الكتاب: إنكار الجن من شطحات التفسير الموضوعي للقرآن المؤلف: مصطفى الوراق إبراهيم الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الطبعة: السنة الرابعة عشرة العدد الثالث والخمسون المحرم، صفر، ربيع الأول 1402هـ/1981م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- إنكار الجن من شطحات التفسير الموضوعي للقرآن مصطفى الوراق إبراهيم الكتاب: إنكار الجن من شطحات التفسير الموضوعي للقرآن المؤلف: مصطفى الوراق إبراهيم الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الطبعة: السنة الرابعة عشرة العدد الثالث والخمسون المحرم، صفر، ربيع الأول 1402هـ/1981م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مدخل ... إنكار الجن من شطحات التفسير الموضوعي للقرآن للشيخ مصطفى الوراق إبراهيم مدرس بالمعهد الثانوي الحمد لله نحمده ونستعينه ونصلي ونسلم على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أما بعد: فإن الإيمان ((بالملائكة)) إيمان غيبي ذلك لأنهم عالم غير مرئي، والإيمان بالجن إيمان غيبي، لأنهم عالم غير مرئي أيضا، والتصديق بالغيب كله إنما يقوم على قاعدة متينة ثابتة، تلك القاعدة هي الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فكل من استقرت نفسه على الإيمان صدّق –ولا ريب- بكل الغيبيات، ذلك لأن التصديق بالغيب شعبة من شعب الإيمان. قال الله تعالى: {ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وقال سبحانه: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} . وفي القديم أنكر أهل الاعتزال وجود الجن مع أن عالم الجن ثابت لا شك فيه بإخبار الله سبحانه عنه، يقول الإمام القرطبي في تفسيره: "أنكر معظم المعتزلة الشياطين والجن، ودل إنكارهم على قلة مبالاتهم وركاكة ديانتهم وليس في إثباتهم مستحيل عقلي، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على إثباتهم" ثم أورد القرطبي بعض الآيات الدالة على وجود الجن والشياطين كآية البقرة {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} وقال في آخر كلامه: "وسورة الجن تقضي بذلك" أما في عصرنا هذا فإن معظم المنكرين للجن من المفتونين بالحضارة المادية، ولم يضف هؤلاء دليلا جديدا يجعل الناس يفتنون (بقضية) إنكار الجن، ولذلك فإن مما يثير أشد الأسف أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 يكون الدكتور محمد البهي حاملا للواء المنكرين (للجن) في هذا العصر متوهما أنه سيعطي قضية الباطل شيئا من القوة –بما له من مكانة علمية- أو مخيلا أنه سيبث في كيانها الميت روحا من الحياة، وهيهات. لأن الحق يعرف قبل الرجال وبمعزل عن بريق الألوان والأصباغ. ولقد أعد الدكتور محمد البهي تفسيرا للقرآن أسماه بالتفسير الموضوعي وحمل على كاهله فيما حمل أن يصحح –حسب زعمه - اعتقاد المسلمين في الجن وكأن المسلمين – منذ الصدر الأول - كانوا في ضلال الاعتقاد لإيمانهم بالجن، ومضى عليهم أربعمائة سنة بعد الألف وأجيالهم ترسف في ظلمات الجهالة! فماذا جدّ في عالم الموضوعية مما ينفذ أمره ولا يرد دليله وقوله حتى تحمس الدكتور بل وتجرأ ليظهر بوجه الإنكار القبيح؟! وقبل أن نحكم على كلام الدكتور بما يستحقه من حق أو باطل يسحن –بحكم الموضوعية - أن نعرض رأيه بأمانة كما كتبه في تفسيره، يقول الدكتور في تفسير سورة الفرقان صفحة 4 وهو يحدد معنى عالمية الرسالة الإسلامية: "وقد يميل بعض المفسرين إلى أن العالمية في رسالة القرآن بين الشعوب والأقوام، ولا بين الأجيال والمجتمعات مع اختلاف اللغات واختلاف الزمان ومكان. بل هي العالمية بين ((الجن)) والإنس ... وقد آن الأوان أن يفهم المتصدي لتفسير القرآن أن لفظ الجن كما ورد في القرآن قصد به غير المعهود للإنسان، وأطلقه القرآن مرة على فريقين من الناس لم يكونوا معهودين للرسول صلى الله عليه وسلم وهو يجالس المؤمنين في مكة، وورد هذا الإطلاق في سورة الأحقاف 29، 30 في قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيم} وهذا النفر في رأي الدكتور هو فريق من الأوس والخزرج، واستدل على زعمه بما جاء في الآية من ذكر للتوراة والأوس والخزرج كانوا على صلة باليهود. ثم يقول الدكتور في صفحة 5 من تفسيره لسورة الفرقان: "كما أطلق القرآن لفظ الجن مرة أخرى على الملائكة في سورة الصافات 158 في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} فالسياق قبل وبعد يحدد أن الجنة هنا هم الملائكة الذين ادعى مشركوا قريش أنهم بنات الله في قوله تعالى في السورة نفسها 149 -150: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ} وفيما عدا هذين الموضعين فلفظ الجن مفهوم لغوي لا يقصد منه سوى غير المعهود للإنسان شريرا أو خيّرا ماهرا أو غير ماهر" انتهى كلامه. وقبل أن نتعرض لتأويل الدكتور (الحاسم) للفظ الجن نذكر ما تعارفت عليه لغة العرب من مدلولات كلمة (الجن) ومادتها، فقد عرف العرب جنّ الليل إذا أظلم، وأجنّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 الشيء في صدره، أكنه. والجنة: البستان والجان: جنس من الحيات، والجن: عالم من المخلوقات العالقة لا تدركه حواس الإنسان، والجِنة جماعة الجن، والجنة الملائكة لاختفائهم عن الأبصار، والجُنة بضم الجيم: السترة والوقاية، كما عرفت اللغة الجنين والجنون والمجنون. إذن فمن مفاهيم (اللغة) للجن أنهم عالم لا يدرك بحاسة البصر ولا بغيرها من الحواس1 وهذا ما تقوله كتب اللغة باتفاق تام، وقد أوضح القرآن بعض اعتقادات العرب في الجن وانتقد ما فيها من باطل، وأرشد إلى الحق، فمن ذلك ما جاء في سبب نزول الآية {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} أن أهل الجاهلية كانوا إذا نزلوا بواد ليلا استعاذوا بسيد الوادي من شر سفهائه2، وكان العربي يطلق صوته بهذه الاستعاذة وهو يخاطب عالما غير منظور مستعيذا بزعيمه من شر سفهائه كما يستجير الغريب النازل بقبيلة من العرب بسيد القبيلة طالبا حمايته. ويحسن بعد هذا أن نأخذ في الرد على (نظرية) الدكتور في الجن يقول: في الموضع الأول: "إن الجن ورد في آية الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ} بمعنى فريق من الناس غير معهود للرسول صلى الله عليه وسلم فهل يصح أن يسمى الإنسان من يقابلهم لأول مرة جنا؟ وإذا كان هذا الإطلاق سائغا فلماذا لم نجده في كلام العرب وأشعارهم؟ وكيف يكون الفريق المذكور من الأوس والخزرج وهما القبيلتان المعروفتان المشهورتان في جزيرة العرب وخارجها ومع ذلك يصح أن يطلق على وفدهما لفظ الجن؟ ولماذا لم يطلق على غيرهما من وفود العرب الذين التقى بهم الرسول صلى الله عليه وسلم ودعاهم للإسلام مع أن هذه الوفود لم تكن في مستوى الأوس والخزرج مكانة ولا شهرة؟! على أن تفسير الدكتور ((للجن)) في هذه الآية لا يقره المفسرون الأقدمون ولا المحدثون فكيف يكون تأويله وحده هو الصحيح، ويكون تأويل كل المفسرين باطلا؟ فالمراد بالجن هنا عالم المخلوقات التي لا نراها والتي حدثنا عنها الكتاب الكريم والسنة النبوية الصحيحة. وهذا المعنى للجن مما تعارفت عليه لغة العرب بل وعقائدهم، فعلام يستند الدكتور في نفيه لوجود الجن؟ أعلى أنه لا يراهم؟ وهل تعتبر الرؤيا دليلا حاسما على وجود الشيء أو عدمه؟ وهل يقر الدكتور ((بموضوعية)) هذا المنهج القائم على إنكار وجود كل ما لا يرى والدكتور في تفسيره يعترف بوجود الملائكة فهل رأى الدكتور يوما واحدا منهم؟ أما الموضع الثاني والذي يقول غيه الدكتور: إن المراد بالجنة – بكسر الجيم - في قوله تعالى:   1 راجع اللسان مادة (جنن) والقاموس المحيط الجزء الرابع الطبعة الثانية المطبعة الحسينية المصرية صفحة 210 -211. والصحاح للجوهري الجزء الخامس دار الملايين صفحة 2093. ومختار الصحاح للرازي الطبعة الأولى دار الكتاب العربي مادة جنن صفحة 113 -114. 2 ابن كثير في تفسير سورة الجن والطبري أيضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} الملائكة فإن كثيرا من المفسرين يوافقونه على ما ذهب إليه ولكن تأويل كلمة الجن هنا بالملائكة لا يمنع أن تأتي في آية أخرى بمعنى آخر. ويأتي بعد هذا الادعاء الأكبر في قول الدكتور: "فيما عدا هذين الموضعين فلفظ الجن مفهوم لغوي لا يقصد منه غير المعهود للإنسان شريرا كان أو خيرا ماهرا أو غير ماهر" يأتي هذا الادعاء ليكون المعمول الهدام الذي يقضي على الموضوعية من أساسها إذ كيف يطلق الدكتور مثل هذا الحكم العام دون استقراء تفصيلي لكل آية ورد فيها ذكر الجن؟ ودون أن يتأكد –مع الاستقراء- أن المعنى الذي ادعاه هو المعنى الوحيد المتعين. وسأورد في هذا الرد بعض الآيات والأحاديث النبوية وسأثبت أن ما قصد بلفظ الجن فيها هو العالم غير المرئي فما رأى الدكتور هل سيكون ((تفسيره)) في هذه الحالة سليما وموضوعيا إن المرء ليحار فيما يعنيه الدكتور بالموضوعية في تفسيره! هل يعني بها تفسيرا لا يخضع للسنة –وهي البيان للقرآن- ولا يهتم بتأويل السلف من الصحابة والتابعين وهم حفظة السنة؟! وأي موضوعية هذه؟ أم يريد بها أن يكون التفسير قادرا على مواجهة ((المادية)) ترجمة للشعار الذي كتبه في صدر تفسيره (القرآن في مواجهة المادية) وهل تكون مواجهة المادية بالاعتراف بها وإنكار كل الغيبيات غير المدركة بالحواس؟ وهل تكون هذه مواجهة أم خضوعا وانسياقا وراء المادية؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 القرآن يخاطب الجن كما يخاطب الإنس : ولقد ورد لفظ الجن كثيرا في القرآن، وإن وروده بهذه الكثرة مما يستدعي انتباه المتأمل لآيات الكتاب. وفي كثير من الآيات يأتي لفظ الجن في مقابلة لفظ الإنس أو يأتي الخطاب لكل منهما يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الرحمن: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} فمن هما الثقلان إن لم يكونا نوعين مختلفين هما الإنس والجن؟ ويقول الله تعالى: {خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} وسنتحدث عن هذه الآية فيما يأتي ولكن نلفت النظر هنا إلى ما في الآية من الحديث عن النوعين ومادة كل منهما التي خلق منها، وفي سورة الرحمن نفسها يقول الله سبحانه: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ} فهل يعني القرآن من الجن هنا إنسا غير معهود؟ هذا مع أن الذي يوجه الخطاب هنا هو الله نفسه فكيف يمكن أن يكون الجن عالما غير معهود لخالقه؟! {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} ألا يوافقني الدكتور على استحالة تأويله هنا؟! وأي فائدة لذكر جماعة غير معهودة من الإنس مع أن لفظ الإنس يشمل كل الإنس مهما اختلفت صفاتهم؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 الأدلة العقلية لا تنفي وجود الجن بل تثبت وجودهم: ويصل الدكتور في جرأته في إنكار الجن ونفي وجودهم إلى حد الصراحة الواضحة في مناقشته لهذا الموضوع فيقول في تفسير سورة الجن صفحة 22: "وافتراض أن هناك عالما ثالثا يتميز عن عالم الملائكة وعالم الإنس ويتقابل تماما مع أي منهما هو عالم الجن يحتم مثل هذه الأسئلة مم خلق هذا العالم؟ فإذا كان الجواب أنه من نار لقوله تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} فيسأل بعد ذلك مم خلقت الملائكة وعالمها تماما يقابل عالم الجن على هذا الافتراض فإذا كان الجواب إن الملائكة خلقت من (نور) كما يقال يسأل الآن ما هو الفرق بين النار والنور؟ أليست الشمس نارا ملتهبة، ومع ذلك تشع النور؟ وأليس النور عرضا ومظهرا للنار؟ وأليست النار منبعا للنور" انتهى كلامه، ونقول ردا على مناقشة الدكتور: أولا: من الذي افترض ((أن هناك عالما ثالثا)) هم عالم الجن؟ إن هذا العالم ذكره الله في كتابه وتحدث عن خلقه وإن من الغريب أن يتكلم الدكتور عن الافتراض وهو نفسه يورد في مناقشته آية من كتاب الله تحدد المادة التي خلق الله منها الجن {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} . ثانيا: أن مسألة خلق الجن ليست مسألة افتراضية حتى يحيطها الدكتور بهذا الركام من الأسئلة التي تنبعث من ظلمات الشك بل والإنكار، وإنما هي مسألة حددها القرآن بوضوح تام يقول الله تعالى: {خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} ثم يأتي بيان الرسول صلى الله عليه وسلم فيزيد المسألة تأكيدا ويكشف عن أصل كل واحد من العوالم الثلاثة الإنس – الملائكة - الجن في حديثه الذي يقول فيه: "خلقت الملائكة من نور. وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم"1 رواه مسلم في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده، فما رأي الدكتور في هذا الحديث وهو في غاية الوضوح، ولا أحسبه يقبل شيئا من التأويل الغريب الذي جنح إليه الدكتور في تفسيره لمعنى ((الجن)) وإنني أستبعد أن يكون الدكتور جاهلا بهذا الحديث، وحتى لو سلمنا باتحاد أصل الملائكة والجن حسب رأيه فإننا نقول: ليس في اتحاد أصل عالمي الملائكة والجن مع اختلاف طبائعهما ومواصفاتهما أي غرابة حتى يثير الدكتور الدخان حول نار الجن ونور الملائكة بتساؤله ما الفرق بين النار والنور؟ راميا بذلك إلى إثبات أن الأصل الواحد لا يمكن أن ينشأ عنه نوعان مختلفان متجاهلا أو متغافلا عن حقيقة هامة هي أن الأصل سواء أكان النور أو النار لا فعالية له من ذاته في الخلق والإيجاد وإنما يكون الخلق منه بقدرة الله   1 مختصر ابن كثير الجزء الثالث الطبعة الأولى صفحة 417. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وكلمته ((كن فيكون)) إذن فما دام الأمر بيد الله سبحانه وتعالى فإن مناقشة ((كيفية)) الخلق لنوع أو نوعين لا تنتج إلا العبث، ولا تفضي إلا إلى فساد الفكر وضعف الإيمان بقدرة الله على خلق ما يشاء ومما يشاء كيفما يشاء. ولماذا لم يستغرب الدكتور اتحاد الأصل الذي كان منه الإنسان وهو نوع له مميزاته ومواصفاته ثم كان منه الحيوان فكلاهما من ماء وطين يقول الله سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ثم لننظر إلى اختلاف عالم الحيوان عن عالم الزواحف عن الأسماك عن الطير في الخصائص والمميزات واختلاف أحد هذه العوالم عن عالم الإنسان الذي يتحد مع كل هذه العوالم في أصل مادة خلقه فهل يسوغ لنا أن ننكر ((وجود)) بعض هذه العوالم نظريا لأن الأصل لا ينبغي أن يكون إلا لواحد منها لا يتعداه. بل إن في عالم الإنسان ما يجعلنا نقف مبهورين أمام إبداع القدرة الخلاقة عندما نتأمل اختلاف خلق آدم عن خلق أبنائه ثم عن خلق واحد متميز من أبنائه وهو سيدنا عيسى عليه الصلاة السلام. ولكن هذا لا يثير الاستغراب الذي يؤدي للشك أو للإنكار بل بالعكس فإنه يلمس في النفس أعمق مشاعر الإيمان التي يحركها إدراكنا لإبداع القدرة الإلهية. فما لعنصر ولا لمادة معينة فعالية ذاتية في خلق كائن أو إفراز نوع ولكن الإيجاد لكل الأنواع – بقطع النظر عن أصل المادة التي خلقت منها- إنما يكون بقدرة الله الذي يقول للشيء كن فيكون. ولا أحسب الدكتور محمد البهي يجهل هذا ولكني أخشى أن يكون إنكاره للجن انسياقا وراء بريق الجديد وإن كان زائفا أو إحياء لانحراف الفكر القديم ولو كان باليا. وفي القديم أنكر الجن بعض الفلاسفة قال الإمام القرطبي: "وقد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجن وقالوا إنهم بسائط ولا يصح طعامهم اجتراء على الله وافتراء.. والقرآن والسنة ترد عليهم" كما أنكر الجن في عصرنا هذا – بعض الفرق الضالة كالقاديانية1 الذين ادعى زعيمهم الرسالة- ولهم أصحاب بالسودان يسيرون على نهجهم فهل يود الدكتور أن يدعم رأي هذه الجماعة الضالة وما أحسبه – وهو الذي عرفناه داعية للحق- يرضى أن يكون سندا لأهل الضلال. مرة أخرى نؤكد أن الكتاب والسنة يدلان دلالة واضحة على وجود عالم الجن بل ويحددان له كثيرا من السمات يقول الأستاذ العالم سيد قطب في تفسير الظلال صفحة 312 تفسير سورة الجن: "فالجن لهم حقيقة موجودة فعلا كما يصفون أنفسهم هنا {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} ومنهم الضالون المضلون ومنهم السذج الأبرياء الذين ينخدعون {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً وَأَنَّا   1 شرح الألباني 0للعقيدة الطحاوية) صفحة 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً} وإنهم لا ينفعون الإنس حين يلوذون بهم بل يرهقونهم {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} وإنهم لا يعلمون الغيب ولم يعد لهم صلة بالسماء {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} ويقول في ص. فحة 313 من تفسير سورة الجن: "هذا –بالإضافة إلى ما قرره في سورة الرحمن عن المادة التي خلق منها كيان الجن والمادة التي خلق منها كيان الإنسان في قوله: {خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} يعطي صورة عن ذلك الخلق المغيّب تثبت وجوده وتحدد الكثير من خصائصه، وفي الوقت ذاته تكشف الأوهام والأساطير العالقة عن ذلك الخلق. وتدع تصور المسلم عنه واضحا دقيقا متحررا من الوهم والخرافة، ومن التعسف والإنكار الجامح كذلك! ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 السنة الصحيحة تثبت وجود الجن : جاء في كتب السنة الصحيحة أحاديث تثبت الجن وتؤكد إيمانهم بالإسلام ولا أدري لماذا لم يتعرض لها الدكتور مع أنه من أبجديات ((الموضوعية)) أن يعرض الباحث كل ما يخالف وجهة نظره بدقة وأمانة ثم يتعرض لما فيه بالرد والتعليق. وإنني لأتساءل هل من الموضوعية إهمال السنة وهي البيان للقرآن بل والمصدر الثاني للإسلام عقيدة وشريعة؟! وأول ما أعرض من الأحاديث التي تثبت وجود عالم الجن الحديث الذي رواه الشيخان في قوله تعالى:: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ} أن هذا النفر كان من جن نصيبين أو نينوى، فما رأي الدكتور في كلمة ((جن)) هنا هل يراها تقبل تأويله المبتدع؟ ثانيا: ما رأي الدكتور في الحديث الذي أوردناه في الصفحات السابقة والذي حدد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أصل المادة التي خلق الله منها الجن كما حدد أصل الملائكة والإنس؟ هل لدى الدكتور مطعن في سنده؟ أم عنده له غريب التأويل ما يخرجه عن صريح معناه؟ ولماذا لم يتعرض له الدكتور في تفسيره الموضوعي؟ ثالثا: ما رأى الدكتور في رواية ابن عباس التي رواها البخاري ومسلم في سبب نزول قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} والرواية تقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم أوحي إليه قول الجن والحديث طويل. رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي والحافظ البيهقي في كتابه (دلائل النبوة) عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم فقالوا حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهناك رجعوا إلى قومهم {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} وأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} وإنما أوحي إليه قول الجن"1. ولا بأس من إيراد تعليق الأستاذ سيد قطب عليه يقول: "وهي أن رواية ابن عباس –قاطعة في أن الرسول صلى الله عليه وسلم - إنما علم بالحادث عن طريق الوحي وأنه لم ير الجن ولم يشعر بهم" إلى أن يقول: "ويقويها ما عرفناه من القرآن من صفة الجن" {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} فهل يمكن في رأي الدكتور أن يختفي شخص الإنسان بحيث يكون قريبا منك ومواجها لك ثم لا تراه عينك؟! رابعا: ماذا يفعل الدكتور في رواية مسلم التي جاء فيها وسألوه – صلى الله عليه وسلم- الزاد. أي سأله الجن زادا لهم. فقال: "لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم" 2 فهل يرى الدكتور في هذا طعاما للإنس؟ وما رأي الدكتور في قوله صلى الله عليه وسلم: "أوفر ما يكون لحما"؟ أو ليس هذا الكلام واضحا في أنه يحدد طعام عالم آخر وهو عالم الجن الذي ينكره الدكتور والذي يثبته الحديث بل ويثبت له دوابا لها طعامها الخاص.   1 أخرجه البخاري في التفسير وفي الصلاة والترمذي والنسائي في التفسير. 2 مختصر تفسير ابن كثير اختصار وتحقيق الشيخ محمد علي الصابوني الجزء الثالث، الطبعة الأولى صفحة 324 -325. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 شطط يقود إلى شطط : لقد ساق الدكتور شططه في أمر الجن إلى شطط في تفسيره لأمور أخرى وردت في سورة (النمل) وذلك حتى تتسق المعاني مع المعنى الذي ذهب إليه الدكتور في تفسير الجن بأنهم إنس غير معهودين فماذا قال في تفسير قوله تعالى: {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} (النمل 38 -42) . وهذه الآيات الكريمة بينات واضحات ومن الكلام المستساغ فيها أن يقول المرء إن الشرح والتفسير لا يزيدها إلى قليلا. ولكن الدكتور أخذ على نفسه أن يدخلنا في معميات تأويله حتما عليه حتى يتمكن من تنسيق معاني الآيات مع ما ذهب إليه – مسبقا - من تحريف في معنى ((الجن)) فما دام العفريت من الجن يعني – لديه - (واحد من الأقوياء واسع الحيلة شديد الدهاء من غير الظاهرين في ملأ سليمان عليه الصلاة والسلام) ما دام الجن يفسر عنده بالإنسان غير معهود فكيف يكون معنى عرش الملك كما هو لابد إذن أن يتغير معنى العرش إلى معنى يفتن الدكتور في ابتكاره واختراعه فماذا يكون العرش الذي طلب سليمان عليه السلام من أصحاب الرأي عنده الإتيان به وعلى وجه السرعة؟ إنه لا يعدو لدى الدكتور أن يكون خريطة ترسم لمملكة سبأ ولندع عبارة الدكتور تكشف عن المراد بالعرش يقول: "وطلب – إلى أصحاب الرأي عنده - وضع خريطة تصور مملكة بلقيس كي يستعد لغزوها طلب وضع هذه الخريطة وأن تكون جاهزة عنده قبل أن يأتيه الرد منها على رسالته الثانية بالخضوع والقبول" انتهى كلامه. وإذا كان المراد بعرش بلقيس خريطة يقوم برسمها مهندس فما معنى اهتمام سيدنا سليمان بسرعة الإتيان بهذا الرسم قبل أن تأتيه بلقيس وقومها مسلمين؟! وأي إعجاز ستلمسه بلقيس في صورة لعرش تستمتع هي بالفعل بالجلوس عليه؟! وهل تبهر الصورة من يستمتع بحقيقة الشيء المصوّر؟ إن الذي سيبهرها حقا هو أن تجد أمامها عرشها الذي خلفته وراءها بذاته أن تجده قد سبقها إلى سليمان دون علم منها أو إرادة، هذا هو الشيء الخارق المعجز ولذلك كانت دهشتها واضحة فيما حكاه الله عنها {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} . ويحق لنا أن نتساءل أيضا عن سر التسابق – في اختصار الزمن - بين العفريت من الجن والذي عنده علم من الكتاب أي معنى لهذا التسابق لو كان الأمر المطلوب لا يعدو أن يكون ((خريطة)) ترسم. ثم ما معنى (القوة) والأمانة اللتين وصف بهما العفريت نفسه في قوله تعالى حكاية عنه: {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} فهل يحتاج ((رسم)) الخرائط إلى قوة عظيمة وصيانة ومحافظة ((حتى لا تقع خطوط الرسم وتنكسر الزوايا والمنحنيات)) ؟ لو كان ((العرش)) خريطة كما يزعم الدكتور لكان المناسب أن يقول هذا العفريت وإني لرسام ماهر أو مهندس بارع أو ذكي لماح أو دكتور ... في علم الخرائط. ثم إن التسابق في اختصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 الزمن كان أمرا حاسما في الدلالة على أن المراد ((العرش)) ذاته لا صورة له ولا لمملكة سبأ فقد كان بين زمن انفضاض الاجتماع وزمن ارتداد الطرف فرق كبير في اختصار المدة ومن الواضح أن زمن ارتداد الطرف زمن يسير جدا وهو أقل بكثير من الزمن الذي حدده العفريت بانفضاض الاجتماع. ولهذا كان الإعجاز في انتقال العرش من سبأ بهذه السرعة المذهلة واستقراره أمام سليمان عليه السلام ومازال أصحاب الرأي عنده مما دعا سليمان عليه الصلاة والسلام إلى الاعتراف بفضل ربه واعتبار هذا الفضل العظيم اختبارا من الله له أيشكر أم يكفر وقد شكر ولله الحمد، قال تعالى: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} وهذه المعاني كلها واضحة لمن تدبر آيات النمل فماذا تقول ((موضوعية)) الدكتور فيها إنه يقول عن الذي عنده علم من الكتاب: "وعد أن يحضره في أقصر مدة ممكنة وهي ما يعبر عنه بارتداد الطرف" فيخيل إليك أنه يريد أن هذه المدة أسرع من مدة ((انفضاض الاجتماع)) ولكن الدكتور يفاجئك بعكس ما تظن عندما يقول: "فالأمر يحتاج إلى تحضير ودقة فيه وليس من السهولة بحيث يؤتى به قبل انفضاض الاجتماع" يعني هذا بوضوح أن مدة انفضاض الاجتماع أقصر من المدة التي يرتد فيها الطرف حتى قبل أن يرتد!. وهكذا يقلب الدكتور المعاني قلبا وبصورة مدهشة وكأنها السحر فيحول مدة ارتداد الطرف إلى زمن أطول وأكثر تراخيا من مدة انعقاد الاجتماع وإلى حين انفضاضه! وقد قلت – فيما سبق - معنى العرش إلى خريطة مرسومة لمملكة سبأ ومن الحق أن نسأل الدكتور من أي كتاب من كتب اللغة أتى بهذا المعنى المبتكر للعرش؟ أم أن الاستعمال مجازي؟ وإذا كان مجازيا فما العلاقة؟ وهل ظهر للدكتور كيف أن سياق الكلام يأبى ويرفض تأويله الجديد للعرش؟ ونلاحظ هنا أنه يخاطب جماعة مع أن الذي تصدى لرسم الخريطة كان واحدا معينا وهو الذي عنده علم من الكتاب، ألا ينبه هذا الدكتور إلى ما في تأويله من خطأ ظاهر؟! ولم طلب سليمان عليه السلام تغيير معالم خريطة هامة كهذه، وكيف سيستعين بها بعد هذا التغيير؟ أليس المناسب في مثل هذه الحالة أن يحفظ هذه الخريطة في مكان آمن شأن الأوراق السرية الهامة التي لا يفرط فيها القائد المحنك؟ ولماذا عرض هذه الخريطة – وهي سر من أسراره الحربية - على بلقيس ملة أعدائه فور حضورها؟ وكيف يعرضها عليها مهما كان السبب قبل أن يستيقن من استسلامها لا سيما وقد ظهر له ما تتمتع به من حيلة ودهاء، إن هذا التأول فوق أنه لا يستند على إثارة من علم تأويل لا يقبله العقل ولا يكون عناء وتكلفا جشمنا إياه الدكتور ليؤيد تفسيره الموضوعي الذي ينادي بإنكار وجود الجن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316