الكتاب: الفتح العمري للقدس نموذج للدعوة بالعمل والقدوة المؤلف: شفيق جاسر أحمد محمود الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الطبعة: السنة السادسة عشرة، العدد الواحد والستون محرم- صفر- ربيع الأول 1404هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- الفتح العمري للقدس نموذج للدعوة بالعمل والقدوة شفيق جاسر أحمد محمود الكتاب: الفتح العمري للقدس نموذج للدعوة بالعمل والقدوة المؤلف: شفيق جاسر أحمد محمود الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الطبعة: السنة السادسة عشرة، العدد الواحد والستون محرم- صفر- ربيع الأول 1404هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] الفتح العُمَرِي لِلقدسِ نموذج للدّعوَة بالعمل وَالقدوَةِ د. شفيق جاسر أحمد محمود رئيس قسم التاريخ بالجامعة تمهيد : وضع الإسلام معايير خاصة لسلوك المسلمين، تجعل له طابعاً متميزاً، وهذه المعايير مستوحاة من القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، ومن التطبيق العملي لهذه الأخلاق وهذا السلوك، كما قام بها ومارسها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون وأصحابه والسلف الصالح جميعاً. فلا إيمان بالقلب إلا إذا صدقه العمل وظهر على الجوارح بالعبادات والأخلاق والمعاملات. وقد كان التزام سلفنا الصالح بهذا الخلق سبباً لنيلهم خيري الدنيا والآخرة، ومثاراً لإعجاب أعدائهم بهم، وبعقيدتهم ودينهم الجديد. فدانت لهم الأمم، وأعجبه بهم الشعوب، ودخلت في دينهم زرافات ووحدانا طائعة مسرورة. وحتى الشعوب التي بقيت على دينها، فإنها رأت في الخضوع لسلطان المسلمين خلاصاً من ظلم مستعبديهم ولو كانوا من بني جلدتهم، ورأت في الوجود الإسلامي أمناً واطمئناناً على النفس والعرض والمال والولد والمعتقد والمقدسات. لهذا فقد كان سلوك المسلمين أهم وسائل إظهار محاسن دينهم وكان لذلك أثره على الفرد والمجتمع، كما كان تطبيقهم العملي لتعاليم ذلك الدين، أهم وسائل الدعوة لهذا الدين، فالمساواة، والعدل، والتواضع، والإعراض عن الإغراق في متع الدنيا، والرحمة ورعاية أهل ذمة الله ورسوله، كل تلك الصفات المثالية طبقها المسلمون وخصوصاً في عصر النبوة والخلفاء الراشدين كما طبقها من جاء بعدهم من الخلفاء المتقين أمثال عمر بن عبد العزيز وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وكنموذج لهذه الأخلاق الإسلامية، وتطبيق لأهمية القدوة والعمل بالأخلاق الإسلامية في الدعوة الإسلامية، أورد فيما يلي من خلال هذا البحث المتعلق بفتح القدس، وصفاً لسلوك عمر بن الخطاب رضي الله عنه والمسلمون عامة، مما كان له أطيب الأثر في نفوس النصارى. ودفعهم إلى المطالبة بأن يكون الخليفة نفسه المتولي لاستلام مدينتهم. وزاد في ثقتهم في عدله وعدل المسلمين، ما رأوه وجربوه من أخلاقه وأخلاق أصحابه، فأعجبوا بهذا الدين الجديد الذي استطاع تحويل هؤلاء العرب إلى الدين بعد القسوة، والقناعة بعد الطمع، والوحدة بعد الفرقة، وحفظ العهد ورعاية الذمة بعد الغزو والنهب. فدفع ذلك معظم أهل الشام ومنهم أهل القدس إلى الإقبال على الدخول في الإسلام خلال سنوات ليست بالطويلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 أهمية القدس لدى المسلمين : للقدس مكانة خاصة لدى المسلمين، لا تقل عن مكانتها لدى أصحاب الديانات السماوية الأخرى، فهي أولى القبلتين، وثالث المسجدين الشريفين اللذين تشد إليهما الرحال، وإليها أسرى بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ومنها عرج به إلى السماء، وفيها صلى بالملائكة. وقد نص القرآن الكريم على أنها مباركة، باركها رب العالمين هي وما حولها وذلك في الآية الأولى من سورة الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . هذا بالإضافة إلى ما ذكره المفسرون في تفسير بعض آيات القرآن الكريم وما حوته من إشارات إلى مكانة القدس في الإسلام. كما أشار إليها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، حينما حض على زيارتها في الحديث الصحيح " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"1 بالإضافة إلى العديد من الأحاديث التي أوردتها كتب الحديث، وكتب الفضائل المتعلقة بأهمية القدس وفضلها وفضل الصلاة في مسجدها، والإهلال منها بحجة أو عمرة، والوفاة فيها.   1 ابن حنبل: المسند، 2:234 ,238، مسلم: الصحيح 2:415 ,513. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 كما أنه ليس من المستغرب أن نعلم بأن معظم سكانها قبل الفتح كانوا من أصل عربي، شأنهم شأن سكان فلسطين، حيث كان جل سكانها من لخم وجذام الذين تنصروا1. ولو رجعنا إلى التاريخ أكثر قليلاً لوجدنا أصل سكانها من اليبوسيين الكنعانيين الذين هاجروا لبلاد الشام من السواحل الشرقية للجزيرة العربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 الروايات المختلفة في كيفية وتاريخ فتحها : لهذا كله أهتم المؤرخون المسلمون بأخبار فتحها، والسنة التي تم فيها الفتح، كما أفاضت كتب التاريخ في ذكر أخبار محاضرة المسلمين لها، وحضور الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه لتسلمها ومصالحة أهلها وإعطائهم عهد الأمان الذي عرف بالعهدة العمرية، بالإضافة إلى بناء مسجده بساحة المسجد الأقصى. ومن دراسة الروايات المختلفة يتبين لنا أن الروايات الشامية تؤكد أن هدف قدوم الخليفة عمر بن الخطاب من المدينة إلى الشام، كان تسلم مدينة القدس بناء على طلب أبي عبيدة، القائد العام للجيوش الإسلامية المحاصرة لها، وتلبية لرغبة بطريركها. مما يؤكد أهمية القدس لدى المسلمين، وهذا لا يمنع أن يكون الاجتماع بالمسلمين وتنظيم إدارة بلاد الشام أحد أهداف الخليفة عمر أيضاً من مسيره إلى الشام. فسار بعد تسلم القدس إلى الجابية حيث كانت غنائم اليرموك وغيرها موجودة هناك، وقد أيد الشاميين في وجهة النظر هذه بعض الرواة الحجازيين. وإنني أميل إلى ترجيحها، فأهل الشام قد يكونون أدرى بفتوح بلادهم. أما الروايات التي ذكرت بأن حضور الخليفة إنما كان بقصد الاجتماع بالقادة المسلمين في الجابية، ثم اتفق أن طلبت القدس الاستسلام في ذلك الوقت فذهب إليها الخليفة وتسلمها، فهي على الأغلب روايات كوفية، بعيدة عن مجريات الأحداث، إن لم نقل إن الغرض منها قد يكون إظهار أن القدس ليس لها فضل كبير على المدن الأخرى، وذلك نكاية بالأمويين الذين كانوا يظهرون اهتماماً خاصاً بالقدس، وهذا ينطبق على الروايات التي أفادت بأن خالد بن ثابت الفهري، أو عمرو بن العاص هما اللذان حاصرا القدس واضطرا أهلها لطلب الصلح، وكذلك الرواية التي ذكرت بأن العوام هم الذين صالحوا عمر بن الخطاب وليس البطريرك صفرونيوس.   1 البلاذري: 259، الواقدي: 1:170. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 أما عن السَنَةِ التي فتحت فيها القدس، فقد ذكر الطبري عن سيف أنها كانت سنة 15هـ 1. كما ذكر ابن سعد، وخليفة بن خياط، واليعقوبي، وابن عساكر، والواقدي، والبلاذري، والطبري في رواية أخرى عن سيف أن الفتح كان سنة 16هـ 2. كما ذكر ياقوت الحموي، والبلاذري وابن اسحق، والطبري في رواية سيف عن هشام بن عروة بأن الفتح كان سنة 17 3. والأغلب أن عام 17، هو الأصح.   1 الطبري: جـ1:2405-2406. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 أحداث الفتح والقدوة في سلوك الخليفة وأصحابه : لقد تخللت أحداث الفتح مجموعة من المواقف، ونماذج من السلوك صدرت عن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن أصحابه، كانت كما سبق أن ذكرت أكبر برهان على أثر الإسلام على معتنقيه من حيث إحداث التغيير الأساسي في الخلق والسلوك وتوجيههما نحو المثالية والكمال الذي طمحت وتطمح إلى بلوغه أو بلوغ شيء منه جميع الأمم والمصلحين. فكان أن أقبلت الشعوب على الدخول في ذلك الدين، أو انضوت تحت حكم المسلمين واثقة من عدالتهم ووفائهم بعهودهم، ورأى قادة الروم والفرس أن أمة تعتنق مثل هذا الدين لا يمكن أن تغلب أو تقاوم، فانهارت مقاومتهم وعمهم الرعب وأزيلت أكبر أمبراطوريتين في ذلك العهد، رغم فارق العدد والعدة والغنى والخبرة بين المسلمين وبين أعدائهم. ونلمس في أحداث فتح مدينة القدس معالم من هذا السلوك الإسلامي والمواقف الإنسانية منها: ثقة القادة المسلمين بقيادتهم العامة وطلبهم الدائم لتوجيهاتها، فنرى أبا عبيدة بعد انتصاره في معركة اليرموك وفتح مدينة دمشق، يرسل رسوله، عرفجة بن ناصع النخعي، يطلب التوجيه من الخليفة عمر بن الخطاب في المدينة، فيأمر الخليفة قائده المظفر وصديقه الحميم بأن يتوجه بالمسلمين نحو القدس. وعند ذلك يوجه القائد أبو عبيدة جيوشه نحو القدس، على هيئة كتائب يقود كل منها أحد القادة، أمثال خالد بن الوليد، وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان، وتضم كل منها خمسة آلاف جندي ويفصل بينها وبين   2 ابن سعد: 3:203، اليعقوبي: 2:167، ابن عساكر: 1:553، الطبري: 1:2408، البلاذري: أنساب الأشراف ق2ص495 عن الواقدي. 3 ياقوت: 5:598-599، البلاذري: فتوح: 138-139، الطبري 1:2360. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 الكتيبة الأخرى مسيرة يوم واحد. بالإضافة لجيش عمرو بن العاص الذي كان قد سبقهم إليها، وإلى ضعفة الناس والنساء الذين سار بهم أبو عبيدة1 على مهل رفقاً بهم. وكدأب المسلمين في فتوحاتهم، وجه أبو عبيدة رسالة لأهل القدس خيرهم فيها بين الدخول في الإسلام، أو دفع2 الجزية، أو القتال. فكان أن رفض بطريركها صفرونيوس ـ الذي تولى قيادتها بعد فرار بطريكها إلى مصر على إثر معركة أجنادين - رفض طلب أبي عبيدة، وتحصن بالمدينة آملا في وصول إمدادات ونجدات رومية إليه، خصوصاً وهو يعلم أهمية القدس لدى الروم النصارى، وظناً منه أن المسلمين لن يستطيعوا تحمل برد القدس الشديد، مما سيضطرهم لفك الحصار عندما يشتد البرد. وهنا تبدو مرة أخرى مقدرة المسلمين على تخطي الشدائد، فتحملوا بتجهيزاتهم البسيطة، برد القدس الشديد وأمطارها الغزيرة، ولاقوا من ذلك عنتاً كبيراً ولكن لم يفت في عزيمتهم ولم يفكروا في فك الحصار. وعند حلول فصل الربيع، رأي صفرونيوس أن ما توقعه لم يحدث، فلا الروم أنجدوه، ولا البرد أجبر المسلمين على فك الحصار. فلم يجد بداً من عرض التسليم على أبي عبيدة، ولكنه اشترط أن يحضر الخليفة بنفسه من المدينة المنورة 3 ليتسلم القدس ويعطي أهلها عهداً، وذلك لما كان يسمعه عن الخليفة عمر بن الخطاب من عدالة، ورفق، ووفاء بالعهد. ورغم أن بعض قادة أبي عبيدة قد أشاروا عليه بمناجزة أهل القدس حتى يجبروهم على الاستسلام، إلا أن ما رآه أبو عبيدة من شدة ما قاساه المسلمون من البرد، وما قاساه أهل القدس من الحصار الذي طال أمده، دفعه لأن يكتب للخليفة، يخبره بأحوال المسلمين والنصارى، وبما عرضوه عليه من تسليم المدينة 4 للخليفة شخصياً، وأشار عليه بالحضور لأن في ذلك حقناً لدماء المسلمين. أرسل أبو عبيدة رسالته مع رسول من المسلمين يرافقه وفد من أهل القدس أرسلهم صفرونيوس. وذكر أن أشد ما أثار دهشة وفد النصارى أن رسول أبي عبيدة أخذ يسأل عن   1 الواقدي: 1:229. 2 مجير الدين: 1:247. 3 مجير الدين: 1:249. 4 مجير الدين: 1:250. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 مكان الخليفة حتى وجده مستلقيا من الحر، فقدم إليه وفد أهل القدس رسالة أبي عبيدة، وجلس الرسول بجانبه ببساطة العربي وأخوة الإسلام يصف له أحوال المسلمين ويبلغه سلامهم، في حين وقف وفد أهل القدس وهو لا يَكاد يصدق، أن حاكم المسلمين الذين دَوَّخوا دولتي الفرس والروم، ليس له مقر معروف، ولا حرس ولا حجاب، وإنه في مثل هذا الحال من البساطة في المظهر والمعاملة. وهنا يلجأ عمر بن الخطاب لاستشارة الصحابة كدأبه في مثل هذه الأحوال، فيشير عليه بعضهم بالخروج ويشير بعض آخر بعدم الخروج. ولكنه يفضل الخروج رغم مشاق السفر، ويستخلف على المدينة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ويصطحب خادمه وبعض أصحابه منهم عبادة بن الصامت، والزبير بن العوام، والعباس بن عبد المطلب 1. وتبدو البساطة واضحة في تجهيزاته للخروج، فيركب بعيره الأحمر، ويضع عليه غرارتين في أحدهما سويق، وفي الآخر تمر، ويضع بين يديه قربة ماء ويخلفه جفنة زاد. كل ذلك أمام وفد أهل القدس ودهشتهم. ومن تواضعه أنه عندما وصل إلى مشارف بلاد الشام، استقبله المسلمون بالرايات والسيوف والخيول وعلى رأسهم أبو عبيدة. وأقبل أبو عبيدة على الخليفة عندما رآه مسلما عليه ومحاولاً أن يقبل يده تعظيماً له، ثم تعانقا، وقيل إن المسلمين قدّموا لعمر برذوناً وثياباً بيضاء ليكون مظهره مهيباً، في قلوب الروم، ولكنه رفض الثياب وركب البرذون، فهملج به البرذون، فنزل عنه مسرعاً وركب بعيره وقال: " لقد غيّرني هذا حتى كدت أتغير وأنس نفسي " 2. وروي أن عمر بن الخطاب وهو في طريقه من المدينة إلى القدس، عرضت له مخاضة، فنزل عن بعيره، ونزع جرموقيه وأمسكها بيديه وخاض الماء ومعه بعيره، فقال له أبو عبيدة: " لقد صنعت اليوم صنعا عظيماً عند أهل الأرض " فما كان من عمر إلا أن صك أبا عبيدة في صدره قائلاً: " لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس وأقل الناس، فأعزكم الله بالإسلام" 3.   1 الواقدي: 1:231، روى الطبري عن سيف أن عمر استخلف علي بن أبي طالب على المدينة، انظر ابن كثير: البداية والنهاية: 7/61. 2 مجير الدين: 1:250-252، انظر ابن كثير: البداية والنهاية 7/61، والطبري: 1:2408. 3 مجير الدين: 1:253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وزاد من دهشة النصارى أن عمر بن الخطاب عندما اقترب من القدس كان يركب ركوبة غلامه، وكان غلامه يركب جمله الأحر 1، فعندما رآه أهل القدس يركب حماراً صغيراً، وقيل كان ماشياً والخادم يركب جملاً أحمر، أكبروه وسجدوا له، فقال: " لا تسجدوا للبشر واسجدوا لله ". فتعجب القسيسون والرهبان من ذلك وقالوا: " ما رأينا أحداً قط أشبه في وصف الحواريين من هذا الرجل " 2. وقال صفرونيوس باكياً " إن دولتكم باقية على الدهر، فدولة الظلم ساعة ودولة العدل إلى قيام الساعة" 3. كما تجلى حرصه على أموال النصارى في تصرفه- لدى وصوله القدس- عندما علم بأن المسلمين قد استولوا على كرم من العنب يقع قرب المدينة، وكان تحت يد الروم وقد غلبهم المسلمون عليه، وكان الكرم لرجل من النصارى، فأخذ المسلمون يأكلون من عنب ذلك الكرم، فأسرع النصراني إلى عمر بن الخطاب شاكياً، فدعا عمر ببرذون له فركبه عرياناً من العجلة، ثم خرج يركض به ليردّ المسلمين عن الكرم، فلقي في طريقه أبا هريرة يحمل فوق رأسه عنباً، فقال له الخليفة عمر: " وأنت أيضا يا أبا هريرة؟ ". فقال أبو هريرة: " يا أمير المؤمنين، أصابتنا مخمصة شديدة، فكان أحق من أكلنا من ماله من قاتلنا". وعند ذلك استدعى عمر رضي الله عنه صاحب الكرم، وطلب منه أن يقدر ثمن محصوله، لأن الناس كانوا قد أكلوه، فقدره الذمي، ودفع له عمر ثمنه، فما كان من الذمي إلا أن أسلم 4.   1 ابن عساكر: 7:226. 2 ابن عساكر: 7:226. 3 ابن عساكر: 7:226. 4 مجير الدين: 1:253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وصف المصادر النصرانية لدخول الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه القدس : وأذكر هنا ما أورده مؤلفا كتاب (تاريخ القدس ودليلها) وهما نصرانيان، نقلاه بدورهما عن كتاب للآباء الفرنسيسكان وهم من أكثر الفئات تعصباً للنصارى، فقد ذكرا بأن عمر بن الخطاب عندما قدم إلى القدس " استطلع أبا عبيدة على ما كان من أمر القتال، فقص عليه أبو عبيدة تفصيلاً لما جرى، وما أصاب المسلمين وأهل القدس من الضيق والشدة، فبكى عمر، وأمر فوراً بأن يبلغوا البطريرك قدومه، ففعل أبو عبيده ما أمره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 به الخليفة. وعند ذلك خرج صفرونيوس ومعه الرهبان والصلبان ووجوه النصارى، فلما انتهوا إليه، خف للقائهم، وقد حياهم بالسلام، واقتبلهم بمزيد من الاحتفاء والإكرام. وبعد أن تجاذب والبطريق أطراف الحديث، في شأن المعاهدة والتسليم، أخذ قرطاساً وكتب لهم وثيقة أمانهم كما طلبوا. وقد رفض عمر عند دخوله المدينة أن يصلي في كنيسة القيامة وصلى على مقربة منها. وعندما فرغ من صلاته قال للبطريرك: أيها الشيخ لو أنني أقمت الصلاة في كنيسة القيامة، لوضع المسلمون عليها أيديهم في حجة إقامة الصلاة فيها، وأني لآبى أن أمهد السبيل لحرمانكم منها، وأنتم بها أحق وأولى " 1.   1خليل طوطح ورفيقه: 9-23، انظر الأباء الفرنسيسكان: السير السليم من يافا إلى أورشليم القدس 1890م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وصف المصادر الإسلامية لدخول المسلمين مدينة القدس : أما المصادر الإسلامية فتذكر أن الخليفة كتب للبطريرك صفرونيوس عندما حضر لاستقباله على جبل الزيتون كتاباً، أمنهم فيه على دمائهم وأموالهم وكنائسهم، إلا أن يحدثوا حدثاً عاماً، شريطة أن يدفعوا الجزية 2. وقد ذكرت المراجع الإسلامية والنصرانية، نصوصاً مختلفة لهذا العهد الذي عرف بالعهدة العمرية لا مجال للتفصيل فيها. ثم دخل الخليفة يرافقه قادة المسلمين وأربعة آلاف جندي منهم، لا يحملون إلا السيوف في أغمادها خوفاً من الغدر، فزار كنيسة القيامة وصلى على مقربة منها، ثم طلب من صفرونيوس أن يدله على مسجد داود عليه السلام، الذي أسرى بالرسول صلى الله عليه وسلم إليه حيث صلى فيه وعرج به منه إلى السماء. فطاف به صفرونيوس على عدة أماكن، وعمر ينظر إليها ثم ينكرها، لمخالفتها للوصف الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم يوم سرى به، فلما وصل به صفرونيوس إلى ساحة المسجد الأقصى، وكانت مليئة بالزبل، نظر عمر يميناً وشمالاً ثم كبرّ قائلا: " هذا والله مسجد داود عليه السلام الذي وصفه لنا رسول الله" فأزال المسلمون الزبل عن المكان، فصلى فيه وقيل طلب من المسلمين ألا يصلوا فيه حتى تصيبه ثلاث مطرات 3.   1خليل طوطح ورفيقه: 9-23، انظر الأباء الفرنسيسكان: السير السليم من يافا إلى أورشليم القدس 1890م. 2 اليعقوبي: 2:46. 3 مجير الدين: 1:255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 المسجد الذي بناه الخليفة عمر بن الخطاب في ساحة المسجد الأقصى : قال عمر بن الخطاب لكعب الأحبار: " يا أبا إسحق، أتعرف موضِع الصخرة؟ ". فقال كعب: " اذرع من الحائط الذي يلي وادي جهنم، كذا وكذا ذراعاً، ثم احفر فإنك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 تجدها ". وعندما حفر عمر ومن معه ظهرت الصخرة، وقيل إن عمر رضي الله عنه عاد فسأل كعباً: " أين ترى أن نجعل المسجد؟ - أو قال القبلة-" قال كعب: " اجعله خلف الصخرة، فتجتمع القبلتان، قبلة موسى عليه السلام، وقبلة محمد صلى الله عليه وسلم". فقال له عمر - بعد أن صكه بيده في صدره -: "لقد ضاهيت اليهودية يا أبا إسحق! خير المساجد مقدمها. فنجعل قبلته صدره كما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلة مساجدنا صدورها. اذهب، إليك عني، فإنا لم نؤمر بالصخرة، وإنما أمرنا بالكعبة. وما الصخرة إلا قبلة منسوخة" 1. مكان المسجد: قال الواقدي: لقد خط عمر مسجده إلى الجنوب الغربي من الصخرة المشرفة 2. وذكر البكري وابن حبيش والمقريزي في الخطط وجمال الدين في مثير الغرام ونقل عنه السيوطي أن عمر بنى مسجده أمام الصخرة المشرفة 3. وذكر مجير الدين أن بداخل المسجد الأقصى في صدر صدره من جهة الشرق مجمع معقود بالحجر وأشيد به محراب، ويقال لهذا المجمع جامع عمر، لأنه من بقية بناء عمر عند الفتح 4. وذكر كروزويل بأن المسجد الذي بناه عمر بن الخطاب كان مكان المسجد الأقصى اليوم، ونقل ذلك عن كلير منت غانو 5. وصف المسجد الذي بناه الخليفة عمر بن الخطاب: لم يشر البلاذري (ت 868 م) ، والطبري (ت 915 م) ، واليعقوبي (ت 874 م) ، وابن الفقيه (ت 03 9 م) . إلى المسجد الذي بناه الخليفة عمر بن الخطاب عندما تعرضا لفتح القدس، ووصفا الحرم القدسي في أيامه الأولى، وهذا أمر يدعو إلى الاستغراب. وقد وصفه الواقدي فقال: " وخط عمر بن الخطاب مسجده إلى الجنوب الغربي من الصخرة وصلى وأصحابه به صلاة الجمعة. وكان البناء من الخشب، ويتسع لحوالي ثلاثة آلاف مصلي، وغادر القدس بعد أن أقام بها عشرة أيام 6.   1 الواقدي: 1:242، الطبري: 1:2409، عن رجا بن حيوة عمن شهد الفتح. 2 الواقدي: 1:242. 3 ابن البطريق: نظم الجواهر 2:170. 4 مجير الدين: 1:367. GREWELL.L.P.11. 24 6 الواقدي: 1:242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وأقدم وصف لهذا المسجد أورده أحد السائحين الفرنجة إلى الشرق وهو الأسقف اركولف، اسقف غاليا (فرنسا اليوم) ، حيث زار القدس بقصد الحج عام 670 م أي بعد الفتح الإسلامي بحوالي اثنين وعشرين عاماً فقط. فقال إن عمر بن الخطاب بنى بساحة الهيكل مسجداً مربع الشكل، يتسع لحوالي ثلاثة آلاف مصلي، ويقع إلى جوار الحائط من الشرق، وهو مبنى من بقايا أعمدة وجذوع أشجار، وغير مسقوف. كما ذكر لي سترانج بأن المؤرخ الرومي ثيوفانوس (751-818 م) قد وصف المسجد الذي بناه عمر فقال: " إن الخليفة عمر بن الخطاب بدأ يبني مسجده في منطقة الهيكل سنة 643م (22هـ) 1، لهذا ظل الغربيون والنصارى عامة يطلقون اسم (مسجد عمر) على المسجد الأقصى، مع أن (مسجد عمر) عند المسلمين هو المسجد الصغير المقام أمام كنيسة القيامة على المكان الذي صلى فيه عمر بن الخطاب عندما فتح القدس.   1LE STRANGE P.91 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 الخاتمة ... خاتمة: وبعد فهذه عجالة سريعة، وصورة خاطفة ومشهد قصير في مدته ضيق في مساحته، ولكنه كملايين المشاهد الخالدة مليء بالمفاخر التي حققها سلفنا الصالح، صحابة النبي صلى الله عليه وسلم. فكان أن فتحت عليهم المشارق والمغارب، ودانت أمم الجبابرة، وعم على أيديهم نور الإسلام أنحاء المعمورة. فكانوا قدوة للعالمين في تمسكهم بعقيدتهم، والتزامهِم بتعاليم دينهم، وفي وحدتهم وتناصحهم وجهادهم، بعد أن كانوا في جاهليتهم مضرباً للمثل في الفرقة، والفردية الأنانية، والذل، وما ذلك إلا بإرادة الله وفضل الإسلام. والله الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 مصادر ومراجع ... المصادر والمراجع 1- ابن البطريق، أوثيشيوس الاسكندري (المتوفى سنة 328هـ) : التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق. بيروت 1904م. 2- ابن حنبل، الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن محمد ... بن هلال (164-241هـ) : المسند، تعليق أحمد محمد شاكر. القاهرة 1946م. 3- ابن سعد، محمد بن سعد بن منيع الهاشمي البصري، أبو عبد الله: الطبقات الكبرى. بيروت 1957م الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 4- ابن عساكر، علي بن الحسن بن هبة الله ... الدمشقي الشافعي، أبو القاسم (499ـ 571هـ) : تاريخ دمشق وأخبارها (التاريخ الكبير) . دمشق 1329هـ. 5- الأزدي، محمد بن عبد الله ... البصري، أبو إسماعيل البصري: فتوح الشام. كلكتا 1854م. 6- البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البغدادي (القرن الثالث الهجري) : فتوح البلدان. نشر صلاح المنجد، القاهرة 1956، أنساب الأشراف، القاهرة. 7- . GRESWELL (K.A.C) : EARLY MUSLEM ARCHITECTURE YMMAYYADS 622-750 LSTED.OXFOD 1940 8- خليفة بن خياط، أبو عمر بن خياط بن أبي هبيرة ... الليثي، العصفري، الملقب بشهاب (القرن الثالث الهجري) تاريخ خليفة بن خياط. تحقيق أكرم ضياء العمري. بغداد 1967م. 9- خليل طوطح، وبولس شماده: تاريخ القدس ودليلها. القدس، بدون تاريخ. 10- STRANGE (GUY LE) : PALESTINE UNDER THE MUSLIMS: LONDON 1980. 11- الطبري، أبو جعفر، محمد بن جرير (224- 310هـ) : تاريخ الرسل والملوك. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة 1960-1969م. 12- مجير الدين العليمي، عبد الرحمن بن محمد ... العليمي المقدسي (810-927هـ) : الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل. عمان 1977م. 13- مسلم، الإمام المسلم أبو الحسن بن الحجاج بن مسلم القشيري (206-261هـ) : الجامع الصحيح. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. القاهرة 1955م- 14ـ الواقدي، أبو محمد عبد الله بن عمر 130-207هـ: فتوح الشام، عمان 1975م. 15- ياقوت، بن عبد الله الرومي الحموي (575-626هـ) : معجم البلدان. بيروت 1955م. 16- اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، إسحق بن جعفر بن وهب بن واضح، العباسي المعروف بابن واضح، وابن اليعقوبي (المتوفى 284هـ) : تاريخ ابن واضح. النجف 1358هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195