الكتاب: البدهيات في القرآن الكريم المؤلف: أ. د. فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الطبعة: السنة 27 العددان 103 و 104 - 1416/ 1417هـ/1986 - 1987م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- البدهيات في القرآن الكريم فهد الرومي الكتاب: البدهيات في القرآن الكريم المؤلف: أ. د. فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الطبعة: السنة 27 العددان 103 و 104 - 1416/ 1417هـ/1986 - 1987م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] لبدهيات في القرآن الكريم د. فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي أستاذ مشارك ورئيس قسم الدراسات القرآنية كلية المعلمين - الرياض - بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد: فقد كان الناس في جهالة جهلاء وضلالة عمياء فأنزل الله تعالى هذا القرآن وأخرجهم به من الظلمات إلى النور وصاروا بعد أن كانوا في أدنى درجات الجاهلية خير أمة أخرجت للناس. آمنوا بالقرآن واتبعوه وساروا على نهجه وانقادوا لحكمه بعد أن أدركوا ساعتها إعجاز الذي لا يمكن أن يأتي بمثله بشر. واقتضت حكمة الله تعالى أن يكون هذا الكتاب خاتم الكتب فكان إعجازه مصاحباً له عند كل أمة، ومع كل جيل وفي كل قرن. فنيت أُمَمٌ وذهبت أجيال، والقرآن هو هو مازال إعجازه متجدداً ومازال عطاؤه مستمراً يعلن أنه صالح لكل زمان ومكان. وتعددت وجوه إعجازه وتنوعت يدرك منها الناس في كل عصر وجوها وتغيب عنهم وجوه. حتى ما كان يعتقد أنه قد استُوفي وأخذ حَقَّه من الدراسة والبحث وكاد أن يغلق بابه لا يلبث الناس أن يروا أنهم لازالوا في أول درجاته. خذوا مثلا الإِعجاز البلاغي في القرآن الكريم أدركه القوم الذين نزل فيهم وتذوقوه، وأولاه مَنْ بعدهم عناية أكبر بالدراسة ثم جاءت قرون تالية ظهر فيه أئمة البلاغة وأرباب الفصاحة وأَوْلَوا القرآن عنايتهم، كيف لا وهو مثلها الأعلى في البلاغة والفصاحة والبيان فدرسوا وبينوه ووقفوا عند صور البلاغة، وأساليب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 البيان، وقوف شحيحٍ ضاع في الترب خاتمه حتى ظننا أنه لم يبق شيء لها يدرسوه. وفي القرآن آيات قريبة المعنى ظاهرة الدلالة، بل إن وضوح معناها وظهوره كان لدرجة أنْ لا يخفى على أحد بل إن المتأمل ليقف متسائلا، عن الحكمة في ذكرها على هذه الدرجة من الوضوح، وآيات من هذا النوع تذكر قضية لا يختلف فيها اثنان بل هي أمرٌ بَدَهَيّ يدركه الإِنسان من فوره. فهذه آيات تذكر معلومةً لا تخفى أو أثراً ظاهراً لا يحتاج إلى تقرِير أو بيان، ونجزم أنه لابد لذلك من حكمة، ولابد له ومن فائدة، وإلا كان حشوا يتنزه عنه كلامُ البلغاء فضلاً عن كلام الرحمن القران الكريم. وقد تناول المفسرون وعلماء البلاغة آيات هذا النوع آحادا في كتبهم ولم يدرسوها مجتمعة إلا إشارات سريعة كأن يشير أحدهم إلى آيتين أو ثلاث تشبه الآية التي يدرسها وهو من النادر أيضا. وقد اجتمع لدي مجموعة من هذا النوع من الآيات التي رأيت أنّ دلالتها على المقصود أمراً بدهيّا، فنظرت فيها وفي كلام أهل التفسير والبلاغة عنها، وحاولت تحديد أنواعها، وأقسامها، وضرب الأمثلة لكل نوع منها وذكر أقوال المفسرين في بيان الحكمة فيها ووجه بلاغتها وهي على كلٍ خطوة شي طريق طويل وجديد. طويل لدرجة أن تصلح بعض أجزائه رسائل للدراسات العليا، وجديد إذ أن أقوال العلماء فيه شذرات متفرقة. وهذا جهدي، ومبلغ طاقتي وأسأل الله أن يجعل عملي خالصا لوجهه إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. فهد بن عبد الرحمن الرومي صبيحة يوم السبت 8/7/1415هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 المراد بالبدهيّات: البداهة أول كل شيء, وما يفجأ من الأمر، والبديهة: المعرفة يجدها الإِنسان في نفسه من غير إعمالٍ للفكر ولا علمٍ بسببها. والبديهة قضية اعترفَ بها ولا يحتاج في تأييدها إلى قضايا أبسط منها مثل أنصاف الأشياء المتساوية متساوية 1. وقد عَدَّ ابن حزم رحمه الله تعالى من معارف النفس ما أدركت بحواسها الخمس ثم عَدَّ الإدراك السادس علمها بالبديهيات ومَثَّلَ لذلك بعلمها أن الجزء أَقل من الكُلَّ، وأنَ الضِّدين لا يجتمعان، وأنه لا يكون فعل إلا لفاعل، وغير ذلك، ثم وصفها بأنها أوائل العقل التي لا يختلف فيها عقل.. وليس يدري أحد كيف وقع العلمُ بها.. وأنها ضرورات أوقعها الله في النفس، ولا سبيل إلى الاستدلال البتة إلا من هذه المقدمات, ولا يصح شيء إلا بالرد إليها, فما شهدت له مقدمة من هذه المقدمات بالصحة فهو صحيح متيقن وما لم تشهد له بالصحة فهو باطل ساقط إلا أن الرجوع إليها قد يكون من قرب ومن بعد, فما كان من قرب فهو أظهر إلى كل نفس وأمكن للفهم، وكلما بعدت المقدمات المذكورة صعب العمل في الاستدلال حتى يقع في ذلك الغلط إلا للفَهِم القوي الفَهْم والتمييز2.   1 المعجم الوسيط ج1 ص 44. 2 الفصل في الملل والأهواء والنحل: ابن حزم، ج1 ص (5-7) بتصرّف. ولمزيد تفصيل في مذهب ابن حزم في ذلك انظر مقال (العقل والحقيقة) للأستاذ أبي عبد الرّحمن ابن عقيل, مجلّة الفيصل العدد 215ص 48-50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وقال الجرجاني: "البديهي: هو الذي لا يتوقف حصوله على نظر وكسب، سواء احتاج إلى شيء آخر من حدسٍ أو تجربة أو غير ذلك أو لم يحتج، فيرادف الضروري. وقد يراد به ما لا يحتاج توجه العقل إلى شيء أصلاً فيكون أخص من الضروري كتصور الحرارة والبرودة، وكالتصديق بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان "1, وقيل البدهي هو الذي يفرض نفسه فرضاً على العقل ولا يترك له أدنى مجال للشك2. وينبغي أن نُفَرِّقَ هنا بين البدهيات والمسَلَّمَات، فقد عَرَّفَ الجرجاني المُسَلَّمَات بأنها " (قسم من المقدمات الظنية) وهي قضايا تُسَلَّمُ من الخصم ويبنى عليها الكلام لدفعه سواء كان مسلمة بين الخصمين أو بين أهل العلم كتسليم الفقهاء مسائل أصول الفقه " 3. ويبدو أن العلاقة بين البدهيات والمُسَلَّمَات علاقة عموم وخصوص، فكل بدهية مُسَلَّمَة وليست كل مُسَلَّمَة بدهية فالبدهيات أخص من المُسَلَّمَات. ومن أمثلة المُسَلَّمَات الاحتجاج على الخصم بما لا يجد بُدَّاً من التسليم به فحين احتج إبراهيم على المَلِك بأنَّ الربَّ هو الذي يُحيي ويُميت، كابَرَ وأَنكر التسليم بذلك فغالط وادعى أنه يُحيي ويُميت فَرَدَّ عليه إبراهيم عليه السلام بقضية مُسَلَّمَة لا يستطيع معها المكابرة {فَإِنَّ الله يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} 4, فلم يستطع الملك إنكار هذه القَضية {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَر} 5.   1 التعريفات للجرجاني: ص53. 2 معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية: جلال الدين سعيد، ص75. 3 التعريفات: الجرجاني، ص 241. 4 سورة البقرة: من الآية 258. 5 سورة البقرة: من الآية 258. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 ومن أمثلة ذلك الاحتجاج بالمبدأ وهو مُسَلَّمٌ لإثبات المعاد على من ينكره {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ, قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} 1. ومثل هذا المسائل والقضايا وإن كانت مُسَلَّمَة إلا أنها تحتاج إلى نَظَرٍ وكَسْبِ ولا يجدُها الإِنسان في نفسه من غير إعمالٍ للفكر ولا عِلْمٍ بسببها مما هو خاَص بالبدهيات. ولعله يظهر بهذا النوعُ الذي نريد دراسته هنا من القضايا التي تناولها القرآن الكريم وهي القضايا التي يستغرب التالي للقرآن والمتدبرُ لمعانيه النَصَّ عليها في القرآن مع أنَّ حصولها لا يتوقف على نظر وكَسْب ولا يختلف فيها عقل، فقوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَة} 2. بعد قوله: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} , قضية بدهية لا يحتاج إدراكُها بعد تَوجّه العقل إلى شيء أصلا. وكذا قوله تعالى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْه} 3, فإنَّ ذِكْرَ طيران الطير بجناحيه مما يدعو إلى السؤال عن السِّرِّ في النص على ذلك مع أنه من البَدَهيّ أنَّ الطير لا يطير إلا بجناحيه فيكفي في إدراك ذلك مجرد ذكره دون ذكر آلة طيرانه فهذا لا يحتاج إلى أكثر من توجه العقل. والبدهيات – فيما أحسب - تنقسم من حيث مصدر البداهة إلى قسمين: أولهما: ما جاءت بداهته من حيث أنَّ النص الثاني نتيجة بدهية للنص الأول مثل: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} 4, حيث قال بعدها: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَة} 5, وهي نتيجة حسابية لا تحتاج إلى أكثر من   1 سورة يس الآيتين 78- 79. 2 سورة البقرة: آية 196. 3 سورة الأنعام آية 38. 4 سورة البقرة: آية 196. 5 سورة البقرة: آية 196 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 تَوَجّه العقل ويستند إدراكها إلى النصر الأول مع التوجه العقلي الأولي لإدراكها. ثانيهما: ما جاءت بداهته من التوجه العقلي الأَوَّلِيّ دون استناد إلى نصٍ سابقٍ كمقدمة له، مثل: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} (المؤمنون:15) , فإنَّ إدراك هذا الأمرَ البدهي معلوم لا يحتاج إلى أكثر من توجه العقل تَوَجّهاً أَوَلِيَّاً حتى ولو لم يسبقه نصر يقرره أو يؤدي إليه بالضرورة. ونستطيع أن نذكر بعد هذا أنًا نريد بالبدهيات في القرآن الآيات التي يذكر فيها لازم ما سبقه من كلام أو آلته أو نتيجة حسابية لعددين لا يحتاج جمعُهما لغير توجه العقل توجها أوليَّاً. وقد يعتقد كثير من الناس أنَّ البدهيات بهذا المعنى لم ترد في القرآن إلا قليلاً والحق أنها وردت شي كثير من الآيات يمر عليها كثير من التالين للقرآن من غير أن يكون في إدراك معناها جسأة1 توقفهم- ولو هنية- للتأمل والتفكر فيمرون عليها سريعا وكأن قوة ظهور معناها عامل على سرعة تجاورها، وحصان حق هذه الآيات أن نقف عندها طويلا، لا لاستظهار معناها هذا قد كفيناه، وإنَّما للتدبر والتفكر في سِرِّ إظهار معناها هذا الظهور وحكمةِ ذلك. ولكثير من المفسرين وقفات عند مثل هذه الآيات طويلة عند بعضهم، وقصيرة عند آخرين وهم حين يتناولونها فإنَّمَا يتناولونها آحاداً من غير مقارنة بينها أو دراسة لموضوعها، ونَجدُ أنَّ مثل هذه الوقفات تظهر عند المهتمين في تفاسيرهم بالبلاغة واللغة، ولهذا فإنه ينبغي أن نبين صلة البدهيات بعلم البلاغة.   1 جسأ: جسئا وجسوءا وجسأة: يبس وصلب وخشن. (المعجم الوسيط ج1 ص 122) . 1 مفتاح العلوم للسكاكي، ص 196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 صلة البدهيات بالبلاغة مدخل ... صلة البدهيات بالبلاغة نشأ علم البلاغة كغيره من علوم اللغة العربية لخدمة القرآن الكريم وإظهار معانيه وإبراز أساليبه ولذا كان أغلب الأمثلة والشواهد التي يستدل بها علماء البلاغة من القرآن الكريم، ولا عجب في ذلك إذ أنهم يريدون ضرب الأمثال الظاهرة، والشواهد الواضحة، والدلائل القاطعة، على ما يريدون إثباته من صور البلاغة، وفي القران الكريم ما يطلبون وفوق ما يطلبون. وقد عَرَّفَ السَّكَّاكي البلاغةَ بقوله: "هي بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حَدّاً له اختصاص بتوفيِة خواص التركيب حَقّها، وإيراد التشبيه والمجاز والكناية على وجهها"1. وعرفها القزويني بقوله: " وأما بلاغة الكلام فهي مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته " 2. ونقل الجاحظ تعريفا لأحدهم فقال: "وقال بعضهم: - وهو من أحسن ما اجتبيناه ودَوَّنَاه - لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظَه, ولفظُه معناه، فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك"3. وإذا كان هذا هو تعريف البلاغة فإنا نجد المسائل البدهية في الآيات القرآنية من أدعى الآيات لإِظفار وجه مطابقتها لمقتضى الحال إذ قد يبدو لبعض التالين أنَّ ما قَرَّرَتْهُ لا جديدَ فيه، بل هو بدهي لا ينْكَرُ، وظاهر لا يخفى، فأين هذا ومطابقته لمقتضى الحال، وحين يتصدى البلاغيّون لمثل   1 الإيضاح العضدي، ص 7 2 البيان والتبيين: الجاحظ، ج1 ص 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 هذا فإنه يكشفون وجوها من أعلى درجات البلاغة، وأجل ما تقتضيه مراعاة حال المخاطب، وُيظهرون حِكْمةَ ورود الآية على هذا الوجه، وأنه ليس إلا ضرب من التفنن في الأساليب البلاغية، وأخذ بها من جميع أطرافها. ثم نجد أن البدهيات تدخل في أبواب عديدة من مباحث البلاغة كالإِطناب، والتوكيد، والتكميل، والتتميم، وغيرها، وليس في وسعنا تتبع هذه المباحث هنا واستقصاؤها وإنما نشير إلى مبحثين منها من أهمها وأوسعها أعني مَبْحَثَيّ الإِطناب والتأكيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الإِطناب: والإِطناب مصدر أطنب في كلامه إطناباً إذا بالغ فيه وطَوَّل ذيوله لإِفادة المعاني. واشتقاقه من قولهم: أطنب بالمكان إذا أطال مقامه فيه، وفرس مطنب إذا طال متنه، ومن أجل ذلك سُمِّي حبل الخيمة طنباً لطوله، وهو نقيض الإيجاز في الكلام 1. والعلاقة بين الإِطناب والبلاغة وثيقة بل عرفوا الإِطناب بأنه "البلاغة في المنطق والوصف مدحاً كان أو ذماً، وأطنب في الكلام: بالغ فيه"2. بل عرّفوا البلاغة بأنها: " الإِيجاز والإِطناب" 3 وإنما جمعوا بينهما وهما نقيضان لاختلاف المقامات فما يصلح في مقام لا يصلح في الآخر، ولهذا قال العسكري: "القول القصد أن الإِيجاز والإِطناب يُحتاج إليهما في جميع الكلام وكل نوع منه، ولكل واحد منهما موضع، فالحاجة إلى الإِيجاز في موضعه كالحاجة إلى الإطناب في مكانه، فمن أزال التدبير في ذلك عن جهته،   1 الطراز: يحي بن حمزة العلوي، ج2 ص 230. 2 لسان العرب: ابن منظور: ج1 ص 562 مادة (طنب) . 3 الإتقان: السيوطي، ج2 ص 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 واستعمل الإِطناب في موضع الإِيجاز، واستعمل الإِيجاز في موضع الإِطناب أخطأ. كما روي عن جعفر بن يحي أنه قال مع عجبه بالإِيجاز: "متى كان الإِيجاز أبلغ كان الإِكثار عِيّاً، ومتى كانت الكناية في موضع الإِكثار كان الإِيجاز تقصيراً". وأمر يحي بن خالد بن برمك اثنين أن يكتبا في معنى واحد، فأطال أحدهما، واختصر الآخر فقال للمختصر- وقد نظر في كتابه -: "ما أرى موضع مزيد"، وقال للمطيل: "ما أرى موضع نقصان". وقال غيره: "البلاغة الإيجاز في غير عجز، والإِطناب في غير خطل"1. فإذا عرفت الإِطنابَ ومكانته من البلاغة فينبغي أن تعرف الفرق بينه وبين التطويل والتكرير والترادف، فقد عرّفوا الإِطناب بأنه "زيادة اللفظ على المعنى لفائدة جديدة من غير ترديد"2 فقولنا:"زيادة اللفظ على المعنى " عام في الإِطناب والتطويل والتكرير والترادف. وقولنا: " لفائدة" يخرج عنه التطويل فإنه لغير فائدة وهذا هو الذي عليه الأكثر من علماء البلاغة, والإطناب صفة محمودة في البلاغة بخلاف التطويل فإنه صفة مذمومة في الكلام3. وقولنا: (جديدة) تخرج عنه الألفاظ المترادفة فإنها زيادة في اللفظ على المعنى لفائدة لغوية ولكنها ليست جديدة، وقولنا: "من غير ترديد" يخرج عنه   1 الصناعتين: لأبي هلال العسكري، صر 196. 2 الطراز: العلوي، ج2 ص 230. 3 الطراز العلوي،ج2 ص 232, والفوائد المشوق: ص 159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 التكرير فإنه دلالة على المعنى مرددا"1. وليس كل التكرار مذموماً فقد فرَّق الخطابي بين المحمود منه والمذموم فقال: "وأما ما عابوه من التكرار, فإن تكرار الكلام على ضربين: أحدهما: مذموم: وهو ما كان مُستغنىً عنه غير مستفاد به زيادة معنى لم يستفيدوه بالكلام الأول لأنه حينئذ يكون فضلا من القول ولغواً، وليس في القرآن شيء من هذا النوع. والضرب الآخر: ما كان بخلاف هذه الصفة ... وإنما يُحتاج إليه ويحسن استعماله في الأمور المهمة التي قد تعظم العناية بها، ويُخاف بتركه وقوعُ الغلط والنسيان فيها، والاستهانة بقدرها، وقد يقول الرجل لصاحبه في الحث والتحريض على العمل: "عجل عجل، وإرم إرم"، كما يكتب في الأمور المهمة على ظهور الكتب "مهم مهم مهم" ونحوها من الأمور"2. وإذا عرفنا الفرق بين الإِطناب والتطويل والتكرير والترادف، فإنه ينبغي أن نعرف أنَّ الإِطناب ينقسم إلى قسمين: الأول: ما يكون متعلقاً بالجملة الواحدة من الكلام وهو نوعان: 1- ما يَرِدُ من الإطناب علىِ جهة الحقيقة بأن يكون معنى اللفظ الزائد هو معنى المذكور، ويكون مغايرا له. ومن أمثلة هذا النوع قولنا: "رأيته بعيني", "وقبضته بيديَ"، "ووطئته بقدمي", "وذقته بلساني"، إلى غير ذلك من تعليق هذه الأفعال بما ذكر من الأدوات. وقد يظن ظان أن تعليق هذه الأفعال بهذه الآلات إنما هو لغو لا حاجة إليه فإن تلك الأفعال (الرؤية، القبض، الوطء، الذوق) لا تُفعل إلا بهذه الآلات   1 الطراز: العلوي ج2 ص 230, والمثل السائر: ابن الأثير، ج2 ص128. 2 بيان إعجاز القرآن: الخطابي ص47-48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 (العين، اليد، القدم، اللسان) وليس الأمر كما يظن الظان, بل هذا إنما يقال في كل شيء يعظم مَنَالُه ويَعزُّ الوصولُ إليه أو يصعب تصديقه، أو يشتد إنكاره، فيؤتى بهذه الأدوات على جهة الإِطناب دلالة على نيله، أو لتأكيد وقوعه، كما لو أنكر المخاطب قولاً نسبته إليه فقلتَ: "لقد قلته بلسانك وسمعته منك بأذني"، مع أن القول لا يكون إلا باللسان وأن السماع لا يكون إلا بالأذن, فإن أحداً لا يُنكر من قولك، بل يدرك أنك ذكرت ما ذكرت لعِلَّة مقبولة. وعلى هذا النحو ورد قولُه تعالى: {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُم} (الأحزاب: من الآية4) 1, لأن هذه الآية إنما وردت في شأن جعل الزوجة الحلال بمنزلة الأم. الحرام في الظهار وفي جعل الأدعياء أبناء فأعظم الله الرَّدً والإِنكار في أن تكون الزوجة أمّاً والمملوك ابناً وأنَ مثل هذا يكون محالا2. 2- ما يرد من الإِطناب في الجملة الواحدة على جهة المجاز وهذا كقوله تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: من الآية46) 3. إذ من المعلوم أنَّ القلوبَ لا تكون إلا في الصدور، إلا أنه لِمَا عُلِمَ وتحقق أنَّ العمى على جهة الحقيقة إنما يكون في البصر وأن استعماله في القلوب إنما يكون على جهة التجوز بالتشبيه، فلما أريد ما هو على خلاف المتعارض من نسبة العمى إلى القلوب ونفيه عن الأبصار لا جَرَمَ احتاج الأمر فيه إلى زيادة تصوير وتعريف ليتقرر أنَّ مكان العمى هو القلوب لا الأبصار4. الثاني: الإطناب الذي يكون في الجمل المتعددة وهو أربعة أنواع هي:   1 سورة الأحزاب: الآية 4. 2 انظر الطِراز: العلوي، ج2 ص 235 - 236. 3 سورة الحج: الآية 46. 4 الطِراز: العلوي، ج2 ص 237. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 1- أن يذكر الشيء فيُؤتى فيه بمَعَانٍ مُتداخلة، إلا أن كل معنى يختص بخصيصة ليست للآخر كقول أبي تمام: مِنْ مِنَّةٍ مشهورةٍ وصنيعةٍ بكرٍ وإحسانٍ أَغَرَّ مُحَجَّل1 فالمِنَّة والصنيعة والإِحسان أمور متقاربة وليس ذلك من قبيل التكرير لأنها إنما تكون تكريراً لو اقتصر على ذكرها مُطلقة من غير صفة كأن يقول: "منة وصنيعة وإحسان" ولكنه وَصفَ كلَّ واحدة منها بصفة تخالف صفة الآخر فلا جرم أخرجها ذلك عن حكم التكرير. 2- النفي والإِثبات: " وهو أن يُذكر الشيء على سبيل النفي، ثم يذكر على سبيل الإِثبات أو بالعكس من ذلك، ولابد من أن يكون في أحدهما زيادة فائدة ليست في الآخر يؤكد ذلك المعنى المقصود وإلا كان تكريرا وذلك كقوله تعالى: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَالله عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ, إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} (التوبة:44- 45) 2. فالآية الثانية كالآية الأولى إلا في النفي والإِثبات، فإن الأولى من جهة الإِثبات والثانية من جهة النفي، فلا مخالفة بينهما إلا فيما ذكرناه خلا أن الثانية اختصت بمزيد فائدة وهي قوله: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} ... ولولا هذه الفائدة لكان ذلك تكريراً ولم يكن من باب الإطناب.   1ديوان أبي تمام: ص206. 2 سورة التوبة: الآيتين 44- 5 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 3- أن يذكر المعنى الواحد تماماً لا يحتاج إلى زيادة ثم يُضرب له مثال من التشبيه كقول البحتري يصف امرأة: 1 ذات حسن لو استزادت من الحسن إليه لما أصابت مزيدا فهي كالشمس بهجة والقضيب الَّلْدن قدَّا والريم طرفا وجيد ا فالبيت الأول كان كافيا وتماما في إفادة المدح غير أنَّ في البيت الثاني تشبيها أفاد تَصَوُّرا وتخيلا لا يحصل من المدح المطلق وهذا الضرب له موقع بديع في الإِطناب. 4- الاستقصاء في ذِكْرِ أوصاف الشيء للمدح أو الذم ونحوهما كقول بعضهم: لأعلى الورى قدرا وأوفر هم حجى وأرشدهم رأيا وأسمحهم يدا 2 فهذه أقسام الإِطناب في الجملة الواحدة وفي الجمل المتعددة, وله أساليب متنوعة لا نطيل بتفصيلها ولا نقصر عن إيجازها فمنها: 1) الإِطناب بالاعتراض. 2) الإِطناب بالإيضاح. 3) الإِطناب بالإِيغال. 4) الإِطناب بالبسط. 5) الإِطناب بالتتميم. 6) الإِطناب بالتذييل.   1 ديوان البحتري: ج1 ص 591. 2 أقسام الإِطناب في الجمل المتعددة نقلتها عن كتاب الطراز: للعلوي، ج2 ص 238-244. وانظر الفوائد المشوق: ص 157-159. ومعجم المصطلحات البلاغية وتطورها د. أحمد مطلوب، ج1 ص 225-226. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 7) الإِطناب بالتكميل. 8) الإِطناب بالتكرير. 9) الإِطناب بالتوشيع. 10) الإطناب بذكر الخاص. 11) الإِطناب بالزيادة. وبهذا ندرك منزلة الإِطناب في علم البلاغة ومكانته الكبيرة وأنه محيطها الأكبر الحائز على نصيب أكبر من مباحثها، وأن مباحث أخرى ليست إلا من فروعه وإن طالت، ولذا أطنبتُ في الحديث عنه وما أطلت وما ذاك إلا لأنه وثيق الصلة ببحثنا أو إن شئت فقل: إن بحثنا وثيق الصلة به، ذلكم أن المعاني البدهية كما أشرت في تعريفها هي لازم ما سبقها من كلام أو آلته التي لا يكون إلا بها فتبدوا لأول وهلة إن لم تكن تطويلا فهي إطنابا، ينبغي تعليل اختياره، وتوضيح حكمته، وبيان معناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 التأكيد : وهو تمكين الشيء في النفس وتقوية أمره. وفائدته: إزالةُ الشكوك وإماطة الشبهات عَمَّا أنت بصدده 1. وأنواعه كثيرة2 ويهمنا منها التوكيد الصناعي وهو أربعة أقسام: أحدها: التوكيد المعنوي بالنفس والعين وكل وجميع وعَامَّة وكِلا وكِلتا3. الثاني: التأكيد اللفظي وهو تكرار اللفظ الأول، إما بمرادفه كقوله تعالى:   1 الطراز العلوي، ج2 ص176. 2 ذكر الزركشي في البرهان ثمانية وعشرين قسما للتوكيد وفصل القول فيها من ص 384 ج2 إلى ص 101 ج3. 3 أوضح المسالك: ابن هشام، ج 3 ص 327 – 328. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 {ضَيِّقاً حَرِجاً} 1 على قراءة كسر الراء2 و {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} 3, وإما بلفظه، ويكون التكرار للاسم والفعل والحرف والجملة, فالاسم مثل: {قَوَارِير قَوَارِير} 4, والفعل: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} 5, واسم الفعل نحو: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ} 6, والحرف نحو: {فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} 7, والجملة نحو: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً, َإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} 8،9. الثالث: تأكيد الفعل بمصدره وهو عِوَض من تكرار الفعل مرتين، وفائدته: رفعُ تَوَهُّم المجاز في الفعل بخلاف التوكيد السابق فإنه لرفع توهم المجاز في المسند إليه10. ويكون تأكيد الفعل بمصدره نحو: {وَكَلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِيماً} 11 وتارة   1 سورة الأنعام الآية 125. 2 وهي قراءة نافع وأبى بكر وقرأ الباقون بفتح الراء (التذكرة في القراءات: ابن غلبون، ج2 ص 410 والكشف عن وجوه القراءات السبع لأبي مكي ابن أبي طالب، ج1 ص450) . 3 سورة فاطر: الآية 27. 4 سورة الإنسان الآيتين 15-16. 5 سورة الطارق الآية 17. 6 سورة المؤمنين الآية 36. 7 سورة هود الآية 108. 8 سورة الانشراح الآية 5-6. 9 الإتقان: للسيوطي، ج2 ص 66. 10 المرجع السابق. 11 سورة النساء الآية 164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 يكون تأكيده بمصدر فعلٍ آخر نحو: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} 1 إذا المصدر تبتلا، والتبتيل مصدر بَتَّل2, وتارة يكون التأكيد بمرادفه كقوله تعالى: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً} 3, فإن الجهار أَحَدُ نوعيّ الدعاء4, ويحتمل أن يكون منه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} 5. ومثل هذه الآية في التصريح بالمصدر مع ظهوره فيما قبله قوله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَن} 6وقوله: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} 7 وقوله: {سَأَلَ سَائِلٌ} 8،9. الرابع:10 الحال المُؤكِّدة لعاملِها وهي الآتية لتأكيد الفعل وسميت مُؤكِّدة لأنها تُعلم قبل ذكرها فيكون ذكرها توكيداً، لأنها معلومة من ذكر صاحبها كقوله تعالى: {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} 11 فالحياة معلومة من ذكر البعث, وكقوله تعالى: {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} 12. فالإِفساد معلم من مجرد ذكر العثو وهو أشد الإِفساد13 وكقوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} 14 فعدم   1 سورة المزّمّل: الآية 8. 2 الإتقان السيوطي ج2 ص66. 3 سورة نوح: الآية 8. 4 البرهان للزركشي ج2 ص394. 5 سورة البقرة: الآية 282. 6 سورة آل عمران: الآية 37. 7 سورة التوبة الآية 111. 8 سورة المعارج: الآية الأولى. 9 البرهان للزركشي ج2 ص 398- 399. 10 البرهان: للزركشي ج2 ص 402. والإتقان للسيوطي ج2 ص 66. 11 سورة مريم: الآية 33. 12 سورة العنكبوت: الآية 76. 13 المعجم الوسيط: ج2 ص 590 - مادة (عثا) . 14 سورة ق: الآية 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 البعد معلوم من (أزلفت) إذ معنى زَلَفَ: دنا وتقدم 1. وبعد عرض- أحسبه سريعاً- للإِطناب والتأكيد تظهر لنا الصلة الوثيقة بالبدهيات ومن ثَمَّ صلةُ هذه الأخيرة بالبلاغة.   1 المعجم الوسيط: ج1 ص 399 مادة (زلف) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 أنواع البدهيات مدخل ... أنواع البدهيات: أشرت في تعريف البدهيات إلى انقسامها من حيث المصدر إلى قسمين ونحن هنا لا نقصد هذا المعنى وإنما نقصد أنواعها من حِيثُ هي بَدَهِيَّة. ولا أدعي أنَّ هذا التقسيم حاصرٌ إذ هو ليس إلا محض اجتهاد ممن قَصُرَ باعُه في قضية تحتاج إلى جلاء وبيان، وتمعنٍ وتفكرٍ، واستقصاءٍ وشمولٍ، فَلَعليِّ أذكر ما توصلتُ إليه وإن قَلَّ. بعد استقراء أو شبه استقراء أرى أنَّ البدهيات تنقسم إلى أنه ثلاثة: الأول: بدهية حسابية. الثاني: بدهية لغوية. الثالث: بدهية عادية. وسأتناول هذه الأنواع الثلاثة مُعَرِّفاً ومُمَثِّلاً لكل نوع بإذن الله تعالى.   1 المعجم الوسيط: ج1 ص 399 مادة (زلف) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 أولا: البدهية الحسابية : وتنقسم إلى قسمين: - القسم الأول: فذلكة2 عددين مذكورين تفصيلا يُدركُ العقلُ مجموعَهما من فوره ولا يحتاج إلى ذكرِ مجموعهما. وفي القرآن من هذا النوع آيتان:   2 فدْلَك الحِسَابَ: أنهاه وفرغ منه، وهي منحوته من قوله: - إذا أجمل حسابه - فذلك كذا وكذا (الفذلكة) مُجْمل ما فُصِّل وخلاصته. (المعجم الوسيط ج2 ص 685) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 الآية الأولى: قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} 1، فقوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} جمع للثلاثة والسبعة وهي نتيجة يدركها العقل لأول وهلة من غير أن يحتاج إلى أن تجمع له ليُسْرِها وشُرْبِها إلى الذهن. وقد يُسأل عن الحِكْمَةِ في إظهارها مع ظهورها؟ وللعلماء في بيان هذه الحكمة أقوال كثيرة فاضت قرائحهم في جلائها وتنافسوا في إبرازها والمصيب فيهم وإنْ اختلفوا غيرُ واحد، بل قد يكون الصواب حليفهم جميعا فإن الآية الواحدة قد تجمع وجوهاً بلاغية مختلفة، لأن الأوجه البلاغية لا تتزاحم. ولن نستوعب الأقوال كلها فلنتقصر على أبرزها فمنها: 1- جوابُ الزمخشري "فإن قلت: فما فائدة الفذلكة؟ قلتُ: الواو قد تجيء للإِباحة نحو قولك "جالس الحسنَ وابنَ سيرين"، ألا ترى أنه لو جالسهما جميعا أو واحداً منهما كان ممتثلا، ففُذلِكَت نفياً لتوهم الإِباحة" 2. وتعقبه أبو حيان في تفسيره فقال: "وفيه نظر؛ لأنه لا تتوهم الإِباحة هنا، لأن السياق إنما هو سياق إيجاب وهو ينافي الإِباحة ولا ينافي التخيير لأن التخيير قد يكون في الواجبات" 3. 2- ونقله أبو حيان في تفسيره عن أبي الحسن علي بن أحمد الباذش ووصفه بأنه أحسن الأقاويل فقال " أتى بعشرة توطيةً للخبر بعدها لا أنها هي الخبر المستقل به فائدة الإِسناد فجيء بها للتوكيد كما تقول: "زيد رجل   1 سورة البقرة: الآية 121. 2 الكشّاف: الزمخشري، ج1 ص 121. 3 البحر المحيط: أبو حسان، ج2 ص80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 صالح "1 أي أنَّ إتيانك بلفظ (رجل) للتوصل بها إلى وصفه بالصالح وكذا جاءت كلمة (عشرة) توطئة لوصف الثلاثة والسبعة بالكمال. 3- ونقل الزمخشري2 وأبو حيان3 عن ابن عرفه قوله "مذهب العرب إذا ذكروا عددين أن يجملوهما "وحَسَّنَ الزمخشري هذا القول وقال: "وفائدة الفذلكة في كل حساب أن يُعلَم العدد جملة كما علم تفصيلا ليُحاط به من جهتين فيتأكد العلم, وفي أمثال العرب: "عِلْمَان خير من علم"4, قال أبو حيان: "قال ابن عرفة: وإنما تفعل ذلك العرب لقلة معرفتهم بالحساب" ثم استشهد أبو حيان لهذا بشواهد من أشعار العرب كقول الأعشى: ثلاثة بالغداة فهي حسبي وسِتّ حين يد ركني العشاء فذلك تسعة في اليوم ريّيّ وشرب المرءِ فوق الريِّ داء وقال الفرزدق: ثلاث واثنتان وهن خمس وسادسة تميل إلى شمام قلتُ: ولا يزال هذا هو السائد عند العرب وغيرهم في ذِكْر الأَعداد في الحساب فإنهم يذكرون الأرقام مفردة ثم يكتبونها مجموعة بالأَرقام ويُتْبعُون ذلكَ كتابةَ مجموعها بالحروف ثم يؤكدون الجمع بقولهم: (فقط) أو (لا غير) ويفعل هذا أَعرف الناس بالحساب، ولذا فلا وجه لقول ابن عرفة رحمه الله الآنف الذكر أنَّ العرب تفعله لقلة معرفتهم بالحساب.   1 المرجع السابق ج2 ص 79- 80. 2 الكشّاف: الزمخشري، ج1 ص 12. 3 البحر المحيط: أبو حيان ج2 ص 79. 4 البحر المحيط: أبو حيان، ج2 ص 79- 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 4- قول الزجاج: "جَمَعَ العددين لجواز أن يُظَنّ أنَّ عليه ثلاثة أو سبعة، لأن الواو قد تقوم مقام (أو) ومنه: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} 1, فأزال احتمال التخيير", قال أبو حيان: "وهو الذي لم يذكر ابن عطية إلا إياه وهو قولٌ جارٍ على مذهب أهل الكوفة لا على مذهب البصريين لأن الواو لا تكون بمعنى أو"2. 5- أنه ذكر العَشْرَة لئلا يتوهم أنَّ الثلاثة داخلة في السبعة فرفع ما قد يهجس في النفس من أن المتمتع إنَّما عليه صوم سبعة أيام لا أكثر, ثلاثة منها في الحج وُيكمل سبعا إذا رجع3. وذلك كقوله تعالى: {خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْن} 4. فإنها داخلة في الأربعة أيام بعدها {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} 5. 6- وقيل هو تقديمٌ وتأخيرٌ تقديرُه: "فتلك عشرة: ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجعتم" عزا هذا القول إلى أبي العباس المبرد، قال أبو حيان6: "ولا يصح مثل هذا القول عنه، وننزه القرآن عن مثله". وقال الزركشي: "وهذا وإن كان خلاف الأصل لكن الإِشكال ألجأنا إليه"7. قلت: ولا يصح القول أنَّ الإِشكال يُلجؤنا إلى مثل هذا، إذ أن لذلك وجوها كثيرة أسلم منه وأصح فلا ضرورة للجوء إليه, ولا إشكال يُحوجنا إليه. 7- وقيل: ذكر العشرة لئلا يتوهّم أنَّ العدد سبعة لا يُراد بها العدد نفسه، بل الكثرة، فقد روى أبو عمرو بن العلاء وابن الأعرابي عن العرب: "سَبَّع الله لك الأجرَ" أي أكثر ذلك، يريدون التضعيف وقال الأزهري في قوله تعالى: {إِن   ْ1سورة النساء: الآية 3. 2 البحر المحيط: أبو حيان، ج2 ص80, وانظر المحرر الوجيز: أبو عطية، ج2 ص 161-162. 3 البرهان. الزركشي، ج2 ص480. والبحر المحيط: أبو حيان، ج2 ص 80. 4 سورة فصلت. الآيتين 9- 10. 5 سورة فصلت. الآيتين 9- 10. 6 البحر المحيط: ج2 ص 80. 7 البرهان: الزركشي، ج2 ص 480. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} 1 هو جمع السبع الذي يستعمل للكثرة. وإذا كان ذلك كذلك فاحتمل أن يُتوهّم أنَّ المراد بالسبع ما هو أكثر من السبع, فيجب حينئذ رفعُ هذا الاحتمال بذكر الفذلكة، قال الزركشي: "وللعرب مستند قوي في إطلاق السبع والسبعة وهي تريد الكثرة". وهناك أقوال أخرى كثيرة لا أريد الإِطالة بذكرها ويكفي منها ما ذكرت، وقد ختم أبو حيان ما أورده من توجيهات بقوله: "وبهذه الفوائد التي ذكرناها رَدٌّ على الملحدين في طعنهم بأن المعلوم بالضرورة أنَّ الثلاثةَ والسبعةَ: عشرةٌ فهو إيضاح للواضحات"2. الآية الثانية: قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} 3. فقوله تعالى: {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} فذلكة العددين: ثلاثين ليلة وعشر، وكل أحد يعلم أنَّ الثلاثين مع العشرة تكون أربعين4. وللعلماء في توجيه ذلك عدةُ أقوال منها: 1- قال أبو حيان في تفسيره: "والذي يظهر أنَّ هذه الجملة تأكيد وإيضاح"5. وكذا قال أبو يحي زكريا الأنصاري: " فائدته التوكيد"6. وقال الرازي: " فيه فوائد إحداها التأكيد" 7.   1 البحر المحيط: أبو حيان، ج2 ص 080 البرهان: الزركشي، ج2 ص 481. 2 البحر المحيط: أبو حيان، ج2 ص 80. 3 سورة الأعراف الآية 142. 4 الروض الريان: شرف الدين بن ريان، ج1 ص67. وتفسير الرازي: ج14 ص 226. 5 البحر المحيط: ج4 ص 381. 6 فتح الرحمن بكشف ما يلبس في القرآن: أبو يحي زكريا الأنصاري، ص 207. 7 مسائل الرازي وأجوبتها: محمد ابن أبي بكر الرازي، ص 99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 2- ومن فوائده " إزالة التوهّم أن تكون العشر من نفس الثلاثين فلما ذكر الأربعين زال الإِيهام "1 لأنه يحتمل أتممناها بعشر من الثلاثين كأنه كان عشرين ثم أتمه بعشر فصار ثلاثين فأزال هذا الإِيهام2 بأن الإِتمام إلى الثلاثين وبين أنه إلى الأربعين. 3- ومن فوائده "إزالة توهّم أن تكون عشر ساعات أي أتممناها بعشر ساعات"3. 4- ومن فوائده إزالة الَّلبْس في دخول العشر في المواعدة إذ أن النص في المواعدة على الثلاثين وأتت العشر بعدها فدخلها الاحتمال أن تكون من غير المواعدة فأعاد ذكر الأربعين نفيا لهذا الاحتمال وليعلم أن جميع العدد للمواعدة 4. هذه بعض توجيهات العلماء لهذه البدهية وبه يظهر وجه من أوجه البلاغة القرآنية. القسم الثاني: من البدهية الحسابية: ونريد به: ذكر عددين منسوبين إلى بعضهما ثم ذكر عددين آخرين بنفس النسبة بحيث يغني ذكرُ الأولى عن الثانية وتكون الثانية بدهية للأولى. وظهر لي من هذا النوع في القرآن آيتان هما: الآية الأولى: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ   1 الروض الريان: بن ريان، ج1 ص 67. 2 تفسير الرازي ج14 ص 226.والبحر المحيط: ج4 ص 381. ومسائل الرازي وأجوبتها: ص99. وفتح الرحمن: ص 207. 3 البحر المحيط: ج4 ص381 ومسائل الرازي ص 99 فتح الرحمن ص 207. 4 البرهان للزركشي: ج7 ص 478. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ, الآن الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} 1. فقوله: {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً} فُهِمَ مضمونه مما قبله، وكذا قوله بعد التخفيف: {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} مفهوم من قوله قبله: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} وقد أشار بعض المفسرين إلى حكمة ذلك: 1- فقيل: إنه لزيادة التقرير المفيدة لزيادة الاطمئنان قال أبو السعود: "وقوله تعالى: {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً} مع إنفهام مضمونه مما قبله لكون كل منهما عِدَة بتأييد الواحد على العشرة لزيادة التقرير المفيدة لزيادة الاطمئنان على أنه قد يجري بين الجمعين القليلين ما لا يجري بين الجمعين الكثيرين مع أن التفاوت فيما بين كل من الجمعين القليلين والكثيرين على نسبة واحدة فبَيِّن أنَّ ذلك لا يتفاوت في الصورتين"2. 2- وقريب من هذا المعنى ما ذهب إليه محمد بن أبي بكر الرازي والزمخشري وأبو يحي الأنصاري حيث قال الأول: "فإن قيل: ما فائدة تكرار المعنى الواحد في مقاومة الجماعة لأكثر منها قبل التخفيف وبعده في قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} إلى قوله: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} قلنا: فائدته الدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت، بل كما ينصر الله تعالى العشرين على المائتين ينصر المائة على   1 سورة الأنفال: 5 6- 66. 2 إرشاد العقل السليم: أبو السعود العمادي، ج4 ص 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 الألف، وكما ينصر المائة على المائتين ينصر الألف على الألفين"1. وقال نحو ذلك الزمخشري2, وأبو يحي الأنصاري3, والشوكاني 4. 3- وقيل: إن التكرار لمطابقة الواقع في عدد السرية والغزوة في ابتداء الإِسلام وبعد اتساع نطاقه. وذهب إليه أبو حيان حيث قال: "ومناسبة هذه الأعداد أن فرضية الثبات أو ندبيته كان أولاً في ابتداء الإِسلام فكان العشرون تمثيلا للسرية والمائة تمثيلاً للجيش فلما اتسع نطاق الإسلام وذلك بعد زمان كان المائة تمثيلا للسرايا والألف تمثيلا للجيش" 5. الآية الثانية: قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} 6. فقوله {وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ} معلوم من قوله سبحانه: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} ، فهذا يغني عن ذاك وقد عَلَّلَ المفسرين ذلك: 1- أن الآية نزلت في قومٍ من المنافقين اجتمعوا على التناجي مغايظة   1 مسائل الرازي وأجوبتها: محمد بن أبي بكر الرازي، ص 110. 2 الكشاف: الزمخشري، ج2 ص 134. 3 فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن: أبو يحي زكريا الأنصاري، ص 223. 4 فتح القدير: الشوكاني، ج2 ص 324. 5 البحر المحيط: أبو حيان، ج4 ص 517. 6 سورة المجادلة: من الآية 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 للمؤمنين وكانوا على هذين العددين (ثلاثة وخمسة) 1. 2- أنَّ العدد الفرد أشرف من الزوج لأن الله تعالى وتر يحب الوتر2. وأقل عدد وتر يكون بينه مناجاة هو الثلاثة ثم الخمسة. 3- أنه قصد أنْ يذكر ما جرت عليه العادة من أعداد أهل النجوى المتخالين للشورى, والمندبون لذلك ليسوا بكل أحد, وإنما هم طائفة مجتباة من أًولي النُّهى والأحلام, ورهط من أهل الرأي والتجارب, وأول عددهم الاثنان، فصاعدا إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال وحكم الاستصواب3. وهناك أقواله أخرى4 يغني عنها ما ذكرته.   1 الكشاف: ج4 ص 74, والبحر المحيط: ح8 ص235, التحرير والتنوير: محمد الطاهر ابن عاشور، ج28 ص 26. مسائل الرازي: ص339. الروض الريان: ج2 ص 477. فتح الرحمن: ص 555. 2 الروض الريان ج2 ص 477، وفتح الرحمن: ص555. 3 الكشاف: ج4 ص 74. 4 انظر الروض الريان ج2 ص477. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ثانياً: البدهية اللغوية ... النوع الثاني: البدهية اللغوية: وأقصد بها البدهيةَ الدَّالٌ على بدهيتها المدلولُ اللغوي لكلمةٍ أو جملةٍ سابقة والأمثلة على ذلك كثيرة، نذكر منها: 1- قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} 5. قال في لسان العرب: "الصَوْب: ُ نزول المطر، ثم قال: والصَيِّبُ: السحاب ذو الصوب" وقال أبو إسحاق: "الصيب هنا المطر"6 وقال أبو حيان: "الصيب: المطر.. والسحاب أيضا " 7.   5 سورة البقرة: من الآية 19. 6 لسان العرب: مادة (صوب) ، ج1 ص 534. 7 البحر المحيِط: أبو حيان، ج1 ص 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 (قلت) وسواء كان الصيِّبُ المطر أو السحاب فإنَّ من المعلوم أَنهما من السماء فما الفائدة من قوله {مِنَ السَّمَاءِ} وهو معلوم من المدلول اللغوي لكلمة {صَيِّبٍ} وللعلماء في ذلك أقوال منها: 1) قال الزمخشري: " (فإن قلت) قوله {مِنَ السَّمَاءِ} ما الفائدة في ذكره والصيب لا يكون إلا من السماء، (قلت) الفائدة فيه أنه جاء بالسماء مُعَرَّفَة فنفى أن يتصوب من سماء أي من أفُقٍ واحد من بين سائر الآفاق لأن كل أفق من آفاقها سماء كما أنَّ كل طبقة من الطباق سماء في قوله: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} 1. والمعنى: إنه غمام مطبق آخذ بآفاق السماء"2. وقد ضَعَّفَه ابنُ عاشور في تفسيره واستبعده معللا ذلك بأنه لم يُعهد دخول لام الاستغراق إلا على اسمٍ كلي ذي أَفرادٍ دون اسم كلِّ ذي أجزاء فيُحتاج لتنزيل الأجزاء منزلةَ أَفراد الجنس ولا يُعرف له نظير في الاستعمال.3 2) وهو ما ذهب إليه ابن عاشور بعد استبعاده للقول السابق حيث قال: "فالذي يظهر لي إنْ جَعَلْنَا قولَه {مِنَ السَّمَاءِ} قيداً للصيِّب: أنَّ المرادَ من السماء أعلى الارتفاع، والمطر إذا كان من سَمْتٍ مقابل وكان عالياً كان أَدْوَم بخلاف الذي يكون من جوانب الجو ويكون قريباً من الأرض غير مرتفع"4. 3) وهو أيضا لابن عاشور حيث قال: "والظاهر أن قوله {مِنَ السَّمَاءِ} ليس بقيد للصيب وإنما هو وصف كاشف جيء به لزيادة استحضار صورة الصيب في هذا التمثيل إذ المقام مقام إطناب كقول امرئ القيس: كجلمود صخر حطه السيل من عَلِ   1 سورة فصلت: الآية 12. 2 الكشاف: الزمخشري، ج1 ص 41. وانظر مسائل الرازي وأجوبتها: ص4. 3 التحرير والتنوير: محمد الطاهر بن عاشور ج1 ص304. 4 التحرير والتنوير: ابن عاشور ج1 ص304. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 إذ قد عَلِمَ السامعُ أنَّ السيلَ لا يحط جلمودَ صخرٍ إلا من أعلى ولكنه أراد التصوير"1. 4) وهو رأي للألوسي, فبعد أن ذكر ما أوردناه أولاً قال: "وعندي أن الذكر (يعني ذكر السماء) يحتمل أن يكون أيضا للتهويل والإِشارة إلى أن ما يؤذيهم جاء من فوق رؤوسهم، وذلك أبلغ في الإِيذاء كما يشير إليه قوله تعالى: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} 2. وكثيراً ما نجد أنَ المرءَ يعتني بحفظ رأسه أكثر مما يعتني بحفظ سائر أطرافه حتى أن المستطيع من الناس يتخذ طيلسانا لذلك" 3. (قلتُ) ولا يمنع من اعتقاد صحة هذه الأقوال جميعاً, فذكر السماء بعد ذكر الصيب فيه إشارة إلى نزوله من آفاق السماء ومن ارتفاع, وهو وصف كاشف لزيادة استحضار الصورة, وبيان أن العذابَ جاء من فوق رؤوسهم فهي معاني لا تعارض بينهما. وبلاغةُ القرآن قد تدل عليها وعلى ما هو أكثر منها, وهكذا كلما كشفت طائفةُ وجهاً بلاغياً انكشف لطائفة أخرى وجهٌ آخر يُعلن للناس أنَّ بلاغة القرآن متجددة وأن معينها لا ينضب. 2- قوله تعالى: {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} 4. وقوله {مُفْسِدِينَ} بدهية لغوية إذ يدل عليه المدلول اللغوي لقوله: {وَلا تَعْثَوْا} ، والعثو: أشد الفساد5, فكأنه قال: (ولا تفسدوا في الأرض مفسدين) .   1 التحرير والتنوير: محمد الطاهر بن عاشور ج1 ص304. 2 سورة الحج: الآية 19. 3 روح المعاني. الآلوسي، 1ج ص171. 4 سورة البقرة الآية60. 5 الكشاف: الزمخشري ج1 ص 72. تفسير البسيط: الواحدي، ج3 ص957. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وقد أجاب الرازي في مسائله بأن معناه: "ولا تعثوا في الأرض بالكفر وأنتم مفسدون بسائر المعاصي"1. ومنهم من تحاشى ذلك ففسر العثو بغير الفساد, فنقل أبو حيان عن ابن عباس وأبي العالية معناه: "ولا تسعوا" وقال قتادة: "ولا تسيروا" ... وقيل معناه:" لا تخالطوا المفسدين" وقيل معناه: "لا تتمادوا في فسادكم" وقيل: "لا تطغوا" 2. وقد أشار ابن عاشور إلى علة أخرى لتفسير العثو بمعنى غير الفساد حيث قال: "وفي الكشاف جعل معنى لا تعثوا: لا تتمادوا في فسادكم, فجعل المنهي عنه هو الدوام على الفعل, وكأنه يأبى صحة الحال المؤكدة للجملة الفعلية, فحاول المغايرة بين {وَلا تَعْثَوْا} وبين {مُفْسِدِينَ} تجنباً للتأكيد, وذلك هو مذهب الجمهور, لكن كثيرا من المحققين خالف ذلك واختار ابنُ مالك التفصيلَ فإن كان معنى الحال هو معنى العامل جعلها شبيهة بالمؤكدة لصاحبها كما هنا. وخص المؤكدة لمضمون الجملة الواقعة بعد الاسمية نحو زيد أبوك عطوفا 3. وقد اختار ابن عاشور نفسه أنَّ {مُفْسِدِينَ} حال مؤكدة لعاملها4. 3- قوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 5. والبدهية هنا أن كلمة {إِلَهَيْنِ} مثنى وهو يدل على التثنية ومع هذا قال بعده {اثْنَيْنِ} وقد جَلا الزمخشريُّ في كشافه الوجه البلاغي لهذا الأسلوب فقال: "فإن قُلْتَ: إنَّما جمعوا بين العدد والمعدود فيما وراء الواحد والاثنين فقالوا: "عندي رجال ثلاثة، وأفراس أربعة" لأن المعدود عارٍ عن الدلالة على العدد   1 مسائل الرازي وأجوبتها: ص5. 2 البحر المحيط: أبو حيان، ج1 ص 231. 3 التحرير والتنوير: ابن عاشور، ج1 ص 498. 4 المصدر السابق ج1 ص231. 5 سورة النحل: الآية 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الخاص, وأما رجل ورجلان, وفرس وفرسان, فمعدودان فيهما دلالة على العدد فلا حاجة إلى أن يقال: (رجل واحد ورجلان اثنان) فما وجه قوله: {إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} ؟ قلتُ: الاسم الحامل لمعنى الإِفراد والتثنية دال على شيئين: على الجنسية والعدد المخصوص، فإذا أًريدت الدلالة على أن المَعْنِيَّ به منهما والذي يُساق إليه الحديث هو العدد شُفعَ بما يُؤكده فدل به على القصد إليه والعناية به ألا ترى أنك لو قلت: (إنما هو إله) ولم تؤكده بواحد لم يحسن، وخيل إنك تثبت الإلهية لا الوحدانية"1. وذكر الرازي وجوها مختلفة لذلك مال إلى أحدها فقال: "الأقرب عندي أن الشيء إذا كان مستنكراً مستقبحاً، فمن أراد المبالغة في التنفير عنه بعبارات كثيرة ليصير توالي تلك العبارات سببا لوقوف العقل على ما فيه من القبح" ثم ذكر قولا آخر هو أنَّ قوله: {إِلَهَيْنِ} لفظ واحد يدل على أمرين: ثبوت الإله، وثبوت التعدد، فإذا قيل: لا تتخذوا إلهين، لم يعرف من هذا اللفظ أنَّ النهي وقع عن إثبات الإله أو عن إثبات التعدد أو مجموعهما فلما قال: {لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} ثبت أن قوله: {لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ} نهي عن إثبات التعدد فقط"2. وذكر وجوها أخرى يكفي منها ما ذكرناه. 4- قوله تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} 3. ومن المعلوم أنَّ السقف لا يخر إلا من فوق, وأجاب الرازي على هذا القول: "وجوابه من وجهين: الأول: أنْ يكون المقصود التأكيد. الثاني: ربما خَرَّ السقفُ ولا يكون تحته أحد فلما قال: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} دلَّ هذا الكلام   1 الكشاف: الزمخشري، ج2 ص 331-332. 2 التفسير الكبير: الرازي، ج20 ص 47-48. 3 سورة النحل: الآية 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 على أنهم كانوا تحته، وحينئذ يفيد هذا الكلام أنَّ الأبنية قد تهدمت وهم ماتوا تحتها"1. وقال بهذا ابن حيان في تفسيره2. 5- قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} 3. والإسراء من السُّرى كالهُدى وهو سير عامة الليل4, وإذا كان الإسراء لا يكون إلا بالليل فما معنى ذكر الليل هنا. وقف كثير من المفسرين عند هذا المعنى وكأنهم اتفقوا على التعليل بأنه أراد بقوله ليلا بلفظ التنكير تقليلَ مدة الإِسراء, وأنه أُسري به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة5. ومال ابن عاشور في تحريره إلى أنه ذكر الليل للتوسل بذكره إلى تنكيره المفيد للتعظيم. فتنكير (ليلاً) للتعظيم بقرينة الاعتناء بذكره مع علمه من فعل "أَسْرَى", وبقرينة عدم تعريفه، أي هو ليلٌ عظيم باعتبار جعله زمنا لذلك السّرى العظيم, فقام التنكير هنا مقام ما يدل على التعظيم، ألا ترىَ كيف احتيج إلى الدلالة على التعظيم بصيغه خاصة في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ, وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} 6, إذ وقعت ليلة القدر غير منكرة 7.   1 التفسير الكبير: الرازي ج20 ص 20. 2 البحر المحيط: أبو حيان، ج5 ص 485. 3 سورة الإسراء: من الآية الأولى. 4 القاموس المحيط: الفيروز آبادي، ص 1669مادة السري. 5 الكشاف: ج2 ص 350. والتفسير الكبير: الفخر الرازي، ج20 ص 146. ومسائل الرازي: محمد بن أبي بكر الرازي، ص 182. والبحر المحيط: ج6 ص5. والروض الريان: ج1 ص 207. 6 سورة القدر: الآيتان 1-2. 7 التحرير والتنوير: محمد الطاهر بن عاشور ج15 ص11-12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ومنهم من قال إنَّ ذكر الليل على سبيل التأكيد1. وذكر الفيروز آبادي قولا لم أجد من قال به سواه, وهو أن المراد بأسرى بعبده سَيَّره2 أي سَيَّره ليلاً. ومع كثرة القائلين بالأول إلا أننا نجد أحمد بن المنير قد تعقب الزمخشري فيما ذهب إليه من أن ذكر الليل بلفظ التنكير لتقليل مدة الإسراء فقال: "وقد قرن الإسراء بالليل في موضع لا يليق الجواب عنه بهذا كقوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} 3, وكقوله تعالى: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً} 4. فالظاهر والله أعلم أنَّ الغرض من ذكر الليل، وإن كان الإسراء يفيده تصوير السير بصورته في ذهن السامع, وكأن الإسراء لما دل على أمرين: أحدهما السير, والآخر كونه ليلا أريد إفراد أحدهما بالذكر تثبيتا في نفس المخاطب وتنبيها على أنه مقصود بالذكر" 5. ولعل فيما ذكرته من أمثلة- وهي قليل من كثير- ما يغني ويكفي في بيان هذا النوع من البدهيات. وإني لاعتقد أنه لو تصدى أحد لجمع البدهيات اللغوية في القرآن الكريم ودرسها دراسة بلاغية شاملة لجاءت في رسالة علمية عالية مفيدة.   1 البحر المحيط. ج6 ص5. والقاموس المحيط: ص 1669. والتحرير والتنوير: ج15 ص 11. وقد علق على هذا بقوله: "على أن الإفادة كما يقولون خير من الإعادة" وفي هذا إيحاء إلى ترجيح القول الأول. 2 القاموس المحيط الفيروز آبادي ص1669. 3 سورة هود: الآية 81. وسورة الحجر: الآية65. 4 سورة الدخان: الآية 23. 5 الانتصاف أحمد بن منير حاشية الكشاف للزمخشري ج2 ص 750. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ثالثاً: البدهية العادية ... النوع الثالث: البدهية العادية: فقد تدل جُملة في آية قرآنية على أمر بدهي لا يختلف فيه اثنان، أو تكون الجملة الثانية معلومة قطعا من الجملة الأولى بحيث توجب العادة ذلك. وبهذا يظهر أن البداهة هنا قد تكون في جملة واحدة وقد تكون في جملتين. ويظهر أيضا نوعٌ من التداخل في بعض البدهيات من هذا النوع مع البدهية اللغوية وذلك أن بدهيتها وإن كانت راجعة إلى العادة، فإن اللغة قد صبغتها بصبغتها فهي بدهية عادية لغوية فمثلا في قوله تعالى عن عيسى عليه السلام: {مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} 1. فمن المعلوم لغة وعادة أنَّ كل أحد كان في المهد صبيا. وقد بذلتُ ما في وسعي لتصور تقسيم لهذا النوع من البدهيات فظهر لي ما أُدركُ أنَّه بحاجة إلى زيادة استيعاب واستقصاء وإعادة فكر، وتقليب نظر وما أرسمه على كل حال ليس إلا خطوة في طريق جديد وطويل. أما ما ظهر لي من الأقسام فهي: - القسم الأول: الجمع بين الشيء ولازمه. - القسم الثاني: الجمع بين الشيء وآلته. - القسم الثالث: إثبات الشيء ونفي نقيضه. - القسم الرابع: الأمر بالشيء والنهي عن نقيضه. - القسم الخامس: الجملة الخبرية القطعية الثبوت. وسأكتفي هنا بذكر مثال واحد لكل قسم منها:   1 سورة مريم: آية 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 * القسم الأول: الجمع بين الشيء ولازمه: ومثاله قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ} 1. فمن المعلوم أنَّ قتل النبيين لا يكون بحق مطلقا لمن لازم يقتلون النبيين أن يكون بغير الحق، إذ لا يجوز أن يُقتل نبي بحقٍ أبدا 2. فقيل: معناه بغير الحق في اعتقادهم، ولأن التصريح بصفة فعلهم القبيح أبلغ في ذمهم، وإن كانت تلك الصفة لازمة للفعل كما في عكسه كقوله: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَق} 3 لزيادة معنى التصريح بالصفة، كذا قال الرازي في مسائله4, وقال بنحوه الزمخشري5, وأبو حيان6, والآلوسي7 وابن عاشور8, وعلى هذا فاللام عندهم في (الحق) للعهد. وقيل إنها للجنس والمراد بغير حق أصلا لأن لام الجنس المبهم كالنكرة, ويؤيده ما في آل عمران {بِغَيْرِ حَق} (الآية21) , فيفيد أنه لم يكن حقا باعتقادهم أيضا, قال بهذا الآلوسي, وقال: "إنه الأظهر"9. وقيل: قوله {بِغَيْرِ حَق} تأكيد؛ لأن قتل النبيين لا يكون إلا بغير حق، فهو كقوله: {الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} 10, {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْه} 11. وأمثاله 12.   1 سورة البقرة: الآية 61. 2 تفسير البسيط: الواحدي، ج3 ص977. 3 سورة الأنبياء: الآية 112. 4 مسائل الرازي وأجوبتها: محمد أبي بكر الرازي ص6. 5 الكشاف: ج1 ص 72. 6 البحر المحيط: ج1 ص237. 7 روح المعاني: الآلوسي، ج1 ص276. 8 التحرير والتنوير: محمد الطاهر بن عاشور، ج1 ص508. 9 روح المعاني: الآلوسي، ج1 ص 276. 10 سورة الحج: آية 46. 11 سورة الأنعام: الآية 38. 12 تفسير البسيط: الواحدي، ج3 ص 977. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 *القسم الثاني: الجمع بين الشيء وآلته: كقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} 1. وكلِ طائر إنما يطير بجناحيه فهما آلة طيرانه التي لا يطير بدونهما فما الفائدة إذاً من ذكر الجناحين؟ قال بعضهم: "إن ذكر الجناحين للتأكيد كقَولهم: "نعجة أنثى", وكما يقال: "كلمته بفمي, ومشيت إليه برجلي"2. وقيل: فائدةُ ذلك نفي توهم المجاز فإنه يقال: "طار فلان شي أمر كذا إذا أسرع فيه، وطار الفرس إذا أسرع الجريَ". قال أبو حيان: "ألا ترىَ إلى استعارة الطائر للعمل في قوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِه} 3. وقولهم: "طار لفلان كذا في القسمة: أي سهمه، وطائر السعد والنحس) , وفيه تنبيه على تصور هيئته على حالة الطيران. واستحضار لمشاهدة هذا الفعل الغريب "فجاء ذكر الجناحين ليتمحض هذا الكلام في الطير"4. ومن فوائد ذكر الجناحين زيادةُ التعميم والإحاطة كأنه قال: جميع الطيور الطائرة 5.   1 سورة االأنعام: آية 38. 2 البحر المحيط: ج4 ص 119. وتفسير الرازي: ج12 ص 212. ومسائل الرازي: ص84. والروض الريان: ج1 ص46. 3 سورة الإسراء: الآية 13. 4 البحر المحيط: ج4 ص 119. وانظر تفسير الرازي: ج12 ص 212. ومسائل الرازي: ص 85. وفتح الرحمن بتفسير القرآن: العُليمي، ص 76. وتلخيص تبصرة المتذكر: الكواشي، ج1 ص 42. 5 مسائل الرازي وأجوبتها: ص 85. والكشاف: ج2 ص12– 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 * القسم الثالث: إثبات الشيء ونفي نقيضه: ومثاله قوله تعالى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} 1, فإن الموت والحياة متضادان لا يرتفعان معا ولا يلتقيان فنفيُ أحدهما إثبات للآخر، وعلي هذا يكفي وصفهم بأنهم أموات لنعلم أنهم غيرُ أحياء إلا أنه هنا نفى الحياة وهو معلوم من وصفهم أولاً بالموت. وفائدةُ ذلك بيان أنها أموات لا يعقب موتها حياة, احترازا عن أموات يعقب موتها حياة, كالنطف والبيض والأجساد الميتة, وذلك أبلغ في موتها كأنه قال: "أموات في الحال غير أحياء في المآل"2, قال الفخر الرازي: "الإِله هو الحي الذي لا يحصل عقيب حياته موت, وهذه الأصنام أموات لا يحصل عقيب موتها الحياة" 3. وقال الرازي: "والوجه الثاني: أَنَّ هذا الكلام مع الكفار الذين يعبدون الأوثان وهم في نهاية الجهالة والضلالة, ومن تكلم مع الجاهل الغر الغبي فقد يحسن أن يُعَبِّرَ عن المعنى الواحد بالعبارات الكثيرة, وغرضه منه الإِعلام بكون ذلك المخاطب في غاية الغباوة, وإنه إنما يعيد تلك الكلمات لكون ذلك السامع في نهاية الجهالة, وأنه لا يفهم المعنى المقصود بالعبارة الواحدة"4. قلت: وفي هذا مبالغة لأن المخاطبين ليسوا على هذه الدرجة الموصوفة من الغباء وعدم الفهم بل كانوا يدركون ذلك ويفهمونه ويعلمون أنها لا تضر ولا تنفع، ولكنه التقليد الأعمى والعناد المستكبر, وقد بين الله ذلك في آيات كقوله سبحانه في سورة الشعراء على لسان إبراهيم عليه السلام مخاطبا قومه   1 سورة النحل: الآية 21. 2 مسائل الرازي: ص172. والبحر المحيط: ج5 ص482. وتفسير أبي السعود: ج5 ص 106. 3 التفسير الكبير: الفخر الرازي، ج20 ص15_ 16. 4 التفسير الكبير: الفخر الرازي، ج20 ص 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 حين قالوا: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ, قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ, أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} . فلم يثبتوا ذلك أو يدعو بل بينوا إنه مجرد التقليد {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} 1, ولعل الأصوب أن يقال: إن في هذا الأسلوب تنزيلا لهم منزلة من لا يفهم باعتبار عدم استجابتهم لنداء الحق. ومن الأجوبة على ذلك قولهم: إنه إنما قال: {غَيْرُ أَحْيَاءٍ} ليعلم أنه أراد أمواتا في الحال لا أنها ستموت كما في قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 2 3. * القسم الرابع: الأمر بالشيء والنهي عن نقيضه: وذلك كقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} 4. فالبيان يضاد الكتمان فلما أمر بالبيان كان الأمر به نهياً عن الكتمان, فما الفائدة في ذكر النهي عن الكتمان بعد الأمر بالبيان؟ ذكر العلماء وجوهاً لهذا, منها: 1- أن المراد من البيان: ذكر تلك الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة والإنجيل، والمراد من النهي عن الكتمان أن لا يلقوا فيها التأويلات الفاسدة والشبهات المُعَطِّلة5.   1 سورهَ الشعراء: الآيات 71- 74. 2 سورة الزمر: الآية 30. 3 أسئلة الرازي وأجوبتها: ص 172. 4 سورة آل عمران: من الآية 187. 5 التفسير الكبير: الفخر الرازي ج9 ص 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 2- وقيل: معناه لتبيننه في الحال وتداومون على ذلك البيان ولا تكتمونه في المستقبل1. 3- وقيل: إن الضمير الأول للكتاب, والثاني لنعت النبي صلى الله عليه سلم وذكره فإنه قد سبق ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قبيل هذا 2. 4- وقيل: فائدته التأكيد 3. * القسم الخامس: الجملة الخبرية القطعية الثبوت: ونريد بها الجملة التي تفيد معلومة لا يختلف فيها اثنان ولا تحتاج إلى تقرير وتبقى الحكمة في إيرادها. وذلك كقوله تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} 4. وذلك أنه من المعلوم قطعاً أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن حاضرا معهم فما فائدة هذا الإخبار؟ قلنا: إنَّ معرفة الحوادث لا تكون إلا بطرق أربعة: 1) القراءة. 2) الرواية. 3) المشاهدة. 4) الوحي. وقد كانوا يعلمون قطعاً أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن من أهل القراءة ولا من أهل الرواية إذ لم يخالط أهل الكتاب ولم يتلق عنهم علما، وهم ينكرون الوحي إليه صلى الله عليه وسلم فلم يبق إلا المشاهدة وهي مستحيلة فنفاها تهكما بهم إذ أنكروا الوحي   1 مسائل الرازي: ص 39. وفتح الرحمن: ص 102. 2 مسائل الرازي: ص 39. 3 المرجع السابق: وفتح الرحمن: ص 102. 4 سورة آل عمران: الآية 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 إليه مع علمهم أنه لا قراءة له ولا رواية، والمقصود تحقيق كون الإخبار بهذه القصة وغيرها عن وحي على سبيل التهكم بمنكريه كأنه قيل: إن رسولنا أخبركم بما لا سبيل إلى معرفته بالعقل مع اعترافكم بأنه لم يسمعه ولم يقرأه في كتاب, وتنكرون أنه وحي فلم يبق مع هذا ما يحتاج إلى النفي سوى المشاهدة التي هي أظهر الأمور انتفاء لاستحالتها المعلومة عند جميع العقلاء ونظيره في قصة موسى {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيّ} 1 {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّور} 2 وفي قصة يوسف {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ} 3 4. وبعد: فلعلك تلاحظ أن ما قدمتُه ليس إلا إشارات سريعة لبحر واسع, لعلم طريف, كل جزء منه يحتاج إلى وقفة طويلة، بل وقفات ننظر فيها، ونتفكر، ونتأمل ونتدبر، هذا البناء المتماسك، والصرح العظيم، الذي لا نرى فيه عوجا ولا أَمْتَا، ما أجمله، وما أبدعه، وما أعظمه، ذلكم أنه كلام العزيز الخبير الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وإنها لدعوة أوجهها إلى من آتاه الله علما واسعا وفهما ثاقبا في البلاغة وأسرارها أن يخوض عباب هذا البحر فيستخرج لنا من كنوزه ويكشف لنا عن درر من درره ويكفي هذا البحث شرف هذه الدعوة والله المستعان.   1 سورة القصص: الآية 44. 2 سورة القصص: الآية 46. 3 سورة يوسفْ: الآية 102. 4 روح المعاني. للآلوسي ج3 ص 158. وانظر الكشاف: ج1 ص 189. والبحر المحيط: ج2 ص 458. ومسائل الرازي: ص 32. وفتح الرحمن: 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48