها، فأرى هذا القول من قائله قد أدى إلى إبطال اللعان بين الحرين البكرين إذ لا رجم على واحد منهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 وليس بين ألأُمة خلاف في أن مَن قذف بِكرَا بعد عقد النكاح، وقبل دخوله بها أنه يلاعنها، فإن امتنعت من اللعان جُلِدت مائة جلدة، وإن كذب نفسه جلد مثلها. فما بَال الأَمَة لا تلاعِن زوجها إذا رماها، فإن امتنعت من اللعان جلدت خمسين. هو الذي أوجد عذابها، ولا يبطل عنها وعن غيرها بهذه العلة حكم الله في اللعان بينهما. وكان بعض أهل النظر يحتج في إبطال الملاعنة بين المسلم واليهودية والنصرانية بأن الله - جل وعلا - لم يجعل نحرج الأجنبي من القذف إلا بشهادة الشهود، وجعل مخرج الزوج إذا لم يكن له هؤلاء الشهود اللعان. فإذا لم يكن على قاذف غير المسلمة حد فمن أي شيء يجعل نحرجه، ولم يجب عليه بقذفه حد حتى جعل له منه مخرج باللعان. ولعمري إن هذا حجة من أبطل الحد عن قاذف الأجنبي بيهودية أو نصرانية، ثم أوجب اللعان بينهما وبين الزوج. فأما نحن فلا يلزمنا، لأنا نزعم أن القاذف اليهودية والنصرانية إذا لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 يأتِ باربعة شهداء محدود كما يحد للمسلمة إذا قذفها، اتباعا لكتاب الله - عز وجل - حين سوى في اسم الإحصان بينهما حيث أباح تزويجهما في قوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، ثم قال في آية القذف: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) . فمن أخرج الذميات من المحصنات في القذف وأدخلهن في التزويج فعليه أن يأتي بالبرهان، ولن يجد إلى ذلك سبيلا، إذ كل ما يدل عليه دال من إنزال درجة الكافر عن درجة المسلم في هذا الباب قياس - والقياس لو كان حقا أيضا في نفسه لم يجز عند أهله ترك النص به - فكيف وقد دللنا على فساده في هذا الكتاب، وفي شرح النصوص بما يغني عن إعادته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 وهب أن الحد لا يجب على الأجنبي إذا قذف ذمية أَوَ يُعطل حكم الله عليها إذا قذفها ولا شهود له غير. نفسه يوجب عليها بهِم حد ما رميت به من الزنا، والله - جل وتعالى - لم يلغِ قول الرجل لامرأته في القذف لغوا بكل حال بل جعل مخرجها منه شهادات اللعان، ودعوة الغضب في الخامسة، وهذا شيء لا يفعل إلا بعد أن يفرغ الزوج من شهادته ودعوته باللعنة، ففي كم موضع يشاء ترك نص القرآن في إبطال حد القذف عن قاذف الذمية، وقد سماها الله محصنة، أم في إزالة حكم اللعان بينها وبين زوجها واسم الزوجية شامل لها، والله يقول: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) ، أم في إبطال حد الزنا عنها وقد رُمِيت به بغير مخرجِ لها منه. وهل يخلو زوجها من أن يكون صادقا فيما قذفها به، فيلزمها الحَد أو كاذبا فيلزمه حد القذف. فلما رأينا الله - جل وتعالى - لم يجعل قول القاذف لغوًا في أجنبية ولا زوجة بل أوجب به حدَّا عليه، أو على من قذفه به إلا أن يخرج هو منه بالشهداء. والزوج بهم إن كانوا، أو باللعان إن لم يكونوا، والمقذوف من الزوجات باللعان، ومن الأجنبيات بعدم شهود القاذف. علمنا أن قول القاذف غير لغو وقع من مسلم أو كافر فيزعم أنه غير آثم. أَوَ مباح له التفكه به. أوليس فى إزالة اللعان بين الذميات وأزواجهن المسلمين تجرئة لهن على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 الفاحشة إذ كان قول الرجل لا يوجب عليهن حدا يخرجن منه باللعان. وتجرئة للزوج على أذاهن بالقذف إذا كان بقوله لا يجب عليه وَلا على غيره حكم. وهذا عظيم لمن تدبره، وأعطى النصفة من نفسه. ذكر الإيجاز والاختصار. * * * وقوله تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) حجة لمن يحذف من لفظ الكلام ما لا يتم على الحقيقة إلا به التماس الإيجاز والاختصار كقول الشاعر: فإن المنية من يخشها فسوف تصادفه أينما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 لأنه - جل وتعالى - ابتدأ (بلولا) ولم يصله بشيء يكون تمامه ظاهرًا في اللفظ، فكأنه - وهو أعلم - ولولا فضل الله عليكم ورحمته، وأن الله تواب حكيم، لما بين لكم هذه الأحكام التي قبل هذا الكلام، ولكن من فضله عليكم بين لكم وأنصف المرمي من الرامي، وطهر الزاني والزانية بالجلد. أو شيء هذا معناه، تبارك اسمه. ومثله قوله في خاتمة العشر الثاني: ((وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) . لأن (لولا) كلام يقتضي صلة كقوله - جل وعلا -: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) ، وقال: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) ، (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) ، فهو لا محالة على الاختصار، ولولا فضل الله عليكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 ورحمته وأن الله رؤوف رحيم لعاقبكم على ما جئتم به من الإفك كذا وكذا. ألا تراه يقول: (وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) هذا وجه الجملة، وقد يحتمل أن يكون (مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا) لكل ما بعده كأنه: ولولا فضل الله عليكم الأول والثاني والثالث ما زكى منكم من أحد أبدا. والله أعلم. ذكر قول الزور. * * * وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) حجة فى أشياء: فمنها: غلبة المذكر على المؤنث في الذين، لأنه كان فيمن جاء بالإفك امرأة والمرأة يقال لها: التي، وجمعها اللاتي، واللواتي. ومنها: الرجوع من الخبر إلى المخاطبة في قوله: (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) أي لا تحسبوا الإفك، والقول به شر لكم (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 ومنها: تفضيل الشيء على الشيء بلفظ الخير والشر باطراح الهمزة - والهمزة فيها لحن ليس من كلام العرب. ومنها: أن قول الزور في المقول خير مدخر له يثاب عليه في الآخرة، وشر على قائله معدود عليه في عداد ذنوبه. ومنها: أن من لحقه غَم بالمتقول عليه من الزور شريكه في الأجر، لأن المرمية بالإفك أم المؤمنين - رضي الله عنها - وحدها. فجمع الله معها من لحقه أذى القول معها ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبويها، وكل من لحقه غم بسببها فقال: (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) على لفظ الجميع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 ذكر من سَنَّ شرًا. * * * وقوله تعالى: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) دليل على أن من سَن شرا أعظم إثمًا ممن واطأه عليه، لأن المتولي للكبر كان السابق إلى الإفك، وسائرهم صدق قوله، فاستوجب ضعف العذاب وهذا يؤيد حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمه، لأنه أول من سن القتل ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 وذكر تسمية جنس الآدميين بالأنفس. * * * وقوله: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) حجة في تسمية جنس الآدميين بالأنفس، ومؤيد تفسير من فسر: (وَلَا نَقتُلُوَا أَنفُسَكم) أي لا يقتل بعضكم بعضا، ومن فسر: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) أي سلموا بعضكم على بعض، لأن الأنفس التي أمرت أن تظنوا بها خيرا أم المؤمنين - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 رضي الله عنها - فسماها الله - جل وتعالى - نفسهم كما ترى، وهو يؤيد أيضا حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " المسلمون كنفس واحدة ". وفيه دليل على أن التصديق بالذايع من الخبر المنكر، والنحلة الفاحشة إلى المخبر عنه محرم، وموجب على سامعه إعداده في وجوه الكذب والزور، بل لازم له أن يلفظ بتكذيبه، ولا يقتصر على إضمار القلب ونبوه عنه. وأرى نساك زماننا قد أهملوا هذا من أنفسهم كل الإهمال بل تأسوا فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 بأطباع الجهال، وركبوا فيه أمحل المحال حتى صاروا يهجرون عليه فضلا عن التصديق به الذي حرم الله بنص القرآن كما ترى. وقد لخصناه في سورة بني إسرائيل. * * * وقوله: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) شديدة لو تأملوها، وقد أكده الله مرة بعد أخرى كما ترى فقال: (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) حجة في أشياء، فمن قال فيها - رضوان الله عليها - هذا، أو صدق به خرج من الإسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) حجة فى أشياء: فمنها: أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - بعدما أنفق ماله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أغناه الله وجعله من أهل السعة والفضل. ومنها: أن اسم القربى شامل لكل من مَت إلى الإنسان بِرَحِم قربت أو بعدت، إذا الرحم قربة يقترب بها ذو النسب، وقد عري منها الأجنبي فلا يمت بها أبدا وكذا النسب وإن بعد نسبه قربة من الإنسان لا يقترب بها سائر جنسه من الناس وسواء كان ذلك من قبل الأب أو الأم لا أنه أسباط الإنسان وبنو عمه الأدنون كما تزعم الرافضة من أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 قول الله - تبارك وتعالى -: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) أنه علي والحسن والحسين وفاطمة - رضي الله عنهم - دون سائر قرابات النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا ترى أن مِسطح بن أثاثة المخصوص عليه أبو بكر رضي الله عنه، على الإنفاق عليه المسمى بأولي القربى إنما هو ابن بنت خالة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وقد سماه الله من أولي قرباه. فكيف تخص ابنة رسول الله، وسبطاه، وابن عمه دودن سائر أداربه المسلمين بالمودة في الآية. وابن بنت خالة الإنسان قريبه كما ترى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 ومنها: أن الذنب الواحد - وإن عظم - إذا احتقبه المرء لا تحط عنه سائر حسناته، ولا يحط من درجاته فيها، لأن الله - جل وتعالى - قد سمى مسطحَا مهاجرا في سبيله بشهوده غزوة بدر، وقد احتقب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 عائشة - رضي الله عنها - ما احتقب، وشارك أهل الإفك فيما شارك من عظيم الذنب. وفي هذا رد على جهلة الصوفية فيما يزعمون أن الكبائر تمحو الحسناتِ وتحط درجة أصحابها فيها. ورد على من يزعم أن الذنوب كفر. وكيف تكون كفرا، وقد سقى الله مِسطحَا - مع عظيم ذنبه - مهاجرا. ومنها: أن مواصلة من قطع، والإحسان إلى من أساء مرضي الأخلاق، ومندوب إليه المرء. ومنها: أن اليمين إذا وقعت على مَا لا قربة فيه إلى الله فالطاعة تركها، وترك الماضي عليها وإن لم يكن الترك مفروضا إذا كان غيره أقرب منه، لأن سياق الآية يدل على أن الله - جل وتعالى - ندب أبا بكر إلى العود إلى مسطح بفضله، وترك معاقبته على ما كان منه إلى ابنته ندبا، ولم يفرض عليه فرضا. لولا ذلك ما دله - وهو أعلم - على العفو والصفح، وَلا وَعده عليه الغفران، إذا العفو والصفح بَابَا فضلٍ لا يجُبر أحد عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 وليس في الآية أنه أمره بكفارة ألبتة، فيحتمل أن يكون إتيانه الذي هو خير من النفقة على قريبه كفارتها. ويحتمل أن يكون مع ذلك كفارة وهو أحوط وبه نقول. قال محمد بن علي: لا خلاف بين الأمة أن هذه الآيات كلها من قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) نزلت في أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - فمن ذكرها بالفاحشة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 بعد نزول هذه الآيات، وهوعالم بنزولها فهو كافر يستتاب، لأنه راد على الله قوله في براءتها ومكذب بما أنزله من وحيه فيها، فإن تاب وإلا قُتل. ومَن جهل نزول الآيات تليت عليه، وعرف بما فيها فإن آمن بها وقبلها جُلد حد المفتري وترك، فإن عاد بعدما عرف مرة أخرى استتيب كالأول. ذكر المرأة إذا ملكت زوجها. وقوله تعالى في النساء المؤمنات: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) دليل على أن المرأة إذا ملكت زوجها حرمت عليه، وانفسخ نكاحها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 لأن الله - جل وتعالى - جعل مُلك يمين المرأة في عداد محارمها، والمحرم لا يصلح أن يكون زوجًا بحال. (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) دليل على أن المرأة منهية عن إبراز كل ما دعا إلى شهوتها، وإن كانت مباحًا لبسه لها. ذكر التزو".: * * * وقوله: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ) لحجة واضحة في أن ليس للبِكر ولا للثيب أن تتزوج بغير أمرِ وليها. إذ لو كان لها ذلك ما أمر غيرها بإنكاحها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 وهذه أبين مما احتج بها الشافعي - رضي الله عنه - من قوله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) ، لأن ظاهر تلك مخاطبة الأزواج. كأنهم يطلقون واحدة، أو اثنتين حتى إذا حاضت المطلقة حيضتين وقاربت الخلو من العدة برؤية الثالثة التي تحلها للأزواج. راجعها من غير رغبة فيها يضارها لئلا تتزوج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 ولولا رواية الحسن عن معقل بن يسار أن الآية نزلت فيه. حيث عَضَل أخته وأبى تزويجها ممن طلقها - لقلت بظاهرها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 تحتمله الآية، ولكني أتهيبه، مع أني أظن في سَماع الحسن عن معقل شيء، فإن صحت روايته عنه فتلك أيضا تقوية لهذه التي في النور، وإلا ففي هذه كفاية لأنها نص. * * * وقوله تعالى: (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) دليل على أن ليس للعبد ولا للأمة أن يتزوجا بغير إذن سيدهما، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 غير أن العبد يؤذن له في التزويج فيعقد هو على نفسه إن كان كبيرا، أو يقبله عليه سيده إن كان صغيرا كما يقبل الأب على صغار ذكوره والأمة يعقد هو نكاحها على من أراد تزويجها. ولو جاز أن تعقد الأيم على نفسها وقد أمر غيرها بالعقد عليها جاز أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 يعقد العبد والأمة على أنفسهما وإن امتنع سيدهما. فإن قيل: الأيم مخالفة لهما لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الأيمُ أحق بنفسها من وليها ". قيل: هذا ليس بمخالف للقرآن في الأمر بإنكاحهن، إنما أفادنا أن الولي لا يعقد عليها إلا برضاها كما يعقد السيد على أَمته وإن كرهت. ألا ترى أن نفس الحديث حجة في أن الولي هو العاقد عليها غير أنه لا يتقوى حتى تأذن، وفي إضافته ولايته عليها إليها، فلو كانت هي أملك بنفسها بمعنى أنها تتولى العقد دونه ما كان لتسميته بالولي وإضافته إليها معنى وهذا موضوع بتمامه في كتاب النكاح من شرح النصوص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 ذكر ملك العبد. * * * وقوله: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) قد شمل الأيامى، ومن ذُكر معهن من العباد والإماء، واستوجب جميعا إنجاز الوعد في الغنى بالنكاح، إذ لو خلا العبيد منهم وقصد به الأيامى كان - والله أعلم - إن يكن فقراء يغنهن الله من فضله. فلما كان (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) علمنا أن العبيد داخلون فيه وهم ذكور فغلبوا. وفي ذلك دليل واضح أن العبيد والإماء يملكون ولا يكون الملك مضافا إليهم على المجاز وحقيقته للسادة، إذ لو كان كذلك ما استغنوا بالإنكاح، ولكانوا فقراء قبله وبعده، لأن من لا يملك شيئا لا يقع عليه اسم غنى، وقد قطع الله الريب بما قال: (يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) . ودل على أنه غنى بالمال لا بالنكاح كما قال: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 ففضله بعد ذكر الاكتساب لا يكون إلا مالاً. قال محمد بن علي: وفي مُلك العبد أشياء مختلفة ملبسة أمره، تؤكد بعضها ملكه، وبعضها تنفيه، فمن ما تؤكد ملكه هذه الآية التي ذكرناها في هذا الموضع وهي واضحة، والمكاتب يكاتبه سيده وهو عَبد، فلو كان لا يملك ما كان لمكاتبته معنى، لأن سيده كان لا يملك كسبه عليه قبل حلول النجم، فكان يحل وليس بيده شيء وقد أمر الله بكتابه، واتفق الجميع على أن ما يملكه له يؤديه في نجومه حتى يعتق بأداء جميعها، فلو كان لا يملك ما عتق بالأداء أبدًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 والذي هو أيضاً واضح في ملكه أنه لا يخلو من أن يكون لما كان مالا في نفسه بملك سيده وقد استحال أن يضاف إليه مُلك بوجه من الوجوه كالبهائم التي يملكها الإنسان، وهي مال في أنفسها فلا يكون مالكه بحال، أو يكون. وإن كان مملوك الرقبة - لا يستحيل أن يضاف إليه ملكه يكون فيه أسوة جنسه من الناس الذين هو مشاركهم في جميع ما هم بسبيله من العبادات والأحكام الجارية بين المسلمين لهم وعليهم، وإن اختلفت كيفيتها في الكثرة والقلة، فلما اتفقوا جميعاً من ثبت له ملكا ومن لم يثبت أن ماله مستفاد لا مخلوق معه كعضو من أعضائه يملكه سيده معه. علمنا أن السيد ملكه دون ماله، ثم نظرنا إلى ما يقع بيده من وجوه الاستفادات فإن كان مما سبيله ملك فيما يقع بيديه قبل أن يأخذه سيده منه فقد سُمي مالكا قبل سيده. فإن أخذه منه عن غير طيب نفس منه كان غصباً له. وإن كان ممن لا يثبت له ملك فيما يصير في يده فمحال أن يسمى مال العبد ما لم يملكه العبد بعده، والسيد لا يملك مالَ غير عبده، وأكثر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 وجوه استفادته منه ما ينتقل من مالك إليه مثل الهبة والصدقة، والجعل على عمل يعمله فلا يخلو من أن يكون من كان له أصل هذه الأموال وهو مالكها فدفعها إلى العبد بهذه الوجوه انتقل ملكه عنها إلى من دفعها إليه، أم ملكه ثابت فيها بعد غير منتقل، فإن كان ملك أرباب هذه الأموال لم ينتقل عنها بدفعها إلى من لا يملك ملكهم، ويستحيل أن يضاف إليه مُلْك، فينبغي للسيد أن يرد ما بيده على من أخذه منهم. لأنه ملكهم وهو لا يملك أملاكهم. وإن كان لما صارت في يد العبد ملكها العبد كملك من كانت له فلا يجوز للسيد انتزاعها من يده إلا بإذنه، فهو صالحه لأنه.. في ملكه إذ ... سيده إلى وإلا كان غاصبًا، عليه ما على الغاصب. فلما اتفقوا على أن ملك العبد متقدم لما يقع بيده قبل أن يصير لسيده ثبت ملكه فيه بإجماع الأمة، فمن زعم أنه قد انتقل ملكه إلى السيد بِلاَ وَجه من وجوه الانتقال فعليه أن يأتي بإجماع مثله ولن يجد إليه سبيلا. هذا ما في تثبيت ملكه وأما ما يدل عليه على أنه ليس بمالك فإجماع الناس جميعًا على أنه إذا مات وله ورثة كان سيده أولى بماله من ورثته، فلو كان مالكًا لمِالِهِ في حياته لَوَرِثَتْه وَرَثَتُهُ بعد وفاته، لأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 ما ملكه تركة، والتركة مقسومة في كتاب الله على الورثة دون الأجنبيين. فهذا أوكد شيء في إزالة الملك عنه، وفي الكتاب والسنة أشياء تدل على كلا المعنيين من إثبات مُلكه وإزالته، فأما ما في الكتاب فقوله - تبارك وتعالى - في سورة النحل: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ) . فيحتمل أن تكون الآية في عبدين أحدهما فقير، والآخر غني، كما يكون حران أحدهما غنيا، والآخر فقيرا. ويحتمل أن يكون حرَّا وعبدا، لأن (مَن) تكون للحر والعبد، وإذا احتمل الشيء معنيين لم يجزْ أن يحكم لأحدهما دون الآخر إلا بحجة تحقق أحدهما وقوله في سورة الروم: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 يحتج به من ينفي ملكه، كأنه يذهب إلى أن المملوك لا يجوز أن يشارك المالك في ملكه كما لم يجز للخلق وهم عبيد الله أن يشاركوه في ملكه. وهو يحتمل ما ذهب إليه، ويحتمل غيره من أنكم لا تملكون معي إلا ما ملكتم كما لا يملك عبيدكم مما رزقناكم شيئًا إلا ما ملكتموهم. فيكون هذا حجة في ملكهم. وكان قتادة - رحمه الله - يقول: " هذا مثل ضربه الله لمن عدل به شيئا من خلقه يقول: أكان أحد منكم مشاركا مملوكه في قرابته وزوجته. فكذاكم الله لا يرضى أن يعدل به أحد من خلقه " ففسره على معنى ثالث. وأما ما في السنة فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " مَن باع عبدَا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 يحتج به الفريقان مثبتوه بإضافة المال إليه في موضعين، ونافوه تجعله - وإن أضافه إليه - لغيره للبائع مرة، وللمبتاع أخرى. وقوله - صلى الله عليه وسلم - حين فرض زكاة الفطر: " على كل حُر وعبد، صغير وكبير ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 فالمثبتون يقولون: لا تفرض على غير مالك. والنافون يقولون: فرضها على سيده، كما فرض عليه لزوجته،. وصغار ولده. وكل يحتج لمذهبه كما ترى. فنظرنا في ذلك فلم يجز أن يكون على تضادهما حقَّا، والحق لا محالة في أحدهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 ووجدنا من ينفيه قد وافق من يثبته في المكاتب، ووافقه في أن العبد مَلَك ماله قبل سيده، وإيتاء الإغناء من فضله في باب الإنكاح، والأمر بالمكاتبة يشهدان له بالملك بلا احتمال معنى سواه، وإذا شهد آيتان مفردتان لأحدهما يحتمله الآخر بأن كان - والله أعلم - أولى من الاحتمال إلى الآخر الذي لا شاهد له على الانفراد، فنقول: إن العبد مالك لماله كالحر مسلط عليه لما تقدم من ملكه بإجماع الأُمة قبل تملك عليه سيده في قول بعضهم والله يحكم لا معقب لحكمه. فإن حكم في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - بشيء في ماله، أَوِ اتفق جماعة المسلمين عليه سُلم في موضعه، ولم يجعل ذريعة إلى توهين ملكه الدي هو فيه كالحر، فما حكم في ماله عند بيعه مُسَلمَا للسنة، وأخذ سيده ماله بعد موته دون ورثته وَسُلم للإجماع. وإن عدم رضاه ورضاء ورثته - كما تجعل دية الخطأ في مال العاقلة والجاني غيرهم أحبوا أم كرهوا. ليس لأحد أن يضرب أحكام الله بعضها ببعض ويعقبها، بل عليه التسليم والرضا لما حكم، وإن اختلف عند الناظر فيه قال الله - تبارك وتعالى (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 ونقول في زكاة الفطر إن وجدنا موجب اتفاق المسلمين على أنها مفروضة على سيده سُلّم لهم كما سُلّم في ماله بعد موته، وإلا فظاهر الخبر أنها مفروضة عليه، فإن اطلع بأدائها أدّاها وإن عجز عنها سقطت عنه كما يسقط عن الحر بالعجز، وإن تطوع السيد فأخرجها عنه أجزأه كما تجزي الحر بأن يتطوع غيره عنه، وبالله التوفيق. وأما من قال: مال العبد مضاف إليه كإضافة السرج إلى الفَرَس. والغنم إلى الراعي فقد جمع بين شيئين متفاوتين، لأن الفرس لم يستفدِ السرج بنفسه، ولا ملكه قبل صاحبه، كما استفاد العبد ماله، وإن كان بزعمه عليه السيد، وقد يعتق العبد فيملك عند قائل هذا القول، والفرس لا يملك أبدا. وإضافة السرج إلى الفرس مجاز بكل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 حال، وإضافة المال إلى العبد في حال دون حال. والراعي ليس بمستحيل أن يملك تلك الغنم باعيانها التي هو أجير عليها والفرس لا يملك سرجه أبدا. وإسقاط مُلك العبد عنه باختلاف وتأويل، ومُلك الفَرس عن السرج بعيان وإجماع، لأن الفرس بهيمة والعبد بشر مستعبد تجري - عليه أحكام الإسلام. وكنت أحب لقائل هذا القول أن يصون نفسه عن هذا، فإنه أجل في نفسه وأرفع قدرا من أن يُعرف بهذه الهفوة، وسِيما وهو من أهل اللغة يغفر الله لنا وله. ذكر نفقة الزوجات والصدقات: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 دليل على وجوب نفقة الزوجات إماءً كُن أو حرائر، وعلى أن الصدُقات تكون نقدا إلا أن ترضى المرأة بتأخيره. إذ لا نجد شيئا يكون بها المحتاج إلى النكاح غير هذين الشيئين من نقد المهر والإنفاق. وإلا فلم لا يجد النكاح. وليس في الناس أحدٌ إلا وَلَه أكفاء ممن يتزوج به حتى إن ذوي العاهة بالبرص والجذام وأشباهه يتخذ كُفُوا مثله، فقد صح أن المحضوضين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 على الاستعفاف هم الذين لا نقد لهم يصدقون منه، وينفقون على الأزواج، وهذا من أوضح دليل في وجوب النفقة، وتقديم الصداق لمن تدبره. فإن قال قائل: فلم لا تجعل هذا دليلا على التفريق بين من عجز عن النفقة على امرأته وبينها، وهو من التأكيد بهذه المنزلة. قيل: ليس المستدبر في ذلك كالمستقبل، لأن أمرهن في المستقبل بأيدي أنفسهن، لا يجبرن على تزويج من لا يشتهين، وإذا حدث الإعسار بعد عقدة النكاح فقد صار الأمر بيد الأزواج ولا سبيل إلى تحريمهن إلا بطلاق يحدثه، وهو شيء يطلق الزوج به لسانه، فإذا امتنع من الإنفاق معدوما كان أو واجدا فليس للإمام عليه سبيل إلا مطالبته للزوجة بنفقتها، وحبسه به إن طلبته حتى يخرج إليه منها. فإن امتنع مع الحبس من النفقة ولم يحل عقالها بالطلاق فهو ظالم لها. كما يكون الغائب المنقطع الغيبة ظالما بحبس النفقة، فلا يطلق الحاكم عليه، فكيف يفرق الحاكم بين امرأة المعسر وبينه، وإيساره أقرب إمكانا من وصول نفقة يبعث بها الغائب إلى زوجته بعد ندامته من ألف فرسخ. فهي إلى أن يفرق بينها وبين ظالمها بالغيبة أقرب، وبه أجدر من معسر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 يعسر يومَا ويجد بعده. ذكر المكاتب: * * * وقوله: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) دليل على أن فرضاً على السيد إذا عرف من عبده خيرا، أو من أَمته أن يكاتبهما إذا التمسا منه الكتابة، ولا يكون بالخيار في إجابتهما، لأن ظاهر الآية أَمر، والأمر من الله تعالى حَتْم حتى يقوم دليل من كتاب وسنة أو اتفاق أنه إباحة وندب، ولا سبيل إليها في هذه الآية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 واختلفوا في الخير ما هو. وجماعه الذي يجمع أقاويلهم الأمانة، والاضطلاع بأداء ما يكاتب عليه على الأغلب من أمره، وما يعرف به. والعجب لمن لا يجبر السيد على الكتابة، ويجبره على إعطائه منها إذا فرغ من أدائها، وكلاهما أمر واحد (كاتبوهم) ، (وآتوهُم) ، وهما عندنا واجبان جميعًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 واختلف علي بن أبي طالب وابن عمر في مقدار ما يُعطى، فأعطاه ابن عمر سُبع مال الكتابة، وقال علي: يعطى رُبعها. وإليه نذهب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 لأن ابن جُريج - وهو ثقة - وَسيما إذا ذكر السماع - قال: دنا عطاء بن السائب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 عن عبد الله بن حبيب، عن علي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) قال: " رُبع الكتابة " وهذا الحديث يقفه غير ابن جريج على علي ولا يسنده إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 النبي - صلى الله عليه وسلم - وسماع ابن جريج من عطاء قبل الاختلاط أولى من سماع من بعده. مع أنا قد دللنا في كتاب شرح النصوص على أن الثقة إذا أسند حديثًا يقفه غيره من الثقات كان الحكم حكم المسند، كالزيادة في الخبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 ولو لم يذكر ابن جريج سماعه من عطاء لما ذهبنا إلى روايته، لأنه معروف بالتدليس، فإذا ذكر السماع فهو ثقة لا عِلة في رد خبره، بل أكد سماعه منه بما قال بعد روايته: وقد سمعت غير واحد يرويه عن عطاء لا يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -. فصح أنه لم يَشك هو في رفعه. قال محمد بن علي: وعبد الله بن حبيب هو أبو عبد الرحمن السلمي وقد سَمِع من علي ولم يسمع من عثمان. * * * قوله: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) نزلت في مسيكة جارية عبد الله بن أُبي بن سلول كان يكرهها على البغاء، فأتته بِبُردة، فأمرها أن تعود، فقالت: واللهِ لئن كان حرامًا لقد آن لنا أن نتركه، وإن كان حلالاً لقد استكثرنا منه. فنزلت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 فيها الآية. ففيها دليل على أن اسم الإحصان يقع على العفاف، وأن المرأة إذا صانت فرجها عن الفاحشة فهي محصنة. قال الله - تبارك وتعالى -: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا) . فالإحصان اسم جامع كما قال الشافعي - رضي الله عنه - يقع على هذا، وعلى الإسلام. والنَرويج وجماعه الحبس عن الشيء بالحائل دونه. فكأنها تحبس نفسها عن الفاحشة بحاجز الإسلام، والتعفف بالزواج. والله أعلم. ذكر ولد الزنا. * * * وقوله: (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) . كان عبد الله بن أُبي يستغنم جُعلها وولدها. ففيه دليل على أن ولد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 الأمة من زنا عبيدٍ لسيدها. * * * وقوله: (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) . دليل على أن، إثم الزنا مدفوع عن المكرهة، وَلاَحَد عليها فيه. وفيه إبطال قول من قال: إن الرجل إذا أكرى جاريته من الفساق بيعت عليه. ألا ترى أن الله - تبارك وتعالى - يقول،: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) ، فوعدها الغفران على الإكراه، ولو كان البيع عليه جائزا لكان حائلا بينها وبين الإكراه. فلا يكون السيد بعده مكرهَا، وَلا هي محتاجة بسبب الإكراه إلى المغفرة والرحمة - وإن كانت محتاجة في غيره -. قال محمد بن علي: وفي هذا إبطال الاستحسان لمن تدبره، لأن البيع على مَن يعقل هذا حَسن في العقول أن تكون أَمة تريد تحصنَا وسيدها يكرهها على الفاحشة ولا ينتهي بالتعزير والمواعدة يحالُ بينها وبين المنكر بالبيع عليه. وأحسن منه ترك إملاك المالكين لهم، والكف عن إزالتها بغير رضاهم، فمن فعل هذا بجاريته فهو في سخط الله ولعنته حتى تنزع عنه، ولا تباع عليه، وعلى الجارية أن تقاتل من أراد ذلك منها. وتفرغ مجهودها في المنع عنها، ولا تسلم فرجها قبل بذل المجهود في الدفع عن نفسها بسلاحها ويدها، وأسنانها واضطرابها حتى، تنقطع حيلها، وتغلب ثم تكون حينئذِ مكرهة مستوجبة ما وُعدت من الغفران والرحمة، بل عليها أن تكره مَا لا تملكه من لحُوقِ الحلاوة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 بالبشر عند الوقائح لتستكمل اسم الإكراه. قال محمد بن علي: وذُكِر عن ابن عباس - رضي الله عنه - في * * * قوله: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) شيء أغفلنا إيراده عند فصله فأوردناه هاهنا لئلا يعرو الكتاب عن ذكره، ولا أحسبه محفوظا عنه لإرساله. روى بِشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 مزاحم عن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا) قال: " ليتزوج من لا يجد، فإن الله سيغنيه ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 فكيف يقدر على التزوج من لا يجده، والغناء بالتزويج وهو لمن يجد التزويج ولا يعدم من يزوجه، فإذا تزوج من ليس بغني أغناه الله ببركة التزويج وهو ما قاله في الآية: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) . وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: " ما رأيت مثل من قعد أيمَا بعد هذه الآية (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) . وقد يجد الرجل صَداق امرأة وهو محترف كسوب، فإذا فقد ما يجد في صَداق امرأةٍ كان فقيرا بعده، ومجزيا أيامه باكتسابه، فوعده الله أن يغنيه من فضله، فأما من لم يجد النكاح وعدم من يزوجه لعسرته بالصداق والنفقة فليس من أهل هذه الآية، بل هو من أهل الثانية يستعفف عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 الفاحشة، ويصبر على العزبة حتى يغنيه الله من فضله ويرزقه ما يتزوج به، وهذا وجه الآيتين. والله أعلم. وابن عباس أعلم بكتاب الله من أن يشكل هذا عليه. فإما أن يكون دخل مَتن في مَتنٍ وغلط به الكتاب، وإما أن يكون الخلل من جهة الإرسال، لأن الضحاك لم يلقَ ابن عباس. ولا سمع منه شيئا. * * * قوله: (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ) مؤيد للرواية في الحث على أكل الزيت والأدهان لبركة شجرتها أعني الزيتونة التي خرج منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 فى إطالة بناء المسجد. * * * وقوله: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 دليل على إطالة بناء المساجد، وكذلك كان قتادة يقوله. ويحتمل أن تكون رفعتها بالذكر لا بإطالة البناء. وفيه دليل على حث المسلمين أن يصلوا في المساجد، لأن الذكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 والتسبيح فيها هي الصلوات الخمس. خصوص: * * * وقوله: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) خصوص لم يدخل فيه آدم ولا حواء، ولا عيسى، صلى الله عليهم. الفتوى. * * * وقوله: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) إلى قوله: (وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) . وعيد شديد لمن يعيب الداعين إليه ورسوله في الفتوى والأحكام، إذ لا يجوز أن يحكم فيهما وَلا في غيرهما إلا هما، والخلق تبع لهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 الإمام. * * * وقوله: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) حجة في تسمية الإمام العامل بطاعة الله خليفة الله، ولا يكون منكرًا فإن الله - جل وتعالى - قد وعد ذلك من آمن به، وعمل بطاعته كما ترى. ويجوز أن يسمى العلماء أيضا، وكل من دعا إلى دينه، أو أرشد إلى سبيله خلفاءه، لأن مخرج الوعد عام. فإن قيل: فما فضلة آدم وداود - صلى الله عليهما - إذًا على غيرهما إذ كان من ذكرت يسمى خليفة. قيل: فضلهما بالنبوة. والاستخلاف اسم واقع لمعنى وكل من أخذ بذلك المعنى استحقه، وإن لم يكن له فضل النبوة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 ولو كان كل صفة وصف بها نبي لم يجز أن يشاركه فيها أُمته. ما شاركوهم في الإيمان والصلاة وسائر الطاعات. ومعنى الاستخلاف: إقامة المستخلف مقام المستخلف فلما أقام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 الله آدم وداود - صلى الله عليهما - في الأرض مقامه في الحكم بين عباده استحقوا الاسم بذلك، ووعد الله المؤمنين العاملين بالطاعة أن يستخلفهم كما استخلف غيرهم، فهم خلفاؤه في ذلك وإن لم يكونوا أنبياءه. فإن قيل: فما معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الخلافة بعدي ثلاثون ثم يصير مُلكَا "، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 قيل: معناه - والله أعلم - خلافة على تمام سيرته في أُمته، فليس يمتنع أحد من كل مَن ولي الأمر بعد الأربعة لم يسرْ في الأُمة بتمام سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيرتهم وإن ساروا بأكثرها. وهذا أبو مسلم الخولاني فقيه ذو ورع ويقول: " يا أهل المدينة أنتم أعظم جرمَا عند الله من ثمود، فإن ثمودَا عقروا ناقة الله، وأنتم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 قتلتم خليفته، وخليفته أكرم عليه من ناقته " - يعني عثمان رضي الله عنه - فلا ينكر عليه منكر، ولا يقول له: لا تسميه خليفة الله، فإنه خليفة رسوله لا خليفته. فإن قيل: فقد روي أن، أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - حين قال له الرجل: يا خليفة الله، قال: لست بخليفة الله، ولكني خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 قيل: لا يصح على أبي بكر - رضي الله عنه - خلاف القرآن واللغة وهو لباب اللغة. وقد يجوز أن يكون قاله إن صح عنه إشفاقا على القائل له أن لا يعرف معنى الخلافة، فيذهب بها إلى شيء منكر. فقال: أنا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن رسول الله خليفة الله على عباده، وخليفة خليفته يقوم في اسم الخلافة مقامه. والنبوة ليست من الخلافة في شيء. فيكون أبو بكر - رضي الله عنه - قد أزال عن الرجل ما خشي عليه من الجهل بمعنى الخلافة، وقد سَلِم من الكذب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 من يستر دينًا. * * * وقوله تعالى: (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) حجة على جميع من يستر دينا يكتمه لا يأمن في إظهاره، لأن الله - جل وتعالى - وعد مع تمكين الدين لأهله أمنَا مقرونَا به. فمن كان خائفا في دين يتمسك به من ينكر عليه إن أظهر، ومعاقب له على باطل يعتقده غير متمكن له دينه، بل هو من إيمانه على مخاطره أن يكون الله - جل وتعالى - أنجز أهل الإيمان العاملين بطاعته ميعاده في الأمن دونه، والله لا يخلف الميعاد، فكيف يكون فاقدَا لا متمسكَا بمرضي الدين وهو فزع في إظهاره، مشمئز من إعلانه. الاستئذان فى الأوقات الثلاثة. * * * وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 آية محكمة قد أغفل للناس استعمالها، فينبغي للمسلم أن يتقي الله ولا يغفلها. وفيها دليل على أن هذه الثلاثة الأوقات هي أوقات المضاجعة. والإفضاء إلى الأزواج في الوطء وبدوء العورات. ويدخل فيه أن ستر العورة على الأطفال الذين قد بلغوا مبلغ معرفتها فرض في كل وقت، إذ لا يأمر - جل وتعالى - بالاستئذان من أجل ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 إلا وقد فرض سترها في كل وقت عنهم، وعن ملك اليمين. ذكر غض البصر. وفي قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ) دليل على أن لا حَرج على المرأة أن ينظر إليها الذكر البالغ من ملك يمينه، وَلا عليه إذا نظر لغير رِيبة إذ كان في غير هذه الأوقات الثلاثة مباح له أن يدخل بغير إذن. ومن دخل بغير إذن أبصر الحرم، وقد أزال الله عن الجميع الحرج كما ترى. فهذا خاص في المماليك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 وأما الأحرار يُفرض عليهم غَض البصر عن النساء لشهوة، وغير شهوة، ورِيبة وغير رِببة إلا ما تجوز لهم عنه من نظرة الفجأة. لأن الله - جل وتعالى - أمر بغض البصر مطلقًا بلا شرط في قوله: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) ، (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 وقد أمر النبي - صلى" الله عليه وسلم - أم سلمة وأخرى من أزواجه أن تستترا عن، ابن أم مكتوم حين استاذن عليه، فقالا: إنه أعمى لا يبصرنا. قال: " أو عمياوان أنتما ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 فإن قيل: أَوَلاَ يكون قوله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس: اعتدي في بيتِ ابن أم مكتوم، فإنه أعمى تضعين ثيابك " معارضًا لأمره إياهما، وكانت هي تبصره ولا يبصرها. قيل: ليس فيه بيان أنها كانت تبصره، إنما أمرها بذلك - والله أعلم - ليأمن مِن اطلاعه على عورتها إذا وضعت ثيابها في وقت يصادف دخوله البيت وهي فيه. لا أنها تنظر إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 فإن اضطر الإنسان إلى إبراز عورته عند الاطلاء بالنورة. والاستحداد والتداوي فأمكن منه صبيا غير بالغ لم يحرج - والله أعلم - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى غلام لم يحتلم فحجم أم سلمة، والمرأة عورة. * * * وقوله: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) دليل على أن الاحتلام في الذكران حد البلوغ ووقت وجوب الفرائض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 عليهم. * * * وقوله: (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) دليل على أن الاستئذان في جميع الأوقات واجب في الثلاثة وغيرها على سائر الناس سوى الأطفال، وملك اليمين الذي أبيح لهم إلا في الثلاثة الأوقات. * * * وقوله: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 دليل على أن الأخذ بالرخص - وإن كان مباحا - فالأخذ بالتشدد أفضل، ويؤيده قوله - تبارك وتعالى -: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) ، وقوله: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 ثم قال: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) . * * * وقوله: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) . فإن. قيل: أفليس قد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 قيل: ليس ذلك بمؤثر فيما قلناه، إذ ليس في حبه أن يؤخذ كراهة للأخذ بما هو عنده أفضل من الرخص، وإذا أحب أن يؤخذ برخصه فهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 لما هو أفضل من الرخص أشد حُبًا. وللآخذ به أكثر ثوابا لما عليه من المضض، والمجاهدة في تحمله، ومخالفة نفسه فيما هي بسبيله من الميل إلى الراحات، واجتناب تحمل المشقات. ومن علم أن رخصة الله ممهدة لأهلها، والآخذ بها آخذ بالحق، بعيد من الإصر فقد قبلها وأخذ بها، وإن لم يعمل بها في كل وقت لما يؤثر غيرها في العمل عليها، ويجاهد نفسه في استيجاب ثواب ما فضل عليها، ألا ترى أنه قد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 " من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفات "، فمن لم يرمق الآخذين بالرخص بعين التقصير، وعلم أنهم سالكون سبل الحق عاملون بغير معصية، فقد قبلها وأخذ بها، ولكنه رأى درجة المجتهدين أعلى من درجة المترخصين فسما إليها رجاء ما ذكر الله في كتابه فيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 فإن قيل: أفليس أباح الله - جل وتعالى - إفطار رمضان في السفر وأذن فيه، وقال: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) . قيل: وَلا في الرخص والتشديد أراد إلا اليسر، لأنه مهد الرخص ولم يؤثم القاعد عن الأصعب، بل دل على زيادة فضل، وعلو درجة إن أخذ بها نالهما، وإن قعد عنه لم يلحقه مأثم. فأي يُسرِ أيسر من هذا عند من تميزه. وأرى كثيرا من الناس يحملون هذا الخبر غير محله، ويتناولونه. على غير جهته، فيرون أن الرخص المذكورة عن أهل العلم داخلة في الخبر وليس كذلك، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أضاف الرخص إلى الله - جل وعز - فقال: " إن الله يحب أن يؤخذ برخصه، كما يحب أن يؤخذ بعزائمه "، ورخصه غير رخص غيره، إذ لا يمكن إضافتها إليه إلا ما بين منها في كتابه، أو شَهِد بها جماعة الأمة عليها، أو أضيف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 بظاهر خبر الثقات إليه. ورخص العلماء محتاجة إلى حجج تشهد بصحتها، فمن سمى رخص العلماء رخصة فقد افترى على الله الكذب، وإن أمكن أن تكون في أنفسها حقَّا. الأكل من بيت الصديق. * * * قوله تعالى: (وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ) إلى قوله: (أَوْ صَدِيقِكُمْ) دليل على أن المرء لا حرج عليه أن يأكل من جميع هذه البيوت بغير إذن بعد أن لا يفسد، ولا يحمل، إذ لو كان بإذن ما كان لاختصاص هؤلاء معنى، لأن الإذن يبيح من جميع الأمكنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 المرجئة. * * * وقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) حجة على المرجئة فيما يزعمون أن الأعمال ليست من الإيمان، وقد جعل الله - جل وتعالى - استئذان الرسول من الإيمان، إذ جعله في صفة الإيمان، ولم يشهد لهم به إلا معه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 سورة الفرقان المعتزلة. * * * وقوله: (وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا) حجة على من يرد مشيئة العباد إلى أنفسهم، إذ لو كانت المشيئة إليهم لكانوا مالكين لضرهم ونفعهم، وقد نفاهما الله تعالى عنهم كما نفى عنهم الموت والحياة والنشور. قوله عز وجل: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) حجة على القدرية والمعتزلة كيف ما صرفوا جعلنا بمعنى الخلق أم بمعنى الصيرورة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 503 المعتزلة. * * * وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) تتعلق به الجهمية والمعتزلة في نفي الرؤية، وهذا جهل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 504 مفرط أن يكون الله - جل وتعالى - ينكر على الكفار استدعاء رؤيته في الدنيا فيفهمون به رؤية المؤمنين في الآخرة، ونحن مقرون بأن الكفار لا يرونه في الآخرة أيضاً، فكيف يحتج علينا لعدمنا رؤيته في الآخرة بعدم رؤيتهم في الدنيا. وكان بعض من يتحذلق منهم من يزعم أن قوله: (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ) دله على أن الله لا يُرى في القيامة من أجل أنهم استدعوا من نزول الملائكة ورؤية الرب، فأجابهم الله عن واحد. وهذا إن لم يكن في إفراط حاله من جهل الأول فهو مثله، ومن الذي قال: إن الكافر يَرى ربه في الآخرة حتى يتدقق عليه بهذا التدقيق، أو يعلم أن الملائكة الذين يرونهم الكفار ملائكة العذاب، ورؤية الرب مخصوص بها المؤمنون دونهم. ولو كان كما زعم أيضاً - ومعاذ الله أن يكون كذلك - ما كان في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 505 سكوته عما سكت دليل على ما ادعاه الأحمق، فكيف والكافر لاحظ له في الرؤية بحال. * * * وقوله: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) دليل على أن الله - تبارك وتعالى - خاطب الكفار على ما هو في سجايا عقولهم، إذا الملك في كل وقت حق له، وكل ما سُمي به من خلقه فهو مملوك، مملك بما أعطاه الله ومكنه منه، ولكنه لما كان في عقولهم أن المتفرد بملك يوم من حيث يعرفونه مستولي على السلطان وحده خاطبهم به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 506 وقوله: (وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) دليل على أنه على المؤمنين يسير، وهي بشارة لهم، إذ محال أن يخص الكفار بصفة عقوبة لهم، إلا والمؤمنون بضد تلك الصفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 507 وقوله: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) حجة على من يعدل عنه في الاحتجاج به، ويعيب على من يدعو إليه. المعتزلة. * * * قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) حجة عليهما - أعني القدرية والمعتزلة - في الجعل كيف صرفوه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 508 ذكر حفظ الشىء. * * * وقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) . دليل على من أدركه حفظ شيء حفظه قليلاً، أو شيئًا بعد شيء ليرسخ في قلبه، ويأمن من نسيانه. ودليل على أن التعليق بالأسباب تعلق بالمسبب لا يؤثر في توكل المتوكلين، كما يزعم جهلة المتصوفة أن طلب المكاسب مؤثر في التوكل، لا يعلمون أن الله - جل جلاله - كان قادرًا على تثبيت القرآن جملة واحدة في قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - ولكنه لما جعل سببه الحفظ بصفة أجراه عليها، وهذا نظير ما مضى في سورة الكهف: (وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ) . الهوى. * * * وقوله تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 509 دليل على أن الهوى أشد شيء ضررا على الدين، إذ كان يبلغ بالمرء أن يتخذه هواه، وكانت قريش تهوى حجرا فتتخذه صنما. ثم يرون آخر هو أحسن في أعينهم منه فيتركون الأول ويعبدون الثاني على مقدار هواهم فيه. المبالغة. * * * وقوله: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) نظير ما مضى في سورة البقرة من قوله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) . وذلك أنهم كانوا لا محالة يسمعون بآذانهم، ويعقلون عقلا تلزمهم به الحجة، ولكنهم لما عدموا العقل الذي ينجيهم، والسماع الذي أريد منهم نُسبوا إلى افتقاد السماع والعقل، وهو حجة على المرجئة والقدرية واضحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 510 وقوله: (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) تأكيد لما قلناه من جواز المبالغة في الشيء، ورد على من يأباه من متنطعي المريدين، والمعتزلة والقدرية، إذ كانوا كالأنعام وأضل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 511 سبيلاً، وهم مع ذلك مخاطبون معاقبون، والأنعام غير مخاطبين ولا معاقبين. قضاء النوافل. * * * قوله: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) حجة في قضاء النوافل. البيتوتة. * * * قوله: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 512 دليل على أن البيتوتة هو ضد الطول بالنهار، لا أنه النوم. وكيف يكون نومًا وهو يقول: سجدا وقيامًا. ودليل على أن وَاوَ النسق وإن أخرت في اللفظ فهي مقدمة في المعنى لأن القيام لا محالة قبل السجود، ففيه أكبر الدليل على أن الذراعين وإن أخرا في اللفظ على الوجه في الوضوء فَغُسلا قبله لم يكن بمنكر، وإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 513 اخترنا أن لا يقدمها، ويأتي به على نسق اللفظ. الدعاء. * * * وقوله: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) دليل على أن الدعاء عبادة يثاب عليه الداعي، ألا ترى أن الله - جل وتعالى - جعله في جملة ما مدح به عباده في هذا المدح، ويؤيده قوله: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي) ، فسماه عبادة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 514 وروى النعمان بن بشير، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " الدعاء هو العبادة " ثم قرأ هذه الآية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 515 السرف. * * * وقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) هو - والله أعلم - على ما بيناه في سورة بني إسرائيل، فيكون من أنفق في معصية مواقعا سرف الخطأ، إذ لا خطأ أخطأ من المعصية. ومن منع من حق فقد قتر، ولا يقع اسم التقتير إلا على ما يكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 516 المرء مطالبا بالإنفاق فيه فيحبسه عنه، لا أنه الاقتصار من الكثير على يسير يجزي. * * * وقوله: (وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) أي عدلا في طاعة كان، أو مباح بعد أن لا يجحف إجحافا بينا والله أعلم. وقد اختلف فيه أهل التفسير وما قلناه - والله أعلم - يجمع معاني أقاويلهم. خصوص. * * * وقوله: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) ْدليل على أن قوله في سورة التغابن: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) خصوص لا محالة بمن، إذ قد جعل دعاءهم هاهنا في إعطائه إياهم الصالحين منهم في جملة ما أثنى عليهم به، ولو كانوا كلهم صالحهم وطالحهم على العموم فتنة ما كان الدعاء به ثناء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 517 ذكر المنزلة الرفيعة. * * * وقوله تعالى: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) دليل على أن حب المنزلة الرفيعة، والإشارة به إلى محبه في الدين ليس بمنكر، إذا أحبه المحب جلالة للإسلام، وظهورا لنعمة الله عليه فيه. بل هو طاعة إذ قد أثنى الله على طالبيه فيما دعوه به كما قرى. وفي ذلك توهين الحديث المروي: " كفى بالرجل شرَّا أن يشار إليه بالأصابع "، أو يكون مصروفَا إلى من افتتن به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 518 سورة الشعراء رد على من يقول بخلق القرآن. * * * قوله: (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) دليل على أن الله - جل وتعالى - متكلم، وأن القرآن كلامه، ولا يكون كلامه مخلوقا. وليس لهم فيما في أول السورة من قوله: (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) متعلق، إذ كل من لم يكن له عهد بشيء ثم عهد برؤية أو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 520 سماع كان ذلك العهود محدثَا عنده لا أنه محدث بمعنى المخلوق. ونحن لا ننكر أن الله - جل وتعالى - قبل أن ينادي موسى - صلى الله عليه - كان غير مناديه، ولكنه لما ناداه بكلامه، والكلام نعت من نعته لم يجز أن يكون مخلوقَا. ونحن لم نزعم أن القرآن خالق حتى يلزمنا بوقوع اسم المحدث عليه أنه مخلوق، والخالق لايكون مخلوقَا، ولا شيء من نعوته. فمن أقر منهم بأنه متكلم فالحجة عليه بهذا واضحة، ومن أنكر كلامه فقد ألزمناه الحجة بقوله إخبارَا عن متخذي العجل: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ) ، وأشباهه في فصول كتابنا هذا، ونفس النداء دليل أيضا على الكلام بلا إشكال. ودللناهم في باب الجعل على ما فيه شفاء وبُلغة، فلم يبقَ لهم حجة إلا وقد كسرناها كسرا لا يلبس - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 521 بنعمة الله - على عالم ولا جاهل. جمع الاسم: (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) * * * وقوله: (قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) حجة على من ينكر السمع واضحة. * * * وقوله: (مَعَكُم) بلفظ الجمع، وهما اثنان يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون شملهما ومن آمن معهما، ومنع المبعوث إليه. بمعنى أنه لا يغيب عنهم يسمع ما يقولون، ويقال لهم. جمع الاسم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 522 وقوله: (فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) غير مثنى، أي كل واحد منا رسول - والله أعلم - وهو مثل قوله: : (وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) أي كل واحد منهم ظهير، وهو من فصيح كلام العرب واستغنائهم بجمع الاسم عن جمع النعت. وقوله إخبارا عن السحرة: (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) قد أكد ما قلنا: أن قوله في سورة الأعراف إخبار عن موسى - صلى الله عليه وسلم -: (وَأَنَا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) أنه أول قومه إيمانَا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 523 وكذاك السحرة أول من آمن بموسى لما يلقف حبالهم وعصيهم، إذ الأنبياء كلهم قبل موسى - صلى الله عليه وسلم - كانوا مؤمنين أن الله - جل جلاله - لا يُرى في الدنيا. مال الكافر. * * * وقوله: (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) دليل على أن مَن قُهر مِن الكفار كان مالهم فيئاً لمن قاتلهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 524 ناضَّة أو غير ناضَّة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 525 المعاينة والتجربة. * * * وقوله تعالى: (قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) دليل على أن المعاينة والتجربة أقوى في نفوس البشر، وقلوبهم إليها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 526 أشد طمأنينة، صالحة كانت النفس أو طالحة، لأنها على ذلك مجبولة لا تقدر أن تغيره من أنفسها. لأن موسى خاف عصاه حين تحولت ثعبانا في بُدوِّ أمره. وخاف حبال السحرة وعصيهم يوم ألقوها، فلما تمكن في النبوة، وكثرت آيات الله الجميلة عنده، وعاينها منه وقتَا بعد وقت، أيقن أنه لا يسلمه لشدة وقد سلمه منها مرة بعد أخرى. فقال ما قال ثقة بربه وتوكلا عليه. * * * وقوله: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) ولم يقل: أعداء، نظير قوله: (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) مع أن العدو أظن لفظَا للجمع أيضاً مثل العدل. المعتزلة. وقوله إخبارَا عن إبراهيم - صلى الله عليه: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 527 رد على المعتزلة والقدرية فيما يزعمون أن أفعال العباد لا صنع فيها بتة ولا يقولون: إن أفعالهم وإن كانت منسوبة إليهم فهم في الحقيقة مهيضون إليها وميسرون لها. أفيشك أحد أن إبراهيم - صلى الله عليه - كان يتناوله مأكوله. ومشروبه بيده، ويرفعه إلى فيه، ويبتلعه بحلقه، ويكون فعله بها منسوبا إليه، وقد قال كما ترى: إن الله مطعمه وساقيه. ويقال للميت: مات في اللفظ، ولا يقال: موت، وهو في الحقيقة ممات. فيما ينكر أن تكون هداية إبراهيم وغيره وإن كانت منسوبة إليهم. فالله هاديهم كما هو مطعمهم وساقيهم، وضلال من ضل وإن كان منسوبًا إليه فالله مضله وخاذله، كما هو مميته ومحييه، وتكون معرفة العدل عنده دونهم منفردًا به - جل جلاله -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 528 تخويف المؤمنين. * * * قوله: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) تخويف للمؤمنين شديد أن يعملوا ولا يتكلوا، إذ كان خليله - صلى الله عليه وسلم - طامعًا في غفران خطيئته غير حاتمٍ بها على ربه. فمن بعده من المؤمنين أحرى أن يكون أشد خوفَا من خطاياهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 529 حب الإنسان الثناء الحسن. * * * وقوله: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) يؤكد ما قلنا من جواز حب الإنسان الثناء الحسن. ْالشفاعة. قوله إخبارًا عن أهل النار: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) دليل على أن الله - جل جلاله - يُشفع غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوما من المؤمنين بعضهم في بعض، وأن الصديق يشفع لصديقه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 530 المعتزلة. وقوله إخبارا عنهم: (فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) دليل على أن من يخلد في النار فبكفره لا بذنبه، إذ لو خلف بذنبه لقالوا - والله أعلم -: فنكون من الصالحين. وهو رد على المعتزلة في باب الوعيد لو تميزوه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 531 قوله: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) دليل على أن الله - جل جلاله - قد بعث إليهم قبل نوح غيره فكذبوه. وَكذلك عاد وثمود أرسل إليهم قبل هود وصالح صلى الله عليهما غيرهما لقوله: (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) ، (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) ، وكذا أصحاب الأيكة بعث إليها غير شعيب - صلى الله عليه - لقوله: (كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) . تبصر البيان. * * * وقوله: (إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 532 دليل على أن كل من عمي عن الحجة وترك تبصر البيان، وعول على عقل غيره أهلكه، إذ لا يعلم أحد ممن هلك من القرون الخالية إلا صادَّا عن بيان الرسل، معولا على الآباء الماضين، واختيار عقولهم على عقول أنفسهم. ألا ترى أن عادا كيف أهملوا موعظة هود - صلى الله عليه - وتركوا الإصغاء إليه، مستنيمين إلى ما كان آباؤهم يقولون، ويأملون أنهم إذا ماتوا لم يبعثوا ولم يحاسبوا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 533 قياس. وقوله إخبار عن ثمود وأصحاب الأيكة لرسولهم: (مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا) دليل على أن القياس ظاهر على هلاكهم، حين قدروا في قياسهم أن بشرين لا يجوز أن يستويان في البشرية، ويفترقانه في المرتبة. إما أن يبعثوا رسلا كما بعث غيرهم، وإما أن يكون محالا عندهم أن يبعث من لم ينابهم في البشرية. وكما قال غيرهم: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا. فرأوا أن من أكل أكللهم، ومشى في أسواقهم، وليس له شيء مفرد يأكله ويسكنه لا يجوز أن يخالفهم فيما هم بسبيله من ذلك. فالقياس يورد هذه الموارد، وما أعلم أحدا من المتقدمين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين ثبت عنهم قول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 534 بقياس. وعامة ما روي عنهم مما يحمله الناس منهم على القياس ليس بقياس سيجده الناظر في كتابنا المترجم بشرح النصوص إذا تأمله في فصوله. الكاهن. * * * وقوله: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) يصحح الحديث المروي في الكاهن: " أن وليه من الشيطان يلقي إليه السمع، فيخلط معه أكثر من مائة كذبة ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 535 وفيه دليل على أن الكهنة كذابون أفاكون لا يغتر بتلك الكلمة من أقاويلهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 536 الانتصار. وقوله مستثنى من الشعراء: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا دليل على أن من تجنب الكذب المحض في شعره، ولم يتشبع به فقوله للشعر مباح لا حرج عليه، وأن البادي بالهجو ظالم، والمجيب منتصر. وأن الانتصار يكون باللسان، كما يكون باليد. ودليل على أن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من دعا على مَن ظلمه فقد انتصر" ليس بمنع للدعاء، وكيف يمنع شيء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 537 أذن الله فيه في هذه الآية، وفي قوله: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) . وغيره. ولكنه أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه قد انتصر بدعائه، وأحال به على ما ينصفه ولا يظلمه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 539 سورة النمل المعتزلة. * * * وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) حجة قاطعة مسكتة على المعتزلة والقدرية إذ قد أخبر عن نفسه - جل جلاله - أنه مُزين أعمال الكفار نصَّا بِلا تأويل. ففيه دليل على أن ما أخبر من تزيين الشيطان فهو تبع لتزيينه، كما أن مشيئة عباده في المعصية تابعة لمشيئته فيهم، إذ محال أن تكون مشيئة الخالق تبعَا لمشيئة مخلوق، أو تزيينه تبعا لتزيين الشيطان، فإما أن يجعلوهما تبعَا ويكفروا، أو يجحدوا هذه الآية فيكفروا أيضاً، وإما أن يفرقوا بما قلناه ويسلموا، ويكلوا علم العدل فيه إلى من لم يستعبدهم بمعرفته، ولم يلزمهم مزاحمته في سره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 540 وقوله: (إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) دليل على أن طلب النار مباح، ولا يكون في عداد المسألة. وجائز للمرء أن يسافر بحرمته إذا خشي عليها الضيعة. رد على من يقول بخلق القرآن. * * * وقوله: (يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) دليل واضح على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وقد فسرناه قبل هذا في سورة أخرى. معرفة القلب دون إقرار اللسان. * * * وقوله: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) ولم يقل: هذه، لأنه - والله أعلم - رد على الجائي من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 541 الآيات. ثم قال: (وَجَحَدُوا بِهَا) برده على الآيات. وفيه دليل على أن معرفة القلب دون إقرار اللسان وتوطين النفس على الشيء لا ينفع، ولا الإقرار ينفع دون الضمير حتى يجتمعا معا، وتستوطن الأنفس عليه ويأخذ في العمل معه. ذكر الرافضة. * * * وقوله: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ) يحتج بها جهلة الرافضة - وإن كانوا جهالا كلهم - يريدون أن يدفعوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 542 به إجماع المسلمين ورواية الصادقين أن الأنبياء لا يتوارثون الأموال. ليتطرقوا به إلى أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - ظلم فاطمة - رضي الله عنها - في ترك إعطائها فدك، ولا يعلمون أن سليمان ورث داود - صلى الله عليهم - نبوته لا ماله، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 543 لو لم يكن خاتم النبيين أيضًا ما كان للإناث حظ في النبوة، فكيف وهو مع ذلك خاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - وعلى زوجه. أولا يعتبرون - ويحهم - أن عليا - رضوان الله عليه - إن كان مضطهدًا على زعمهم مدة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، رضي الله عنهم - ومعاذ الله أن يكون كذلك - أجرى حين وَلي فدك مجرى ما أجروه، ولم يورث الحسن والحسين، وزينب، وأم كلثوم ما حرموا أولئك بزعمهم أُمهم وهم بعدها، فقد استوى إذَا علي في الظلم معهم إن كان الأمر كما قالوا، حاشاه وحاشاهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 545 المعتزلة. وقوله إخبارا عن سليمان: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) رد على المعتزلة والقدرية، إذ كان - صلى الله عليه - يسأل الله أن يلهمه الشكر، وينهضه للعمل الصالح، ويدخله برحمته في صالح عباده. وهل يخلو من أن يكون دعا بما هو مستغن، فينسب إلى أن دعاءه حشو، ومعاذ الله. أو دعا وهو يوقن أنه لا يقدر على شيء بتة إلا به، أو بمعونته، فإذا عدمه لم يقدر. فكيف يزعمون أن العبد على عمله منفردا به، ونبي الله - صلى الله عليه وسلم - يبرأ من الحول والقوة هذا التبرؤ، ويستلهم الله - جل جلاله - ما لا يتم أمره إلا به لحظة. قبول خبر الواحد. وقوله إخبارَا عن الهدهد: (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 547 مع ما ذكره به خبره. دليل واضح بلا إشكال على قبول خبر الواحد من أي جنس كان من الناس وغيرهم إذا عرف صدقه. ألا ترى أن سليمان - صلى الله عليه - إنما كف عن عذابه حيث أتاه بسلطان مبين، الذي كان استثنى فهلا عذبه لو لم يقبل خبره، وقال له: أنت واحد لا أقبل خبرك عن سبأ حتى يخبر به معك غيرك من الطير. وليس في قوله: (قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) ما يوهن ما قلناه، ألا ترى ائتمنه في حمل كتابه، ورد جوابه وهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 548 واحد. المعتزلة. وقوله في تمام القصة: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) حجة على المعتزلة والجهمية فيما يزعمون أن مَن وصف الله بصفة قد وصف بها مخلوق فقد شبهه بخلقه. أفتزعم أن عرش ملكة سبأ عرش الله، أو تشبيه بعرش الله من حيث تكون صفته فى السمك والطول، والعرض والجوهر، والتركيب، سيما وقد وُصِف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 549 بعرش عظيم كما وصف عرش الله. ومن قولهم: إن من قال: إن لله يدان، لزمه أن يقول: موصولة بذراع، وذراع بعضد ومنكب. أَوَلا يعتبرون أن الله جل وتعالى - لما كانت ليديه صفة يعرفهما من نفسه، لم يلزم واصفه بهما أن يقول: إنما كذلك، كما لا يلزم المسمي عرش ملك سبا بعرش عظيم أن يقول: هو مثل عرش القَه العظيم، ولكنه وفاق وقع بين الاسم والاسم، بأنه سرير وذلك سرير مجسدان غير أنهما مختلفان في الخلقة. الغنائم. * * * وقوله: (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) دليل على أن من أخذ من الكفار قهرَا قبل إسلامهم، وجميع أمتعتهم إذ كان قبل الاقتدار عليهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 550 فإن قال قائل: أن ما لك تكرر هذا قد ذكرته في سورة الشعراء ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " أُحلت لي الغنائم ولم تحل لنبي قبلي "، وهو أحد الخصال التي فضل بها على النبيين قبله. قيل: قد يجوز أن يكون أراد - صلى الله عليه وسلم - الغنائم التي هي مأكولة من الحيوان، وأنواع الأطعمة أحل له ولأُمته أكلها، وكانت من قبل على عهد الأنبياء سواه تجيء نار من السماء فتأكلها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 551 ولا تكون الأرضون والذهب والفضة، وسائر الأمتعة غير المأكول داخلا فيها، لأن الله - جل وتعالى - يقول نصَا: () فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) كما قال في النبي - صلى الله عليه وسلم - وأُمته: (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) ذكر الظلم.. وقوله: (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا) دليل على أن الظلم يورث أهله الهلاك، ويعقب ديارهم الخراب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 552 ثواب لا إله إلا اللَّه. * * * قوله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا) أجمع أأهل التفسير على أن الحسنة في هذا الموضع لا إله إلا الله. (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ) أجمعوا على أنه الشرك. فقوله: (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) يوم النفخ في الصور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 553 سورة القصص شكوى الضر إلى الله. قوله تعالى إخبارا عن موسى - صلى الله عليه -: (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) دليل على أن شكوى الضر إلى الله مباحة، وسؤاله الغوث جائز. وليس على من أصابه ذلك أن ينتظر إتيانه من الله قبل المسألة اعتمادَا على أن الله - جل جلاله - يعلم حاله فيأتيه برزقه. لأنه وإن كان كذلك فلم يحظر المسألة بل ندب إليها، وعمل بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - كما ترى فقال: (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) ، وقال: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ، مع أن المسألة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 554 له ولغيره بإباحته إذ أوى فيهما السائل إلى التعبد لا إلى النظر إلى غيره بغير نفع أو ضر ليست بموثرة في درجات المتوكلين، بل هي زيادة في درجاتهم لإقامة تعبد بينهم وبين متعبدهم، والقلوب ساكنة سكون طاقتها، وإقامة الاجتهاد في رعايتها، إذ قد عفا لهما عما ليس في طبع بشريتها من هواجس الخاطر عليها من حيث لا يملكه، ولم يستعبد من صرفه بأكبر من كراهته. ذكر من تطوع بعمل لآخر. * * * وقوله تعالى: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) دليل على أن من تطوع بعمل لآخر فعليه أن يعطيه أجره، إلا أن يمتنع من أخذه، ويحتمل أن لا يكون فرضا، ولكنه في أخلاق المروة والديانة أن يعرض عليه فإن امتنع العامل كان صاحبه قد قضى ما عليه من حق المروة والديانة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 555 الاحتراز من الفتنة. وقوله تعالى إخبارَا عنها: (اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) دليل على أن ظاهر عمل الطاعة في الإنسان يستدل به على عدالته وأمانته. ودليل على أن الاحتراز من الفتنة من أخلاق الأنبياء، إذ جعل موسى - صلى الله عليه - إياها خلفه، ومشيه أمامها دليل على أنه احترز من فتنة تلحقه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 556 وفيه دليل أيضاً على أن تَأَمُّلَ خَلْقِ امرأةِ من وراء الثوب مذموم كتأمله بَاديَا، وإن كان باديا أعظم، لأن الله - جل جلاله - عالم بخفيات القلوب، وعارف بما تكن الصدور. وقد روي في الخبر أن امرأة حسناء كانت تصلي خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتقدم قوم إلى أوائل الصفوف وتباعدوا عنها خشية الفتنة على أنفسهم، وتأخر آخرون إلى أواخر الصفوف طمعا في ملاحظتها فأنزل الله تبارك وتعالى -: (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) ، وروي عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 557 أنه قال " من تأمل خَلْق امرأة من وراء الثوب وهو صائم أفسد صومه " - ومعنى أفسد صومه - والله أعلم - أنه لم ينزهه عن محارم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 558 الله لا أنه مفطر بالنظر، لأن الصائم عليه أن ينزه صومه من كل ما عليه فيه مأثم، ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم إني صائم ". فالمتأمل خلق المرأة في حال صومه مدخل عليه بمقدار ما عليه من خطر التأمل خللاً من الفساد، وهاتكا بعض التنزه، وصومه جائز لا إعادة عليه كما أن المصلي تنثلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 559 صلاته بوسواسه فينقص منها تسعها، وثمنها وسبعها على ما جاء في الخبر، أي ينقص ثوابه عليها ولا إعادة عليه فيها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 560 ذكر أن أن تجعل الإجارة ثمنًا للبضع ومهورًا للنساء وقوله إخبارًا عن شعيب - صلى الله عليه - (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) دليل على أن ولي البنت في التزويج أبوها. وعلى أن الإجارة جائز أن تجعل ثمنًا للبضع ومهورًا للنساء، وعلى أن الأب جائز الحكم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 561 في صدقات بناته، لأن إجارة موسى - صلى الله عليه - كانت لشعيب لابنته المزوجة منه. وعلى أن الإجارة على ما لا يمكن أن يخلص من المجهول، وليس في وسع الأجير والمستأجر جائزة حلال لا يفسدها المجهول الذي لا يمكن تعريتها منه، إذ لو جهد الراعي أو صاحب الغنم أن يسميا موضع المرعى، والمسرح ومقداره، والسقي وأوراده ما قدروا عليه بوجه من الوجوه. ولا الظئر تقدر على تسمية كيفية رضاع المولود، وإمساكه، وتعاهد تنظيفه عند إحداثه، لأنهما لا يضبطان، وقد أجاز الله ذلك في قوله: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) ، وليس توصل من يجيز سائر المجهولات المقدور على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 562 استخلاصها منها في الإجارة بهاتين الآيتين بمستقيم، وَلا قاصد فيه طريق الحق، لأن الله قد تجاوز لعباده عما لا يقدرون عليه، ولم يكلفهم فوق وسعهم وطاقتهم بقوله: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) ، ومن يقدر على شيء غير متجاوز عن إمهال ما فيه من الفساد. فكل إجارة يمكن تعريتها من المجهول فغير محمولة على ما لا يمكن تعريته منه، فمن استأجر فهي باطل تفسخ، فإن عمل العامل وهو لا يعلم بفسادها فله أجر مثله لا الأجر المسمى، فإن أراد إنسان أن يجيز إجارة على عمل بعينه بأجل شهر أو شهرين اعتمادًا على قصة موسى في سببه فقد أغفل كل الإغفال، إذ موسى - صلى الله عليه، - لم يعقد إجارته إلا على ثماني حِجَج، وجعل الأمر في إتمام العشر إليه، إن أتمه كان محسنَا، وإلا فالثماني هي الأجل المضروب بينه وبين مستأجره، ومن يستأجر الأجير شهرا أو شهرين فلم تنعقد إجارته على أحد الأجلين فيكون مخيرَا في الأجر، وما كان هذا سبيله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 563 فهو فاسد لا يجوز. فعمل موسى - صلى الله عليه - أجله المضروب له من الثمانية الحجج، وأَوفَى السنتين الباقيتين لتتمة إحسانه. سعة لسان العرب. * * * وقوله تعالى: (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) دليل على إباحة وضع الكلمة موضع غيرها، لأن الجناح للطائر وليس لابن آدم جناح، فكأنه كناية عن الاستقرار والسكون، وذهاب الفزع الذي قد خامره من تحويل عصاه ثعبانا، ومثله: (وَاخفِض لَهُمَا جَنَاحَ اَلذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) وليس للذل جناح، ولكنه كناية عنِ اللين والتواضع. والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 564 قوله: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) دليل على أن ما أقيم عليه البرهان حق، وإن لم يسبق به قول متقدم. وأن الراد لما لم يسبق به قول متشبه بهؤلاء القوم. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مَن تشبه بقوم فهو منهم "، وقال ابن مسعود: " الجماعة ما وافق طاعة الله، وإن كنت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 565 وحدك ". قوله إخبارا عن فرعون: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى) حجة على من يزعم أن الله بنفسه في الأرض، حال في كل مكان. وينكر كينونته بنفسه في السماء وعلمه في الأرض. إذ محال أن يقول فرعون هذا القول إلا وقد دَلَه موسى - صلى الله عليه - أن إلهه في السماء دون الأرض. فإن كان فرعون أنكر كينونته في السماء وثبته في الأرض فقد وافق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 567 القوم فرعون في قوله. وإن كان أنكره في السماء والأرض معا فقد خالفوا موسى - صلى الله عليه - مع خلافهم لجميع الأنبياء والناس، وأهل الملل كافة سواهم. ولا أعلم في الأرض باطلاً إلا وهذا أوحش منه، نعوذ بالله من الضلالة. بناء القبور بالأجر. قال محمد بن علي: ولا أحسب كراهية من كره بناء القبور وغيرها بالآجر إلا لهذا، لأن الآجر فيما يزعمون من بِدَع فرعون اللعين. وهو من عمله، وبنى به، ولعمري إن الاقتداء ببدع الفراعنة ما قل منها وما كثر غير محمود ولا مرضي من أخلاق المؤمنين. فأحب اجتناب البناء به على كل حال، خلاف أغلبه من غير أن أحرمه إذا عريت نِية الباني به من نيته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 568 وقوله: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) دليل على أن الإمامة تكون في الشر كما تكون في الخير، لأن معناها أن يصير المرء قدوة يؤتم فيما يكون به بسبيله ومقيمَا عليه، ومثله قوله (فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) . وفيه رد على المعتزلة،، لأن جعله لهم أئمة لا يخلو من أن يكون خلقَا أو صيرورة، وكلاهما حجة عليهم خانقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 569 قياس. * * * وقوله: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) . حجة في إبطال الاستحسان والتقليد والقياس، إذ كل ذلك أهواء غير مؤدية إلى حقائق الحق. وفيه دليل على أن الهوى قد يكون في الحق أيضاً إذا كان فيه هُدى من الله. وهدى الله في هذا الموضع حجته، ولا حجة له غير كتابه، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وإطباق جماعة المسلمين على شيء واحد. وقوله (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) إلى قوله (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 570 دليل على أن من لحق محمدا - صلى الله عليه وسلم - وكان على شريعة من مَضَى قبله لم يغير ولم يبدل فآمن به، وبما جاء به - ضُوعِف له الأجر مرتين. المعتزلة. * * * وقوله: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) حجة على المعتزلة والقدرية خانقة لهم من جهتين: إحداهما: نسبة الهداية إليه - جل وتعالى - جملة كما هو في سائر القرآن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 571 والأخرى: أن قولهم في تأويل الهداية أنها البيان لا الاضطرار إليها خطأ لا محالة بهذه الآية من حيث لا ينكرون أنصفوا واستبصروا. فإنا لا نشك وَلا هُم أن الله - جل جلاله - قد بين لكل من خاطبه بالإيمان طريق الهداية، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بينها لكل من أرسل إليه، وأحبها له، وأنه لم يحرص على إيمان عمر إلا وقد بين له طريق الهداية مرة بعد أخرى. فهل تكون الهداية التي لم يقدر عليها محمد - صلى الله عليه وسلم - لعمه إلا هداية الاضطرار والإجبار، لا هداية البيان التي قد كان فرغ منها، وأدى أمر الله إلى أهله فيها. ونحن مع هذا البيان الذي لا إشكال فيه نسامحهم في هداية الاضطرار والإجبار في هذا الموضع، لتكون أشد لخزيهم، وأبلغ في كسر قولهم. ونسألهم عنها سؤالا فنقول: إن كانت الهداية لا تكون عندكم إلا بيانا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 572 والإنسان لا محالة غير مهتد لما لم يبين له، فهل يكون قوله: (إِنًكَ لَا تهدِى مَن أَحببتَ) إلا خاصَّا في البيان بشاهد العيان، إذ كل من كفر لم يبين له، ولا الله شاء أن يبين له على دعواهم طريق الهداية وليس لله على أبي طالب حجة إن كان ابن أخيه لم يبين له، ولا الله شاء أن يبين هدايته، وهو لا يقدر عليها إلا بالبيان أو بالاضطرار والإجبار، فأي قول أوحش وأبين غلطا من قول يؤدي نفس قَلبه على قائله إلى هذه الفضيحة العظيمة، والقبح الظاهر. نعوذ بالله من غضبه. اختصار الكلام. وقوله تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) حجة في اختصار الكلام، والإشارة إلى المعنى، لأنه - جل جلاله - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 573 ذكر الليل والنهار، ثم ذكر السكون فيه ولم يقل: في الليل. وذكر الابتغاء من فضله ولم يقل: في النهار استغناء - والله أعلم - بما ذكره في موضع آخر. * * * قوله: (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ) الهاء - والله اْعلم - راجعة على (من) . (لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ) . كان بعض أهل الإعراب يزعم أنه من المقلوب: كان العصبة تنوء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 574 بالمفاتيح، على ما تفعل العرب مثل مصراع الأعشى. كأننا رعن قف يرفع الآلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 575 ومعناه: يرفعه الآل. قال: ويحتمل عندي أن لا يكون مقلوبا فيوضع (تَنُوءُ) موضع تثقل، ويجعل (الباء) في العصبة معنى (على) فيكون: ما إن مفاتحه لتثقل على العصبة. والله أعلم كيف هو. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 576 سورة العنكبوت ذكر ضمان أوزار الناس. * * * قوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) دليل على أن ضمان أوزار الناس بعضهم على بعض باطل، وأن أحدا لا يجازى إلا بما عمل. * * * قوله: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ) يحتمل أن تكون أثقالهم ما جنوه على أنفسهم، (وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 577 ذكر المعتزلة ) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) دليل على المعتزلة والقدرية، لأنه ذكر بدو الخلق، وإنشائهم عامة، ولم يذكرهم بعمل صالح ولا طالح، بل ذكر مشيئته في رحمة بعضهم، وعذاب بعضهم كما ترى. فهل يكون الكافر على هذا إلا مرادا بالعذاب، والمؤمن إلا مرادا بالرحمة. سعة لسان العرب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 578 وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) حجة في الإخبار عن لفظ الغائب بلفظ الحاضر، ألا ترى أنه قال: (بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ) ثم قال: (أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) ، ولم يقل: من رحمته. جواز ترك الخبر قبل إتمامه. * * * وقوله: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) حجة في جواز ترك الخبر قبل إتمامه، والأخذ في غيره ثم الرجوع إليه، ولا يكون ذلك عيبا على قائله، وَلا خطأ من فصاحته. ألا ترى أنه - جل جلاله - ابتدأ الخبر عن إبراهيم - صلى الله عليه - بقوله: (وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ) ، ثم حال بين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 579 إتمامه بقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) ، وبقوله: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) حتى رجع في تمام قصة إبراهيم - صلى الله عليه - فقال: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ) . وفي هذا دخول الخلد على قول أبي عبيدة - رضي الله عنه - في اختياره في سورة النمل: (أَلَّا يَسْجُدُوا) بالتثقيل اعتمادا على أن لا يحول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 580 بين قصة الهدهد وملكة سبأ حائل من غيره. حجة على المعتزلة والقدرية. (وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) حجة على المعتزلة والقدرية فيما لا يجعلون مشيئة العباد تبعا لمشيئة الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 581 وتزيين الشيطان تبعا لتزيينه، وإضلاله وصده عن سبيل الله تبعا لإضلاله وصده. لا يعتبرون أن الله - جل جلاله - أخبر عن نفسه بإنجاء لوط ومن أنجى معه فقال: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) . وعن إمطاره على من كفر من قومه مطر السوء، ثم أخبر في هذه الآية عن رسله إليهم أنهم قالوا له: (إِنَّا مُنَجُّوكَ) ولم يقولوا: إن الله منجيك، وقالوا: (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ) وليس يخلو بتة من أن تكون الرسل مأمورين بإنزال الحجارة، وإنجاء لوط، فكانوا هم المنزلين ذلك بأمر ربهم، أو غير مأمورين. فلما لم يجز أن لا يكونوا مأمورين، لأنهم لا يكذبون، وبأنفسهم من غير أمر لا يقدرون - حصل أنهم قالوا ذلك بأمره، وفعلوه بتسليط، وقد أخبر الله به عنهم وعن نفسه. أفليس إن جعلنا فعل الله تبعا لفعلهم كفرنا، وإن جعلنا فعلهم تبعا لفعل الله صح لنا. إن الله وإن أخبر بالفعل عن فاعل فهو مؤهله ومقويه عليه، وفاعله بإرادته ومشيئته كما نجى الرسل لوطا ومن معه، وأنزلوا الرجس على من هلك من قومه بإرادة الله ومشيئته. وكذا قال تبارك وتعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ثم قال: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 582 ثم قال: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ) ، فعلم أن الإرادة والمشيئة والقوة لله، وأن الفعل منسوب إلى فاعله، فإن كان مطيعا فيه أجر بفضله، وإن كان عاصيا عوقب بعدله. والنظر في كيفيته ذلك العدل، ومعرفته من الخلق له كهيئة ما عنده مزاحمة في ملكه، وتأميل إدراك ما لا سبيل إليه من كشف سره. * * * قوله تعالى: (وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) لا متعلق لهم فيه، لأنه على ما علمتك من أن تزيينه تبع لتزيينه. وصدوده تبع لصدوده. وقال المفسرون في (وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) : أي في ضلالتهم معجبين بها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 583 قوله: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) دليل على فضيلة العلماء، وجواز لضرب الأمثال. معنى الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. * * * وقوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) آية يحملها الناس على غير وجهها، فيرون أن نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر هو أن تحول دونها حتى لا يعمل بشيء منها، وليس كذلك إنما نهيهما ما يجده المصلي من الزاجر في نفسه عن الفحشاء والمنكر، وتصورها في عينه بصورة القبح، فلا تعلم مصليا يقيم الصلاة لله قائما فيها بأمر الله محتسبا ما وعده الله من الثواب عليها إلا وهو يجد هذا في نفسه، والفواحش والمناكر عنده ممقوتة، ممقوت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 584 فاعلها وإن كان يقع فيها. وكذا لفظ ظاهر الكلام: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى) ولم يقل: إن الصلاة تحول بين الفحشاء والمنكر. وقد نهى الله - جل وتعالى - عن الفواحش والمناكير قبل نهي الصلاة ولم يحل بين جميع من نهاه وبينها. والنهي في اللغة: زجر عن الفعل والترك لفعل غيره. وقول من قال: " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 585 من الله إلا بعداً " صحيح كما قال، ولكنهم المنافقون الذين لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى يراؤون الناس، كما قال الله - عز وجل - فهؤلاء لا تنهاهم صلاتهم عن شيء، لأنهم لا يقيمونها ديانة، ولا ائتمارا ولا احتساب ثواب، ولا يؤمنون بأمرها ومن حرم الفواحش الجزء: 3 ¦ الصفحة: 586 والمناكير،، وكيف تنهاهم صلاتهم عما لايحذرون عاقبته، ولا يخشون عقوبته، إنما تنهى المؤمن الذي قد آمن بالله وبما أنزل في كتابه، وأيقن بالوعد ، ألا ترى أنه قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ) فبدأ به، (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) فإنما تنهى من قد دخل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان، وبري من الكفر والنفاق. ومن كان هكذا من وإن كان في جملة المخلطين فهو غير فاقد نهي الصلاة عن والمنكر، والزاجر الذي ذكرناه من قبله، ويوشك المنهي إذا نهي الناهي أن يوفقه الله فيستحي من ناهيه، ويترك ما ينهاه وينزجر عما يزجره عنه وإن لم يتركه جملة واحدة. قال: أليس قد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: إن فلانَا يصلي بالليل ويسرق. فقال: " صلاته تنهاه ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 587 وهذا يدل على أن النهي هو المنع الحائل قيل: لو كان الحديث صحيحا ما كان إلا حجة لقولنا، فكيف وهو سقيم،. فأما ما فيه من تأييد قولنا، فإن (لعل) يتوقع بها ما يكون منها، وهو ما قلناه: إن المنهي إذا كثر عليه نهي الناهي يوشك أن ينتهي، ولو كانت الصلاة تحول بين المعاصي لحالت بين هذا السارق وبين سرقته، ولكفته صلاة النهار قبل أن يصلي بالليل، بل كانت تجزيه صلاة واحدة. وأما سقمه فإن مداره على الأعمش وقد اختلف عليه، فروى زياد بن عبد الله البكائي عنه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 589 عن أبي صالح عن جابر وروى عنه وكيع فقال: أرى أبا صالح ذكره عن أبي هريرة فشك فيه وقال عن أبي هريرة ولم يقل: عن جابر، ورواه سعد بن الصلت عنه فقال: عن أبي سفيان - ليس عن أبي صالح - عن جابر. وأبو سفيان لم يسمع من جابر - ورواه بغير لفظ أبي صالح فقال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل فقال: إن فلانا يقرأ الليل كله وإذا أصبح سرق. قال: " ستنهاه قراءته " فلو صح لكان معناه أنه سيقرأ في جملة ما يقرأه: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) فينزجر بها يومًا، وكذا - والله أعلم - قوله: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) أي تنهاه ما يتلو فيها من القرآن - والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 590 وكان بعض أهل التفسير يذهب إلى أن مدة قيام المرء في الصلاة إلى الفراغ منها مشغول بها عن الفحشاء والمنكر، فذلك نهيه عنها عن الفحشاء والمنكر. * * * قوله: (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) دليل على كل من لم يؤمن بهذأ القرآن أو شيء منه فهو كافر. ذكر معنى النبى الأمى. * * * قوله: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) دليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدرس الكتب المنزلة قبله. ولا كان كاتبا، وأن معنى الأمي فيه أنه لا يكتب ولا يحسب ليكون ذلك أتم في آيات نبوته، ولتنقطع حجة المبطلين عليه بأن يقولوا: حفظ هذا الكتاب من كتاب قبله، أو انتسخه. وكذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 591 " إنا أُمة أُمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذ! " وكسر الإبهام في الثالثة كأنه أشار بأصابع يديه مرتين ليكون عشرين، وأشار في الثانية بخمسة وأربعة ليكون تسعا وعشرين. يريد أن الشهر يكون كذلك أيضا. وقال لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حين أنكر سهيل بن عمرو إملاءه، هذا ما قضى عليه محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أرني موضعه " فمحاه وأمره أن يكتب محمد بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 592 عبد اللَّه. فدل أنه كان لا يقرأ ولا يكتب. وليس كما يقول المتحذلقون في الجهل أنه كان يكتب ويقرأ. والأمي في نعته منسوب إلى مكة، لأنها أم القرى. * * * وقوله: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 593 دليل على أن القرآن من كبار آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - لآن المشركين قالوا: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ) : فقال: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) * * * وقوله: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ) دليل واضح على أن الله - جل جلاله - في السماء لا في الأرض وأن الذي في الأرض علمه المحيط بما فيها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 594 المعتزلة. * * * وقوله: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) حجة على المعتزلة والقدرية واضحة، لأن العذاب في هذا الموضع لا يخلو من أن يكون هلاك بهِلاك موت أو غيره من أنواع العذاب وأيهما كان فلا يتقدم أجل المضروب. وهم يزعمون أن الإنسان قد يموت بغير أجله، وينكرون أن الله - جل جلاله - ضرب أجلا - لأحد في هلاك مخافة ما يلزمهم في الكتاب السابق بشيء من الأشياء. اختصار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 595 وقوله: (وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) فيه لا محالة اختصار، وهو أشد ما يكون من الاختصار كأنه - والله أعلم - ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون، أو عقوبة ما كنتم تعملون، أو ما يقارب هذا المعنى، لأنهم كانوا يعملون المعاصي، والمعاصي لا تُذاق. فأي لسان أشرف من لسان العرب، وأعلى مرتبة أن يجوز فيه هذا الاختصار الشديد والإشارة إلى المعنى. اختيار الأرض. * * * وقوله: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) دليل على جواز اختيار الأرض، والنقلة من موضع إلى موضع فرارا من المعصية، وصيانة للدين، وخلاصا ممن لا يساعد على الآخرة ويدعو إلى الدنيا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 596 سورة الروم المعتزلة. * * * وقوله: (الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) حجة على المعتزلة والقدرية في باب العدل الذي يدعون معرفته لجهلهم. فيقال لهم: ما وجه نصرة الله الروم على فارس وكلاهما كافر، الروم بالتنصر، وفارس بالتمجس، في فطرة عقولكم التي تعدون بها طوركم، ولا تسلمون فيها لربكم منفردا بها دونكم. فإن قيل: فما معنى فرح المؤمنين بنصره غيرهم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 598 قيل: فرحهم - والله أعلم - بأخذ القمار الذي وجب لهم عند ذلك. وذلك أنهم كانوا قامروا المشركين قبل تحريم القمار على نصرة الروم على فارس، وغلبهم عليه في بضع سنين، فلما أظهرهم الله عليهم فيها استوجبوا قمارهم، وبان صدقهم، وعلا كتابهم المنزل على نبيهم - صلى الله عليه - بأن لا ينزل فيه إلا ما يكون حقا ففرحوا بذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 599 قوله: (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ) حجة عليهم في باب الوعيد، لأنه - جل جلاله - قد أكد في إنجاز وعده، وأخبر عن الوفاء به في غير موضع من كتابه. ولم يفعل ذلك في باب الوعيد، لأن ترك إنجازه كرم كما قد بينا ذكره قبل هذا لا خُلف. ذكر الصلاة. * * * قوله: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) . فى ليل على أنها الصلاة كما قال ابن عباس، رضي الله عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 600 إذ لو كان تسبيحا على ظاهر قوله لاستحال أن يكون الله منزها في هذه الأوقات دون سائرها، منزه عن السوء في جميع الأوقات. وقدِ اتفق المسلمون لا اختلاف بينهم على أن الله لم يأمر أحدا بأن يسبح في هذه الأوقات، ولا غيرها تسبيح قول، ولا تسبيح بعد ذلك إلا الصلاة. والصلاة تسمى في لغة العرب تسبيحا، قالت عائشة - رضي الله عنها -: " والله ما سبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُبحة الضحى قط، وإني لأسبحها ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 601 واتفق المفسرون فيما أعلم على أن قوله في يونس: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) أنه من المصلين. وهذا من المواضع التي يترك فيها الظاهر بشاهد من الكتاب والسنة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 602 والإجماع. الاختلاف. * * * وقوله: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) اختلف المفسرون فيه، فقال الضحاك بن مزاحم: " يخرج الرجل الحي من النطفة الميتة، ويخرج النطفة الميتة من الرجل الحي ". وقال الحسن وقتادة: " يخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 603 كأن الحي عندهما المؤمن، والميت الكافر. فإن كان ما قالا فهو حجة على المعتزلة والقدرية، وبراءة لهما مما نُسِبا إليه من القدر، لأن إخراج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن لا يكون إلا عند إلاد الأم بهما، فأما ما يستوجبانه من الاسم بعد البلوغ بما يصيران إليه من الإيمان والكفر فلا معتبر فيه. ولا يخلو من أن يكون ولدا كما سميا، أو على غير ما سميا ثم انتقلا. فلما كان إزالة الاسم عنهما قبل إحداث الإيمان والكفر بعد البلوغ، وعند الخروج مزيلا للفظ نص القرآن، ثبت أنهما ولدا كذلك فلم يستطيعا النقلة عما ولدا عليه بعد البلوغ، ولحوق الخطاب بهما، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 604 ويؤيده قصة المولود الذي قتله الخضر - صلى الله عليه، وولادته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 605 لا محالة على الكفر، إذ لا يجوز على الخضر أن يقتل طفلا لا يدري - على زعم الجهلة - يكون بعد البلوغ مسلما أو كافرا. وفي تسمية الكافر بالميت دليل علي إجازة الإفراط في ذم الإنسان ومدحه بما يكون ظاهره خلاف باطنه ولا يكون كذبا. وبيان على أن الإرادة في تسميته بالميت زوال منفعة الحياة التي تنجيه عنه وإن كان ذا روح. وتسمية المؤمن بالحي مدح له، حيث كان بضد الكافر من المسارعة إلى الإيمان، وما ينجيه من عذاب الرحمن، لأنه ذو روح. وإن كان كما قال الضحاك ففيه حجة على وقوع اسم الميتة على الشيء لايكون دليلا على نجاسته حتى تقوم حجة ثابتة بنجاسته، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد دل على طهارة النطفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 606 وفي نفس قوله: (وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) دليل على ذلك، لأن الأرض طاهرة، ومعناه أنها أحييت بالنبات بعد أن كانت جردا لا نبات فيها. وبلغني أن بعض مثبتي القياس كان يجعل قوله: (وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وماضاهى من القرآن حجة في تثبيته. وهو عندي جهل بين، وذلك أن القياس عندهم تحريم غير المسمى وتحليله من أجل علة في المسمى أوجبت به مسلكه. وليس إخراج الله من مات من قبره وإعادة الروح فيه من أجل أنه أخرج الحي من الميت، والميت من الحي، وإحياء الأرض بعد موتها، ولكنه بيان لذوي العقول أن الذي فعل ذلك قادر على إحياء الموتى وإخراجهم من قبورهم. وبطلوا القياس كلهم مقرون بأن المحرم للأنواع الستة قادر على تحريم غيرها، ولكنها لم يحرمها في الدنيا ولا حاجة بأحد إلى تحريمها يوم الحشر كما دل على أن من أحيى الأرض بعد موتها قادر على إحياء أهل القبور، وإنما يحييهم يوم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 607 النشور. سعة لسان العرب. * * * قوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ) خارج على سعة اللسان، لأن المخلوق من تراب آدم وحده. والمخلوق له من نفسه زوجته قال الله - تبارك وتعالى - (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا) ، فلما كان البشر جميعاً من نسله سماهم بذلك على سعة اللسان. والله أعلم. حجة الشافعي - رضي الله عنه - فيما يسقط (أن) من كلامه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 608 (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا) حجة للشافعي - رضي الله عنه - فيما يسقط (أن) من كلامه في هذا الموضع كقوله: ولو صلت أَمَةٌ مكشوفة الرأس فعليها تستتر. ولم يقل: أن تستتر. ألا ترى أنه قال: (خَوْفًا وَطَمَعًا) ولم يقل: أن يريكم. ولا يسلك به مسلك ما تقدمه من قوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ) ، ولا جعل خبر الابتداء على لفظ المصادر والأسماء كما قال: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) ، ولكنه جاء به على لفظ المستقبل من الأفعال وأسقط (أن) فكلاهما لغتان فصيحتان واردتان معا في القرآن. إلا أن ما كان على لفظ الأفعال الماضية فلابد من إثبات (أن) فيها، وما كان على لفظ المستقبل فالمتكلم بالخيار إن شاء أثبت وإن شاء أسقط، فإذا أسقط الجزء: 3 ¦ الصفحة: 609 كانت حجته ما ذكرناه من قوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا) . وإذا أثبت كانت حجته: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) ، وإذا لم يجز له إلا الإثبات كانت حجته: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) ، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) . المعتزلة. * * * وقوله تعالى: (ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) حجة على المعتزلة والقدرية في إضافة الفعل إلى فاعل ذلك الفعل مفعول به. ألا ترى أنه قال قبل هذا: (وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) ، ثم قال هاهنا: (إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) فما ينكرون ويحهم أن تكون أفعال المعاصي يفعلها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 610 العاصون وتنسب إليهم، وتكون محكوم عليهم بها جارون على محتوم القضاء عليهم فيها، فلا يبقى عليهم عند ذلك إلا الإقرار بعزوب علمهم عن عدل عادل، لا يضرهم جهله. ولو كان جل وتعالى لا يكون عادلا إلا فيما تعقله الخليقة من عدله دون أن يكون له عدل لا يعقله، كانت فيه صفة تحيط الخلق نكتها، ولجاز لمن يزاحمه في معرفة عدله - ولا يعده منكرا من نفسه - أن يزاحمه في معرفة قدرته. فيقول: لا أقبل من قدرته إلا ما يتسع لها عقلي، وإلا صرفته في باب المحال، كما أصرف ما لا أعقله من عدله في باب الجور فلا أنسبه إليه. فيلزمه أن يقول: لما كان محالا في عقلي أن يكون عادل يجمع على نفس واحدة حكما لشيء وقضى عليه به ثم يطالبه بتركه، ويعاقبه على فعله. فلم أنسب هذا إليه، ولم أبالِ بمخالفة آي القرآن فيه، وشهادة الرسول وجماعة الأمة غيره عليه، فهو فيه أيضاً محال أن يكون للنار موضعا يكون فيه والجنة عرضها كعرض السماء والأرض قد أخذت جميع الموضع. ومحال أن يكون مدبر واحد يدبر جميع الأشياء لا يشغله شيء عن شيء، وما أشبه هذا من القدرة التي هي من صفة الرب تبارك وتعالى، ولا يتسع لها عقول الخلق، وإلا فما الفرق، هذا مع ما بينا عليهم من نظائر نفس ما ينكرونه من العدل مفرقا في فصول كتابنا هذا، والمجرد في الرد عليهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 611 وقوله: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) . معناه - والله أعلم - وهو أقل عنده من أن لايقدر عليه - لا أن إبداء الخلق أصعب عليه من إعادته، بمعنى أن إعادته أيسر عليه. هذا كفر لمن يكفر به - وأحسبه كذلك، لأن الله - جل وتعالى - قدرته على الأشياء كلها واحدة لا يتعاظمه شيء، ولا يلحقه صعوبة في خلق شيء سبحانه. ولكنه على ما أعلمتك خرج مخرج الاختصار. وهو أعلم بما أراد به جل وعز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 612 ومن المفسرين من قال: هو أهون على الخلق إعادته بقوله: كن فيكون. أهون عليه من ابتدائه مِن نطفة ثم مِن علقة ثم مِن مضغة. قياس. * * * وقوله: (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ) حجة على من يقول بالتقليد والقياس والاستحسان. وحجة على المعتزلة والقدرية. وهو من المواضع التي يحسن فيها حذف (هاء) المفعول كأنه: من أضله الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 613 خصوص. * * * وقوله: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) خصوص لا محالة، يعني فطر المسلمين عليها دون المشركين. (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) كان بعض المفسرين يقول: " لا تبديل لدين الله " يذهب به - والله أعلم - إلى أن قوله: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) قد دل عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 614 اختصار * * * قوله: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ) فيه اختصار - والله أعلم - لأنه لم يتقدم الكلام بشيء تكون (مُنِيبِينَ) حالا منه، فكأنه أدخلهم في الخطاب الذي خاطب به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إقامة وجوههم للدين منيبين إليه، أو في خطاب سواه من الأمر بالتوبة، أو ما شاء جل وعز. فإن توهم متوهم، أنه حال من الناس الذي فطرهم على الإسلام غلط عندي، لأنه لو كان كذلك: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ) والله ولي الصواب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 615 (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) يحتمل أن يكون دليلا على أن من لم يقمها أشرك، ويحتمل أن يكون نهيا مبتدأ - والله أعلم أيهما هو. قوله: - (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) حجة في جواز خطاب الغائب بلفظ الحاضر. ألا ترى أنه قال في ابتداء الآية: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ) فهو - والله أعلم - يقول لهؤلاء بأعيانهم لا لغيرهم: فتمتعوا فسوف تعلمون، لأنه لم يفرغ من تمام المعنى بعد، والدليل عليه قوله: أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) . والذي يزيل الريب كله عنه قوله في آخر العنكبوت: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 616 ذكر الهدايا. (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ) يزعم مجاهد أنها: الهدايا، وكذلك قال الضحاك إلا أنه فسره فقال: " هو رجل يعطي الناس ليثاب، فليس له أجر، ولا عليه وِزر، ونهُي عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة ". فكأنه يعطي الناس ليثاب أكثر من عطيته. فهو يقع عليه اسم الربا بالزيادة وليس بمحرم، وإن كان من دناءات المطامع، فقال الله في هذا: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 617 (فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ) أي لايزيد كما يزيد الزكاة، ثم بينه فقال: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) أي أولئك الذين يعطون كذلك يضعفون لأنفسهم ثواب عطاياهم التي أرادوا بها وجه الله. ولعل الضحاك أراد فيما قال نهي عنه - صلى الله عليه وسلم - في سورة المدثر: (وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) . لأنه كذلك فسره هناك فقال: " لا تعطِ لِتُعطى أكثر منه ". فنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن دناءات الأخلاق والمطامع. وقد حث الله تعالى على التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - تأسياً عاماً في قوله: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 618 وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن الله يحب معالي الأمور، ومعالي الأخلاق ويكره سفسافها) ، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 619 جملة أنه قال: " العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 620 وقد قال أهل العلم من التابعين والأئمة في الهِبة للثواب لذي الرحم والأجنبين أشياء. وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فيها ما روي، فلا أدري ما أقول فيها إذا فعلها الإنسان. واختار أن لا يفعله اقتداء بالقرآن، وتأسياً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أخلاقه، وما أخبر عن الله - عز وجل - من كراهة سفسافها. * * * وقوله: (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) دليل على جواز التأكيد في القرآن وزيادة البيان، وهو رد على من قال: ليس ذلك في القرآن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 621 قوله: (وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا) (الهاء) - والله أعلم - راجعة على النبت، أو علي الأثر الذي قال: (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى) أي يحييها بإخراج النبات من الزرع والحشيش وغيره. إيمان. * * * وقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ) حجة على المعتزلة فيما يزعمون أن الإيمان مكتسب غير موهوب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 622 قوله: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) حجة عليهم واضحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 623 سورة لقمان * * * وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) هو - واللَه أعلم - مثل قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) يؤثره ويشتغل به، لا أنه يخرج فيه مالا. ويحتمل أن يكون رفع الأموال إلى المغنين، وإخراجه في شِرى القينات المغنيات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 624 وفيه دليل على تحريم الغناء وما أخذ أخذه مما يضل عن سبيل الله. وكذا قال ابن عباس ومجاهد - رضي الله عنهما -: أنها نزلت في الغناء وأشباهه (1) . فهي تخبر عن تحريم جميع ذلك. * * * قوله: (وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا) (الهاء) - والله أعلم - راجعة على السبيل، لأنها مؤنثة. وقد يحتمل أن تكون الآية - وإن كان الغناء محرما من موضع آخر - نازلة في حديث الكفر وما دعا إليه، لأن ما بلي من المسلمين باستماع الغناء لا يضع نفسه موضع المتخذين سبيل الله هزوَا، والدليل على ذلك * * * قوله: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا) فهذا فعل الكافر. وقد يجوز أن تكون الآية نزلت في الكفار ومن يؤثر استماع الغناء واللهو على استماع القرآن فيدخل فيها تفسير ابن عباس ومجاهد، ويكون السبيل القرآن. والله أعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 625 كيف هو. * * * قوله: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا) نظير ما مضى في سورة العنكبوت من قوله، (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) . وجواز الحائل بين تمام الخبر بغيره ثم الرجوع إليه. ذكر احتقار الناس. وقوله إخبارَا عن لقمان في وصيته ابنه: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 626 زجر عن احتقار الناس، ومشية الخيلاء، وحث على التواضع وأخذ السكينة والوقار. الإجهار فى المنطق. * * * قوله: (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) دليل على أن الإجهار الشديد في المنطق مذموم. وروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن الله يحب الحافض الصوت الرقيقه، ويبغض المجهار ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 627 قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 628 حجة على المقلدين في تركهم اتباع كتاب ربهم سلفهم، لأن الله - جل جلاله - لم ينكر منهم اتباع الآباء خاصة من جهة النسب، إنما أنكر ترك كتابه. وليس في إيمان هؤلاء، وكفر أولئك ما يزيل عنهم اسم الترك، إذ الترك من كل تارك ترك، وليس حسن ظن المقلِّد بالمقلَّد أكثر من تلاوة القرآن في الشيء. والغلط في المقلَّد ممكن، وفي القرآن غير ممكن. وجائز أن يكون ما يظنه به من سبب عرفه من القرآن الذي شهد خلافه من نسخ أو تأويل إغفال لا ما ظنه. وقد وضع الله عنه مثل هذا ولم يعذره بترك كتابه بل أمره باتباعه مطلقا بلا شرط، ونهاه عن اتباع ما سواه فقال: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 629 المعتزلة: * * * وقوله: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا) حجة على المعتزلة شديدة إذ لابد لهم من أن يقولوا ما لم تدره النفس من كسبها غدا يدريه الله، بل قدم ذكره بأن علمه عنده فقال: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) كذا وكذا وكذا. فإن قالوا: يقدر على أن لا يكسب ما علمه الله من كسبه، فقد كفروا لأن الله أعلم ما يكون من أمره في كسبه فلا يقدر الحيدة عنه، كما علمه منه موته بأرض فلا يقدر أن يموت بغيرها. وإن قالوا: لا يقدر أن يحيد عما علمه منه، وما علمه من شيء فهو الذي علمه لا غير. أقروا بكل ما أنكروه، ولزمتهم الحجة فيما جحدوه. ولا بُد من القول بأحدهما، والعلم لا يمكن فيه الاختيار كما يزعمونه في الإرادة، وَلا في الإرادة يمكن لو أنصفوا. فإن قالوا: إنما العلم أنه سيختار غدا كسبا، لا أنه يعمل كسبا بغير اختيار. قيل: أفيعلم على أيهما يقع اختياره، أو لايعلم. فلا بُد من أن يقولوا: يعلم، وإلا كفروا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 630 قيل لهم: أفيقدر بعد ما يقع اختياره على أحدهما أن لا يعمل ويعمل الآخر. فإن قالوا: بلى. قيل: فالاختيار بعد حادث في العزم على الكسب، لا في الكسب نفسه والله يقول: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا) ، ولم يقل: ماذا تعزم على كسب غد. مع أن الخلاف بيننا وبينهم في الكسب لا في العزم. فيقال لهم: فبد لهذا العزم من أن يكون له آخر يودي إلى كسب. فإن قالوا: لابد من ذلك. قيل: أفليس هذا الذي لابد منه يعلمه الله منه قبل غدِ كيف يكون. فلا بد من الإقرار به. فيقال: أفليس إن لم يعمله وعمل غيره قد عمل خلاف ما علمه ربه. فإن قالوا: بل لابد لمن أن يعمل ما علمه ربه ولا يقدر على خلافه. وكل ما عمله فهو الذي علمه. قيل: فعمل معصية وقد أقررت بأن كل ما عمله فهو الذي منه علمه. ولم يجد بداً من عمله. ومع ذلك فقد أمره بان لا يعملها. فليس دون هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 631 التباس عند عالم ولا جاهل، ولم يبق فيه إلا الإذعان بالجهل عن بلوغ معرفته هذا العدل عليه المتصور في العقل بضده، وهو الذي قلناه إنه سر ربنا - جلا وعلا - لم يُطلِع عليه ملكَا مقربَا ولا نبيَّا مرسلَا. وهو الذي عوتب فيه موسى وعيسى - صلى الله عليهما - ويجيء بالإلحاح في الاطلاع عليه عزيز ولو جاز لأحد أن يكابر بعد هذا الوضوح فيه جاز أيضاً المكابرة في موت النفس بالأرض التي تموت فيه. فيقال: ليست هي الأرض التي علمها الله وقدر موته كما يزعمون أن الكسب ليس هو الذي علم، لأنه منها. وهذا هو الكفر الصراح. والمكابرة الظاهرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 632 سورة السجدة ذكر الرد على الباهلى. * * * وقوله تعالى: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ) دليل واضح لمن عدل عن المكابرة. أن الله - جل جلاله " - بنفسه في السماء، وليس كما يقول الباهلي وأصحابه، والحلولية وأشياعهم. إذ كان - جل جلاله - يدبر أمر الأرض من السماء، ثم يعرج من الأرض إليه، وهو نص لا تأويل كما ترى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 633 المعتزلة. * * * قوله: (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) حجة على المعتزلة والقدرية خانقة لهم، مستغنية بجملتها عن تفصيلها عليهم. ذكر السجود. * * * وقوله تعالى: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) دليل على أشياء: منها: أن السجود من الإيمان، وهو رد على المرجئة، إذ في قوله : إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا) دليل على أنهم لو لم يخروا سجدا لم يكونوا مؤمنين، وهذا إذا امتنعوا من سجدةٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 634 فرضِ أو تطوع استكبارَا. فإذا رأوها حقا وهي تطوع فتركوها كسلاَ، أو علما بأنها غير مفترضة لم يأخذوا ثواب الساجدين، ولم يكونوا حرجين. وعلى كل حال جاءوا بها فهي من الإيمان، فإن كانت فرضا كانت جزءا من أجزاء فرضه، وإن كانت تطوعا فهي من أجزاء نوافله. ألا ترى أن من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كان يقول: " تعالوا نؤمن ساعة " يقولها في المسجد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 635 فرأى قعوده فيه إيمانا، وليس القعود فيه مفروضا، فهو من الإيمان الذي يكون تطوعا. ومنها: أن من وُعِظ بالله كان من تمام اتعاظه إتراب جبينه بالسجود لله تواضعا له، وتذللا لجلاله، وهو مندوب إليه بهذه الآية - والله أعلم - خلافا على الجبابرة والكفار، ومن تأخذه العزة بالإثم، قال الله - تبارك وتعالى -: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) ، وقال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا) ، فالخلاف على هؤلاء من أقرب القربة إلى الله - جل وعلا - وروي أن رجلا قال لمالك بن مِغول: " اتقِ الله، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 636 فألزق خده بالأرض ". ومنه: أن السجود يجُمع فيه بين التسبيح والتحميد، وفيه تقوية لحديث حذيفة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في سجوده: " سبحان ربي الأعلى وبحمده "، بل قد روي عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في سجوده وركوعه: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي " يتأول القرآن ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 637 كأنها تعني هذه الآية. والله أعلم. ومنها: أن التكبر هو في الامتناع من السجود، وأن من سجد لله وتواضع وتذلل بترب وجهه لله برئ منه. أسماء الفسق. * * * وقوله: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) دليل على أن اسم الفسق واقع على الكفر والمعصية معا، لأنه توثب على الكفر أو على الذنب، فهو متوثب على النهي. فمن توثب على الكفر أو على الذنب فهو متوثب، إذ كان الله - جل وتعالى - قد سوى بين النهي عنهما، وإن جعل أحدهما أغلظ من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 638 صاحبه، وهو في هذا الموضع كفر، لقوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) . فعلم أنه لا يكذب بعذاب النار إلا كافر. وفيه رد على المعتزلة فيما لا يفرقون بين المكذب والمصدق به في الخلود فيه، وهذا من قولهم تحكم مع ما يلزمهم فيه من ثلم العدل الذي يتحذلقون في معرفته. * * * قوله: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) دليل على أن الأئمة يتبعون على الهداية بأمر الله لا بآرائهم، وأن فضل إمامتهم لا تثبت حجة على غيرهم، إذ لم يهدوهم بأمر الله. وأمره كتابه. والله أعلم. وهذا وإن كان في أئمة بني إسرائيل فليس بين أئمتنا وأئمتهم فرق. لأن الله - جل جلاله - لم يجعل لأحد من خلقه أن يقول من تلقاء نفسه شيئا، وإذا لم يجعل له أن يقول فلم يجعل لأحد أن يقتدي به إلا فيما هداه بأمره، فمن كان مميزًا فالتقليد محرم عليه، ومن أعوزه تبصر الحجة فهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 639 كالأعمى يتبع البصير أنجاه أم أهلكه، وليس عليه غيره. ألا ترى أن الله - جل جلاله - لم يلزم الخلق الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والائتمار له والتأسي به إلا بعد ما شهد له بأنه لا ينطق عن الهوى، ولا يبدل من تلقاء نفسه، ويحكم بين الناس بما أراه الله ثم حينئذ قال: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) ، لأنه يهديهم بوحي الله ورسالته، وما وفقه له من عصمته، وليس هذا لأحد بعده وإن كان فاضلاً جليلاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 640 سورة الأحزاب * * * وقوله تعالى: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ) فيه أدلة: فمنها: أن الإنسان يُدعى لأبيه بظاهر فِراش أُمهِ، ويثبت به النسب والميراث، وتجري به الأحكام، وأن الله - جل جلاله - قد تجاوز عما يمكن في الباطن من إحداث الأم. ومنها: أن ظاهر الدعوة علم لا جهل لقوله: (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ) وهم لا يقدرون أن يعلموه إلا بظاهر الفِراش دون حقيقة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 641 العلم. ومنها: أن الإضمار في الكلام جائز وإن استطيع إظهاره، إذ في قوله فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) لا محالة إضمار، كأنه - والله أعلم - فهم إخوانكم. ومنها: أن المولى اسم واقع على أشياء، ويُسمَّى به الأعلى والأسفل. والحر والعبد، والرب والخلق. ذكر الخطأ. * * * وقوله: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) دليل على أن الخطأ مرفوع عن الناس في هذا، وفي الأيمان وغيرها دون مادل عليه القرآن من أنه غير مرفوع مثل قَتْل الخطأ وجَرحِه، وما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 642 يحدث من أفعال المخطين على أموال المسلمين. وقد يكون في الخطأ من الدعوة زوال مال بالميراث، ولكنه مرفوع بنص الآية كما ترى، وكل هذا دليل على إبطال القياس، إذا الخطأ كله لا يجري مجرى واحدا. ولا يكون جميعه هدرا. فكان مجاهدٌ يذهب إلى أن الجناح مرفوع فيما دعوهم إلى غير آبائهم بالتبني قبل النهي. وقد يجوز أن يكون كما قال رحمه الله، ويكون مثل رفع المآثم في نكاح نساء الآباء في الجاهلية، ولكن ليس فيه دليل على أن من دعا بعد النهي مدعواً إلى غير أبيه وهو يرى أنه أبوه حَرَج لعدم طاقته عن إصابة حقيقة أبوته، والحرج لاحِقٌ بمن يدعوه إلى غير أبيه بعد ما عرف أباه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 643 وقوله: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ) دليل على أن ذوي الأرحام أولى بالميراث من المؤمنين والمهاجرين على ما فرض في آي المواريث، وهم أولوا الأرحام المسمون في سورة النساء لا مَن لم يُسم منهم، لأنا لا نعلم أحدا روى في شيء من الأخبار أن المؤمنين والمهاجرين كانوا يرثون ميراث مَن لم يترك من أهل الفرائض المسمين أحدًا، فكانوا يرثون دون من لم يُسم من ذوي الأرحام، ولو كان ميراثهم على ذلك لكان توريث من يورث من ذوي أرحام لم تسم أشبه، ثم كان يحتاج حينئذ إلى نص يفصل ميراثهم كما فصل ميراث المسمين، فأما والتوارث كان بالإسلام والهجرة دون توريث أولي الأرحام المسمين وغير المسمين. فالاعتبار على ميراث من لم يسم منهم بهذه الآية لا وَجْهَ له. وقد ذكرنا تمام الاحتجاج في كتاب الفرائض في شرح النصوص الجزء: 3 ¦ الصفحة: 644 تفسبر سورة الأحزاب * * * قوله: (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا) فأبدل سياق الآية على أن الاستثناء في فعل المعروف واقع على من كان وَليا للميت من المؤمنين والمهاجرين، ويكون المعروف وصية يوصى له حيث نسخ الميراث عنه إلى ذي الرحم. ولكن الحسن وقتادة جميعا قالا: " إن الاستثناء واقع على أقرباء الميت من المشركين يوصى لهم لا حرموا الميراث "، ولا أحفظ عن غيرهما قولاً ولم يجرِ في الآية ذكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 645 المشرك. فالله أعلم كيف هو. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا) رد على من يقول: إن الاسم إذا وقع على شيء لم يجز أن يقع على غيره إلا أن يشبهه بجميع صفاته. وهذه الملائكة والمشركون من الأحزاب قد شملهما معا اسم الجنود على اختلاف صفاتهما، فكيف لا تتفق الأسماء وتختلف الصفات، أم ما في اتفاق الشخصية ما يوجب اتفاق صفة الأشخاص لولا جهل الجاهلين. وتعسف المبتدعين. المعتزلة. * * * وقوله تعالى: (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 646 حجة على المعتزلة والقدرية شديدة مسكتة، لذكر إرادة السوء بلفظه. فإن قالوا: لايريد سوءا، إنما مثل فقال: إن أراد، وهو لا يريد. قيل له: فما تنكرون على من يقول لكم: والرحمة أيضاً لم يردها ولكنه مثل، وهذا وذاك جهل. يريد الله بخلقه السوء لا معقب لحكمه، ويريد بهم الرحمة، وهو متفضل بالسوء بعدله، والرحمة بفضله. * * * قوله: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا) وحد (هَلُمً) - والله أعلم - على لغة من يوحده في التثنية والجمع. كما يوحده في الواحد. قوله: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ) إلى قوله: (وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 647 حجة على المرجئة في زيادة الإيمان. * * * قوله: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُ لُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) حجة على المعتزلة في باب الأعمال التي يضيفها تارة إلى نفسه، وتارة إلى عباده، ولا يكون أحدهما مؤثرا في صاحبه من حيث يذهبون إليه، ألا تراه يقول: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ) ، وقال: (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ) ، ثم قال: (فَرِيقًا تَقْتُلُونَ) ، وقد قال في سورة الأنفال: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 648 وقد مضى هذا المعنى في كثير من فصول هذا الكتاب، وفي بعضه كفاية لنقض قولهم. وإنما تكريرنا إياه على نسق الآيات كما شرطناه ليتبصروه إن وفقوا لفهم، ويعلموا أن الفعل وإن كان مضافا إلى فاعله من الخلق فغير مانعه أن يكون محمولا عليه. وعامله بتيسير خالقه له جل جلاله. ذكر الرافضة. * * * وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا) إلى قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) . حجة على الرافضة فيما ينتقصون أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - من جهتين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 649 إحداهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأ بها مع حداثة سِنها. ْوأمر أن تستشير أبويها فاختارت الله ورسوله قبل استشارتهما. فاستن بها سائر أزواجه، فسعدت بفضل المبادرة بمثل هذه المنقبة الجليلة، والله يقول: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) ، وقال: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ) . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مَن سَن في الإسلام سنة حسنة " فدل الكتاب والسنة على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 650 أن للمباردين إلى الفضائل والقربات فضل على المتبعين. والثانية: أن الله - جل وتعالى - لم يكذبها فيما اختارت، وعرف صدقها، فأوجب لها ما وعدها من الأجر العظيم فكيف تنتقص امرأة قد صدقها الله - جل وتعالى - في إرادتها الله ورسوله والدار الآخرة. أم أي شيء يضرها مسيرها يوم الجمل، والله - جل وتعالى - قد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 651 ْأوجب لها ما أوجب باختيارها، وكان الله لا محالة عالمًا بأنها ستسير مسيرها فلم ينزل فيها وحي على رسوله - صلى الله عليه وسلم - يحط درجتها، هذا مع ما أنزل فيها في سورة النور من الآيات، وأنها زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجنة، نازلة في الدرجة التي ينزلها معه. إذ محال أن يكون هو في درجة وأزواجه دونه وإن كان له فضل كرامات من الله مشتهرة معهن واتخذوا فيه من جهة الفقه دليلاً على أن الرجل إذا خَير امرأته. فاختارته لم يكن ذلك طلاقا. وقد لخصناه في كتاب الطلاق من شرح النصوص، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. * * * قوله: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) والله أعلم - نساء زمانهن، لأنهن لا يكن أفضل من مريم بنت عمران، فإن مريم إن لم تكن فوقهن فلا تكون دونهن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 652 نفسبر سورة الأحزاب * * * وقوله: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) دليل على أن على المرأة احتراز من كل ما دعا إلى شهوتها، والفتنة عليها. قوله (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 653 حجة في لزوم المرأة بيتها، وترك البراح عنه فيما لا يعنيها. الاختلاف. واختلفوا في: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) فمنهم من قال: هو النياحة. ومنهم من قال: هي المشية بالتكسير والتغنج. كانت نساء الجاهلية يمشين كذلك فنهي أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها، وهذا أشبه. والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 654 قوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) دليل على أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهن داخلات في أهل البيت. ذكر النكاح بلا شهود. * * * وقوله تعالى: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 655 دليل على أن النكاح إذا عقده الولي بلا شهود واقع عند الله، وحلال الوطء به قبل الإشهاد، لأن المراد في شهود النكاح الاحتراز من الحد عند التجاحد، لا أنه باطل عند الله. ألا ترى أن الله - جل جلاله - زوج زينب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا شهود من البشر، وَلا ذكر أنه يشهد ملائكته. وفيه دليل على أن أولياء النساء وكلاء الله في تزويجهن، لأنهن إماؤه فإذا ولي الإنكاح هو - جل وعز - لم يكن لوكلائه معه وِلاية. ألا ترى أن زينب لم يزوجها أولياؤها من المخلوقين، وكانت تفخر بذلك على أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول: " زوجكن أولياؤكن. وزوجني رب العرش ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 656 المتبنى. * * * قوله: (لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا) دليل على أن الحلائل يحرمن إذا كُن تحت أبناء الأصلاب وأن المتبنى - وإن سمي ابنا - فنساؤه حِل لمتبنيه، وفي هذا تأكيد لما قلناه في سورة النساء من أن حليلة السبط حرام على الجد، لأنه ابنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 657 وإن كان منحطًا بدرجة، لأن معنى قوله: (الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ) وَلَدْتموه لا مَن تبنيتموه. والله أعلم. ذكر أن نبي كل أبو قومه. * * * قوله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ) أي لم يلد زيدا حيث يتبناه، فيكون أباه بالنسب لا أنه ليس له حظ في أبوته التي هي لسائر المؤمنين، فإن كل نبي أبو قومه. وكان ابن عباس وغيره يقرأ: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) - وهو أب لهم - وكذا تأويل قوله: (هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 658 عندهم يذهبون به إلى أنه عنى نساء قومه، لا بناته. لأنه أبوهن. كرامة المؤمن. * * * وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) . دليل على كرامة المؤمنين على الله، أنه حيث أشركهم في صلاته على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ثم خَصَّ نبيه - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 659 بأن أمر المؤمنين بالصلاة عليه، ولم يأمر بعضهم بالصلاة على بعض. وجعله في تشهد الصلاة على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - وضمه إليها آله. فاختلف الناس في آله: فمنهم مَن قال: آله كل تقي من أمته. وفيه حديث مرفوع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 660 ومنهم مَن قال: هم آل علي، وآل عباس، وآل جعفر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 661 وفي ذلك إباحة الصلاة على كل مؤمن، وأنه ليس يضيق على من صلى عليه إذا ذكره، لأنه وإن لم يكن مأمورا به كما أمر في النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يفعل منكرا. بل فعل ما نزل به القرآن. ولعل حديث ابن عباس: " لا ينبغي الصلاة مِن أحد على أحد إلا على النبي - صلى الله عليه وسلم - " وَهْمٌ من الراوي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 662 ذكرالطلاق النكاح. * * * وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ) دليل على أن لا طلاق قبل نكاح، وأن من طلق قبل النكاح فليس بطلاق. وهذا إذا قال لها: إذا تزوجتك فأنت طالق. ولو كان قال لها: إذا تزوجتك فدخلت دار زيد فأنت طالق، طلقت إذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 663 تزوجها بدخول دار زيد، لأن الطلاق حينئذ واقع بعد النكاح بصفة عقدها على نفسه، فوقعت الصفة والمرأة في ملكه. فأكثر ما فيه أنه وصف صفة مجهولة الوقت، وهكذا تكون يمين بصفة، ولا فرق عندي بين من يبتدئ بهذه اليمين والمرأة في ملكه. وبين من يبتد بها وليست له بملك العقد، اليمين على صفة يقع الطلاق بها لا على الطلاق نفسه، وقد يجوز أن يكون كلاهما سواء فلا يقع بواحد منهما طلاق، والله أعلم كيف هو. ذكر العدة. * * * قوله: (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا) دليل على أن للمطلق تحصين المدخول بها إلى انقضاء عدتها، لإضافة العدة إليهم، فعدة المطلقات الآن على ثلاثة معاني، تعبد واستبراء، وحق المطلق في التحصين. وعدة الوفاة بعد الدخول كذلك. فإن كانت قبل الدخول خلا منها مُضِي الاستبراء، وبقي التعبد والتحصين، لئلا يلحق بالميت عارُ رِيبةٍ إن حدثت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 664 ذكر المتعة. * * * وقوله: (فَمَتعُوهُنَّ) منسوخة بآية البقرة، ومقتصر بها إذا طلقت على نصف الصداق دون المتعة، وكذا قال ابن عمر، وابن عباس، وسعيد بن المسيب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 665 وقوله: (وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) يؤكد قول من قال: لا يكون السراح من ألفاظ التصريح، لأن الله قال: (وَسَرِّحُوهُنَّ) بعدما أبانها الطلاق. والتسريح في هذا الموضع إخراجها، لا إيقاع الطلاق عليها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 666 وقوله: (قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) نظير ما مضى في سورة النحل والعنكبوت من جواز الخروج من تمام قصة قبل الفراغ منها، ثم الرجوع إلى إتمامها. ألا ترى أنه بدأ القصة بـ (إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ) إلى أن حال بين تمامها: (قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ) ثم رجع إلى مخاطبته فقال: (لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) . فرق بين النبي، صلى الله عليه وسلم، وبين أُمته في الموهوبة. قوله: وكان بعض التابعين يذهب أن قوله: (قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ) فرق بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين أُمته في الموهوبة حلت له بغير ولي ولا صَداق، ولم تحل لأمُته امرأة إلا بولي وصداق. وأحسبه قتادة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 667 فإن كان كذلك فهو تأكيد لإبطال نكاح الثيب بغير ولي. وأما قوله: " ولا صداق ". فقد قال به غيره أيضا. وأكثر أهل العلم على أنه ينعقد بغير تسمية مهر. فإن توافقا قبل الدخول على شيء، وإلا كان لها صداق مثلها بعد الدخول، وفي القرآن دليل على جوازه وهو موضوع في كتاب الطلاق من شرح النصوص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 668 وقد يجوز أن يكون قوله: " ولا صداق " عنى أن الفروج لا توطأ بغير صداق إلا وَطْءَ النبي - صلى الله عليه وسلم - الموهوبة. * * * قوله: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ) كان الحسن وقتادة يقولان: " هو إباحة للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن لايقسم لنسائه، ويقولان في قوله: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ) أي لا يحزن إذا علمن أنك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 669 تفعل ذلك بهن برخصة الله لك فيهن. ومفارقة الحسن سائر القراء في كسر الألف في: (إِن وَهبَت) . وفتحه لها. كذلك - إن شاء الله - لا يكون ذلك في امرأة واحدة، ولا ترجع: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ) على الموهوبات، ويكون لغيرهن من أزواجه من غير القسم. ولا أحسب قتادة قرأه إلا كذلك أيضاً، لمتابعته له في هذا المعنى، بل قد روي عنه أن الموهوبة نزلت في ميمونة بنت الحارث، خالة ابن عباس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 670 ولا أدري ما وجه هذا من قولهما. فقد أجمع المسلمون إلا ما حكينا عنه، واتفقت الروايات على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة تزويجا، إنما اختلفت في أنه تزوجها حلالاً أو محرماً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 671 وروي أنه جعل أمرها بيد العباس فزوجها منه. وأما القَسْم، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يطاف به محمولاً على نسائه في مرضه حتى حللنه. فلو كان الله عز وجل - قد رخص له في ترك القَسْم لما احتاج إلى تحليلهن، وكان لا يشق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 672 على نفسه، ويكون عند من أحب منهن. وقد روي أن قوله: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا) نزل في سَودة حيث صالحها النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يكون يومها لعائشة - رضي الله عنها - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 673 ولا يطلقها. فلو لم يكن لها حق في القَسْم ما كان لصلحه إياها معنى، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 674 ولا استحال أن يصلح على غير حق، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرع بين نسائه إذا سافر، ولا تخرج امرأة معه بغير قرعة. فلو كان مأذونا له في ترك القَسْم لما احتاج إلى هذا، ولكان سَهم القُرعة إذا خرج لامرأةٍ لا يوجب لها شيئا، ولكان تخيير أم سلمة حين تزوج بها في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 675 التسبيع عندها وعندهن، أو التثليث والدوران بعده - لا وَجه له. فكل هذا يدل على خلاف ما قالا - رضي الله عنهما - ويوجب أن يكون قوله: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ) في الموهوبات على ما قرأت القراءة من كسر، وتكون قرة عَين المرجاة، وزوال الحزن عنها في المتروكات من الواهبات، لا في ترك القَسْم للمتزوجات. * * * وقوله: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ) دليل على أن الاستثناء واقع في ملك اليمين على الإناث دون الذكور. لابتداء الكلام بذكر النساء ثم الاستئناء منهن بهن. وهذا وإن كان في إجماع الأُمة محصلاً - والذكران من مُلْك اليمين معدود وطؤهم في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 676 عداد الفاحشة - كان دليل القرآن معه أقمع لفتنة المفتونين، وأعلى لحجة المعصومين على المرتابين، ومثل هذا قوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) . الكلام مبتدأ بذكر النساء، والاستثناء واقع من ملك اليمين عليهن، فكذلك قوله في سورة المؤمنين، والسائل مثله لا يشك فيه إلا مفتون، مفترى على الله جل وتعالى. * * * وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ) دليل على أن التحين بطعام من لم يُدعَ إليه منهي عنه، وقد أكد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 677 الحديث المروي وصححه: " من دخل إلى طعام لم يُدع إليه دخل سارقا. وخرج مغيراً "، أو " دخل فاسقا، وأكل حراماً ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 678 ذكر مُلكِ يمين المرأة. * * * وقوله تعالى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ) . إلى قوله: (وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) دليل على أن ملك يمين المرأة محرمها، إذ قد جعله - جل وتعالى - في جملة من لا تستتر عنه، ويدخل عليها بغير إذن. وملك اليمين في هذا الموضع جامع الذكور والإناث، فيكون عَبْد المرأة في ذلك مثل أبيها وأخيها، وأمَتها مثل نسائها. ذكر مَنِ انتقص واحدا من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 679 وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) إلى قوله: (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) دليل على أن مَنِ انتقص عَلِئا أو عائشة أو واحدَا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو ذكرهم بغير الجميل فهو ملعون، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا محالة يؤذيه ذلك، وما آذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آذى الله جل وتعالى. وأن من آذى سائرهم من المؤمنين ظالما لهم فقدِ احتملوا بهتانا وإثما مبينا كما قال جل وعز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 680 فيمن حلف على اجتناب مجاورة رجل. * * * وقوله تعالى: (ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) دليل على أن المجاورة واقعة على البلدة كلها، فمن حلف على اجتناب مجاورة رجل وَلا نِية له، حنث إذا جاوره في بلدة، وإنِ اجتنب محلته إلا أن تكون له نِية فيحمل عليها، لأن وقوع المجاورة على جميع البلدة لا يمنع من وقوعه على بعضها إذا قصد الحالف له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 681 النظر إلى العووات عند الحاجة. * * * وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا) . دليل على أن النظر إلى العورات مباح عند الحاجة إلى إمضاء أحكام الله مثل هذا، أو مثل النظر إلى مُؤْتَزر السبي ليقتل مَن أنبت منهم، وعند الشهادة على الزنا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 682 ونظر النساء إلى عذرة الجواري، لأن الله - جل جلاله - لم يكن ليكشف نبيه موسى - صلى الله عليه - لمن آذاه من بني إسرائيل إلا ليقفوا على براءته، ولا يكونوا ملعونين في تلك النظرة الواحدة إلى المبرأ بها، وَلا موسى - صلى الله عليه - يكون مضيعا فرض الاستتار بالمعنى الذي بَرِئ به عند القوم مما رموه به، وكان بعيدا منه وجيهَا عند خالقه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 683 الصدق والطاعة. * * * وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) دليل على أن خير الدنيا والاَخرة جامعا يستنزل بالتقوى، والصدق والطاعة لله - جل وتعالى - وهو نظير قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ، وقوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 684 سورة سبأ فضيلة لأهل العلم. * * * وقوله تعالى: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) فضيلة لأهل العلم، ومدح لمن يعد الاحتجاج بكتاب الله الحق الذي لا يضاهيه حق، ولا تدانيه حجة. * * * قوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 685 نظير ما مضى في سورة المؤمنين في فصل قوله إخبارا عن قوم نوح: (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) مثله سواء. * * * قوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) فيه - والله أعلم - ضمير: وقلنا: يا جبال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 686 قوله: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) يقال في التفسير: ألانه له بغير نار يعمل به ما شاء. * * * وقوله: (أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) دليل على الاكتساب بعمل اليد، والتثبت في العمل، وتقديره وإحكامه. ودليل على إباحة لبس الدروع، والتجارة في السلاح، وأنها لا تكون مؤثرة في التوكل، والفِرار من الأجل، وتكون حِرزًا بين لاَبِسها وبين ما يتقيه من الطعن والجرح، وجُنة من وصول المكاره إلى المكان، والتوكل قائم على حاله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 687 قوله: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ) حجة على المعتزلة والقدرية واضحة. * * * وقوله: (وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) رَد على من يكذب بها، ودليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره يشفع، إذ استثناؤه - تبارك وتعالى - بالإذن في الظاهر عام لا خاص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 688 الجهمية - * * * وقوله: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ) حجة على المعتزلة والجهمية فيما يجحدون من الكلام. وينكرون من الصفات. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إذا تكلم الله بالوحي سمِعَ أهلُ السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم. قالوا: الحق. فيقولون: الحق الحق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 689 وقوله: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 690 نظير ما مضى في سورة طه من جواز المسألة عما السائل أعلم به من المسؤول. * * * قوله: (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قال المفسرون: الحق العدل. (وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) كان قتادة يجعل (مَا) هاهنا بمعنى الجحد، كأنه يقول: إبليس هو الباطل، لا يبدي أحدًا ولا يعيده، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 691 كما يبدي الله الخلق ثم يعيده لخلقه، ثم يبعثه بعد موته. وهو حسن. وقوله، (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) أي بالقرآن. والله أعلم. وهو حجة على من يحيد في الحجج عنه. ولا يجعله إماما يأتم به فيها. وقد تقدم قولنا في نسبة الضلال إلى الإنسان في كثير من فصول هذا الكتاب بما يغني عن إعادته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 692 سورة الملائكة * * * قوله تعالى: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) حجة على المعتزلة والقدرية. * * * قوله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) معرف مَن أغفل عداوته فاغتر بوسواسه واستفزته، وتصورت عنده في صورة النصح، فهذه الآية تعرفه أن الشيطان عدو للإنسان فلا يكون له ناصحا أبدا، بل يوجب عليه اتخاذه عدوا إيجاب فرض. فعلى كل مسلم أن لايسلك مسلك دعائه، لأنه داع إلى السعير كما قال الله. وقوله الحق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 693 قوله: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) حجة على المعتزلة والقدرية. ذكر أن الله في السماء على العرش. قوله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) حجة قاطعة لكل لُبسة على مَن يزعم أن الله بنفسه في الأرض. فكيف يصعد إليه - ويحهم - العمل الصالح وهو مع عامله بزعمهم في الأرض، بل هو في السماء على العرش بلا مِرية ولا شك، وعلمه بكل مكان لا يخلو من علمه مكان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 694 وهذه الآية مع ما فيها من الحجة على هؤلاء حجة على المرجئة فيما يعرون الإيمان من العمل الصالح، وهذا القول نفسه لا يرفعه إلا العمل الصالح كما ترى، فكيف لا يكون من الإيمان، والقول الذي هو عندهم كمال الإيمان لا يرفعه إلا العمل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 695 التماس العز. * * * وقوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) دليل على أن التماس العز لايكون إلا بطاعة الله، وأن ملتمس العز بغيرها لايزداد إلا ذُلاً. ومن الناس من يقول: في العز ضمير العلم، كأنه يقول: مَن كان يريد عِلم العزة. وما قلنا أحسن، والله أعلم. المعتزلة والقدرية. * * * وقوله: (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) حجة على المعتزلة والقدرية خانقة لهم، إذِ الأنثى لا محالة تحمل من حلال وحرام فيقال لهم: أرأيتم علمه في أنثى حملت من حرام، أكان متقدما على الحمل أو حدث بعد الحمل،. فإن قالوا: حدث بعد الحمل، صرحوا بالكفر ووافقوا من قال: إن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 696 الله لا يعلم الشيء إلا بعد حدوثه، وهذا كفر بنفسه، إذِ العلم بالشيء بعد حدوثه يستوي فيه الخلق والخالق، والعالم والجاهل. وإن قالوا: قبل حدوثه. قيل لهم: فكيف استطاع طارح النطفة في رحمها ألا يطرحها، وقد عَلِم الله أنه سيطرحها ويخلق منها خلقًا، بل كان علمها قبل حملها وقد أكد ذلك في قوله: إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير. وفي تفسير قوله: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ) وهذا المولود مُعمَّر أو مُنقص عمره قطع لكل لُبسة في أن خلقه في كتاب، وإذا كان خلقه في كتاب فلا محالة فعل خلقه في كتاب. وفاعله غير قادر على الفرار منه، إذ محال أن يقضي الله خَلْقَ خَلْقٍ في كتابه فلا يخلقه، أو يستطيع أحد دفعه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 697 وفي زعمهم أن الزاني قادر على ترك الفعل الذي حدث منه الخلق إبطال لحكم الله، واضطهادا له وغلبة عليه، ونسبة إليه إيداع كتابه كذبا ومحالا، وما لا يكون ويقدر المخلوق تغييره - جل الله عن ذلك وعلا عنه علوا كبيرًا - وهذا من أكبر حججهم فيما يرون، وأفحش شيء ظاهرًا تشمئز منه أنفس العامة، ومن لا يأوي إلى طائل من علم. وثاقب من فهمهم فترى الجهلة المردة يستفزونها بقولهم الغث الفاحش الهابل اللفظ عندها، أيجمع الله بين الزاني والزانية ثم يعاقبهما عليه. فَلِم نهاهم إذاً عنه، وحدهما عليه. فيتعاظمها هذا الكلام، ولا يدرون ما تحته مما أخرجناه عليهم في خلق المولود، وما قدمنا ذكره في الفصول كلها من أن الفحص عن عدله في ذلك وما ضاهاه مشاركة في الربوبية، وهتك لأستار سره، وخروج من العبودية، ويُنْسِئون ما أثرناه عليهم من مرض الصغار، وخَول العبيد، وعقوبة من لم يعص الجزء: 3 ¦ الصفحة: 698 من ولد آدم ولم يشاركه في أكل الشجرة، وأشباه ذلك مما يجدونه مفرقَا من هذا الكتاب، ومجموعا في كتابنا المجرد بالرد عليهم. الجهمية: * * * قوله: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُ بُورِ (22) حجة على المعتزلة والجهمية، لأنا لا نشك أن الله - جل وتعالى - ضرب هذه الأمثال للكافر والمؤمن وأن الحي هو المؤمن، والميت هو الكافر. فإذا كان المسمع هو الله - جل وعلا - ولا يستطيع ذو سمع أن يسمع بِسَمعه حتى يُسْمِعه الله، وكلاهما من المؤمن والكافر ذو سمع. علمنا أن المؤمن سَمِع بتوفيق الله الموعظة فوعيها سمعه، وأوصلها إلى قلبه بمشيئته في نجاته، والكافر صَمَّ عنها بخذلان الله، وزوال توفيقه عنه فلم تعيها أذنه، ولم يقبلها قلبه لخلوه من مشيئة الله في المؤمن، ودخوله في إضلاله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 699 ذكر العلم. * * * وقوله: (كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) دليل على أن الخشية لا تثبت لأهلها إلا بالعلم، والعلم لا يتكامل لأهله إلا بالفكر في خلق الله، والإيمان بجميل صُنعه وقدرته المحيطة بخلقه، لأنه - جل وعلا - ابتدأ الآية فقال: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا) وذكر الطرائق والغرائب، والناس والأنعام واختلاف ألوانها، ثم قال: (كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) ، فدل على أن العلماء لهم فيما ذكره معتبر وفكر، وتولد خشية مِن قادر هذا فعله وصنعه. الجمع بين الغائب والحاضر في الخبر الواحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 700 وقوله: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا) من أوضح الدليل على إجازة الجمع بين لفظ الغائب والحاضر في الخبر الواحد. ألا تراه قال: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ) ثم قال: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ) ، ولم يقل: فاخرج به. ذكر تلاوة القزان. * * * وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) إلى قوله: (إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) دليل على أن تلاوة القرآن عبادة برأسها، يثاب التالي عليها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 701 وقد ذكر الله الربانيين بتعليم الكتاب ودراسته، فجعل الدراسة مدحًا لهم، فدل على أنها عبادة في صلاة وغير صلاة. وقد حوى الآية من الفائدة أيضاً أن نفقة السر والعلانية معا ممدوحة وأن طاعة تسمى تجارة، وفي إجازة ذلك دليل على أن التجارة في الشرى والبيع أيضًا سميت كذلك، لأنها تنمي المال، وتسوق المنافع والأرباح، فليس لإبطال الشرى والبيع إذ خليا من إعمال اللفظ بهما عند العقد معنى إذا وقع ما باع وأخذ ما اشترى بعد أن يعرف من نهُي في نفس الدفع والأخذ ولا يضره من خلو لفظ الشرى والبيع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 702 وقد بيناه في سورة البقرة. ذكر أن الله يزيد كل عامل على أجرة. * * * قوله تعالى: (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) دليل على أن الله - جل جلاله - يزيد كل عامل على أجره، لأنه ذو فضل، فالعامل فائز بفضلين. أحدهما: بالفضل الأول جعل الحسنة عشرة. والفضل الثاني: ما يزيد على العشرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 703 ولا يجوز أن تكون الزيادة مصروفة إلى التسعة، لأن ذلك إنجاز وعد في * * * قوله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) ، فعشر أمثال العمل أجره، والزيادة تكون بعد الأجر، وكذا قال: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) ، وقال: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) ، وقال: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 704 بشارة لهذه الأمّة. * * * وقوله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا) بشارة كبيرة لهذه الأمة، إذ قد وُعِدوا على اختلاف أحوالهم من الظلم، والقصد، والمسابقة معا بالجنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 705 وكان قتادة والحسن يقولان: " الظالم لنفسه هو المنافق " ولا أدري الجزء: 3 ¦ الصفحة: 706 ما وجهه، فإن المنافق لا حَظ له في الجنة، ولا يكون مصطفى، والله جل وعلا - بدأ الآية بذكر المصطفين، ثم قال: (فمنهم) فالهاء والميم راجعتان على المصطفين لا محالة، والثلاثة الأنواع كلهم مصطفون في حكم الآية، وظاهر التلاوة، وقد قال: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا) فكيف يكون الظالم مع هذا منافقًا. والمنافق مخذول لا مصطفى، وموعده النار بل أسفل دركها. وهذه الآية من أكبر الحجة على المعتزلة في باب الوعيد، وعلى الشراة في باب إعدادهم الذنوب كفرًا. فأما على المعتزلة ففي إدخال الظالم نفسه الجنة مع المقتصد والسابق بالخيرات بإذن الله. وفي نفس إذن الله حجة عليهم أيضًا، لأن الإذن إطلاق لا علم. قد دللنا في غير هذا الموضع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 707 والظالم نفسه في هذه الآية هو لمن تدبره: الذي يموت بغير توبة، لأنه لو كان تاب لكان مع المقتصدين والسابقين لا محالة، إذا التوبة حاطة للذنوب، ومبدلها حسنات والله - جل وتعالى - فَرَق المصطفين في الآية ثلاث فِرق، فلا يجوز أن نردهم إلى فريقين، والتائب راجع بتوبة إلى أحدهما زائل عنه اسم الظلمة لنفسه لا محالة، فالظالم في حكم الآية هو الميت بغير توبة، وليس بمستنكر أن يظلم المصطفى نفسه لجواز الذنوب عليه فكل مذنب ظالم نفسه، فالمصطفى يكون مذنبا ولا يكون منافقا. فنحن الآن نسامح المعتزلة في أن هذا الظالم الداخل في جملة المصطفين يمكن أن لا يدخل الجنة حتى يجازى بظلمه نفسه، وأرجو أن لايفعل الله به؛ أليس قد وُعِدَ الجنة بعد ذلك مع المقتصدين والسابقين. فكيف يخلد إذاً المذنبون مع الكافرين في النار على زعمهم، والله قد وعدهم الجنة دون الكافرين. فهذا واضح لا إشكال فيه إن وقفوا لفهمه، وأضربوا عن اللجاج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 708 والعناد والمكابرة. وأما الحجة على الشراة، فإنهم يعدون صغير الذنب وكبيره كفرا. فلو كان المصطفى لما ظلم نفسه كفر لما دخل الجنة أبدا، تاب أو لم يتب، لأنهم لا يرون التوبة ولايقولون بها. وقد روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه تلا على المنبر هذه الآية ثم قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (سابقنا سابق. ومقتصدنا ناجٍ، وظالمنا مغفور له ". وفي هذا إبطال قول من قال: الظالم هو المنافق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 709 وقول الله - جل وتعالى -: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ) يشيد حديث عمر هذا. * * * قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) يؤكد ما قلناه، ويُثِبهم عن خطأ قولهم، لأنهم لا يسمون المذنب وإن مات بغير توبة كافرا، والله جعل الخلود في النار للكفار كما ترى. وقال: (كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) ولم يقل: كل مذنب، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 711 فليت شعري مَن المغفور والمتفضل عليه إذاً، وما معنى تسمية الله نفسه غفورا وعفوا إذا كان الكافر يخلد في النار، والمذنب الميت بغير توبة يخلد، والتائب محسن لا سبيل عليه مبدل سيئاته حسنات لا يدخل النار عندهم بَتة، ولا يقع عليه اسم العفو عنه، ولا المغفرة له، إذا المغفرة لا تكون إلا لذنب وجناية، والعفو لا يكون إلا عنها، والتائب قد لقي الله بريئَا منها، نقيا مِن رسمهما، قد طهرته التوبة وأعادتهما به حسنات، يستوجب عليهما الكرامات. وليس هناك بزعمهم من إذا دخل النار خرج منها بعفوه ومغفرته، أو لا يدخلها وإنِ استوجبها بتفضله ورحمته، ورأفته وإحسانه، فأرى على زعمهم قد بطل كثير من أسامي الله، وعادت عَواري - ويلهم - لا فائدة فيها مثل العفو والغفور، والرحيم والرءوف، والمحسن، وهذا خروج من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 712 الإسلام، ودخول فى الكفر، فلو تدبروه باتقاء وخشية، وإضراب عن العصبية، ونصرة الباطل، والمحاماة عن الأنفة من الرجوع إلى الحق. لعلموا أن ليس دون ما قلناه التباس يمنع، وأن دونه من البيان لمن أراد الحق مقنع. فإن قالوا: معنى العفو، أنه يعفو عن المسيء في الدنيا، فلا يعاجله بالعقو بة. والغفور لأنه يستره في الدنيا فلا يفضحه. والرحيم يرحم الطفل والبهائم، ويرأف بهم. والمحسن يحسن إليهم في الدنيا. أفيستحيل على من يفعل هذا في الدنيا بعبيده أن يفعل بهم في الآخرة مثله. فإن قالوا: يستحيل، كفروا وكاشفوا كافة الأمُة بالخلاف وإن قالوا: يجوز أن يفعل ذلك بهم في الآخرة كما فعل بهم في الدنيا. قيل لهم: فمن ْالذي يغفر له في الآخرة، أو يعفو عنه أو يرحمه. وأهل الجنة فلا، أغناهم بنعيمه عنها، وأهل الكبائر مع الكفرة مخلدون لاَ حَظ لهم بزعمهمْ، وأصحاب الأعراف ليسوا من هؤلاء ولا أولئك، إذ ليسوا في جَنة وَلاَ نار، وليس هناك فرقة جانية محتاجة إلى المغفرة والعفو. هل تكون - ويلكم - إلا أصحاب الكبائر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 713 والمذنبين الميتين بغير توبة، الذين ظلمتموهم، وافتريتم على الله فيهم. فخلدتموهم مع الكفار مِن عَبدَة الأوثان والمتخذين مع الله، إذ كان أهل الجنة بجنتهم مستغنين، والكفار بخلودهم في النار آيسين، وأصحاب الأعراف في الجنة طامعين، ومن النار فرقين. فإن قالوا هم أصحاب الأعراف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 714 قيل لهم: أليسوا هم مذنبون، وقد زعمتم أن المذنب يخلد في النار مع المجرم من الكفار. فإن قالوا: يخلد أصحاب الكبائر، ويغفر لأصحاب الصغائر. تحكموا تحكما ثانيا، وطولبوا بإقامة الدليل عليه، فإن احتجوا بقوله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) . قيل: هؤلاء قوم لا يدخلون النار بَتة، لأن سيئاتهم تكفر عنهم بمصائب الدنيا، فيلقون الله ولا خطيئة عليهم، وأصحاب الكبائر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 715 مع الله - جل وعلا - في منزلتين، إما أن يجود عليهم فلا يدخلون النار بَتة لقوله: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) ، ولقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) . وإما أن يدخلهم النار ثم ينجيهم لقوله: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 716 على ما بيناه ولخصناه في سورة مريم. ثم إنهم لو طولبوا بتسمية الكبائر ما وفوا بها حق الوفاء، لحجج الكتاب والسنة والإجماع. إذ كل ما نهى الله - جل وعلا - عنه كبير، وإن كان عند جانيه صغيراً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 717 سورة يس المعتزلة. * * * وقوله تعالى: (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) حجة على المعتزلة والقدرية، وهو القول الذي قال - والله أعلم -: (وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) . وقال على إثره ما أزال 1451/ أ، به كل ريب، وكشف كل لُبسة فقال: (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) . أفليس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 718 قد أخبر نصا أنه حال بينهم وبين الإيمان والجَنة بهذه الموانع التي ذكرها. وهل ترك متعلقا للقوم بعد هذا لولا جهلهم ومكابرتهم. ثم أكدهم بتأكيدِ ثانِ فقال: وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) . الإيمان. * * * وقوله تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) . حجة عليهم، إذا الإيمان والكفر، والخير والشر شيء كله، فإذا كان محصى في كتابه قبل الفعل، فهل يجري الفعل - ويحهم - إلا عليه. ذكر الشهيد. وفي قوله: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 719 دليل على أن الشهيد يدخل الجنة قبل يوم القيامة لأنه حي يتكلم كما ترى، ومثل هذا قوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) . فإن قال قائل: فَمَالَك قلت في سورة الملائكة عند قوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) ، إذ ناقضت المعتزلة في باب الوعيد والتائب مستغن بتوبته عن العفو والمغفرة، والله تعالى يقول في حبيب النجار كما ترى إخبارا عنه، وقد مات محسنا شهيدا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 720 قيل: إنما قلته هناك على وجه المناقضة، ليتبين للقوم خطأ مذهبهم في الوعيد، إذ هم يَرون العقوبات والكرامات معا باكتساب العبيد محضا لا يشوبه تفضل على محسن، وَلا قضاء على مجرم، فأريتهم على قياد مذهبهم ما هدم بنيانهم الذي بنوه في الوعيد، وفي هذا معا على الباطل، ليكونوا على يقين من كسر قولهم، وفساد نحلتهم، فأما نحن فلا ننكر أن الملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين محتاجون إلى فضل رحمة الله لا ينجي أحدا منهم عمله إلا أن يتغمدهم الله بفضله ورحمته، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكيف تنجيهم أعمالهم ويدخلون الجنة بها وحدها، وهي لو قِيست بنعمة واحدة من نِعم الله عليهم في الدنيا ما وَفت، فكيف بجميع نعمه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 721 وما لا يحصى منها، وكل محتاج إلى مغفرته وتفضله، وإن حسن عمله. فإن قيل: فما معنى قوله: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) . وقوله في غير موضع: (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) . قيل: هذا زيادة فضل منه عز وجل، وتثنية كرم وجود أن يشكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 722 لهم ما أنهضهم إليه، ويثني عليهم بما وفقه لهم، ويسره عليهم حتى فعلوه. ألا تراه يقول: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ) . وقد قال: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) فأثنى عليهم بفعل حقيقته منه، وبقوته وعونه فأضاف إليهم في حال، وكتب لهم به عملاً صالحًا، وكل هذا رد على المعتزلة والقدرية في أن الفعل وإن نسب إلى فاعله فحقيقته من عند خالقه، وما يثيب المحسن عليه فضل، وما يعاقب المسيء عدل. ولم، وكيف، منقطعان في الحالين معًا، إذ ليس للعبد أن يعترض على خالقه في أحكامه، والخالق يفعل ما لا يبلغه علم عبيده، وعليهم التسليم به على ما تصرفت أحكامه في أفهامهم، وعقولهم الناقصة ولذلك - والله أعلم - قال: (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) . * * * وقوله: (وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) (الهاء) - والله أعلم - راجعة على جنس الثمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 723 (وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) أي ما غرسوا وزرعوا - والله أعلم - ومنهم من يجعل (ما) فيما عملته أيديهم جحدا، بمعنى أنهم لم يعملوه في الحقيقة هم. وإن باشروه بأيديهم، بل الله عامله إذ هو مخرجه من العدم إلى الوجود ويحتجون بالآية التي بعدها: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا) . * * * وقوله: (أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) نظير ما مضى في سورة الأنعام عند قوله: (وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 724 سورة الصافات * * * قوله تعالى: (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) حجة على المعتزلة والجهمية، ألا ترى إلى مخاطبة هذا لِقرينه الذي كان حريصا على إغوائه في الدنيا بما يقول له: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) . فأعلمه أنه لم ينجُ مما كان يدعوه إليه قرينه، ويزينه له إلا بنعمة ربه لا بطاقته واستطاعة نفسه. المعتزلة. وقوله تعالى: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) حجة على المعتزلة والقدرية، ومعنى هذه الحجة أن الظالمين لما ذكرت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 727 شجرة الزقوم في سورة بني إسرائيل في قوله: (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) افتتن بذكرها الظالمون فقالوا: " يزعم محمد أن في النار شجرة، والنار تحرق الشجر، وتأكله "، وكان نزول بني إسرائيل قبل نزول الصافات، وكلاهما مكيتان، فقال نصا كما ترى في هذه السورة: (إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) ، إذ قولهم لا محالة في الشجرة تكذيب في القرآن ونسبة الرب إلى النسيان. وهذا من أكفر الكفر الذي ازدادوه إلى كفرهم، فليعدوا الجعل كيف شاؤوا في هذا الموضع فإنه حجة عليهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 728 وقد دللت إلى الفرق بين الفتنة والفتون بما يغني عن إعادته في هذا الموضع التقليد. * * * وقوله: (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) ذم للتقليد كما ترى، ولسنا نريد بهذا القول: أن تقليد العلماء في العلم كتقليد هؤلاء آباءهم جميع جهاته، ولكنا ننبه المقلدين أن من لهى عن طلب الحجة والفحص عن الأشياء، وبذل الجهد في الاستقصاء في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 729 أمر الدين، وعول على التقليد أداه إلى ما لا تحمد عاقبته، ولا يرتضى طريقه، كما أدى هؤلاء حين لهوا عن آيات الرسل، وما أتوهم به من الحق عن ربهم، فظنوا أن آباءهم أصدق من رسلهم، وأعرف بمواضع الحجة من أنفسهم. المعتزلة. * * * وقوله: (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) حجة على المعتزلة في خلق الأفعال، لأن الله - جل جلاله - لم يخلق الصنم صنما منحوتا صورة كما خلق سائر الصور، والقوم لم يعبدوا ما نَحتوا منه الصنم كهيئة ما خلقه الله. فكيف يجوز أن يكذب عليهم إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - مع نبوته وخلته، فيوبخهم على ما لم يفعلوا. إذا القوم لم يعبدوا حجرا، ولا خشبا قبل النحت، وإنما وبخهم على ما فعلوا، وفعلهم في العبادة واقع على صورة الصنم لا على الشيء الذي نحت منه الصنم، فليس يخلو قوله: (وَمَا تَعمَلُونَ) من أن يكون واقعا على نص النحت وهو عمل، أو عليه وعلى غيره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 730 من الأعمال. وعلى ما وقع من هذين فالحجة ظاهرة عليهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 731 وقوله: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) حجة عليهم في تبري إبراهيم - صلى الله عليه - من الهداية والاستهداء من ربه. المعتزلة: * * * وقوله: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) دليل على أن رؤيا الأنبياء حَق، يعلمون به كما يعلمون بالرسالة. ويثبت به الحجة على الناس ثبوتها بالرسالة. وقوله إخبارًا عن الغلام: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 732 حجة على المعتزلة والقدرية، ألا ترى أن الغلام كيف استثنى في صبره عِلْما منه بأنه غير مالك له، وأن الله - جل ئناؤه - هو الذي يصبره وكذا قال الله لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ) فيسأل الصبر، إنه غير مملوك ولا مستطاع إلا بالله، وقد أمر الله به الناس كافة فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا) ، أفيجوز لأحد أن يقول: أمر الله المؤمنين بشيء قد أخبر أنهم لا يستطيعونه إلا به، وذلك ظلم منه كما يزعمون - ويلهم - أن المدعي على الله - جل جلاله - بقضاء المعصية على من أمره بتركها مجوره. أَوَلا يعتبرون أن الأعمال كلها أسوة الصبر قد أمر الله المأمورين بجميعها، وطاقتهم فيها معا طاقة واحدة لا يقدرون على شيء منها إلا به، كما لا يقدرون على الصبر إلا به، والله - جل وتعالى - عادل فيما أمرهم، ومتفضل على من أعانه عليه، وغير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 733 جائز على من حجب عنه المعونة ثم عاقبه على الجناية، ونسبها إليه وسماه بها ظالما، ونفسه عادلا، وكل ذلك حكم منتظم وخبر صادق، وعلم كيفيته وكيفية صدقه محجوب عمن هو عبد ذليل بالعبودية جاهل بكل ما لم يعلم. ألا ترى إلى قول الملائكة: (قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا) ، وهذا علم لم يُعلِّمه اللهُ بشرًا ولا مَلَكاً، بل ألزم الجميع أن يؤمنوا بعدله عرفوه أم لم يعرفوه، كما ألزمهم سائر الفرائض ليكونوا عبيدا مقهورين مؤتمرين غير مقحمين على ما لم يطلعوا عليه من سره في قضائه وقدره. وفيما أخبر عن الغلام أيضاً دليل على الاستثناء مقدما ومؤخرا. استثناء محسوب لمستثنيه، فهو هاهنا مقدم، وفي قوله: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) مؤخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 734 وقوله تعالى: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) . دليل على أن كلام الله غير مخلوق. وفيه دليل على أنه رأى في المنام أنه يقدمه للذبح لا أنه يذبحه، إذ لو كان رأى ذبحه ما صدق رؤياه بالتقديم للذبح، فيكون قوله: (أَني أَذبحكَ) أسوة سائر ما ضاهاه في القرآن على سعة اللسان مثل قوله: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ، فإنما هو مقاربة الأجل - وهذا مقاربة الذبح. والله أعلم كيف هو. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 735 وفي قوله: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) تأكيد لما قلنا، والبلاء في هذا الموضع الاختبار - والله أعلم - ونحر الولد من أشد الاختبار وأثبته، فوجد الخليل وابنه معا سمحين به متبعين رضا مختبرهما - جل وعلا -. قوله: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) دليل على أن الذبيح إسماعيل، وكان أبو الخطاب قتادة بن دعامة يوافق من قال: هو إسحاق، ويزعم أن الله جعله نَبيا جزاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 736 لاستسلامه للذبح. وليس عندي في هذا معتبر، لأن الغلام المفدا من الذبح قد كان استحق النبوة بنبوة إبراهيم قبل ابتلائه بالذبح، بل أدل ما قال: إن الله جعله نبيا لِيُقر عَيَن إبراهيم - صلى الله عليه - به جزاء له على ما صبر، وَوَطن نفسه على ذبح إسماعيل - صلى الله عليه - لأن البشارة بإسحاق كانت بعد أن فدي الغلام بالكبش، فلو كان المفدى إسحاق لكان: وبشرناه نبيا. والله أعلم كيف هو مع أن قول الرجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - " يا ابن الذبيحين " وترك إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 737 يؤيده. والخبر وإن كان في إسناده بعض المقال فشهرته واستفاضته تؤيده وقوله في موسى وهارون: (وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 738 حجة على المعتزلة. ذكر القول فى عمل السىء. * * * وقوله تعالى: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) دليل على أن العمل السييء لا يعدِم ما تقدمه من الصالح، وأن المرء يحفظ صالح عمله، وينجو به من المهلكات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 739 وفيه دليل على أن المسلم وإن عُوقِب بجنايته لا يخلد بها في العذاب. وأن الصالي بالخلود في عذاب جنايته هو الكافر دون المسلم، وفي ذلك دحض الحجة على المعتزلة في باب الوعيد بَينا لمن تدبره. * * * قوله: (فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) كان الحسن البصري - رحمه الله - يقول: " يعني: يا بني إبليس. إنكم لن تستطيعوا أن تُضِلوا أحدا إلا مَن كان في علم الله أن يَصلَى الجحيم ". وهو حَسَن من قوله، وبراءة مما رُمي به من القدر، وحجة على من يحسب أنه منهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 740 وقوله: (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) فيها إضمار - والله أعلم - كانت تقول الملائكة: وإنا لنحن الصافون، لأنه لم يجرِ لهم ذكر قبل هذا إلا في قوله: (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) ، إلى قوله: (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) . فيحتمل أن يكون معنى هذا الفصل أن يقول: كيف تكون الملائكة أولادَ الله، وهم مقرون بأنهم صافون والمسبحون، يفعلون فِعل العبيد، ولو كانوا أولادا ما كانوا عبيدا. فيكون حينئذ كقوله: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) تكذيبَا لمنِ ادعى له ولدا، وإذا كان ذلك كذلك كان أيضَا حجة في أن الابن يعتق على الأب إذا مَلَكه، إذ محال أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 741 يجتمع على نفس واحدة بنوة وعبودة لشخص في حكم التلاوة. وكان عكرمة يقول في قوله: (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا) قال: " جعلوا بنات سراة الجِن بنات الله - تبارك وتعالى - ". فكأنه يقول: كيف تكون بين الجِنة وبين الله نَسَب. وهم عالمون بانهم محضرون في عذابه، فلو كانوا أبناء صرف عنهم عذابه. والله أعلم بكل ما أراد من ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 742 المعتزلة والقدرية. * * * قوله: (وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) حجة على المعتزلة والقدرية، إذ لو كانوا مِن مَالكي أنفسهم. متصرفين في استطاعتها على نحو ما يذهبون إليه لآمنوا بمجيئهم ذكر أوليهم فلا يعتبرون أن مَن تمَنى شيئَا لشيء فأعطيه وهو لا يشك في الوصول إليه بعد إعطائه مُنَاه، ثم لم يصل إليه أن هناك حِرمان أقعده عنه، وَفَوات قَسْم لم يقسم، ولا يجوز صرف كفرهم في هذا الموضع إلى الجحود، لأن الجاحد لا يتمنى الأماني بل يُصر على العِناد في العيان والبلاغ الذي يزيل الريب عما قلناه، وتحقق ما احتباناه فانتزعناه. قوله إخبارا عن قوم النار (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) ثم قال: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 743 فهل بعد معاينة أهوال الموت والحشر والقيامة والنار ارتياب يصد المرء عن الإيمان، لولا زوال استطاعة عن شيء لم يُقْسَم له، ولم يُمتن به عليه بل حِيل بينه وبين الوصول إليه. * * * وقوله: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) حجة عليهم واضحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 744 سورة ص قوله عز وجل: (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا) رذ على من قال: إن الله سبحانه بنفسه في الأرض. ذكر أن المؤمن يكون مسخرًا وإن كان موفقًا. (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) رد على مَن قال: إن المؤمن لا يكون مسخرا، إنما يكون موفقا والمؤمن وإن كان موفقا فليست تمتنع اللغة أن يكون مسخرا للخير، ألا ترى أن الجبال والطير مسخران في هذه الآية للتسبيح مع داود - صلى الله عليه - والتسبيح طاعة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 746 فلذلك (1) قوله: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ) . وهم دائبون في طاعة، يسيرون في الفلك ليلا ونهارًا. فالسخرة: اسم موضوع لحمل الإنسان على شيء مكره. فمن أُكره على الخير، أو على الشر فهو مسخر، أي محمول عليه وإن لم يشتهيه.. والتسبيح يقع على الصلاة وعلى التنزيه معا، فقد يجوز أن يكون داود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 747 - صلى الله عليه وسلم - كان مع تنزيهه لله عن السوء يصلي الضحى، والطير والجبال ساعدون على التنزيه دون الصلاة، وذلك أنه رُوي عن ابن عباس أنه قال: " كنت أَمرُّ بهذه الآية: (بِالعشي والإشراق) فلا أدري ما الإشراق، حتى حدثتني أم هانئ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صَلى يوم الفتح الضحى ثماني ركعات. وقال: " هذه صلاة الإشراق " الجزء: 3 ¦ الصفحة: 748 وقوله: (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ) اسم الخصم واقع على الواحد والجماعة، فقد يحتمل أن يكون تسور عليه من أكثر من مَلَكين، وخاطبه ملكان، لأنه قال: (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ) ، و (إِذْ دَخَلُوا) ، ثم قال: (خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ) ، و (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ) ، ويقال: إنهما كانا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 749 جبريل وميكائيل - صلى الله عليهما - لأن الله آخى بينهما في ْالسماء، ويحققه قوله: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ) . وفي قوله: (تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ) دليل واضح غير مشكل على إباحة المعاريض، فإنها غير معدودة في عداد الكذب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 750 وقد قيل: إن النعجة ليست بكناية عن المرأة بل نفس المرأة تُسمى نعجة كما قال عنترة يا شاة ما قنص بمن حلت له حرمت عليَّ وليتها لم تحرم وهذا وإن كان كذلك فليس يمنع من أن يكون الخطاب حجة في جواز المعاريض، لأن الملَكَين لم يكن لهما نعاج النساء، وَلاَ نعاج الغنم. وقد قال مخاطبَا له، (وَلىَ) كما قال، ولم يكن لهما في الحقيقة. ولكنهما أرادا تنبيه داود - صلى الله عليه - على خطيئة فانتبهوا لها. (وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 751 وفي قوله: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) دليل على أن العرب وإن سمتِ النساء بالنعاج، فهي في هذا الموضع نعاج الغنم، لأن الخلطاء لا يكونون في النساء إنما يكونون في الغنم. وفي قولهما له: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) دليل على أن الخصوم إذا خاطبوا الحاكم بمثله، وقالوا: اعدل في حكمك، ولا تجر علينا لم يكن ذلك منهما سوء أدب، ولا يجاز للحاكم أن يحد عليهما ولا يعاقبهما. فإن قيل: أفليس قد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على الرجل الذي قام عليه وهو يقسم قسما فأمره بالعدل، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 752 قيل: إنما أنكر عليه قوله: " فإنك لم تعدل ". ولو قال له: اعدل وسكت ما أنكر عليه، لأن الأمر بالعدل بترك الحيف أمر بالمعروف وكلام حق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 753 وقوله: فإنك لم تعدل للنبي - صلى الله عليه وسلم - منكر، بل كفر لمن تعمده. وهذان الملكان خاطبا خليفة الله داود - صلى الله عليه - وللخصوم بعدهما قدوة بهما، وللحكام قدوة بداود - صلى الله عليه. وفي إطباق القراء وهجاء مصاحف الأمصار على: (قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) سوى الضحاك بن مزاحم فإنه قرأ: (قُل رَبي أحْكَمُ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 754 قطع من كل لبسة في أن ذلك جائز، لأن الله - جل جلاله - لا يحكم إلا بالحق وقد. . . الحكم بالحق كما ترى. * * * وقوله: (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ) الظن بمعنى العلم - والله أعلم - أي علم داود. والدليل عليه استغفاره وتوبته، لأن بالشك لا يتحقق الذنب. فللتائبين بعده أن يقتدوا به - صلى الله عليه - في التوبة، فيستغفروا خارين بين يدي ربهم في السجود، لأنه أجدر بالغفران لصاحبه إذا تذلل بالسجود لخالقه. * * * قوله: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) حجة على المعتزلة، ألا تراه - جل جلاله - بعد أن أخبر بالإضلال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 755 عن نفسه، وعن عَدوه الشيطان، أخبر به في هذا الموضع عن الهوى وأخبر بعد الهوى عمن له الهوى بأنه يضل هو عن الهوى. فأي شيء يلتمس أوضح من هذا، وهل يكون كل من أخبر عنه بذلك إلا تَبعا له، إذ لا يجوز بتة أن يجعل تبعا لهم، فقد بَان كل البيان أن الضلال مقضي به على صاحبه أضيف إليه أو إلى غيره. * * * قوله: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) حجة لمن يجعل القرآن نصب حججه في أحكام إسلامه، وشرائع دينه وانتزاعاته في جميع علومه، فمن تدبر آياته أدته إلى حقائق الأحكام. وتذكر أولي الألباب لا يكون إلا به، وكذا قال: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) ، ولهما أشباه في القرآن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 756 قو له: (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ) دليل على أشياء. فمنها: أن الولد من هِبة الله لأبيه، فإذا كان صالحا لم يكن عليه فِتنة. ومنها: الاستغناء بأجزاء الكلام عن أوله بما يدل عليه سياقه، لأنه لم يذكر فوات الذكر له قبل الإخبار عن سليمان بقوله، ومعاقبة نفسه. ومنها: الاستغناء بالإشارة إلى المعنى في الأوقات عن اللفظ. لقوله: (حَتَّى تَوَارَت بِاَلحجَابِ) ولم يجر للشمس ذكر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 757 ومنها: إجازة التكرير والتأكيد مع ذلك تارة وتارة (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) ومنها: أن الصلاة يقال لها: ذكر كما هي، وفيها أفعال. ومنها أن هذه الصلاة كانت صلاة العصر، لذكره العشي، وتواري الشمس بالحجاب بعده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 758 ومنها: أن النفس تعاقب على اشتغالها بالدنيا عن الآخرة، إذ فعل سليمان - عليه السلام - في الجياد عقوبة لنفسه، وحملها على ما كرهته من فوات ما أحبته ونبي الله سليمان - عليه السلام - قدوة مَنِ اقتدى به، وقد اقتدى به عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حيث خرج إلى أرضِ له، ففاتته صلاة العصر فتصدق بها. وقيمتها مائة ألف. ومنها: أن أكل الخيل جائز، إذ لا يجوز على نبي الله سليمان في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 759 منزلته من الله أن يعاقب نفسه تقربا إلى الله في شيء يعود ظلمه على بهيمة أو حيوان إلا وتلك البهيمة تمسح بالسوق والأعناق مجعولة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 760 للمساكين يأكلونها، فتكون زيادة في قربته، ولا تكون إفاتة نفسها إلا منفعة لا عبثا وظلما. ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من قتل عصفورًا عبثًا عَجَّ إلى الله - تبارك وتعالى - فقالت: يا رب إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني لمنفعة ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 761 ونهى عن صبر البهائم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 762 وأن تتخذ شيئا فيه الروح غرضَا، لأن الله - جل جلاله - لم يبح قتل الروحانيين من غير الناس إلا ما ذبح لمأكلة مما أباح لحَمه، أو كان مؤذيا فيقتل مثل الحية، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور، وأشباه ذلك مما أباح قتله في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 763 فكل هذا دليل على أن سليمان - صلى الله عليه - وإن عاقب نفسه بقتل جياده فلم يقتلها إلا لمنفعة المساكين ومأكلهم. ومنها: أن المذبوح إذا أبين رأسه جاز أكله، ولم يكن مكروها في الذبائح، لأنه روي أن سليمان - عليه السلام - ضرب أعناقها بعدما عقر سُوقها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 764 ومعنى عَقْر السُوق - والله أعلم - كمعنى الإشعار في البدن في شريعتنا ليدل بها على أنها مجعولة شعائر تذبح لله، فكأنه مسح سوقها ليدل بها على أنها مجعولة لله. * * * قوله: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ) دليل على جواز ضرب النساء فيما دعا إلى صلاحهن وأدبهن. وأوبهن إلى الله - جل وتعالى - لأن امرأة أيوب - صلى الله عليه - كان لقنها إبليس شيئا تُشير به على أيوب، وأريها أن شفاءه من بلائه في ذلك، فكان قبولها ذلك منه، ومشورتها به على أيوب معصية. فحلف أن يضربها عليه مائة جلدة. وفي هذا تأكيد قول أهل الشام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 765 فيما رأوا التعزير مائة. وقد أباح الله ضرب الناشز في كتابه، ونشوزها معصية. فللزوج أن يضربها على كل ما كان معصية منها، وأذى عليه. فأما ما آذاه مما ليس بمعصية منها فليس له أن يضربها، بل ينهاها بلسانه نهيا، ولا يفضي إلى الضرب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 766 وفي براءة أيوب - صلى الله عليه، - من يمينه وبِرّه فيها بإعمال الضِغث مرة واحدة دليل واضح، وحجة لمنِ يقول: الأيمان على الأسماء ليس على المعاني، لإحاطة العلم بأن ممُاسة شماريخ الضِغث لا يؤلم المضروب كما يؤلمه تفريق عدد الضرب عليه. وأيوب - عليه السلام - لا محالة حين حلف عليها قَصد لضرب مفرقٍ يُعدُّ عدَّا واحدًا بعد آخر. إذ محال أن يكون عَرَف الضِغث قبل أن يأمره الله به، وكذا ضَرْب النبي - صلى الله عليه وسلم - الزاني النّضْو الخلق بِعثكال النخل ضربة واحدة بما فيه مائة شمراخ، وقد أمر الله بجلد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 767 مائة، فهو يؤكد هذا. وكان وكيع بن الجراح يفتي فيمن حلف أن يضرب رجلا ضربة بالسيف أن يضربه بعرضه، فيخرج به من يمينه، وقصد الحالف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 768 لم يكن للعرض، فهذا حجة له، لأن اسم الضرب في الظاهر شامل لما كان بالعرض والحد، فيخرج من هذا أن الحالف على ترك لبس ما غزلته امرأته، إذا باعه واشترى بثمنه غيره فلبسه لم يحنث. وما ضاهى هذا من أيمان الحالفين. * * * وقوله: (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) حجة على المعتزلة والقدرية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 769 سورة الزمر * * * قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) فيه ضمير " يقولون "، أو " قالوا " وما أشبهه، والله أعلم. * * * قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) دليل على أن المؤمن هداه الله إلى إيمانه. وهو حجة على المعتزلة في أشياء: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 فمنها: ما يزعمون: أن الله - جل جلاله - ليس له في فعل العبد صنع بمعونة ولا غيرها، وقد أخبر - نصًّا ها هنا - أن الكافر محتاج إلى هداية الله إيَّاه - والمؤمن به اهتدى. ومنها: ما يلزمهم في ادعاء العدل - الذي لا يعقلونه - من مطالبة الكافر بالإيمان، وعقوبته على الكفر، وليس يقدر على ما أمر به إلا بهداية آمره، كما ترى. ومنها: يزعمون: أن إخراج أهل الكبائر من النار لا يجوز على الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 من جهة أنه خُلْف، وقد قال - نصًّا ها هنا -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) وقد هدى من الكفار من لا يحُصى. أفليس بينًا - لمن تدبره - أن الموعَد بالعقوبة، إذا تركت له فهو من تاركه كرم، لا خلف وأن من قال: لا يهديه من الكفار، والكذابين، إما أن يكون خصوصًا في قوم بأعيانهم، حتم أن لا يهديهم، لما سبق في قضائه من شقوتهم، أو يكون بمعنى لا يهديهم طريق الجنة، إذا ماتوا على كفرهم وكذبهم، كما قال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ) . فهو لمن مات على شركه. * * * وقوله: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) . لمن تاب في حياته. وأيهما كان - من هذين المعنيين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 - فهو حجة عليهم، إذ توهم معنًى سواهما كفرٌ صراحٌ لا التباس فيه. * * * قوله: (لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) . نظير ما مضى من قوله: (قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) . هو حجة فيما نمثله - للمخالفين - في الاحتجاج عليهم. * * * قوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) دليل على أن الله - جل جلاله - خلق ذرية آدم في صلبه، مودعين على صور الذر، كما روي في الخبر، قبل خلق حواء، لأن " ثم " الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 حرف يستأنف به الكلام، ويقطع الأول عن الآخر. * * * قوله: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) دليل على أنها منزلة من الجنة. ويؤيده حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الماعزة: " امسحوا رُغامها فإنها من دواب الجنة ". فإن قيل: أليس قد رُوي عنه في الإبل: " فإنها جنٌّ، من جنٍّ خُلقت ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 قيل: وما في ذاك ما يمنع أن تكون من دواب الجنة، كأن الجن محرمٌ عليهم دخول الجنة؟! أليس مسلمو الجن يدخلونها،. وما ينكر أن يكون من الجنِّ من كان في الجنة، فأهبط إلى الأرض، كما أهبط آدم. أليس إبليس رأس الجن وأصلهم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 وكان في الجنة، فأهبط مع آدم إلى الأرض، قال الله - تبارك وتعالى -: (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ) ، قال: (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) . * * * قوله: (وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) آية يتعلق بها المعتزلة والقدرية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 ويُغالطون بها العامَّة منّا. وليس في زوال رضاه عنه ما يحيل أن يكون هو خالقه، فقد خلق إبليس، وهو رأس الشر، وليس بمرضي عنده، وخلق الدنيا، وهي بغيضته، يُزَهِّد فيها أولياءه، ويُمتِّع فيها أعداءه. فما يمنع أن يكون الكفر من خلقه، وهو يبغضه، ولا يرضاه، ولا يرضى لعباده أن يأخذوا به، كما لا يرضى لهم أن يأخذوا الدنيا، إذ هي متاع الغرور، و (لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ) في الحياة، كما قال اللَّه تبارك وتعالى. فإن قيل: فكيف خلق ما لا يرضاه؟. قيل: ليس علمُ هذا إلى عباده، وما خاطبهم به في كتابه، ولا على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 لسان رسوله، صلى الله عليه وسلم. * * * قوله: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) . تقريع لمن يهمل الدعاء في الرخاء، ويفزع إليه في الشدة، وليس ذلك من أخلاق المؤمنين، إذ من أخلاقهم إكثار الدعاء في الرخاء عُدة للشدة، واستغنامًا لشفاعة الملائكة - إلى ربهم - في إجابته، فقد رُوي أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال لابن عباس: " تعرَّف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 ورُوي: " أن العبد إذا أكثر الدعاء في الرخاء، ثم نزلت به الشدة فدعا. قالت الملائكة: صوت معروفٌ، من آدمي كان يكثر الدعاء في الرخاء. فنزلت به الشدة، فتشفع له إلى الله، وإذا لم يكثر الدعاء، فنزلت به الشدة، فدعا، قالت الملائكة: صوت مجهول من آدمي لم يدع الله في الرخاء، فنزلت به الشدة فدعا، ولا يشفعون له ". ومثل هذا في القرآن في مواضع، مثل قوله: (ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ، وقوله: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ، وغير ذلك. فلا ينبغي للمؤمن أن يستن بالكافر، ولا يفزع إلى الدعاء إلا عند الشدائد. * * * وقوله: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) دليل على أن أوقات الليل - كلها - في الصلاة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 ممدوحة، وأن القانت هو المطيع، لا القائم، وأن الواو وإن كانت ناسقة باللفظ، فغير موجبة أن تكون ناسقة بالمعنى في كل موضع، ألا تراه ذكر القيام بعد السجود، فهل يجوز لأحد أن يقدم السجود على القيام؟. وهذا رد على من يرى ترتيب أعضاء الوضوء في الغَسل فرضًا. * * * وقوله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) مَدَحَ العلماءَ، وذم الجهلاءَ، ودليلٌ على أن التذكر لا يمكن إلا بالعلم. وفيه حجة لمن قال: العالم - وإن لم يعمل بعلمه - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 أفضل من جاهل لا يعمل بالخبر، لأن الله - جل وتعالى - فرض العلم والعمل - معًا - فمن أطاعه في العلم فقد جاء بشطر الأمر، وبقي عليه الشطر، ويوشك الشطر الذي أطاع فيه أن يُلحقه بالشطر الآخر، والجاهل مضيعٌ لجميعه. وغير آخذ عدة العمل، ودليل النجاة. والخبر المروي: " يُغفر للجاهل سبعون ذنبًا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد" ليس هو عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وليس بشيء، لأنَّا لا نعلم الله مدح الجهل في كتابه، ولا على لسان رسوله، صلى الله عليه وسلم، ولو كان كذلك، لكان الجهل أرفع درجة من العلم، والجاهل إلى أن يكون عمله الذي يحسبه صالحًا - غير مقبول منه - أقرب إلى أنْ يغفر له خطيئته، لأنه لا يقيمه بعلم. ولا يخلصه لربه. وربما أعدَّ الخطيئة طاعة، والطاعة خطيئة، والإعجاب بعمله أسرع إليه منه إلى العالم، الذي إذا عمل خيرا شكر من وفَّقه له، وعلم أنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 مستعمل، لا عالم بقوته، فالإعجاب بعيد من هذا، والشكر عمل برأسه، وإذا عمل سيئة عرف وزنها، وطريق الاستغفار منها. والندم عليها، فتسره حسنته، وتسوؤه سيئته، فيستوجبُ الإيمان. كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من سرته حسنتة، وساءته سيئته، فهو مؤمن ". والجاهل لا للخطيئة يعرف وزن ثقلها، وعظم بليتها، ولا للحسنة يعرف وزنها، بل يرى نفسه مستعليًا بها، ومتكبرًا على القاعدين عنها. وكل هذا خطايا برؤوسها، فكيف يستويان، ومتى يلتقيان؟!. فلو قُلب هذا الخبر، وقيل: يُغفر للعالم سبعون ذنبًا، قبل أن يُغفر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 للجاهل ذنب واحد، لكان الكتاب والسنة والإجماع ونظر المحصلين أدل عليه، إن شاء الله. وعلى العالم - مع ذلك - أن يعرف حق المنعم عليه فيما علمه. ويصون ما أكرم به من تدنيسه، وسلكه به مسلك الجاهلين، ويحذر سطوة الله في تضييع شُكره - فعلاً وقولاً - على ما أعطي. فعليه أن يَنْفِس على ميراث الأنبياء، فلا يخلطه بميراث إبليس. وأعدائه من الشياطين. * * * وقوله: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) دليل على الإخلاص فرض عليه، وعلى أمته مع أنه قد نص القرآن على أمر الأمة -أيضاً - حيث يقول: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) . * * * وقوله: (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) يحتمل أن تكون اللام فيه بمعنى " الباء "، ويحتمل أن يكون وأمرت بالعبادة المُخْلَصة، لأن أكون أول المسلمين. والله أعلم كيف هو. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 وهذا يؤكد أن قوله - في الأعراف، إخبارًا عن موسى -: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) ، أنه أول مؤمني زمانه، إذ محال أن يؤمر النبي. صلى الله عليه وسلم، أن يكون أول من أسلم، من الخلق - كلهم - وقد تقدمه بالإسلام من تقدم. ولكنه أول من يسلم من أمته. * * * وقوله: (فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) . هو على طريق التهدد ليس على ما يتأوله المعتزلة والقدرية. وهو نظير قوله: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) ، وقد أجبناهم عنه. وجه التأكيد فيه: أن موسى وصف أنه أول المؤمنين، ووصف نبينا محمد، صلى اللَّه عليه وسلم، أنه أول المسلمين فلو كان المراد الأولية بالنسبة للناس جميعا لاقتضى التناقض، إذ كيف يصف نبيا أنه أول المؤمنين جميعًا، ثم في مكان آخر يصف نبيُّا - آخر أنه هو الأول، فما جاء هنا أكد أن المراد بالأولية هناك أولية نسبية، لا مطلقة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 وقوله: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ) رُوي عن قتادة أنه قال: هم أهلوهم الذين أعدوا لهم في الجنة. فخسروهم بكفرهم. وما أظنه إلا كما قال. فقد رُوي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حديث يصدّقه: " ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار. فإن مات فدخل النار، ورث أهل الجنة منزله. فذلك قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 وفي بعض أخبار المساءلة في القبر عن النبي، صلى الله عليه وسلم. أنه قال - في الكافر -: " ثم يفتح له باب من الجنة، فيُقال له: هذا كان مكانك، لو آمنت بربك. فأمَّا إذ، كفرت به، فإن الله أبدلك به هذا. فيفتح له باب من النار. ويفتح للمؤمن باب من النار، فيقال له: هذا مكانك لو كفرت بربك فأمَّا إذ آمنت به، فإن اللَّه أبدلك به هذا، فيفتح له باب إلى الجنة ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 وقوله: (فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) آية يغلط فيها القائلون بالاستحسان. فيحتجون بها، وليست لهم، بل هي عليهم، لأنه يستمعون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 القول، والقول المسموع لغيرهم. والاستحسان لهم. فمحال أن يتبعوا أنفسهم في الاستحسان. ويكون القول المسموع لغيرهم، فيُمدحُوا بغير ما وُصفوا. والآية - بعد بيان غلطهم - حُجَّةٌ على المقلدين، إذ القول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 المسموع لا يخلو من أن يكون قول من يكون قوله حجة، أو قول من لا يكون قوله حجة. فلما كان قول من يكون حجة، حسنًا كله، لا تزييف فيه، عُلم أنه المتبع، دون قول من لا يكون حجة. وقد لخصناه في كتاب الأصول من " شرح النصوص " ما أغنى عن إعادته ها هنا. * * * وقوله: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ) نظير ما مضى من قوله: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) في جواز تذكير فعل المؤنث، لما يدل عليه اسمه. وهو حجة على المعتزلة، وهو - والله أعلم - مثل قوله: (أَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 وقوله: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ) إلى قوله: (فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) حجة على المعتزلة والقدرية. * * * وقوله: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) دليل على أن الصدق الثاني ليس بعطف على الصدق الأول " لأن " الذي " يخُبر به عن واحد، و " أولئك " عن جميع، ففيه دليل على أن الذي جاء بالصدق هو رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جاء بالقرآن، وهو صدق، وصدق به أصحابه في حياته، وسائر المؤمنين بعد وفاته. وكل من صدَّق بالقرآن استحق اسم التقوى، واستوجب ما وُعد - هؤلاء - المصدِّقون من الثواب، وتكفير السيئات. * * * وقوله: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) دليل على أنه يكفي من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 توكل عليه، واعتصم به، ويقيه شر كل محذور - دونه - فاستعلى على كل متسلط سواهم فليتق المؤمنون بهذا منه، إذا استكفوه، وفوضوا أمورهم إليه، فلن يُغلب من تولاه، ولن يهُضم من حرسه وكفاه. * * * وقوله: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ) رد على المعتزلة والقدرية. وهو من المواضع التي يحسن فيها حذف هاء المفعول. * * * قوله: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) ردّ على المعتزلة والقدرية فيما يزعمون: أن المقتول ميت بغير أجله. وقاتله قاطعٌ حياته الموهوبة له من عند ربه. * * * قوله: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) إلى قوله: (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 دليل على أنهم ليسوا بمؤمنين - لأن المؤمن لا يستهزئ بوعيد ربه، وإنْ اغترَّ بذنبه - وهم اليهود والنصارى، ومن يرى من الكفار أن عمله الذي يتقرب به إلى اللَّه يجُازى عليه بخير، فيبدو له - من ربه - خلافُ ما قدَّر. والله أعلم. * * * وقوله: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) الآية، حجة على المعتزلة في باب الوعيد، وقد بيناه في غير هذا الموضع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 وقوله: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) دليل على أن استكشاف العذاب، والعقوبات بالمسارعة في الطاعات، والمسارعة إلى التوبة والندامات. ويدخل في هذا المعنى ما نُدب إليه الناس من إحداث التوبة، والتقدّم في الطاعة إذا أرادوا الخروج إلا الاستسقاء، في حين الجدب. والقحط، وذلك أن منع القطر لا يكون إلا بسخطة، ولا السقيا إلا برحمة. فإذا قدموا الطاعات، كانوا أقرب إلى الإجابات، وأجدر برفع العقوبات. * * * وقوله: (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) لا متعلق للمعتزلة فيه، لأنه نظير ما مضى - في سورة الأنعام - من قوله: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) يعيب احتجاجهم بما لا حجة فيه، لا أنهم يقولون غير الحق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 وقوله: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) لا متعلق لمن يقول بخلق القرآن لله، إذ قد دللنا على أن القرآن كلام الله، تكلم به، وإذا كان كذلك فهو نعت من نعته ولا يكون نعتُه - وإن سُمي شيئًا - مخلوقًا، لأنه شيء غير مخلوق. مع أنا لم نعلم أن الله خالق كل شيء إلا بهذا القول، فمحال أن يدخل في الشيء ما عرف به الشيء. * * * وقوله: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) دليل على غير شيء: فمنه: إعمال الفعل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 الأول، دون الثاني، والإخبار عنه على التوحيد، وإهمال الثاني على الإشراك، وعلى الإفراد - معًا - بالإخبار عنه، لا بالإشارة إلى المعنى. وفي ذلك دخول الخلل على اختيارات أبي عبيد - رضي الله عنه - في القراءات إعمال الفعل الأقرب، دون الأبعد، مثل قوله: (أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى) بالياء، لأنه يلي النعاس، والأمنة قبله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 ومثل قوله: (كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) ، لتباعد الشجرة منه، ومثل قوله: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) ، بالتاء، لمجاورة النخلة له، دون الجذع، ومثل قوله: (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ، بالياء، لقرب المني، وبعد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 النطفة، وأشباه ذلك، لأن اللغة إذا وردت في القرآن في موضع فقد - تكاملت الفصاحة فيها، فسواء كانت في موضع أو في مواضع لا يزيد للمكرر على الموحد في الفصاحة شيئًا، إنما يُغلَّب الكثرة على القلة، فيختار فيما لم ينزل بها القرآن - وهي متداولة في الشعر والخطب - من كلام البشر. فإذا نزل بها القرآن، ذهب موضع اختيار بعضه على بعض، إلا أن يكون حرف يختلف القراء في نزوله، كيف نزل، فتقول طائفة: نزل كذا. وطائفة: كذا. فيختار حينئذٍ ما تشهد له الكثرة، والأشهر - من كلام العرب - دون الآخر. وقد يجوز أن يكون هذا المعنى حجة لبيت امرئ القيس، حيث أعمل الفعل الأول في قوله: فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني ولم أطلب قليل من المال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 بمعنى كفاني قليل من المال، ولم أطلب، كتأويل: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ) ، لئن فعلت كذا كان كذا (وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) ، أوحي مثله والله أعلم. ومنه: أن المرتد وإن رجع إلى الإسلام فعليه إعادة كل ما سبق له - قبل الردة - في ظاهر هذه الآية، لأن العمل المحبوط محتاج صاحبه إلى استئنافه. وأحسب الكوفيين - حيث قالوا ذلك - تأولوا هذا المعنى، وهو - كما تأولوه - بينًا في هذه الآية، لولا الآية الأخرى، إذ يقول: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) فأبان أن المحبط عمله هو الميت على الردة، لا النازع عنها. وفي قوله: (فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ) - معنًى - دليل واضح لا إشكال فيه أن المرتد تقبل توبته، ولا تبيح الردة دمه، دون الامتناع من الإقلاع عما أمقل إليه من دين الباطل، إذ لو كانت الردة تبيح دمه من غير تلوم برجوعه، لم يكن لاشتراطه (فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 معنى - لأنه كان يموت على ردته - إذا قُتل بجنايته كل مرتد. إذ محال أن ترده التوبة إلى الإسلام فيشاط دمه وهو مسلم. وهذا لا يشبه الحدود، من إفاتة نفس الزاني الحصن بالرجم، وهو مسلم، لأن الرجم عقوبة عمل معمول فإذا تاب لم يعد عليه عمله غير معمول، فهو مستوجب عقوبته، حتى يعاقب، والردة ترك عمل، من قول وفعل، كان حاقنا بها دمه، فلما تركهما أوقعاه في إباحة الدم. ما دام مقيمًا عليها فإذا أقلع عن حال إباحة دمه، وعاد في حال ما حقن به حرم أَيضًا، وكان كفره ساعة نهاره ككفر الكافر مدة عمره. قبل إسلامه، فمحال أن يجب الإسلام كفر مئة عام، ولا يجبُّ كفر ساعة من نهار. ومن هِرَاق دم المرتد بردته، ولم يلتفت إلى توبته، اعتمادًا على قول النبي، صلى الله عليه وسلم: " من بدَّل دينه فاقتلوه "، فقد جهل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 كل الجهل، وتأوَّل على الرسول، صلى الله عليه وسلم، بتوهمه ما لم يقله، وأباح دم مسلم إذا تاب من ردته، إذ لا يقع اسم التبديل إلا على المصر على الردة، التي أمقل إليها. فأمّا هراقة دمه، وقد صار بالتوبة مسلمًا، فهو قتل مسلم لا مرتد. ومنه: ما يدخل على المعتزلة في باب الوعيد من قبول توبة من أوعد بحبط العمل، واللحوق بالخسارة، إذ محال أن يكون ما يسمونه خُلْفًا، يكون في الآخرة، ولا يكون فى الدنيا، لأن الدنيا والآخرة داران، والموعَد واحد. فهل يجوز لذي عقل أن يزعم: أن زيدًا لو أوعد عمرًا مكروهًا، وله داران، فعفا عنه، أن يُعدَّ عفوه في إحدى الدارين كرمًا، وفي الأخرى خُلفًا. أم يحقِّق ذلك عندهم أن العفو عن المكروه كرم - في كلا الدارين - والخلف لا يكون إلا في ترك إنجاز الخير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 وقوله: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) . رد على المعتزلة والجهمية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 في القبضة، واليمين، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 سورة المؤمن * * * قوله تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) إلى قوله: (وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) دليل على كرامة المؤمن على الله، إذ قد ألهم حملة عرشه - ومن حوله - الاستغفار له، والدعاء، وما فيه له ولآبائه وأزواجه وذرياته النجاة. وفي دعائهم للتائبين المتبعين سبيل الله - بالمغفرة - دليل على ما قلنا: من أن التائب، وغير التائب محتاج إلى مغفرة الله ورضوانه. لا ينجيه عمله، دون أن يجود عليه مولاه برحمته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ) دليل على أنه في السماء، على العرش، لأن " ذو " نعت، ولا يكون إلا نعت حلوله، واستوائه عليه، وكذا قال في سورة البروج: (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) ، فهو نعت. * * * قوله: (لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) خطاب للعباد، على ما في سجيَّة عقولهم من أن البارز أحضر لعين الرقيب، والجليل في الحقيقة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 لا يخفى عليه شيء من أمور عباده، بارزين وغير بارزين، ولا يسترهم عنه ستر ولا حجاب. فإن قيل: أفليس قد قال النبي، صلى الله عليه وسلم، في حديث يَعلى حين أمر المغتسل بالاستتار في الخلوة -: " فالله أحق أن في يستحيا منه "؟. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 قيل: إنما ذلك إفراغ طاقة العبد في عبادته - بينه وبين خالقه - لا أنه يستتر به عنه، كما يستتر من عبيده، وتوهم ذلك كفر ممن توهمه. وقد استعبد الله عباده بغسل أعضاء الوضوء، من غير نجاسة عليها تزال بالماء، والاستتار له عبادة، كما الوضوء بالماء عبادة، وكرمي الجمار، وأشباهه، فهي عبادة، لا لمعنى فيها بل، لغيرها، وكذا * * * قوله: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) وقد كان - أبدًا - الملك له وحده. ومن كان له من الملوك في الدنيا عبيده، هو ملّكهم وأعطاهم، ولكنه قاله على ما في سجايا العقول، كأنه يخبرهم - والله أعلم - بأن الذل في القيامة شاملٌ كل من كان يتعزَّز - في الدنيا - ويتملك على غيره، فصار - يوم القيامة - في مثل درجة من كان يتملك عليه، واستويا معًا. فأما عنده - جل وتعالى - فكان ذله في جميع الأوقات واحدًا، والملك له دونه، وهو عبد من عبيده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 قوله: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ) . خصوص - والله أعلم - لقوله في سورة النمل: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) . فإن قيل: أليس قد قال - عز وجل -: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) وهذا يدل على أنهم يفزعون، قيل: ليس ذلك - في ظاهر الأخبار - الذي حملهم على التبرؤ من العلم الفزع. وقد وُضع عنّا تفتيش ذلك، ولا يُعلم شيء - بلفظه في القرآن - نسخه. وقد حقق الخصوص في قوله: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) قولُه: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) والظالمون هم الكافرون، في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 هذا الموضع، والله أعلم. وليس قول من قال: من هول السؤال طاشت عقولهم، فلم يدروا ما أجيبوا - قول نبي، ولا صحابي، ولا تابعي، يضيق خلافه (1) . والله أعلم بذلك، كيف هو. * * * قوله: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) إلى قوله: (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) دليل على أن اعتبار المأمور به العباد ليس ما يذهب إليه القائسون   (1) بل هو مروي عن بعض الصحابة والتابعين، فأخرجه سفيان الثوري في تفسيره ص (105) عن مجاهد، ومن طريق سفيان هذا أخرجه عبد الرزاق في تفسير القرآن (1/ 1 0 2) عن مجاهد -أيضاً - وأخرجه الطبري في تفسيره (7/ 81 - 82) عن الحسن البصري ومجاهد والسدي. وأورده أبو جعفر النحاس في معاني القرآن (2/ 381) عن مجاهد. وأورده السيوطي في الدر (2/ 344 - 345) عن ابن عباس. وهو الذي أجاب به الإمام أحمد في كتابه الرد على الجهمية والزنادقة ص) 94) . واختار الطبري التفسير الآخر المروي عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة أنه قال: لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا. انظر تفسيره (82/7) . قال ابن كثير: ولا شك أنه قول حسن، وهو من باب التأدب مع الرب جل جلاله. انظر تفسيره (2/ 115) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 من أنه من حمل الأشكال على الأشكال، وإلحاق الأشباه بالأشباه في التحليل والتحريم، إنما هو لادِّكار كل امرئ في نفسه، بما يوصل اللَّه حظه من الخوف، والخشية اللذين ينجو بهما من عذاب الله. وكذا قوله - في سورة الحشر: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) ألا ترى إلى إخباره - في أول السورة - عن إخراج الذين كفروا من ديارهم، وما ظنوا من منع حصونهم من سطوة ربهم، وعذابه. وإخراب بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين. فليت شعري! ما الاعتبار الذي يكون قياسا من المعتبرين، إذا تدبروا ما فعل الله بالمخرَجين! أكثر من أن لا يعملوا - فيما خوطبوا - بأعمالهم، فيحق عليهم ما حق على أولئك. ولو لم يكن من الحجة - - على من أعدَّ الاعتبار قياسًا في هذا - إلا نفس ما فيه إذا تدبره، لكفى، أليس أشباه الشخصية، والإنسانية، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 والسعي، والحركة، وما أخذ أخذها قائمًا بينهم وبين المخرَجين من ديارهم قبل حدث الأحداث التي استوجبوا بها العقوبات، فلم تحق عليهم عقوبة إلا بشيء يحدث على الأشخاص التي هي أشباه وأشكال، كما كان الشبه بين الحنطة والأرُز، فإنما في نحو ما يذهب إليه القوم، من أنهما قوتان مكيلان حادثان من نبات الأرض. فَلَمْ نوجب تحريم التفاضل في نفس الحنطة - التي هي الأصل - حتى حدث عليها العبادةُ، فألحق بها تحريم التفاضل، ولو كانت الأشباه تحدث بها العبادات لأحدث على الحنطة قبل التعبد ما أحدثه التعبد. فزعم القائسون: أن حدوثه في الحنطة أحدث في الأرز - أيضاً - بما كان فيه من متقدّم شبه الحنطة. وهم - مع ذلك - يحتجون بـ (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) . فهلا قالوا: إن وفاق شبه أشخاص المعتبرِين بالمخرَجين من ديارهم أحدث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 عليهم ما أحدث على المخرَجين، قبل إحداث أعمال يستوجبون بها عقوبة الجليل، كما يزعمون: أن التحريم حدث في الأرز بلا تعبد حدث عليه - بلفظه - كما حدث على الحنطة بلفظها. وأحسبهم - غفر اللَّه لنا ولهم - يقدرون في رادي القياس أنهم ينفون الشبه عن الحنطة والأرز، وهم لا ينفون مقدار ما ذهبوا إليه من أنهما مأكولان مكيلان من نبات الأرض، وإن نفوا بقية أشباههما. ولكنهم يقولون: إن شبه الأرز من شبه الحنطة محتاج إلى حدوث تعبد عليه يحرمه، كما حدث على الحنطة فحرمها. * * * وقوله: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) ، و (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) ، و (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) كله حجة على المعتزلة والقدرية، والمسرف: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 المشرك، في أكثر آي القرآن. وما ذكر من المتكبر الجبار نظير ما مضى من جواز تسمية المخلوق بأسامي الخالق. * * * وقوله: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ) ، الآية حجة على المعتزلة من جهتين: إحداهما: لا يزعمون: أنه ليس - بنفسه - في السماء، وهذا المعنى من قول فرعون، وفرعون كافر قد قطع كل ريب أنه - لا محالة - في السماء، إذ محال أن يقول فرعون إلا بعد أن سمع موسى - عليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 السلام - يدعوه إلى من هو في السماء، وقد ذكرناه في سورة القصص أيضاً عند إخباره عن فرعون (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) . والثانية: ما ذكر من التزيين لفرعون سوء عمله، فإن كان أراد به هو الذي زين له كما قال: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ) ، فهو ما يريدون، وإن أراد أن الشيطان زين له كقوله: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) فقد دللنا على أنه تبع للَّه في ذلك، إذ لا يجوز أن يكون الله - جل جلاله - تبعًا له. (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 حجة على المعتزلة والقدرية، لو تدبروها وأنصفوا من أنفسهم، وذلك أن هذه اللفظة - بعينها - قد أخبر بها عن فرعون قبل هذا بقليل، وهو (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) . ولسنا نشك في أن قوله خلاف قول المؤمن، إذ قوله غرور وظن، وقول المؤمن علم وحقيقة، فنظرنا في هذا العلم والحقيقة، فإذا هما هداية بيان، التي ينسبونها إلى الرحمن، في قوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) ، إذ محال أن يقدر مؤمن آل فرعون من هداية قومه، على ما لم يقدر عليه رسول الله. صلى الله عليه وسلم، من هداية قريش وهداية عمه، حيث يقول اللَّه - تبارك وتعالى -: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) ، فعلمنا - بذلك - أن كل هداية منسوبة إلى البشر فهداية بيان وتبصر، وما كانت منسوبة إلى الله فهو على وجهين: تجوز أن تكون دعاءً وبيانًا، وتجوز أن تكون إرإدة وإجباراً، فأيهم دل عليه سياق الكلام كان الحكم له فيها. فلما قال: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 عُلم أنها هداية دعاء وبيان، إذ محال أن تكون هداية إجبار وإرادة، إذ لو كانت كذلك ما استطاعوا أن يغلبوا إرادته. ويقهروا إجباره بالعتو عن أمره، وعقر ناقته، ولما قال: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) عُلم أنه هداية إجبار وإرادة اضطرار المهدي إلى ما أريد منه، إذ محال أن يقول: إنك لا تبين لمن أحببت، أو لا تدعو من أحببت، وهو يعلم - جل وتعالى - أنه قد بين لأبي طالب ودعاه، ولكنه لا يقدر على حمله عليها. واضطراره إليها، وأن الذي يفعل هذا هو الله - جل وتعالى - فقال: إنك لا تقدر على أن تنجي أبا طالب بهداية إجبار، ولكني أفعل أنا هذا بمن أشاء. ولا يشك أحد أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أراد من عمه أن يكون كذلك فلم يقدر عليه، فلو ميز القوم، وأضربوا عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 اللجاج، وتبصّروا الأشياء برويَّة وعقل لأبصروا - بعون الله - طريق الرشد، وعلموا أن إضافة الأفعال إلى فاعليها ليست بمانعة من أن يكون مقضيًّا بها عليهم، ولا القضاء بمؤثر في عدل الله على بريته، وأنه غير مستحيل أن يعلم من علم عدله ما يجهله خلقه، وأن التصور في عقولهم من لوح الجور - في جمع القضاء والعقاب على نفس واحدة - كلوح استحالة كينونة الرب فيها بلا أول - ولا بدو. فهل يجيزون لأنفسهم أن يأخذوا ذلك من شبه خلقه، كما يأخذون معرفة عدله من عدل خلقه، فيزعموا: أنه لمَّا كان محالاً - في عقولهم - أن يكون مالك من الآدميين إذا أجبر عبده على فعل شيء، ثم عاقبه عليه، كان ظالمًا له، لم يجز أن ينسب إلى الله أنه يضطر أحدًا من عبيده إلى فعل بعينه - في القضاء السابق عليه - ثم يعاقبه على فعله، وأنه إن فعل كان جائرًا. كان - أيضاً - محالاً أن يكون حي موجودًا في الأزل بلا أول، إذ ليس ذلك بممكن في الخلق، بل هو محال أن يكون خَلْق قبل يُكَوَّن، ويخُلَّق. فلا يجيزون على الله - جل الله - إلا ما يقبله عقولهم، ويسهل عندها كونه، ولا تنبو عنه. وما الفرق بين من يأخذ شبه عدل الخالق، من شبه عدل المخلوق، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 وبين من يأخذ ما مثلناه من شبه خلقه، وكلاهما مُقحِم على ما ليس له، وعاد طوره فيما لم يجعل إليه، ولا خوطب بتعريفه. فلما كان ممكنًا - عند المؤمنين الموحدين - أن يكون الله أزليًّا بلا أول، ودائمًا بلاِ آخر منقطع، ويكون أوّل كل شيء وآخره، كما قال: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) . وإن نَبَتْ عقول المرتابين عنه، ولم يجدوا شبهه في الخلق، كان - أيضاً - ممكنًا عندها أن يكون الله - جل جلاله - يجمع على نفس واحدة قضاء بشيء، وعقوبة عليه، ويكون عدلاً، وإن نبت عقول المرتابين عنه، ولم يجدوا شبهه في عدل الخلق. فليت شعري! لِمَ يسمونا المشبهة؟! لأن قلنا: إن للَّه سمعًا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 وبصرًا، ويدين مبسوطتين ينفق كيف يشاء، وهم يأبون أن يجيزوا على اللَّه شيئًا إلا ما وجدوا شبهه في المخلوق، ولم ينب عنه العقل المخلوق. * * * وقوله: (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا) الآية حجة في غير شيء: فمنه: أن هذا العرض قبل الحشر، إذ هم بعد الحشر، إذا دخلوها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 دائمين - فيها - معذبين بسرمد العذاب، (لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا) فإنما العرض بالغدو، والعشي على من ليس دائمًا فيها، وقد أكد ذلك قوله: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) . فهذا عذاب سوى العرض، وفي محل غير محل العرض. ومنه: أن للعذاب درجات في الشدة والخفة، فقد يجوز أن يكون أشد للكافر، وأخفه لمن يلي من المسلمين المذنبين بدخولها. ورُوي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " ما أحسن من محسن كافر، أو مسلم إلا أثابه الله " قلنا: يا رسول اللَّه: ما إثابة الكافر. قال: "إن كان قد وصل رحمًا، أو تصدق بصدقة، أو عمل حسنة أثابه اللَّه، وإثابته إياه المال والولد، وأشباه ذلك " قال: قلنا: ما إثابته في الآخرة، قال: " عذاب دون عذاب " وقرأ (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 فإن كان محفوظًا فلا متكلم فيه، وعلينا التسليم له، والإقرار على أنفسنا بالجهل، وإن لم يكن محفوظًا، فلإثابته في الدنيا بالمال. والولد، وأشباه ذلك نظير من سنة ثابتة، وهو أسوة رزقه وعافيته. وصرف كثير من المكاره عنه. وأما إثابته في الآخرة فالقرآن شاهد بخلافه، وقد دللنا عليه في غير موضع من هذا الكتاب، مثل قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ) الآية. وقوله: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) . وفي قوله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) . والكافر لا كلم له طيب يصعد إليه، فكيف يصعد عمله، أو يكون له وزن في الآخرة؟!. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 ويشبه أن لا يكون محفوظًا، لأنه رواه عامر بن مدرك، عن عتبة بن يقظان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن عبد الله بن مسعود. وعامر بن مدرك، وعتبة بن يقظان ليسا من الثبت بمحل يعارض بروايتهما القرآن. وفيما دل عليه عرضُ آل فرعون على النَّار غدوًّا وعشيّا ما يعارض ما ذكرناه في غير موضع من هذا الكتاب من أن الميت لا يشعر - بعد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 المساءلة - بعد طول المكث في البرزخ، حتى يبعثه الله، ودللنا عليه في التلاوة - نصَّا - في الكافر والمسلم، ورُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنقل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 الثقات ما يؤيده من عرض مقاعد أهل القبور عليهم - إيَّاها - بكرة وعشية، فقد يحتمل أن يكون هذا العرض بقية من المساءلة تمتد عليه، وطائفة من عذاب القبر تطول عليه بكرة واحدة وعشية واحدة. ثم يخمد فلا يشعر إلى الحشر بشيء، كما دللنا عليه. فإن قيل: وكيف يكون ذلك وفي الموتى من يموت عشية يوم قد مضت بكرته، أو يموت ليلاً قد مضت البكرة والعشية معًا؟. قيل: نفس هذا دليل على أنه لا يؤخذ في العرض عليه من فور دفنه، فإذا عرض عليه غدوة يوم، وعشية الثاني فقد ارتفعت غدوة وعشية، واستغرق الاحتمال، وزال التعارض. فإن قيل: أفليس قد رُوي: " أنه تُعرض عليهم مقاعدهم غدوة وعشية، ما دامت الدنيا ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 قيل: لم يأت بهذه اللفظة إلا قَبيصة عن سفيان، ومالك أثبت، رَوى عن نافع، عن ابن عمر فلم يذكرها، وقبيصة وإن كان من الأثبات، فقد أغفل الحفظ في غير شيء، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 وأخطأ في كثير مما يواطأ عليه حفظ غيره، فلا يعارض بزيادة زادها القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه. * * * وقوله: (هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) . يحتمل أن يكون الدعاء حتمًا، يعصي التارك بتركه. ويحتمل أن يكون ندبًا، ندب الخلق إليه، وكذلك قوله: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) ، فدل قوله - قبل هذه الآية -: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ، على أنه حثهم عليه، إشفاقًا عليهم، ليصل إليهم نفع إجابته. فمن استكبر عن دعائه كفر، ومن كسل عنه كان مغبون الحظ، فإنه الخير الذي لا يعتاض منه. * * * قوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) إلى قوله: (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى) ، حجة على المعتزلة والقدرية، فيما يزعمون: أن المقتول ميت بغير أجله، ومقطوع عليه حياته. * * * وقوله: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 حجة عليهم في إعدادهم الإذن علمًا. وإنكارهم أن يكون إطلاقًا، فكيف كانت الرسل تقدر أن تأتي بالآيات بغير إطلاق منه، أكانوا - وَيْلَهم - شركاء معه في القدرة،، فإذا كان الإذن لا يجوز أن يكون - ها هنا - إلا إطلاقًا. ولا يجوز أن يكون علمًا، فإعدادهم إياه علمًا - في قوله: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) - تحكم، ومع التحكم جهل باللغة، وأن الإيذان هو العلم، لا الإذن، تقول: آذنت فلانًا بكذا، أي أعلمته، قال الله - تبارك وتعالى -: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) ، في قراءة من قرأ بالمد، أي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 اعلموا، ومن قرأ (فأذنوا) فهو الإطلاق، أي أطلقوا الحرب. وتكون الباء مقحمة، وقوله: (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي إعلام، ومنه سُمي الأذان أذانًا، لأنه يعلم الناس بالصلاة، فأما الإذن بالقصر فهو الإطلاق، لا شك فيه. * * * وقوله: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) - إلى آخر السورة - نظير ما مضى في سورة الأنعام، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 وذكر إيمان فرعون لما أدركه الغرق، وقد شرحناه هناك، فأغنى عن إعادته ها هنا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 سورة فصلت (السجدة) قوله - تعالى -: (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ) ، قاطع للارتياب بأن قوله: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) ، وما أشبهه - في القرآن - هو إنكار عليهم أن لا يحتجوا بما لا حجة لهم فيه، وزجر عن مزاحمته في سره، ألا ترى أنهم قالوا: ما أخبر به عنهم - جل وعلا في سورة الأنعام، حيث يقول: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) ، وقوله: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) . فهل وجه إنكار شيء قالوه موافقًا لما قال إلا على ما قلناه، لو أنصفوا من أنفسهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 وقوله: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) يؤكد ما قلناه: من أن مانع الزكاة يكفر. وسمعت محمد بن عبد الغفار، يحدث عن أبي عمرو الضرير، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 قال: سألت عبد الله بن المبارك، عن قوله: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) قال: لا يقرون بها. قلت: عمن. قال: عن سعيد، عن قتادة. فلا أدري ما وجه قوله: أن يؤتون - في اللغة -: هو يقرون والإقرار غير الإعطاء، وقد يجوز أن يكون تأول قوله: (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) فقال: من كان كافرًا بالآخرة لم يقر بالزكاة. وقد أخبر الله عن أهل الكتاب - الذين أمر بأخذ الجزية منهم - أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر، فقال: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، وهم يقرون بالزكاة، ويخرجونها - من أموالهم - عن كل ألف درهم درهمًا، وعن كل ألف دينار دينارًا. كما كان في شريعة موسى - صلى الله عليه - ويتصدقون على أهل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 دينهم، والله - جل وعلا - قد سماهم كفارًا بالآخرة، فلا يجوز ترك ظاهر الإيتاء - الذي هو الإعطاء - باحتمال لا طائل فيه من حجة. ومن كفر بترك إيتائها فسواء ضم إلى كفره كفرًا غيره، أو لم يضم، وقتال أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في قتالهم، وهم متمسكون بسائر شرائع الإسلام دليل على كفرهم، وهو من الإجماع المحصّل، الذي نسميه إجماع الأعصار، وهو حجة. * * * وقوله: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) حجة على المعتزلة والجهمية فيما يزعمون: أن كل ما وُصف به المخلوق لم يجز أن يوصف به الخالق، من أجل التشبيه، وهذا نص القرآن ينكر على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 عادٍ ادعاء القوة، ويخبر أن الله أشد قوة منهم، والرد لا يكون إلا بمثله، فإن كانت قوة عادٍ غير ذاتية فلعمري أن قوة الراد مثلها، وإن كان قوتهم ذاتية، فما ينكرون - ويلهم - أن تكون قوة اللَّه أيضا ذاتية، وليس في ادعائها ذاتية ما يوجب أن تكون نحلوقة، كما هي في عادٍ مخلوقة، لأن الله - جل جلاله - بجميع صفاته غير مخلوق، وعاد بجميع صفاتها مخلوقة، ولست أدري كيف يذهب على الجهلة، هذا مع تدقيقهم - عند أنفسهم - وهذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 جلي لا فى دقة فيه، أم كيف يتحكمون في وجوب التغيير على الأشياء - بأنفسها - قبل أن يحُدث عليها خالقُها حتى يزعموا: أن المخلوق لما أحدث خلقه، وركب تركيبًا بأعضاء ومفاصل وعروق، استحق اسم الفناء - حينئذ - وجواز الأسقام والأحداث والتغيير عليه، وهذا قول الدهرية، ومن يزعم أن الأشياء تدبر ذواتها، ولا يقر بمدبر. فلو فكر الجهال لأبصروا الدقيقة، التي غلطوا فيها، فأدتهم إلى إنكار صفات الله الذاتية، وهي ما أثرناه عليهم من موافقتهم الدهرية في هذا المعنى، ولو فكروا في هذا الخلق المحدث، ولم يوجبوا التغيير عليه. وراعوا حكم الله عليه بالتغيير والأسقام والفناء، لاستراحوا من جهلهم، وعلموا أن الأشياء - بأنفسها - لا توجب تغييرًا، ولا تصرفًا، قبل أن يغيّرها مغيّر، ويصرفها مصرف، وأن الله - جل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 جلاله - لما كان جاري الحكم على الكل، ولم يكن أحد يجري عليه حكمه، أو يقهره بسلطانه استحال أن تكون صفاته الذاتية توجب تغييرًا من أجل أن غيره من الذاتيين هو أوجب عليهم التغيير، لا أنهم استحقوه بأنفسهم قبل إجراء مجر عليهم، أليس هذا الخلق - بعينه الذي أوجبت الدهرية عليه تغييرًا بنفسه - إذا أزال الله عنه حكم التغيير في الجنَّة بقية الأبد على حالة واحدة من زوال التغيير. والأسقام، والكبر، والهرم، والفناء عنه، ولم يزل عنه اسم المخلوق، والمصنوع المركب أعضاء، وجوارحًا، وطولاً، وعرضًا وحدَّا. فما بال هؤلاء الجهلة يخالفون الدهرية في شيء، ويتابعونها في شيء؟! ، ولا يدرون أن ما أوتوا من إنكار صفاته الذاتية، من أين أوتوا؟. فهلاّ يقولون: إن الجنة والنار وأهلها يفنون، وإن من أدخل الجنة من تافلة الدنيا إليها لا ينفعهم كينونتهم فيها، ولا يزول التغيير. والأسقام، والأحداث المغيرة، والفناء عنهم، لأنهم مخلوقون، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 والمخلوق يوجب خلقه جري هذه الأشياء عليه، وإن لم يجر عليه مجر ولم يحكم عليه حاكم. فإن قالوا: إن أهل الجنة والنار لما نشروا أنشئوا إنشاءً غير إنشاء الأول، الذي أنشئوا عليه في الدنيا، فأنشئوا إنشاء البقاء، فكذلك زال عنهم التغيير. قيل: فهل أنشأ الله - جل جلاله - قط - أحدًا إنشاء فناء. حتى يلزم من ثَبَت له صفات ذاتية إجازة التبعيض، والأجزاء. والتغيير عليه ما أراهم إلا يكابرون عقولهم. قال محمد بن علي: ولو لم يزيف القياس في نوازل الشرائع، ويدل على بطلانه إلا علة هؤلاء القوم، فيما خرجناه عليهم، لكان جَدِيرًا بأهله رفضه، فإنهم قد ساووهم - فيها - حذو النعل بالنعل، ألا ترى أن القوم أخذوا جواز التغيير على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 الغائب بمشاهدة الحاضر، فألزموه خصومهم، وظنوا أنهم بذلك منزهوه عما لا يليق به - عندهم - وهكذا فعل القائسون بالنازلة الملحقة بنظيرها. بل زادوا عليهم - في التحكم - درجة، لأن أولئك ألزموا لحوق الأشياء بعضها ببعض، ولم يدعوه على الله - جل وتعالى - أنه أمرهم بذلك. ولا أراده منهم، والقائسون يزعمون: أن الله - جل وتعالى - لما حظر شيئَا بعينه حظره لعلة فيه، وقد أراد أن تكون كل ما فيه تلك العلة، تجري مجراه في الحظر، فوافقوا القوم في إلحاق العلل بعضها ببعض، وزادوا عليهم أنهم ادعوا على اللَّه شيئين: أحدهما: تحريمه الشيء لعلة، والآخر: إرادته في إجراء الشبه مجراه، فلا أرى جرمهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 إلا، أعظم من جرم أولئك، لأن من أخطأ في رأي ليس كمن نسب ذلك الرأي إلى الله جل وتعالى. ولعلهم لم يعلموا أن هذا يلزمهم، فقالوا بما تصوّر لهم حق فيه عندهم. والله يغفر لنا، ولهم. * * * قوله: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) دليل على أن في الأيام مشاييم وميامين، وكذا قوله: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) . وقد يجوز أن يكون اليوم نحسًا عليهم - خاصة - لما أصابهم فيه. لا أنه جُعل نحسًا في نفسه، والظاهر أنها نحسات، كما قال الله: (نَحِسَاتٍ) ، ولم يقل: عَلَيهم) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 قوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) قد مضى قولنا فيه - في سورة الأعراف، وحم المؤمن - بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. * * * قوله: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) حجة على المعتزلة والقدرية، إذ قد أخبر - نصًّا - أن من زين لهم من قرنائهم سيىء أعمالهم، هو المقيِّض لهم، ولا يخلو القول الذي حق عليهم من أن يكون سابقًا فيهم قبل العمل، أو عقوبة للعمل الذي زينه لهم قرناؤهم، وإذا كان هو مقيض قرنائهم، فأيهما كان فالحجة عليهم به ظاهرة. وقوله - تعالى إخبارًا عن الملائكة المنزلين على المستقيمين، بعد قول الحق، والإقرار بربوبية الرب -: (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 دليل على أن نزولهم عليهم - في الدنيا - عند الموت، يبشرونهم بما لهم عند الله، ليزول حزنهم، ويأمنوا عذاب ربهم، ويخرجوا من الدنيا طيبة أنفسهم بالموت، وفي ذلك - والله أعلم - تصديق الخبر المروي في تأويل: " من أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه " فإن من نزلت عليه ملائكة الرحمة - عند الموت - فبشروه، وأمَّنوه هان عليه الموت - المكره إلى النفوس - فأحب لقاء الله. وفي اشتراطه - جل وتعالى - نزول الملائكة بالبشارة، على هؤلاء دليل على أنهم لمن خالف سبيلهم ملائكة عذاب، يبشرونهم بسخط اللَّه، وما يسخن أعينهم من دخول الجحيم، والخلود في أنواع عذابه، فيكره لقاء الله، ويكره الله لقاءه. قوله - تعالى -: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) دليل على إشفاق الله - تبارك وتعالى - على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 المؤمن، إذ قد دله على ما يأمن به غوائل عدوه، ودليل على أنه ندب إلى الإحسان إلى المسيء، لتأتلف الأمة، ولا تفترق، ولا تتباغض. وأيد هذا الخبر المرفوع: " جُبلت القلوب على حب من أحسن إليها ". ألا ترى أن العدو يعود بالإحسان إليه صديقًا، بل وليًّا حميمًا. ويقال: إنه السَّلام يدفع ببذله - في العالم - شرهم. والإحسان إلى المسيء درجة الأنبياء، والأولياء، وقد أوصى الله به، كما ترى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 فهو الخير الذي لا يعتاض منه، وقد بين الله ذلك في قوله: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) . فلا ينبغي للمرء أن يؤثر هواه على فوات ما أوصاه به مولاه. وذُكر عن بعض الماضين أن الدفع بالإحسان منسوخ، فإن كان كما قال، فهو منسوخ في الكفار بآية السيف، وليس بمنسوخ في المؤمنين، إذ المنسوخ ينسخ بضده عند الجميع، فهل يجوز لأحد أن يقول: نسخ الله الدفع بالذي هو أحسن، بالدفع الذي هو أقبح، إذ كان النسخ يزيل المنسوخ ويجيء بغيره، هذا والله عظيم سماعُه، فكيف انتحاله، والقول به؟!. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 وقوله: (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) رد على الجهمية والمعتزلة، ومن ينفي المكان، والحد عن الله - جل الله - ويزعم: أنه ليس بنفسه في السماء وحدها دون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 الأرض، وقد قال كما ترى (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) وهم الملائكة، لا يشك أحد أنهم في السماء، وإذا كانوا عنده، فهو - جل وتعالى - فيها بحد يعرفه من نفسه، وإن عجز خلقه عن كنهه. وقد لخصناه في كتاب " الرد على الباهلي "، ودللنا على خطأ قوله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 في تأويل عند ما يغني عن إعادته في هذا الموضع. * * * قوله: (أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) ، آية يحتج بها الجهلة في تثبيت المشيئة للشائين من خلق اللَّه، وقد دللنا على أن مشيئتهم تبع لمشيئته، فلا يؤثر إضافته إليهم في القضاء السابق عليهم. ومعنى (مَا شِئْتُمْ) وعيد ليس بتخيير إذ لو كان تخييرًا ما عوقبوا عليه، بل أثيبوا، ونحن لا نقول: إن حركة العاملين في الأعمال، هي حركة اللَّه، بل هي حركاتهم التي أعطاهم الله، وفرض عليهم أن لا يعملوها إلا في الطاعة، فهي منسوبة إليهم، وللًه - جل وتعالى - فيهم مقدمات أحكام. وعلوم، ليس لهم أن يحتجوا بها عليه، كما لم يكن لمن شَوَّه خلقه. وسوَّد لونه، وأعمى بصره، وأقعده من جوارحه أن يحتج به عليه. كيف لم يخلقه صحيحًا، سويّا، أبيض اللون، حسن الوجه، وقد سوى بينه وبين الصحيح، في مطالبته بما فرض عليه، وكذلك سوى بين الفقير والغني - فيها - فلم يكن لأحد أن يحتج إليه، ويطالبه بإخلاف أحكامه فيهم، ولا يعذر - نفسه - في التقصير في بعض ما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 فرض عليه، لأن فضل غيره في الخلق، والصورة الحسنة، وثراء المال، وعلو المرتبة في السلطان، والجاه، والصحة، وعافية البدن عليه، لأنها أحكام هو أعلم بها منهم، وإذا كان أعلم بأحكامه. وليس لأحد منازعته - فيها - ولا اشتراك في علومها، فهو أعلم بعدله، لا ينازع فيه، ولا يشارك في علمه، ولا يؤخذ كيفيته من عدل الخليقة، بعضهم على بعض. وقوله. (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) ، لا متعلق للجهلة فيه، إنما هو - والله أعلم - ولو أنزلناه بلغة العجم لما فهمته العرب، ولقالوا: كيف يأتينا رسول عربي بقرآن لا نفهمه، وهو عربي اللسان، يكلمنا به بلسان العجم؟!. * * * قوله: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) الآية حجة في أشياء: فمنها: أن الهدى في القرآن، من التمسها في غيره، أو في غير ما أمر به ضل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 ومنها: أنه يستشفى به بالنشر، والتعليق، من أجل أن اسم التمائم لا يقع عليه، لأن التمائم هي: ما كانت بغير لغة العربية. من كلام لا يعرف، والقرآن شفاء، كيفما استشفي به، بالقراءة على العليل، أو بكتبه، وسقيه، والإفاضة عليه، أو تعليقه في الصحف، على بعض بدنه، لا ينكره إلا جاهل بمعنى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 التمائم، المنهي عنها. ولما كانت النُّشر تكتب من القرآن، وذكر اللِّه، وتكتب من غيره كان قوله: " النشر من السحر، والنشر من عمل الشيطان " مصروفًا إلى ذلك، لا إلى القرآن، وذكر الرحمن. ومنها: الرد على المعتزلة والقدرية، لذكر الوقر في آذان الكفار. وتحويل القرآن - الذي هو هدى للمؤمنين - عمى عليهم. * * * وقوله: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) حجة عليهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 وقوله: (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) حجة عليهم، وقد شرحناه في سورة الملائكة. الصبر عند الشدائد: * * * وقوله: (لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) دليل على أن المرء، إن يصبر عند المصائب، ولا ييئس من رحمة ربه، ولا يلهيه مس المصيبة عن الذكر، والشكر، فإن المصائب - وإن كانت تمض فهي - كفارات، وعاقبتها كرامات. ومن صفة المؤمن أن يكون شكورًا عند الشدائد، والرخاء، فما من شدة إلا وفوقها شدة، فإذا بلي بأدونها، كان عليه الشكر في صرف أرفعها، والمعافاة منها، فمن جعل موضع الشكر القنوط واليأس. قل تبصره، وساء تخيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 سورة الشورى ذكر الجهمية: وقوله - تعالى -: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ) حجة على الجهمية، والمعتزلة في إنكار الصفات - كلها - وما ينكرون من كينونته في السماء، وحلوله فيها على العرش، وهذا يؤيد الحديث المرفوع: " وإن له أطيطًا كأطيط الرحل الجديد من الثقل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 جل ربنا، وتبارك من عظيم جليل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 قوله: (وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) هو - والله أعلم - خصوص للمؤمنين، إذ محال أن يستغفروا للكفار، وهو نظير ما مضى، في سورة المؤمن. القدرية: * * * قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ) ، رد على المعتزلة والقدرية، إذ في قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) ، دليل على أنهم لم يجعلهم، وخص بالرحمة من شاء منهم، والرحمة - لا محالة - سبب الهداية، ومنع الرحمة سبب الضلالة، لولا ذلك ما كان في الكلام فائدة، عند من تدبره * * * قوله: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) دليل على أن الحق - إن شاء الله - إذا اختلف المختلفون في شيء لم يكن إلا في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 واحد، ولولا ذلك لأقره، ولم يجعل حكمه إليه، وفميا جعل حكمه دليل على أن حكم غيره محرم القول به، ومسكوت عنه، حتى يُعرف ما حُكم فيه فيتبع. وحكمه على ثلاثة وجوه: فمنها: ما أنزل فيه نص كتاب. ومنها: ما بينه على لسان الرسول، صلى الله عليه وسلم ومنها: ما ألف علمه قلوب الجماعة، فأيها عرف في المختلف فيه - من هذه الثلاثة - فهو الحق. * * * وقوله: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) ، لا محالة إضمار. كأنه يأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يقول ذلك، إذ لو كان الكلام إخبارا عن نفسه، على نسق ابتداء أوله لكان - والله أعلم -: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 " ذلكم الله ربكم " الشريعة: * * * وقوله: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) دليل على أن دين هؤلاء - كلهم - وشرائعهم واحد، وما وقع فيه من تغيير شيء، فهو مثل الناسخ والمنسوخ، في كتابنا، لا أن الشريعة - بأسرها - متغيرة كلها. * * * قوله: (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ) حجة في إجازة الرجوع من لفظ خبر الغائب، إلى خبر الحاضر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 قوله: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ) " الهاء " راجعة على "ما"، والشهادة داخلة فيه. وهو حجة على المعتزلة، والقدرية، لذكر المشيئة في الاجتباء، والهداية إلى ما كبر على المشركين. واستوحشوا من دعائهم إليه، فضادوه، وأفرغوا مجهودهم في خفضه، وأبى الله إلا رفعه، وإمضاءه، حجة عليهم. * * * وقوله تعالى: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) ، حجة عليهم، إذ ليست تخلو هذه الكلمة - السابقة - من أن تكون في اختلافهم، أو في بقائهم عليه إلى الموت الموقت أجله، وأيهما كان فهو حجة عليهم مسكتة، وسياق الكلام دليل على أنها سابقة في نفس الاختلاف، لقوله: (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) ، وذلك أن اللَّه - جل جلاله - نهى نوحًا ومن أدخل معه في الوصية عن التفرق في الدين، وأمرهم بإقامته، فأتمروا لربهم، ولم يفرقوا دينهم، فلما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 صار الكتاب في أيدي من بعدهم شكوا فيه، وتدرعوا في الاختلاف، فأخبر الله أن اختلافهم من القضاء السابق عليهم. فأي شيء يلتمس بعد هذا البيان - ويحهم - لو أنصفوا، فما بينهم وبين الوصول إلى فهمه إلا تدرع لباس الجهل، بمعرفة عدله، وقد تخلصوا. مخاطبة الجهال: وقوله - تعالى -: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ) ، " اللام " بمعنى " إلى " والله أعلم. * * * وقوله: (وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ) فائدة لمن أراد السلامة في مخاطبة الجهال، فخاطبهم بحق يسلم فيه من دخول الفساد على دينه، لأن الله جل ثناؤه أَمر رسوله، صلى الله عليه وسلم، بهذا القول لهم - وهو أعلم - ليكون إيمان رسوله - صلى الله عليه وسلم - بكتاب أنزل على نبيهم أبلغ - عندهم - في تصديقهم لأنفسهم في إجابته إلى ما يدعوهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 إليه، وقد آمن بكتب أنبيائهم - قبله - فقال: (وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ) ولم يقل: " آمنت بما في أيديكم " للتبديل، والتحريف الذي أحدثوه. قياس: وقوله - تعالى -: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) دليل على إبطال الرأي، والاستحسان، والقياس، لأن اليهود، والنصارى - الذين نزل فيهم هذا - كانوا يحاجون بما يرونه عند أنفسهم حقًا، وليس يخلو كل ما عدا الكتاب، والسنة، والإجماع - من حجج الناس - من أحد الثلاثة: من الرأي، والاستحسان، والقياس، وكان محاجة القوم بأحد هذه الثلاثة، فأخبر الله - نصاً كما ترى - عن دحض حجتهم عنده، بل فيه أكبر الدليل على إبطالها، فإن القوم حاجوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقديم كتابهم ونبيهم، على كتاب الصحابة، ونبيهم. وقد مدح الله القُدْمةَ فى أشياء: مثل قوله: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ) ، وقال: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) وقال: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) . وذم احتجاج هؤلاء بالقدمة - كما ترى - وحمل الأشكال على الأشكال ممدوح في الرأي، والقياس، والاستحسان، فلو كان حقًّا، لكان أصحاب رسول الله، صلى اللَّه عليه وسلم، محجوجين بقول اليهود، والنصارى، أفليس بيّنًا - عند من شرح الله صدره - أن القدمة ممدوحة حيث مدحها الله، ومذمومة حيثما مدحها غيره، تشبيهًا بما مدحها الله، وقد جعل اللَّه رسوله، صلى الله عليه وسلم، محمدًا أفضل الأنبياء، وهو آخرهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 رسالة، وكلهم أقدم منه فيها. فلما كانت القدمة ممدوحة في موضع، دون موضع، دل على أن الأشياء وإن تشاكلت، فهي محتاجة إلى تعبد، يصحبها في الأحكام، فإن ائتلفت في الأحكام، كما ائتلفت في الأشكال ائتلفت، وإن لم تأتلف في الأحكام اختلفت. المعتزلة: * * * وقوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) حجة على المعتزلة، والقدرية " وذلك أن الحرث - في اللغة - كناية عن العمل، سُمي به - والله أعلم - للنماء الذي ينميه من الخير والشر، وكذا قال عبد الله بن عمر - وهو من أرباب اللغة -: " احرث للدنيا كأنك تعيش أبدا، واحرث للآخرة كأنك تموت غدًا"، وقد أخبر الله - نصا كما ترى - أنه يزيد كلاًّ ما يريده، وعطيته لا تخلو من أن تكون خلقًا لحرثه، أو معونة على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 فعله، وأيهما كان فهو حجة عليهم واضحة، لا إشكال فيها. وقد أنبأتهم عن المعنى الذي أرادوه، وأزالوا به القرآن عن جهته - في سورة الأنعام - في قوله: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ) أنه خطأ من ثلاث جهات: فأحدها: رد الفاعل إلى المفعول به. والثانية: أنه لو كان كذلك - أيضا - ما نفعهم، لأنه إن كان محالاً على الله أن يخلق شيئًا، أو يقضيه على عباده، فهو محال عليه أن يعطي أحدًا سؤله فيه، وإن سأل. والثالث: وإن نفس وصف القوم بإرادة الضلال خطأ، لإعزازه في العالم، وعدم من يرد من الله ذلك، إنما يستفزهم حرص الدنيا. فيريدون جمعها - لأنفسهم - بأي وجه اجتمعت لهم من خير، أو شر. كما قال الله - ها هنا -: (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) ، فقد أخبر الله أنه يؤتيهم حرثها المحروص عليه منهم، لا بمسألتهم إياه ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 قال محمد بن علي - رحمه الله -: وفي قوله: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) معتبر لمن وفقه الله، في أن القياس، والاستحسان دين لم يأذن الله به، إذ الإذن لا يكون إلا ملفوظًا، لا متوهمًا، ولسنا نجد قائسا، ولا مستحسنًا آوى في قياسه إلى آية، أو سنة تصرح له إذنًا بالقياس، بل كل ما يحتجون به من مثل العدل، والقبلهّ، وجزاء الصيد، وتحريم الحنطة بالحنطة المتفاضلة نصوص في أنفسها، لأنفسها، وحمل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 أشباهها - عندهم - عليها توهم، من المتوهمين، لا تصريح به من رب العالين، فهل جعل التوهم دينًا يحل به، ويحرم ويعقد ويحل إلا مما لم يأذن اللَّه به عند المنصفين، والمميزين إذا تدبروه. الرد على الروافضة: وقوله - تعالى -: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) دليل على أن في سجايا البشر نبواً عن موعظة من أخذ الدينار والدرهم، وأن التعفف عنهما كان مرموقًا في الجاهلية الجهلاء بعين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 المدح، من يزهد فيهما، ويتضع قدر من سارع إلى أخذهما، فأمر اللَّه رسوله، صلى الله عليه وسلم، أن يبرأ إلى المنذَرين، من أخذ أجر من أحدهما على ما يدعو إليه من كتاب ربه، ودينه الذي شرعه لعباده. لتمخض دعوته إلى الله - جل وتعالى - خالصة غير مشوبة بميل دنيا، تخفض طلابها، والراكنين إليها عن مراتب العز، ودرجات المقربين، وبذلك أخبر عمن مضى من الرسل - قبله - في سورة الشعراء، وغيرها - بقوله: (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، وعن حبيب النجار حين أمر المبعوثين إليهم برسولين، والتعزيز بثالث (اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) . * * * وقوله: (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) كان الحسن البصري - رضي الله عنه - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 يقول فيه قولاً لم يواطئه عليه سائر المفسرين، فقال: إلا أن تودّدوا إلى الله بما يقربكم إليه. وأما المفسرون سواه، فقالوا: إلا أن تصلوا قرابتي منكم، فلا تكذبوني ولا تؤذوني. وقد رُوي عن ابن عباس حديث مرفوع مثل قول الحسن، إلا أن في إسناده رجلاً مرغوبًا عن الرواية عنه، وهو قزعة بن سويد، روى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 عن ابن أبي نَجيح - وقد ذكر بالقدر، ولكنه ثقة في الحديث - عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي، صلى الله عليه وسلم: " قل لا أسألكم على ما أتيتكم من البينات، والهدى - إلى آخر الآية - إلا أن توادوا الله، وأن تقربوا إليه بطاعته ". وقد يحتمل أن يكون قول الحسن، وغيره سواء، لأن حفظ من يحفظ قرابته من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلا يكذبه، ويصدقه طاعة اللَّه داخلة في جملة ما يتقرب به إلى الله منها. وقد رُوي عن ابن عباس، رواية أخرى، مثل ما حكيناه عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 المفسرين، وفيها أن هذا الاستثناء منسوخ بقوله: (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) . وأما الشيعة ففسرته تفسيرًا شنيعًا قبيحًا، يهدم الآية، ويضع من رسول الله صلى الله عليه وسلم. زعموا: أن الاستثناء في الأجر، وقع على حب أهل بيته خصوصية لهم، إذ مطالبة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إياهم بمودة أهل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 بيته على ما يدعوهم إليه طرف من الأجر إذ الأجر كله، ليس كله في الدينار، والدرهم. وأهل بيته، صلى الله عليه وسلم، نوعانِ: فمن كان منهم مسلمًا. عاملاً بطاعة الله فهو أسوة سائر المسلمين، يحُب على ما فيه من الطاعة لربه. ومن كان منهم كافرًا، لم ينفعه قرابته من رسول الله، صلى اللَّه عليه وسلم، ولا يحب عليها، ومن زعم أن أحدًا ينفعه قرابته من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بغير طاعة الله فقد خالف الكتاب والسنة، قال الله - تبارك وتعالى -: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) ، وقد أوصى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاطمة ابنته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 وصفية عمته أن تشتريا أنفسهما من الله، فإنه لا يغني عنهما شيئًا. وأوصى كافة أهل بيته، فقال: "لا يأتيني الناس - يوم القيامة - بالطاعات، وتأتوني بالدنيا تحملونها على رقابكم، فإني لا أغني عنكم من اللَّه شيئًا ". وقال: ((إن أهل بيتي يظنون أنهم أولى الناس بي. وليس كذلك، إنما أوليائي المتقون ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 ولم يكن أحد أقرب إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من أبيه. وأمه فما نفعهما إذ كانا كافرين، وكان أبو طالب عمه، كما كان حمزة، والعباس، فشقي دونهما بالكفر، وسعدا بالإسلام. وعلي - رضي الله عنه - مسلم مطيع، وكان أقرب إليه من أبي بكر. وعمر، وعثمان، ففضلوا عليه - ثلاثتهم - لزيادة طاعة كانت فيهم وإن كان علي - أيضا - مطيعًا وصار علي أفضل من سائر من بعدهم. لزيادة طاعة فيه. ولو كان بالقرب مع الإسلام أفضل لكان عمه العباس، وابنا علي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 الحسن، والحسين أفضل منه، فصار أفضل منهما، ومن عمه بزيادة طاعة، وإن كان كلهم مطيعًا. فهذا واضح - عند من شرح الله صدره - أن القربة منه لا تنفع الكافر، ولا المسلم، إذا لم تساعده طاعته، للَّه جل وتعالى. فإن قيل: فما معنى قوله: " إني تارك فيكم كتاب الله حبلًا ممدودًا. وعترتي - أهل بيتي - فانظروا كيف تحفظوني فيهما ". و" مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 وما أشبه ذلك من الأخبار. قيل: هي أخبار تدل الناس على فضائلهم، وجليل مناقبهم. ورسوخ محبتهم في قلوب المؤمنين، وهم عندنا كذلك، وفوق ذلك بحمد الله ونعمته، ولكنهم غير مرفوعين على من ازدادوا في الطاعة عليهم، وللناس في الحب، والفضائل درجات في القلوب، على مقدار ما جعل الله لهم، فلا تؤثر الدرجات بعضها في بعض. ولكل درجة مقدار في قلب المؤمن، ألا ترى أن حب الله - تبارك تعالى - فرض على المؤمن، فهو مقدم على كل حب، ثم حبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلوه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 ثم حب من فضّل من أصحابه على أهل بيته، ثم حب أهل بيته راسخ كله، جعله الله في القلوب، لا يؤثر بعضه في بعض. فإن قيل: فكيف يكون علي دون أبي بكر، وعمر، وعثمان في الفضل، ولا تكون له الخلافة إلا بعدهم، وهو ختنه، وابن عمه؟ قيل: قد دللنا على أن الفضائل مستدركة بالطاعات، دون القرابات، فقد كان العباس عمه، وهو أقرب منه. فلم يكن له فيها حظ، وعثمان - قد - كان ختنه، فلم تخلص له الخلافة إلا بعد أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما وعنه. فإن قيل: أفليس قد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم. لعلي: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي ". قيل: لا ننكر لعلي أنه كان في الوزارة، والأخوة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كهارون من موسى، وقد كان أبو بكر، وعمر - أيضاً - وزيريه، يسميان به في عهده، وسماهما علي بعد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 موته. والنبوة، والخلافة قبل أن يلي غيره لا حظ له فيهما، لأن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان خاتم النبيين، وقد استثني في الخبر بالنبوة وهارون - صلى الله عليه - كان شريكًا لموسى في النبوة. فلم تكن لتبطل نبوته بعد موت موسى - صلى الله عليه - لو مات قبله ولا كانت تتحول خلافته، فيلزمنا أن عليا لما لم يجز أن يكون نبيًّا كان خليفة، ولو كان هارون خليفة موسى - صلى الله عليه - بعد موته. ولم يكن نبيًا برأسه، لاحتمل أن يكون علي - مع قول النبي، صلى اللَّه عليه وسلم، فيه - خليفة بعده، قبل أن يلي غيره، فلما كان هارون مستغنيًا عن الخلافة بالنبوة، ولا حظ لعلي في النبوة، لم يكن لاعتلال المعتل بخلافته بعد النبي، صلى الله عليه وسلم، بهذا الخبر وجه. وقد يحتمل أن يكون النبي، صلى الله عليه وسلم، لما خلف عليًّا - رضي الله عنه - في غزوة تبوك، جعله خليفته على من خلفه إلى وقت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 انصرافه، كما جعل موسى - عليه السلام - هارون خليفته على بني إسرائيل، لما ذهب لميقات ربه، وكذا روي في الخبر أن عليًّا حزن لذلك، فقال: تخلفني وتذهب؟! فقال: "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي ". وفي موت هارون قبل موسى - عليه السلام - أدل دليل أنه أراد خلافة الحياة، لا خلافة الموت - وقد رُوي: " لا نبي معي " الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 وخلافة الحياة، خلاف خلافة الممات، وقد استخلف أبا بكر - رضي الله عنه - على الحج، ثم أرسل عليًا على إثره بسورة براءة، فكان كل واحد منهما خليفته فيما أسند إليه من الحج، وتبليغ سورة براءة. فليس في الخبر متعلق للشيعة في خلافة علي، بعد النبي، صلى اللَّه عليه وسلم، إن أنصفوا، ولم يكابروا، ولتخليص هذا موضع غير هذا الكتاب. قال محمد بن علي - رضي الله عنه -: فهذا ما دل عليه الكتاب والسنة من تقدمة الناس بالتقوى والطاعة، بعضهم على بعض. فإذا جئنا إلى الأنساب لم ننكر أن العرب أفضل من غيرهم، وأن رسول. اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأهل بيته أفضل من سائر قبائلها نسبًا. فللرسول، صلى اللَّه عليه وسلم، فضل الدين، والنسب معًا والكرامة على الله - جل وتعالى - على جميع الخلق، ولأهل بيته فضل عليهم في النسب، دون الدين، لما دللنا عليه من أن الدين مفاضل الناس فيه بالتقوى، لا بالنسب، وكذا سائر العرب، كل من قربت ولادته من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان أفضل نسبًا ممن بعدت منه، يفضل الأقرب فالأقرب في النسب على من دونه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 وأفضل الدين طريق واحد، وهو التقوى. ذكر المال: وقوله - تعالى -: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) دليل على أن كثرة المال سبب لفساد الدين إلا، من عصمه الله - عز وجل - لم يجعله فتنة عليه، فهو معصوم مخصوص بالكرامة، كمن كان غنيُّا من أصحاب رسول اللَّه، صلى الله عليه وسلم، ومن لم يعصمه فكثرة المال له مهلك. * * * وقوله: (وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ) دليل على أن لا سبيل إلى الازدياد في الرزق بالحيل، والمكاسب، لأن الله وعد الأرزاق. وضمنها بقوله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) فرزق كل عبد مجموع عنده، ينزل عليه بمقدار ما يصلح له، وهذا وإن كان كذلك، فلا متعلق - فيه - لمن يفضل الفقر على الغنى، ولا لمن يحرم المكاسب من الصوفية، لأن الآية وإن كانت خروجها عامًّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 في المخرج، فقد دخلها الخصوص بمن كثر ماله من أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فلم يفسده، ولا بغى فيه، وكان ماله - وإن كثر - داخلاً في القدر الذي ينزله الله بمشيئته، فكيف يمكن أن يفضل الفقر على الغنى - جملة - وقد كانت لرسول الله، صلى اللَّه عليه وسلم، أحوال في المال، كثر عنده في وقت، وقل في غيره، فهل يجوز لأحد أن يقول: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين قلَّ ماله كان أفضل منه حين كثر، أم يجوز أن يقول: إن درجته في الفضل حين أفاء الله عليه قرى عربية اتضعت، هذا والله عظيم لمن توهمه، فكيف لمن قاله؟! . بل المال محنة واختبار لأهله، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 فمن أطاع الله فيه نفعه، ومن عصاه فيه ضره، ولا يقال: الغني أفضل من الفقير، ولا الفقر أفضل من الغنى، إلا أن الأغلب أن فتنة المال أكثر من فتنة الفقر، وللفقر -أيضاً - فتنة. وأما ما عليه الصوفية الحرمين للكسب، فإن الله - جل وعلا - لا تضمّن الأرزاق، وقدّر تنزيلها، لم يَعد أحدا في كتابه أنه يوصله إليه بغير واسطة سبب، بل خلق المكاسب، وأباحها لخلقه، فقال: (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) ، وجعل رزق نبيه، صلى اللَّه عليه وسلم، تحت ظل رمحه، يصل إليه بقتال العدو، فالغنائم، والتجارات، وأعمال اليد - كلها - مكاسب، ودل في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 كتابه، وعلى لسان نبيه، صلى الله عليه وسلم على وجوب التجارات، وعلى ما يحل منها، ويحرم، فلو كانت أسباب الرزق محرمة لكانت هذه الأشياء: من أبواب الربا. والغرر، وبيوع الجاهلية لا تخص دون سائرها بالتحريم، ولكان تحريم المكاسب جملة قد حظر جميع التصرف وهذا قول عظيم، خبيث يؤدي إلى الإباحة - لمن ميزه - ويسوي بين أملاك المسلمين، وأهل الحرب، إذ لابد لمن يقول: بتحريم المكاسب من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 أكل، وشرب، ولباس، فإذا لم يميز وجوهه، ورأى ما يصل إليه من الوجوه - كلها - مباحًا فقد دخل في هذه التسوية، وأباح أخذ الأموال بالسرقة، والغصوب، والاقتدارات، كما يبيح أموال أهل الحرب سواء، وهذا سوء مقال، وأجدره بالمحال، وأردّهُ للقرآن - كله - مثل قوله: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) ، وقال: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) و (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا) (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا) ، فمن حرم الكسب - وهو مجوف محتاج إلى الأكل، والشرب ولا يسل ولا يتعرض إذ، المسألة، والتعرض معًا كسب - فقد قال بالإباحة، عند من تدبر قوله. ذكر المعتزلة: * * * وقوله: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 ممهِّد للمؤمن - مَنْ طيَّب نفسه - من احتمال المصائب. إذا علم أنها مكفرة لسيئاته، وموجبة له عفو ربه. وفيه تنبيه للقدرية. والمعتزلة - فيما احتججنا عليهم - من مرض الصغار، والمجانين. الذين يصيبهم المؤلمة بلا اكتساب شيء، كان منهم، كما دل اللَّه - جل جلاله، في هذه الآية - من خاطبه من العقلاء المميزين، أن مصائبهم تصيبهم باكتساب أيديهم، فليس لفرقهم بينها وبين مصيبة النار معنى، إذ كليهما تعد مصائب، لما فيها من الآلام على الأجسام، ألا ترى أن النار لم تكن مصيبة على إبراهيم، صلى اللَّه عليه وسلم، بل نعمة فما بالهم - ويحهم - يفرقون بين الألمين. والمصيبتين بما لا فرق فيه. فإن كان تصور الجور عندهم في تعذيب من أجرم بقضاء الله لأنه معذب من لا ذنب له - عندهم - فهذا الطفل، والمجنون يعذب في الظاهر، ولا ذنب له. وإن كان تصور الجور فيه - عندهم - من غير هذه الجهة فليدلوا عليه، لنجيبهم عنه، ولا سبيل لهم إليه. ذكر الآثام: * * * وقوله: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 دليل على أشياء: فمنها: أن في الآثام صغيرًا، وكبيرًا، وأن اجتناب الكبير يكفر الصغير، ويؤيده قوله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) . ومنها: أن العفو عن المسيء، وغفران سيئاته ممدوح عند الله، مرضي لديه. ومنها: إجازة الصلة، وزيادة التأكيد في الكلام، وأنهما غير حاطين من درجة الفصاحة، لأن " ما " صلة، و " هم " زيادة تأكيد. ذكر التشاور: وقوله - تعالى -: (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) ، دليل على أن التشاور طاعة للَّه، واقتراب إليه، إذ قد جعله - جل وتعالى - في جملة ما مدح به القوم، وكل شيء حمله الاستجابة له، والصلاة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 والنفقة، وكذلك الانتصار بعد الظلم ممدوح، إذا أراد به المنتصر إعزاز دين الله، لقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) . فإذا انتصر المظلوم لنفسه فانتصاره مباح، وعفوه أفضل، لقوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) إلى قوله: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) . وقد يدخل في قوله: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إباحة حبس المغصوب عن غاصبه بقدر ما غصب، إذا قدر عليه، وقد بينته في سورة المائدة. * * * وقوله: (إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) دليل على أن إدخال " اللام " في خبر " إن "، وإسقاطه جائز فصيح، ألا ترى أنه قد أسقطها في سورة لقمان، عند الإخبار عنه في وصية ابنه (إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 وأثبتها ها هنا. ذكر المعتزلة: ودوله - تعالى -: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) . حجة على المعتزلة والقدرية في الإخبار بالإضلال عن نفسه لهم، ونفى السبيل بذلك عنهم، وأمرهم على إثر ذلك بالاستجابة، فهل ذلك - ويحهم - إلا نص قولنا، وضد قولهم، ومعرفة كيفيته عنا مغيب، وهو عدل لا ريب فيه، وإن جهلناه. ذكر أن القرآن كلام الله: * * * وقوله: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) دليل على أن الله متكلم وإذا كان متكلمًا، والقرآن كلامه، فقد ثبت أنه غير مخلوق. وليس للقوم متعلق في ذكر الحجاب، لأنه يعني بذلك في الدنيا. وهو مثل الرؤية الزائلة في الدنيا، والكائنة في الآخرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 ذكر تأييد الاحتجاج بالقرآن: قوله - عز وجل -: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) إلى قوله: (مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) ، دليل على تأييد الاحتجاج بالقرآن. وأن الهداية لا تكون إلا به، أو بما يدل - هو - عليه. وفيه حجة على القائسين، والمستحسنين، إذا كان رسول رب العالمين لم يعلم قبل تعلُّم، فالقائس، والمستحسن أولى أن لا يعلم قبل تعلم، إذ القياس، والاستحسان ليسا بمنصوصين في القرآن بألفاظهما، ولا بلفظ متفق على تأويله فيتعلما، فكيف يكونان حجة على الخلق وقد أخبر الله أن الهداية في القرآن المتعلَّم. ذكر الستن: وقوله - تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ) حجة في قبول السنن، وزوال الارتياب في أن قول الرسول - كله - حق من عند الله، وهاد إلى سبيل الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 سورة الزخرف الإقرار ببعض الحق: * * * قوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) ، وكذلك قوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) . دليل على أن الإنسان لا يكون بإقراره ببعض الحق مؤمنًا حتى يقر بجميعه، وأن الكفر ببعض الحق كفر بجميعه، ألا ترى أن القوم قالوا حقًّا، لم ينفعهم الإقرار به، وقد ردوا غيره. ثبوت الأسباب: وقوله - تعالى: (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا) ، وأمثاله في القرآن، دليل على ثبوت الأسباب، وأنها غير مؤثرة في توكل المتوكلين، ولا في قدرة الخالق، وهو نظير ما مضى - في سورة الكهف - من قوله: (وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ) ألا ترى أن الله - جل جلاله، لا محالة - قادر على إنشار الأرض بغير مطر، فأنشرها بالمطر. * * * وقوله: (كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) يحتمل معنيين: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 أحدهما: أن يكون إخبارًا عن قدرته على إحياء الأموات، كإحياء الأرض بالنبات. والآخر: أن يكون مثل الحديث المروي: " إن اللَّه - جل ثناؤه - إذا أراد أن يحيي خلقه يوم القيامة أمطر عليهم من السماء مطرًا، فينبتون به نباتًا، بقدرته ". ذكر حط درجات النساء، عن درجات الرجال قوله - تعالى -: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) ، دليل على حط درجات النساء، عن درجات الرجال. وبيان تفضيل الرجال عليهن، وأن الآباء مندوبون إلى تحلية بتاتهم، لأنهن لا يقدرن على النشوء فيه - صغارًا - إلا وقد حلين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 بما ينشون عليه، وأن الرجال لا يجوز لهم المَحلي بحلي النساء، تشبهًا بهن لأن ذلك أمارة نقص المرأة، وأن المرأة إذا كان لها حق تطالب به وكلت رجلاً يطالب لها، إذا هي غير مبينة في خصومتها. الرد على الجهمية: قوله - تعالى -: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) دليل على غير شيء: فأوله: رد على الجهمية - (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا) - في باب الجعل الذي لا يعدونه إلا خلقًا، ليتطرقوا إلى خلق القرآن، وهم لا يستطيعون أن يجعلوا " الجعل " ها هنا خلقًا، إذ محال أن يكون الكفار خلقوا الملائكة إناثًا، إنما افتروا على الله، وادعوا عليه دعوى باطل، وكفر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 والثاني: أن الحكم على الغيب محظور على كل أحد، بغير عيان. ولا خبر صادق. والثالث: تقريع للشهود أن لايشهدوا على شيء يسألون عنه إلا بعد تيقنه، والتثبت فيه. وقوله - تعالى -: (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ) ، نظير ما مضى - في سورة الأنعام - من قوله: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) ، والجواب فيهما واحد. * * * وقوله: (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ) نظير ما مضى - في سورة المائدة - من قوله: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ) ، إذ لم يكن فيما كان عليه آباؤهم شيء من الهداية، بتة. وقد تأكدت حجة الشافعي - بها - جدًّا، وضعفت حجة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 ذكر الحسد: وقوله تعالى -: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) ، دليل على أن تعظيم الأغنياء، والمتريسين بالثراء قديم في أطباع من لم يعصمه الله بالإيمان ويبصّره رشده، ألا ترى المساكين كيف ظنوا أن من كان - عندهم - عظيمًا رئيسًا أحق بالنبوة من محمد، صلى اللَّه عليه وسلم، فأخبرهم الله أن النبوة رحمة منه على من ينبيه، ليست هي بأيديهم، فيقسموها لمن أحبوا، إنما أخبر عن قسمته، ورفع فى درجة بعضهم على بعض، فقال: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) . وفي ذلك تقريع شديد، وغلظة للحاسد أن لا يحسد من فضله الله في المعيشة عليه، لأن في حسده تسخط قضاء ربه - وقد رضاه بقسمته - والازدراء بنعمة الله عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 المعتزلة: وقوله - تعالى -: (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) ، حجة على المعتزلة، والقدرية لمن تدبره. بشارة لمن صرف عنه متاع الدنيا: * * * قوله: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) إلى (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) ، دليل على تزييف الدنيا، وزبرجها - كله - وتعزية لمن قدر رزقه، ولم يوسع عليه، وبشارة لمن صرف عنه متاع الدنيا، وليس فى هذا نقض لما مضى في قوله: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) ، لأن الغنى قد يشترك فيه المؤمن والكافر، والدين مخصوص به المؤمن دون الكافر، والجنة جزاؤه، والنار جزاء الكافر. فالمؤمن يستعين بغناه على طلب الجنة، والكافر يستكثر به الإصرار، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 وهو مملو به، ليزدادوا إثمًا، والمؤمن منظور له، ليزدادوا جزاء حسنًا، والله أعلم. الإشارة: وقوله - تعالى -: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حجة في أشياء: فمنها: جواز الإخبار بلفظ الحاضر عن لفظ الغائب. ومنها: رد على المعتزلة والقدرية في تقييض الشيطان للعاشي عن ذكر الرحمن، وتصييره قرينه. ومنها: أن إثباءهم بإضافة الصدود إلى المقَيَّضين ما يجلى عماهم - في جهلهم - بإضافة الفعل إلى الفاعلين، وإخبارهم به غير مؤثر في فعل اللَّه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 بهم ما فعل من حتم قضائه. ومنها: الاختصار، والاستغناء بالإشارة، وإجراء من يجري الجمع بعد توحيده - في اللفظ - ألا تراه يقول: (نُقَيِّضْ لَهُ) ثم قال: (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) ، فعلم أن " من " يعش جمع لا واحد، وإن كان في اللفظ موحدًا وعُرف بالإشارة إلى المعنى أن الصادين هم القرناء، والعاشيين هم المصدودون، الظانون ظنًّا قد أخطؤه في الهداية، ثم قال: (حَتَّى إِذَا جَاءَنَا) ، فرجع إلى لفظ " من "، لأنها موحدة في الظاهر. ومنهم من قرأ: (جآءانا) على لفظ الاثنين، يريد الكافر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 العاشي عن ذكر ربه، وقرينه، والتوحيد غير زائل - في سياق الكلام - في كلا القراءتين، ثم قال: (وَلَن يَنفَعَكُمُ) فرد إلى الجمع - كما ترى، سبحانه - وأشرك في العذاب الكافرين، والعاشين بعد ما أخبر عنهم بالظلم معًا، ولم يُفرد به الصاد، دون العاشي. أفلا يعتبرون - ويحهم - أن الفاعل يجُازى بفعله، وإن كان محمولاً عليه، كما حمَل المقيضون المصدودين على الظلم، ثم اشتركا في العذاب، وأُخذا بالجناية معًا. فهلا اقتصر على عذاب الحامل دون المحمول على ما لا يقدر الحيدة عنه؟. وما الفرق - ويحهم - بين من يحمله القضاء على فعل، وبين من يحمله قرين مُقيَّض لذلك الشيء، وكلاهما من عند الله، هل بقي في ذلك إلا التسليم لحكمه، والرضا بقضائه، والتبرئ عن علم معرفة العدل فيه، كما يعرفه العادل - في ذلك، جل جلاله - من نفسه. * * * قوله: (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 حجة عليهم واضحة. وقوله - تعالى -: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) حجة في قبول خبر الواحد - الصادق - إذ قد دللنا على أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 أمارات النبوة دليل على صدقهم، والحجة واجبة بإخبارهم، لا بأماراتهم. وقد اختلف المفسرون في هذا السؤال: فمنهم: من قال: أمره - جل وتعالى - ليلة المعراج أن يسل من أراه من الرسل في السماء. ومنهم من قال: أمره بسؤال أهل، التوراة والإنجيل ليخبروه، وإخبارهم إياه كإخبار الرسل، لأنهم عنهم أخذوا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 وفي هذا دليل على أن خبر المعيوب عليه في دينه - إذا عُرف بالصدق - مقبول، وإن أنكر حاله، إذ المراد من المُخبِر صدقه، لا غيره. وليس إلمام المذنبين - المعروفين بالصدق - بالذنوب، والمتأوّلين أمورًا بأكثر من كفر الكافرين. وقد يحتمل أن يكون أُمر بسؤال من أسلم، منهم عبد الله بن سلام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 وغيره، وليس ذلك في الآية. * * * وقوله: (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا) نظير ما مضى - في سورة الأعراف - من قوله: (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا) . * * * وقوله: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) حجة على الجهمية فيما ينفون عنه من كل صفة يشاركه فيها خلقه إذ قد أخبر عن نفسه - جل وتعالى - أنهم قد أغضبوه كما ترى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 سورة الدخان * * * قوله: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) دليل على أنه كان في الدنيا، لأن السماء مطوية يوم القيامة. وكان الحسن يقول: إنه يوم القيامة، ويرسله عن أبي سعيد الخدري، ولا أعرف وجهه. والقول - عندنا - فيه قول ابن مسعود، لما دل عليه القرآن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ) دليل على أن في الناس من يبكيان عليه، إذ لا يخُصُّ أولئك بذلك، ويجُعل عقوبة لهم إلا وغيرهم مكرم به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) حجة في تسمية المخلوق باسم الخالق، ورفع الحرج فيه، ودليل على أن تقريع المعذب بما أداه إلى عذابه جائز، لأنه زيادة في غمه. وكان بعض أهل التفسير يقول: هو على طريق الاستهزاء، لأن أبا جهل كان يزعم - في الدنيا - أنه أعز الناس، وأكرمهم، فعُرِّف في النار أنه أذل، وأحقر مما قال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 سورة الجاثية رد على من يقول بخلق القرآن: قوله - تعالى -: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) حجة على من يقول بخلق القرآن من الجهمية، والمعتزلة، ويحتج بقوله: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) . فهلا يزعمون - ويحهم - أن الله مخلوق، إذ قد سمى نفسه، وآياته حديثًا، كما ترى. وقولهم - في الحديث - غلط غير مشكل، إنما معنى الحديث في اللغة ما يحدث عند الناس، مما لم يكن لهم به عهد، ولا عرفوه، وكان توحيد الله، وخلع الأنداد، وتلاوة القرآن مما لم يكن لهم به عهد، فحدث عندهم، وكان ما عهدوا من آبائهم، ومن سلف قبلهم ترك توحيد الله، وجعل الشركاء معه. وعهد الشعر، والخطب، فكان توحيد الله، وتلاوة كلامه - معًا - حديثين عندهما، لا أنهما أحدثا بالخلق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 المعتزلة: * * * قوله: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) الآية. حجة على المعتزلة، والقدرية واضحة غير مشكلة، وعظة لمتبعي الهوى، وتقريع لهم شديد، ودليل واضح على أن العلم - مع الخذلان - غير نافع، وبعث على الاستهداء من عند الله، وطرح الكيف بين يديه، والتبرؤ من الحول والقوة إليه ذكر الدهرية: وقوله - تعالى - إخبارًا عن مشركي العرب: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) حجة على الدهرية فيما يزعمون: أن مهلكهم العمر، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 يأتي عليهم فيخلقهم، ويفنيهم، فأخبر الله - تبارك وتعالى، عنهم - أن هذا ظن يظنونه، وليس كذلك، بل الله مهلكهم، وقال على إثره: (قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ) قيل: فما وجه حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر، فإن الله هو الدهر". قيل: وجهه أن القوم كانوا - في جاهليتهم - يقدرون أن المصائب التي تصيبهم، هي من فعل العمر بهم ولا يعلمون أن لهم صانعا يفعل بهم ذلك، ويصيبهم بالسراء والضراء، وكانوا يسمون عمر الدنيا الدهر. فلما أسلموا كانت ألسنتهم جارية بعادتهم، فكانوا يسبون الدهر عند الشدائد تصيبهم، والمصائب تنزل بهم، فنهاهم رسول الله، صلى اللَّه عليه وسلم، أن يسبوا الدهر، الذي لا صنع له فيهم، وهو مدبَّر معهم، فقال: "لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر" أي فإن الذي يفعل ذلك بكم هو الله - جل وعلا - فسماه بالدهر، لدوامه لأنه الأول، والآخر، لا انقطاع له، ولا زوال لملكه، سبحانه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 ذكر المعتزلة: وقوله - تعالى - (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) حجة على المعتزلة، والقدرية إذ، النسخ لا يكون إلا مما قد فرغ منه مرة، ولو كانت كتابة ابتداء كان - والله أعلم - (إنا كنا نكتب ما كنتم تعملون) . الوعيد: وقوله - تعالى -: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ) إلى آخر القصة، حجة عليهم في بالب الوعيد لو تدبروه، لأنه قال - في أول القصة -: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا) ، ثم أخبر بمثوى كل فريق، ومجازاته فقال: ((فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ، ولم يقل: (ولم يذنبوا) ، والمؤمن إذا صلى، وصام، وتوضأ، واغتسل من الجنابة فقد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 عمل الصالحات، ولا ترى مؤمنا - وإن أذنب - إلا وقد فعل كل هذا وزيادة، وقال - في الفرقة الأخرى -: (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) فحق الوعيد عليهم بتعريتهم من الإيمان، فمن أوجب الله له الفوز. ووعده الإدخال في رحمته فقد أمن مثوى الآخرين، وجزاءهم. فإن أوجدونا في القرآن - كله - أن الله لم يوجب الرحمة، والفوز. والجنة إلا لمن لم يعصه طرفة عين، أو عصاه فمات تائبًا، فالقول قولهم، وإلا فليقروا أن الخلود لا يجب على من آمن، وعمل الصالحات، وليعلموا أن هذا العادل - الذين يدعون الفلسفة في معرفة عدله - لا يضيع إيمان مؤمن، وصالح عمله بذنب أذنبه. فيسوي بينه وبين الكافر، الذي لم يؤمن طرفة عين، ولا عمل من صالح عمله شيئًا، وما بال القضاء بالذنوب يُنفى عن الله - جل وتعالى - محاماة على عدله عندهم، ولا يُنفى عنه التسوية بين المؤمن. والكافر في الخلود، وما بال إيمان الكافر - إذا آمن لحظة - يستعلي على كفره جميع عمره، وإحسان المؤمن - عمره - لا يستعلي على ذنب أذنبه؟! ومع إحسانه إيمانه. ألِأَنَّ الذنب أعظم من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 الكفر، وأوزن في الميزان منه؟! ، إن هذا منهم إلى تجوير الله - تعالى عن قولهم - أقرب منه إلى تعديله، وكذا قال: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ، وكذا (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا) والفساق - في هذه الآية - هم الكفار، لقوله في آخر الآية: (وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) . لأن المؤمن - وإن ساء عمله - لم يكذب بعذاب النار، وقال : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) ، ومثله في القرآن كثير. فإن احتجوا بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) . قيل: استقامتهم هو على ما قالوا، ألا ترى أنه لم يقل: " استقاموا " على غيره، وكذا رُوي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه تلا هذه الآية، فقال: " قد قالها الناس، ثم كفر أكثرهم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 فمن قالها حتى يموت فهو ممن استقام عليها. فالمذنب حقيق بالعقوبة، موعد بها، غير حقيق بالخلود مع الكفار، فإن عفا عنه ربه، وغفر له، فهو أهل العفو والمغفرة، وإن جازاه على سيء عمله، وعاقبه عليه أنجزه ما وعده من الخير على العمل الصالح، حيث يقول: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ) الآية، وما بال العفو يكون - عندهم - خُلْفًا " لقوله: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) ، وقد دللنا على أن العفو كرم لا خلف، ولا يكون خلود المؤمن مع الكافر - في النَّار - إذا مات بغير توبة من ذنب عمله خلفًا، لقوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) فمتى يرى هذا الخير - ليت شعري - إذا خلد في النار؟! إن الخطأ في قولهم أبين، وأظهر من أن يحتاج فيه إلى هذا الإغراق كله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 سورة الأحقاف قوله - تعالى -: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) . دليل على أن النساء قد يلدن لستة أشهر، وقد سبقنا إلى هذا علي وابن عباس رضي الله عنهما. * * * قوله: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) رد على القدرية، والمعتزلة فيما أخبر عنه من إيزاع الشكر، والتوفيق للعمل الصالح، ولو كان مستطيعًا بنفسه لكان دعاؤه محالاً، ثم أثنى عليه ربه، وأضاف العمل - الذي هو أعانه عليه - إليه، فقال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ) فالعمل حسنه، وسيئه مضاف إلى عامله، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 وإن كان معانًا على الحسن، مقضيًا عليه بالسيء، ولو كانت الاستطاعة مستغنية بنفسها ما عمل أحد عملاً سيئًا - أبدًا - إذ ليس يخلو العمل السيء من أن يكون عامله عارفًا بعقوبته، أوجاهلا بها، فإن كان جاهلاً بها فالحجة - بعد - لم تلزمه حتى يعرف عقوبة العمل الذي أمر باجتنابه وتوعد عليه، وإن كان عالمًا بعقوبته فليس يخلو: من أن يكون فعله له بعقل، أو غير عقل. فإن كان بغير عقل فلا حجة عليه - أيضاً - لرفع القلم عنه، وإن كان يعقل - وهو مستطيع لأن لا يعمله - فليس في فطرة العقول أن يهلك عاقل نفسه. ولا يطرحها في النار. وإن كان شاكًا في عقوبة ذنبه، لأنه لم يعاينها، فهذا بعد لم يؤمن بالله، ولا دخل في جملة الموحدين، فضلاً عن النظر في القضاء والقدر. أفلا يعتبرون أنه عالم ما يُعاقَب عليه بعقل وإيقان، ولكنه لا يستطيع الحيد عما قُضي عليه قبل خلقه، ومعرفة العدل في ذلك منفرد به خالقه جل وعز. ثم قال: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا) إلى تمام قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 وهو - والله أعلم - ما قال (وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فهو واضح لا إشكال فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 سورة محمد ذكر المفاداة: قوله - تعالى -: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) دليل على أن المفاداة والمن لا يجوز قبل النكاية والإثخان. ودليل على جواز المفادة وردّ من قد أُخرج إلى دار الإسلام - منهم - إلى دار الكفر، والمن عليه قبل الإسلام، لأنه إذا أسلم استغنى عن المن عليه، وحرم المفادة به. التقوى: وقوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 دليل على أن من استشعر التقوى في مقاصده، وأخلص النية للَّه - في أعماله - لم يسلمه الله إلى عدوه، ولم يعله عليه، وكان الظفر له على من ناوأه. * * * قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) . حجة على المعتزلة، والقدرية في الإخبار بالطابع عنه، وباتباع الهوى عنهم. المرجئة: قوله - تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 حجة عليهم في إعطاء التقوى، وعلى المرجئة في زيادة الهدى. ذكر المبالغة فى الشىء: * * * قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) . حجة عليهم واضحة، وهي حجة لمن أراد المبالغة في شيء يذمه، أو يمدحه، أن يفرط فيه - في اللفظ - ولا يكون كذبًا، إذ معنى الصمم، والعمى لا محالة هو ما حال بينهم وبين استماع الموعظة. والانتفاع بها، والعمى عن طريق الهداية، أفهم، كانوا يستمعون ما يخاطبون في أمر دنياهم، ويهتدون الطرق في طلبها، وكل ما دعا إليها. المعتزلة: وقوله - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 حجة عليهم، لأن الشيطان هو الذي دللنا على أن الله قيضه ليزيبن لهم، ويملي بقوله: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) ، ألا ترى أنهم قد حيل بينهم وبين الهدى، بعد ما تبين لهم بشيء قيض الله لهم، وهذا مع ما قد أخبر بالتزيين والإملاء لهم عن نفسه في موضع آخر والتسويل والتزيين واحد. ذكر الأشرار: * * * وقوله: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) دليل على أن للأشرار ظواهر - نكير تدل على ما يخبون من الشر - لا تخفى على ذوي الأبصار، والمتوسمين من الأخيار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 ذكر أن الهدنة لاتجوز مع قوة الإسلام: * * * قوله: (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) دليل على أن الهدنة لا تجوز مع قوة الإسلام، وكثرة أهله، واستعلائهم على أعدائهم. ولا يضرب لها مدة صغيرة، ولا كبيرة. واحتجاج الشافعي رضي اللَّه عنه على جوازها - مع قوة الإسلام - أربعة أشهر، لقوله - عز وجل -: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) ليس ببين، لأن الهدنة هي على ترك القتال، والأجل المضروب في سورة براءة للإسلام، فكان من جاء مسلما" فيها قُبل إسلامه، ومن جاء بعد انصرامها - من هؤلاء القوم بأعيانهم مسلمًا - لم يقبل منه. وإن شُبّه كل أحد قوله: (إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) قيل نفس البراءة محتملة لنقض العهد، الذي عوهدوا عليه، والدليل على ذلك الغلظة على المسيَّرين، وسورة محمد، صلى الله عليه وسلم،أيضاً مدنية مثل براءة، يأمر بالقتال، والإثخان في العدو، وينهى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 في آخرها - نهيًا عن السلم نصًّا بلفظ النهي، فكيف يجوز أن يترك النهي الزاجر بالإخبار عن شيء يحتمل أن يكون الله - بجوده - قد غيره بالبراءة، إعزازًا للإسلام، وإذلالاً للكفر، والله أعلم كيف هو. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 سورة الفتح قوله - عز وجل -: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) . حجة في أشياء: أحدها: أن الله - جل جلاله - قد نسب الفتح إليه، وإنما فتحه بأيديهم، ثم يقال: فتح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مكة. وفتوحه كلها، فلا يكون كذبًا، ولا إضافة فعله إليه بمؤثر فيما أخبر اللَّه به عن نفسه، ولا ما أخبر به عن نفسه - منه - بمانع أن تضاف الفتوح إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورسول الله، صلى اللَّه عليه، فتحها مع أصحابه، والإخبار بها عنه وحده لأنه الرئيس. وميسر الفتح - على الرئيس وغيره - ربهم. فهو الآن حجة على المعتزلة في الأفعال، وعلى المتنطعين من الناسكين في تضييق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 الكلام، الذي ينسبون. ما خالف باطنه ظاهر اللفظ إلى، الكذب، وهذا من جهلهم بسعة اللسان، ولايعرفون الكذب المعدود في عداد الآثام. وفيه دليل على أن اللَّه - جل جلاله - أثاب نييه - صلى الله عليه وسلم - على شيء هو فعله به، فغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وكذا يفعل بجميع المؤمنين، يوفقهم للعمل الصالح، وييسره لهم ويعينهم عليه، ثم يثيبهم جودا منه وفضلاً. وفيه دليل على أن النبي - صلى الله عليه - في نبوته وجلالته ومنزلته من اللَّه - كان غير مالك لما سبق به قضاء ربه علمه من الوقوع في ذنب يغفر الله له، فمن بعده من أمته أجدر أَن لا يملكوا ذلك من أنفسهم، وقد ألحقهم الله - جل جلاله، بفضله ورأفته - به فغفر لهم وكفر سيئاتهم فقال: (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) ومنها: أن هداية النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد، النبوة إلى الصراط المستقيم - لا يكون، إلا زيادة في إيمانه، وهو رد على المرجئة. ذكر المرجئة: قوله - تعالى -: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 حجة على المرجئة واضحة. ذكر الاختصار: وقوله - تعالى -: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) . أظهر شيئًا دليلاً على الاختصار والإشارة إلى المعنى، لأنك كيف قرأت - بالياء، أو بالتاء - فذلك فيه واضح، وقراءته بالتاء أظرف قراءة، وأكثر القراء عليها. ذكر الجهمي@ة. قوله - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) حجة على الجهمية والمعتزلة في غير شيء: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 فمنه: أن المبايعة فعل واصل من الأتباع المخلوقين إلى الرؤساء المخلوقين، وقد أخبر الله - نصاً كما ترى - بالبيعة له. ومنه: أن الله جل جلاله إن لم تكن له يد متصف بها، غير مخلوقة يعرف صفتها من نفسه، ومستحيل ذلك عليه - بزعمهم - وقد قال الله: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) فقد لزمهم أن يقولوا: إن المخلوقين ليست لهم أيدي جسمانية فيخالفوا العيان - مكابرة - وإلا فلا يتحكموا. وليت شعري أي شيء نفعهم حيث تأوّلوا في يد الله القوة، والنعمة والقوة والنعمة يكونان للمخلوقين -أيضاً - فهل يكون ذلك إلا أن قوة، ونعمة لا يشبه ما للمخلوقين، وكذلك يكون له يد لا تشبه أيدي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 المخلوقين، لو أنصفوا. ذكر الروافضة: * * * وقوله: (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) ، إلى قوله (يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) اختلف قتادة، والحسن في القوم. فقال قتادة: هم هوازن وثقيف دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 وقال الحسن وغيره: هم فارس والروم، دعاهم أبو بكر إلى قتالهم، بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ففيه الآن حجة على الرافضة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وقد سبقنا إلى هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 عبد العزيز المكي. ذكر العمل الصالح: * * * وقوله: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) إلى قوله: (وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا) دليل على أن اللَّه - جل جلاله - قد يثيب المؤمن رزقا - في الدنيا - على العمل الصالح، ولا يحط ذلك من درجة فضله. ويجعل ذلك من أطيب وجوهه، ألا ترى أن الغنائم أطيب وجوه الكسب، وأمطر الله على نبيه أيوب حين عافاه، من بلائه جرادًا من ذهب، لم تبتذله الأيدي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 فالدنيا - المذمومة - وزبرجها هو ما يكتسب من خبيث المكاسب. ومحظور الوجوه تفاخرًا وتكاثرًا، وذلك من غضب الله على أهله. ومن إبلائه لهم. فأما الرزق الحلال، الذي تعقبه الطاعة، ويجعله الله ثوابًا لأهله فهو عطيته لهم، يستعينون بها على طلب الآخرة - الدائمة - يتعففون بها عن زيادة المسألة، وبِذلة الوجوه، وإخلاقه بالإلحاف فيها. * * * وقوله: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) حجة على المعتزلة والقدرية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 المعتزلة: قوله - تعالى -: (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا) . حجة عليهم فيما سبق من القسمة أن يكونوا أهلها. وأحق من غيرهم بها وهي " لا إله إلا الله " وكذلك رُوي عن رسول اللَّه، صلى الله عليه وسلم، وإلا فما الفائدة إذًا في قوله: (وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا) وقد دُعونا ومن كذب بها وأباها دعوة واحدة. ذكر الاستثناء فى الإيمان: * * * وقوله: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 حجة لمن يستثنى في الإيمان، ولا يكون شكًّا منه وقد سبقنا إلى هذا غير واحد من أهل العلم. ذكر، الحلق: * * * وقوله: (مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ) ودعا النبي - صلى الله عليه وسلم - للمحلقين ثلاتا، وللمقصرين واحدة - وكلاهما قائم بمناسك الله، مطيع له فيها - دليل على أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 كل ما صعب من الأعمال كانت أعظم للثواب، وأدق في الأكمال - التي هي فرائض - ما يكون أكثر ثوابًا، وإن كان جميعها فرضًا. وفي قوله - تبارك وتعالى في سورة البقرة -: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) ، ولم يذكر القصر كالدليل على أن المنسك هو الحلق. فإن قصر أَجزأ - عنه - كما الفرض في الوضوء غسل الرجلين، فإن مسح على خفيه أجزأ عنه. قال محمد بن علي: وقد كره قوم حلق الرؤوس - في غير الموسم للحج والعمرة - وزعموا: أنه تشبيه بالخوارج، وليس هو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 عندي بالبين، لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، لم ينكر من الرجل - الذي قام عليه فأمره بالعدل في القسم - حلق رأسه. إنما أنكر كلامه، وما عرفه من سوء مذهبه، وبعث في طلبه من يقتله (1) لما أنكر منه، لا للحلق.   (1) المأمور أبو بكر، فقد ذكره الهندي في الكنز، ونسبه إلى سعيد بن يحيى الأموي في مغازيه، وفيه ثم دعا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر فقال: اذهب فاقتله، فذهب فلم يجده، فقال: " لو قتلته لرجوت أن يكون أولهم وآخرهم " كنز العمال) 11/318 (رقم (31613) . وفي الصحيحين ما يعارض أن الرسول أمر بقتله، فالمذكور فيهما أنه منع من أراد ذلك به. انظر صحيح البخاري - مع الفتح - (2 1/ 0 29) حديث (6933) ، صحيح مسلم (2/ 0 74) وما بعدها (باب: ذكر الخوارج وصفاتهم) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 وقوله - في آخر الحديث -: " سيماهم التحليق " لا يفيد نكيرًا - في نفس الحلق - إذ لو كان الحلق بذاته منكرًا، أو مصيِّرًا فاعله خارجيًّا. لأبيح به دماء أهله، كما أباح رسول الله، صلى الله عليه وسلم. دم ذلك الرجل، ومن كان من ضئضئه، ولو كان الحلق منكرًا بنفسه ما جعله الله - جل وعلا - في مناسك الحج والعمرة. وأنطق لسان رسوله، صلى الله عليه وسلم، بالدعاء بالرحمة لهم ثلاثًا، ولو كان الحلق مباحًا في الحج، محظورًا في غيره، لكان القصر -أيضاً - مثله، ولكان محظورا في الموسم وغيره " لأنه من سنة النساء، فكان لا يجوز التشبه بهن، لأن رسول الله، صلى اللَّه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 عليه وسلم، قد لعن المتشبهين من الرجال والنساء. وقد أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، كعب بن عجرة أن يحلق رأسه، للأذى - وهو محرم - ولم يكن حلقه ذلك حلق النسك في وقته بعد ذبح الهدي، فهلا قال - له -: خذ شعرك بالمقص، أو بالمقراضين حتى يكون أوان حلقك. وقد روَى سفيان بن عقبة - أخو قبيصة بن عقبة - عن أخيه، عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 سفيان الثوري، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر، قال: قدمت على النبي، صلى الله عليه وسلم، ولي شعر، فقال:، (ذباب، ذباب " فذهبت فحلقته، ثم عدت إليه. فقال له: " لم أعنك، - وهذا حسن. وكان الحسن، والحسين، وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - يحلقون رؤوسهم في غير أيام الموسم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 وسئل عنه الحسن البصري في الأمصار، فقال: حسن، والله جميل. فمعنى قوله، صلى الله عليه وسلم: " سيماهم التحليق " سيما من كان خارجيًّا، لا سائر الناس. (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) إلى اَخر السورة، رد على الرافضة، ومن ينتقص أصحاب رسول الله. صلى الله عليه وسلم، لأن الله - جل ثناؤه - وصفهم بهذه الصفة. وصفًا عامًّا، فكل من صحبه، وكان معه بعد الإسلام فقد استحقها. وصار من أهلها، ووجب على الناس إعظامهم، وتبجيلهم، والرحمة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 عليهم، وترك التنقص لجميعهم، وإن فَضَّل بعضهم على بعض، بما فضلهم الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم، ورحمهم أجمعين - ونعلم أن من تنقصهم فهو ملعون، مخالف للَّه في وصفهم، وحاق به لعنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " لا تسبوا أصحابي، من سبهم فعليه لعنة الله ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 سورة الحجرات حجة على من ييتغي مع القرآن في السنة سواها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) حجة على من يبتغي مع القرآن.، والسنة سواهما. ويلتمس الحجة في غيرهما، ولا يحرم القول بغيرهما أو بالإجماع الذي عليه دلاهما (1) . فضيلة أبي بكر الصديق رضىِ الله عنه: * * * قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)   (1) هكذا رسمت في المخطوط (دلاهما) ولعله يريد: أو بالإجماع الذي دل عليه القرآن والسنة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 وقد صح أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه، جعل على نفسه عند نزوله أن أن لا يكلم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلا كأخي السرار. فاستوجب التقوى، والمغفرة، والأجر العظيم، فسبق الجميع إلى هذه المنقبة الجليلة، وهو رد على من تنقصه. ذكر توقير الإمام: * * * قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) دليل على أن على الناس - وإن تواضع لهم إمامهم وغض لهم جناحه - أن يوقروه، ولا ينزلوه من أنفسهم منزلة بعضهم من بعض، وأن ينتظروه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 لحوائجهم - وإن رفع حجابه - حتى يخرج إليهم. ذكر قبول خبر العدل: * * * قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) دليل على قبول خبر العدل، وقد سبقنا إلى هذا الدليل، ولكنا كرهنا أن نعري موضعه. ذكر المعتزلة: * * * قوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) حجة على المعتزلة، والقدرية واضحة. فإن زعموا: أن تحبيبه إليهم مدحه، وتكريهه إليهم ذمه. قيل: قد يمدح الشيء، بغاية المدح ولا يحب، ويذم بغاية الذم ولا يكره، لأن الحب، والكراهة فعلان من أفعال القلب ينبو عما يكره، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 وينطوي على ما يحب، وربما كان ما ينبو عنه ممدوحًا عند غيره، وما يحبه مكروهًا عند غيره، ولو كان كذلك لكان - والله أعلم - " ولكن اللَّه مدح الإيمان وحسنه، وقبح الكفر وذمه " ولا يكون حبَّب إلا حمل القلب عليه، ولا كرَّه إلا باعد منه القلب. فإذا كان المؤمن محببًا إليه الإيمان، وهو لا يقدر على المسابقة إليه إلا بتحبيب ربِّه إياه إليه، ولا يقدر على ترك الفسوق، والعصيان إلا بتكريهه إياه إليه، وقد خص بهذا المؤمن دون الكافر، علمنا أن الذي أقعد الكافر عما نهض به المؤمن عدم ما جاد الله به على المؤمن من هذين المعنيين من التحبيب والتكريه، ولا يخلو من أن يكون قادرًا على الإتيان بالإيمان، واجتناب الفسوق والعصيان باستطاعته، أو لا يقدر إلا بما ذكره الله من التحبيب والتكريه، فإن كان قادرًا - كما يزعمون - فلا معنى للاعتداد عليه بما لا منة فيه. وجل الله عن ذلك، بل يقول - فى آخر السورة -: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) . وإن لم يكن قادرًا عليه إلا بهما فقد علمنا أن الكافر - أيضاً - لم يقدر عليه لما حُرِمَ منهما. فالمؤمن هاد بتوفيق الله، والكافر ضال بخذلان الله إياه، فليلتزموه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 إذ لا ثالث لهما. تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق: * * * وقوله: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) إضمار الجميع راجع على جمع الطائفتين، لأن الطائفة تكون واحدا وجمعًا، وهو في هذا الموضع جمع وفي تسميته إياهم بالمؤمنين - مع الاقتتال - دليل على أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر " هو أن يقاتله مستحلاًّ لقتاله، فأما إذا قاتله مذنبًا، أو متأولاً، فليس ذلك بكفر، لأن الله - جل وتعالى - لم يزل اسم الإيمان عن الباغية وغيرها، ثم قال: (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) على لفظ ثأثيثها، لأنها مؤنثة اللفظ. ثم أكد الإيمان - لهم - بقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 وهو رد على الرافضة خانق لهم، فيما يكفرون مقاتلىِ علي - رضي الله عنه وعنهم - وعلى الشراة (1) فيما يعدون الذنوب كفرا ، وقد سمى الله كلًّا مؤمنا كما ترى. تحريم تسمية المؤمن بما يكره.: * * * وقوله: (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) يؤيد - والله أعلم - بعضكم بعضًا، (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ) ، دليل على تحريم تسمية المؤمن بكل ما يكره من فسق، أو كفر، أو غيره، إذ دعاء من ليس بفاسق فاسقا بهتان ولمُزة، ودعاء من تفسق بدنب تعيير، واستطالة   (1) " الشراة " هم الخوارج، وإنما سمو بذلك لقولهم: " شرينا أنفسنا في طاعة الله، أي بعناها بالجنة ". انظر مقالات الإسلاميين، ص (- 128) ، وتاريخ الفردق الإسلامية ص (264 - 265) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 عليه، وتعرض لمعافاته، وابتلاء الداعي بمثله، وفي النصيحة له. وإسرار الموعظة له مندوحة عن التنادي بما يعرف منه. وقد فتن الناس أحاديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده: " أَترِعون عن ذكر الفاجر "، وليس في أخبار بهز ما يعارض به نص القرآن في تحريم الغيبة - جملة - في هذه السورة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) ، والمؤمن - باقتراف الذنوب - لايزول عنه اسم الأخُوَّة للمؤمنين، فكيف يسلم المغتاب من أكل لحم من اغتابه من المذنبين والمطيعين، وكلاهما إخوة في الدين، وذنب المذنب على نفسه، ومعاملته فيه مع ربه، وحقوق أخوَّةِ الإسلام قائمة - على أخيه - لم يزلها ظلمه لنفسه. وحديث بهز هذا، رواه الجارود بن يزيد، وهو كذاب. وروى معناه، أو قريبًا منه الأنصاري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 والأنصاري، وإن كان في عداد المحدثين المحتملين فلا يثبت بروايته - إذا انفرد - حجة، وسيما إذا روى عن بهز، وأحاديثه - فى أنفسها - غير قوية، وقد حرم - مع ذلك - أذى المؤمن جملة وقد وُعد عليه الإثم المبين في قوله: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) . وفي قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " من آذى مسلمًا فقد آذاني، ومن أذاني فقد آذى الله ". وقال - تبارك وتعالى، في أذاه وأذى رسوله -: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) فكل أذى يلحق المذنب المعلن بذنوبه غير إقامة الحد فيما يوجب عليه ما اكتسبه - والتغبير عليه ساعة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 يطهره من ذكر عرض، وغيبة، وتنديد - فمدخل عندي مؤذية فيما أخبر الله جل وتعالى عنه في آية المؤمنين، والمؤمنات بنص القرآن. ومخوف أن يدخله في آية الله، والرسول، بدليل قول رسول الله - عز وجل - الذي ذكرناه، وحديث العلاء - عن أبيه عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث سُئل عن الغيبة، فقال: " ذكرك أخاك بما يكره قيل: يا رسول اللَّه: أرأيت إن كان في أخي ما أقول، قال: " إن كان فيه ما تقول فقد أغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " أصح، وأشد موافقة للقرآن من حديث بهز، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 وحديث معاذ مرسل لا يقوم به حجة فيا روى: " ثلائة ليست لهم في الغيبة حرمة " وهو مع إرساله ضعيف الرجال. فأرى حق المسلم على المسلم واجبًا على جميع جهاته مطيعًا. وعاصيًا، لا يغتابه، ولا يعيره، ولايشمئز من رؤيته، ولايدع إجابته إذا دعاه في وقت لا يحضر معصية، ولايعلن منكرًا، ويشمته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، ويشهده إذا قبض كغيره سواء، ما لم يحُدث بدعة تخرجه إلى الكفر، فتزول أخُوَّةُ الإسلام بها، ولا يدع نصيحته في السر، وموعظته بالرفق، إذ ليس فيما أحدثه نساكُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 زماننا - من الهجران، والإقصاء، والجفوة، والتنديد والغيبة - كتاب ولا سنة ثابتة، ولا إجماع محصل، ولا يثبت ببنيات الطريق حجة. وقد ذكرنا في سورة بني إسرائيل - عند قوله: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) - ما يغني عن إعادته في هذا الموضع. فمن جانب أخاه الذنب في أفعاله، وأنكرها عليه عند رؤيته، وحال بينه وبينها، إذا قدر عليه من ظلم يهم به، أو خمر يريد شربها فيريقها. أو ملهاة يبصرها فيكسرها، فليس عليه أكثر من ذلك، وحقوق أخيه. وتحريم عرضه - في سائر ذلك - قائمة عليه بالحجج التي قدمنا ذكرها. * * * قوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) يعدها كثير من الناس خصوصًا من أجل آدم وعيسى، صلى الله عليهما. وقد يحتمل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 أن يكون المقصود بها أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، لأن آدم. صلى الله عليه، ميت، وعيسى - عليه السلام - مرفوع فلا يكون خصوصًا، من جهة ما ذهبوا إليه، بل تكون عمومًا فيمن نزل فيها من الأمة، ونبيها، صلى الله عليه وسلم. خصوص: * * * وقوله: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) خصوص لا محالة - لقوله: (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إلى قوله: (سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ) . ذكر الإيمان: قوله - تعالى -: (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) ، ليس بخلاف لما قلنا: في سورة البقرة، وجمعنا بين الإيمان والإسلام، إذ ليس بين الأمة خلاف أن أحدًا لا يثبت له إسلام منفرد، يكون به من أهل الدين، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 ويمتاز به عن الكفر دون الإيمان، والله - جل وتعالى يقول نصا -: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) فدل على أنهم استتروا بما حقنوا به دماءهم، وأموالهم، ولم يكونوا مؤمنين، ولا نفعهم ذلك يوم الدين. ذكر المرجئة والجهاد: قوده - تعالى -: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 حجة على المرجئة واضحة، إذ هم مقرون بأن من لم يكن له صدق الإيمان فليس بمؤمن، وقد جعل الله الجهاد من صدق الإيمان كما ترى. فإن قيل: فكيف يكون من لم يجاهد صادقًا في إيمانه، إن كان الجهاد جزءا من أجزائه؟. قيل: قال الله - تبارك وتعالى -: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا) و (إِلَّا وُسْعَهَا) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 فمن لم يطق الجهاد بالنفس، والمال. وآمن به، ورآه حقا وأحبه فهو من أهله، وليس عليه غيره، والجهاد - مع ذلك فرض على الكفاية، والإيمان يزيد وينقص، فمن جاهد بنفسه، وماله كان أفضل درجة، وأزيد إيمانًا ممن قعد عنه بالعذر والرخصة، فكلاهما مؤمن، وبعضهما أزيد فيه من بعض، وكل بمقدار جزئه صادق فيه، قال الله - تبارك وتعالى -: (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) ، وهذا بعد ما عذر أولي الضرر - في أول الآية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 فقال: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 سورة ق حجة في الاستدلال بالشاهد على الغائب وبالخلق على الخالق: * * * قوله: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) إلى قوله: (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) حجة بالاستدلال بالشاهد على الغائب - من قدرة الرب - وبالخلق على الخالق من صنعه. * * * وقوله: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) دليل على جواز إضافة الشيء إلى نفسه جواز الخبر عن الاثنين بلفظ الواحد: * * * وقوله: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) حجة في أشياء: فمنها: ما دل على توحيد الفعل المتقدم على الأسماء. ومنها: اختصار الكلام، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 والإشارة إلى المعنى. ومنها جواز الإخبار عن الاثنين بلفظ الواحد، كأنه - واللَّه أعلم - كل واحد منهما قعيد. تسمية المخلوقين باسم الخالق: * * * قوله: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) حجة في تسمية المخلوقين باسم الخالق، وزوال النكير عنه، وهو تأييد لما أجزناه من تسمية الناس بالسيد. واختلفوا في خصوص اللفظ وعمومه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 فقال عكرمة: من قوله. وعن ابن عباس ما يؤجر عليه، ويؤزر وقال قتادة والحسن: هو كل شيء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 وفي هذا -أيضاً - حجة في اختزال الحرف من الكلمة، والإرادة تمامها، كأنه - والله أعلم - إلا لديه رقيب عتيد يكتب ما قال. مانع الزكاة: * * * وقوله: (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) ضمير الاثنين - والله أعلم - راجع على السائق، والشهيد. * * * وقوله: (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) وعيد شديد على مانع الزكاة، ومؤيد ما قلنا: من أن مانعها يُكفَّر، بدليل قوله: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 قوله: (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) حجة على من يتأول " عند " - على مستنكره التأويل - فما عسى أن يقول: في (لَدَيّ) هاهنا، وليس هناك ثواب يكون به قريبًا منه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 قوله: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) مما قلنا إنه لا يجوز استعمال ظاهره بتة، لأن الله - جل جلاله، لا محالة - أعلم من جهنم بما يقول لها، قد قال كما ترى، فكيف يجوز أن يحمل: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) ، وما أشبهه. فيرد به عامة القرآن، وممكن فيه على ما خرّجناه أن يكون تبعًا لما خالفه، ولا يمكن أن يجعل ما خالفه تبعًا له، لما دللنا عليه من إحالة جعل مشيئته تبعًا لمشيئة خلقه، وظهور الكفر فيه، وغير محال أن تجعل مشيئتهم تبعًا لمشيئته، والقرآن نازل بلغة العرب. ومعروف في كلامها أن يعد الملك بعض أهل مملكته وعدًا، فإذا أنجزه، قال - له -: هل وفيت لك بما وعدتك، وهو يعلم أنه قد وفى له، فلا يستفهمه لجهله بصنيعه به. وبلية القوم من إضاعة النصيحة، وإهمال التقوى، واتباع ما تشابه من كتاب الله، وبذلك وصفهم - جل وتعالى - فقال: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) الآية. فلما كان من حكمه - جل جلاله - أن يملأ جهنم من الجنة والناس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 أجمعين فملأها، فقال لها - وهو أعلم -: (هَلِ امْتَلَأْتِ) وقد علم ما جعل فيها، وكيف لا يعلم، وهو أدخلهم إيّاها سبحانه؟! وفيه دليل -أيضاً - على أن القرآن غير مخلوق، لأن الله - جل وتعالى - كل كلامه غير مخلوق، ما قد تكلم به، وما يتكلم به يوم القيامة، فكيف يجوز أن يكون (هَلِ امْتَلَأْتِ) مخلوقاً - الآن - لو جاز أن يكون - أيضاً - مخلوقاً كلامه، ومعاذ الله، وهو لم يقله بعد. * * * قوله: (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) دليل على أن قراءة يحيى بن يعمر، وإن انفرد بها على الأمر أحسن تأويلاً، من قراءة من قرأها على الخبر، لأن هل لا تكاد تلي إلا المواجهة، فكيف تترك "هل " الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 مفردة بالإخبار عن قوم نقَّبوا، ولو كان كذلك، لكان - والله أعلم - فنقَّبوا في البلاد فلم يجدوا محيصًا، فلما قال: (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) دل على أن قوله: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا) كلام تامّ كما قال: (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا) ثم ابتدأ - وهو أعلم - بالأمر لكفار قريش بأن ينقبوا في البلاد، هل ينجيهم من الهلاك، على معنى التهدد، والله ولي الصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 سورة الذاريات قوله - إخبارًا عن المرسلين -: (قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) دليل على أن الله - جل جلاله - بنفسه في السماء، لأن الحجارة لا محالة أمطرت من السماء، وقد قال: (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) . وفيه -أيضاً - بطلان قول المتأولين في: (عِنْدَ) . ذكر الإيمان: * * * وقوله: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) دليل على أن الإيمان، والإسلام وإن فرق بهما اسما فهو يجمعهما معنى وفيه رد على المرجئة. * * * وقوله: (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) دليل على أن سائر الرياح تلقح الأشجار، وتودعها الثمار، بإذن الجبار. فكانت تلك وحدها عقيمًا، أثيرت للعذاب، لا لمنافع العباد في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 أشجارهم وزروعهم. * * * قوله: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ) حجة للجهمية - فيما يرون - ولا متعلق لهم فيها، لأن اليد التي ينكرونها جمعها " أيدي " فإن كان هاهنا تلك فهي عليهم لا لهم، وإن كانت بمعنى القوة فهي لا لنا ولا لهم، بل لنا في القوة حجة عليهم لا لهم. وقد بينا في غير هذا الموضع. * * * وقوله: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) آية غليظة على من لا ينتفع بالموعظة، لما يخُشى عليه من النفاق، إذا زالت عنه منافع المواعظ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 سورة الطور * * * قوله: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) حجة لمن يشبه الروحاني بغيره، وهو حجة على المتنطعين في تضييق الكلام. * * * قوله: (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ) كان ابن عباس يقول: هو عذاب القبر. ففي تفسيره دليل على أن المؤمن المحسن ناج منه، ومقتصر به على المساءلة دونه، لاشتراطه ذلك في الظالمين، وهم الكافرون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 سورة النجم قوله - تعالى -: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) دليل على أن النبي - صلى الله عليه - كل ما سنه فبوحي سنه. * * * قوله: (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) حجة في أن الله - جل وعلا، لا محالة - في السماء. * * * قوله: (أَوْ أَدْنَى) ليس بشك، وكيف يكون شكَّا، وهو أدناه، وقد بينته في سورة البقرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 وفيه -أيضاً - حجة على متأولي (عند) على حماقاتهم. ذكر الجهمية: وقوله - تعالى -: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) حجة على الجهمية - شديدة، لا محيص لهم عنها - في تثبيت الصورة التي هي له يعرفها من نفسه، وهو - لا محالة - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 رؤية الرب بالفؤاد، لأن رؤية جبريل كانت رؤية عين، فكان يراه طول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 نبوته، صلى الله عليه وسلم، وعلى جبريل. وقد حوى باب الرؤية بالعين لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، كتابنا المؤلف في الرد على أهلى البدع بالأخبار" وبينا اختلافه وعلله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 وقوله: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) حجة على القائسين والمستحسنين والمحققين على الناس - بظنونهم - فواحش الذنوب، وقبائح الأعمال، ورد لكل ذلك منهم. تثبيت نسب ولد الزنا من أمه: * * * وقوله: (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) دليل على تثبيت نسب ولد الزنا من أمه، ومغنى عن قياسه على ولد الملاعنة، لدخول ولد الزنا - لا محالة - في هذا الخطاب، ونسبته - جل وتعالى - جميع الأجنة إلى الأمهات. * * * قوله: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 دليل على أن قارئ القرآن مندوب إلى البكاء عند قراءته. وكذا روي في الخبر: ((إن هذا القرآن أنزل بحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 سورة القمر (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) دليل على أن الآيات دالة على اقتراب القيامة. * * * قوله: (حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ) دليل على أن القرآن غاية كل حجة، وفاتق كل لبسة. * * * وقوله: (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) نظير ما مضى - في الطور - من إجازة تشبيه الناس بغيرهم، وفي ذلك حجة للشعراء إذا لم يكذبوا كذبَا محضًا، لا تأويل فيه. القدرية: * * * قوله: (فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) والقدرية بلفظ القدر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 وقوله: (جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) رد عليهم في فعل الإكفار بهم. وسواء فعله الله بهم، أو عدوّ سلطه عليهم، فهو مفعول بهم - أي كفرهم نوحًا، وتضييع شكره ومعرفة حق نبوته، ورسالته - مكتوب عليهم. * * * قوله: (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) دليل على أن السفن - بعد نوح متروكة إلى القيامة - آية للورى. * * * قوله: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) دليل على أن الذكر ملتمس منه، وطالبه معان عليه. * * * قوله: (تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) نظير (مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) . وسقوط الهاء من " الجَرَادٌ " وهو جمع، و (مُنْقَعِرٍ) ، وهو نعتُ جمع محمول على اللفظ، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 وقوله - إنكارًا على ثمود -: (فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) حجة واضحة في قبول خبر الواحد العدل، ورد على من يرده، لأن ثمود - مع بشرية صالح - أنكروا وحدته فكذبوه لذلك. والله أعلم. ذكر الماء: * * * قوله: (إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) رد على القدرية والمعتزلة في باب الاختبار، وقد لخصناه في سورة الأعراف. * * * قوله: (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) دليل على أن الماء مقسوم بين الناس، ليس لأحد أن ينفرد به، ويمنع غيره، فما كان من السماء والأنهار والعيون فالقسمة واقعة عليه بالسوية، وما كان يجُرى بالنفقة والكلفة فهو لمن أجراه، وأنفق عليه، يمنعه ممن أحب، إلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 الشَّفة (1) ، فلا يجوز منعه بوجه من الوجوه، إلا أن يحرز منه شيء في بيت أو ركوة أو آنية، أو ما أشبه ذلك. * * * قوله: (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ) دليل على أن قوم لوط عموا قبل أن يخسف بهم، ويمطر عليهم. ففيه بيان واضح - لمن تدبره - أن النظر إلى المرد للشهوة معصية، لأن الملائكة كانوا جاءوا لوطًا في صورة - المرد من البشر. فلما رمقوهم بعين الشهوة عوقبوا بالعمى. * * * وقوله: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) حجة على القدرية والمعتزلة بلفظ القدر. * * * قوله: (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) حجة عليهم واضحة لا التباس فيها، ولا عرية دونها.   (1) الشفة: الماء القليل المطلوب. انظر كتاب العين (402/3) باب الهاء والشين والفاء، ولسان العرب (7/ 157) ، والنهاية (2/ 488) " شفه ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 سورة الرحمن قوله - عز وجل -: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) . مما لا يجوز استعمال ظاهره، لأن الله - جل جلاله - لا يشغله شيء عن شيء، ومعناه سننظر في أموركم، وكذلك قال المفسرون. فضل الأبكار على الثيب: * * * وقوله: (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) دليل على فضل الأبكار على الثيب، إذ لا يصفهن ببراءتهن من الطمث إلا وقد فَضَّلَهُن على من طُمثن. * * * وقوله: (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) - نظير ما مضى من قوله: (كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) - دليل على أن الصفاء والرقة مدح في الأشخاص. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 سورة الواقعة * * * قوله: (وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) نظير ما مضى من مثله. * * * قوله: (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) نظير ما مضى في تفضيل الأبكار على الثيب. بشارة للمؤمنين: * * * وقوله: (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) إلى قوله: (أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) بشارة للمؤمنين كبيرة، ورد على المعتزلة واضح، لأن الله - جل جلاله - زمر جميع خلقه ثلاث زمر، وأخبر عن كل زمرة بما هو فاعل بها ومصيرهم إليه. فأخبر عن المقربين بما أخبر، فعلم أنه ميزهم عن المؤمنين بفضل الطاعة وزيادة ما أوتوا، إذ فيهم الأنبياء والصديقون والشهداء. وأخبر عن أصحاب اليمين بما أخبر فعُلم أنهم دونهم في المنزلة مساوون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 لهم في التوحيد، فمن كان مذنبًا موحدا فهو داخل معهم، وأخبر عن أصحاب الشمال بما أخبر وجعل في صفتهم أنهم (كانوا) (يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) . فعلم أنهم الكفار - كلهم - عبدة الأوثان، والمنافقون، وأهل الكتاب الذين لايؤمنون باللَّه، ولا باليوم الآخر، وكذا قال - في آخر السورة -: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) فلم يذكر لهم ثالثًا، وذكر أصحاب الأعراف - في موضع آخر - وذكر نجاتهم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 فهم زُمَرٌ ثلاث لا رابع لهم، أو رابع، لا خامس لهم، فمن الزمرة الخامسة - ليت شعري - التي يخلدها المعتزلة مع الكفار في النار؟! إذ غير ممكن أن تجعل واحدة من هؤلاء ولا خارج في قولهم بتة، فقد وضح - بنعمة الله - دحض حجتهم في الوعيد، بالدليل العتيد في هذا الفصل، وحقت بشارة المؤمنين المذنبين بالنجاة بنعمة ربهم ورأفته. رد على المعتزلة والقدرية فيما يرزن أن المقتول ميت بغير أجله: * * * وقوله: (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) حجة عليهم فيما يرون المقتول ميتًا بغير أجله، وهو جهل بين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 قوله: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) روي أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " لا يقولن أحدكم: زرعت. ولكن ليقل: حرثت " من أجل هذه الآية. وهذا خبر وإن كان حسن الإسناد فله معارض يشهد له القرآن وهو قوله - حين أشار بترك تلقيح النخل فحملت شيصًا -: " إن الله لم يبعثني تاجرًا، ولا زراعًا". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 وقال الله: (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) فسماهم كما ترى. وقد دللنا - في غير موضع - على إجازة تسمية الناس بأسامي اللَّه. قوله (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) هو - والله أعلم - الكتاب الذي في السماء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 وقد قال المفسرون - فيه - ألوانا، لقوله: (فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) وهذا الذي عندنا ينشر، ويبتذل، وأدل الأشياء على (لَا يَمَسُّهُ) أن يكون خبرًا لا نهيا، لأن أكثر كلام العرب على نصب المضاعف في مواضع الجزم، لخفة الفتح عندهم، وقد رفعوه - أيضًا - إلا أن الفتح أكثر، ورأينا الله أظهر هذا اللفظ في الشرط والجزاء - وهو جزم - فقال: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) ، وقال: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) فأشبه أن يكون لما ترك إظهاره - في هذا الموضع - ورفع صار خبرًا عن الملائكة المطهرين، فهذا أدل وأكثر، ولا أحتم به، لاحتماله أن يكون نهيا على جواز رفع المضاعف - في موضع الجزم - كقوله تبارك وتعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) اتفق القراء على رفعه، فأحب أن لا يمس القرآن أحد - من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 البالغين - إلا طاهرًا بطهارة الصلاة احتياطًا ولا أوجبه إيجابا، لما دللنا عليه من إمكان الخبر في (لَّا يَمَسُّهُ) وفي " المكنون "، ولاتفاق أهل الصلاة على إجازة مسه للصبيان، وهم غير متوضئين، ولو توضأوا قبل يعقلون الوضوء ونيته ما طهروا به، ولو كان نهيا متحققا لمنع الأطفال من مسه حتى ييلغوا. وحديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في كتابه إلى عمرو بن حزم فى ترك مسمه إلا للطاهرين، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 مرسل لا يثبت متصلاً. والله أعلم كيف هو. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 سورة الحديد قوله - عز وجل -: (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) حجة على القدرية والمعتزلة. فضيلة أبى بكر رضى الله عنه: * * * قوله: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) دليل على فضيلة أبي بكر - رضي الله عنه - لإنفاقه ماله على رسول اللَّه، صلى الله عليه وسلم، قبل الفتح، ودليل على أن كل عمل يُسبق إليه أفضل مما يؤخر، من غير أن نُلحق بالمتأخر تقصيرًا. ذكر حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في أمر الصدقة: * * * قوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 يؤيد حديت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله - جل جلاله - يربي صدقة المتصدق كما يربي أحدكم فَلُوَّه، أو فصيله " ألا ترى أنه ذكر مضاعفتها قبل أجرها، ليكون الأجر على ما رباه وأعظمه، لا على صغير ما أقرضه، جودًا منه وكرمًا وهو أعلم. في تسمية الصدقة بالقرض، وإضافتها إلى نفسه، وهي واصلة إلى غيره "معنيان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 أحدهما: إجازهّ وضع الكلمة موضع غيرها. والآخر: إفادتنا أن المتقرب إليه بإعطاء الفقير معظم حقه. فيخرج - الآن منه - أن المتحري مسرة رجل بإرفاد من يحبه مكرمه بذلك الرفد، ومستوجب من عنده المكافأة علي فعله. غلبة المذكر على المؤنث: * * * قوله: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) دليل على غير شىّء. فمنه: غلبة المذكر على المؤنث في قوله: (نورهم) ولم يقل: " نورهن ". ومنه: أن الإخبار بالسعى عن النور توكيد لاستعارة الكلام، وأنه - لا محالة - في لسان العرب. والباء في (وَبِأَيْمَانِهِمْ) فى معنى "عن " والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 وفي قوله: (بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) - والله أعلم - ضمير كأنه " ويقال لهم: بشراكم اليوم ". * * * قوله: (يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ) دليل على أن القول وإن كان اختبارًا في موضع فغير مانعة من أن يكون معنى غير الاختبار - أيضا - إذ محال أن يكون المنافقون اختبروا أنفسهم في الدنيا بنفاقهم، فهو الآن رد على المعتزلة والقدرية في تأويلهم إياه اختبارًا في كل موضع، وامتناعهم من إجازة غيره عليه، وكذلك قوله: (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) ، إذ قد أخبر بالغرة عن الأماني، ثم أخبر بها عن الغرور وهو الشيطان، وقد أخبر بها في موضع آخر عن الدنيا، وهو قوله: (ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) ، وإذا كان كذلك فغير ممتنع أن يخبر بالإضلال عن نفسه لهم، وإن كان قد أخبر به في الشيطان مرة وعن المضلين أخرى، فيكون فعل المخلوق أبدًا تبعًا لفعل الخالق، ولا يكون فعل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 الخالق تبعًا لفعل المخلوق. * * * وقوله: (مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ) يؤكد جميع ما مضى من إجازة تسمية المخلوق باسم الخالق، إذ قد دل على تسمية الناس به، ثم أجاز - ها هنا - تسمية النار أيضاً به. المرجئة: وقوله - تعالى -: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) ، رد على المرجئة إذ المخاطبون الموبخون بهذا قد كان لهم - لا محالة - حظ في الخشوع قبل استبطائهم وتقريعهم، إذ لو لم يكن لهم حظ فيه - وإن قل - ما كانوا مؤمنين، فهل ما التمس منهم إلا زيادة في خشوعهم، الذي بقليله استحقوا اسم الإيمان قبل أن يطالبوا بكثيره. * * * وقوله: (وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ) ، دليل على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 أن المرء ممنوع من التشبه والاقتداء بمن لا يكون مرضي الفعال، وأنه إن اقتدى به في فعل بعينه لم يصر بجميع الصفات مثله، فليعتبر المنكر على من شبه المشمئزين - من دعوة الداعى في الأحكام إلى القرآن - بالمنافقين والكافرين، وإن لم يكن منافقًا ولا كافرًا بهذا، ليردعه عن استعظام ما ليس بعظيم من المشَبِّه، بل فعل الممثممئز بالتشبيه بالقوم عظيم لو عقله، والله يغفر لنا وله. إهمال الرعاية: وقوله - تعالى -: (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) دليل على أن إهمال الرعاية مخلقة للأذكار في قلوب المؤمنين، وتعاهدها مطرية، والقسوة متولدة من طول الأمل، وإدمان الزلل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 ذكر اللهو: وقوله - تعالى -: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ) دليل على أن اللعب، واللهو والزينة، وكل ما ذكر معهم مذموم جملة، إلا ما رخص فيه من ملاعبة الرجل امرأته، وجاريته، ولهو النضال، وما ذكر معه، وما استثني - من الزينة - في سووة الأعراف من أخذ الزينة عند المساجد، وما لم يكن منها سرفًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 قوله: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ) إلى قوله: (وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ) ، تأكيد لما قلنا، ودليل على أن المرء معذب على ما لم يستثن من ذلك، ومفجوع بها في الدنيا قبل مباشرة العذاب في الآخرة. وقد مضى جوابنا - في غير موضع، من هذا الكتاب - للقائسين في أن احتجاجهم على تثبيت القياس بهذه الأمثال، وما ضاهاها في القرآن بعيد مما يظنون، فأغنى ذلك عن إعادته. * * * قوله: (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ) مقصود به - لا محالة - قومًا آخرين، ففيه دليل على جواز اختصار الكلام، والإشارة إلى المعنى. الوعيد: * * * وقوله: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) نظير ما مضى في سورة آل عمران. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) حجة على المعتزلة في باب الوعيد - شديدة - لو تأملوها، إذ ما لا يفهمونه من الخُلْف خانق لهم - في هذا الموضع - فيقال لهم: كيف يجوز عندكم أن يكون الله - جل جلاله - يخبر عن نفسه بإعداد الجنة للمؤمنين به، وبرسوله - في هذه الآية - بلا شرط، فيكون فيهم من يذنب ذنبًا - واحدًا - فلا يجعل له حظًّا فيما أعد لمن آمن به وبرسوله، من أجل ذلك الذنب الواحد. لأن ذلك الذنب محا الإيمان من صدره، وأنطق بالكفر لسانه!. فإن قالوا: لا، ولكنه أوعده النار على ذنبه. قيل لهم: فأوعده إدخال النار وحده أو أوعده مع الإدخال الخلود؟. فإن قالوا: أوعده كلاهما، كابروا في الدعوى، وطولبوا بالتلاوة في ذلك، ولا سبيل لهم إليه. وإن قالوا: بل أوعده النار، ولم يوعده الخلود. قيل: فما بالكم تخلدونه - فيها - بعد استيفاء الجزاء على ذنبه. وأنتم قوم تقودون دليل العقل، وتأخذون أفعال الله بعبيده من أفعال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 الخلق بعضهم ببعض في باب العدل والتوحيد وغيره، أفسائغ في عقولكم - ليت شعري - أن يتواعد رجل عبده بضرب على فعل إن فعله، فيتقدم بين يدي نهيه يفعل ذلك الفعل، فإن ضربه ثم خلاّه عد كذبا عليه، وخلفا لوعيده، لتخليته بعد ضريه، ولا يكون - عندكم - صادقًا، ولا منجبزا وعيده إلا بتتابع الضرب وسرمدته عليه عمره! كما يزعمون: أن من أدخله الله - بعدله - نار جهنم عقوبة على خطيئته، ثم أخرجه بعد استيفاء عقوبة خطيئته أنه مخُلف لإيعاده أَوَ سائغ - في عقولكم - إذا حلف رجل على عبده أن يسجنه، فسجنه يومًا، أو ساعة ثم خلاه أن تكون يمينه باقية عليه حتى يخلده في السجن،! وأشباه ذلك، أو تتبصرون فتعلمون أن الضرب إذا وقع بالعبد الموعَد به، وأطلق من السجن - بعد وقوع الحبس عليه - بر الحالف ووفى الموعِد، وأن الله - جل جلاله - إذا أدخل المذنب ناره فقد وفى بوعيده، فإذا أخرجه بعد استيفاء جزائه لم يكن ذلك مؤثرًا في وعيده فإن قالوا: فقد قال الله - تبارك وتعالى -: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) . قيل: المعصية قد تكون في الكفر، وتكون في الذنب، إذ معنى المعصية عصيان من أَمر بشيء، ونَهَى عن شيء، فتعدى أمره ونهيه. فلما كانت المعصية - المصروفة إلى الذنب غير مبطلة لقوله: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) ، والمعصية المصروفة إلى الكفر مبطلة له، ومتأسية بغيرها من آيات الوعيد في الكفر، كان صرف العصيان - في هذه الآية - إلى عصيان الكفر أجدر، مع أن ما قبل هذا الآية وما بعدها دليل على أنه عصيان الكفر من الكافر، ألا تراه يقول: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) فأخبر عن إكبار القوم دعوة الرسول وما كادوا يفعلون به، ثم أخبر عما أمر به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من القول في عدم مجير يجيره من الله إن لم يبلغ رسالاته، ونسق عليه بـ (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) وحققه وأزال عنه كل لبسة بقوله: (حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) فأخبر أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 المتكاثرين المتظاهرين، ومن كاد يتلبد من الجن والإنس على تكذيب الرسول الداعي إلى الله، وعلى رد ما جاء به يكونون - بعد رؤية جهنم، ودخولها وما أوعدوا من الخلود فيها - بلا أنصار، ولا عدد يتكثرون بهم كما تكثروا وتلبدوا على التظافر به والتظاهر عليه، فلم ينفعهم ذلك، وأبى الله إلا إمضاء ما أرسل به رسوله، فهذا واضح لا إشكال فيه. قال محمد بن علي - رحمه الله -: ولا أرى الشراة إلا أَعْذر في مقالتهم منهم - وإن كانوا متساوين في باب الخطأ - لأن أولئك خلطوا في أصل تسمية المذنب بالكافر، وإعداد الذنب كفرًا، ثم قادوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 مذهبهم في الخلود والشهادة على الكافر عندهم. وهؤلاء لم يسموه كافرًا، بل سموه فاسقا، ثم أوجبوا باسم الفسوق الخلود، فجمعوا على أنفسهم الغلط من وجوه عدة. فأحدها: أن الفسوق - في اللغة - التوثب، ولذلك سميت الفأرة فويسقة، لأنها قفازة، قال الله - تبارك وتعالى - في إبليس -: (فَفَسَقَ عَنَ أَمرِ رَبِّه) ، أي وثب بين يدي أمره. وخلفه وراء ظهره، فإذا كان الفسق هو التوثب على الأمر والنهي. وكان الأمر والنهي مشتملين على أشياء: منها ما يكون كفرًا مثل دعوى الولد والزوجة والقول بالأنداد وأشباه ذلك، ومنها ما يكون ذنبًا مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر وما ضاهاها، لم يجز إلا أن يكون الفاسق - في النوعين معًا - يسمى باسم واحد مسلوكًا به طريقًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 واحدًا، أو مسمى باسمين مختلفين مسلوكًا به طريقين، فإن كان لاتفاقهم معنى على تغليط الشراة حقيقة في التسمية ولم يكونوا به متزينين فقولهم في الخلود غلط - بغير إشكال - إذ محال أن يكون الكفر فعلاً لا نظير له من الذنوب فعل، وجزاؤه الخلود، ثم يكون ضده من الفعل إذا فعل يكون - أيضاً - جزاؤه الخلود، وإن كانوا مجامعين لهم في أصل المقالة ومتزينين بما نحلوه من الاسم فقد نافقوا في الكلام، واستهدفوا لخصومهم في الإلزام - والثانية: أنهم يخطئون مقالتنا فيما نصف به ربنا - جل وعلا - بأنه عدل في تعذيب مق قضى عليه الخطيئة، ويعدونه جورًا - منا - ولا يخطئون أنفسهم في إيجاب الخلود على من أخطأ خطيئة واحدة - في عمره - لم يتب منها، وأطاع وبه سائر عمره، ولا يسمونه كافرًا. ويسلكون به مسلك الكافر، ويعدونه عدلاً. والثالثة: أنهم يفرقون - في عقوبة هذا المجرم - بين الدنيا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 والآخرة، فيزعمون أن المتفسق بأفعال الذنوب لا يقتل ولا يستتاب - كأهل الحرب والردة - ويستوجب الخلود، والمتفسق بأفعال الكفر يقتل ويستوجب الخلود ويرث ويورتّ، والكافر لا يرث ولا يورث ومحرم ماله. ويحل مال الكافر الذي جزأؤه الخلود. والرابع: أن نفس ما يحتجون به من قوله - سبحانه وتعالى -: (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ) . موضوع في غير موضعه، وذلك أن أبتداء الآية - التي هذا فيها - نازل في قوم كانوا يلمزون أنفسهم، ويتنابزون بالألقاب، فيقول الرجل الآخر: يا كافر، يا فاسق يلقبه بذلك، ولايسميه باسمه، فأخبر الله - جل جلاله - أن المسمى بالفسوق بعد الإيمان مبدل اسمه بما لا يشاكله فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ) أي بئس الاختيار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 في تسمية المؤمن بالفسوق بعد ما سُمي بالإيمان، لا أن اسم الإيمان زائل عنه بفسوقه الذي ليس بكفر. فإن عارضنا معارض من المرجئة فزعم: أن ما احتججنا على المعتزلة في هذا الفصل حجة له في تجريد الإيمان معرىً من العمل، إذ ليس في * * * قوله: (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) عمل - فقد غلط كل الغلط، لأن الله - جل جلاله - ذكر الإيمان جملة به وبرسله، ولم يذكر إيمانًا، فالجملة جامعة للقول - معًا - بما دللنا عليه في السور قبل هذا الفصل، ولو كان - أيضاً - ذكر قولا ما كان لهم حجة إذ من قولنا: إن المؤمن ببعض أجزاء الإيمان قد يدخل الجنة بعفو الله، بل بمثقال خردلة مع الشهادة، وليس في دخوله النار قبل دخوله الجنة - بعد إخراجه منها - ما يكسر قولنا في تجزئة الإيمان وتسمية العمل به. وكذا قولنا في حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " من قال لا إله إلا الله فله الجنة، وإن زنا، وإن سرق "، أي يدخل الجنة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 بعد ما يخرج من النار، فتكون الجنة داره أبدًا، إذ ليس في هذا الحديث: " من قال لا إله إلا الله لم يدخل النار " إنما هو " فله الجنة " والجنة له في أي وقت دخلها، فتأويلنا في هذا أحسن من تأويل من قال: كان هذا قبل نزول الفرائض، لأنه وإن كان حسنًا فلا يدرك إلا بخبر، وقولنا مطوي في نفس الكلام، لمن ميزه. * * * قوله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 حجة على القدرية والمعتزلة واضحة - إذ قد أخبر نصًّا يإيداع المصائب كتابه السابق قبل وقوعها، والهاء في (نَبْرَأَهَا) لا تخلو من أن تكون راجعة على الأنفس، أو على الأرض، فإن كانت على الأرض فالأنفس مخلوقة بعدها، وإن كانت على الأنفس فمصائبها مكتوبهّ علمها قبل خلقها، وهي على كل الأحوال قبل الأنفس، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 ولا يتمانع ذو الحجا - من أهل اللغة - أن المعاصي أكبر المصائب والجنايات من جانبها، والمجني عليه مصيبة واصلة إليه من كتب إليه فعل يفعله، أو يفعل به، فلابد من كونه. ذكر الطب: وقوله - تعالى -: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) حجة في أصل الطب، والمتوصل إلى الشفاء بواسطة من العلاجات بالأدوية، لأن المنافع وإن كانت راجعة على السلاح والأدوات وأَثمان الحديد فالَخبَث من منافعه، وهو خارج منه. حدثنا العِجلي، دثنا أحمد بن عيسى بن اللخمي، دثنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 إسماعيل بن مسلمة بن قعنب، قال: حدثني سلم بن قتيبة، عن مسلمة بن قعنب، قال: دخلت عليه فقال لي: اشرب من شراب كان فيه اللبن يجعل فيه خبث الحديث وأخلاط معه، فقال: اشرب، حدثني ابن عون، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 عن ابن سيرين، قال: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) وأرجو أن يكون هذا منه ". ومثل ذلك قوله - إخبارًا عن النحل -: (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ) ، هو دليل على إباحة التداوي مع ما جاء عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الأمر بالتداوي لونًا لونًا. المعتزلة: * * * وقوله: (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) . * * * وقوله: (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) في أشباه لهما رد على المعتزلة فيما يجعلون الفسق درجة بين درجتين من الإيمان والكفر، إذ الفسق في جميع هذه الأمكنة كفر لا شك فيه، لما دل عليه سياق الكلام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 ذكر الرعايات: * * * وقوله: (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) دليل على تثبيت الرعايات، وعلى أن البدعة من العمل الصالح وما يقرّب إلى الله - جل وتعالى - ويكون فيها منافع الخلق غير مذمومة، إذ لو كانت ما ذموا على تضييع الرعاية في المحافظة عليها، ويؤيد هذا الابتداع حديث رسول، الله صلى الله عليه وسلم: " من سن في الإسلام سنة حسنة، فعمل بها بعده، كان له، أجرها وأجر من عمل بها ". ولا شك أن هذه سنة مأذونة في إحداثها، لا سنةً متبعة لغير من سنها، وقد وعد عليها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من الأجر ما وعد، أو ليس عمر - رضي الله عنه - سن قيام شهر رمضان في جماعة، وعثمان - رضي الله عنه - الأذان الأول يوم الجمعة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 وكانا داخلين في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سنَّ في الإسلام سنَّةً حسنةً ". فإن قال: فما معنى قوله، صلى الله عليه وسلم: " كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة " وإياكم ومحدثات الأمور " وأشباه ذلك. قيل: قد يجوز أن يكون في محدثات لا تؤدي إلى القريات، مثل حلق الرأس في العقوبات، واتباع العرائس بالنيران عند الزفاف، وما أخذ أخذه، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 قوله: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) حجة على المعتزلة والقدرية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 سورة المجادلة * * * وقوله تعالى: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) حجة في أشياء: فمنها: أن الظهار لا يكون إلا بالأم " إذ في (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ) دليل أنهم كانوا يظاهرون بالأمهات، وإذا كان ذلك تفسير الظهار المجمل، فغير ذلك لا يكون ظهارًا، وإن لفظ به، إلا أن تتفق الأمة على ذات محرم - غير الأم - ويجعلون بها ظهارً، فيُسَلَّم لهم. فإن قيل: أفليس قد رُوي أن النبي، صلى الله عليه وسلم، سمع رجلاً يقول لامرأته: يا أخية، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أختك هي؟ قال: لا. فكرهه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 قيل: هو حديث يرسله أبو تميمة عنه، لا نعلم أحدًا ذكر فيه أبا سعيد الخدري غير عبد الله بن عصمة، وليس بمشهور في أصحاب حماد، ولا ممن يقبل حديثه إذا انفرد به، مع أنه لو كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 ثابتًا لكان تأكيدًا لما قلناه: من أنه لا يكون به ظهار، وإن كره القول ومنها: أن الظهار من الأمة والحرة واحد لشمول اسم النساء لهما - معًا - وهو مذكور بشرحه في كتاب الظهار من شرح النصوص. ومنها: تأكيد ميراث ولد الملاعَنة، وولد الزنا، لشمول اسم الأمومة لمن ولد بهما، وهو نظير قوله: (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) . * * * قوله: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 دليل على أن التحريم لا يكون طلاقًا من حيث لا إشكال فيه - لمن تدبره - إذ لو كان الحرام طلاقًا - بوجه من الوجوه - ما جاز وطء المظاهر منها بعد الكفارة، لأن الطلاق حل لا تعقده الكفارة، والبينونة لا تعود وصلاً بها، والمحرمة بالظهار إن لم تكن أغلظ تحريمًا من المحرمة بغير الظهار فهي مثلها، فكيف يجوز إبانة تحريم امرأة عن زوجها بالطلاق، وهو إنما حرمها كتحريم المظاهر المؤكد تحريمه بالظهار. * * * قوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) موضح - والله أعلم - أن المراد في (يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) هو إرادة العود إلى الوطء الذي حظره بالظهار على نفسه، إذ لو كان حبسها - بعد القول مدة يمكنه تحريمها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 فيها بالطلاق ولا يطلقها - موجب عليه الكفارة ما كان لتقديمها على المسيس@ معنى عند من تدبره ولوجبت الكفارة على من يحبسها بعد القول بالظهار ساعة ثم يطلقها ثلاثًا، والمسيس قد حرمه عليه الطلاق، فكيف يعود لما قال بعد الطلاق، أم كيف تجب عليه الكفارة، وهو لا يمكنه المسيس، والكفارة - لا محالة - محللة له في حكم التلاوة، وإذا كان ذلك كدلك كان مجاز الآية - والله أعلم - أن تكون اللام في (لما) بمنزلهّ " إلى " كأنه ثم يعودون إلى ما منعوه بتحريم الظهار من الوطء فيريدون فعله، أو يكون (لما) بمعنى " فيما " على هذا التأويل، إذ اللغة محتملة له، والله أعلم كيف هو. وقال قتادة وطاووس - جميعا - في قوله: (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) هو الوطء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 وروي عن الزهري في الرقبة فقال: يجزئ - ها هنا - الطفل. وروي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، من حديث معمر، عن عكرمة، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، لما سألته المرأة عن ذلك، فقال: " ما أراك إلا وقد حرمت عليه " قاله ثلاثًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 وروي عن قتادة قال: حرمها ثم يريد أن يعود لها يطأها. * * * قوله: (فَتَحريرُ رَقَبَةٍ) إضمار، كأنه - والله أعلم - فعليه تحرير رقبة. وفي إرساله - جل وتعالى - الرقبة بلا شرط، ولا صفة دليل على أنه تجزئ الصغيرة والكبيرة، والمسلمة والذمية، والسوداء والبيضاء. ويجزئ فيها الذكر والأنثى، والسليمة والمعيبة، وأنه من منع إجازة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 شيء منها فعليه إقامة البرهان عليه، ولا برهان - في هذا الموضع - عند من أنصف من القائسين وغيرهم، إلا من النصوص الثلاثة المؤدية إلى الحقائق، إذ تخصيص العموم، وتفسير الجملة لا يجوز بالمقاييس والأوهام المظنونة. فإن قيل: استدللت بإرسالها على جواز كل ما قلته، هلا جعل الإيمان من شرطها اعتمادًا على ما شرطه الله في كفارة القتل، كما جعلت شرط الشهود عدولاً في كل مكان، وإن كان شرط العدالة في بعض الأمكنة دون بعض. قيل: إنما جعلت ذلك في الشهود بما شرطته من أحد النصوص الثلاثة، وهو الإجماع، وأطلقت في رقبة الظهار على الإرسال إذ هو موضع اختلاف، والاختلاف لا يخص به العام ولا تفسر به الجملة. قال محمد بن علي: وليسى إجازة وطء المظاهِر - إذا عَجَزَ عن الرقبة الصيام قبل الإطعام - من هذا في شيء وهو عندي إغفال مفرط من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 مجيزه، وذلك أن الوطء لما حُظر قبل الكفارة - من تحرير الرقبة - عُلم أن الكفارة هي المحللة له، والصيام بدل عن الرقبة، والإطعام بدل عن الصيام، كل واحد بعد عدم الآخر وقصور الطاقة عنه، فليس بجائز للمظاهِر أن يطأ وإن كفر بالإطعام إلا بعد فراغه منه، والله ولي الصواب. مراعاة عدد الذنوب: وقوله - تعالى -: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ) دليل على أن مراعاة عدد الذنوب واجبة، إذ لا يجعل نسيانها في جملة ما يعيبهم به إلا وقد أوجب عليهم حفظها، وهو أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 المعتزلة: * * * وقوله: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) حجة على المعتزلة والقدرية في إخباره عن الشيطان بهما. وزوال ضرره عنه إلا بإذنه. * * * قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) حجة على المعتزلة والجهمية في إخباره عن نفسه بالغفسب، كما ترى.. معنى الإنساء: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ) ، الإنساء على معنى التزيين منه كأنه مقيض لهما جميعًا، ألا تراه يقول في سورة الحشر: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ) ، فأخبر بالنسيان عن أنفسهم مرة، وأخبر ثانية عن الشيطان بأنه أنساهم، وثالثة عن نفسه بأنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 أُنسيَهم، فدل أن جميع ما ذكره عن الشيطان مثل قوله: (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) ، هو تابع لإنساء الله إياهم ذلك، إذ هو الخالق للشيطان المقيِّض له المسلط هذا الشيطان عليهم، ولا يجوز أن يكون الله - جل جلاله - بما أخبر عن نفسه تابعًا له، ولا لهم. وقد لخصنا ذلك في فصل التزيين، وفصل المشيئة - قبل هذا - في سورة الأنعام، وغيرها. * * * قوله: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) حجة على المعتزلة والقدرية في الكتاب الذي لا يؤمنون به - أصلاً - ولا يقرون به بتةً. وفيه دليل على إجازة الرجوع من لفظ الخبر إلى لفظ المواجهة لقوله: (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) ، ولم يقل: ليغلبن هو ورسله. * * * قوله: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) ، إلى آخر الآية، زجر إلى التودد إلى من كان على غير دين الإسلام، والتحبب إليه، والموالاة له، إذ في ذلك ذهاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 العداوة وانغراس المحبة لمن يعادي الله - جل جلاله - ألا ترى أن اللَّه - جل جلاله - سماهم أعداءه، حيث يقول: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) ، ومثل - هذا - قوله: (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) ، إلى آخر الآية. ويقال: إنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، حيث كاتب كفار مكة بمسير النبي، صلى الله عليه وسلم، إليهم. * * * قوله: (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ) حجة على المعتزلة والقدرية في الكتاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 سورة الحشر * * * قوله: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) حجة في إخراب بلاد العدو للنكاية. * * * قوله: (وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا) حجة في الكتاب على من ينكر. * * * قوله: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا) . حجة في قطع الشجر المثمر، وغير المثمر في بلاد العدو، ودليل على أن الناس فيه بالخيار إن شاءوا قطعوا، وإن شاءوا تركوا، والاختيار القطع كما قطع النبي، صلى الله عليه وسلم، نخل بني النضير، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 والآية نازلة - والله أعلم - فيهم. * * * قوله: (فَبِإِذْنِ اللَّهِ) رد على القدرية الذين يجعلون الإذن بمعنى العلم، إذ لو لم يكن الإذن إطلاقًا ما عُلم أن قطع الشجرة مباح، أو غير مباح، ألا ترى أن علمه - سبحانه - محيط بالمحظور والمباح معًا وليس كل ما أحاط بفعله علمه جاز لفاعله فعله، دون إطلاقه، فقد دل هذا - بغير إشكال - على أن إعداد الإذن علمًا خطأ، لا يُشك فيه. قال محمد بن علي: ذكر الله أصحاب نبيه، صلى الله عليه وسلم. في هذه الآية - على ثلاث فرق، وهو قوله: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ) ، فهذه فرقة. والثانية قوله: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ) . والفرقة الثالثة: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 وأثنى على الثلاثة - معًا - مما حوته الآيات الثلاث، فليس يخلو أحد صاحب النبي، صلى الله عليه وسلم، ولو ساعة واحدة إلا وهو داخل في أحد الفرق الثلاثة. فهذا - الآن - حجة على كل من سب واحدًا منهم، أو تنقصه، ودليل على أن من أتى في أصحاب نبيه. صلى الله عليه وسلم خلاف الجميل أنه راد على الله، وغير راض لدينه - جل وتعالى - بما رضيه هو له بنص القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، قبل أن يصير إلى ما عليه في الأخبار من إيجاب اللعنة. وكان مالك بن أنس يقول: من سب أصحاب رسول الله، صلى اللَّه عليه وسلم، لم يكن له في الفيء والغنيمة نصيب، وهو كما قال. رحمه الله. * * * قوله: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) جملة دليل على أن من لم يكن - له - سليم الصدر لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محبًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 لكافتهم، داعيًا لجميعهم فهو مسلوك به غير سبيل الممدوحين، منوط في طرق المذمومين غير مقبول منه - فيهم - شيء يأوي له. ومُنحرض باطله. وفي دعوتهم بأن لا يجعل - جل جلاله - لهم غلاَّ في قلوبهم رد على المعتزلة والقدرية، إذ محال أن يدعوه بما هو منكر عنده - على زعمهم - في صفاته فيثني به عليهم، وهو واضح لا لبسة فيه. قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) إلى (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) . دليل على أن سجايا المنافقين مجبولة على منافقة أوليائهم وأعدائهم - معًا - فهو الآن تنبيه بيِّن أن الاستنامة إلى ود من ليس يتقي، والمعول على ولايته ليس من فعل ذوي التحصيل، ولا يغتر به من خليل، ويؤيد هذا قوله - سبحانه -: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) ، فلو كانت خلتهم في الدنيا مستقيمة لكانوا بها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 محسنين - والإحسان لا يعود سيئًا فيضمحل، كما لم تضمحل خلة المتقين - وكانت في الدنيا والآخرة متصلة لهم غير منقطعة بهم. تخويف المنافق بالناس: * * * وقوله: (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ) حجة لمن يقول: خوف المنافق بالناس، والمؤمن بالله جل وعز. * * * قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) حجة واضحة لمن أراد المبالغة في وصف شيء أن يبالغ فيه كيف أراد، ولا يكون كاذبًا، ولا آثمًا، لأن الله - جل جلاله - سمى الآخرة بغدٍ كما ترى، وبين نزول الآية وبينها دهر طويل، وقد اقتدى بهذا المعنى أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - في بعض ما مُدح به عمر - رضي الله عنه -: وأنى لعمر الشهادة، وهو في جزيرة أضيق من هذه، وعقد بيده تسعين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 وقال غيره - في بعض مواعظه -: المضمار اليوم والسباق غدًا. ومثله كثير. وفي هذا حجة لنا أن الذين روي - في الأخبار - أنهم تكلموا بعد الموت لم يكونوا - في الحقيقة - أمواتًا فعاشوا، ولكنهم سموا به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 لمقاربتهم منه، ودخولهم في غشية تشبهه وأن ما رأوه من الجنة والنار. وقالوه فشيء رأوه في الغشية، كما يُرى في المنام. وليس للقائلين بالرجعة فيها متعلق، لأنه إذا جاز أن يسمي اللَّه الساعة - التي تكون بعد دهر طويل - بغدٍ جاز أن يُسمى بالموت ما يكون فيه يومه، بل في ساعته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 سورة الممتحنة * * * قوله: (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) نظير ما مضى - في سورة الحشر - من قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا) ، وبيان أن خلة غير المتقين المؤمنين لا معول عليها، ألا ترى أن الموالين الملقى إليهم بالمودة - في أول هذه السورة - لم يراعوا للمسرِّين إليهم بها، ولم يحاموا عليه من أجلها. كما ذكره - جل وتعالى - وهو الصادق. (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) . دليل على جواز الاقتداء بمن لم يكن فيه الخطأ. * * * قوله: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) دليل على أن الله - جل وتعالى - قد يفتن الكافرين بما شاء، لولا ذلك ما كان لهذا الدعاء معنى، فهو رد على المعتزلة والقدرية. ذكر وداد الختن صهره: * * * قوله: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 دليل على أن وداد الحنتن صهره من ممدوح الأمور ومرضي الأخلاق، لأن أبا سفيان بن حرب كان لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، عدوًّا قبل إسلامه، فلما صاهره - والصهر لممبب للمودة - هذاه الله إلى الإسلام ليتصل سبب ودادهإ2 (. وفيه فضيلة لأبب سفيان - رحمه الله - وعظة لمن يشنأ الأصهار من الأختان، والله أعلم. ذكر إسلام المرأة قبل الزوج: * * * قوله: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 على أن إسلام المرأة فسخ لنكاحها من زوجها الكافر، وفيه تقوية قول من قال: إن زوجها وإن أسلم قبل انقضاء العدة فلابد من تجديد نكاح بينه وبينها، لأن الله ذكر رفع الجناح في نكاحهن - جملة - ولم يستثن مدخولة بها، من غير مدخولة، فهو الآن حاكم لإحدى الروايتين من تجديد النبي، صلى الله عليه وسلم، نكاح أبي العاص الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 بينه وبين زينب، وأنها أثبت من الرواية التي فيها ردها عليه بالنكاح الأول، فكل امرأة تحت كافر أسلمت - وهي غير مدخول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 بها، أو مدخول بها، ثم أسلم زوجها - جدد نكاحها على هذا المعنى. ومن زعم أن المدخول بها غير محتاجة إلى تجديد النكاح - إذا أسلم زوجها قبل انقضاء عدتها - فهو يخص عموم الآية الدالة على قطع العصمة بالنكاح، وخصوص العموم لا يجوز إلا بالنصوص وهي معدومة ها هنا. فإن شبه على أحد، وتأول أن الرواية في تجديد النبي، صلى الله عليه وسلم، نكاح زينب كان من أجل انقضاء عدتها، فقد ادعى على الخبر ما لم يؤده بتوهمه، وكذب الرواية الأخرى في أنه ردها عليه بالنكاح الأول بإجماع الأمة، إذ لا خلاف بينهم - وهو من الإجماع المحصل - أن إسلام الزوج إذا كان بعد انقضاء العدة لم يكن من تجديد النكاح بد، فكيف يحتمل تعارض الروايتين في شيء أحدهما خطأ بيقين، هذا ما لا يتوجه - أصلاً - ولا يجوز توهمه على ناقل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 فإن قيل: فكيف لم تبحها قبل انقضاء عدتها لغيره من المسلمين بظاهر الآية، إذ كانت عندك على جميع الأزواج؟. قيل: لشهادة الكتاب والسنة والإجماع بأن كل مصابة من النساء باسم النكاح لا تحل لغير مصيبها إلا بعد استبراء يكون من مائه، وإن كان فيهم من يسميه عدة، ومختلف في كميتها. فإن قيل: فمتى تحل لغيره - إذا أسلمت - مدخولاً بها؟. قيل: لما دلت الآية على قطع العصمة، واخترنا - بدليلها - على أن زوجها -أيضاً - لو أسلم قبل انقضاء عدتها احتاج إلى تجديد نكاح؟. قلنا: تحل للأزواج بعد حيضة واحدة، لأنها ليست بمطلقة تحتاج إلى ثلاثة قروء، وإنما هي امرأة منفسخة النكاح بينها وبين زوجها. ومتلطخة بما تحتاج إلى الاستبراء منه، لئلا يفسد نسب المتزوج بها. وهو نص حكم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في التلوم (1) بوطء السبايا الموقوفات، ذوات الأزواج، حيضة في الحائل منهن.   (1) التلوم: هو الانتظار والمكث. انظر لسان العرب (12/ 365) ، وترتيب القاموس ) 4 / 186، مادة " لوم ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 ولا فرق بين منفسخة نكاحها بالرق، وبين منفسخة نكاحها بالإسلام. إذ المحصول من الأمرين تحريمها على الزوج الأول بالحادث عليها من الإسلام والرق. وكذا نقول في المختلعة، وأم الولد المتوفى عنها سيدها. وكل من حرمها على زوجها غير الطلاق أنها لا تزيد في العدة على حيضة ثم تحل بعده إلى أن يخص الكتاب أو السنة أو الإجماع - في موضع - فسخًا بالأقراء فيسلم له، وإلا فالحيضة استبراء تام في كل موضع. والمطلقة -أيضاً - تبرأ بحيضة واحدة من الحبل، إلا أن الحيضتين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 الباقيتين تعبد عليها، وتمام أجل خلوها منه، لا من الاستبراء. وقد رُوّينا عن ابن عباس، والرُّبيّع بنت مُعَوّذ بن عَفْراء أن النبي. صلى الله عليه وسلم، أمر امرأة ثابت بن قيس بن شَمَّاس - حين اختلعت منه - بحيضة واحدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 وحكم به عثمان بن عفان - في خلافته - وأصحاب رسول الله. صلى الله عليه وسلم، متوافرون، لا نعلم أحدَا عارضه فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 وروي عن عمر بن عبد العزيز والحسن وعكرمة والحَكَم: إذا أسلمت بانت من زوجها من ساعتها، وإن أسلم بعد ذلك فهو خاطب لا تحل له إلا بنكاح جديد، وهو قول أبي ثور. قال أبو عبد الله المروزى: هذا أصح الأقاويل في النظر، واللِّه أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 النكاح بغير الصداق: * * * وقوله: (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) دليل على أن لا يحل لمسلم وطء كافرة إلا الكتابية المستثناة له في سورة النساء بقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) . قال محمد بن علي: وقوله: (إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) - ها هنا - وفي قوله: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) . وفي قوله: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ) ، يدل على أن النكاح بغير صداق غير جائز. لأن الله - تبارك وتعالى - أباح النكاح في هذه الأمكنة مقرونًا بإيتاء الأجور، وابتغائه بالمال، وليس في إفراد ذكره في أماكن بمؤثر - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 والله أعلم - في المواضع المقرونة بما ذكرنا، بل المفسَّر أحرى أن يحكم على الجمل. وقد ذهب قوم إلى أن قوله - تبارك وتعالى -: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) ، دليل على أن النكاح بغير صداق ثابت، واحتجوا من السنة بحديث بَرْوَع. فأما ما احتجوا به من دليل الآية فليس بملفوظ، إنما هو احتمال. وما ذكرنا من الآي الثلاث ملفوظ، والملفوظ أقوى من الاحتمال. مع أنه قد يحتمل - والله أعلم - أن يكون (وقد فرضتم لهن فريضة محدودة) إذ كان النكاح جائزًا - في السُنة - على نعلين، وعلى القبضة من الطعام، وسورة من القرآن، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 وخاتم حديد وشبهه ما لا تصف له مدركًا بنفسه حتى يتعرف بغيره. فيكون فرض نصف الصدقات المحدودات للمطلقات بالآية، ونصف ما نزل بالقيَم والتراضي، أو رده إلى نصف صداق المثل، في الصداق الفاسد، وفيما لا يوصل إلا على التعديل والتقسيط إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 نصفه بالإجماع، فيكون أحد ما تحتمل معنى الآية، وإذا احتملت الآية وجهين، كليهما غير ملفوظ، كان الحكم بأحد الوجهين - في المراد بها - غير جائز في حق النظر. والملفوظ في الآي الثلاث، من إيتاء الأجور وابتغاء النكاح بالمال مقرونًا بإباحته، مستغن بنفسه غير محتاج إلى تقويته بغيره. وقد يرد الحرف في القرآن على سعة اللسان فلا يحكم له بكل ما احتمل سياقه، ألا تراه يقول - جل وتعإلى -: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) ، فهل يقول المستدل على جواز النكاح بغير صداق بقوله: (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) : إن المطلق امرأته بعد مسيسها، أو تسمية صداقها - وإن أوفاها كاملاً - حرج في الطلاق، آثم في إيقاعه، إذ سياق الآية يدل على أن الجناح مرفوع عمن طلق قبل المسيس، أو تسمية فرض، بل نفس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 هذه الآية أقوى له من التي احتج بها، إذ مع الجناح الذي دل عليه سياق الكلام، يصفه في طلاق من لم يُسم لها صداق، فلولا أن النكاح يثبت - بغير تسمية مهر - ما كان لطلاق من ليس بزوجة وجه يحرج به المطلق، أو لا يحرج. فإن تجشَّم الاحتجاج بهذه الآية طولب باستعمال جميعها، وإن اقتصر على الأولى عُورض بما عليه في هذه الآية. وأما حديث بَرْوَع فمطعون على إسناده عند جماعة، وثابت عند غيرهم. الشافعي - رضي الله عنه - ممن يطعن على إسناده، ويجيز النكاح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 بغير صداق بدليل الآية التي ذكرناها. وقد عارضه - مع ذلك - حديثان يقاربانه في النقل لا يمكن براءتهما من الطعن على طريقتهما. أحدهما: حديث أبي عبد الله بن محمد بن وهب قال: فى ثنا إبراهم ابن سعيد الجوهري، قال: دثنا عثمان بن خالد العثماني، قال: دثنا سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان - هو ابن عفان - قال: دثنا هشام ابن عروة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا نكاح إلا بولي، وصداق، وشاهدي عدل ". والآخر: حدثناه الحسين بن إسحاق بن إبراهيم العِجلي، قال: دثنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 أبو أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي، قال: دثنا عبد الرحمن بن قيس - قال أبو أحمد: هو أبو معاوية الزعفراني - قال: دثنا نهاس ابن قهم، عن عطاء، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 قال: " لا نكاح إلا بولي، وشاهدين، ومهر ما قل أو كثر". ورُوِّيناه عن علي بن أبي طالب، حدثناه حمويه بن محمد أبو جعفر الأصبهاني، قال: دثنا محمد بن مِهْران الجمَّال، قال: دثنا عيسى بن يونس، عن موسى بن عُبيدة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 عن الأصبغ بن محمد عن علي - رضي الله عنه - قال: " لا نكاح إلا بولي، وشاهدين، وصداق مسمى ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 وقد اختلف عنه، روى سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب. عن عبد خير، عن علي أنه كان يجعل على المرأة التي لا يفرض لها العدة ويعطيها الميراث، ولا يعطيها الصداق. وكذا قول ابن عمر، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 وزيد بن ثابت، وابن عباس من رواية ابن جريج، عن عطاء، عنه خلاف حديثه المرفوع. قال محمد بن علي: فلما كان سبيل الآية ما ذكرنا عن اعتوار الوجهين لها، وسبيل الحديث المرفوع ما لحقه من الطعن على النقل، والمعارضة. لم يجز الحكم بأحدهما دون الآخر، وكان حق النظر، والاحتياط، مع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 شهادة الآيات الثلاث لهما بما أودعت من اقتران الشرط أن لا يحل فرج امرأة - محرمة بيقين - إلا بنكاح يسلم من الاعتراض عليه بشيء مما ذكرنا، وهو أن يُسمى معه صداق معلوم القدر والعدد، أو معلوم العين، فإن عقد بغير صداق - بتة - فاللَّه أعلم كيف هو. وأنا أتهيب أن أقول فيه شيئًا، لما أعرف من إطباق أكثر العلماء على جوازه. وحديث بَرْوَع وإن كنا ذكرنا علته، فقد رويناه من طريق الثوري غير معلول، أخبرنا محمد بن زكريا القرشي، قال: دثنا أبو حذيفة. دثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود أنه أفتى في رجل تزوج امرأة، فمات عنها، ولم يكن فرض لها شيئًا، ولم يدخل بها. فسألوه شهرًا، فقال عبد الله: أقول برأي: لها صداق نسائها. وعليها العدة، ولها الميراث. فقال معقل بن سنان الأشجعي: قضى رسول الله، صلى اللَّه عليه وسلم، في بَرْوَع بنت واشق - امرأة من بني رؤاس بن كلاب - بمثل ما قضيت. ففرح بذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 قال سفيان: وبه نأخذ. قال أبو أحمد: فوجهه - عندنا - كون الآية أنه لم يكن فرض لها شيئًا محدودًا. ويلزم من قال: إن نهي النبي، صلى الله عليه وسلم، عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 الشِّغار، هو عن العقد، لا عن المهر - أن يبطل النكاح بغير تسمية مهر - بلا لبسة - إذ ليس هناك شيء يفسده غير تسمية المهر، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 سورة الصف قوله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) . دليل على تعبئة الحرب والتظاهر في القتال، وتشبيه الشيء بما ليس من جنسه، إذ البنيان ليس من جنس الروحانيين من البشر، والذي منهم بالبنيان - والله أعلم - توازرهم على القتال، والإزماع على ترك الفرار، لا زوال تحركهم في الصف، إذ معلوم أن المقاتل لابد له من حركة. وفي ذلك دليل على أن إعداد القائسين هذه الآية، وشكلها من الآيات ليس بحجة لهم في إطلاق القياس، إذ سبيل القياس - عند أهله - رد الشيء إلى نظيره، وما يشاكله في شبهه من أكثر جهاته. وهذا تشبيه شيء بغير نظيره. وما هو -أيضاً - نظير من البنيان وثبات القدم في الحرب فهو - في الحقيقة - جمع بين متحرك وساكن، فإن كان القائس يسومنا أن نقر له الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 بأن مشابه ما في الحنطة من الكيل والقوت والنبات نظير ما في الأرز والعدس والحمص، كما أن شبه ثبات القدم في الحرب موجود في البناء المرصوص، الذي لا يزعزعه إلا الهدم، ولا يفرق نظام الصف إلا الفشل والفرار والهزيمة، فنحن نعترف له به، وإن كان يريد أن الحنطة لا ائتلفت بما ذكرنا من مشابهها مع الأرز والعدس والحمص لم يكن بد من أن يحرم التفاضل فيها، لزمه ألا يبطل نظام صف المقاتلين وثبات أقدامهم في الحرب، لما أشبه ثبات البنيان لم يمكن فيهم الفشل، والهزيمة محال إلا عند تهدم البنيان، فيورد ما ليس في العرف والعادة وجواز تفرق نظام صف القاتلين فارين أو مغلوبين، كما ليس بدًّا - عنده - من أن يكون مشابه الحنطة في شيء يلحق أشباهها في التحريم بها، أو يقول: إن جائزًا على الحنطة التي هي الأصل، والعدس الذي هو الفرع - معًا - أن يزول تحريم التفاضل فيهما، كما جائز على الصف الذي هو الفرع، والبنيان الذي هو الأصل زوال المشابه عنهما، بأن يتهدم البنيان، ويتفرق نظام الصف بالفرار وغيره، فيقع فيما هو أقبح من الأول أو ينصف - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 من نفسه - فيقول: إن ائتلاف مشابه الحنطة والأرز لم يصيّر الأرز حنطة. كما لم يصيِّر مشابه الصف من البنيان الصف بنيانًا، وحكم التحريم غير المشابه، لأن التحريم لا يدرك عينه في الحنطة، كما يدرك عين الكيل فيها وفي الأرز، ويدرك ثبات المقاتلين في الحرب وثبات البنيان معًا. فنفس ادعاء مشابهة التحريم من الحنطة والأرز خطأ ومكابرة قبل أن يسلكا في التحريم مسلكا واحدًا، وادعاء مشابه ثبات البنيان والصف صواب في الحكاية. ولو ادعى مدع أن المقاتلين في الصف ثبتوا من أجل أن البنيان حكمه أن يثبت، لا أن ثباتهم كان بمعنى آخر، وإنما شبه نفس ثباتهم بالبنيان لكان حينئذ مساويًا في الخطأ المدَّعَى مشابه التحريم من الحنطة والأرز. فلما علم بلا إشكال أن ثبات المقاتلين في الصف ليس من أجل ثبات البنيان في الأس، وإنما ثباتهم في الصف، أو إزماعهم على المظاهرة يشبه ثبات البنيان علمنا أن التحريم في تفاضل الحنطة لم يقع من أجل أنها مأكولة مكيلة فيلزمنا حمل الأرز عليه من أجل أنه مأكول مكيل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 قوله: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) . دليل على أنهم كانوا يجحدون نبوته فيكفرون بها على بصيرة، وكذا كان - عندي - سبيل كل نبي مع قومه، يعرفونه، ثم ينكرونه، لتكون الحجة ألزم لهم، ألا تراه يقول - سبحانه في محمد، صلى الله عليه وسلم -: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) . فاستوجبوا اللعنة بجحودهم به بعد العرفة. * * * قوله: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) . حجة على المعتزلة والقدرية، إذ قد أخبر - في كلام واحد - عن زيغهم وإزاغتهم، كما ترى. * * * قوله: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) حجة على كل من يسر دينًا بعد دخوله في دين الإسلام. من أهل الأهواء جميعًا، وقد بيناه في سورة التوبة. * * * قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 دليل على أن التجارة اسم واقع على طلب الأرباح ونماء الأموال، ومحابّ النفوس معًا، وقد لخصناه في سورة البقرة. * * * قوله: (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) . إلى (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) . دليل على أن الطاعة تثمر للمرء محاب الدنيا والآخرة، وأن طلب الأرباح - في الدنيا والآخرة - بالطاعة أسرع إدراكًا لطالبه منه بغيرها. * * * قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ) . حجة واضحة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ لا يشك أحد أن نصر الله إنما هو نصر دينه، ولا يكون نصره إلا بالمعونة على إقامة أمره ونهيه وعلوهما، والأخذ على يدي من يريد ذله وإهانته، ولا يكون ذله وإهانته إلا في تضييع أمره ونهيه اللذين قوام الدين بهما. فأي حجة تلتمس على وجوبها من نصر قوله - عز وجل - في الأمر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 بالنصرة، كما ترى (1) .   (1) هكذا العبارة في المخطوط والذي فهمت أن المؤلف يريد أن يقول: فأي حجة تلتمس في وجوبها. من نصر لقول الله حيث أمر بنصره كما ترى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 سورة الجمعة * * * قوله: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ) . من الكلام الذي خوطب الناس بباطنه دون ظاهره - إذ معناه: أنهم حملوا العمل في التوراة فلم ينتهوا إليه، ونبذوه وراء ظهورهم، لا أنهم أمروا بحمل المكتوب من التوراة، وهذا دليل على سعة اللسان، ففيه حجة في ضرب الأمثال، وبيان ضرب الأمثال مخالف للقياس، إذ لا يشك أحد أن حمل هؤلاء التوراة إذ لم يعملوا بما فيها يشبه حمل الحمار الكتب لا يعلم ما فيها، فلم يفعلوا ذلك. من أجل أن الحمار يحمل الكتب، ولا الحمار حمل الكتب من أجل أن في الناس من يحمل كتابًا لا يعمل بما فيه، كما يزعم القائسون: أن الحنطة حرم التفاضل فيها لعلة القوت والنبات والكيل، فيحمل كل ما كان ذلك فيه - في التحريم - عليه، فليس لاستشهادهم بهذه الآية وجه. فإن سامونا القول بالقياس، فليدلونا على أن الله - جل جلاله - حرم التفاضل في الحنطة لما ذكرناه من عللها، لا أنه ابتدأ تحريم ذلك على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - كيف أراد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 ولا يجعلوا توهمهم حجة علينا. المعتزلة: * * * وقوله: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) حجة على المعتزلة والقدرية، إذ لو كان كل مبعوث إليه رسولاً، ومدلول على طريق الهداية يقدر بنفسه - أن يهتدي من غير أن يهديه الله ما كان في ذلك فائدة، ولا كان عليهم عقوبة، وهذا - لا محالة - إخبار عن قوم حمّلوا التوراة، وبعث إليهم موسى - صلى الله عليه - فهل كان بقي عليهم بعد بعثة الرسول، وإنزال الكتاب إلا المعونة من الله في السلك بهم سبيل ما أريد منهم، أفليس بينًا لا إشكال دونه، أن هذا من العدل الذي نستيقن كونه، ونجهل كيفيته، إذ قد سمى قومًا محتاجين إلى معونته على الهداية، ظالمين مع منعها منهم، وإخباره عن نفسه بأنه هو ما نفعهم سبحانه. * * * قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) رد على من يزعم أن المتيمم من الجنابة إذا وجد الماء ليس بفرض عليه أن يغتسل لما يستقبل من الصلاة حتى يجنب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 ثانية، معتلاًّ بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر: " إذا وجدت الماء فأمسسه جلدك، فإنه خير. فيقال: إن كان قوله: " فإنه خير " يدل على أنه اختيار، لا فرض. فقل إذا: إن السعي إلى الذكر - عند الأذان - وترك البيع اختيار لا فرض، لقوله: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 فإن سوّى بينهما وقال: هذا -أيضاً - اختيار لا فرض، قابل الأمة بالخلاف، إذ لا نعلم أحدًا يعده خلافًا يشك في أن إتيان الجمعة. وترك البيع فرض، لا اختيار. وإن قال: لا يدل هذا على الاختيار. قيل له: ولا ذاك يدل، إنما معناه - والله أعلم - أن غسلك بعد وجود الماء خير من أن تبقى بعد زوال رخصة التيمم، على حال لا تكون لك صلاة مستقبلة، وكذاك هو ها هنا: إن طاعتكم للَّه - جل وتعالى - في ترك البيع، وإتيان الجمعة خير لكم من معصيته في ترك الجمعة. والاشتغال بالبيع، والله أعلم. وهذا، وإن كان بذكر الخير قد تشاكلا، فإنهما في المعنى قد اختلفا بما تقدمهما من الكلام، إذ المتَيَمَّم قد شهد له بالطهارة، وأقيم مقام الوضوء، عشر من سنين، وأدّى فرضه - فيه - فصار ذكر الخير له فضيلة بيقين، والساعي إلى الجمعة، وترك البيع - حينئذ - إن لم يسع. ولم يترك البيع كان عاصيًا فصار ذكر الخير له فريضة بيقين. ترك لفظ الظاهر: * * * وقوله: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 من المواضع التي يترك فيها لفظ الظاهر، لقيام الدليل على أنه وإن كان من ألفاظ الأمر فهو إطلاق بعد حظر، ومثل هذا قوله: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) ، هو إباحة بعد حظر، لا أعلم في ذلك خلافًا يعتمد، وهو كذلك، والله أعلم. وكذلك قوله: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) - والله أعلم - حض على سبيل الفلاح، وبلوغه بكثرة ذكره، لا أن حد الكثير مفروض بلوغه، لقيام الدليل على إعواز معرفة حد غير محدود، فكلما أكثر المرء ذكر الله، كان أزيد لفلاحه، وأجدر لنجاحه، وأقرب إلى النجاة من عذاب ربه، ولا تلحق به المعصية إلا في وقت لا يذكره - بتة - ولا يحذر نظره عند معصية أو الاهتمام ببليّة، وهذا غير ممكن فيمن يقيم الصلوات الخمس، ويؤذن. ويتلو القرآن، ويشكر الله - جل وتعالى - على النعم الظاهرة والباطنة، وهذا كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) ، وكقوله: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 قوله: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) . دليل على أن الخطبة تخطب من قيام، والهاء في (إليها) راجعة على التجارة، أو على الفعلة السيئة في الانفضاض عن ذكر الله، وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم. (قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ) . نظير ما مضى في سورة المائدة من قوله: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 سورة المنافقين ذكر الزنديق: * * * قوله: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) إلى قوله: (فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) . حجة على من قال: الزنديق لا يستتاب، ولا تقبل توبته، بل يقتل إذا عرفت زندقته، ألا ترى إلى إخبار الله - تبارك وتعالى - عن المنافقين بإضمار الكذب، وخلاف الطوية لما يعلنون به من شهادة الحق، وجعل الأيمان جنة ليسلموا من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 القتل، فكيف يجوز إذا أظهر بلسانه ما هو عَلَم لحقن الدماء وزوال القتل عن فساد الطوية، مع تخلية الله، وتخلية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بين المنافقين وسوء طواياهم، وحقن دمائهم بظاهر القول. أترى معرفة الحاكم بطوايا المعروفين بالزندقة، إذا تابوا - بظاهر القول -. أكثر من معرفة الله - جل وتعالى - بطوايا المنافقين؟!. قد يمكن - لا محالة - أن يكون المعروف بالزندقة قد استوى باطنه مع ظاهره من حيث قد خفي على الحاكم الذي لا يقدر أن يظهر على الطوايا، كما يظهر عالم الخفيات على سرائر خلقه، فإذا كان من لا شك في كفره - ممن يشهد الله بكذبه من المنافقين - قبل منه ظاهره ولم يقتل، فالمعروف بالزندقة إذا أظهر القول بالتوبة، مع إمكان انتقال حاله، وعدم ظهور الحاكم على سره أحرى أن يقبل قوله، ولا يشاط دمه، فهذا واضح لا إشكال فيه. ولولا أن النبي، صلى الله عليه وسلم، عذر المخطئ من المجتهدين، ووعده عليه أجرًا واحدًا لكان مشيط دم المعروف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 بالزندقة - بعد توبته - لا عذر له مع ظهور هذه الحجة، وزوال التشابه عنها من كل جهة. وقد أخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من المسجد ناسًا منهم، حين أنزل الله - جل وتعالى -: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ) ، ولم يقتلهم. الزكاة: * * * وقوله: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) دليل على أن المرء ممنوع من ماله عند حضور أجله، وغير مسلط على إنفاذ إرادته فيه، كهيئة ما كان في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 صحته، وأن لا سبيل له على أكثر من ثلثه الذي أباح الله له على لسان رسوله، صلى الله عليه وسلم. ودليل - واضح - على أن ما فرط فيه من إخراج زكاته لا يجاوز ثلثه إن أوصى به، ويلقى الله ببقيته، إذ النفقة في القرآن هي الزكاة المفروضة، فلو قدر على إخراجها بعد ندامته، بعد دنو منيته، أو الوصية بها من رأس ماله، ما كان في مسألة تأخيره إلى أجل قريب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 يَصَّدق فيه فائدة، ولكان ممهدًا له تلافي تفريطه - إذا شاء - قبل خروج روحه، فهذا بين لمن تدبره. فإن قيل: أفلا تكون الزكاة أسوة الديون المقدمة على الميراث مع الوصية؟. قيل: إن الزكاة وإن كان وجوبها كوجوب الدين فلا يقع عليها - في اللغة - اسم دين " لأن الدين ما يستدان، والزكاة الواجبة عليه - في ماله - لم تصر في يد الفقراء قط، ثم أخذها منهم فيكون مستدينًا أو غاصبًا، إنما هي شيء اؤتمن المسلم عليها، يخرجها من أمواله بحد معلوم، وحول كامل، ولا مالك لها بعينه إلا بعد وصولها إليه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 كما يكون للديون والمظالم أرباب بأعيانهم، فإذا فرط في إخراجها - بعد مضي الحول - فهو خائن بحبسها، ظالم فيما بينه وبين ربه، فإذا أداها قبل حظر ماله عليه فذاك، وإلا لم يكن له سبيل على مال وارثه، المجعول له بعد موته، إلا الثلث المؤقت له. والمسلط عليه دون سائره. فإن قيل: فما تقول في الحجة الواجبة، أهي من رأس المال، أم من الثلث؟. قيل: بل من الثلث كالزكاة، لا يختلفان في هذا المعنى بل الحجة أضعف من الزكاة، لأن الزكاة في المال - وحده - والحجة على بدنه وماله، ألا ترى أن كثيرًا من أهل العلم والمفسرين جعلوا الاستطاعة إلى الحج في الصحة، لا في الزاد والراحلة، لأن الخبر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 في الزاد والراحلة واهي، الإسناد، فإذا كان الأمر كذلك. فهي في الثلث إن بلغت، وإلا لقي الله - جل وتعالى - بوزرها، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه. فإن قيل: أفليس النبي، صلى الله عليه وسلم، سماها دينًا، حين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 قال للخثعمية: " فدين الله أحق " فَلِمَ لا تحجعها مقدمة على الميراث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) ؟. قيل له: إن في حديث الخثعمية معاني تمنع من سلك الحجة - في ذلك - مسلك ديون العباد. فمنها: أن الخثعمية لا تخلو من أن تكون حاجة عن أبيها بمالها، أو بمال أبيها، أو بأمره، أو بغير أمره. فإن كانت حجة عنه بمالها فهي متطوعة، وإن كان بماله فإنما عمل عنه عملاً وجب عليه في حين أمره جائز في ماله، إذ لم يحضره الموت الذي يحجر مالَه. وظاهر ما يدل عليه الحديث أنها كانت متطوعة عنه " إذ لفظ الحديث أنها قالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده - في الحج - أدركت أبي شيخًا كبيرًا، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، فهل ترى أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 أحج عنه؟. ولو كانت قالت - أيضاً -: " بماله "، ما كان فيه شيء، لما دللنا عليه من أنه في حين يكون مسلطًا على جميع ماله. ومنها: أن تفسير السبيل بزاد وراحلة لم يثبت في الأصل حتى نصرف إدراك فريضة الله - له - إلى الزاد والراحلة. وليس في قولها: " لا يستطيع أن يثبت على الراحلة " ما يجُعل به الراحلة من سبيل الحج، لأن الناس قد يركبون رواحلهم في أسفارهم إلى الحج وغيره، مستطيعين، وغير مستطيعين. وقد صرحت في الحديث لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، بأنه لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، فلا أدري كيف وجه الحديث في هذا الشيخ، مع ذهاب طاقته، وفقد صحته، وضعف الدليل على أن الاستطاعة هي الزاد والراحلة، أكثر من أنه فرط في صحته فقضت عنه ابنته ما عجز عنه بعد فقدها. ومنها: أن المرأة مختلف في أداء فرضها - في حجة الإسلام - عن نفسها بغير محرم، فكيف عن غيرها؟. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 فإن كانت حاجّة عنه بغير أمر قاطع من أبيها لها فحجها عنه تطوّع - بغير شك - وما كان من الأسفار تطوعًا لم يجز خروجها فيه بغير محرم. لقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: " لا يحل لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر أن تسافر سفرًا " غير مؤقت في حديث ابن عباس ومؤقت - في حديث غيره - بيوم وليلة، وبثلاثة أيام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 " إلا مع ذي محرم منها " وسيما الشابة. وفي الحديث أن الخثعمية كانت شابة، يصرف النبي، صلى الله عليه وسلم، وجه الفضل بن عباس عنها. وإن كان بأمر قاطع من أبيها فلا يجوز لها أن تطيعه فيما هو معصية عليها من خروجها بغير محرم. وإذا كان محرمها لا يجبر - بإجماع الأمة - على الخروج معها وهي حاجة عن نفسها، لم يجبر عليه إذا حجت عن غيرها. فالحاجة عن أبيها لا تقدر أن تخرج عنه سالمة من العصيان، إلا في حين يتطوع محرمها بالخروج معها، وهذا يقل. ولو ذهب ذاهب إلى توهين هذا الحديث، ونفيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما اعتوره من هذا المعنى، وقال بقول من قال: لا يحج أحد عن أحد، أوجد مساغًا فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 مع أنه قد رُوي عن أبي هريرة أن رجلاً قال: يارسول الله عليّ حجة الإسلام، وعليّ دين، فقال: " اقض دينك ". ففرق بين الدين والحج. حدثناه عبد الله بن الصباح، قال: دثنا داود بن رشيد، قال: دثنا الوليد بن مسلم، عن أبي عبد الله - مولى بني أمية - عن أبي حازم، وسعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 وليس جهلنا برواية أبي عبد الله بأكبر تأثيرًا في حديثه، مما وهّن حديث الخثعمية من المعاني. وأبو عبد الله وإن لم يكن ظاهر العدالة - في المحدثين - فقد اتفق الجميع على معنى روايته من أن الدين يقدم على نفقة الحج في حياة الحاج، ولا نعرف مدونًا عن أحدٍ رأي الحجة الواجبة من رأس المال مضاربة بها مع ديون البشر. ولجواز حج الإنسان عن غيره - بعد الموت - ولمنع المرأة من الحج بغير محرم موضع غير هذا، وهو كتابنا المؤلف في " شرح النصوص " ولحج العبد معًا، فهذه المعاني في حديث الخثعمية بينة واضحة. فإن صرف حديثها إلى أن تخبر من يحج عن أبيها - على سعة اللسان - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 ولا تحج بنفسها -: لم يدخل الحديث وهن، وأرجو أن يكون كذلك، لأن إسناده صحيح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 سورة التغابن قوله - عز وجل -: (فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا) . دليل على أن البشر يخبر به عن الجمع، وهو اسم للجنس. * * * قوله: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا) رد على المعتزلة فيما يزعمون: أن الشيء إذا سمي باسم، ثم سمي به غيره لزم أن يشبهه بجميع جهاته، وقد سمى الله - جل جلاله - القرآن هاهنا نورًا، كما سمى نفسه نورًا. ذكر التاكيد: * * * وقوله: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) حجة للتأكيد في الكلام، ورد على من قال: ليس في كلام العرب تأكيد، إذ الأبد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 داخل في الخلود، وقد أكده كما ترى، وذكر الذين كفروا وكذبوا بآياته، ثم قال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) . ولم يقل أبدًا، فهل يزعم نافي التأكيد - عن كلام العرب - أن أهل النار من الكفار لايؤبدون فيها كما يؤبد أهل الجنة. أم يرجع عن قوله،. فيعلم أن ذكر الأبد في وعد أهل الجنة تأكيد لا يضر حذفه في وعيد أهل النار، لإتيان ذكر الخلود عليه، وإن لم يذكر؟. (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) . رد على المعتزلة والقدرية، لما دللنا عليه - في غير موضع من هذا الكتاب - أن الإذن إطلاق، لا علم، والقتل أكبر المصائب الواردة على المصاب. ذكر الاحترازات: * * * قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) ، دليل على تثبيت الاحترازات، وأنها غير مؤثرة في الإيمان بالمقادير، بل مندوب إليها المرء كما ترى، ومأمور به، وإن كان غير نافعه، وهو يؤيد الحديث المروي عنه، صلى الله عليه وسلم: " اعقلها وتوكل ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 ذكر الصبر على أذى الزوجة: (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) . عزاء لمن بلي بزوجة مؤذية، أو ولد عاق فصبر على أذاهما، وعفا وصفح عن زلاتهما، ومكروه يكون منهما، وفيما وعد الله - جل جلاله - من الغفران من فعل ذلك ما يهوّن عليه، ويعظّم بشارته إذا احتمل مضض غوائلهما طمعًا في إنجاز ما وعده الله عليه. المعتزلة: * * * وقوله: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) تنبيه للمعتزلة والقدرية، لو تأملوه وأنصفوا من أنفسهم فالفلاح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 شيء مفعول بهم، وتعقيبه ذلك بفعل مضاف إليهم من إقراض القرض الحسن، وجعله كليهما في مدح الموصوفين بفعلين مختلفي اللفظ. متفقي المعنى، وهذا نظير الإضلال الذي يخبر به مرّة عن نفسه أنه فاعل بهم، ومرة عنهم أنه يفعلونه بأنفسهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 سورة الطلاق قوله - تبارك وتعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) ، خصوص - لا محالة - على المدخولات بهن، لزوال العدة عن غير المدخولات بهن، و (إِذَا طَلَّقْتُمُ) معناه - والله أعلم - إذا أردتم الطلاق، لا إذا فرغتم منه " * * * وقوله: (لِعِدَّتِهِنَّ) دليل على أن المطلقة - حائضًا - لا تعتد في عدتها بالحيضة التي طلقت فيه، إذ لو كانت في كل حالة طلقت فيه - دخلت في عدخها من فور الطلاق - ماكان في اشتراطه وقتًا موصوفًا فائدة. * * * قوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) دليل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 على أن من سكن دارًا جاز أن تضاف إليه - وإن كان ملكها لغيره - ولا يكون كذبًا، إذ البيوت المضافات إلى الزوجات - في هذه الآية - ملكها - لا محالة - لأزواجهن، إذ لو كان ملكها لهن ما كان لأزواجهن سبيل عليهن قبل الطلاق وبعده، لأنهن أحق بأملاكهن ممن لا ملك له، فإنما خاطب المطلِّقين بفرض سكنى من طلقوا من الزوجات دون الثلاث، إذ هن في معاني الزوجات - كما كنَّ قبل الطلاق - من وجوب السكنى والنفقة كما كن إنما حرم منهن الوطء وما أخذ أخذه من القبل ونظر الشهوة حتى يراجعن. وفي إيجابه - جل وتعالى - على الأزواج سُكنى من لم يبت أقصى طلاقها دليل على أن من طُلقت أقصى الطلاق ألا، يفرض لها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 سكنى، لأنها خارجة من معاني الزوجات، وغير محبوسة بالعدة عليه، لزوال المطمع في الرجعة التي قد قطعها أقصى الطلاق. قال محمد بن علي: وفيما خرج لنا من جواز إضافة البيوت إلى من مُلْكها لغيره دليل على أن من حلف - من السكان - أن لا يسكن داره، ولا يدخل دار فلان حنث بالسكنى، ودخول فلان الدار التي هو فيها بكراء لأنها داره بالتوطن والحلول. وإن كان مُلْكها لغيره، إلاّ أن تكون له دار يملكها ملك الرقبة فيقصدها بيمينه، فلا يحنث حينئذ في المكتراة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 ذكر الطلاق ثلاثًا: * * * و قوله: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) دليل على أن من جمع التطليقات الثلاث بكلمة واحدة، وأوقعها على امرأته في حال واحد واقع عليها، إذ لو كانت لا تقع كما يزعم الزاعمون - ما خشي أبدًا فوات الرجعة، لأنه لو ردت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 الثلاث إلى واحدة كانت الرجعة ممهدة له، ولو أبطلت بأسرها عنه ما احتاج إليها بتة لبقاء عصمة النكاح على حالها، فما الفائدة - إذًا - في * * * قوله: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) إن كان الأمر لم يخرج من يده بعد. فهل يشكل على من نصح نفسه - إذا تدبر ما وصفناه - أن الله جل جلاله لرأفته بعباده دلهم على موضع الحيطة في تفريق الطلاق على الزوجات، لئلا يفوت - نادمًا على طلاق من تتبعه نفسه بعد الطلاق - الرجعة الرادة عليه ما أخرجه الطلاق من بين يديه، لا أنه شرع الطلاق مفرقًا على أنه لا يقع مجتمعا، ولولا قوله: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) ، لاحتمل أن يكون تفريق الطلاق شرعًا، لا نظرًا وحيطة. فأما والقصة متممة بهذا فدعوى الشرع الذي لا يقع بغيره وإنكار النظر والحيطة مما لايعذر به ذو رأي وبصيرة. فإن شُبّه على أحد بأن الأمر الذي يحدثه الله راجع على المحصَّن - لمن طلق - بالسُّكنى، فإذا لم تسكن لم تسمح نفسه برد من قد أخرجه خالف الإجماع، وخرج من العرف والعادة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 فأما مخالفته الإجماع: فهو أن سكنى المطلقة واحدة فرض على الزوج ليس بمخير فيه. فمن زعم أن الأمر - الذي يحدثه الله - راجع على المحصن بالسكنى فقد خيره، وأزال عنه فرضها، وعليه مع مخالفته الإجماع خلاف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: " إنما السكنى والنفقة لمن كانت له على امرأته رجعة ". وأما خروجه من العرف والعادة فهي المشاهدة في العالم أنهم يسمحون برد امرأةٍ بعد تزويجها، ودخول الزوج الثاني بها -، فضلاً عن النظر في خروجها من البيت بعد الطلاق، ومن أحدث الله له رغبة في امرأة - يجد السبيل إلى ردها - لم يفكر في خروجها من بيته. فإذا كان هذا المعنى لا يجوز توهمه - لإحاطة الخلل به كما ترى، وما ذكرناه يُنكر - بقي الأمر الذي يحدثه الله عطلاً ليس له شيء يرجع عليه. إذ ليس معنى ثالث يرد عليه - بتة - ملفوظًا ولا متوهمًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 ومن نسب الله - جل جلاله - إلى أنه ينزل في كتابه حشوًا، أو مبتَّرًا، أو محُالاً افترى عليه، وكفى مؤونة الاشتغال به تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. وليس ما اجتبأناه - من هذا - بمؤثر في ذبيحة السارق، وما شاكلها، لما دللنا عليه أن النظر والحيطة ليس كالشرع، وقد لخصناه في تمامه في كتاب الطلاق من " شرح النصوص " فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. الرجعة بغير شهود: * * * وقوله: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) . دليل على أشياء: فمنها: جواز السماحة في الكلام، على مذهب العرب فيه وترك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 التنطع بما يحسبه جهال المتنسكين كذبا، فإن بلوغ الأجل - في هذا الموضع - هو مقاربة خلوه، لا خلوه، إذ لو كان خلوّه ما أمكنه الإمساك بالرجعة، ولا احتاج إلى تزويجها، ولا يقال للمتزوج ممسك. ومنها: إبطال الرجعة بغير شهود، وتوهين من جعل الجماع رجعة - مع الإرادة - إذ محال أن يشهد على المجامعة، وقد أمر اللَّه بالإشهاد على الإمساك والفراق، كما ترى. ومنها: أن الإشهاد في الطلاق فرض، لا يجوز تركه، وكيف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 يجوز تركه وهو سبب إطلاق المرأة في التزويج بغيره؟!. أرأيت لو جحدها الطلاق - ولا بينة للمرأة عليه - أليس كان يحلف وترد إليه حرامًا في الباطن،، وترك الإشهاد أعان عليه. والعجب ممن لا يدري الإشهاد في الرجعة والطلاق فرضًا - مع الأمر به نصًا متلوًا - ويرى الشهود في النكاح فرضًا، ولا تلاوة فيه. ولا أعرف عذر من يترك آية من كتاب الله، فيها حكم بين بأمر مفصح، ثم لا يأوي - فيه - إلى مثلها، أو سنة ثابتة، أو إجماع من الأمة تمهد له صنيعة، والله المستعان. ومنها: أن " الفراق " لفظ لا يعد بنفسه تصريحًا، بل هو أسوة الكنايات في من لم يبنها الطلاق، لجعل الله - جل وعلا - إيّاه من ألفاظ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 الإخراج، لأن ألفاظ البينونة كما قال في السراح - بعد البينونة بالطلاق - (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) . فجعلهما معًا من ألفاظ الإخراج لمن أبانها الطلاق، فليس لإعدادهما في عداد التصريح وجه لمن تدبرهما، ولا يكون لفظ التصريح إلا الطلاق وحده. تفسير: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) . يؤكد أن المطلق ثلاثًا بكلمة واحدة، وإن عد -أيضاً - عاصيًا أشد ما قيل فيه أن الطلاق يقع عليه، وقد فاته المخرج بالرجعة. وكذلك حدثني عبد الله بن الصباح الأصبهاني، قال: دثنا إسحاق بن أبي، إسرائيل، قال: دثنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 حماد بن زيد، عن أيوب، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد. قال. كنت جالسًا إلى عبد الله بن عباس، فجاءه رجل فقال: إني طلقت امرأتي ثلاثًا، فسكت عنه حتى ظننا أنه سيردها عليه، ثم قال: يعمد أحدكم فيعمد الحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس. وقد أنزل الله - تبارك وتعالى - على نبيه صلى الله عليه وسلم (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ " في قبل عدتهن ") (1) ، وإنك لم تفعل وإن   (1) قوله: " في قبل عدتهن " هذه قراءة عبد الله بن عباس، فقد نقل ذلك عنه سفيان بن عيينة، وعبد الرزاق الصنعاني والطبري. انظر تفسير سفيان ص (336) ، والمصنف (6/ 303) ، وتفسير الطبري (28/ 84) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 الله - تبارك وتعالى - قال، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) . وإنك لم تتق الله فما أرى لك مخرجًا، عصيت ربك وبانت منك امرأتك ". فهذا ابن عباس - المعتمد على حديثه في الطلاق الثلاث من رواية طاووس عنه - يقول هذا القول بالإسناد الصحيح، ويدل على أن الخرج إنما هو لمن لم يجمع الثلاث، ويدل على أنه وإن عصى فطلاقه واقع، ولا مخرج لحديث طاووس إلا ما بيَّنَّاه في كتاب الطلاق " من شرح النصوص ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 وليس قول من فسر (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) ، من كل أمر ضاق على الناس بدافع ما قلناه، لأن رجوع المرأة بالرجعة - بعد الواحدة والثنتين - من الفسحة على المطلق، بعد ما أخرجها بالطلاق. وداخل في الأمر الضيق على الناس. * * * قوله: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ) ، دليل واضح على أن الأقراء الحيض، لذكره المحيض - بلفظه - وجعله الأشهر الثلاث عوضًا منه. بلوغ النساء: * * * وقوله تعالى: (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) . دليل على أن للنساء - أيضًا - بلوغًا سوى الحيض، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 إذا بلغته قبل إدراك الحيض وجبت عليهن به الفرائض، لأن العدة فرض على النساء لا يجوز إيجابه إلا على من يجري عليه القلم - منهن - ولا تكون العدة أوكد من الصلاة والزكاة وسائر الأعمال المفروضة عليهن. وحد هذا البلوغ من النساء - عندي، بدليل القرآن - هو السن الذي تطيق فيه الجماع، وتلد في مثله، ألا ترى أنه قال: (إِنِ ارْتَبْتُمْ) ، ولا يكون الارتياب إلا بعد الدخول ممن يمكن أن تحمل وذلك تسع سنين، التي دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعائشة رضي الله عنها، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 وشوهد من النساء من حملت فيها. وفي توقيته - تبارك وتعالى - ثلاثة أشهر مع ذكر الارتياب دليل على أن الحمل يتبين فيها، ودليل -أيضاً - على أن الآيسة من الحيض قد تحمل، ولا يكون إدرار دم الحيض - من النساء - سببًا للحمل بكل حال، وعونًا عليه، وإن كان الأغلب أنه يكون كذلك. وقد يحتمل أن يكون هذا السن من النساء بلوغًا في وجوب العدة عليهن - وحدها - وسائر الفرائض لا تجب عليها إلا بالحيض، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تقبل صلاة امرأة قد حاضت إلا بخمار ". فحد النظر أن لا يكون على المطلقة - المظلومة بالدخول بها في حين لا تطيقه - عدة، لأنها ليست ممن يُرتاب بحملها الذي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 ، شرطه الله فيها، ولا ممن وجب عليها جميع الفرائض ببلوغ الحيض، فتكون العدة أحدها، ارتيب، أو لم يرتب. وكذلك إن مات عنها زوجها في هذا السن، مدخولاً بها، أو غير مدخول، لأن غير المدخولات بهن، وإن وجبت عليهن عدة الوفاة فهن اللواتي يعقلن التربص بأنفسهن، ووجب عليهن الفرائض ببلوغهن، ولا يشك أحد أن العدة على النساء فرض، فمن لم تجب عليها الفرائض بالبلوغ، ولا دخل بها في حين يجوز أن تحبل فيرتاب بها لم يكن لموجب العدة عليها حجة يعتمد عليها من كتاب، ولا سُنة، بل الكتاب والسنة - معًا - يدلان على إسقاطها عمن هذه حاله من النساء، والله أعلم كيف هو. ومن المفسرين من قال: إن العشرة ضُمت إلى الأربعة الأشهر في الوفاة، لأن نفخ الروح في الجنين فيها تكون، فليس يتبين الحبل على هذا القول في أقل من ثلاثين ومئة يوم، وهذا حكم على مراد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 الباري - سبحانه - لا تسمح النفس بقبول إلا باب مأثور عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. والأثر مدته عشرون ومئة يوم. حدثني أبي قال: دثنا علي بن حرب قال: دثنا عبد الله بن داود وأبو معاوية، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق الصدوق " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين. يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح ". فكيف يمكن مع هذا الحتم على أن نفخ الروح لا يكون إلا في آخر يوم من العشر المضمومة إلى الأربعة الأشهر بلا توقيت، وقد جعل الله جل وتعالى العدة ها هنا - في سورة الطلاق - مع الارتياب بثلاثة أشهر، والقرآن حق لا ريب فيه، والخبر يقبل من رواته. ولا يشهد به على الله - سبحانه - كما يشهد عليه بما ورد في القرآن. فإن عَرف النساء - قبل تحرك الولد - علامة للحبل في ثلاثة أشهر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 فقد اتفقت الرواية مع القرآن لثنتين، للحبل علامتان تظهر إحداهما بما تظهر في ثلاثة أشهر، والأخرى بالتحرك في أربعة أشهر. وإلا فقد أخبر القرآن عن زوال الارتياب بثلاثة أشهر، وهو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والخبر قد يقع فيه الوهم من الراوي قبل أن يبلغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وما استوقن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاله فلا وهم فيه كالقرآن، لقوله - تبارك وتعالى -: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) . وأيهما كان فتصحيح ما قاله المفسر - في ضم العشر إلى الأربع - لا يمكن تحققه، وقد اتفق الجميع مع ذلك على أن العدة من الأربعة الأشهر والعشر واجبة على المتوفى عنها زوجها، وإن لم يكن دخل بها، وليس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 هناك بيقين من ينفخ فيه الروح في العشر ولا قبلها. * * * قوله: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) . راجع - والله أعلم - على من مضى من الآيسات من المحيض، واللائي لم يبلغنه أي إن كن أولات حمل فليس عدتهن الأشهر، ولكنه وضع الحمل، ففيه - الآن - دليل على أن من جعل عدتهن ثلاثة أشهر هن من يمكن أن تحمل، لا الأصاغر اللواتي لا يمكن فيهن حمل يرتاب به. * * * قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) . دليل على أن كل عسير من الأمور يتيسَر بالتقوى، حتى عسر تقتير الرزق، وشفاء الداء العسر العلاج، والخلاص من المحبس - من الفكاك من الأسر - وأشباه ذلك. * * * قوله: (ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) . حجة فى أن القرآن غير مخلوق، لأن الله سماه بالأمر، والأمر لا يكون إلا كلامًا متكلمًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 به وكلام الآمر نعت من نعته، ونعوت الخالق غير مخلوقة، وهو مثل قوله -: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) . (أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) ، رد على من لا يقر أن الله - سبحانه بنفسه - في السماء. ذكر التوبة: * * * قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) . دليل على أن التوبة مع ما تحط من السيئات، تنمي له أجرًا برأسه، وهو مثل قوله: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) . وهذه الغنيمة الباردة لمن عقلها وتيقظ لها. قال محمد بن علي: وقد مضى ذكر الدليل على أن المطلقة ثلاثًا لا سكنى لها، ولا نفقة، عند قوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) . ثم قال - سبحانه - في الآية الأخرى: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 فقد شبّه اشتراط النفقة بالحمل عليهن على الناظر فيه، وأراه أن الأمر بالإسكان - هاهنا - هو للمطلقة ثلاثًا، إذ لو كان غيرها من المطلقات لوجب عليه لها النفقة حاملاً، وغير حامل، فهو يحتمل هذا، ويحتمل أن يكون الإسكان - في هذه الآية،أيضاً - لمن طلقت دون ثلاث، ويكون زيادة في البيان والتأكيد. واشتراط النفقة بالحمل حقًا من حقوق الولد - الذي في البطن - لا من حقها. ويكون وجوب النفقة لغير المبتوتة بالإجماع مسلّمًا له. كما سُلّم له إيقاع طلاق جديد، والإيلاء، والظهار، ووجوب الميراث، إذ الطلاق إذا قطع عصمة النكاح كان حق النظر أن لا ينظر فيه إلى العدد، ألا ترى أنها تحل للأزواج بعد انقضاء العدة بالواحدة، كما تحل بالثلاث، فلو لم تكن العصمة منقطعة كانت أحكام الزوجات لها قائمة، من أجل ثبوت العصمة ولما حلت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 للأزواج، ولا احتاجت إلى العدة، ولا الزوج إلى الرجعة، فدل أن هذه الأشياء قائمة بينها وبين زوجها بالإجماع الذي لا تعقل علته، إذ العلة المعقولة انفساخ النكاح بالتطليقة الواحدة، وهذه أحكام كانت قائمة بينها وبين زوجها قبل إحداث الطلاق، فلما حصل الإجماع على فسخ النكاح ، بالتطليقة الواحدة، كما ينفسخ بالطلاق الثلاث مفرقًا، وغير مفرق، عندنا وعند من يراه والوطء محرم دون إحداث الرجعة بكلام، أو جماع يقصد به الرجعة عند من يراه، وإباحتها للأزواج بترك الرجعة عُلم أن النفقة لا تفرض لمن ليست بزوجة، كما تفرض لها وهي زوجة، فلما أوجب لها السكنى القرآن، وأوجب لها النفقة الإجماع - مع ما ذكر من السكنى، - سُلّم لهما. وكانت المبتوتة بالثلاث زائلاً كل ذلك عنها إذ محال أن يزول الإيلاء والظهار والميراث، ويبقى لها السكنى والنفقة، وليس فيه قرآن يسلم له، ولا سنة، ولا إجماع يترك عندهما، كما ترك عند الأولى. وليس توهم المتوهم أن اشتراط الله النفقة بالحمل - بعد ذكر الإسكان - إنما هو في المبتوتات بالثلاث دون غيرهن، ومحال أن يكون نزول الآية بعد اتفاق الأمة على إيجاب النفقة لغيرهن، وكيف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 تتفق الأمة على فرع شرع قبل أن يفرض أصله؟! ، هذا ما لا وجه وإيجاب النفقة بالحمل ممكن أن يكون من حق الولد الواجب نفقته على الآباء، ويحُبس عليه قسمة الميراث، فهذا الاحتمال أبين مما ذكرناه في الآية الأولى. من قوله: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بيُوتِهِنَّ) ، والله أعلم كيف هو. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 القياس: قال محمد بن علي: ولو لم يكن من الدليل على بطلان القياس إلا إجماع الأمة على إبقاء أحكام بين زوجين قد قطع الطلاق عصمة نكاحهما لكفى، فعلى أي علة وقع هذا الحكم - ليت شعري - والعلة المسماة بالنكاح الذي كانت الأحكام تجب بها زائلة بالطلاق الذي يحلها للأزواج، ويقطع ميراثها بعد انقضاء العدة. لو حدث الموت بعده. ففي هذا أكبر معتبر لمن اعتبر أن الأحكام لا تقع معللة، إنما تقع تعبدًا محضًا لا شوب فيه، وعلى المحكوم عليه اتباعها، وترك البحث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 عن عِلَلِها، فضلاً عن أن يحمل عليها أشباهها عنده. ذكر وجوب نفقة الولد: * * * قوله: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) . حجة في وجوب نفقة الولد، وفي أن الأمَّ لا تحرم الأجرة وجد الأب متطوعة، من الأجنبيات، أو لم يجد، لأن الله - جل وتعالى - أمر بإيتاء أجورهن أمرًا عامًا، وهو يعلم أن في الآباء من يجد متطوعة - مغنى - مع عموم الآية بالأمر. وفيها -أيضاً - دليل على أن ما لا يمكن تعريته من المجهول، ولا يضبط بالتسمية في الإجارات جائزة. * * * وقوله: (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) . دليل على أن الأم إذا أرادت الإجحاف بالأب في إغلاء أجرة الرضاع، كان للأب دفعه إلى أجنبية، ولم يجبر الأب على أكثر من أجرة مثلها في إرضاعها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 وقوله: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) . دليل على أن التقتير في الإنفاق - مع السعة - على الأنفس والعيال مذموم، ولا نعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا الخلفاء بعده قتروا على أنفسهم مع السعة، وكانوا كما قال الله - سبحانه وتعالى في هذه الآية -. (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7) . وفي (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) . دليل على أن نفس المال يسمى رزقًا، لا أن اسم الرزق لا يقع إلا على ما استهلك بالأكل، واللباس، وما أشبههما. * * * قوله: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7) دليل على أن من وجب عليه نفقة قوم فلم يقدر على تمامها لم يلزمه الإقحام على ما لا يحل له، ووجب عليه الاقتصار على ما أوتي من الرزق، وعلى من يمون الصبر معه على انتقال حاله من العسر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 إلى اليسر الذي وعده الله في هذ" الآية، ولو جعل هذا المعنى جاعل حجة في ترك التفرقة يين المعسر بنفقة أمرأته وجد فيها متفسحا - والله أعلم - إذ سبيل من أعسر بجميع الكفاية، ومن أعسر ببعضها واحد لإحاطة العلم بأن ما لابد منه من حد محدود لم يغن بعضه عن جميعه. الكافر يحاسب يوم القيامة: * * * قوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ) إلى قوله: (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) . دليل على إجازة تأخير المعنى إلى آخر الكلام، والإشارة إليه في أوله، إذ العتو من القرية، وما ذكر من شأنها كله مقصود به أهلها الذين رجحت " الهاء والميم " عليهم في (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ) ، وفيه دليل على أن الكافر يحاسب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 قوله: (فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا) حجة في استعارة الكلام من المخلوقين، ووضعه موضع غيره إذا دل عليه لفظه، إذ أصل الذوق إنما هو بالفم، فلما أراد الإخبار عن وجود مضض العذاب، وسوء العاقبة، به أخبر، والقرآن نازل بلغة العرب، واذا كان الجليل - سبحانه - يفعل ذلك والكلام غير معوز عنده، ونسبة الضيق - عنه - إليه كفر ممن توهمه فالمضطر إليه من البشر أحرى أن يستعمله، ومثله قوله في سورة المائدة: (وَبَالَ أَمْرِهِ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 قوله: (قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا) . حجة في أن الله - سبحانه وتعالى - بنفسه في السماء، أو، هو رد على من ينكره. * * * وقوله: (رسولاً) إضمار - والله أعلم - كأنه قال: (أنزل اللَّه إليكم ذكرًا وأرسل رسولاً) ، لأن الذكر هو القرآن، والله أعلم. وفي قوله: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) دليل على جواز التأكيد في لغة العرب، لأن " الخلود " مغن عن " الأبد " ودال عليه، فقوله: (أَبَدًا) تأكيد من غير إشكال. * * * قوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) . المثل - والله أعلم - راجع على العدد، لا على الصورة، وفيه دليل على أن الأرض قد توضع موضع الجمع، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 إذ لم يقل - سبحانه - (ومن الأرضين) ثم يجمع بعد ذلك على لفظ الجمع أيضاً. في قوله: (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) ، دليل على أن الأرضين طباق مثل السموات، وأن بين كل أرض وأرض خلق مستعبدون، ومنزول عليهم الأمر، والأمر في هذا الموضع والله أعلم، إخبار عن كلامه - جل وعلا - في كل ما ينزله مما يتعبدهم به من أمر ونهي. كما قال: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) ، فكان أمره القرآن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 وفيه - مع الأمر - نهي وإرشاد وندب إلى كل خير، وقصص الأنبياء وغير ذلك، لا الأمر وحده. وفيه دليل -أيضاً - على أنه سبحانه في السماء بنفسه، والأمر ينزل منه إلى الأرضين، لولا ذلك ما كان " للفظ " التنزيل معنى. * * * قوله: (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) زوال كل لبسة من أنه في السماء، وعلمه محيط بالأشياء، ولو كان كما يقول الجهلة لكان - والله أعلم - ((وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ) فقط من غير أن يكون فيه (عِلْمًا) ، وهذا قد فسر كل محيط في القرآن ليس معه العلم. وهو أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 سورة التحريم قوله - تبارك وتعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ) . يقال: إنه نزل في عسل حرمه على نفسه ألاَّ يشربه. ويقال: بل نزل في تحريمه مارية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 أم إبراهيم. والذي يشبه - عندي، والله أعلم - أن يكون في تحريم مارية إذ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 ليس في تركه صلى الله عليه وسلم شرب عسل - حرمه عند من كان من أزواجه، أو جاريته - ما يبتغي به مرضات سائرهن، ولا ما يزول به غيرتهن، إذا دخل عليها ووطيها بعد أن لا يشرب عندها عسلاً، بل أشبه شيء أن يقلن له - عليه السلام -: نجد منك ريح المغافير، طمعا في تزييف من شرب عندها ذلك العسل، ليزهد فيها فيحرمها، لا ليترك شرب العسل عندها. ومما يزيده تاكيدًا أن العسل داخل في جملة الطيبات، التي نهى الله عن تحريمها في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) . نزلت في رجل حرم اللحم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 على نفسه فعمه الله - جل جلاله - هو وسائر المؤمنين بالنهي عن تحريم ما حللَّه من الطيبات لهم. ورسول الله صلى الله عليه وسلم أجل المؤمنين قد دخل في هذا النهي مع أمته، والمائدة آخر ما نزل من القرآن، فلو كانت آية المتحرّم نازلة في العسل لقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل - والله أعلم -: حلل يمينك في تحريم اللحم، ولما سكت عنه حين سأله منتظرًا للوحي حتى نزل. وما أحل الله في سورة المتحرّم، كلمة جامعة يدخل فيها العسل واللحم، وغيرها من المأكول والمشروب، بمنصوص على لفظ العسل فيحتاج - عند من يأبى القياس - إلى نص مجُدّد في تحريم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 اللحم، مع أن قوله: (تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ) . دليل واضح في أنه الجارية، لا العسل. فإن قيل: لو كان كما ذكرت لكان: لم تحرم من أحل الله لك، ولم يكن (مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) ، إذ لفظ "من " يخبر بها عن الحيوان، ولفظ " ما " يخبر بها عن غير الحيوان. قيل له: فقد قال الله - تبارك وتعالى -: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) ، فدخل فيه الحيوان وغيره، وأخبر بلفظ "ما" عنهم، كما أخبر بلفظ "من " في قوله: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) . بل المفسرون على تسبيح الحيوان مجمعون، وفي غير الحيوان مختلفون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 ولو لم يكن لنا في الجمع بين "ما" و"من " إلا في هذا الموضع هذا الشاهد - أيضا - "لأمكن أن تكون "ما" واقعا على تحريم الوطء، فلا يكون لمن يقصر عن سعة لسان العرب متعلق بما بيناه من قوله. فلنا الآن أدلة في ذلك: منها: أن كل حلف - وإن كان بغير الله، جل جلاله - يسمى يمينًا، لقوله: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) . ولم تكن يمينه صلى الله عليه وسلم بالله جل وتعالى. ومنها: أن المباح من فرج الأمة - الذي أباحه ملكها - حَرُم بلفظ التحريم حتى تحلله الكفارة، كما حَرُمَ فرج الحرة المباح بعقد النكاح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 بلفظ الظهار حتى تحلله الكفارة، إلا أن كفارة الظهار أغلظ من كفارة التحريم في الأمة، لأن تلك مذكورة، وهذه مبهمة، فهي بردها إلى * * * قوله: (ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ) - لاتفاق اللفظين من الأيمان - أحق من ردها إلى لفظ الظهار، أو لفظ الموعظة في قوله: (ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ) ، أو لفظ الحدود في قوله: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) ، بعد ذكر الكفارة في الظهار، فيكون على اللافظ بتحريم فرج أحل الله له من أمَة، أو حرة كفارة يمين، يخير فيها من إطعام، أو كسوة، أو تحرير رقبة. وعلى اللافظ بالظهار عتق رقبة - لا غير - إن وجدها، وصيام شهرين إن لم يجدها، وإطعام ستين مسكينًا إن لم يستطع صيامهما. ليحمل كل على شرط الله - جل جلاله - فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 وليس لإسقاط الكفارة عن محرم الحرة - وإن لم يجعل قوله طلاقًا - معنى مع قوله: (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) ، وقوله على إثره: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) . وهي مما أحل الله لنا، وإذا كانت مما أحل الله لنا فسواء كانت حرة، أو أمة لا يكون إيجاب الكفارة فيها إلا بالنص، لا بالقياس. وليس لقول من جعل (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) ، ابتداء لا ردًّا على ما قبله - مع تكفير النبي صلى الله عليه وسلم، قوله هذا - معنى، إذ لو كان ابتداء كما زعم ما كفر النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 فقولنا - الآن - فى إبطال الكنايات مستقيم، لا نجعل التحريم في الحرة طلاقًا، ولا في الأمة عتقًا، غير أنا نجعله مانعا للوطء حتى يحلله قائله بالكفارة، التي فرضها الله لنا، وأحكام الزوجة قائمة مع زوجها، وأحكام الأمة مع سيدها كما كان، غير الوطء وحده. ومنها: أن محرم غير الزوجة والأمة من المأكول والمشروب لا كفارة عليه إذ حصلت الكفارة على محرم الزوجات والإماء في هذه الآية، وقد بان ذلك في سورة المائدة، حتى نهى - سبحانه - عن تحريم الطيبات ولم يفرض فيه تحلة كما فرضه في سورة التحريم. لنزولها بعدها، وهي وإن نزلت بعدها فليس يتبين أنها ناسخة لما قبلها، فتسقط بها الكفارة عن محرم الفروج المحللة الطيبة بالملك والنكاح، إذ لو جاز أن يقال ذلك ما كان على من حرم زوجته بالظهار - أيضا - كفارة، والإجماع محصل في وجوبها عليه فكان تحريم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 الفروج مخصوصًا بها، وموضوعًا عن غيرها من المأكول والمشروب، وما أشبههما، والله أعلم كيف هو. وما يزيد ما قلناه تأكيدًا من أن فرض تحلة الأيمان راجع على ما قبله وليس بمبتدأ ذكره المغفرة - سبحانه - على إثر التحريم، ِ كما ذكره على إثر التحريم بالظهار فقال - ها هنا -: (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) ، وقال - هناك -: (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) . فدل على أنه جعل الكفارة بعد المغفرة للقولين زيادة في ستر ما غفره من تحريم المحلل ليمحو بها المنكر من لفظ "الظهار" و "التحريم " والله أعلم. قوله (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا) إلى قوله: (وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) ذكر فى هذا "السر" تفسيران: أحدهما: أنه ما أسره النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حفصة من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 تحريم جاريته مارية، فأخبرت به عائشة، وهذا يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعنهما. والآخر: أنه أسر إليها بأن أباك وأباها يليان بعدي وهذا يروى عن حبيب بن أبي ثابت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 فإن كان السر كما فسره حبيب فهو يثبت خلافتهما من القرآن كما بينها (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ) . لأبي بكر. وأن كان ما فسره عمر، رحمة الله عليه، ففي تلك لأبي بكر - رضي الله عنه - كفاية من القرآن، مع ما فيه من السنن، ولعمر باستخلاف أبي بكر إياه، مع ما ذكر فيه -أيضاً - من سنن قد حواها كتابنا "المجرد في الرد على المخالفين بالأخبار". * * * قوله: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) . دليل على أن إفشاء السر ذنب من مفشيه، لولا ذلك ما دُلتا - والله أعلم - على التوبة منه، وهما وإن كانتا أفشتا سر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما أمرتا بالتحفظ به، وكتمانه، وطاعته فرض في حال وندب في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 أخرى، لا يشاركه فيهما أحد من أمته، فمن دونه صلى الله عليه وسلم أيضًا من المؤمنين إذا ائتمن إنسانًا بوضع سره عنده فخانه بإفشائه عليه فهو لا محالة آثم " إذ لو لم يكن آثماً إلا بإبدائه لكفاه عما سواه. * * * قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ) بعد ذكر التظاهر دليل واضح أن المولى هو الناصر، لا المالك، إذ لو كان مالكًا لما شاركه فيه جبريل، وصالح المؤمنين، فهو - الآن - رد على الرافضة فيما يحملون عليه قول النبي صلى الله عليه زسلم: "من كنت مولاه فعلي مولاه) ، أنها ولاية النصرة، لا ولاية التمليك، وهذا من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 حماقات الرافضة التي لا تشكل على عالم، ولا جاهل، فلم ابتاع إذًا - ليت شعري - الجواري والمماليك بالأثمان الغالية إن كان على زعمهم مالكهم، ومالك ساداتهم،!. بل لم أصدق حرائره إن كن بالملك جواريه،، أم لم فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبله الذي ورث الولاية عنه، واستحقا به؟!. إن هذا لأقبح مقال، وأجدره بطرق المحال، نعوذ بالله من الضلال. ويقال: إن صالح المؤمنين هو عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خاصة. ويقال: هو أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 وهو في القرآن موحد، وقد يجوز أن يكون اللفظ موحدًا والإشارة إلى أكثر منه، على سعة اللسان، كما ذكرناه في غير موضع من هذا الكتاب والله أعلم كيف هو. قوله (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ) إلي قوله (وَأَبْكَارًا) ، دليل على المرجئة فيما يزعمون أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، إذ لا يشك أحد أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن لا محالة مسلمات مؤمنات، ولم يكن كوافر، فهل تكن المفضلات عليهن بالإسلام والإيمان إن طلقن يكن خيرًا منهن إلا بزيادة في الإيمان والإسلام، وهو بين لمن أنصف من نفسه، ولم يكابر عقله. وفي إدخال الثيب مع البكر - في موضع المدح - دليل على أنها ممدوحة أيضاً، وإن كانت البكر أفضل منها بما بين على لسان النبي صلى الله عليه وسلم في قوله لجابر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 وغيره: " فهلاَّ تزوجت بكرًا، تعضها وتعضك، وتلاعبها وتلاعبك " الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 وفي قوله: (عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواهًا، وأنتق أرحامًا، وأرضى باليسير ". * * * قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 دليل على أن تعليم الأهلين، وتأديبهن فرض، وهو اسم جامع للزوجة، والولد، والإخوة، والأخوات، وغيرهم، إذ لا يقدر أحد يقي غيره النار - وهو لا يملكها - إلا بما يدله على ما يباعده منها من العمل الصالح، واجتناب الطالح، وكذا جاء في التفسير - أيضًا - أنه تعليمهن، وتأديبهن. وقد أفرد الأهل - في سورة طه - بالأمر بالصلاة والاصطبار عليها، وهو يؤكد ما قلناه، وقاله المفسرون قبلنا. ويؤيده حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع. وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل راع على أهل بيته، وهو مسئول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 عنهم ". وأخاف أن يكون الفرض أغلب عليه من الندب، إذا ظاهر لفظ القرآن أمر، والسؤال لا يكون في إهمال الندب، والله أعلم. * * * قوله: (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) - لا محالة - خصوص " إذ ليس بواقع على جميع الناس، ولا على كل الحجارة. ويقال: إنها حجارة خلقه الله من كبريت أحمر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 ولو لم يكن من الدليل على سعة اللسان إلا خروج النار - في اللفظ - مخرج النكرات وهي معرفة، لنعتها بوقود الناس والحجارة، اللذين لفظهما لفظ معرفة، وإن كان فيهما خصوص. والإشارة إلى نار بعينها قد جرى ذكرها في كثير من آي القرآن. والعرب تعرف المشار إليه في كلامها، وإن كان لفظه لفظ نَكِرٍ. قال الأعشى: قالت هريرة لما جئت زائرها ويلي عليك وويلي منك يا رجل فرفع "رجلا" وهي نكرة مفردة مناداة، لإشارة المرأة إليه. * * * قوله: (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) . قد دخل في ظاهر الكلام الصحابة - رضي الله عنهم - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 بلا شك، واستوجبوا ما وعدهم الله - جل جلاله - في الآية، فمن تنقص واحدًا منهم، أو أخرجه مما وعده الله، فقد رد على الله. وأرجو أن يكون سائر المؤمنين داخلين معهم في ذلك، لأن من آمن بعده فقد دخل في الاسم معه وإن لم يكن في الرؤية والفضيلة أسوة الصحابة. والباء في (وَبِأَيْمَانِهِمْ) هي - والله أعلم - في معنى عن، مثل قوله في الفرقان: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) ، أي عنه،، إن شاء الله. قال علقمة ابن عَبَدة: فإن تسألوني بالنساء فإنني بصير بأدواء النساء طبيب إذا شاب رأس المرء أو قل ماله فليس له من ودهن نصيب. أي عن النساء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 سورة الملك قوله - تبارك وتعالى -: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) ، دليل على أن ترقب الموت أكبر مواعظ الله - جل جلاله - وأجدر بالمعونة على العمل الصالح، إذ ترقبه مقصر للأمل. ومهوّن مضض المصائب، وتجرع مرارات الفقر إذا ترك، وتزهد في شهوات النفس إذا اتصل. * * * قوله: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) دليل على أن العرب تسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة، ألا ترى أن الله - جل وتعالى - سمى الكواكب ها هنا بمصابيح وفي الفرقان، (سِرَاجًا) في قوله - تبارك وتعالى -: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا) ، ويحتمل أن يكون السراج الشمس، وفي الصافات " شهابًا " في قوله: (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 فإن كان جعلها أسماء كلها خواص فهو ما قلناه، وإن كان سماها "شهابًا" و "مصابيح " بضوئها ونورها وشعاعها فهو أدل على سعة اللسان. والله أعلم كيف هو. * * * قوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا) ذكر (ذَلُولًا) - والله أعلم - على لفظ (اَلأرضَ) وإن كانت مؤنثة. * * * قوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) . حجة في السعي والحركة في طلب الرزق والتماسه بالمكاسب في الأسفار، والحضر، لاتفاق المسلمين - جميعًا - على أن القاعد ليس بفرض عليه أن يقوم فيمشي في مناكب الأرض، فلا يكون المشي في مناكبها، والأكل من رزقة - إن شاء الله - إلا على هذا المعنى. وقد يجوز أن يكون ذكّرهم نعمته عليهم بتذليل الأرض لهم. وتمهيدها ليمشوا في مناكبها، ويأكلوا من رزقه فيها، والله أعلم كيف هو. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 قوله: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) إلى قوله (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) . حجة على المعتزلة فيما يزعمون: أنه - جل بنفسه في السماء، وعلمه في الأرض. * * * قوله: (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا) . زوال كل لبسة وريب، يرتابون به - أنه كما قلناه - في السماء على العرش، وعلمه في الأرض محيط بها. وقد لخصناه في كتاب "الرد على الباهلي ". قوله (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) . " إِلَى " - في هذا الموضع جار مجرى الصلات، والطير جمع لا محالة لقوله (وَيَقْبِضنَ) وقوله (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ) حجة على المعتزلة فى باب الاستطاعة؛ إذ قد أخبر بإمساكهن عن نفسه، ولم يقل يستمسكن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 بالذي جعله في استطاعتهن من سلطان الطيران بالأجنحة والقبض والبسط بهن، كما جعل للناس سلطان الحركات، والأعمال بالجوارح التي في أدوات الأفعال، وهم لايستطيعونها إلا به سبحانه. * * * قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا) . دليل على إقامة المجاز مقام الحقائق - في اللفظ، لأن الإصباح في الروحانيين، وقد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 جعل للماء إصباحًا كما ترى، وفي جواز ذلك إنباء عن سعة اللسان. ورد على المتنطعين من المنتسبين إلى التنسك - بغير علم - العادّين ما ضاهى هذا النمط من كلام المخلوقين في عداد الكذب، وإلحاق الحرج بقائله. والغور - والله أعلم - مكانه غائر، خرج على سعة اللسان. والمعنى: أنة يبعد قعره، حتى لا تناله الدلاء، كذلك قال المفسرون، يذكّر نِعَمه في الماء المعين الذي تناله أيدي الناس. وأفواه مواشيهم وبهائمهم بلا مشقة، له الحمد والشكر، تبارك تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 سورة ن قوله - تعالى -: (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) "الباء " - والله أعلم - مقحمة على سعة اللسان. * * * قوله: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) دليل على أن من أكثر الأيمان هان على الرحمن، واتضعت مرتبته عند الناس. قوله: (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) دليل على أن في كلام العرب استعارة، ووضع الكلمهَ موضع غيرها، فالخرطوم للسباع أخبر به عن الناس كما ترى، وقد يخبرون بما للناس عن السباع، قال زهير: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 له لبد أظفاره لم تقلم فأخبر عن مخاليب الأسد بالأظفار التي هي للناس، وكل هذا دليل على سعة اللسان، فمن زاحم في لسانها قبل أن يعرف هذا من كلامها - وسائر ما ذكرناه من لطيف إشارتها - ركب خطة عظيمة. وأخاف أن يخوض النار خوضًا، وهو لا يعلم. * * * قوله: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ) إلى قوله: (كَالصَّرِيمِ) . دليل على أن الشيء يسمى باسم غيره، وإن لم يشبهه بجميع صفاته، ألا ترى أن الله - جل جلاله - قد جمع بين جنة الدنيا التي هي بستان وبين جنة الآخرة بالاسم، وهما لا يجتمعان في جميع صفاتهما. وهذا رد على المعتزلة فيما يزعمون: أن الله - جل جلاله - لا يجوز أن يوصف بشيء مما يقع اسمه موافقًا لاسم ما في المخلوق، وأغفلوا مثل هذا وأشباهه، وما هو أعظم من هذا وهو الجمع بين أسمائه - سبحانه - وأسماء خلقه مثل: "الملك " و"الجبار" و"العزيز" و"العظيم " و"الكريم " وما ضاهاها، فلم يوجب ذلك أن يساوي خلقه في جميع صفاته، ولا على خلقه أدط يساووه في جميع صفاتهم، وإذا كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 هذا غير ضيِّق في الاسم وجب ألاَّ يضيق فيما وقع عليه الاسم، لولا الجهل المفرط والعناد الشديد. وفي معاقبة تاركي الاستثناء - في هذه الآية - عظة شديدة، وتنبيه لمن يرسل كلامه ولا يقيده بالاستثناء، الذي هو سبب النجاح والظفر بالحاجة، ومخرج من المآثم، ومؤمّن درك العقوبة. وقد زجر الله نبيه، صلى الله عليه وسلم، وأدبه، وعلمه أن لا يقول لفعل شيء هو فاعله إلا مقرونًا بالاستثناء، وكذلك بسائر الأنبياء فعل - إن شاء الله - وعاقبهم على تركه. فقد روي أن سليمان بن داود - صلى الله عليه - قال: لأطوفنّ الليلة على مائة امرأة، تحمل كل واحدة منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله. ولم يستثن، فلم يحمل منهن إلا امرأة واحدة، حملت بشق غلام. فقال نبينا، صلى الله عليه وسلم: " لوكان استثنى، لكان كما قال ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 قوله: (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) نظير قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا) ، إذ ليس للجنة فعل في الإصباح، وإنما هو على سعة اللسان. * * * قوله: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) . دليل على أن الشيء المتقرب به إلى الله - جل الله - فرضًا كان، أوندبًا إذا فرط فيه تلوفي فنفع، إذ تسبيح القوم بعد وقته - الذي كان موضعه - نفعهم تداركه. ودليل على أن المذنب الظالم لنفسه محتاج - مع ربه - إلى الاعتراف بذنبه، وسوء صنيعه بلسانه، وإن كان نادمًا عليه بقلبه، وكذا كان نبينا - صلى الله عليه - يقول في دعاء الاستفتاح: "ظلمت نفسي. واعترفت بذنبى". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 فكان هذا الاعتراف من تمام التوبة، وتحقيق الاستكانة، والتواضع. ، وكان بعض أهل العلم يزعم: أن التسبيح يوضع موضع الاستثناء فيقع، ويحتج بهذه الآية، لأن القوم عيبوا بترك الاستثناء، فنبههم عليه أوسطهم، بلفظ "التسبيح " كما ترى فقالوا هم -: (قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا) ، ولم يقولوا: (إن شاء اللَّه) . وهو - لعمري - محتمل لما قال، غير أني لا أعرف أحدًا من الفقهاء ذكره، والله أعلم كيف هو. فإن احتج محتج بأن الاستثناء ينفع بعد قطع المستثنى فيه، والأخذ في غيره، فقد أغفل عندي، لأن تداركه في هذا الموضع مخرج - إن شاء الله - من المأثم، لا أنه يرد شيئًا أخرجه المتكلم بلسانه فيصير غير مقول إلا مع الاستثناء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384 وقد أخبرنا بالحجة في هذا الفصل، وأخبرنا عن خلله في سورة الكهف، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. * * * قوله: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) . حجة على المعتزلة والجهمية في باب "الجعل " الذي يعدونه خلقًا في جميع الأماكن، فإن أعدوه هاهنا خلقًا كان أبلغ حجة عليهم. إذ يعترفون - بألسنتهم - أنه لا يخلق المسلم كالمجرم، فمن خولف بينه وبين غيره في الخلق لم يستطع أن يكون مثله في العقل، لأن الخلق هاهنا واقع على ما وقع عليه الاسم، والاسم لم يقع على الصورة. إنما وقع على ما سُمي الشخصان به مسلمًا ومجرمًا. وإن أعدوه غير خلق - وهو القول في هذا الوضع - رجعوا عن إعدادهم إياه خلقًا في كل موضع. وفي قوله: (أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) ، دليل على أن لا تكون الحجة إلا مقروءة مسطرة، ولا تكون مخترعة متوهمة، إذ لا يكون المدروس إلا المسطور، لا المشبه بالمسطور، والله أعلم. * * * قوله: (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) حجة في تصحيح الكفالة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 وقد احتج بها الفقهاء قبلنا. * * * قوله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) . يتأوّله الجهمية والمعتزلة، وكثير من أهل اللغة على الشدة، والأمر العظيم. ونحن لا ندفع أن الساق - في اللغة - قد يقع على الشدة، غير أن ما وقع على الشدة، لا يحيل أن يقع على غيرها، وهو عندنا في هذا الموضع واقع على النور، كذلك روي عن رسول، الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال في قوله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) قال: " عن نور عظيم فيخرون له سجدًا ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 386 فهذا هو القول، ولا يكون هذا النور إلا نور الله - جل وعز - لأن السجود لا يصلح إلا له، ولا يدعى الخلق إلا إليه. وقد ذكرناه بأتم من هذا في كتاب " الرد على الباهلي ". وقد حقق ذلك قوله: (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 أنهم دعوا إلى السجود له - في دار الدنيا فامتنعوا، بما سبق في قضائه عليهم أنهم لا يفعلونه، فلم يستطيعوه في الدنيا، ولا في الآخرة. وهذا حجة ثابتة عليهم في باب " الاستطاعة "، ألا ترى أنه قد أخبر - نصًّا - عنهم أنهم لا يستطيعون السجود، لما يدعون إليه في الآخرة، واستطاعه غيرهم ممن سبقت لهم منه الرحمة، فاستطاعوه في الدنيا والآخرة. * * * قوله: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) . حجة عليهم خانقة، لأن الاستدراج - في اللغة - هو كالخديعة. كأنه يفعل بهم الشيء الذي يحسبونه خيرًا، وهو في الحقيقة ضده. فقد أخبر الله - جل جلاله، كما ترى - أنه سيستدرجهم من حيث لا يعلمون، ويملي لهم، وقد حقق ذلك بقوله: (كَيْدِي مَتِينٌ) ، فهل بقي بعد هذا ارتياب، لو أنصفوا من أنفسهم. وسلموا مقاليد معرفة هذا العدل إلى ربهم، وأقروا على أنفسهم بجهلهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 388 قوله: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) . دليل على أن مواعظ آخذ نيل الدنيا زائلة عن القلوب، غير نافعة للموعوظين، وقد بينا في سورة"عسق " فأغنى عن تلخيصه في هذا الموضع. (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ) . دليل على أن في أحكام الله على عباده محيرًا، تنبو عنه النفوس، ولا تهش لها العقول، فيحتاج النبي صلى الله عليه وسلم، في جلالته، ومعرفته، بالله - جل جلاله - أن يصبر عليها، ويحمل نفسه على تجرع مرارتها، ولا يستبطىء النصرعلى أعدائه، فتضيق نفسُه من ذلك. وفي إمهال الله - جل جلاله - الظالمين المفسدين في الأرض. المؤذين أنبياءه، وأولياءه، وهم مستوجبون للعقوبة في أول قدم منهم دليل على أنهم قد ضرب لهم في قضائه مدة ينتهون إليها، لا يتقدمون عنها، ولا يتأخرون، فهو يستدرج أعداءه بأذى أوليائه مدة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 389 لا يعجل الولي ذوق جزائه الحسنى، ولا العدو ذوق جزائه السيئ - مقدمين كانا في الدنيا، أومؤخرين في الآخرة - وكل هذا من العدل الذي لا يُعرف وجهه، وهو حجة على المعتزلة والقدرية. وفي قوله - هاهنا في صاحب الحوت - وهو يونس عليه السلام - : (لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) ، وإضافة كل ذلك إلى نفسه سبحانه، وقوله - في موضع آخر -: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) . أكبر الدليل أن لا يؤثر بعض ذلك في بعض، وإن لم يكن التسبيح الذي كان به من أهله ممدوح به إلا من إنعام الله -أيضاً - عليه، من غير مرية ولا شك، وما بقي بيننا وبين القوم إلا تبصر ما أثرناه عليهم على نسق الآيات، ولن يستطيعوه بأنفسهم حتى يوفقهم له خالقهم. وهذا - أيضا - حجة عليهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 390 سورة الحاقة قوله - تعالى -: (الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) . وارد - والله أعلم - على الاختصار، كأنه ينبه على عظم ما في الحاقة من الأهوال، والشدائد لا على نفس الاسم، ويعظه بما فيها يومئذ. * * * قوله: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) ولم يقل: (بالحاقة) كالدليل على ما قلناه، مما في الحاقة، من القوارع التي تقرع القلوب بالأهوال العظيمة، وهو أعلم. * * * قوله: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) . أنث فعلها مع ثمود في أول الكلام مقدمه، وذكّر فعلها مؤخره، كما ترى، فهو دليل على سعة اللسان، وذكر للريح - وهي مؤنثة - صفتين، ذكَّر إحداهما على اللفظ وهي "الصرصر" وأنث الأخرى وهي " العاتية " فأي شيء يلتمس بعد هذا، وكيف يضيق المبتدعون عن هذا اللسان، حتى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 391 يزعموا: أن الجعل ليس له إلا موضع واحد وهو الخلق، وأن الاسم إذا وقع على شيء وجب أن يشبهه من جميع جهاته، وإلا أنكروه بالكلية. وطلبوا له التأويلات المستنكرة. ولو تدبروا الأمور بروية مستقيمة، وعقل ناقد، واستعانوا بالله على معرفتها، وتبرأوا من الحول والقوة لأنعشهم الله، وبصَّرهم جلي ما دق على أفهامهم، ووفقهم، وكشف لهم عما لبسته عليهم بدعتهم. ودخولهم في الأشياء بأنفسهم، فخذلوا فيها. * * * قوله: (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) . دليل على أن القوم واقع على الرجال والنساء، وإنما يقع على الرجال دون النساء إذا أراده الموقع، لا أنه لا يقع على النساء - بتة - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 392 إذ لا يشك أحد أن عادًا لم تهلك بالريح العاتية رجالهم دون نسائهم. وتشبيههم صرعى بأعجاز النخل حجة في تشبيه الروحانيين بغيرهم. وأن هذا التشبية لا يجوز أن يكون حجة - في القياس، وقد بيناه في غير موضع. * * * قوله: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) . أي حملنا من أنتم من نسلهم، ومن كانوا آباءكم، لأن الجارية - وهي السفينة - لم يحُمل فيها محمد، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الموجودون عند نزول الآية، وقد حقق ذلك. * * * قوله: (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً) كما قال: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) ، فجعل بعضهم من بعض، الآباء من الأبناء، والأبناء من الآباء، وكل ذلك على سعة اللسان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) "الهاء" راجعة على التذكرة، وجعل للأذن وعْيًا، والمعروف أنه للقلب، وللأذن السمع، فإما أن يكون بمعنى شدة استماعها، وإما لأداء الأذن ما تسمع إلى القلب فيعيه القلب، فأخبر بالفعل عنها واعية، وإن كان نعتًا لها فهو فعلها، والله أعلم كيف هو. * * * قوله: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) رد على من يزعم من المعتزلة: أن العرش ملكه فكيف يكون ملكه محمولاً، أم كيف يكون الملائكة خارجين من الملك، فقد بان - بغير إشكال - أنه السرير. * * * قوله: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) . وارد على ما في سجايا البشر من أنه إذا انفرد الأمر له من حيث يراه الكافر والمؤمن لم يخف المستور، فأما عليه - جل جلاله - فلا يخفى اليوم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 394 ولا ذلك اليوم، وهذا كقوله: (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ، وقد بيناه في غير هذا الموضع. * * * قوله: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) . دليل على أنه لا يدعو إلى قراءة كتابه إلا وقد محيت منه سيئاته، وبقيت حسناته فقر بذلك عينه، فعرضه على من يقرؤه. وهو قرير العين، إذ محال أن يعرض عليهم قراءة سيئاته. وكتاب المغفورين لهم - بدليل الكتاب والسنة - على لونين: فمن كان منهم مات تائبًا كانت سيئاته محولة - له - حسنات، فهو يقرأ، ويعرض على القرأة ما أنجزه الله من تبديل السيئات له حسنات بقوله: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) . ومن مات منهم غير تائب - والغفران له سابق من ربه - محيت منه. والله أعلم لتستر عن أعين قرأته، وكذا معنى المغفرة في اللغة هو ستر الشيء، ومنه اشتُق المغفر، لأنه يستر الرأس ويقيه من وصول السلاح إليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 395 ورُوي في الخبر أنه إذا كان عند آخر قنطرة من قناطر جهنم الذي منه يضع قدمه في الجنة عرضت سيئاته مفردة عليه في كتاب لا يطلع عليها غيره، وفيها مكتوب "عبدي لم يمنعني من عرضها إلا حياء منك. فادخل الجنة برحمتي، فقد غفرتها لك "، فيدخل الجنة. * * * قوله: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) . دليل على أن الكافر يحاسب لقوله - في آخر الكلام -: (إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) . * * * قوله: (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) فيه - والله أعلم - إضمار الموتة، وكذلك قال المفسرون: يا ليتها موتة لا حياة بعدها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 396 قوله: (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) . حجة في إضافة الشيء إلى نعته، ألا ترى أن اليقين صفة للحق، لأنه في المعنى - والله أعلم - حق يقين، ومثله: (فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) ، الحصيد نعت للحب كما ترى، ومثله كثير. وفي هذا رد على من يُلحن المحدثين في روايتهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "في الجنين غُرةُ عبدٍ، أو أمةٍ"، مضافًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 397 وأن قولهم ينبغي أن يكون: " في الجنين غُرة عبدٌ، أو أمةٌ "مرفوعًا مبدلاً خطأ، لا وجه له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 398 سورة المعارج قوله - عز وجل -: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ) ، دليل على أن الله - جل جلاله - بنفسه في السماء، لأن " الهاء " في " إليه " راجعة على الله ذي المعارج، فلو كان معهم في الأرض - كما يزعمون ويفترون به عليه - ما كان لذكر العروج إليه معنى، فقد وضح - بلا إشكال - خطأ قولهم، لمن يلبسون عليه من الجهال، وإن كان غير مشكل على أكثرهم بحمد الله ونعمته. وفي قوله: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) هو - عندي - الزكاة المفروضة، على ما قال قتادة وغيره من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 399 المفسرين، لأنه لو كان مناولة السائل والمحروم لكان مجهولاً غير معلوم، فلا معلوم إلا الزكاة، التي بيّن - جل جلاله - حدها ووقتها على لسان نبيه، صلى الله عليه وسلم، في أنواع الأموال، إذ لا فرق بين ما بينه في كتابه، أو أظهره على لسان رسوله، صلى الله عليه وسلم. إذ قد أخبر عنه أنه لا ينطق عن الهوى، وإنما ينطق فبوحي ينطق. وليس حديث الشعبي، عن فاطمة بنت قيس: " إن في المال حقًّا سوى الزكاة " الجزء: 4 ¦ الصفحة: 400 وتلاوته هذه الآية من جهة النقل بشيء لإرسال الثقات إياه، وإنما يصله أبو حمزة من رواته، وأشباهه ممن لا تقوم بروايتهم حجة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 401 وحديث أبي هريرة " في الحمل على النجيبة، وذبح السمينة، واللبن يوم الورود " الجزء: 4 ¦ الصفحة: 402 أضعف من حديث أبي حمزة فحصل من الآية أن الحق المعلوم هي الزكاة المفروضة على ما بيناه. وإذا كانت الزكاة. وفيها أكبر الدليل على أن مال الأيتام لا زكاة فيها، ولا في أموال الأصاغر - غير الأيتام - الذين لم تجب عليهم الصلاة، ولم تجر عليهم الأقلام بالفرائض المحتومات، التي يستوجب لها تاركوها العقوبات، ألا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 403 تراه يقول سبحانه: (إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) . فأضاف الأموال إليهم، وجعل الحق المعلوم من مدحهم، فمن لا يديم إقامة الصلاة لم يكن في ماله حق معلوم وغير معلوم في حكم الآية. فإن قيل: أفلا تكون "الواو" في (والذين) قاطعة نعت المصلين، ومستأنفة ذكر غيرهم؟. قيل: لا يجوز ذلك، لأنا إن جعلنا الواو قاطعة لذكر المصلين ومستأنفة لغيرهم، لزمنا أن نوجب الزكاة على أموال الكفار، فنخرج من قول أهل الصلاة. والواو لا تكون للاستئناف في كل موضع، بل قد تكون ناسقة ببعض الصفات على بعض ألا ترى أنك لو قلت: قدمت على زيد مكرم الزوار، ومنزل الأضياف، وحامل الأثقال كانت الواو في " منزل" و "حامل " ناسقتين بتمام نعت زيد المكرم الزوار على ما تقدم من ذكره، ولم تكن مستأنفة بهذا النعت لغيره، قال الله - تبارك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 404 وتعالى -: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ) . كما يزعم هذا الزاعم أن لو كان (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) ليس من نعت المصلين لكان (إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون الذين في أموالهم حق معلوم) بلا واو، لأن الواو عنده مستأنفة في كل موضع، فهل يقول: إن قوله: (إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ) ، استأنفت الواو بإله غير إله إبراهيم، فكيف؟! ، أو ليس قد بان له - بغير إشكال - أن الواو نسقت بإله الآباء على إله إبراهيم، وهو إله واحد. وأن الواو في هذا الباب يكون كونها وحذفها غير مغير من معنى الصفات شيئًا، وكذلك نقول، والله أعلم كيف هو. * * * قوله: (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) . دليل على أن الزكاة تجعل فى صنف واحد وصنفين فتجزىء، وليس نُحتِّم أن، تجعل في الثمانية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 405 الأصناف كلها وقد لخصنا ذلك في سورة براءة، وسورة بني إسرائيل فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. * * * قوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) . خصوص - وهو أعلم - لأن المسميات بالتحريم في سورة النساء حرَّم فروجهن بالوطء المنسوب إلى الحلال، لا باسم النكاح، فلو جاز أن تشكل تحريم الأختين من ملك اليمين جاز أن تشكل العمة، والخالة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 406 والأخت من النسب، والرضاع منه، بل جاز أن تشكل الأمهات. والبنات ولا أعرف للاشتباه في هذا وجهًا، ولا الروايات فيها إلا معلولة، أو أوهامًا من الراوين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 407 وقد ذكرناه في سورة النساء بأشرح من هذا، فليس تحل ملك اليمين إلا ماعدا المسميات هناك - فقط - دونهن. و@ي قوله: (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) . دليل على تحريم الاستمناء، وأحسب الشافعي - رضي الله عنه أيضاً - قد ذكره في بعض كتبه. وفيما ذكر - جل وتعالى - من هذه الخصال كلها من عند قوله: (فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) . إلى آخر السورة دليل على أن المؤمن لا يسلك مسلكهم، ولا يؤخذ به طريقهم، ولا يرهقهم ذلك ولا هوان، إذ لو ساواهم المؤمنون - في هذه النعوت أو في بعضها - ما كانت عقوبة لهم، وذلك بشارة للمؤمنين كبيرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 408 سورة نوح قوله - تعالى، إخبارًا عن نوح عليه السلام -: (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) . حجة على المعتزلة والقدرية فيما يزعمون: أن المقتول ميت، بغير أجله، فالأجل المؤجل من الموت لا تقدم فيه، ولا تأخر. فإن قيل: فما معنى قول النبي، صلى الله عليه وسلم: " صلة الرحم تزيد في الأجل "؟. قيل: معناه تزيد في الأجل الذي أجل بغير صله الرحم، كأنّه قد سبق في القضاء أن يوهب لواصلي الأرحام عُمُرًا يكون زيادة في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 409 أعمارهم، كما سبق فيه أنه يهب آدم لداود - عليهما السلام - أربعين عامًا، من عمره، تكون زيادة في عمر داود، ونقصانًا من عمر آدم عليهما السلام. وهو مثل قوله، صلى الله عليه وسلم: " أرأيت ما نعمله من الأعمال، أهو في أمر قد فرغ منه، " قيل له: يا رسول الله، ففيم العمل؟! ، قال " اعملوا فكل ميسر لما خلق له ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 410 فكان القضاء بموهبة آدم لداود كان سابقًا فتيسَّر لما خلق له فزيد في عمره. وقد رُوي: " أن الزنا ينقص من العمر"، فهو على ما ذكرناه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 411 من تقدم القضاء به، وهذا معنى قول الله - عز وجل -: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ) ، فيزاد فيه فضيلة الرحم، وينقص منه بالزنا، كما أداه الخبر، وبما شاء الله من الأعمال، التي لم يؤدها الخبر، وكذا قال ابن عباس - رضي الله عنه - حين سُئل عن قول: النبي، صلى الله عليه وسلم: " الدعاء يرد القضاء " فقال: هو من القضاء أن يرد الدعاء القضاء ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 412 فكل هذه الأشياء منتظمة مؤتلفة، غير مختلفهّ، لا تشكل على أفهام العلماء بالله، وبأمره ومنهاه سبحانه. فإن قيل: فما معنى قول النبى، صلى الله عليه وسلم، حين أخبر عن ربه في قاتل النفس: " إن عبدي بادرني بنفسه، فحرمت عليه الجنة "، وقوله - عليه السلام للسائل حين ألقى إليه التمرة -: " خذها لو لم تأتها لأتتك ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 413 قيل: معناه أن الله - تبارك وتعالى - قضى أجل الموت، وقضى مبلغ الرزق، وحده، ومقداره، فيحرص قاتل النفس على ما يتزين له من قتلها، فيرى أنها لا تموت إن لم يقتلها، وينسى الأجل المقدور فيقحم على السبب الذي جعل لموته، ويقحم طالب الرزق على السبب الذي قضى له ويرى لشدة حرصه وجشعه أنه مدركه بسعيه. فأعلمه النبي، صلى الله عليه وسلم، أن ليس إتيانه الذي ساق إليه التمرة، ولكن ساقها إليه ما سبق له من تقدير ربه، وجعله إيّاها من وهكذا قاتل نفسه قدّر أن يبادر أجله، ولم يعلم أن فعله بنفسه ليس هو الذي أماتها، وإنما أماتها أجله. مكتوب عليه من فعله بنفسه. فحُرمت عليه الجنة، لتقديره الغلط، وظنه بما قام له من فرض الجزء: 4 ¦ الصفحة: 414 التزيين أنه يغلب ربه بتعجيل ما أخره، ومعرفة كيفية العدل في هذا مغيب عنا منفرد بعلمه ربنا. * * * قوله: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) . دليل على أن اسم القوم واقع على الرجال والنساء، وأنه لا يفرد به الرجال إلا بإرادته ذلك وإضماره، لا أنه اسم لا يقع إلا على الرجال فقط، لإحاطة أن نوحًا دعا الرجال والنساء إلى دينه، وقد لخصناه في غير هذا الموضع. (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) . ذكَّر المدرار - والله أعلم - لأن السماء في هذا الموضع اسم للمطر، لا للسقف المرفوع، وذلك سائر في كلام العرب قال الشاعر: إذا سقط السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 415 فهو بين أن السماء اسم للمطر، وأحسبه سمىِ به لأنه من السماء ينزل، أو لأنه عالٍ ينزل إلى سافل، والله أعلم. * * * قوله: (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ) . دليل على استنزال الرزق، وتكثير الأولاد بالعمل الصالح، لأن نوحا وعد قومه على الاستغفار إمدادًا بالأموال والبنين. وذكر أن رجلاً كان ميناثًا لا يلد له ذكور فلزم الاستغفار متأولاً لهذه الآية، محتسبًا ما وُعد أهل الاستغفار فيها، فأذكر بعد ذلك. * * * قوله: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا) . كان بعض أهل النظر يذهب إلى أن القمر نور في إحداهن، وهي سماء الدنيا، ليس في جميعهن، ويجعل ذلك حجة لقوله، حيث جعل الأيام المعدودات. أيام التشريق، فلم يلزمه أن يبيح النحر في جميعها، اعتمادًا على أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 416 الله جعل القمر نوراً في بعض السموات - وهو فى اللفظ فيهن - لا فيها. وليس هو عندي كذلك، إذ ممكن أن لكوّن القمر يضيء بوجهه الذي إلى السماء جميع أهل السموات لصفائهن، بقدرة الله - تبارك وتعالى - فيكون نورًا في جميعهن ليس في إحداهن) وليس في جعله الأيام المعدودات أيام التشريق ما يلزمه أن يبيح النحر فى جميعهن، لعدم جرى النحر وذكره في الأيام المعدودات، وإنما أمر الله - سبحانه - أن يذكّر فيها فإن كان النحر الذي هو في يوم العاشر من ذي الحجة يجوز عند قوم - بضرب من التأويل في هذه الأيام - فليس ذلك لأن الأيام سميت بالمعدودات حتى يلزمه أن يجيز، النحر في جميعها، ولكن أجازوه - والله أعلم - لأنها بقايا أيام مناسك الحج لرمي الجمار والبيتوتة بمنى. فلما كان النحر منسكًا من مناسك الحج ففات وقته أجيز في الأيام المنسوبة إليه، والمجعولة من تمام مناسكه. ويحيى - عندنا - فى ذلك سنة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 417 صحيحة الإسناد أنه أجاز الذبح في جميع أيام التشريق، فاستغنينا بها عن التأويل في إجازة ذلك. فإن قال: لم يرد هذا الناظر ما ذهبت إليه بل تتحجج عليه، إنما أراد إبطال قول من يُلزمه النحر ثلاثة أيام، في كل يوم نحرًا جديدًا كان ذلك أبعد من الصواب، لأن ابتداء النحر ليس هو في أول يوم من الأيام المعدودات حتى يلزمه أن يحدد النحر في كل يوم بالاسم، وإنما ابتداؤه في يوم الحج الأكبر، الذي ليس من الأيام المعدودات في شيء، والأيام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 418 المعدودات بعده قد فصل بينهما الليل بلا شك. فلا أعرف لذكره ذلك معنى في هذا الموضع، ولا أرى فيه فائدة - بتة - أكثر من أنه تأوّل على (فِيهنَّ نورًا) ما يمكن - وغير مستنكر - أن يكون ضد قوله، وخلاف تأويله، والله يغفر لنا ولقائله. * * * قوله: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) . أبلغ حجة في التوسع في الكلام، الذي يدل سياقه على معناه، وأرد شيء لقول المتنطعين من المتنسكين، لإحاطة العلم بأنه - سبحانه - لم ينبتنا من الأرض كهيئة النجم والشجر، وإنما أراد - وهو أعلم - أنا من نسل من خلقه من التراب المجعول طينًا، والتراب من الأرض، فكأنا نبتنا منه نباتًا. فأين تحذلق المتحذلقين، وتضيّق المضيقين على المتوسعين في ألفاظ الكلام، المقتصرين فيه على الإشارات إلى المعاني المفهومة بالألفاظ المختصرة؟! فإن قيل: أفلا يكون هذا ذريعة إلى إباحة القياس؟. قيل: إن كان القياس عند مستعمليه فهم الشيء نفسه، باختصار اللفظ في ذكره، فهذا - لعمري - ذريعة إليه، ومبيح القول به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 419 وإن كان القياس عند أهله حمل الشيء على نظيره، وسالك شبه المسكوت عنه مسلك المذكور باسمه فهذا بعيد منه، إذ لو كان هذا مثله وجب أن يكون جميع الروحانيين من الطير والهوام، وسائر الدبيب. والحشرات نابتًا من الأرض كما كان آدم وذريته نابتين منه، بمعنى أنهم مخلوقون منها. ولو فهم القوم عن دافعي القياس قولهم لعلموا أنهم لا ينكرون فهم خفي الخطاب بفصيح الكلام، وأن الذي يمتنعون منه إنما هو إنشاء العلل في الملفوظ، ليحملوا عليها غير الملفوظ. فأمّا العلة الدالة عليها لفظ النص وسياقه، فلا يتمانعوها، إذ هي ودليل الشيء على نفسه، وفهم ما يدق على غير أهل اللسان بالجليل عند أهل اللسان. وقد بينا في سورة آل عمران في فصل قوله: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ) ، وهو أكثر اشتباهًا من هذا الفصل. وفي فصول كثيرة على نسق السور ما لو فهموه لأغناهم عن كثير من توهمهم، وأنبأهم عما يشكل عليهم مما ليس بمشكل عند من شرح الله صدره، ولم يكابر عقله. وهم يضربون عن تبصره صفحًا اقتداء بمن لا يفهمون فهمه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 420 ولا يسلك في السبيل إلى إباحة القياس مسلكهم، ويجوز عليه من السهو - فيه - ما يجوز في المسائل الذي يوصلون ترك الاقتداء به دون وضوح الحجة لهم. والنبات مصدر خارج على غير قياس المصادر المشاكلة له، إذ لو كان خارجًا على شكله لكان - والله أعلم - "إنباتًا"، لا"نباتًا". ومن النحويين من قال: إنه خارج على ضمير " فعل " كأنه: والله أنبتكم من الأرض فنبتم نباتًا، وهو أعلم سبحانه كيف هو. * * * قوله: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) دليل على أن ما اختاره أبو عبيد - من إعمال الفعل المتلاصق بالاسم. وإن كان وجها حسنًا، فإعمال المتباعد عنه -أيضاً - حسن، وأن ليس واحد منهما مختارًا على صاحبه، إذ كلاهما وارد في القرآن. ولا يجوز أن يكون بعض القرآن أفصح من بعض، لأنه كله كلام الله - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 421 جل وتعالى - ألا تراه ردّ السلوك إلى الأرض، ولم يرده إلى البساط المتلاصق به. * * * قوله: (لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) . دليل على أن في كلام العرب تأكيدًا، كما ذكرناه في غير موضع من هذا الكتاب، إذ ليس يخلو الود والسواع ويغوث ويعوق والنسر من أن يكونوا تفسيرًا للآلهة المجملة، أو يكونوا غيرها. فإن كانو تفسيرًا لها فقد أكد الكلام بـ (وَلَا تَذَرُنَّ) الثاني. وإن كانوا غيرها فقد أكد الكلام بها نفسها. وإنما صرفها كلها، ولم يصرف يغوث، ويعوق، لأن هذين على لفظ الأفعال المستقبلة، والأسماء الأعجمية. قوله - إخبارًا عن دعاء نوح عليه السلام -: (وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) . حجة على المعتزلة والقدرية، من أجل أن نوحًا - عليه السلام - لا يجوز عليه أن يدعو بالباطل، ولا الله - تبارك وتعالى - يُسأل باطلاً، وقد سأله كما ترى أن يزيد الظالمين ضلالاً، فدل على أن الكفر فيهم، والزائد بدعائه معا من، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 422 عند ربه، ومعرفة كيفيته متفرد به - جل جلاله - بعلمه. * * * قوله: (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا) دليل على أن اسم الخطيئة واقع على الكفر، ومعناها أنها ضد الصواب، فمن خالف اللَّه - سبحانه وتعالى - في الإيمان الذي آمن به، أو واقع ما نهى عنه من كفر، أو معصية فهو مخطئ غير مصيب، وإنما تختلف عقوبة الفعلين فقط. فليس لتعلق المعتزلة في باب الوعيد باسم خطيئة ذكر في عقوبتها خلود وجه، لو أنصفوا من أنفسهم، وتدبروا الأمور بحقائقها، ولو ميزوا تناقض قولهم، وقلة النظر إلى ذلك، في باب العدل، لعلموا أن جمع الخلود على من عصى الله - جل جلاله - عمره، ومن عصاه يومه الذي مات فيه بغير توبة بعيد من العدل، الذي يدعون معرفته. فضلاً عمن كفر به عمره، فيجمع بينه وبين من آمن به دهره. ولئن كان هذا - عندهم - غير ثالم في العدل، وثلم في جمع القضاء والعقوبة على عبد، مع عظم ذاك، وخفة هذا، ألا يزول العجب ممن يتعجب من مكابرتهم، أو فرط جنونهم - أكبر - نعوذ بالله من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 423 الضلالة. * * * قوله: (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) . رد على المعتزلة والقدرية شديد لو تدبروه، وذلك أن نوحًا - مع نبوته - جمع في دعائه بين إضلالهم للعباد، وإيلادهم الفجار والكفار فلم ينكره عليه ربه، ثم أنزله على نبينا، صلى الله عليه وسلم، في كتابه، كما ترى مدحًا للداعي، وذمَّا للمدعو عليه، وأخبر - نصّا بغير تفسير، ولا تأويل - أن المولود يلد فاجرًا كافرًا، قبل أن يكتسبهما كبيرًا بسييء عمله. فإن قيل: لم يرد أنهم يلدون كذلك قبل الاكتساب، إنما أراد أنهم يبلغون فيكتسبون. قيل: ليس هذا في التلاوة، ولو كان فيها أيضاً لما نفعهم، لأن من أخبر الله - جل جلاله - عنه بأنه يكتسب الفجور والكفر بعد البلوغ. لا يقدر على اجتنابهما، وقد سوّى في الخطاب بينه وبين من لم يخبر ذلك عنه، وأمره أن يجتنبهما، كما أمر غيره باجتنابهما. فإن زعموا: أنه قادر على اجتنابهما إن شاء، أفليس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 424 إذا اجتنبها لم يكن فاجرًا ولا فاسقًا؟. فإن قال: نعم. ولابد من نعم، نسب ربه - جل جلاله - إلى الكذب في قوله، والجهل بما يكون من فعل عبده، وكان ما يلحقه من الكفر في مقالته أكثر مما أردناه من مناقضته، وكفينا مؤنة الاشتغال وإن قال: لا يقدر على اجتنابهما، بعد إخبار الله عنه بهما - قيل له: أوَ خاطبه - مع ذلك - باجتناجهما، أو لم يخاطبه، وترك سدى؟. فإن قال: لم يخاطبه. كابر في قوله، وخرج من قول، متبعيه ومخالفيه، وكافة البشر، ولن يقوله إن شاء الله. وإن قال: بل خاطبه كما خاطب غيره، رجع إلى ما أنكره واستخف ما استكبره، واستسهل ما استوعره، واستراح من محالاته، وعرف ضلال نفسه، وكافة أصحابه، ولن يجد من ذلك مخلصًا، وعلم أن نسبة الإضلال إلى من لا يقدر على حفظه نفسه غير مؤثر في قضائه، بشقوته وشقوة غيره، ولا ملحق بربه - سبحانه - جورًا تصوره هو من عدل لم يحط بمعرفته، ولا جاز أن يكون شريكه في كنه وصفه " ومثل هذا المولود الذي قتله الخضر - صلى الله عليه - وإخبار الكفر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 425 عنه بلفظه، قبل بلوغ حينه واكتسابه بعمله، وقد ذكرناه في موضعه. وقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " إن الله تبارك وتعالى خلق يحى بن زكريا - عليه السلام - في بطن أمه مؤمنًا، وخلق فرعون في بطن أمه كافرًا ". * * * قوله: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) ، بشارة لكل مؤمن ومؤمنة يكون إلى يوم القيامة، لأن نوحًا - عليه السلام - نبي، ودعاؤه مستقيم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 426 سورة الجن وقوله - جل جلاله -: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) . حجة لمن يدعو في الحجج، إليه، إذ كان هاديًا إلى الرشد على الحقيقة، فلا أعرف عذر من ينحرف فيها عنه، بعد مدح الله - جل جلاله - الإنس والجن بالدعاء، وذمه المنحرفين عنه، وقد لخصناه في كتابنا المؤلف في "شرح النصوص "فأغنى ذلك عن إعادته. * * * قوله: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) . دليل على أن العرب تسمي بالاسم الواحد المعاني الكثيرة، إذ الجد في هذا الموضع العظمة والجلال، وفي غيره البخت وأبو الأب. وفيه - أيضاً - رد على المعتزلة فيما يزعمون: أن الشيء إذا سمي به شيء لم يعد به إلى غيره، وقد لخصنا خطأه عليهم في غير موضع. ومثله قوله: (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 427 و"الأحد" اسم من أسماء الله تبارك وتعالى. وفيه - أيضا - حجة على تسمية المخلوقين بأسماء الخالق عز وجل. * * * قوله: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) دليل على سعه اللسان، لأن الحرس جمع، وجعل الشديد في نعته، على لفظ الواحد، ولم يقل: أشدادً فأما أن يكون - والله أعلم - على اللفظ، لأن لفظ الحرس لفظ الواحد، وإن كان جمعًا، وأما أن يكون رُدَّ على الحارس، أي كل حارس من الحرس شديد. وكذلك (شُهُبًا) دليل على السعة، لأن الشهب جمع شهاب. والشهاب النار، لقوله - إخبارًا عن موسى -: (إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ) . فأما أن يكون شبه لنا ضوء الكواكب وحرها بالنار، إذ جعله اسمًا لها وللنار معًا، وأيهما كان فالسعهّ فيه بينة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 428 قوله: (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) ، حجة على المعتزلة والقدرية، لإخبار الله - جل جلاله - عن الجن بإرادته الشر بمن في الأرض، كإرادته بهم الرشد، ولم ينكره من قولهم، ولا نسبهم إلى الكذب عليه فيه، بل أنزله في جملة القرآن العجب على رسوله صلى الله عليه وسلم. قوله: (إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) . هو - لامحالة - عصيان الكفر، لا عصيان الذنب، فمن شبه عليه من المعتزلة، وتعلق بظاهر لفظ العصيان نبهه عليه قوله: (حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) . لأن المسلم - عاصيًا كان أو غير عاص - لم ينسب قط رسول الله، صلى الله عليه وسلم إلى أنه لا ناصر له، ولا كثرة عدد تغلب بهم، وإنما كان ينسبه إلى ذلك الكفار، ويرون أنه مغلوب لقلة عدده، وأنصاره، وكانوا يعصونه. ولا يطيعونه، ويتربصون به ريب المنون، وكانت معصيتهم للرسول معصية لله - تبارك وتعالى - فأنزل الله هذه الآية فيهم، وأخبر أنهم إذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 429 أفضوا إلى الخلود في النار عرفوا أنهم كانوا هم الأقلين عددًا وأنصارًا. إلا الرسول، صلى الله عليه وسلم، وهو بين. * * * قوله: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) . رد على من يزعم من الشيعة أن الإمام يعلم الغيب وهذا من كبار حماقاتهم، وقد أخبر الله - جل جلاله - أنه لا يظهر عليه إلا من ارتضاه رسولاً، والإمام ليس برسول. مع أن دعوتهم لهذا الإمام - نفسه، أيضاً - حماقة، لأن إمامًا لم يسعد به من قد مات من منتظريه، لا يسعد به مدركوه، وليس بشيء إذ كل إمام أقامه الله - جل جلاله - في زمان من الأزمنة سعد به الجميع، لا بعضهم دون بعض، إلا من شق عصاه. والإمام المستور ليس بإمام، إنما الإمام الظاهر الآمر الناهي، قوي في أمره ونهيه أم ضَعُف. * * * قوله: (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 430 أشد ما يكون من الاختصار، إذ نصب " الرصد " لابد من اختصار ضمير يكون فيه، كأنه - والله أعلم - " فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه ملائكة يكونون رصدًا له " فينصب على ضمير خبر يكونون، أو يكون نصبه حالاً، كأنه ملائكة رصدًا له. وقد يجوز - والله أعلم - أن يكون المراد به أن الله جل جلاله يسلك من بين يديه ومن خلفه بالرصد من الملائكة، كما تقول: سلك الرجل الطريق، وسلك به غيره، فيكون نصب الرصد بانتزاع الخافض. (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ) . فعلمه بذلك - سبحانه - ليس بمحدث في وقت تبليغ رسالة الرسل، بل علمه قديم أزلي بالأشياء كلها، قبل كونها بتكوينه لها، وهو في هذا على سعه اللسان، أي يراهم مبلغين للرسالة، سامعين لربهم، مطيعين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 431 سورة المزمل قوله - تعالى -: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) دليل على أن من لم يؤمن بالقيامة فهو كافر. * * * وقوله: (يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا) يحتمل أن يجعلهم شيبًا بطوله. ويحتمل بأهواله وأفزاعه، وأنواع شره المستطير، التي تشيب النواصي، على المبالغة، والله أعلم - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 432 قوله: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) ذكر السماء - والله أعلم - على اللفظ و (به) قد يحتمل أن تكون الباء فيه بمعنى "في " كما قال: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) ، والله أعلم. * * * قوله: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ) يجوز أن تكون " الهاء " الجزء: 4 ¦ الصفحة: 433 راجعة على الموعظة، أو على السورة، وإن كانت كلها مواعظ. ويجوز أن تكون لتأنيث التذكرة نفسها، كما تقول: هذه جارية. والله أعلم. قوله: فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ) ليس بناقض لما ذكرناه فى سورة بعد سورة من تبع مشيئة العباد لمشيئة الله جل جلاله. * * * قوله: (إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) أي إلى طاعة يتقرب بها إلى ربه. فيأمن بها من أفزاع القيامة، وأهوالها، والله أعلم * * * قوله: (هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) دخلت (هُوَ) في الكلام، ولم تغير الإعراب، لأن ما تقدمه من الفعل أقوى منها، فعمل فى الإعراب دون هو، ومثله في القرآن موجود، مثل قوله: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) ، وأشباهه، مع أني أحسب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 434 أنهم قد استعملوها أيضاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 435 سورة المدثر * * * قوله: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) . بشارة للمؤمنين كبيرة، إذ لا يكون على الكافرين غير يسير، إلا وهو على المؤمنين يسير، والله أعلم. ولو كان عليهما - معًا - عسيرًا ما كان للمؤمنين عليهم فضل، ولا كان في الكلام فائدة. فمن يسره تقصير طوله - في أعينهم - واستظلالهم في ظل عرش ربهم يوم لا ظل إلاّ ظلُّه، إذ ليس يخلو مؤمن - إن شاء الله - من فيض عينيه إذا ذكر الله خاليًا، وربما كان ذلك في عمره ما لا يحصي عدده غير ربه، فهذا أعم ما في السبع الخصال التي ذكرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله - تبارك وتعالى - يظل أصحابها في ظله، يوم لا ظل إلا ظله. فيسعد بها - إن شاء الله - جميعهم، ويشارك كثير منهم في الستة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 436 المذكورة معه من وفقه له ربه. والسبع: " إمام عادل، وشاب نشأ بعبادة الله، ورجل ذكر اللَّه خاليًا ففاضت عيناه، ورجل كان قلبه معلقًا بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجل دعته امرأة ذات نسب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تصدق به يمينه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا ". * * * قوله: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) . من المواضع التي يحسن فيها حذف هاء المفعول، لأنه لم يقل: " خلقته ". * * * قوله: (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) . قد أزال كل لبسة عن أن القرآن كلام الله، غير مخلوق. واللفظ به غير مخلوق، لتواعده الوليد بن المغيرة فيما نسبه إلى قول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 437 البشر، وإذا لم يكن قول البشر، فلا يكون إلا قول الخالق، وإن تلاه البشر -أيضاً - فلا يكون قوله، بل يكون قول من بدأ به، وهو اللَّه جل جلاله. فلم يصر بتلاوة جبريل على رسول الله، صلى الله عليه وسلم. مخلوقًا، وجبريل مخلوق، ولا بتلاوة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على أصحابه مخلوقاً، ورسول الله، صلى الله عليه وسلم. مخلوق، ولا بتلاوة التالين إلى يوم القيامة، وإن كان التالون له مخلوقينْ. وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " إن أفواهكم طرق للقرآن، فطهروها بالسواك " والأفواه مخلوقة، وهي تؤديه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 438 فلا يصير مخلوقا. وقد قال: طرق للقرآن - كما ترى - ولم يقل: لحكاية القرآن. فالقرآن لا يكون لفظًا للعباد، ولا حكاية لهم عن غيرهم أبدًا لأنه ذلك الكلام بعينه الذي تكلم الله جل جلاله، كيف احتمل، وكيف أدي. ولا أدري كيف اشتبه هذا على اللفظية، والقائلين بالحكاية، ولو أنعموا الرويّة باتقاء وخشية، ونصحوا أنفسهم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 439 ولم يعتبوا عقولهم لعلموا: أن كل كلام ابتدأ به متكلم، ولفظ به لافظ، لا يقدر أحد غيره أن يتكلم به، ولا يلفظ به أبدًا، لأن الذي يحتمله من نطق غيره، ويؤديه إلى الأسماع هو كلام المبتدي به - لا محالة - لا كلامه، إذ محال أن يكون كلام واحد لمتكَلِّمَين، ولفظ واحد للافظين في حال واحدة، ولا في حالين -أيضاً - إن ظن ظان أنه يمكن في حالين، لأنه لا يكون إلا حالاً واحدة، إذ حال الكلام واحد بالسبق إليه. والحال الثانية: تكون للأداء والإخبار، وكلاهما غير كلام المبتدي . وكلام المبتدي واحد حين ابتدأ، وحين أخبر عنه وأدي. فإن كان هذا الإخبار والأداء عن كلام غير القرآن من كلام البشر. كان -أيضاً - كلام ذلك البشر، لأن كلام المخبر والمؤدي إخبار وأداء وإن كان الأداء والإخبار عن القرآن، الذي هو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 440 كلام الخالق فهو كلامه، وهو غير مخلوق، وإن كان يؤديه مخلوق، ويخبر به مخلوق، فتفهمه وإن دق عليك، فإنك تجده كذلك، إن شاء الله. * * * قوله: (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) حجة على المعتزلة والقدرية، في الإضلال والمشيئة - منه - فيه الذين لا يؤمنون بهما بتة، ويخالفون نص القرآن فيه، ويتابعون أهل الكفر فيه. فقد روي أن عمر بن الخطاب كان يخطب، وعنده جاثليق (1) يترجم له، فلما قال عمر: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، نفض الجاثليق جبته كهيئة المنكر لقول عمر. فقال عمر: ما يقول، فسكتوا عنه ثلاث مرات، كل ذلك ينفض جبته. فقال عمر: ما يقول، قالوا: يا أمير المؤمنين: يزعم أن الله لا يضل أحدًا. فقال عمر: كذبت يا عدو الله، بل الله خلقك، وهوأضلك، ثم يدخلك النار - إن شاء الله - أما والله لولا ولث (2) عقد لك لضربت   (1) الجاثليق: فسره ابن عباس أنه عظيم عظماء النصارى. انظر كتاب القدر لابن وهب ص (114) . (2) في المخطوط " ولت، والتصحيح من المصادر التي أوردت الأثر، مثل كتاب السنة (2/ 423) ، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/ 659) . والولث: بقية العهد - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 441 عنقك. إن الله - تبارك وتعالى - خلق أهل الجنة وما هم عاملون. وخلق أهل النار وما هم عاملون، فقال: هؤلاء لهذه، وهؤلاء لهذه. فتفرق الناس وهم لا يختلفون في القدر. * * * وقوله: (وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) . دليل على أن الإسفار هو يعقب طلوعه إذا وضح، وأن الإسفار بصلاة الصبح يكون حينئذ، لا تركه إلى امتحاق النجوم، مضاهاة النصرانية، كما روي عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 442 رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وأن قوله: " أسفروا بصلاة الصبح، فإنه أعظم للأجر ". هو هذا الإسفار، وهكذا قال أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - حين سُئل عن الإسفار ماهو، فقال: هو أن يصبح فلا يشك في طلوعه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 443 وهو كما قال، لأنه يبدو عند ابتداء طلوعه خفيًّا لا يتبينه كل أحد. فإذا وضح عرفه الجميع. * * * قوله: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) . وكل ما في القرآن من مثل هذه المشيئة، فهي على ما بينته في غير موضع، أن مشيئتهم تبع لمشيئة الله - جل وتعالى - لقوله سبحانه: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) . فمن زعم: أن مشيئته غالبة مشيئة الله فقد كفر بيقين، فصح أن مشيئة العباد تبع لمشيئة الله - عز وجل - إذ لا ثالث له * * * قوله: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) . يقال - في التفسير -: إنهم ولدان المسلمين فى هذا الموضع، لا يحاسبون، لأنهم لم يعملوا معصية ارتهنوا بها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 444 فإن قيل: فإذا كان هكذا، فما معنى قول النبي، صلى الله عليه وسلم، حين قالت له عائشة - في طفل أتي به ليصلي عليه -: عصفور من عصافير الجنة لم يعمل خطيئة. فقال: " أو غير ذلك يا عائشة، إن الله - تبارك وتعالى - خلق للجنة أهلا. بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم، مدمن عليهم، لايزاد فيهم ولا ينقص منهم إلى يوم القيامة". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 445 قيل: القرآن - والله أعلم - ذكرهم على الظاهر الأعم، والنبي. صلى الله عليه وسلم، أجاب عائشة على الباطن الأخص، حين أشارت إلى طفل بعينه، وشهدت له بالجنة، فأعلمها - عليه السلام - أن الإشارة إلى شخص بعينه لا تجوز، لأنه لا يدرى كيف كتب عند الله، وفي أي القبضتين خرج. وهذا كما يقال: المقتول في سبيل الله شهيد، فإذا قُتل شخص بعينه لم يجز أن يشهد عليه بالشهادة، كما قال عمر بن الخطاب - رضي اللَّه عنه - في حديث أبي العجفاء السلمي: والأخرى تقولونها في مغازيكم، قتل فلان شهيدًا، ولعله قد أوقر ركابه ذهبًا وفضة - يريد الغلول - فلا تقولوا: فلان شهيد، ولكن قولوا كما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " من قتل في سبيل الله، فهو شهيد". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 446 وكحديث مِدْعم مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين جاءه سهم غرب في بعض مغازي رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فقتله. فقال الناس: هنيئًا له الجنة. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: " كلا إن الشملة التي أخذها من الغنائم - لم تصبها المقاسم - لتشتعل عليه نارًا " فلما سمعوا ذلك جاء رجل بشراك. وشراكين إلى رسول الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 447 " شراك من نار، وشراكان من نار". فأخبر صلى الله عليه وسلم أن قتل مِدْعم، وإن كان ظاهره شهادة فباطنها غيرها، للغلول الذي تقدّمه، فلم يصر من أجلة في جملة الشهداء. والأخبار في هذا المعنى كثيرة. * * * قوله: (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) . دليل على توكيد حرمة المسكين، حين قرن تضييعه بترك الصلاة، وخوض الخائضين، وتكذيب بيوم الدين، وكما قال - تبارك وتعالى، في سورة الحاقة -: (إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) . وكقوله: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) . فقد أكده - سبحانه - هذا التأكيد، والناس في غفلة عنه، فقصارهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 448 تضييع حقوقهم، والتهاون بإطعامهم، ونسيانهم بالكلية، وربما. زبروهم (1) ، وطردوهم، وانتهروهم، فماذا عسى يكون وزن هؤلاء عند ربهم؟! ، وما يكون حالهم في معادهم؟!. * * * قوله: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) . دليل على أن هناك شفعاء يشفعون غير محمد، صلى الله عليه وسلم، فيشفعون، إذ لا يزيل منفعة الشفاعة عن قوم، إلا وهناك من ينتفع بها. * * * قوله: (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) . مثل قوله: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) ، نظير ما مضى من أشباهه، في أن مشيئة العبد تبع لمشيئة الله، وأن مشيئته - جل وتعالى - متقدمة على مشيئته، لولا ذلك ما استطاع العبد فعل شيء، ولا كانت مشيئة في شيء.   (1) الزبر: هو الزجر والمنع. انظر لسان العرب (6/ 11) ، ومختار الصحاح ص (203) ، مادة " زبر ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 449 سورة القيامة * * * قوله: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) . رد على من يقول بالدهر، وقدم العالم، ومن يقول: إن المعتاد من مجاري الليل والنهار والشمس والقمر لا يتغير، وقد أخبر الله - تعالى، نصاً، كما ترى - أن الشمس والقمر يجمع بينهما، وفي الجمع بينهما ذهاب المعتاد من مجاريهما، فإن كان مؤمنًا بالقرآن، فالقرآن قد نقض قوله، وإن لم يؤمن تلي عليه، فإن قبله ورجع عن قوله، وأقر بالقيامة، وقيام الساعة، وإلا استُتيب فإن تاب وإلا ضربت عنقه. ولا يقر على هذا القول، لأنه ليس من أهل الجزية، فتؤخذ منه ويخلى بينه وبين مذهبه، واعتقاده. * * * قوله: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) . من العلماء بالقرآن من قال: يريد بل للإنسان من نفسه عليها بصيرة. كأنه يذهب به إلى الاعتبار بما يراه منها، ومن أحوالها، كما قال: وَفِئ أَنفُسِكم أَفَلاَ تبصرون) ، يقول أهل، التفسير: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 450 إنه سبيل الغائط والبول، يجعلهما الإنسان عبرة يعتبر بها، فيعلم أنه مدبر مملوك، وأن مالكه الذي أدخل الطعام والشراب في جحر واحد، وأخرجهما من جحرين مختلفين، مميزًا بينهما، مبقيًا نفعهما، هو القادر على كل شيء، وهو الرب الذي يفعل ما يشاء. فيوطن نفسه على طاعته، ويجتنب مساخطه، فإنه في قبضته لا يقدر على الفرار منه. وقد يجوز أن يكون على ظاهره، فيكون بل الإنسان بنفسه بصير فتدخل فيه "الهاء" على التأكيد والمبالغة، كما قالوا: رجل علامة ونسابة، ويكون (عَلى) بمعنى"الباء" كما بدل العرب حروف الصفات بعضها من بعض، والله أعلم كيف هو. * * * قوله: (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) . أي ولو أسبل ستوره عند الجزء: 4 ¦ الصفحة: 451 خلوته بالمعاصي. وأهل اليمن يسمون الستور المعاذير، واحدها معذار. * * * قوله: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) . دليل إلى الإشارة إلى المعنى، وإن لم يجر لفظه في أول الكلام، لأن "الهاء" في (به) راجعة على القرآن، ولم يذكر قبلها، فاستغنى بما دل عليه آخر الكلام، إذ يقول: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) . وهو من المواضع التي يبين آخر اللفظ فيه عن أوله، وهو مع ذلك من أدل دليل على أن القرآن المسموع من لسان العباد كلام الله غير مخلوق، ولم يصر لفظًا ولا حكاية، وأنه القرآن المحض الذي تكلم الله به، وليس للعباد به لفظ أصلاً، إنما حملوه حملاً، وأدوه أداء، كما يحمله الكاتب بكتابته من غير أن يكون له فيه ممازجة لفظ، وهو بين لا ينبغي أن يدق على فهم من أقر بأنه كلام الله غير مخلوق، فيشك في اللفظ والحكاية. لأنه ليس للتالي، ولا للكاتب، ولا للحافظ، ولا للسامع صنع في اللفظ، ولا في الحكاية، ومن شك فيهما وقدر أن له لفظًا فيه إذا أدّاه، ويصير بأدائه حكاية فقد رجع عن قوله: إنه كلام الله غير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 452 مخلوق، واستوى مع من يقول بخلقه، وكفر كفرًا صراحًا لأن اللفظ لا يكون من لافظين في حال واحدة، ولا الكلام يكون حكاية ومحكيًّا من واحد في حال واحدة، إذ لابد من عدم أحدهما بوجود الآخر. فلما كان المتكلم لا يقدر على ابتداء كلام قد سبق إليه، فيكون هو - أيضًا - مبتدئًا به، كما كان الأول مبتدئًا به، فتلا القرآن الذي ابتدأ الله بالتكلم به كان الكلام لله وحده، وكان هو الموجود. وكلام التالي الذي يظن الظان أنه كلامه عدمًا بيقين، إذ لا يجوز أن يكون كلام الله عدمًا - وهو كلامه - بأداء مخلوق بالله، والآية ليست بكلام، وقد أيَّس الله الناس جميعًا أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فقال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 453 (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) . أفليس من يظن على أن يقدر على اللفظ بالقرآن فقد زعم أنه من أتى بمثله وحده من غير تظاهر، وكذب الله - جل جلاله - في قوله، واستحق القتل. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) . نص بلا تأويل أنها تنظر إلى ربها نظر العين - لا محالة - ومن قال: إنها منتظرة تنتظر الثواب فليس بخلاف، لما دل عليه القرآن إذ لا ثواب أجل من انتظاره رؤية الرب - سبحانه - لأنه غايه الطالبين، وأمتع تمتع المتمتعين، ولولا خذلان الجهمية ما أنكروا ذلك، ولو لم يكن فيه قرآن يتلى، ولا أخبار عن الرسول التي تروى برواية الصادقين الأعلام المشهورين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 454 وهو موضوع بشرحه في ردنا على الباهلي، والدوري وابن أبي يعقوب. * * * قوله: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) . الظن فيها بمعنى العلم، وهو كلمة من الأضداد، قد ذكرناها في غير هذا الموضع، وهكذا (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) . أي وعلم، والله أعلم. * * * قوله: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) . يؤيد أن ترك الصلاة كفر. إذ قرنه - جل جلاله - مع تكذيب الرسل، وترك تصديقهم. * * * قوله: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) . فيه خصوص، إذ آدم، وحواء، وعيسى - عليهم السلام - خارجون من الإمناء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 455 سورة هل أتى قوله - تعالى -: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) . يذهب ناس إلى أن (هَل) بمعنى"قد" أتى على الإنسان. وليس هو عندي كذلك، بل هو - والله أعلم - على ظاهره (هَل) إذ محال أن يأتي الحين على الشيء العدم، إنما يأتي الحين على الشيء الموجود، فكأنه قال - والله أعلم -: هل أتى على الإنسان منذ خلق فصار إنسانًا حين من الدهر لم يذكر في جملة المخلوقين، أو لم يذكر بخير، أو بشر، أو بتهديد، أو بتبشير، أو بتعديد النعم عليه، أو بتخويف مما وراءه من أهوال القيامة، والنار، وما أشبه ذلك ولا أدري كيف اضطر من جعله بمعنى "قد" فخرج عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 456 العرف، مع بيانه ووضوحه، وقلة تشابهه. * * * قوله: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) حجة على الجهمية شديدة خانقة، ألا تراه كيف أخبر عن تجعيله الأمشاج المبتلى سميعًا بصيرًا، ووصفه - به - بما وصف به نفسه من السمع والبصر، إذ يقول: (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) . فسوى بين الصفتين، ولم يخالف بين اللفظين فأخبر ذلك، لأن الله سميع بسمع وبصر غير مخلوقين، يعرف صفتهما من نفسه كهيئة ما هما له سبحانه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 457 ولا نقول نحن بكيفيتهما من غير أن نتجاهلهما، فنزيل عنهما الحقائق ونأخذ بهما طريق المجازات، فندخل في التعطيل، لأن من نفى عن الله جل جلاله - حقائق وصفه، أو حقائق فعله فقد عطله. ومن عطله، فقد كفر وحل دمه. وإن لم يثبت وأخذ بالسميع والبصير إلى معنى الإدراك خوفًا من التشبيه لم يسلم من التشبيه بل تعجل الخسران في ترك لفظين نازلين في كتابه، ورد اسمين له - سبحانه - إلى اسم واحد، وهو "المدرك ". وكيف يسلم من التشبيه؟! أليس للمخلوق - أيضاً - إدراك لأشياء. وإن لم يدرك جميعها، كما يدرك الله جميعها؟! ، كما له أن علمًا بأشياء، وإن لم يحس بجميعها، كما يعلم الله جميعها فهو يسمى عالمًا وعليمًا، ويسمى الله عالمًا وعليمًا، فلا يكون تشبيهًا كما يظنه الجهمي المخدوع، لأن علم المخلوق الذي سُمي به عالمًا وعليمًا مستفاد متعلم، وعلمه - سبحانه - أزلي صفة من صفاته غير متعلم ولا مستفاد، كذلك سمع المخلوق مصنوع فان، وبصره مثله يفنيهما الله إذا شاء، ثم يعيدهما إذا أحياه كما ابتدأهما بقدرته، وكذلك بصره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 458 وسمع الله وبصره كائنان أزليتان فيه بلا إحداث محدث، ولا صنع صانع، حقيقيا غير مجازين، معروفان عند نفسه، معروف حقيقتهما عنده، معروف عندنا حقيقتهما بغير معنى الإدراك، بل بمعنى السمع والبصر، مسكوت عن كيفيتهما، كهيئة ما هما عنده سبحانه. * * * قوله: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) . دليل على أن المؤمن وإن دخل النار بعصيانه وجرمه وأحرق في النار بقدر جنايته لم يغل، ولم يجعل في السلاسل حتى يعتقه الله برحمته، ويذر الكافرين في السلاسل، والأغلال، والسعير الذي يستعر عليهم، كلما نَضَّجَ له جلدًا استعر على الجلد الذي يبدل له، خالدًا مخلدًا. * * * وقوله: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) . دليل على أن "الباء" إذا دخلت مقحمة - في الكلمة على سعة اللسان - لم يغير من المعنى شيئًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 459 وفيه حجة لمن يقول: إن قوله: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) . لم يغير من مسح جميع الرأس شيئًا، كما قال في التيمم: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ) فلم يغير من مسح جميع الوجه شيئًا. وإن قول القائل: إن دخولها في مسح الرأس للتبعيض إغفال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 460 قوله: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) دليل على أن إطعام الأسير يؤجر المطعم عليه، وهو مرضي أخلاقه، وإن كان الأسير كافرًا لأن الله - تبارك وتعالى - قرنه بإطعام اليتيم والمسكين كما ترى، وجعله مدحًا لفاعله، فليس لأحد أن يتنطع فيقول: لا أطعمه. ولا أحسن إليه، لأنه معونة على كفره، لأن الله - تبارك وتعالى - قد أعد له في الآخرة عذابًا على خلوده في النار، إن مات على كفره، ما هو كاف من إجاعته في الدنيا، ألا ترى إلى الخليل إبراهيم - صلى اللَّه عليه - حين دعا للبلد الحرام فقال: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) . قال الرب - عز وجل -: (وَمَنْ كَفَرَ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 461 أي ومن كفر فأنا أرزقهم. * * * وقوله: (إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ) الآية. دليل على أن من خافه في الدنيا، وأخذ أهبته من طاعة ربه، أمَّنَه من أهواله، ووقاه أفزاعه، وكذا قال في سورة النمل: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) . ويقال: إن الحسنة - في هذا الموضع - لا إله إلا الله، والسيئة الشرك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 462 قوله: (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) ، إلى قوله: (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) قال بعض المفسرين: بما صبروا عن الدنيا جملة، فدخل فيه كل مصيبة شديدة ورزية، بفقد مال وموت حميم، وقريب، ونسيب وصديق، ومضض الفقر والأوجاع والأمراض، وخوف العدو، وجور السلطان، وأشباه ذلك، إذا جرع غصصه، وصبر على آلامه، وسلم فيها لحكم ربه، وعلم أنه منظور له بذلك، ومجعول كفارات لذنوبه. ورافع له في درجاته، ومسلوك به سبيل أنبيائه ورسله، وأوليائه. والصالحين من عباده، هان عليه - عندها - ما هو فيه، وأيقن بثواب ربه، ولم يكره بالازدياد منه. وقد قال رسول الله صلى، الله عليه وسلم: " ليودنَّ أهل العافية في الدنيا - يوم القيامة - أن جلودهم قرضت بالمقاريض، بما يرون من ثواب أهل البلاء". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 463 وقال: "إن الله - تبارك وتعالى - ليتعاهد وليه بالبلاء كما تتعاهد الوالدة ولدها بالخير". وسئل - عليه السلام - أي الناس أشد بلاء، قال: "الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه " أو قال: " على قدر دينه، فإن كان صلب الدين على حسب ذلك، وإن كان رخو الدين فعلى حسب ذلك، ولا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي في الأسواق وما عليه خطيئة". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 464 وقال: " إذا أحب الله قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط ". مع أشباه لهذا. وإذا كان كذلك استوجب - برحمته - ما وعده في هذه الآية، إلى * * * قوله: (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا) . يقال في (وَذُلِّلَتْ) : أدنيت حتى يتناولوها بالقطف قيامًا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 465 وقعودًا، ونيامًا، وعلى كل حال، تتطامن لهم الشجرة حتى يتناولوا ثمارها بلا تعب، ولا نصب، فإذا فرغوا من تناولها استعلت فعادت كما كانت، هذه سبيلهم أبد الأبد. وقد قيل في: (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا) : إنهم صبروا عن الشهوات. والشهوات - أيضا - من الدنيا في تركها مضض. وشدة على النفوس، فهو موافق لما قلناه. * * * قوله: (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) . يقال: قدروها على مقدار ريهم. وفيه دليل على أنهم عوضوا من تركهم إدارة المحّرم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 466 عليهم من خمر الدنيا في أقداح الزجاج، بأواني الفضة، التي هي في صفاء الفضة، وبياض المرجان من خمر الجنة، التي (لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) أي لا تنزف عقولهم بالسكر، ولا أموالهم التي كانوا يجعلونها - في الدنيا - أثمانًا للأعناب المعصورة، ومنقودة فيها نفسها، وشربه فيما أعان على شربها، ومجعوله في الملك، وأثمان المغنيات، وأجدادهن، وعطاياهن، وعطايا غيرهن ممن يجري مجراهن في ملاذ النفوس، وشهوات القلب. فصار الداخلون إلى الجنة في أمن من كل ذلك، يغرف الخمر من. أنهار الجنة الجارية فيها بلا ثمن، والاستمتاع بما يحبرون في رياضها. بلا حذر، ولا عطية، رغدًا كيف شاءوا، ومتى شاءوا، كما قال - تبارك وتعالى -: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 467 قال: السماع في الجنة. وقد قيل في قوله: (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) . إنه ضرب الأوتار تصوّت بالتسبيح والتقديس بنغم لم يسمع الخلائق بمثلها. وقيل في الشغل: إنه افتضاض العذارى. وهو عندي هذا وهذا، يلهون تارة بالسماع وأصوات الأوتار، وتارة بافتضاض العذارى، وكذا قال - في سورة أخرى: - (يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) . أي بكأس الخمر - والله أعلم - فلا يكون فيها لغو أهل الدنيا وأباطيلهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 468 وهَدْر القول الذي يؤثم قائله ومستمعه، والنظر إلى المدير، وتمني المعصية معه، فعرضوا في الإدارة عليهم في الجنة - لما تجنبوا في الدنيا مثله - بغلمان يديرونها، ويطوفون بها عليهم، من غير إثم يلحقهم بالنظر إليهم، لما نزع من صدورهم من الغل في تمني الباطل. واستغنائهم بالحور العين، وافتضاض الأبكار. * * * قوله: (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) . دليل على أن لذع الألسنة في الخمر مدح لها، ولذة لشاربها، ولذلك مدحها بمزاج الزنجبيل على ما في سجايا البشر، غير أنه حرمها بجميع صفاتها في الدنيا، فعوض - سبحانه - من تركها في الدنيا بما هو فيها لذة من اللذع، وأزال عنها السكر الذي هو فيها عيب. يقال: إنها تمزج لأصحاب اليمين، ويشربها المقربون صرفًا. ويقال: السلسبيل، هو الحديد الجرية. ولها مزاج آخر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 469 وهو الكافور، ولكنه - والله أعلم - ذكر الكافور لطيبه، لا لمرارته. إذ ليس في الجنة مرارة تكدر شيئًا من أطعمتها، وأشربتها. ذكر الله هذه الكأس في أول السورة للأبرار يشربونها هكذا ممزوجة لهم بالكافور، جزاء على وفائهم بالنذر، وخوفهم يومًا كان شره مستطيرًا. * * * قوله: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) . يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون وصفهم بصفاء الألوان. ورطوبة الأبدان، وذهاب الأدناس، كما يوصف اللؤلؤ الرطب المكنون عن الغبار وغيره، ليبقى صفاؤه، ولا يذهب ماؤه فيكون الولدان - في حسبان الناظر إليهم - أبدًا كذلك. والوجه الآخر: أن يكون وصفهم بالنفاسة، وغلاء الأثمان لو كانوا في الدنيا، كما يغلوا النفيس فيكثر ثمنه، ويعز أشباهه. * * * وقوله: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) . حجة على المعتزلة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 470 والقدرية، لنفي المشيئة عنهم قبل مشيئته، وكذلك: (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 471 سورة المرسلات قوله - عز وجل -: (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) . هو - والله أعلم - إهلاكهم بعقوبة الذنب، لا إهلاك الموت الذي يسوى كل فيه، والدليل عليه قوله: (كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) . فجعله خصوصًا لهم، لأن إهلاك الموت الذي ليس بعقوبة الذنب، يشترك فيه النبيون والمرسلون، والملائكة المقربون، والصالحون والطالحون، وهو قوله: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) . وهو - والله أعلم - تقريع للآخرين أن لايعملوا بأعمالهم، ولا يسيروا بسيرتهم، فيستوجبوا مثل إهلاكهم. * * * قوله: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) خطاب لمن كان في زمن الوحي إلى يوم القيامة، وإن كان من قبلهم -أيضاً - مخلوقًا من هذا الماء، إلا آدم، وحواء، وعيسى - عليهم السلام - فإنهم لم يخلقوا. وهو خصوص خارج عن العموم. * * * قوله: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) وتكراره، دليل على إجازة التأكيد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 472 في الكلام، ورد على من نفاه. * * * قوله: (انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) على لفظ الأمر، كأنه - والله أعلم - يقال لهم: ذلك يوم القيامة. وهو حجة في إجازة الضمير، واختصار الكلام، والتحري بفهم سامعه عن إظهاره. * * * قوله: (انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) يقال إن الكفار إذا اشتد عليهم لهب النيران ذكروا الظل الذي كانوا يستظلون به في الدنيا، فرفعت لهم أصنامهم التي كانوا يعبدونها، وجعل لها ظل في أعينهم، فقيل لهم: انطلقوا إلى ظل أصنامكم فاستظلوا بها، فإذا مروا إليه كان حر ذلك الظل أشد عليهم مما فروا منه، فلم يقهم من اللهب. والظل واللهب مذكران، فقوله: (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) . كأنه رجع إلى ذكر النار التي هي مؤنثة، أو إلى جهنم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 473 قوله: (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) يحتمل - والله أعلم - أن لا ينطقوا بالاعتذار، لأنه لا يؤذن لهم فيه، وإن نطقوا بغيره. وقد قيل: إنه مقام في اليوم، ووقت لا ينطقون فيه بشيء، ثم ينطقون في مقام آخر بالتسايل والخصومات. * * * قوله: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) . أي بالقرآن، والله أعلم. وهو - إن شاء الله - كقوله: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 474 سماه حديثًا، لأنه يتلى فيه الأنباء والقصص، والمواعظ، وغير ذلك، لا أنه أحدثه إحداث الخلق، كما يزعم الجهلة من الجهمية. ولا يعلمون أن من لم يكن له عهد بشيء، ثم عهده كان ذلك المعهود حديثًا عنده، لا أنه كان عدمًا فخلق. والعجب أنهم لا يقولون، ولا يؤمنون بشيء يخرج عن فطن العقول، ثم يزعمون أن القرآن كلام مخلوق، فكيف يأمر وينهى الكلام بكلام، إنما يأمر وينهى المتكلم بكلامه، افعل ولا تفعل. ولكن من شاء أن يجنن نفسه جننها، نعوذ بالله من العمى بعد البصيرة. والذي يزيل الريب عن الحديث أنه لا يكون بمعنى المخلوق والمصنوع في كل موضع. قوله عز وجل في سورة الجاثية -: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) ، فسمى نفسه وآياته - معًا - حديثًا. فهل بقي بعد هذا لهم مقال يتعلقون به، - ويلهم - لو تبصروا، ولم يجهلوا، أو يتجاهلوا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 475 سورة النبأ قوله عز وجل: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) رد على المعتزلة والقدرية، لأنه مجمع الأشياء فدخل فيه الخير والشر، والإيمان والكفر، وصارت متقدمة على الأفعال فخرجت الأفعال عليها، ولم يمكن المحيص عنها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 476 سورة النازعات * * * قوله: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) دليل على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، تكلم به تكلمًا، لأن النداء كلام مسموع لا محالة، والكلام للمتكلم والنداء منه، وصفة من صفاته، وهو بجميع صفاته غير مخلوق، ثم أخبر عن فرعون فقال: (فَحَشَرَ فَنَادَى) ، فكان نداء فرعون مخلوقًا، لأن المنادي مخلوق، وكل صفة تبع للموصوف فإن كان الموصوف مخلوقًا كان كلامه مخلوقاً، وإن كان الموصوف خالقًا كان كلامه غير مخلوق. وهو بين. قوله: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) فالآخرة هاهنا قوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) ، أو الأولى، قوله في سورة القصص: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 477 قوله: (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) دليل على أن الماء والكلأ، وحجارة الجبال وحطبه الناس فيه شركاء، ما لم يقع فيها الحيازات بالأملاك الظاهرة، التي تستفاد بوجوه الفوائد، فإذا وقعت الحيازات فكل من ملك أرضا، ملك كل ما تخرجه من عين وكلأ، إلا ماء الشفه ما لم تجعل في الظروف، والكلأ من المارة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 478 سورة عبس قوله عز وجل: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) بشارة للمؤمن كبيرة، لأنه لا محالة حاصل له هذا الإخبار، لأنه قال - على إثره -: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) فحصل هذا للكافر، وذلك للمؤمن إن شاء الله، إذ لم يذكر معهما ثالثة. و" القترة " ما يغشى الوجه من غبرة الموت. تغشيها، و" السفرة " النيرة المشرقة بياضًا وحسنًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 479 سورة التكوير * * * قوله: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) إذا قرئت هذه القراءة المعروفة (سُئِلَتْ) بضم السين بغير ألف كان فيها غموض، ومعناه - والله أعلم - أن قتلتها سئلوا بأي ذنب قتلوها. كما لو سألت هي. ومن قرأ " سألت " بفتح السين والألف كان معناها بينًا غير مشكل، وهي قراءة أبي صالح، وجابر بن زيد، وأبي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 480 الضحى، والضحاك بن مزاحم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 481 سورة الانفطار * * * قوله: (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) . عام المخرج خاص المعنى، لأن الكل لم يكذب بالدين، إنما كذب البعض، ثم رجع إلى العام فقال: (كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) . لأن الحافظين على الكل، فعلمهم على وجهين: فما كان من ظاهر قول، أو حركة جوارح علموه بظاهره، وكتبوه على جهته. وما كان من باطن ضمير، يقال: إنه يجدون لصاحبه ريحًا طيبة. ولطالحه ريحًا خبيثة، فكتبوه عملاً صالحًا وآخر سيئًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 482 سورة المطففين * * * قوله: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) أي من الناس، والله أعلم. والعرب تبدل حروف الجر بعضها من بعض، إذا أرادت ذلك. * * * قوله: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) روي عن سعيد بن جبير أنه قال: تحت خد إبليس. كأنه يريد أن ما أحصاه فباستفزازه ووساوسه وتزيينه اكتسبه فجعل تحت خده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 483 عن قربه منه. وقد يجوز أن يكون جعل تحت خده ليقرن معه في جهنم إذا دخلاه فإن كان على ما فسره سعيد لحضناه من قوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) ، تعظيم له، وتهويل، كما قال: @وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَومُ الدِّينِ) وشبهه في القرآن. وإن كان سعيد خولف في هذا التفسير، فظاهر الكلام يدل على أن الكتاب المرقوم هو تفسير للسجين على التشبيه، كأن ما رقم فيه، وأودعه من قبائح أفعال الفاجر في ضيق وإياس من أن يفلت فيه شيء. كالمسجون الذي قد ضيق عليه فلا يستطيع أن يفلت، والله أعلم بما أراد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 484 قوله: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) . أدل دليل على الرؤية لأنه لا يخص قوم بالاحتجاب عقوبة لهم إلا ويظهر لآخرين كرامة لهم، وهو بين وقد لخصناه في غير موضع من كتبنا في الرد على الباهلي، وابن أبي يعقوب، وابن حرمان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 485 قوله: (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) قد أنبأ أن المحجوبين عن الرؤية هم الكفار الذين كانوا يكذبون بالجحيم، والمؤمن عاصيًا كان أو مطيعًا لم يكذب به فدخل في حكم الآية فيمن يرى ربه سبحانه. * * * قوله: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) يحتمل في الخير ما احتمله كتاب الفجار في الشر من أنه إذا رفع صاحبه في الجنة - والجنة في السماء السابعة - فكأنَّ كتابه موضوع هناك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 486 وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) تعظيم له، وإعجاب للمخاطب به، والله أعلم. * * * قوله: (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) يريد الملائكة الذين يناهيهم بالمطيعين من عباده، والله أعلم. * * * قوله: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ) . دليل على أن المؤمن مندوب إلى الرغبة في ملاذّ النفوس، وشهواتها في الآخرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 487 والسعي في اكتسابها. وإن تنطع الصوفية كما يدعون من ترك الاشتغال بها، والاقتصار على العمل الصالح الرضي وحده، لا للرغبة في الجزاء عليه. من مباشرة ما وعده الله - تبارك وتعالى - وأعده لأهل الجنة مذموم من قولهم، وغير مرضي من فعلهم، لأن رضى الله - جل جلاله - وإن كان من أجلّ الجزاء وأعظم النعيم فليس بمانع من الرغبة في مباشرة ملاذ النفوس، والتمتع بما هو من حظها، وإنه لا يحطه من درجة طلاب الرضى. وإنما نهوا عنه في الدنيا وندبوا إلى الزهد فيها، لأن محظورها يفضي بهم إلى المحرم ويكسبهم النار، ومباحها يفضي بهم إلى الفتور والكسل والرغبة في الدنيا عن مباشرة تعب العبادة ونصبها، وتصعّب عليهم تجرع المرارات، وتطمئن إلى الراحات وإيثار الحلاوات عليها. فإذا دخلوا الجنة وانتقلوا عن دار المحن، ورفعت عنهم العبادة تلذذوا بمحابّ النفوس من الأكل، والشرب، وأنواع النعيم من معانقة الحور. ومن يزوجون من الآدميات المطيعات، ويرد إليهم من الزوجات اللواتي كن لهم في الدنيا، فلم يضرهم ذلك، ولا خشوا مقتًا من ربهم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 488 ولا حذروا فتورًا عن العبادة، لأنه جزاء لهم على ما أطاعوه في الدنيا. وآثروا طاعته على ملاذهم ومحابهم فيها، ألا تراه يقول - سبحانه -: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) . والقرآن مملوء به من قوله: (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) . وكيف يكون مذمومًا مع قوله: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) فلم أمرهم إذًا بالتنافس، ولم وصفه وملأ القرآن بذكره، ولذلك قال عبد الله بن مسعود: " ما رأيت أحدًا أشد على المتنطعين من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا رأيت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد خوفًا عليهم من أبي بكر - رضي الله عنه - وإني لأظن أن عمر كان أشد خوفًا عليهم، أو لهم " رضي الله عنه. وروى الأحنف بن قيس، عن عبد الله بن مسعود، أن رسول الله، صلى الله عله وسلم، قال: " ألا هلك المتنطعون " ثلاثًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 489 فالتنطع في أشياء هذا أحدها، وهو من كبارها. وقوله: وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) روي أنها تمزج لأصحاب اليمين، ويشربها المقربون صرفًا. * * * قوله: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) دليل على أن المجرم - في أكثر القرآن - الكافر، وقد حققه في قوله: (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) . وفيه عظة شديدة لمن يتضحك من المؤمنين، وممن يتخذونه ضحكة إذ هو شيء من أخلاق الكفار، فإذا تشبه بهم أهل الإيمان خيف عليهم أن يكونوا مثلهم لما روي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: " من تشبه بقوم فهو منهم ". وإنما يضحكون في الآخرة والله أعلم، لأنه جزاء لهم وعقوبة لما كان منهم إليهم في الدنيا فيصيبهم من مضضه ما كان يصيب المؤمنين في الدنيا، فصار كالاقتصاص. فعلى المضحوك أن يتقي الله، ولا يضع نفسه هذا الموضع، وعلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 490 الضاحك أن يجتنبه في الجد، والهزل لأنه من عظيم الذنب وفعل الظالمين، ومن قد نسي أمر معاده، وما هو مفض إليه. وروي أن بعض الصالحين مرّ بلعاب يلعب بالمدينة، وهو في لعبه. فقال له: أما علمت أن لله يومًا يخسر فيه المبطلون. فما رُئي بعد ذلك يلعب، وكذلك التغامز مثله، والتفكه مثله محرمان مؤثمان، لقوله: (وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 491 سورة الانشقاق قوله - عز وجل -: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) روي عن رسول الله - عز وجل - " أنه العرض ". وإن كان سمي بالحساب، وإنما يسره، لأنه لا مناقشة فيه، فأما من نوقش في الحساب عذب. وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) ، أي إلى أهله الذين أعدوا له في الجنة والله أعلم. * * * قوله: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) . أي أهله الذين كانوا في الدنيا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 492 يريد - والله أعلم - إنه كان مسرورا بحياته، لا يظن أنه يحور، أي يرجع إلى الآخرة فتهوله، وينقص سروره، فقال: (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) ، أي لا يرجع. وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يقول - في السفر -: " اللَّهم إني أعوذ بك مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَالْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْنِ ". وروي " بعد الكون " بالنون والراء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 493 فمن رواه بالنون: أراد أنه بعد أن كان على حال جميلة، صار إلى حال مكروهة أي رجع. ومن رواه بالراء أراد: من النقصان بعد الزيادة، كأنه ينتقص أمره من المحبوب إلى المكروه، كما ينتقص شد العمامة، إذا حل كورها. ووعثاء السفر مشقته، وما يصيب الإنسان فيه من النصب والتعب. وكآبة المنقلب ما يكتئب الإنسان منه، أي يغتم من مصيبة، أو فاجعة، إذ المسافر لا يأمن أن يقدم على مصيبته قد حدثت على أهله، أو ولده، أو ماله، وكذلك مخلفوه لا يأمنون من غم، أو مصيبة تلحق غائبهم، فتعوذ النبي، صلى الله عليه وسلم، من الحالين معًا. * * * قوله: (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) يؤيد قول عمران ابن الحصين - رحمه الله -: " إن القرآن سجود كله " أي متى قرأه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 494 أو قرئ عنده فأحب أن يسجد سجد، وإن لم تكن الأماكن المعروفة بالسجود، وهى خمسة عشر مكانًا: الأعراف، والرعد، والنحل. وبني إسرائيل، ومريم، والحج في مكانين، والفرقان، والنمل. وسجدة الأحزاب، وص، وسجدة المؤمن، والنجم، وإذا السماء انشقت، واقرأ باسم ربك. غير أنهم اختلفوا في الحج: فمنهم من سجد فيها سجدة، ومنهم من سجد سجدتين، ونحن نذهب إلى سجدتين. واختلفوا في سجدة ص: فمنهم من لم يسجد فيها وقال: هي توبة نبي. وقال الشافعي: هي سجدة شكر، كأنه يريد شكر داود - عليه السلام - حين عرفه الله - تبارك وتعالى - ذنبه حتى تاب منه، وبكى عليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 495 أيام حياته، وأنا أرى السجود فيها. فقد روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، غير حديث صحيح أنه سجد فيها. واختلفوا في السجود في المفصل: وهي سجدة النجم، وإذا السماء انشقت، واقرأ باسم ربك، ونحن نسجد فيها ثلاثتها. ومثل قوله: (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) . قوله: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 496 وقوله: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) . فإن أخذ الإنسان بقول عمران بن حصين وسجد عند تلاوته في كل موضع - غير الخمسة عشر - كان حسنًا، لأنها تذلل لله، وبراءة من الكبر، وخلاف على الكفار. * * * قوله: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) حجة في أن البشارة تكون في الخير والشر، كقلى له: ميو بَشِّرِ اَلْمُتَفِقِينَ لمحاَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) . وقال في المؤمنين (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) . وأشباهه في القرآن. * * * قوله: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) . دليل على أن الاستثناء قد يجوز من غير جنسه، لأن المؤمن غير الكافر، وقد استثني منه كما ترى، ومن قال: إن (إلا) قد تكون بمعنى (لكن) فقد ترك اللفظ وأتى بغيره، وإن كان قد قيل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 497 سورة البروج قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) فتنوا أي: قتلوهم بالنار. روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: هم أناس من مذارع أهل اليمن اقتتل مؤمنوها وكافروها فظهر مؤمنوها على كافريها ثم اقتتلوا الثانية، ثم أخذ بعضهم على بعض المواثيق والعهود ألا يغدر بعضهم ببعض، فغدر بهم الكفار فأخذوهم أخذًا، ثم إن رجلا من المؤمنين قال لهم: هل لكم أن توقدوا نارًا تعرضونا عليها فمن بايعكم على دينكم فذاك الذي تشتهون، ومن لا استقدم النار فاسترحتم منه، فأججوا نارًا، وعرضوا عليها، فجعلوا يقتحمونها ضنًّا بدينهم، حتى بقيت منهم عجوز، فكأنها تلكأت، فقال لها طفل في حجرها: يا أمه امضي ولا تنافقي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 498 وفي قوله: (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) دليل - في ظاهره - على أن التوبة من قتل المؤمنين مقبولة. وأجمع المسلمون أنها من الكافر مقبولة في جملة توبته من الكفر، لأن الإسلام يجب ما كان قبله. واختلفوا فيها من المؤمن يقتل المؤمن عمدًا، وقد شرحته في سورة بني إسرائيل. * * * قوله: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) هو جواب القسم. واختلف المفسرون في القسم، فروي عن يحي بن رافع أن " السماء ذات البروج " قصور في السماء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 499 وقال قتادة: بروجها نجومها، وهكذا قال الضحاك بن مزاحم مثله. واختلف -أيضاً - في (وَشَاهِدٍ وَمَشهُودٍ) ، فروى أبو الضحى. عن أابن الزبير قال: " الشاهد " يوم الجمعة، و" المشهود " يوم عرفة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 500 قال أبو الضحى: فلقيت الحسن، أو الحسين فذكرت ذلك، فقال: ليس كما قال، الشاهد محمد، صلى الله عليه وسلم، والمشهود يوم القيامة، وقرأ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) . وفي رواية أخرى عن أبي الضحى قال: فذكرته لمحمد بن علي. وروي عن ابن عباس مثل قول ابن الزبير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 501 وروي عن شمر بن عطية قال: " الشاهد " يوم عرفة، و"المشهود" يوم القيامة. وروي عن مجاهد، قال: " الشاهد " ابن آدم، و" المشهود " يوم القيامة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 502 قوله: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) وجه القراءات فيه الخفض على أن يكون من نعت اللفظ، ليصير اللوح هو المحفوظ. وأما قراءة نافع، وابن محيصن (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٌ) ، برفع " الظاء " على أن يكون نعتًا للقرآن، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 503 فلا وجه له إلا أن يجعل المحفوظ في معنى المكتوب أي هو قرآن مجيد مكتوب في لوح، لأن اللوح مخلوق تقع عليه حفظ الحراسة. والقرآن لا يقع عليه حفظ الحراسة، إنما يقع عليه الإيعاء والكتابة. وذلك أنه كلام الله غير مخلوق، صفة من صفات ذاته، ومحال أن يحفظ نفسه، أو يحفظ صفته، أو يحفظه غيره، لأن هذا كفر، وإنما يوقع الحفظ على القرآن من يجعله مخلوقًا، ومن جعله مخلوقًا فقد كفر. وهذا شيء يغرب على أهل هذا الزمان، ويدق على أفهامهم، وهو عند النحارير جلي واضح، وكذلك قوله - سبحانه، في سورة الحجر -: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) ، فالذكر هو القرآن، و " الهاء " في (لَهُ) ليست براجعة على الذكر، إنما هي راجعة على محمد - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 504 ومن لم يقرأ أوائل الآيات ويتدبرها، ويتعلق بأواخرها لم يهد رشده، ولم يهذب فهمه، ألا ترى إلى إخبار الله - سبحانه وتعالى، فى أول ابتداء الذكر - عن الكفار حيث قالوا لمحمد، صلى اللَّه عليه وسلم: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) أي أنت مجنون في ادعائك أن الذكر تنزل عليك من السماء أمره. (لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ، أي هلاّ تأتينا بالملائكة فتشهد لك إنك صادق فيما تدعيه، فقال الله: (مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) ، أي لو رأيتم الملائكة الذي تنزل على، محمد، صلى الله عليه وسلم، عيانًا وسمعتم شهادتهم له ما أمهلتم ولا أنظرتم، ولعوجلتم بالعقوبة قبل القيامة. هذا أو معناه، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 505 ثم شهد هو - جل جلاله - لمحمد، صلى الله عليه وسلم، فقال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) ، أي نحفظ محمدًا من مكروهكم، وغائلتكم وتكذيبكم فلا تصلون إلى قتله، ولا هضمه. إلا ما تقولونه بألسنتكم، وهو بين. ولو سمي محمد، صلى الله عليه وسلم، ذكرًا، لأن الذكر عليه ينزل لاتسع ذلك في لسان العرب، وما ضاق، قال الله - عز وجل - في آخر سورة الطلاق: (قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ) ، فسمى الرسول - كما ترى بالذكر نصا. ومن رد " الهاء " في " الحفظ " من متقدم أو متأخر على " الذكر " فقد هفا، وقاله على السلامة، ولم يدر ما تحته مما أثرناه عليه، من هذا الواضح البين، والله يعفو عنه إن شاء الله. ومن لج من أهل زماننا فيه - جاهلاً أو متجاهلاً - فقد أنبت للجهمية جناحًا وباء بسخط من الله، وصار معهم بالسوية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 506 وقوله - في سورة المائدة -: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ) ، فإنما هو بما ألزموا أن يعوه، ولا ينسوه، ليدروا كيف يحكمون بين الناس. فإن قيل: أليس قد قلت - في سورة الطلاق -: إن في الرسول ضميرًا كأنه قال: " وأرسل رسولاً، ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 507 قيل: ذلك احتمال، وما قلناه - ها هنا - ظاهره أن يكون الرسول تفسيراً للذكر، والظاهر أولى من الاحتمال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 508 سورة الطارق قوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) عظة للإنسان، وتنبيه له على معرفة خلقه، وضعف تركيبه وعلى ما يزيل به دواعي الكبر والنخوة عن نفسه، فلا ينازع فيها خالقه الذي لا يشاركه في الكبرياء والعظمة، ولا يستطيل به على المخلوقين، إذ من يكون هذا بدء خلقه، ثم يصير آخره إلى البلى والرفات، إلى أن يجدد اللَّه خلقه بالنشور يوم يحيي العظام النخرة، والأجسام البالية جدير بأن لا يفارقه الذل والاستكانة في جميع الأحوال، ولا يتعرض بسخط من هو قادر على رده في صلب أبيه قبل الآخرة، ثم الجنة والنار، وأنواع الأهوال من ورائه. * * * قوله: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) . رد على الجهمية في نفي الصفات بالكلية، وقد أخبر الله - سبحانه - عن نفسه بأنه يكيد بلفظ " الكيد " الذي أخبر به عن الكائدين، وهم ينكرونه، يردون نص القرآن، نعوذ باللَّه من صفاقه الوجه، وقلة الدين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 509 سورة الأعلى قوله - عز وجل -: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) . فيه - والله أعلم - ضمير " الباء "، ثم نزعت عنه - في اللفظ - فانتصب الاسم، كما قال - في موضع آخر - (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) ، فخفض الاسم مع إظهارها، فلا يكون لمن يجعل الاسم والمسمى واحدًا متعلق. * * * قوله: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) دليل على نفي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 510 الاستطاعة وإعلام أن من لا يقدر على أن يكون خلقًا بنفسه، لا يقدر أن يهتدي بنفسه حتى يُهدى، كما لا يقدر أن يكون خلقًا حتى يخُلق. * * * قوله: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) . الاستثناء - ها هنا - بمشيئة الله، دليل على أن قوله: (وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيطَانُ) ، داخل إنساؤه تحت إنساء الله، لأنه لا يقدر على إنسائيه وحده، ولا يكون شريكًا معه، وإن إضافة المشيئة إليه - في ذلك الموضع - على مجاز اللغة، لا على حقيقة القدرة. * * * قوله: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) أي لا تنفع الكافر، كما تنفع المؤمن، والله أعلم. وفي قوله: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) . ألا تراه يقول - سبحانه -: (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 511 قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) منهم من قال: يكون عمله زاكيًا. وروي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " أنها صدقة الفطر "، لقوله (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) ، كأنه يخرج صدقة الفطر، ثم يخرج إلى الفطر فيصليها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 512 سورة الغاشية قوله - تعالى -: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) ، إلى قوله: (لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) . دليل على اختصار الكلام، والإشارة إلى المعنى، لأن الغاشية - والله أعلم - هي القيامة، فلم يذكر يومها، واختصر على فعلها، ثم قال: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) . فذكر الوجوه وحدها، وهي لا تكون منفردة عن الأجسام بهذه الأوصاف إلا بمشاركتها، ثم قال: (تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) ، وهي لا تصليه وحدها، ثم قال: تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) ، وإنما تسقى البطون، فأخبر بكل ذلك عن الوجوه. لأنها غرة الأبدان، وأرفع شيء في الأجساد، والله أعلم. وكذلك الوجوه الأخر التي وصفها بالناعمة، وهي تنعم مع أبدانها، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 513 ولا تنفرد بسعيها، وتكون مع الأبدان في الجنة العالية، و (لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) ، إلى آذانها فنسب كل ذلك إليها اختصارًا، وفصاحة وإشارة إلى المعاني المفهومه عند العرب، الذين نزل القرآن بلغتهم. * * * وقوله: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) يقال: هو الشبرق (1) المحمى. ويقال: نبت لا ينجع ولا ينمي في البدن، وإذا أكلته الإبل ردته من فورها بالسلح، فلم يسمنها، ولا ذهب بجوعها. وقد قيل: إنه - تبارك وتعالى - ضربه مثلاً، لا أنه يكون الضريع بعينه.   (1) قال الزجاج: الشبرق جنس من الشوك، إذا كان رطبًا فهو شبرق، فإذا يبس فهو الضريع. معاني القرآن وإعرابه (5/ 317) . وقوله: فإذا يبس فهو الضريع هذا تسمية أهل الحجاز، اللسان، " شبرق ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 514 وهذا لا أحبه، لأنه يدعو إلى مضارعة من ينكر النبات في النار، ويرده إلى فطرة العقل، ويقول: كيف يجتمع النبت والنار في مكان واحد؟. وهذا جهل وإنكار قدرة الرب، الذي جعل النار على خليله إبراهيم - صلى الله عليه - بردًا وسلامًا، وحولها عليه روضة خضراء، وكما قال في سورة والصافات: (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) . يقال: إن الشياطين ها هنا الحيات. ورؤوسها مجتمع سمومها فمن ينكر قدرة الباري - في مثل هذه الأشياء التي تنبو عنها العقول - فليس بمؤمن، ولا له في الإسلام حظ، نعوذ ب الله من مثل هذه المقاتلة. ونسأله التمسك بتوحيده، والإيمان بكل هذه الأشياء من قدرته، جل وتعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 515 سورة الفجر * * * قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) . إلى قوله: (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) ، تنبيه وتقريع لمن بعدهم أن لا يعملوا بمثل عملهم فينزل، بهم ما أنزل بأولئك، مع بأسهم. وشدتهم، وعددهم، وأموالهم التي أنفقوها في ذات العماد، وما فعلته ثمود جوب الصخر بالواد، وفرعون ذي الأوتاد فاعل أفاعيله الهائلة المنكرة، كيف أفناهم، وأبادهم، ومحا آثارهم، وجعلهم عبرة للمعتبرين، وعظة للمتعظين. وفي قوله: في إرم: (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) ، رد على المعتزلة في الخلق، لأنا نعلم أن الله سبحانه لم يخلقها - معمولة كهيئتها - وإنما عملها عبادة. فإن رُد الخلق من عملهم إلى الله دل على خلق الأفعال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 516 وإن رد إليهم فقد أخبر عنهم باللفظ الذي يخبر عن الله في الخلق. وأيهما كان فهو حجة عليهم، ولا ثالث له. * * * قوله: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) حجة عليهم أيضاً في ذكر المرصاد، لأنه مكان. وجاء في التفسيبر: أنه يضع كرسيه على جسر جهنم، فيقول: " وعزتي وجلالي لا تجوزي اليوم بظلم ظالم، ولو ضربة بيده ". * * * وقوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا) حجة عليهم شديدة بذكر الجية، وهو نظير قوله - في سورة البقرة -: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 517 (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ) ، وهي حجة خانقة لهم، شديدة عليهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 518 سورة البلد * * * قوله: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) حجة في الإفراط في وصف الأشياء، لأن العقبة كناية عن العمل الذي يشق على النفوس. فسماه - سبحانه - بالعقبة، ثم فسره بفك الرقبة، والإطعام في المجاعة، فقال: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) . وهو نظير قوله: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) ، وما أشبه ذلك. * * * قوله: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) . دليل على أن التواصي بالخير من محمود الأخلاق، ومرضي الأفعال. ومكتسب الفوز بالجنة، والنجاة من النار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 519 سورة الشمس * * * قوله تعالى: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) حجة على المعتزلة والقدرية شديدة إذ قد أخبر - نصا - أنه ألهم النفس فجورها، كما ألهمها تقواها. روى عمران بن حصين أن رجلاً من جهينة، أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: أرأيت ما يعمل الناس فيه، ويكدحون. أشيء قد قُضي عليهم، ومضى من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون مما جاءهم واتخذت عليهم فيه الحجة، قال: " لا، بل شيء قد قضي عليهم " قال: ففيم يعمل العاملون،. قال: " من خلق لواحد المنزلين أتاه بعمله، وتصديق ذلك في كتاب الله - تبارك وتعالى - (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) . فأجاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمثل ما في كتاب اللَّه سواء. فأي شيء بقي لهم، لولا بلاؤهم، وشقاؤهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 520 ولو لم يكن عليهم من الحجة إلا أنفسهم لكفاهم. حيث يسمعون هذه الأشياء الواضحة المسكتة، فلا يقررون قوله، ولا يستطيون فهمه، لأن أفهامهم عنها مقيدة بما سبق من القضاء عليهم بالشقاء، فلا يستطيعون أن يسعدوا. ومن فسر (ألهمها) على ألزمها فليس بمخالف لهذا، لأن الإلهام إذا كان منه، فالإلزام غل في أعناقهم، لا يستطيعون حله، فكان الأمر في ذلك واحدًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 521 سورة الليل قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) حجة على المعتزلة والقدرية في تيسير اليسرى والعسرى، وكذا روى علي بن أبي طالب عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " ما منكم من أحد إِلا وقد كتب مقعده من الجنة أو النار " فقيل له: أفلا نتكل،، فقال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له "، ثم قرأ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هاتين الآيتين. واختلفوا في تفسير (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) ، (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) . فمنهم من قال: بلا إله إلا الله ومنهم من قال: بالخلف في العطية الأول، وبخل الثاني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 522 قوله: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) ، حجة عليهم في نفي الاستطاعة. * * * وقوله: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) دليل على أْن لا يجزئ دفع الزكاة إلى الأبوين الصحيحين كانا أو زمنين، ولا إلى أحد يقدم منه إلى المعطي إحسان، لأنه يصير مكافأة ومجازاة، وإنما هي لمن لا يكافي ولا يجازي، ولا يدفع بها ذمًّا، بل تكون لله عز وجل خالصًا لوجهه فقط، فإنما المكافأة تكون في إخراج الأموال في التطوع، لا في الفرض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 523 سورة الضحى * * * قوله: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) دليل على توكيد حرمتهما، وإيجاب حقهما، وترك الاستهانة بهما، وكذا قال - في سورة الحاقة، في صفة من أوتي كتابه بشماله -: (إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) . فقرنه مع الكفر إذا لم يحض عليه، وذلك معه. وأرى الناس قد أهملوا أمرهما، وضيعوه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 524 سورة الشرح * * * قوله: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) يعدد عليه آلاءه ونعماءه. بشرح صدره، ووضع وزره الذي كان قبل النبوة، ورفع ذكره. حتى لا يذكر - سبحانه - في الإيمان، والأذان، والطاعة إلا ذكر معه. (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) ، غنيمة للمؤمن ليطمئن إليه، ولا يضيق صدره من عسر يلحقه، فإن مع كل عسر يسرين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 525 سورة والتين * * * قوله: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) . فضيلة لمن أسن في الإسلام، لأن الله - جل جلاله - يكتب أجر ما كان يعمله في شبيبته، ولا يقطعه عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 526 سورة اقرأ قوله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) يحتج بها جهلة الجهمية. يزعمون: أنه أخبر عن خلق الاسم، وحذف " هاء " المفعول من (خَلَقَ) كأنه " خلقه " وهذا جهل كبير من جهتين: إحداهما: أن مجازه باسم ربك الخالق، الذي خلق الأشياء، فهو من نعت الرب، لا نعت الاسم. والأخرى: أنه لو كان كما يقولون: لكان دالاًّ على أن له أسامي غير مخلوقة، ومنها - بزعمهم - اسم مخلوق، فأمره أن يقرأ بذلك الاسم المخلوق، دون التي هي غير مخلوقة، فهم يحتجون على أنفسهم، ولا يعلمون، أو يعلمون ويكابرون، وأتباعهم يقبلونه منهم بجهلهم. وهم لا يشعرون. والذي يزيل كل الالتباس - عما قلناه، وإن كان بحمد الله زائلاً - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 527 قوله في سورة البقرة -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) . أفيرتابون بأن ليس رب سواه خلقهم فلا يعبدون إلا الذي خلقهم. هانما هو رب واحد خلقهم لا خالق سواه، وكذلك (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) ، وهو بين، ولكن من يضلل الله فلا هادي له. * * * قوله: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) . ذم للغنى، لأنه يعين على الطغيان، ويدعو إلى العصيان، لقدرته على الشهوات المذمومات المبتغاة بالمال. وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: " اللَّهم إني أعوذ بك من غنى يطغي. واختار الفقر على الغنى، ودعا أن يجعل رزقه ورزق أهله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 528 قوتًا، وكفافًا. ولهذه المسألة موضع آخر شرحناه في مسائلنا المنثورة في أبواب شتى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 529 سورة القدر * * * قوله: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) مستعملة للعبادة والإحياء. خص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته حين جعل أعمارهم قصيرة، فأعطاهم فضل هذه الليلة ليبلغوا بها وحدها فوق ما بلغ الأمم السالفة في طول أعمارهم، جودا، وكرمًا، وتفضيلاً لهذا النبي على من تقدمه من الأنبياء، وتفضيلاً منه على أمتهم، لأنه خاتم الأنبياء إلى أن تقوم الساعة، يعمل بما جاء به من عند الله من شريعته، وإن أخل بعضهم ببعضها فلا يدعونه كافة، ولا يرتدون جملة، كما كان يفعله سائر الأمم بعد موت نبيهم، فكانوا يدعون شيئًا شيئًا حتى يتركوا جميعه، ويرجعوا في الجاهلية الجهلاء، إلى أن يبعث الله - جل جلاله - نبيًّا آخر فيجدد دينهم. وليست هذه الأمة كذلك، بل يكونون عليه قائمين. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تزال طائفة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 530 من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين حتى يأتي أمر الله، وهم على ذلك ". وقد قيل: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) ليس فيها ليلة القدر. وقد قيل غير هذين، وما أحسبه يثبت، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 531 والأول أشبه والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 532 سورة البينة * * * قوله: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ) أي منفكين من كفرهم، والله أعلم. (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) أي البيان - والله أعلم - والبينة والبيان بمعنى واحد، قال الله عز وجل، لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) . * * * قوله: (يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) أي ما في الصحف، مكتوب على سعة اللسان. (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) أي عادلة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 533 سورة الزلزلة * * * قوله: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) أي تحركت من أسفلها. وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) ، دليل على التأكيد في الكلام، لرده ذكر الأرض. * * * قوله: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) أي ما عمل إليها من خير، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 534 سورة العاديات * * * قوله: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) فيه خصوص - والله أعلم -، لأن الأنبياء داخلون في الإنسان، خارجون من الكنود. والكنود هم الكفور، وفي الصالحين -أيضاً - من ليس بكفور، وإن كانوا لا يقومون بكنه الشكر. * * * قوله: (وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) يقال: إن " الهاء " راجعة على اللَّه - عز وجل - هكذا قال مجاهد، وغيره. ولم يجر له ذكر فهو أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 535 سورة القارعة * * * قوله: (الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) هي القيامة يعظم أمرها وهي وعيد إلى آخرها، والناس في غفلة عنها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 536 سورة التكاثر * * * قوله: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) يقال: إنها نزلت في قبيلتين من الأنصار تفاخروا فقال كل واحد منهما: فلان خير من فلان، يريد كل واحد منهما رجال قومه، فما زالوا كذلك حتى جاءوا إلى المقابر. وأشاروا إلى قبر رجل ممن كان مات معهم، فذلك قوله: (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) . وقد قيل: إنها نزلت في أهل الكتاب. والتكاثر في المال، والولد. وروى عياض بن غنم عن رسول الله صلى الله عله وسلم أنه قال - في حديث طويل -: " فأما وعيد وعيده فقوله: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) . يقول: لو قد دخلتم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 537 القبور، (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) يقول: لو قد خرجتم من قبوركم. (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) ، محشركم إلى ربكم، (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) أي في الآخرة، حق اليقين، كرأي العين (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ، يوم القيامة، (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) ، بين يدي ربكم عن بارد الشراب، وظلال المساكن، وشبع البطون واعتدال الخلق، ولذاذة النوم. وحتى خطبة أحدكم المرأة - أجمل منه - مع خطاب سواه. فزوجه ومنعها غيره ". وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إِن الله - تبارك وتعالى - ليذكر عبده آلاءه، ويعدد عليه نعماءه، حتى يقول له: عبدي سألتني أن أزوجك فلانة - يسميها باسمها - فزوجتكها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 538 سورة العصر * * * قوله: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فهذه بشارة للمؤمن جليلة وغنيمة عظيمة، أن يكون الإنسان في خسر، ويكون هو في زيادة، لأن الخسر النقصان. وذلك أنه ما دام شبابًا، أو كهلاً مطيقًا فهو يزيد بعمل الخير. والمسارعة إلى الطاعة، فإذا كبر وضعف عن العمل كتب له ما كان يعمله في وقت الطاعة، وإن كان له ولد صالح يدعو له فهو يلحقه في قبره، أو كان ممن وقف وقفًا في سبيل الخير، أو علم علمًا فهو يجري له أجوه إلى يوم القيامة. فأي زيادة أزيد من هذا،، للَّه الحمد والشكر على هذا. * * * قوله: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) ، تواصوا بكل ما يدعو إلى طاعة الله، وبكل ما يقرب من جنته، وزجروا عن كل ما يقرب من سخطه، والدخول إلى ناره، وبالصبر على المصائب، والرزايا. والفقر، والأمراض، والأوجاع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 540 سورة الهمزة * * * قوله: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) . فالهمزة الطعان على الناس، وباغي عثراتهم، واللمزة المغتاب العياب. وقد قيل: إذا رأيت الرجل يعتاب أخاه فإنما يمدح نفسه. ومن نظر إلى نفسه بعين المدح، ورضي عملها دخل في جملة المعجبين، وحبط عمله، ولعب به عدوه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لولا أن الذنب خير للمؤمن من العجب، ما خلى الله بين مؤمن، وبين ذنب أبدًا " وذلك أن المذنب خائف، والخوف طاعة، والمعجب آمن، والأمن معصية. وروي أنه قيل لابن عمر: أنزلت هذه الآية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن عمر: ما عنينا بها، ولا عنينا بعشر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 541 القرآن. فقد حصل تسعة أعشاره فينا، ونحن في غفلة عنه، أيقظنا الله من رقدة الغفلة، وعرفنا ما له خلقنا، وما نحن إليه صائرون بجوده. * * * وقوله: (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) زاجر للمؤمن من الاشتغال لجمع المال عن الأخذ بطاعة الله، واجتناب معاصيه، لا سيما من لم يرض باليسير والبلغة، وأراد التفاخر والتكاثر، ونسي أنه تاركه. والراحل عنه بثقل الأوزار التي حملها باكتسابه، وفات من عمره الذي لا سبيل له إلى رده. فإن كان يطلب من حل ويعنى مع ذلك بأمر آخرته، ولم ينهمك انهماك الحريص الذي يريد الكثرة، ولا يفكر في العاقبة كان خارجًا من هذه الآية، وداخلاً فيما قال في سورة النور: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) ، إلى آخر الآية. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من طلب الدنيا حلالاً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 542 استعفافًا عن المسألة، وسعيًا على عياله، وتعطفًا على جاره لقي الله ووجهه كالقمر ليلة البدر، ومن طلب الدنيا مرائيًا، مفاخرًا، مكاثرًا لقي الله وهو عليه غضبان ". وقال: "التاجر الصدوق، الأمين، المسلم، مع الشهداء يوم القيامة ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 543 سورة الفيل * * * قوله: (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) والأبابيل الذي يتبع بعضها بعضًا، كأنها جماعات متفرقة، فهي تنظم بعضها إلى بعض. واختلفت الأخبار في صفتها. فقال عكرمة: هي طير بيض وجوهها وجوه السباع لا تصيب شيئا، إلا جدرته أو جذذته. وقال عبد الرحمن بن سابط: خرجت من البحر كأنها رجال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 544 الهند، في أرجلها حجارة، وفي مناقيرها حجارة، كالإبل البزل. لا تصيب شيئا إلا قتلته. وفي رواية أخرى عن ابن سابط -أيضاً - قال: هىِ طير تشتت من قبل البحر، كأنها رجال الهند، ترميهم بحجارة من سجيل، واسمها سنككل، أعظمها مثل مبارك الإبل، وأصغرها مثل رؤوس الرجال. لا تريد شيئا فتخطئه، ولا تصيب شيئًا إلا أحرقته. وروي عن سعيد بن جبير قال: أقبل أبو اليكسوم - صاحب الحبشة - ومعه الفيل، فلما انتهى إلى الحرم برك الفيل، فأبى أن يدخل الحرم، فإذا وجه راجعًا أسرع راجعًا، وإذا أريد على الحرم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 545 أبى، فأرسل عليهم طير بيض صغار، في أفواهها حجارة أمثال الحمص، لا يقع على أحد إلا أهلكه. وروى أبو مكين عن عكرمة قال: فأظلتهم من السماء، فلما جعلهم الله كعصف مأكول، أرسل عليهم عينًا، فسال بهم حتى ذهب بهم إلى البحر. وعن سعيد بن المسيب قال: سبق إلى الكعبة فيلان، فأما أحدهما فهو الذي هلك، وأما الآخر فلما كان بالمُغَمَّس برك، فأتاه أصحابه فعاقدوه، وحلفوا له، ولحيث توجهت توجهنا معك، قال: فرفع إحدى أذنيه على الأخرى، ثم توجه راجعًا، فلم يصب من أولئك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 546 أحد. وروي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لقد رأيت قائد الفيل. وسائقه، أعميين مقعدين، يستكفان الناس بمكة. واختلفوا في " العصف " ما هو، فروي عن عطية أنه قال: العصف المأكول أصول الزرع حين تقطع وتبقى أصوله فيه كهيئة الحجر. وعن حبيب بن أبي ثابت قال: هو طعام مطعوم. وقال غيرهما: هو ورق الزرع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 547 سورة قريش (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) قال بعضهم - أراه عكرمة - يريد نعمتي على قريش. وقال غيره: فعلت ما فعلت بأصحاب الفيل لتأتلف قريش برحلة الشتاء والصيف، فتقيم بمكة. وتجعل السورتين سورة واحدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 548 سورة الماعون وأرى الله - تبارك - قد أكد أمر المساكين، والناس بهم متهاونون. وقد رددناه في غير موضع من هذا الكتاب. وقال - في هذه السورة -: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) أي يدفعه عن حقه - والله أعلم - ويزجره، ولا يرحمه. قوله: وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) ، فما يكون حال من لا يطعمه، ولا يحض غيره عليه. * * * قوله: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) هم الذين يؤخرونها، عن وقتها، وهم مضمرون على إقامتها، لولا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 550 ذلك لكفروا، وقد توعدوا بالتأخير هذا التواعد. * * * قوله: (الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) فإن راءوا بإقامتها لم تقبل لهم " لقوله: " أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل لي عملًا أشرك فيه غيري فأنا بريء منه ". وإن راءى بها وبغيرها من أعمال الطاعة فهو شر، قال الله (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) ، هم الذين يعملون بالرياء. وقال - تبارك وتعالى -: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) . أي لا يرائي، لأن أدنى الرياء شرك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 551 (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7) . قالوا: هي الزكاة المفروضة. وقالو ا: هي العارية، إعارة القدر، والدلو، والفأس، ونحوه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 552 سورة الكوثر * * * قوله: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) قالوا: هو الخير الكثير. وقالوا: نهر في الجنة أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم، حافتاه الذهب، يجري على الدر والياقوت، تربته أطيب من ريح المسك، وماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 553 قوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) قال مجاهد وعكرمة: الصلاة والنسك. وقال محمد بن علي بن الحنفية: النحر أول ما يكبر الرجل، كأنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 554 رفع اليدين إلى النحر. وقال الضحاك: ذبيحة الناس يوم النحر. وكان عطاء يقول: إذا رفعت رأسك من الركوع فاستو قائمًا. وقال غيرهم: هو وضع اليمين على الشمال عند النحر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 555 قوله: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) قال عطاء: هو أبو لهب. وقد قيل: إنه غير أبي لهب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 556 سورة الكافرون (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) هي براءة من الشرك، أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً أن يقرأها عند المنام، وقال: " هي براءة من الشرك ". ومن قرأها فكأنما قرأ ربع القرآن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 557 سورة النصر (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ) هي - أيضاً - ربع القرآن. ونعيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه في نزولها. فكان لا يصلي صلاة إلا قال: " سبحانك ربنا وبحمدك، اللَّهم اغفر لي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 559 سورة المسد * * * قوله: (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) يقال كانت تحتطب الكلام تمشي بالنميمة. * * * قوله: (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) قال عروة: سلسلة في النار. ويقال: هي مثل حديدة البكرة. ويقال: حبل من ليف، لا تحرقه النار بقدرة الله، وهي تجد الألم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 561 (مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) هو ولده، هكذا قال ابن عباس، وعائشة، وابن سيرين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 562 سورة الإخلاص هذه السورة نسبة الرب تبارك وتعالى. جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد انسب لنا ربك، فأنزل الله - تبارك وتعالى -: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) إلى آخر السورة، فهو أحد لا ثاني، وصمد لا يأكل، ولا حاجة له به إليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 563 (لَمْ يَلِدْ) ، فيكون كالمخلوق، (وَلَمْ يُولَدْ) ، فيكون له أول، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) ، فيرام، فهو أول كل شيء، وآخر كل شيء، لم يكن شيء قبله ولا معه، وكون الأشياء بقدرته، وأخرجها من العدم إلى الوجود، ثم يردها إلى العدم، إلا الجنة والنار وأهلها المخلوقين في الجنة من الحور والولدان وأنواع نعيمها، وفي النار من الزبانية مالك وأصحابه، وأنواع عذابها، وما أعد لأعداء الله، ثم يحيي من أماته أجمعين، حتى البق والبعوض والنمل، ويبقى الجن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 564 والإنس، فريق في الجنة، وفريق في السعير، فلا يفنيهم أبدًا، ويجعل سائرهم ترابًا. وهي سورة تعدل ثلث القرآن، من قرأها ثلاث مرات فكأنما قرأ القرآن كله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 565 المعوذتان اختلفوا في تفسير " الفلق " فمنهم من قال: هم الخلق. ومنهم من قال: هو الصبح، ومنهم من قال: هو سجن في جهنم. واختلفوا في " الغاسق إذا وقب " فمنهم من قال: هو الليل إذا ذهب، ومنهم من قال: هو القمر، نظر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 566 قد طلع فقال لعائشة: " استعيذي بالله من شر هذا، فإنه الغاسق إذا وقب ". فمن فسره على الليل، اختلفوا في وقوبه: فمنهم من جعله دخوله، ومنهم من جعله ذهابه. و (النَّفَّاثَاتِ) السواحر، و (الْعُقَدِ) السحر، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 567 و (الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الشيطان، يوسوس في صدور الناس، فإذا ذكروا الله انخنس أي انقمع حتى يصير مثل الذباب. ومنهم من قال في " الغاسق إذا وقب ": إنه القمر إذا انكسف. فدخل في الكسوف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ من كل هذا. وهما من القرآن، ومن قال: ليستا من القرآن فقد أعظم القول. وما ذكر عن ابن مسعود، فهو عنه غير صحيح، ولو صح عنه أنها غير مكتوبة في مصحفه، ما دل على أنهما لم تكونا عنده من القرآن، لأنه كان يحفظهما، ومن حفظ شيئا فليس بحتم عليه أن يكتبه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 568 ولو أن حافطا للقرآن كله لم يكتبه، واقتصر على تلاوته آناء الليل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 569 والنهار قي الصلاة، وغير الصلاة ما ضره، وإنما كتب إشفاقا على من لا يقدر أن يحفظه فكتب، ليستوي فيه الحافظ، وغير الحافظ، وليرجع إليه الناسي إذا نسي منه الشيء، أو اشتبه عليه الحرف، ولينظر فيه الناظر فيصير نظره فيه عبادة، وليقرأ فيه الحافظ - أيضًا - فيجمع الثوابين ثواب التلاوة، وثواب النظر. وقد سأل عقبة بن عامر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المعوذتين، فأمه بهما في صلاة الفجر. وهذا حين اختتام الكتاب، والله - عز وجل - المحمود بجميل بلائه وجزيل عطائة، والمسؤول من جسيم فضله وكريم طوله أن يوالي ديم صلواته، وتحيته، ووفود كراماته، ورحمته على المصطفئ محمد، سيد المرسلين، وقدوة المصطفين، وعلى آله السادة الغر، وأصحابه الأنجم الزهر، وسلم تسليماً كثيراً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 570