الكتاب: الإمداد بأحكام الحداد المؤلف: فيحان شالي المطيري الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الطبعة: السنة السادسة عشرة، العدد الثاني والستون ربيع الآخر- جمادى الآخرة 1404هـ/1984م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- الإمداد بأحكام الحداد فيحان شالي المطيري الكتاب: الإمداد بأحكام الحداد المؤلف: فيحان شالي المطيري الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الطبعة: السنة السادسة عشرة، العدد الثاني والستون ربيع الآخر- جمادى الآخرة 1404هـ/1984م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة ... الإمداد بأحكام الحداد للدكتور فيحان شالي المطيري أستاذ مساعد بكلية الشريعة ـ 1 ـ الحمد لله الكريم المنّان المتفرد بصفات الكمال والجلال وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القوي المتعال وأصلّي وأسلّم على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله أكرم من مشى على وجه الأرض وتحت أديم السماء. أما بعد: فقد كرم الله ابن آدم وميز بينه وبين سائر الحيوانات بنعمة العقل التي يفرق بها بين الخير والشر, والضار والنافع, فالإنسان يفكر ويتفكر ويأخذ ويعطي على حسب ما يراه من المصلحة, ونتيجة لهذا العقل فهو يتفاعل مع المجتمع, ويقيم الروابط بينه وبين الآخرين, ومن أهم هذه الروابط وأجلها رابطة الزوجية التي قال عنها القرآن الكريم: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَة} (الروم:21) . فأيّ نعمة أعظم من هذه النعمة؟. التي تكون بين الزوجين بسبب الرابطة الزوجية ولهذا فإن الشارع الحكيم جعل لكل منهما حقوقا على صاحبه؛ فالزوجة لها حقوق على الزوج عظيمة لا يسمح له الشرع بالإخلال بشيء منها والانتقاص منها, وكذلك الزوج له حقوق عظيمة على زوجته لم يجعل الشارع سبيلا للزوجة كي تعبث بها, وهي لا تستحق الإكرام إلا إذا قامت بهذه الحقوق خير قيام, وهذا كله دليل على سماحة الشريعة الإسلامية وحرصها على جمع الكلمة وتقوية الروابط الفردية والاجتماعية وتأسيس الحياة الزوجية على أساس قوي يكتب له البقاء ردحاً من الزمن, وفي هذا سعادة المجتمع وسعادة الفرد, ولهذا وغيره من الأسباب أوجب الله الحداد على المرأة في حق زوجها المتوفى إظهاراً لحق الزوج ووفاءً بالعهد الذي كان بينهما على حد قوله تعالى: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} . (البقرة: 237) . نعم إنّ الفضل لا ينسى بين المسلمين وإنما يذكر أصحاب الفضل بالفضل, فالزوجة لا تنسى فضل زوجها وما كان بينهما من المحبة والمودة والعشرة الطيبة, فمن الوفاء كل الوفاء القيام بحقه حياً وميتاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 ومن هذا المنطلق فقد ساهمت بهذا الجهد المتواضع خدمة للشريعة الإسلاَمية, فطالما كنت أفكِّر في الكتابة في هذا الموضوع لما له من الأهمية في حياة الفرد المسلم اليومية, والموت سنة إلهية لا ينكرها أحد حتى أولئك الذين لا يعترفون بالإسلام ديناً، نجد أنهم لا ينكرون هذه السنة الإلهية, فربّما فقدت المرأة زوجها قبل الدخول أو بعده فتكون محتاجة إلى معرفة الأحكام المتعلقة بالإحداد ولا تجد ما يحقق رغبتها اللهَّم إلا ما كان مبعثراً في المصادر القديمة مما يتعلق بالحداد. وقَد عزمت على الكتابة في هذا الموضوع تيسيراً وتسهيلاً على من يحتاج إلى ذلك مسترشداً بأفكار المتقدمين على ضوء الدليل والاستدلال والمناقشة, وقد زادني رغبة سؤال أتاني من فتاة تدرس في معهد التمريض للبنات مفاده أنّ زوجها توفي عنها في حادثة سيارة قبل الدخول, فهل يجب عليها الإحداد؟ ثم إذا كان يجب عليها فهل يجوز لها الخروج للدراسة وتأدية الامتحان. بالرغم من أنه لا يوجد لها عائل يعولها؟ فأجبتها حسب علمي وأحلتها على شيخنا سماحة الوالد عبد العزيز بن عبد الله بن باز ليطمئن قلبي وقلبها وبحمد الله أفتاها بمثل ما أفتيتها به, ومن هنا عقدت العزم على الكتابة وبدأت في جمع المادة من مصادرها وتقريبها في هذا البحث, راجيا الله عز وجل أن ينفع به كل من قرأه واطلع عليه، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير. أما أسلوب البحث فهو يتلخص في ما يأتي: 1ـ أذكر مذاهب الفقهاء الأربعة ما وجدت إلى ذلك سبيلا معتمداً على المصادر المشهورة في كل مذهب ثم أعرّج على المذاهب السنية الأخرى تتميما للفائدة. 2 ـ أعرض المسألة وما فيها من الاختلاف فأذكر القول ودليله ومناقشة أدلة القول المرجوح ثم أخلص إلى الراجح حسبما يظهر لي, ولا أعتمد في القول الراجح على ترتيب معين. 3 ـ أعزو الآيات والأحاديث والآثار إلى مصادرها, فالآيات أعزوها إلى سورها في المصحف الشريف, والأحاديث أعزوها إلى كتب المحدثين, والآثار إلى كتب المحدثين, وقد أكتفي بعزوها إلى كتب الفقه أحياناً. 4 ـ أجعل الفصل على مباحث, والمبحث على مطالب, والمطلب إلى فروع ما وجدت إلى ذلك سبيلا حسبما يتطلبه ذلك الفصل. 5 ـ اقتبست أكثر أحكام الإحداد من الأدلة التي تفيد إيجاب العدة على المتوفى عنها واستفدت من أقوال الفقهاء في هذا الباب وإلا فالأحكام التي ذكرت عن الإحداد قديماً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 قليلة جداً لا تتجاوز عشر صفحات في المطوّلات، وإنما فعلت ذلك لكون الحداد وعدة المتوفى عنها- شقيقتين- فهو يجب حيث تجب وينعدم حيث تنعدم، ولم أجد من أفرده بالتأليف قبلي وأحسب أن هذا البحت باكورة ما كتب فيه. أما الخطة فبنيتها على ستة فصول وخاتمة: الفصل الأول: معنى الإحداد. الفصل الثاني: حكم الإحداد. الفصل الثالث: شروط الإحداد، وفي هذا الفصل المباحث آلاتية: المبحث الأول: كون الحادة عاقلة. المبحث الثاني: في اشتراط البلوغ. المبحث الثالث: في شرط الإسلام. المبحث الرابع: هل من شرط وجوبِ الحداد كونه من الوفاة؟ المبحث الخامس: هل من شرط وجوب الحداد كون النكاح صحيحاً؟ الفصل الرابع: في أقسام الحداد، والكلام فيه في مبحثين: المبحث الأول: في الحداد الجائز. المبحث الثاني: في الحداد الممتنع, وقسمت كل مبحث إلى قسمين. الفصل الخامس: في زمن الحداد وفيه مبحثان: المبحث الأول زمن الحداد على القريب الميت. المبحث الثاني رمن الحداد على الزوج، وفيه مطالب: المطلب الأول عدة غير ذات الحمل وفيه مسائل مبيّنة في موضعها. المطلب الثاني في سبب وجوب الحداد. المطلب الثالث: في شرط وجوب عَدة المتوفى عنها. المطلب الرابع: في وجوب الحداد على المطلّقة إذا مات زوجها قبل انقضاء عدّتها من الطلاق. المطلب الخامس: في إحداد المتوفى عنها الحامل. الفصل السادس: الآثار المترتبة على الحداد، وفيه مباحث: المبحث الأول: في الطيب. المبحث الثاني: عدم تزين المرأة في نفسها. المبحث الثالث: في زينة الثياب. المبحث الرابع: في منع الحادة من الحلي. المبحث الخامس: في سكنى الحادة وفيه مطالب: المطلب الأول: في مبيت الحادة في منزلها ليلا. المطلب الثاني: خروج الحادة من منزلها نهاراً. المطلب الثالث: في وجوب السكنى وعدمها سكن الحادة. المطلب الرابع: في نفقة الحادة. الخاتمة: فقد تكلمت فيها على النتائج التي ظهرت لي من خلال البحث. وإليك تحرير المقام في ذلك كله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 الفصل الأول: معنى الإحداد : الإحداد له معنى في اللغة ومعنى في الاصطلاح، أما معناه لغة: فهو المنع لأن الإحداد صفة تتعلَّق بالمرأة المحدة فهو يمنعها من كثير مما كان مباحاً لها قبله، قال في القاموس: "الحاد والمحدة تاركة الزينة للعدة تقول: حَدَّتْ تَحِدُّ وتَحُدُّ حَداً وحداداً وأحدّت"1، ومنه سمي البواب   1 انظر القاموس المحيط ج1 ص 296، فتح الباري ج 9 ص485. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 حداداً لمنعه الداخل، وسميت العقوبة حداً لأنها تمنع عن المعصية. وأما معناه في الاصطلاح: فهو أن تجتنب المرأة المعتدة المتوفى عنها زوجها كل ما يدعو إلى نكاحها ورغبة الآخرين فيها من طيب وكحل ولبس ومطيّب وخروج من منزل من غير حاجة. قال ابن درستوية: "معنى الإحداد منع المعتدة نفسها الزينة وبدنها الطيب ومنع الخطّاب خطبتها والطمع فيها كما منعَ الحد المعصية"1. وقال الزيلعي: "وهو -أي الإحداد-: ترك الزينة والطيب"2. ونشير هنا إلى أن الإحداد فيه لغتان وهما أحدّت إحداداً فهي محدّة فهذا من باب إفعال، والثاني: تحدّ من باب ضرب يضرب، ونصر ينصر، حدّاً فهي حادّ3. هذا ما يمكن أن يقال عن معنى الإحداد، ومنه يتبين ما بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي من العلاقة، فالمعنى اللغوي أعم من المعنى الاصطلاحي لأنه يراد به المنع مطلقا، أما المعنى الاصطلاحي فيراد به منع المعتدة من أمور خاصة إلى غاية معينة محدودة وهي مدة العدة. فالعلاقة بين المعنيين علاقة عموم وخصوص كما ترى وهذا هو الشأن في معظم الأحكام التي لها معنى في اللغة ومعنى في الاصطلاح إن لم نقل كلها ...   1 فتح الباري ج 9 ص485. 2 تبيين الحقائق ج 3 ص 34. 3 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 الفصل الثاني: في حكم الإحداد : هذا وبعد عرض المعنى اللغوي والاصطلاحي للإحداد نرى أنه من المفيد أن نذكر حكمه لأن ذلك هو الهدف الأول من دراسة ما يتعلق به من أحكام بالنسبة للمرأة إذا توفرت شروطه فنقول: اتفق كل من يعتد بقوله من أئمة الفتوى على وجوب الإحداد على المرأة التي مات زوجها من غير فرق بين ما إذا كانت مدخولاً بها أو غير مدخول بها بل هو واجب على الكل فلو أرادت المتوفى عنها زوجها تركه لم يكن لها ذلك لأن الواجب هو ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه في اصطلاح الأصوليين، فالمرأة التاركة للإحداد آثمة ولاشك لما ستعرف قريبا من المنقول والمعقول وإجماع الصحابة على وجوب الإحداد ولم أجد في هذا المعنى خلافا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 اللهّم إلا خلافا شاذاً مرويا عن الحسن البصري والشعبي وسنذكر هذا الخلاف تتميما للفائدة وتبييناً للحق، إذن المنقول في ذلك من مذهبان: مذهب الجمهور وهو المعتمد والمشهور والمعمول به، ومذهب الحسن البصري والشعبي. ولنبدأ بمذهب الجمهور ونذكر أدلتهم ونثنِّي بالمذهب المخالف مع الإشارة إلى أدلة هذا المذهب وما أورد عليها من المناقشات. فنقول وبالله التوفيق: ذهب جمهور الفقهاء قديما وحديثا من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى وجوب الإحداد على المرأة المتوفى عنها زوجها على تفصيل في ذلك نذكره قريبا إن شاء الله تعالى1. وإنما ذهب الفقهاء هذا المذهب للمنقول والمعقول وإجماع الصحابة. أما المنقول فنورد منه ما يأتي: أـ عن حميد بن نافع عن زينب بنت أم سلمة أنها قالت: دخلت على أم حبيبة حين توفي أبوها أبو سفيان فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره فدهنت منه جارية ثم مست بعارضيها ثم قالت: والله مالي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول على المنبر: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحدّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً"، قالت زينب: ثم دخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها فدعت بطيب فمسّت منه ثم قالت: والله مالي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول على المنبر: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً"، قالت زينب: وسمعت أمي أم سلمة تقول: جاءت امرأة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفَنُكَحِّلُها؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا، مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: "لا "، ثم قال: "إنما هي أربعة أشهر وعشراً". متفق عليه مختصراً. ب ـ عن أم سلمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها أربعة أشهر وعشراً"2. فقد دلّ هذان الحديثان وما في معناهما على وجوب الإحداد على المرأة المتوفى عنها زوجها وهما نص في الموضوع ووجه الاستدلال من ذلك هو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إلا على زوج أربعة   1 تبيين الحقائق ج 3 ص 34، والمدونة الكبر ى ج 2 ص 430، ومغني المحتاج ج 3 ص 398، والكافي لابن قدامة ج 3 ص 326. 2 صحيح البخاري ج 7 ص 76، وصحيح مسلم ح 1486، وسنن أبي داود ج 2 ص 723، وجامع الترمذي ح 1197، وسنن النسائي ج 6 ص 206، وسنن ابن ماجه ح 2084. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 أشهر وعشراً" وهذا على معنى الإيجاب لا على معنى الإباحة لأن ذلك مستثنى من التحريم وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ" وهذا يقتضي أن لفظة (افعل) وهو قوله: "أربعة " تكون بعد الحظر على بابها وهو الإيجاب فالحظر هنا التحريم فاستثنى منه الإيجاب كما نرى خلافاً لمن قال من الفقهاء إنها تقتضي الإباحة. فإن قيل الاستثناء في الحديث وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إلا على زوج.." الخ قد وقع بعد النفي فيدل على الحل فوق الثلاث على الزوج لا على الوجوب قيل إن الوجوب استفيد من دليل آخر بالإضافة إلى ما قلنا وهذا الدليل هو الإجماع وهو ما سنبيِّنه فيما يأتي. وأما الإجماع فإنه روي عن جماعة من الصحابة منهم عبد الله بن عمر وعائشة وأم سلمة وغيرهم -رضي الله عنهم- القول بوجوب الإحداد ولا يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعا من الصحابة- رضي الله عنهم1 ومستند الإجماع هو ما ذكرناه من النصوص الدالة على وجوب الإحداد. وأما المعقول فهو يفيد إيجاب الإحداد على المعتدة من الوفاة أيضاً لأن الحداد إنما وجب إظهاراً لحق الزوج على زوجته تأَسُّفاً على ما فاتها من حسن العشرة ودوام الصحبة إلى وقت الموت زد على هذا أنّ الحداد يكون واجبا لسبب آخر وهو فوات النكاح الذي هو نعمة في الدين خاصة في حقها لما فيه من قضاء لشهوتها وعفتها عن الحرام وصيانة نفسها عن الهلاك بدرور النفقة وقد انقطع ذلك كله بالموت فلزمها الإحداد إظهاراً للمصيبة والحزن2. فهذا هو النص والإجماع والمعقول كلها قاضية بإيجاب الحداد إذا وجد سببه وهو بّين كما ترى والله أعلم. ثانيا: ذهب الحسن البصري والشعبي إلى عدم وجوب الإحداد على المعتدة من الوفاة وهو قول شاذ مخالف لإجماع أئمة المسلمين ولهذا رده بعضهم فإنّ الخلال نقل بإسناده عن أحمد عن هشيم عن داود عن الشعبي أنه كان لا يعرف الإحداد قال أحمد: "ما كان بالعراق أشد تبحراً من هذين- يعني الحسن والشعبي- " قال أحمد: "وخفي ذلك عليهما". قال ابن حجر في الفتح: بعد إيراده ما ذكر "ومخالفتهما لا تقدح في الاحتجاج وإن كان فيها ردّ على من ادّعى الإجماع"3.   1 بدائع الصنائع ج 3 ص 209، والمغني ج 7 ص517. 2 بدائع الصنائع ج 3 ص 209. 3 فتح الباري ج 9 ص 486. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وقال ابن قدامة في المغني بعد أن ذكر خلاف الحسن لأئمة الفتوى: "وهو قول شذ به عن أهل العلم وخالف به السنة فلا يُعرَّج عليه"1. هذا ما أورده أهل العلم على هذا القول الشاذ وعلى فرض التسليم بثبوته فالاستدلال له بما يأتي: 1 ـ ما روي عن عبد الله بن شداد بن الهاد عن أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر بن أبي طالب قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " تسلبي2 ثلاثا ثم اصنعي ما شئت" 3. أخرجه أحمد. 2 ـ عن أسماء بنت عميس أنها استأذنت النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تحدّ على جعفر وهي امرأته فأذن لها ثلاثة أيام ثم بعث إليها بعد ثلاثة أيام أن تطهري واكتحلي4. فهذا دليل على عدم وجوب الإحداد على المعتدة من الوفاة أكثر من ثلاثة أيام وهو نص في محل النزاع والجواب عن هذا الاستدلال من وجوه: الوجه الأول: أنه شاذ لا يحتج به ولا يصلح عمدة لإثبات الأحكام، قال ابن المنذر مجيبا عن ذلك: "وقد دفع أهل العلم هذا الحديث بوجوه، وكان أحمد بن حنبل يقول: "هذا شاذ ولا يؤخذ به" وقاله إسحاق5. الوجه الثاني: أنّ هذا الحديث مخالف للأحاديث الأخرى الصحيحة ولعلها لم تبلغ القائلين بهذا القول إذ إنها لو بلغتهم لم يسعهم إلا التسليم؛ لأنه لا يصح لمسلم كائنا من كان يبلغه حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دالُّ على حكم من الأحكام إلا القبول والتسليم قال ابن المنذر: بعد عرض المسألة وما فيها من خلاف: "كان الحسن البصري من بين سائر أهل العلم لا يرى الإحداد، وقد رُدَّ قول الحسن بأن الأخبار قد ثبتت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بوجوب الحداد وليس لأحد بلغَته إلا التسليم، ولعل الحسن لم تبلغه أو بلغته فتأولها بحديث أسماء بنت عميس6 الآنف الذكر.   1 المغني ج7 ص 517. 2 عنه تسلبي- ألبي الثياب الحداد السود وهي السلاب ككتاب. 3 مسند الإمام أحمد ج6 ص 369. 4 المصدر السابق. 5 الجامع لأحكام القرآن ج3 ص 181. 6 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 الوجه الثالث: لو سلّمنا بصحة هذا الحديث فالأحاديث الدالة على الوجوب مقدّمة عليه لكونها أصح منه ولا ريب في دلالتها على الوجوب فإنّ حديث التي شكت عينها والذي تم تثبته قريبا يفيد الإيجاب وإلا لم يمتنع التداوي المباح، وأيضا السياق يدل على الوجوب فإن كل ما منع منه ودل دليل على جوازه كان ذلك الدليل دالاً بعينه على الوجوب كالختان والزيادة على الركوع في الكسوف1. هذا ما يمكن أن يستدل به لهذا القول وما يمكن أن يجاب به عن الاستدلال. والذي يترجح عندي هو القول بوجوب الإحداد إذا وجد سببه وتوفرت شرائطه وذلك لدلالة السنة والمعقول وإجماع الصحابة على ما بيَّنا فهل يقول مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر وبرسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- بعدم وجوب الإحداد بعد معرفة النصوص النبوية الشريفة التي تفيد بمنطوقها ومفهومها إيجاب ما دلت عليه ... لا أعتقد أنّ أحداً يقول بخلاف ذلك ولهذا انعقد إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- على هذا المعنى، وفي ظني أن الحسن البصري والإمام الشعبي لو بلغتهما هذه النصوص لما أحجما عن القول بوجوب الإحداد لما عرف عنهما من الفضل والتقوى وإرادة الحق وهذا شأن كل مسلم لأن المسلم إنما سمي مسلما لتنفيذه الأوامر الربانية واجتنابه النواهي السماوية وهو ما يفيده معنى الإسلام فإن الإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، فإذا كان المسلم قائماً بما أَمر به مجتنباً لما نهي عنه استحق أن يوصف بوصف الإسلام والإيمان، وإذا لم يكن كذلك فلا فرق بينه وبين سائر الناس الذين لا يؤمنون بالشرائع السماوية. ونحن لا نقول إنّ المرأة المتوفى عنها زوجها إذا تركت الإحداد خرجت من الإسلام وإنما نقول إنها تركت واجباً من واجبات الإسلام يثاب فاعله ويعاقب تاركه فإن الإيجاب وعدمه لا يعرف إلا من قبل الشارع وهو الذي أوجب الإحداد على كل من توفي عنها زوجها من غير تفصيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 الفصل الثالث: في شروط الإحداد مدخل ... الفصل الثالث: في شروط الإحداد: عرفت في الفصل الآنف الذكر حكم الحداد وأنه واجب في الشريعة الإسلامية وقد دل على وجوبه صريح السنة وإجماع الصحابة والمعقول على ما تم ثبته قريباً وبما أن الحكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 الشرعي قد لا يوجد عادة إلا إذا توفرت له شروط خاصة ولكون الحداد من هذا القبيل كان من الضروري أن نشير إلى الشروط اللازمة لوجوب الإحداد والتي لابد من وجودها لإيجاب الإحداد على المرأة المحدة، وهذه الشروط ليست محل اتفاق وإنما هي موضع خلاف عند أئمة الفتوى فما يراه البعض قد لا يراه البعض الآخر، كذلك وبيان هذه الشروط على النحو الآتي وطبقاً لما يقتضيه فن التأليف وجودة التنظيم. ونظراً لتعدد هذه الشروط فقد رأيت أن أجعل هذا الفصل مبنياً على المباحث الآتية. وقبل أن ندخل في التفصيل نشير هنا إلى أن شروط الحداد على قسمين: قسم متفق عليه وقسم مختلف فيه. فالقسم المتفق عليه: هو أن تكون المعتدة عاقلة بالغة مسلمة من نكاح صحيح. وأما القسم المختلف فيه: فهو سوالب هذه الشروط. وكذلك هل يشترط في الحداد كون المرأة معتدة من وفاة أولا؟ ونحن نشير إلى ذلك كله بالتفصيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 المبحث الأول: كوت المرأة المعتدة عاقلة ... المبحث الأول: كون المرأة المعتدة عاقلة . اتفق الفقهاء على وجوب الحداد على المرأة العاقلة إذا وُجِدَت الشروط الأخرى التي سنذكرها قريبا؛ وذلك لأن العقل نعمة أنعم الله بها على الإنسان وميزه بها عن سائر الحيوان فهو يميز بها بين الحلال والحرام، والضار والنافع، ولذلك جعل الشارع العقل مناطاُ للتكليف لعلمه أنّ فاقد العقل لا يفرّق بين الضار والنافع, وبالتالي لا يستطيع القيام بالأحكام التكليفية على الوجه الذي أمر الشارع أن تكون عليه، ومن هذا المنطلق قالت الحنفية بعدم وجوب الحداد على المجنونة1؛ لأن العقل هو مناط التكليف كما قلنا والمجنونة فاقدة لهذه الوسيلة فلا يتوجه إليها أمر ولا نهي لأن الشريعة الإسلامية لا تكلف أحداً إلا بما هو في مقدوره وتحت تصرفه على حد قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} . (البقرة: 286) ، وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . (التغابن: 16) . ولا يوجد شيء من ذلك بالنسبة للمجنونة التي ذهب عقلها وحُرمت تلك النعمة، ولهذا قالت العلماء إنها غير مخاطبة بالأحكام التكليفية، والحداد من الأحكام التكليفية فلا يجب عليها، يحقق ذلك كله قوله -صلى الله عليه وسلم-: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق "2. ورفع القلم هنا معناه عدم التكليف لأن من ذكر في الحديث لو كان مخاطباً بالأوامر والنواهي لكان خطابا بما لا يطاق، والشريعة الإسلامية لا تقر هذا، ولا يظلم ربك أحدا. هذا ما رآه الحنفية ولم ير   1 بدائع الصنائع ج 3 ص 208. 2 سنن ابن ماجة ج ارقم 2041. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الجمهور هذا الرأي بل قالوا بوجوب الحداد على المجنونة1 لأنها زوجة ف" لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميّت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا" هي داخلة تحت عموم قوله صلى الله عليه وسلم:2 فهذا نص عام يفيد إيجاب الإحداد على كل زوجة من غير فرق بين ما إذا كانت عاقلة أو غير عاقلة، والقول بعدم وجوب الإحداد على المجنونة يحتاج إلى دليل مخصص لهذا العموم ولم يوجد فيبقى على عمومه دالاً على إيجاب الإحداد مطلقا، وستعرف في المبحث الآتي مزيداً من الأدلة للفريقين لما بين المبحثين من العلاقة وذلك لاشتراك الجنون والصغر في عدم التكليف.   1 المغني: ج 7 ص 517، والمنتقى للباجي: ج 4 ص 145، ومغني المحتاج: ج 3 ص 398. 2 سبق تخريجه في الفصل الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 المبحث الثاني: كون المعتدة بالغة : البلوغ هو مظنة رشد المكلف فإذا بلغ الصغير فإنه قد يعرف مصالح نفسه ويكون رشيداً يحسن التصرف في تعامله مع نفسه ومع غيره يبيِّن ذلك قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} . (النساء: 6) . والبلوغ ضد الصغر، والصغير هو من لم يبلغ النكاح، والصغر مظنة لعدم الرشد لكون الصغير فاقداً لآلة الفهم والتمييز وإدارك الأشياء على حقيقتها التي تمكنه من معرفة مصالحه وعلى هذا فهل يجب الحداد على المرأة الصغيرة التي لم تبلغ مع اتفاق الفقهاء على وجوبه على المرأة البالغة العاقلة؟. أقول: اختلف الفقهاء في وجوب الحداد على الصغيرة على قولين: القول الأول: ذهب الجمهور إلى وجوب الحداد على الصغيرة فلا فرق عند هؤلاء بين الصغيرة والكبيرة إلا في الإثم 3. وقول الجمهور هنا موافق لقولهم في إيجاب الحداد على فاقدة العقل بسبب الجنون - كما تم ثبته قريباً- فلا فرق عندهم في إيجاب الإحداد على الزوجة بين أن تكون عاقلة أو غير عاقلة مادام أنّ اسم الزوجية شامل لها. الاستدلال لهذا القول: استدل أصحاب هذا القول بالمنقول والمعقول: أما المنقول فهو العمومات التي تفيد إيجاب الإحداد على المرأة المتوفى عنها زوجها من غير فرق بين ما إذا كانت كبيرة أو صغيرة من مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميّت فوق ثلاثٍ إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً". وقد ذكرنا طرفا من هذه العمومات عند   3 المغني ج 7 ص 517، والمنتقى للباجي ج 4 ص 145، ومغني المحتاج ج 3 ص 398. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 الكلام على الفصل الثاني وهي قاضية بوجوب الحداد، شاملة بعمومها لكل أحد وإخراج الصغيرة من هذا العموم يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه. وأما استدلالهم بالمعقول فمن وجوه: أـ إنّ العدة تجب على الصغيرة اتفاقاً فإذا كان الأمر كذلك فإن الحداد يجب عليها لكونه حُكماً من أحكام النكاح فهو يشترك مع العدة في ذلك بالإضافة إلى ما فيه من إظهار التأسف على فراق الزوج، ونحن نعلم يقينا فراغ رحم الصغيرَة ومع ذلك وجبت العدة عليها. فالعدة إنما وجبت عليها لحق الشرع لأن فراغ رحمها من ماء الزوج أمر مقطوع به ومع هذا وجبت عليها العدة فكذلك الحداد يجب عليها. ب ـ إن الصغيرة يحرم العقد عليها بل تحرم خطبتها مادامت في العدة وهذا المعنى يوجد في حق الكبيرة فظهر أنهما يشتركان في حكم الحداد أيضا1. ج ـ إنّ غير المكلفة تساوي المكلفة في اجتناب المحرمات كالخمر والزنا، وإنما يفترقان في الإثم2 فإذا كان الأمر كذلك فإنّ ترك الحداد فعل محرم والصغيرة ممنوعة من ذلك ويكون المنع إلى وليّها بمعنى أنه لا يمكنها من ترك الحداد كما أنه لا يمكنها من ترك العدة فتحريم الطيب وسائر أنواع الزينة عليها إنما هو لحق الشرع، فالشرع هو الذي منعها من ذلك، والغرض من هذا هو إظهار حق الزوج وهذا المعنى يستوي فيه البالغة وغيرها. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى عدم وجوب الحداد على الصغيرة وجعلوا ذلك مخصوصا بالمرأة البالغة، وإنما قالوا بذلك لما يأتي3: 1 ـ أن الحداد حق من حقوق الشرع ولهذا لو أمرها الزوج بتركه لا يجوز لها تركه فلا تخاطب الصغيرة بذلك، وكذا شرط الإيمان فيه حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله وباليوم الآخر" الحديث. 2 ـ إنّ منع الصغيرة المتوفى عنها زوجها من اللبس والطيب هو فعلها الحسّي محكوم بحرمته فلابد فيه من خطاب التكليف بخلاف العدة وإنها قد تقال على كف النفس عن الحرمات الخاصة وعلى نفس الحرمات وعلى مضي المدة وهي اللازمة لها على كل حال بمعنى أنه يثبت بعد الموت صحة نكاح الصغيرة إلى انقضاء مدة معينة وهي مدة العدة فإذا باشروا لها عقد النكاح قبل انقضاء عدتها لا يصح شرعا ولا خطاب للعباد فيه تكليفي بل هو من ربط المسببات بالأسباب وهذا كله لا يوجد في الحداد لأن   1 فتح الباري ج 9 ص 485, والمنتقى للباجي ج 4 ص145. 2 المغني ج7 ص 517. 3 انظر فتح القدير ج 4 ص 340, والمبسوط ج 6 ص 56, وبدائع الصنائع ج 3 ص 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 الخطاب به خطاب تكليفي فلو اكتحلن أو لبسن المزعفر واختضبن لا يأثمن لعدم التكليف به1. هذا ما استدل به الفريقان بالنسبة لهذه المسألة وهي مشكلة كما نرى ووجه الإشكال هو أن الصغيرة لا تخاطب بفروع الشريعة من الصوم والصلاة والحج لأنها فاقدة للأهلية وهي التكليف فالخطاب إنما يتوجه إلى المكلفين, وعموم السنة التي استدل بها الفقهاء على وجوب الحداد قاضية بوجوب الحداد على كل امرأة من غير فرق بين الصغيرة والكبيرة, زد على هذا أن العدة واجبة من غير فرق أيضا, وقد قلبت النظر في هذه المسألة كثيراً لعلي أهتدي إلى الراجح منهما وبعد نظر طويل وتفكير عميق شرح الله صدري بترجيح القول الأول وهو وجوب الحداد عليها وذلك لما يأتي: 1 ـ أن الصغيرة المتوفى عنها زوجها لا يجوز لها أن تفعل شيئا من المحرمات كالزنا والخمر والسرقة وغيرها من المحرمات, والولي مطالب بمنعها فإذا لم يمنعها من الوقوع في الفعل المحرم فهو آثم, ومن ذلك ترك الحداد وفعل ما ينافيه كالطيب وسائر أنواع الزينة, فكما أنّ الولي لا يجوز له أن يمكِّنَها من ارتكاب سائر المحرمات فكذلك لا يجوز له أن يمكّنها من ترك الحداد وهو مخاطب بذلك كما يفيده عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرّقوا بينهم في المضاجع"2 , فلو لم يفعل الولي ذلك فهو آثم ولاشك, وكذلك ما نحن فيه. 2 ـ أنّ وجوب العدة على الصغيرة لا خلاف فيه عند أئمة الفتوى فيما علمنا, يوضحه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} . (سورة البقرة: 234) . والصغيرة زوجة والتنكير يفيد العموم والعدة عبادة وهي لازمة للصغيرة فهل يقول قائل إنها تجب هنا ولا يجب الحداد هنالك, فإن كان كذلك فهو مطالب بالدليل على وجود الفرق. 3 ـ نعم الصغيرة لا تخاطب بفروع الشريعة وإنما الولي هو المطالب بمنعها من فعل المحرمات على ما بينا, ألا ترى أن الولي لوليّ بالحج عن الصغيرة أو الصغير؟. كانت أحكام الحج لازمة لوليها بمعنى أن الولي لا يمكنه من فعل محظورات الإحرام من الطيب واللبس ونحو ذلك فلو فعل ذلك كان آثما فأي فرق بين المسألتين إنني لا أجد فرقا.   1 فتح القدير ج 4 ص 340/ والمبسوط ج 6 ص 60/ بدائع الصنائع ج 3 ص 9. 2 سنن أبي داود (ح: 495) , مسند أحمد 2 ص 180, موطأ مالك ج اص 197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 4 ـ العمومات التي استدل بها أصحاب القول الأول من مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميّت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشر ", لم تفرق بين ما إذا كانت الزوجة كبيرة أو صغيرة بل هي شاملة بعمومها لكل أحد, فقوله: (لامرأة) نكرة تفيد العموم, وقد أكد هذا العموم بذكره النكرة بعد النفي وهذا زيادة في العموم كما تفيده قواعد الأصول, وسيأتي تحرير المقام في قوله صلى الله عليه ويلم (أن تؤمن) عند الكلام على حكم الحداد من الكتابية. ولا حجة في قوله صلى الله عليه وسلم (امرأة) للقائلين بعدم وجوب الحداد على الصغيرة وذلك لأمرين: الأمر الأول: أن الصغيرة تسمى امرأة فلها من الحقوق كالكبيرة, وعليها ما عليها, صحيح أنها لا تبتغى لطلب الولد لصغرها لكونها لا يوطأ مثلها بيد أن اللفظ شامل لها. الأمر الثاني: لو سلمنا أنها لا تسمى امرأة فلا دلالة فيه للمخالفين لأننا نقول إنه خرج مخرج الغالب فإن الغالب الكثير أن المرأة لا يفارقها زوجها إلا وهي كبيرة وليس معناه أن الحداد لا يجب على الصغيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 المبحث الثالث: كون الحادة مسلمة : اتفق الفقهاء فيما علمنا على أن الحداد يجب على المرأة الكبيرة العاقلة البالغة المسلمة على ما بيّنا, واختلف الفقهاء في سوالب ذلك, ومنه اختلافهم في وجوب الحداد على الكتابية, وتجدر الإشارة هنا إلى أن أئمة الفتوى لم يختلفوا في إباحة الحداد لكل من ذكرنا ومن سنذكر قريبا, وإنما الخلاف في الوجوب أو السنية. وبيان اختلافهم في وجوب الحداد على الكتابية كالآتي: 1ـ ذهب الجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد إلى وجوب الحداد على الكتابية, وقد استدلوا لذلك بأدلة بيانها كالآتي: العمومات التي تفيد وجوب الحداد على الكتابية لأنها من جملة النساء, والأحاديث لم تفرق بين ما إذا كانت المرأة مسلمة أو كتابية, وإخراج الكتابية من هذا العموم يحتاج إلى دليل, ولا دليل عليه, ومن ادّعى خروج الكتابية فعليه الدليل, أضف إلى هذا أن الكتابية زوجة وقد أوجب الله تعالى العدّة على الزوجات من غير تخصيص. يوضحه قوِله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} فهذا إيجاب من الله تعالى العدة على الزوجات من غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 فرق ولا تجب عدة الوفاة إلا حيث يجب الحداد؛ لأن الحداد حق للزوج فهو يلتحق بالعدة في حفظ النسب فتدخل الكافرة في ذلك بالمعنى كما دخل الكافر في النهي عن السوم على سوم أخيه1. فإن قيل كيف يكون الحداد واجباً على الكتابية وقد شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوبه الإيمان بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله أن تحد..". فهذا دليل على عدم وجوبه على الكتابية؟ قيل الجواب عن ذلك من أوجه: أـ أن شرط الإيمان إنما ذكر تأكيداً للمبالغة في الزجر فلا مفهوم له كما يقال هذا طريق المسلمين وقد يشاركهم غيرهم2. قال النووي في شرحه على صحيح مسلم مجيبا عن هذا الاعتراض ومبيِّناً أنه لا دليل فيه "وأن المؤمن هو الذي يستثمر خطاب الشارع وينتفع به وينقاد له فلهذا قُيّد به"3. أضف إلى هذا أن السبكي نقل في فتاويه عن بعضهم أن الذمية داخلة في "تؤمن بالله واليوم الآخر"4. ب ـ أنّ الحداد حق للزوجية على ما بيّنا فهو ملتحق بالنفقة والسكن فكما أن الزوج تجب عليه نفقة زوجته وسكنها فكذلك يجب على الزوجة الحداد على زوجها5. ج ـ أن العدة لا تجب على الذمية إلا إذا كان زوجها مسلماً أما إذا كان زوجها ذميا فإن الحداد لا يجب عليها, وأهل الذمة مطالبون بتنفيذ عقودهم مع المسلمين وهذا منها. قال ابن القيم في الهدي مشيراً إلى ما قلنا: "ولكن عذر الذين أوجبوا الحداد على الذمية أنه يتعلق به حق الزوج المسلم وكان منه إلزامها به كأصل العدة ولهذا لا يلزمونها به في عدتها من الذمي ولا يتعرض لها فيها فصار هذا كعقودهم مع المسلمين فإنهم يلزمون فيها بأحكام الإسلام وإن لم يتعرض لعقودهم مع بعضهم بعضا"6. وذهب الحنفية وبعض المالكية وأبو ثور إلى عدم وجوب الحداد على الذمية سواء كان زوجها مسلماً أو ذمياً7.   1 فتح الباري ج9 ص 486. 2 فتح الباري ج 9 ص 486. 3 شرح النووي على صحيح مسلم ج 15 ص 112. 4 فتح الباري ج 9 ص 486. 5 فتح الباري ج9 ص 486. 6 زاد المعاد 4 ص 269. 7 المبسوط ج 6 ص 59, وفتح الباري ج 9 ص 486, والجامع لأحكام القرآن ج 3 ص 179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وقد استدل أصحاب هذا القول بما يأتي: 1 ـ إنَّ الكتابية غير مخاطبة بحقوق الشرع والحداد من حقوقه يوضحه قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر.." الخ. فالإيمان شرط لوجوب الحداد وهو لا يوجد في الكتابية لكونه حقاً من حقوق الشرع, والذمية ليست أهلا لذلك يوضحه أن المسلمة لو أمرت بترك الحداد لم يكن لها ذلك فدل على أنه تكليفي, والأحكام التكليفية خاصة بالمسلمين قال ابن القيم في الهدي مستدلا لهذا القول بأن النّبي صلى الله عليه وسلم "جعل الإحداد من أحكام من يؤمن بالله واليوم الآخر فلا تدخل فيه الكافرة ولأنها غير مكلفة بأحكاَم الفروع فعدوله عن اللفظ العام المطلق إلى الخاص المقيد بالإيمان يقتضي أن هذا من أحكام الإيمان ولوازمه وواجباته فكأنه قال: من التزم الإيمان فهذا من شرائعه وواجباته"1. هذا ما يمكن أن يستدل به بهذا القول, وقد عرفت الجواب عن اشتراط الإيمان في وجوب الحداد عند الكلام على أدلة الجمهور, ونضيف هنا ما ذكره ابن القيم عند عرضه للمسألة حيث قال: "والتحقيق أنّ نفي حل الفعل عن المؤمنين لا يقتضي نفي حكمه عن الكفار ولا إثبات الحكم لهم أيضا, وإنما يقتضي أنّ من التزم الإيمان وشرائعه فهذا لا يحل ويجب على كل حال أن يلزم الإيمان وشرائعه ولكن لا يلزم الشارع شرائع الإيمان إلا بعد دخوله فيه, وهذا كما لو قيل للمؤمن أن يترك الصلاة والحج والزكاة فهذا لا يدل على أن ذلك حل للكافر وهذا كما قال في لباس الذهب: "لا ينبغي للمتقين" فلا يدل إنه ينبغي لغيرهم وكذا قوله: "لا ينبغي للمؤمن أن يكون لعاناً" 2. كما عرفت مزيداً من أدلة الفريقين عند الكلام على وجوب الحداد على الصغيرة, وسبب اختلاف الفقهاء في هذه المسألة راجع من حيث الجملة إلى أمرين: الأمر الأول: الاختلاف في خطاب أهل الذمة بفروع الشرع هل يخاطبون بها أولا؟ فمن قال: إنهم يخاطبون بها قال: يجب الحداد على الذمية, ومن قال: إنهم لا يخاطبون بها قال: لا يجب الحداد عليها. الأمر الثاني الاختلاف في العدة هل هي حق لله أم حق للزوج؟ فمن قال: إنها حق لله قال: لا تجب العدة على الذمية, ومن قال: إنها حق للزوج قال: تجب العدة عليها, والذي يترجح عندي هو أن الذمية لا يجب عليها الحداد إلا إذا رفع ذلك إلى الحاكم المسلم فإنه يلزمها حينئذ بالحداد.   1 زاد المعاد ج 4 ص 269. 2زاد المعاد المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وأما إذا لم يترافعوا إلينا فلا نتعرض لهم, ومن المعلوم أنهم لا ينزجرون عن ارتكاب الذنوب والآثام ولا يتورعون عن فعل المحرمات على اختلاف أنواعها من ترك الصلاة والصوم والحج والزكاة وغير ذلك من صنوف الذنوب والآثام, ولا ذنب أعظم من الكفر فكيف يرجى منهم فعل الحداد وهم لا يفعلون ما هو أعظم من الحداد, وإلى ما قلنا أشار ابن القيم في الهدي بقوله: "وسر المسألة أن شرائع الحلال والحرام والإيجاب إنما شرعت لمن التزم أصل الإيمان, ومن لم يلتزمه وخلى بينه وبين دينه فإنه يخلى بينه وبين شرائع الدين الذي التزمه كما خَلى بينه وبين أصله ما لم يُحاكم إلينا وهذه القاعدة متفق عليها بين العلماء"1. فهذا ابن القيم يرى أن الحدود لا يجب على الذمية بإيجاب الشرع إلا أن يحصل الترافع منهم إلى المسلمين فحينئذ يلتزمون بأحكام الإسلام, وإلا فهم لا يتورعون عن ارتكاب المعاصي من الكبائر والصغائر والإسلام, لم يوجب على أتباعه إلزام أهل الذمة بشرائع الإسلام, وإنما يخلى بينهم وبين أحكَام الدين الذي يدينون به ما لم يترافعوا إلينا أو يتعرضوا للإسلام أو أحدٍ من أتباعه بالإهانة؛ لأنهم بعقدهم الذمة مع المسلمين وفرض الجزية عليهم وهم صاغرون إنما هو لحفظ دمائهم وأموالهم وعدم التعرض لهم إلا في الأمور التي فيها ضرر على الإسلام والمسلمين, وإيجاب الحداد على الذمية ليس فيه شيء من ذلك نعم الله عز وجل أرادَ منهم الإسلام, ولكن هم لم يمتثلوا فإذا دخلوا في الإسلام وجب عليهم ما يجب على المسلمين.   1 زاد المعاد: ج4 ص 269. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 المبحث الرابع: هل شرط وجوب الحداد كونه من الوفاة؟ : اتفق الفقهاء على أن الحداد يجب على المعتدة من الوفاة إذا توفرت الشروط الأخرى التي ذكرناها آنفاً والتي سنذكرها قريبا ولا نعلم في هذا خلافاً إلا خلافاً شاذاً ذكرناه في الفصل الثاني. أما المعتدة من طلاق فهي على قسمين: رجعية وبائن. فالرجعية لا يجب عليها الحداد اتفاقاً لأنها في حكم الزوجات, لها أن تتزيّن لزوجها وتستشرف له ليرغب فيها2, فنعمة النكاح لم تفت بعد لأن الزوج له أن يراجعها, والتزين مما يبعثه على مراجعتها فتكون مندوبة إلى التزين لهذا المعنى3.   2 المغني: ج 7 ص 518, شرح العناية: ج 4 ص 340. 3 المبسوط: ج 6 ص 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 أما البائن فقد اختلف الفقهاء في وجوب الحداد عليها على قولين مع اتفاقهم على إباحة ذلك لها, ونحن نبيّن هذين القولين وأدلة كل قول وما قد يرد على الدليل المرجوح من المناقشة مسترشدين في ذلك بالمراجع المعتمدة في كل مذهب, فنقول: 1 ـ ذهب الجمهور ومنهم مالك والشافعي في الجديد وأحمد في أحد قوليه وبه قال عطاء وربيعة وابن المنذر إلى عدم وجوب الحداد على المبتوتة1. الاستدلال لهذا الرأي: وقد استدل أصحاب هذا الرأي بالمنقول والمعقول: أما المنقول: فقد استدلوا منه بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشر"2. وهذه عدة الوفاة فيدل على أن الإحداد إنما يجب في عدة الوفاة3. وأما استدلالهم بالمعقول فمن وجوه: أـ أنّ الحداد في عدة الوفاة إنما هو لإظهار الأسف على فراق زوجها وموته وهذا مالا يوجد في الطلاق فإنه فارقها باختيار نفسه وقطع نكاحها فلا معنى لتكليفها الحزن عليه. ب ـ أنّ المتوفى عنها لو أتت بولد لحق الزوج الميت لكونه ليس له من ينفيه على فرض أنه ليس له فاحتيط عليها بالإحداد لئلا يلحق بالميت من ليس منه بخلاف المطلقة فإن زوجها باق فهو يحتاط عليها بنفسه وينفي ولدها إذا كان من غيره. ج ـ إنّ المبتوتة معتدة من غير وفاة فلا يجب عليها الحداد قياسا على الرجعية والموطؤة بشبهة. 2 ـ وذهب أبو حنيفة وأصحابه وأحمد في إحدى الروايتين والشافعي في القديم وبعض المالكية وأبو ثور وأبو عبيد إلى وجوب الحداد على المبتوتة4. الاستدلال لهذا الرأي: استدل أصحاب هذا الرأي بالمنقول والنظر.   1 المنتقى للباجي: ج 4 ص 145, مغني المحتاج: 3 ص 398, المغني: ج 7 ص 527. 2 تقدم تخريجه في الفصل الثاني. 3 المغني: ج 7 ص 528. 4 المبسوط: ج 6 ص 58, المغني: ج 7 ص 527, مغني المحتاج: ج 3 ص 398, فتح الباري: ج 9 ص 486. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 أما المنقول فقد استدلوا منه بما يأتي: 1ـ ما روي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى المعتدّة أن تختضب بالحنّاء, وقال: الحناء طيب"1. فأنت ترى أنه لم يفرّق بين معتدة الوفاة وغيرها فدل هذا على وجوب الحداد على المعتدة مطلقا كما يفيده عموم الحديث. ويجاب عن هذا الاستدلال بأمرين: أـ أنه ضعيف لا تقوم به حجة؛ لأنه لم يذكر في كتب السنة المعتبرة ولو كان صحيحا لذكروه, والحديث الضعيف لا يحتج به في الأحكام. ب ـ لو سلّمنا بصحته لم نسلّم بعمومه في كل المعتدات, فالرجعية لا يجب عليها الحداد اتفاقاً, فعلى هذا يكون محمولا على المعتدّة من الوفاة, وتخرج البائن من هذا العموم كما خرجت الرجعية2. 2ـ روى الطحاوي في شرح الآثار بإسناده إلى حماد عن إبراهيم قال: "المطلقة والمختلعة والمتوفى عنها زوجها والملاعنة لا يختضبن ولا يتطيبن ولا يلبسن ثوباً مصبوغاً ولا يخرجن من بيوتهن". وإبراهيم أدرك عصر الصحابة وزاحمهم في الفتوى فيجوز تقليده3. ويجاب عن هذا الاستدلال: بأنه قول تابعي, وقول التابعي ليس بحجة, فإنه إذا وقع الاختلاف بين الفقهاء في الاحتجاج بقول الصحابي فعدم الاحتجاج بقول التابعي أولى, زد على هذا أنه معارض لقول من قدّمنا من الصحابة. وأما استدلالهم من طريق النظر: فهو إلحاق المبتوتة بالمتوفى عنها زوجها بطريق الدلالة, وتقريره أن النص ورد في وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها بلا خلاف, ومناط حكمه: إظهار التأسف على فوت نعمة النكاح الذي هو سبب لصونها وكفاية مؤنها, والإبانة اقطع لها من الموت حتى كان لها أن تغسله ميتا قبل الإبانة لا بعدها فكان إلحاق المبتوتة بالمتوفى عنها زوجها كإلحاق ضرب الوالدين بالتأفيف4. والجواب عن هذا الاستدلال من وجهين: 1ـ أن القياس غير صحيح وذلك لوجودِ الفارق بين المقيس والمقيس عليه, فإن الحداد إنما وجب على المتوفي عنها زوجها إظهاراً للتأسف على فوت زوج وفي لها حتى الموت   1 فتح القدير: 4 ص 338. 2 شرح معاني الآثار: 3 ص 81. 3 شرح العناية: ج 4 ص 338. 4المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 بخلاف المبتوتة فإن زوجها لم يكن وفياً لها بل على العكس من ذلك فإنه أوحشها بالإبانة فلا تتأسف بفوته. ومن جهة أخرى فإنه لا مناسبة بين البينونة وبين الموت؛ إذ أن البينونة لا يمتنع معها عود النكاح بعقد جديد بخلاف الموت فإنه لا يتصور عود النكاح بعده, ثم لو سلمنا بهذا في المطلقة لم نسلم به في المختلعة؛ لأنها قد افتدت نفسها برضاها لطلب الخلاص منه فكيف تتأسف. ب ـ لو سلمنا بأن الحداد يجب على المبتوتة لفوات نعمة النكاح لقلنا بوجوبه على الأزواج أيضا؛ لأن نعمة النكاح مشتركة بينهما. وهكذا تتصور المسألة بين القول والدليل والاستدلال والمناقشة, والحق واحد ومصيبه واحد, وسبب اختلاف الفقهاء في هذه المسألة راجع إلى أمرين: الأمر الأول: هل وجوب الحداد على المرأة لإظهار التأسف على الزوج أو لإظهار التأسف على فوات الزوجية؟ فمن قال: هو لإظهار التأسف على فوات الزوج قال: بعدم وجوب الحداد على المبتوتة, ومن قال: هو لإظهار التأسّف على فوات الزوجية وبيان ذلك هو أن الحداد لإظهار التأسف على فوت نعمة النكاح والوطء الحلال بسببه قال بوجوب الحداد على المبتوتة؛ لأن عين الزوج ما كان مقصوداً لها حتى يكون التحزّن بفواته بل كان مقصودها نعمة النكاح, وهذا يفوتنا في الطلاق والوفاة بصفة واحدة. الأمر الثاني: هل الحداد حق لله أو حق للزوج؟ فمن قال هو حق لله قال بوجوب الحداد على البائن, ومن قال هو حق للزوج قال بعدم وجوب الحداد عليها. والذي أراه راجحا في هذه المسألة هو عدم وجوب الحداد على البائن, وإنما رجحت هذا القول لما يأتي: 1ـ الأدلة التي استدل بها القائلون بهذا القول أقوى في نظري من أدلة المخالفين, فحديث الصحيحين الذي ذكرناه في الاستدلال يفيد أن الحداد لا يكون إلا على ميّت كما هو ظاهر اللفظ, ثم قيّد الجواز بما ذكر في الحديث واستثني من ذلك الحداد على الزوج الميت وبين المدة التي يكون بها الحداد, فالمستثنى هنا من جنس المستثنى منه, وكذلك الأدلة التي ذكرناها هنالك كلها تلتقي حول هذا المعنى, وقد عرفت الجواب عن أدلة المخالفين عند ذكرها وهي كلها محتملة, والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 2 ـ إنّ الحداد حكم أوجبه الشارع على المرأة المتوفى عنها زوجها لأن تركه (أي الحداد) بفعل ما ينافيه من التطيب واللبس والتزيّن يدعو إلى الجماع, فمنعت المرأة منه زجراً لها عن ذلك فكان ذلك ظاهراً في حق الميت لأنه يمنعه الموت عن منع المعتدة منه عن التزويج ولا تراعيه هي ولا تخاف منه بخلاف المطلّق الحي في كل ذلك ومن ثم وجبت العدة على كل متوفى عنها وإن لم تكن مدخولا بها بخلاف المطلقة قبل الدخول فلا إحداد عليها اتفاقا 1. 3 ـ إنّ المطلّقة البائن يمكنها العود إلى الزوج بعينه بعقد جديد وليس الأمر كذلك في المتوفى عنها زوجها؛ فإن عودتها إلى الزوج الميت مستحيلة فليس ثمة ما يدعو إلى إيجاب الحداد على المبتوتة, فإن قيل: هذا لا يستقيم في الملاعنة فإن تحريمها على الملاعن تحريم أبدي ومع هذا فلا حداد عليها؟ قيل: الجواب عن ذلك من وجهين: الوجه الأول: أن تحريم الملاعنة على الملاعن ليس محل اتفاق عند أئمة الفتوى, بل من الفقهاء من قال: إنها لا تحرم تحريما أبدياً, وإنما يكون الملاعن بعد الفرقة خاطبا من الخطاب, وقد قال بهذا فقهاء الحنفية. الوجه الثاني: لو سلّمنا بأن الملاعنة تحرم على الملاعن على التأبيد لم نسلم بالاعتراض؛ لأننا نقول: إن وجوب الحداد إنما هو لفقد الزوج بعينه لا لفقدان الزوجية. 4 ـ إن الزوج الميت فارق زوجته وهو على نهاية الإشفاق عليها والرغبة فيها, ولم تكن المفارقة من قبله, فلزمها لذلك الإحداد وإظهار الحزن, والمطلقة فارقها مختارا لفراقها مقابحاً لها فلا يتعلق بها حكم الإحداد كالملاعنة 2. 5 ـ روت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشق ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل" رواه أبو داود والنسائي3. فهذا الحديث نص في وجوب الحداد على المعتدة من الوفاة وهو مخصص لعموم الحديث الذي استدل به المخالفون على فرض صحته. فإن قيل: هذا الحديث لا يدل على عدم وجوب الحداد على المبتوتة بدليل آخر؟ قلنا: بل هو يدل على عدم وجوب الحداد عليها إذ أنه لم يوجد دليل أقوى منه بل ولا مساوياً له يفيد هذا الوجوب, فلما لم يوجد ذلك دل على أن المصير إلى مدلوله واجب.   1 فتح الباري: ج9 ص 486. 2المنتقى للباجي: ج 4 ص 145. 3سنن أبى داود: ج 2 ص 727, سنن النسائي ج 6 ص 203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 والحاصل أن الاقتصار على مورد النص هو الذي تقتضيه قواعد الشرع عملا بالبراءة الأصلية فيما عداه, فمن ادّعى وجوب الحداد على غير المتوفى عنها زوجها فعليه الدليل. إذا تبين هذا فاعلم أنهم لم يختلفوا في عدم وجوب الحداد على المعتدة الرجعية على ما بينا بيد أن فقهاء الشافعية اختلفوا فيما بينهم هل يسن لها الحداد أولا؟ على قولين: أحدهما: يسن, والثاني: لا يسن لها الحداد بل أولى لها أن تتزين بما يدعوا الزوج إلى رجعتها, وضعف هذا الاحتمال أن يظن أنها فعلت ذلك إظهارا للفرح بفراقه وعلى تقدير صحته فينبغي تخصيصه بمن ترجو عودته1. والمعمول به الأول. كذلك لم يختلفوا فيما أحسب في إباحة الحداد على المبتوتة بل إن فقهاء الشافعية يرون أن أقل أحواله الاستحباب لئلا تدعو الزينة إلى الفساد. وقد نقل صاحب المبدع الإجماع على جواز الحداد من المبتوتة وبين أنه لا يُسَنُّ لها2. وبهذا تعلم أن اختلاف الفقهاء في هذه المسألة إنما هو في الوجوب فقط.   1مغني المحتاج ج 3 ص 398. 2 المبدع ج 1408. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 المبحث الخامس: هل من شرط وجوب الحداد كون النكاح صحيحا؟ النكاح الصحيح هو المستكمل لأركانه وشروطه من الإيجاب والقبول والشاهدين والولي والمهر وخلو الزوجين من الموانع فإذا وجد النكاح على هذه الصورة وحصلت الفرقة بين الزوجين بالموت وذلك بأن توفي الزوج قبل الزوجة وجب الحداد على الزوجة العاقلة البالغة المسلمة من غير خلاف أعلمه عند أئمة الفتوى اللهم إلا ما نقل عن الحسن البصري والشعبي من القول بعدم وجوب الحداد كما تمّ ثبته قريبا. ولهذا أجمع الفقهاء على عدم وجوب الحداد على المرأة المنكوحة بنكاح فاسد أو نكاح شبهة. أما المنكوحة بنكاح فاسد فلأنها ليست زوجة حقيقية والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أوجب الحداد على الزوجات وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً" فقوله صلى الله عليه وسلم "إلا على زوج" يفيد بمنطوقه وجوب الحداد على الزوجة كما يفيد بمفهومه عدم وجوب الحداد على غيرها, زد على هذا أن المنكوحة بنكاح فاسد لا تحزن على فقد الزوج لأنها لا يجب لها ما يجب للزوجة من الحقوق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 فليس ثمة سبب يدعو إلى حدادها. وأما المنكوحة بشبهة فكذلك لما بينا؛ ولأنها -أي المنكوحة بنكاح فاسد أو شبهة- ما فاتها نعمة النكاح والأصل هو الإباحة في الزينة لاسيما في النساء:1 يحققه قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} . (الأعراف:31) . فهذا دليل على إباحة الزينة مطلقا بما فيها زينة المرأة المعتدّة بنكاح فاسد أو شبهة وتحريم ذلك عليهما يحتاج إلى دليل ولا دليل. ثم إن النكاح الفاسد ووطأ الشبهة كل منهما معصية في الدين فيلزم الشكر على فواته لا التأسف عليه2.   1 شرح العناية ج 4 ص 342. 2 حاشية الشلبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 الفصل الرابع: أقسام الإحداد القسم الأول: الحداد الجائز في الإسلام ... الفصل الرابع: أقسام الإحداد: عرفت في الفصل الأول معنى الحداد, وأنه في اللغة: المنع مطلقا, وفي الاصطلاح: منع المرأة نفسها الزينة والطيب وكل ما يدعو إلى الرغبة فيها زمن الحداد, وذكرنا هنالكَ في أن المعنى اللغوي أعم من المعنى الاصطلاحي لأنه مجرد المنع مطلقا, أما المعنى الاصطلاحي فهو المنع بالنسبة إلى شيء خاص؛ وبناء على ذلك نرى أنه من المفيد أن نذكر أقسام الحداد الجائز منها والممنوع ليكون القارئ على بصيرة؛ لأن الأشياء لا تعرف إلا بأضدادها (وبضدها تتميز الأشياء) فالجائز يعرف ليعمل به والممنوع يعرف لتركه. وإليك تحرير المقام في ذلك: ينقسم الحداد من حيث الجملة إلى قسمين: جائز وغير جائز، والجائز قسمان: حداد المرأة على زوجها الميت وحدادها على قريبها الميت, فالتقسيم هنا من حيث النوع لا من حيث الحكم لأن الحكم لا يختلف في القسمين إنما الاختلاف في النوع أما زوجها الميت فليس في وجوب الحداد عليه خلاف إلا خلافا شاذاً على ما بيّنا, وقد عرفت الخلاف في وجوب الحداد عليها عند أئمة الفتوى إذا كانت مبتوتة كذلك لم يختلف الأئمة فيما علمت في جواز الحداد منها على قريبها الميت والمتتبع لنصوص الشرع وقواعده العامة يرى أن الحداد إنما يشرع للنساء دون الرجال فالمرأة هي التي تحد على زوجها أو على قريبها لما بينا وما سنبينه قريبا وهاك الأدلة التي تفيد هذا المعنى وإن كنا قد ذكرناها قريباً إلا أنّ المقام يقتضي إعادتها هنا بإيجاز: 1ـ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} . فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد تضمنت أمرين: الأمر الأول: أن التربص خاص بالمرأة التي مات زوجها خاصة بها وأن مدة التربص في حقها أربعة أشهر وعشراً) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 الأمر الثاني: أنّ الزوج لا يجب عليه التربص بوفاة زوجته وبالتالي لا يجب عليه الحداد بل له أن يتزوّج ثانية دون أن يكون منوطاً بمدة معينة, والأوّل يفيده منطوق الآية, والثاني يفيده مفهومها قال الشوكاني في شرح الآية: "ومعنى الآية {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} أي ولهم زوجات فالزوجات يتربصن بعدهم وهو كقولك: "السمن منوان بدرهم" أي منه, وحكى المهدوي عن سيبويه أن المعنى: "وفيما يتلى عليكم الذين يتوفون", وقيل: "التقدير: وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن" ذكره صاحب الكشاف وفيه "أنّ قوله: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} لا يلائم ذلك التقدير؛ لأن الظاهر من النكرة المعادة المغايرة"وقال بعض النحاة من الكوفيين: "أن الخبر عن (الذين) متروك, والقصد الإخبار عن أزواجهم بأنهن يتربصن"1. 2 ـ قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميّت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً" فقد تضمّن هذا الحديث ثلاثة أمور: الأمر الأول: جواز الحداد على القريب الميت وأنّ مدة ذلك ثلاثة أيام. الأمر الثاني: الحداد على الزوج الميت أربعة أشهر وعشراً. الأمر الثالث: هو أنَّ حكم الحداد خاص بالنساء دون الرجال, فالحديث وافق الآية الآنفة الذكر في وجه الدلالة في الأمرين الثاني والثالث, وتضمن حكماً زائداً على ما دلت عليه الآية وهو الأمر الأول. 3 ـ الإجماع: أجمع المسلمون من عصر الصحابة -رضي الله عنهم- إلى يومنا هذا على جواز القسمين السابقين وأنّ الرجال لا يدخلون في هذا الجواز وإنما هو خاص بالنساء. وقد عرفت قريباً عند الكلام على حكم الإحداد مزيداً من الأدلة التي تتعلق بهذا الموضوع, وحاصلها بالإضافة إلى ما قلنا هو أنّ المرأة هي التي بحاجة إلى الرجل ولذلك وجب الحداد عليها لضعفها ولفوات نعمة النكاح عليها بموت العائل الذي يصونها ويحفظها ويرعى مصالحها على حد قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} . (سورة النساء: 34) , ولهذا كان مطالباً بالإنفاق على زوجته وكسوتها وسكنها إذا لم تكن ناشزة, وهذا كله لا يوجد في الرجل ولذلك أجمع أئمة الفتوى كما بينا أكثر من مرة على أنه لا يجب الإحداد على الرجل لعدم وجود الحكمة التي من أجلها شرع الحداد فيه.   1 فتح القدير 1 ص 248. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 القسم الثاني من قسمي الحداد: الحداد الممنوع في الإسلام : عرفت آنفاً القسم الأول من قسمي الحداد وهو القسم الجائز في الإسلام, وعرفت أنه قسمان من حيث النوع، بقي أن تعلم القسم الذي لا يجوز وهو على ضربَين: أحدهما: ما كان قبل الإسلام. وثانيهما: الإحداد في عصرنا الحاضر بالنسبة للدول. ونحن نفصّل القول في هذين الضربين بحسب الإمكان والله المستعان فنقول: القسم الأول: الحداد في الجاهلية: كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها تتجنّب كل ملذّات الحياة, وتشق على نفسها, فلا تستعمل طيبا ولا تغسل جسما ولا تقلم ظفراً, وتلبس شرّ ثيابها, وتعتزل المجتمع في بيت صغير وقديم تمكث فيه حولا كاملا تخرج بعده وهي في أقبح صورة وأشنع منظراً وأسوء حالا مما كانت عليه, فتعمد إلى دابة فتغتسل بها فقلّما تغتسل بشيء إلا مات, يحقّق هذا قوله صلى الله عليه وسلم للمرأة التي قالت له: يا رسول إنّ ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفتكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا" -مرتين أو ثلاثا- كل ذلك يقول: "لا", ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما هي أربعة أشهر وعشر, وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول". قال حميد: فقلت لزينب: "وما ترمى بالبعرة على رأس الحول؟ " فقالت زينب: "كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً ولبست شر ثيابها ولم تمسّ طيباً حتى تمر بها سنة ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طائر فتفتض به فقلما تفتض بشيء إلا مات ثم تخرج فتعطى بعرة فترمى بها ثم تراجع بعدما شاءت من طيب أو غيره"1. وقد تضمّن هذا الحديث: ما كانت تعانيه المرأة في الجاهلية من الظلم بسبب وفاة زوجها، فمن حزن على فراق الزوج إلى حياة قاسية بعده لمدة حول كامل, بقيت المرأة في الجاهلية على هذا الحال واستمرت زمناً وهي تعاني منها في بداية الإسلام يوضحه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} . (سورة البقرة: 240) . وبما أنّ الشريعة الإسلامية قائمة على العدل والإنصاف وتحقيق المصالح الخاصة لأفراد المجتمع الإسلامي بشرط أن لا يتضرر أحد الطرفين بدفع الضرر عن الآخر فهي لا   1 صحيح البخاري مع فتح الباري ج 9 ص 484. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 تقر ظلماً ولا تضيع حقاً, فقد نسخت ما كانت تعاني منه المرأة بسبب وفاة زوجها واستبدلته بحكم آخر حفظ حقوق الطرفين أعني الزوج والزوجة على السواء وذلك بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرا} (نقدم تخريجه) . فنسخت السنة المذكورة في الآية الآنفة الذكر بالمدة المذكورة في هذه الآية, وحدّ الشارع للمرأة المتوفى عنها حدوداً وسنّ لها قيوداً في الإسلام, ونسخت القيود التي كانت تعاني منها في الجاهلية وذلك بالأحاديث التي تم ثبتها قريباً قال ابن حجر في الفتح بعد تقريره هذا الحكم نقلا عن ابن دقيق العيد "قال ابن دقيق العيد: "فيه -يعنى الزمن الذي يجب على الحادة في الإسلام- إشارة إلى تقليل المدة بالنسبة لما كان قبل ذلك وتهوين الصبر عليهما ولهذا قال بعده: "وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمى بالبعرة على رأس الحول" وفي التقييد بالجاهلية إشارة إلى أن الحكم في الإسلام صار بخلافه وهو كذلك بالنسبة لما وصف من الصنيع لكن التقدير: بالحول استمر في الإسلام بنص قوله تعالى: {مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} ثم نسخت بالآية التي قبلها وهي {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} " اهـ1. القسم الثاني: الحداد في العصر الحاضر: إعلم أنها قد انتشرت في عصرنا الحاضر ظاهرة مخالفة للإسلام التبس أمرها على بعض زعماء المسلمين وهي الحداد وتنكيس الأعلام لوفاة زعيم من الزعماء مدة معينة تقدر غالبا بثلاثة أيام أو سبعة أيام أو ثلاثين يوما أو أربعين يوما أو أكثر أو أقل وبما أن ذلك مخالف لتعاليم الإسلام فالواجب على العلماء تبيين أمر هذه الشبهة لأبناء المسلمين الذين جهلوها أو تجاهلوها, ودحضها بالأدلة الشرعية المستمدة من الكتاب والسنة أداء للواجب على حد قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} . (آل عمران: 110) : وقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} . (آل عمران: 104) وحيث أنني واحدٌ من المتخصصين في علوم الشريعة فقد رَأيتُ أنه من الواجب عليّ القيامُ بهذه المهمة حسب الإمكان؛ لأن أمرها قد شاع وذاع في الأوساط الإسلامية حتى أصبحت من الأمور العادية المألوفة, وصدق القائل حيث يقول: "إذا كثر الإمسَاس قلّ الإحساس" فأقول -وبالله التوفيق-: المسلم هو الذي يطبق أحكام الإسلام بفعل الأوامر واجتناب النواهي, والأحكام الشرعية لا تعرف إلا بالأدلة الشرعية وقد دلت   1 فتح الباري ج9 ص 484. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 النصوص النبوية والأدلة العقلية وإجماع الصحابة الذين عاشوا أيام الرسالة على أنه لا يجوز العمل بحكم مّا إلا إذا كان له أصل يدل عليه دَليل من الأدلة التي قررها أئمة الفتوى مصدراً للاستدلال, ومن ذلك الحداد في العصر الحديث فانه لا دليل على جوازه ولا إباحته ويظهر ذلك فيما يأتي: 1 ـ لا ريب أن الحداد لا يشرع إلا للمرأة في حق زوجها أو قريبها الميت, وقد دلّ الدليل من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة على أنه ليس لغير المرأة أن تحد على ميت بل ذلك خاص بها, فالأحاديث الصحيحة التي تم ثبتها قريباً كلها تنهى عن الحداد وتحذر منه إلا في حق الزوجة فإنها تحد على زوجها أربعة أشهر وعشراً كما جاءت الرخصة عنه صلى الله عليه وسلم للمرأة خاصة أن تحد على قريبها ثلاثة أيام فأقلو كذلك الآيات القرآنية التي تفيد إيجاب العدة على المرأة المتوفى زوجها قاضية بعدم جواز الإحداد من غيرها, وكذلك إجماع الصحابة الذي تم ثبته قريبا. أما ما سوى ذلك من الحداد فهو ممنوع شرعاً وليس في الشريعة الكاملة من كتاب ولا من سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح ولا قول صحابي ما يدل على ذلك فدل على أنه لا يجوز على ملك ولا زعيم ولا غيرها. 2 ـ أن هذا العمل فيه مخالفة صريحة للشريعة المطهرة، وأمر تترتَّبُ عليه أضرار كثيرة, وتعطيل المصالح, والتّشبه بأعداء الإسلام, وهو ممنوع شرعاً. 3 ـ أنه قد مات في حياة الكريم النبي صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم وبناته الثلاث رقية وأم كلثوم وزينب وعمه حمزة وأعيان آخرون في غزوة مؤتة فلم يحد عليهم ثم توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق وأفضل الأنبياء وسيّد ولد آدم, والمصيبة بموته أعظم مصائب لأن بموته ينقطع خبر السماء لكونه آخر الأنبياء, ومع هذا لم يحد عليه الصحابة رضي الله عنهم ثم مات أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو أفضل الصحابة وأشرف الخلق بعد الأنبياء فلم يحد عليه ثم قتل عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وهم أفضل الخلق بعد الأنبياء وبعد أبي بكر الصديق فلم يحدوا عليهم, وهكذا مات الصحابة جميعاً فلم يحد عليهم التابعون, وهكذا مات أئمة الإسلام وأئمة الهدى من التابعين ومن بعدهم كسعيد بن المسيب وعلي بن الحسن زين العَابدين وابنه محمد ابن علي وعمر بن عبد العزيز والزهري والإمام أبى حنيفة وصاحباه والإمام مالك بن أنس والأوزاعي والثوري والإمام الشافعي والإمَام أحمد بن حنبل وإسحق بن راهوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وغيرهم من أئمة العلم والهدى ولم يحد عليهم المسلمون ولو كان خيراً لكان السَّلفُ الصالح إليه أسبق, والخير كله في اتباعهم والشر في مخالفتهم. 4 ـ أن الدين الإسلامي قد اكتمل بوفاة النبي الكريم على حد قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} . (المائدة: 3) فهل في شريعة الإسلام ما يشير ولو من طرف خفي إلى جواز هذَا الأمر؟ إننا لا نجد ما يدل على ذلك, وفعله من زعماء المسلمين وقادتهم مع عدم وجوده في الشريعة المطهرة مخالفة ظاهرة لهذه الشريعة وقدح في كمالها وانتقاص لها وأنها لم تفِ بما يجدّ من الأحكام, وقد قد قرر أئمة الهدى ومصابيح الظلام قديماً وحديثا أنها صالحة لكل زمان ومكان وشاملة لمصالح العباد ماضيها وحاضرها ومستقبلها. إن الأحكام الشرعية توقيفية أعني أنه لا يجوز إثباتها إلا من طريق الشارع خصوصا ما يقدّر بالزمن منها وإلا لجاز لكل أحد أن يقول برأيه ما شاء فدل على أنه لا يجوز الحداد إلا ما ورد به الحكم عن الشارع خصوصاً ما كان مقدراً بزمن معين, وهذا الأمر فيه تقدير بزمن وهو الحداد ثلاثة أيام أو سبعة أيام أو ثلاثون يوماً أو أربعون يوماً وهذا لا يكون إلا بخبر السماء, وخبر السماء لا يعرف إلا من طريق الأنبياء, ولم يعرف عنهم جواز هذا العمل فدل على أنه مخالفٌ لمنهج الله القديم. إذا تبيّن هذا فالواجب على قادة المسلمين وأعيانهم ترك هذا الإحداد والسير على منهج سلفنا الصالح من الصحابة ومن سلك سبيلهم, والواجب على أهل العلم تنبيه الناس على ذلك وإعلامهم به أداء لواجب النصيحة وتعاونا على البر والتقوى, ولما أوجب الله سبحانه وتعالى النصيحة لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين وعامتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171