الكتاب: سلسلة الدار الآخرة المؤلف: محمد بن إبراهيم بن إبراهيم بن حسان مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية   http://www.islamweb.net   [ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 20 درسا] ---------- الدار الآخرة - محمد حسان محمد حسان الكتاب: سلسلة الدار الآخرة المؤلف: محمد بن إبراهيم بن إبراهيم بن حسان مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية   http://www.islamweb.net   [ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 20 درسا] عذاب القبر عذاب القبر ثابت في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والأدلة الواردة فيه كثيرة جداً لا تحصى عدداً، فإننا نجد اليوم ملاحدة وزنادقة ينكرون عذاب القبر، بل وينكر بعضهم البعث عياذاً بالله، مسندين ذلك إلى أن العقل البشري كيف يؤمن بغيبيات لا يدركها! والمعصوم من عصمه الله بالالتزام بكتابه والعمل بسنة نبيه والتصديق بهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 كُتِّاب اليوم وإنكارهم عذاب القبر ونعيمه الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله. اللهم! صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله الإخوة الأحباب الأعزاء، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعني وإياهم على طاعته أن يجمعني وإياهم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! (في رحاب الدار الآخرة) سلسلة علمية جديدة تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، أقدمها اليوم لأذكر بها نفسي وإخواني، لا سيما ونحن نعيش الآن زماناً طغت فيه الماديات والشهوات، وانصرف فيه كثير من الناس عن طاعة رب الأرض والسماوات جل وعلا، وقد انتظمت هذه السلسلة في عشرات الأشرطة، وكان آخر هذه الأشرطة بعنوان: (صفحات سود من تاريخ يهود)، فليراجع هذه الأشرطة من شاء من الأحبة الكرام الخيار. أيها الأحبة الكرام! في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على الأعناق، إذا كانت صالحة قالت: قدموني قدموني وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها إلى أين تذهبون بها؟ -قال المصطفى-: يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق). فها نحن قد وصلنا مع الجنازة إلى القبر، فقف معي الآن عند القبر وأهواله وفتنة القبر وأحواله، أسأل الله جل وعلا أن يحفظنا وإياكم من فتنه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. وسوف ينتظم حديثنا في هذه العناصر التالية: أولاً: الأدلة على عذاب القبر ونعيمه. ثانياً: أسباب عذاب القبر. وأخيراً: السبيل للنجاة من عذاب القبر. فأعرني قلبك أيها الحبيب الكريم؛ فإننا اليوم في مسيس الحاجة لهذا الموضوع، لاسيما وقد دُفع إلي مقالٌ لأستاذ دكتور على صفحة سوداء من صفحات جرائدنا الغراء، عنوان هذا المقال (عذاب القبر مجرد خرافات وخزعبلات)! هكذا يعنون لمقاله فضيلة الأستاذ الدكتور (عذاب القبر مجرد خرافات وخزعبلات)، ثم يتطاول هذا الأستاذ الدكتور الجريء فيقول: إن جميع الأحاديث التي وردت في مسألة عذاب القبر مجرد خرافات. ثم أظهر الدكتور جهله الفاضح فقال: لأن عذاب القبر غيب، والقرآن بَيَّن لنا أن النبي لا يعلم الغيب! قمة الجهل، وجهل مركب. فمعنى ذلك -يا فضيلة الدكتور- أنه ينبغي أن ننكر ونكذب بكل أمر غيبي أخبرنا به النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، كالإيمان بالله، وكالإيمان بالملائكة، وكالإيمان باليوم الآخر، وسائر الغيبيات التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونسي هذا المسكين قول رب العالمين، في حق سيد النبيين: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:3 - 5]. وتمنيت أن لو راجع فضيلة الدكتور أول الآيات في سورة البقرة ليقرأ من جديد قول الله جل وعلا: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:1 - 3]. فأول صفة من صفات المتقين: أنهم يؤمنون بالغيب. وخرج علينا أستاذ آخر بكتاب ضخم يزيد على ثلاثمائة صفحة، ينفي فيه من أول صفحة إلى آخر صفحة عذاب القبر ونعيمه، وقد قام بلي أعناق النصوص لياً عجيباً، وهأنذا اليوم أرد على هؤلاء المتطاولين المكذبين المنكرين، الذين قال عنهم الإمام القرطبي والإمام الحافظ ابن حجر قالا: لم ينكر عذاب القبر إلا الملاحدة، والزنادقة، والخوارج، وبعض المعتزلة، ومن تمذهب بمذهب الفلاسفة، وخالفهم جميع أهل السنة. وقال الإمام أحمد: عذاب القبر حق، ومن أنكره فهو ضال مضل. فكل ما جاءنا عن النبي بسند جيد قبلناه، وإلا فلو رددناه لرددنا أمر الله جل وعلا، كما قال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] فانتبه معي جيداً أيها الحبيب، وسأسوق لك الآن سيلاً من الأدلة الصحيحة على عذاب القبر من كلام الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، ولن أطيل الوقفة مع القرآن؛ لأن القرآن حمَّال أوجه، كما قال علي بن أبي طالب لـ ابن عباس وهو في طريقه لمناظرة الخوارج. قال علي: (يا ابن عباس! جادلهم بالسنة ولا تجادلهم بالقرآن؛ فإن القران حمَّال أوجه). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 كلام ابن أبي العز في إثبات عذاب القبر ونعيمه أستهل الحديث بين يدي هذا العنصر الهام بمقدمة أقتبسها من كلام أئمتنا الأعلام، وأبدأ هذه المقدمة بكلام دقيق نفيس للإمام ابن أبي العز الحنفي شارح العقيدة الطحاوية على شارحها ومصنفها الرحمة من الله جل وعلا. يقول الإمام ابن أبي العز: اعلم أن عذابَ القبر هو عذاب البرزخ. ووالله لو فهمت هذه العبارة لحلت جميع الإشكالات في هذه المسألة؛ إذ إن حقيقة حياة البرزخ لا يعلمها ملك مقرب، ولا نبي مرسل إلا بوحي من الله جل وعلا. قال: اعلم أن عذابَ القبر هو عذاب البرزخ، وكل إنسان مات وعليه نصيب من العذاب ناله نصيبه من العذاب قُبِرَ أو لم يُقْبر، سواء أكلته السباع، أو احترق فصار رماداً في الهواء، أو نسف، أو غرق في البحر. فكل من مات وعليه نصيبه من العذاب ناله نصيبه من العذاب قبر أو لم يقبر، وأنا أسألك -أيها المسلم الغيور-: هل تستكثر ذلك على الملك الغفور؟! المشكلة أننا حكمنا العقل القاصر في أمر غيبي، فمن الظلم إذاً أن نحكم قانون الدنيا في قانون الآخرة، أن نحكم قانون الشهادة في عالم الغيب، فأنا أسألك -أيها المسلم الغيور-: هل تستكثر ذلك على الملك الغفور؟ خذوا -يا من تحكمون العقول- هذا الدليل الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضرته الوفاة جمع بنيه، وأخذ عليهم العهود والمواثيق وقال لهم: يا بني! إذا أنا مت فحرقوني واسحقوني، فإذا كان يوم ريح عاصف فاذْرُوني)، وفي لفظ: (فاذْرُوا نصفي في البر واذْرُوا نصفي في البحر، فلئن قدر الله علي عذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين فلما مات الرجل فعل بنوه به ذلك. فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر الله البر فجمع ما فيه، ثم قال الملك لهذا الرجل: كن. فكان بين يديه جل وعلا -قال له: كن بشحمك ولحمك وعظامك فكان بين يدي الله جل وعلا-، فقال له الملك: عبدي! ما حملك على أن فعلت ما فعلت؟! قال العبد: خشيتك -يا رب! - وأنت تعلم، فغفر الله له). الشاهد من الحديث أن الله أحياه وقد أحُرِق وذُرِي رماده في البر والبحر، فقال الملك: كن. قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، فقدرة الله لا تحدها حدود، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وقال تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة:259] لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه: {وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:260]. قدرة الله لا تحدها حدود، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، لكن الإشكال أننا حكمنا العقل، وقوانين الدنيا وقوانين الشهادة في أمر الآخرة وفي عالم الغيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 كلام ابن القيم في إثبات عذاب القبر وأثني هذه المقدمة بكلام نفيس للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، فتدبره جيداً -أيها الحبيب- وقف عليه وعض عليه بالنواجذ، يقول ابن القيم: إن الله تعالى قد جعل الدور ثلاثاً، وهي دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار الآخرة، وجعل الله لكل دار أحكاماً تختص بها، فجعل الله الأحكام في دار الدنيا تسري على الأبدان والأرواح تبع لها، وجعل الأحكام في دار البرزخ تسري على الأرواح والأبدان تبع لها، وجعل الأحكام في دار القرار تسري على الأرواح والأبدان معاً. قمة الدقة، ثم قال ابن القيم: واعلم بأن سعة القبر وضيقه ونوره وناره ليس من جنس المعهود للناس في عالم الدنيا. تدبر هذا الكلام جيداً، ثم ضرب لنا مثلاً عقلياً رائعاً دقيقاً فقال: انظر إلى الرجلين النائمين في فراش واحد، أحدهما يرى في نومه أنه في نعيم، بل وقد يستيقظ وأثر النعيم على وجهه، ويقص عليك ما كان فيه من النعيم، قد يقول لك: الحمد لله، لقد رأيتني الليلة وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلمت النبي، ورأيت النبي، ورد علي النبي، وقال لي النبي ومن رأى النبي في المنام فقد رآه حقاً، قمة النعيم وقمة اللذة والفرح والسرور، ويستيقظ من نومه وهو يقص عليك هذا، وأخوه إلى جواره في فراش واحد قد يكون في عذاب، ويستيقظ وعليه أثر العذاب، ويستيقظ من نومه ويقص عليك ويقول: كابوس كاد أن يخنق أنفاسي -أعوذ بالله-. تدبر أيها المسلم. الرجلان في فراش واحد، هذا روحه كانت في النعيم، وهذا روحه كانت في العذاب، مع أن أحدهما لا يعلم عن الآخر شيئاً. وهذا في أمر الدنيا، فكيف بأمر البرزخ الذي لا يعلمه إلا الملك؟!! تدبر هذا كله، إنها مقدمة دقيقة ولو تدبرتها لوقفت على الحقيقة. وأنا أقول: متى كان العقل حاكماً على الشرع والدين؟!! لا تفهم مني أنني أريد أن أقلل من قدر العقل، أبداً أبداً، بل إنني ممن ينادي بتقدير العقل وبيان مكانة العقل، لاسيما ونحن نعيش الآن زماناً انصرفت فيه الأمة المسكينة عن التعليم والعلم والتخطيط والتنظيم، وصارت الأمة أمة تعيش عالة على علم الغرب، وأنا لا أنكر ما وصل إليه الغرب في الجانب العلمي والمادي، في الوقت الذي تأخرت فيه الأمة عن الركب العلمي، أنا ممن يقول دائماً بأن نور الوحي لا يطمس نور العقل أبداً، بل يبارك نور الوحي نور العقل، بل يزكي الوحي العقل، بشرط أن يعلم العقل قدره، وأن يسجد العقل مع الكون كله لله رب العالمين، فمتى كان العقل على الإطلاق حاكماً على الشرع والدين؟! لله در علي يوم أن قال: لو كان أمر الدين بالعقل لكان المسح على باطن الخف أولى من المسح على أعلاه. أنت تمشي بباطن الخف على الأرض، فلو كان الدين بالعقل فإنه لا يجوز لك أن تمسح ظاهر الخف وإنما تمسح باطن الخف؛ لأنه هو الذي وطئ التراب والأرض، لو كان أمر الدين بالعقل لكان المسح على باطن الخف أولى من المسح على أعلاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 العقل البشري وطغيانه وتمرده على الله وتدبر معي -أيها الشاب الحبيب- لتتعرف على قيمة العقل البشري إذا تحدى نور الوحي الإلهي وانفك عن نور الهدي المحمدي النبوي، هذا هو العقل الأمريكي الجبار الذي أُقِرُّ أنه قد وصل إلى ما وصل إليه في الجانب المادي والعلمي، انطلق بعيداً في أجواء الفضاء، وفي أعماق البحار، وفجر الذرة، وصنع القنبلة النووية، بل وحول العالم كله إلى قرية صغيرة عن طريق هذا التقدم المذهل في عالم الاتصالات والمواصلات، هذا ما وصل إليه العقل الأمريكي الجبار في جانب العلم والمادة، انظر إلى حقيقته في جانب الأخلاق والعقيدة والروح، ستراه قد هوى إلى قاع الرذيلة ومستنقع الزندقة والإلحاد، فها هو العقل الأمريكي في هذه الأيام يدافع عن الشذوذ الجنسي، وليست أحداث الحملة الانتخابية لـ بيل كلنتون منكم ببعيد، الذي أذن للشاذين جنسياً أن يدخلوا الجيش الأمريكي، بل والآن الكنائس في أمريكا تعقد فيها حفلات الزواج، وستعجب إذا علمت أن الزوج رجل والزوجة رجل، يتزوج الرجل بالرجل، وتتزوج المرأة بالمرأة، هذا هو العقل الأميركي الذي لا زال يتغنى بالديمقراطية في كل أنحاء العالم، وإذا ما ذهبت إلى (نيويورك) فاجأ بصرك تمثال الحرية الكاذب، تتغنى بالديمقراطية وفي الوقت ذاته لا زالت تدافع عن العنصرية اللونية البغيضة! وكلنا يتذكر أحداث (لوس أنجلوس). وهذا هو العقل الروسي الملحد، شعاره: يؤمن بثلاثة ويكفر بثلاثة، يؤمن بـ ماركس ولينين واستالين، ويكفر بالله، وبالدين، وبالملكية الخاصة. وهذا العقل اليوناني يدافع عن الدعارة، وهذا العقل الروماني يدافع عن مصارعة الثيران، وهذا العقل الهندي يدافع عن عبادة البقرة، وهذا العقل العربي في الجاهلية الأولى يدافع عن وأد البنات وهن أحياء، ويدافع عن عبادة الأصنام، وهذا العقل في جاهليته المعاصرة يؤمن بالكفر والزندقة، ويتغنى بالبعثية والقومية، فيقول قائلهم: آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني ويقول آخر: هبوني عيداً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم هذا هو العقل حينما يتحدى الوحي الإلهي وينفك عن الهدي المحمدي النبوي، فينبغي أن يعلم العقل قدره، وينبغي أن يقف العقل عند حدوده، فلينطلق العقل في حدوده ومجاله ليسجد مع الكون كله لله رب العالمين، لو كان أمر الدين بالعقل لكان المسح على باطن الخف -كما ذكرت- أولى بالمسح من أعلاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الأدلة الواردة في إثبات عذاب القبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 حديث عائشة في تصديق اليهودية في إثبات عذاب القبر وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (دَخَلَتْ علي امرأة يهودية من يهود المدينة، فذكرت عذاب القبر فقالت: أعاذك الله من عذاب القبر. فلما خرجت اليهودية سألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر. فقال: نَعَمْ عذاب القبر)، وزاد غندر: (عذاب القبر حق)، وهذه الزيادة ليست في رواية البخاري، أعني قول غندر: عذاب القبر حق. تقول عائشة: (فما رأيت النبي بعد يصلي إلا ويستعيذ بالله من عذاب القبر). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 حديث البراء الطويل في بيان عذاب القبر ونعيمه وهنا حديث عمدة وأصل من الأصول في هذا الباب رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي في سننه، والنسائي في سننه، وأبو داود في سننه، ورواه الحاكم في المستدرك وصححه على شرط الشيخين، وأقره الإمام الذهبي، وصحح الحديث الإمام ابن القيم في (تهذيب السنن) و (إعلام الموقعين)، وأطال النفس في الرد على من أعل هذا الحديث، وصحح هذا الحديث الشيخ الألباني وغيره من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فلما انتهينا إلى القبر جلس النبي على شفير القبر -أي: على حافة القبر- وجلسنا حوله وكأن على رءوسنا الطير، وفى يد النبي عود -وانظر إلى دقة الوصف من البراء - ينكت به في الأرض -يضرب به الأرض-، ثم رفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه ونظر إلى أصحابه وقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر! استعيذوا بالله من عذاب القبر! استعيذوا بالله من عذاب القبر! قالها النبي مرتين أو ثلاثاً، ثم التفت النبي إليهم وقال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزلت إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة، فيجلسون منه مد البصر، فيأتي ملك الموت فيجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة! أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج روحه فتسيل كما تسيل القطرة من في السِّقَاء، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يضعوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على ظهر الأرض، فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: روح من هذه الروح الطيبة؟ فيقولون روح فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى إذا انتهوا إلى الله في السماء السابعة قال الله جل وعلا: اكتبوا كتاب عبدي في عليين -اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين، ثم أعيدوها إلى الأرض، فمنها خلقناهم وفيها نعيدهم ومنها نخرجهم تارة أخرى يقول النبي صلى الله عليه وسلم: فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره ويقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، -عاش لها وعليها-، وما دينك؟ فيقول: الإسلام فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولان له: وما علمك -أي: ما الذي علمك هذا-؟ فيقول: قرأت كتاب الله وصدقت بما فيه فينادي مناد أن: صدق عبدي، فألبسوه من الجنة، وافرشوا له فراشاً من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة. ويأتيه رجل أبيض الوجه حسن طيب الريح، فيقول له: أبشر. هذا يومك الذي كنت توعد فيقول صاحب القبر لصاحب هذا الوجه المنير: من أنت لا يأتي وجهك هذا إلا بخير؟ فيقول له: أنا عملك الصالح. -يقول له: أنا توحيدك، أنا صلاتك، أنا صيامك، أنا زكاتك، أنا حجك، أنا أمرك بالمعروف، أنا نهيك عن المنكر، أنا برك بوالديك، أنا صدقتك- فيقول: رب أقم الساعة. رب أقم الساعة؛ حتى أرجع إلى أهلي ومالي. وإذا كان العبد الكافر في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم مسوح -والمسوح ليف من النار- فيجلسون منه، حتى إذا جاء ملك الموت فجلس عند رأسه، فإذا ما انتهى الأجل نادى على روحه وقال: أيتها الروح الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وعذاب، فتنتزع كما ينتزع السفود -أي: الشوك الصلب- من الصوف المبلول، فلا تدعها الملائكة في يده طرفة عين، وتلفها في هذه المسوح من النار، وتنبعث منها رائحة كأنتن ريح جيفة على ظهر الأرض، فإذا ما أرادت الملائكة أن تصعد بها إلى السماء لا تفتح لهذه الروح أبواب السماء، وقرأ النبي قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40]، ثم ينادي الملك جل وعلا: اكتبوا كتاب عبدي في سجين، ثم أعيدوها إلى الأرض، فمنها خلقناهم وفيها نعيدهم ومنها نخرجهم تارة أخرى. ويأتيه ملكان فيجلسانه في قبره فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدرى). لا يعرف رباً، ولا يعرف إلهاً، عاش على الكفر في الدنيا، عاش على الشهوات، عاش على النزوات، وما امتثل أمر الله، وما امتثل أمر رسول الله، سمع الأذان يقول: (حي على الصلاة) ولا زال قابعاً أمام المباريات وأمام المسلسلات وأمام الأفلام، أما آن لك أن تهتدي عبد الله؟ {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16] ما الذي جنيناه من هذا التلفاز؟! ما الذي جنيناه من المسلسلات والمباريات والأفلام؟! لقد سمعنا بآذاننا لاعبي الكرة الذين يرفعون الآن على الأعناق، سمعنا منهم وسمعتم -يا من تتابعون المباريات- من يسب دين الله جل وعلا، هؤلاء الذين يكرمون، هؤلاء الذين يرفعون، يكرمون على أعلى المستويات، على مستوى رئيس الدولة، أمة عشقت الهزل وكرهت الجد، أمة عشقت الهزل يوم أن كرهت الجد، وتعبت عن أن تواصل الجد على طريق الجادين الصادقين، كرة، ومسلسلات، وأفلام، ومسرحيات، وبرامج تدمر الفضيلة وتؤصل الرذيلة، وها أنتم ترون اليهود الآن يتلاعبون بالعالم، لا بالعالم الإسلامي، بل بالعالم الغربي والشرقي، وها هو وزير خارجيتنا يصرح بمنتهى الوضوح ويقول: إنني أحذر إسرائيل من المواجهة العسكرية من جديد في المنطقة. وهذا التحذير الجديد يُعلِن بمنتهى الوضوح عن هوية اليهودية. هذا الواقع، والله لو جد الجد لم يفر من الميدان إلا من يرفعون اليوم على الأعناق، ولم يثبت في الميدان إلا من تصب الأمة عليهم الآن جام غضبها من الشباب الطاهر الذي وحد الله جل وعلا وامتثل سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. أيها الحبيب يقول النبي صلى الله عليه وسلم في وصف حال الكافر: (فيقال له: من ربك؟ ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدرى -لا يعرف ديناً، ولا عاش للدين ولا على الدين- فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم؟ فيقول: هاه هاه. لا أدري، -فلا يعرف رسولاً، ولا يعرف نبيناً، وما عاش لهذا، هو في غنى عن كل هذا- فينادي منادٍ أن: كذب عبدي، فأفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار فيأتيه من ريحها وسمومها، ويأتيه رجل قبيح الوجه نتن الريح، فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي لا يجيء بخير؟ فيقول له: أنا عملك السيئ، وهذا يومك الذي كنت توعد فيقول: رب: لا تقم الساعة. رب: لا تقم الساعة!!). أيها الأحبة! أظن أن في هذه الأدلة كفاية لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 حديث مرور النبي في حائط لبني النجار على قبور المشركين وفي الحديث الذي رواه مسلم وأحمد وابن حبان والبزار وغيرهما من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يركب على بغلة له، ودخل حائطاً -أي: حديقة أو بستاناً لبني النجار، وهم أخوال النبي- ومر النبي في الحائط على ستة أقبر أو خمسة أو أربعة، فلما مر ببغلته عند القبور حادت البغلة بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى كادت أن تلقي النبي على الأرض، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: من يعرف أصحاب هذه القبور؟! فقال رجل أنا يا رسول الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: متى ماتوا؟ قال الرجل: ماتوا في الشرك. فقال المصطفى: إنهم ليعذبون في قبورهم، ولولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع)، ماذا تريدون بعد ذلك أيها المسلمون؟! وماذا تريدون بعد ذلك أيها المنكرون؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر) وَقِفْ مع هذا الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو الله ويقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر) هذا دعاء المصطفى، دعاء صريح صحيح في أعلى درجات الصحة، في البخاري ومسلم: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 قوله تعالى: (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً) ومع ذلك فها أنا أسوق الأدلة الكثيرة الصحيحة الصريحة على عذاب القبر، وأستهلها بهذه الترجمة الفقهية البليغة لإمام الدنيا في الحديث، للإمام البخاري صاحب أصح كتاب بعد كتاب الله جل وعلا باتفاق الأمة بلا منازع، ترجم الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الجنائز باباً بعنوان: (باب ما جاء في عذاب القبر)، وتكفي هذه الترجمة، فقهُ البخاري في تراجمه كما قال علماء الحديث والجرح. وساق البخاري في هذا الباب الآيات الكريمة عن الله جل وعلا، وروى فيه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكتفي بآية واحدة استدل بها جميع أهل السنة بلا خلاف على ثبوت عذاب القبر: تدبر معي قول الله في سورة غافر في حق آل فرعون: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:45 - 46]. قال جميع أهل السنة: ذكر الله في هذه الآية عذاب دار البرزخ وعذاب دار القرار ذكراً صريحاً، (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا) أي: صباحاً ومساءً. هذا في دار البرزخ، وفي دار القرار يوم القيامة (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ). فذكر الله عذابين في الآية: عذاباً في الدنيا وعذاباً في الآخرة، عذاب دار البرزخ وعذاب دار القرار. ومع ذلك خذ الأدلة الصحيحة التي تلقم المنكرين الأحجار. وأود أن أنبه الجميع إلى أن الله قد أنزل على النبي وحيين، وأوجب الله على عباده الإيمان بهذين الوحيين، ألا وهما القرآنُ والسنة، القرآن والسنة الصحيحة. انطلق هؤلاء المنكرون وقالوا: كفانا القرآن. وظنوا أنهم بهذه الدعوى -التي يغني بطلانها عن إبطالها، ويغني فسادها عن إفسادها- قد خدعونا، وسنسلم لهم بأنه يكفي القرآن كلا كلا من كذب السنة الصحيحة فقد كفر بالقرآن، ومن رد السنة فقد رد القرآن. تدبر معي قول الله جل وعلا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7]. وتدبر معي قول الله جل وعلا: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]. وتدبر معي قول الله جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء:65]-أي: حتى يحكموك يا محمد: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. وتدبر معي قول الله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، وتدبر معي قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1]. وتدبر معي قول الله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (هذه الآية نزلت في عذاب القبر). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 حديث: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه -وانظر إلى هذا الحديث الصحيح الصريح في عذاب القبر- أن المصطفى مر على قبرين، فقال الحبيب الذي لا ينطق عن الهوى: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله -أو: لا يتنزه من بوله-) فهذا حديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة والنبي صلى الله عليه وسلم قال فيه تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:3 - 5]، وتدبر معي هذا الكلام النفيس لـ ابن القيم في إعلام الموقعين في المجلد الثاني، قال ابن القيم: السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن تأتي السنة مؤكدة لما جاء به القرآن، وهذا من باب تضافر الأدلة. الوجه الثاني: أن تأتي السنة مبينة وموضحة لما أجمله القرآن. قال الله تعالى في القرآن: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43]، لكن الله لم يذكر لنا كيفية الصلاة، ولا أركان الصلاة، ولا سنن الصلاة، ولا مواقيت الصلاة، ولا عدد الصلوات، فجاء المصطفى ليبين لنا كيفية الصلاة، وأركان الصلاة ومواقيت الصلاة إلى آخره. فالسنة توضح ما أجمله القرآن. الوجه الثالث: أن تأتي السنة موجبة أو محرمة لما سكت عنه القرآن، قال المصطفى: (ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه) قال المصطفى: (ألا إن ما حرم الله كما حرم رسول الله). قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، فما حرمه الله حكمه كحكم ما حرمه رسول الله، وهل من شك أن رسول الله لا يحرم شيئاً إلا بأمر من الله، أو لا يأمر بشيء إلا بأمر عن الله؟! {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7] لمن خالف أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مر على قبرين فقال: (إنهما ليعذبان) هكذا بمنتهى الصراحة والوضوح: (ليعذبان وما يعذبان في كبير)، أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة ليوقع العداوة والبغضاء بين عباد الله، والآخر كان لا يستتر من بوله، وانظر إلى هؤلاء الرجال الذين لا حياء عندهم، يقفون على شاطئ البحر، فينزل الرجل عارياً ليغتسل أمام الرجال والنساء في الشط الآخر، ألا تستحيي؟! اتق الله عبد الله، فهذا كان لا يستتر من بوله، فما بالكم بمن لا يستتر في غسله؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 أسباب عذاب القبر الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الأحبة الكرام! وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأسأل الله أن يجعلني وإياكم من المخلصين الصادقين، وأن يختم لي ولكم بخاتمة السعادة، وأن يرزقنا الزيادة، إنه ولي ذلك والقادر عليه. في عجالة أذكرك -أيها الحبيب- بالعنصر الثاني، وهو أسباب عذاب القبر. والحديث عن أسباب عذاب القبر من وجهين: مجمل ومفصل. أما المجمل فإن معصية الله عز وجل أصل لكل بلاء، وعلى رأس هذه المعاصي الشرك، أسأل الله أن يرزقني وإياكم التوحيد، فإن أعظم زاد تلقى الله به هو التوحيد، وإن أبشع وأشنع ذنب تلقى الله به هو الشرك: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]. أما التفصيل فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم -كما ذكرت آنفاً- أن النميمة من أسباب عذاب القبر، وهناك الآن من المتخصصين في النميمة ما لا يحصى من العدد، رجال ونساء متخصصون في النميمة وفي نقل الفتن بين الناس لتأصيل العداوة والبغضاء في القلوب، يأتي إليك ليقول لك: قال فلان عنك كذا وكذا. ووالله ما قال فلان هذا، ثم ينطلق إلى الآخر فيقول: أوما سمعت ما قد قال فلان؟ لقد قال كذا وكذا! أوما سمعت؟ لقد قالت فلانة عنك كذا وكذا! معشر المسلمين! النميمة سبب من أسباب عذاب القبر، قال المصطفى: (أما أحدهما كان يسعى بين الناس بالنميمة)، وعدم الاستتار من البول، وعدم التنزه من البول سبب من أسباب عذاب القبر في الحديث الصحيح. والكذب، والربا، وهجر القرآن من أسباب عذاب القبر، كما في حديث سمرة بن جندب الطويل الذي رواه البخاري، فقد ذكر النبي فيه من أسباب عذاب القبر الكذب، والربا، وهجر القرآن، والزنا والغلول، والغلول: كل شيء يؤخذ من الغنيمة قبل أن تقسم. ويدخل تحت الغلول السحت والحرام، من لا يتورعون عن أكل الحرام بأي صورة وبأي ثمن. فالغلول من أسباب عذاب القبر، كما في الصحيحين في قصة الرجل الذي قتل، فقال الصحابة: هنيئاً له الجنة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إن الشملة والشملة: غطاء الرأس- التي أخذها يوم خيبر لتشتعل عليه في جهنم ناراً)، قال تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161]. فهذه أسباب مجملة ومفصلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 السبيل للنجاة من عذاب القبر وقد تسألني الآن بإيجاز: أين السبيل للنجاة من عذاب القبر -وأسأل الله أن ينجينا وإياكم- أقول لك: أعظم سبيل للنجاة من عذاب القبر أن تستقيم على طاعة الملك جل وعلا، وأن تتبع طريق النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32]. ومن أنفع الأسباب كذلك للنجاة من عذاب القبر ما ذكره الإمام ابن القيم في كتابه القيم (الروح)، قال: ومن أنفعها أن يتفكر الإنسان قبل نومه ساعة ليذكر نفسه بعمله، فإن كان مقصراً زاد في عمله، وإن كان عاصياً تاب إلى الله، وليجدد توبة قبل نومه بينه وبين الله. ومن شروط التوبة أن تقلع عن الذنب، وأن تندم على الذنب، وأن تعزم على العمل الصالح، قال: فإن مات من ليلته على هذه التوبة فهو من أهل الجنة. فينجيه الله عز وجل من عذاب القبر، ومن عذاب النار. ومن أعظم الأسباب التي تنجي من عذاب القبر أن تداوم على العمل الصالح، كالتوحيد، والصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، والدعوة، وحضور مجالس العلم التي ضيعها الناس وانشغلوا عنها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، وكل عمل يرضي الرب جل وعلا فهو من العمل الصالح الذي ينجي صاحبه من عذاب القبر ومن عذاب النار. وإن من أعظم الأعمال التي تنجي صاحبها من عذاب القبر الشهادة في سبيل الله، اللهم ارفع علم الجهاد، وارزقنا الشهادة في سبيلك يا أرحم الراحمين. ورد في الحديث الذي رواه الحاكم وحسن إسناده الشيخ الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (للشهيد عند الله ست خصال: الأولى: يغفر له مع أول دفعة من دمه ويرى مقعده من الجنة. الثانية: ينجيه الله عز وجل من عذاب القبر. الثالثة: يؤمنه الله من الفزع الأكبر. الرابعة: يلبسه الله تاج الوقار الياقوتة فيه خير من الدنيا وما فيها. الخامسة: يزوجه الله بثنتين وسبعين زوجة من الحور العين. السادسة: يشفعه الله في سبعين من أهله). اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك يا رب العالمين، وارفع -اللهم- علم الجهاد، واقمع -اللهم- أهل الزيغ والفساد. وأختم بحديث يملأ القلب أملاً ورضاً، فحافظ عليه، وحافظ على كل ما ذكرت، فقد ورد في الحديث الذي رواه الحاكم في المستدرك وصححه، وأقره الذهبي، وصحح إسناده الشيخ الألباني في مشكاة المصابيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سورة الملك هي المانعة من عذاب القبر). حافظ عليها أيها الكريم، وحافظي عليها أيتها المسلمة، فقبل أن تنام افتح كتاب الله على سورة الملك: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1]، وتدبر السورة، وتضرع بعدها إلى الله عز وجل بالدعاء بعد أذكار النوم، مع تجديد التوبة، ونم نومة العروس، فإن قدر الله عليك الموت نجاك بكرمه من عذاب القبر ومن عذاب النار. اللهم! نجنا من عذاب القبر ومن عذاب النار. اللهم! نجنا من عذاب القبر ومن عذاب النار. اللهم! نجنا من عذاب القبر ومن عذاب النار. اللهم! نجنا من عذاب القبر ومن عذاب النار. اللهم! لا تجعل الدنيا أكبر همنا يا عزيز يا غفار. اللهم! إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين، ولا مفرطين ولا مضيعين، ولا مغيرين ولا مبدلين. اللهم! لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين. اللهم! اجعل كل جمع لنا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً. اللهم! استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا. اللهم! اقبلنا وتقبل منا، وتب علينا وارحمنا؛ إنك أنت التواب الرحيم. اللهم! وحد كلمتنا. اللهم! ألف بين قلوبنا. اللهم! وحد صفنا. اللهم! رد الأمة إليك رداً جميلاً. اللهم! ارزق الأمة القائد الرباني. اللهم! أبرم للأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر؛ أنت ولي ذلك والقادر عليه يا رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وصف الجنة الحديث عن الجنة يحرك القلوب، ويهيج النفوس إلى مجاورة الملك القدوس؛ لأن الجنة دار كرامة الله لأوليائه وأحبابه وأصفيائه، فقد بناها وغرسها الله بيده، وجعل فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وأعظم نعيم لأهل الجنة فيها هو النظر إلى وجه الرب عز وجل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1 التوبة والعمل الصالح سبب في دخول الجنة الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وما كان معه من إله, الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره ولا رب سواه, المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه، ذلك بأن الله هو الحق, وأن ما يدعون من دونه الباطل، وأن الله هو العلي الكبير. أحمدك يا رب وأستعينك وأستغفرك وأستهديك, لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، جل ثناؤك، وعز جاهك، ولا إله غيرك, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, هو الواحد الذي لا ضد له, وهو الصمد الذي لا منازع له, وهو الغني الذي لا حاجة له, وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء, وهو جبار السماوات والأرض, لا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه وأمره. وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا ومعلمنا وقدوتنا وقرة أعيننا محمد رسول الله. يا مصطفى ولأنت ساكن مهجتي روحي فداك وكل ما ملكت يدي إني وقفت لنصر دينك همتي وسعادتي ألا بغيرك أقتدي لك معجزات باهرات جمة وأجلّها القرآن خير مؤيد ما حرفت أو غيرت كلماته شلت يد الجاني وشاه المعتدي وأنا المحب ومهجتي لا تنثني عن وجدها وغرامها بمحمد قد لامني فيه الكفور ولو درى بنعيم إيماني لكان مساعد يا رب صل على الحبيب محمد واجعله شافعنا بفضلك في غد اللهم صلاةً وسلاماً عليك يا سيدي يا رسول الله، يليقان بمقامك يا أمير الأنبياء! ويا سيد المرسلين! أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام: تعالوا بنا لنواصل مسيرتنا المباركة في شرحنا لآيات من كتاب ربنا جل وعلا، ومع اللقاء التاسع والعشرين ما زلنا بفضل الله وطوله وحوله ومدده وتوفيقه نطوِّف معكم في بستان سورة مريم المباركة, وقد انتهينا في اللقاء الماضي بفضل الله جل وعلا من الحديث عن التوبة وعن شروطها وأركانها, ونحن اليوم بمشيئة الله عز وجل على موعد مع حديث عن الجنة. يقول سبحانه وتعالى في سورة مريم: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً} [مريم:60] أي: إلا من رجع عن ترك الصلوات واتباع الشهوات، وتاب إلى الله عز وجل قبل الله توبته, وأدخله الله عز وجل الجنة: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} [مريم:61] لأن الجنة -يا أحبابي- غيب من غيب الله جل وعلا, آمنا بها لإيماننا بالله, ولتصديقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا هو جزاء الله الذي وعده للتائبين هذا جزاء الله الذي وعده للمتقين هذا جزاء الله الذي وعده للموحدين إن وعد الله صدق, وإن وعد الله حق, وإن وعد الله لا يخلف: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً} [مريم:61] {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً} [مريم:63]. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 الجنة كرامة الله لأوليائه وأحبابه وأصفيائه أيها الأحباب الكرام! والحديث عن الجنة يحرك القلوب إلى أجلِّ مطلوب, ويفضي النفوس إلى مجاورة الملك القدوس جل وعلا؛ لأن الحديث عن الجنة حديث عن كرامة الله جل وعلا لأوليائه وأحبابه وأصفيائه, ولقد ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر, ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم قول الله عز وجل: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]) وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه ابن ماجة من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الجنة يوماً لأصحابه فقال: (هي ورب الكعبة نور يتلألأ, وريحانة تهتز, ونهر مضطرب, وقصر مشيد, وزوجة حسناء جميلة, وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وحلل كثيرة) ثم قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه بعدما بين لهم الجنة، قال لهم: (ألا من مشمر للجنة؟ فقال الصحابة: نحن المشمرون لها يا رسول الله, فقال صلى الله عليه وسلم لهم: قولوا إن شاء الله عز وجل). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 بعض صفات الجنة وأهلها واعلموا -أيها الأحبة الكرام- أنه لن يدخل الجنة أحد إلا بجواز, والحديث خرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة أحد إلا بجواز مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من الله تعالى لفلان بن فلان، يا ملائكتي أدخلوا عبدي جنة عالية قطوفها دانية). فتعالوا -أيها الأحباب- لنعيش في هذه اللحظات المباركة حتى ولو بأرواحنا في جنة ربنا جل وعلا، إلى أن يمن الله علينا برحمته، فنأخذ هذا الجواز لنعيش في جنته بأرواحنا وأبداننا مع نبينا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم, تعالوا بنا لنعيش في الجنة -وأسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهلها- هذه اللحظات المباركات الطيبات وأنا والله أحس بنفحات الجنة، وأحس برحمات رب الجنة جل وعلا تتنزل على هذا الجمع الطيب الموحد لله عز وجل, إي والله الذي لا إله غيره، ما دخلت في هذه اللحظات إلى هذا البيت إلا وقد أحسست بنفحات ورحمات رب الجنة على هذا الشباب المتوضئ الطاهر, وعلى هؤلاء الأخوات الطاهرات الفاضلات, وأسأل الله سبحانه أن يمنحنا هذا الجواز، لنعيش في الجنة بأرواحنا وأبداننا مع قرة أعيننا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 المخبر والمحدِّث عن الجنة هما الله ورسوله اعلموا أن الذي يحدثنا عن الجنة هو الله الذي غرس كرامتها بيديه جل وعلا, واعلموا أن الذي يحدثنا عن الجنة: هو رسول الله الذي رآها بعينيه في ليلة الإسراء والمعراج، وكما ورد في صحيح مسلم عليه رحمة الله، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، في صلاة الكسوف (أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي صلاة الكسوف صنع شيئاً لم يصنعه قبل ذلك، فتعجب الصحابة وقالوا: يا رسول الله! رأيناك صنعت شيئاً ما صنعته قبل ذلك، رأيناك تناولت في مقامك شيئاً ثم رأيناك تكعكعت -أي: تأخرت عن ذلك الشيء، أتدرون ماذا قال الحبيب؟ - قال لهم صلى الله عليه وسلم: إني رأيت الجنة ومددت يدي لأتناول عنقوداً من الجنة، ولو أخذته لأكلتم منه بقيت في الدنيا). لقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم الجنة في ليلة الإسراء والمعراج، ورآها في الدنيا وهو قائم يصلي صلاة الكسوف, فقال لهم: (لقد رأيت الجنة وامتدت يدي لعنقود من ثمارها ومن فاكهتها، ولكنني تأخرت عنه، ولو أخذته لأكلتم منه بقيت الدنيا). فتعالوا بنا ليحدثنا ربنا عن الجنة، وليحدثنا رسولنا صلى الله عليه وسلم عن الجنة, فماذا قال من غرس كرامتها بيديه في حقها؟ انتبهوا أيها الشباب انتبهوا أيها المؤمنون يقول جل وعلا: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} [الإنسان:5 - 22] هذا كلام من غرس كرامتها بيديه جل وعلا. فماذا قال في حقها من رآها بعينيه صلى الله عليه وسلم؟ يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي أخرجه أحمد والترمذي والبزار والطبراني وابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, قال أبو هريرة: (قلنا: يا رسول الله! حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لبنة من ذهب، ولبنة من فضة) فما هي المادة التي تمسك اللبنتين يا رسول الله؟ -أتدرون ما هي المادة التي وضعت ما بين اللبنتين؟ إنها من المسك- هذا هو حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لبنة من ذهب، ولبنة من فضة وملاطها -أي: مونتها- المسك، وحصباؤها -الحصى الذي هو موجود في الجنة- اللؤلؤ والياقوت, وترابها الزعفران, من دخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت, لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 صفة أهل الجنة في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام البخاري ومسلم وأحمد والترمذي وغيرهم من أصحاب السنن والمسانيد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر في ليلة البدر) إن أول زمرة من الموحدين، هكذا يقول لكم! قد تنزلت عليكم نفحات الجنة ورحماتها، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر في ليلة البدر، ثم الذين يلونهم -أي: الفرقة التي تأتي بعد هذه المجموعة الأولى- على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون) لا بول ولا غائط في الجنة, إذاً: أين يذهب الطعام والشراب؟ يخرج على الأجساد مسكاً؛ لأنه لا يحق إطلاقاً أن يكون عند الله في جنته بول أو براز (لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يمتخطون ولا يتفلون - لا مخاط ولا تفل في الجنة- أمشاطهم الذهب والفضة) المشط الذي تسرح به شعرك، كلها من الذهب والفضة (ورشحهم المسك، وأزواجهم من الحور العين، على صورة أبيهم آدم، ستون ذارعاً في السماء) والحديث في صحيح مسلم. وفي رواية الإمام البيهقي أنه قال: (جمالهم كجمال يوسف، وقلبهم كقلب أيوب) جمال أهل الجنة كجمال يوسف، وقلوب أهل الجنة على قلب أيوب الصابر الذي صبر على بلاء وقضاء الله، وعلى قدره جل وعلا. يقول الحبيب: (إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يمتخطون ولا يتفلون، أمشاطهم الذهب، رشحهم المسك، وأزواجهم من الحور العين، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء) وفي رواية للبيهقي: (على جمال يوسف وعلى قلب أيوب). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 صفة طعام أهل الجنة ولباسهم وترابهم وأرائكهم أما إن سألتم -أيها الأحباب- عن طعام أهل الجنة، وعن تراب أهل الجنة، وعن لباس أهل الجنة، وعن أرائك أهل الجنة، وعن أسرِّة أهل الجنة، فيأتينا جواب رب الجنة جل وعلا، يقول: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً * إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً * وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة:10 - 40] هذا عن طعامهم، وعن شرابهم، وعن آرائكهم وسررهم, وعن لباسهم: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر:33]. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 صفة أزواج أهل الجنة أما إن سألتموني عن أزواج أهل الجنة، فسوف يوافيكم الجواب من رب الجنة جل وعلا، يقول سبحانه: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:70 - 78] هذه زوجتك من الحور العين في الجنة. ولقد ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه الطبراني في الأوسط، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حدثني جبريل عليه السلام) استمعوا أيها الشباب, يا من تعانون من أزمات الزواج انتبهوا فقال: (يدخل الرجل) من أهل التوحيد, أو من أهل الطاعات, أو من أهل الإيمان (على الحوراء في الجنة) الحوراء من الحور العين (فتستقبله بالمعانقة والمصافحة، فبأي بنان تعاطيه؟ لو أن بعض بنانها بدا -أي: ظهر- لغلب ضوؤه ضوء الشمس والقمر, ولو أن تاقة من شعرها -أي: خصلة من شعرها- بدت -أي ظهرت- لملأت ما بين المشرق والمغرب من طيب ريحها، وبينما هو متكئ معها على أريكته) {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين:23] , بينما أنت يا ولي الله، يا من وحدت الله جل وعلا متكئ مع حوريتك على أريكتك (إذ أشرف عليه نور من أعلى، فيظن أن الله قد أشرق على الناس بنوره جل وعلا, فينظر فيرى صوت المنادي عليه) وهو متكئ معها على أريكته، يسمع صوتاً فينظر فيرى النور، وينبثق من مصدر هذا النور صوت رقيق عذب، إنه صوت حورية أخرى من حور الجنة، تقول له: (يا ولي الله! أما لنا فيك من دولة؟) نحن في شوق إليك, نحن في انتظارك يا ولي الله (فيقول لها: من أنت يا هذه؟ فترد عليه الحوراء وتقول: أنا من اللواتي قال الله فيهن: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] فيترك الأولى ويذهب إلى الحورية الثانية فيراها أجمل وأحسن, يرى عندها من الحسن والجمال والكمال ما لم يره عند الأولى، وبينما هو متكئ مع الثانية على أريكته فإذ به يرى نوراً وصوتاً يقول له: يا ولي الله! أما لنا فيك من دولة؟ فيقول لها: من أنت يا هذه؟ فتقول له: أنا من اللواتي قال الله فيهن: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]) فيظل الموحد لله جل وعلا، الذي فاز بالجنة عند الله عز وجل ينتقل من زوجة إلى زوجة. أما زوجتك المؤمنة في الدنيا المنتقبة الطاهرة العفيفة في الدنيا أما المتوضئات أما الطاهرات أما الحافظات لفروجهن أما الصوامات لشهرهن أما القائمات ليلهن أما الحافظات لأزواجهن استمعوا واعلموا أن الزوجة المؤمنة من نساء الدنيا يكون جمالها في الجنة يفوق جمال الحور سبعين ضعفاً, أنتم سمعتم وصف الحور فأي حال ستكون عليه زوجتي إن كانت من أهل الجنة؟ أي حال ستكون عليه زوجتك إن كانت من أهل الجنة؟ يفوق جمالها جمال الحور العين سبعين ضعفاً، لماذا؟ لأنها هي التي صامت وقامت، وهي التي كابدت أتعاب الدنيا، وهي التي حاربت الشهوات، وهي التي صبرت معك على الأذى والبلاء، فحق على الله أن يكافئها: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:35] إنشاء جديد وآخر، إذا ماتت زوجتك المؤمنة وهي عجوز شمطاء كبيرة والتقيت بها في الجنة وجدتها في سن الشباب، وجدتها جميلة وحسناء: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:35] إنشاء آخر ومن جديد. {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} [الواقعة:36] إذا جامعتها ألف مرة وجدتها بكراً في كل مرة. {عُرُباً أَتْرَاباً} [الواقعة:37] عرباً: جمع عروب، والعروب: هي المرأة التي تتفنن في كلمات الحب والعشق والغرام لزوجها, هذه هي المرأة من نساء أهل الدنيا إن كانت من أهل الجنة, فالذي حرم من هذا الكلام في الدنيا يسمعه عند الله جل وعلا في الجنة من زوجته إن كانت من الصابرات من أهل الجنات عند رب الأرض والسماوات جل وعلا: {عُرُباً أَتْرَاباً} [الواقعة:37] في سن واحدة: {لأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنْ الآخِرِينَ} [الواقعة:38 - 40]. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 غناء أزواج أهل الجنة ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه الطبراني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن الحوريات يستقبلن أزواجهن في الجنة يغنين لهم بأحلى الكلمات، وبأعذب الأصوات، وبأرقى وأنقى العبارات, يستقبلن نساء الدنيا في الجنة أزواجهن في الجنة يغنين لهم, ومما قاله صلى الله عليه وسلم من غناء نساء أهل الجنة لأزواجهن يقلن لهم: (نحن الخالدات فلا نمتنه, نحن الآمنات فلا نخفنه, نحن المقيمات فلا نظعنه, نحن الخيرات الحسان, أزواج قوم كرام, ننظر بقرة أعيان, طوبى لمن كنا له وكان لنا) هل وجدتم أحسن من هذا؟ هل وجدتم أعذب وأغلى من هذه الكلمات؟ (نحن الخالدات فلا نمتنه, ونحن الآمنات فلا نخفنه, ونحن المقيمات فلا نظعنه) لا نهجر ولا نترك: (نحن الخيرات الحسان, أزواج قوم كرام, ننظر بقرة أعيان, فطوبى لمن كنا له وكان لنا) وصدق الله عز وجل إذ يقول: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:22 - 28] {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] و {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] ولمثل هذا فليتسابق المتسابقون, والموضوع في الجنة طويل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 أدنى أهل الجنة منزلة وآخر من يدخلها لقد بقي لنا أن نعرف: من هو أقل الناس منزلة في الجنة؟ ومن هو آخر الناس سيدخل الجنة؟ في صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سأل موسى بن عمران عليه السلام ربه جل وعلا وقال: يا رب! ما أدنى -أي: من أقل- أهل الجنة منزلة؟ فقال له رب العزة جل وعلا: أدنى الناس منزلة في الجنة يا موسى رجل يأتي بعدما يدخل أهل الجنة الجنة, فيقال له: ادخل الجنة, فيقول العبد لربه: يا رب! كيف أدخل الجنة وقد أخذ الناس أماكنهم وأخذاتهم, لقد وجدتها ملأى, فيقول الله عز وجل له: أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت يا رب, فيقول الله عز وجل له: لك ذلك وعشرة أمثال ذلك معك, ولك ما اشتهت نفسك، ولذت عينك, يقول موسى: يا رب! فهذا أدنى أهل الجنة منزلة، فكيف يكون حال أعلاهم منزلة؟ فقال الله جل وعلا: يا موسى! أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر) هذا هو أدنى أهل الجنة منزلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 آخر الناس دخولاً الجنة أما حال آخر الناس دخولاً الجنة؟ فقد جاء في صحيح مسلم أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إن آخر رجل يدخل الجنة رجل يمشي على الصراط مرة ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة, حتى إذا ما جاوز الصراط) {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] (نظر إلى خلفه -أي: إلى للنار- وقال لها: تبارك الذي نجاني منك, الحمد لله الذي أعطاني ما لم يعط أحداً من الأولين والآخرين من خلقه) وهو الذي قد زحزح عن النار وغيره من السابقين الأولين قد سبقوه؛ لأن من أمة الحبيب صلى الله عليه وسلم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب: (وهنا يمكث فترة فيرفع الله له شجرة غرسها الله بيديه, وهنا يقول العبد: أدنني منها -قربني من هذه الشجرة- أستظل بظلها وأشرب من مائها؟ فيقول الله جل وعلا: عبدي فهلاّ إن أعطيتكها -أي: إن أعطيتك وقربتك إلى هذه الشجرة- هل ستسألني شيئاً غير ذلك؟ يقول: لا يا رب لا أسألك غير ذلك أبداً, لقد نجيتني من النار، وسوف تقربني إلى هذه الشجرة أستظل بظلها، وأشرب من مائها، لا أسألك شيئاً بعد ذاك، يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه, فيقربه الله من الشجرة, فيستظل العبد بظلها، ويشرب من مائها, بعد فترة يرفع الله له شجرة هي أحسن من الأولى، فيقول العبد بعد فترة: يا رب! فيقول الله جل وعلا: ماذا تريد يا عبدي؟ فيقول: يا رب أدنني من هذه الشجرة, أستظل بظلها وأشرب من مائها؟ فيقول الله جل وعلا: عبدي ألم تعط العهود والمواثيق ألا تسأل غير الذي سألت؟ فيقول: وعزتك لا أسألك غير هذا، قربني من هذه ولن أسأل بعد ذلك, فيقربه الله عز وجل؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه, فيمكث العبد تحت هذه الشجرة الثانية، وبعد فترة يرفع الله له شجرة على باب الجنة, فينظر إليها ويقول: يا رب! أدنني من هذه الشجرة أستظل بظلها وأشرب من مائها؟ فيقول الله جل وعلا: عبدي ألم تعط العهود والمواثيق ألا تسأل غير الذي سألت؟ فيقول: وعزتك لا أسأل غير هذا, فيقربه الله عز وجل؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه, فإذا ما جاء العبد تحت هذه الشجرة التي هي على باب الجنة, استمع إلى أصوات أهل الجنة قال: يا رب! أدخلني الجنة -أتدرون ماذا يقول له رب العزة؟ - يقول له رب العزة جل وعلا: عبدي ما الذي يرضيك مني؟ أترضى أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ فينظر العبد إلى الرب جل وعلا ويقول: أتهزأ بي وأنت رب العالمين؟ فيضحك عبد الله بن مسعود ويقول للصحابة: لماذا لا تسألوني عن سبب الضحك؟! فيقولون له: مم تضحك؟ فيقول ابن مسعود: أضحك لضحك رسول الله, حدث النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث فضحك فسأله الصحابة: مم تضحك يا رسول الله؟ قال: أضحك لضحك رب العزة) لأن العبد حينما يقول لربنا: أتهزأ بي وأنت رب العالمين؟! يضحك الله من عبده ويقول: (إني لا أستهزئ بك ولكني على ما أشاء قادر) هذا هو آخر رجل سيدخل الجنة عند ربنا جل وعلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 رؤية الله في الجنة أيها الأحباب الكرام اعلموا علم اليقين أن نعيم الجنة الحقيقي ليس في لبنها، ولا في ثمرها، ولا في حريرها، ولا في عسلها، ولا في بنائها، ولا في قصورها، ولا في حورها، ولكن نعيم الجنة الحقيقي في رؤية وجه ربها: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة:22 - 25] {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] والحسنى: هي الجنة، والزيادة: هي التمتع بالنظر إلى وجه رب الجنة جل وعلا, هذه هي غاية المنى، وهذا هو غاية المراد، أن نتمتع بالنظر إلى وجه رب الأرباب جل وعلا, إلى النظر إلى وجه الكريم التواب عز وجل, والحديث رواه أكثر من عشرين صحابياً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين والسنن والمسانيد. وهذه رواية الإمام مسلم عن صهيب الرومي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة ينادي عليهم رب العزة جل وعلا ويقول: يا أهل الجنة! هل أزيدكم شيئاً؟ فيقول أهل الجنة: يا رب! وأي شيء تزيدنا؟ ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة؟ ألم تنجنا من النار؟ فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أعظم من النظر إلى وجه الكريم التواب) وفي حديث آخر أخرجه الإمام البخاري وأخرجه الإمام مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ما دخل أهل الجنة الجنة نادى عليهم رب العزة جل وعلا وقال: يا أهل الجنة! يا أهل الجنة! فيقول أهل الجنة: لبيك ربنا وسعديك، والخير كله في يديك, فيقول لهم ربنا: يا أهل الجنة! إني قد رضيت عنكم فهل رضيتم عني؟ فيقولون: سبحانك ربنا وما لنا لا نرضى وقد أدخلتنا الجنة, وبيضت وجوهنا، ونجيتنا من النار؟ فيقول الله جل وعلا: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقول أهل الجنة: وأي شيء أفضل من ذلك يا ربنا؟ فيقول الله جل وعلا: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً) هذا هو النعيم الأبدي, وهذه هي غاية المنى والمراد. فيا أيها الأحباب إن أعلى نعيم الجنة هو أن نتمتع بالنظر إلى وجه الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه سيكلمنا ليس بيننا وبينه ترجمان، والحديث في صحيح البخاري: عن عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر العبد أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم, وينظر العبد أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم, وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه, فاتقوا النار ولو بشق تمرة). هذه هي الجنة، والحديث عن الجنة طويل, وهذا كل ما سمعتموه إنما هي قطرة من محيط, وإنما هو قليل من كثير, لماذا؟ لأن في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر, وهذا كله ما هو إلا تقريب للمعاني وتقريب للكلمات، ويعجبني الكلام الذي قاله أحد العلماء، حينما استقبل في قصر من قصور الضيافة في أمريكا، وانبهر الناس من حول هذا العالم بهذا البناء والإعداد, نظروا إلى أعلى وإلى أسفل وانبهروا بهذا الإعداد, فقال لهم هذا العالم: هذا إعداد البشر للبشر، فما بالكم بإعداد رب البشر, ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 نداء لمن يطلبون الجنة الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من سار على دربه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام هذا قليل من كثير عن الجنة؛ لأنه لا يعلم حقيقة الجنة إلا ربها, وإلا من رآها بعينيه صلى الله عليه وسلم, ألا هل من مشمّر للجنة! من منكم من سيشمر عن ساعديه ليفوز بهذه العروس الغالية؟ (ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة). يا من تطلبون الجنة بغير عمل! يا من تطلبون الجنة بغير صلاة! يا من تطلبون الجنة بغير قيام الليل! يا من تطلبون الجنة بمعاصي الله جل وعلا! يا من تطلبون الجنة بالذنوب والشبهات والشهوات! أين أنتم من الطاعات؟ أين أنتم من قيام الليل لرب الأرض والسماوات؟ أين أنتم من قراءة القرآن؟ أين أنتم من عمارة بيوت الله عز وجل؟ أين أنتم مما يقربكم إلى الجنة؟ يا من تتشدقون بالكلمات وتزعمون أنه إن لم يدخلنا ربنا الجنة فمن يدخلها؟ اعتبروا واعلموا أنه ما أقل حياء من طمع في جنة الله ولم يعمل بطاعة الله، ولا بشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم, إن طالب الجنة لا ينام, وصدق علي بن أبي طالب رضي الله عنه حينما قال: واعمل لدار غد رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها أنهارها لبن مصفى ومن عسل والخمر يجري رحيقاً في مجاريها والطير تجري على الأغصان عاكفة تسبح الله دهراً في مغانيها من يشتري الدار في الفردوس يعمرها بركعة في ظلام الليل يخفيها فيا من تطلبون من الله الجنة! ويا من تسألون الله الجنة! اعلموا بأن الإيمان ليس بالتمني، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل, فلن تفوز بالجنة إلا إذا عملت بعمل أهل الجنة. وهكذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: [لو أن منادياً يوم القيامة نادى وقال: كل الناس يدخلون الجنة إلا واحداً لظننت أنه عمر] فاعلموا أن الإيمان قول وعمل, قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجواح والأركان؛ لأن مصيبة المصائب أننا في أيامنا هذه لا نجيد إلا الدمع والاستماع، لا نتقن العمل، والكسل عندنا أحلى من العسل, لا نبالي أن نذهب إلى الملاعب قبل وقت المباريات بساعات، وإذا ما نودي علينا للصلاة لم نؤد الصلاة ولم نلتفت إلى الأذان، أذن من طين وأذن من عجين. أمضينا الوقت وأفنينا العمر أمام المسلسلات والمباريات والأفلام، وهاهو رمضان قد أقبل علينا، وإعلامنا يدبر ويخطط كيف يشغل الموحدين عن ربهم؟! كيف يبعد الموحدين عن جنة ربهم جل وعلا؟! أحذر نفسي وإياكم من هذا الإعلام الذي يشغل الموحدين عن رب العالمين جل وعلا, يا من أفنيتم الأعمار أمام التلفاز! يا من أفنيتم الأعمار أمام المسلسلات! يا من أفنيتم الأعمار أمام المباريات! يا من أفنيتم الأوقات أمام سماع المغنين والمغنيات الأحياء منهم والأموات! انتبهوا واعلموا أن طالب الجنة لا ينام, فمن طلب الجنة ولم يعمل فهو منافق، وهو مخادع، وهو كاذب فاجر على نفسه ومخادع لنفسه؛ لأن طالب الجنة لا ينبغي له أن ينام؛ لأن طالب الجنة ينبغي له أن يعمل ويستعد. وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم إلى ما فيه صالح العمل, وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا صالح الأعمال. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، واستر لنا عيوبنا، وآمن لنا روعاتنا. اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل, اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل. اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل, اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع المبارك ذنباً إلا غفرته, ولا مريضاً إلا شفيته, ولا ديناً إلا أديته, ولا هماً إلا فرجته, ولا ميتاً إلا رحمته, ولا عاصياً إلا هديته, ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل اللهم فينا ولا منا ولا بيننا شقياً ولا محروماً, اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض, اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى. اللهم اجعل بلدنا مصر بلد الأمن والأمان, اللهم اجعل بلدنا مصر بلد الأمن والأمان, اللهم اجعل بلدنا مصر بلد الأمن والأمان, اللهم ارفع عنا كل الفتن يا رب العالمين! اللهم ارفع عنا الغلاء يا أكرم الأكرمين! اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا يا أرحم الأرحمين! ووفق ولاة أمور هذا البلد الطيب للعمل بكتابك، والاقتداء بشرع نبيك صلى الله عليه وسلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم, سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 يوم الحشر تتفاوت أحوال الناس في أرض المحشر حسب أعمالهم؛ فيحشر المتقون إلى الرحمن وفوداً وجماعات على نجائب من نور، يعلوهم الفرح والسرور، ويساق المجرمون إلى النار سوقاً وبعد طول القيام في أرض المحشر، ومقاساة الشدة والعذاب يأذن الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالشفاعة العظمى، ثم تشفع الملائكة، ثم يشفع الأنبياء والمؤمنون والصديقون والشهداء من هذه الأمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1 أحوال الناس في أرض المحشر الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وما كان معه من إله، لا إله إلا هو فلا خالق غيره، ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة؛ ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]. أحمدك يا رب! وأستعينك وأستغفرك وأستهديك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك جل ثناؤك، وعظم جاهك، ولا إله غيرك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ند له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السماوات والأرض، فلا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه وأمره. وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا ومعلمنا وقدوتنا وقرة أعيننا محمداً رسول الله، اللهم صل وسلم وبارك على رسول الله، صلاة وسلاماً يليقان بمقامك يا أمير الأنبياء! ويا سيد المرسلين! وأشهد لك يا سيدي! ويشهد معي الموحدون أنك قد أديت الأمانة، وبلغت الرسالة، ونصحت الأمة، وكشف الله بك الغمة، وعبدت ربك حتى لبيت داعيه، وجاهدت في سبيله حتى أجبت مناديه، وعشت طوال أيامك ولياليك تمشي على شوك الأسى، وتخطو على جمر الكد والعنت، تلتمس الطريق لهداية الضالين، وإرشاد الحائرين، حتى علمت الجاهل وقومت المعوج، وأمنت الخائف، وطمأنت القلق، ونشرت أضواء الحق والخير والإيمان والتوحيد، كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فصلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله! وجزاك الله عنا خير ما يجزي الله به نبياً عن أمته، ورسولاً عن رسالته. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! تعالوا بنا لنواصل مسيرتنا المباركة في شرحنا لآيات من كتاب ربنا جل وعلا، ومع اللقاء السابع والثلاثين، ما زلنا بفضل الله وحوله وطوله ومدده نطوف مع حضراتكم في بستان سورة مريم، وكنا قد انتهينا في اللقاء الماضي من تفسير قول الحق تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا * فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:83 - 84] أي: لا يضق صدرك يا رسول الله! بهؤلاء المشركين، وبهؤلاء الكافرين، إن كل شيء محسوب عليهم ومعدود، إنهم ممهلون إلى أجل معلوم، إنهم متروكون إلى وقت قريب: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ * إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:83 - 84] إن كل شيء من أعمالهم محسوب عليهم ومعدود، وويل لمن يعد الله عليه ذنوبه وأعماله وأخطاءه! الويل لمن عد الله عليه أعماله وأخطاءه وأنفاسه! إن الأنفاس معدودة، وإن الأعمال محسوبة، فإن من يحس بأن رئيسه في العمل -في هذه الأرض- يتتبع أعماله وأخطاءه يعيش في فزع وقلق وحسبان، فما بالكم بالواحد الديان الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 حشر المتقين إلى الرحمن وفدا ً واعلموا عباد الله أن الطريق الذي يوصل الناس إلى جنة رب العالمين إنما هو طريق واحد، قال الله جل وعلا: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257]. يقول الله عز وجل في وصف حال الناس في الحشر: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم:85 - 86] هكذا يحشر المتقون، وهكذا يساق المجرمون، وحق لنا -نحن الموحدين- أن نفخر في هذه اللحظات، وأن ننادي على هؤلاء ونقول لهم: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم:73] ألم يسخر المشركون من الموحدين في الدنيا؟! ألم يهزأ المجرمون من الموحدين في الدنيا؟! ألم يعير المجرمون الضعفاء والفقراء من المؤمنين؟! ألم يقولوا لهم في جزيرة العرب {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم:73]؟! ها نحن الآن وقد ذهب المال وضاع السلطان، ورحلت الدنيا، ولم يبق إلا العمل الصالح في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89] {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم:87]. وحق لنا -نحن الموحدين- أن نفخر، وأن نسعد، وأن نشكر الله جل وعلا، وأن ننادي على هؤلاء المجرمين ونقول لهم: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم:73]. قال الله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم:85] هكذا يحشر الله المتقين: وفداً، يركبون على نجائب من نور، وهي من مراكب الدار الآخرة، انظروا معي أيها الأحباب إلى هذا الوفد المهيب الجليل، إنه وفد الموحدين! إنه وفد المتقين! إنه وفد المؤمنين! إنه وفد عجيب! إنه وفد مهيب! إنه وفد جليل! إن وجوههم نور، وإنهم ليركبون على مراكب من نور، فإلى أين يتجه هذا الوفد المنير؟! إنه وفد قادم على العلي القدير، إنهم قادمون على الله العلي الأعلى جل وعلا، إنهم قادمون إلى خير موفود عليه، إلى دار كرامته ورضوانه، ولقد ورد في مسند الإمام أحمد وساق سنده إلى أن قال: حدثنا النعمان بن سعد قال: (كنا جلوساً عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقرأ علي هذه الآية: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم:85] فقال علي رضي الله عنه: لا والله ما على أرجلهم يحشرون؛ لأن الوفد لا يحشر إلا راكباً، يحشر الله المتقين، فيركبون على نوق من الجنة، لم ير الخلائق مثلها، عليها رحائل الذهب، فيركب المتقون عليها حتى يصلوا بها إلى أبواب الجنة) {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم:85]. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 سوق المجرمين إلى جنهم وردا ً أما المجرمون فإنهم يساقون إلى جهنم ورداً، يساقون إلى جهنم عطاشى، وانظروا معي إلى دقة اللفظين: (يحشر) و (يساق) إنه التكريم للمتقين، والتوبيخ والاستهزاء والسخرية بالمجرمين والمشركين والظالمين، هكذا يحشر المتقون، ويساق المجرمون كما تساق البهائم والدواب. {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا * لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ} [مريم:85 - 87]. فلا شفاعة لهم عند الله، ولا شفيع لهم عند الله جل وعلا؛ لأنه لا حق في الشفاعة إلا لأهل التوحيد، لا يملك الشفاعة إلا أهل التوحيد والإيمان، ولا يستحق الشفاعة إلا أهل التوحيد والإيمان: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم:87] أي: لكن من اتخذ عند الرحمن عهداً هم أهل الشفاعة، وهم الذين سينالون الشفاعة. {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم:87] والعهد هو: لا إله إلا الله، وهي كلمة التوحيد والإخلاص التي من أجلها خلق الله السماوات والأرض، ومن أجلها أنزل الله الكتب، ومن أجلها أرسل الله الرسل، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] كلمة التوحيد والإخلاص هذه هي العهد الباقي والمدخر لكل من قال: لا إله إلا الله، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون (إلا من أتى الله بقلب سليم). الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 الشفاعة يوم الحشر وأنتهز هذه الفرصة الطيبة، وهذا اللقاء المبارك؛ لنتحدث عن الشفاعة، فإنها من الموضوعات المحببة إلى قلب كل موحد لله جل وعلا. وإن بعض المسلمين قد يظن أن الشفاعة يوم القيامة لحبيبنا ورسولنا إنما هي شفاعة واحدة، وهذا غير صحيح. وانتبهوا معي أيها الأحباب! إلى موضوع الشفاعة، (لا يملكون الشفاعة) إذاً: من الذي يملكها؟ إذاً: من الذي يستحقها؟ اعلموا أنه لا يشفع مخلوق لمخلوق في أرض المحشر إلا بإذن الله. وإمام أهل المحشر وسيد الخلق على الإطلاق في الشفاعة هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إي والله! لقد كرم الله نبينا صلى الله عليه وسلم تكريماً ما كرم الله به مخلوقاً على ظهر هذه الأرض، من يوم أن خلقها الله إلى يوم أن يرث الله الأرض ومن عليها، كرم الله نبينا في الدنيا والآخرة، كرم الله نبينا في الدين والدنيا، كرم الله نبينا في الخَلق والخُلق، وزكاة تزكية كاملة في كل شيء: زكاه ربنا جل وعلا في عقله فقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2]. وزكاه في فؤاده فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]. وزكاه في بصره فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]. وزكاه في صدره فقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1]. وزكاه في معلمه فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5]. وزكاه في صدقه فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]. وزكاه كله تزكية كاملة فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]. ونادى ربنا جميع الأنبياء بأسمائهم مجردة، فقال جل وعلا: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35]، وقال تعالى: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ} [هود:48]، وقال تعالى: {يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:104 - 105]، وقال تعالى: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ} [مريم:7]، وقال تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12]، وقال تعالى: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30]، وقال تعالى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55]، ونادى حبيبنا فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب:45]، وقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:41]، وقال: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:1 - 4]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:1 - 7]. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 الشفاعة العظمى في فصل القضاء هكذا كرم الله نبينا صلى الله عليه وسلم تكريماً ما كرم الله به مخلوقاً على ظهر هذه الأرض من يوم أن خلقها الله جل وعلا إلى يوم أن يرثها ومن عليها، بل لقد قرن الله جل وعلا اسم النبي مع اسم العلي، فلا يذكر اسم الله إلا ويذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عن حسان بن ثابت حيث قال: أغر عليه بالنبوة خاتم من الله من نور يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد أيها الأحباب! هذا هو المقام المحمود الذي أعطاه الله نبينا صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79] وهذا هو المقام المحمود عند جمهور العلم، والمقام المحمود: هو الشفاعة العظمى لنبينا صلى الله عليه وسلم، واعلموا أن لرسولنا صلى الله عليه وسلم أكثر من شفاعة، وسوف أذكركم اليوم بهذه الشفاعات، ولن أخرج عن صحيحي البخاري ومسلم. الشفاعة الأولى: وهي الشفاعة العامة العظمى لنبينا صلى الله عليه وسلم، جاء في صحيح البخاري ومسلم ومسند الإمام أحمد، وسنن الإمام الترمذي وسنن الإمام النسائي، وسنن الإمام ابن ماجة، وصحيح ابن حبان، ومستدرك الحاكم وغيرهم، والحديث رواه جمع كبير من صحابة البشير النذير صلى الله عليه وسلم، إلى أن وصل الحديث إلى حد التواتر كما قال العلماء، والحديث من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (وضع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قصعة من ثريد ولحم، فرفعت إلى رسول الله ذراع الشاة وكانت تعجبه، فنهس النبي منها نهسة -والنهس بالسين أي: الأخذ بالأسنان، وهو غير النهش بالشين، وهو: الأخذ بالأضراس- ثم نظر إلى الصحابة وقال لهم: أنا سيد الأولين والآخرين يوم القيامة، ثم التفت إليهم وقال لهم: أتدرون لم ذاك؟ -أي: أتعلمون لماذا أنا سيد الأولين والآخرين يوم القيامة؟ - فسكت الصحابة فقال لهم صلى الله عليه وسلم: يجمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة في صعيد واحد، فينفذهم البصر، ويسمعهم الداع) أي: أن الأرض التي يحشر الناس عليها أرض ملساء لا شجر فيها ولا حجر فيها، حتى لا يظن مخلوق أنه سيختبئ على الله عز وجل، ولماذا ينفذهم البصر؟ لأن البصر يومئذ حديد قال تعالى: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22] غير وبدل كل شيء، وهنا يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (فيبلغ الناس من الهم والغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون) إي والله! يوم أن ينادى عليك؛ لتعرض على وكيل نيابة أو على قاض من قضاة الدنيا، يوم أن يحضر إليك المحضر، ويقدم لك الخطاب لا تنام الليل، ولا تذوق الطعام، ولا تذوق الشراب، فما بالكم بالعرض على محكمة ربنا جل وعلا؟! (يبلغ الناس من الهم والغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس بعضهم لبعض: ألا ترون ما قد بلغنا؟! ألا ترون ما نزل بنا؟! ألا ترون من يشفع لنا إلى ربنا؟! فيقول بعض الناس: أبوكم آدم، فتذهب الخلائق إلى آدم ويقولون له: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، وأمر الملائكة فسجدت لك، وأسكنك الجنة، ألا ترى ما قد بلغنا؟! ألا ترى ما وقع بنا؟! ألا تشفع لنا إلى ربك؟! فيقول آدم عليه السلام: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولقد نهاني ربي عن الأكل من الشجرة فعصيته، نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري -آدم يقول: اذهبوا إلى غيري! - فيذهب الناس إلى نوح عليه السلام، ويقولون: يا نوح! إنك أول رسل الله إلى الأرض، وأنت الذي سماك الله عبداً شكوراً، ألا ترى ما وقع بنا؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! ألا تشفع لنا إلى ربك؟! فيقول نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة فتعجلت فدعوت بها على قومي في الدنيا، نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري. فيذهب الناس إلى خليل الرحمن فيقولون: يا إبراهيم! أنت خليل الله في الأرض، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول إبراهيم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وقد كذبت في الإسلام ثلاث كذبات). وقد حدثتكم عن كذبات إبراهيم يوم أن نظر إلى النجوم: {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] ويوم حطم الأصنام فقال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63] ويوم أن قال لزوجه سارة: قولي لهذا الطاغوت إذا ما دخلت عليه: أنا أخوك وأنت أختي (اذهبوا إلي غيري، نفسي نفسي! فيذهب الناس إلى موسى، ويقولون: يا موسى! لقد اصطفاك الله بكلامه ورسالاته، ألا ترى ما وقع بنا؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! اشفع لنا إلى ربك، فيقول موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فتذهب الخلائق إلى عيسى فيقولون: يا روح الله! إن الله قد اصطفاك، إنك كلمة الله وروحه، ألا ترى ما قد بلغنا؟! ألا ترى ما وقع بنا؟! اشفع لنا إلى ربك، فيقول عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب مثله قبله ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر عيسى عليه الصلاة والسلام ذنباً من الذنوب، ويقول لهم: نفسي نفسي! اذهبوا إلى محمد بن عبد الله، إنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فتأتي الخلائق إلى حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، يقول الحبيب: فيقولون لي: يا رسول الله! إنك قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وأنت خاتم الأنبياء والمرسلين، ألا ترى ما وقع بنا؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! ألا تشفع لنا إلى ربك؟! فيقوم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فينطلق إلى عرش الرحمن، وإذا ما رأى الحبيب ربه جل وعلا سجد له، فيسجد ما شاء الله أن يسجد، ثم ينادي عليه العلي الأعلى ويقول له: يا محمد! ارفع رأسك وسل تعطه، وقل يسمع، واشفع تشفع، يقول صلى الله عليه وسلم: فيلهمني الله جل وعلا بمحامد وثناء لم يلهم الله بها أحداً من قبلي، فأحمد الله بمحامد علمنيها، ثم أشفع وأقول: يا رب! لقد وعدتني الشفاعة؛ فشفعني في الخلق لتقضي بينهم، فيرد عليه العلي الأعلى ويقول: نعم، آتيكم يا محمد؛ لأقضي بينكم). هذه هي الشفاعة العامة، وهذه هي الرحمة المطلقة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فيرجع الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ ليقف مع الناس في أرض المحشر حتى يجيء الحق جل وعلا مجيئاً يليق بجلاله، فينادي على عباده ويقول: يا عبادي! لقد أنصت إليكم كثيراً في الدنيا، فأنصتوا اليوم إلي. هذه هي الشفاعة الأولى لنبينا صلى الله عليه وسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 الشفاعة في استفتاح باب الجنة أما الشفاعة الثانية: فهي شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في استفتاح باب الجنة، والحديث في صحيح البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أول الناس شفاعة في الجنة يوم القيامة) أي: أنا أول من يشفع عند الله في أن يفتح الله باب الجنة يوم القيامة، ولقد ورد في صحيح البخاري ومسلم أيضاً من حديث أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته في الدنيا، إلا أنا فإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، وإنها نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً). وقد ورد في صحيح البخاري ومسلم أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول المؤمنون: من يشفع لنا عند ربنا؛ ليفتح الله لنا باب الجنة؟ -هذا قول المؤمنين- فيذهب المؤمنون إلى آدم، ويقولون له: يا أبانا! اشفع لنا عند ربك، فاستفتح لنا باب الجنة، فيقول آدم: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم؟! لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى غيري، فيذهب الناس إلى نوح، فيقول: لست بصاحب ذلك، ثم إلى إبراهيم، فيقول: لست بصاحب ذلك، ثم إلى موسى، فيقول: لست بصاحب ذلك، ثم إلى عيسى، فيقول لست بصاحب ذلك، ثم إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم، فيقوم الحبيب إلى باب الجنة فيستأذن فيقول له خازن الجنة: من؟ فيقول: محمد بن عبد الله) وهذا أكبر دليل على أنه لا يعلم الغيب إلا الله، {لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32] (فيستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فيقول خازن الجنة: من؟ فيقول: محمد بن عبد الله، ويرد خازن الجنة ويقول: أمرت ألا أفتح الجنة لأحد قبلك يا رسول الله). أول من يحرك حلق باب الجنة هو الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم، ولقد ورد في الحديث الصحيح الذي خرجه الإمام الترمذي، وعلق عليه صاحب (معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في علم التوحيد) وقال: إن هذا الحديث معناه صحيح وثابت في الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة، والحديث مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (جلس بعض الصحابة رضي الله عنهم يتذاكرون في تفاضل الأنبياء، فقال أحدهم: هل هناك بأعجب من أن يتخذ الله من خلقه خليلاً؟! فقال آخر: لقد اصطفى الله آدم على البشرية، فقال آخر: لقد كلم الله موسى تكليماً، فقال آخر: عيسى روح الله وكلمته، فخرج عليهم رسول الله صلى عليه وسلم وقال لهم: لقد استمعت إلى كلامكم وعجبكم، ألا إن إبراهيم خليل الرحمن وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله على البشرية وهو كذلك، وموسى كليم الله وهو كذلك، وعيسى روح الله وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر -إنه التواضع-، وأنا أول شافع ومشفع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق باب الجنة فيدخلنيها ربي ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر) هذه هي الشفاعة الثانية، شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أن يفتح الله جل وعلا للمؤمنين باب الجنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 الشفاعة في إخراج عصاة الموحدين من النار أما الشفاعة الثالثة فهي شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في عصاة الموحدين الذين دخلوا النار، وهذه الشفاعة أنكرها الخوارج والمعتزلة وقالوا: لا شفاعة في الموحدين الذين دخلوا النار، بل إنهم مخلدون، ونسوا قول الله جل وعلا: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36] لا والله، لا يساوي الله بين المؤمن والمشرك على الإطلاق، وبين الكافر والموحد على الإطلاق. إذاً: الشفاعة الثالثة هي: شفاعة الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم في عصاة الموحدين الذين دخلوا النار، وقالوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، صلوا كما صلينا، وزكوا كما زكينا، وحجوا كما حججنا، وتصدقوا كما تصدقنا، ولكنهم أصروا على كبيرة من الكبائر وعلى معصية من المعاصي، وهم يعلمون أن الله شدد فيها العقوبة، ولكنهم أصروا على هذه المعصية؛ فأدخلهم الله النار بمعصيتهم، ولكن لهم شفاعة عند نبيهم وحبيبهم صلى الله عليه وسلم، والحديث في صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما وغيرهما، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أذهب إلى ربي فأنطلق فأسجد تحت العرش -هذا جزء من آخر الحديث- إذا ما نظرت إلى ربي جل وعلا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم ينادى علي ويقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، وقل يسمع، واشفع تشفع، فأحمد الله بمحامد علمنيها، فأشفع فيشفعني ربي عز وجل، فأذهب إلى عصاة الموحدين في النار، فيحد الله لي حداً -أي: عدداً محدداً ومعيناً- فأذهب إلى النار فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعود إلى ربي مرة ثانية، فأستأذن على ربي في دار كرامته، فيؤذن لي، فأسجد لربي إذا ما نظرت إليه، فيدعني ما يشاء الله أن يدعني، ثم يقال: ارفع رأسك، وسل تعطه، وقل يسمع، واشفع تشفع، فيحد الله لي حداً، فأذهب فأُخرج من النار من عصاة الموحدين ما شاء الله جل وعلا، ثم أعود مرة ثالثة فأستأذن على ربي في دار كرامته، فيؤذن لي، فإذا ما نظرت إلى ربي وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، وقل يسمع، واشفع تشفع، فيحد الله لي حداً، فأذهب فأُخرج من النار من عصاة الموحدين ما شاء الله جل وعلا، ثم أعود في المرة الرابعة، فأستأذن على ربي فيحد لي ربي حداً، فأُخرج من النار من عصاة الموحدين ما شاء الله جل وعلا). وهذه الشفاعة أنكرها الخوارج والمعتزلة، وآمن بها أهل السنة والجماعة، وهذه هي الشفاعة الثالثة لحبيبنا ومصطفانا صلى الله عليه وسلم. ويبقى بعد كل هذا الكرم، وبعد كل هذا الخير ثلاث شفاعات: الأولى: للملائكة، والثانية: لبقية الأنبياء، والثالثة: للمؤمنين، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 شفاعة الأنبياء والملائكة والموحدين من هذه الأمة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أيها الأحباب! إن لرسولنا صلى الله عليه وسلم شفاعة عامة، ثم شفاعة في استفتاح باب الجنة، ثم شفاعة في عصاة الموحدين من النار، وتبقى شفاعة الملائكة وسائر النبيين والمؤمنين الصادقين المخلصين. جاء في الحديث الذي رواه الإمام البخاري في باب: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79] وفي باب: بدء الخلق. وفي باب: الرقاق، ورواه جمع كبير من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: فتبقى شفاعة الملائكة وسائر النبيين والمؤمنين، فتذهب الملائكة فتخرج من النار من مات لا يشرك بالله شيئاً، ممن شاء الله جل وعلا لهم أن يخرجوا منها، وتبقى شفاعة النبيين، فيشفع النبيون لمن شاء الله عز وجل، وتبقى شفاعتكم أنتم أيها الموحدون! فإن من مات على التوحيد صادقاً مع الله خالصاً لله فإنه من أهل الشفاعة. وإن من أمة الحبيب من يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهم سبعون ألفاً، والحديث في صحيح مسلم، اللهم اجعلنا منهم يا كريم يا تواب! فيشفع المؤمنون عند ربهم جل وعلا لإخوانهم من المؤمنين الصادقين، يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (فتشتد مناشدة المؤمنين لربهم يناشدون الله مناشدة شديدة: يا ربنا! إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا فشفعنا فيهم)، اللهم لا تجعلنا جسراً يعبر الناس عليه إلى الجنة، ويلقى به في النار. تشتد مناشدة المؤمنين الصادقين لربهم، فيشفعهم الله في إخوانهم من المؤمنين، ويقول الله لهم: (اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه من النار، فيذهب المؤمنون إلى النار فيخرجون من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان، ويعودون إلى الله ويقولون: يا ربنا! شفعنا في إخواننا -المرة الثانية- فيقول الله جل وعلا لهم: اذهبوا فأخرجوا من النار من كان في قلبه نصف دينار من إيمان، فيذهبون فيخرجون من النار من عرفوهم بهذا، ويعودون إلى الله ويقولون: يا ربنا! شفعنا في إخواننا -للمرة الثالثة- فيقول الله جل وعلا لهم: اذهبوا فأخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فيذهبون، فيخرجون من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) هكذا شَفَّع اللهُ الرسولَ صلى الله عليه وسلم، وشَفَّع اللهُ الملائكة، وشَفَّع اللهُ النبيين، وشّفَّع اللهُ المؤمنين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 شفاعة الجبار سبحانه وتعالى فيقول الجبار جل وعلا -كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم - (شفع الأنبياء والملائكة وسائر النبيين، وبقيت شفاعتي -وهو الحليم الكريم- فيقبض الله جل وعلا قبضة من النار -ولا يعلم قدر عظم قبضة العزيز الجبار إلا هو سبحانه- فيقبض الحق تبارك وتعالى قبضة من النار -أي: من أهل النار- فيخرجون وهم كالفحم قد امتحشوا -أي: صاروا كالفحم- فيخرجون إلى نهر في الجنة يقال له: نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم توضع في رقابهم الخواتيم، يخرجون من هذا النهر كحبات اللؤلؤ فيدخلون الجنة بغير عمل عملوه، فيقول أهل الجنة: هؤلاء هم عتقاء الرحمن من النار). هذا هو موضوع الشفاعة أيها الأحباب! بإيجاز شديد، وإن فإن الأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً وقد بلغت حد التواتر. {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا * لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم:85 - 87] لا يملك الشفاعة إلا الله، ولا يأذن بها إلا لمن يشاء من عباده ويرضى، وأول من يشفع في الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يستحق الشفاعة إلا أهل التوحيد والإيمان، فأحق الناس بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم: من قال: لا إله إلا الله، وجاهد شيطانه ونفسه وهواه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 أهمية إخلاص العمل لله وحده وقد بيّن الحق سبحانه حال المتقين وحال المشركين أثناء العرض على رب العالمين، فقال جل وعلا: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا * لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم:85 - 87] فلا نجاة إلا بصدق التوحيد لله جل وعلا، ولا فوز إلا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن أناساً سيذهبون إليه يوم القيامة، فيتساقط لحم وجوههم حياءً من رسول الله؛ لأنهم زعموا المحبة وهم أهل بدع وأهل هوى! زعموا المحبة وعطلوا السنن! زعموا المحبة وحاربوا الشرع! زعموا المحبة وابتعدوا عن رسول الله! فكيف ستذهب إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ لتطلب من رسول الله الشفاعة وأنت بعيد عن منهجه؟! فيا من حاربت الله! ويا من أعلنت الحرب على شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم! وقلت: إن اللحية عفن، وإن النقاب رجعية وتخلف وعودة إلى الوراء! يا من استهزأتم بشرع الرسول صلى الله عليه وسلم! وقلتم: إن شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه إلا سفك الدماء وإقامة الحدود! اعلموا أن لحم وجوهكم سيتساقط يوم القيامة، من حيائكم وخجلكم إذا التقيتم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوحدوا الله حق التوحيد، واصدقوا مع محرر العبيد صلى الله عليه وسلم في اتباع سنته والتزام منهجه وطريقته. هذان هما الطريقان الموصلان إلى الله جل وعلا، وهما سبب قبول الأعمال: إخلاص لله، ومتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يقبل الله من العمل إلا ما كان خالصاً، إن الله أغنى الأغنياء عن الشرك، فجردوا توحيدكم لله، وجردوا أعمالكم لله، وجردوا عباداتكم لله، ولا تراقبوا إلا الله، ولا تخافوا إلا من الله، واعلموا أن الضار هو الله، وأن النافع هو الله، واعلموا علم اليقين أن من أراد الله له العزة فلن يستطيع أهل الأرض -وإن اجتمعوا- أن يذلوه. ومن أراد الله له الذلة فلن يستطيع أهل الأرض -وإن اجتمعوا- أن يعزوه. ومن أراد الله له الغنى فلن يستطيع أهل الأرض -وإن اجتمعوا- أن يفقروه. ومن أراد الله له الفقر فلن يستطيع أهل الأرض -وإن اجتمعوا- أن يغنوه. ومن أراد الله له الحب في قلوب الناس فلن يستطيع أهل الأرض -وإن اجتمعوا- أن يبعدوه. ومن أراد الله له البعد عن قلوب الناس فلن يستطيع أهل الأرض -وإن اجتمعوا- أن يقربوه. إن الضار هو الله، وإن النافع هو الله: (وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف). هذا هو تجريد التوحيد لله جل وعلا، وهذه هي النجاة، فقولوا: لا إله إلا الله بإخلاص، وقولوها بصدق ويقين، ونفذوا مقتضياتها، والتزموا بشروطها؛ لأن الإيمان: قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، فلنقل: لا إله إلا الله بألسنتنا، ونصدق بقلوبنا، وننفذ بجوارحنا وأركاننا، فليس الإيمان بالتمني، ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن قوماً ألهتهم أماني المغفرة، حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم! وقالوا: نحن نحسن الظن بالله، وكذبوا فلو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل. اللهم توفنا على التوحيد الصادق يا رب العالمين! اللهم اختم لنا بالتوحيد والإيمان، اللهم اختم لنا بالتوحيد والإيمان، اللهم اختم لنا بالتوحيد والإيمان، اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا شقياً ولا محروماً، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات يا رب العالمين! اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض، اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ارفع الغلاء عن شعبنا، اللهم ارفع الغلاء عن شعبنا، وارفع الضيق والهم والغم عن بلادنا، واقبلنا وتقبل منا يا ربنا! ووفق ولاة أمورنا للعمل بكتابك والاقتداء بشرع نبيك صلى الله عليه وسلم. وسبحانك اللهم بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 المسيح الدجال خروج المسيح الدجال من علامات الساعة الكبرى، وهو أولها، وفتنة تعد أعظم فتنة على وجه الأرض؛ فما من نبي إلا وحذر منها، فينبغي لكل مسلم أن يعلم صفة الدجال -لا سيما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد وصفه لنا وصفاً دقيقاً- ليحذره، وأن يعلم ما هي سبل النجاة من هذه الفتنة العظيمة، ومن هذا الخطر المستطير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1 أهمية الكلام على الدار الآخرة الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الأحبة الكرام! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله الكريم العظيم جل وعلا الذي جمعني وإياكم في هذا المسجد المبارك على طاعته، أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه وليّ ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! (في رحاب الدار الآخرة)، سلسلة علمية تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، تبدأ بالموت وتنتهي بالجنة، أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهلها. الهدف من هذه السلسلة تذكير الناس بحقيقة الدنيا، وإيقاظهم من غفلتهم ورقدتهم الطويلة، قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يَخِصِّمُون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون. فطوبى لعاقل فَطِنٍ سمع دروس هذه السلسلة فحاسب نفسه قبل أن يحاسب بين يدي ملك الملوك جل وعلا، طوبى لعاقل فطن سمع هذه السلسلة فعرف حقيقة دار الغرور واستعد ليوم البعث والنشور، لاسيما ونحن نعيش الآن زماناً، قد انصرف فيه كثير من الناس عن طاعة رب الأرض والسماوات، وانشغلوا بكثير من الماديات والشهوات والرغبات والنزوات، حتى ذهب الخوف من القلوب فتراكمت الذنوب على الذنوب. إذاً: فالحديث عن الدار الآخرة ليس من باب الترف الفكري، ولا من باب الثقافة الذهنية الباردة، التي لا تتعامل إلا مع الأذهان فحسب، كلا! بل إن حديثنا عن الدار الآخرة، ينبع من إيماننا باليوم الآخر، الذي هو ركن من أركان الإيمان بالله جل وعلا، كما في حديث جبريل الذي رواه مسلم وغيره، حينما سأل المصطفى عن أركان الإيمان، فقال الحبيب المحبوب: (الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره). فلا يمكن لمؤمن على الإطلاق أن يؤمن باليوم الآخر إلا إذا عرف أحواله وأهواله، ووقف على هذا العلم الذي لا يمكن أن يتلقاه إلا من خلال دراسته لكتاب الله وسنة حبيبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا استقرت حقيقة الإيمان باليوم الآخر في قلب عبد تقي مؤمن نقي، دفعه هذا العلم بهذا اليوم إلى الاستقامة على منهج الله، وإلى السير على طريق رسول الله، وهذه هي الغاية المرضية لله ولحبيبنا رسول الله، أسأل الله أن يجعلني وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وهذا هو درسنا الرابع من دروس هذه السلسلة العلمية الهامة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 خروج الدجال أول علامة من علامات الساعة الكبرى وكنا قد أنهينا الحديث في اللقاء الماضي عن العلامات الصغرى التي ستقع بين يدي الساعة، وحديثنا من اليوم إن شاء الله تعالى عن العلامات الكبرى التي ستقع قبل قيام الساعة مباشرة، وقد ذكر النبي هذه العلامات في حديثه الصحيح الذي رواه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال حذيفة: اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر، فقال المصطفى: ما تذاكرون؟ فقالوا: نذكر الساعة يا رسول الله! فقال المصطفى: (إن الساعة لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات، وهي: الدخان، والدجال، والدابة، ونزول عيسى بن مريم، وطلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم). ولقد ذكر المصطفى صلى الله عليه وسلم هذه العلامات بغير هذا الترتيب في روايات أخرى صحيحة، والذي يترجح من الأخبار كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: أن خروج الدجال هو أول الآيات العظام التي تؤذن بتغير الأحوال على وجه الأرض، وتنتهي هذه المرحلة بموت عيسى بن مريم، وأن طلوع الشمس من مغربها هو أول الآيات التي تؤذن بتغير أحوال العالم العلوي، وينتهي ذلك بقيام الساعة، ولعل خروج الدابة يكون في نفس اليوم الذي تطلع فيه الشمس من مغربها، والله أعلم. ولكن على أيّ حال فإن العلامات الكبرى ستقع متتابعة، فهي كحبات العقد إذا انفرطت منه حبة تتابعت بقية الحبات. وليس هذا من عندي، بل هذا كلام الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، ففي الحديث الذي رواه أحمد والحاكم في مستدركه وصححه على شرط مسلم وأقره الحافظ الذهبي والألباني من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأمارات -أي: العلامات- الكبرى خرزات منظومات في سلك، فإن يقطع السلك يتبع بعضها بعضاً). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 صفة الدجال وعظم فتنته واسمحوا لي أن أستهل الحديث اليوم -مع حضراتكم- في العلامات الكبرى، وعن الآية العظيمة الأولى التي تؤذن بتغير الأحوال على وجه الأرض، ألا وهي المسيح الدجال، وسوف أخصص اليوم اللقاء كله لفتنة المسيح الدجال، وقد أؤجل الحديث عن بعض العلامات في الجمع المقبلة بحسب تقدير الله جل وعلا، وكعادتنا حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعاً، فسوف أركز الحديث عن فتنة المسيح الدجال في العناصر المحددة التالية: أولاً: الدجال أعظم فتنة على وجه الأرض. ثانياً: وصف دقيق للدجال وفتنته. ثالثاً: ما السبيل إلى النجاة؟ فأعرني قلبك جيداً وأعرني سمعك تماماً، والله أسأل أن يحفظني وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 الدجال أعظم فتنة منذ خلق الله آدم أولاً: الدجال أعظم فتنة على وجه الأرض، ربما -لأول مرة- يسمع كثير منكم هذا الموضوع وأنا واحد من هذا الكثير، فإني ما وقفت على فتنة الدجال إلا في الأسبوعين الماضيين، وأنا أتقلب وأتجول بين بطون الكتب والمراجع والمجلدات، أقول لكم: والله ما عرفت خطر فتنة الدجال إلا من أسبوعين فقط، فتدبر معي -أيها الحبيب- وقف على خطر هذه الفتنة!، فالدجال أعظم فتنة على وجه الأرض من يوم أن خلق الله آدم إلى قيام الساعة. لماذا سمي الدجال بالمسيح الدجال؟ سمي بالمسيح؛ لأن عينه ممسوحة، قال المصطفى: (الدجال ممسوح العين) وسمي بالدجال؛ لأنه يغطي الحق بالكذب والباطل، وهذا دجل، فسمي بالدجال. فتنة الدجال فتنة عظيمة!! قال المصطفى -والحديث رواه مسلم من حديث عمران بن حصين: (ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال). وأنا اليوم لن أتكلم بكلمة من عند نفسي؛ لأن هذا غيب لا ينبغي أن نتكلم فيه إلا بكلام الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، فسأخرج من حديث لأنتقل إلى حديث آخر، ولن أحدثكم إلا حديثاً صحيحاً كعادتنا، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الصادقين. فأقول: روى ابن ماجة في سننه وابن خزيمة في صحيحه والحاكم في المستدرك، وصحح الحديث الشيخ الألباني من حديث أبي أمامة الباهلي، أن الحبيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إنها لم تكن فتنة على وجه الأرض منذ أن ذرأ الله ذرية آدم أعظم من فتنة المسيح الدجال، ولم يبعث الله نبياً إلا وقد أنذر قومه من الدجال، وأنا آخر الأنبياء، وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة، فإن يخرج الدجال -وأنا بين أظهركم- فأنا حجيج لكل مسلم، وإن يخرج الدجال من بعدي فكل امرئ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم). ويا لها والله من كرامة لأمة الحبيب المحبوب، قال: (وما من نبي إلا وقد أنذر قومه من الدجال، وأنا آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة، فإن يخرج -وأنا بين أظهركم- فأنا حجيج لكل مسلم)، أي: إن خرج الدجال والحبيب بيننا فلا نحزن، ولكن مات المصطفى ولم يخرج الدجال بعد، وهو خارج لا محالة. قال: (وإن يخرج بعدي فكل امرئ حجيج نفسه)، أي: سترد أنت عن نفسك بنفسك، فكل امرئ حجيج نفسه، قال: (والله خليفتي على كل مسلم) وهذه كرامة من الله أن يكون الله جل وعلا خليفة على كل مسلم في فتنة الدجال، بعد موت سيد الرجال محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله ومن والاه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 وصف النبي للدجال ففتنة الدجال عظيمة! أعظم فتنة على وجه الأرض بشهادة الصادق الذي لا ينطق عن الهوى. لذا وصف النبي الدجال وصفاً دقيقاً محكماً، وَبَين لنا فتنته بياناً شافياً؛ حتى لا يغتر بالدجال وفتنته أحد من الموحدين لله رب العالمين فتدبر معي وهذا هو عنصرنا الثاني. روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (قام رسول الله في الناس خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم ذكر الدجال فقال: إني لأنذركموه، وما من نبي إلا وقد أنذر قومه الدجال، ولقد أنذر نوح قومه الدجال، ولكن سأقول لكم في الدجال قولاً لم يقله نبي لقومه: ألا فاعلموا أنه أعور، وأن الله ليس بأعور)، وصف عجيب! وفى رواية (أعور العين اليمنى)، وفي رواية أخرى صحيحة (أعور العين اليسرى)، والروايتان في صحيح مسلم. (اعلموا أنه أعور، وأن الله ليس بأعور)، جل جلال الله، جل ربنا عن الشبيه وعن النظير وعن المثيل لا كفء له، ولا ضد له، ولا ند له، ولا مثل له، ولا زوج له، ولا ولد له: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، {فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. ثم قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: -والحديث رواه مسلم من حديث أنس -: (الدجال ممسوح العين، مكتوب بين عينيه: كافر، يقرؤه كل مسلم). ماذا تريد بعد ذلك من الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، الذي قال ربه في حقه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، فهو يصفه لك؛ لتعرفه إن خرج بين أظهرنا، فيقول لك: (الدجال ممسوح العين، مكتوب بين عينيه: كافر، يقرؤه كل مسلم). وفى رواية حذيفة في صحيح مسلم قال: (الدجال، مكتوب بين عينيه: كافر، يقرؤه كل مؤمن: كاتب وغير كاتب). سيحزن الآن والد من آباءنا الكرام ويقول: أنا لا أقرأ، فهل إذا خرج الدجال لا أستطيع أن أقرأ كلمة (كافر) بين عينيه؟ أقول لك: أبشر! المهم أن تحقق الإيمان بالله، فرسول الله قال: (مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن: كاتب وغير كاتب)، يعني إن كنت تقرأ أو إن كنت أميّاً لا تقرأ، فيومها سيوفقك الله بإيمانك أن تقرأ كلمة (كافر) بين عيني الدجال. والكتابة بين عينيه كتابة حقيقية ليست مجازية، لا ينبغي أن نصرف لفظ النبي أبداً، الكتابة على جبين الدجال كتابة حقيقية، لذا وردت رواية في صحيح مسلم أن النبي قرأ الكلمة بحروفها، قال: (ك، ف، ر) فتهجاها بحروفها. فالكتابة على جبينه بين عينيه كتابة حقيقية، وليست مجازية، قد جعلها الله من الأدلة القاطعة على كفره وكذبه، ومن رحمة الله أن لا يقرأ هذه الكلمة إلا من وحد الله جل وعلا وآمن بالله عز وجل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 أحاديث في فتنة الدجال ووصف النبي فتنته وأستحلفك بالله أن تتدبر معي هذا المطلع العجيب! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 مع الدجال نهران يجريان روى مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لأنا أعلم بما مع الدجال من الدجال، معه نهران يجريان -انظر إلى الفتن الخطيرة التي ستعصف بقلوب كثير من الخلق- أحدهما رأي العين ماء أبيض، والآخر رأي العين نار تَأَجَّج -أي: تشتعل- فإن أدرك أحدكم الدجال فليأت النهر الذي يراه ناراً تأجج، وليغمض عينه، وليطأطئ رأسه، وليشرب منه؛ فإنه ماء بارد). تدبر كلام الصادق الذي لا ينطق عن الهوى: (إن أدرك أحدكم الدجال فليأت النهر الذي يراه ناراً تتأجج) أي: لا تخش نار الدجال؛ فهو دجال يغطي الحق بالكذب والباطل، فإن رأيت ناره فاعلم بأنها ماء عذب بارد طيب. ولن يجعلك تفعل ذلك الفعل يومها إلا إيمانك بالله وبحبيبك رسول الله. وفي رواية أخرى في صحيح مسلم لـ حذيفة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج الدجال وإن معه ماءً وناراً، فما يراه الناس ماءً فهي نار تحرق، وما يراه الناس ناراً فهو ماء بارد عذب). لا تنس أن الذي يخبرك بهذا هو الصادق الذي قال: (وأنا أعلم بما مع الدجال من الدجال). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 يمكث الدجال أربعين يوماً في الأرض وفي صحيح مسلم من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه أنه قال: سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المدة التي سيمكثها الدجال في الأرض، فقال الحبيب: (أربعون يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كسائر أيامكم، قالوا: يا رسول الله! اليوم الذي كسنة تكفينا فيه صلاة يوم واحد؟!). انظر إلى همم الرجال، وهم يسألون الرسول عن الصلاة في هذا اليوم! لتعرف الفارق بين هؤلاء الأطهار وبيننا في هذه الأيام، فهم يسألون النبي عن الصلاة، ويسألون النبي عن النجاة، فمنهم من ذهب إليه؛ ليقول يا رسول الله!: (حدثني بأمر أعتصم به، فقال له: قل: ربي الله، ثم استقم)، ومنهم من قال: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، فأجابه النبي بحديثه الطويل، وكان السائل هو معاذ بن جبل رضي الله عنه. وهاهم الصحابة في هذا الحديث يسألون النبي عن الصلاة في هذا اليوم، هل تكفيهم صلاة يوم واحد، قال: (لا، اقدروا له قدره)، يعنى صلوا الفجر وعدوا الساعات التي كانت قبل ذلك بين الفجر والظهر، فصلوا الظهر، وعدوا الساعات التي كانت قبل ذلك بين الظهر والعصر، فصلوا العصر، وهكذا، ولا تصلوا في هذا -اليوم الذي هو كسنة- صلاة يوم واحد، بل صلوا صلاة سنة. قال: (ثم ينطلق إلى قوم آخرين، فيقول لهم: أنا ربكم، فيقولون له: لا، ويكذبونه ويردون عليه دعوته، فلا ينطلق الدجال عنهم إلا وقد أصبحوا ممحلين)، أي: ذهب كل شيء من المال الذي كان بأيديهم بالأمس القريب؛ فتنة عظيمة حيث يضيع كل المال بين أيديهم، يقول المصطفى: (ويمر على خربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوز الخربة كيعاسيب النحل) أي: كجماعات النحل تمشي وراءه، فتن رهيبة! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 قتل الدجال للشاب المؤمن ثم تزداد فتنته: فيرى شاباً من المسلمين فينادي عليه الدجال، ويأخذه، ويشق الدجال هذا الشاب نصفين، فتقع القطعتان على الأرض، فيمشي الدجال بين القطعتين أمام الناس، ويقول للشاب: قم، فيستوي الشاب حياً بين يديه، وهذا أمر لا يكاد العقل أن يدركه أو أن يستوعبه، لولا أن أخبر به الصادق المصدوق. وفي رواية أبي سعيد الخدري في صحيح مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، يقول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: فيخرج إليه شاب فيلقاه مسالح الدجال -ومسالح الدجال: أتباعه من اليهود الذين يحملون السلاح- فيقول مسالح الدجال لهذا الرجل المؤمن من أتباع الحبيب محمد: إلى أين؟ فيقول: إلى هذا الذي خرج -أي: إلى الدجال- فيقولون له: أوما تؤمن بربنا؟ فيقول الرجل المؤمن: ما بربنا خفاء -يعني: لو نظرت إلى الدجال فسأعرفه- فيقولون: اقتلوه، فيقول بعضهم لبعض: أو ليس قد نهانا ربنا -أي: الدجال- أن نقتل أحداً دونه، فينطلقون بهذا الرجل المؤمن إلى الدجال، فإذا نظر المؤمن إليه، وقرأ بين عينيه الكلمة التي أخبر عنها الصادق (كافر) صرخ المؤمن وقال: أنت المسيح الدجال الذي ذكره لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول المصطفى: فيأمر الدجال بقتله، فيوضع المنشار في مفرق رأسه ويشقه الدجال نصفين، ثم يقول الدجال لهذا الشاب المؤمن: قم. فيستوي الشاب قائماً أمام عينيه وبين يديه وهو يضحك، فيقول له الدجال: أتؤمن بأنني ربك، فيقول المؤمن: والله ما ازددت فيك إلا بصيرة، فأنت الدجال الذي ذكر لنا رسول الله، ويلتفت المؤمن إلى الجموع من حوله ويقول: أيها الناس! هذا هو المسيح الدجال، ووالله لن يستطيع أن يفعل ذلك بأحد بعدي كما أخبرنا المصطفى. يقول رسول الله: فيقوم الدجال ليذبحه، فلا يمكنه الله من ذلك، فيأخذه الدجال من بين يديه ورجليه، ويريد أن يلقي به في ناره، فيظن الناس أنه قد قذف به في النار، وإنما ألقي في الجنة. ثم قال الحبيب: هذا أعظم الناس شهادة عند الله جل وعلا، أي: هذا الرجل المؤمن من أتباع المصطفى أعظم الناس شهادة عند الله جل وعلا، فهو الذي سيبين كذب الدجال وبطلان ادعاءات الدجال، ويحذر المؤمنين من فتنته؛ لأنه آمن برسول الله وصدق خبره، وبهذا الإيمان قرأ بين عينيه كلمة (كافر)، وقال للجموع من حوله: هذا هو الدجال الذي ذكره لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 الجساسة والدجال أختم الحديث عن فتنة الدجال بحديث عجيب غريب رواه مسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم، من حديث فاطمة بنت قيس عن تميم الداري. وهذا الحديث عندما وقفت عليه كاد عقلي أن يطيش، مع أنني قرأت الحديث قبل ذلك، لكن لما تدبرت المعاني كاد -والله- عقلي أن يطيش. الحديث -كما قلت- رواه مسلم وأبو داود والترمذي من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، وفيه أن فاطمة رضي الله عنها قالت: سمعت منادي رسول الله يقول: (إن الصلاة جامعة، إن الصلاة جامعة، تقول: فخرجت إلى المسجد، وصليت خلف رسول الله، وكنت في النساء اللاتي تلي ظهور الرجال -أي: كانت في الصف الأول في النساء الذي يقف مباشرة خلف آخر صف للرجال- فلما قضى رسول الله صلاته، جلس على المنبر وهو يضحك -بأبي هو وأمي- ثم قال: أيها الناس! ليلزم كل إنسان منكم مصلاه) أي: ليجلس كل واحد منكم مكانه، فجلس الصحابة. ثم قال: (هل تعلمون لِمَ جمعتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. فقال رسول الله: أما إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة، وإنما جمعتكم اليوم لأن تميماً الداري كان رجلاً نصرانياً، فجاءني اليوم فبايعني وأسلم لله، وحدثني حديثاً أحببت أن أحدثكم به)، وهذه من أعظم مناقب تميم الداري. وقال النووي أيضاً: وفيه جواز حديث الفاضل عن المفضول، أي: يجوز أن ينقل الفاضل حديثاً عن رجل يقل عنه في الفضل والكرامة، فلقد نقل المصطفى -وهو من هو- حديثاً عن تميم الداري. قال النووي: وفيه كذلك جواز قبول خبر الآحاد الذي أنكره بعض الطوائف، فلقد قبل النبي خبر تميم الداري وهو واحد فرد. فماذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ وتدبر معي جيداً قال: (حدثني تميم أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً من لخم وجذام -ولخم وجذام قبيلتان عربيتان مشهورتان- فلعب بنا الموج في البحر شهراً كاملاً، ثم أرفأنا إلى جزيرة وسط البحر- يعني: ألجأهم الموج إلى جزيرة وسط البحر- فدخلوها، فإذا هم أمام دابة أَهْلَبَ كثير الشعر، فقالوا لها: ويلك من أنت؟ فقالت: أنا الجساسة. قالوا: وما الجساسة؟ قالت: انطلقوا إلى هذا الرجل في هذا الدَّيْرِ؛ فإنه إلى خبركم بالأشواق، يقول: ففزعنا منها لما سمت لنا رجلاً وظننا أنها شيطانة، فتركناها وأسرعنا إلى الدَّير، فرأينا رجلاً عظيم الخلق مقيداً بالحديد، فقلنا: ويلك! من أنت؟ فقال لهم: قد قدرتم على خبري، فأخبروني أنتم: من أنتم؟ فقالوا: نحن قوم من العرب ركبنا السفينة فلعب بنا الموج شهراً، فأرفأنا إلى جزيرتك، فلقيتنا هذه الدابة، وقالت لنا: انطلقوا إلى هذا الرجل في هذا الدير؛ فإنه إلى خبركم بالأشواق، فأتينا إليك وقد خشينا أن تكون شيطانة. فقال لهم: أخبروني عن نخل بَيْسَانَ؟ فقالوا: وعن أيّ شأنها تستخبر؟ فقال هذا الرجل المقيد بالحديد: هل يثمر نخلها؟ فقالوا: نعم، نخلها يثمر، فقال: يوشك أن لا يثمر. ثم قال لهم هذا الرجل المقيد بالحديد: أخبروني عن بحيرة طبرية؟ قالوا: عن أيّ شأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء؟ قالوا: ماؤها كثير، فقال الرجل المقيد بالحديد: يوشك أن يجف ماؤها. ثم قال: أخبروني عن نبي الأميين هل خرج؟ قالوا: نعم، خرج، بل وهاجر الآن من مكة إلى يثرب، فسألهم: ماذا صنع مع العرب؟ فقالوا: أظهره الله عليهم، فقال لهم: أوقد كان ذلك، قالوا: نعم، فقال هذا الرجل: خير لهم أن يطيعوه، خير لهم أن يطيعوه -أي: أن يطيعوا هذا النبي صلى الله عليه وسلم- ثم قال لهم: أما أنا فأخبركم؛ أنا المسيح الدجال، وإني أوشك أن يؤذن لي فأخرج فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلا هبطتها، إلا مكة والمدينة فإنهما محرمتان عليّ، كلما أردت أن أدخل واحدة منهما وجدت ملكاً على بابها بالسيف، فإنه على كل نقب من أبواب مكة والمدينة ملائكة يحرسونها بأمر الله جل وعلا). الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 مقتل الدجال أيها الأحبة الكرام! هذا قليل من كثير، فلا زال في الجُعْبَة، أو في الكتب -بمعنى أحرى- الكثير عن فتنة الدجال، ولقد لخصت وأجملت لكم ما يَسَّر الله عز وجل؛ لنقف على خطورة هذه الفتنة، ثم لأعرج بعد جلسة الاستراحة على سبيل النجاة من فتنة الدجال، والله أسأل أن يجعلني وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وقبل أن أجلس جلسة الاستراحة، قد يسألني الآن مسلم تغيظ قلبه من الدجال وفتنته، ويقول لي: يا أخي! لا تدعنا هكذا بل بشر قلوبنا، وأسعد قلوبنا: هل سيقتل الدجال؟ ومن الذي سيقتله؟ و الجواب أبشر! سيُقتل الدجال، يقتله عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام. أين يقتله؟ ومتى يقتله؟ اسمع الجواب من رسول الله، والحديث رواه ابن ماجة في سننه والحاكم في المستدرك، وصحح الحديث الألباني من حديث أبي أمامة الباهلي أنه صلى الله عليه وسلم قال: بينما إمام المسلمين يصلي بهم الصبح في بيت المقدس -اللهم فُكَّ أسره، ورده إلى المسلمين ردّاً جميلاً، وطهره من دنس اليهود برحمتك يا رب العالمين- إذ نزل عليهم عيسى بن مريم، فإذا نظر إليه إمام المسلمين عرفه)، فمن أدبه الذي تعلمه من رسول الله، وعلمه إياه دين الله أنه إذا رأى عيسى، يتقهقر إمام المسلمين للخلف؛ ليفسح القبلة لنبي الله عيسى، ليصلي بالمؤمنين أتباع سيد النبيين محمد. قال: (فيأتي عيسى عليه السلام ويضع يده في كتف إمام المسلمين، ويقول له: لا، بل تقدم أنت فَصَلِّ؛ فالصلاة لك أقيمت -وفي لفظ: فإمامكم منكم يا أمة محمد! - ويصلي نبي الله عيسى خلف إمام المسلمين لله رب العالمين، فإذا ما أنهى إمام المسلمين الصلاة قام عيسى، وقام خلفه المسلمون، فإذا فتح عيسى باب بيت المقدس رأى المسيح الدجال ومعه سبعون ألف يهودي بيدهم السلاح، فإذا نظر الدجال إلى نبي الله عيسى ذاب كما يذوب الملح في الماء، ثم يهرب، يقول المصطفى: فينطلق عيسى وراءه، فيمسك به عند باب لُدّ الشرقي)، كلام دقيق من الصادق كأنه يرى الأحداث أمام عينيه، وكأن الله كشف له الحُجُب فرأى كل شيء بأبي هو وأمي. قال: (فيمسك به المسيح عند باب لد الشرقي -و (لد) مدينة معروفة بفلسطين- فيقتله نبي الله عيسى)، ويستريح الخلق من شر الدجال ومن فتنة الدجال، أسأل الله أن يقينا وإياكم من فتنته، بل ومن الفتن كلها ما ظهر منها وما بطن. وأخيراً: ما السبيل إلى النجاة؟ والجواب بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 سبيل النجاة من المسيح الدجال الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! كان ولابد أن أجيب على هذا السؤال ما السبيل إلى النجاة من فتنة الدجال؟ والجواب من سيد الرجال محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله ومن والاه، تدبر الجواب جيداً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 حفظ سورة الكهف روى ابن ماجة في سننه والحاكم في مستدركه وصححه الألباني؛ قال صلى الله عليه وسلم: (من حفظ عشر آيات من سورة الكهف، عصم من فتنة الدجال). وفي لفظ: (من حفظ عشر آيات من أوائل سورة الكهف، عصم من فتنة الدجال). وفى لفظ: (من حفظ عشر آيات من آخر سورة الكهف). وأنا أقول لك: هل تقف على خطر فتنة الدجال ولا تشرع من اليوم في حفظ سورة الكهف بكاملها، احرص على حفظ السورة من الآن، واجتهد أن تعمل بها قدر الاستطاعة والإمكان، فمن حفظ عشر آيات من سورة الكهف، عصم من فتنة الدجال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 الفرار إلى مكة أو المدينة كذلك من السبل للنجاة منه أن تفر إلى بلد الله الحرام أو إلى طيبة طيبها الله، فمكة والمدينة محرمتان على الدجال أن يدخلهما، فلا يستطيع الدجال أن يدخل مكة ولا أن يدخل المدينة، فهذه أيضاً من سبل النجاة، فإن يسر الله أن تفر إلى بلد الله الحرام أو إلى مسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام أو إلى المدينة، فهذا سبيل من سبل النجاة، أسأل الله أن يرزقنا وإياكم وفاة في أرض حبيبه المصطفى، إنه وليّ ذلك والقادر عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 توحيد الله تعالى وتحقيق الإيمان ولا أجد لك سبيلاً للنجاة أكرم وأشرف وأَجَلَّ وأعظم وأطيب من أن توحد الله جل وعلا، وأن تصحح إيمانك به عز وجل، ألم يقل لك المصطفى بأنه لا يقرأ كلمة (كافر) بين عيني الدجال إلا مؤمن وحد الكبير المتعال؟! واعلم بأن الإيمان ليس كلمة يرددها لسانك فحسب، بل الإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان -يعني: بالقلب- وعمل بالجوارح والأركان. ولابد أن تعلم أن له أركاناً ألا وهي: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. قال الحسن: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، فمن قال خيراً وعمل خيراً قبل منه، ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه. فحقق الإيمان أيها الحبيب الكريم! فلا أجد لنفسي ولك أعظم وأجل من الإيمان؛ لينجينا الله من فتنة الدجال، بل من كل الفتن ما ظهر منها وما بطن، ولنسعد إن شاء الله تعالى -والمشيئة هنا للتحقيق- بصحبة سيد الرجال في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، قال الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32]. {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا * قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:107 - 110]. فلا أجد لنفسي ولك -أيها الحبيب الكريم- أعظم من تحقيق الإيمان وتحقيق التوحيد لرب العالمين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 تصحيح المعتقد في الله قال الله في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عَنَان السماء ثم استغفرتني، غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة). قولوا: لا إله إلا الله؛ تفلحوا في الدنيا وفي الآخرة بين يدي الله، وتسعدوا بصحبة رسول الله في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فحققوا التوحيد والإيمان، فإن من أعظم الأسباب للوقاية من فتنة المسيح الدجال، أن نصحح معتقدنا وأن نقوي إيماننا. أسأل الله جل وعلا أن يقينا وإياكم من فتنة الدجال، اللهم نجنا من فتنة الدجال، اللهم نجنا من فتنة الدجال، اللهم اختم لنا منك بخاتمة الموحدين يا كبير! يا متعال! اللهم ارزقنا جميعاً قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ورضواناً، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا. اللهم أسعد قلوبنا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم احمل المسلمين الحفاة، واكس المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان، اللهم لا تحرم بلدنا مصر من الأمن والأمان وسائر بلاد المسلمين، اللهم اجعل مصر سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن وسائر بلاد المسلمين. أحبتي في الله! هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة، ويلقى به في جهنم، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 طلوع الشمس من مغربها الأمور العظيمة لا تقع فجأة ومباغتة، بل لابد لها من مقدمات وإرهاصات، ومن ذلك قيام الساعة، فإنه أعظم حوادث هذا الكون؛ ولذلك كانت هناك علامات سابقة لهذا الحدث مؤذنة بقربة ووقوعه، ومن تلك العلامات: طلوع الشمس من مغربها، وخروج دابة تكلم الناس، وظهور الدخان العظيم، وثلاثة خسوفات في الأرض، ثم خروج نار عظيمة من قعر عدن تسوق الناس إلى أرض المحشر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1 الشمس آية دالة على وحدانية الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدَّى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت الكريم المبارك على طاعته، أن يجمعنا جميعاً مع سيد النبيين في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! في رحاب الدار الآخرة، سلسلة علمية هامة تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، أقدمه الآن لنفسي وإخواني وأخواتي من المسلمين والمسلمات في عصر طغت فيه الماديات والشهوات، وانصرف فيه كثير من الناس عن طاعة رب الأرض والسماوات، لعل الغافل أن يتنبه، ولعل النائم أن يستيقظ، قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون وهذا هو لقاؤنا السابع من لقاءات السلسلة الكريمة، ولا زلنا بحول الله ومدده نتحدث عن العلامات الكبرى للساعة، والتى ذكرها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح الذي رواه مسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفارى رضي الله عنه قال: (اطلع علينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر فقال المصطفى: ما تذاكرون؟ قالوا: نذكر الساعة يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات وهي: الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى عليه السلام، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف، خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم). وقد تكلمنا في اللقاءات الماضية على التوالي عن: الدجال، وعن نزول عيسى عليه السلام، وعن يأجوج ومأجوج، وسأتحدث اليوم -إن شاء الله تعالى- عن بقية العلامات الواردة في الحديث؛ نظراً لأن المادة العلمية الصحيحة في بقية هذه العلامات مادة قليلة مقتضبة. العلامة الرابعة: طلوع الشمس من مغربها الشمس منذ أن خلقها الله عز وجل تشرق من المشرق وتغرب في المغرب، بصورة متكررة منتظمة لا تتخلف يوماً ولا تتأخر، بصورة تطالع الأنظار والمدارك؛ لتستنطق الفطرة السوية للإنسان بوحدانية الرحيم الرحمن، قال جل وعلا: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:38 - 40]. آية من الآيات التي تستنطق الفطرة السليمة النقية بوحدانية الله جل وعلا، علامة بارزة على قدرة الله. ولذا نرى نبياً من أنبياء الله -وهو خليل الله إبراهيم- قد تحدى بهذه الآية العظيمة طاغية من طواغيت أهل الأرض، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] رد النمرود بن كنعان الطاغية المجرم على إبراهيم فقال: (أنا أحيي وأميت) ولكن أين يذهب هذا الغر الجاهل بحجته الفاسدة أمام نبي من أنبياء الله؟! فقال له الخليل: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258]. فالشمس منذ خلقها الله تشرق من المشرق وتغرب في المغرب بصورة منتظمة متكررة، لا تكاد تتخلف أو تتأخر يوماً من الأيام، حتى إذا جاء الوعد الموعود استأذنت الشمس ربها أن تشرق كعادتها من المشرق فلا يأذن لها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2 حديث: (أتدرون أين تذهب هذه الشمس) تدبر معي قول الصادق المصدوق، ففي صحيح مسلم من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوماً والشمس تغرب: (أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة لله جل وعلا)، لا تتعجل فكل شيء في هذا الكون يسجد لله، قال جل في علاه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18] فكل شيء في الكون يسجد لرب الأرض والسماء، إلا كفرة الإنس والجن. انظر إلى الكون كله من عرشه إلى فرشه، ومن سمائه إلى أرضه؛ لتتعرف على وحدانية الله وعظمة الخالق جل في علاه، انظر إلى السماء وارتفاعها، وإلى الأرض واتساعها، وإلى الجبال وأثقالها، وإلى الأفلاك ودورانها، وإلى البحار وأمواجها، وإلى كل ما هو متحرك، وإلى كل ما هو ساكن، والله إن الكل يقر بتوحيد الله، ويعلن السجود لله، ولا يغفل عن ذكر مولاه إلا من غفل من الإنس والجن، ولا حول ولا قوة إلا بالله. انظر لتلك الشجرة ذات الغصون النضرة كيف نمت من حبة وكيف صارت شجرة ابحث وقل من ذا الذي يخرج منها الثمرة ذاك هو الله الذي أنعمه منهمرة ذو حكمة بالغة وقدرة مقتدرة وانظر لتلك الشمس التي جذوتها مستعرة فيها ضياء وبها حرارة منتشرة ابحث وقل من ذا الذي يخرج منها الشررة ذاك هو الله الذي أنعمه منهمرة ذو حكمة بالغة وقدرة مقتدرة الشمس والبدر من آيات قدرته والبر والبحر فيض من عطاياه الطير سبحه والوحش مجده والموج كبره والحوت ناجاه والنمل تحت الصخور الصم قدسه والنحل يهتف له حمداً في خلاياه والناس يعصونه جهراً فيسترهم والعبد ينسى وربي ليس ينساه قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قال الصحابة: الله ورسوله أعلم. فقال الصادق المصدوق: إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة لله عز وجل، فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها -أي: من المشرق- يقول المصطفى: فلا تزال كذلك، لا يستنكر الناس منها شيئاً). الشمس تشرق كل صباح من المشرق، وتغرب كل يوم في المغرب، لا يستنكر الناس من أمرها ولا من شأنها شيئاً، فلا تزال كذلك حتى تجري ثم تستقر في مكانها تحت العرش، كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم، فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي وأصبحي طالعة من مغربك، فتصبح الشمس طالعة من المغرب، انتهى نظامها المعتاد، انتهت مدة حياة هذا الكون، ستبدل الأرض غير الأرض، وستبدل السماوات ليبرز الجميع للوقوف بين يدي الملك جل جلاله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48]. أصبحي طالعة من مغربك، فتصبح الشمس طالعة من المغرب انظر إلى هذا العجب!! ووضحت هذا المعنى رواية ابن مردويه بسند حسن بشواهده من حديث عبد الله بن أبي أوفى أن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قال: (ليأتين على الناس ليلة تعدل ثلاث ليالٍ من لياليكم) وفي الوقت المحدد يضغط المنبه على ساعة الوقت لصلاة الفجر، فتستيقظ فتنظر إلى ساعة الوقت فترى الليل ما زال مخيماً! لعل الساعة قد خانت! ثم تستيقظ فترى الليل ما زال مخيماً بظلامه! ثم تستيقظ فترى الليل ما زال مخيماً بظلامه! فتتعجب! طال وقت النوم! (ليأتين على الناس ليلة تعدل ثلاث ليال من لياليكم، فإذا كان ذلك يعرفها المتنفلون- يعرفها القائمون بالليل لله رب العالمين، انظر إلى فضل قيام الليل، حتى في أحلك الأزمات -يقوم أحدهم فيقرأ حزبه، ثم ينام، ثم يقوم فيقرأ حزبه، ثم ينام، فبينما هم كذلك صاح الناس بعضهم في بعض، فيفزعون إلى المساجد، فبينما هم كذلك إذ بهم يرون الشمس قد طلعت من مغربها). الله أكبر! ما الذي يترتب على هذه الآية العظيمة؟! تدبر هذا الكلام جيداً! الذي يترتب على ذلك أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: -كما في رواية أبي ذر التي ذكرتها آنفاً-: (أتدرون متى ذاكم؟!) أي: أتدرون متى تطلع الشمس من مغربها؟! قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (ذاك حين {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]). أغلق باب التوبة بطلوع الشمس من مغربها، إذا عاد الكافر إلى الله لا يقبل الله منه الإيمان، انتهى الأوان، إذا تاب العاصي إلى الله لا يقبل الله منه التوبة، ذكرت في الدنيا فما تذكرت! وعظت في الدنيا فما اتعظت! ذكرناك بالقرآن وذكرناك بحديث النبي عليه الصلاة والسلام فأبيت إلا الإنكار، وأبيت إلا العناد والإصرار، وتماديت في المعاصي والضلال والطغيان، وإذا طلعت الشمس من مغربها أغلق عليك باب التوبة يا مسكين! قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا طلعت الشمس من مغربها ورآها الناس آمنوا كلهم أجمعون، ويومئذ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً). وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس من مغربها، والدابة، والدخان)، فإذا طلعت الشمس من المغرب، وخرجت الدابة من الأرض، وخرج الدخان؛ إن تاب الكافر إلى الله لا يقبل الله منه، وإن تاب العاصي إلى الله لا يقبل الله منه، فأذكر نفسي وأذكرك الآن -أيها الحبيب- بالمبادرة إلى التوبة إلى الله عز وجل قبل أن يغلق الله باب التوبة علينا. المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول -والحديث رواه أحمد بسند صحيح-: (لا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت من مغربها طبع على كل قلب بما فيه، وكفي الناس العمل). أيها اللاهي! أيها الساهي! أيها الغافل! أيها المضيع للتوحيد! أيها المضيع للصلاة! أيها المضيع للزكاة! أيها العاق لوالديه! أيها المنصرف عن الله! دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيهما تعد وتحسب قال المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري: (إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها). إذا طلعت الشمس من المغرب أغلق باب التوبة، فهنيئاً لمن طلعت الشمس عليه من مغربها وهو مستقيم على طاعة الله، اللهم اجعلنا من أهل الإيمان والاستقامة، ووفقنا للعمل الصالح الذي يرضيك يا رب العالمين. قال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32]. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 خروج الدابة ما أحدثكم به الآن من هذه العلامات هو ما صح عن الصادق صلى الله عليه وسلم، أما ما عدا ذلك فلن تجد إلا ضعيفاً وموضوعاً. العلامة الخامسة من علامات الساعة الكبرى خروج الدابة. ما هي الدابة؟ قال جل وعلا في سورة النمل: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82]. يا إلهي! دابة تتكلم!! دابة تنطق!! وتكلم الناس كلاماً مفهوماً واضحاً! بل وتقيم عليهم الحجة، وتذكرهم بأنهم كانوا لا يوقنون بآيات الله! وكانوا لا يصدقون بآيات الله جل وعلا! قال المصطفى صلى الله عليه وسلم -والحديث رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو -: (أول أشراط الساعة: طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى -أي: في نفس اليوم الذي تطلع فيه الشمس من المغرب- فأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريباً). يعني: لو خرجت الدابة فسوف تطلع الشمس من مغربها في نفس الوقت، وإن أشرقت الشمس من مغربها، فسوف تخرج الدابة في نفس اليوم، (أيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريباً). الدابة أمر عجيب لو تدبرته كاد قلبك أن ينخلع! دابة تخرج وتجوب الأرض كلها، تفرق هذه الدابة بين المؤمن والكافر! وتعلِّم المؤمن بعلامة، وتعلِّم الكافر بعلامة، تسم الكافر على أنفه فيسود وجهه! وتسم المؤمن فيضيء وجهه كأنه كوكب دري، أمر عجب!! ورد في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده وصححه شيخنا الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تخرج الدابة فتسم الناس على خراطيمهم) (تسم الناس): أي: تعلِّم الناس. على الخراطيم: أي: على الأنوف. تسم الدابة أنف كل واحد على ظهر الأرض. وخذ هذا الحديث العجب الذي رواه أحمد في المسند والترمذي في السنن، وللأمانة العلمية التي اتفقنا عليها فإن الشيخ الألباني -حفظه الله- قد ضعف إسناد الحديث، ومدار الحديث على علي بن زيد بن جدعان، قال الألباني: فيه ضعف، إلا أن العلامة أحمد شاكر رحمه الله تعالى قد صحح إسناد الحديث وقال: علي بن زيد بن جدعان مختلف فيه، والراجح عندنا توثيقه؛ لذا صحح العلامة أحمد شاكر إسناد هذا الحديث، وقال الإمام الترمذي: حديث حسن؛ قال صلى الله عليه وسلم: (تخرج الدابة ومعها عصى موسى وخاتم سليمان، فتسم الدابة أنف الكافر -أي: تعلم الدابة أنف الكافر- وتجلو وجه المؤمن -أي: ويضيء وجه المؤمن- كأنه كوكب دري، حتى أن أهل الخوان الواحد -أي: المائدة- يجتمعون على طعامهم فيقول هذا: يا مؤمن! ويقول هذا: يا كافر!). لأن الدابة بينت وأوضحت الحقيقة، وميزت المؤمنين من الكفار. وقد غالى بعض الناس في وصف الدابة، وأعطوا لخيالهم العنان، فوصفوا الدابة وصفاً درامياً خيالياً عجيباً، فمنهم من قال: رأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، وقوائمها قوائم بعير إلى آخر هذا الوصف الدرامي، الذي لا يصلح إلا أن يكون في فلم لواحد من هؤلاء الكذابين، ولا يجوز لأحد يحترم عقله ويحترم نفسه أن يعطي لخياله العنان ليصف الدابة بهذه الأوصاف، إذ إن أمور الغيب -ومنها: الدابة- لا يجوز لأحد البتة أن يتكلم فيها بكلمة إلا بدليل صحيح عن الصادق الذي لا ينطق عن الهوى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 الدخان من علامات الساعة الكبرى العلامة الخامسة: الدخان. والدخان هو آخر العلامات التي سيشهدها المؤمنون على ظهر الأرض، وبقية العلامات لا يراها المؤمنون، ولا يشهد عذابها الموحدون، بل لا تقوم إلا على الكفرة الفجرة من شرار الخلق. الدخان علامة كبرى، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إن هذا الدخان كان علامة من العلامات التى وقعت فى الدنيا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم على المشركين. والدخان قد وقع بالفعل، ولكن الدخان الوارد في حديث حذيفة بن أسيد الغفاري الذي هو علامة من علامات الساعة الكبرى يختلف تمام الاختلاف عن تلك العلامة التي رآها المشركون في مكة؛ بدعاء الصادق صلى الله عليه وسلم عليهم. قال تعالى في حق هذه العلامة: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10] أي: واضح بين {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان:11]. وإذا خرج الدخان فلا يقبل الله التوبة كما تقدم، وبعد ظهور هذا الدخان يبعث الله ريحاً ألين من الحرير، وظيفتها قبض أرواح المؤمنين على ظهر الأرض، فلا يبقى على ظهر الأرض مؤمن. يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (فلا تدع أحداً في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته، ويبقى شرار الخلق) أي: الكفرة الفجرة الذين لم يؤمنوا بالله عز وجل. وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق). وفي رواية مسلم من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله). كلمة (الله) لا تقال في الأرض أبداً؛ لأن الموحدين قد قبضوا، ولأن المؤمنين قد ماتوا، فلا يبقى إلا الكفرة الذين لا يعرفون الله، ولا يوحدون الله جل وعلا، وعلى هؤلاء تقوم الساعة، بل وتقوم عليهم بقية العلامات الكبرى التي هي عذاب في عذاب، وبلاء في بلاء. ما هي هذه العلامات؟!! العلامات المتبقية أربع هي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 الخسوف الثلاثة الخسوف الثلاثة: فيقع الخسف الأول بالمشرق والخسف -كما هو معلوم- انشقاق الأرض، قال تعالى حكاية عن قارون: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:81]. فيقع الخسف الأول بالمشرق، على شرار الخلق، وأين المؤمنون؟ قد قبضوا، وهذا من رحمة الله بالموحدين. والخسف الثاني: بالمغرب، والخسف الثالث بجزيرة العرب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 خروج نار عظيمة من قعر عدن وبعد هذه الخسوف تخرج العلامة الأخيرة من علامات الساعة الكبرى ألا وهي: نار ضخمة تخرج من قعر عدن (مدينة عدن المعروفة في اليمن) فتطرد الناس جميعاً إلى محشرهم. عبد الله بن سلام هو حبر اليهود الذين وحد الله وآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، فيوم أن وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجراً، ذهب عبد الله بن سلام إليه فقال: لما نظرت إلى وجه النبي عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن سأل النبي صلى الله عليه وسلم أسئلة جيدة، ومن بين هذه الأسئلة: ما هي أول أشراط الساعة؟ فقال المصطفى عليه الصلاة والسلام: (أول أشراط الساعة نار تخرج من قعر عدن تحشر الناس من المشرق إلى المغرب) رواه البخاري من حديث أنس. وقد يلمح طالب العلم الذكي تعارضاً ظاهراً بين رواية أنس في صحيح البخاري التي فيها: (أول أشراط الساعة نار) وبين رواية حذيفة بن أسيد الغفاري التي فيها: (وآخر ذلك نار)، ولكن لا تعارض، فقول النبي صلى الله عليه وسلم في رواية حذيفة: (وآخر ذلك نار) أي: هي العلامة الأخيرة بالنسبة لما سبقها من العلامات في الدنيا، وفي رواية البخاري: (وأول أشراط الساعة نار) أي: أنها العلامة التي إن وقعت وقعت القيامة بعدها: من النفخ في الصور، والبعث من القبور، وتغير كل شيء، هذا كله يبدأ بعد خروج هذه النار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 أنواع الحشر روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس على ثلاث طرائق: راغبين وراهبين، واثنين على بعير، وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير وعشرة على بعير، وتحشر بَقيَّتَهُم النار، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسى معهم حيث أمسوا). قال العلامة القرطبي في كتابه التذكرة: والحشر هو الجمع، حشر الناس: أي: جمع الناس، وفي هذا إشكال لدى بعض أهل العلم، قالوا: هل هذا الحشر في الدنيا أو في الآخرة؟ قال القرطبي: الحشر: هو الجمع، وهو أربعة أنواع: الحشر الأول والثاني في الدنيا، والحشر الثالث والرابع في الآخرة. أما الحشر الأول: فهو المذكور في قول الله تعالى في سورة الحشر: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2]. الحشر الثاني: هو الحشر الوارد في حديث حذيفة: وآخر ذلك نار تخرج من اليمن، تطرد الناس إلى محشرهم، وهذا هو الحشر الثاني، فحشر النار للناس لا يكون إلا في الدنيا. الحشر الثالث: حشر الناس من القبور وغيرها بعد البعث. الحشر الرابع: حشر الناس إلى الجنة أو إلى النار، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنان. والذي عليه جمهور المحققين من العلماء: أن الحشر الوارد في حديث حذيفة -الذي هو علامة من العلامات الكبرى- لا يكون إلا في الدنيا، والدليل الصحيح الصريح على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر أن الحشر الذي يكون في الآخرة يحشر فيه المؤمنون والكافرون، أما هذا الحشر فليس فيه إلا الكفار، أما المؤمنون فإن الله يبعث إليهم ريحاً تقبض أرواحهم قبل هذا الحشر. أما حشر الآخرة فيحشر فيه المؤمن والكافر حفاة عراة غرلاً كما في الصحيحين من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحشرون حفاة عراة غرلاً قالت عائشة: يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! فقال المصطفى: يا عائشة! الأمر أشد من أن يهمهم ذلك!). وفي رواية أنس أنها قالت: الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض! واسوأتاه! فقال لها: يا عائشة لقد نزلت على آية لا يضرك أكان عليك ثياب أم لا، وتلى النبي قوله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37]). تذكر وقوفك يوم العرض عُريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تلهب من غيظ ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك ياعبدُ يعلى مَهَلٍ فهل ترى فيه حرفاً غير ما كان لما قرأت ولم تنكر قراءته أقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبدٍ عصى للنار عطشانا المشركون غداً فى النار يلتهبوا والموحدون بدار الخلد سُكَّانا أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 هدم الكعبة من علامات الساعة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! وهكذا تنتهي علامات الساعة الكبرى التي ذكرها المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة بن أسيد الغفاري الذي كنا معه طيلة اللقاءات الأربعة الماضية. وهناك علامة أخرى عجيبة غريبة، إذا وقعت كادت أن تخلع القلوب، وهي لم ترد في حديث حذيفة، ألا وهي هدم الكعبة! بيت الله الذي تهوي إليه الأفئدة، وتحن إليه القلوب، الذي قال في حقه علام الغيوب: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة:125] (مثابة للناس)، أي: لا يملون منه، كلما نظروا إليه وانصرفوا عنه تجدد الشوق إليه والحنين لزيارته ورؤيته، هذا البيت المشرف العظيم من علامات الساعة الكبرى أن يهدم حجراً حجراً! إن عيسى بن مريم -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- ينزل إلى الأرض فيقتل الدجال عليه من الله ما يستحقه، ويدعو الله أن يهلك يأجوج ومأجوج، فيستجيب الله دعاءه، ويهلك يأجوج ومأجوج، وينزل مطراً فتصبح الأرض كالزُلقة أو كالزَلقة أو كالزُلفة، أي: كالمرآة في صفائها ونقائها، ثم تخرج البركة من الأرض، وتنزل الرحمات، ويعيش الناس في أمن وسلام طيلة وجود نبي الله عيسى، ويذهب نبي الله عيسى ليحج بيت الله الحرام. إذاً: يبقى الحج حتى في عهد نبي الله عيسى، فإذا قدر الله على عيسى الموت {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. فإنه يموت في المدينة المنورة، ويصلي عليه المسلمون من أمة محمد، ويدفنونه مع الحبيب المصطفى في الحجرة المباركة. بعد ذلك تقع العلامات التي ذكرت الآن، ولا يبقى إلا شرار الخلق، تمحى آيات المصحف، ولا يقول أحد في الأرض: لا إله إلا الله، ولا يحجون البيت، بل ولا يعرفون عن البيت شيئاً، ومن بين هؤلاء الأشرار رجل من الحبشة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد وصف شكله وكأنه ينظر إليه وهو يهدم الكعبة {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:1 - 5]. يقول المصطفى: (لا تقوم الساعة حتى يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة). رجل يقال له ذو السويقتين من الحبشة، وفي رواية البخاري من حديث ابن عباس قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (كأني أنظر إليه: أسود أفحج- أي: متسع ما بين ساقيه- ينقض الكعبة حجراً حجراً) وبهذا تنتهى الحياة الدنيا بحلوها ومرها، بحلالها وحرامها، بخيرها وشرها، ولا يبقى إلا الكفرة من شرار الناس، وعليهم تقوم الساعة، فيأمر الله جل وعلا إسرافيل عليه السلام أن ينفخ النفخة الأولى، ألا وهي: نفخة الفزع، مصداقاً لقوله جل وعلا: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87]، ينفخ إسرافيل في الصور نفخة الفزع فتتزلزل الأرض، وتنفصل عرى هذا الكون، وتدك الجبال بالأرض دكاً دكاً، وتنسف الجبال نسفاً نسفاً، وتثور البحار والأنهار، وتتحول إلى برك ضخمة من النار، قال الله جل وعلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه:105 - 108]. والله أسأل أن يسترنا في الدنيا والآخرة. اللهم إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين، ولا مفرطين ولا مضيعين، ولا مغيرين ولا مبدلين. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها -يا مولانا- أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا. اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً بيننا إلا هديته، ولا طائعاً معنا إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضي ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض. اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض واسترنا يوم العرض، اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين. اللهم احمل المسلمين الحفاة، واكس المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع، اللهم وحد صفوف المسلمين، وألف بين قلوبهم وأرواحهم يا أرحم الراحمين! واجعل الدائرة على كل من ناصبهم العداء يا رب العالمين! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون به إلى الجنة ويلقى به في جهنم، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 النفخ في الصور النفخ في الصور هو نقطة التحول الكبرى في هذا الكون؛ إذ به تبدأ سلسلة أهوال يوم القيامة المروعة! والنفخ في الصور إيذان بخراب هذا الكون، وانتهاء الحياة الدنيا، وبداية الحياة الأخرى، التي أول أيامها يوم القيامة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1 صفة الصور وصاحبه إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم -جميعاً- من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا مع سيد الدعاة المصطفى في جنته، ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! في رحاب الدار الآخرة سلسلة علمية كريمة، تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، الهدف منها تذكير الناس بحقيقة الدنيا، وإيقاظهم من غفلتهم الطويلة؛ ليقدموا على الله جل وعلا قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون، وهذا هو لقاؤنا الثامن من لقاءات هذه السلسلة الكريمة. وكنا قد أنهينا الحديث -بفضل الله جل وعلا- في اللقاءات الماضية عن علامات الساعة الكبرى التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح الذي رواه مسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال: (اطلع علينا النبي صلى الله عليه وسلم يوماً ونحن نتذاكر، فقال: ما تذاكرون؟ فقالوا: نذكر الساعة يا رسول الله! فقال المصطفى: إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم). وبعد هذه العلامات تقوم الساعة مباشرة، بأمر الله جل وعلا لإسرافيل أن ينفخ في الصور؛ لتبدأ القيامة بأحداثها المسلسلة المروعة! وهذا هو حديثنا اليوم مع حضراتكم عبر هذه المراحل. أسأل الله أن يسترنا وإياكم فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، إنه على كل شيء قدير. وكما تعودنا فسوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم -في هذه المرحلة من مراحل الساعة- في العناصر التالية: أولاً: ما هو الصور؟ ومن صاحبه؟ ثانياً: نفخة الفزع . ثالثاً: نفخة الصعق. وأخيراً: نفخة البعث. فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب! والله أسأل أن يتقبل منا جميعاً صالح الأعمال. أولاً: ما هو الصور؟! ومن صاحبه؟ والجواب مباشرة من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (جاء أعرابي إلى النبي فقال: يا رسول الله! ما الصور؟ فقال المصطفى: قرن ينفخ فيه)، والقرن هو البوق، ولا يعلم عظم هذا البوق إلا الملك. وصاحب هذا القرن، أي: صاحب هذا الصور باتفاق أهل العلم: هو إسرافيل، ومن هو إسرافيل؟ هو ملك كريم من ملائكة الله جل وعلا، وكّله الله بالنفخ في الصور، فمنذ أن خلق الله الخلق خلق الصور فدفعه لإسرافيل، ووكله الملك بالنفخ فيه، لذا فإن إسرافيل ينظر دائماً إلى عرش الملك جل وعلا لا يطرف بعينه منذ أن خلقه الله، مستعد للأمر من الملك في أي لحظة من اللحظات. روى الحاكم في المستدرك وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي وهو كما قال من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أطرف صاحب الصور منذ أن خلقه الله ووكله بذلك)، (ما أطرف) يعني: ما أغمض عينه طرفة واحدة، (فهو ينظر إلى العرش متى يؤمر، مخافة أن يؤمر بالنفخة قبل أن يرتد إليه طرفه، كأن عينيه كوكبان دريان). لم يغمض عينه ولم يطرف طرفة واحدة، يخشى إن أطرف فأغمض في هذه اللحظات أن يأتي الأمر من رب الأرض والسماوات، لذا فقد هيأه الله جل جلاله لأن يكون دائماً مستعداً، لذا يقول الحبيب المصطفى بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم -والحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه الألباني بشواهده من حديث أبي سعيد الخدري -: (كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنا جبهته، وأصغى سمعه، ينتظر متى يؤمر من الله جل وعلا؟!) أي: كيف أنعم بلذة العيش؟! كيف أنعم بلذائذ هذه الحياة وقد التقم صاحب القرن القرن؟! أي: صاحب الصور الصور، وأصغى سمعه وحنا جبهته، ينظر إلى عرش الرحمن! ينتظر متى يؤمر من الله في أيِّ لحظة من اللحظات، فثقل ذلك على أصحاب النبي وشق ذلك عليهم، فقالوا: فماذا نقول يا رسول الله؟ فقال لهم: (قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل)، وفى رواية: (قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا). بل وقد حدد لنا المصطفى صلى الله عليه وسلم اليوم الذي سيأمر الله فيه إسرافيل بالنفخ في الصور، ففي الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة)، وفي راوية أخرى: (وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليّ). اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. فيأمر الله إسرافيل بالنفخ في الصور في يوم جمعة، ومتى هو؟ الله أعلم، وقد ذكرنا أن القيامة لن تقوم إلا على شرار الخلق، على الكفرة المجرمين، إذ إن رب العالمين يرسل ريحاً طيبة باردة لتقبض أرواح المؤمنين على ظهر الأرض، حتى لو دخل المؤمن كهفاً أو جبلاً دخلت له هذه الريح لتقبض روحه! ولا يبقى في الأرض إلا شرار الخلق، وعليهم تقوم الساعة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2 نفخة الفزع يأمر الله إسرافيل أن ينفخ النفخة الأولى ألا وهي نفخة الفزع وهذا هو عنصرنا الثاني. قال الله تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87]. (وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ) عرفنا الصور وعرفنا صاحبه الذي سينفخ فيه. (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ) اختلف أهل العلم فيمن استثنى الله جل جلاله، فقال بعض أهل العلم: إنهم الأنبياء، ومنهم من قال: إنهم الشهداء، والذي أجزم به: أنه لم يرد لنا في ذلك خبر صحيح عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فما سكت الله عنه ورسوله، فلسنا في حاجة إلى أن نبحث عنه. (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ) ينفخ إسرافيل نفخة فتنفك كل صلات هذا الكون وروابطه! وتتزلزل الأرض كالقنديل المعلق في سقف المسجد! وترتج بأهلها رجَّات عنيفة مزمجرة، فيفزع الناس، وما من أحد يسمع هذه الصيحة إلا وقد رفع ليتاً -أي: رفع صفحة عنقه- وأمال الأخرى يستمع إلى هذه الصيحة التي قد أفزعت كل حي من أهل السماء ومن أهل الأرض! ولم لا؟! تصور معي هذه المشاهد التي تخلع القلب؛ لتقف على حجم الفزع، فالشمس قد ذهب ضياؤها وأظلمت، والكواكب تناثرت وتمزقت هنا وهنالك البحار والأنهار تحولت إلى نار متأججة مشتعلة! والجبال العملاقة دكت في الأرض فتحولت إلى قطع صغيرة متفتتة كالعهن المنفوش، أي: كالصوف الممزق! تصور معي هذه المشاهد؛ لتقف على حجم الفزع الذي ينتاب أهل الأرض: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة:1 - 2]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي العين، فليقرأ (إذا الشمس كورت)، وليقرأ (إذا السماء انفطرت)، وليقرأ (إذا السماء انشقت)). بعد هذه النفخة يحدث الانقلاب في الكون كله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] الشمس التي تضيء لنا الشمس التي تمدنا بالدفء والحرارة والضياء ذهب ضياؤها وأظلمت! وقال ابن عباس: كورت أي: جمعت ووضعت تحت العرش. وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر أنه صلى الله عليه وسلم نظر يوماً إلى الشمس فقال لأصحابه: (أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إنها تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة لله جل وعلا). {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} [التكوير:2] أظلمت وتناثرت وذهب ضياؤها وتشتت! {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:3] الجبال العملاقة يدكها الله في الأرض دكاً، فتتحول إلى قطع صغيرة متناثرة كالعهن المنفوش أي: كالصوف المنفوش. تدبر معي قول الملك: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:105 - 111]. حتى الجبال؟! نعم، حتى الجبال. {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [التكوير:4] العشار: هي النوق، وهي من أغلى ما يمتلكه العربي في الجزيرة. إذا سمع الناس نفخة الفزع، وفزع أهل الأرض فإن من يمتلك هذه العشار لا يلتفت إليها، ولم تعد تمثل له أي شيء أو أي قيمة؛ لأنه قد وقع بأهل الأرض ما يشغلهم عن كل زخارف هذه الحياة. {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير:5] السباع المفترسة والأليفة الوديعة تحشر كلها، يمشي المفترس إلى جوار الوديع لا ينظر إليه، ولا يجري بين يديه، فقد أدركت زلزلة الساعة وفزع القيامة! فترى الوحوش قد نزلت من الجبال إلى السهول والوديان، الكل قد جاء في ذلة وانكسار للواحد الجبار! {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:6] هذه المياه التي كانت سبباً للحياة يحولها الله إلى حمم إلى كتل نارية محرقة، يعود الماء إلى أصله من الأكسجين والهيدروجين، فيتحول الماء إلى نار مشتعلة متأججة. {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير:7] زوجت أرواح المؤمنين بالحور العين في جنات رب العالمين، أو قرنت الأرواح بالأجساد، أو قرن الكافرون بالشياطين. {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9] لماذا قتلت وهي التي لا ذنب لها؟! {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} [التكوير:10] فتحت، اقرأ كتابك، هل يقول: أنا لا أستطيع القراءة، أنا كنت أمياً؟! لا، اليوم ستقرأ بأمر الملك {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14]. {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} [التكوير:11] أي: طويت كطي السجل للكتب، يطوي الملك جل جلاله السماء والأرض. {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} [التكوير:12] تأججت واشتعلت نيرانها، وجاءت تتلمظ وهي تقول: هل من مزيد؟! هل من مزيد؟! {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} [التكوير:13] قربت للمتقين قربت للموحدين قربت للمؤمنين! {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:14] علم كل إنسان حقيقة أقواله وحقيقة أعماله، سترى كل شيء قدمت، وكل كلمة تكلمت، وكل ما فعلت قد سطر عليك في كتاب عند ربي لا يضل ربي ولا ينسى. وتدبر معي بعد ذلك: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار:1 - 5]. وتدبر معي بعد ذلك قول الله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق:1 - 2] أي: حكم عليها أن تأذن وتخضع لأمر الملك {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق:3 - 4] تخلت عن حملها الثقيل، فأخرجت كل ما في جوفها، وكل ما في بطنها من بني الإنس من يوم أن خلق الله آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 حال الناس يوم الفزع تدبر هذه المشاهد لتقف على حجم الفزع، ولك أن تعلم أن المرأة الحامل إذا رأت هذه المشاهد سقط حملها، بل حتى الأم التي ألصقت رضيعها في صدرها لترضعه إذا رأت هذه المشاهد ألقت ولدها: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37]. تدبر معي قول الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]، وتدبر معي قول الله جل وعلا: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم:42 - 50]. قف مع قول الله جل وعلا: (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) أي: خلت من القلوب، أين القلوب؟!! خرجت، خرجت! من أين؟! من الصدور، إلى أين؟!! إلى الحناجر. لماذا؟!! من الفزع!! قال تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} [غافر:18]، الله أكبر يخرج القلب من الهول من الفزع ينظر المرء إلى هذه المشاهد فينخلع قلبه! يفارق القلب مكانه في الصدر، ويرتفع إلى الحنجرة: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18] إنه قمة الفزع! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 نفخة الصعق قال عليه الصلاة والسلام: (بين النفختين أربعون قالوا: يا أبا هريرة! أربعون يوماً؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون شهراً؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت). ما معنى (أبيت)؟ يعني: أبيت أن أسأل عن ذلك رسول الله، فعلم هذه الأربعين عند رب العالمين. بعد أربعين يأمر الله جل وعلا إسرافيل أن ينفخ في الصور النفخة الثانية، ألا وهي نفخة الصعق، وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر اللقاء. وقد اختلف أهل العلم في عدد النفخات، فمنهم من قال: ينفخ إسرافيل نفختين اثنتين؛ الأولى نفخة الفزع والصعق في آن واحد، وتبنى هذا الرأي الحافظ ابن حجر والإمام القرطبي في التذكرة وقال: إن الصعق ملازم للفزع، أي: فزعوا فزعاً ماتوا منه، ولذا فـ الحافظ والإمام القرطبي يقولان بنفختين اثنتين. وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن كثير والإمام ابن العربي إلى أن الله يأمر إسرافيل أن ينفخ في الصور نفخة الفزع ونفخة الصعق و نفخة البعث ، وهذا هو الذي أميل إليه لأن صريح القرآن يقول ذلك، فلقد فرق الله في صريح القرآن بين نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة البعث، قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل:87]. وقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] وبعدها تكلم عن نفخة البعث فقال تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]. (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ) أي: فمات كل من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، من المستثنى؟! قال بعض أهل العلم: هم الملائكة. ومنهم من قال: بل هم جبريل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت وحملة العرش فقط. ومنهم من قال: هم الحور العين في جنات رب العالمين. ومنهم من قال: هم الشهداء، فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون. ومنهم من قال: نبي الله موسى عليه السلام هو المستثنى في قوله تعالى: (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ) واحتجوا على ذلك بحديث صحيح رواه البخاري أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أنا أول من يرفع رأسه بعد النفخة، فإذا أنا بموسى آخذ بالعرش، فلا أدري أكان ممن أفاق قبلي أم كان ممن استثناهم الله جل وعلا؟!). ولذا أقول: الجزم بمن استثنى الله في هذه الآية غير دقيق، فإذا كان المصطفى لم يجزم بذلك في حق نبي الله موسى، فلا ينبغي لأحد بعد المصطفى من أهل العلم قاطبة أن يجزم بمن استثناهم الله في الآية، فعلم هذا لا ينال إلا بالخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ) صعق أي: مات كل حي وبقي الحي الذي لا يموت. ورد في حديث الصور الطويل الذي رواه البيهقي والطبراني والطبري وابن أبي حاتم وغيرهم، وللأمانة العلمية التي اتفقنا عليها فإن الحديث بطوله ضعيف، ومداره على إسماعيل بن رافع، وإسماعيل بن رافع من الضعفاء كما قال علماء الجرح والتعديل، وفي هذا الحديث: (يأتي ملك الموت للملك، فيقول المَلِك لِمَلَك الموت: يا ملك الموت من بقي؟ -وهو أعلم جل جلاله- فيقول: بقي جبريل وإسرافيل وميكائيل وحملة العرش وبقيت أنا، فيقول الملك ليمت جبريل وميكائيل -لام الأمر- ليمت إسرافيل، ليمت حملة العرش، ويبقى ملك الموت، فيأتي للملك فيقول له الملك: من بقي يا ملك الموت؟ فيقول: بقيت أنا، فيقول الملك: وأنت خلق من خلقي، وخلقتك لما ترى، فمت يا ملك الموت، فيموت ويبقى الحق الذي لا يموت). سبحان ذي الملك والملكوت! سبحان ذي العزة والجبروت! سبحان من كتب الموت على جميع الخلائق وهو الحي الباقي الذي لا يموت. (يا ملك الموت وأنت خلق من خلقي وخلقت لما ترى فمت، فيموت ملك الموت) مات جبريل مات إسرافيل مات ميكائيل مات حملة العرش، مات الملائكة مات الملوك مات الزعماء مات الرؤساء مات الوزراء مات الفقراء مات كل حي على ظهر الأرض ولا يبقى إلا الملك، فيطوي الملك السماوات بيمينه، ويطوي الملك الأرض بشماله، فيتكلم جل جلاله في هذا السكون المهيب، فما من سائل غيره ساعتها ولا مجيب، يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟! أين المتكبرون؟! ثم يقول جل جلاله: لمن الملك اليوم؟! لمن الملك اليوم؟! لمن الملك اليوم؟! فلا يجيبه أحد، فيجيب على ذاته ويقول: لله الواحد القهار. قال جل جلاله: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:15 - 16]. أين الظالمون؟! أين الفراعنة؟! أين الأكاسرة؟! أين القياصرة؟! أين من اغتروا بالكراسي الزائلة؟! أين من فتنوا بالمناصب الفانية؟! أين من اغتروا بالأموال والعمارات والسيارات والدولارات؟! أين الظالمون؟!! وأين التابعون لهم في الغي؟! بل أين فرعون وهامان؟ أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل يبقي الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان قال جل جلاله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. وقال جل جلاله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، مهما عشت فأنت راحل، ومهما أحببت فأنت مفارق، ومهما جمعت فأنت تارك. فيا أخي الحبيب! يا من أجلسك الله على الكرسي، يا من هيأ الله لك المنصب! إن الكرسي زائل، وإن المنصب فانٍ، وإن الحي جل جلاله هو الباقي، فاعلم بأنك راحل فإياك أن تغتر بمنصبك، وإياك أن تفتن بكرسيك، فلا تستغل الكرسي إلا لمرضاة الله وطاعته، واعلم بأن الكرسي إما أن يقربك إلى جنة الله، وإما أن يقربك إلى النار، فاتخذ الكرسي وسيلة إلى جنة العزيز الغفار، لا إلى هذه النار، أسأل الله أن يحفظنا وإياكم من حرها. انظر إلى من سبقك، لو دام الكرسي لغيرك والله ما وصل إليك. أيا عبد كم يراك الله عاصياً حريصاً على الدنيا وللموت ناسيا نسيت لقاء الله واللحد والثرى ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيا إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تجرد عرياناً ولو كان كاسيا ولو كانت الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً وباقيا ولكنها تفنى ويفنى نعيمها وتبقى الذنوب والمعاصي كما هيا ينادي الملك ويقول سبحانه: أنا الملك، أين الجبارون؟!! أنا الملك، أين المتكبرون؟!! ذهبوا وهلكوا وماتوا وأفناهم رب العباد. يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل فلتنزلن بمنزل ينسى الخليل به الخليل وليركبن عليك فيه من الثرى ثقل ثقيل قرن الفناء بنا فما يبقى العزيز ولا الذليل إنها الحقيقة الكبرى التي تعلن على مدى الزمان والمكان في أذن كل سامع، وعقل كل مفكر وأديب، أنه لا بقاء إلا للحي الذي لا يموت، إنها الحقيقة التي تصبغ الحياة البشرية كلها بصبغة العبودية لقهار السماوات والأرض، إنها الحقيقة التي تسربل بها طوعاً وكرهاً العصاة والطائعون، وشرب كأسها الأنبياء والمرسلون، إنها الحقيقة الكبرى في هذا الوجود بعد حقيقة التوحيد، بعد لا إله إلا الله. فيا أيها الأحبة! إن الحياة على ظهر هذه الأرض موقوتة محدودة بأجل، ثم تأتي نهايتها حتماً، فيموت الصالحون والطالحون، يموت المجاهدون والقاعدون، يموت ذوو الاهتمامات العالية والغايات النبيلة، ويموت التافهون الحريصون على الحياة بأيِّ ثمن، الكل يموت. {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، وقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]. أسأل الله جل وعلا أن يسترنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، إنه ولي ذلك ومولاه. وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 نفخة البعث الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله. اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! وأخيراً: نفخة البعث، وأرى عقارب الساعة بين يدي تطاردني، لذا فأنا مضطر لإرجاء الحديث عن نفخة البعث إلى اللقاء المقبل إن قدر الله لنا البقاء واللقاء، إذ إن هذه النفخة -كما سترون إن شاء الله- لا تحتاج إلى لقاء فحسب، بل تحتاج إلى لقاءات، وسأختصر الحديث عنها. نفخة البعث: هي النفخة التي يأمر الله عز وجل فيها إسرافيل أن ينفخ في الصور، بعد أن يحييه الملك جل وعلا بعد موته، فإن أحياه أمره أن يلتقم الصور مرة أخرى، فإذا أمره الله بعد الأربعين التي لا يعلمها إلا رب العالمين نفخ إسرافيل في الصور، فقام أهل القبور بين يدي العزيز الغفور، قال المصطفى كما في صحيح مسلم: (كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب منه خلق ابن آدم، ومنه يركب). ما هو عجب الذنب؟ عظمة صغيرة دقيقة في آخر السلسلة الفقرية لكل إنسان على ظهر الأرض، هذه العظمة لا تزيد عن حبة العدس، عظمة صغيرة تسمى بعجب الذنب، كل الجسد في القبر يبلى إلا هذه العظمة، والله يعلم عظمة كل إنسان خلقه من آدم إلى يوم القيامة. فيأتي الملك بهذه العظمة الدقيقة، ويخلق منها جسد صاحبها، كيف ذلك؟ الجواب في الشهر المقبل -إن شاء الله تعالى- إن قدر الله لنا البقاء واللقاء. اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً بيننا إلا شفيته، ولا ديناً على أحد منا إلا قضيته، ولا هماً إلا فرجته، ولا عيباً إلا سترته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين. اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً. اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى. اللهم ارزقنا الإخلاص في أقوالنا، والصدق في أعمالنا، واليقين في أحوالنا، وباعد بيننا وبين الرياء والنفاق كما باعدت بين المشرق والمغرب يا أرحم الراحمين! اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين اللهم احمل المسلمين الحفاة، واكس المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع، برحمتك وفضلك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين اللهم لا تحرم بلدنا مصر من الأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن وجميع بلاد المسلمين اللهم اجعل مصر سخاء رخاء وجميع بلاد المسلمين اللهم اجعل مصر سخاء رخاء وجميع بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! أيها الأحبة الكرام! هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 نفخة البعث في هذه المادة يتحدث الشيخ عن قضية مهمة من قضايا العقيدة، ألا وهي الإيمان بالبعث بعد الموت، فقد تكلم الشيخ عن حقيقة البعث وإنكار الكفرة له بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودلل بما ذكره الله في محكم كتابه في قصة الرجل الذي مر على القرية، وقصة نبي الله إبراهيم عليه السلام، ثم ذكر كيفية بعث الله للخلق بعد الموت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 1 حقيقة البعث الحمد لله الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء، فهو الأول الذي لا شيء قبله، وهو الآخر الذي لا شيء بعده، وهو الظاهر الذي لا شيء فوقه، وهو الباطن الذي لا شيء دونه، سبحانه سبحانه سبحانه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصلِ اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعنا في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد النبيين في جنته ودار كرامته؛ إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيءٍ قدير. أحبتي في الله! لا زلنا نعيش بفضل الله جل وعلا، مع قول الله تبارك وتعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} [الأعراف:187] أي: كأنك عالم بوقت وقوعها: {يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187]. ولا زلنا الليلة إن شاء الله جل وعلا، نعايش أحداث الساعة، تلك الأحداث المرعبة المزلزلة، وقد انتهينا في الليلة الماضية من النفخة الأولى ألا وهي: نفخة الصعق، ونحن الليلة على موعدٍ -أيها الأخيار- مع النفخة الثانية ألا وهي: نفخة البعث. وذلك مصداقاً لقول الله جل وعلا: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] هذه هي النفخة الثانية بنص حديث مسلم ونحن إن شاء الله جل وعلا نلتزم بما ورد في الأحاديث الصحيحة ففيها الغنية، وفيها الكفاية إن شاء الله تعالى. (ثم نفخ فيه أخرى) أي: في الصور (فإذا هم قيامٌ ينظرون) وأعيروني القلوب والأسماع؛ لأن قضية البعث من القضايا التي شكك فيها المشككون قديماً وحديثاً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 2 إنكار الكفار للبعث إن من الكافرين والعياذ بالله من أنكر قضية البعث في القديم: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] ومنهم من زعم أنه سيعيش وسيموت إلا أنه لن يبعث بعد الموت، كما أخبر ربنا جل وعلا عن هذا الصنف الخبيث في سورة التغابن، فقال سبحانه وتعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] لتبعثن: لام التوكيد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3 من حلف بغير الله فقد أشرك الرسول صلى الله عليه وسلم يأمره الله جل وعلا في هذه الآية أن يقسم بذاته، وهنا ينبغي أن أذكر أحبابي وإخواني بأن الله جل وعلا، إن كان يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم، أن يقسم إن كان مقسماً بالله جل وعلا، أفيحل لنا نحن إذا أردنا أن نقسم وأن نحلف بغير الله جل وعلا؟ كلا والله، فمن كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله: (من حلف بغير الله فقد أشرك). أيها الحبيب والكريم! أعلمُ يقيناً أنك تحب الحبيب المصطفى، ولكن حبيبك المصطفى صلى الله عليه وسلم يأمرك ويجب عليك أن تُذعن لأمره وتطيع، يأمرك الحبيب ألا تقسم به، أي لا تقل: والنبي، ولا والولي، ولا وحياة أولادي، ولا وحياة زوجتي، ولا كذا ولا كذا، وإنما يعلمك حبيبك المصطفى صلى الله عليه وسلم إن كنت حالفاً ومقسماً أن تحلف بالله جل وعلا، لأنه لا يجوز لك البتة أن تحلف إلا بالله تبارك وتعالى: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) (من حلف بغير الله فقد أشرك). فلا تقل أيها الحبيب: والنبي كذا، كلا، هذا لا يصح ولا يجوز. وأيضاً: إن تعرضنا لهذه الجزئية فأذكرك -أيها الحبيب في الله- وأقول لك: كن على يقينٍ بأن الأمر كله لله جل وعلا، وبأن الضر والنفع بيد الله جل وعلا، فإن كان لا يصح لك أن تحلف إلا بالله؛ فإنه لا يصح لك بحالٍ أن تسأل غير الله، إياك أن تسأل نبياً ولو كان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإياك أن تسأل ولياً، إن كان لا يصح لك أن تسأل الحبيب محمداً، فهل يصح لك أن تسأل من دونه ولياً؟ كلا والله؛ لأنه لا يملك لك الضر والنفع إلا ملك الملوك وجبار السماوات والأرض كما ورد في حديث ابن عباس الذي رواه الترمذي وأحمد بسندٍ صحيحٍ، أنه قال: (يا غلام! إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت) اسأل من النبي أو الولي، اسأل مَن يا أحباب؟! الله جل وعلا، انتبه أيها الكريم (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، واعلم أنهم لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف). يا صاحب الهم إن الهم منفرجٌ أبشر بخيرٍ فإن الفارج الله إذا بليت فثق بالله وارضَ به إن الذي يكشف البلوى هو الله الله يحدث بعد العسر ميسرةً لا تجزعنّ فإن الصانع الله والله مالك غير الله من أحدٍ فحسبك الله في كلٍ لك الله لا تسأل إلا الله جل وعلا؛ لأن الذي يملك الضر والنفع هو الله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17]. فلا تحلف إلا بالله، ولا تسأل إلا الله، ولا تستعن إلا بالله، وانتبه -أيها الحبيب- ولا تذبح إلا لله، فمن ذبح لغير الله فقد أشرك، لا عقر في الإسلام، ولا نذر في الإسلام إلا للرحيم الرحمن. وانتبه أيها الحبيب! إن كان ذبحك لله؛ فليكن نذرك لله، لا تنذر لنبي ولا تنذر لولي؛ لأن هذا من الشرك الذي حذرنا منه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، من حلف فليحلف بالله، ومن نذر فليكن نذره لله، ومن ذبح فليكن ذبحه لله، ومن طاف فليكن طوافه ببيت الله، إياك أن تطوف بغير بيت الله، لا تطف بقبر محمد صلى الله عليه وسلم ولا بقبر غيره من الأولياء والصالحين، وإنما فليكن طوافك ببيت رب العالمين، كما أمرك ربك جل وعلا، بقوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] فقط واللام للأمر. هذه هي العبادة الصافية: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. أيها الحبيب! لا تظن أن محبتك للنبي صلى الله عليه وسلم هي أن تسأل رسول الله، أو أن تطلب من رسول الله، أو أن تستغيث برسول الله، أو أن تلجأ إلى رسول الله، كلا. لا تقل ما قاله من قبل هؤلاء: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العممِ وإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم فأين الله؟ أين الله جل وعلا؟! الذي يجب أن يسأل، وأن يستغاث به وحده، وأن يسأل وحده، وأن يستعان به وحده، وأن يتوكل عليه وحده، وأن يفوض إليه الأمر وحده، وأن يذبح إليه وحده، وأن ينذر إليه وحده، وأن يستعان به وحده، وأن يستغاث به وحده، وأن تصرف العبادة كلها لله جل وعلا وحده. {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] بلى وربي، يأمر الله نبيه أن يقسم به، فيجب عليّ وعليك أن أقسم بربي جل وعلا، لا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا بالولي. {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] وبالرغم من ذلك كذب الذين كفروا ربنا جل وعلا، وسخر الكافرون من قول نبينا صلى الله عليه وسلم، فقالوا كما قال الله عنهم في سورة الإسراء: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} [الإسراء:49] قل: يا محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:50 - 52] كونوا ما شئتم سيبعثكم الذي خلقكم أول مرة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4 قصة العاص بن وائل ولقد ذهب أُبي بن خلف وقيل العاصي العاص بن وائل بعظامٍ باليةٍ -أيها الأحباب- يفتها بين يديه، وقد ذهب إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقال له: (يا محمد! أتزعم أن ربك يحيي هذه العظام بعد ما صارت رميماً -أتدرون ماذا قال صلى الله عليه وسلم؟ - قال له: نعم يميتك، ثم يبعثك، ثم يدخلك جهنم) فنزل قول الله جل وعلا: {أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:77 - 79] جل جلال الله، الذي خلقك أول مرة من النطفة المهينة الحقيرة، أليس بقادرٍ على أن يبعثك مرةً أخرى؟! بلى وعزة ربنا إنه لقادر: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7]. وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده بسندٍ حسن من حديث بشر بن جحاش القرشي رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بصق يوماً على كفه ووضع النبي إصبعه عليها ثم قال: قال الله تعالى: يا ابن آدم! أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه -انتبه أيها الحبيب- حتى إذا سويتك وعدلتك، مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت منك التراقي قلت: أتصدق) وأنّ أوان الصدقة {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [القيامة:36 - 39] أليس ذلك بقادر! قولوا: بلى وعزة ربنا كما قالها قتادة رضي الله عنه: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40] بلى. وفي الحديث الذي رواه البخاري من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك) أسمعت أيها الحبيب! الله جل وعلا يقول: (كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك) كذبت ربك يا ابن آدم! وشتمت ربك يا ابن آدم! صاحب الفضل والإنعام والإكرام والإحسان!!: (كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، أما تكذيبه إياي فقوله: إن الله لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} [البقرة:116]) وأنا الأحد الصمد، الذي لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفواً أحد. جل جلال الله، كذب الإنسان ربه بقوله: لن يبعثني الله جل وعلا، وشتم الإنسان ربه بقوله: بأن الله جل وعلا قد اتخذ ولدا، ورحم الله إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد يوم أن كان ينظر إلى نصرانيٍ -ولا تقولوا مسيحي- يوم أن كان ينظر إلى نصراني فيغمض عينه، ويصرف بصره عنه، ويقول: إني لا أطيق أن أرى من سب الله جل وعلا!! سبوا الله مسبةً عظيمة: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:72] {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 قصص ذات دلالة على قدرة الله على البعث بعد الموت إن قضية البعث من القضايا اليقينية الغيبية التي هي من أركان الإيمان بالله جل وعلا، ولا ينكر البعث بعد الموت إلا كافرٌ بالله تبارك وتعالى، أعاذنا الله وإياكم من ذلك، ولقد ذكر الله جل وعلا لنا في سورة البقرة قصتين جميلتين من أعظم الأدلة على قدرته جل وعلا على البعث بعد الموت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 قصة صاحب القرية قال سبحانه في قصة العزير: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة:259] والقرية على الراجح هي قرية بيت المقدس، مر عليها العزير بعدما دمرها بختنصر، وصارت خراباً، فنظر إليها العزير يصفر فيها الهواء، لا سبب فيها من أسباب العمران، فقال: أنى يحيي الله هذه بعد موتها، فأماته الله جل وعلا مائة عام، ثم بعثه بعد مائة عام كاملة، وسأله الله جل وعلا عن طريق الملك، قال: كم لبثت؟ فنظر العزير فوجد الشمس ما زالت مائلة إلى الغروب، فظن العزير أنها شمس اليوم الذي مات فيه، أو نام فيه، قال: لبثت يوماً أو بعض يوم، قال: بل لبثت مائة عام، ما الدليل؟! انظر إلى وجهي المقارنة؛ لأنه لابد للمقارنة من وجهين وجه ثابت ووجه متغير قال: انظر إلى الوجه الأول، انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه، أي لم يتغير لونه، ولا طعمه، ولا رائحته، بالله عليكم هل في الدنيا (ديب فريزر) يحفظ الطعام مائة سنة؟ الله أكبر! يحفظ الطعام مائة عام، انظر إلى الطعام والشراب ما تغير لا لونه، ولا طعمه، ولا ريحه، وما هي المقارنة المتغيرة يا رب؟ انظر إلى الحمار، أي حمارٍ؟ الحمار صار عظاماً بالية، صار رميمة، أكلته الأرض وبلي، قال: انظر إليه، فنظر إلى الحمار، فوجد الله جل وعلا يحيي أمام عينه حماره مرةً أخرى، يأتي العظم إلى جوار العظمة التي سيركب معها، وإذ به يرى الحمار يتحول إلى هيكلٍ عظمي فقط، لا لحم، ولا عظم، ولا شعر، ولا روح، وإذ به بعد ذلك يرى الحمار يكسى باللحم، ثم بعد ذلك بالشعر، ثم يأمر الله الملك فأتى الملك الحمار فنفخ في منخريه، فنهق الحمار بإذن الله جل وعلا، فصرخ العزير قائلاً: أعلم أن الله على كل شيءٍ قدير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 قصة إبراهيم عليه السلام بعدها قال الله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:260] إبراهيم ما شك يا إخوان! أضرب لكم مثالاً: يأتي الشيخ محمد التويجري حفظه الله ويقول: ابني نجح في المتوسطة وحصل على (99%) وهذه الشهادة يا شيخ، انظر في الشهادة ما شاء الله (99%) أقول: ما شاء الله، انظروا إلى السؤال أقول: يا شيخ محمد! كيف حصل ولدك على هذه الدرجة؟ هل أنا بهذا السؤال أنكر على أنه حصل على (99%)؟ لا أنكر، ولكنني أسأل عن كيفية حصوله على هذه الدرجة؛ فإبراهيم ما أنكر وإنما قال: كيف تحيي الموتى؟ قال: أولم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي، يريد أن ينتقل من حالة علم اليقين إلى عين اليقين، هلاّ جمعت أربعة من الطيور يا إبراهيم! وجمع إبراهيم الطيور، قال: اذبح واقطع واخلط العظم مع الريش، سبحان الله! وضع على جبل كوم من اللحم، وكوم من العظم، وكوم من الريش: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة:260] علم الطيور واعرف: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً} [البقرة:260] قف يا إبراهيم! وناد على الطيور هذه: {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً} [البقرة:260] قف يا إبراهيم! وناد. ما هي أنواع الطيور يا إخوان؟! لأن كثيراً من الإخوة يتوقفون، هل كان معه حمام أو هدهد؟ أو ماذا؟ الله أعلم! ما سكت القرآن عنه لا حاجة لنا في أن نسأل عنه. وأذكر مرة أن شخصاً سألني فقال لي: النملة التي كلمت سيدنا سليمان كانت ذكراً أم أنثى؟ فقلت له: أنت مالك ولها. وشخص آخر يسألني يقول لي: يا شيخ! قلت له: نعم. قال: كلب أصحاب الكهف ماذا كان اسمه؟ قلت له: اسمه عنتر، الاسم ليس فيه مشكلة. فهذه أسئلة كما قال علماؤنا عنها: علمٌ لا ينفع، وجهلٌ لا يضر، أياً كان نوع الطيور، المهم العبرة. {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً} [البقرة:260] وانظر -أيها الحبيب- ربنا ما قال: يأتينك طيراناً؛ لأنه لو قال طيراناً لربما قال: هذا طيرٌ من طيور السماء، لكن قال: سعياً حتى يتأكد إبراهيم بعينيه وهو يرى الطيور تحيا بأمر الله، وتأتيه بأمر الله الذي يقول للشيء كن فيكون!! قدرة الله لا تحدها حدود. قل للطبيب تخطفته يدُ الردى من يا طبيب بطبه أرداك قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا قل للصحيح يموت لا من علةٍ من يا صحيح بالمنايا دهاكا بل سائل الأعمى خطا وسط الزحام بلا اصطدام من يقود خطاكا وسلِ البصير وكان يحذر حفرةً فهوى بها من ذا الذي أهواكا وسل الجنين يعيش معزولاً بلا راعٍ ومرعى ما الذي يرعاكا وسل الوليد بكى وأجهش بالبكاء عند الولادة ما الذي أبكاكا وإذ ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاكا بل سائل اللبن المصفى كان بين دمٍ وفرثٍ ما الذي صفاكا من يا إخوان؟! إنه الله جل وعلا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 كيفية البعث بعد الموت قدرة الله لا تحدها حدود، ولا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] هين (فإذا ما أراد الله أن يبعث خلقه وعباده أمر الله جل وعلا السماء فتمطر -تمطر! تمطر ماذا؟! - تمطر ماءً كالطل -ما معنى الطل؟! الطل: ماء ثخين كمني الرجال أعزكم الله- يأمر الله السماء فتمطر ماءً كالطل) وهذا حديثٌ رواه الإمام مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ورواه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: ما بين النفختين -يعني نفخة الصعق، ونفخة البعث أربعون، قالوا: يا أبا هريرة أربعون يوماً؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون شهراً؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون سنةً؟ قال: أبيت) وعلماؤنا يفسرون معنى كلمة أبيت: أي أبيت أن أسأل رسول الله عن ذلك. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة (: ثم ينزل الله جل وعلا ماءً كالطل -أي كمني الرجال- فكل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب، منه خلق ابن آدم ومنه يركب) ما هو هذا عجب الذنب؟ عجب الذنب هذا -يا إخوان- عبارة عن عظمة صغيرة جداً في آخر السلسلة الفقرية لكل إنسان خلقه الله جل وعلا، هذه العظمة لا تبلى أبداً، يدفن الإنسان في قبره ألف عام وأكثر، أو أقل، الله أعلم! وإذا ما أراد الله أن يبعث خلقه أو أن يبعث عباده يأتي الله بكل عظمة إنسان خلقه، والله أعلم بعظمة كل إنسان من لدن آدم إلى قيام الساعة، ويأتي الله بهذه العظمة التي لا تبلى أبداً، ويركب الله حولها جسد صاحبها بعدما ينزل هذا المطر من السماء، تنبت الأجساد وتحيا في القبور، إلى الوقت الذي يشاء الله جل وعلا، فيأمر الله سبحانه وتعالى إسرافيل بعد ذلك أن ينفخ في الصور، والأجساد قد اكتملت، فإذا ما نفخ إسرافيل في الصور؛ أمر الله جل وعلا الأرواح فيأتى بها فتوضع في الصور، ويقول ربنا جل وعلا كما في حديث الصور الطويل، يقول ربنا جل وعلا: (وعزتي وجلالي ليرجعن كل روحٍ إلى جسده، فتسري الأرواح في الأجساد في القبور كما يسري السم في اللديغ، وحينئذٍ يأمر الله الأرض فتتزلزل) {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة:1 - 2] وقال الإنسان المذعور المفزوع المرعوب: ما لها؟ ما الذي جرى؟ لقد كانت الأرض ساكنة آمنة مطمئنة، ما الذي غير حالها، وبدل أمنها وأمانها ما لها؟! {وَقَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:3 - 8]. وهنا تتشقق الأرض، ويخرج الناس من قبورهم حفاةً عراةً غُرلا، هذا يخرج من هنا، وذاك يخرج من هناك، ويتجهون جميعاً إلى أرضٍ واحدة، إلى مكانٍ واحد، إلى هدفٍ واحد، شاخصة أبصارهم تجاه هذا المنادي الذي جاء ليقودهم إلى أرض المحشر: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} [طه:108] ونتوقف مع حضراتكم عند هذا المشهد المهيب، لنبدأ الليلة القادمة إن قدر الله لنا البقاء واللقاء مع مشهد الحشر إلى الله جل وعلا. أسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يسترنا وإياكم في الدنيا والآخرة، وأن يجعل هذا البلد سخاءً رخاءً آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 الشفاعة يوم القيامة يوم عصيب وطويل، ولذلك يضطر الناس إلى طلب الشفاعة بفصل القضاء، فيتلمسونها عند جميع الأنبياء ولا يجدونها إلا عند محمد صلى الله عليه وسلم، فيطلب النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة من الله بفصل القضاء، فيستجيب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو المقام المحمود الذي يحمده عليه جميع الناس، وإن أسعد الناس بشفاعته صلى الله عليه وسلم من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 1 الشفاعة العظمى الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدَّى الأمانةَ، وبَلَّغَ الرسالةَ، ونَصَحَ الأمةَ، فكشف الله به الغمة، جاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيَّاكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الكريم على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! في رحاب الدار الآخرة سلسلة علمية هامة، تجمع بين المنهجية والرقائق وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، الهدف منها: تذكير الناس بالآخرة في عصر طغت فيه الماديات والشهوات، وانصرف كثير من الناس عن منهج رب الأرض والسماوات؛ ليعجلوا بالتوبة إلى الله سبحانه قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون. وهذا هو لقاؤنا الحادي عشر من لقاءات هذه السلسلة المباركة الكريمة، وكنا قد أنهينا الحديث في اللقاء الماضي مع الناس وهم في أرض المحشر، وقد اشتد بهم الهول والغم والكرب، فالزحام وحده يكاد أن يخنق الأنفاس، والشمس فوق الرءوس بمقدار ميل! والناس غرقى في عرقهم كل بحسب عمله وبحسب قربه من الملك الجليل، وفي هذا المشهد الرهيب العصيب يزداد الهم والغم والكرب بمجيء جهنم أعاذنا الله من حرها، قال تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:23 - 26]. وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم من حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها). فإذا ما رأت الخلائق زفرت وزمجرت غضباً منها لغضب الملك الجبار جل جلاله. وحينئذ تجثو جميع الأمم على الركب، قال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28] وهنا تطير قلوب المؤمنين شوقاً إلى الجنة -اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك- وتطير قلوب المجرمين هرباً وخوفاً وفزعاً من النار، بل ويعض صنف كثير من الناس في أرض المحشر على يديه، يتأسف ويتحسر ويتندم على ما قدم في هذه الحياة الدنيا، ولكن يوم لا ينفع الندم، قال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا * وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:26 - 29]. في هذا الكرب ينطلق الناس، ويقول بعضهم لبعض: ألا ترون ما نحن فيه؟!! ألا ترون ما قد بلغنا؟!! ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم ليقضي بينكم؟!! وهنا يقول كل نبي: نفسي نفسي! ويقول المصطفى: أنا لها، فلا يتقدم للشفاعة إلا نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا هو موضوعنا اليوم مع حضراتكم أيها الأحبة الكرام! وكما تعودنا فسوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم اليوم في العناصر التالية: أولاً: الشفاعة العظمى. ثانياً: من أسعد الناس بشفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم. فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب! والله أسأل أن يتقبل مني ومنكم جميعاً صالح الأعمال، وأن يستر علينا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، إنه على كل شيء قدير. أولاً: الشفاعة العظمى. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنا سيد الناس يوم القيامة، هل تدرون مم ذاك؟! يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، وتدنو الشمس من الرءوس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما نحن فيه، ألا ترون ما قد بلغنا؟! ألا تنظرون من يشفع لنا إلى ربنا؟! فيقول بعضهم لبعض: أبوكم آدم، فيأتون آدم عليه السلام، فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة بالسجود لك، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول آدم عليه السلام: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله). اللهم إنا نسألك بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بنا غضبك، أو يحل علينا سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك يا أرحم الراحمين! أستحلفك بالله أن تعيش مع الحديث بقلبك بكيانك بوجدانك، فهذا نبي من أنبياء الله، بل هذا هو أبو البشرية جمعاء يقول: (إن ربي عز وجل قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي) اللهم سلم سلم يا أرحم الراحمين! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 2 عزوف نوح عن الشفاعة العظمى ثم قال صلى الله عليه وسلم حاكياً عن آدم: (اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً عليه السلام، فيقولون: يا نوح! أنت أول رسل الله إلى الأرض، وقد سماك الله عبداً شكوراً، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى إلى ما بلغنا؟!)، نوح أول رسل الله إلى الأرض، ذلكم العملاق الذي ظل يدعو إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاماً! ذلكم النبي الكريم الذي دعا قومه في السر والعلانية، في الليل والنهار: {إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح:5 - 9]. ما ترك هذا النبي الكريم سبيلاً إلا وسلكه، فلم ينم ولم يهدأ ولم يقر له قرار، ومع ذلك يقولون: (يا نوح! أنت أول رسل الله إلى الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! اشفع لنا إلى ربك، فيقول نوح: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه كانت لي دعوة فدعوت بها على قومي، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري)، إن لكل نبي دعوة مستجابة، وكل نبي قد تعجل بها في الدنيا إلا المصطفى، كما في صحيح مسلم: (لكل نبي دعوة مجابة، وكل نبي قد تعجل دعوته إلا أنا فقد اختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة، فإنها نائلة إن شاء الله تعالى من مات لا يشرك بالله شيئاً). اللهم ارزقنا التوحيد وتوفنا عليه يا أرحم الراحمين! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3 عزوف إبراهيم عن الشفاعة العظمى وقد دعا نوح على قومه فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:26 - 27]، ولذلك قال نوح: (إنه كانت لي دعوة فدعوت بها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم) إلى الخليل إلى الحليم الأواه إلى حبيب الله بلا نزاع إلى هذا النبي الكريم الذي حرم الله على النار أن تمس جسده: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]. قال: (فيأتون إبراهيم الخليل عليه السلام ويقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله، وأنت خليل الله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول خليل الله إبراهيم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ويذكر إبراهيم كذباته، ثم يقول: نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري). كذباته؟! وهل كذب إبراهيم؟ والجواب من صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، اثنتين منهن في ذات الله، أما الأولى: فقوله: إني سقيم)، متى قال إبراهيم هذه العبارة؟! يوم أن كان شاباً صغيراً وقد نشأ في قوم يعبدون الأصنام ودعاه والده ليخرج مع القوم في عيد عبادة الأصنام، فتعلل إبراهيم بالمرض وقال: إني سقيم؛ لأنه لا يريد أن يسجد لغير رب العالمين. قال: (وأما الثانية: فقوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63])؛ وذلك لما حطم الأصنام، وعلق الفأس في رأس كبير هذه الآلهة المدعاة، فلما عادوا وقالوا: من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين، رد البعض بلغة التحقير، التي هي ديدن الظالمين في كل زمان وأوان: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء:60 - 61]، ثم وجهوا له هذا السؤال { أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:62 - 63]، هذه هي الكذبة الثانية لإبراهيم. وأما الكذبة الثالثة: يوم أن خرج مهاجراً بزوجته سارة فنزل مصر، وكان في مصر في ذلك الزمان جبار من الجبابرة، أسأل الله أن يطهر مصر في كل زمان وأوان، فلما مر بـ سارة عليها السلام نقل بعض الناس لهذا الجبار: أن رجلاً قد نزل بأرضنا معه امرأة من أجمل الناس، فأرسل هذا الجبار الخبيث بالشرطة فجاءت بإبراهيم، فقال له: من هذه؟ قال إبراهيم: إنها أختي، ولم يقل: إنها زوجتي، فلو قال: إنها زوجتي لقتله ليخلص إليها، فقال: إنها أختي، ثم عاد إبراهيم، فقال لها: يا سارة! لقد سألني هذا الرجل عنك، فقلت: إنها أختي، فإنه لا يوجد على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، فأنت أختي في دين الله جل وعلا، فإن سألك فاصدقيني ولا تكذبيني، ثم أرسل هذا الخبيث الجبار إلى سارة فأتي بها فلما دخلت عليه، ونظر إليها، قام إليها ليلمسها بيده، فشل الله يده، -والحديث في صحيح البخاري - فقال لها: ادعي الله عز وجل ولا أضرك بعدها، فدعت الله فأطلق الله يده، فقام إليها الخبيث مرة ثانية ليتناولها بيده فشل الله يده، فقال: ادعي الله ولا أضرك بعدها، فدعت الله فأطلقت يده، فنادى على بعض حجبته، وقال: إنكم لم تأتوني بإنسان، وإنما أتيتموني بشيطان اخرجوا بها وأخدموها هاجر، فأعطاها هاجر عليها السلام؛ لتخدمها وهي التي تزوجها إبراهيم بعد ذلك، فعادت سارة بـ هاجر فرأت إبراهيم يصلي لله جل وعلا، فلما انصرف من صلاته قال: مهيم؟ يعني: ماذا فعل الله بك؟ فقالت سارة: رد الله كيد الفاجر وأخدم هاجر، أي: وأعطاني هاجر خادمة لي، وهكذا صان الله عز وجل عرض نبيه إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، هذه كذبات إبراهيم! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4 عزوف موسى وعيسى عن الشفاعة العظمى أرجع إلى حديث الصحيحين: (يقول إبراهيم: نفسي نفسي نفسي -وذكر كذباته التي ذكرت الآن- اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى)، موسى الكليم إنه المصطفى بالرسالة إنه المجتبى بالكلام إنه المصنوع على عين الله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، اصطفاه الله برسالاته وبكلامه على جميع الخلق. يقول المصطفى: (فيأتون موسى، فيقولون: يا موسى! أنت كليم الله، اصطفاك الله برسالاته وبكلامه على الناس، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! اشفع لنا إلى ربك، فيقول موسى عليه السلام: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى عليه السلام، ويقولون: يا عيسى! أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلَّمت الناس في المهد، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! اشفع لنا إلى ربك، فيقول عيسى عليه السلام: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، اذهبوا إلى غيري، نفسي نفسي، نفسي اذهبوا إلى محمد بن عبد الله) صلى الله عليه وآله ومن والاه، من سار على دربه نجا في دنياه ونجا في أخراه، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5 إقدام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على الشفاعة العظمى يقول عيسى عليه السلام: (اذهبوا إلى محمد بن عبد الله ولم يذكر عيسى صلى الله عليه وسلم ذنباً من الذنوب، يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: فيأتونني فيقولون: يا رسول الله! لقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! اشفع لنا إلى ربك، فيقوم المصطفى ويقول: نعم، أنا لها أنا لها)، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. يقول: (فأقوم فأخر ساجداً لربي تحت العرش، فينادي عليه الملك جل جلاله، ويقول: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تُشفّع، فيقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: يا رب! أمتي، يا رب! أمتي، يا رب! أمتي). هو الحليم الأواه صاحب القلب الكبير هو الحليم الأواه صاحب القلب الرحيم الذي قال الله في حقه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، وقد (قرأ يوماً قول الله في إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36]، وقرأ قول الله في عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] فبكى وقال: يا رب! أمتي، أمتي، فأنزل الله إليه جبريل عليه السلام، وقال: يا جبريل! سل محمداً ما الذي يبكيه -وهو أعلم- فنزل جبريل فقال: ما يبكيك يا رسول الله؟! قال: أمتي أمتي يا جبريل! فصعد جبريل إلى الملك الجليل، وقال: يبكي على أمته -والله أعلم- فقال الله لجبريل: انزل إلى محمد وقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك)، فيقول هنا: يا رب! أمتي، يا رب! أمتي، يا رب! أمتي. وفي حديث الصور الطويل، الذي رواه الطبري والطبراني والبيهقي وأبو يعلى الموصلي، والسيوطي واستشهد به ابن أبي العز الحنفي -وللأمانة العلمية التي عاهدنا الله عليها فإن الحديث بطوله ضعيف، ففيه إسماعيل بن رافع وهو ضعيف كما قال أهل الجرح والتعديل، وفيه محمد بن زياد وهو مجهول- ولكن فيه ما يتفق مع سياق حديث أبي هريرة الذي ذكرت آنفاً، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (فأخر ساجداً تحت العرش، فيقال لي: ما شأنك؟ -وهو أعلم- فيقول المصطفى: يا رب! وعدتني الشفاعة فشفعني في خلقك فاقض بينهم، فيقول الله جل وعلا: قد شفعتك، أنا آتيكم لأقضي بينكم، يقول المصطفى: فأرجع لأقف مع الناس في أرض المحشر، وتنتظر البشرية كلها مجيء الملك جل جلاله). مجيئاً يليق بكماله وجلاله، فكل ما دار ببالك فالله بخلاف ذلك: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] فصفة النزول، وصفة المجيء، وصفة الإتيان، وصفة الغضب، وجميع صفات الله جل وعلا، نثبتها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] قال علماؤنا: استوى كما أخبر، وعلى الوجه الذي أراد، والمعنى الذي قال، استواء منزهاً عن الحلول والانتقال، فلا العرش وحملته ولا الكرسي يسنده، بل العرش وحمتله والكرسي وعظمته، الكل محمول بلطف قدرته مقهور بجلال قبضته، فالاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، سأل رجل إسحاق بن راهويه، وقال: يا إسحاق! كيف تؤمنون بإله يتنزل كل ليلة من عرشه إلى السماء الدنيا؟ فقال له إسحاق: يا هذا! إن كنت لا تؤمن به، فإننا نؤمن بإله يتنزل كل ليلة من عرشه إلى السماء الدنيا ولا يخلو منه عرشه، لا تعطل ولا تكيف ولا تمثل ولا تشبه جل جلال الله، جل ربنا عن الشبيه وعن المثيل وعن النظير: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)، من كان منا يتصور أن النمل يتكلم! وما عرف ذلك وفهمه إلا يوم أن قرأ في القرآن: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ} [النمل:18]. من منا كان يتصور أن هناك شيئاً لا يمشي على رجليه وإنما يمشي على بطنه! حتى رأينا الحية وما شاكلها، وهكذا فمن شبه الله جل وعلا فهو واهم؛ لأن الله سبحانه يقول: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110] جل جلال الله، لا ند له ولا كفء له ولا شبيه له ولا نظير له ولا مثيل له: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 6 عظم مكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه ولن يشفع للبشرية كلها لفصل القضاء إلا المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولم يرد الملك جل جلاله إلا على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، أيها الموحدون! والله لا يعرف قدر رسول الله إلا الله، إن قدر رسول الله عند الله لعظيم، وإن كرامة النبي عند الله لكبيرة، فهو المصطفى والمجتبى، فلقد اصطفى الله من البشر الأنبياء، واصطفى من الأنبياء الرسل، واصطفى من الرسل أولي العزم الخمسة، واصطفى من أولي العزم الخمسة الخليلين إبراهيم ومحمداً، واصطفى محمداً ففضله على جميع خلقه، شرح له صدره ورفع له ذكره ووضع عنه وزره، وزكاه في كل شيء: زكاه في عقله، فقال سبحانه: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2]. وزكاه في صدقه فقال سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]. وزكاه في صدره فقال سبحانه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1]. وزكاه في فؤاده فقال سبحانه: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]. وزكاه في ذكره فقال سبحانه: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4]. وزكاه في طهره فقال سبحانه: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2]. وزكاه في علمه فقال سبحانه: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5]. وزكاه في صدقه فقال سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]. وزكاه في حلمه فقال سبحانه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. وزكاه كله فقال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 الشفاعة العظمى هي المقام المحمود هو رجل الساعة، ونبي الملحمة، وصاحب المقام المحمود، فهذا هو المقام المحمود الذي يغبطه عليه كل نبي في أرض المحشر، الذي وعد الله به نبينا في قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]. فهذا هو المقام المحمود كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأنا أول من ينشق عنه القبر، وأنا أول شافع وأول مشفع). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنياناً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة في زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويتعجبون له ويقولون: هلا وُضِعَتْ هذه اللبنة؟ أي: ليكتمل البنيان بجماله وجلاله؟! هلا وضعت هذه اللبنة؟! يقول المصطفى: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين). وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وفي لفظ البخاري مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وختم بي النبيون، وأرسلت إلى الناس كافة). هذه مكانة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، بل لقد أنزل الله قرآناً ليربي وليعلم الصحابة كيف يعظمون رسول الله؟ وكيف يوقرون رسول الله؟ وكيف يتأدبون حتى في مناداة رسول الله، ولكن الأمة الآن -إلا من رحم ربك- لم تعرف قدر نبيها ولم تعظم رسولها، بل وقد أساءت الأمة الأدب مع رسول الله، فهجرت الأمة شريعته، وَنَحَّت الأمة سنته، ولم تعد الأمة تجيد إلا أن تتغنى برسول الله في ليلة الهجرة في ليلة المولد في ليلة النصف من شعبان!! فالأمة الآن لا تجيد إلا الرقص والغناء؛ لأنها عشقت الهزل وتركت الجد والرجولة، أمة تدعي الحب لرسول الله وتتغنى برسولها في المناسبات والأعياد الوطنية، في الوقت الذي نحت فيه شريعته، وهجرت فيه سنته، بل وخرج من أبناء هذه الأمة من يقول في حق القرآن الذي أنزله الله على قلب رسوله، الذي جعل الله فيه الهدى في الدنيا والآخرة، قال هذا المجرم المرتد: إن القرآن منتج ثقافي وليس من عند الله! وقال خبيث آخر: لقد عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين حتى الالتهاب الذي في رئتهم والنجاسات التي في أمعائهم. وقال خبيث ثالث: إن مصيبة الشرق في التمسك بما يسمى بالأديان! الأمة هجرت شريعة رسول الله، ونحت سنة رسول الله، أين الشريعة؟ غيرت بدلت ضيعت! فهذا ورب الكعبة هو أعظم منكر على وجه الأرض، وهذا هو الذي يجب أن تجيش له كل الطاقات وكل الإمكانيات حتى تظلل شريعة المصطفى سماء هذه الأمة. اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً برحمتك يا أرحم الراحمين! اسمع وانتبه! فإن كل مغرور ومخدوع من هذه الأمة يقول: إن لم أدخل الجنة أنا فمن يدخلها؟! بطرس، شلودر؟! أنا الذي سأدخل الجنة! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 8 التبديل والتغيير سبب للطرد عن الحوض إن كل من غير وبدل وابتدع وانحرف عن هدي رسول الله سيحال بينه وبين حوض رسول الله في أرض المحشر، فالناس في حاجة شديدة إليه، الزحام يخنق الأنفاس، والشمس فوق الرءوس، والبشرية كلها في أرض واحدة من لدن آدم في هذا الظرف الرهيب، والمصطفى صلى الله عليه وسلم واقف على حوضه، والحوض ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، وأطيب ريحاً من المسك، عدد كيزانه بعدد نجوم السماء، من شرب منه بيد الحبيب لا يظمأ بعدها أبداً، حتى يتمتع بالنظر إلى وجه الملك في الجنة. اللهم اسقنا بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا نرد ولا نظمأ بعدها أبداً، برحمتك يا أرحم الرحمين! يقول المصطفى والحديث رواه البخاري من حديث سهل بن سعد الساعدي: (أنا فرطكم على الحوض -أي: سأسبقكم يوم القيامة؛ لأقف على الحوض- فمن مر عليَّ شرب، ومن شرب لا يظمأ أبداً، وليردن على الحوض قوم أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم) وفي لفظ في الصحيح: (ثم يختلجون) أي: يمنعون ويفضون، فيقول المصطفى: (إنهم من أمتي، إنهم من أمتي، فيقال للحبيب: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقول المصطفى: سحقاً سحقاً -أي: بعداً بعداً- لكل من غير بعدي). الاتباع وامتثال الأمر والنهي للحبيب محمد صلى الله عليه وسلم هو سبيل الفوز والنجاة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 9 خشية الله عند السلف وهذه نماذج من أحوال السلف وخشيتهم لله تعالى، فهذا معاذ بن جبل ينام على فراش الموت ويدخل عليه الليل فيشتد به الألم والوجع فينظر إلى أصحابه ويقول: هل أصبح النهار؟! هل أصبح النهار؟! فيقولون: لا لم يصبح بعد، فيبكي معاذ بن جبل حبيب رسول الله الذي قال: (والله يا معاذ إني لأحبك) يبكي ويقول: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار. يخشى معاذ بن جبل أن يكون من أهل النار!! وهذا هو فاروق الأمة عمر بن الخطاب الذي أجرى الله الحق على لسانه وقلبه، ينام على فراش الموت فيدخل عليه ابن عباس ليذكره وليثني عليه الخير كله، فيقول عمر: والله إن المغرور من غررتموه، والله لو أن لي ملء الأرض ذهباً لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه. ثم قال عمر: وددت أن أخرج من الدنيا كفافاً لا لي ولا علي. وهذه هي عائشة تُسأل عن قول الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32] فتقول عائشة: يا بني! أما السابق بالخيرات فهؤلاء الذين ماتوا مع رسول الله وشهد لهم رسول الله بالجنة، وأما المقتصد فهؤلاء الذين اتبعوا أثر النبي حتى ماتوا على ذلك، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلك. فجعلت عائشة نفسها معنا، جعلت عائشة نفسها من الظالمين لأنفسهم!!! وهذا هو سفيان الثوري إمام الدنيا في الحديث، ينام على فراش الموت فيدخل عليه حماد بن سلمة فيقول له حماد: أبشر يا أبا عبد الله! إنك مقبل على من كنت ترجوه وهو أرحم الراحمين. فبكى سفيان وقال: أسألك بالله يا حماد أتظن أن مثلي ينجو من النار؟!! ونحن جميعاً نقول: من منا لن يدخل الجنة؟! من منا لن يشفع له رسول الله؟! ها هو الحديث في البخاري يبين لنا فيه الحبيب النبي أنه سيحال بينه وبين أقوام من هؤلاء الذين حرَّفوا وبدَّلوا وانحرفوا عن سنته صلى الله عليه وسلم. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 10 أسعد الناس بشفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! من أسعد الناس بشفاعة المصطفى يوم القيامة؟ هذا هو عنصرنا الثاني من عناصر هذا اللقاء لتكتمل الفائدة في باب الشفاعة، فإنه من أنفس أبواب العلم. من أسعد الناس بشفاعة الحبيب؟! ليحاسب اليوم كل واحد منا نفسه أين هو من الحبيب؟! من يدعي حب النبي ولم يفد من هديه فسفاهة وهراء فالحب أول شرطه وفروضه إن كان صدقاً طاعة ووفاء قال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، هل امتثلت أمره؟! هل اجتنبت نهيه؟! هل وقفت عند الحدود التي حدها لك المصطفى؟! أسئلة يجب أن يسأل كل مسلم صادق عنها نفسه؛ ليحدد موقعه من منهج وطريق رسول الله صلى الله عليه وآله ومن والاه، من أسعد الناس بالشفاعة يوم القيامة؟ والجواب في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فهو صاحب هذا السؤال الجليل، قال أبو هريرة: (من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة يا رسول الله؟ فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: لقد ظننت أنه لا يسألني عن هذا السؤال أحد قبلك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث يا أبا هريرة! أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه). وفي رواية ابن حبان: (أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه، يصدق قلبه لسانه، ويصدق لسانه قلبه). وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لكل نبي دعوة مستجابة، وإني اختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي، فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً). هذا هو الشرط، وهذا هو أسعد الناس بشفاعة الحبيب: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) حقق التوحيد لله، فمن الناس الآن من يردد بلسانه: لا إله إلا الله، ولم يصدق قلبه هذه الكلمة، ولم يخلص العبادة لله جل وعلا، بل تراه يصرف العبادة لغير الله، فهو لا يعرف لكلمة التوحيد معنى، ولا يقف لها على مضمون، ولا يعرف لها مقتضى، ومن الناس من يردد بلسانه: لا إله إلا الله، وقد انطلق حراًَ طليقاً ليختار لنفسه من المناهج الأرضية، والقوانين الوضعية الفاجرة، ما وضعه المهازيل من خلق الله! ومن الناس من ردد بلسانه: لا إله إلا الله، وهو لم يحقق لله الولاء ولا البراء، ومن الناس من ردد بلسانه كلمة: لا إله إلا الله، وقد ترك الصلاة! وضيع الزكاة! وضيع الحج مع قدرته واستطاعته، وأكل الربا وشرب الخمر وعاقر الزنا وأكل أموال اليتامى! يسمع الأمر فيهز كتفيه في سخرية وكأن الأمر لا يعنيه! يسمع المواعظ فيهزأ وكأن الأمر لا يعنيه، فلابد من إخلاص التوحيد، فكلمة التوحيد ليست مجرد كلمة يرددها الإنسان بلسانه، بل إن الإيمان: قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالجوارح والأركان، ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، فمن قال خيراً وعمل خيراً قبل منه، ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه. وفي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل). وفي رواية عتبان بن مالك: (فإن الله حَرَّمَ على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله). إنه إخلاص التوحيد، فيا من رددت بلسانك: لا إله إلا الله، هل صدقك قلبك؟! هل امتثلت جوارحك مقتضيات هذه الشهادة؟! فإن التوحيد أمره عظيم، وإن شأن التوحيد ثقيل، إنها الأمانة العظيمة، ووالله ما ضاعت الأمة وزلت إلا يوم أن فرغت: (لا إله إلا الله) من مضمونها، فإن الجذر الحقيقي لهذه الأمة هو التوحيد، ويوم أن فرغ الجذر وأصبح قشرة هشة تؤرجحها الرياح من هنا ومن هنالك ذلت الأمة لمن كتب الله عليهم الذلة من إخوان القردة من أبناء يهود، فإن مصدر سعادة الأمة هو التوحيد، فما أعز الله الأمة إلا بالتوحيد، وإن لبنة الأساس في صرح الإسلام هي التوحيد، وإن أول خطوة على طريق العز والكرامة هي التوحيد، ولا عزة للأمة إلا إذا حققت وأخلصت وجردت التوحيد لله، فمن أبناء الأمة الآن من يذبح لغير الله، ومن يقدم النذر لغير الله! ومن أبناء الأمة الآن من يتهم شريعة الله المطهرة بالجمود والرجعية والتخلف والتأخر! وعدم قدرة هذه الشريعة على مسايرة مدنية القرن العشرين أو القرن الحادي والعشرين! فلا كرامة للأمة إلا إذا أخلصت التوحيد، فأسعد الناس بشفاعة محرر العبيد، من أخلص التوحيد للعزيز الحميد جل وعلا، ومات لا يشرك بالله شيئاً، فوحد الله أيها الحبيب! وأخلص التوحيد لله، وأخلص الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وفي الحديث الذي رواه مسلم والترمذي واللفظ للترمذي من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى في الحديث القدسي: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة). إنه التوحيد! إنه فضل الإيمان بالله جل وعلا! فأسعد الناس بشفاعة المصطفى من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه، فكلمة التوحيد -أيها الأخيار- قد قيدت بشروط ثقال: بالعلم، واليقين، والإخلاص، والقبول، والمحبة إلى آخر شروطها. فلابد أن تحققوا التوحيد، وأن تخلصوا التوحيد، وأن تجردوا التوحيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشفع يوم القيامة إلا إن أذن الله عز وجل له، وإلا في كل من وحد الله وأخلص له كلمة: لا إله إلا الله. أسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من أهل التوحيد، وأن يختم لي ولكم بالتوحيد، وأن يرزقنا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم بمنه وكرمه، إنه على كل شيء قدير. اللهم استرنا فوق الأرض واسترنا تحت الأرض واسترنا يوم العرض، اللهم ارزقنا شفاعة حبيبك المصطفى، اللهم وكما آمنا به ولم نره فلا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله، اللهم أوردنا حوضه الأصفى، اللهم أوردنا حوضه الأصفى، واسقنا بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا نرد ولا نظمأ بعدها أبداً، اللهم اسقنا بيد المصطفى شربة مريئة هنيئة لا نرد ولا نظمأ بعدها أبداً، اللهم لا تحرمنا شفاعة الحبيب، اللهم لا تحرمنا شفاعة الحبيب، اللهم لا تحرمنا شفاعة الحبيب، اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض يا أرحم الراحمين! اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض يا أرحم الراحمين! اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها، يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا معنا شقياً ولا محروماً. اللهم إنا نسألك لإخواننا وأبنائنا الطلاب التوفيق والسداد، اللهم يسر لهم الأسباب، اللهم ذلل لهم الصعاب، اللهم افتح لهم الأبواب، اللهم ذكرهم في الامتحانات ما نسوا، وعلمهم في الامتحانات ما جهلوا، اللهم يسر لهم بمنك وكرمك يا رب العالمين! اللهم اجعل أبناءنا قرة عين لنا في الدنيا والآخرة، برحمتك يا أرحم الراحمين! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 11 القصاص لقد حرم الله الظلم على نفسه، وجعله بين العباد محرماً، وإن من أعظم الظلم قتل امرئ مسلم بغير حق أو انتهاك عرضه، بل ذلك أعظم حرمة وأكبر جرماً من هدم المسجد الحرام، ولذلك فإن الله سيوقف الظلمة بين يديه، ولن يبرحوا أماكنهم حتى يقتص من الظالم للمظلوم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1 القصاص بين البهائم يوم القيامة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! في رحاب الدار الآخرة: سلسلة علمية كريمة، تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، الهدف منها: تذكير الناس بالآخرة في عصر طغت فيه الماديات والشهوات، وانصرف كثير من الناس عن منهج رب الأرض والسماوات؛ علهم أن يتوبوا إلى الله جل وعلا ويتداركوا ما قد فات، قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون، ونحن اليوم بتوفيق الله جل وعلا على موعد مع اللقاء السادس عشر من لقاءات هذه السلسلة العلمية الكريمة. وكنا قد توقفنا في اللقاءات الثلاثة الماضية مع مشهد الحساب، وتعرفنا على أهم قواعد العدل التي يحاسب الله بها عباده يوم القيامة، وتعرفنا على أول أمة ستقف بين يدي الله للحساب، وتعرفنا على أول من يقضي الله بينهم، وعلى أول ما يحاسب عليه العبد بين يدي الله. فإذا فرغ الله جل وعلا من حساب العباد فيما يتعلق بحقوقه جل وعلا يأذن الله لدواوين المظالم أن تنصب للقصاص وأداء الحقوق، وهذا هو موضوعنا اليوم مع حضراتكم بإذن الله جل وعلا. وسوف أركز الحديث مع حضراتكم في هذا الموضوع المهم في العناصر التالية: أولاً: القصاص بين البهائم. ثانياً: القصاص بين العباد. ثالثاً: حرمة الدماء. وأخيراً: القصاص بين المؤمنين. فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب. أولاً: القصاص بين البهائم. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتؤدُن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة) وفي رواية: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقتص للشاة الجلحاء -أي: التي لا قرون لها- من الشاة القرناء) فإذا نطحت الشاة القرناء الشاة الجلحاء فإن الله يقتص للجلحاء من القرناء بين يديه جل وعلا. وفي مسند أحمد بسند صحيح من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (رأى شاتين تنتطحان، فقال المصطفى لـ أبي ذر: يا أبا ذر! هل تدري فيم تنتطحان؟ قال: لا، قال المصطفى: ولكن الله يدري وسيقضي بينهما يوم القيامة). وروى ابن جرير الطبري بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه -والصحيح وقفه على ابن عمرو - قال رضي الله عنه وأرضاه: (إذا كان يوم القيامة مد الأديم، وحشر الدواب والبهائم والوحش، ثم يحصل القصاص؛ فيقتص للشاة الجمّاء من الشاة القرناء نطحتها، فإذا فرغ من القصاص بين البهائم والدواب، قال الله جل وعلا: كوني تراباً، فعند ذلك يقول الكافر: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40]). أيها المسلمون! إن القول بحشر البهائم والقصاص لبعضها من بعض يوم القيامة هو الحق الذي ندين لله به. وهذا هو ما ذهب إليه جمهور أهل السنة، فلا ينبغي البتة أن ترد الأحاديث الصحيحة الواردة في هذا الباب بدعوى أن العقل لا يستوعب القصاص بين الدواب. قال الإمام النووي رحمه الله: إذا ورد لفظ الشرع، ولم يمنع من إجرائه على ظاهره مانع من عقل أو شرع، وجب أن نحمله على ظاهره، فلا ينبغي على الإطلاق أن تؤول هذه الأحاديث؛ ليرد هذا الحكم، ألا وهو حكم القصاص بين البهائم والحيوانات. فإن قيل: الشاة غير مكلفة ولا عقل لها، فكيف يقتص منها يوم القيامة؟! الجواب نقول: إن الله فعال لما يريد. {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، وليعلم العباد أن الحقوق لا تضيع عند الله جل وعلا، فإذا كان هذا هو حال الحيوانات والبهائم والدواب، فكيف بذوي الألباب والعقول، من الوضيع والشريف، والقوى والضعيف؟! الجزء: 9 ¦ الصفحة: 2 القصاص بين العباد يوم القيامة إذا كان الله يأخذ الحق للدواب وللبهائم وللحيوانات، فهل يترك الله حق العباد؟! وبصفة خاصة حق من وحدوا رب الأرض والسموات؟!! لا والله، وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء (القصاص بين العباد يوم القيامة). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 3 رسالة إلى الظلمة لا يظننَّ أحد أن ظلمه للعباد بضرب أو سب أو شتم أو تزوير، أو أكل مال بالباطل أو سفك دم، أو غيبة أو نميمة أو استهزاء أو سخرية أو جرح كرامة؛ لا يظننَّ أحد أن شيئاً من ذلك الظلم سيضيع ويذهب. كلا، وإن الظلم ظلمات يوم القيامة: أما والله إن الظلم شؤم ولازال المسيء هو الظالم ستعلم يا ظلوم إذا التقينا غداً عند المليك من الملوم يا من دعاك منصبك! ويا من دعاك كرسيك! ويا من دعتك صحتك وقدرتك وقوتك على ظلم العباد من الضعفاء والفقراء والمستضعفين، تذكر قدرة رب العالمين جل وعلا، واعلم بأن الملك هو الذي سيقتص للمظلوم من الظالمين، فاحذر الظلم بجميع أنواعه احذر الظلم سواء أكان الظلم صغيراً أم كبيراً؛ لأن الظلم ظلمات يوم القيامة. لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً فالظلم ترجع عقباه إلى الندم تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم ففي الصحيحين من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن وصّاه بالوصايا الغالية، وكان من بين هذه الوصايا أن قال له المصطفى: (يا معاذ! اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). دعوة المظلوم ترفع إلى الله جل وعلا، ولا يحجبها حاجب، ولذلك ورد في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وقرأ قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]). وقد يغتر الظالم المجرم بستر الله عليه وبحلم الله عليه، فيتمادى في ظلم العباد، ونسي هذا المسكين أن الله يمهل ولا يهمل. أين الجبابرة؟! أين الأكاسرة؟! أين القياصرة؟! أين الفراعنة؟! أين الطغاة؟! أين الطواغيت؟! أين الظالمون؟! وأين التابعون لهم في الغي؟! بل أين فرعون وهامان وقارون؟! أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل أبقى الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 4 التحذير من عاقبة الظلم وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم الأمة من عاقبة الظلم بين يدي الله جل وعلا، وتدبروا معي هذا الحديث الرقيق الذي رواه ابن ماجة وابن حبان والبيهقي وأبو يعلى الموصلي -والحديث حسن بشواهده- من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه لما رجعت مهاجرة الحبشة عام الفتح إلى رسول الله، قال لهم: (ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بالحبشة؟! فقال فتية منهم: بلى يا رسول الله! بينما نحن جلوس مرت بنا عجوز من عجائز رهابينهم تحمل قلة ماء على رأسها، فمرت هذه العجوز على فتىً منهم، فقام الفتى ووضع إحدى كفيه بين كتفيها ودفعها وخرت على ركبتيها فانكسرت قلتها! فلما ارتفعت -أي: وقفت- التفتت إلى هذا الشاب وقالت له: سوف تعلم يا غدر! إذا وضع الله الكرسي، وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، سوف تعلم أمري وأمرك عند الله غداً! فقال المصطفى: صدقت صدقت كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟!). إي وربي! كيف يقدس الله أمة لا تحترم فيها الكرامات؟! ولا تصان فيها الأعراض والأنساب؟! ولا يحترم فيها الضعفاء؟! ولا يؤخذ فيها الحق من الأقوياء للضعفاء؟! أمة بهذه الأخلاقيات الفاسدة محكوم عليها في الدنيا بالدمار، ومحكوم على أفرادها من أهل الظلم في الآخرة بالنار. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5 دعوة للظالمين إلى التحلل من المظالم في الدنيا أيها المسلمون! حذر النبي صلى الله عليه وسلم الأمة من عاقبة الظلم يوم القيامة، فأمر الظالمين أن يتحللوا من المظالم في الدنيا قبل الآخرة. ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها اليوم، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم، -أي: يوم القيامة بين يدي الله- من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه). يا عباد الله! قد يستطيع الظالم الآن أن يفلت بطريق أو بآخر، ولكن الظالم لن يفلت يوم القيامة، فمحال أن يدخل أحد الجنة وعنده مظلمة لأحد، فلابد أن يطهر الله أهل الظلم حتى ولو كانوا من أهل التوحيد والإيمان، كما سنرى في آخر عناصر هذا اللقاء بإذن الله جل وعلا، لا يدخل الجنة أحد وعنده مظلمة -ولو قلَّتْ- لأحد إلا إذا طهره الله منها بين يديه جل وعلا، في أرض الموقف، في ساحة الحساب، على بساط العدل بين يدي الرب جل وعلا. من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها اليوم: اذهب إلى أخيك إن كنت ظلمته بأخذ مال أو بغيبة أو بنميمة أو بانتهاك عرض، أو بإحراج أو بإساءة جوار، أو بغش في بيع وشراء أو بأي صورة من صور الظلم، اذهب إليه الآن واطلب منه العفو والسماح قبل أن تقفا بين يدي العدل جل وعلا. وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه -كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة - فقال: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع)، هذا هو مفهومنا للإفلاس، ولكن الإفلاس الحقيقي أكبر وأضخم وأخطر. (أتدرون من المفلس؟ قال الصحابة: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع) رجل فقير لا يملك مالاً ولا متاعاًَ ولا أثاثاً، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ولكنه يأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وأكل مال هذا، وقذف هذا، وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من سيئات من ظلمهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار). فهو بنص الحديث: (صلى)، وبنص الحديث: (زكى)، وبنص الحديث: (صام)، ومع ذلك يدخل النار، -والحديث في صحيح مسلم - لماذا؟! لأنه ما أمسك لسانه، وما كف يده، واستغل جاهه وكرسيه ومنصبه في ظلم عباد الله، وفي إحراج خلق الله، وفي إهانة الضعفاء والمستضعفين. اللهم سلم سلم يا عزيز يا غفار!! الجزء: 9 ¦ الصفحة: 6 أحوال الظلمة يوم القيامة أيها الموحدون! تدبروا معي هذا المشهد الذي يخلع القلب، تدبروا الحديث، عيشوا مع هذا الحديث الذي يكاد يخلع القلب إن تدبرناه ووعيناه. تصور معي هذا المشهد في أرض المحشر، ها هو الظالم في أرض المحشر يقف بين يدي الله في ذل وخشوع وانكسار، لا يرتد إليه طرفه، شخص ببصره، لا يلتفت أعلى ولا أسفل ولا يمنة ولا يسرة، لا يرتد إليه طرفه، بل وقفز قلبه من جوفه! الشمس فوق الرءوس، تكاد حرارتها تصهر العظام، والزحام يكاد يخنق الأنفاس، والعرق يكاد يغرق الناس، وجيء بجهنم ولها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها! تزفر وتزمجر غضباً لغضب الجبار جل وعلا، فإن الله قد غضب في هذا اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، في هذه اللحظات ومع هذا الهول يرى الظالم نفسه وقد أحيط بمجموعة من الناس، من أنتم؟! من هؤلاء؟! هؤلاء هم الذين ظلمهم في الدنيا! ظلم من ظلم ونسي! فيتعلق المظلومون بالظالم، يتعلق كل من ظلمته بك يوم القيامة، يجرونه جراً ليوقفوه بين يدي الله جل وعلا، هذا يتعلق به من يده، وهذا يجره من ظهره، وهذا يجره من لحيته، يتعلقون به ليوقفوه بين يدي الملك جل جلاله، فإذا ما وقف بين يدي الله تبارك وتعالى، وأذن الله لدواوين المظالم أن تنصب، وللقصاص أن يبدأ، يقول هذا: يا رب! هذا شتمني، والآخر يقول: يا رب! ظلمني، والآخر يقول: يا رب! اغتابني، والآخر يقول: يا رب! غشني في البيع والشراء، والآخر يقول: يا رب! وجدني مظلوماً وكان قادراً على دفع الظلم فجامل ونافق الظالم وتركني، والآخر يقول: يا رب! جاورني فأساء جواري! سترى كل من عاملته في الدنيا -نسيته أو تذكرته- قد تعلق بك بين يدي الله جل وعلا، كل يطالب بحقه، وأنت واقف يا مسكين! ما أشد حسرتك في هذه اللحظات، وأنت واقف على بساط العدل بين يدي رب الأرض والسموات، إذا شوفهت بخطاب السيئات، وأنت مفلس عاجز فقير مهين لا تملك درهماً ولا ديناراً، لا تستطيع أن ترد حقاً ولا تملك أن تبدي عذراً، فيقال: خذوا من حسناته إلى من ظلمهم في الدنيا، تنظر إلى صحيفتك التي بين يديك فتراها قد خلت من حسنات تعبت في تحصيلها طوال عمرك، فتصرخ وتقول: أين حسناتي؟! أين صلاتي؟! أين زكاتي؟! أين دعوتي؟! أين علمي؟! أين قرآني؟! أين بري؟! أين عملي الصالح؟! أين طاعاتي؟! فيقال: نقلت إلى صحائف خصومك الذين ظلمتهم في الدنيا! وقد تفنى حسناتك ويبقى أهل الحقوق ينادون الله جل وعلا أن يعطيهم حقهم من الظالم، فيأمر الحق سبحانه أن يؤخذ من سيئات من ظلمتهم في دنياك؛ لتطرح عليك، فتصرخ وتقول: يا رب! هذه سيئات والله ما قاربتها والله ما عملتها فيقال لك: نعم، إنها سيئات من ظلمتهم في الدنيا، فتمد عنق الرجاء إلى سيدك ومولاك، لعلك تنجو في هذه اللحظات، ولست بناجٍ؛ لأن الله قد حرم الظلم على نفسه، وحرم الظلم على العباد، فيقرع النداء سمعك ويخلع قلبك، قال الله جل وعلا: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [إبراهيم:42 - 52]. أيها الظالم! أيها اللاهي! أيها الساهي! مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور إذا كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسير وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور وإذا الجبال تقلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير وإذا البحار تفجرت نيرانها فرأيتها مثل الجحيم تفور وإذا العشارتعطلت وتخربت خلت الديار فما بها معمور وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت وتقول للأملاك أين تسير وإذا الجليل طوى السما بيمينه طي السجل كتابه المنشور وإذا الصحائف نشرت وتطايرت وتهتكت للعالمين ستور وإذا الوليد بأمه متعلق يخشى القصاص وقلبه مذعور هذا بلا ذنب يخاف جناية كيف المصر على الذنوب دهور وإذا الجحيم تسعرت نيرانها ولها على أهل الذنوب زفير وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت لفتى على طول البلاء صبور أيها المسلمون! اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، فسوف يقتص الملك العدل العليم الخبير للمظلومين، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، وإنما أخذ من الحسنات ورد من السيئات. فيا أيهاالمظلوم صبراً لا تهن إن عين الله يقظى لا تنام نم قرير العين واهنأ خاطراً فعدل الله دائم بين الأنام الجزء: 9 ¦ الصفحة: 7 حرمة الدماء ومن أظلم الظلم سفك الدم بغير حله، وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر هذا اللقاء: (حرمة الدماء) أيها المسلمون! لحرمة الدماء عند الله كانت الدماء هي أول شيء يقضي الله فيه بين العباد. ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء). ولا تعارض بين هذا الحديث وبين الحديث الصحيح الذي رواه أصحاب السنن، وفيه يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة). لا تعارض بين الحديثين، بقي كيف نزيل توهم التعارض؟ قال أهل العلم: أما الصلاة فهي أول حق لله، وأما الدماء فهي أول حق يقضي الله فيه بين العباد، فلا تعارض بين الحديثين، ولذلك جمعت رواية النسائي بين الأمرين في لفظ واحد، فقال المصطفى عليه الصلاة والسلام: (أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة، وأول ما يقضى فيه بين العباد في الدماء). الله هو خالق الإنسان وهو واهب الحياة، ولا يجوز لأحد البتة أن يسلب الحياة إلا خالقها وواهبها، أو بأمره وشرعه سبحانه يقول جل وعلا: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام:151]. ولو سمعت الأمة هذه الأحاديث التي سأذكرها الآن وعملت بها، ما رأينا هذه البرك من الدماء هنا وهناك، ولكننا نرى الدماء لا حرمة لها عند كثير من الناس، ففي كل يوم يُقتل العشرات بل المئات بل الآلاف! وهذا من علامات الساعة كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: (بين يدي الساعة يكثر الهرج قالوا: وما الهرج يا رسول الله؟! قال: القتل القتل)، وفي لفظ: (لا يدري القاتل فيم قَتل، ولا يدري المقتول فيم قُتل). الجزء: 9 ¦ الصفحة: 8 الحالات التي يجوز فيها سفك دم المسلم قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام:151] وهذا الحق واضح محدود لا غموض فيه ولا لبس، وقد حدده المصطفى صلى الله عليه وسلم: -والحديث رواه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود - قال عليه الصلاة والسلام: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة) هذه هي الحالات الثلاث: الحالة الأولى: القصاص، النفس بالنفس، والقصاص يقوم به ولي الأمر المسلم أو من ينوب عنه، إذ إن الأمر ليس متروكاً للأفراد حتى لا يتحول المجتمع إلى فوضى، والقصاص فيه حياة للمجتمع، إن قَتل قاتل ُقتل هذا القاتل؛ ليحيا المجتمع بأسره، فإن القاتل إن علم أنه سيقتل فسيفكر ألف مرة قبل أن يتطاول على الدماء وعلى النفس التي خلقها رب الأرض والسماء، فيحيا المجتمع كله بالقصاص. وهل زل مجتمعنا إلا يوم أن ضيع شرع ربنا، وانتهك حدود الله سبحانه وتعالى؟! فأصبح المجتمع يعيش في فوضى، ولو وقفتم على حجم القضايا التي عرضت على المحاكم في العام الماضي لانخلعت القلوب، فإن عدد القضايا أمام المحاكم زاد على ثلاثين مليوناً من القضايا! عدد ضخم! يكاد أن يكون نصف الشعب لأن الحدود ضاعت، ولأن الظالم أو القاتل يستطيع بماله أو بسلطانه أن يقدم رشوة لرجل فاسق ضال مضل ويخرج من جريمته النكراء، والأمم لا تضيع إلا بهذه المجاملات الباطلة. وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة يوم أن تقدم؛ ليشفع في امرأة مخزومية شريفة سرقت، وقال: (وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، إنما أهلك من كان قبلكم: أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد). القصاص حياة للمجتمع قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179] فإن قتل القاتل يقتل. الحالة الثانية: الثيب الزاني: الثيب: هو المحصن الذي رزقه الله بزوجة في الحلال الطيب، فترك امرأته، وراح يرتع في مستنقع الرذيلة الآسن العفن، فدنس العرض وانتهك الشرف، فهذا يقتل بالحجارة رجماً حتى الموت، وقد يستصعب الإنسان منا هذا الحكم، لكنه سيقول: يقتل ثم يقتل ثم يقتل إن مست كرامته أو انتهك عرضه أو دنس شرفه! الحالة الثالثة: الردة: الذي يترك دين الإسلام بعد أن منَّ الله به عليه فإنه يقتل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري من حديث ابن عباس: (من بدل دينه فاقتلوه). ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي نحن بصدده: (التارك لدينه المفارق للجماعة). هذه الحالات الثلاث التي يجوز فيها لولي الأمر المسلم، أو من ينوب عنه أن يسفك الدم، أما ما عدا ذلك فلا يجوز، فإن قتل النفس البريئة أمر تشيب له الرءوس. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 9 الترهيب من قتل المسلم بغير حق تدبر معي قول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]. الله أكبر!! انظروا إلى حرمة الدماء! أي مسلم على وجه الأرض ينتهك الدم بغير حله فهذا جزاؤه: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) وفي صحيح البخاري من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، وقال ابن عمر (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها: سفك الدم الحرام بغير حله). وفي الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود والحاكم والنسائي وصححه الألباني في صحيح الجامع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً، أو قتل مؤمناً متعمداً). وفي الحديث الذي رواه النسائي وصححه الألباني في صحيح الجامع من حديث بريدة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا). فليسمع الفجرة الظلمة القتلة هذا الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أَمنَّ رجلاً على دمه فقتله فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافراً)، رواه النسائي والبخاري في التاريخ، وصححه الألباني في صحيح الجامع من حديث عمرو بن الحمق الخزاعي. هذه حرمة الدماء عند رب الأرض والسماء، ولذلك كانت الدماء هي أول شيء يقضي الله فيه بين العباد يوم القيامة. يجيء القاتل في أرض المحشر فيقف على بساط العدل بين يدي الله، يأتي القاتل الذي قتل فرداً، ويأتي القاتل الذي قتل مجموعة! ويأتي القاتل الذي قتل قتل قرية! ويأتي القاتل الذي قتل دولة! ويأتي القاتل الذي قتل شعباً! ويأتي القاتل الذي قتل أمة! ويأتي كل من قتلهم فيتعلقون به وأوداجهم -أي: عروق أعناقهم- تشخب دماً -أي: تسيل دماً- وهم متعلقون بالقاتل؛ ليوقفوه بين يدي الله، ويقول المقتول لله سبحانه: يا رب! سل هذا القاتل فيم قتلني؟! والحديث رواه النسائي بسند حسن، يقول عليه الصلاة السلام: (يجيء المقتول متعلقاً بالقاتل يوم القيامة وأوداجه تشخب دماً، يوقفه بين يدي الله ويقول: يا رب! سل هذا فيم قتلني؟) أيها المسلمون! الدماء لها حرمة عظيمة، وأقول على هامش هذا اللقاء -وإن كان هذا ليس حديثنا ولا موضوعنا، لكنها جاءت بقدر الله على هامش هذا اللقاء؛ لأزيح كابوساً يخيم على كثير من العقول والقلوب-: إن ما يحدث الآن في أرض الجزائر المسلمة! أسأل الله أن يفرج الكرب عنها وعن جميع بلاد المسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه. ليس من عمل الإخوة الملتزمين أبداً، بريئون منه كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب، بل إن هذه تمثيلية محبوكة من الحكومة التي لا تتقي الله، والتي أخذت الحق من أهله بغير حله، فكل ما يحدث في الجزائر إنما يحدث حول العاصمة في مساحة لا تزيد عن عشرين كيلو فقط، وهذا المثلث في الجزائر يسمى الآن بمثلث الرعب، وإن ما يحدث فيه من الذبح والقتل وتعليق النساء والصبيان! لا يقوم به مسلم على وجه الأرض ألبتة! بل إن الذي قام بذلك هم المليشيات التي جندت! وتسمى: بجمعية الدفاع الذاتي، أو بلجان الدفاع الذاتي، هذه اللجان أو هذه المجموعات سلحتها الحكومة بأحدث الأسلحة؛ لتقلم أظفار المسلمين الذين أعطوا أصواتهم في الانتخابات للمسلمين الملتزمين؛ فالحكومة تثأر من هؤلاء بهؤلاء، وتدعي أن هذه الحروب بسبب الإسلاميين! وهذا باطل، وقد صرحت بذلك المنظمات الكافرة! فهناك تقرير من منظمة العفو الدولية، وإن كنا لا نثق في مثل هذه المنظمات، لكن الحق ما شهدت به الأعداء، صرح هذا التقرير بأن الذي يقوم بذلك هي هذه المليشيات التي وظفتها وجندتها الحكومة لتقليم أظافر المسلمين الذين قالوا: نريد أن نحكم في هذا البلد المسلم بشريعة الله، وشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاعلم أيها المسلم! أن المسلمين هنالك بريئون من هذه الدماء ومن هذه المجازر ومن هذه المذابح، فلا يمكن لمسلم على وجه الأرض ألبتة أن يتعدى وأن يسفك الدماء المسلمة بغير حل، إلا إذا كان لا يعرف شيئاً عن القرآن ولا يعرف شيئاً عن سنة الحبيب عليه الصلاة والسلام. أسأل الله أن يذب عن عرض إخواننا وعن عرض أخواتنا، وأسأل الله أن يذب عنا وعنكم النار يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، كما أسأل الله في هذه اللحظات الطيبة أن يحقن دماء المسلمين في الجزائر، وأن يرفع عنهم البلاء وعن جميع بلاد المسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 10 القصاص بين المؤمنين الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الأحبة الكرام! آخر عناصر لقائنا هذا هو: القصاص بين المؤمنين. هل يحدث قصاص بين أهل التوحيد والإيمان؟! نعم، فإنه لن يدخل الجنة أحد -ولو كان موحداً لله مطيعاً لله متبعاً لرسول الله- وعنده مظلمة لأخيه أبداً. روى البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خلص المؤمنون من النار -أي: مروا من على الصراط- حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار، فيقتصون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده، لأحدهم أهدى -أي: أعرف- بمنزله في الجنة من منزله كان في الدنيا). إذا خلص أهل الإيمان، ونقى الله أهل الإيمان، وأذن الله لهم في دخول الجنان، ينطلق كل واحد إلى منزله في الجنة، وهو يعرفه أكثر من معرفته ببيته في الدنيا. وأسأل الله أن يسترنا وإياكم فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض. اللهم استرنا ولا تفضحنا، اللهم استرنا ولا تفضحنا، اللهم استرنا ولا تفضحنا، اللهم أكرمنا ولا تهنا، اللهم كن لنا ولا تكن علينا، اللهم جنبنا الظلم يا رب العالمين! اللهم جنبنا الظلم يا رب العالمين! اللهم طهرنا من الظلم صغيره وكبيره، اللهم طهرنا من الظلم صغيره وكبيره، اللهم ارفع الظلم عن المظلومين، اللهم ارفع الظلم عن المظلومين، اللهم تب على الظالمين المذنبين قبل أن يقفوا بين يديك يا أرحم الراحمين اللهم تب على الظالمين في الدنيا قبل أن يقفوا بين يديك يا أرحم الراحمين اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك. اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، وألف بين قلوبهم يا أرحم الراحمين! اللهم ائذن في تحرير الأقصى الأسير اللهم ائذن في تحرير الأقصى الأسير اللهم ائذن في تحرير الأقصى الأسير اللهم عليك باليهود وأعوان اليهود، اللهم عليك باليهود وأعوانهم اللهم عليك باليهود وأعوانهم، اللهم دمر بيوتهم قبل أن يدمروا الأقصى اللهم احرق قلوبهم وبيوتهم قبل أن يحرقوا الأقصى اللهم قيض للأمة صلاحاً جديداً يا رب العالمين اللهم يا من رزقت الأمة بـ عمر وصلاح الدين قيض للأمة من يرد لها الأقصى الأسير برحمتك يا رب العالمين اللهم اشف صدور قوم مؤمنين اللهم اشف صدور قوم مؤمنين اللهم اشف صدور قوم مؤمني. اللهم اجعل مصر سخاء رخاء وجميع بلاد المسلمين، اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين اللهم ارفع عن مصر الغلاء والوباء والفتن والبلاء وجميع بلاد المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين! وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 11 التوكل على الله من فضل الله على هذه الأمة أن يُدخل منها إلى الجنة سبعين ألفاً بغير حساب، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم صفاتهم، وأنهم المتوكلون على الله تعالى، فلا يركنون على سواه، وهذا يدل على فضل التوكل وعظيم درجته، فينبغي على المسلم أن يسابق إلى هذه الدرجة، فيعرف حقيقة التوكل، ويعمل به، ويقتدي في ذلك بالمتوكلين من الأنبياء والصديقين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 1 الداخلون الجنة بغير حساب إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد فى الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء، وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك ومولاه. أحبتي في الله: "في رحاب الدار الآخرة" سلسلة علمية تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، الهدف منها تذكير الناس بالآخرة في عصر طغت فيه الماديات والشهوات، وانصرف كثير من الناس عن منهج رب الأرض والسماوات، ليتداركوا ما قد فات قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس:50]. ونحن اليوم على موعد مع اللقاء السابع عشر من لقاءات هذه السلسلة العلمية الكريمة، وكنا قد توقفنا في اللقاءات الأربعة الماضية مع مشهد الحساب، وتعرفنا على أهم قواعد العدل التي يحاسب الله بها عباده يوم القيامة، وعلى أول من يقضي الله بينهم، وأول ما يحاسب عليه العبد من حقوق الله، وأول ما يحاسب عليه العبد من حقوق العباد. موقف عصيب ومشهد رهيب، فالبشرية كلها تقف على بساط العدل بذل وانكسار للحساب بين يدي الواحد القهار، منهم من أخذ كتابه بيمينه وحاسبه الله حساباً يسيراً، ومنهم من أخذ كتابه بشماله وحاسبه الله حساباً عسيراً، ومنهم من ينطلق مباشرة إلى الجنة بلا حساب ولا عذاب، اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين. أقول: تقف البشرية كلها على بساط العدل بذل وانكسار للحساب بين يدي الواحد القهار، منهم من أخذ كتابه بيمينه وحاسبه الله حساباً يسيراً، ومنهم من أخذ كتابه بشماله وحاسبه الله حساباً عسيراً، ومنهم من ينطلق مباشرة إلى الجنة بغير حساب ولا عذاب، فمن هؤلاء السعداء؟ و الجواب هو موضوع لقاؤنا اليوم مع حضراتكم بإذن الله جل وعلا، فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يجعلنا منهم بمنه وكرمه، إنه على كل شيء قدير. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 2 رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته وسؤاله لهم الدرجات العالية أيها الأحبة! أرجو أن تتدبروا هذه الرواية الرقراقة الرقيقة الكريمة العظيمة، ففي الحديث الذي رواه أحمد في مسنده والبيهقي في السنن وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: وسنده جيد. وسعدت كثيراً حينما رأيت شيخنا الألباني قد صحح الحديث بشواهده في السلسلة الصحيحة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سألت ربي عز وجل فوعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر فاستزدت ربي -أي: طلبت منه المزيد- فزادني مع كل ألف سبعين ألفاً) يا لها من كرامة! اسجد لربك شكراً يا من وحدت الله وآمنت بالحبيب رسول الله: ومما زادني فخراً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبياً يا من خلقك الله موحداً، وأرسل إليك محمداً، لا تنس هذه النعمة، وضع أنفك وجبينك على التراب شكراً لله! (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ونحن بفضل الله وباختياره لا باختيارنا خلقنا موحدين، وأرسل إلينا سيد النبيين، فيا لها والله من كرامة! هذه هي كرامة أمة الحبيب على الله، كما وعد حبيبه ومصطفاه في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ يوماً قول الله تعالى حكاية عن إبراهيم: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36]، وقرأ الحبيب قول الله حكاية عن عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] فرفع الحبيب المصطفى يديه إلى السماء وبكى وقال: اللهم أمتي أمتي، اللهم أمتي أمتي، فقال الله لجبريل: يا جبريل! انزل على محمد وسله: ما يبكيك؟ وهو أعلم، فنزل جبريل فقال: ما يبكيك يا رسول الله؟ فقال: أمتي أمتي يا جبريل، فقال الله لجبريل مرة ثانية: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك). (استزدت ربي فزادني مع كل ألف سبعين ألفاً) بل والله لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم بعدها كلمة لو جمعتم أهل البلاغة على وجه الأرض ليعبروا لحضراتكم عن مكنونها لعجزوا، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ثم يحثي ربي بكفيه ثلاث حثيات) فكبر عمر، قال: الله أكبر! ولك أن تتصور هذا الفضل من صاحب الفضل جل جلاله! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 3 من هم الداخلون الجنة بغير حساب أيها الأحبة! تعالوا بنا على جناح السرعة لنسأل الصادق المصدوق المصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الأخيار الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، والجواب مباشرة كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي والبيهقي وغيرهم من أصحاب المسانيد والسنن من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عرضت علي الأمم) وفي رواية صحيحة في سنن الترمذي أن هذا العرض كان ليلة الإسراء: (عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط -وفي رواية: ومعه الرهيط. أي: العدد القليل الذي يقل عن العشرة- ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، ورأيت النبي وليس معه أحد) أي: لم يؤمن بهذا النبي أحد من قومه، إذ إن كل نبي يأتي يوم القيامة أمام قومه وأمام أمته، فيبعث الله نبياً لأمة لا يؤمن بهذا النبي من هذه الأمة أحد. (رأيت النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم)، أي: رأيت سواداً عظيماً من الناس، (فظننت أنهم أمتي) يقول المصطفى: فظننت أن هذا السواد العظيم وأن هذا العدد الضخم هو الأمة المحمدية. قال: (فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، يقول: فنظرت فإذا سواد عظيم، ثم قيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب) ثم نهض النبي صلى الله عليه وسلم فدخل منزله، فخاض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في هؤلاء الأخيار الأطهار الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: لعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: لعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً، وذكروا أشياء، فخرج عليهم المصطفى عليه الصلاة والسلام، فقال: ما الذي تخوضون فيه؟ أي: في أي شيء تتكلمون وتتباحثون وتتناقشون؟ فقالوا: نتناقش في هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، من هم يا رسول الله؟ فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون)، فقام صحابي جليل يقال له: عكاشة بن محصن، بتشديد الكاف أو عكاشة بتخفيف الكاف واللغتان صحيحتان، ولكن التشديد للكاف أفصح، (فقام عكاشة بن محصن، فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، فقال المصطفى: أنت منهم). يا لها من كرامة! قال: (أنت منهم)، عكاشة صحابي جليل من السابقين المهاجرين، ممن شهد بدراً، والنبي قال في حق من شهد بدراً: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). استشهد عكاشة بن محصن رضي الله عنه في معركة اليمامة مع خالد بن الوليد وهو يقاتل أهل الردة. (فقام رجل آخر، وقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، قال: سبقك بها عكاشة). وفي رواية الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد وصف هؤلاء وصفاً دقيقاً جميلاً فقال عليه الصلاة والسلام: (يدخل الجنة من أمتي زمرة هم سبعون ألفاً تضيء وجوههم على إضاءة القمر ليلة البدر). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 4 تساؤل الصحابة عن الداخلين الجنة بغير حساب أيها الأحبة: إلى الآن ما تعرفنا بعد على هذه الصفوة الكريمة المختارة، فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شغلهم الحديث، وشغلهم هذا الوصف من رسول الله لهؤلاء الأخيار الذين لا يقفون في أرض المحشر للحساب، بل ويدخلون الجنة بلا سابقة عذاب. قال بعض الصحابة: هؤلاء الذين بلغوا هذه الدرجة العالية والمكانة السامقة السامية، هم أصحاب النبي الذين صحبوا رسول الله، والذين اكتحلت عيونهم برؤية الحبيب المصطفى -ولا تعجب-، فالصحبة شرفها عظيم، فضلها جسيم! والصحابي هو من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به ومات على ذلك، وهذا هو أجمع تعريف للصحابي كما قال الحافظ ابن حجر في الإصابة، قال: الصحابي هو كل من رأى النبي، وآمن به، ومات على الإسلام. وهذا تعريف جامع شامل. فالصحابي هو من اكتحلت عينه برؤية الحبيب النبي، وآمن بالمصطفى، ومات على التوحيد والإيمان، فلا عجب إذاً أن يكون الصحابة هم السبعين ألفاً (فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم). أيها الأخيار! الصحابة هم أطهر الخلق بعد الأنبياء والمرسلين، قال ابن مسعود، والأثر رواه أحمد في مسنده بسند حسن: (إن الله تعالى قد نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد خير قلوب أهل الأرض فاصطفاه الله لعباده، ثم نظر الله في قلوب أهل الأرض بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب أهل الأرض فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه). ولذا قال ابن مسعود: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوباً وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم). أولئك أصحاب النبي الكريم الذين زكاهم رب العالمين وسيد المرسلين! أيها الأحباب! من المعلوم أن كل تلميذ يقتبس في العادة من أستاذه ومعلمه، ولك أن تتصور أخي الحبيب كيف يكون الاقتباس إذا كان المعلم هو سيد الناس، فهؤلاء الذين حولوا المنهج الإسلامي إلى واقع عملي يتألق سمواً وروعة وجلالاً، كان شعارهم دوماً: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]. هؤلاء استحقوا من الله أن يزكيهم بهذه التزكية: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، فهم المخاطبون ابتداءً بهذه الآية، وهم المخاطبون ابتداءً بقوله سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]. وزكى الله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100] وزكى الله الأصحاب بقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18]. وزكاهم الله بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29] هذه تزكية الله لأصحاب النبي. وقد زكاهم الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود فقال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). وفي الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري: (رفع النبي صلى الله عليه وسلم يوماً رأسه إلى السماء وقال: النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون). وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا أصحابي! فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه). وفي صحيح مسلم من حديث عائذ بن عمر أن أبا سفيان مر على نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم بلال وسلمان وصهيب، فلما رأى أصحاب النبي أبا سفيان قالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها، فقال أبو بكر رضي الله عنه لأصحاب النبي من الفقراء: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم، ثم قام الصديق فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما كان. ماذا قال النبي لـ أبي بكر لصاحب سنام الصديقية في هذه الأمة؟ قال: (يا أبا بكر إن كنت أغضبت سلمان وصهيباً وبلالاً فقد أغضبت ربك عز وجل، فقام الصديق مسرعاً لإخوانه، فقال: يا إخوتي، أوغضبتم مني؟ قالوا: لا، يغفر الله لك) هذه مكانة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عند الله وعند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5 تفسير الصحابة لهؤلاء الصفوة بأنهم الذين ولدوا في الإسلام أيها الأحبة الكرام! إذاً لا عجب أن يقول أصحاب النبي: (لعلهم الذين صبحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ثم قال البعض الآخر: لعل هؤلاء الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم سيدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب هم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً. وهذه هي الأخرى عظيمة كبيرة، فمن نشأ في الإسلام وترعرع في بستان التوحيد، وتغذى وتنفس رياحين الإيمان والسنة، فقد فاز فوزاً عظيماً، ولم لا وقد قال الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]؟ بل وخاطب الله إمام الموحدين وقدوة المحققين وسيد المرسلين محمداً صلى الله عليه وسلم، فقال له سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66]. وفي صحيح البخاري من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار) قال ابن مسعود: ومن مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة. فالشرك ظلم عظيم، والتوحيد فضل عظيم، ففي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) وفي رواية عتبان بن مالك: (فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله تعالى) فالتوحيد فضله عظيم. إذاً: لا تعجب إذا سمعت بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون عن هؤلاء: لعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً! أيها الأحباب! خرج النبي صلى الله عليه وسلم عليهم فقطع حديث أصحابه وحوارهم، وبين لهم من هؤلاء السعداء، فقال: ما الذي تخوضون فيه؟ قالوا: في هؤلاء يا رسول الله الذين ذكرت أنهم يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، فقال المصطفى: (هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6 بيان أوصاف الداخلين الجنة بغير حساب إنهم قوم حققوا التوحيد لله وتركوا الشرك كله دقه وجله، وأنزلوا حوائجهم كلها بالله سبحانه، ولم ينزلوها بأحد من خلقه مهما كان، فهم لا يتطيرون -أي: لا يتشاءمون- فلقد كان من عادة العرب في الجاهلية أن يأخذ أحدهم طيراً فيطيره فإن طار الطائر يميناً استبشر هذا الرجل بسفره وقال: إذاً نسافر، فإن طار الطائر يساراً تشاءم الرجل وقال: إذاً لا أخرج من بيتي ولا أسافر، فجاء الإسلام ليقضي على هذه الطيرة وعلى هذا التشاؤم، وليعلم الناس أن الضار النافع هو الله وأن الأمور كلها بيد الله سبحانه وتعالى، فهم لا يتشاءمون بمكان ولا بزمان؛ لأنهم يعلمون أن خالق الزمان والمكان هو الله، وأن الذي يدبر أمر الزمان والمكان هو الله، قال تعالى: (قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154]، فلا يدبر الأمر نبي، ولا يدبر الأمور ولي، ولا يدبر الأمور إلا الملك العلي كما في حديث ابن عباس: (يا غلام! إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف). يا صاحب الهم إن الهم منفرج أبشر بخير فإن الفارج الله وإن بليت فثق بالله وارض به إن الذي يكشف البلوى هو الله الله يحدث بعد العسر ميسرة لا تجزعن فإن الصانع الله والله ما لك غير الله من أحد فحسبك الله في كل لك الله وقوله: (ولا يكتوون ولا يسترقون)، أي: لا يطلبون الكي ولا الرقية من أحد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 7 حقيقة التوكل (وعلى ربهم يتوكلون) والتوكل الحقيقي هو صدق اعتماد القلب على الله، وهو جماع الإيمان، ونهاية تحقيق التوحيد. - التوكل هو جماع الإيمان، ونهاية تحقيق التوحيد، والأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل ولا يقدح فيه، ومن ظن أن الأخذ بالأسباب قدح في التوكل، ففهمه فهم مغلوط، فالأخذ بالأسباب لا يقدح في التوكل ولا يؤثر فيه. قال الشاطبي: إن الدخول في الأسباب أمر واجب شرعاً. قال ابن القيم: لا يتم التوحيد إلا بمباشرة الأسباب، والأخذ بالأسباب لا يقدح في التوكل. قال جمهور السلف: يحصل التوكل إذا وثق العبد بربه وعلم أن الأمور كلها بيده، ثم أخذ بالسنة فباشر الأسباب، مع اعتقاده أن الأسباب وحدها لا تضر ولا تنفع إلا بأمر مسبب الأسباب جل جلاله. إذاً: التوكل الحقيقي يا طالب العلم أن تذاكر وأن تجتهد، وأن تسهر الليل وأن تخلص العمل، وأن تعتمد بقلبك على توفيق الله سبحانه. - التوكل الحقيقي في مواجهة اليهود الخبثاء المجرمين الذين يسومون الأمة الآن سوء العذاب، هو أن تأخذ الأمة بالأسباب فتعد القوة على قدر استطاعتها، وتتعلق بالله سبحانه، ولتعلم الأمة يقيناً بعد ذلك أن النصر من عند الله. - التوكل الحقيقي هو ألا تترك الأمة العراق ليبتر من جسدها، وليتحكم شرطي العالم الوقح أمريكا في بلاد المسلمين كيفما يشاء. - التوكل الحقيقي هو أن تقف الأمة كلها على قلب رجل واحد لتقول بأن بغداد عاصمة الخلافة لسنوات مضت إنما هو عضو لا ينفصم عن جسد الأمة، ومحال أن يعيش الإنسان بدون عضو حقيقي في جسده، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). - التوكل الحقيقي هو أن نأخذ بالأسباب وأن نعتمد على مسبب الأسباب، وأن نكون على يقين بأن الأسباب وحدها لا تضر ولا تنفع إلا بأمر الله جل وعلا. هذا التوكل أمر الله به سيد المتوكلين محمداً صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:58]. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 8 قبول الرقية لا يمنع وصف (لا يسترقون) أخي! انظر إلى عظيم التوكل، فإن الأمر ليس بالأمر الهين، فهم لا يطلبون الكي والرقية من أحد، ولا مانع إن تقدم أحد لرقيتهم أن يقبلوا منه، لكنهم لا يطلبون من أحد، فلم ينزلوا حوائجهم في باب أحد أو عند باب أحد من الخلق، ولم ينزلوا حوائجهم إلا على باب الحق سبحانه وتعالى، فقلوبهم متعلقة بالله، والذي حملهم على هذا كله تمام توكلهم على الله، وكمال تفويضهم الأمر إلى الله، وعظيم اعتقادهم أن الضر والنفع بيد الله، وأن الأمور كلها بيد الله، شعار أحدهم: اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك، وأبرأ من الأمل إلا فيك، وأبرأ من التسليم إلا لك، وأبرأ من التفويض إلا إليك، وأبرأ من التوكل إلا عليك، وأبرأ من الصبر إلا على بابك، وأبرأ من الذل إلا في طاعتك، وأبرأ من الرجاء إلا لما في يديك الكريمتين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 9 ثمار التوكل على الله أيها الأحباب! والله الذي لا إله غيره لو عرفت الأمة حقيقة التوكل وتعبدت به إلى الله، لرفع الله شأنها ولأعزها ولمكن لها في الأرض، ولكن الأمة اليوم لم تحقق هذا المعنى وأصبحت تتكلم دون أن تباشر وتأخذ بالأسباب. هذا سيد المتوكلين محمد صلى الله عليه وسلم في يوم الهجرة يستأجر مشركاً ليدله على الطريق، وهو سيد المتوكلين، لماذا لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: معي ربي سيدلني على الطريق؟! لا. بل يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالأسباب، فيستأجر مشركاً ليدله على الطريق، ويحمل الراحلة والزاد. وفي يوم أحد يحارب النبي صلى الله عليه وسلم بين درعين، وكان يدخر لقومه ولأهله القوت في بيته وهو سيد المتوكلين. هذا هو التوكل الحقيقي أن نأخذ بالأسباب، أن نبذر الحب في الأرض، وأن نتعاهد الزرع بالري والحرث والتنقية، وأن تتعلق قلوبنا بعد ذلك بالله لا بالأسباب، لأن الأسباب وحدها لا تضر ولا تنفع، ولا ترزق ولا تمنع إلا بأمر مسبب الأسباب جل جلاله، وهذا هو التوكل الذي أمر الله به نبيه فقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:58] {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159] {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159] {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل:79]. وأثنى الله على أنبيائه ورسله الذين قالوا: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم:12]، وأثنى على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، وأثنى على أوليائه الذين قالوا: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة:4]. التوكل على الله شعار الأنبياء ودأبهم، ففي صحيح البخاري من حديث ابن عباس قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل: قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قيل له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]). الجزء: 10 ¦ الصفحة: 10 نماذج وصور من التوكل على الله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 11 موقف الصديق رضي الله عنه في التوكل الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد. فيا أيها الأحبة الكرام: لو تجولنا في بستان المتوكلين ربما قضينا العمر كله، وما استطعنا أن نقف أمام كل زهراته ووروده ورياحينه لنستنشق عبيرها ولنستمتع بأريجها وعطرها، فإن هؤلاء الأطهار هم عمر الزمن ونبض الحياة، ومن المحال أن نحسب أنفاس الزمن أو أن نقدر نبض الحياة، فلقد أنجبت الأمة الميمونة المرحومة أمة الحبيب المصطفى محمد؛ أنجبت على طول تاريخها رجالاً من المتوكلين، لو وقفنا أمام سيرهم العمر كله لانقضت الأعمار وانقضت الآجال وما انتهينا من التطواف والتجوال في هذا البستان العظيم. فهذا هو صاحب ذروة سنام الصديقية في هذه الأمة، أبو بكر، الذي يقول ابن القيم: هذا هو أبو بكر الصديق الذي عاين طائر الفاقة يحوم حول حب الإيثار، فألقى له الصديق حب الحب على روض الرضا، واستلقى الصديق على فراش الفقر آمناً مطمئناً، فرفع الطائر الحب إلى حوصلة المضاعفة، ثم تركه هنالك وعلا على أفنان شجرة الصدق ليغرد للصديق بأغلى وأعلا فنون المدح، وهو يتلو في حقه قول ربه: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} [الليل:17]. أبو بكر الذي أمر النبي أصحابه بالإنفاق فجاء بكل ماله. وهذا أمر عظيم من منا يقدر عليه الآن، بل من منا يقدر الآن على ربعه، بل من منا الآن يقدر على أن يتخلص من جزء كبير من ماله لله؟! وهذا عمر رضوان الله عليه جاء بنصف ماله، لكن الصديق جاء بكل ماله، فقال له المصطفى: (ما أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله)، توكل ورب الكعبة لا يستطيع بليغ أن يجسده لحضراتكم الآن. وهذا عمر كما روى ابن أبي الدنيا بسند صحيح -يرى أناساً من اليمن، فيقول: من أنتم؟ فقالوا: نحن المتوكلون، قال: بل أنتم المتواكلون، إن المتوكل من ألقى الحب وتوكل على الله. أيها الأحبة الكرام: لا أريد أن أزيد على الساعة ففيها الكفاية، وأسأل الله أن ينفعني وأن ينفعكم بها، وأن يتقبل منا ومنكم جميعاً صالح الأعمال. اللهم ارزقنا التوكل عليك، اللهم ارزقنا التوكل عليك، اللهم ارزقنا الثقة فيك، اللهم ارزقنا الثقة فيك، اللهم ارزقنا الثقة فيك. اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم كن لنا ولا تكن علينا، اللهم كن لنا ولا تكن علينا! اللهم احقن دماء المسلمين في العراق وفي أفغانستان وفي السودان وفي فلسطين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم عليك باليهود وأعوانهم، اللهم عليك باليهود وأعوانهم، اللهم عليك باليهود وأعوانهم. اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم لا تحرم مصر من الأمن والأمان. اللهم لا تحرم مصر من نعمة الأمن والأمان، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وسائر بلاد المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم لا تجعل لأحد منا في هذا الجمع الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً بيننا إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً بيننا إلا هديته، ولا طائعاً معنا إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين. اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا شقياً ولا محروماً. اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى! اللهم استر نساءنا، اللهم استر نساءنا، واحفظ بناتنا، وأصلح شبابنا، واهد أولادنا واجعلهم قرة عين لنا يا رب العالمين. اللهم رب أولادنا في ظلال القرآن، اللهم رب أولادنا في ظلال القرآن، اللهم رب أولادنا في ظلال القرآن، اللهم اقبلنا وتقبل منا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم! أحبتي في الله؛ هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 12 موقف أم موسى في التوكل ومن أسمى المواقف في التوكل على الله: موقف أم موسى، فهذه مواقف نساء يعلمن الرجال! هل تظنون يا إخوة أن أماً تخشى على ولدها فتلقيه في البحر؟ إن الأم إن خافت على ولدها ألصقته بصدرها وأرضعته، وأضفت عليه من حنانها وشفقتها ورحمتها ما تعلمون، ولكن أم موسى يأمرها الله إن خافت عليه أن تلقيه في اليم، قال الله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]. فرعون اللعين يذبح الأطفال ويستحيي النساء ويقتل الرجال، بل ورفع الطوارئ إلى الدرجة القصوى، فإنه يبحث عن غلام من بني إسرائيل ينشأ فيهم يكون هلاك فرعون على يديه، فيبحث عن كل طفل ذكر ليقتله في التو واللحظة. كم من الآلاف قتلهم فرعون من الرجال بل ومن الأطفال! ولكن الملك جل جلاله قد أذن سبحانه وتعالى بأن موسى لن يترعرع ولن يتربى إلا في حجر فرعون وفي قصره. أيها الأحبة! تعلموا هذا الدرس لتعلموا أن الملك كله بيد الملك، يعز من يشاء ويذل من يشاء، فالأمور كلها بيد الله، الأمة الآن تضع الخطط السنوية والخمسية ولا تضع ضمن خطة واحدة أبداً عظمة وقوة رب البرية أمة غافلة عن عظمة الله وجلاله أمة لا تعرف قدر الله إلا من رحم ربك من أفرادها!! الله سبحانه وتعالى يأذن ويقدر ألا يربي موسى إلا فرعون فسبحان الله! تضع أم موسى موسى في التابوت، ويتهادى التابوت بحفظ الله إلى أن يصل إلى قصر فرعون، وبستار رقيق جداً يحمي الله نبيه موسى، لا بالجنود ولا بالطائرات ولا بالدبابات، بل بستار رقيق جداً قد لا يتصوره البعض، ألا وهو أن الله قد ألقى في قلب امرأة فرعون حب موسى، فتشبثت به، وقالت: قرة عين لي ولك، فأذعن فرعون لامرأته وهو الذي يذبح كل طفل، ولكن الله قد ألقى المحبة لموسى في قلب امرأته لتتولى هي وفرعون تربية هذا الطفل الكريم المبارك، بل لم يقف الفضل عند هذا الحد كثمرة من ثمرات توكل أم موسى، بل أذن الله ألا يقبل موسى ثدي امرأة أبداً، لأن الله قد وعد أم موسى لثقتها في ربها ولعظيم توكلها عليه أن يرده إليها، فأبى موسى أن يلتقم ثدي امرأة أخرى إلى أن جاءت أمه عليها السلام فالتقم موسى ثديها، وكانت ترضعه قبل أيام على خوف من فرعون وملئه، وهي الآن ترضعه في قصر فرعون بأمره، فتدبر! ترضعه الآن في قصر فرعون بأمر فرعون: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7] والهدية إن جاءت من الملك تأتي مضمخة بطيبه وفضله وجلاله، فلم يرد ربنا موسى إلى أمه، بل شرفه بالنبوة: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]. أيها الأحبة! إنه موقف يحتاج منا إلى وقفات لنتعلم ولنتذوق حلاوة التوكل على رب الأرض والسماوات، أسأل الله أن يملأ قلوبنا بالتوكل عليه والثقة فيه، إنه ولي ذلك ومولاه. وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 13 موقف هاجر أم إسماعيل في التوكل ومن أجل وأسمى مقامات التوكل: ما كان من أمر هاجر عليها السلام، فأم إسماعيل وقد خرجت من مصر، واسمحوا لي أن أقول: إن التوكل كله ما خرج إلا من مصر، وأسأل الله أن يرد التوكل الحقيقي مرة أخرى إلى مصر، وأن يحفظ مصر وأن يجعلها واحة أمن وأمان، إنه ولي ذلك والقادر عليه. جاء في صحيح البخاري من حديث ابن عباس، لما أخذ إبراهيم هاجر مع ولدها إسماعيل ووضعها عند دوحة فوق زمزم، ولم يبن البيت بعد، وكانت صحراء مقفرة، وكل من سافر إلى الحج والعمرة يعرف طبيعة هذه الأرض، فهي صحراء جرداء، ورمال ملتهبة، تعكس أشعة الشمس عليها فتكاد الأشعة المنعكسة أن تخطف الأبصار، ففي هذه الصحراء المقفرة يضع إبراهيم عليه السلام هاجر ورضيعها ويضع عندهما جراباً فيه تمر، وسقاءً فيه ماء وينصرف، فتنظر هاجر، فلا ترى إنساً بل ولا أُنساً لا ترى إنسياً ولا جنياً لا ترى شيئاً على الإطلاق فلا ترى بيتاً ولا ترى شيئاً! ولك أن تتصور هذا المشهد الذي يكاد يخلع القلب لو رأيت نفسك في صحراء لا ترى فيها شيئاً ولا تعرف فيها طريقاً ولا إنساً ولا أُنساً، ولا تملك ماءً ولا طعاماً ولا شراباً، كيف يكون حالك؟ ولما همَّ إبراهيم بالانصراف تعلقت به هاجر عليها السلام وقالت: يا إبراهيم! إلى من تتركنا في هذا المكان الذي لا إنس فيه ولا شيء؟ فسكت إبراهيم عليه السلام، وتعلقت به فأشار برأسه إلى السماء، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا. أي: ما دام الملك هو الذي أمر فانصرف، والله يسمع، ويرى، فهو يسمعنا ويرانا، إذاً: لا يضيعنا! فانصرف إبراهيم عليه السلام وجلست هاجر، فنفد الطعام والشراب، ولكنها تحمل في قلبها توكلاً على الله جل وعلا لا تقوى الجبال على حمله، بل والله يعجز عن حمله الرجال إنه اليقين إنه التوكل إنه صدق الثقة بالله إنه صدق اللجوء إلى الله جل جلاله، فأتاها جبريل وقال: من أنت؟ قالت: أنا أم ولد إبراهيم، فقال جبريل: إلى من وكلكما -إلى من ترككما- في هذا المكان؟ فقالت هاجر: إلى الله، فقال جبريل: وكلكما إلى كافل، قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] فمن توكل عليه كفاه، ومن اعتصم به نجَّاه، ومن فوض إليه أموره هداه، قال جل في علاه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 14 إبراهيم ومحمد عليهما السلام أيها الأحبة! ما هي النتيجة للمتوكلين، ما هي ثمرة التوكل؟! قال إبراهيم عليه السلام: حسبنا الله ونعم الوكيل فكانت الثمرة أن الملك سبحانه وتعالى أمر النار فقال: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، قيَّدوه فلم تحرق النار من إبراهيم إلا قيوده، وجلس إبراهيم في النار معاف سليماً، وفي رواية ضعيفة: (أن جبريل لما نزل إليه في النار، قال: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وإن كانت لله فعلمه بحالي يغني عن سؤالي) وهذه رواية ضعيفة، أما الرواية الصحيحة أنه قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فنجاه الله من النار. وقالها سيد الرجال محمد في غزوة أحد، والجروح مثخنة والدماء تنزف، والأصحاب رضوان الله عليهم قد تعرضوا لمحنة قاسية، وفي اليوم التالي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج، فخرجوا فهددوا من أبي سفيان وجيشه: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران:173]، قالوا: لا، {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، فما هي الثمرة؟ {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:174]. فالتوكل نتعلمه من رسول الله كما في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله، قال جابر: (كنا في غزوة ذات الرقاع، وكنا إذا رأينا شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم لينام تحتها، يقول: فأتينا على شجرة ظليلة فتركناها لرسول الله، فنام النبي تحتها وقد علق سيفه على غصن من أغصانها، فجاء رجل مشرك فرأى النبي نائماً ورأى السيف معلقاً ففرح، فاخترط السيف -أي: أخذ السيف- وأراد أن يهوي بالسيف على الحبيب المصطفى، فالتفت إليه النبي وهو نائم على ظهره، فقال المشرك لرسول الله: أما تخافني؟ فقال المصطفى: لا، فقال المشرك: فمن يمنعك مني الآن يا محمد؟ قال المصطفى: الله! فسقط السيف من يده، فأخذ النبي السيف بيده وقال للمشرك: من يمنعك مني؟ قال: كن خير آخذ يا محمد، قال المصطفى: حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، قال المشرك: لا) وأنا أقول لكم: والله ما تجرأ المشرك على قولة (لا) والسيف في يد رسول الله إلا علمه اليقيني بأخلاق الحبيب المصطفى (قال: لا. إلا أني أعاهدك على ألا أقاتلك، أو أكون في قوم يقاتلونك، فخلى النبي سبيله، فانصرف الرجل إلى قومه ليقول: يا قوم! لقد جئتكم من عند خير الناس) أي: من عند محمد بن عبد الله الذي توكل على الله سبحانه وتعالى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 15 الميزان من عدل الله عز وجل أنه ينصب ميزاناً يوم القيامة للحساب، ويزن فيه الأعمال من خير وشر، فالمؤمن يفرح بعمله الصالح، ويظهر فضله، والكافر يحزن ويتحسر، ويظهر ذله وخزيه، والميزان من الأمور الغيبية التي لا يعلم حقيقتها إلا الله، فالواجب على المسلم أن يؤمن به كما أخبر الله تعالى عنه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 1 حقيقة الميزان إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيَّاكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً. وأسأل الله العظيم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! في رحاب الدار الآخرة، سلسلة علمية كريمة تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، الهدف منها: تذكير الناس بالآخرة، في عصر طغت فيه الماديات والشهوات، وانشغل فيه كثير من الناس عن طاعة رب الأرض والسماوات؛ ليتوب الناس إلى الله جل وعلا، ويتداركوا ما قد فات، قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون. ونحن اليوم على موعد مع اللقاء الثامن عشر من لقاءات هذه السلسلة الكريمة، وقد كنا في اللقاءات الخمسة الماضية على التوالي مع البشرية كلها وهي تقف على بساط العدل في ساحة الحساب بين يدي الملك جل جلاله، وتعرفنا على أهم قواعد العدل التي يحاسب الله بها العباد في ساحة الحساب، وتعرفنا على أول أمة ينادى عليها لتحاسب بين يدي الله جل وعلا، وتعرفنا على أول من يقضي الله بينهم، وأول ما يحاسب عليه العبد، وعلى أول حق من حقوق العباد يقضي الله فيه بين الخلق، ثم تعرفنا في اللقاء الماضي على أصناف الناس، فقلنا: إن من الناس من يأخذ كتابه بيمينه، ويحاسبه الله حساباً يسيراً، ومن الناس من يأخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره، ويحاسبه الله حساباً عسيراً، ومن الناس من يدخل إلى الجنة مباشرة بغير حساب ولا عذاب. فهل يا ترى بانتهاء الحساب تنتهي أهوال القيامة؟!! الجواب كلا! بل إذا انقضى الحساب أمر الله جل وعلا أن ينصب الميزان؛ فإن الحساب هو لتقرير الأعمال، والميزان لإظهار مقدارها؛ ليكون الجزاء بحسبها، وليظهر عدل الله للبشرية كلها في ساحة الحساب، فتوزن أعمال المؤمن لإظهار فضله، وتوزن أعمال الكافر لإظهار خزيه وذله على رءوس الأشهاد، قال عز وجل: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]. فما هو الميزان؟ وما الذي يوزن فيه؟ وما هي الأعمال التي تثقل في الميزان يوم القيامة؟ الجواب على هذه الأسئلة الثلاثة هو موضوع لقائنا هذا، فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يثقل موازيننا يوم نلقاه؛ إنه ولي ذلك ومولاه. أولاً: ما هو الميزان؟ أحبتي في الله! أرجو أن تتدبروا معي جيداً هذه المقدمة لهذا العنصر المهم: الميزان على صورته وكيفيته التي يوجد عليها هو من الغيب الذي أمر الصادق المصدوق أن نؤمن به من غير زيادة ولا نقصان، وهذه هي حقيقة الإيمان، ويا خسران من كذب بالغيب وأنكر وضع الميزان، وقدح في آيات الرحيم الرحمن، واستهزأ بكلام سيد ولد عدنان، ثم تطاول فقال قولة ملحد خبيث جبان: الميزان لا يحتاج إليه إلا البقال أو الفوال!! فهذا حري بأن يكون ممن لا يقيم الله لهم يوم القيامة وزناً؛ لأنه بجهله وغبائه وانغلاق قلبه ظن أن ميزان الآخرة كميزان الدنيا، ومن البديهي أن جميع أحوال الآخرة لا تكيف أبداً، ولا تقاس البتة بأحوال الدنيا، ولقد نقل الحافظ ابن حجر رحمه الله إجماع أهل السنة على الإيمان بالميزان، وأن الميزان له لسان وكِفتان أو كَفتان -بكسر الكاف وفتحها، واللغتان صحيحتان- وأن أعمال العباد توزن به يوم القيامة. وقال الإمام ابن أبي العز الحنفي في شرحه للعقيدة الطحاوية المشهورة: والذي دلت عليه السنة أن ميزان الأعمال الذي توزن به الأعمال يوم القيامة له كفتان حسيتان مشاهدتان، والله أعلم بما وراء ذلك من الكيفيات. أيها المسلم! لا يعلم حقيقة وطبيعة وكيفية الميزان إلا الملك الرحمن، وإلا فهل تستطيع أن تتصور ميزاناً يوضع في يوم القيامة يقول فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لو وزنت فيه السماوات والأرض لوزنهما)؟ وكيف تتصور هذا الميزان؟! ففي الحديث الذي رواه الحاكم في المستدرك، وصححه على شرط مسلم، وأقره الذهبي، وصحح إسناد الحديث الألباني في السلسلة الصحيحة، من حديث سلمان الفارسي أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزنت فيه السماوات والأرض لوسعت، فتقول الملائكة إذا رأت الميزان: يا رب! لمن يزن هذا؟ فيقول الملك جل وعلا: لمن أشاء من خلقي، فتقول الملائكة: سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك). فإذا رأت الملائكة الميزان عرفت أنها ما عبدت الرحمن حق عبادته، وهذا من شدة الرعب والهول؛ فإن مشهد الميزان من أرهب مشاهد القيامة. فالميزان حق، قال جل وعلا: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]. فكفى بالملك جل وعلا حسيباً، فبين الله سبحانه وتعالى أنه يضع الموازين بالقسط -أي: بالعدل-، والراجح من أقول أهل العلم: أن الميزان يوم القيامة ميزان واحد. وأما الجواب على الجمع في قوله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ) فهو: أن الراجح من أقوال العلماء: أن الجمع في الآية باعتبار تعدد الأوزان أو الموزون؛ لأن الميزان يوزن فيه أشياء كثيرة، فالجمع على اعتبار تعدد الأوزان أو الموزون. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 2 أقسام الناس عند الميزان بين الله تعالى أن الميزان إن ثقل ولو بحسنة واحدة فقد سعد صاحبه سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإن خف الميزان ولو بسيئة واحدة فقد شقي صاحبه شقاوة لا يسعد بعدها أبداً، قال جل وعلا: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:101 - 104]. فمن ثقل ميزانه ولو بحسنة سعد سعادة لا شقاوة بعدها أبداً، ومن خف ميزانه ولو بسيئة شقي شقاوة لا سعادة بعدها أبداً، أما من استوت موازينه بأن تساوت حسناته مع سيئاته، فهؤلاء -على الراجح- هم أهل الأعراف الذين يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، وهؤلاء قصرت بهم سيئاتهم فلم يدخلوا الجنة، ومنعتهم حسناتهم من أن يدخلوا النار، فحبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فإذا التفت أهل الأعراف إلى أهل الجنة سلموا عليهم، كما قال عز وجل: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف:46]. أي: لم يدخل أهل الأعراف الجنة وهم يرجون رحمة الله، ويطمعون أن يدخلهم الجنة، فإذا ما التفتوا إلى الناحية الأخرى ورأوا أهل الجحيم في الجحيم؛ تضرعوا إلى الملك العليم ألا يجعلهم مع القوم الظالمين، كما قال جل وعلا: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:46 - 47]. إذاً: أيها المسلم! حري بك إذا ما تعرفت على أقسام الموازين الثلاثة ألا تحتقر أي عمل صالح وإن قل، وألا تستهين بمعصية وإن صغرت، فبحسنة واحدة قد يثقل الميزان، وبسيئة واحدة قد يخف الميزان، بل بكلمة واحدة قد تنال رضوان الرحمن، وبكلمة واحدة قد تنال سخط الجبار سبحانه وتعالى. ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوى بها في جهنم). فقد يستهين كثير منا بخطورة الكلمة، وكم من كلمات أشعلت حروباً بين أمم ودول؟! بل بكلمة يهدم بيت، وبكلمة يدخل المرء دين الله، وبكلمة يخرج المرء من دين الله، وبكلمة يستحل الرجل فرج امرأة، وبكلمة يحرم عليه فرجها؛ فالكلمة لها خطرها في دين الله، فبكلمة تنال الرضوان، وبكلمة قد يتعرض المرء لسخط الرحمن، فحسنة قد تدخل العبد الجنة؛ لأنها تثقل ميزانه، وسيئة قد تدخل العبد النار؛ لأن بها يخف ميزانه عند الملك القهار جل وعلا. ولذا ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق). فلا تقل: هذا عمل بسيط، وهذه طاعة صغيرة أو حقيرة؛ فكم من عمل صغير عظمته النية! وكم من عمل عظيم صغرته النية! فلو تصدقت بجنيه واحد لله، والله يعلم فقرك، ويعلم منك حاجتك له، فربما سبق جنيهك هذا ملايين الجنيهات لغيرك من الأغنياء، والله أعلم بحالك وحالهم. فلا تحقرن من المعروف شيئاً؛ فإن عجزت عن بعض الأشياء؛ فإنك لن تعجز -أيها المسلم- أن تهش وتبش في وجه إخوانك، ولو أن تلقاهم بوجه طليق، فما من بيت يخلو من المشاكل، ولكن ما ذنب إخوانك إن خرجت إليهم بوجه عبوس، فكن كما قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق). بل لقد قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة -: (إن بغياً -أي: زانية- من بغايا بني إسرائيل دخلت الجنة في كلب -كيف ذلك؟! - مرت على كلب يلهث يأكل الثرى من شدة العطش، فعادت إلى بئر ماء فملأت موقها -أي: خفها- ماءً وقدمته للكلب فشرب، فغفر الله لها بذلك) أود أن أقول: إذا كانت الرحمة بالكلاب تغفر الخطايا للبغايا، فكيف تصنع الرحمة بمن وحد رب البرايا؟! فنحتاج إلى رحمة، فالرحمة والرفق -يا شباب- يصلحان ولا يفسدان أبداً، والشدة والعنف -يا شباب- يهدمان ويفسدان ولا يصلحان أبداً، وهذه سنة الله في خلقه، قال صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع الرفق من شيء إلا شانه). وقد حدثنا المصطفى صلى الله عليه وسلم عن امرأة حبست هرة -أي: قطة- فدخلت بسببها النار. والحديث رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وجاء في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فاتقوا النار ولو بشق تمرة). أي: ولو بنصف تمرة تتصدقون بها لوجه الله، فقد ينجو العبد من النار بشق تمرة، فإن ثقل الميزان بحسنة سعد صاحب هذه الحسنة سعادة لا شقاوة بعدها أبداً، وإن خف الميزان بسيئة شقي العبد شقاوة لا سعادة بعدها أبداً، وإن تساوت الموازين فهؤلاء هم أهل الأعراف، والراجح من أقوال كثيرة لأهل العلم: أن الله جل وعلا يتغمدهم برحمته، فيدخلهم الجنة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 3 بيان ما يوزن في الميزان ما الذي يوزن في الميزان؟ الجواب هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء. أيها الأحبة! لقد اختلف أهل العلم في الجواب على هذا السؤال على ثلاثة أقوال، وأعرني قلبك وسمعك جيداً فإن الموضوع منهجي دقيق يحتاج إلى حسن متابعة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 4 وزن الأعمال اختلف أهل العلم في الذي يوزن على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن الذي يوزن في الميزان يوم القيامة هو الأعمال ذاتها، أي: أعمال العبد من صلاة وصيام وزكاة وحج وصدقة وبر وعمرة وغير ذلك. فرد بعض المعكرين المتعنتين وقالوا: هذه الأعمال أعراض لا أجسام؛ والأعراض لا توزن ولا توضع في الميزان، فكيف توزن الصلاة وهى ليست جسماً؟! وكيف توزن الزكاة؟! وكيف يوزن الحج؟! وكيف توزن الصدقة؟! وكيف يوزن بر الوالدين؟! فهذه الأعمال أعراض لا أجسام، والأعراض لا توزن في الميزان، فكيف تقولون: بأن الأعمال هي التي توزن يوم القيامة؟! و الجواب أن الله جل وعلا يوم القيامة يحول الأعراض إلى أجسام توضع في الميزان، فيخف الميزان ويثقل بحسب الحسنات والسيئات، والأدلة على ذلك من السنة الصحيحة كثيرة: روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم). فهذه كلمة يثقل الله بها الميزان، وأما كيف؟! فنقول: يحول الله الأعراض إلى أجسام، وتوضع في الميزان، فيثقل الميزان ويخف بحسب الحسنات والسيئات. وروى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وصححه شيخنا الألباني في مشكاة المصابيح من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق). فحسن الخلق أثقل شيء في ميزان العبد يوم القيامة. وأخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن القرآن الكريم يأتي يوم القيامة يقف أمام العبد بين يدي الله جل وعلا على هيئة غمامة، أو سحابة أو طير. اللهم ارزقنا العمل بالقرآن، ورد الأمة إلى القرآن رداً جميلاً، فإننا نرى الآن أمة القرآن قد هجرت القرآن! والهجر للقرآن أنواع: هجر التلاوة، وهجر التدبر، وهجر العمل بأحكام القرآن، وهجر التداوي بالقرآن، هجرت الأمة القرآن، وصدق فيها قول الله جل وعلا: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، وما أشقى من تغافل عن دائه، ولم يسع في دوائه، فظل في ضنكه وشقائه! فلا سعادة للأمة ولا ريادة إلا إذا عادت من جديد إلى أصل عزها ونبع شرفها ومعين كرامتها وبقائها، ألا وهو: كتاب ربها مع سنة الحبيب نبيها. اللهم رد الأمة إلى القرآن والسنة رداً جميلاً برحمتك يا أرحم الراحمين! يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وسورة آل عمران كأنهما غمامتان سوداوان بينهما شرْق أو شَرَق -شرق بتسكين الراء أو بفتح الراء هو: الضوء والنور، والتسكين أشهر وأبلغ- أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما) أي: بين يدي الله جل وعلا. فكل هذه أدلة من السنة الصحيحة تدل على أن الأعراض تتحول يوم القيامة إلى أجسام، ولما لم نستطع أن نعي كل هذه الحقائق أردنا أن نحكم قوانين الآخرة الغيبية بقوانين الدنيا الحسية فعجزنا. فلا تعطل ولا تكيف ولا تمثل. ولا يستطيع أحد منا الآن أن يعاند أو أن يكابر أو أن يمتنع عن الاعتراف بعالم يعيش بيننا ألا وهو عالم النمل مثلاً، بل ولا يستطيع أحد منا أن ينكر أن النمل يتكلم؛ بدليل أن الله لما فك رموز لغة النمل لسليمان عليه السلام فهم سليمان لغة النمل، وتجاوب مع النمل، كما قال عز وجل: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:18 - 19]. إذاً: لا يستطيع أحد أن ينكر وجود عالم النمل، بل لا يستطيع أحد أن ينكر أن النمل يتكلم ويتحدث ويتخاطب، ومع ذلك ما رأينا واحداً منا قد جاء بمكبرات صوت دقيقة جداً وقربها لمجموعة نمل ليسمع كلامها، مع أنه يعلم أن النمل يتكلم؛ لأنه ما أعطى لعقله العنان في أن يدرك كيفية لغة النمل؛ لأن الله ما فك له رموز هذه اللغة. فإذاً: هو يستكثر على عقله أن يدرك كيفية لغة هذا النمل، والنمل خلق من خلق الله، فكيف لعقله أن يدرك ذات الله جل وعلا؟! وكيف له أن يدرك الذات الإلهية؟! فلا تكيف ولا تعطل، ولا تمثل ولا تشبه؛ فعالم الآخرة ليس كعالم الدنيا، ومن الظلم أن نحكم عالم الآخرة الغيبي بعالم الدنيا وقوانينه وهو عالم حسي، فالله سبحانه بقدرته يحول الأعراض إلى أجسام توضع في الميزان، فيثقل الميزان ويخف بحسب الحسنات والسيئات، بل لقد أخبرنا الصادق أيضاً: أن العمل يأتي لصاحبه في القبر على هيئة رجل. وقد جاء بهذا حديث رواه أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم وغيرهم، وصححه الإمام ابن القيم، وأطال النفس في الرد على من أعل الحديث، وصحح الحديث الألباني من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر العبد المؤمن إذا وضع في قبره، فقال: ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له: من ربك؟! فيقول: ربي الله، فيقولان: ما دينك؟! فيقول: الإسلام، فيقولان له: من نبيك أو من هذا الرجل الذي بعث فيكم؟! فيقول: هو محمد صلى الله عليه وسلم، فيقولان: ما علمك؟! فيقول: قرأت كتاب الله؛ وآمنت به وصدقت، فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي؛ فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد البصر). وأرجو ألا يشوش علينا كلام العلمانيين المجرمين ممن يريدون أن يجعلوا من سلطان العقل والمادة قانوناً يحكمونه في صريح القرآن وصحيح السنة؛ فإننا نشهد الآن نبتة سوء ينكر أصحابها عذاب القبر. وإن غداً لناظره قريب. فهذا كلام الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، يقول عليه الصلاة والسلام: (ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول الميت له: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟ فيقول له: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، وأنا عملك الصالح) العمل يكلم صاحبه في القبر بقوله: (وأنا عملك الصالح). وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم عن الكافر: (ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟! فيقول: هاه هاه، لا أدرى، فيقولان: من نبيك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدرى، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدرى، فينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي، فافرشوا له فراشاً من نار، وألبسوه لباساً من نار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من روحها وسمومها، ثم يضيق عليه قبره فتختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل أسود الوجه، قبيح المنظر، منتن الريح، فيقول: من أنت؟ فوجهك الذي يأتي بشر، فيقول: أبشر بالذي يسوءك؛ أنا عملك الخبيث). بل لقد أخبر الصادق أن الموت نفسه يأتي يوم القيامة على هيئة كبش أملح، ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى يوم القيامة بالموت على هيئة كبش أملح، فينادي منادٍ: يا أهل الجنة! فيشرئبون وينظرون، فيقول لهم: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم نعرفه؛ إنه الموت، وكلهم قد رآه. فينادي منادٍ: يا أهل النار! فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم نعرفه؛ إنه الموت. فيؤمر بذبحه بين الجنة والنار، وينادي منادٍ ويقول: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت). إذاً: يا إخوة! ثبت بالأدلة الصحيحة التي ذكرت الآن: أن الأعراض تتحول إلى أجسام، وتوضع في الميزان يوم القيامة، ويثقل الميزان ويخف بحسب الحسنات والسيئات، هذه أدلة أصحاب القول الأول الذين قالوا: إن الأعمال هي التي توزن في الميزان يوم القيامة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 5 وزن العامل القول الثاني: أن الذي يوزن في الميزان هو العامل نفسه، وليس الأعمال. واستدل أصحاب هذا الفريق بأدلة صحيحة كذلك، منها: ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليأتي الرجل السمين العظيم فلا يزن عند الله يوم القيامة جناح بعوضه) أي: أنه يؤتى برجل سمين عظيم منتفخ يوم القيامة فيوضع في الميزان فلا يزن عند الله جناح بعوضة؛ إذ إن الموازين إذا وضع فيها العباد لا تخف ولا تثقل بحسب ضخامة الأبدان وكثرة الشحم والدهن، وإنما تثقل وتخف بحسب الحسنات والسيئات. وأقول: من الظلم أن نحكم قانون الدنيا في قوانين الآخرة، أو في عالم الآخرة، ومن المعلوم في موازين الدنيا أن الرجل السمين العظيم إذا صعد على الميزان يثقل، فإن وضع في الكفة الأخرى رجل نحيف هزيل فإنه يخف، لكن موازين الآخرة تختلف؛ فيوضع في الميزان الرجل السمين العظيم الذي ملأ بطنه بالحرام، والذي ملأ بطنه بأموال الناس بالباطل، والذي ملأ بطنه بأموال اليتامى ظلماً وبهتاناً، والذي ملأ بطنه بالرشوة وأكل الحرام، يوضع في الميزان مع أنه منتفخ، فلا يزن عند الله جناح بعوضة. وفي المقابل يؤتى برجل نحيف خفيف لو وضع في كفة، ووضع جبل أحد في كفة؛ لرجحت كفة هذا الرجل، وهذا مثل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ فإنه كان رجلاً ضعيف البنية، لكنه قوي الإيمان، كان رجلاً خفيف الجسم، لكنه ثقيل الأعمال، كما في الحديث الذي تفرد به الإمام أحمد في مسنده بسند جيد قوي كما قال الحافظ ابن كثير وغيره، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (صعد ابن مسعود رضي الله عنه يوماً على شجرة أراك يجني سواكاً، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: مم تضحكون؟! قالوا: نضحك من دقة ساقيه يا رسول الله! فقال: والذي نفسي بيده! لهما أثقل في الميزان من جبل أحد). فهذه أدله أصحاب القول الثاني الذين قالوا: إن الذي يوزن في الميزان هو العبد. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6 وزن صحف الأعمال القول الثالث: أن الذي يوزن في ميزان العبد يوم القيامة هي الصحف. واستدلوا على ذلك بحديث صحيح رواه أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك وصححه على شرط الشيخين، وأقره الذهبي، ورواه ابن حبان وأبو داود وغيرهم، وصحح الحديث شيخنا الألباني من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى سيخلص رجلاً من أمتي يوم القيامة على رءوس الخلائق، فينشر عليه تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل مثل مد البصر، فيقول الله جل وعلا للعبد: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول العبد: لا يا رب! فيقول: أفلك عذر؟ فيقول العبد: لا يا رب، فيقول الله جل وعلا: بلى؛ إن لك عندنا حسنة، فتخرج بطاقة مكتوب فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول العبد: يا رب! ما هذه البطاقة إلى جوار هذه السجلات؟! فيقول الله جل وعلا: احضر وزنك؛ فإنه لا ظلم عليك اليوم، فتوضع السجلات -أي: الصحف- في كفة، وتوضع البطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة؛ فإنه لا يثقل مع اسم الله شيء). اللهم كما خلقتنا موحدين ثبتنا على التوحيد، واختم لنا بالتوحيد يا رب العالمين! فيا من خلقك الله موحداً! وأرسل إليك محمداً؛ لا تغفل عن شكر هذه النعمة، أسأل الله أن يجعلنا أهلاً لها. ومما زادني فخراً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي! وأن أرسلت أحمد لي نبيا ولكن أرجو أن نعلم يقيناً أن التوحيد ليس مجرد كلمة ترددها الألسنة أو دخان يطير في الهواء، بل إن التوحيد: قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان. أيها الأحبة الكرام! فما هو القول الراجح من بين هذه الأقوال؟ وما هي الأعمال التي تثقل في الميزان؟! أرجئ الجواب في عجالة على هذين السؤالين إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 7 ما يوزن به يوم القيامة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! الراجح عندي -والله تعالى أعلم- بعد تدبري وتفهمي لهذه الأدلة على كثرتها: أن الأعمال والعامل والصحف كل ذلك يوضع في الميزان، أي: يوزن العبد بأعماله وبصحفه، وهذا ما رجحه صاحب (معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول) في التوحيد، وهذا ما أميل إليه. أسأل الله أن يثقل ميزاننا يوم نلقاه؛ إنه ولي ذلك ومولاه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 8 الأعمال التي تثقل الميزان يوم القيامة أذكر نفسي وأحبابي ببعض الأعمال التي تثقل الميزان يوم القيامة، وهذا هو عنصرنا الثالث والأخير. من أعظم الأعمال التي تثقل الميزان يوم القيامة حسن الخلق، فعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله يبغض الفاحش البذي). آه من الحديث عن حسن الخلق! ما أحوج الأمة بحكامها وعلمائها وشيوخها ودعاتها ورجالها ونسائها وشبابها إلى حسن الخلق! فإن حسن الخلق الآن منهج نظري منير، ونرى بوناً شاسعاً رهيباً بينه وبين سوء خلق كمنهج واقعي عملي مرير. فأين أخلاق الإسلام؟!! أين أخلاق محمد عليه الصلاة والسلام؟! فما أيسر التنظير يا إخوة! أقول: إن أرفف المكتبات في بيوتنا وفى مدارسنا وجامعاتنا تئن بأطنان المجلدات، التي سطر فيها المنهج النظري المشرق المنير، ولكن لو فتشت في واقع الأمة، ونظرت نظرة سريعة إلى أحوال الناس؛ لرأيت بوناً شاسعاً بين هذا المنهج النظري المنير وبين الواقع المؤلم المر المرير. فأين الصدق؟! أين الإخلاص؟! أين الأمانة؟! أين الرفق؟! أين الحلم؟! أين العفو؟! أين الصلة؟! أين البر؟! أين الرجولة؟! أين الشهامة؟! أين الكرامة؟! أين الحياء؟! أين أخلاق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؟! والله! والله! إني لأتهم نفسي كما قال عز وجل: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53] ويرن في أذني الآن قول القائل: وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي والطبيب عليل فأسأل الله أن يستر علي وعليكم، وأن يردني وأن يردكم وأن يرد الأمة كلها إلى الخلق الجميل رداً جميلاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه. ما أحوجنا إلى محاسن الأخلاق! وما أحوجنا إلى مكارم الأخلاق! يا شباب! أيها المسلمون! أقول دائماً: لقد نجح المصطفى صلى الله عليه وسلم في أن يقيم للإسلام دولة من فتات متناثر وسط صحراء تموج بالكفر موجاً، فإذا دولة الإسلام بناء شامخ لا يطاوله بناء، نجح المصطفى في ذلك يوم أن طبع عشرات الآلاف من النسخ من المنهج التربوي الإسلامي العظيم، ولكنه لم يطبعها بالحبر على صحائف الأوراق، وإنما طبعها على صحائف القلوب بمداد من النور، فحول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المنهجَ الأخلاقي الإسلامي إلى واقع عملي، يتألق سمواً وروعةً وجلالاً في دنيا البشر، فذهلت البشرية بهذا المنهج. لكنني أقول: إن أعظم حجر يقف الآن في سبيل الإسلام في الشرق والغرب هو أخلاق المسلمين، فإن الرجل في الشرق والغرب ينظر إلى المسلمين هناك، فيرى المسلم يزني، ويبيع الخنزير، ويشرب الخمر، ولا يحافظ على الصلوات، فينظر هذا الرجل إلى هذا المسلم الذي يتغنى بالإسلام، فيرى أنه قد يفوقه خلقاً سيئاً، فالحجر الكئود والعقبة الكئود في طريق الزحف الإسلامي في الشرق والغرب هي أخلاقنا إلا من رحم ربنا. نسأل الله أن يجعلنا جميعاً ممن رحم فحسن خلقه، ولذلك يقول المصطفى: (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق) وأرجو أن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في ميزان المؤمن) وأرجو أن ننتبه لهذه اللطيفة وهي: أن الإيمان أصل سابق، إذ لو جاء كافر عند الله بأخلاق حسنة فإنها تنفعه في الدنيا، لكنها لا تنفعه في الآخرة؛ لأن الأصل مفقود، ألا وهو الإيمان بالرب المعبود، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق). وقد جاء في الحديث الذي رواه أحمد والترمذي بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أكمل المؤمنين إيماناً فقال: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً). بل لقد جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وابن حبان وغيرهما، من حديث عائشة بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم). وأصحاب الأخلاق العالية من أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن من أحبكم إلي، وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقاً). اللهم ارزقنا الأخلاق الكريمة الحميدة يا رب العالمين! ومن أعظم الأعمال التي تثقل الميزان يوم القيامة أيضاً أيها الأخيار! ما ذكره المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض). فهل تعجز عن هذا؟! والحديث في صحيح مسلم. ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس). وأختم بهذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قال: المصطفى صلى الله عليه سلم: (من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر). لكن أرجو أن يردد اللسان، وأن يصدق الجنان، وأن تترجم الجوارح والأركان. أسأل الله جل وعلا أن يثقل موازيننا يوم نلقاه، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم. أحبتي في الله! ماذا بعد الميزان؟! الجواب في الجمعة القادمة بإذن الله جل وعلا، أسأل الله أن يجمعنا بكم دائماً على الخير والطاعة؛ إنه ولي ذلك وموالاه. اللهم ثقل موازيننا يوم نلقاك، اللهم ثقل موازيننا يوم نلقاك، اللهم ثقل موازيننا يوم نلقاك. اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا. اللهم كن لنا ولا تكن علينا، اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض، اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض. اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض، اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً إلا رحمته. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 9 الصراط ستمر بالبشرية جمعاء أهوال عظيمة وخطوب جسيمة يوم القيامة، وقد وصف لنا النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصراط، ووصف أحوال الناس عليه، وكأننا نعاين هذا الهول الرهيب، وبين عليه الصلاة والسلام الأعمال المنجية من هذا الهول العظيم، وبين الأعمال التي تزيد البلاء بلاءً وتوبق أهلها في جهنم والعياذ بالله، فعلى المسلم أن يحرص على ما ينفعه، وأن يثبت على الصراط المعنوي في هذه الدنيا -وهو دين الله- لينجو في الصراط الحسي الأخروي. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1 الصراط جسر جهنم وأحوال الناس عليه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء، وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء، وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الحليم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الكريم المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! في رحاب الدار الآخرة، سلسلة علمية كريمة تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، الهدف منها تذكير الناس بحقيقة هذه الدنيا وبالآخرة، في عصر طغت فيه الماديات والشهوات، وانحرف فيه كثير من الناس عن منهج رب الأرض والسماوات؛ ليتوبوا إلى الله ويتداركوا ما قد فات، قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون. نحن اليوم -بإذن الله جل وعلا وتوفيقه ومدده- على موعد مع اللقاء التاسع عشر من لقاءات هذه السلسلة العلمية الكريمة، وكنا قد توقفنا في اللقاء الماضي مع مشهد الميزان، وقلنا: إن الحساب لتقرير الأعمال، وإن الوزن لإظهار مقدارها ليكون الجزاء بحسبها. فإذا وزنت الأعمال، وتقرر الجزاء، وما بقي إلا أن يلقى كل واحد مصيره، فيأمر الملك جل وعلا أن ينصب الصراط على متن جهنم؛ ليمر عليه المتقون إلى جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدراً، ليمر عليه المتقون إلى جنات عدن، وليمر عليه المشركون والمجرمون إلى نار تلظى لا يصلاها إلا الأشقى. وهذا هو موضوعنا اليوم مع حضراتكم بإذن الله جل وعلا، فإننا اليوم على موعد مع مشهد الصراط بعد الميزان. وسوف أركز الحديث مع حضراتكم في هذا الموضوع الخطير في العناصر التالية: أولاً: الصراط جسر جهنم وأحوال الناس عليه. ثانياً: الأمانة والرحم على جانبى الجسر. ثالثاً: آخر رجل يمر على الصراط. وأخيراً: كيف النجاة؟ فأعيرونى القلوب والأسماع والوجدان، فإن الموضوع جد خطير، والله أسأل أن ينجني وإياكم يوم الحساب، ويوم الميزان، ويوم الصراط، إنه ولي ذلك والقادر عليه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 2 تعريف الصراط لغة واصطلاحا ً الصراط لغة: هو الطريق الواضح المستقيم البين، ومنه قول جرير: أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم والصراط شرعاً: جسر أدق من الشعر، وأحد من السيف كما قال أبو سعيد الخدري كما في صحيح مسلم: (جسر أدق من الشعر، وأحد من السيف)، يضربه الله جل وعلا على ظهر جهنم؛ ليمر عليه المؤمنون إلى جنات النعيم، والمشركون إلى جهنم وبئس المصير، فهو قنطرة بين الجنة والنار. {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71]. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 3 معنى قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها) قال الإمام ابن أبي العز الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية: اختلف المفسرون في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] يعني: جهنم والعياذ بالله، فقال بعض أهل العلم: الأظهر والأقوى أن الورود في الآية هو: المرور على الصراط، (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) أي: لابد لكل أحد أن يرد على النار، أي: من فوق الصراط. ومن أهل العلم من قال: إن الورود هو الدخول، أعاذني الله وإياكم من جهنم، (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) أي: إلا داخلها، فلا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها! ثم ينجي الله الذين اتقوا: فيجعل النار عليهم برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم. والراجح والتحقيق العلمي الجامع لأقوال أهل العلم في معنى الورود هو: أن الورود على النار نوعان: ورود بمعنى الدخول، وهذا للكفار والمشركين، كما قال الله في شأن فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود:98] فهذا هو الورود الذي هو بمعنى الدخول. والنوع الثانى: الورود بمعنى: المرور -أي: على الصراط- وهذا لا يكون إلا لأهل الأنوار من المتقين الموحدين ممن قال في حقهم رب العالمين: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:72]. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 4 حديث المرور على الجسر وحال المنافقين عليه أعرني قلبك وسمعك! فها هو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى يبين لنا بأسلوبه النبوي البليغ المعجز الرائع الجامع لبيان الكلم، يبين لنا هذا المشهد المهيب مشهد المرور على الصراط، بل إن شئت فقل: يجسد لنا هذا المشهد الذي يخلع الفؤاد، ففي الصحيحين -وهذا لفظ مسلم - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إن ناساً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال المصطفى: هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ -أي: هل تشعرون بشيء من المشقة والتعب في رؤية القمر ليلة البدر؟ - فقالوا: لا، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: فهل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ -أي: هل تشعرون بشيء من المشقة والتعب في رؤية الشمس إن لم تحجبها السحب؟ - قالوا: لا، قال صلى الله عليه وسلم: فإنكم ترونه كذلك. يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقول جل وعلا: من كان يعبد شيئاً فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت،-اللهم إنا نشهدك بأنا نعبدك وحدك لا شريك لك، ونبرأ إليك من الطواغيت والأرباب والآلهة والأنداد- وتبقى هذه الأمة وفيها منافقوها -تبقى أمة الحبيب ويندس في صفوف الأمة المنافقون المجرمون- فيأتيهم الله تعالى في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول الله جل وعلا لهم: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك! هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون، فيقول جل وعلا: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه)، وينطلق المنافقون المجرمون مع أهل الإيمان، يظن المنافقون أنهم سيخدعون الله، فقد خدعوا المؤمنين في الدنيا، وسيخادعون الله يوم القيامة! فيندس المنافقون في صفوف المؤمنين، ويقولون مع أهل الإيمان: نعم أنت ربنا! فيتبعونه، وينطلق المنافقون ليتبعوا رب العالمين مع المؤمنين! وهنا يلقي الله على أهل الموقف ظلمة حالكة السواد، لا يستطيع أحد في أرض الموقف أن يخطو خطوة واحدة إلا بنور، روى مسلم من حديث عائشة قالت: يا رسول الله! أين يكون الناس حين تبدل الأرض غير الأرض والسماوات، وبرزوا لله الواحد القهار؟ فقال المصطفى: (يا عائشة! هم في الظلمة دون الجسر)، وفي لفظ في مسلم: قال: (هم على الصراط، فيلقي الله ظلمة حالكة السواد لا يستطيع مخلوق أن يتحرك إلا بنور، وهنا يقسم الله الأنوار، قال ابن مسعود: فمنهم من يكون نوره كالجبل -هنا يقسم الله الأنوار بقدر الأعمال- ومنهم من يكون نوره كالنخلة، ومنهم من يكون نوره كالرجل القائم، وأدناهم نوراً من يكون نوره على إبهامه -أي: على أصبع قدمه الكبير- يتقد مرة وينطفئ مرة، ومنهم من تحيط الظلمة به من كل ناحية)، وأثر ابن مسعود رواه أحمد والحاكم وابن حبان وابن أبي حاتم، وصححه الألباني وغيره، قال الله: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8]، يقسم الله الأنوار على أهل الإيمان كل بحسب عمله في الدنيا، قال تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الحديد:12]. وإذا أراد المنافقون أن يقتربوا من الصراط سلب الله نورهم، أو كما قال الضحاك: طفئ نور المنافقين، فيتمايز أهل النفاق من أهل الإيمان، فإذا رأى أهل الإيمان نور المنافقين طفئ على الصراط وجلوا وأشفقوا، وقالوا: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8]، حينئذ يرى أهل النفاق في الظلمات الحالكة أهل الأنوار من أهل الإيمان والتوحيد ينطلقون على الصراط فينادي المنافقون أهل الظلمات على أهل الإيمان من أهل الأنوار: يا أهل الإيمان! يا أهل الأنوار! انظرونا نقتبس من نوركم، لا تتركونا في هذه الظلمات الحالكة السواد! انتظرونا لنمشي في رحاب أنواركم. {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد:13]، وهذا من جنس الخداع للمنافقين كما خادعوا الله في الدنيا {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] هذه هي اللحظات الحرجة! (قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ} [الحديد:13 - 14] أي: ينادي أهل النفاق أهل الإيمان أهل الأنوار: {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} [الحديد:14] ألم نصل معكم الجمعات؟! ألم نحضر معكم الجماعات؟! ألم نشهد معكم الغزوات؟! ألم نقف معكم على عرفات؟! ألم نؤد معكم سائر الواجبات؟! {قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الحديد:14] أي: بالشهوات والمعاصي والملذات والذنوب والشبهات. {وَتَرَبَّصْتُمْ} [الحديد:14] أي: بالحق وأهله والسنة وأهلها. {وَارْتَبْتُمْ} [الحديد:14] تشككتم في البعث والميزان والصراط والنار. (وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} [الحديد:14] حتى جاءكم الموت، وانتقلتم من علم اليقين إلى عين اليقين، عاينتم الحقائق بأعينكم، فرأيتم الميزان، ورأيتم الصراط، ورأيتم النيران)) وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد:14 - 15]. اللهم نجنا من النار، واجعلنا من أهل الأنوار، برحمتك يا عزيز يا غفار! تدبر معي قول حبيبنا المختار صلى الله عليه وسلم، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (فيقول الله جل وعلا: من كان يعبد شيئاً فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة وفيها منافقوها، فيأتيهم الله في غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك! هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه، ويضرب الصراط على ظهري جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيز) فلا يجوز الصراط نبي قبل الحبيب محمد، ولا تجوز الصراط أمة قبل أمة الحبيب محمد، وهذه كرامة أخرى لهذه الأمة الميمونة الكريمة، ففي سنن ابن ماجة بسند صحيح من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (نحن آخر الأمم وأول من يحاسب يوم القيامة، فيقال: أين الأمة الأمية ونبيها؟ فنحن الآخرون الأولون)، وفي رواية أخرى لـ ابن عباس: (فتفرز لنا الأمم طريقنا، فنمضي غراً محجلين من أثر الوضوء، فتقول الأمم في أرض القيامة: كادت هذه الأمة كلها أن تكون أنبياء!) يقول الحبيب: (فأكون أنا وأمتي أول من يجوز، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان). الخطاطيف: جمع خطاف: وهو الحديدة المعروفة، والكلاليب: جمع كلوب، والكلوب: بمعنى الخطاف. والسعدان: نبت له شوكة عظيمة كالخطاف، صلبة قوية، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشبه الكلاليب والخطاطيف التي تخطف الناس من على الصراط لتلقي بهم في جهنم والعياذ بالله بشوك السعدان. ثم قال: (هل تعرفون شوك السعدان؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم الموبق بعمله، ومنهم المجازى حتى ينجى). الجزء: 12 ¦ الصفحة: 5 الشفاعة في أناس من أهل النار عن أبي سعيد الخدري -في صحيح مسلم - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم يشفع المؤمنون -أي: في إخوانهم الذين سقطوا في النار- فيقول المؤمنون: ربنا! إن إخواننا كانوا يصلون ويصومون ويحجون معنا، فيقول الله جل وعلا: ارجعوا فأخرجوا من النار من عرفتم. فيرجعون فيعرفونهم في النار بأثر السجود، فإن الله حرم على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود، ثم يرجعون إلى الله فيقولون: ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا به، فيقول الملك جل جلاله: ارجعوا -أي: مرة ثانية- فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا به، فيقول الملك -للمرة الثالثة-: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه. فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يعودون ويقولون: ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا به. فيقول الملك -للمرة الرابعة-: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً. ثم يقول -الملك الرحيم الرحمن غافر الذنب وقابل التوب، أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، ورب العالمين جل وعلا-: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين). لك الحمد يا سيدي على حلمك بعد علمك، لك الحمد يا خير راحم، وإن عذبت فغير ظالم، فإن عفوت فخير راحم، لك الحمد على حلمك بعد علمك، وعلى عفوك بعد قدرتك، يا سيدي! إن رأينا ذنوبنا فزعنا، وإن رأينا حلمك وجودك وكرمك طمعنا. يقول المصطفى: (فيقبض الله قبضة من النار، فيخرج من النار خلقاً كثيراً، يخرجون حمماً -أي: قد احترقوا من شدة النار- فيلقي عليهم ماء يقال له: ماء الحياة، من أنهار على أفواه الجنة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل! فيخرجون كاللؤلؤ، في رقابهم الخواتيم، يعرفهم أهل الجنة فيقولون: هؤلاء عتقاء الرحمن من النار، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه!) اللهم اجعلنا من عتقائك من النار برحمتك يا عزيز يا غفار. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 6 صفة الصراط يصف الصادق المصدوق الصراط، ويزيد الصورة توضيحاً وتجسيداً كما في رواية أبي سعيد الخدري في صحيح مسلم أنه قال: (ثم يضرب الجسر على جهنم -قيل: وما الجسر يا رسول الله؟ قال: دحض مزلة -أو مزلة بالفتح والكسر، واللغتان صحيحتان، أي: موطن تزل فيه الأقدام ولا تثبت، اللهم ثبت أقدامنا يوم تزل الأقدام- فيه خطاطيف وكلاليب وحسك -والخطاطيف: جمع خطاف، والكلاليب: جمع كلوب وهو الخطاف، والحسك: بفتح الحاء والسين شوك كالخطاف شديد الصلابة كالحديد- ثم يمر المؤمنون: فمنهم من يمر كالطرف -أي: مثل غمضة العين، صنف من أهل الإيمان يمر على هذا الصراط الموحش في طرفة عين إلى الجنان، اللهم اجعلنا منهم- ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطير، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والركاب -هذه هي أصناف أهل الإيمان- فناج مسلم -هذا هو القسم الأول وهو الذي نجاه الله وسلمه، وهم من أهل الأنوار والتقى {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم:72]-فناج مسلم ومخدوش مرسل- تمسه النار، لكن العزيز الغفار ينجيه، والقسم الثالث- ومكدوس في نار جهنم) أي: تخطفه الخطاطيف والكلاليب فتهوي به في جهنم والعياذ بالله. وصف لو تدبرته فكأنك تعايشه وتراه، ولم لا والذي يبين لنا هو من آتاه الله جوامع الكلم بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم؟! أيها المسلمون! تدبروا هذا المشهد الذي يخلع القلب! أنت على الصراط! وجهنم مسودة تزفر وتزمجر تحت الصراط! والناس بين يديك: منهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالطير، ومنهم من يزحف على الصراط، ومنهم من تخطفه الخطاطيف إلى نار جهنم. أبت نفسي تتوب فما احتيالي إذا برز العباد لذي الجلال وقاموا من قبورهم سكارى بأوزار كأمثال الجبال وقد نصب الصراط لكي يجوزوا فمنهم من يكب على الشمال ومنهم من يسير لدار عدن تلقاه العرائس بالغوالي يقول له المهيمن يا وليي غفرت لك الذنوب فلا تبالي تدبر هذه اللحظات! والله إنها لحظات تخلع القلوب! الصراط على متن النار! جرب نفسك الآن على نهر ماء، لا أقول: على نار، ولكن على ماء، اذهب إلى بركة صغيرة مدت عليها خشبة أو ماصورة، جرب نفسك لتعبر عليها كيف يكون حالك؟! وأنت تعلم أنك إن سقطت ستسقط في ماء! ولن تسقط في نار! جرب هذا المشهد؛ لتقف على هول لحظات تمر فيها على الصراط، وجهنم تحت الصراط تزفر وتزمجر غضباً منها لغضب ربها جل وعلا، ويزداد الأمر خطراً إذا رأيت الأمانة على يمين الصراط، والرحم على شمال الصراط، قبل أن تمر تقول لك الأمانة: أين الحقوق؟ وتقول لك الرحم: أين الحقوق؟ وهذا هو عنصرنا الثاني. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 7 الأمانة والرحم على جانبي الصراط الأمانة والرحم على جانبي الصراط، والله إنه لمشهد يخلع القلب! في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان أنه صلى الله عليه وسلم قال: (وترسل الأمانة والرحم على جنبتي الصراط)، يقول الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم: وإرسال الأمانة والرحم على جانبي الصراط؛ لتطالب كل من يمر على الصراط بحقهما! وهذا يدل على عظيم قدرهما عند ربهما. الأمانة: حمل ثقيل ضخم أشفقت السماوات والأرض والجبال من حمله: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 8 تعريف الأمانة هل تعلم أيها الحبيب معنى الأمانة؟ يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (الأمانة: هي الفرائض التي افترضها الله على عباده). ويقول أبو العالية (الأمانة: هي ما أمروا به وما نهوا عنه). ويقول الحسن -وهذا أبلغ قول للأمانة-: الأمانة هي: الدين. فالدين كله أمانة). فالعبادة أمانة، والصلاة أمانة، والزكاة أمانة، والصيام أمانة، والحج أمانة، وجوارحك أمانة، ومنصبك وكرسيك أمانة، والمال عندك أمانة، وزوجك وأولادك أمانة، والعلم عند العالم وطالب العلم أمانة، والحكم أمانة، والله قد حذرنا من الخيانة فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]. وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة أن أعرابياً دخل على النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وهو يحدث الناس فقال الأعرابي: يا رسول الله! متى الساعة؟ فمضى النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه ولم يرد على الأعرابي! فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم حديثه، سأل عن الأعرابي السائل عن الساعة فقال: أين السائل عن الساعة؟ قال الأعرابي: ها أنا يا رسول الله! فقال المصطفى: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة) ووالله لقد ضيعت الأمانة، وأنا أقسم بالله وأنا غير حانث. (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، فقال الأعرابي الفقيه: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ -أي: كيف تضيع الأمانة؟ سؤال بليغ- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا وسد الأمر إلى غير أهله) ووالله لقد وسد الأمر إلى غير أهله، وتقدم وتطاول الأقزام والتافهون والرويبضات، ممن قال عنهم الصادق -في حديثه الصحيح الذي رواه أحمد والحاكم من حديث أبي هريرة -: (سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: ومن الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة)، والله لقد تكلم التافهون والساقطون، لا في أمر العوام، بل في أمر الإسلام! وفي دين محمد عليه الصلاة والسلام. وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها الذئاب إلا من رحم ربك جل وعلا، فالدين كله أمانة، والله قد حذر من الخيانة، الأمانة تقف على جانب الصراط تطالبك بحقوقها قبل أن تمر، فالله الله في الأمانة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 9 خطورة قطيعة الرحم الرحم وما أدراك ما الرحم! آهٍ! من تقطيع الأرحام في هذا الزمان، والله لقد رأينا الابن يقطع رحم أبيه وأمه! رأينا الإنسان المسلم الآن يأتي إلى المسجد وهو قاطع لأرحامه! لا يعرف والده! يهين أباه! يهين أمه! يهين عمه! يهين خاله! يهين عمته! يهين خالته! قطع الأرحام، ومزق الأرحام، ثم يقول: إن أهلي لا يودوني! لا يزوروني! لا يودني أحد من أهلي! وأنا لذلك لا أزور أحداً! هذا هو ما يسمى بتبادل المنافع والمصالح والزيارات، إن زارك عمك تقدم له الزيارة، وإن لم يفعل لا تفعل! هذا تبادل مصالح ومنافع وزيارات، أما الصلة فهي أن يقطعوك فتصل، واسمع لهذا الحديث المرعب! لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم -والحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة -: (لما فرغ الله تعالى من خلق الخلق قامت الرحم فقالت: يا رب! هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال الله للرحم: أما ترضين أن أصل من وصلك، وأن أقطع من قطعك؟! قالت: بلى، قال: لك ذلك. قال المصطفى: اقرءوا إن شئتم قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23]). فقاطع الرحم ملعون من رب العالمين، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [محمد:23]. فيا أيها المسلم! أيها المصلي! يا من تخشى المرور على الصراط! اذهب اليوم وضع أنفك في التراب لله، واذهب إلى أهلك، وقبل يد أبيك وقبل يد أمك، واذهب إلى أعمامك وعماتك وأخوالك وخالاتك ورحمك، ولا تقطع الرحم فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل الجنة قاطع رحم) والحديث في البخاري ومسلم، وفي الصحيحين أيضاً من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب أن يبسط له في رزقه -إذا أردت أن يوسع الله عليك في رزقك- وينسأ له في أثره -أي: يبارك له في أجله وعمره- فليصل رحمه)، هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، فالأمانة والرحم على جنبتي الصراط تطالبان كل من يمر بحقهما، الله الله في الأمانة، الله الله في الرحم. وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 10 آخر رجل يمر على الصراط الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: يا ترى من هو آخر رجل يمر على الصراط؟ وكيف يكون حاله وهو آخر رجل يدخل الجنة من أمة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم؟! وحديثه الجميل رواه الإمام مسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، تدبر معي كلام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (آخر رجل يدخل الجنة رجل يمشى مرة -أي: يمشي على الصراط مرة- ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، يمشي ثم يتكفأ فيسقط فتسفعه النار)، ولكنه يحاول ويجاهد ليمر على الصراط، فإذا نجاه الملك جل وعلا وعبر الصراط، التفت إلى النار تحت الصراط تضطرم، ثم قال: (تبارك الذي نجاني منك وأعطاني ما لم يعط أحداً من الأولين والآخرين!) نعم {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] إي وربي فقد فاز، يلتفت ويقول: تبارك الذي نجاني منك وأعطاني ما لم يعط أحدا من الأولين والآخرين. يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (فترفع له شجرة)، أي: يرفع الله له شجرة، أيها الحبيب! أرجو أن تتصور وتتخيل شجرة غرس كرامتها ملك الملوك جل وعلا! (فترفع له شجرة من شجر الجنة، فيقول العبد: أي رب! أدنني من هذه الشجرة لأستظل بظلها ولأشرب من مائها. فيقول الله للعبد: فلعلي إن أعطيتكها ستسألني غيرها، يقول: لا أسألك غيرها، فيدنيه الله منها، فيستظل بظلها ويشرب من مائها -يقول المصطفى-: فترفع له شجرة هي أحسن من الأولى، فيقول العبد: أي رب! أدنني من هذا الشجرة لأستظل بظلها ولأشرب من مائها. فيقول الله: يا ابن آدم ألم تعاهدني ألا تسألني غيرها؟! -أي: غير الأولى- فيقول: هذه لا أسألك غيرها. فيقول: إن أعطيتكها ستسألني غيرها. فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيرها، فيقربه الله منها، يقول المصطفى: وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيقربه الملك فيستظل بظلها ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة على باب الجنة هي أحسن من الأوليين فيقول: أي رب! أدنني من هذه الشجرة، فيقول الله: ألم تعط العهود ألا تسألني غير الذي سألت؟! فيقول: هذه لا أسألك غيرها، فيقربه الله منها فيستظل بظلها ويشرب من مائها، فيسمع أصوات أهل الجنة في الجنة فيقول: أي رب! أدخلني الجنة، فيقول الله جل وعلا: يا ابن آدم ما الذي يرضيك مني؟ ثم يقول: أيرضيك أن أعطيك -أي: في الجنة- الدنيا ومثلها معها فيقول العبد: أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟! هنا ضحك عبد الله بن مسعود، وسأل أصحابه: لم لا تسألوني مما أضحك؟ فقالوا: مم تضحك يا ابن مسعود؟ قال: ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه مم تضحك يا رسول الله؟ قال: أضحك لضحك رب العزة جل وعلا، يضحك رب العزة من عبده إذا قال: أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟! فيضحك الله من عبده -لا تعطل ولا تكيف ولا تمثل ولا تشبه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]- فيضحك رب العزة من عبده ويقول له: أنا لا أستهزئ بك ولكني على ما أشاء قادر)، وفي رواية أبي سعيد في صحيح مسلم يقول: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يقول الله للعبد أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟)، وفي رواية أبي سعيد: (أيرضيك أن أعطيك الدنيا وعشرة أمثالها معها؟) ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 11 كيفية النجاة من الصراط وأهواله أخيراً: كيف النجاة؟ وطريق النجاة في كلمات قليلة: إن لله في الدنيا صراطاً، وإن لله في الآخرة صراطاً، فمن استقام في الدنيا على صراط الله ثبته الله في الآخرة على صراطه، فاستقم على صراط الله في الدنيا، فأنت في كل ركعة من ركعات صلاتك تدعو الله أن يهديك هذا الصراط {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، هذا الصراط هو طريق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فالزم هذا الصراط واثبت عليه؛ ليثبتك الله على صراط الآخرة. والله أسأل أن يثبتنا وإياكم على الصراط، اللهم ثبتنا على الصراط، اللهم ثبت أقدامنا يوم تزل الأقدام، اللهم ثبت أقدامنا يوم تزل الأقدام، اللهم ثبت أقدامنا يوم تزل الأقدام، اللهم ثبت أقدامنا يوم تزل الأقدام، اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا. اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع الكريم المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا عيباً إلا سترته، ولا حاجة هي لك رضى ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا أرحم الراحمين. اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى. اللهم استر نساءنا، واحفظ بناتنا، واهد أولادنا، واجعلهم قرة عين لنا برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم احفظ أهلنا في العراق يا أرحم الراحمين، اللهم احفظ أهلنا في العراق يا أرحم الراحمين، اللهم احفظ أهلنا في العراق بقدرتك يا رب العالمين. اللهم احفظ أهلنا في فلسطين، اللهم احفظ أهلنا في فلسطين. اللهم احفظ أهلنا في الصومال، وفي الفلبين، وفي كشمير، وفي طاجكستان، وفي تركستان، وفي الجزائر يا رحمن. اللهم ارفع الهم والغم عن أمة حبيبك محمد، اللهم ارفع الهم والغم عن أمة حبيبك محمد، اللهم أرنا في اليهود وأعوانهم يوماً كيوم عاد وثمود، اللهم عليك باليهود والأمريكان، اللهم عليك باليهود والأمريكان، اللهم أرنا فيهم يوماً كيوم عاد وثمود بقدرتك يا قوي يا جبار. اللهم احفظ أهلنا ونساءنا وبناتنا وإخواننا وأولادنا في العراق وفي كل مكان يا رب العالمين، اللهم احفظهم بحفظك، اللهم اكلأهم بعنايتك، اللهم اكلأهم برعايتك، اللهم إنك قادر، تقول للشيء: كن فيكون، اللهم إنك قادر، اللهم إنهم ضعفاء فكن لهم نصيراً، اللهم إنهم عزل فكن لهم معيناً، اللهم إنهم عزل فكن لهم نصيراً، اللهم إنهم عزل فكن لهم معيناً، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم اقبلنا وتقبل منا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان -وهذا وارد لا شك فيه- فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 12 وصف النار خلق الله الناس في هذه الدنيا لعبادته، وأعد لمن أطاعه الجنة، ولمن عصاه النار، وقد حذر الله الخلق من النار، وبين لهم في كتابه ما فيها من الشدائد والأهوال، بل وصف النبي صلى الله عليه وسلم أحوال أهل النار وما يلاقون من النكال، ثم أرشد الناس إلى طريق النجاة منها ومن عذابها، فما على العاقل إلا أن يسلك سبل النجاة ويتحصن بدرع الوقاية من النار. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 1 وصف النار الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين؛ فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته. وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الكريم المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! في رحاب الدار الآخرة: سلسلة علمية كريمة تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، الهدف منها: تجديد الإيمان بالله جل وعلا واليوم الآخر، وتذكير الناس بالآخرة في عصر طغت فيه الماديات والشهوات، وانحرف كثير من الناس عن منهج رب الأرض والسماوات؛ ليتوبوا إلى الله جل وعلا ويتداركوا ما قد فات، قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون. ونحن اليوم -بتوفيق الله وحوله وطوله ومدده- مع اللقاء المتمم للعشرين من لقاءات هذه السلسلة الكريمة، وكنا قد أنهينا الحديث في اللقاء الماضي عن الصراط وصفته، وأحوال الناس في المرور عليه، كما بين لنا ذلك الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، كما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم يضرب الجسر -أي: الصراط- قيل: وما الجسر يا رسول الله! قال دحض مزلة) أي: موطن تزل فيه الأقدام ولا تثبت، اللهم ثبت أقدامنا على الصراط. (قيل: ما الجسر يا رسول الله؟! قال: دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسك) والحسك: نوع من أنواع الشوك ينبت في جزيرة العرب، والخطاف والكلوب معروفان: وهو حديدة معكوفة يخطف بها الإنسان ما يريد. قال: (فيه خطاطيف وكلاليب وحسك، فيمر المؤمنون على الصراط كطرف العين، وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكدوس في نار جهنم). وحديثنا اليوم بإذن الله تعالى عن نار جهنم أعاذنا الله وإياكم من حرها، انطلاقاً من منهج القرآن في الترهيب بعد الترغيب كما في قول ربنا جل وعلا: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:1 - 3]، وكما في قول الله جل وعلا: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50]. فانطلاقاً من منهج القرآن الكريم في الترهيب بعد الترغيب، وانطلاقاً من معتقد أهل السنة والجماعة في أن الجنة والنار مخلوقتان لا تبيدان ولا تفنيان أبداً، وأن الله قد خلق الجنة والنار قبل أن يخلق الخلق، فالجنة رحمة الله يرحم بها من يشاء من عباده، والنار عذاب الله يعذب بها من يشاء من عباده، ولقد خلق الله لكل منهما أهلاً، فمن دخل الحنة فبفضله وبرحمته، ومن دخل النار فبعدله وحكمته: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]. وسوف أجعل الحديث في هذا الموضوع الخطير حول العناصر التالية: أولاً: صفة النار. ثانياً: شدة عذاب أهل النار. ثالثاً: أهل الخلود وأهل الخروج. رابعاً: كيف النجاة من النار؟ فأعيروني القلوب والأسماع، فإن هذا الموضوع من الأهمية بمكان، والله أسأل أن يحرمنا وإياكم على النيران، وأن يجعلنا وإياكم من أهل الجنان، إنه ولي ذلك والقادر عليه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 2 نار الدنيا جزء من سبعين جزءاً من النار أولاً: وصف النار. أحبتي في الله! هل وقف أحدكم يوماً أمام حريق هائل مروع قد شب في بئر من آبار البترول، أو شب في حقل من الحقول، أو شب في مصنع من مصانع الغاز، أو حتى في بيت من بيوتنا، وانطلق رجل من ساكني هذا البيت في عودته فرأى هذا الحريق الهائل، فتذكر امرأته وتذكر أباه وتذكر أمه، وتذكر ثمار فؤاده وفلذات أكباده كبده، وأراد أن ينطلق في هذا الحريق المدمر؛ لينقذ ولده، وسرعان ما انطلق، ولكنه عاد القهقرى وابتعد عن لفح النار ودخانها ولهبها!! هل تعلمون يا مسلمون! أن هذه النار التي لا يجرؤ إنسان على أن يقترب منها، إنما هي جزء واحد من سبعين جزءاً من نار جهنم؟! ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا: يا رسول الله! والله إن كانت لكافية! فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ولكنها فضلت -أي: زادت- على نار الدنيا بتسعة وستين جزءاً كلها مثل حرها)! هل تتصور أن النار قد اشتكت إلى الله من شدة نارها ومن شدة لهبها؟! ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب! أكل بعضي بعضاً، فأذن لي أتنفس، فأذن الله لها في نفسين: نفس في الصيف ونفس في الشتاء، فما وجدتم من زمهرير وبرد -أي: في الشتاء- فمن نفس جهنم، وما وجدتم في الصيف من حر وحرور فمن نفس جهنم، فإن شدة الحر من فيح جهنم) وفي رواية الترمذي: (فأما نفسها في الشتاء فزمهرير، وأما نفسها في الصيف فسموم). الجزء: 13 ¦ الصفحة: 3 وصف النار في السنة تدبر وصف النبي المختار صلى الله عليه وسلم لهذه النار وهي تأتي يوم القيامة، والحديث رواه مسلم من حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها). أرجو أن تتصور هذا المشهد الذي يخلع القلب -والحديث في أعلى درجات الصحة- (يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)، وإذا رأت جهنم الخلائق زفرت وزمجرت غضباً؛ لغضب القهار الجبار جل وعلا، قال تعالى: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12]، جهنم ترى يوم القيامة، جهنم تسمع يوم القيامة، جهنم تتكلم يوم القيامة قال تعالى: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12]، بل وتظل جهنم تنادي وتقول: هل من مزيد؟ سلم يا رب! هل من مزيد من الكفرة؟ هل من مزيد من المنافقين؟ هل من مزيد من المشركين المجرمين؟ وتظل تنادي وتقول: هل من مزيد؟ هل من مزيد؟ حتى يأذن ربها جل وعلا أن تمتلئ، ففي الحديث الذي رواه مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد؟ هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قد امتلأت بعزتك وكرمك!)، قال الله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:24 - 30]. فتظل جهنم تصرخ على أهل الكفر: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه -بلا تعطيل ولا تكييف: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]- فتقول: قط قط، قد امتلأت بعزتك وكرمك! تكاد القلوب أن تنخلع أيها المسلمون! إذا ما وقفنا على شيء يسير جداً من هول العذاب في النار. وهذا هو عنصرنا الثاني. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 4 وصف النار في القرآن قال تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة:41 - 44]. إنها سقر: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:27 - 30]. إنها الحطمة: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة:5 - 9] مؤصدة، أي: مغلقة لا ينتهي وقودها، ولم لا؟! ووقودها الناس والحجارة، فلا ينتهي وقودها ولا ينطفئ لهبها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. اللهم نجنا من النار! الجزء: 13 ¦ الصفحة: 5 شدة عذاب أهل النار شدة عذاب أهل النار. لقد بين لنا ربنا سبحانه ونبينا صلى الله عليه وسلم أن الناس يتفاوتون في العذاب في نار جهنم، فجهنم لها أبواب، يدخل من كل باب صنف معين من الناس بحسب ذنوبه، وجهنم دركات، قال تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر:43 - 44]، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]. وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه النار إلى حقويه -أي: إلى جنبيه- ومنهم من تأخذه النار إلى ترقوته) أي: إلى عنقه، تصور هذا المشهد! الجزء: 13 ¦ الصفحة: 6 ثياب أهل النار أيها اللاهي! أيها الساهي! أيها العاصي! أيها المذنب! أيها المضيع للصلاة! أيها المضيع للزكاة! أيها المضيع للحج مع القدرة والاستطاعة! أيها العاق لوالديك! أيها المؤذي لجيرانك! أيها المسيء! أيها الصاد عن دعوة الله وعن سبيل الله! تذكر هذه اللحظات، وتذكر هذه الآيات، وتذكر هذه الكلمات من الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فالطعام في النار نار، والشراب في النار نار، حتى الثياب من النار! قال ابن عباس: (تبارك من جعل لأهل النار من النار ثياباً)، قال تعالى: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} [إبراهيم:49 - 50] القطران: هو النحاس الذي أذيب من شدة الغليان، فالثياب من قطران، وقال الله جل وعلا: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:19 - 22]. الطعام نار والشراب نار والثياب نار، وهنا يستغيث أهل النار بخزنة جهنم؛ ليتضرع خزنة جهنم إلى الله أن يخفف عن أهل النار يوماً واحداً من العذاب، قال جل وعلا: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:49 - 50]. فيرجعون بخيبة أمل فينادون على مالك رئيس الخزنة: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} [الزخرف:77] ماذا تريدون؟ نريد الموت نريد الهلاك نريد الخلاص من هذا العذاب: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، فيتذكر أهل النار إخوانهم وأهلهم وأحبابهم ممن كانوا يسخرون منهم في الدنيا من أهل التوحيد. اللهم اختم لنا بالتوحيد واجعلنا من أهل التوحيد. يتذكر أهل النار أهل التوحيد ممن كانوا يهزءون بهم في الدنيا ويسخرون منهم في الدنيا فينادون عليهم: نريد شربة ماء، نريد شيئاً مما رزقكم به رب الأرض والسماء: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف:50 - 51]. فيرجعون بخيبة أمل جديدة! ثم ينادون الله، فيأتي الجواب من الله وهو الرحمن، لكن كفرهم كان عنيداً، لكن كبرهم كان كبيراً! ينادون الله، فيرد ربنا جل وعلا عليهم بقوله: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:105 - 108]. وبهذا يظل أهل الكفر في هذا العذاب الخالد المقيم! وينجو من النار أهل التوحيد برحمة رب العالمين، وشفاعة سيد النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، وشفاعة المؤمنين الصادقين، وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر هذا اللقاء. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 7 غمسة في جهنم تنسي كل نعيم إن لحظات قليلة في نار جهنم تنسي العبد كل رخاء ونعيم في هذه الحياة، ففي صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار) أي: رجل عاش في الدنيا منعماً، ولكنه في الآخرة من أهل النار، يؤتى بهذا الرجل يوم القيامة ويغمسه الله غمسة واحدة في نار جهنم: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيصبغ في النار صبغة واحدة، ويقال له: يا بن آدم! هل رأيت نعيماً قط؟ هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله ما رأيت خيراً قط، وما مر بي نعيم!) أنساه شقاء العذاب كل نعيم، وأنساه بؤس الجحيم كل نعيم ورخاء. ولذلك فسيتمنى الكافر المجرم أن ينجو من عذاب النار ولو قدم لله ملء الأرض ذهباً، تدبر قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران:91]، بل في الصحيحين من حديث أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقال لأهون أهل النار عذاباً: أرأيت لو كان لك ما في الأرض أكنت تفتدي به؟! فيقول: نعم، فيقول الله جل وعلا: أردت منك أهون من ذلك وأنت في صلب آدم، أردت منك ألا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا الشرك). فوحدوا الله جل جلاله، وحققوا التوحيد، وأخلصوا التوحيد لله، وتجنبوا الشرك كله، فإن الشرك من أعظم أسباب الخلود في النيران، وإن التوحيد من أعظم أسباب النجاة من النيران، بل إن التوحيد هو أعظم أسباب النجاة من النيران، أسأل الله أن يختم لي ولكم بالتوحيد، وأن يحفظني وإياكم من الشرك كله دقه وجله، إنه ولي ذلك والقادر عليه. (لقد أردت منك أهون من ذلك وأنت في صلب آدم: أردت منك ألا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا الشرك) فيتمنى الكافر المجرم -وهو يرى العذاب، ويذوق طعم العذاب أشكالاً وألواناً- أن لو افتدى من عذاب الله بولده، بل ويتمنى أن لو افتدى من العذاب بامرأته، بل ويتمنى أن لو افتدى من العذاب بأسرته وقبيلته وعشيرته، بل ويتمنى أن لو قدم أهل الأرض جميعاً ليفتدي نفسه من عذاب الله جل وعلا، تدبر قول الله: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى} [المعارج:11 - 18]. يود المجرم الخبيث الكافر أن لو افتدى يوم القيامة من عذاب النار بأولاده بأصحابه بإخوانه بزوجته بل يتمنى أن لو قدم أهل الأرض جميعاً من أجل أن ينجو بنفسه من عذاب الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولم لا وطعامهم في جهنم من النار، وشرابهم في جهنم من النار، وثيابهم في جهنم من النار! فطعام أهل النار: الزقوم والضريع والغسلين، هل تعلمون شيئاً عن الزقوم؟! هل تعرفون الضريع؟! هل تعرفون الغسلين؟! تمنيت أن لو سمع أهل الكفر مثل هذا الكلام، تمنيت أن لو سمع أهل الظلم والبطش مثل هذا الكلام، لن يقوى على النار أحد، لو جلس أحدنا على مدفأة أو على تنور صغير، ونسي نفسه، ومست النار يده، سرعان ما يخطف يده! وكأنه لا يقوى على أن يتحمل النار برهة، فمن يتحمل ناراً مثل نار الدنيا سبعين مرة؟! نسأل الله السلامة والعافية. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 8 طعام أهل النار وشرابهم الزقوم: شجرة خبيثة ثمارها كرءوس الشياطين! تصور هذا الوصف العجيب! هذه الشجرة تخرج في أصل الجحيم، يقول في حقها سيد النبيين صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه الترمذي بسند صحيح من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لو قطرت قطرة من الزقوم في الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم، فكيف بمن يكون الزقوم طعامه؟!! قال الله جل وعلا: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ} [الدخان:43 - 45]، هل تعلمون ما المهل؟! المهل: هو الزيت الذي اسود لونه من شدة الغليان. اللهم سلم يا رب! {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:43 - 46]. وتدبر قول رب العالمين: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} [الواقعة:51 - 53]. وقال سبحانه: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} [الصافات:62 - 66]. فإذا اشتعلت النار في بطونهم استغاثوا يريدون الماء؛ ليطفئوا هذه النيران المتأججة، فيغاثون بماء يمزق الأمعاء ويقطع الأحشاء: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15]، وقال الله سبحانه: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29]، وقال تعالى: {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:17]. هذا عن الزقوم، فماذا عن الضريع؟! الضريع: شوك ينبت في أرض الجزيرة، قال الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:1 - 7]. هذا عن الضريع، فهل تعرفون شيئاً عن الغسلين؟! الغسلين: عصارة أهل النار من قيح وصديد، وهو طعام أهل النار! {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:25 - 37] ما هو الغسلين؟ عصارة أهل النار من القيح والصديد، والعياذ بالله! ابك على نفسك، ابك على ذنوبك، يا من قسا قلبه وجمدت عينه! متى ستبكي إن لم تبك اليوم؟! لقد قست القلوب، وجمدت العيون! إن لم تجد قلبك الآن في هذه اللحظات، فكن على يقين جازم أنه لا قلب لك؛ لأنك لا تحمل قلباً! أبت نفسي تتوب فما احتيالي إذا برز العباد لذي الجلال وقاموا من قبورهم سكارى بأوزار كأمثال الجبال وقد نصب الصراط لكي يجوزوا فمنهم من يكب على الشمال ومنهم يسير لدار عدن تلقاه العرائس بالغواني يقول له المهيمن يا وليي لقد غفرتْ ذنوبك لا تبال الجزء: 13 ¦ الصفحة: 9 أهون أهل النار عذابا ً بل ستعجب إذا علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد وصف حال أهون أهل النار عذاباً وصفاً يخلع القلب! ففي الصحيحين من حديث النعمان بن بشير، أن البشير النذير صلى الله عليه وسلم قال: (إن أهون أهل النار عذاباً لرجل يوضع في أخمص قدميه جمرتان من نار، فيغلي منهما دماغه)! اللهم سلم سلم، اللهم إن أبداننا ضعيفة لا تقوى على نارك ولا على عذابك، فنجنا يا أرحم الراحمين! الجزء: 13 ¦ الصفحة: 10 أهل الخلود وأهل الخروج نعم أيها المسلمون! يخلد في النار أهل الكفر أهل الشرك أهل الكبر على الله، الذين قتلوا وذبحوا الموحدين، وصدوا عن سبيل رب العالمين، وتكبروا على عبادة الله. أرسل الله إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وأبقى لهم العلماء فذكروهم بالله، ونقلوا لهم كلام الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتكبروا وكفروا وعاندوا، وأصروا على الشرك وعلى الكبر، وعلى الصد عن سبيل الله جل وعلا، هؤلاء هم أهل الخلود: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ} [هود:106 - 108]. اللهم اجعلنا من أهل السعادة، واجعلنا من أهل الجنان. {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108] أي: غير مقطوع ولا منته. أهل الخلود هم: أهل الكفر والشرك، وأهل الخروج هم: أهل التوحيد، فمن مات على كبيرة من الكبائر كالزنا أو شرب الخمر، أو عمل قوم لوط أو غير ذلك من الكبائر، وغلبت سيئاته الحسنات، ومات مصراً على معصية رب الأرض والسماوات -حتى ولو كان من أهل التوحيد- فإنه متوعد بأن يطهره الله في النار، ومن منا يصبر على النار ساعة؟! فإذا طهره الله في النار فإنه يخرج منها بعد ذلك برحمة الله أرحم الراحمين، أو بشفاعة سيد المرسلين، أو بشفاعة المؤمنين الصادقين من أمة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: (لكل نبي دعوة مستجابة، فدعا كل نبي بدعوته إلا أنا، فقد اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات لا يشرك بالله شيئاً). اللهم إنا نشهدك أننا نوحدك، ونؤمن بنبيك صلى الله عليه وسلم، فاختم لنا بالتوحيد كما وفقتنا إلى التوحيد يا رب العالمين! اسمع لنبيك لتعرف فضل التوحيد أيها الموحد! فإنه يعز عليَّ أن أتكلم عن النار دون أن أرغب الأخيار، فرحمة العزيز الغفار لأهل التوحيد من أمة النبي المختار واسعة، ففي الحديث الصحيح الطويل الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد، وفيه ذكر شفاعة المؤمنين لإخوانهم الذين دخلوا النار، فيقول أهل الإيمان: (يا رب! إن إخواننا كانوا يصلون ويصومون ويحجون معنا -أي: شفعنا فيهم- فيقول الله جل وعلا: اذهبوا فأخرجوا من النار من عرفتم، فيعرفون في النار بأثر السجود، فإن الله حرم على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود، فيرجعون إلى الله ويقولون: ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا به، فيقول الرحمن: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ويقولون: ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا به، فيقول الرحمن: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ويقولون: ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا به، فيقول الرحمن: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ويقولون: ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا به، فيقول أرحم الراحمين: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض الله جل وعلا قبضة فيخرج من النار خلقاً كثيراً قد امتحشوا -أي: قد أكلتهم النار- فيصب عليهم من ماء نهر في الجنة يقال له: نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، فيخرجون إلى الجنة كاللؤلؤ وفي رقابهم الخواتيم، يعرفهم أهل الجنة إذا ما نظروا إليهم ويقولون: هؤلاء عتقاء الرحمن من النار، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه). اللهم اجعلنا من أهل الجنة، ونجنا من النار برحمتك يا عزيز يا غفار! وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم! الجزء: 13 ¦ الصفحة: 11 سبيل النجاة من النار الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! كيف النجاة من النيران؟! النجاة من النار في كلمتين اثنتين لا ثالث لهما: توحيد العزيز الغفار، واتباع النبي المختار، هذا هو طريق النجاة: أن توحد الله، وأن تسير على طريق حبيبك رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 12 أعمال تنجي من النار وهناك من الأعمال الصالحة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بفعلها، ما تفتح باباً للعبد إلى الجنة، وتنجي العبد من النيران، ومنها: الصوم: ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من صام يوماً في سبيل الله، باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً). ومنها الجهاد: اللهم ارزقنا الجهاد في سبيلك، اللهم ارفع علم الجهاد، وارزقنا الشهادة في سبيلك يا أرحم الراحمين! ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمس النار عبداً اغبرت قدماه في سبيل الله). ومن هذه الأعمال التي تنجي العبد من النار: مجالس العلم: ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة الطويل وفيه: (أن الملائكة تصعد بعد مجلس العلم إلى الله تعالى، فيقول الله للملائكة: يتعوذون؟ فتقول الملائكة: إنهم يتعوذون من النار، فيقول الله: وهل رأوا النار؟ فتقول الملائكة: لا لم يروا النار، فيقول الله: فكيف لو رأوها؟ فتقول الملائكة: كانوا أشد لها مخافة وأشد منها فراراً، فيقول الله جل وعلا: أشهدكم يا ملائكتي! أني قد غفرت لهم)، وهذا من فضل مجالس العلم. ومنها أيضاً: محبة الله جل وعلا: فإذا أحبك الله لم ترد على النار، كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والحاكم من حديث أنس، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (والله لا يلقي الله حبيبه في النار أبداً). ومنها البكاء: إن البكاء من خشية الله يحرم العبد على النار، يا له من فضل! ففي الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي والنسائي وصححه الألباني، أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يلج النار -أي: لا يدخل النار- رجل بكى من خشية الله). فطريق النجاة: توحيد للعزيز الغفار واتباع للنبي المختار صلى الله عليه وسلم، أسأل الله أن ينجينا وإياكم من النيران. اللهم نجنا من النار، اللهم نجنا من النار، اللهم نجنا من النار، اللهم نجنا من النار، اللهم نجنا من النار، اللهم أدخلنا الجنة برحمة منك يا عزيز يا غفار! اللهم أدخلنا الجنة برحمة منك يا عزيز يا غفار! اللهم إننا ضعاف لا نقوى على عذابك، ولا قدرة لنا على سخطك، ولا تحمل لنا على بلائك. اللهم ارحمنا برحمتك فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا فأنت علينا قادر، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا فأنت علينا قادر، والطف بنا يا مولانا! برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً بيننا إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 13 التوحيد والتوحيد ليس كلمة تقال باللسان فحسب، بل إن التوحيد: قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالجوارح والأركان، وإلا فما قيمة أن تردد بلسانك كلمة التوحيد مع تكذيب القلب والانصراف عن العمل، ما قيمة هذا؟! فالتوحيد قول وتصديق وعمل، يقول الله جل وعلا لنبيه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66]. وفي صحيح البخاري من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار)، قال ابن مسعود: (ومن مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة). وفي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) وفي لفظ: (أدخله الله الجنة من أي أبوابها الثمانية شاء) وفي رواية عِتبان بن مالك: (فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله جل وعلا). الجزء: 13 ¦ الصفحة: 14 الاتباع الاتباع ليس كلمة تقال، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. من يدعي حب النبي ولم يفد من هديه فسفاهة وهراءُ فالحب أول شرطه، وفروضُهُ إن كان صدقاً: طاعةً ووفاءُ اتباع النبي: امتثال لأمره، واجتناب لنهيه، ووقوف عند حده، اعرض -اليوم- نفسك على أوامر الله ورسوله، وعلى نواهي الله ورسوله، وعلى حدود الله ورسوله، فإن كنت ممن امتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم، واجتنب نهي النبي صلى الله عليه وسلم، ووقف عند حدود النبي صلى الله عليه وسلم، واتبع النبي صلى الله عليه وسلم في أعماله: في صلاته، وفي زكاته، وفي ذكره إلخ، فإذا كنت كذلك فضع رأسك على التراب شكراً لله، وسل الله أن يزيدك اتباعاً، وأن يتوفاك على اتباع حبيبك المصطفى، يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عائشة: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) من أحدث: أي: من عبد الله عز وجل ببدعة فجاء بأمر جديد على دين رسول الله، فهذا الأمر مردود، وهذه العبادة مردودة على رأسه لا يقبلها الله منه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 15 الحساب [1] لقد حرم الله عز وجل الظلم على نفسه، وجعله بين العباد محرماً، ومن عدل الله أن يجازي عباده يوم القيامة على ما قدموا من خير أو شر -إلا أن يتغمد من يشاء برحمته-، وأمر الحساب أمر عصيب يجب على العبد أن يستعد له، وأن يتوب من سيئاته، ويحاسب نفسه على النقير والقطمير، والصغير والكبير من العمل. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1 لا ظلم اليوم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدَّى الأمانةَ، وبَلَّغَ الرسالةَ، ونَصَحَ للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيَّاكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً. وأسأل الله الكريم الحليم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الكريم على طاعته أن يجمعنا في الآخرة، مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! موضوعنا اليوم مع حضراتكم بإذن الله جل وعلا، بعنوان: (في ساحة الحساب)، وسوف ينتظم حديثنا مع هذا المشهد الرهيب المهيب في العناصر التالية: أولاً: لا ظلم اليوم. ثانياً: العرض على الله وأخذ الكتب. ثالثاً: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا. فأعيروني القلوب والأسماع. والله أسال أن يسترنا فوق الأرض وتحت الأرض، ويوم العرض، إنه حليم كريم رحيم. أولاً: لا ظلم اليوم. أيها الأحباب الكرام! والله لو عذب الله أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، فهم عبيده وفي ملكه، والمالك يتصرف في ملكه كيف يشاء، ولكنه جل وتعالى قد حرم الظلم على نفسه، وجعله بين العباد محرماً: قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40]. وقال جل وعلا: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]. وقال جل وعلا: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر:31]. وقال في الحديث القدسي الذي رواه مسلم من حديث أبي ذر، عن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة أنه قال: (يا عبادي! إني حَرَّمْتُ الظلمَ على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا). فالله جل وعلا عدل لطيف، حليم كريم، لا يظلم أحداً من خلقه، ولا يظلم أحداً من عباده، ولذا فإن الله جل وعلا يحاسب العباد يوم القيامة وفق القواعد التالية: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 2 تبديل السيئات حسنات القاعدة السادسة -والأخيرة في عنصرنا الأول (لا ظلم اليوم) - هي: تبديل السيئات حسنات. وهذا خاص بعباد الرحمن من المؤمنين والموحدين، قال تعالى في صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:68 - 70]. وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: حدثنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فقال: (إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة، وآخر أهل النار خروجاً منها: رجل يؤتى به فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه فيشفق، ويقال له: لقد عملت كذا يوم كذا وكذا، فيقول: نعم -يقول المصطفى-: لا يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه -وفي هذه الحالة الرهيبة من الرعب والفزع- يقال له: إن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول العبد: رب قد عملت أشياء لا أراها هاهنا) قال أبو ذر: (والله لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحدث بهذا ويضحك حتى بدت نواجذه صلى الله عليه وآله وسلم). تبدل السيئات حسنات لأهل الإيمان والتوحيد، أسأل الله أن يختم لي ولكم بالإيمان والتوحيد. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 3 مضاعفة الحسنات لأهل الإيمان القاعدة الخامسة والسادسة لأهل التوحيد والإيمان، أسأل الله أن يختم لنا ولكم بالصالحات. القاعدة الخامسة: مضاعفة الحسنات لأهل الإيمان. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54]. فالله سبحانه يضاعف الحسنة إلى عشر أمثالها. قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الأنعام:160]. يضاعف الله الحسنة في الدنيا إلى عشر أمثالها، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه، وحسن الحديث شيخنا الألباني من حديث أبي ذر الغفاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى في الحديث القدسي: الحسنة بعشر أمثالها أو أزيد، والسيئة واحدة أو أغفرها). وفي الحديث الذي رواه الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أما إني لا أقول: ألم حرف، بل (ألف) حرف، (ولام) حرف، (وميم) حرف). وقد يضاعف الله الحسنة إلى سبعمائة ضعف: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261]. بل قد يضاعف الله الحسنة إلى أكثر من سبعمائة ضعف، فهناك من الأعمال ما لا يعلم ثوابها إلا الله. قال تعالى في الحديث القدسي المخرج في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به). ولك أن تتصور الجزاء من الواسع الكريم جل جلاله. والصبر قال الله فيه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 4 إقامة الشهود على العباد القاعدة الرابعة: إقامة الشهود على العباد. وأعظم شهيد على العباد يوم القيامة هو الملك، الذي يعلم السر وأخفى، وعلم ما كان، وما هو كائن، وما سيكون، فالله جل وعلا هو أعظم شهيد علينا يوم القيامة. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [النساء:33]. ثم تأتي الرسل فتشهد على جميع الأمم، وتأتي أمة الحبيب فتشهد على جميع الأمم، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]. وقال تعالى مخاطباً حبيبه المصطفى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41]. وفى صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري أن الحبيب صلى الله عليه وسلم قال: (يُدْعَى نوحٌ يوم القيامة فيقال له: يا نوح! فيقول: لبيك وسعديك، فيقول الله: هل بَلَّغْتَ قومك؟ فيقول نوح: نعم يا رب! فيدعى قوم نوح ويقال لهم: هل بَلَّغَكُم نوح؟ فيقولون: لا، ما أتانا من أحد! فيقول الله جل وعلا: من يَشْهَد لك يا نوح؟ فيقول نوح: يشهد لي محمد وأمته -يقول المصطفى- فتدعون فتشهدون له، ثم أشهد عليكم، فذلك قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]). ثم تشهد الملائكة، قال تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:21]. ثم تشهد الأرض بما عمل على ظهرها من طاعات وسيئات، ففي الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي من حديث أبي هريرة: (أنه صلى الله عليه وسلم: قرأ يوماً قول الله: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4] فقال المصطفى: أتدرون ما أخبارها؟! قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أخبارها: أن تشهد الأرض على كل عبد أو أَمَةٍ بما عمل على ظَهْرِهَا فتقول: يا رب! لقد عمل كذا وكذا، في يوم كذا وكذا، فهذه أخبارها! فيجادل العبد اللئيم ربه الكريم ويقول العبد: يا رب! أنا أرفض هذه الشهادة! وأرفض هؤلاء الشهود!)، يا سبحان الله! يظن أنه في محكمة من محاكم الدنيا، يقول العبد اللئيم لربه الرحيم الكريم: أنا أرفض هذه الشهادة، ولا أعترف بشهادة هؤلاء الشهود! كما في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم من حديث أنس: (أنه صلى الله عليه وسلم جلس يوماً فضحك! -بأبي هو وأمي-، ثم قال لأصحابه: لم لا تسألونني مِمَّ أضحك؟! فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟! فقال المصطفى: أضحك من مجادلة العبد لربه يوم القيامة، يقول العبد لربه: يا رب! ألم تجرني من الظلم؟! فيقول: بلى قد أجرتك من الظلم، فيقول العبد: فإني لا أجيز شاهداً علي إلا من نفسي، فيقول الله سبحانه: كفى بنفسك اليوم عليك حسبياً، فيختم الله على فيه -على فمه، وعلى لسانه الذي تعود الجدال والكذب واللؤم والنفاق- ويأمر أركانه وجوارحه أن تنطق، فتشهد عليه جوارحه وأركانه، فإذا خلي بينه وبين الكلام سب ولعن أركانه وقال لها: سحقاً لكن سحقاً لكن، فعنكن كنت أناضل). {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]. وقال جل وعلا: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:19 - 24]. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 5 لا تزر وازرة وزر أخرى القاعدة الثانية: أن لا تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى. لا تؤاخذ نفس بذنب نفس أخرى، بل إن كل نفس تؤاخذ بإثمها وتعاقب بجرمها: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:13 - 15]. وقال سبحانه: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم:36 - 41]. فلا تتحمل نفس ذنب نفس أخرى، بل سيمر الولد يوم القيامة على والده، فيقول له والده: أي بني أنا أبوك! أعطني حسنةً من حسناتك، فلقد كنت لك نِعْمَ الأب، فيقول الابن لأبيه: نفسي! ويقول الابن لأمه: نفسي! وكيف لا، وقد قال كل نبي من الأنبياء في هذا اليوم العصيب: نفسي، نفسي، نفسي، إلا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم؟! الجزء: 14 ¦ الصفحة: 6 إعذار الله لخلقه القاعدة الثالثة: إعذار الله لخلقه. هذه هي قواعد العدل التي سيحاسب الله بها عباده يوم القيامة: إعذار الله لخلقه. الله جل وعلا هو الحكم العدل، وهو اللطيف العليم الخبير، وهو الذي يعلم ما عمل العباد من يوم أن خلقهم إلى يوم أن قبضهم، ومع ذلك فمن عظيم عدله وفضله: أنه يعرض أعمال العباد عليهم يوم القيامة، حتى لا يكون لأحد عذر بين يديه جل وعلا، قال سبحانه: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30]. وقال سبحانه: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:14]. وقال جل وتعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار:5]. فالله يقيم الحجة على خلقه في الدنيا، بل ويبين ويعرض عليهم أعمالهم في الآخرة؛ حتى لا يكون لأحد عذر بين يديه سبحانه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 7 العدل التام الذي لا يشوبه أي ظلم القاعدة الأولى: العدل التام الذي لا يشوبه أي ظلم. هذه هي القاعدة الأولى: العدل التام الذي لا يشوبه ظلم، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]. كفى بالله حسيباً، اعلم بأنك لن تعرض على محكمة كمحاكم الدنيا، ففي محاكم الدنيا قد يجيد المحامون التزويرَ والتحريفَ، أو قد يجيد المحامون إقامة الحجة للخصم فيخرج، وربما يخرج الخصم وهو مدان، أما يوم القيامة فاعلم بأن الذي سيتولى حسابك هو: من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور: (وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ). وقال جل وعلا: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]، وقال تعالى: {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17]. . فالمقصود: أن عمل ابن آدم كله محفوظ ومسطور في كتاب عند الله جل وعلا، لا يضل ربي ولا ينسى، واعلم بأن ما نسيه الإنسان لا ينساه الرحمن. دع عنك ما قد فات في زمن الصِّبَا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيهما تعد وتحسب فما نسيه الإنسان لا ينساه الرحمن، فالقاعدة الأولى هي قاعدة العدل، قال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40]. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 8 العرض على الله وأخذ الكتب أيها الموحدون! هذه هي القواعد التي يحاسب الله جل وعلا عباده وفقاً لها يوم القيامة، وبها يكون الحساب، وهذا هو عنصرنا الثاني: العرض على الله وأَخْذِ الكُتُب. قال تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:21 - 29]. وفى الصحيحين من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من نوقش الحساب يوم القيامة عُذِّبْ، قالت عائشة: يا رسول الله! أو ليس الله يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:7 - 8]؟! فقال المصطفى: إنما ذلك العرض، وليس الحساب يا عائشة، فمن نوقش الحساب يوم القيامة عذب). سينادى عليك ليكلمك الله، كما في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة، ليس بينه وبينه تُرجُمَان، فينظر العبد أيمن منه فلا يرى إلا ما قَدَّمَ، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة). تنادي الملائكة: أين فلان بن فلان؟!! فإذا تَيَقّنْتَ أنك أنت المطلوب، وقرع النداء قلبك؛ فاصفر لونك، وتغير وجهك، وطار قلبك، وقد وُكّلَت الملائكة بأخذك أمام الخلق أجمعين، على رءوس الأشهاد، ويرفع الخلائق جميعاً أبصارهم إليك وأنت في طريقك للوقوف بين يدي الملك تتخطى الصفوف! أسألك بالله أن تتصور هذا المشهد الذي يكاد يخلع القلوب! تتخطى الصفوف: صفوف الملائكة صفوف الجن صفوف الإنس في أرض المحشر؛ لترى نفسك واقفاً بين يدي الحق جل جلاله؛ ليكلمك الله، ولتعطى صحيفتك! هذه الصحيفة التي لا تغادر بلية كتمتها، ولا مخبأة أسررتها، فكم من معصية قد كنت نسيتها ذكرك الله إياها! وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها! فيا حسرة قلبك -وقتها- على ما فرطت في دنياك من طاعة مولاك! فإن كان العبد من أهل السعادة -اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك- وممن رضي الله عنهم في الدنيا والآخرة، أعطاه الله كتابه بيمينه، وأظهر له في ظاهر الكتاب الحسنات، وفي باطنه السيئات، فيأمر العبد أن يبدأ، فيقرأ السيئات؛ فيصفر لونه، ويتغير وجهه ويخشى العذاب والعياذ بالله! فإذا ما أنهى قراءة السيئات وجد في آخر الكتاب: هذه سيئاتك وقد غفرتها لك؛ فيتهلل وجهه، ويسعد سعادة لا يشقى ولن يشقى بعدها أبداً، ويواصل القراءة حتى إذا ما وصل إلى آخر الكتاب قرأ الحسنات؛ فازداد وجهه إشراقاً، وازداد فرحاً وسروراً، وقال له الملك جل جلاله: انطلق إلى أصحابك وإخوانك -أي: من أهل التوحيد والإيمان- فبشرهم أن لهم مثلما رأيت، فينطلق وكتابه بيمينه، والنور يشرق من وجهه وأعضائه، ويقول لأصحابه وخلانه: ألا تعرفونني؟! فيقولون: من أنت لقد غمرتك كرامة الله؟!! فيقول: أنا فلان بن فلان! انظروا هذا كتابي بيميني! اقرءوا كتابيه! شاركوني السعادة والفرحة، انظروا: هذا توحيدي، وهذه صلاتي، وهذه زكاتي، وهذا حجي، وهذا بري بوالدي، وهذه صدقتي، وهذا إحساني للجيران، وهذا ولائي وبرائي، وهذا بغضي لأعداء الله، وهذه أعمالي، وهذه دعوتي، وهذا أمري بالمعروف، وهذا نهيي عن المنكر، وهذا بعدي عن الغيبة والنميمة، وهذا بعدي عن ظلم العباد: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:19 - 24]. وإن كانت الأخرى أعاذنا الله وإياكم من الأخرى، إذا كان العبد من أهل الشقاوة وممن غضب الله عليهم في الدنيا والآخرة، ينادى عليه: أين فلان بن فلان؟!! وسبحان من لا تختلظ عليه الأصوات، ولا تشتبه عليه اللغات، ولا تشتبه عليه الأسماء والصفات! أين فلان بن فلان؟! ماذا تريدون يا ملائكة الله؟! هلم إلى العرض على الله جل وعلا! فيتخطى الصفوف فيرى نفسه بين يدي الله، فيعطى كتابه بشماله أو من وراء ظهره، فيقرأ فيسود وجهه، ثم يكسى من سرابيل القطران! ويقال له: انطلق إلى من هم على شاكلتك فبشرهم أن لهم مثلما رأيت، فينطلق في أرض المحشر وقد اسود وجهه، وعلاه الخزي والذل والعار، وكتابه بشماله من وراء ظهره! فينطلق فيقول لخلانه ومن هم على شاكلته: ألا تعرفونني؟! فيقولون: لا، إلا أننا نرى ما بك من الخزي والذل فمن أنت؟!! فيقول: أنا فلان بن فلان، وهذا كتابي بشمالي، ولكل واحد منكم مثل هذا! ويصرخ في أرض المحشر: لقد شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبداً! يصرخ بأعلى صوته ويقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:25 - 37]. ولله در القائل: مثل وقوفك يوم العرض عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تزفر من غيض ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كان فلما قرأت ولم تنكر قراءته إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبد عصى في النار عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا والمؤمنون بدار الخلد سكانا وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 9 حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله. اللهم صلَّ وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الأحبة الكرام! هذه صورة مصغرة -على قدر جهلي- أقدمها لحضراتكم عن الحساب. ولك أن تعيش بقلبك وكيانك كله هذا المشهد، الذي يكاد أن يخلع القلوب، هذا إن كنا ممن يحمل في الصدور قلوباً! فإنه لا يتأثر بموعظة، ولا يستجيب لآية أو حديث إلا من كان له قلب. قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]. وكم من الناس الآن من يتحرك في هذه الدنيا وهو لا يحمل قلباً، لقد مات قلبه منذ زمن، وكفن منذ أمد! يسمع القرآن يتلى ولا حياة لمن تنادي! يسمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فربما يسخر ويهزأ بمذكره! فيا أيها الأخ الكريم! حاسب نفسك الآن قبل أن تحاسب بين يدي الجبار. قال عمر -والأثر رواه الإمام أحمد والترمذي بسند صحيح-: (أيها الناس! حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر، يوم لا تخفى منكم خافية، فإنما يخف الحساب يوم القيامة عمن حاسب نفسه في الدنيا). حاسب نفسك الآن أخي الحبيب! واعلم بأن النفس أمارة بالسوء. ولقد وصف الله النفس في القرآن بثلاث صفات ألا وهي: المطمئنة، واللَّوامة، والأمَّارة بالسوء. المطمئنة: هي التي اطمأنت إلى الرضا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبالمصطفى رسولاً. المطمئنة: هي التي اطمأنت إلى وعد الله ووعيده. هي التي اطمأنت إلى ذكر الله وعبوديته. هي التي تشتاق دوماً للقاء الله سبحانه. واللوامة: هي التي تلوم صاحبها على الخير وعلى الشر. تلوم صاحبها على الخير، لماذا لم تكثر منه؟! وتلوم صاحبها على الشر، لماذا وقعت فيه؟! لماذا تسوف التوبة؟! لماذا تؤخر الصلاة عن بيوت الله؟! إلى متى وأنت على هذا الضلال وهذه البدع؟ تلوم صاحبها على الخير، وتلوم صاحبها على الشر. أما النفس الأمارة: فهي التي تريد أن تخرجك من طريق الهداية إلى طريق الغواية من طريق النعيم إلى طريق الجحيم من طريق السُّنة إلى طريق البدعة من طريق الحلال إلى طريق الحرام. قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:53]. فهذه النفس إن لم تفطمها بطاعة الله شغلتك بالمعصية، وإن لم تلجمها بلجام التقوى شغلتك بالباطل، فالنفس كالطفل، فإن فطمت الطفل عن ثدي أمه انفطم، وكذلك النفس إن فطمتها عن معصية الله وألجمتها بلجام الطاعة والتقوى انقادت. فإن زلت نفسك لبشريتك وضعفك فلست ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً، فسرعان ما يدفع إيمانك وعلمك بنفسك الأمارة إلى التوبة والأوبة، والعودة إلى الله جل جلاله، وأنت على كل حال من هذه الأحوال على طريق طاعة الكبير المتعال، وسيد الرجال صلى الله عليه وسلم. النفس أمارة، فحاسب نفسك الآن أيها الحبيب! قبل كل عمل، وبعد كل عمل، لماذا أتيت؟! لماذا سأتكلم؟! لماذا أسكت؟! لماذا أنفقت؟! لماذا أمسكت؟! لماذا أحببت؟! لماذا أبغضت؟! لماذا خرجت؟! لماذا دخلت؟! وبعد الإخلاص في العمل، هل كان العمل موافقاً لهدي المصطفى؟! هل اتبعت رسول الله أم أنا ضال مبتدع؟! فالسؤال الأول عن الإخلاص، والسؤال الثاني عن المتابعة، إذ لا يقبل الله أي عمل إلا بهذين الشرطين، أن يكون العمل خالصاً لوجه الله، وأن يكون على هدي الحبيب محمد صلى الله عليه وآله وسلم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية طيب الله ثراه: إن دين الله الذي هو الإسلام مبني على أصلين: الأول: أن يعبد الله وحده لا شريك له، والأصل الثاني: أن يعبد بما شرعه على لسان رسوله، وهذان الأصلان الكبيران هما حقيقة قولنا: نشهد أن لا إله إلا الله، ونشهد أن محمداً رسول الله. فحاسب نفسك قبل كل عمل، وبعد كل عمل، وحاسب نفسك على التقصير، يا نفس! إلى متى تعصين وعلى الله تجترئين؟! يا نفس! إلى متى هذا الانحراف عن طرق الله جل وعلا؟! إلى متى تأكلين الربا؟! إلى متى تأكلين الحرام؟! إلى متى تأكلين مال اليتامى؟! إلى متى وإلى متى تتركين الجماعة؟! إلى متى تجلسين على المقاهي والشوارع والطرقات، وتسمعين نداء رب الأرض والسماوات: حي على الصلاة حي على الفلاح، وأنت قابعة على معصيتك؟! إن كنت تعتقدين أن الله لا يراكِ؛ فما أعظم كفرك بالله! وإن كنت تعلمين أنه يراك وأنت لازلتِ مصرة على المعصية؛ فما أشد وقاحتك، وأقل حيائك من الله جل وعلا! يا نفس ويحك! ألا تعرفين قدر نعمة الإسلام؟! يا نفس ويحك! ألا تعرفين قدر نعمة بعثة سيد الأنام؟! يا نفس اتق الله! وتوبي إلى الله وعودي إلى الله فحاسب نفسك أيها المسلم! محاسبة الشريك الشحيح لشريكه، وحاسبي نفسك أيتها المسلمة! محاسبة الشريك الشحيح، قال ميمون بن مهران: لا يبلغ العبد درجة التقوى إلا إذا حاسب نفسه محاسبة الشريك الشحيح لشريكه. إياك أن تغتر بطاعة! إياك أن تغتر بعلم! بل كن دائماً على وَجَل، فإنما العبرة بالخواتيم. أسأل الله أن يحسن لنا الخاتمة. هذه الصديقة بنت الصديق عائشة الطاهرة المبرأة من السماء، يسألها أحد المسلمين عن قول الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32] ما معناها يا أماه؟ فقالت عائشة: يا بني! أما السابق بالخيرات: فقوم سبقوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد لهم بالجنة، وأما المقتصد: فقوم ساروا على دربه، وماتوا على ذلك، وأما الظالم لنفسه: فمثلي ومثلك! عائشة! لا تغتر بنسبها، فلم تقل: إنني زوج النبي صلى الله عليه وسلم، بل لقد بشرها المصطفى صلى الله عليه وسلم بالجنة، ومع ذلك فإنها لا تغتر، بل تعرف قدر النفس، وخطر النفس، ولؤم النفس. وهذا فاروق الأمة عمر ينام على فراش الموت، وما أدراكم ما عمر؟! تعجز العبارات عن وصف عمر الفاروق، ينام على فراش الموت بعدما طعن، فيدخل عليه ابن عباس فيثني عليه الخير كله، فيقول عمر: (والله إن المغرور من غررتموه، وددت أن أخرج اليوم من الدنيا كفافاً لا ليّ ولا عليّ، والله لو أن لي ملء الأرض ذهباً لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه). وهذا هو معاذ بن جبل حبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي قال له رسوله: (والله إني لأحبك يا معاذ!) لما نام على فراش الموت بعد ما أصيب بطاعون الشام، قال لأصحابه: (انظروا هل أصبح الصباح؟ ثم بكى معاذ وقال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار). وهذا سفيان الثوري إمام الورع والحديث، ينام على فراش الموت، فيدخل عليه حماد بن سلمة فيقول له حماد: أبشر يا أبا عبد الله! إنك مُقْبِلُُ على من كنت ترجوه، وهو أرحم الراحمين! فبكى سفيان وقال: أسألك بالله يا حماد أتظن أن مثلي ينجو من النار؟! ونحن جميعاً يقول كل واحد منا: أتظن أن مثلي لا يدخل الجنة؟! فيا أيها المسلم! لا تغتر بطاعة، ولا تغتر بعلم ولا تغتر بعمل، وكن دائماً على وجل كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي غفر له من تقدم من ذنبه، فحاسب نفسك بعد كل عمل، وحاسب نفسك بعد كل معصية، وحاسب نفسك على كل تقصير وعلى كل تفريط، إلى متى تسمع عن الله؟! وإلى متى تسمع عن رسول الله وأنت مفرط ومضيع؟! إن الموت يأتي بغتة، وإن أقرب غائب ننتظره هو الموت. قال سليمان بن عبد الملك لـ أبي حازم: يا أبا حازم! مالنا نحب الدنيا ونكره الآخرة؟! فقال أبو حازم: لأنكم عَمَّرتُم دنياكم وَخَرَّبتُم أُخراكم، فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب. فقال سليمان: فما لنا عند الله يا أبا حازم؟ قال أبو حازم: اعرض نفسك على كتاب الله؛ لتعلم مالك عند الله. فقال سليمان: وأين أجد ذلك في كتاب الله؟ قال أبو حازم: عند قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14]. أين أنت؟! فقال سليمان: فأين رحمة الله؟! فقال أبو حازم: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56]. قال: فكيف القدوم على الله غداً؟! قال أبو حازم: أما العبد المحسن فكالغائب يرجع إلى أهله، وأما المسيء فكالعبد الآبق يرجع إلى مولاه! أسأل الله أن يستر عليَّ وعليكم في الدنيا والآخرة. اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا حاجةً هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم استرنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، اللهم استرنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، اللهم استرنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، اللهم أكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، وإن أردت بالناس فتنة ف الجزء: 14 ¦ الصفحة: 10 الحساب [2] أمر الحساب أمر عظيم وعصيب، وهو من الأحوال العظام التي تنتظر البشرية جمعاء، وإن أول أمة سيحاسبها الله هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأول ما يحاسب عليه كل فرد من أفراد هذه الأمة يوم القيامة الصلاة، وأول من تسعر بهم النار هم أهل الرياء. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1 أول أمة سيحاسبها الله تعالى إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد فى الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً. وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! في رحاب الدار الآخرة، سلسلة علمية كريمة تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، الهدف منها تذكير الناس بحقيقة الآخرة، في عصر طغت فيه الماديات والشهوات، وانصرف فيه كثير من الناس عن طاعة رب الأرض والسماوات؛ ليتداركوا ما قد فات بالتوبة إلى الله جل وعلا، قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون، ونحن اليوم على موعد بإذن الله مع اللقاء الرابع عشر من لقاءات هذه السلسلة العلمية الكريمة. وكنا قد توقفنا في اللقاء الماضي مع مشهد الحساب الرهيب المهيب! فلقد ذكرنا أن العباد في أرض المحشر يقفون صفوفاً صفوفاً، ينتظر كل واحد منهم أن ينادى عليه للعرض على الله جل وعلا، ليحاسب الله تبارك وتعالى عباده وفق قواعد العدل التي ذكرت في اللقاء الماضي، وهي: 1 - {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم:38]. 2 - العدل التام الذى لا يشوبه الظلم. 3 - إعذار الله لخلقه. 4 - إقامة الشهود. 5 - مضاعفة الحسنات. 6 - تبديل السيئات حسنات. وبعدها يبدأ الحساب، فيا ترى من هي أول أمة سيحاسبها الله؟! ومن هم أول من يقضي الله بينهم يوم القيامة؟ وما هو أول ما يحاسب عليه العبد؟ والجواب على هذه الأسئلة هو موضوع لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يسترنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أولاً: من هي أول أمة سيحاسبها الله جل علاه؟ أيها الأحبة الكرام! إن ذل القيام بين يدي الله في أرض المحشر لعظيم، فالشمس فوق الرءوس بمقدار ميل فقط! تكاد الرءوس أن تغلي من حرارتها، والبشرية كلها من لدن آدم إلى آخر رجل قامت عليه القيامة في صعيد واحد! يكاد الزحام وحده أن يخنق الأنفاس، وجهنم قد أتي بها لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، إذا رأت جهنم الخلائق زفرت وزمجرت غضباً منها لغضب الله جل وعلا، فتجثو جميع الأمم على الركب قال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28]. في هذه اللحظات من بين سبعين أمة تقف كلها في أرض المحشر؛ ينادي الله جل وعلا أمة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ليرحمها من ذل القيام بين يديه في أرض المحشر، بل وليكرمها على جميع الأمم، حينما ينادى عليها لتشهد على هذه الأمم كلها، ففي الحديث الذي رواه ابن ماجة بسند صحيح عن ابن عباس قال صلى الله عليه وسلم: (نحن آخِرُ الأمم وأول الأمم حساباً يوم القيامة، يقال: أين الأمة الأمية ونبيها؟ فنحن الآخرون الأولون). فأمة النبي صلى الله عليه وسلم هي أول أمة سينادى عليها يوم القيامة للحساب؛ ليرحمها الله من ذل القيام في أرض المحشر في هذا الموقف العصيب. وفي الحديث الذى رواه أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه وصححه الحاكم على شرط الشيخين وأقره الذهبي ورواه الإمام الترمذي وقال: حديث حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنتم موفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله جل وعلا). فأمة النبي هي أشرف وأطهر وأكرم أمة على الله سبحانه، ولم لا والرجل وحده في أمة النبي المصطفى قد يزن أمة بأسرها؟! ففي هذه الأمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وجميع أصحاب الحبيب النبي، في هذه الأمة: مسلم والبخاري، في هذه الأمة: أبو حنيفة ومالك وأحمد والشافعي، والسائرون من بعدهم على هذا الدرب المنير الزكي، من أهل الحلم والعلم والفضل الندي. روى الإمام أحمد في مسنده والطبراني في الصغير والأوسط، وقال الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد: ورجال أحمد رجال الصحيح من حديث أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله لعيسى بن مريم: يا عيسى! إني سأبعث بعدك أمة إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا علم، قال: يارب! كيف هذا، ولا حلم ولا علم؟! فقال الله جل وعلا: أعطيهم من حلمي وعلمي). فأمة النبي تتجلى كرامتها يوم القيامة بين يدي الرب العلي، حينما ينادى عليها من بين سبعين أمة أين أمة محمد فلتتقدم، لماذا؟! ولتشهد على جميع الأمم! لتشهد للأنبياء والمرسلين. ففي صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: يا نوح! فيقول: لبيك وسعديك، فيقول الله: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه ويقال لهم: هل بلغكم نوح؟ فيقولون: لا، ما أتانا من نذير! وما أتانا من أحد! فيقول الله جل وعلا: من يشهد لك يا نوح، فيقول نوح: يشهد لي محمد وأمته، يقول المصطفى: فتدعون فتشهدون له بأنه بلغ قومه، وأشهد عليكم)، فذلك قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]. أمة الحبيب صلى الله عليه وسلم أمة مكرمة، فمن أثنت الأمة عليه خيراً نجا ووجبت له الجنة، ومن أثنت أمة الحبيب عليه شراً هلك ووجبت له النار. ففي صحيح مسلم وسنن أبي داود من حديث أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ عليه بجنازة فَأُثني عليها خيراً فقال المصطفى: (وجبت وجبت وجبت)، ثم مُرّ عليه بجنازة أخرى، فأثني عليها شراً، فقال المصطفى: (وجبت وجبت وجبت)، فقال عمر: فداك أبي وأمي يا رسول الله! مر عليك بجنازة فأثني عليها خيراً فقلت: وجبت وجبت وجبت، ومر عليك بجنازة أخرى فأثني عليها شراً فقلت: وجبت وجبت وجبت، فما وجبت؟ فقال المصطفى: من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة , ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، فأنتم شهداء الله في الأرض). ولقد وعد الله نبيه أن يعطيه في أمته حتى يرضى، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ يوماً قول الله في إبراهيم {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36]، وتلا قول الله في عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]، ثم رفع النبي يديه إلى السماء وبكى، فقال الله جل وعلا لجبريل عليه السلام: يا جبريل سل محمداً ما الذي يبكيه؟ وهو أعلم، فنزل جبريل للمصطفى فقال: ما الذي يبكيك يا رسول الله؟! قال: أمتي أمتي يا جبريل! فصعد إلى الله، وأخبر الحق تبارك وتعالى -وهو أعلم- فقال الله لجبريل: انزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك). فأمة النبي صلى الله عليه وسلم أمة ميمونة مباركة. ومما زادني فخراً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثُّريَّا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبياً قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، ولكن أرجو أن يعلم الإخوة جميعاً أن هذه الخيرية والمكانة لا تكون إلا للموحدين الصادقين من أبناء أمة سيد النبيين، وإلا فإن من أبناء هذه الأمة من ستسعر به النار، ومن يحال بينه وبين شفاعة النبي المختار، فاقدر لهذه النعمة قدرها، واعرف لهذا الشرف حقه، وقد روى البخاري من حديث أبي هريرة أنه سأل المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال: (من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) إخلاص التوحيد لله، تجريد التوحيد لله، فهل صرفت العبادة كاملة لمن يستحق العبادة وهو الله لا شريك له؟ ومن الأمة من يطرد عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة؛ لأنه انحرف عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم، روى البخاري من حديث سهل بن سعد الساعدي أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا فرطكم على الحوض -أي: أنا سابقكم على الحوض- فمن مر علي شرب، ومن شرب لا يظمأ أبداً، وليردن علي الحوض أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم من أمتي! إنهم من أمتي! فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك! فأقول: سحقاً سحقا لمن غير بعدي). الجزء: 15 ¦ الصفحة: 2 أول من يقضى بينهم يوم القيامة فمن هذه الأمة من يدخل النار لأنه انحرف عن طريق النبي المختار، فاعرف لهذه النعمة قدرها، واعلم بأن الموحدين الصادقين المتبعين المتجردين هم أسعد الناس بشفاعة سيد المرسلين، وبرحمة رب العالمين جل وعلا. من هو أول من يقضي الله بينهم يوم القيامة من هذه الأمة؟ هذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء والجواب في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول من يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد) أي: سقط شهيداً في ميدان القتال، في ساحة البطولة والوغى، في ميدان تصمت فيه الألسنة الطويلة، وتخطب فيه الرماح والسيوف على منابر الرقاب! (رجل استشهد فأتي به فَعَرَّفَهُ نعمه فعرفها، قال جل وعلا: فماذا عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، فيقول الله سبحانه: كذبت -إنك كذاب! إنك ما أردت بذلك وجه الله، بل أردت التلميع السياسي والإعلامي- بل قاتلت ليقال: هو جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار! ورجلٌ تَعَلَّمَ العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال له: كذبت! بل تعلمت وعلمت ليقال: هو عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار) اللهم سلم سلم! اللهم سلم سلم! عالم يا عباد الله ملأ المساجد علماً، وسود صفحات الجرائد والمجلات، عالم تعلم العلم وعلم الناس، ولكنه أراد الشهرة والسمعة، وأراد المنزلة والكرسي الزائل، والمنصب الفاني، أراد الوجاهة عند أولي الحكم والسلطان، ما ابتغى بعلمه وجه الرحمن جل وعلا (فأتي به، فعرفه الله نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت وعلمت، وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت! بل تعلمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار)، اللهم ارزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا، اللهم ارزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا، اللهم لا تجعل حظنا من ديننا قولنا، وأحسن نياتنا وأعمالنا، وأحسن لنا الخاتمة يا أرحم الراحمين! عالم تسعر به النار! وقارئ للقرآن تسعر به النار! أما الثالث: (رجل آتاه الله من أصناف المال -منّ الله عليه بالأموال- فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت باباً من أبواب الخير تحب أن ينفق فيه لك إلا وأنفقت فيها لك، قيل له: كذبت! بل تصدقت ليقال: جواد -ليقال: المحسن الكبير، ليقال: المنفق السخي الكريم الباذل- فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار). إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني فكم من زلة لي في البرايا وأنت علي ذو فضل ومنِّ يظن الناس بي خيراًً وإني لشر الناس إن لم تعف عني الجزء: 15 ¦ الصفحة: 3 الرياء وخطره على الفرد والمجتمع الرياء لغة: مشتق من الرؤية كما قال الفيروزأبادي: راءيته مراءاة ورئاءً -أي: أريته خلاف ما أظهر- والرياء اصطلاحاً مشتق من معناه اللغوي، فمعنى الرياء اصطلاحاً: أن يبطن العبد شيئاً ويظهر شيئاً آخر. وحد الرياء هو: إرادة العباد بطاعة رب العباد جل وعلا. فيا من تعملون ابتغاء مرضاة الله اسجدوا لله شكراً، وسلوا الله أن يثبتكم على ذلك، ويا من تعمل العمل ولا تبتغي به وجه الله، لا تريد إلا السمعة، ولا تريد إلا الشهرة، ولا تريد إلا أن ترتقي مكانتك بين الناس، فاعلم أن عملك حابط؛ لأن الله جل وعلا لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً صواباً، والخالص: هو ما ابتغيت به وجه الله، والصواب: هو ما كان موافقاً لهدي الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الله جل وعلا: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]، وقال الله جل وعلا: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]. وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، فمن عَمِلَ عَمَلاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، وفي لفظ: (فهو للذي أشرك وأنا منه بريء). الرياء: هو الشرك الخفي، والشرك الأصغر، والرياء هو الذي يحبط الأعمال ويدمرها، روى الإمام أحمد في مسنده بسند حسنه شيخنا الألباني في صحيح الترغيب والترهيب من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بما هو أَخْوَف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فَيُزِيِّنُ صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه). يقوم الرجل فيصلي، فإذا انتبه أن أحداً من الناس ينظر إليه زين صلاته، وتظاهر بالخشوع، وادعى الخشوع والمسكنة والذلة بين يدي الله، هذا هو الشرك الخفي الذي خاف النبي صلى الله عليه وسلم منه على أمته أكثر مما خاف عليهم من فتنة المسيح الدجال، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وفي الحديث الذي رواه أحمد وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، إذا جزى الناس بأعمالهم يوم القيامة يقول للمرائين: اذهبوا إلى من كنتم تراءون في الدنيا فهل تجدون عندهم جزاءً؟!). الرياء خطر عظيم! أسأل الله أن يستر علينا في الدنيا والآخرة، وأن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل والسر والعلن، وأن يجعل سرنا أحسن من علانيتنا، وأن يغفر لنا ذنوبنا، وأن يصحح نياتنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 4 علاج الرياء الجزء: 15 ¦ الصفحة: 5 الاستعانة بالله سبحانه وتعالى الرياء محبط للأعمال، وسبب لسخط الكبير المتعال، وأرجو أن أذكر نفسي وإخواني بأهم الأدوية لعلاج هذا الداء العضال، فإن الأمر خطر، وإن الأمر ليس هيناً. أعظم دواء لهذا الداء الذي يحبط العمل: أن تستعين بالله جل وعلا في أن يرزقك الإخلاص، تضرع إلى الله في الليل والنهار أن يرزقك الإخلاص في قولك وعملك، وسرك وعلنك، وهذا خليل الله إبراهيم، إمام الموحدين، وقدوة المحققين، يتضرع إلى رب العالمين أن يجنبه وبنيه الشرك، قال الله عنه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]. فيجب أن نسأل الله سبحانه وتعالى الإخلاص، وأن نتضرع إليه في كل عمل، وأن نجدد النية في كل قول وعمل؛ ليرزقنا الله الإخلاص، فسل نفسك! إذا وجدت نفسك تحب أخاً من إخوانك، هل تحب أخاك لله؟! سل نفسك إن أبغضت أحداً، هل تبغضه لله؟! إن كنت تحب هذا الأخ؛ لأنه في جماعتك التي تنتمي إليها، فلست مخلصاً في حبك، سل نفسك الآن أخي في الله! وسلي نفسك أختي في الله! لماذا تحب، ولماذا تبغض؟ لماذا توالي، ولماذا تعادي؟ لماذا تصلي؟ ولماذا أتيت؟ ولماذا امتنعت؟ ولماذا أنفقت؟ ولماذا أمسكت؟ ولماذا خرجت؟ سل نفسك، هل تبتغي بعملك كله وجه الله أم أنك تبتغي إرضاء الناس؟! فأعظم دواء للرياء: أن تستعين الملك رب الأرض والسماء أن يرزقك الإخلاص في قولك وعملك، وسرك وعلنك، اللهم ارزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا برحمتك يا أرحم الراحمين! الجزء: 15 ¦ الصفحة: 6 معرفة عاقبة الرياء في الدنيا والآخرة الجرعة الثانية من جرعات دواء الرياء: أن يعلم المرائي عاقبة الرياء في الدنيا والآخرة. عاقبة الرياء في الآخرة أنه لا عمل له عند الله جل وعلا! مهما صلى المرائي، ومهما أنفق المرائي، فسيأتي يوم القيامة لا يجد له ركعة، ولا يجد له جنيهاًً واحداً، ولا يجد له عملاً واحداً، لماذا؟ لأنه ما ابتغى بعمله وجه الله، الله جعل عمله كله هباءً منثوراً، اللهم سلم سلم يا أرحم الراحمين! فعاقبة الرياء في الآخرة الخسران. وفي الدنيا: المرائي يريد أن يرضي الناس بعمله، يريد أن ينال المكانة والمنزلة في قلوب الناس، فيظهر عملاً وقولاً وسمتاً وسلوكاً، والله جل وعلا يعلم من قلبه أنه يبطن خلاف ذلك، فإن كان الرياء في أصل الدين -أي: يبطن الكفر ويظهر الإيمان- فهذا أغلظ أبواب الرياء، وصاحبه مخلد في جهنم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:204 - 206]، {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1]. فإذا كان الرياء في أصل الدين -أي: أن يظهر الإنسان الإسلام ويبطن الكفر- فهذا أغلظ أبواب الرياء وصاحبه مخلد في النار، أما إن استقر في قلبه أصل الدين والإيمان، وهو يرائي الناس بالأعمال فقط، فهذا هو الشرك الأصغر، ويخشى على هذا أن يختم له بسوء الخاتمة والعياذ بالله، فالمرائي لا جزاء له في الآخرة، وفي الدنيا هو يرائي الناس؛ لأنه يريد أن يرضي الناس، ومن ظن أنه سيرضي كل الناس فهو غبي جاهل، لو رضي كل الناس عن أحد، لرضوا عن الحبيب المصطفى. يأتي إليَّ كثير من إخواني وقد تشنج وانفعل، ويقول: سمعت فلاناً من الناس يتكلم فيك بسوء، إنه يبغضك، فأقول: هذه علامة خير، هذه علامة صحة، ثم أقول: يا أخي! أتريد أن يحب كل الناس أحداً بعينه؟! مستحيل! فلو كان الأمر كذلك لتعلقت كل القلوب بحبيب القلوب محمد بن عبد الله، كيف وقد عادوه؟! كيف وقد آذوه؟! كيف وقد طردوه؟! كيف وقد حاربوه؟! كيف وقد وضعوا النجاسة على ظهره؟! كيف وقد وضعوا التراب على رأسه؟! كيف وقد خنقوه حتى كادت أنفاسه أن تخرج بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم؟! فمن ظن أنه سيرضي كل الناس فهو غبي جاهل، بل والله لو رضي الناس عن أحد لرضي الناس عن خالقهم جل وعلا، كل الناس لم يرضوا عن الخالق، الله خلقهم ورزقهم، وأنعم عليهم، ومنهم من كفر بالله، ومن الناس من سب الله، ومن الناس من شتم الله، فقد نسبوا لله الولد والزوجة وهو الواحد الأحد، ومن الناس من اتهم الله بالفقر كما قال اليهود الأغبياء: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181]، ومن الناس من اتهم الله بالبخل كما قالت اليهود الأنجاس: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64]. فيا من تعمل العمل وتظن أنك سترضي الناس! اعلم بأن الناس لم يرضوا عن أحد، لن يستطيع مخلوق أن يرضي كل الناس، بل قد لا يستطيع الوالد في بيته أن يرضي كل أولاده! وقد لا يستطيع الشيخ في مجلس علمه أن يرضي كل طلابه، هذه قاعدة من جهلها فهو جاهل، فمن عمل العمل يريد رضا الناس فهو غبي جاهل؛ لأن الناس لن يرضوا عن أحد على الإطلاق. إذاً: فعلق قلبك بالله، وابتغ بقولك وعملك وجه الله، فلو اجتمع أهل الأرض بالثناء عليك فلن يقربك ثناؤهم من الله إن كنت بعيداً عن الله، ولو اجتمع أهل الأرض بالذم فيك فلن يبعدك ذمهم عن الله إن كنت قريباً من الله، فما الذي يضرك؟! ماذا ينفعك مدح الناس وأنت مذموم عند الله؟! ماذا ينفعك مدح الناس وأنت مذموم عند الله؟! ماذا يضيرك ذم الناس وأنت محمود عند الله، وقريب من الله؟! فعلق قلبك بالله، واعلم يقيناً بأن من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس المؤمنين الصادقين، فإن المنافق لا يحب مؤمناً على ظهر الأرض، المنافق يبغض المؤمن كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96] (وداً) أي: محبة في قلوب عباده المؤمنين، فإذا رأيت رجلاً يبغض مؤمناً صالحاً فاعلم أن قلبه قلب خبيث مريض بالنفاق والعياذ بالله! فإنه لا يحب المؤمن إلا مؤمن، ولا يبغض المؤمن إلا منافق كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) وقال: (الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) قال الخطابي رحمه الله: فالخير يحن إلى الأخيار، والشرير يحن إلى الأشرار، فالمرائي خسران في الدنيا والآخرة؛ فلو علم الإنسان عاقبة الرياء في الدنيا، وعاقبة الرياء في الآخرة، لابتغى بقوله وعمله وجه الله، ولسأل الله في الليل والنهار أن يجعل عمله وقوله كله خالصاً لوجهه، وأن يرزقه الله تبارك وتعالى الإخلاص في السر والعلن. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 7 معاقبة الله للمرائي في الدنيا بضد قصده ونيته أود أن أحذر من جزئية خطيرة جداً، ألا وهي: أن الله يعاقب المرائي في الدنيا بضد قصده ونيته، والمعاقبة بضد القصد والنية ثابت شرعاً وقدراً. ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمّع سمّع الله به، ومن راءى راءى الله به) نقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري عن الخطابي قال: أي: من عمل عملاً من أعمال الخير والطاعة يبتغي أن يراه الناس، وأن يسمعوه، عاقبه الله بضد قصده ونيته، ففضحه الله جل وعلا، وأظهر للناس باطنه. اللهم استرنا ولا تفضحنا، اللهم استرنا ولا تفضحنا. اللهم استرنا ولا تفضحنا، فالمرائي يظهر الله سريرته ونيته، ويبين الله للناس قصده، ألم تسمع أيها الحبيب أناساً يشهدون لرجل بالصلاح، ويشهدون لرجل بالنفاق، كما قال المصطفى: (هذه الأمة هم شهداء الله في الأرض) لماذا؟ لأنه ظن المسكين أنه أغلق على نفسه الأبواب والنوافذ، وأرخى الستور، وتجرأ على معصية الله جل وعلا، فلم يره أحد، فليعلم بأن الله سيظهره ويفضحه على رءوس الأشهاد في الدنيا قبل الآخرة، هذا لمن جاهر بالمعصية، وتجرأ عليها من غير خوف من الله ولا وجل، أما أن يزل الرجل بمعصية، فإذا قارف المعصية بكى، وارتعد قلبه، وخاف من الله عز وجل؛ فهذا هو المؤمن التقي الذي أرجو الله أن يختم لي وله بخاتمة التوحيد والإيمان، فإن الله قد ذكر المتقين في قرآنه، وذكر من صفاتهم أنهم قد يقعون في الفاحشة، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:133 - 135]. فشتان بين مصر وبين وجل من الله العلي الأعلى جل وعلا. أيها الأحبة الكرام! لا أريد أن أترك الحديث عن الرياء، فإن الأمر خطير، وكيف لا وهو أول شيء يقضي الله فيه يوم القيامة؟! أول من يقضى عليهم يوم القيامة هم أهل الرياء، فوالله إن الأمر يحتاج إلى تذكير في كل لقاء، بل في الليل والنهار؛ لتكون القلوب على وجل، وليكون المسلمون على حذر من الله، ليجدد الإنسان نيته مع كل شربة ماء، ومع كل عطاء، ومع كل عمل، ومع كل دعوة، ومع كل طاعة، أسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 8 عاجل بشرى المؤمن أود أن أبشر الإخوة ببشارة؛ لأنني سأسأل عن هذا حتماً: إن كثيراً من أحبابنا وإخواننا وأخواتنا قد يعمل العمل من أعمال البر والخير والطاعة، فيلقي الله له الثناء الحسن على ألسنة الناس، ويجعل الله له المكانة الطيبة في قلوب عباده الصالحين، فيفرح العبد بذلك، فيخشى أن يكون من المرائين بذلك، فهل هذا من الرياء؟ الجواب كفانا مشقته أبو ذر رضي الله عنه، فلقد سأل أبو ذر رسول الله! كما في صحيح مسلم وقال: (يا رسول الله: إن الرجل يعمل العمل لله تعالى من أعمال الخير، فيحمده الناس على ذلك، فقال المصطفى: تلك عاجل بشرى المؤمن). اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك، تلك عاجل بشرى المؤمن، فإن عملت العمل تبتغي به وجه الله، وتضرعت إلى الله أن يرزقك فيه الإخلاص، وأثنى الناس عليك خيراًً، وجعل الله لك الثناء الحسن على ألسنة الصادقين من عباده، وجعل الله لك المكانة الطيبة في قلوب المخلصين من أوليائه، فاستبشر خيراً، واعلم بأنها بشارة خير لك إن شاء الله تعالى في الدنيا والآخرة، واسمع لهذا الحديث الرقراق الرقيق الذي رواه البزار وصححه شيخنا الألباني في صحيح الجامع، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد إلا وله صيت في السماء) أي: شهرة ومكانة، (فإن كان صيته في السماء حسناً كان صيته في الأرض حسناً، وإن كان صيته في السماء سيئاً كان صيته في الأرض سيئاً)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: (إذا أحب الله العبد نادى جبريل فقال: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: يا أهل السماء! إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبداً نادى جبريل وقال: يا جبريل! إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: يا أهل السماء! إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ويوضع له البغضاء في الأرض) أسأل الله أن يسترنا بستره الجميل، وأن يرحمنا برحمته إنه على كل شيء قدير. أيها الأحبة الكرام! هؤلاء هم أول من يقضى بينهم يوم القيامة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 9 أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! هؤلاء هم أول من يقضي الله بينهم من أمة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، فما هو أول ما يحاسب عليه العبد بين يدي الله جل وعلا؟ هذا هو عنصرنا الثالث من عناصر هذا اللقاء. والجواب في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة وغيرهم، وصحح الحديث شيخنا الألباني في صحيح الجامع من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله الصلاة، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر). والله إن القلب ليبكي، وإن العين لتدمع، وإنا لما حل بأمة الصلاة لمحزونون! فوالله إن من هذه الأمة من لا يدخل بيوت الله جل وعلا إلا في كل جمعة فقط، ومن هذه الأمة من لا يدخل إلى المساجد إلا في العيدين! ومن هذه الأمة من لا يدخل المسجد في حياته إلا مرة واحدة! لا من أجل أن يصلي، وإنما من أجل أن يصلى عليه! وليته ما جيء به ليصلى عليه. الصلاة الصلاة! الصلاة الصلاة! فإن آخر وصية أوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة. الصلاة ضيعتها الأمة إلا من رحم ربك جل وعلا، ومن صلى ضيع الصلاة بإخلالها، ما اطمأن في ركوعه، ما اطمأن في سجوده، ما اطمأن في قيامه، ولقد روى البخاري من حديث حذيفة بن اليمان أنه رأى رجلاً يصلي لا يتم الركوع، ولا يتم السجود، فلما أنهى الرجل صلاته قال له حذيفة: (والله ما صليت، ولو مت على هذا لمت على غير سنة محمد). أحذر من ينقرون الصلاة كنقر الغراب! إذا وقف بعضهم في الصلاة واستمع إلى الإمام غلت الدماء في عروقه! إن أطال الإمام يسيراً، يريد أن ينفلت من الصلاة! بينما يقف في إستاد رياضي الساعات الطوال، ويقف أمام راقصة داعرة فاجرة في عرس ساهر ماجن طوال الليل! وإن أطال الإمام يريد أن يتفلت! ثم يحتج على ذلك بأحاديث لا يفهم مرادها ولا مناطها، والله لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من كلام ربنا، إلا أن القلوب خبيثة إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، فهذا صلى ولكنه لم يحسن الركوع ولا السجود، فقال له حذيفة بن اليمان: (والله ما صليت، ولو مت على هذا لمت على غير سنة محمد) فماظنكم بمن ضيع الصلاة؟! ما ظنكم بمن ترك الصلاة؟! قال جل في علاه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]. ما هو الغي؟ قال ابن عباس وعائشة: الغي نهر في جهنم، بعيد قعره، خبيث طعمه. وقال جل وعلا: {كَلَّا وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِلْبَشَرِ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ * كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ * بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً * كَلَّا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ * كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [المدثر:32 - 55]. أيها المسلم! لماذا تعرض عن التذكرة لماذا أعرضت عن الله يا من ضيعت الصلاة؟! لماذا أعرضت عن رسول الله؟! كم من المسلمين من يجلس على المقاهي ويسمع الأذان: حي على الصلاة ولا يجيب وهو مسلم يدعي الإسلام، ويتغنى به، بل ولو ذهبت لتذكره لقال لك: إنني أحمل قلباً أبيض كاللبن، وقلبه أسود من ظلام الليل، لو كان قلبه يحمل ذرة إيمان لاتقى الرحمن، ولانقاد لسيد ولد عدنان، وسمع النداء: حي على الصلاة، وقام يسرع كما يسرع لشهوة حقيرة من شهواته، وكما يسرع للذة فانية من لذات الدنيا، لو جاءه عقد عمل في دولة من الدول، وقيل له: الطائرة ستقلع في السادسة صباحاً، أو في جوف الليل، لذهب إلى المطار قبل الموعد بساعات، لماذا؟ لأنه ينطلق إلى عمل من أعمال الدنيا، إلى لذة من لذائذه، أما أمر الله فيجلس على المقهى، ويجلس على المعصية، ويجلس أمام التلفاز في الليل والنهار، أمام المباريات والمسلسلات والأفلام، ويأتيه التلفاز الخبيث ليقول له: حان الآن موعد صلاة الظهر! حان الآن موعد صلاة العصر! هل يتحرك هذا المسلم؟! وهل هذا مسلم؟! كيف يسمع الأذان ولا يتحرك؟! أين إسلامك؟! أين إيمانك؟! كفى هذا الزعم الباهت الذي لا يغني ولن يغني عنك من الله شيئاً، أين صلاتك؟! أين إذعانك لله وانقيادك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ يسمع النداء ولكنه لا يحمل قلباً، فإن قلبه قد مات، ولا يحمل أذناًُ فإن أذنه قد صم إلا على الأغاني الماجنة، إلا على المسلسلات الخليعة الفاجرة، إلا على المباريات التافهة التي حولت الأمة من الجد إلى الهزل، يوم أن ضيعت الأمة الجد والرجولة، وعشقت الهزل واللعب. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 10 خطر ترك الصلاة روى مسلم من حديث جابر بن عبد الله أنه صلى الله عليه وسلم قال: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) والحديث في صحيح مسلم، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والترمذي وصححه شيخنا الألباني من حديث بريدة أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، هل تصدقون رسول الله؟! اسمع هذه الكلمات يا من تدعي الإيمان برسول الله وقد ضيعت الصلاة، والله يكاد قلبي أن ينخلع! الرسول يقول: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) سيقول رجل: يا شيخ! لكنني أصلي في البيت، هل أنت امرأة؟! هل فيك الحيض؟! لا يصلي في البيوت إلا النساء، كفى تلفازاً! كفى مرارة! حتى الصلاة ضيعتها الأمة. كم من أناس بيوتهم إلى جوار المساجد، والله ما صلوا جماعة لله مرة. اللهم لا تخزنا في الدنيا ولا في الآخرة، إنه الخزي! إنه العار! إنه الشنار! بيوتهم إلى جوار بيت الله، ولم يذهبوا إلى بيت الله، لم يحرص على الجماعة، لم يصل مع المسلمين، لماذ بنيت المساجد؟! هل ليصلي المسلمون في البيوت؟! أحذر هؤلاء الذين تخلفوا عن الصلاة بالحديث الذي رواه ابن ماجة وصححه الألباني من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لينتهين رجال عن ترك الجماعة أو لأحرقن بيوتهم)، الرسول توعد من صلى في بيته وترك الجماعة أن يحرق عليه بيته. وصلاة الفجر! آه من صلاة الفجر! ذلكم المقياس الدقيق الذي يظهر النفاق وأهله من الإيمان وأهله، صلاة الفجر مقياس، إن كنت ممن يحافظ على الفجر فأبشر واستبشر خيراً، فأنت من أهل الإيمان، وإن كنت ممن ينام عن الفجر فاعلم أن قلبك قد ملئ بالنفاق وأنت لا تدري يا مسكين! يا من سهرت الليل كله أمام التلفاز وضيعت الفجر، يا من سهرت الليل كله أمام الأفلام الداعرة وضيعت الفجر اسمع لرسولك في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (أثقل صلاة على المنافقين صلاة الفجر وصلاة العشاء) هما أثقل صلاة على المنافقين بشهادة الصادق الأمين، يا من ضيعت الفجر محكوم عليك بالنفاق من كلام الصادق. نقب وفتش المساجد في صلاة الفجر تجدها تبكي! ويتشدق هؤلاء بالنصح والتمكين، ومقاتلة اليهود! كيف تقاتل اليهود وأنت لا تصلي الفجر؟! نحن نستحق آلافاً من أمثال النتنياهو، نحن نستحق أن نضرب بالنعال على أم الرءوس، فإننا قد ضيعنا الفجر، قد ضيعنا الصلاة، والله لا نصرة للأمة إلا إذا عادت إلى الله، إلا إذا امتلأت المساجد في صلاة الفجر كما تمتلئ في صلاة الظهر، الفجر ضاع وأنت نائم، كن نائماً إلى أن تستيقظ بين الأموات في القبور! يا من ضيعت الفجر احذر النفاق ونقب عن النفاق في قلبك الآن، لماذا تضبط المنبه على وقت العمل، ولا تضبط المنبه على وقت الصلاة؟! تخشى أن تسأل من مسئول عملك إن تأخرت عن وقت الدوام ساعة، تخاف وتخشى ذلك، ولا تضبط المنبه على وقت صلاة الفجر! أين الإيمان في قلبك؟! احذر ودعك من الدعاوى الفارغة الباطلة، سامحوني على هذه الشدة؛ لأن القلب يكاد يعتصر، لأنني أرى أناساً يدعون الإسلام، ويزعمون الإيمان، ويجلسون أمام التلفاز بالليل والنهار، والله ما حضروا لبيت الله جل وعلا في صلاة، ولو حضر صلاة ضيع صلوات. وصلاة العصر، عاد من عمله فنام، اعتاد أن ينام ولا يصلي العصر، إن كنت مريضاً فلا حرج! لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لكن أن تكون هذه هي عادتك فهذه مصيبة كبرى. في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك صلاة العصر -أي: متعمداً- فقد حبط عمله) هذا كلام الصادق إن كانت الأمة تصدق الصادق! فكيف تضيع العصر عامداً، أمام التلفاز من أجل المباراة؟! يريد أن يرى كيف أدخل اللاعب الهدف في مرمى هذا الفريق أو ذاك! يريد أن يرى المسلسل، يريد أن يرى الفلم، يريد أن يرى المباراة، ويضيع العصر، ثم يقوم قبل المغرب بقليل لينقر العصر نقر الغراب، روى مسلم في صحيحه من حديث ابن مسعود قال: (من سره أن يلقى الله تعالى غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإنهن من سنن الهدى، ولو صليتم في بيوتكم كالمتخلف الذي يصلي في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عن صلاة الجماعة إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى به -يتمايل بين الرجلين من المرض حتى يقام في الصف). أكتفي بهذا وأسأل الله أن يستر علي وعليكم في الدنيا والآخرة، اللهم اهد ضال المسلمين، اللهم اهد ضال المسلمين. اللهم رد الأمة إلى الدين رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إلى الدين رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إلى الدين رداً جميلاً، اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك والقادر عليه. اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين. اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان، وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وجميع بلاد المسلمين، اللهم اقبلنا وتقبل منا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. أسأل الله أن يجعلني وإياكم من الصادقين، وأذكركم بالحق الذي عليكم، فإن هذا الحق لا ندخله جيوبنا، وإنما هو للفقراء وللمساكين ولليتامى، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يدخرون لأنفسهم عند الله ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 11 الحساب [3] لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن كل عبد سيسأل يوم القيامة عن أربع: عن عمره فيما أفناه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ وعن جسمه فيما أبلاه؟ وهذه الأربع هي عنوان السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، إن أجاب العبد إجابة صحيحة موفقة، وكان عمله في الدنيا مسدداً، أما إن قصر وفرط في هذه الأربعة الأسئلة فيا له من هلاك وخسار نسأل الله العافية! الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1 الأسئلة الأربعة التي سيسأل عنها المرء يوم القيامة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فهذه سلسلة علمية تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي؛ الهدف منها تذكير الناس بحقيقة الآخرة، في عصر طغت فيه الماديات والشهوات، وانصرف كثير من الناس عن منهج رب الأرض والسماوات؛ ليتداركوا ما قد فات، ويتوبوا إلى الله جل وعلا قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون. ونحن اليوم -بتوفيق الله جل وعلا- على موعد مع اللقاء الخامس عشر من لقاءات هذه السلسلة المنهجية المباركة. وكنا قد توقفنا في اللقاءين الماضيين على التوالي مع قواعد العدل التي يحاسب الله جل وعلا بها عباده يوم القيامة، ثم تعرفنا على أول أمة يحاسبها الله جل وعلا، وعلى أول من يقضي الله بينهم يوم القيامة، وعلى أول ما سيحاسب وما سيسأل عنه العبد بين يدي الرب جل وعلا، ونحن اليوم بإذن الله تعالى لا زلنا مع الناس فى ساحة الحساب بين يدي الله سبحانه وتعالى، فإن الله عز وجل يسأل العبد -بعد أن يسأله عن الصلاة- عن أربع: عن عمره فيما أفناه؟ وعن علمه ماذا عمل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ وعن جسمه فيما أبلاه؟ هذه الأربع هي موضوع لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك. فأعيروني القلوب والأسماع أيها الأحبة الكرام، فإن هذا الموضوع من الأهمية بمكان، والله أسأل أن يسترنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، إنه ولي ذلك والقادر عليه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 2 عن عمره فيما أفناه؟ أحبتي في الله: أولاً: السؤال عن العمر. أيها الأحبة الكرام! لا شك أن الله عز وجل سيسأل العبد في ساحة الحساب عن كل ما قدم في هذه الحياة، قال الله سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]. وقال جل وعلا: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93]، فكل صغيرة وكبيرة سطرت عليك في كتاب عند ربي لا يضل ربي ولا ينسى، فكم من معصية قد كنت نسيتها ذكرك الله إياها؟! وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها؟! {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93]. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر أن الله سبحانه سيسأل العبد -بعد سؤاله عن الصلاة- عن أربع، كما في الحديث الصحيح الذى رواه الترمذي والطبراني في معجمه الكبير والصغير، والخطيب في التاريخ، وصحح الحديث شيخنا الألباني في السلسلة الصحيحة وصحيح الجامع من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: -أسألك بالله! أن تتدبرها؛ لتسألها نفسك الآن قبل أن تسأل بين يدي الملك جل وعلا- عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ماذا عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه؟ وعن جسمه فيما أبلاه؟). أولاً: السؤال عن العمر. إخوتاه! العمر هو البضاعة ورأس المال، فمن ضاعت بضاعته، وانتهى رأس ماله دون أن يحقق الربح، فهو من الخاسرين. هل حسبت أن هذا العمر، وأن هذه الأيام، وأن هذه السنوات -التى تمضي ونحن لا نشعر بها- لن يسألنا عنها؟ لا والله، تدبر قول رب الأرض والسماوات وهو يقول سبحانه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116]. وقال سبحانه: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:36 - 40]. أليس ذلك بقادر على أن يبعثهم للوقوف بين يديه؛ للسؤال عما قدموه وعما فعلوه؟! للسؤال عن القليل والكثير، وعن الصغير والكبير؟! أيها المسلم! الأيام تمر، والأشهر تجري وراءها، وتسحب معها السنين، وتجر خلفها الأعمار، وتطوى حياة جيل بعد جيل، وبعدها سيقف الجميع بين يدي الملك الجليل. ستسأل عن كل ساعة، ستسأل عن كل يوم، ستسأل عن كل أسبوع، ستسأل عن كل سنة، ستسأل عن عمرك كله فيما أفنيت هذا العمر؟ قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: يا ابن آدم! إنما أنت أيام مجموعة، فإن مضى يوم مضى بعضك، وإن مضى بعضك مضى كلك. وكان يقول أيضاً: " ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وينادي بلسان الحال ويقول: يا ابن آدم! أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنمني فإني لا أعود إلى يوم القيامة. وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: (والله ما ندمت على شيء كندمي على يوم طلعت شمسه نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي). العمر هو البضاعة الحقيقية، وهو رأس المال، ووالله ما منحنا هذه البضاعة الكريمة للهو وللعب، وللملذات، وللشهوات، والله ما للعب خلقنا، بل خلقنا الله لغاية كريمة وعظيمة. قال جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. هذه هي الغاية التي خلق الله لها الخلق، ما خلقنا الله لنضيع الأعمار أمام المسلسلات والمباريات، وأمام الأفلام، وأمام هذا العبث واللهو الذي تحول في حياة هذه الأمة المسكينة إلى جد. ما خلقنا الله لذلك. ومن أجمل ما قيل في قول الله تعالى فى حق نبي الله يحيى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12]، قال جمهور المفسرين: أي: آتاه الله الحكمة وهو طفل صغير، فذهب إليه بعض أترابه يوماً من الأيام قبل أن يوحي الله إليه بالنبوة، فقالوا: يا يحيى! هيا بنا لنلعب! فقال يحيى -وهو الطفل الصغير-: والله ما للعب خلقنا! وصدق والله، فإن الله ما خلقنا للهو والعبث، وما خلقنا لنضيع الأعمار أمام اللهو، وأمام المسلسلات والمباريات والأفلام، فإن جل الأمة الآن يقضي جل الليل بل وجل العمر أمام التلفاز، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! يا من يمضي عمرك وأنت لا تدري اعلم بأنك ستسأل عن هذه الساعات وستسأل عن هذا العمر وتذكر يا من يمضي عمرك وأنت في غفلة! أن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة، وأن الليل مهما طال لا بد من طلوع الفجر، وأن العمر مهما طال لا بد من دخول القبر، تذكر وصية الحبيب صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمر، كما في صحيح البخاري أنه أخذ بمنكبي عبد الله بن عمر وقال له: (يا عبد الله! كن فى الدنيا كأنك غريب) -ما أحوجنا ورب الكعبة لهذه الكلمات! إننا نعيش عصراً طغى فيه حب الشهوات، وحب الملذات، وحب الدنيا، فإن كثيراً من الناس الآن يذكر بقول الله فلا يتذكر، ويذكر بحديث رسول الله فلا يتحرك قلبه، وكأن القلوب قد تحولت إلى حجارة: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74]. {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21]. اللهم ارزقنا التفكر في آلائك ونعمك، برحمتك يا أرحم الراحمين! تذكر وصية النبي الكريم لـ ابن عمر: (يا ابن عمر كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). الغريب وإن طالت غربته حتماً سيرجع إلى وطنه، وعابر السبيل وإن طال سفره حتماً سيعود إلى بلده وأهله، وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء). أعلم أننا جميعاً نحفظ هذا، لكن قل من يتدبر هذا، وقل من ينام كل ليلة على فراشه، وهو يقول لأهله: أستودعكم الله بلسان الحال والمقال واليقين، وهو يعلم يقيناً أنه ربما لا يرى أهله وأولاده في الصباح. (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك). الجزء: 16 ¦ الصفحة: 3 مواعظ الصالحين قيل لـ إبراهيم بن أدهم طيب الله ثراه: يا إبراهيم! بم حققت الزهد في الدنيا؟ فقال إبراهيم: بثلاثة أشياء، قيل: وما هي؟ قال إبراهيم: (رأيت القبر موحشاً وليس معي مؤنساً) أين مالك؟ وأين منصبك؟ وأين أولادك وأحبابك في القبر؟ سيمضي الكل ويتركك بين يدي الرب سبحانه. قال: رأيت القبر موحشاً وليس معي مؤنساً، ورأيت الطريق طويلاً وليس معي زاد، ورأيت جبار السماوات والأرض قاضياً وليس معي من يدافع عني. أيها الأحبة الكرام! الدنيا كلها إلى زوال، والعمر كله إلى فناء، ويوم أن نام السلطان الفاتح محمد بن محمود بن ملكشاه على فراش الموت -وكان من السلاطين الأثرياء الأغنياء- قال: اعرضوا علي كل ما أملك من الجواري والغلمان والجواهر والأموال والنساء، بل وليخرج الجند جميعاً أراد وهو على فراش الموت أن ينظر إلى سلطانه وإلى ملكه، وإلى جواهره وزخارفه، وجواريه ونسائه وغلمانه، فخرج الجيش عن بكرة أبيه يحمل الجواهر واللآلئ والأموال، وخرجت الجواري، وخرج الغلمان والنساء، فنظر السلطان إلى هذا الملك العظيم، وبكى وقال: والله والله لو قبل مني ملك الموت كل هذا لافتديت به، والله لو قبل مني ملك الموت كل هذا لافتديت به، ثم نظر إلى جنوده وقال: أما هؤلاء والله لا يستطيعون أن يزيدوا في عمري ساعة، فأجهش بالبكاء وقال: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29]. وهذا هارون الذي كان يخاطب السحابة في كبد السماء، ويقول لها هارون: أيتها السحابة! في أي مكان شئت فأمطري، فسوف يحمل إليّ خراجك إن شاء الله تعالى، لما نام على فراش الموت بكى هارون، وقال لإخوانه: أريد أن أرى قبري الذي سأدفن فيه، فحملوا هارون إلى قبره، فنظر هارون إلى القبر وبكى، ورفع رأسه إلى السماء وقال: يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه دع عنك ما قد كان في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيهما تعد وتحسب {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116]. لن تتحرك قدمك يوم القيامة إلا إذا سألك الله عن عمرك، انتبه! يا من تقضي الليل كله أمام المسلسلات والأفلام الداعرة. انتبه! يا من تقضي جل عمرك في اللهو والعبث في غير خير للدنيا أو خير للآخرة. وإياك أن تتغافل بعد اليوم عن هذه البضاعة، وعن رأس المال الحقيقي الذي تملكه، ألا وهو عمرك، فإن كل يوم يمر عليك يبعدك عن الدنيا، ويقربك إلى الله. قال لقمان الحكيم لولده: أي بُنَيَّ! إنك من يوم أن نزلت إلى الدنيا استدبرت الدنيا، واستقبلت الآخرة، فأنت إلى دار تقبل عليها أقرب من دار تبتعد عنها. ولقي الفضيل بن عياض رجلاً فقال الفضيل للرجل: كم عمرك؟! قال: ستون سنة، قال الفضيل: إذاً أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله يوشك أن تصل. فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون. قال الفضيل: هل عرفت معناها؟ قال: نعم عرفت أني لله عبد، وأني إلى الله راجع. قال الفضيل: يا أخي! من عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع، عرف أنه موقوف بين يديه، ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسئول، ومن عرف أنه مسئول فليعد للسؤال جواباً. فبكى الرجل وقال: يا فضيل وما الحيلة؟! قال الفضيل: يسيرة، قال: ما هي يرحمك الله؟، قال: أن تتقي الله فيما بقي من عمرك، يغفر الله لك ما قد مضى، وما قد بقي من عمرك. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 4 وعن علمه ماذا عمل به ثانياً: (عن علمه ماذا عمل به): اللهم لا تجعل حظنا من ديننا قولنا، وأحسن نياتنا وأعمالنا، وارزقنا الصدق والإخلاص في أقوالنا وأعمالنا وأحوالنا برحمتك يا أرحم الراحمين! ستسأل عن كل كلمة استمعت إليها في خطبة جمعة، أو في محاضرة، أو قرأتها في كتاب، ستسأل عن علمك الذي تعلمت، ماذا عملت به؟ منذ متى ونحن نسمع عن الله؟ منذ متى ونحن نسمع عن رسول الله؟! ومع ذلك سترى البون شاسعاً بين القول والعمل، وسترى فجوة خطيرة بين القول والعمل، وهذه الفجوة سبب من أسباب النفاق، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3]. وقال جل وعلا: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] أسأل الله أن يرزقنا الصدق والإخلاص في القول والعمل. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 5 فضل العلم والعلماء أيها الأحبة الكرام! العلم أغلى ما يطلب في هذه الحياة بلا شك، فلا سبيل إلى معرفة الله، ولا سبيل إلى الوصول إلى رضوان الله في الدنيا والآخرة إلا بالعلم الشرعي، إلا أن تتعلم قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم، العلم يبذل له المال، العلم يبذل له العمر، العلم يبذل له الوقت كله، فإن أغلى ما يضحى له هو العلم، ولم يأمر الله نبيه بطلب الزيادة من شيء إلا من العلم، كما قال تعالى آمراً نبيه المصطفى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]. ورفع الله قدر أهل العلم فقال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. ثم قال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]. وقال سبحانه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]. وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً -وفي لفظ (رؤساء جهالاً) - فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا). وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين). وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ علي: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم). وفي الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم وحسنه شيخنا الألباني رحمه الله بشواهده من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له كل من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر). من آتاه الله العلم فقد أوتي الحظ الوافر، وأوتي الخير كله، فإن الله يعطي الدنيا من أحب ومن لم يحب، ولكن الله لا يعطي الدين إلا لمن أحب، ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، العلم هو الذي ينفعك بعد موتك، يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى واحد، وقال صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم وصحيح البخاري-: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له). والأحاديث في هذا الباب كثيرة رددناها مراراً وتكراراً، لكن هذا العلم إن لم يحرك قلبك وجوارحك للعمل، ولخشية الله، ولتقوى الله، فلا خير فيه ولا بركة له، ما ثمرة العلم إن لم يورثك العمل؟! ما ثمرة العلم إن لم يقربك من الله سبحانه؟! فما ثمرة هذه المحاضرات؟! ما ثمرة هذه الخطب التي تخلع القلوب، إن لم تعبد هذه الخطب وهذه المحاضرات وهذه الكلمات وهذا العلم لرب الأرض والسماوات؟! إن لم يورثنا هذا العلم خشية الله، إن لم يورثنا هذا العلم تقوى الله، إن لم يورثنا هذا العلم حب السنة وبغض البدعة، ما ثمرة العلم؟! يقول الشاطبي في كتابه القيم الموافقات: إن كل علم لا يفيد عملاً ليس في الشرع ما يدل على استحسانه، قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]. وفي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالرجل فيلقى في النار -اللهم حرم أجسادنا على النار- فتندلق أقتاب بطنه -أي: أمعاؤه- فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار، ويقولون: يا فلان! مالك؟ ألم تك تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فيقول: بلى! كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه). لذا كان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من علم لا ينفع، كما في صحيح مسلم وسنن الترمذي من حديث زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها). وقال أبو الدرداء رضي الله عنه -والأثر يصح موقوفاً على أبي الدرداء ولا يصح مرفوعاً-: (إنني أخاف أن يقال لي يوم القيامة: أعلمت أم جهلت؟ فأقول: علمت، فلا تبقى آية آمرة أو زاجرة إلا جاءتني تسألني فريضتها، فتقول الآمرة: هل ائتمرت؟ وتقول الزاجرة: هل ازدجرت؟ فأعوذ بالله من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها). وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: (يا حملة العلم! اعملوا به، فإن العالم من علم ثم عمل). ليس العلم بكثرة الرواية، وليس العلم بكثرة الدراية، ولكن العلم الحقيقي هو الذى يورثك خشية الله، ويورثك العمل، قال: (يا حملة العلم! اعملوا به فإن العالم من علم ثم عمل، ووافق علمه عمله، وسيأتي أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، يخالف علمهم عملهم، وتخالف سريرتهم علانيتهم، يقعدون حلقاً يباهي بعضهم بعضاً، حتى إن أحدهم ليغضب على جليسه إن تركه، وجلس إلى غيره، أولئك لا ترفع أعمالهم تلك إلى الله عز وجل). إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً صواباً، لذا قال مالك بن دينار: إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب، كما يزل القطر عن الصفا". اللهم ارزقنا الصدق والإخلاص في القول والعلم، وقال ابن السماك: كم من مُذَكِّر بالله وهو ناس لله!! وكم من مُخَوِّف من الله وهو جريء على الله!! وكم من مُقَرِّب إلى الله وهو بعيد عن الله!! وكم من تالٍ لكتاب الله وهو منسلخ عن آيات الله!! اللهم سلم سلم! كم من تال لكتاب الله وهو منسلخ عن آيات الله، لا تجاوز القراءة حنجرته أو ترقوته والعياذ بالله، فسوف تسأل عن علمك ماذا عملت به؟ ماذا عملت فيه؟ هل تعلمت لله؟ هل عملت بالعمل؟ هل علمت للسمعة؟ هل علمت للشهرة؟ هل علمت للرياء؟ ما من محاضرة، وما من خطبة، وما من درس علم، وما من موعظة، وما من شريط، وما من كتاب، ما من كلمة تعرفت عليها -عبد الله- إلا وسيسألك الله عنها، سيقول لك ربك: لقد أقمت عليك الحجة على لسان عبدي فلان، فماذا عملت بهذا العلم؟ والله إن الواقع لأليم، والله إن الواقع لمرير، فإننا نرى كماً هائلاً من المحاضرات والدروس، ونرى كماً هائلاً من المراجع والمجلدات والكتب، ومع ذلك نرى بوناً شاسعاً، وفرقاً كبيراً بين المنهج النظري وبين الواقع العملي، أسأل الله أن يرزقنا الصدق والإخلاص في القول والعمل، فإن هذه الفجوة تبذر بذور النفاق في القلوب، كما قال علام الغيوب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3]، لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن علمه ماذا عمل به. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 6 وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه؟ ثالثاً: (عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟) ستسأل عن مالك، والمال نعمة من أعظم النعم، المال زينة الحياة الدنيا مع الأولاد، قال جل وعلا: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46]، ولاحظ أن الله قدم في هذه الآية المال على الأولاد فقال: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46]، المال زينة، والمال نعمة عظيمة، ولكن لا يعرف قدر هذه النعمة إلا من عرف الغاية من المال، فما أكرمه من نعمة إن حركته أيد الصالحين والشرفاء، المال نعمة لا يعرف قدرها إلا صالح تقي عرف الغاية من المال، وعرف وظيفة المال، وعرف أن المال ظل زائل، وعرف أن المال عارية مسترجعة، المال نعمة منَّ الله بها عليك، وزينة زينك الله بها، ولكن انتبه! سوف تسأل عن هذا المال كله من أين اكتسبته؟ وفيم أنفقت هذا المال؟ سؤالان يملآن القلب بالخوف والوجل، ويجعلان العبد يسأل نفسه ألف مرة قبل أن يحصل جنيهاً واحداً، من أين ستحصل هذا المال؟ من الربا؟ من الرشوة؟ من الحرام؟ من أكل أموال الناس بالباطل؟ من أين ستحصل هذا المال؟ يا من تتاجر في المخدرات؛ لتحرق قلوب أبنائنا وبناتنا، ولا هم لك إلا أن تجمع المال! يا من تتاجر في الربا! يا من تأكل أموال اليتامى! يا من تأكل من الرشاوي! يا من تأكل أموال الناس بالباطل! تدبر الآن وحاسب نفسك، وقف مع نفسك وقفة صدق الآن، وطَهِّر مالك كله قبل أن تُسأل بين يدي الله -الذى يعلم السر وأخفى- عن كل جنيه من أين جئت به؟ من أين لك هذا المال؟ من أين لك هذا الرزق؟. فالمال نعمة إذا حركته أيدي الصالحين والشرفاء، المال منحة لمؤمن تقي عرف الغاية منه، وعرف الوظيفة لهذا المال، لذا يقول سيد الرجال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (لا حسد إلا في اثنتين -والحسد هنا بمعنى: الغبطة- رجل آتاه الله القرآن فهو به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار) ينفق المال ويعلم أن المال رزق الله، وأن المال ظل زائل وعارية مسترجعة، لذا تدبر معي -أخي الكريم- قول الحبيب صلى الله عليه وسلم، والحديث رواه أحمد والترمذي وصححه شيخنا الألباني من حديث أبي كبشة الأنماري أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث أقسم عليهن، وأحدثكم حديثاً فاحفظوه: ما نقص مال عبد من صدقة، وما ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزاً، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر، وأحدثكم حديثاً فاحفظوه، إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلماً -اللهم ارزقنا المال والعلم- فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه -أي: في المال والعلم-حقاً، فهذا بأفضل المنازل عند الله جل وعلا، وعبد رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان -أي: من الخيرات والمشروعات التي تنفع الأمة- يقول النبي: فهو بنيته فأجرهما سواء). أيها الفقير! يا منّ من الله عليك بالعلم والفهم والعقل! صحح النية، وسل الله بصدق أن لو رزقك مالاً لعملت كذا وكذا وكذا من أعمال البر والخير، يقول المصطفى: فأنت بصدق نيتك كمن عمل (فهو بنيته فأجرهما سواء) (وعبد -هذا هو العبد الثالث- رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً، فهو يخبط في ماله) ينفق ماله في اللهو والعبث والباطل، (فهو يخبط في ماله، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقاً، فهذا بأخبث المنازل). (وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً) ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان -أي: من اللهو والمعاصي، لسافرت إلى بانكوك ومدريد، وانشغلت باللهو والملذات والشهوات والمعاصي، يقول المصطفى: (فهو بنيته فوزرهما سواء). المال لا يصبح نعمة إلا إذا كان في يد صالحة تعرف الغاية منه، لذا يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام -ليبين لنا أن المال هو ما قدمت لدين الله، هو ما بذلت لله جل وعلا، وأن المال الذي ستتركه ليس مالاً لك وإنما هو مال ورثتك -كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله! ما منا أحد إلا وماله أحب إليه من مال وارثه. قال: فإن ماله ما قدم ومال ورثته ما أخر) ويقول المصطفى كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن الشخير: (يقول ابن آدم: مالي مالي -الأموال والعمارات والسيارات والدولارات، وترى الإنسان منتفخاً بماله إن أودع في البنك مبلغاً من المال -وليس لك من مالك إلا ما أنفقت فأبقيت)، ولذا وورد في صحيح سنن الترمذي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر عائشة بذبح الشاة، وأمرها بأن تتصدق بها، فتصدقت عائشة بالشاة كلها إلا الذراع، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما بقي من الشاة يا عائشة؟ قالت: ما بقي منها شيء إلا الذراع، فقال المصطفى: بل بقيت كلها إلا الذراع)، الذي تصدقت به هو الذي سيبقى لنا. فالمال -يا إخوة- ظل زائل، وعارية مسترجعة، ستسأل عنه بين يدي الله جل وعلا، ستسأل عن هذا المال كله: من أين اكتسبته؟ وفيما أنفقته؟ واسمع لحبيبك المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول -كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -: (أيها الناس! إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51]، وقال تعالى للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل، يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك؟) أنى يستجاب لمن أكل الحرام؟ أنى يستجاب لمن شرب الحرام؟ أنى يستجاب لمن غذى أولاده بالحرام؟ إننا نرى الآن تهاوناً مروعاً في الأكل الطيب الحلال، فترى الرجل لا هم له إلا أن يجمع المال من أي سبيل كان، حتى ولو كان من الحرام، حتى ولو كان من الربا، حتى ولو كان من أموال الناس بالباطل، المهم أن يجمع المال وأن يكنزه، ومع ذلك فو الله لن يخرج من الدنيا بدرهم أو دينار أو دولار. النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنى يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها هي القناعة فالزمها تكن ملكاً لو لم تكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفن (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، ومنها: عن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم انفقه؟). وأرجئ السؤال الرابع إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 7 وعن جسمه فيما أبلاه الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! وأخيراً يسأل الله جل وعلا العبد عن جسمه فيما أبلاه؟ قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، سيسأل الفؤاد -القلب- عما وعاه من اعتقاد، هل امتلأ القلب بحب الله ورسوله والمؤمنين، وامتلأ في الوقت ذاته ببغض الشرك والمشركين والباطل والمبطلين، أم امتلأ بحب الشرك والمشركين والباطل والمبطلين، وببغض الله ورسوله والموحدين؟ سيسأل السمع عن كل ما سمع، سيسأل البصر عن كل ما رأى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، فهل يا ترى لا يسأل العبد بين يدى الرب سبحانه إلا عن هذه الجوارح فحسب؟ كلا، بل سيسأل الإنسان عن جسمه كله. سيشهد هذا الجسم كله بما قدم، وبما صنع، وبما فعل، ستشهد اليد والسمع والبصر والرجل، والجوارح كلها ستشهد، قال الله سبحانه تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]. وقال الله جل وعلا: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:19 - 21]. فسوف تسأل عن هذا البدن، وعن هذا الجسم فيما أبليته، هل أبليت جسمك فى عمل الدنيا والآخرة، أم في عمل الدنيا فحسب؟ فلا حرج أن يبلي الإنسان جسمه لعمل الدنيا ولعمل الآخرة, والخطأ والحرج أن يفني الإنسان جسمه كله وحياته كلها في عمل الدنيا؛ ليضيع بذلك حق الله وعمل الآخرة، تاجر، وعَمِّر، وابنِ، واجمع المال من الحلال، لكن لا تنسى حق الكبير المتعال، لا تنسى الآخرة. اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، فلا حرج أن نجمع بين الأمرين. قال المصطفى: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي). فاعمل للدنيا وللآخرة، لكن لا تضيع عمرك كله للدنيا وتنسى الآخرة، فهل أبليت جسمك في عمل الدنيا والآخرة، أم في عمل الدنيا ونسيت عمل الآخرة؟! ستتمنى يوم القيامة الرجعة والعودة إلى الدنيا لا لتعمل للدنيا مرة أخرى، بل لتعمل للآخرة: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ * حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:97 - 99] أي: إلى الدنيا {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا} [المؤمنون:100]، فاعمل الآن للدنيا وللآخرة قبل أن تتمنى العودة والرجعة، فيقال لك: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:100]. واعلم بأنه أنك لو أبليت جسمك كله ليلاً ونهاراً من أجل الدنيا ونسيت عمل الآخرة، والله لن تحصل من الدنيا إلا ما قدره الرزاق لك، مهما تحركت يمنة ويسرة لن تحصل من الرزق إلا ما قدره الرزاق لك، تدبر هذا الحديث الجميل الذي رواه الترمذي وغيره، وصحح الحديث الشيخ الألباني في صحيح الجامع، أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع الله عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة) أليس ربنا هو القائل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]؟! (من كانت الآخرة همه) هو يعمل للدنيا ولكنه لا ينسى الآخرة، فالآخرة هي الهم، فإن عمل للدنيا فمن أجل أن يتقوى بعمل الدنيا وبحلال الدنيا وبطعام الدنيا وبزينة الدنيا للآخرة، لأن الآخرة هي الهم الذي يعيش له، (من كانت الآخرة همه؛ جعل الله غناه في قلبه، وجمع الله عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة) اسمع (ومن كانت الدنيا همه) لا يعيش إلا لها، ولا يأكل إلا لها، ولا ينام إلا لها، ولا يفكر إلا فيها، ولا يبذل العقل والفكر والجهد والوقت إلا للدنيا، فإن ذكر بالآخرة استهزأ وسخر بمن ذكره، هذا يقول فيه المصطفى: (من كانت الدنيا همه؛ جعل الله فقره بين عينيه، وشتت الله عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر الله له) ففيم أبليت الجسم؟ في عمل الدنيا والآخرة أم في عمل الدنيا؟ وهل أبليت الجسم في طاعة الله أم في معصية الله؟ سل نفسك هذا السؤال الآن، ما مضى من عمرك هل سخرت الجسم فيه لطاعة الله، أم سخرت الجسم فيه لمعصية الله؟ هل أعطاك الله هذا الجسم لتعصي الله به أم لتطيع الله به؟ والمعصية سبب لكل شقاء، وسبب لكل ضنك وبلاء في الدنيا والآخرة، والطاعة سبب لكل فلاح وفوز وخير في الدنيا والآخرة. قال ابن عباس: (إن للطاعة نوراً في الوجه، ونوراً في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للمعصية سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، وضيقاً في الرزق، وضعفاً في البدن، وبغضاً في قلوب الخلق). وذهب رجل إلى إبراهيم بن أدهم طيب الله ثراه فقال له: يا إبراهيم! ساعدني على البعد عن معصية الله، كيف أترك معصية الله جل وعلا؟ فقال له إبراهيم: تذكر خمساً، فإن عملت بها لن تقع في معصية الله، وإن زلت قدمك سرعان ما ستتوب إلى الله جل وعلا. قال هاتها يا إبراهيم: قال إبراهيم: إن أردت أن تعصي الله جل وعلا فلا تأكل من رزق الله. قال: كيف ذلك والأرزاق كلها بيد الله؟ قال: فهل يجدر بك أن تعصي الله وأنت تأكل رزقه؟ هل تعصي الله برزقه عليك؟ هل تعصي الله بنعمه عليك؟ تعصي الله بنعمة الصحة وهي رزق! تعصي الله بالزوجة وهي رزق! تعصي الله بالأولاد وهم رزق! تعصي الله بالعافية وهي رزق! هل يجدر بك أن تعصي الله وأنت تأكل وتتنعم برزق الله؟ قال يرحمك الله يا إبراهيم: هات الثانية. قال إبراهيم: وأما الثانية: إن أردت أن تعصي الله جل وعلا فابحث عن مكان ليس في ملك الله، ابحث عن أرض ليست ملكاً لله واعص الله عليها. قال: كيف ذلك يا إبراهيم والملك ملكه، والأرض ملكه، والسماء ملكه؟! قال: ألا تستحي أن تعصي الملك في ملكه؟ قال يرحمك الله: هات الثالثة. قال: أما الثالثة إن أردت أن تعصي الله جل وعلا فابحث عن مكان أمين لا يراك الله فيه. قال: يرحمك الله، كيف والله يسمع ويرى؟! {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] معهم في أي مكان كانوا بسمعه وبصره وعلمه وقدرته وإرادته وإحاطته. إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب إذا أردت أن تعصي الله -عبد الله- فنقب عن مكان أمين لا يراك الله فيه. قال: كيف ذلك يا إبراهيم والله يسمع ويرى؟ قال: ألا تستحي أن تعصي الله وأنت على يقين أن الله يراك؟! قال: يرحمك الله هات الرابعة. قال: أما الرابعة: إذا أردت أن تعصي الله جل وعلا وجاءك ملك الموت فقل له: أجلني ساعة حتى أتوب إلى الله وأدخل في طاعته. قال: كيف ذلك يا إبراهيم والله جل وعلا يقول: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]؟ قال: فهل يجدر بك وأنت تعلم ذلك أن تسوف في التوبة وفي عمل الطاعات؟! قال: يرحمك الله هات الخامسة. قال: أما الخامسة: إذا جاءك زبانية جهنم لتأخذك إلى جهنم فإياك أن تذهب معهم. فبكى الرجل وعاهد الله عز وجل على الطاعة. أيها المسلم! فكر في هذه الخمس جيداً قبل أن تعصي الله، وإن زلت قدمك جدد الأوبة والتوبة إلى الله، واعلم بأن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وما من ليلة إلا والملك يتنزل إلى السماء الدنيا تنزلاً يليق بكماله وجلاله كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وينادي الحق سبحانه ويقول: أنا الملك! أنا الملك! من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر، فهيا عد إلى الله وتب إليه، واستعد بالجواب الآن لهذه الأسئلة، واعلم بأنه لن تزول قدمك حتى تسأل عن هذا كله الذي أمرنا وذكرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسأل الله جل وعلا أن يسترني وإياكم فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض، اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً بيننا إلا شفيته، ولا ديناً على أحد منا إلا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 8 علامات الساعة الصغرى لقد اختص الله نفسه بعلم الساعة، فلا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل، إلا أنه جعل لها أمارات ومقدمات، منها الكبرى منها الصغرى، وقد تحققت بعض العلامات الصغرى وانقضت، وبعضها تحقق ولم ينقض، وبعضها لم يقع بعد، وهذا يدل على قرب قيام الساعة، وأن على المرء أن يستعد لها بالأعمال الصالحة. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 1 الساعة آتية لا ريب فيها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته. وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباء الأعزاء، وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعني وإياكم في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! في رحاب الدار الآخرة. هذه سلسلة علمية تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، تبدأ بالموت وتنتهي بالجنة، أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهلها. وهذا هو لقاؤنا الثالث من لقاءات هذه السلسلة المباركة، وكنا قد أنهينا الحديث في اللقاء الأول، وتكلمنا عن الجنازة وهي في طريقها إلى القبر تتكلم، ثم توقفنا مع الجنازة وقد أغلق عليها القبر ليعيش صاحبها في نعيم مقيم، أو في عذاب أليم إلى قيام الساعة، وكان من الحكمة والمنطق قبل أن أتكلم عن مراحل الساعة أن أتحدث عن علامات الساعة الصغرى والكبرى، ولذا فإن حديثنا اليوم مع حضراتكم عن العلامات الصغرى بين يدي الساعة، وكعادتنا سوف ينتظم حديثنا اليوم مع حضراتكم في العلامات الصغرى في العناصر التالية: أولاً: الساعة آتية لا ريب فيها. ثانياً: العلامات الصغرى التي وقعت وانقضت. ثالثاً: العلامات الصغرى التي وقعت ولم تنقضِ. رابعاً: العلامات الصغرى التي لم تقع بعد. فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب! والله أسأل أن يجعلني وإياكم جميعاً ممن: {يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18]. أولاً: الساعة آتية لا ريب فيها: أحبتي في الله! قد يقول حبيب من أحبابنا معقباً على موضوعات هذه السلسلة: إنكم تهربون من الواقع الذي تعيشون فيه إلى عالم تحلمون أن تعيشوا فيه، وكان من الأولى أن تهتموا بأمور المسلمين وجراحاتهم وآلامهم. وبدايةً فأنا أقدر هذا الشعور النبيل لكل مسلم غيور لا يعيش من أجل الشهوات الرخيصة والنزوات الحقيرة، بل يحترق قلبه على واقع أمته المكلومة الجريحة، وأبشره بأننا -ولله الحمد والمنة- قد تحدثنا في عشرات الأشرطة عن واقع المسلمين المر الأليم، وشخصنا الداء بدقة وأمانة، وحددنا كذلك الدواء من كتاب ربنا وسنة الحبيب نبينا صلى الله عليه وسلم، فليرجع إلى هذه الأشرطة من شاء من الأحبة الكرام، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه ينبغي أن نعلم يقيناً -أيها الأحباب! - أن الحديث عن اليوم الآخر ليس من باب الترف الذهني والعلمي، ولا من باب الثقافة الذهنية الباردة التي لا تتعامل إلا مع العقول فحسب، بل إن الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان بالله جل وعلا، ولا يصح إيمان العبد أصلاً وابتداءً إلا به، كما في صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب وفيه: (أن جبريل عليه السلام سأل الحبيب المصطفى: ما الإيمان؟ فقال الحبيب: الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره). فالإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان بالله، ولا يمكن أن يستقر الإيمان باليوم الآخر في قلب عبد من العباد إلا إذا وقف على حقيقة هذا اليوم وعرف أحواله وكروبه وأهواله. ومن ناحية ثالثة: إذا استقرت حقيقة الإيمان باليوم الآخر في قلب عبد صادق، دفعه هذا العلم بهذا اليوم إلى الاستقامة على منهج الله وعلى طريق الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سيعلم يقيناً أنه سيقف غداً بين يدي الله جل وعلا؛ ليكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، ويقول له الملك: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14]. فالهدف من هذه السلسلة إيقاظ المسلمين من غفلتهم ورقدتهم، وتذكيرهم للاستيقاظ من هذه الغفلة والرقدة الطويلة، وحثهم على التوبة والإنابة إلى الله جل وعلا، قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 2 موعد الساعة قريب عباد الله! إن الساعة آتية لا ريب فيها قال الله جل وعلا: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:6 - 7]. وإذا كان البشر يرون الساعة بعيدة، فإن خالق البشر يخبر أنها قريبة، قال جل وعلا: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} [المعارج:6 - 10]. وقال سبحانه: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، وقال جل وعلا وقد عبر بصيغة الفعل الماضي: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]، بل وعبر الله عن قرب الساعة بالغد القريب، والغد: هو اليوم الثاني لليوم الذي تعيش فيه الآن، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18]. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 3 لا يعلم وقت الساعة إلا الله إن علم وقت قيام الساعة من خصائص علم الله جل وعلا، فلا يعلم وقت قيام الساعة ملك مقرب ولا نبي مرسل، قال سبحانه في سورة الأعراف: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187]، وقال سبحانه في سورة الأحزاب: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:63]. وقال سبحانه في سورة النازعات: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات:42 - 46]. ولا يعلم وقت قيام الساعة إلا الملك سبحانه، فلا يعلم بوقت قيامها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، حتى جبريل عليه السلام وهو أعلى الملائكة، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو أعلى الخلق منزلة، ومع ذلك جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (متى الساعة؟ فقال المصطفى: ما المسئول عنها بأعلم من السائل) فإذا كان السائل وهو جبريل، والمسئول وهو البشير النذير لا يعلمان وقت قيام الساعة، أفيتجرأ عاقل بعد ذلك ليقول بأنه على علم بوقت قيام الساعة؟! ورد في صحيح البخاري من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خمس لا يعلمهن إلا الله وتلا النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34]). وإذا كان الله عز وجل قد أخفى وقت قيام الساعة، فقد أخبر سبحانه وتعالى ببعض العلامات والأمارات التي تكون بين يدي الساعة، ليئوب الخلق وينيبوا ويتوبوا إلى الله جل وعلا، وقد سمى القرآن هذه العلامات والأمارات بالأشراط، فقال سبحانه: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18]. أي: فقد جاءت علاماتها وأماراتها، وهأنذا ذا أقسم العلامات إلى ثلاثة أقسام: أولاً: علامات صغرى وقعت وانقضت وانتهت. ثانياً: علامات صغرى وقعت ولم تنقضِ، بل لا زالت مستمرة. ثالثاً: علامات صغرى لم تقع بعد. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 4 العلامات الصغرى التي وقعت وانقضت الجزء: 17 ¦ الصفحة: 5 بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أولاً: العلامات الصغرى التي وقعت وانقضت، وأول هذه العلامات: بعثة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بالسبابة والوسطى) فانظر إلى قرب قيام الساعة، ولا تنظر إلى هذه المئات من السنوات، فإن هذه السنوات في حساب الزمن لا تساوي شيئاً على الإطلاق. إذاً: فبعثة النبي علامة صغرى وقعت وانقضت. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 6 موت النبي صلى الله عليه وسلم ومنها: موت النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح البخاري من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة أدم فقال: اعدد بين يدي الساعة ستاً: موتي) إلى آخر الحديث. فموت الحبيب المصطفى من أعظم المصائب في الدين، بل هي أكبر الدواهي للمؤمنين الصادقين، وما ابتليت الأمة بمصيبة كموت الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 7 انشقاق القمر ومن هذه العلامات التي وقعت وانقضت: انشقاق القمر، قال سبحانه: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، فانشقاق القمر كان علامة من العلامات الصغرى بين يدي الساعة، وقد ورد في ذلك الأحاديث الكثيرة التي رواها الإمام مسلم في صحيحه، وأذكّر حضراتكم بحديث واحد من هذه الأحاديث. ورد من حديث أنس رضي الله عنه قال: (طلب أهل مكة من رسول الله أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر). وفي رواية ابن مسعود رضي الله عنه: (انشق القمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم شقين، والنبي يقول: اشهدوا اشهدوا). وسأل المشركون المصطفى أن يظهر لهم آية على أنه نبي من قبل الله، فقال: ماذا تريدون؟ قالوا: نريد أن تشق لنا القمر في السماء نصفين، فسأل الحبيب ربه فاستجاب الله للمصطفى، وشق له القمر في السماء نصفين، فقال المصطفى لهم: اشهدوا اشهدوا ومع ذلك أنكروا وأعرضوا وقالوا: سحر مستمر! الجزء: 17 ¦ الصفحة: 8 خروج نار في أرض الحجاز ومن العلامات أيضاً: خروج نار في أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل في بصرى، أي: في حوران ببلاد الشام. أخي الحبيب! تدبر هذا الحديث العجب الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببُصْرَى). وبُصْرَى: بلد تسمى حوران في ديار الشام، ولقد وقعت هذه الآية بمثل ما حَدَّث به الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى. قال الإمام القرطبي في كتاب: (التذكرة) وغيره: ولقد وقعت هذه الآية بمثل ما حدث الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ففي يوم الأربعاء في الثالث من شهر جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة خرجت نار بأرض الحجاز كانت لا تمر على جبل إلا دكته وأذابته، رآها من أرض الحجاز جميع أهل الشام بالشام. {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:3 - 5] وقد وقعت هذه الآية وانقضت. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 9 علامات الساعة الصغرى التي وقعت ولم تنقض أيها الأحباب! أكتفي بهذا القدر من العلامات الصغرى التي وقعت وانقضت، لنقضي بعض الوقت مع العلامات الصغرى التي وقعت ولا زالت لم تنقض بعد. وأولها: الفتن: الجزء: 17 ¦ الصفحة: 10 فتن كقطع الليل المظلم -آه من الفتن- وقد أطلع الله نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم على الفتن التي ستبتلى بها البشرية والأمة خاصة إلى أن الله يرث الأرض ومن عليها، ومن ذلك: ورد في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً، فما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حَدَّث، به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه). أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالفتن التي ستقع، وقال كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة وغيره: (يكون بين يدي الساعة فتن كقطع الليل المظلم)، إي والله! إنها الفتن التي جاءت وأقبلت كقطع الليل المظلم. (تكون بين يدي الساعة فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا). فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل على الإيمان فلا يأتي الليل عليه إلا وقد كفر بالرحيم الرحمن! ويمسي على الإيمان فلا يأتي الصباح عليه إلا وقد كفر بالله جل وعلا!! حقاً: إنها فتن كقطع الليل المظلم! الجزء: 17 ¦ الصفحة: 11 فتنة الغربة أيها الأحبة الكرام! ومن العلامات: فتنة الغربة حيث يشعر المؤمن بالغربة، فيعيش في عالم يشير إليه بالبنان إذا كان ملتزماً، ويشعر المسلم الصادق بالغربة بين الناس إن أعفى اللحية ولبس الثوب القصير، ووضع السواك في فمه بدلاً من السيجارة، ونقب زوجته وجلببها بجلباب العفة والحياء والمروءة والشرف، وانطلق إلى مجالس العلم، وحرص على طاعة الله، وطهر بيته من التلفاز والخبث والمعاصي والمصائب، فيشير الناس إليه بأصابع التطرف والإرهاب والاتهام: وإن قال وقال الله قال رسوله همزوه همز المنكر المتغالي ولا حول ولا قوة إلا بالله! فالمسلم الصادق الآن يعيش فتنة قاسية ألا وهي فتنة الغربة، كما قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء). أبشر يا من تشعر بالغربة الآن بين الناس، أبشر بهذه البشارة لك من رسول الله: (فطوبى للغرباء). وفي غير رواية مسلم: (قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟! قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس)، وفي لفظ: (قال: الذين يصلحون ما أفسده الناس)، وفي لفظ: (قال: الذين يحيون سنتي ويعلمونها الناس)، وفي لفظ: (قال: الذين يفرون بدينهم من الفتن)، فأهل الغربة الآن يفرون بدينهم من الفتن، بل لقد روى الترمذي في سننه بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (سيأتي على الناس زمان القابض فيه على دينه كالقابض على جمر بين يديه). الجزء: 17 ¦ الصفحة: 12 فتنة الشهوات أيها الأحبة! إن هذا زمن الفتنة زمن الغربة زمن يشعر فيه المسلم الصادق بالغربة الحقيقية فتنة الغربة وفتنة الشهوات التي صرفت كثيراً من الناس عن طاعة رب الأرض والسماوات، فترى الرجل قد جلس أمام التلفاز إلى الفجر أمام مباراة أو مسرحية داعرة أو فيلم ساقط هابط وسمع الأذان بعد ذلك فما تحرك قبله وما تحركت جوارحه للقاء الله ولاستجابة أمر الله جل وعلا. أقبلت الشهوات فلا مانع أن يضحي الرجل بدينه وعقيدته من أجل أن يجلس على كرسي زائل أو منصب ولا مانع من أن يقتل الأخ أخاه ولا مانع من أن يقتل الولد أباه ولا مانع من أن يقتل الولد عمه أو خاله من أجل ميراث أو مال!! ورد في الصحيحين من حديث عمرو بن عوف الأنصاري قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا، فتنافسوها كما تنافسها من كان قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم). الجزء: 17 ¦ الصفحة: 13 فتنة الشبهات وهناك فتنة الشبهات التي مزقت الشمل، وشتتت الصف، وحولت الأمة الواحدة إلى دول، بل إلى دويلات، بل وتفتتت الدويلات هي الأخرى إلى دويلات وإلى أجزاء، وأصبحت الأمة الآن غثاءً، وهذه فتنة أخرى جديدة تعصف الآن بقلب كل صادق، إذ يرى المسلم واقع أمته مراً أليماً، في الوقت الذي يرى فيه أمم الكفر ودوله قد قفزت قفزات سريعة جداً في عالم الحضارة والرقي والتطور والمدنية، فينظر المسلم الشاب الغيور إلى واقع الأمة، فيرى الأمة ذليلة كسيرة مبعثرة كالغنم في الليلة الشاتية الممطرة، فتعصف الفتنة بقلبه ويتساءل مع نفسه: أهذه هي الأمة التي دستورها هو القرآن، ونبيها هو محمد عليه الصلاة والسلام، وربها هو الرحيم الرحمن؟! ما الذي بدل عزها إلى ذل؟! ما الذي غير علمها إلى جهل؟! ما الذي حول قوتها إلى ضعف وهوان؟! فلا يجد جواباً فتعصف الفتنة بقلبه. وهناك فتنة الأولاد وفتنة الزوجات، قال جل وعلا: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14]. وهناك فتنة المنصب والجاه، والمكانة والسلطان، وقد خاطب الله حبيبه المصطفى بقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف:28] وقد قال الله لحبيبه: {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28] فتن كثيرة! الجزء: 17 ¦ الصفحة: 14 تقارب الزمان ونقص العلم وظهور الفتن جاء في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من أشراط الساعة أن يتقارب الزمان، وينقص العلم، وتظهر الفتن، ويلقى الشح، ويكثر الهرج، قالوا: وما الهرج يا رسول الله؟! قال: القتل). وكأن الله قد كشف الحجب لحبيبه المصطفى فهو يحدد واقع البشرية في قرنها العشرين: (إن من أشراط الساعة أن يتقارب الزمان)، نعم، فقد تقارب الزمان، بل لقد ورد في سنن الترمذي بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يتقارب الزمان بين يدي الساعة فتكون السنة كالشهر، ويكون الشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كاحتراق السعفة) أي: كاحتراق جريدة من النخيل. والآن قد نزعت البركة من الوقت، فقد كنت بالأمس القريب تصلي الجمعة، فجاءت الجمعة بهذه السرعة، فقد نزعت البركة من الوقت. (إن من أشراط الساعة أن يتقارب الزمان وينقص العلم) والمراد بالعلم هنا: العلم الشرعي، فلقد كثر الجهل بل قد ترى بلداً كبيراً فإذا نقبت فيه لم تجد عالماً يستفتيه الناس في أمور دينهم، فقل العلم بقلة العلماء الصادقين، وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالماًَ) وفي لفظ: (حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً)، وفي لفظ: (رؤساءً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا). أيها الأحبة! في وقتنا الحاضر قل العلم، وتزبب كثير من الناس قبل أن يتحصرموا، وقبل أن يتعلموا، وبالغوا قبل أن يبلغوا، فقالوا في دين الله بغير علم، فضلوا أنفسهم وأضلوا غيرهم. ومن علامات الساعة وأشراطها: أن يتقارب الزمان، وينقص العلم، وتظهر فتن كثيرة كقطع الليل المظلم، تعرض على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، والحديث رواه مسلم من حديث حذيفة قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأيُّ قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأيُّ قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب إلى قلبين: قلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض). أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أصحاب هذه القلوب التقية النقية التي لا تضرها الفتن، ما دامت السماوات والأرض؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أيها الأحبة! وهكذا تظهر الفتن، ويكثر الشح، وقد ينطلق الرجل إلى حقله ليجني الحبوب والزروع والثمار، وقد منَّ الله عليه، وما فكر في أن يخرج حق الله وحق الفقراء، بل إذا ذهب إليه فقير تمعر في وجهه، بل وربما رد عليه بعنف وغلظة وقسوة، ولا يريد أن يخرج حق الله، ولا حق الفقير، مع أن الله قد أكرمه وأنعم عليه ومنَّ عليه لكنه الشح والبخل!! الجزء: 17 ¦ الصفحة: 15 كثرة القتل ومن العلامات: أن يكثر الهرج، وهو القتل أنتم تتابعون الإذاعات، وتسمعون النشرات فما من يوم يمر الآن على العالم بأسره إلا ويقتل العشرات، بل ولست مبالغاً إذا قلت: ويقتل المئات. انظروا إلى الواقع المر! لا يدري القاتل على أيِّ شيء قتل. يساق الجندي الذي هو عضو من أعضاء القوة في الأمم المتحدة، إلى موقع من المواقع لا علم له عن شيء فيه، ويقال له: قف هنا واقتل فلاناً! لماذا؟! ليس من شغلك ولا من عملك! فيقتل الرجل وهو لا يدري على أي شيء قتل، أما المقتول المسكين فهو لا يدري على أي شيء قتل! لماذا قتل المسلمون في البوسنة؟! لماذا قتل المسلمون في الشيشان؟! لماذا قتل المسلمون في الصومال؟! لماذا قتل المسلمون في فلسطين الذبيحة؟! لماذا قتل المسلمون في مورو؟! لماذا قتل المسلمون في طاجاكستان؟! لماذا قتل المسلمون في كل مكان؟!! على أي شيء قتلوا؟! ما جريمتهم؟! ما الذي اقترفوه؟! ما الذي قدموه؟! (ويكثر الهرج) أي: ويكثر القتل لا يدري القاتل على أي شيء قتل وقاتل، ولا يدري المقتول على أي شيء قتل. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 16 إسناد الأمر إلى غير أهله ومن علامات الساعة الصغرى التي وقعت ولم تنقض: إسناد الأمر إلى غير أهله، وهي من العلامات الدقيقة التي هي من علامات النبوة قبل أن تكون من علامات الساعة، وقد ورد في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن أعرابياً دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث الناس، فقال الأعرابي: يا رسول الله! متى الساعة؟ -أي: القيامة ستقوم متى- فمضى النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه ولم يجب الأعرابي على سؤاله، فلما أنهى النبي صلى الله عليه وسلم حديثه قال: أين السائل عن الساعة آنفاً؟! فقال الأعرابي: هأنذا يا رسول الله! فقال الحبيب: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، فقال الأعرابي: وكيف إضاعتها يا رسول الله؟! قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة). ووالله لقد وسد الأمر إلى غير أهله، وإن الذي يتولى الآن دفة القيادة والتوجيه والإعلام والتعليم والتربية هم الخائنون الكاذبون الساقطون التافهون ممن لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، رفعتهم الأمة على الأعناق، وأخرت أهل الصدق وأهل الأمانة، ولا أقول هذا من عند نفسي، بل الواقع يشهد بذلك. تدبر معي حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه، وصحح الحديث الشيخ الألباني في صحيح الجامع من حديث أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم: (سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب، ويكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويُخَوَّن فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة يا رسول الله؟! قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة). وقد صدق المصطفى ورب الكعبة، فقد تكلم التافهون الآن لا في أمر العوام فحسب، بل في أمر الإسلام ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. تكلم التافهون وتقدم الساقطون، وأُخر الصادقون وأهل الأمانة، وهذه من علامات الساعة تحقيقاً لقول المصطفى: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة). الجزء: 17 ¦ الصفحة: 17 تداعي الأمم على أمة الإسلام ومن العلامات: تداعي الأمم على أمة الحبيب المحبوب، ففي الحديث الذي رواه أبو داود من حديث ثوبان وهو حديث صحيح بمجموع طرقه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: كلا، إنكم يومئذ كثير ولكن غثاء كغثاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا وكراهية الموت). إنه واقع نعيش فيه واقع تحياه الأمة!! تداعت أذل أمم الأرض وأحقر أمم الأرض من اليهود من عباد البقر من الملحدين في الشيشان من المجرمين في كل مكان. تداعت أذل أمم الأرض على أمة الإسلام، وطمع في الأمة الذليل قبل العزيز، والضعيف قبل القوي، والقاصي قبل الداني، وأصبحت الأمة قصعة مستباحة لأمم الأرض!! أصبحت الأمة غثاءً من النفايات البشرية تعيش على ضفاف مجرى الحياة الإنسانية كدويلات متناثرة متصارعة متحاربة تفصل بين هذه الدويلات حدود جغرافية مصطنعة ونعرات قومية منتنة، وترفرف على سمائها رايات العلمانية أو رايات القومية والوطنية، وتحكم الأمة كلها قوانين الغرب العلمانية، وتدور بها الدوامات السياسية، فلا تملك الأمة نفسها عن الدوران، بل ولا تختار لنفسها حتى المكان الذي تدور فيه، ذلت بعد عزة وجهلت بعد علم وضعفت بعد قوة وأصبحت في ذيل القافلة البشرية بعد أن كانت بالأمس القريب تقود القافلة كلها بجدارة واقتدار، وأصبحت تتسول على موائد الفكر الإنساني والعلمي والطبي الغربي بعد أن كانت بالأمس القريب منارة تهدي الحيارى والتائهين الذين أحرقهم لفح الهاجرة القاتل، وأرهقهم طول المشي في التيه والظلم. إنه تداعي الأمم!! الجزء: 17 ¦ الصفحة: 18 تسليم الخاصة وفشو التجارة وشهادة الزور ومن العلامات الصغرى التي وقعت ولم تنقض ولا زالت مستمرة: ما أخبر عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة) أي: لا يسلم الرجل إلا على رجل يعرفه، وهذا واقع. تمر على أخيك المسلم فلا تلقي السلام عليه؛ لأنك لا تعرفه وهو لا يعرفك، ولا تلقي السلام إلا على من تعرف. (إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة وفشو التجارة) أي: تكثر التجارة بين يدي الساعة. تدبر! (وفشو التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة) خروج المرأة للتجارة لتقف مع زوجها في التجارة، يقول النبي: (وفشو التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة، وقطع الأرحام، وشهادة الزور). اذهب إلى المحاكم لتبكي دماً بدل الدمع على شهادات الزور بعشرة جنيهات، أو بمائة جنيه. رجل ينتسب إلى الإسلام لا يتورع أن يشهد زوراً على رجل يعلم أنه سيوضع الحديد في يديه بهذه الشهادة المزورة. ومن العلامات ما جاء في الحديث: (وشهادة الزور وكتمان شهادة الحق وظهور القلم) ولم يكن هذا على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 19 سياط الشرطة يضربون بها الناس ومن العلامات التي وقعت ولا زالت: ما حدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أن من علامات الساعة ما يمسكه الآن بعض رجال الشرطة في بلاد المسلمين من العصي كأذناب البقر -أي: كذيول البقر- يضربون بها الناس في السجون. هل تتوقع أن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن ذلك بهذه الدقة؟! قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه أحمد والطبراني في الكبير بسند صحيح من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بين يدي الساعة رجال معه سياط كأنها أذناب البقر، يغدون في سخط الله ويروحون في غضب الله)، وهذا وصف عجيب دقيق! (بين يدي الساعة رجال معهم سياط) مثل: الكرباج. (كأنها أذناب البقر)، أي: كذيل البقرة يضربون بها الناس. قال: (يغدون) من الغدوة في الصباح، (يغدون في سخط الله ويروحون في غضب الله)، بل وحكم عليهم رسول الله بأنهم من أهل النار إن لم يتوبوا إلى العزيز الغفار. وخذوا هذا الحديث أيها الأخيار! روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما) وهذه من معجزات وعلامات النبوة. (صنفان من أهل النار لم أرهما: رجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسمنة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا). أيها الأحبة الكرام! لا أريد أن أطيل عليكم أكثر من ذلك، وأرجئ الحديث عن العلامات الصغرى التي لم تقع بعد إلى ما بعد جلسة الاستراحة. والله أسأل أن يجعلني وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 20 العلامات الصغرى التي لم تقع الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة! إن قدر الله لنا البقاء واللقاء فسيكون حديثنا إن شاء الله تعالى عن العلامات الكبرى، والأهم من ذلك أنه يجب علينا ألا نسمع هذا الكلام للتسلية، وإنما يجب علينا أن نأخذه لنتذكر به وقوفنا بين يدي ربنا جل وعلا ولنستعد من الآن بالعمل الصالح، أسأل الله أن يستر عليَّ وعليكم في الدنيا والآخرة، وأن يجعلني وإياكم من الصادقين. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 21 كثرة المال حتى لا تؤخذ الزكاة من العلامات التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم ولم تقع: ما رواه البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض حتى يخرج الرجل زكاة ماله فلا يجد أحداً يقبلها). ومن أهل العلم من قال: بأن هذا قد وقع على عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فلقد خرج المنادي بأموال الزكاة فأغنى الله الفقراء على يد عمر، بل وزوج عمر الشباب، بل قضى عمر الديون، وأعطى النفقة من أراد الحج من بيت مال المسلمين. ولكن من العلماء من يقول: إن هذه الصورة تكون على مستوى أفراد الأمة لا على مستوى أمير من أمرائها، وستكون بين يدي الساعة وهذه عند جمهور أهل العلم من العلامات التي لم تقع بعد. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 22 انحسار الفرات عن جبل من ذهب ومن العلامات: ما رواه البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات -أي: حتى ينكشف الفرات- عن جبل من ذهب، فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً). الجزء: 17 ¦ الصفحة: 23 خروج المهدي ومن العلامات التي لم تقع: خروج المهدي: والمهدي رجل من آل بيت المصطفى من نسل فاطمة بنت رسول الله اسمه على اسم النبي، واسم أبيه على اسم أبي النبي، أخبر المصطفى عنه في كثير من الأحاديث الصحيحة، رواها أصحاب السنن الأربعة وأحمد في المسند وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك، وقال جميع علماء أهل السنة والجماعة بأن أحاديث المهدي قد تواترت عن الحبيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقد حدد النبي صفته وشكله، ولا يعلم وقت خروجه إلا الله، وأكتفي بهذا الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود من حديث علي؛ قال عليه الصلاة والسلام: (لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً)، أسأل الله أن يعجل به! وعقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يؤمنون بذلك، أما الشيعة الإمامية فإنهم يعتقدون أن هذا المهدي هو آخر أئمتهم، ويقولون: هو محمد بن الحسن العسكري، من نسل فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يقولون: إن الإمام حاضر الآن في الأمصار وهو غائب عن الأبصار، وهذا لا دليل عليه لا من صريح القرآن ولا من صحيح سنة النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأننا نعتقد أن الله سيصلحه وسيخرجه وقت ما يشاء الملك جل وعلا، ولا يعلم عن وقت خروجه أحد إلا الله. نسأل الله أن يعجل به، وأن يرد الأمة إلى الحق رداً جميلاً، وأن يجعلنا وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 24 الفائدة من التذكير بعلامات الساعة أيها الحبيب! عد اليوم وفكر في هذه العلامات، وفكر في هذه الأشراط، واستعد للقاء رب الأرض والسماوات، فوالله ما نذّكر بالساعة ولا بأشراط الساعة من أجل الثقافة الذهنية الباردة، وإنما من أجل أن يتذكر كل غافل، وأن ينتبه كل نائم، وأن يعود كل ساهٍ، وأن يئوب كل عاصٍ إلى الله جل وعلا؛ لأنك إذا مت أيها الحبيب! فقد قامت قيامتك، فاستعد من الآن. أيها اللاهي! أيها الساهي! أيها العاصي! دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين! اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً! اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين اللهم انصر المجاهدين في كل مكان اللهم فك سجن المسجونين وأسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم احمل المسلمين الحفاة، واكس المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع. اللهم اكس المسلمين العراة وأطعم المسلمين الجياع اللهم اجعل بلدنا مصر واحة للأمن والأمان اللهم لا تحرم مصر من نعمة الأمن والأمان وسائر بلاد المسلمين اللهم اجعل مصر سخاءً رخاء وسائر بلاد المسلمين. اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر وما بطن وسائر بلاد المسلمين اللهم وفق ولاة الأمر لما تحبه وترضاه يا أرحم الراحمين اللهم تقبل منا وتب علينا وارحمنا إنك أنت التواب الرحيم! أحبتي في الله! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 25 مجيء الرب جل وعلا تدنو الشمس من رءوس الخلائق يوم القيامة حتى تكاد أن تذيب الجماجم، والزحام يكاد أن يخنق الأنفس، وعندها يلوذ الناس بالأنبياء؛ ليشفعوا لهم عند ربهم، ولا يزالون ينتقلون من نبي إلى نبي حتى يجيئوا إلى نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيشفعه الله في فصل القضاء بين الناس، فيجيء الرب سبحانه وتعالى -مجيئاً يليق بجلاله- للفصل بينهم، ويعرضون على الله فرداً فرداً، فياله من موقف مهيب! الجزء: 18 ¦ الصفحة: 1 ثلاثة مواقف عظيمة من مواقف يوم القيامة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته، ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! (في رحاب الدار الآخرة): سلسلة علمية هامة تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، الهدف منها تذكير الناس بالآخرة، في وقت طغت فيه الماديات والشهوات، وانحرف كثير من الناس عن منهج رب الأرض والسماوات، ليعود الناس إلى الله جل وعلا، وليتداركوا ما قد فات، قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون. وهذا هو لقاؤنا الثاني عشر من لقاءات هذه السلسلة الكريمة المباركة، وكنا قد توقفنا في اللقاء الماضي مع البشرية كلها، وهي في أرض المحشر وقد أصابها من الهم والغم والكرب ما لا يستطيع بليغ على وجه الأرض أن يجسده، الشمس فوق الرءوس تكاد تذيب الجماجم والعظام، والزحام وحده يكاد يخنق الأنفاس، فالبشرية كلها -منذ أن خلق الله آدم إلى آخر رجل قامت علية الساعة- تقف في موقف واحد، في أرض واحدة. العرق يكاد يغرق الناس كلٌ بحسب عمله، جهنم -أعاذنا الله وإياكم من حرها- قد أتي بها، لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، يؤتَى بها إلى أرض المحشر، فإذا ما رأت الخلائق زفرت وزمجرت غضباً منها لغضب ربها جل وعلا، حينئذ تجثوا جميع الأمم على الركب من هول الموقف وكربه والعياذ بالله، بل ولا يتكلم يومها أحد إلا الأنبياء، ودعاء الأنبياء يومئذ: اللهم سلم سلم!! اللهم سلم سلم!!! يزداد الهم والكرب على الخلق، فيقول بعضهم لبعض: ألا ترون ما نحن فيه؟! ألا ترون ما قد بلغنا؟! ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟! ويذهبون إلى صفوة الله من خلقه: إلى الأنبياء والمرسلين، فيقول كل نبي: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ثم يقول: نفسي، نفسي، نفسي! يقول آدم: نفسي، ويقول نوح: نفسي، ويقول إبراهيم: نفسي، ويقول موسى: نفسي، ويقول: عيسى: نفسي، إلا المصطفى، فهو صفوة الله من خلقه وأكرم الخلق على الله. يقول الحبيب: فيأتونني، فيقولون: يا رسول الله! ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! ألا تشفع لنا إلى ربك؟! فأقوم وأقول: أنا لها، ويخر ساجداً تحت عرش الرحمن جل جلاله، ويثني على الله سبحانه وتعالى بما لم يفتح الله به على أحد من قبله، ولا على أحد من بعد الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، فينادي عليه ربه ويقول: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فيقول المصطفى: يا رب! أمتي أمتي أمتي وفى حديث الصور الطويل يقول الله جل وعلا لنبيه المصطفى: (ما شأنك؟ وهو أعلم، فيقول الحبيب: يا رب! قد وعدتني الشفاعة فشفعني في خلقك، فاقضِ بينهم، فيقول الله جل وعلا: قد شفعتك، أنا آتيكم لأقضي بينكم، فيرجع الحبيب المصطفى ويقف مع الناس في أرض المحشر؛ لينتظروا جميعاً مجيء الرب جل جلاله لفصل القضاء بين العباد). ولقاؤنا اليوم مع حضراتكم في هذا اليوم الأغر المبارك، سوف يتركز الحديث فيه حول العناصر التالية: أولاً: مجيء الرب جل جلاله. ثانياً: أول من يكلمهم الله يوم القيامة. ثالثاً: العرض على الله جل وعلا وأخذ الكتب. فأعيروني القلوب والأسماع فإن هذه الكلمات ورب الكعبة تكاد تخلع القلوب. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 2 أول من يكلمهم الله أتدرون من هم أول من يكلمهم الله في هذا الموقف العصيب؟! هذا هو عنصرنا الثاني من عناصر هذا اللقاء. أول من ينادى عليه يوم القيامة هو: آدم عليه السلام، ينادي الحق سبحانه على آدم فهو أبو البشر، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن المصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى يوم القيامة: يا آدم! فيقول آدم: لبيك وسعديك والخير كله في يديك، فيقول الله جل وعلا: أخرج بعث النار من ذريتك، فيقول آدم: وما بعث النار؟ فيقول الله جل وعلا: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحد إلى الجنة! -فشق ذلك على أصحاب الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم- فقالوا يا رسول الله! وأينا ذلك الواحد؟! فقال المصطفى: -والحديث في الصحيحين- هنا يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، فترى المرأة التي خرجت إلى أرض المحشر وهي حامل تسقط حملها على الفور من شدة الهول {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أبشروا! فوالذي نفسي بيده! فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً ومنكم واحد، فكبر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: الله أكبر، الله أكبر، فقال لهم المصطفى صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبر أصحاب النبي، فرد المصطفى وقال: والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فكبر أصحاب النبي، فقال المصطفى في الثالثة: والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة)، إذاً: أمة النبي صلى الله عليه وسلم تشكل نصف أهل الجنة، مع أنها الأمة الموفية سبعين أمة، كما في الحديث الذي رواه ابن ماجة بسند حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنتم موفون سبعين أمة، أنتم أكرمها وأفضلها عند الله جل وعلا). قال الله سبحانه وتعالى مخاطباً أمة الحبيب المصطفى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]. اللهم لك الحمد يا من خلقتنا موحدين! وجعلتنا من أمة سيد النبيين، اللهم كما اخترتنا لتوحيدك وجعلتنا من أتباع سيد رسلك، فثبتنا على دينه، وتوفنا عليه، واحشرنا تحت لوائه برحمتك يا أرحم الراحمين! ولله در القائل: ومما زادني فخراً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبيا وهذا فضل من الله، فغيرك -أخي في الله- ولد في بيت يهودي، وغيرك ولد في بيت نصراني، وغيرك ولد في بيت علماني، وفي بيت ملحد، وفي بيت فسق ومعصية، ونحن بفضل الله وكرمه وحده، قد ولدنا ونشأنا في بيوت توحد الله فوحدناه، وتؤمن برسول الله فآمنا به واتبعناه، فهذا فضل الله سبحانه: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] فالفضل لله ابتداءً وانتهاءً. فاللهم كما خلقتنا موحدين، وجعلتنا من أمة سيد النبيين وفقنا للسير على دربه، واحشرنا تحت لوائه برحمتك يا أرحم الراحمين! ثم بعد ذلك ينادي رب العزة تبارك وتعالى نوحاً: يا نوح! فيقول: لبيك وسعديك، فيقول الله سبحانه: هل بلغت قومك؟! -سؤال خطير- فيقول: نعم يا رب! -والله أعلم- فيقول الحق جل جلاله: يا قوم نوح هل بلغكم نوح؟! فيقولون: ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد، وما رأينا نوحاً قط! وهو الذي مكث ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله في الليل والنهار، في السر والعلانية، ما ترك أسلوباً من أساليب الدعوة قد أتاحه الله له في حينه وزمانه إلا وقد سلك دربه؛ ليدعو الناس إلى دين الله جل وعلا، ومع ذلك ينكر هؤلاء المجرمون! ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد، وهنا يقول ربنا لنوح: من يشهد لك يا نوح أنك قد بلغت هؤلاء؟! فيقول نوح: يشهد لي محمد وأمته! فهل رأى محمد نوحاً؟ وهل رأى موحد نوحاً؟ لا والله، يقول المصطفى: (فتدعون فتشهدون لنوح أنه قد بلغ قومه، ثم أدعى فأشهد عليكم)، وفي لفظ ابن ماجة بسند صححه شيخنا الألباني، يقول المصطفى: (فيقول الله لأمتي: من الذي أخبركم أن نوحاً قد بلغ قومه؟! فتقول الأمة الميمونة لربها جل وعلا: جاءنا نبينا محمد فأخبرنا أن الرسل جميعاً قد بلَّغوا قومهم فصدقناه، يقول المصطفى: فذلك قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]). اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، واحشرنا تحت لوائه، برحمتك يا أرحم الراحمين! ثم يدعى عيسى عليه السلام ويقال له: يا عيسى! {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116]. لماذا خص الله عيسى من بين سائر الرسل بهذا السؤال؟!! لأنه ما من رسول بعث في قومه إلا وقد آمن به من آمن من قومه، وكفر من كفر، إلا قوم عيسى، فقوم عيسى منهم من قال: إن عيسى هو الله!! ومنهم من قال: إن عيسى هو ابن الله!! ومنهم من جعل عيسى وأمه إلهين من دون الله!! وقد قال بهذا المعتقد الفاسد جمع من طوائف النصارى كالملكية واليعقوبية والنسطورية والمريمية أو المريمانية، وهنا يوجه الله هذا السؤال لعيسى: {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} [المائدة:116] ينزه الله جل جلاله (قَالَ سُبْحَانَكَ)، وهل يقول عاقل: إن هناك إله يأكل؟! إله يشرب؟! إله يتزوج؟! إله يقضي حاجته؟!! ولله در ابن القيم حين قال: أعباد المسيح لنا سؤال نريد جوابه ممن وعاه إذا مات الإله بصنع قوم أماتوه فهل هذا إله ويا عجباً لقبر ضم رباً وأعجب منه بطناً قد حواه أقام هناك تسعاً من شهور لدى الظلمات من حيض غذاه وشق الفرج مولوداً صغيراً ضعيفاً فاتحاً للثدي فاه ويأكل ثم يشرب ثم يأتي بلازم ذاك فهل هذا إله تعالى الله عن إفك النصارى سيسأل كلهم عما افتراه {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة:116]. انظر إلى كمال العبودية لله: {إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة:116 - 117] ثم يقول عيسى عليه السلام لربه الرحمن: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]. فيرد الحق جل وعلا على عبده المصطفى ونبيه المجتبى عيسى -على نبينا وعليه الصلاة والسلام-: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة:119]. ثم يدعى جميع الرسل، وهل يسأل الرسل وهم صفوة الخلق، والمؤيدون بوحي السماء؟! اسمع لله جل وعلا وهو يقول: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:109]. واسمع لله جل وعلا وهو يقول: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]. إذاً: لا يسأل الناس فحسب، بل يسأل الرسل أيضاً، الرسل الذين تفرقوا في الأزمان والأوطان، ولكنهم جميعاً يحملون دعوة واحدة، ومنهجاً وحداً، يجمعهم الله سبحانه وتعالى يوم القيامة ويسألهم جميعاً، تستشعر ذل العبودية، بل وجلال العبودية في جواب الرسل على الله جل جلاله وهم يقولون: {مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:109]. أيها الأخيار! يسأل الرسل، بل والملائكة، والشهداء!! وهؤلاء هم صفوة الخلق: الملائكة والرسل والأنبياء والشهداء، فهل نترك بعد هؤلاء؟! قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} [الزمر:68 - 70]. وأقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 3 مجيء الرب جل جلاله أولاً: مجيء الرب جل جلاله. أعيروني قلوبكم وأسماعكم وكيانكم كله، وتدبروا معي هذه الكلمات، هل منكم أحد حضر يوماً في قاعة محكمة من محاكم الدنيا؟ يوم يؤتى بالمتهمين ليقفوا وراء هذا القفص الحديدي، وفجأة وقد امتلأت قاعة المحكمة بأهل المتهمين وبالمحامين، ويدخل القضاة ليجلسوا على منصة القضاء، ويصرخ الحاجب: محكمة! فَتَصْمُت الأنفاس، وتكاد القلوب أن تقفز من الصدور، ويبدأ المحامون في المرافعات، والمجادلات والمعاذير وتسمع هيئة القضاء، ويردون، ويترافعون، ويتناقشون، ثم يسدل الستار على هيئة القضاء؛ ليتناقش القضاة في إبرام الحكم وفي النطق به، وفي المرة الثانية يدخل القضاة؛ ليصدروا الحكم في هذه القضية. أسألك بالله: انظر إلى وجوه الناس في قاعة المحكمة. العيون تبكي، والقلوب تكاد تقفز من الصدور، والأنفاس متقطعة، والكلام همس، والسؤال تخافت، والكل ينظر بأي شيء سيحكم؟! وما الذي سينطق به القاضي؟! وهو العبد الحقير الفقير إلى الله الملك القدير. تصور هذا المشهد الذي يكاد يخلع القلب، بل تكاد القلوب أن تقفز إلى الحناجر؛ لتقف على حجم الهول، والخلق جميعاً في أرض المحشر -ومن بينهم الأنبياء- يقفون وينظرون إلى السماء، ينظرون مجيء الملك العدل جل جلاله. قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:108 - 111]. تنشق السماء، وينزل أهل السماء الأولى من الملائكة بضعف من في الأرض من الإنس والجن! كما قال ابن عباس في قوله جل وعلا: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا} [الفرقان:25]. قال: ينزل أهل السماء الأولى من الملائكة بضعف من في الأرض من الجن والإنس، فتحيط الملائكة بالخلائق في أرض المحشر، فإذا ما نظرت الخلائق إلى الملائكة قالوا: أفيكم ربنا؟! فتقول الملائكة: كلا، وهو آت، أي: إتياناً يليق بكماله وجلاله، فكل ما دار ببالك فالله بخلاف ذلك، فصفة المجيء صفة لله لا يجوز لمسلم أن يعطلها، أو أن يمثلها، أو أن يكيفها، أو أن يشبهها. قال الله جل وعلا: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [البقرة:210]، ويقول الحق سبحانه: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:22 - 26]. اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم، يا أرحم الراحمين! ((هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ)) يأتي الحق جل وعلا إتياناً يليق بكماله وجلاله. فلا تعطل صفة المجيء ولا تكيف صفة المجيء، ولا تشبه الله بأحد من خلقه، جل ربنا عن الشبيه والنظير وعن المثيل، لا ند له، ولا كفء له، ولا شبيه له، ولا والد له، ولا صاحبة له، ولا ولد له: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]، وقال جل جلاله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] استوى كما أخبر، وعلى الوجه الذي أراد، وبالمعنى الذي قال، استواءً منزهاً عن الحلول والانتقال. فلا العرش يحمله ولا الكرسي يسنده، بل العرش وحملته والكرسي وعظمته، الكل محمول بلطف قدرته، مقهور بجلال قبضته. فالاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. قال جل جلاله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. وقال جل جلاله: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]. وقال جل جلاله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74]. {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [البقرة:210]. ثم يتنزل أهل السماء الثانية من الملائكة بضعف من في الأرض من ملائكة السماء الأولى والجن والإنس، فيحيط أهل السماء الثانية بأهل الأرض من الملائكة والإنس والجن. وهكذا أهل السماء الثالثة فالرابعة فالخامسة فالسادسة فالسابعة على قدر ذلك من التضعيف! ثم يتنزل حملة عرش الملك جل وعلا وهم يحملون العرش ويسبحون الله سبحانه، ويقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان من كتب الموت على الخلائق ولا يموت، سبوح قدوس قدوس قدوس، رب الملائكة والروح. اسمع لربك جل وعلا وهو يقول: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:13 - 18]. ويضع الحق جل جلاله عرشه حيث شاء من أرضه، ثم ينادي الملك فيقول: يا معشر الجن والإنس! لقد أنصت إليكم منذ خلقتكم، أسمع قولكم، وأرى أعمالكم، فأنصتوا اليوم إليَّ، فإنما هي أعمالكم وصحفكم تُقرأ عليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. ثم يقول الحق جل جلاله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:60 - 65]. لقد أنزل الله الكتب، وأرسل الله الرسل، وجعل بعد خاتم الرسل العلماء والدعاة ممن يسيرون على دربه، ويرفعون رايته، ويحملون منهجه، يوم يقولون للناس: لقد تلي عليكم القرآن، وذكرناكم بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنكم أعرضتم عن منهج الله ومنهج رسوله، فمن وجد غير الخير فلا يلومن إلا نفسه. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 4 العرض على الله جل وعلا الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداًَ عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الأحبة الكرام! بعد ذلك يبدأ الحساب، وسنقف مع الحساب وقفات، فالحساب يبدأ بالعرض على الله جل جلاله، بعد الوقوف بين يدي الحق الملك العدل سبحانه، فأنت في أرض المحشر ستسمع نداء الملائكة: أين فلان بن فلان، والملائكة لا تخطئ أحداً من الخلق منذ أن خلق الله آدم، أين فلان بن فلان؟ ماذا تريدون يا ملائكة الله؟! أقبل للعرض على الله جل جلاله، وقد وكلت الملائكة بأخذك وسوقك في أرض المحشر على رءوس الأشهاد، والخلائق كلها تنظر إليك، فيقرع النداء قلبك، ويصفر وجهك، وترتعد فرائصك، وتضطرب جوارحك، وترى نفسك بين يدي الحق جل جلاله ليكلمك، ليس بينك وبينه ترجمان، كما في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة، ليس بينه وبينه تُرجمان، فينظر العبد أيمن منه -أي: عن يمينه- فلا يرى إلا ما قدم -أي: في هذه الحياة الدنيا- وينظر العبد أشأم منه -أي: عن شماله- فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) أي: ولو بنصف تمرة تتصدقون بها لوجه الله جل وعلا. يقرع النداء القلب، ويأمر الله تبارك وتعالى بالصحف وبالكتب فيأخذ كل إنسان صحيفته. تلك الصحيفة التي لا تغادر بلية كتمتها ولا مخبأة أسررتها، فكم من معصية قد كنت نسيتها ذكرك الله إياها، وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها، فيا حسرة القلب وقتها على ما فرطنا في دنيانا من طاعة مولانا! اسمع لربك جل وعلا، وهو يقول: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:47 - 49]. أيها المسلم! تذكر وقوفك يوم العرض عرياناً مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تلهب من غيظ ومن حنق ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبد على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا فلما قرأت ولم تنكر قراءته إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا والمؤمنون بدار الخلد سكاناً أكتفي بهذا القدر وأقف عند العرض على الله جل وعلا، ونواصل في اللقاء المقبل -إن قدر الله لنا البقاء واللقاء- ونتحدث عن كيفية العرض وكيفية الحساب. وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يستر عليَّ وعليكم في الدنيا والآخرة، وأن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال. وأسأل الله أن يسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض. اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا. اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً بيننا إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً معنا إلا هديته، ولا طائعاً بيننا إلا زده وثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً. اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم مكن لدينك يا أرحم الراحمين! اللهم مكن لدينك يا رب العالمين! اللهم مكن لدينك يا رب العالمين! اللهم طهر الأقصى من دنس اليهود المجرمين! اللهم عليك باليهود وأتباع اليهود وعملاء اليهود، اللهم حرق قلوب اليهود قبل أن يحرقوا الأقصى، اللهم دمر بيوتهم قبل أن يدمروا الأقصى، اللهم إنا نشهدك على ضعفنا وعجزنا وفقرنا، فاللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، واستر عيبنا، وفرج كربنا، واكشف همنا، وآمن روعاتنا، وفك أسرنا، وتول خلاصنا، واختم بالصالحات أعمالنا. اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، اللهم إنا نشكو إليك ضعف الموحدين، اللهم إنا نشكو إليك ضعف الموحدين، اللهم إنا نشكو إليك ضعف الموحدين اللهم إنا نشكو إليك ضعف الموحدين، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا يا أرحم الراحمين! اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا يا أرحم الراحمين! اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان وجميع بلاد الإسلام، اللهم ارفع عن مصر الغلاء والوباء والبلاء وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جنهم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 5 نزول عيسى عليه السلام خلق الله عيسى عليه السلام، وجعله آية من آياته، ومعجزة دالة على كمال قدرته، وهو عبد من عبيد الله، ونبي من أنبيائه، أرسله الله إلى بني إسرائيل، فكذبه اليهود وأرادوا قتله وصلبه، فنجاه الله منهم، ورفعه إليه، وجعل نزوله علامة للساعة، وأخبر الصادق المصدوق أنه ينزل فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، فلا يقبل إلا الإسلام. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 1 عيسى بن مريم والميلاد المعجز بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. في رحاب الدار الآخرة. سلسلة علمية جديدة تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، الهدف منها: تذكير الناس بحقيقة الدنيا، وتنبيه الناس وإيقاظهم من غفلتهم ورقدتهم الطويلة، فقد تأتيهم الساعة بغتة فتأخذهم وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون. وهذا هو لقاؤنا الخامس من لقاءات هذه السلسلة العلمية الهامة، وكنا قد أنهينا الحديث -في اللقاء الماضي- عن المسيح الدجال كعلامة كبرى من العلامات التي ستقع بين يدي الساعة، والتي ذكرها المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح الذي رواه مسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال (فقال المصطفى: ما تذاكرون؟ فقالوا: نذكر الساعة يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات، وهي: الدخان، والدجال، والدآبة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم). ونحن اليوم على موعد مع علامة أخرى من هذه العلامات الكبرى، وقد سبق أن ذكرنا أن المصطفى قد ذكر هذه العلامات بغير هذا الترتيب، ولكن إذا وقعت علامة من هذه العلامات وقعت العلامات الكبرى بعدها تباعاً، فالعلامات الكبرى كحبات العقد، إذا انفرطت منه حبة تتابعت بقية الحبات، كما قال المصطفى في الحديث الذي رواه الحاكم في المستدرك، وصححه على شرط مسلم، وأقر الحاكم الذهبي والألباني من حديث أنس بن مالك، أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: (الأمارات -أي: العلامات- خرزات منظومات في سلك، فإن يقطع السلك يتبع بعضها بعضاً). فنحن اليوم على موعد مع علامة كبرى من هذه العلامات، ألا وهي: نزول عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. فأعرني قلبك أيها الحبيب الكريم! وكعادتنا حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعاً، فسوف نركز الحديث -مع حضراتكم- تحت هذه العلامة في العناصر التالية: أولاً: عيسى بن مريم والميلاد المعجز. ثانياً: بل رفعه الله إليه. ثالثاً: نزول عيسى إلى الأرض من السماء. فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب! والله أسأل أن يجعلني وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 2 اصطفاء الله لمريم عليها السلام أولاً: عيسى بن مريم والميلاد المعجز. أيها الحبيب الكريم! لأول مرة في تاريخ البشرية الطويل ينسب نبي إلى أمه فيقال له: عيسى بن مريم، فـ مريم هي الأنثى الوحيدة في الوجود كله التي اختصها الله من بين النساء قاطبة؛ ليودعها سره الأكبر، في أصفى حمل وأعجز ميلاد، ومريم هي الفتاة العذراء التقية النقية التي اصطفاها الله جل وعلا من بين نساء العالمين، فنفخ فيها من روحه، ومنحها هذه المكانة الرقيقة الرقراقة بين أمهات الدنيا، أمها حنة بنت فاقود، وصلت سن اليأس، فتمنت على الله أن يرزقها الولد، لأنها تعلم أن الله على كل شيء قدير، فاستجاب الله دعاءها، وتحرك الحمل في بطنها، فأرادت أن تشكر الله على هذه النعمة، فقالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:35]، نذرت ما في بطنها لله جل وعلا، لخدمة بيت المقدس؛ جزاء ما رزقها الله تبارك وتعالى هذه النعمة، بعدما وصلت سن اليأس. ووضعت هذه البنت الجميلة التقية الطيبة، فنظرت إليها حزينة، وقالت: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ} [آل عمران:36]، فهو الذي رزق وهو الذي قدر، قال تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} [آل عمران:36] أي: الطاهرة: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:36 - 37]. ثم اختلف الناس في بيت المقدس، من الذي سيكفل مريم؟ من الذي سيتولى رعايتها وتربيتها؟ فقالوا: نضرب القرعة فيما بيننا، ننطلق إلى النهر، وكل واحد منا يلقي قلمه، فأيُّ قلم يعاكس التيار -يمشي في عكس تيار الماء- فصاحب هذا القلم هو الذي سيكفل مريم، فانطلقوا جميعاً وكلٌ ألقى بقلمه، وانجرفت الأقلام كلها مع تيار الماء، إلا قلماً واحداً مشى في عكس اتجاه التيار، فأخرجوا هذا القلم فوجدوه قلم زكريا عليه السلام: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} [آل عمران:37]. وتعجب زكريا عليه السلام من هذا الطهر والتعبد والزهد والعفاف الذي تحلت به مريم البتول، ومن تلك المكانة العالية التي عند الله عز وجل، فكلما دخل عليها زكريا وجد عندها رزقاً، قال أهل التفسير: وجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37]. وهكذا أيها الأخيار الكرام! وضع الله مريم في بستان الورع، بين أزهار التقى والعفاف والصلاح والنقاء، وترعرعت هذه الزهرة والنبتة الطيبة، ونشأت مريم في هذا المكان وفي هذا الجو الإيماني الطاهر العفيف، فاصطفاها الله وبشرها بهذه البشارة: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:42 - 44] وظلت مريم ساجدة، وظلت مريم راكعة حتى أراد الله جل وعلا أن يمنحها تلك المكانة الرفيعة بين أمهات الدنيا، فنفخ فيها جل وعلا من روحه؛ لتنجب عيسى عليه السلام، فبين الله للخلق عظيم قدرته، فكما أنه خلق آدم من غير أب ومن غير أم، خلق عيسى من أم دون أب، وخلق سائر الخلق من أم وأب؛ وليعلم الناس جميعاً أن الله على كل شيء قدير. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 3 بداية قصة الحمل بعيسى عليه السلام في يوم من الأيام خلت مريم بنفسها لقضاء شأن من شئون العذراء الخاصة، وفجأة انحبس صوتها وشخص بصرها، إنها مفاجأة مذهلة تأخذ العقول! بل وتصدع الأفئدة، ما هذا؟! بشر سويٌ في خلوة العذراء البتول الطاهرة؟! وسرعان ما استغاثت بالله، ولجأت إلى الله، ونظرت إليه وقالت: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:18]، أي: إن كنت ممن يتقي الله وممن يخشى الله فإني أعوذ بالرحمن منك، ولم تقل: فإني أعوذ بالجبار منك، ولم تقل: فإني أعوذ بالغفار منك، وإنما استجاشت الرحمة في قلبه بذكر اسم الرحمن، فقالت: إني أعوذ بالرحمن منك، أي: ارحم ضعفي! وارحم أنوثتي! وارحم خلوتي!! وكانت المفاجأة الأخرى أن نطق هذا البشر السوي في خلوة العذراء البتول الطاهرة قائلاً لها: لا تخافي ولا تحزني، فأنا رسول من الله إليك: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم:19 - 20]، فهي لا تتصور وسيلة أخرى مطلقاً للإنجاب إلا بهذه الوسيلة: أن يلتقي الرجل مع المرأة، وهي لم تتزوج بعد، ولم تفكر في الرذيلة من ناحية أخرى: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم:20]. وهنا يأتي هذا الرد الحاسم القاطع، فيقول هذا الملك والرسول الكريم: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم:21]. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 4 عظيم قدرة الله تعالى إنها قدرة الله، يا إخوة! إن من يحاول أن يصل بعقله إلى حدود قدرة الله كمن يحاول أن يكلف نملة أن تنقل جبلاً من مكان إلى آخر، إن قدرة الله لا حدود لها: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59] فلا تفكر بعقلك لتصل إلى منتهى قدرة الملك، فإن قدرة الله لا تحدها حدود، ولا يعجز الله شيء في الأرض ولا في السماء، فمن الذي خلق السماء بغير عمد ترونها؟! من الذي خلق الأرض، وشق فيها البحار والأنهار، وزينها بالأشجار؟! من الذي خلق الإنسان بهذا الإبداع والجمال؟! يد من التي امتدت إلى عينيك وأنفك وأذنك، فجعلت ماء الأذن مراً، وماء العين مالحاً، وماء الأنف حامضاً، وماء الفم حلواً، وأصل هذا الماء واحد وهو رأسك أيها الإنسان؟! يد من التي امتدت إلى سنبلة القمح فغلفتها بهذه الأغلفة الحصينة المكينة، وجعلت فوق كل حبة شوكة؛ لأن الله قد قدر أن تكون هذه الحبة طعاماً لك -أيها الإنسان- ولم يقدر أن تكون طعاماً للطيور أو غير ذلك؟! يد من التي امتدت إلى كوز الذرة فرصت على قولحته هذه الحبات اللؤلؤية البيضاء بهذا الإتقان والجمال والإبداع؟! يد من التي نجت يوسف من غيابة الجب؟! يد من التي نجت يونس من بطن الحوت؟! يد من التي نجت الحبيب المصطفى ليلة الهجرة؟! يد من التي نجت الخليل إبراهيم من وسط النيران؟! إنه الله، {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر:22 - 23]. قل للطبيب تخطفته يد الردى يا زاعماً شفا الأمراض من أرداك قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاك قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاك قل للبصير كان يحذر حفرةً فهوى بها من ذا الذي أهواك بل سائل الأعمى خطاً وسط الزحا م بلا اصطدام من يقود خطاك وسل الجنين يعيش معزولاً بلا راع ومرعى ما الذي يرعاك وسل الوليد بكى وأجهش بالبكاء لدى الولادة ما الذي أبكاك وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فسله من ذا بالسموم حشاك واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاك واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاك إنه الله!! {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم:21]، انتهى الأمر وقدره الله عز وجل. كن عن همومك معرضاً ودع الأمور إلى القضا وانعم بطول سلامة تسليك عما قد مضى فلربما اتسع المضيق وربما ضاق الفضا الله يفعل ما يشاء فلا تكن متعرضا {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم:21] فهو الذي خلق الخلق، خلق آدم يوم خلقه بلا ذكر أو أنثى، بلا أب أو أم!! الأمر لا يحتاج إلى تفلسف أو تعمق على الإطلاق: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم:21]، لا جدال فيه ولا نقاش ولا نزاع، فاطمأنت العذراء الطاهرة، وانشرح صدرها، واطمأنت نفسها وسكن فؤادها، وعلى الفور نفخ جبريل في جيب درعها -أي: في أعلى القميص- فحملت بأمر ربها: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:12]. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 5 ظهور الحمل والمخاض ثم ظهر الحمل، والراجح من أقوال المفسرين أن الحمل بعيسى كان حملاً عادياً تسعة أشهر، وإن كنا لا نشك أبداً أن الله جل وعلا قادر أن يجعل مريم تحمل بعيسى وتضعه في لحظة واحدة، نحن لا نشك في ذلك، لكن الصحيح الثابت من أقوال جماهير المفسرين: أن مريم حملت بعيسى حملاً عادياً تسعة أشهر. وبدأت بوادر الحمل كما هو معلوم للجميع، وهنا نظر يوسف النجار ذلكم الرجل الذي كان يخدم بيت المقدس مع مريم، نظر إلى بطنها تعلو يوماً بعد يوم فيتعجب! ولكن يدفع عن نفسه هذه الخواطر لعلمه بطهر مريم، ولكنه لم يستطع السكوت فقال لها: يا مريم! إني سائلك عن شيء ولا تعجلي علي، فقالت مريم: سل عما شئت يا يوسف، وقل قولاً جميلاً. فقال لها: يا مريم! هل ينبت زرع بغير بذر؟! وهل ينبت شجر بغير غيث أو مطر؟! وهل يكون ولد بغير أب؟!!! فقالت مريم: نعم يا يوسف. قال: كيف ذلك يا مريم؟!! فقالت: يا يوسف! ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم أنبته بغير بذر؟! وأنبت الشجر يوم خلقه بغير غيث أو مطر؟! وخلق آدم يوم خلقه من غير أب ومن غير أم؟! قال يوسف: أشهد أن الله على كل شيء قدير! وجاء مريم المخاض، وأوشكت على أن تضع هذا الرضيع وهذا الوليد، فخافت وخشيت الفضيحة، فحملت حملها في بطنها، وانطلقت إلى مكان بعيد: {فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:22 - 23] ولك أن تتصور امرأة ضعيفة تضع لأول مرة، لا يوجد معها أحد إلا الملك، ويا لها من معية، تضع رضيعها عليه السلام، وتبكي مريم وتقول قولاً يقطع الأكباد: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:23]، ماذا أقول للناس؟! لن يصدقني أحد. وتبكي مريم، وفي وسط هذه المحنة وهذه الآلام التي تدك الجبال دكاً، تسمع صوتاً رقراقاً رقيقاً جميلاً يسكب في قلبها الأمل، ويثبت في قلبها اليقين، يا إلهي!! من صاحب هذا الصوت؟! إنه صوت الطفل الرضيع إنه صوت عيسى الذي ولد منذ لحظات! ينادي على أمه بهذه الكلمات الطيبة، ويقول لها: {أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:24 - 26]، لقنت الحجة، وثبت الفؤاد، فحملت هذا الطفل المبارك الميمون الطاهر بكل قوة، وانطلقت به تحمله إلى قومها. والتف القوم حولها يا للفضيحة!! يا للعار!! يا مريم!! يا أخت هارون في الزهد والورع والتقى والعبادة! {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28] يا للعار! تحملين من الزنا، وبكل بجاحة تأتين بهذا الولد إلينا؟!! يا للفضيحة!! فلما ضاق الحال، وانحصر المجال، وانقطع المقال، عظم التوكل على ذي العظمة والجلال، فأشارت إليه فأنطقه الله في الحال: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم:29 - 36]. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 6 حمل المسيح وولادته يدلان على أنه عبد الله أعباد المسيح لنا سؤال نريد جوابه ممن وعاه ويا عجباً لقبر ضم رباً وأعجب منه بطن قد حواه أقام هناك تسعاً من شهور لدى الظلمات من حيض غذاه وشق الفرج مولوداً صغيراً ضعيفاً فاتحاً للثدي فاه ويأكل ثم يشرب ثم يأتي بلازم ذاك هل هذا إله تعالى الله عن إفك النصارى سيسأل كلهم عما افتراه {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17]، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، وصدق الله إذ يقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، لا ند له، ولا ضد له، ولا كفء له، ولا شبيه له، ولا زوج له، ولا ولد له، ولا والد له: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. لا أريد أن أطيل في هذا العنصر لأعرج على بقية العناصر، وإلا فوالله إنه يحتاج إلى لقاء مستقل، بل إلى لقاءات، ولكن أرى أنه من الجمال أن أختم هذا العنصر بهذا الحوار المبارك الكريم، الذي يبرئ به ربنا ساحة نبيه عيسى في آخر سورة المائدة فيقول سبحانه: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:116 - 118]. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 7 بل رفعه الله إليه ثانياً: بل رفعه الله إليه. زعم اليهود -عليهم لعائن الله المتتابعة- أنهم قتلوا عيسى بن مريم وصلبوه، وزعم النصارى -بجهل وغباء- أن عيسى قتل وصلب ودفن، وخرج من قبره بعد ثلاثة أيام، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الرب أبيه! وهو ينتظر إلى يوم الخلاص؛ ليقضي بين الأحياء والأموات!! {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:5]. فبين الله الحق، وكذّب اليهود والنصارى فقال سبحانه: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء:157 - 159]. قال أهل التفسير: إن الله عز وجل لما أراد أن يرفع إليه نبيه عيسى إلى السماء، بعدما انطلق اليهود لقتله، ألقى الله شبه عيسى على يهوذا الأسخريوطي الخائن، الذي أخذ اليهود ليدلهم على مكان نبي الله عيسى، فابتلاه الله فألقى عليه شبهه، فأخذه اليهود فقتلوه وصلبوه. هذا قول. القول الآخر: ما جاء عن ابن عباس -كما روى ذلك ابن أبي حاتم والنسائي بسند صححه الحافظ ابن كثير في تفسيره لسورة النساء- أنه قال: لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج إلى البيت في اثني عشر رجلاً من الحواريين -أي: من حوارييه وأنصاره- فخرج عليهم نبي الله عيسى، وقال: إن منكم من سيكفر بي بعد أن آمن بي، ثم قال لهم: أيكم يقبل أن يلقى عليه شبهي؛ ليقتل مكاني فيكون معي في درجتي في الجنة، فقام أحدثهم سناً وقال: أنا، فقال له نبي الله عيسى: اجلس، فجلس، ثم أعاد عيسى القول مرة ثانية، فقام نفس الشاب، فقال له عيسى: اجلس، فجلس، ثم أعاد عيسى قوله للمرة الثالثة، فقام نفس الشاب فقال عيسى: هو أنت، فألقى الله على هذا الشاب شبه عيسى، ورفع الله عيسى إلى السماء. وجاء الطلب من اليهود -أي: الذين يطلبون عيسى لقتله- فأخذوا هذا الشاب فقتلوه وصلبوه، فكفر بعض أتباع عيسى ممن آمنوا به كما ذكر لهم من قبل. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 8 الحكمة من نزول عيسى عليه السلام ثم ينزل الله عز وجل عيسى بعد ذلك؛ لحكم عديدة منها: أن الله تبارك وتعالى سينزل عيسى عليه السلام؛ ليكذب اليهود الذين زعموا أنهم قتلوه، وليكذب النصارى الذين جهلوا هذه الحقيقة، وليبين للناس جميعاً أن محمداً صلى الله عليه وسلم وأن الموحدين معه من أمته أولى الناس بعيسى؛ لأنه سيحكم العالم كله بكتاب الله وبشريعة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159]، روى ابن جرير بسند صحيح عن ابن عباس قال: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) أي: قبل موت عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وسيكون موته في الأرض. وقد يقول قائل: فما قولك إذاً في قول الله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران:55]؟! والجواب كما قال جمهور المفسرين: إن الوفاة في الآية معناها الوفاة الصغرى وهي النوم، كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام:60]. وكما في قول الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42] وكما في قول المصطفى إذا استيقظ من نومه: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور) فقوله: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أي: ألقى الله عليه سِنَةً من النوم، وهذه هي الوفاة الصغرى باتفاق، ثم رفعه الله عز وجل، ثم ينزله الله تبارك وتعالى بعد ذلك في الوقت الذي يشاء. قال ابن عباس: فانقسم الناس في رفع عيسى إلى ثلاث فرق: فقالت فرقة: كان فينا الله -والعياذ بالله- ثم صعد إلى السماء، وهؤلاء هم اليعقوبية، وهي فرقة من فرق النصارى. وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء هم النسطورية. وقالت فرقة ثالثة: كان فينا عبد الله ورسوله، ما شاء الله له أن يكون ثم رفعه الله إليه، ثم ينزله إذا شاء، وهؤلاء هم المسلمون. قال ابن عباس: فتظاهرت الفرقتان الكافرتان على الفرقة المسلمة، فقتلوا الفرقة المسلمة، ثم طمس الإسلام ولم يظهره الله إلا ببعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فبين لنا الحق في هذه القضية، وقرأ علينا قول ربنا جل وعلا: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] إلى قوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158] إلى قوله: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} [النساء:159] أي: ليؤمنن بعيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء:159]. والله أسأل أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 9 نزول عيسى إلى الأرض من السماء الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: الجزء: 19 ¦ الصفحة: 10 نزول عيسى علامة للساعة فيا أيها الأحبة الكرام! بين لنا الحق جل وعلا أنه رفع عيسى إليه إلى يوم الوقت المعلوم، الذي سينزله فيه مرة أخرى إلى الأرض؛ ليكون علامة كبرى على قيام الساعة، فقال تبارك وتعالى في سورة الزخرف مخاطباً نبيه المصطفى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:57]، إلى قوله سبحانه: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:61]. وفي قراءة ابن عباس ومجاهد (وإنه لَعَلَم للساعة) فنزول عيسى علامة وأمارة على قيام الساعة. (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) أو: (وإنه لَعَلَم)، أي: لعلامة وأمارة على قيام الساعة. بل وروى ابن جرير بسند صحيح أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (وَإِنَّهُ لَعلمٌ لِلسَّاعَةِ) هو خروج عيسى عليه السلام، فإن نزل فهذه علامة كبرى تدل على قرب قيام الساعة، وقال تعالى في الآية التي ذكرت آنفا: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159] أي: قبل موت عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام. وقد بينت السنة الصحيحة المتواترة نزول عيسى -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- إلى الأرض من السماء. تدبر معي بعض هذه الأدلة: ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم عيسى بن مريم حكماً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد). قوله: (والذي نفسي بيده) قسم من المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ليوشكن أن ينزل فيكم عيسى بن مريم حكماً مقسطاً) أي: عادلاً (فيكسر الصليب) ليبطل زعم النصارى: أن هذا الصليب هو الذي صلب عليه عيسى -تعالى الله عما يقولون- قوله: (ويقتلُ الخنزير) أو: (ويقتلَ الخنزير) واللغتان صحيحتان، قوله: (ويضع الجزية ويفيض المال)، أي: يكثر المال حتى يخرج الرجل بماله وبصدقته يتمنى أن يمر عليه فقير؛ ليأخذ الصدقة فلا يجد، اللهم عجل بهذه الخيرات والبركات يا رب الأرض والسماوات! الجزء: 19 ¦ الصفحة: 11 صفات عيسى الخَلْقية والخُلُقية أيها الحبيب! لا تعجب إذا قلت لك: بأن الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، قد بين وحدد لنا شكل عيسى ووصف لنالونه ووجهه عليه السلام، بل وثيابه ورأسه وعرقه، وفي أي مكان ينزل. اسمع ماذا قال الحبيب! والحديث رواه أبو داود في سننه بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: (ليس بيني وبين عيسى نبي، وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه، إنه رجل مربوع -أي: ليس بالقصير ولا بالطويل ولا بالنحيف ولا بالسمين- إلى الحمرة والبياض كأن رأسه يقطر ماء من غير بلل). وفي رواية النواس بن سمعان في صحيح مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ينزل عيسى عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين)، وفي رواية: (بين ممصرتين أو مهرودتين -أي: ثوبين مصبوغين بصفرة خفيفة يسيرة- واضعاً كفيه على أجنحة ملكين). ثم يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفع رأسه تحدر منه جمان كحبات اللؤلؤ) أي: إذا رفع عيسى رأسه نزلت حبات من الماء على وجهه كحبات لؤلؤية فضية بيضاء، وإذا رفعه تحدر منه جمان كحبات اللؤلؤ، وصف عجيب! وينطلق نبي الله أول الأمر إلى بيت المقدس -اللهم طهره من دنس اليهود يا عزير يا حميد- وأبشر أيها الحبيب! فهناك حيث حاصر الدجال المسلمين حصاراً عنيفاً، وفتن المسلمين فتنة قاسية شديدة، قال المصطفى: (فينزل نبي الله عيسى على المسلمين الموحدين -من أتباع سيد النبيين- وهم يصلون صلاة الصبح)، فإذا رأى الإمام الفطن الذكي نبي الله عيسى عرفه فتقهقر -أي: أراد أن يرجع إلى الخلف- ليتقدم نبي الله عيسى، فيقول له نبي الله: لا، ويأخذه من كتفه ويقدمه، ويقول: صل أنت فإن الصلاة لك أقيمت، فإن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله لأمة محمد)، أي: تكرمة الله لهذه الأمة الميمونة المباركة، فمن بين أضلاع هذه الأمة من يصلي إماماً بنبي الله عيسى! الجزء: 19 ¦ الصفحة: 12 قتل عيسى للدجال يا لها من كرامة! لأمة الحبيب المحبوب بأبي هو وأمي صلى الله عليه وآله وسلم: (فيصلي نبي الله عيسى خلف إمام المسلمين، فإذا انتهوا من الصلاة انطلق نبي الله عيسى إلى باب بيت المقدس، وأمرهم أن يفتحوا الباب، فإذا فتحوا الباب رأوا الدجال خلف الباب، معه سبعون ألف يهودي بالسيوف، فإذا نظر الدجال إلى نبي الله عيسى ذاب كما يذوب الملح في الماء، فيتبعه نبي الله عيسى ويمسك به عند باب لد الشرقي) انظر إلى التحديد العجيب! ولد: مدينة معروفة الآن بفلسطين، (فيقتله. ثم يريد أن يثبت لهم أنه قتله، فيري نبي الله عيسى دم الدجال على رأس حربة) كما في رواية. وهكذا أيها الأخيار! يريح الله المؤمنين من شر الدجال على يد نبي الله عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام، وتعيش الأرض بعد قتل وهلاك يأجوج ومأجوج -كما سأفصل إن شاء الله بعد ذلك- حالة فذة حالة فريدة في تاريخ البشرية كله، ينزل الأمن والرخاء والاستقرار، وتخرج الأرض بركتها، حتى قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لو وضعت حبك على الصفا -أي: على الحجر- لنبت). الجزء: 19 ¦ الصفحة: 13 الرخاء بعد مقتل الدجال جاء في مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان، وصحح السند الحافظ ابن حجر من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه: أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (فيهلك الله في زمان عيسى الملل كلها إلا الإسلام) {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وكما وعد في قرآنه: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33]: (فيهلك الله الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك الله المسيح الدجال، وتنزل الأمنة في الأرض -أي: الأمان- حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم) الله أكبر! وفي حديث أبي أمامة وسنده صحيح، قال المصطفى: (فيكون الذئب مع الغنم كأنه كلبها، ويمر الوليد على الأسد فلا يضره، وتمر الوليدة على الحية فلا تضرها)، رفع الظلم واستقر الأمن والأمان والرخاء، وزادت البركة، وكثر الخير. بل وفي رواية النواس بن سمعان قال صلى الله عليه وسلم: (فيقال للأرض: أنبتي ثمرتك، وردي بركتك، ويبارك في الضرع حتى إن اللقحة من الإبل -وهي التي وضعت ولدها حالاً- لتكفي الفئام من الناس -أي: لتكفي الجماعة الكبيرة من الناس- وإن الرمانة لتكفي الفئام من الناس، وإنهم ليستظلون بقحطها) بكسر القاف أي: بقشرة الرمانة. بركة عجيبة! فهذه الرمانة التي تراها في يدك، سترى لها حجماً آخر في أوقات البركات التي تتنزل على الأرض من رب الأرض جل وعلا. وهكذا -أيها الأحبة- تعيش الأرض حالة فريدة، وفي الحديث الذي رواه الديلمي والضياء المقدسي وصححه الألباني في الصحيحة من حديث أبي هريرة، أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (طوبى لعيش بعد المسيح! طوبى لعيش بعد المسيح! يؤذن للسماء في القطر، ويؤذن للأرض في الإنبات، حتى لو وضعت حبك على الصفا -أي: على الحجر- لنبت)! وأكتفي بهذا القدر، وأسأل الله أن يملأ قلوبنا وإياكم إيماناً باليوم الآخر، وأن نأخذ هذا الكلام مأخذاً يجعلنا مستعدين لذلك اليوم وتلك اللحظات، وللقاء رب الأرض والسماوات، فإن الحديث عن الآخرة وعلاماتها ليس من باب الترف الفكري، ولا من باب الثقافة الذهنية الباردة، وإنما الإيمان باليوم الآخر وعلاماته ركن من أركان الإيمان. أسأل الله أن يملأ قلوبنا وإياكم إيماناً به، وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا. اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك. اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض، اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض. اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع المبارك ذنباً إلا غفرته ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً بيننا إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً. اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين، ولا مفرطين ولا مضيعين ولا مغيرين ولا مبدلين. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الغلاء والوباء والبلاء برحمتك يا رب الأرض والسماء! اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن إنك على كل شيء قدير. أيها الأحبة الكرام! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه، ثم يلقى في النار. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 14 علامات الساعة الكبرى - يأجوج ومأجوج يأجوج ومأجوج أمتان من البشر من ذرية آدم عليه السلام، ولهم مع ذي القرنين قصة ذكرت في سورة الكهف، ويتميزون على بقية البشر بالاجتياح المروع، والكثرة الكاثرة في العدد والتخريب، والإفساد في الأرض بصورة لم يسبق لها مثيل، وذلك قرب قيام الساعة، حتى يأذن الله بنزول عيسى عليه السلام، فيكون هلاكهم عل يديه ومن معه من المؤمنين، ويعد خروجهم من علامات الساعات الكبرى. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 1 خروج يأجوج ومأجوج بين يدي الساعة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الكريم جل وعلا الذي جمعنا وإياكم في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! في رحاب الدار الآخرة: سلسلة علمية هامة تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي؛ الهدف منها: تذكير الناس بحقيقة الدنيا؛ للإنابة والتوبة إلى الله جل وعلا، قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية، ولا إلى أهلهم يرجعون. وهذا هو لقاؤنا السادس من لقاءات هذه السلسلة، وكنت قد تحدثت في اللقاءين الماضيين عن علامتين من علامات الساعة الكبرى، ألا وهما: الدجال، ونزول عيسى عليه السلام، وحديثنا اليوم -إن شاء الله تعالى- عن علامة أخرى من هذه العلامات الكبرى التي ذكرها المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح، الذي رواه مسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري قال: (اطلع علينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر، فقال المصطفى: ما تذاكرون - أي: في أي شيء تتحدثون وتتكلمون- فقالوا: نذكر الساعة يا رسول الله! فقال المصطفى: إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات، وهي: الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم). تكلمنا عن الدجال وعن نزول عيسى عليه السلام، وحديثنا اليوم -إن شاء الله تعالى- عن يأجوج ومأجوج. وكعادتنا حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعاً، فسوف أركز الحديث -مع حضراتكم اليوم- عن يأجوج ومأجوج في العناصر التالية: أولاً: تأصيل لغوي وشرعي مختصر . ثانياً: بعث النار. ثالثاً: ذو القرنين ويأجوج ومأجوج. رابعاً: خروجهم بين يدي الساعة. وأخيراً: عيسى بن مريم والدعاء المستجاب. فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب! والله أسأل أن يجعلني وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 2 تأصيل لغوي وشرعي مختصر أولاً: تأصيل لغوي وشرعي مختصر: أيها الأحبة! لقد أورد كثير من المؤرخين والمفسرين أخباراً عجيبة، وروايات غريبة عن يأجوج ومأجوج، ذكروا في هذه الروايات والأخبار أصلهم، ونسبهم، وأشكالهم، وألوانهم، ومكانهم!! وهذه الأخبار والروايات لا تعدو أن تكون مجرد خرافات وأوهام وخيالات وأساطير؛ لأنها أُخِذَت من الإسرائيليات، أُخِذَت من غير المصادر اليقينية، أي: القرآن والسنة الصحيحة النبوية، ولا يجوز ألبتة لأحدٍ أن يتكلم في مثل هذه الأمور الغيبية إلا بالدليل الصريح من القرآن، أو بالدليل الصحيح من سنة النبي عليه الصلاة والسلام. فلسنا في حاجة -على الإطلاق- لأن نلهث وراء الإسرائيليات والأخبار العجيبة والموضوعة، لنتكلم عن يأجوج ومأجوج أو عن ذي القرنين، وإنما يجب علينا جميعاً أن نقف عند النص اليقيني في كتاب ربنا، وفي سنة الحبيب نبينا؛ ففيهما الغنى، فلو علم الله في الزيادة -عما ذكر في القرآن، وعما ذكره المصطفى- خيراً لذكرها لنا. إذاً: فلنقف أمام النص القرآني، وأمام الحديث النبوي الصحيح، من كلام الذي لا ينطق عن الهوى، صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبعد هذه الكلمات أقول: يأجوج ومأجوج أُمَّتَانِِ من البشر من ذرية آدم عليه السلام، يتميزون على بقية البشر بالاجتياح المروع، والكثرة الكاثرة في العدد والتخريب، والإفساد في الأرض بصورة لم يسبق لها مثيل!! وقال المحققون من أهل اللغة -نقلاً عن ابن منظور في لسان العرب وغيره من أهل اللغة-: يأجوج ومأجوج اسمان أعجميان مشتقان من أجيج النار، أي: من التهابها، ومن الماء الأجاج: وهو الشديد الملوحة والحرارة. فشبَّهوهم بالنار المضطرمة المتأججة، وبالمياه الحارة المحرقة المتموجة؛ لكثرة تقلبهم، واضطرابهم، وتخريبهم، وإفسادهم في الأرض. هذا هو التأصيل الذي لابد منه بداية؛ حتى لا نعطي لخيالنا العنان؛ لنلهث وراء الخرافات والأساطير والأوهام. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 3 من هم بعث النار؟ لذا أخبرنا المصطفى أن يأجوج ومأجوج هم بعث النار يوم القيامة، وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء: ولن تجد عندي اليوم إلا آية أو حديثاً صحيحاً عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، كما فصلنا وقررنا في أول لقاء. ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى يوم القيامة: يا آدم! فيقول آدم: لبيك وسعديك والخير في يديك، فيقول الله جل وعلا: أَخْرِج بعث النار -أي: من أمتك- فيقول آدم عليه السلام: وما بعث النار يا رب؟! -تدبر- فيقول الملك: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون -اللهم سلم سلم!! من كل ألف في أرض المحشر تسعمائة وتسعة وتسعون إلى جهنم- إلى النار، فشق ذلك على أصحاب النبي المختار) وفي رواية: (فيئس القوم، حتى ما أبدوا بضاحكة) وفي رواية: (فبكى أصحاب المصطفى وقالوا: يا رسول الله! وأينا ذلك الواحد؟) -رجل من الألف ينجو من النار فأينا ذلك الرجل؟ - فقال المصطفى: (أبشروا! أبشروا! فمن يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد، ثم قال المصطفى: والذي نفسي بيده! إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة! فكبرنا!! -كبر أصحاب النبي، أي: قالوا: الله أكبر، أمة النبي من بين جميع الأمم تشغل ربع أهل الجنة، فكبر أصحاب النبي، أي: قالوا: الله أكبر- ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة. فكبرنا!! فقال المصطفى في الثالثة: والله إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة). الجزء: 20 ¦ الصفحة: 4 أمة النبي أمة مرحومة وميمونة أمة النبي أمة مرحومة أمة النبي أمة ميمونة. قال الشاعر: ومما زادني فخراً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبيا اسجد له شكراً أنك من أمة الحبيب محمد، فأمة المصطفى أمة مرحومة أثنى عليها ربها، وأثنى عليها نبيها صلى الله عليه وسلم. قال الله لها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، وقال الله لها: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] وقال في حقها المصطفى الصادق -والحديث رواه الترمذي وأحمد وابن ماجة بسند حسن: (أنتم موفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله جل وعلا). بل وفي صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يدعى نوح يوم القيامة، فيقال له: يا نوح! هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، يا رب! فيدعى قومه، ويقال لهم: هل بلغكم نوح؟ فيقول قوم نوح: لا، ما بلغنا، وما أتانا من نذير، فيقول الحق جل وعلا -وهو أعلم-: من يشهد لك يا نوح! أنك بلغت قومك؟ فيقول نوح: يشهد لي محمد وأمته، يقول المصطفى: فتدعون، فتشهدون له بالبلاغ، ثم أدعى فأشهد عليكم. وذلك قول الله جل وعلا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]) بل ومن الأحاديث الممتعة التي تبين فضل السابقين واللاحقين من أمة سيد النبيين: ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبى هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة يوماً -أي: لزيارتها- فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون وإنّا -إن شاء الله- بكم لاحقون. ثم قال الحبيب: وددت أنَّا قد رأينا إخواننا. فقال الصحابة: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواننا قوم لم يأتوا بعد. فقال الصحابة: فكيف تعرف من لم يأتِ بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال المصطفى: أرأيتم لو أن رجلاً له خيلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَة -والغرة: الشعر الأبيض في جبين الفرس، والتحجيل: الشعر الأبيض حول ساق أو قدم الفرس يخالف لون الشعر في الفرس كله، كأن يكون الفرس أسود اللون فالغرة تكون باللون الأبيض- بين ظَهْرَي خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ -أي: سود- ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى، يا رسول الله! فقال المصطفى: فأنا أعرفهم يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء) فأمة النبي أمة مرحومة. أما حينما خاف الصحابة، وقالوا: يا رسول الله! أينا ذلك الواحد؟! فقال: أبشروا! فمن يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد؛ فإنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين الطبيعة الشريرة والسيئة لهاتين الأمتين الخبيثتين: يأجوج ومأجوج، وليبين المصطفى في الوقت ذاته الطبيعة الخيرة الكريمة المباركة لأمة الحبيب محمد، نسأل الله عز وجل أن يحشرنا وإياكم جميعاً تحت لوائه، وأن يسقينا بيده الشريفة شربة هنيئة ولا نظمأ بعدها أبداً، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أزيدك بياناً عن طبيعة يأجوج ومأجوج بعد أن أقف -مع حضراتكم- مع هذا الحوار الجميل بين ذي القرنين، وقوم تعرضوا للفساد والإيذاء على أيدي يأجوج ومأجوج، وهذا هو عنصرنا الثالث بإيجاز. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 5 ذو القرنين ويأجوج ومأجوج أيها الحبيب! لقد حكى الله قصة ذي القرنين في سورة واحدة من سور القرآن، ألا وهي: سورة الكهف، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:83 - 98]. هذه هي قصة ذي القرنين مع يأجوج ومأجوج، وأقول لك: إن قصة ذي القرنين هي الأخرى قد نُسِجَ حولها من الأساطير والخرافات، والخيالات والأوهام ما يندى له جبين التحقيق خجلاً وحياءً!! لا يجوز لأحد -يحترم علمه وعقله- أن يتجاوز النص القرآني في قصة ذي القرنين، فما ذكره الله في القرآن عن ذي القرنين فيه الغنى وفيه الكفاية، ولسنا في حاجة لأن نلهث وراء الإسرائيليات؛ لننسج حول شخصية ذي القرنين الأساطير والخرافات والأوهام. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 6 من هو ذو القرنين؟ ذو القرنين عبد صالح، اختلف أهل التفسير في نبوته، لكن لا يستطيع أحد أن يجزم بذلك. هذا الرجل تبدأ قصته بسؤال المشركين للنبي المصطفى عن ذي القرنين، في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} [الكهف:83]، ويأتي الجواب من الله جل وعلا: (قل) يا محمد! وكلمة (قل) يسميها علماء التفسير وعلماء اللغة (قل) التلقينية، أي: القصة ليست من عند رسول الله، بل هي وحي من عند الله جل وعلا، يأمر به المصطفى أن يقول لمن سأل عن ذي القرنين: {قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:83]، وكلمة (منه) من فيها هي التبعيضية، أي: سأتلو عليكم بعض الشيء من قصته، ولا أتلو عليكم قصة ذي القرنين بكامل فصولها، كما ذكر القرآن قصصاً بكاملها في كثير من السور، كقصة يوسف وقصة موسى، بل سأتلو عليكم منه ذكراً، سأتلو عليكم بعض الشيء من قصة ذي القرنين. ولو علم الله في الزيادة عن النص القرآني خيراً لذكرها لنا. فلنقف عند ما ورد في القرآن، وعند ما ثبت في حديث النبي عليه الصلاة والسلام. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 7 التمكين في الأرض من الله عز وجل قال الله تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ} [الكهف:84]، فمن الذي مَكَّنَ لـ ذي القرنين؟ الله. {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف:84]، الذي مكن له هو الله، أعطاه من الأسباب ما استطاع به أن يفتح وأن ينتصر وأن يجوب البلاد شرقاً وغرباً وشمالاً إلخ. ولفظة التمكين إن فتشت عنها في القرآن سترى أنها في كل مرة وردت تنسب إلى الله رب العالمين، وهذه قاعدة إيمانية ينبغي أن تؤصل في القلوب. فالذي يُمَكِّن للدول والأمم والشعوب هو الله، والذي يمكن لهذا الحاكم هو الله، والذي يأمر بزوال وهلاك هذا الحاكم هو الله، فيجب علينا جميعاً أن تتعلق قلوبنا بالملك الذي يفعل كل شيء، مع الأخذ بالأسباب، فهذا من حقيقة التوكل على الله عز وجل. لا تسود أمة إلا بإذن الله، ولا تزول أمة إلا بإذن الله، ولا يسود حاكم إلا بإذن الله، ولا يزول حاكم إلا بإذن الله {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ} [الكهف:84]. وقال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26] ثم قال الله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف:84 - 85]، أي: بأسباب التمكين والنصر والفتح والظهور. فهناك من الأمم من يمكن الله لها، فتأخذ بأسباب التمكين، فيزيدها الله ثباتاً وتمكيناً، فإن فرطت أذهب الله عنها التمكين. وهناك من الحكام من إذا مكن الله له أخذ بوسائل التمكين، فزاده الله رفعة ونصراً فإن فرط في هذه الأسباب والوسائل أمر الله عز وجل بزواله وهلاكه. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 8 رحلة ذي القرنين الأولى ويبدأ ذو القرنين الرحلة الجهادية الأولى في سبيل الله نحو المغرب. قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا} [الكهف:86] ومن المعلوم أن الشمس ليس لها مشرق واحد ولا مغرب واحد، بل لها عدة مشارق ولها عدة مغارب. قال تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} [المعارج:40] لها مشارق ومغارب بحسب فصول السنة وأيامها وشهورها، لها مشارق ومغارب بحسب الأماكن، لها مشارق ومغارب بحسب رؤية الرائي إلى قرص الشمس أثناء الشروق أو الغروب. {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} [الكهف:86] فبين ذو القرنين منهجه العادل ودستوره الحكيم،: {أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا} [الكهف:87] وأما من آمن ووحد الله عز وجل واستقام على منهج الله، {فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:88]. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 9 رحلة ذي القرنين الثانية ثم انطلق نحو المشرق في رحلة ثانية: قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} [الكهف:90] لا يحمي هؤلاء الناس والقوم شيء على الإطلاق، لا يحول بينهم وبين الشمس شيء. ثم قال سبحانه وتعالى: {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} [الكهف:91]، أي: علم الله عز وجل كل ما يدور في قلبه وفي نفسه. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 10 رحلة ذي القرنين الثالثة وتبدأ الرحلة الثالثة التي هي محل الشاهد في موضوعنا: قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} [الكهف:93] بين جبلين عظيمين. {وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} [الكهف:93]. لا يعرفون لغة ذي القرنين، أو لا يستطيعون أن ينفتحوا على غيرهم من الأمم، فهم قوم منعزلون على أنفسهم، تعرضوا لأشد الهجمات، وأعنف الضربات على يد يأجوج ومأجوج، فلما رأوا ذا القرنين الملك الفاتح العادل، توسلوا إليه، وانطلقوا وقوفاً بين يديه، وقالوا: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف:94]. هل نبذل لك من أموالنا ما تشاء وما تريد، على أن تبني لنا سداً منيعاً يحمينا من يأجوج ومأجوج؟ فرد عليهم بزهد وورع وقال: لا حاجة لي في أموالكم {مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف:95]. لقد أعطاني الله عز وجل من وسائل التمكين ما أغناني به عن مالكم، ولكنه لمح فيهم الكسل، فأراد أن يشركهم في هذا المشروع العظيم، وفي هذا العمل الضخم، فقال لهم: ولكن! {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف:95] أي: قال بلغة العصر: أما عن التخطيط الهندسي والمعماري والإنفاق المادي لبناء هذا السد، ولإقامة هذا المشروع، فسنتكفل بذلك، ولكننا في حاجة إلى العمال؛ يحملون ويبنون ويقيمون هذا العمل، فأعينوني بقوة من أنفسكم أجعل بينكم وبينهم ردماً. وأمر ذو القرنين -المهندس البارع الذي سبق علماء الهندسة المعاصرين بعدة قرون- بالبدء في المرحلة الأولى من مراحل هذا المشروع، فقال: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} [الكهف:96]، أي: اجمعوا لي قطع الحديد الضخمة. فانطلق هؤلاء وجمعوا قطع الحديد الضخمة، وأمرهم بوضع هذه القطع في مكان ضيق بين هذين السدين، فلما وضعت قطع الحديد وساوت قمة الجبلين قال: انفخوا تحت هذه القطع النار المشتعلة التي تصهر هذا الحديد، ولك أن تتصور حجم هذه النيران التي اشتعلت لتصهر أطناناً من الحديد، لا يعلم وزنها إلا العزيز الحميد، أشعل النيران تحت هذا الحديد بين السدين حتى ذاب الحديد وانصهر، وكان يريد بذلك أن يسد على يأجوج ومأجوج الطريق الذي ينفذون منه إلى هذه الأمم المسكينة المغلوبة على أمرها!! ثم ذو القرنين أن يدخلوا في المرحلة الثانية من مراحل البناء، ألا وهي أن يذيبوا النحاس حتى ينصهر. فلما انصهر النحاس، أمرهم بصب النحاس على الحديد، فتخلل النحاس مع الحديد، فأصبح النحاس والحديد معدناً واحداً؛ ليزداد صلابة وقوة، فلا يستطيع قوم يأجوج ومأجوج أن يتسلقوه أو أن ينقبوه. وبذلك يكون قد سبق العلم المعاصر في تقوية الحديد بالنحاس، واستطاع أن يساوي بين الصَّدَفين بهذا الحديد وبهذا النحاس؛ وبعمله هذا تتبين لنا سمات القيادة الفذة، وسمات القيادة الناجحة، التي تستطيع أن تجمع بين الخيوط والخطوط، والتي تستطيع أن تجمع بين المواهب والطاقات والقدرات والإمكانيات؛ لتستغل الموارد والطاقات أعظم استغلال. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 11 أهمية اتصاف القائد بالحنكة والإيمان وما أحوج الأمة إلى هذه القيادة الفذة، فكم في الأمة من طاقات معطلة؟! وكم في الأمة من مواهب ضائعة؟! وكم في الأمة من موارد مهدرة؟! وكم في الأمة من شباب حيارى؟! كل هذه الطاقات وكل هذه المواهب وكل هذه الإمكانيات في حاجة إلى قيادات فذة فريدة لا تجامل أحداً على الإطلاق على حساب المصلحة، وهذا ما بينه لنا أيضاً ذو القرنين، عندما قال: أما من آمن فله الجزاء الأوفى، وأما من ظلم فله العذاب. ما أحوج الأمة كذلك إلى هذا الدرس، الذي يبين لنا ذو القرنين به منهجاً في التنظيم الوظيفي والإداري، لو عملت الأمة به لسعدت!! انظر الآن إلى هذا التنظيم الذي اختل في عالمنا المعاصر: أصبح المتملقون والمنافقون هم أصحاب المكانة القريبة من المسئولين، وأصبح المخلصون العاملون الجادون، الذين لا يجيدون العزف على وتر النفاق، ولا يحسنون الضرب على أعواد المداهنة أصبحوا لا نصيب لهم في المنح بل والوظائف؛ لأن الأمة تجامل على حساب المصلحة، بل وعلى حساب منهج ربها جل وعلا. ذو القرنين يبين لنا سمات القيادة الناجحة، فلما نظر إلى هذا الصرح العظيم لم تسكره نشوة القوة والعلم، ولم يقل: هذا هو فن الإدارة، لم يقل: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]. وإنما نسب الفضل لصاحب الفضل جل وعلا، فقال: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} [الكهف:98]. ثم بين معتقده الصافي في الإيمان بالبعث، والإيمان بيوم القيامة، فقال لهم: إن الذي أمر ببناء هذا السد هو الله، وإن الذي أمر بقتل يأجوج ومأجوج هو الله، وإن الذي سيأذن لهم في الخروج إذا شاء هو الله، وحتماً سيأتي يوم على هذا السد المنيع؛ ليجعله الله عز وجل دكاء، أي: يسويه بالأرض كما يسوي جبال الأرض كلها بالأرض، وذلك لا يكون إلا بين يدي الساعة. قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:105 - 111]. قال الله تعالى على لسان ذي القرنين: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98]. هكذا يبين ذو القرنين العقيدة الصافية في الإيمان بالبعث، في الإيمان بيوم القيامة وعلاماته الكبرى، يأذن الحق تبارك وتعالى ليأجوج ومأجوج في الخروج، حينئذ يستطيعون أن يثقبوا هذا الثقب، وأن يخرجوا إذا قدر الله عز وجل الوقت المعلوم لخروجهم. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 12 خروج يأجوج ومأجوج بين يدي الساعة وهذا هو عنصرنا الرابع من عناصر هذا اللقاء: خروجهم بين يدي الساعة في صحيح البخاري من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوماً فزعاً، وهو يقول: (لا إله إلا الله!! لا إله إلا الله!! ويل للعرب من شر قد اقترب!! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه. وحلق النبي هكذا بالإبهام والتي تليها -أي: بالإبهام والسبابة- فقالت زينب بنت جحش: يا رسول الله! أَنهلِكُ وفينا الصالحون؟! فقال المصطفى: نعم، إذا كَثُرَ الخبث). ووالله! لقد كثر الخبث، وإذا كثر الخبث يهلك الصالح والطالح، ويبعث الله الصالحين والطالحين على نياتهم. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 13 سبب تأخرهم عن الخروج وتدبر معي هذا الحديث: الذي رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم في المستدرك، وصحح الحاكم الحديث على شرط الشيخين، وأقر الحاكم الذهبي والألباني في السلسلة من حديث أبي هريرة أن الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى قال: إن يأجوج ومأجوج يحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قالوا: ارجعوا فستحفرونه غداً، فيرجعون، فيعيد الله السد أشد مما كان، حتى إذا أراد الله أن يبعثهم خرجوا يحفرون السد، فقال الذي عليهم إذا ما رأوا شعاع الشمس: ارجعوا، وستحفرونه غداً إن شاء الله تعالى -فأتوا بالمشيئة في هذه المرة فيعودون فيرون السد كهيئته التي تركوه عليها، فيحفرونه ويخرجون فيشربون الماء]، وفي رواية مسلم في حديث النواس بن سمعان (فيمرون على بحيرة طبرية، فإذا مَرَّ أوائل يأجوج ومأجوج شربوا ماء البحيرة كله حتى جففوا البحيرة عن آخرها!! فإذا جاء أواخر يأجوج ومأجوج، ومروا على البحيرة قالوا: لقد كان بهذه مرة ماء!) وهم لا يعلمون أن أوائل هاتين الأمتين هي التي جففت البحيرة من مائها، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (فيخرجون فينشفون الماء -أي: يجففون ويشربون الماء -فيخاف الناس ويتحصنون منهم في الحصون- يتركون لهم الشوارع والطرقات لا قدرة لأحد بقتالهم- فيقول يأجوج ومأجوج: لقد قتلنا أهل الأرض، فهلم لنقتل أهل السماء -وانظر إلى هذا الفجور، وبهذه العبارة تستطيع أن تتصور حجم الفساد الذي قاموا به في الأرض- وبالفعل يوجهون النشاب -أي: السهام- إلى السماء، فيريد الملك أن يبتليهم، فيرد الله عليهم نشابهم ملطخة دماً، فيقولون: قهرنا أهل الأرض، وعلونا أهل السماء). ] في الوقت الذي تبتلى فيه الأرض بهذه الفتنة تكون فتنة أخرى قد عصفت بأهل الأرض عصفاً، ألا وهي فتنة الدجال، ويمن الله على عباده فينزل عيسى عليه السلام، وهذا ما سنتعرف عليه في اللقاء الأخير بعد جلسة الاستراحة ألا وهو عيسى بن مريم والدعاء المستجاب ؛ لنرى كيف أهلك الله عز وجل يأجوج ومأجوج بفضله ومنته ورحمته على يد نبيه عيسى، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 14 عيسى بن مريم والدعاء المستجاب الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. وأخيراً: عيسى بن مريم والدعاء المستجاب. تفتن الأرض هكذا كما رأينا بيأجوج ومأجوج وبالدجال، فيُنزل الله تبارك وتعالى عيسى بن مريم عليه السلام، كما في حديث النَّواس بن سمعان الذي رواه مسلم وفيه قال المصطفى: (فبينما هو كذلك -أي: الدجال- إذ أنزل الله عز وجل عيسى بن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، ينزل عيسى بين مهرودتين (أى: بين ثوبين مصبوغين) واضعاً كَفَّيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفع رأسه تحدَّر منه جمان كحبات اللؤلؤ -أي: تقطر منه الماء كحبات اللؤلؤ الأبيض- فيطلب عيسى بن مريم الدجال حتى يدركه عند باب لُدّ -وهي مدينة بفلسطين- فيقتل عيسى بن مريم الدجال عليه لعنة الله، فبينما هم كذلك إذ بعيسى بن مريم يأتي قوماً نجاهم الله من الدجال، فيمسح عيسى بن مريم على رءوسهم ووجوههم، ويبشرهم بدرجاتهم -يبشر نبي الله عيسى هؤلاء القوم من أمة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم بدرجاتهم في الجنة- يقول المصطفى: فبينما هم كذلك إذ أوحى الله تعالى إلى عيسى أني قد أرسلت أو أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم -أي: لا طاقة ولا قدرة لأحد بقتالهم- فيبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون) أي: ينتشرون ويغطون من فوق المرتفعات والجبال، والحدب هو: المكان المرتفع. وهم من كل حدب ينسلون على وجه الأرض، ثم يأمر الله تعالى عيسى أن يحرز عباده إلى الطور؛ لأنه لا طاقة لأحد بقتالهم كما قال الله، فيأخذ نبي الله عيسى من آمن ومن وحد الله إلى جبل الطور، ويتحصن نبي الله عيسى مع أصحابه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويحشر نبي الله عيسى وأصحابه، ثم يرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، ويتضرعون إلى الله عز وجل أن يهلك يأجوج ومأجوج؛ لأنه لا يستطيع أن يهلكهم إلا الملك) فيستجيب الله دعاء عيسى وأصحابه وأمة النبي محمد، فيرسل الله على يأجوج ومأجوج النغف في رقابهم) والنغف: هو الدود الصغير، وتدبر قدرة الملك، تدبر عظمة الملك، والله ما أحوج الأمة إلى أن تمتلئ قلوبها يقيناً بقدرة الملك جل جلاله، ما أحوجنا إلى أن نتعرف على عظمة الله وعلى جلال الله، وعلى قوة الله فإن الله إذا أراد للشيء أن يكون قال له: كن، فيكون، فيهلكهم الحق جل وعلا، يقول المصطفى: (فيصبحون فرسى -أي: قتلى- كموت نفس واحدة)، وفي رواية: يطلبون من واحد من هؤلاء المتحصنين الخائفين أن يخرج، وأن يبذل نفسه؛ ليرى ماذا صنع يأجوج ومأجوج في الأرض، فيخرج وهو مستعد للقتل والهلاك، فيرى هذه الكرامة، ويرى هذه المعجزة والآية، فيرجع لنبي الله عيسى، وينادي عليه وعلى أصحابه: أبشروا لقد أهلك الله يأجوج ومأجوج. يقول المصطفى: (ثم يهبط نبي الله عيسى مع أصحابه فلا يجدون شبراً في الأرض أو موضعاً في الأرض إلا وقد ملأه زهمهم ونتنهم -الزهم: الدهن والشحم-، فلا يقوى الناس على هذه الرائحة الكريهة النتنة!! فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله أن يطهر الأرض من هذا النتن، يقول المصطفى: فيرسل الله عز وجل عليهم طيراً). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 15