الكتاب: اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر المؤلف: أ. د. فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي الناشر: طبع بإذن رئاسة إدارات البحوث العلمية والافتاء والدعوة والارشاد في المملكة العربية السعودية برقم 951/ 5 وتاريخ 5/ 8/1406 الطبعة: الأولى 1407هـ- 1986م عدد الأجزاء: 3   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر فهد الرومي الكتاب: اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر المؤلف: أ. د. فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي الناشر: طبع بإذن رئاسة إدارات البحوث العلمية والافتاء والدعوة والارشاد في المملكة العربية السعودية برقم 951/ 5 وتاريخ 5/ 8/1406 الطبعة: الأولى 1407هـ- 1986م عدد الأجزاء: 3   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] المجلد الأول مقدمة ... المقدمة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله جعل القرآن ربيع قلوبنا وبهجة نفوسنا ونور عقولنا وهادي علومنا ومدبر أمورنا ومرجع خلافنا وموئل شقاقنا وحكم ما بيننا ونظام دولتنا ومنهج أمتنا ومحار1 فكرنا وملجأ تائهنا وهادي ضالنا وشفاء لما في صدورنا. الحمد لله أنزل الفرقان وخلق الإنسان علمه البيان ومنحه عقلا يميز به بين الحق والضلال على هدي القرآن. الحمد لله أرسل إلينا أفضل رسله من صفوة خلقه ليبين لنا خير كتبه فأخرجنا من أحلك ظلمة إلى أوضح سبيل, ووضح لنا معالم دينه وبسط لنا شرعه فهدى إلى صراط مستقيم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم بلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق جهاده فكان خير قدوة ومنار الهدى. ورضي الله عن صحبه الكرام وأرضاهم, ذادوا عن حياض الإسلام وباعوا المهج والأرواح في سبيله, كانوا جنود الإسلام حقا وجذوره الأولى فكانوا خير القرون. وكيف لا يكونون خير القرون وفيهم رسوله وبينهم كتابه ... وهم هم ... ؟! إذا أشكل عليهم معنى أو غمض عليهم مرمى جاءوا إليه عليه الصلاة   1 المحار: المرجع "المعجم الوسيط ج1 ص205". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 والسلام فوضحه لهم وبينه وجلا غموضه فحيوا بالقرآن حياة طيبة وتحركوا، وأبصروا به السبيل وأدركوا, وتهذبوا به وتخلقوا وعملوا به وتأدبوا، وصلوا به وأخبتوا وبه حاربوا وسالموا وبه قاموا ونهضوا وإن شئت فقل: ترقوا وتمدنوا وبلغوا ما بلغوا, فكانوا بحق جيلا قرآنيا فريدا. وكيف لا يكونون كذلك وهم يستقون من نبع القرآن الصافي ومن معينه العذب ... وكيف لا يكونون كذلك وهم إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل إدراكا منهم أنهم إنما يتلقون أوامر الله سبحانه وتعالى لهم بالعمل فور سماعه ومن ثم لم يكن أحدهم ليستكثر منه في الجلسة الواحدة؛ لأنه كان يحس أنه إنما يستكثر من واجبات وتكاليف يجعلها على عاتقه1. ذلكم الإحساس كان يفتح لهم آفاق القرآن ويفتح لهم أبواب العلم والمعرفة ومع هذا فقد كانوا، رضي الله عنهم، لا يجدون في بسيط الأرض على سعتها ومديد السماء على عرضها ملجأ إن هم قالوا في القرآن بغير علم, أو بما لا يعلمون. على هذا المنهج الصافي والمورد العذب والنبع النقي كانت سيرة خير القرون ... وقدوة المسلمين وعلى قدر صفائه ونقائه كان صفاء ونقاء قلوبهم وعلى قدر مضائه كان مضاء سيوفهم فحملوا الكلمة والسيف يحميها ووصلوا في سنوات معدودة ما حسبوه أقصى الأرض, ولو علموا أحدا خلف ما وصلوا لخاضوا البحر إليه أداء للأمانة, وعرفانا للحق. سار هذا المنهج يشق له طريقا في مسار التاريخ محافظا على صفائه ونقائه تماما كما يجري النهر العذب على سطح الأرض يسقيها, فينبت الزرع ويروي العطش ومتعة للناظرين. هذا المنهج كهذا النهر, شق له طريقا في أرض التاريخ ينبوعه القرآن   1 معالم في الطريق: سيد قطب ص20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 الكريم ومصبه رضوان رب العالمين, من سلكه نجا وفاز فوزا عظيما, ومن حاد عنه هلك وخسر خسرانا مبينا. وككل سبيل وكل طريق تحف به الدروب والطرق متقاطعة متخالفة كان هذا المنهج, فنشأت بجانبه مناهج أخرى وطرق شتى واتجاهات عدة, منها ما سلك هذا النهر، ومنها ما حاد عنه زاغ، ومنها ما وقف على شاطئه يلقي فيه بالأذى والحجارة يحسب نفسه تستطيع له سدا أو منعا. وما درى ذلك المسكين أنه يجني على نفسه، وأنه لن يبلغ شأوا ولن يقوم له أثر. وما زالت هذه المناهج تزداد وتتنوع وتتسع وتضيق وتتجدد وتدرس, منها ما هو في دائرة المقبول, ومنها ما هو في دائرة المرفوض, ومنها ما يتردد بين الدائرتين يضرب هنا وهناك. ولعل بزوغ شمس القرن الرابع عشر الهجري نفث في روح هذه المناهج الحياة من جديد -بعد أن فترت حينا من الدهر- بما جاء به من وسائل وأدوات حديثة تعين على الاطلاع, وتساعد على الانتشار. فأشرقت بشروقها شمس المناهج التفسيرية للقرآن الكريم بما فيها من حق, وبما فيها من باطل. وغربت شمسه منذ بضع سنين وغلقت أبوابه بما فيها من مناهج قديمة وجديدة, لكن المؤلفات فيه نفذت منه إلى القرن الجديد وما زالت بين أيدينا نتلوها ونقرؤها ونطبعها وننشرها. فكان حقا واجبا أن تقدم دراسة وافية للمناهج في هذا القرن يبين فيها الأصيل والدخيل والصحيح والسقيم والمقبول والمردود علَّنا نتدارك في قرننا الجديد مساوئ سابقة ونأخذ منه محاسنه فنكون بذلك قد خطونا خطوات جادة ونكون بذلك قد استفدنا ممن قبلنا ونفيد من بعدنا في تنقية التفسير ومناهجه مما أصابه من الشوائب عبر القرون الماضية منذ أن كان صافيا نقيا إلى يومنا هذا فنعود به كما كان, ويصلح آخر هذه الأمة بما صلح به أولها. وإذا كان الأمر كذلك فقد اخترت لنفسي أن أكتب هذه الدراسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 لاتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري وإن كنت أدرك من نفسي قصورها ومن الموضوع سعته, لكني أعلم أن كل نفس مكلفة بما تستطيع فما وجدت لي عذرا أن أتركه ولم أجد أحدا قد سده. فاخترت "اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري" عنوانا لموضوع رسالتي لنيل درجة الدكتوراه؛ لأسباب عديدة سبقت الإشارة إليها ومجملها خمسة أمور: أولها: أنا نعيش بعد القرن الرابع عشر الهجري مباشرة وما زالت الكتابة فيه بكرا, وما تزال الاتجاهات فيه واضحة المعالم بينة السبل, المستقيم منها والمنحرف. ثانيها: أن في الإمكان توجيه الأذهان إلى الحق منها لسلوكه والتحذير من المنحرف وتقويم المعوج وتعديله, فما تزال الجادة فيه رطبة وما زالت الأغصان منه لينة. ثالثها: ما اختص به هذا القرن من بين القرون السالفة كلها, من سهولة نشر المؤلفات وعرضها على الناس في وقت قصير مما كان له الأثر في كثرة المؤلفات وسرعة انتشارها بين الناس, فكانت دراسة هذه المناهج وعرضها أولى من غيرها نظرا للحاجة إلى ذلك. رابعها: ما جد في هذا القرن من مناهج في التفسير, بعضها له جذور في القرون الماضية وبعضها جديد كل الجدة مما يوجب درسه ونقده وبيان ما له وما عليه. خامسها: أن وسائل التفسير لم تكن فيه كما كانت من قبل بالكتابة والتدوين, بل جد فيها وسائل الإعلام الحديثة كالإذاعة والصحافة والرائي والندوات والمؤتمرات وغير ذلك, فكانت الحاجة ماسة لوضع المقاييس الصحيحة في أيدي الناس يزنون بها ما يسمعون, وينقدون بها ما يقرءون. والأسباب غير ذلك كثيرة لا أظن أحدا يجهلها، ولعل فيما ذكرت منها الكفاية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 ويلمس الحاجة الماسة إلى ذلك كل من جلس مجلسا ضم أشخاصا اختلفت درجات علمهم وتنوعت وطرح فيه للحديث موضوع التفسير وحدوده, سيدرك لأول وهلة أن منهم من تلتبس عليه السبل وتختلط عليه المناهج فلا يدرك إدراكا صحيحا أبعاد التفسير المقبول وحدوده, ولا معالم التفسير المردود, فقد يرد الصحيح ويقبل الخاطئ لا لشيء إلا لقصور في مقاييسه أو لأنه سمعه من فلان أو علان. وقد تلمس الحاجة الماسة عند من هم أعلى درجة من أولئك حين ترى كثيرا من طلبة العلم وأهله يسألون بين حين وآخر عن ذلك التفسير أو ذلكم المفسر: ما منهجه, وما طريقته؟ ويسألون عن الحق في تفسيره وسواه. وقد تجد هذا واضحا في رجوعهم الكثير للكتب التي تختص بدراسة التفسير والمفسرين. ذلكم -مثلا- كتاب "التفسير والمفسرون" للشيخ محمد حسين الذهبي، رحمه الله تعالى، درس فيه اتجاهات التفسير من العهد النبوي إلى العصر الحديث, ودراسته هذه وإن كانت دراسة سريعة عجلى إلا أنها قد سدت فراغا كبيرا في الدراسات القرآنية يظهر هذا في أنه قل أن تجد باحثا في هذا المجال إلا ويرجع إلى هذا الكتاب ويستفيد منه. وقد تلمس الحاجة لمسا سريعا حين يوجه إليك أحدهم -وكثيرا ما يحدث هذا- سؤالا يطلب منك فيه أن تدله على كتاب في التفسير يقرؤه, يسأل هذا ليس لعدم معرفته لتفسير للقرآن, ولكن لأنه يعرف كثيرا منها فاختلط عليه الحابل بالنابل وأصبح لا يفرق بين غثها وسمينها, فهو هنا بحاجة إلى من يميز له بين هذا وذاك فوجه إليك سؤاله. لست أريد هنا أن أقرر الحاجة إلى مثل هذا البحث, لكني أردت أن أبسط الواقع الذي يعيشه الناس في عصرنا هذا مع هذا الفيض من المؤلفات في التفسير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الدراسات السابقة: وقد عثرت على بعض المؤلفات التي لها صلة في موضوعي هذا, وإن كان بينها وبينه فارق إلا أني أحب أن أشير إليها سريعا, فمنها: 1- اتجاهات التفسير في مصر في العصر الحديث, للدكتور عفت محمد الشرقاوي، ومن عنوانه يظهر اقتصاره على بلد واحد من بلدان العالم الإسلامي وإن كانت هذه البلاد من أوفى البلاد الإسلامية وأكثرها علما إلا أن هناك اتجاهات ظهرت في مناطق أخرى ولا وجود لها في مصر, زد على هذا أنه بحث فيه ثلاثة اتجاهات هي: أ- الاتجاه الاجتماعي في التفسير الحديث. ب- الاتجاه الأدبي في التفسير الحديث. جـ- الاتجاه العلمي في التفسير الحديث. وليست هذه -كما سيظهر إن شاء الله في هذه الدراسة- هي كل اتجاهات التفسير في العصر الحديث. ولعل لهذا أثره في تغيير اسم الكتاب لما طبعه صاحبه مرة أخرى فسماه: "الفكر الديني في مواجهة العصر". 2- اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر, للدكتور محمد إبراهيم شريف، ومع أن هذه الدراسة قيمة وجادة إلا أن تقييدها بكلمتي "التجديد" و"في مصر" قصر الدراسة عن الهدف الذي أريده, زد على هذا اختلاف منهج الدراسة وطريقتها اختلافا كليا. ولا يقلل هذا من شأن هذا الكتاب فله عندي مكانة رفيعة في موضوعه, ولكني أردت بيان الفاصل بين موضوع بحثه وموضوع بحثي. 3- اتجاه التفسير في العصر الحديث منذ عهد الإمام محمد عبده إلى مشروع التفسير الوسيط للشيخ مصطفى محمد الحديدي الطير. وهو بحث ألقاه المؤلف في المؤتمر السادس لمجمع البحوث الإسلامية, والغرض الذي كتب له هذا البحث لا يوجب الاستيفاء والشمول فكان فيه إجمال لمناهج كثيرة أو عدم تعرض لها على الإطلاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 4- اتجاهات التفسير في العصر الراهن, للدكتور عبد المجيد عبد السلام المحتسب. وقد صدر هذا الكتاب بعد تسجيلي لرسالة الدكتوراه بفترة قصيرة وقد بادرت للحصول على نسخة منه وكنت أظنه كمسماه ولكنه لم يكن كذلك. فقد صدر الجزء الأول منه, وفيه اتجاهات ثلاثة: أ- اتجاه سلفي. ب- اتجاه عقلي. جـ- اتجاه علمي. ووعد بصدور الجزء الثاني وفيه مناهج أخرى ولم يصدر هذا الجزء حتى ساعتنا هذه -فيما أعلم- زد على هذا أن دراسته لهذه الاتجاهات الثلاثة بحاجة إلى إعادة النظر: فقد انخدع بعناوين بعض التفاسير, فهو يصنف مثلا تفسير "التفسير القرآني للقرآن" للأستاذ عبد الكريم الخطيب تحت الاتجاه السلفي لا لشيء إلا لعنوان التفسير ولست بهذا أغمط تفسير الخطيب, ولكني أراه ذا اتجاه آخر. أضف إلى هذا أنه يعنى بكتاب التفسير أكثر من عنايته بالمنهج الذي ينتمي إليه هذا التفسير, فهو أشبه ما يكون في جزئه الأول بدراسة لكتب في التفسير أكثر منه دراسة لاتجاهات التفسير, وبينهما فرق لا يخفى. أما ما عدا ذلك من الدراسات التي اطلعت عليها فهي دراسات غير منهجية أو دراسات خاصة بمنهج واحد من مناهج عديدة. لهذا, فقد عزمت بتوفيق الله سبحانه على الكتابة في موضوعي هذا "اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري". مخطط البحث: وبعد دراسة لهذا القرن الرابع عشر والمؤلفات التفسيرية فيه وبعد سؤال أهل الذكر ومشورتهم, قرَّ قراري على أن تكون خطة البحث في مقدمة وتمهيد وخمسة أبواب وخاتمة كالآتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 - المقدمة. - التمهيد: تحدثت فيه عن نشأة التفسير في عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثم المراحل التي مر بها عبر العصور الإسلامية, ثم تحدثت عن مناهج المفسرين السابقين وأهم المؤلفات في كل منهج, قصدت بهذا أن أضع قاعدة ترتكز عليها مناهج واتجاهات المفسرين في العصر الحديث؛ لنعرف من الجديد ما كانت جذوره ضاربة في القديم وراسخة وما كان منها جديدا يزيدها جمالا وبهاء وما كان نشازا منحرفا, ثم تحدثت عن فترة الركود في العالم الإسلامي, حتى عصر النهضة الإسلامية الحديثة ونهضة المؤلفات التفسيرية خاصة والمناهج التي قامت مع قيامها إجمالا. - الباب الأول: تحدثت فيه عن الاتجاه العقدي في التفسير, وعنيت فيه بالتفاسير الحديثة التي تعنى بإبراز جوانب العقيدة وبيان دقائقها والرد على الخصوم بحيث يظهر فيها طابع الاهتمام ببسط العقيدة التي يعتقدها صاحب التفسير وإن كان لا يهمل إهمالا تاما الجوانب الأخرى. وتطلب هذا مني أن أنظر في الفرق الإسلامية المعاصرة, الحق منها والباطل, وأن أنظر في النتاج العلمي لهذه الفرق عامة, وفي التفسير خاصة. أما الفرق فكثيرة وعديدة منها ما هو إسلامي حقا, ومنها ما شطح وانحرف, ومنها ما خرج عنه وابتعد، ولو كانت دراستي هنا دراسة ملل ونحل للزمني الحديث عن كل واحدة منها, وما دام الأمر غير ذلك فإني تحدثت عن الفرق التي لها نتاج في التفسير منشور, ومن هنا فإني تحدثت عن أربع فرق: أولاها أهل السنة والجماعة, وثانيتها الشيعة, وثالثتها الأباضية, ورابعتها الصوفية, وما عدا هذه الفرق فلم أتحدث عنه؛ إما لأنه اندثر وباد أو لأنه لا نتاج لهم في التفسير أو لأنهم خارجون عن الإسلام بالإجماع كالبهائية والقاديانية وغيرهم. وعلى هذا فقد جاء الباب الأول في أربعة فصول: الفصل الأول: منهج أهل السنة والجماعة في التفسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 الفصل الثاني: منهج الشيعة في التفسير. الفصل الثالث: منهج الأباضية في التفسير. الفصل الرابع: منهج الصوفية في التفسير. ولا أكتمكم حديثا أني عانيت في هذا الباب والباب الأخير -كما سيأتي بيانه إن شاء الله- كثيرا في جمع المادة العلمية أولا ثم قراءتها ثانيا واستخراج مناهجها ثالثا ولا تخفى صعوبة العثور على مؤلفات أرباب الفرق المعاصرة خاصة إذا علمنا أن بعض هؤلاء لا يحرصون على نشر كتبهم ولا على اطلاع غيرهم عليها، بل ولا يسمحون أحيانا لأصحابهم بالاطلاع وقد حدثنا أصغر فيضي مثلا في مقدمته لتحقيق كتاب "دعائم الإسلام" وهو من كتب الإسماعيلية ما لاقاه من صعوبة في جمع المخطوطات حتى إن صاحب إحدى النسخ لم يسمح له بالاطلاع على نسخته إلا لمدة ساعة واحدة ولم يتركه ينفرد بها، بل أقام ابنه على رأسه حتى انتهت الساعة فأخذها منه هذا مع أصحاب مذهبهم, فكيف بالآخرين. وأضرب مثلا لمعاناتي ما حدث لي في الحصول على تفسير لأحد المذاهب المعاصرة مع أن أتباعه ينكرون التقية ويرفضونها ومع هذا فقد التقيت بأحد علمائهم وشرحت له مهمتي فرفض أن يعيرني أو يقدم لي شيئا من كتبهم واتصلت بالمكتب الثقافي الذي يقوم بطبع مؤلفاتهم ولم أجد أية مساعدة, واتصلت بسفارتهم هناك وكان الصدود المقصود. وعدت إلى الرياض هنا وكتبت إلى سفارة بلادهم وإلى وزارة التراث القومي عندهم وإلى مفتي بلادهم وفي كل حالة لا أجد إلا الصمت المطبق ثم ومن حيث لا أحتسب, هيأ الله لي الحصول على ما أردت. ولم ينته الأمر إلى هنا أو لم أشأ أن ينتهي إليه فأردت أن أصل معهم إلى أقصى خطوة فكتبت إلى أحد علمائهم البارزين والمختصين بنشر تراثهم أعرض عليه أن أرسل إليه صورة لما كتبته عن مذهبهم ليبدي رأيه فيما كتبت أو إن كنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 قد قلت عنهم حرفا ليس من بطون مؤلفاتهم أو إن كنت نسبت إليهم عقيدة أو قولا ليس في عقائدهم. ومع هذا فقد كان الجواب الصمت. كنت أظن الأمر غير مقصود أول مرة وثانيها وثالثها, أما بعد ذلك فقد حسبته غير ذلك, لا تسألونني عن السبب فما زلت أبحث عنه. عذرا لحكاية حادثة ما دعاني لذكرها هنا إلا أنها ليست حادثة شخصية بل هي حادثة علمية من حق أهل العلم علي أن أنشرها وأن يعلموا بها. أولئك نفر وذلك موضع واحد من المواضع التي جهدت في الحصول على بعض مؤلفاتهم حتى حصلت عليها, والحمد لله. أما من لم أحصل على كتبهم, فيرجع سبب ذلك إلى أحد أربعة أسباب: أولها: أن كتبهم سرية لا يطلع عليها أحد سواهم, كالفرق الباطنية. ثانيها: أن كتبهم مصادرة أو لم يؤذن لها بالنشر. ثالثها: أنهم لم يؤلفوا في التفسير أو لم يطبعوا ما تم تأليفه لأسباب خاصة كالزيدية مثلا. رابعها: قصوري الشخصي الذي لا يمكنني من الاطلاع على كل المؤلفات في التفسير. هذا ما أردت بيانه في المقدمة فيما يتعلق بالباب الأول ومعذرة إن كان فيه إطالة, فما قصدت إلا البيان. - الباب الثاني: وتحدثت فيه عن الاتجاهات العلمية في التفسير, وقسمته إلى ثلاثة فصول: الفصل الأول: تحدثت فيه عن المنهج الفقهي في التفسير, وتناولت كتب تفسير آيات الأحكام. وفي الفصل الثاني: تحدثت عن المنهج الأثري في التفسير, ونعني به كتب التفسير بالمأثور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وإن كانت كتب التفسير عامة تكاد لا تخلو من تفسير آيات الأحكام كما أن بعضها يوجد فيه تفسير بالمأثور, لكني عنيت المؤلفات التي اقتصرت على تفسير آيات الأحكام ولم تتناول غيرها في الفصل الأول أو المؤلفات التي أبرزت التفسير بالمأثور وأولته مزيد اهتمام وتتبعته حتى أصبح طابعها العام في الفصل الثاني. أما الفصل الثالث: فتحدثت فيه عن المنهج العلمي التجريبي في التفسير وهو منهج وإن ضربت جذوره في عصور مبكرة في تاريخ الإسلام إلا أنه اتسع في العصر الحديث اتساعا كبيرا حتى كاد أن يصبح من سمات التفسير في هذا العصر أو كأنه ولد في هذا العصر وقد بينت أصوله التي يضرب بها في العصور السابقة ثم نهضته في العصر الحديث والحدود التي وصل إليها وما لهذا المنهج وما عليه, أو المقبول منه والمردود. - الباب الثالث: وتحدثت فيه عن الاتجاه العقلي الاجتماعي في التفسير، وإنما مزجت فيه بين صفتين "العقلية والاجتماعية" لأنه قد اشتهرت بهما في العصر الحديث مدرسة واحدة في التفسير هي مدرسة الأستاذ الإمام محمد عبده ولا يعني هذا أن لا يكون قد شاركها أحد في التفسير الاجتماعي الذي يعنى بإصلاح المجتمع وتشخيص عيوبه ثم علاجها على ضوء القرآن وإنما يعني أن هذه المدرسة قد أولت هذا الجانب من التفسير اهتماما خاصا وأنزلته منزلة كبيرة حتى اشتهرت به وعرفت، بل ولقبت به فصار بعضهم يسميها المدرسة العقلية وآخرون يسمونها المدرسة الاجتماعية؛ ولذا رأيت أن أمزج بين الصفتين في اتجاه واحد. - الباب الرابع: وتحدثت فيه عن الاتجاه الأدبي في التفسير, وفيه فصلان الفصل الأول: المنهج البياني في التفسير، وتحدثت فيه عن مدرسة أمين الخولي التي اهتمت بهذا اللون من التفسير حتى أصبح سمة لتفاسيرهم, وقام به من بعده تلاميذه حتى كان له أسسه وقواعده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وفي الفصل الثاني: تحدثت عن منهج التذوق الأدبي للقرآن الكريم ومع ندرة المؤلفات في هذا المنهج, فإن ما أحدثه تفسير سيد قطب، رحمه الله تعالى، من أثر في العصر الحديث ومن تلقي الأمة له بالقبول والرضا يرسم خطوطا واضحة لمنهج في التفسير جديد حتى وإن لم يسلكه حتى الآن إلا مفسر واحد؛ لأن السالك هنا هو سيد قطب, وحسبك به. - الباب الخامس: "الاتجاه المنحرف في التفسير" وهذا المنهج وإن كانت ولادته بدأت منذ العصور الأولى في صدر الإسلام إلا أنه في العصر الحديث اتخذ أشكالا وألوانا أخرى؛ ولهذا فقد قسمت الحديث فيه إلى ثلاثة فصول: الفصل الأول: المنهج الإلحادي في التفسير وقصرت الحديث فيه على التفاسير المنحرفة لعلماء متخصصين توافرت فيهم أكثر شروط المفسر, ومع هذا جاء تفسيرهم منحرفا ملحدا وينبغي أن أنبه هنا إلى أمرين هامين جدا في هذا المنهج بالذات: أولهما: أنه يجب التفريق بين التفسير الملحد والمفسر الملحد, فقد يكون أحدهم ملحدا وتفسيره مقبولا؛ لأن الإلحاد جاء في غير هذا الموضع وقد يكون الأمر عكس هذا, فنعرض تفسيرا ملحدا وصاحبه غير ذلك؛ لأنه قال بهذا التفسير من غير أن يعلم ما يوقعه فيه أو ما يلزمه وحين نبه إلى خطئه وضلال تفسيره تاب وأناب, وبقي تفسيره ملحدا. قصدت من هذا أن أبين أن من الأعلام الذين ذكرتهم من استقام وقد يكون فيهم من رجع عن تفسيره وقد يكون منهم غير ذلك. ثانيهما: أني تحدثت أولا عن المنهج بعامة, فأجمع فيه الشوارد من هنا وهناك, وقد لا يكون لصاحب التفسير الذي أتيت به غير هذا التفسير, وبهذا فلا يكون من أصحاب المنهج ولا من ملتزميه. وأضرب لذلك مثلا حين أورد تفسيرا ملحدا لآية قرآنية أو لآيتين لأحمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 حسن الباقوري, فإن هذا لا يعني أن الباقوري صاحب منهج, ولا يعني أنه من ملتزميه بقدر ما يعني أن هذا التفسير لهذه الآية أو لهما تفسير ملحد يدخل في هذا المنهج من غير أن يدخل صاحبه معه في المنهجية والالتزام. ثم إني تحدثت ثانيا عن أمثلة خاصة للمنهج فذكرت تفاسير التزمت المنهج الإلحادي في التفسير التزاما حقيقيا ليس في آية أو آيات, بل في قدر من الآيات تظهر فيه أسس متكاملة للمنهج الإلحادي, حتى صار طابعها فأصبحت جزءا منه. هذان أمران أحببت التنبيه إليهما حتى لا يقول قائل: وضعت فلانا مع الملحدين وهو ليس كذلك أو يقول آخر: جعلت لفلان منهجا في التفسير وهو الذي لم يفسر من القرآن إلا آية أو آيتين, ولعل ما أردت بيانه قد بان. وفي الفصل الثاني: تحدثت عن منهج المقصرين في التفسير وأعني بهم طائفة لم يدركوا شروط المفسر ولم يمنعهم هذا من أن يقولوا في القرآن بغير علم، وإنما سميته بهذا الاسم؛ لأن أصحابه قصروا عن استيفاء شروط المفسر, فكانوا كالقاصر في التصرفات. وفي الفصل الثالث: تحدثت عن اللون اللامنهجي في التفسير وهم قوم ليسوا من هؤلاء ولا من أولئك حيث جاءوا بتفاسير لا تقوم على سند شرعي ولا على سند علمي آخر, بل جاءوا بها خبط عشواء فلا تناسق ولا تناسب فيما بينها, فهم لا يسيرون على منهج ولا يسلكون دربا واحدا، بل يذهبون يمنة ويعودون من حيث لا يشعرون يسرة, عافانا الله وإياكم من الزيغ والضلال. - الخاتمة: وفي الخاتمة تحدثت عما توصلت إليه من نتائج وبينت المنهج السليم في تفسير القرآن الكريم، وعن أسس المنهج الذي يطلبه أبناء العصر الحديث والذي يجب -فيما أرى- أن يوليه أصحاب العلم والمعرفة من ذوي الاختصاص عنايتهم, وأن يوجهوا إليه همتهم. وينبغي أن أشير إلى أمور أرى ضرورة التنبيه إليها هنا في المقدمة, منها: أني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 جانبت -ما استطعت- الاستطراد في الأبحاث وكان بإمكاني ما دامت أرض البحث مترامية الأطراف أن أستطرد في أبحاثه وأتوسع إلا أني خشيت أن يكون الاستطراد على حساب المادة العلمية الأصيلة, ولذا فإني اقتصرت في أكثر الأبحاث والمناهج على تقديم موجز لتاريخها والدراسات السابقة لها إن كان لها سابق, ثم ذكر أصولها وقواعدها وذكر أهم المؤلفات فحسب ثم إثبات ذلك بذكر نصوص متفرقة من هذه المؤلفات جميعا حسب أسس المنهج ثم دراسة لتفسير واحد أو لتفسيرين أظهر بها توافر هذه الأسس مجتمعة في كل واحد منهما وبهذا أثبت أسس المنهج أولا ثم التزام بعض المؤلفات به ثانيا وأرى ما نقص عن هذا قصورا حاولت تجنبه وما زاد عليه إطنابا حاولت تلافيه, ولعلي وفقت في ذلك إن شاء الله. ومما يلزم التنبيه إليه أيضا أني قدمت الاتجاه العقائدي في التفسير وقدمت فيه منهج أهل السنة والجماعة فيه ليكون في أول الدراسة ميزانا يزن به القارئ ما يراه بعد من آراء, ونورا يتبين به معالم الطريق, ومعولا يهدم به صوامع الضلال والانحراف. ولهذا فإني لم أقف كثيرا عند الرد على بعض التفاسير الضالة إذ لو فعلت لجاء البحث بأضعاف حجمه, ولكان فيه من التكرار ما يبعث الملل ويفقد المنهجية فاكتفيت بتقديم بيان المنهج الحق في التفسير وحاولت جهدي أن أبين فيه الحكم الصحيح والتفسير الحق للمواضع التي تعد أصولا لمنهج آخر ليكون ردا متقدما على تفسير أو تفاسير خاطئة متأخرة. فأذكر مثلا موقف أهل السنة والجماعة من الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم- وبه يرد على ما يتلوه من مناهج يقلل أصحابها مكانة الصحابة -رضوان الله عليهم- أو من مكانة بعضهم. وأذكر مثلا موقف أهل السنة من عقيدة البداء والتقية والعصمة ونكاح المتعة وإن كانت هذه الأبحاث لا تعد من أصول عقائد أهل السنة أو من أسس منهجهم, كرد على من صرفوا آيات القرآن لتوافق ما جاءوا به. وأظن الأمر بعد هذا قد أصبح واضحا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 ومن الملاحظات التي أنبه إليها أني لا أنقل عقائد مذهب وأصوله إلا من مؤلفات أتباعه فلم أنقل عقائد الشيعة مثلا إلا من مؤلفاتهم ولا الأباضية إلا من كتبهم, وهذا أمر واجب في مثل هذه الأبحاث فألزمت به نفسي فالتزمته والحمد لله. ومنها أني قد أذكر تفسيرا في منهج وأذكره في منهج آخر لا يكون متعارضا مع المنهج الأول. فقد يكون مثلا تفسير "أضواء البيان" للشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله تعالى- مثالا لمنهج أهل السنة والجماعة في التفسير ولا يمنع هذا أن يكون مثالا للتفسير بالمأثور؛ لاشتماله على المنهجين وعدم التعارض بينهما. وحين أفعل ذلك فقد يكون الباعث له أحد أمرين: إما قلة التفاسير في منهج فأضطر إلى ذكر تفسير سبق التمثيل به لمنهج آخر، وإما لكون هذا التفسير التزم المنهجين التزاما بينا حتى ظهرا فيه ظهورا أوضح من غيره, فأذكره هنا وأذكره هناك. ومن ذلك أيضا أنه لم يكن من شأني بطبيعة الحال أن أتحدث عن المفسرين جميعا أو التفاسير كلها, فهذا عمل تقصر عنه طاقتي ويعجز عنه جهدي ويضيق عنه مجال البحث؛ لذلك ذكرت في كل منهج ما يثبت وجوده في فترة البحث ومجاله، ودرست أبرز التفاسير في ذلك وعنيت بالجانب التطبيقي لإثبات ما أقول, حتى لا يكون فيما أسوقه مظنة وقد سُبِقْتُ إلى هذه الطريقة1. ولذلك قد لا أذكر في كتابي هذا تفسيرا بعينه وإن كان كبيرا ما دمت أشرت إلى غيره مثالا لمنهجه. ولقد أثار التزام هذه الطريقة كما أثار على غيري ممن نهجوا هذا النهج صعوبات كثيرة, لعل أولها أني لا أكاد آنس إلى طريقة مفسر وأسلوبه حتى تنقلني طبيعة البحث إلى مفسر آخر له أسلوبه الخاص وطريقته الخاصة بل ومذهبه الخاص وعقائده الخاصة, وتلك صعوبة قد لا يعانيها إلا من يكابدها.   1 انظر مثلا: الاتجاهات الفكرية في التفسير: د/ الشحات السيد زغلول ص2. وقد تناول في دراسته التفاسير حتى نهاية القرن الخامس الهجري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وألفت الانتباه أيضا إلى أني أذكر التاريخ حينا ولا أضع حرف الهاء علامة للهجري لأنه الأصل، وإذا ما ذكرت التاريخ الآخر فإني أذكر حرف الميم. وأخيرا أحب أن أوضح أمرا هاما كان حقه التقديم إلا أن المسائل زاحمته فزحمته مع أنه قد يثور مع أول كلمة يواجهها قارئ هذا البحث حين يقرأ عنوانه "اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري" ما المراد بالاتجاه؟ وما المراد بالمنهج؟ وما المراد بالطريقة؟ والحقيقة أن تلكم الكلمات الثلاث اصطلاحات حديثة لم أجد لها -فيما قرأت- ذكرا عند أصحاب الدراسات القرآنية الأوائل، وحتى أصحابها في العصر الحديث لا تكاد تجد اتفاقا على معنى واحد لكل منها؛ ولهذا ترى كثيرا منهم يعبر بهذه الكلمة مرة وبالأخرى مرة عن مدلول واحد وترى آخرين منهم يذكرون تعريفا لكل مصطلح منها ويذكر غيرهم غيره. وعلى كل حال ما دامت هذه المصطلحات لم يقر قرارها, فإن من حقي أن أذكر هنا ما أردت بكل واحد منها. وإذا كان الأمر كذلك فإن الاتجاه -عندي- هو الهدف الذي يتجه إليه المفسرون في تفاسيرهم ويجعلونه نصب أعينهم وهم يكتبون ما يكتبون, أما المنهج فهو السبيل التي تؤدي إلى هذا الهدف المرسوم، وأما الطريقة فهي الأسلوب الذي يطرقه المفسر عند سلوكه للمنهج المؤدي إلى الهدف أو الاتجاه. أضرب لذلك مثلا: جماعة يريدون السفر إلى مدينة واحدة، فانطلقوا واتجاههم تلكم المدينة لكنهم سلكوا مناهج مختلفة, منهم من سلك المنهج البري الأول ومنهم من سلك المنهج الثاني ومنهم من سافر جوا ومنهم من سافر بحرا وغير ذلك, وهذه كلها مناهج لاتجاه واحد. أما الطريقة فتظهر حيث إن أحد هؤلاء اتجه اتجاها مباشرا إلى الهدف وجعل آخرون سفرهم سياحة فلا يمرون في استراحة إلا واستراحوا فيها ولا يمرون بمدينة أو بقرية إلا ويتجولون فيها ولا يمرون بروضة أو حديقة إلا ويقضون سحابة يومهم فيها ولا يمرون بوادٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 أو بجبل إلا ويملئون النظر من تأمله, يفعلون هذا وهم سائرون على المنهج لا يخرجون عنه بعيدا ولا يسلكون منهجا آخر بعيدا عن الهدف. ذلكم في رأيي هو مثل الطرق الخاصة للمفسرين وإن شئت تطبيقه على اتجاهات ومناهج وطرق المفسرين فإليك البيان: قد يكون الهدف "الاتجاه" هو مسائل العقيدة وتقريرها وبسط معالمها والذود عنها وما يتعلق بهذا, ويظهر هذا الهدف على مجموعة من التفاسير فيكون الاتجاه لهذه التفاسير "الاتجاه العقدي". ويسلك كل واحد من هؤلاء المفسرين سبيلا خاصا لتقرير العقيدة, فيسلك أحدهم أصول عقيدة أهل السنة والجماعة فيكون منهجه "منهج أهل السنة والجماعة" ويسلك آخر أصول عقيدة الشيعة فيكون منهجه "منهج الشيعة" ويسلك ثالث أصول عقيدة الأباضية فيكون منهجه "منهج الأباضية" وهكذا. وقد تختلف طرق هؤلاء في التفسير، بل قد تختلف طرق أصحاب المنهج الواحد, فيبدأ أحدهم بالنص أولا ثم بيان المفردات ثم المعنى الإجمالي للآيات ثم يستخرج أحكامها, ويختلف آخر فيذكر النص أولا ويمزج بين المفردات والمعنى الإجمالي ويتوسع في هذا المقام فيبسط الحديث عند كل قضية ويرد على الشبه أثناء ذلك, ويختلف ثالث فيذكر بعد النص بيان المفردات ويخلطها بشيء من المعنى الإجمالي ثم يعقد الأبحاث المطولة بعد ذلك للقضايا التي تناولتها الآيات, وقد يفسر الآيات مرتبة كما هي في المصحف وقد يختار سورا محددة وقد يختار موضوعا خاصا يجمع أطرافه من مختلف السور, وهذا كله هو ما نقصده بطريقة المفسر. ولعلي بهذا قد وضحت ما أردت من الاتجاه والمنهج والطريقة, وإن كنت قد خالفت فيه غيري فلا مشاحة في الاصطلاحات. وقد كتبت ما كتبت, فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان غير ذلك فمني وغفر الله لي. وجزى الله عني خير الجزاء أستاذي الدكتور مصطفى مسلم محمد المشرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 على هذه الرسالة, الذي وجدت فيه خير معين بعد الله, فقد كان -وفقه الله- دقيق الملاحظة حسن التوجيه ولا نزكي على الله أحدا، فجزاه الله عني خير الجزاء وأجزل له المثوبة. وجزى الله عني خير الجزاء كل من ساعد على إظهار هذه الدراسة بمساعدتي عند سفرهم لبعض البلدان بالبحث عن كتب معينة وإحضارها لي أو إعارتي إياها وإرشادي إليها وأخص بالشكر سمو الأمير فهد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الذي كان له فضل لا ينكر في ظهور هذه الدراسة, وفقه الله وسدد خطاه. كما لا يفوتني أن أدعو لوالديّ أن يجزيهما الله عني من الخير أجزله ومن الثواب أعظمه جزاء ما أولياني إياه من حسن رعاية من غير سابق فضل مني ومن غير كلل ولا ملل, فلهما مني الدعاء أن يحفظهما ويمتع بحياتهما ويجعل الجنة ثوابهما وسائر المسلمين. وختام شكري وخالصه من قبل ومن بعد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على خير خلقه محمد وصحبه إلى يوم الدين. فهد بن عبد الرحمن الرومي الرياض يوم السبت 12/ 5/ 1405هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 التمهيد : بسم الله الرحمن الرحيم نشأة التفسير: قد أتى حين من الدهر على البشرية وهي تائهة ضالة على بسيط الأرض تعيش في بحار من الظلام وتسير في غمرة من الأوهام، ثم شاء الله أن يبعث فيهم رسولا منهم, يخرجهم من الظلمات إلى النور. فدبّ فيها دبيب الصحة والعافية في جسد أنهكه المرض، وإن شئت فقل: أشرق فيهم نوره كما تشرق الشمس بعد ليل بهيم، فإذا بالنور يضيء أرجاء الأرض لا يستطيع له عدو منعا ولا يستطيع له دفعا، وإذا به يغشى أبصار الذين كفروا وإذا به يحرق أبصار الذين ألفوا الظلمة واعتادوا الضلال حتى صار جزءا من حياتهم فكانوا له محاربين وكانوا له معاندين ومكذبين، ولم يكن هؤلاء ولا أمثالهم بالذي يزعزع من كيان هذا النور أو يؤثر في سيره في الكون. لم يكن ذلكم النور إلا دين الإسلام, وعماده وأساسه القرآن الكريم الذي تداعى المسلمون لقراءته وحفظه والعمل به فلم يكونوا ليتجاوزوا العشر الآيات حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل. والعمل لا يكون إلا بعد علم وبعد فهم وتدبر لمعاني القرآن الكريم, وهكذا كان القوم -رضي الله عنهم- والفهم والتدبر لا يكون إلا بعد الكشف عن مرامي القرآن الكريم وبيان معانيه وحل ألفاظه وجلاء دلالاته, وهذه المعاني هي ما يجمعها مصطلح التفسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 والقوم كانوا خالصي العروبة والقرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين, فلا عجب أن يدركوا جل ذلك بهذه الخاصة إدراكا لا تعكره عجمة ولا يشوهه قبح ابتداع ولا يكدر صفوه عقيدة زائفة. وكان عليه الصلاة والسلام يشرح لهم ما صعب عليهم فهمه بعد ذلك مما لا يعود فهمه إلى اللغة, ويجلي لهم ما عجزوا عن إدراكه امتثالا لأمر ربه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 1. وكان هذا الفهم المرتكز أساسا على مدلول اللغة وبيان الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو النواة الأولى للتفسير، وبهذا المنهج الصافي النقي كانت طريقة الصحابة -رضي الله عنهم- في فهم القرآن, وإن شئت أن ترى أثره فيهم فانظر إلى أثرهم في مجتمعهم بل وخارج مجتمعهم. كانوا في مجتمعهم مثالا شامخا للمجتمع الإسلامي الذي بعث من أجله محمد -صلى الله عليه وسلم- حين جعلهم خير القرون, وجعلهم القدوة لمن سيأتي بعدهم من المسلمين. وكانوا خارج مجتمعهم جنودا للدعوة إلى الإسلام بالكلمة الصالحة وبالنفس والنفيس حتى ارتفعت راية الإسلام في شرق الأرض وغربها في بضع سنين, وحتى دانت لهم أرجاء المعمورة. كيف لا والقرآن الكريم احتوى جميع ما تحتاج إليه البشرية في أمور دينها ودنياها, ماضيها وحاضرها ومستقبلها, في عقائدها وفي أخلاقها, في عباداتها وفي معاملاتها, في اقتصادها وفي سياستها الداخلية والخارجية, في سلمها وفي حربها. كيف لا وتفسير القرآن الكريم هو الجسر الموصل لهذه المبادئ والمفتاح لهذه الكنوز. لذلك فلا عجب أن يحرص المسلمون في ذلك الوقت على تلقي علوم   1 سورة النحل: من الآية 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 التفسير وأن يحضروا ذلك في مجالس الصحابة -رضوان الله عليهم- للتلقي عنهم مباشرة, أو عن تلاميذهم من بعدهم. واتسعت رقعة البلاد الإسلامية أرضا فدخلت فيه بلدان أخرى, واتسعت رقعته لسانا فدخلت فيه أمم أعجمية شتى بمختلف الألسنة ومختلف المذاهب والعقائد, دخل فيه بعد المشركين الذين يعبدون الأوثان أمم مجوسية وأهل كتاب وملل ونحل أخرى, وكان لهذا أثره في مسار التفسير. فكدرته من بعد العجمة وخالطه قبح الابتداع وتحكمت فيه عقائد فاسدة زائفة جعلها بعض ذوي الملل والنحل أصلا يصرفون إليها التفسير, ويلوونه إليها ليا. فتعددت من ثم مشارب التفسير وتنوعت من بعد مناهجه وطرقة فجد فيه مصادر محدثة وطرق مبتدعة وأهواء منكرة، وبقيت طائفة على المنهج الصافي الذي لا تكدره الأهواء ولا تبلبل أفكاره زائف العقائد, تحكي مثال التزام المنهج الحق في تفسير القرآن. ولم يكن الفاصل بين تينكم المرحلتين وجيزا أو قصيرا, بل كان بينهما مراحل أخرى نحسبها مجتمعة هي مراحل التفسير التي مر بها من عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى عصرنا الحاضر. مراحل التفسير: المرحلة الأولى: عصر الصحابة، رضي الله عنهم: وهو الذي سبقت الإشارة إليه، وقد كانوا أن غمض عليهم معنى أو دق عليهم مرمى رجعوا إليه -عليه الصلاة والسلام- فجلاه لهم وبينه أحسن وأصدق بيان. وقد كان التفاوت بينهم بينا فيما يحتاج إلى اجتهاد شأن التفاوت في عقول سائر البشر فكان بعضهم يرجع إلى من قد يكون أكثر منه فهما لمعنى أو إدراكا لرمز، وقد يكون أعلم فيما أحاط بالآية عند نزولها من أحداث لها التأثير في فهم مدلولها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 ونضرب لذلك مثلا ما رواه البخاري عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنه قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟! فقال عمر: إنه من حيث علمتم, فدعاه ذات يوم فأدخله معهم فما رئيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم قال: ما تقولون في قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ؟ فقال بعضهم: أمرنا نحمد الله ونستغفره, إذا نصرنا وفتح علينا وسكت بعضهم فلم يقل شيئا. فقال لي: أكذاك تقول يابن عباس؟ فقلت: لا. قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم, أعلمه له قال: " {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وذلك علامة أجلك {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} ". فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول1. هذا مثل واحد من أمثلة كثيرة على تفاوتهم -رضي الله عنهم أجمعين- في إدراك معاني القرآن الكريم وإشاراته. ومع هذا فقد كان كثير منهم -رضي الله عنهم- يمتنع -متحرجا- عن تفسير القرآن الكريم خشية من أن لا يوافق الحق قوله, فهذا أبو بكر الصديق -رضي الله عنه وأرضاه- وهو مثال الورع والإيمان يقول: "أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في القرآن برأيي أو بما لا أعلم" وروي عن كثير من الصحابة نحو ذلك في التحرج من القول في التفسير من غير علم ولم يكن هذا التخوف ليمنعهم عن القول فيما لهم به علم. ولم يكن ذلك الجيل الفريد من المسلمين يتناول الإسرائيليات في تفسيره, فقد كان -عليه الصلاة والسلام- حريصا على أن لا يستقوا من غير نبع الإسلام الصافي؛ ولذا فقد غضب -عليه الصلاة والسلام- حين رأى في يد عمر -رضي الله عنه- قطعة من التوراة. وبطبيعة حالهم الذي أوتوه من المعرفة بدقائق اللغة, فقد كانوا لا يحتاجون   1 رواه البخاري باب التفسير ج6 ص221. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 إلى الوقوف عند كل آية يتناولونها بالتفسير حيث يعرفون معناها بالسليقة التي طبعوا عليها؛ ولذا لم يكن تفسيرهم شاملا للقرآن كله كما هو حال من جاء من بعدهم. ومن خصائص هذه المرحلة أيضا أنهم لا يتكلفون في التفسير ولا يتعمقون ذلك التعمق المذموم فاكتفوا من الآيات بمعناها العام ولم يلتزموا تفصيل ما لا فائدة كبيرة في تفصيله، فيكتفون مثلا بمعرفة أن المراد بقوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} 1, أنه تعداد لنعم الله تعالى على عباده2. ومن خصائصه قلة التدوين, فقد كانوا في غالبهم أميين ولم تتوافر لهم وسائل وأدوات الكتابة ثم بعد هذا كله فقد نهاهم -عليه الصلاة والسلام- أن يكتبوا عنه شيئا غير القرآن خشية أن يلتبس عليهم كلامه بالآيات, ثم أذن لهم بالكتابة بعد أن أمن عليهم من اللبس. فكتب عبد الله بن عمرو بن العاص "الصحيفة الصادقة" كما سماها صاحبها حيث قال: "هذه الصادقة فيها ما سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس بيني وبينه فيها أحد"3. المرحلة الثانية: عهد التابعين: انتشر عدد من الصحابة في أرجاء العالم الإسلامي يحملون على كاهلهم عبء الأمانة ويؤدون الرسالة, فكانت لهم مدارس للتفسير في أنحاء البلاد. فأقامها عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- في مكة المكرمة وكان من تلاميذه أئمة في التفسير منهم: سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة مولى ابن عباس وطاوس بن كيسان وعطاء بن أبي رباح.   1 سورة عبس: الآية 31. 2 مجموع الفتاوى لابن تيمية: جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد ج13 ص372. 3 الطبقات الكبرى، ابن سعد ص189 قسم2 ج7؛ وتقييد العلم للخطيب البغدادي، تحقيق يوسف العش ص84، وهي موجودة في مسند الإمام أحمد من ص235 ج9 والجزأين العاشر والحادي عشر بكاملهما وج12 إلى ص51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وأقامها أبي بن كعب -رضي الله عنه- في المدينة وكان من تلاميذه زيد بن أسلم وأبو العالية ومحمد بن كعب القرظي. وأقامها عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- في العراق وكان من تلاميذه علقمة بن قيس ومسروق والأسود بن يزيد وعامر الشعبي والحسن البصري وقتادة بن دعامة السدوسي. ولم يكن هناك من فارق كبير يذكر بين منهج الصحابة ومنهج التابعين لكونهم إنما تلقوا التفسير عن الصحابة, وورثوا عنهم أيضا الورع عن القول في القرآن الكريم بغير علم, فهذا سعيد بن المسيب كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن سكت كأنه لم يسمع, وهذا الشعبي يقول: والله ما من آية إلا وقد سألت عنها ولكنها الرواية عن الله، وهذا -كما قلنا عن الصحابة رضي الله عنهم- محمول على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به, فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا فلا حرج عليه1. وثمة فروق بين المنهجين هي ثمرة اتساع انتشار العلم ودخول أمم شتى ذات أفكار ومنازع متعددة كان لها أثر في التفسير. فاتسعت رواية الإسرائيليات لدخول كثير من أهل الكتاب في الإسلام وكان عندهم علم من الكتاب لاقى نفوسا متفتحة لسماع تفاصيل أخبار القرآن وقصصه فزجت طائفة منهم في التفسير بكثير من تلك الأخبار دون تحرٍّ لصحة أو تحقق لخبر. وكثرت الاختلافات والأقوال في تفسيرهم للآية الواحدة، بل للكلمة الواحدة، ومن جهة أخرى اتسع نطاق التفسير فشمل آيات لم يشملها في الفترة السابقة؛ وذلك لدخول أمم أعجمية وأشخاص لم يعارضوا نزول الآيات وأسبابها, فكانت حاجة هؤلاء وأولئك ماسة لأن يبين لهم ما لم يبين من قبل فاتسع بهذا مجال التفسير عمقا ومساحة.   1 مجموع الفتاوي: ابن تيمية ج13 ص373 -374. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وازداد التدوين للتفسير في هذه الفترة فقد كثر عدد الكتَّاب وتوفرت وسائل الكتابة, لكنه لم يكن مبوبا فكانت الأحاديث فيه غير مرتبة فحديث عن الزكاة يتلوه تفسير آية عن الخمر مثلا ثم يتلوه حديث عن البيع ونحو ذلك، ومما تم تدوينه في هذه المرحلة الصحيفة الصحيحة وهي التي أملاها أبو هريرة -رضي الله عنه- على همام بن منبه, وهي موجودة في مسند الإمام أحمد بكاملها ونقل الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- منها عددا كثيرا. هذه بعض الفوارق بين منهج الصحابة -رضي الله عنهم- ومنهج التابعين. المرحلة الثالثة: عصر التدوين: ونقصد بهذه المرحلة تدوين الحديث النبوي مبوبا، وكون التفسير بابا من أبوابه حيث نشط في عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، رحمه الله تعالى. وكان لهم عناية خاصة بالإسناد, ولم تكن التفسيرات كلها مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل ضم إليها تفاسير الصحابة -رضي الله عنهم- وتفاسير التابعين، رحمهم الله تعالى. ودخل في التفسير في تلك المرحلة الكثير من الإسرائيليات وزادت كثيرا عن المرحلة السابقة. واتسع التفسير بالرأي, فهذا مجاهد بن جبر يفسر قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} 1، بقوله: "مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة, وإنما هو مثل ضربه الله لهم كمثل الحمار يحمل أسفارا". وقد رد عليه تفسيره هذا ابن جرير الطبري -رحمه الله تعالى- وعقب عليه بما أبطله2, وهذا الحسن البصري -رحمه الله تعالى- يفسر القرآن على   1 سورة البقرة: الآية 65. 2 جامع البيان عن تأويل آي القرآن: تفسير الطبري ت. محمود وأحمد شاكر ج2 ص173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 إثبات القدر ردا على من ينكره، وهذا قتادة بن دعامة السدوسي كان يقول بشيء من القدر1. وهذا ولا شك كان نواة لظهور المذاهب الفكرية ونشأة التفسير بالرأي بعد ذلك. المرحلة الرابعة: مرحلة "التصنيف": ونعني بها كتابة التفسير بالمأثور مستقلا عن الحديث, شاملا لآيات القرآن, مرتبا حسب ترتيب المصحف, ومن المؤلفات في تلك المرحلة نسخة كبيرة جمعها أبو العالية, في التفسير عن أبي بن كعب2 -رضي الله عنه- وكتب عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة تفسيرا للقرآن عن الحسن البصري3 -رحمه الله تعالى- وكان عند زيد بن أسلم كتاب في التفسير4. وألف إسماعيل بن عبد الرحمن السدي تفسيرا للقرآن5, بل ومن أشهرها تفسير الطبري، رحمه الله تعالى. ومن خصائص تلك المرحلة: 1- أن ما دون فيها كان التفسير بالمأثور عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعن أصحابه وتابعيهم, وكان مشوبا بالرأي وتأييد بعض المذاهب. 2- أنهم اعتنوا بالإسناد المتصل إلى صاحب التفسير المروي. 3- لم تكن لهم عناية بالنقد وتحري الصحة في رواية الأحاديث في التفسير اكتفاء منهم بذكر السند، بل كان بعضهم يذكر كل ما روي في الآية من صحيح وسقيم ولم يتحر الصحة, بل لم يقصدها كابن جريج مثلا6.   1 الطبقات الكبرى: ابن سعد ج7 ص229. 2 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج1 ص115. 3 وفيات الأعيان: ابن خلكان ج3 ص132. 4 تذكرة الحفاظ: شمس الدين الذهبي ج1 ص133. 5 الإتقان: السيوطي ج2 ص188, تفسير الطبري ج1 ص156-160. 6 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج1 ص155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 4- اتسعت الرواية بالإسرائيليات في تلك الفترة، اتساعا كبيرا ودون كثير منها في التفسير. المرحلة الخامسة: وهي من أهم مراحل التفسير وأخطرها, وكأنما كان كل ما شاب التفسير في المراحل السابقة من كدر إنما هو تمهيد وتوطئة لتلك المرحلة. حيث وجدت فيها طائفة من أعداء الإسلام فرصة لبث أفكارهم وشبهاتهم ودس أكاذيبهم عبرها. وكان من خصائص تلك المرحلة أنهم اختصروا فيها الأسانيد ونقلوا الآثار المروية عن السلف دون أن ينسبوها لقائليها1؛ مما سهل لأعداء هذا الدين وممن يريد الكيد له أن يبث سمومه بهذه الطريقة فتلتبس على كثير من المسلمين. ومن خصائصها أن ازداد القول في التفسير بالرأي واتسع مجاله المذموم منه والمحمود، وتجرءوا على القول في القرآن من غير علم وحرص بعضهم على الإكثار من إيراد الأقوال في تفسير الآية الواحدة، فصار كل من يسنح له قول يورده ومن يخطر بباله شيء يعتمده, فيأتي من بعده فيظنه صحيحا أو أن له أصلا. أما عن الإسرائيليات وغزوها للتفسير في هذه المرحلة فحدث ولا حرج, فهو عصرها الذهبي واشتغلوا بها عن البحث الجاد الأسمى في أمور الدين. المرحلة السادسة: وهي نتيجة حتمية للمرحلة السابقة, حيث انفتح الباب على مصراعيه فدخل منه الغث والسمين, الصحيح والعليل, ولم يزل الباب مفتوحا إلى عصرنا هذا. فدخل في التفسير من هو ليس من أهله وتحول مسار التفسير إلى أن يعتني أرباب العلوم بما يوافق مذاهبهم وعلومهم, فكان كل من برع في علم من العلوم   1 الإتقان في علوم القرآن: السيوطي ج2 ص190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 غلب ذلك على تفسيره. فالفقيه يكاد يسرد فيه الفقه ولا شيء سواه وربما استطرد إلى إقامة أدلة الفروع والرد على المخالفين, كالقرطبي والجصاص والإخباري ليس له هم إلا سرد القصص واستيفاءها كالثعلبي والنحوي ليس له هم إلا الإعراب وتكثير الأوجه المحتملة فيه, كالزجاج والواحدي وأبي حيان وصاحب العلوم العقلية ملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة وشبههم والرد عليها كالفخر الرازي حتى قال فيه بعضهم: "فيه كل شيء إلا التفسير"1. ونشأ كثير من الفرق والمذاهب المنحرفة, وكلها يستدل بآيات من القرآن يدعم بها أصول مذهبه وإن لم توافقها انحرف بمعانيها انحرافا يلحد بها إليها. وظهر التعصب المذهبي بأسوأ أحواله فتشعبت الآراء والمذاهب الفلسفية وتعددت مسائل الكلام. ذلكم موجز المراحل التي مر بها التفسير في العصور السالفة مراحل بعضها لا يحتوي إلا على منهج واحد في التفسير وتعددت المناهج بتقدم المراحل فجاءت المرحلة الأخيرة شاملة لمناهج في التفسير عديدة. مناهج التفسير عند السابقين: يحدثنا التاريخ الإسلامي عن نكبات كبرى مر بها العالم الإسلامي من أعدائه المتربصين به, الذين أفرغوا جام غضبهم على تراث المسلمين كيف لا وهو نتاج فكرهم فأحرقوا ما أحرقوا وسرقوا ما سرقوا وألقوا في النهر ما ألقوا؛ ولذا فإنه ليس من السهل أن نجزم جزما بحصر اتجاهات التفسير عند السابقين, وإنما هو التحري المستطاع أو بعضه. وقد تعددت مناهج التفسير وتنوعت, فإن أردنا أن نعرض لذكرها هنا فإنما هو ذكر الإشارة وإلا تداخلت الأبحاث وتشعبت, والحق أن كل عصر من   1 الإتقان في علوم القرآن: السيوطي ج2 ص190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 العصور السالفة بحاجة لدراسة اتجاهات التفسير فيه, حتى تظهر لنا جلية سلسلة التفسير بمناهجه واتجاهاته وحتى يكتمل العقد. وبهذا الطريق -طريق الإشارة- نعرض سريعا لتعداد مناهج واتجاهات التفسير عند السابقين, وأمثلة للمؤلفات في كل منهج. الاتجاهات العقائدية: وهو من الاتجاهات التي تأثرت بمرور السنين, حيث اندثرت بعض المذاهب التي كان لها صولة وكان لها جولة فلم نعد نجد لها في العصر الحديث من أثر يذكر. وضعفت مذاهب أخرى واندثرت أكثر فرقها كفرقة الخوارج مثلا حتى لم يبق إلا فرقة واحدة هي فرقة الأباضية, وهي في صراع مع خصومها الذين يلصقونها بالخوارج, وهي تنكرهم وترفضهم. ولم يعد للفرق الباطنية من نشاط في التفسير كسابق عهدهم، بل اكتفى أتباعهم وغيرهم بنشر كتبهم القديمة. ولم تعد فرقة الزيدية ولا الصوفية تولي التفسير عناية كتلك العناية لسلفهم فلم يؤلفوا تلك المؤلفات العديدة والتفاسير المطولة. وفي جانب آخر نشأت المدرسة العقلية الحديثة متأثرة بعض التأثر بمدرسة الاعتزال، والمدرسة العقلية القديمة. وجدَّ في هذا الاتجاه مناهج إلحادية ليست هي بالباطنية الذين يقولون بتفسير القرآن بالباطن أو الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، وليست بالتي تسلك التفسير الصحيح، بل تعلن التفسير الملحد وتعلن اعتقادها له, وتعلن أنه التفسير الصحيح للقرآن. المؤلفات في منهج أهل السنة: ونحمد الله أن تفاسير أهل السنة في الفترة السابقة كثيرة تحفظ للمسلمين النبع الصافي للعقيدة الإسلامية الصحيحة, وقد أجمل ابن تيمية -رحمه الله تعالى- الحديث عن تفاسير أهل السنة بقوله: "وأما "التفاسير" التي في أيدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الناس فأصحها "تفسير محمد بن جرير الطبري" فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة وليس فيه بدعة ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل بن بكير، والكلبي، والتفاسير غير المأثورة بالأسانيد كثيرة، كتفسير عبد الرزاق، وعبد بن حميد, ووكيع, وابن أبي قتيبة، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه"1. قلت: ومنها تفسيره هو -رحمه الله تعالى- الذي طبع عدة مرات مستقلا مرة وضمن مجموع التفاوى مرات أخرى. ومنها تفسير ابن كثير -رحمه الله تعالى- الذي طبع أيضا عدة طبعات واختصره بعض العلماء. هذه بعض التفاسير لأهل السنة والجماعة. المؤلفات في منهج المعتزلة: وقد ألف كثير من مفسريهم تفاسير للقرآن الكريم على أصول مذهبهم يعلنونها صريحة مرة ويخفونها حينا حتى لا تكاد تستخرج إلا بالمناقيش. ومن أشهر مؤلفاتهم تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم2، المتوفى سنة 240، وتفسير أبي علي الجبائي3 "ت 303"، ومنها التفسير الكبير للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني4، وتفسير علي بن عيسى الرماني5, ولأبي القاسم عبد الله بن أحمد البلخي المعروف بالكعبي المعتزلي تفسير في اثني عشر مجلدا6، ولأبي مسلم محمد بن بحر الأصفهاني "ت 322" تفسير "جامع التأويل لمحكم   1 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج13 ص385. 2 المرجع السابق ج13 ص357, وطبقات المفسرين: شمس الدين محمد الداودي ج1 ص269. 3 المرجع السابق من الفتاوى, وطبقات المفسرين ج2 ص189. 4 المرجع السابق من الفتاوى, وطبقات المفسرين ج1 ص257. 5 المرجع السابق من الفتاوى, وطبقات المفسرين ج1 ص420. 6 كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون ج1 ص234, وطبقات المفسرين ج1 ص223. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 التنزيل"، ويقع في أربعة عشر مجلدا1, وعبد السلام بن محمد القزويني له تفسير في ثلاثمائة مجلد منها سبعة مجلدات في الفاتحة, كذا قال السيوطي2. ومن أهم مؤلفاتهم المطبوعة والموجودة في العصر الحاضر تنزيه القرآن عن المطاعن للقاضي عبد الجبار, وهو في مجلد واحد فسر فيه الآيات المتشابهة. ومنها وهو أهمها: تفسير الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل, تأليف محمود بن عمر الزمخشري, ويقع تفسيره في أربعة مجلدات كبار وقد نال هذا التفسير اهتمام كثير من العلماء, فكتبوا التعليقات والحواشي وأخرجوا اعتزالياته وخرجوا أحاديثه. ومنها غرر الفوائد ودرر القلائد المعروف بـ "أمالي المرتضى" ومؤلفه علي بن الطاهر الملقب بـ "الشريف المرتضى" وهو كتفسير القاضي عبد الجبار لا يشمل تفسير القرآن كله، بل آيات تدور حول العقائد. المؤلفات في منهج الشيعة: وهم كما هو معلوم فرق شتى غالى بعضهم حتى خرج عن ربقة الإسلام كالإسماعيلية وغيرها من الباطنية واعتدل بعضهم حتى كاد أن يكون من أهل السنة والجماعة كالزيدية. وعلى ضوء هذا الميزان فإنا نشير لأهم مؤلفاتهم في هذه المواقع الثلاثة الباطنية، والزيدية, والمتوسطين بين هؤلاء وهؤلاء أعني الإمامية الاثني عشرية. مؤلفات الباطنية: نحمد الله أن هذه الطائفة لم تجمع تفسيرا كاملا للقرآن الكريم. وقد علل الشيخ محمد حسين الذهبي -رحمه الله تعالى- ذلك بقوله:   1 الفهرست: ابن النديم ص51، وطبقات المفسرين: الداودي ج2 ص106, والتفسير والمفسرون: الذهبي ج 3 ص388. 2 طبقات المفسرين: السيوطي ص67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 "إنهم لم يستطيعوا أن يتمشوا بعقائدهم مع القرآن آية آية, ولو أنهم حاولوا ذلك لاصطدموا بعقبات وصعاب لا يستطيعون تذليلها ولا يقدرون على التخلص منها"1. وقد بحثت كثيرا فلم أجد تفسيرا مستقلا كما ذكر الذهبي -رحمه الله- ووجدت ابن النديم في كتابه الفهرست يعد من الإسماعيلية الحسين بن منصور الحلاج، الزنديق المتصوف والذي يتبرأ بعض الصوفية من نسبته إليهم2, وقد عد ابن النديم والداودي في طبقات المفسرين من كتبه كتاب "تفسير {قُلْ هُوَ اللَّهُ} "3. أما ما عدا ذلك, فمدسوس في ثنايا كتبهم. مؤلفات الإمامية الاثني عشرية: وهذه الطائفة تعد أكثر فرق الشيعة تأليفا في التفسير, ويشهد لذلك تلك المؤلفات الكثيرة عددا وحجما على أصول مذهبهم الشيعي, ومن هذه المؤلفات: تفسير الحسن العسكري "ت 254" طبع في مجلد واحد وتفسير العياشي من علماء القرن الثالث الهجري وتفسير إبراهيم بن محمد بن هلال "ت 383"، وتفسير علي بن إبراهيم القمي من القرن الثالث وأوائل الرابع وطبع في مجلد واحد كبير وتفسير أبي عبد الله محمد بن عمر الواقدي المسمى: الرغيب في علوم القرآن وتفسير أبي الفتوح الرازي الحسين توفي في القرن السادس وتفسير الصافي لمحمد بن مرتضى الشهير بملا محسن الكاشي وتفسير الأصفى للمؤلف السابق اختصره من الصافي وطبع في مجلد واحد والبرهان لهاشم البحراني "ت 1107" وطبع في مجلدين كبيرين ومرآة الأنوار ومشكاة الأسرار للمولى عبد اللطيف الكازراني وتفسير "المؤلف" لمحمد مرتضى الحسيني من علماء القرن الثاني عشر   1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص229. 2 طبقات المفسرين: الداودي ج1 ص159. 3 المرجع السابق ج1 ص160, والفهرست لابن النديم ص272. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وهو مخطوط في مجلد واحد صغير بدار الكتب المصرية. وتفسير المولى السيد عبد الله بن محمد رضا العلوي "ت 1242" ويقع في مجلد كبير وتفسير التبيان لأبي جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي "ت 460"، وتفسير مجمع البيان في تفسير القرآن لأبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي من علماء القرن السادس, وهو تفسير كبير يقع في عدة مجلدات وتفسير نور الثقلين لمؤلفه عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي من علماء القرن الحادي عشر, ويقع في خمسة مجلدات كبار1. هذه أهم مؤلفات الاثني عشرية في التفسير. مؤلفات الزيدية: وهم أيضا من المقلين في التأليف في التفسير, وأشهر مؤلفاتهم فيه التفسير المشهور فتح القدير للعلامة محمد بن علي الشوكاني وهو في خمسة مجلدات كبار وجمع فيه -رحمه الله تعالى- بين الرواية والدراية, وهناك تفسير آخر هو شرح لآيات الأحكام واسمه: "الثمرات اليانعة والأحكام الواضحة القاطعة" لمؤلفه شمس الدين يوسف بن أحمد بن محمد الثلاثي, في ثلاثة أجزاء كبار. وقد نقب الشيخ محمد حسين الذهبي -رحمه الله تعالى- عن مؤلفاتهم فلم يعثر على غير ما ذكرنا, لكنه وجد ذكرا لمؤلفات أخرى لهم في التفسير لكنها غير موجودة الآن, وذكر منها: كتاب التفسير الكبير، وكتاب نوادر التفسير وكلاهما لمقاتل بن سليمان, والتفسير الكبير والتفسير الصغير وهما للمرادي, وتفسير غريب القرآن للإمام زيد بن علي جمعة بن يزيد وتفسير البستي وتفسير التهذيب لابن كرامة المعتزلي ثم الزيدي وتفسير عطية النجراني "ت 665" والتيسير في التفسير للحسن النحوي "ت 791" وتفسير ابن الأقضم وشرح الخمسمائة آية "تفسير آيات الأحكام" لحسين بن أحمد النجري من علماء القرن الثامن ومنتهى المرام شرح   1 انظر: التفسير والمفسرون, الذهبي ج2 ص42-43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 آيات الأحكام لمحمد بن الحسين بن القاسم من القرن الحادي عشر وتفسير القاضي عبد الرحمن بن مجاهد من علماء القرن الثالث عشر1. المؤلفات على منهج الخوارج: والخوارج -أيضا- من المقلين في التفسير في القديم والحديث, ولعل ما ذكره ابن النديم في الفهرست عن كتبهم بأنها "مستورة محفوظة"2 يكشف قلة مؤلفاتهم وقلة انتشارها ولا أدري إن كان من أثره ما عانيته في الحصول على بعض مؤلفاتهم ومطبوعاتهم في العصر الحديث. وقد سأل الشيخ محمد حسين الذهبي -رحمه الله تعالى- أحد علمائهم المعاصرين وهو الشيخ إبراهيم أطفيش عن أهم مؤلفاتهم في التفسير فذكر له ستة مؤلفات, ثلاثة منها قديمة وهي: 1- تفسير عبد الرحمن بن رستم الفارسي من أهل القرن الثالث الهجري. 2- تفسير هود بن محكم الهواري من أهل القرن الثالث الهجري, مخطوط في أربعة مجلدات. 3- تفسير أبي يعقوب يوسف بن إبراهيم الورجلاني, من أهل القرن السادس الهجري3. وقد بحثت كثيرا عن ذكر لهذه المؤلفات في كتب التفسير وطبقات المفسرين فلم أعثر لها على أثر إلا أني وجدت الزركلي ذكر أن لعبد الرحمن بن رستم تفسيرا ولم يذكر ليوسف بن إبراهيم الورجلاني شيئا في التفسير وكذا عمر كحالة في معجمه للمؤلفين، أما هود بن محكم فلم يترجما له إلا أن الأستاذ فؤاد سزكين ذكر له ترجمة وأشار إلى أن له تفسيرا للقرآن ووصل إلينا وتوجد منه نسخة مخطوطة في الجزائر4.   1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص281-284. 2 الفهرست: ابن النديم ص258. 3 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص315. 4 تاريخ التراث العربي: فؤاد سزكين، المجلد الأول ج1 ص96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وعلى هذا فلا يوجد شيء من مؤلفات الخوارج في التفسير إلا تفسير هود بن محكم الذي يقع في أربعة مجلدات وهو متداول بين الأباضية في بلاد المغرب, ويوجد عند الأستاذ إبراهيم أطفيش المذكور آنفا جزآن مخطوطان, هما الأول والرابع منه1. المؤلفات على منهج الصوفية: ومن المؤلفات الصوفية في التفسير, تفسير بشير لنجم داية2 ومنها تفسير القرآن العظيم لسهل بن عبد الله التستري وهو مطبوع في مجلد صغير ومنها "حقائق التفسير" لأبي عبد الرحمن السلمي وهو في مجلد واحد كبير مخطوط، ومنها عرائس البيان في حقائق القرآن لأبي محمد الشيرازي وهو مطبوع في جزأين, ومنها التأويلات النجمية لنجم الدين داية وأتمه علاء الدولة السمناني وهو مخطوط في خمسة مجلدات كبار. وأهم هذه المؤلفات وأخطرها التفسير المسمى "تفسير القرآن الكريم" والمنسوب لأبي بكر محيي الدين محمد بن علي المعروف بابن عربي وإنما قلت: المنسوب؛ لأن هناك من يشكك في نسبته لابن عربي, وليس المقام هنا مقام تحقيق ذلك. هذه أهم المؤلفات في التفسير لأهم الفرق والمذاهب قديما, وكلها تحت الاتجاه العقدي في التفسير. الاتجاه العلمي في التفسير: وهو اتجاه يتسع فيشمل -فيما نرى- مناهج ثلاثة: 1- منهج التفسير بالمأثور. 2- منهج التفسير الفقهي. 3- منهج التفسير العلمي التجريبي.   1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص316. 2 مفتاح السعادة ومصباح السيادة: طاش كبرى زاده ج2 ص123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وسنذكر هنا بعض المؤلفات لكل من: منهج التفسير بالمأثور: ولا شك أن أهم المؤلفات في هذا اللون في التفسير هو جامع البيان عن تأويل آي القرآن والمعروف بتفسير الطبري وقد طبع عدة مرات آخرها بتحقيق وتعليق الشيخ محمود محمد شاكر وخرَّج أحاديثه الشيخ أحمد محمد شاكر -رحمه الله تعالى- وصدر منه ستة عشر مجلدا حتى الآن وتوقف عند الآية 28 من سورة إبراهيم, أما الطبعة التي لم تحقق فكاملة. ومن المؤلفات في ذلك: الدر المنثور في التفسير بالمأثور لجلال الدين السيوطي, وهو مطبوع في ستة مجلدات كبيرة. ومنها تفسير القرآن العظيم لابن كثير الدمشقي في أربعة مجلدات, وطبع عدة مرات وحظي هذا التفسير باهتمام العلماء به فخرجوا أحاديثه وعلقوا عليه، واختصروه. منهج التفسير الفقهي: وهي مؤلفات كثيرة جدا. ففي الفقه الحنفي ألف أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص تفسيره: أحكام القرآن, وطبع عدة مرات في ثلاثة مجلدات. وفي الفقه المالكي ألف أبو بكر بن العربي كتابه: أحكام القرآن, المطبوع في أربعة مجلدات، وألف أبو عبد الله القرطبي تفسيره: الجامع لأحكام القرآن المطبوع في عشرة مجلدات كبار. وفي الفقه الشافعي ألف أبو الحسن الطبري المعروف بـ "إلكيا الهراسي" كتابه: أحكام القرآن, وألف السيوطي كتابه: الإكليل في استنباط التنزيل, وطبع في مجلد كبير. وفي الفقه الحنبلي تفسير الخرقي لأبي القاسم عمر بن أبي على الحسين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 الخرقي1, وأحكام القرآن لأبي يعلى محمد بن الحسين بن الفراء2. وفي الفقه الزيدي ألف مقاتل بن سليمان كتاب "تفسير الخمسمائة آية"3 وكذا ألف حسين بن أحمد النجري "شرح الخمسمائة آية" وألف محمد بن الحسين بن القاسم من علماء القرن الحادي عشر كتاب "منتهى المرام شرح آيات الأحكام"4. وفي الفقه الجعفري ألف مقدار السيوري "كنز العرفان في فقه القرآن"4. منهج التفسير العلمي التجريبي: وأشهر المؤلفات فيه التي أصبحت عَلَما في هذا تفسير "مفاتيح الغيب في تفسير القرآن" أو التفسير الكبير لأبي عبد الله محمد بن عمر المعروف بالفخر الرازي وقد أطنب فيه مؤلفه في أبحاث عديدة واستطرد إلى العلوم الرياضية والطبيعية والعلوم الفلكية وغير ذلك, حتى قيل عنه في كل شيء إلا التفسير. وبعد, فتلكم هي أبرز الاتجاهات والمناهج في تفسير القرآن الكريم عند العلماء السابقين لم نقصد استيفاء لها ولا استقصاء وإنما رسم هيكل عام من زواياه ننظر إلى اتجاهات التفسير في العصر الحديث ومناهجه, فنعرف ما جد منها وما اندثر وما بقي على المناهج السابقة. وقد جدت في العالم الإسلامي بعد ذلك أحداث, ووقعت الوقائع فأصبح المسلمون بعد أن كانوا يجوبون الآفاق بجيوشهم لنشر الإسلام يغزون في عقر دارهم, وبعد أن كانت الأرض الإسلامية في حالة تمدد أضحت في حالة تقلص وانكماش.   1 مفتاح السعادة: طاش كبرى زاده ج2 ص106. 2 معجم المفسرين: عادل نويهض ج2 ص520-521. 3 الفهرست: ابن النديم ص254. 4 التفسير والمفسرون: محمد الذهبي ج3 ص103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 بدأت الحروب الصليبية الواحدة بعد الأخرى وكان العالم الإسلامي في حالة ضعف وتفكك, فكان لهذه الحروب أثرها حيث نقلت الحضارة الإسلامية إلى بلاد الإفرنج متمثلة بالكتب والمؤلفات في شتى العلوم والمعارف, وحتى تدرك أبعاد هذا الأثر يكفي أن تعلم أن نقل هذه العلوم بث الحياة العلمية وأوقد نارها, فكثر طلابها وكثرت النظريات والاكتشافات العلمية ووقع الصدام بين العلم والكنيسة, ولم يزل إلى أن قامت الثورة على الكنيسة بعد ذلك. أما أثر هذه الحروب داخل العالم الإسلامي, فقد أشغلته عن العلم وطلبه؛ لأن الحرب في أرضه وفي دياره خلاف الإفرنج الذين كانت ديارهم بعيدة عن أتون الحرب وسعارها. أضف إلى ذلك إن شئت الحروب التي عاناها العالم الإسلامي بعد ذلك من هجمات المغول وسقوط الدولة العباسية والمذابح التي ارتكبت والمجازر التي انتشرت, زد على هذا القضاء على الفكر بإحراق الكتب وإغراقها في نهر دجلة, حتى صارت جسرا يعبر عليه المعتدون. هذه ولا شك أمور لها أثرها في إنهاك الشعوب الإسلامية والشعوب كالأفراد يصيبها ما يصيبهم, والفرد إذا أنهكت قواه ركن إلى الاستسلام وطلب الراحة, وقد يستغرق في نوم عميق. وقد كانت هذه حال العالم الإسلامي. وكما يدخل اللصوص الدار إذا نام صاحبها, دخل المستعمرون العالم الإسلامي وهو يغط في نومته هذه، فسلبوا خيرات البلاد الإسلامية وسخروا أهلها وهم نيام لتحقيق مآربهم وأهدافهم, وبثوا أفكارهم وسمومهم حتى ألفت طائفة النوم وأزعجها الضجيج فوضعت في آذانها العجين وباتت في نوم كالموت، بل هو أشد. وأبت طائفة النوم ولم يقر لها قرار ولم يطب لها مضجع ولم يغمض النوم لها جفنا, فأخذت على عاتقها عبء هذه الرسالة والقيام بهذه الأمانة, فلم يزالوا في كفاح وجهاد, ولم يزالوا يصرخون في النائمين حتى استيقظ الجميع أو أكثرهم. وكانت النهضة الإسلامية الحديثة متمثلة في مظاهر شتى في مختلف أرجاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 بلاد المسلمين فبدأت شعائر الإسلام -والحمد لله- ترفع وانتشر الدعاة في أرجاء الأرض وفتحت المدارس والجامعات وانتشر التعليم وعدلت المناهج والمقررات المدرسية, وانجلى الحق وسيزهق الباطل بإذن الله عما قريب. وصاحب هذا كله عودة إلى مصادر الإسلام, يدرسونها ويتذاكرونها فصدرت المؤلفات العديدة الكثيرة في مختلف جوانب الثقافة الإسلامية, وكان نصيب الدراسات القرآنية منها عامة والتفسير خاصة كبيرا. وكغيره من العلوم لم يكن التفسير صورة مطابقة كل التطابق لسابق عهده في مناهجه وطرقه في مؤلفيه واتجاهاتهم, وإنما كان هناك وجوه تشابه ووجوه اختلاف. وليس من المناسب أن أعرض لهذين النوعين قبل أن نعرف مناهج التفسير واتجاهاته في القرن الرابع عشر, وهما ولا شك صلب الدراسة وأسّها, فلنرجئ هذا الحديث إلى الخاتمة إن شاء الله. وإنما المناسب أن نجمل إجمالا مناهج التفسير واتجاهاته في القرن الرابع عشر: وهي متعددة, منها الجديد ومنها القديم كما أشرت آنفا, وقد جمعت منها حسب قدرتي المحدودة. 1- الاتجاه العقدي في التفسير: وتحته مناهج: 1- منهج أهل السنة والجماعة. 2- منهج الشيعة, ويشمل: أ- المذهب الإمامي الاثنا عشري. ب- المذهب الزيدي. ج- مذهب الإمامية السبعية أو "الإسماعيلية". 3- منهج الأباضية. 4- منهج الصوفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 2- الاتجاه العلمي في التفسير: وتحته أيضا مناهج: 1- منهج التفسير بالمأثور. 2- منهج التفسير الفقهي "تفسير آيات الأحكام". 3- منهج التفسير العلمي التجريبي. ولعلي ألمح سؤالا يوحي باعتراض على هذا التقسيم أحب أن أجيب عليه ما دام رطبا، يقول السؤال فيما أحسبه: لم فصلت الاتجاه العقدي عن الاتجاه العلمي ولم تجعل الأول منهجا من مناهج الاتجاه الثاني؟ أقول لهذا المعترض: لقد رأيت في الاتجاه الأول "العقدي" ما يوجب فصله عن الاتجاه الثاني واستقلاله باتجاه خاص, ذلكم أن العقيدة أصل تنبثق منها العلوم الأخرى وليست فرعا صغيرا منه. وبعبارة أوضح: إن التفسير السني وهو منهج من مناهج الاتجاه العقدي قد تكون وسيلته التفسير بالمأثور وقد يصطبغ بالمنهج العلمي التجريبي وقد يكون فقهيا وهو باقٍ متربع في منهج أهل السنة والجماعة, لكنه لا يكون بحال من الأحوال متأثرا بالمذهب الشيعي أو الأباضي, فبينهما فاصل كبير. وكذا المذهب الشيعي وهو فرع من فروع الاتجاه الأول "العقدي" قد يكون بالمأثور عن أئمتهم, وقد يكون فقهيا وقد يكون مصطبغا بالصبغة العلمية التجريبية, لكنه لا يكون سنيا ولهذا فإني رأيت فصل الاتجاه العقدي بمناهجه عن الاتجاه العلمي بمناهجه. 3- الاتجاه العقلي الاجتماعي: وإنما أفردته كذلك؛ لأن أصحابه لم يتأثروا كل التأثر بالمدرسة العقلية القديمة "المعتزلة" وإلا لاعتبرتها امتدادا لمدرسة الاعتزال وأدخلتها ضمن الاتجاه الأول "العقدي" لكن الفاصل بينهم يبدو كبيراحيث لم يلتزموا أصولهم الخمسة التي لا يصح الاعتزال بدونها كما يعترف بذلك أئمة المعتزلة، وإنما كان نصيبهم التأثر بتحكيم العقل تأثرا بينا، بقي أن أقول: إني لم أدخلهم أيضا في الاتجاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الأول "العقدي" كفرقة مستقلة؛ لأنهم لم يأتوا بما يجعلهم ذوي عقيدة مستقلة تنفصل انفصالا كاملا عن أهل السنة والجماعة, وإن أتوا بما يميز فكرهم بعض التمييز ويجعل لهم اتجاها خاصا في سبيل الوصول إلى المعرفة. أضف إلى هذا تلك الصبغة الاجتماعية التي يحلون بها تفسيرهم من العناية بالقضايا الاجتماعية وتطبيق الآيات القرآنية مباشرة على تلك القضايا والمجتمع الذي يعيشون فيه, مما كان له الأثر في إحداث الوعي بين مختلف الطبقات, فكان حقا أن يستقلوا باتجاه خاص من سماته العقلانية والاجتماعية، بغض النظر عن إصابة الحق أو الحيدة عنه. 4- الاتجاه الأدبي: وتحته: 1- المنهج البياني. 2- منهج التذوق الأدبي للقرآن الكريم. وهذا الاتجاه كالاتجاه الذي قبله جديد, من سمات هذا القرن الرابع عشر, وسنعرض إن شاء الله لبيان ذلك في موضعه. 5- الاتجاه المنحرف: وتحته مناهج: 1- المنهج الإلحادي. 2- منهج المقصرين. 3- اللون اللامنهجي. وهذا الاتجاه فيه أوجه اتفاق وأوجه تجديد -وإن كان تجديدا إلى الأسوأ- مع المناهج القديمة. ذلكم أن الإلحاد موجود في القديم من التفاسير, لكنه كان يسير على مبادئ واحدة تجمعها عقيدة واحدة وإن كانت ضالة، أما الإلحاد في العصر الحديث فهو أضل؛ ذلكم أنه لا يلتزم أصلا حتى وإن كان باطلا يقوم عليه وإنما نزعات نفسية متأثرة بمطالب أو أهواء ورغبات خاصة تعرض لبعض المفسرين, فتظهر آثارها جلية في تفاسيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وإنما قسمت الإلحاد إلى هذه الأقسام أو المناهج الثلاثة لأمور سيأتي الحديث عنها في موضعها, إن شاء الله. وعلى هذا, فالمنهج الأول الإلحادي موجود في القديم والحديث مع الاختلاف في القاعدة التي يقوم عليها. أما المنهج الثاني واللون الثالث فأحسبها مناهج جديدة من السمات السيئة لهذا العصر. تلكم -فيما أرى- اتجاهات التفسير ومناهجه في القرن الرابع عشر, وهذا أوان الحديث عنها مفصلة، والله المستعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 الباب الأول: الاتجاه العقائدي في التفسير تمهيد : نشأة الفرق الإسلامية: جاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- والناس في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء, فنشر عليه الصلاة والسلام العقيدة الصحيحة ونفى زغل الجاهلية, وتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والعقيدة السليمة الطاهرة النقية هي السائدة بين المسلمين. إلى أن دخل في الإسلام من ليس الحق هدفهم ولا الوصول إليه مرادهم, فعملوا على تزييف الحقائق ونشر العقائد الضالة والمنحرفة, ونشأت المذاهب الإسلامية المتعددة, وافترقت أمة محمد إلى فرق عديدة كلها في النار إلا من هم على ما عليه نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم- ودافع علماء كل فرقة عن مذهبهم وعقائدهم بكل وسيلة. وحمل التعصب المذهبي بعض أرباب هذه المذاهب والفرق إلى تأييدها بتفسير الآيات القرآنية الكريمة بما يتناسب مع أصول مذاهبهم وقواعدهم ولو بطريق إخضاع النصوص القرآنية لذلك, وصرفها عن معارضته وإنكار جميع التفاسير الأخرى إذا لم توافق آراءهم. وتعددت مذاهب التفسير بتعدد المذاهب في العقيدة وكان لها صولة وكان لها جولة ثم خبا سعيرها وأصبح لا يرى في رمادها إلا وميض نار ونام العالم الإسلامي نومته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 إلى أن جاء بعض المجددين ونبهوا المسلمين إلى دينهم وأيقظوهم من نومهم, وأفاق المسلمون وعاد الكثير منهم إلى الإسلام عودا حميدا, واشتعل وميض النار من خلال الرماد؛ فنشطت أيضا بعض الفرق الإسلامية وأصبح كل منهم يدعو إلى مذهبه وإلى فرقته. وإذا ما نظرنا إلى الفرق القائمة الآن وأردنا أن ندرس تفاسير المعاصرين منهم في القرن الرابع عشر, فإنا نجد أن الفرق القائمة الآن هي: 1- أهل السنة والجماعة. 2- الشيعة. 3- الأباضية. 4- الصوفية. ولو كان بحثنا هذا بحث عقيدة, لكان لزاما علينا أن ندرس بتفصيل نشأة هذه الفرق، أما وقد كان مرادنا عرض مناهج هذه الفرق في التفسير فقد اكتفينا بالإشارة السريعة لنشأة كل فرقة, والاتجاه بعد ذلك لبيان منهجهم في التفسير. وإنما قدمنا منهج أهل السنة والجماعة على المناهج الأخرى؛ ليكون ميزانا بيد القارئ يزن به ما يرد من عقائد للفرق الأخرى، وليكون أيضا مرجعا يرجع إليه إذا ما التبس عليه رأي أو أراد الحقيقة في حكم أو قضية. ومن ثم فلا تثريب علي إذا ما أوجزت في شرح مذهب أهل السنة في أمر متفق عليه، أو إذا ما أطنبت في أمر خالفتهم فيه فرقة من الفرق. ولا تثريب علي أيضا إذا لم أرد على كثير من الآراء لبعض الفرق خشية تكرار ما سبق. ولنبدأ بعد هذا بمرادنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وإنما سموا بأهل السنة لالتزامهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي"1، الحديث ونحوه. ويسمون أيضا بأهل الكتاب والسنة؛ لأنهم "يعلمون أن أصدق الكلام كلام الله, وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, ويؤثرون كلام الله على كلام غيره من كلام أصناف الناس, ويقدمون هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- على هدي كل أحد, وبهذا سموا أهل الكتاب والسنة"2. ويسمون أيضا بالجماعة, فيقال: أهل السنة والجماعة, وعلل ابن تيمية -رحمه الله تعالى- هذه التسمية بقوله: "وسموا أهل الجماعة؛ لأن الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسما لنفس القوم المجتمعين و"الإجماع" هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين"3. وزاد هذا الأمر توضيحا في مكان آخر فقال: "فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة"4.   1 رواه الإمام أحمد في مسنده ج4 ص126-127؛ والترمذي ج5 ص44؛ وسنن أبي داود ج4 ص201؛ وابن ماجه ج1 ص19-20؛ والدارمي ج1 ص44-45. 2 مجموع فتاوى ابن تيمية ج3 ص157. 3 المرجع السابق ج3 ص157. 4 المرجع السابق ج3 ص346. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 الفصل الأول: منهج أهل السنة والجماعة في تفسير القرآن الكريم : التعريف بهم : أما السنة فهي الطريقة, وتطلق شرعا على عدة معانٍ؛ فعند المحدثين هي ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من أقواله وأفعاله وتقريره وما همَّ بفعله1, وأما في عرف أهل الفقه والأصول فإنهم يطلقونها على المندوب, وهو ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه. وليس هذا ولا ذاك هو المقصود في مباحث العقائد؛ إذ هي عندهم عبارة عما سلم من الشبهات في الاعتقادات, خاصة في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وكذلك مسائل القدر وفضائل الصحابة وصنفوا في هذا العلم تصانيف وسموها كتب السنة, وإنما خصوا هذا العلم باسم السنة؛ لأن خطره عظيم والمخالف فيه على شفا هلكة2. ولا ريب في أن أهل النقل والأثر المتبعين آثار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وآثار أصحابه هم أهل السنة -كما يقول ابن الجوزي وغيره- لأنهم على تلك الطريق التي لم يحدث فيها حادث, وإنما وقعت الحوادث والبدع بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه3.   1 فتح الباري: ابن حجر العسقلاني ج13 ص245. 2 كشف الكربة: ابن رجب ص11-12. 3 نقد العلم والعلماء, أو تلبيس إبليس: لابن الجوزي ص16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 نشأتهم : لم يكن في عهده -عليه الصلاة والسلام- فرقة بين المسلمين أي فرقة, وإنما ظهر الافتراق بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- فكلما افترقت فرقة ظهر لها اسم خاص بها وبقي السالمون من الافتراق والخروج هم أهل السنة والجماعة؛ لأنهم الأصل فبقوا على أصلهم هذا, ولذا لما سئل مالك -رحمه الله تعالى- عن أهل السنة قال: أهل السنة: الذين ليس لهم لقب يعرفون به, لا جهمي ولا قدري ولا رافضي1, ولذا -أيضا- قال ابن تيمية, رحمه الله تعالى:   1 الانتقاء: ابن عبد البر ص35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 "ومذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم معروف قبل أن يخلق الله أبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد, فإنه مذهب الصحابة الذين تلقوه عن نبيهم"1. إذن: فالسؤال عن نشأتهم إنما هو سؤال عن نشأة الإسلام, فإن قلت: إنما أسأل عن نشأة تسميتهم بأهل السنة والجماعة وانفرادهم بهذا اللقب دون غيرهم وهو لقب شرفهم الله بحمله, وهو عنوان عقيدتهم ويتضمن الشهادة بسلامتها, أعمى الله أرباب الفرق الأخرى فسلموا لهم بهذا اللقب واعترفوا لأنفسهم بألقاب لا تحمل من الإسلام ما يربطها به أو يدل من قريب أو بعيد على انتمائهم إليه. فهي عقيدة ترفع ويرفع معها خصومها حجتها فوق رأسها, وهل هناك أسمى من اعتراف الخصم بأن عقيدتك هي السنة, وهي عقيدة الجماعة جماعة المسلمين؟! عودة إلى التساؤل عن تاريخ إطلاق هذه التسمية وهو تساؤل أحسب أنه ليس بذي كبير فائدة خاصة أن أصول التاريخ الإسلامي لم تبين بالتحديد تاريخ هذه التسمية, إذ لا يوجد يوم أو شهر أو سنة بارزة ظهرت فيها هذه التسمية وإنما كانت تبرز هذه التسمية في مقابلة أهل البدع فيقول مثلا ابن سيرين -رحمه الله تعالى- وهو من أهل القرن الأول الهجري: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد, فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم, وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم"2. الخلاصة: إن نشأة أهل السنة مع نشأة الإسلام, وإن إطلاق هذا الوصف عليهم كان معروفا في القرن الأول الهجري.   1 منهاج السنة: ابن تيمية ج2 ص482. 2 رواه مسلم ج1 ص84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 عقيدة أهل السنة والجماعة : مرادي في هذا البحث أن أذكر من عقائد أهل السنة الأصول التي خالفهم فيها أهل الفرق والمذاهب التي سأعرضها في مناهج التفسير العقدي. أما ما وافقت هذه الفرق فيه أهل السنة فلا أرى موجبا لذكره اللهم إلا ضمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 مجمل عقائد أهل السنة. ولذا سيكون تناولي لعقيدة أهل السنة والجماعة على سبيل الإجمال, ثم على سبيل التفصيل لبعض الأصول. مجمل عقيدة أهل السنة والجماعة: أفرد هذه العقيدة عدد من العلماء -رحمهم الله تعالى- منهم ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في العقيدة الواسطية, ومنهم أبو جعفر الطحاوي -رحمه الله تعالى- بشرح ابن أبي العز الحنفي -رحمه الله تعالى- وغيرهما كثير. ونذكر هنا مجمل عقيدة أهل السنة ملخصا من أولها, أعني العقيدة الواسطية، حيث بدأه -رحمه الله تعالى- بقوله: أما بعد، فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة -أهل السنة والجماعة- وهو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه, ورسله، والبعث بعد الموت, والإيمان بالقدر خيره وشره. الإيمان بالله: ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه, وبما وصفه به رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- من غير تحريف ولا تعطيل, ومن غير تكييف ولا تمثيل، يل يؤمنون بأن الله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1. فمن الكتاب: ما وصف به نفسه في سورة الإخلاص، وآية الكرسي، وقوله سبحانه: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 2، وقوله: {نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} 3, وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 4، وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 5، وقوله: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ   1 سورة الشورى: الآية 11. 2 سورة الحديد: الآية 3. 3 سورة التحريم: الآية 3. 4 سورة الذاريات: الآية 58. 5 سورة الشورى: الآية 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} 1، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} 2، وقوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 3، وقوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} 4, وقوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} 5، وقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} 6، وقوله: {مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} 7، وقوله: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} 8، وقوله: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا، وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} 9، وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ} 10، وقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} 11، وقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} 12، وقوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا، وَأَكِيدُ كَيْدًا} 13، وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 14، وقوله: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 15، وقوله: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} 16، وقوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} 17، وقوله:   1 سورة الكهف: الآية 39. 2 سورة المائدة: الآية 1. 3 سورة البقرة: الآية 195. 4 سورة البروج: الآية 14. 5 سورة النمل: الآية 30. 6 سورة البينة: الآية 8. 7 سورة النساء: الآية 93. 8 سورة التوبة: الآية 46. 9 سورة الفجر: الآيتان 21-22. 10 سورة الرحمن: الآية 27. 11 سورة الطور: الآية 48. 12 سورة طه: الآية 46. 13 سورة الطارق: الآيتان 15-16. 14 سورة طه: الآية 5. 15 سورة آل عمران: الآية 55. 16 سورة التوبة: الآية 40. 17 سورة النساء: الآية 87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 1, وقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} 2، وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 3. وهذا الباب في كتاب الله تعالى كثير, من تدبر القرآن طالبا للهدي منه, تبين له طريق الحق. ومن السنة: وأهل السنة يؤمنون بما وصف الرسول -صلى الله عليه وسلم- به ربه -عز وجل- في الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول. مثل: قوله صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر"، الحديث متفق عليه4، وقوله: "لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم براحلته" الحديث5 متفق عليه، وقوله: "يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر, كلاهما يدخل الجنة" متفق عليه6، وقوله: "لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها رجله -وفي رواية: عليها قدمه- فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط" متفق عليه7. وقوله: "يقول الله تعالى: يا آدم فيقول: لبيك وسعديك, فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار" رواه البخاري 8، وقوله للجارية: "أين الله؟ " قالت: في السماء قال: "من أنا؟ " قالت: أنت رسول الله. قال:   1 سورة النساء: الآية 164. 2 سورة الأنعام: الآية 155. 3 سورة القيامة: الآيتان 22-23. 4 صحيح البخاري ج2 ص47 باب التهجد؛ مسلم, صلاة المسافرين ج1 ص521-522. 5 صحيح البخاري ج7 ص146, كتاب الدعوات؛ مسلم, كتاب التوبة ج4 ص2104. 6 صحيح البخاري ج3 ص210, كتاب الجهاد؛ مسلم, كتاب الإمارة ج3 ص1504-1505. 7 صحيح البخاري ج7 ص225, كتاب الإيمان؛ مسلم, كتاب الجنة ج4 ص2187. 8 صحيح البخاري, كتاب التفسير ج5 ص241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 "أعتقها؛ فإنها مؤمنة" رواه مسلم1، وقوله: "إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر, لا تضامون في رؤيته, فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا"، متفق عليه2. إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ربه بما يخبر به. فإن الفرقة الناجية -أهل السنة والجماعة- يؤمنون بذلك كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه العزيز من غير تحريف ولا تعطيل, ومن غير تكييف ولا تمثيل. الإيمان بكتبه: ومن الإيمان بالله وبكتبه الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، وأن الله تعالى تكلم به حقيقة, وأن هذا القرآن الذي أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره. الإيمان باليوم الآخر: ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- مما يكون بعد الموت, فيؤمنون بفتنة القبر وبعذاب القبر وبنعيمه وبالبعث والموازين والدواوين -وهي صحائف الأعمال- فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله, وبالحساب وبالعرض والحوض والصراط وهو الجسر الذي بين الجنة والنار يمر الناس عليه على قدر أعمالهم, فمنهم من يمر كالبرق الخاطف ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمر كالفرس الجواد ومنهم من يمر كركاب الإبل ومنهم من يعدو عدوا ومنهم من يمشي مشيا ومنهم من يزحف زحفا ومنهم من يخطف فيلقى في جهنم، ويؤمنون بالشفاعة، ويؤمنون بأصناف ما تضمنته الدار الآخرة من الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار, وتفاصيل ذلك مذكورة في   1 صحيح البخاري, كتاب المساجد ج1 ص382. 2 صحيح البخاري, كتاب المواقيت ج1 ص139؛ صحيح مسلم, كتاب المساجد ج1 ص439. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 الكتب المنزلة من السماء, والآثار من العلم المأثور عن الأنبياء, وفي العلم الموروث عن محمد -صلى الله عليه وسلم- من ذلك ما يشفي ويكفي. الإيمان بالقدر: وتؤمن الفرقة الناجية -أهل السنة والجماعة- بالقدر خيره وشره, والإيمان بالقدر على درجتين: الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلا, وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال. الثانية: مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة, وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن, وأنه ما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه لا يكون في ملكه إلا ما يريد وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات. والعباد فاعلون حقيقة والله خالق أفعالهم والعبد هو المؤمن والكافر, والبر والفاجر, والمصلي والصائم, وللعباد قدرة على أفعالهم ولهم إرادة, والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم, كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1. ومن أصول أهل السنة أن الإيمان قول وعمل, قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح, وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان. ولا يكفرون أحدا من أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي كما قال سبحانه وتعالى في آية القصاص: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} 2، ولا يسلبون الفاسق الملي اسم الإيمان بالكلية ولا يخلدونه في النار, ويقولون: هو مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن بإيمانه, فاسق بكبيرته. ومن أصول أهل السنة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله -صلى   1 سورة التكوير: الآيتان 28-29. 2 سورة البقرة: الآية 178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الله عليه وسلم- كما وصفهم الله به في قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1، وطاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "لا تسبوا أصحابي, فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا, ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" 2. ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم, ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين على بن أبي طالب -رضي الله عنه- وعن غيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، ويثلثون بعثمان ويربعون بعلي -رضي الله عنهم- كما دلت عليه الآثار واختلف بعض أهل السنة في عثمان وعلي -رضي الله عنهما- وإن كانت مسألتهما ليست في الأصول التي يضلل فيها المخالف عند جمهور أهل السنة والجماعة لكن المسألة التي يضلل المخالف فيها هي مسألة الخلافة, وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي, ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء الأئمة, فهو أضل من حمار أهله. ومن عقائد أهل السنة أنهم يحبون أهل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم, حيث قال يوم غدير خم: "أذكركم الله في أهل بيتي, أذكركم الله في أهل بيتي" 3. ويتولون أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن- ويمسكون عما شجر بين الصحابة -رضوان الله عليهم- وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة ولهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم, وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنهم خير القرون, وأن المد من أحدهم إذا تصدق به أفضل من جبل أحد ذهبا ممن بعدهم.   1 سورة الحشر: الآية 10. 2 صحيح البخاري, كتاب الفضائل ج4 ص195؛ ومسلم, الفضائل ج4 ص1967. 3 مسند الإمام أحمد: ج4 ص367, وسنن الدارمي, كتاب فضائل القرآن ج2 ص432، ورواه مسلم في فضائل على -رضي الله عنه- ج4 ص1873. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 ثم القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر في جنب فضائل القوم ومحاسنهم, من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح. ومن أصول أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها, وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين, وسائر قرون الأمة إلى يوم القيامة. ومن أصولهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما توجبه الشريعة, ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبرارا كانوا أو فجارا ويحافظون على الجماعات، ويدينون بالنصيحة للأمة ويأمرون بالصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء والرضا بمر القضاء، ويندبون إلى أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك, ويأمرون ببر الوالدين وصلة الأرحام وحسن الجوار والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل والرفق بالمملوك, وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق, ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفاسفها, وكل ما يقولونه أو يفعلونه من هذا أو غيره فإنما هم متبعون للكتاب والسنة, وطريقتهم هي دين الإسلام الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم1. ذلكم مجمل عقيدة أهل السنة والجماعة, أما تفصيل ما وعدت بتفصيله مما كان موضع خلاف بين أهل السنة والجماعة وما عداهم من الفرق, فإني مورده هنا بتفصيل مناسب لأبحاث في التفسير لا لأبحاث في العقيدة.   1 هذا مجمل عقيدة أهل السنة والجماعة, لخصته من العقيدة الواسطية لابن تيمية، رحمة الله تعالى. انظر مجموع الفتاوى ج3 من ص129 إلى ص159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 بيان بعض عقائدهم : تنزيه الله عن البداء: البداء في لغة العرب على معنيين: أولهما: الظهور بعد الخفاء, وورد هذا المعنى في القرآن الكريم في عدة مواضع, منها قوله سبحانه: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} 1، وقوله سبحانه: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} 2، وقوله عز وجل: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} 3. ثانيهما: نشأة الرأي الجديد, ومنه في القرآن الكريم قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} 4. والبداء بهذين المعنيين لا يجوز نسبته إلى الله سبحانه وتعالى؛ لما يلزمهما من سبق الجهل وحدوث العلم بعده وكلاهما تنزه الله عنه؛ لأنهما صفتا نقص والأدلة كثيرة من الكتاب والسنة كقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 5، وقوله سبحانه: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 6، وغير ذلك من الآيات, وكقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "قدر الله تعالى مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة, وكان عرشه على الماء" 7. وكما أن أهل السنة والجماعة وسط في فرق الأمة كما أن الأمة هي الوسط في الأمم8, فإنهم هنا أيضا في هذا المعتقد يتربعون على عرش الوسطية مرتفعين   1 سورة الزمر: الآية 47. 2 سورة الجاثية: الآية 33. 3 سورة البقرة: الآية 284. 4 سورة يوسف: الآية 35. 5 سورة الحديد: الآية 22. 6 سورة الانعام: الآية 59. 7 قال الألباني في هذا الحديث: "صحيح وأخرجه أيضا أحمد 2/ 169؛ والترمذي وصححه دون قوله: "وكان عرشه" وهو رواية لمسلم, ورواه البيهقي في الأسماء 269, شرح الطحاوية ص140. 8 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج3 ص141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 عن اليهود والرافضة, حيث أنكر اليهود النسخ؛ لأنه يستلزم البداء على الله بزعمهم, وقالت الرافضة بالنسخ وأثبتوا لازمه بزعمهم وهو البداء، وتوسط أهل السنة والجماعة فأخذوا بأدلة الكتاب والسنة وقالوا بالنسخ, وأنكروا البداء وقالوا: إنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون كما قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} 1 وإن كان يعلم أنهم لا يردون ولكن أخبر أنهم لو ردوا لعادوا كما قال الله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} 2، 3، وقالوا: على العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه, فقدر ذلك تقديرا محكما مبرما ليس فيه ناقض ولا معقب ولا مزيل ولا مغير ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سمواته وأرضه4, وسيأتي تفسير الآيات المتعلقة بهذا البحث في موضعه عن شاء الله. إثبات الرؤية: ويعتقد أهل السنة أن أهل الجنة يرون ربهم يوم القيامة بغير إحاطة ولا كيفية كما نطق به كتاب ربنا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ, ِإلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 5, وتفسيره على ما أراد الله تعالى وعلمه وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن سول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو كما قال, ومعناه على ما أراد لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله -عز وجل- ولرسوله صلى الله عليه وسلم, ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه -وهي عندهم أعني الرؤية- من أشرف مسائل أصول الدين وأجلها, وهي الغاية التي شمر إليها المشمرون وتنافس المتنافسون6. واستدلوا لإثبات الرؤية بعدة أدلة من الكتاب والسنة, فمن الكتاب قوله   1 الأنعام: الآية 28. 2 الأنفال: الآية 23. 3 شرح الطحاوية: علي بن أبي العز الحنفي ص152 "الشرح". 4 شرح الطحاوية: على بن أبي العز الحنفي ص302 "المتن". 5 سورة القيامة: الآيتان 22-23. 6 شرح الطحاوية: ص203-204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، ِإلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1، وقوله سبحانه على لسان موسى، عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} 2 ولا يجوز أن يسأل موسى -عليه السلام- ربه ما يستحيل عليه, فإذا لم يجز ذلك على موسى -عليه السلام- علمنا أنه لم يسأل ربه مستحيلا وأن الرؤية جائزة على ربنا تعالى3, واستدلوا بقوله سبحانه جوابا لموسى، عليه السلام: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} 2, قالوا: لما كان الله تعالى قادرا على أن يجعل الجبل مستقرا, كان قادرا على الأمر الذي لو فعله لرآه موسى -عليه السلام- فدل ذلك على أن الله تعالى قادر أن يري عباده نفسه, وأنه جائز رؤيته4. واستدلوا بقوله سبحانه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 5 ققالوا: إن الزيادة هي النظر إلى الله -عز وجل- ولم ينعم الله تعالى على أهل الجنة بأفضل من نظرهم إليه ورؤيتهم له, وقال تعالى: {ولدينا مَزِيدٌ} 6، قيل: النظر إلى الله -عز وجل- وقال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} 7, وإذا لقيه المؤمنون رأوه, وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 8، فحجبهم عن رؤيته, ولا يحجب عنها المؤمنين9. ومن السنة: وقد تواترت الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الدالة على الرؤية, رواها أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن10، ومنها حديث أبي هريرة، رضي   1 سورة القيامة: الآيتان 22-23. 2 سورة الأعراف: من الآية 143. 3 انظر الإبانة عن أصول الديانة, لأبي الحسن الأشعري ص41. 4 المرجع السابق ص43. 5 سورة يونس: من الآية 26. 6 سورة ق: من الآية 35. 7 سورة الأحزاب: من الآية 44. 8 سورة المطففين: الآية 15. 9 الإبانة عن أصول الديانة, لأبي الحسن الأشعري ص45-46. 10 شرح الطحاوية ص209. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الله عنه: أن ناسا قالوا: يا رسول الله, هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ " قالوا: لا يا رسول الله، قال: "هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ " قالوا: لا، قال: "فإنكم ترونه كذلك" الحديث1. وحديث جرير بن عبد الله البجلي -رضي الله عنه- قال: كنا جلوسا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال: "إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا, لا تضامون في رؤيته"2. وما رواه صهيب -رضي الله عنه- قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 3، قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة, وأهل النار النار نادى منادٍ: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟! فيكشف الحجاب فينظرون إليه, فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه, وهي الزيادة" 4. وقد روى أحاديث الرؤية نحو ثلاثين صحابيا5. الأسماء والصفات: أما على سبيل الإجمال فقد سلف بيان عقيدة أهل السنة في ذلك, وأما على التفصيل فسأعرض لبعضها بشيء من ذلك وهو ما كان موضع خلاف بين أهل السنة والفرق التالية, في هذه الدراسة.   1 البخاري: ك الأذان ج1 ص195؛ ومسلم: ك الإيمان ج1 ص163؛ ومسند الإمام أحمد ج3 ص16 وغيرهم. 2 صحيح البخاري: المواقيت ج1 ص139؛ صحيح مسلم: المساجد ج1 ص439. 3 سورة يونس: الآية 26. 4 صحيح مسلم: كتاب الإيمان ج1 ص163؛ مسند أحمد ج4 ص333؛ وسنن الترمذي: كتاب التفسير ج5 ص286؛ وسنن ابن ماجه, المقدمة ج1 ص81. 5 شرح الطحاوية ص210. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 الجهة: قلنا: إن أهل السنة يصفون الله سبحانه بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله -صلى الله عليه وسلم- من غير تحريف ولا تعطيل, ومن غير تكييف ولا تمثيل، ومعلوم أنه ليس في النص إثبات لفظ الجهة ولا نفيه1. وأحسن من اطلعت على قوله في هذا ابن تيمية -رحمه الله تعالى- حيث وضح ذلك توضيحا شافيا في مثل هذا اللفظ ونحوه من الألفاظ حيث قال، رحمه الله تعالى: وبالجملة, فمعلوم أن الألفاظ "نوعان": لفظ ورد في الكتاب والسنة أو الإجماع، فهذا اللفظ يجب القول بموجبه, سواء فهمنا معناه أو لم نفهمه؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يقول إلا حقا, والأمة لا تجتمع على ضلالة. "والثاني": لفظ لم يرد به دليل شرعي كهذه الألفاظ التي تنازع فيها أهل الكلام والفلسفة, هذا يقول: هو متحيز وهذا يقول: ليس بمتحيز، وهذا يقول: هو في جهة، وهذا يقول: ليس هو في جهة، وهذا يقول: هو جسم أو جوهر وهذا يقول: ليس بجسم ولا جوهر, فهذه الألفاظ ليس على أحد أن يقول فيها بنفي ولا إثبات حتى يستفسر المتكلم بذلك, فإن بين أنه أثبت حقا أثبته وإن أثبت باطلا رده وإن نفى باطلا نفاه وإن نفي حقا لم ينفه, وكثير من هؤلاء يجمعون من هذه الأسماء بين الحق والباطل في النفي والإثبات2. ثم طبق -رحمه الله تعالى- هذا القول على من قال بالجهة, فقال عنه: "فمن قال: إنه في جهة وأراد بذلك أنه داخل محصور في شيء من المخلوقات -كائنا من كان- لم يسلم إليه هذا الإثبات, وهذا قول الحلولية, وإن قال: إنه مباين للمخلوقات فوقها لم يمانع في هذا الإثبات، بل هذا ضد قول الحلولية،   1 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج3 ص41. 2 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج5 ص298-299. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 ومن قال: ليس في جهة, فإن أراد أنه ليس مباينا للعالم ولا فوقه, لم يسلم له هذا النفي"1. وبهذا يتضح مذهب أهل السنة في نحو هذه الألفاظ, أعني: الجهة والجسم والجوهر والحيز ونحوها. الاستواء: ورد لفظ الاستواء في القرآن الكريم سبع مرات, منها قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 2، ومنها قوله سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3. وأهل السنة والجماعة يؤمنون باستواء الله على عرشه بالكيفية التي يعلمها سبحانه, ويقولون كما قال ربيعة بن عبد الرحمن: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول, ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ المبين وعلينا التصديق، وكما قال تلميذه مالك بن أنس, حين جاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء4! ثم قال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا مبتدعا, ثم أمر به أن يخرج. قال ابن تيمية: "فقول ربيعة ومالك: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب موافق لقول الباقين, أَمِرُّوها كما جاءت بلا كيف فإنما نفوا علم الكيفية, ولم ينفوا حقيقة الصفة"5.   1 مجموع الفتاوى ج5 ص299. 2 سورة الأعراف: من الآية 54؛ وسورة يونس: من الآية 3. 3 سورة طه: الآية 5. 4 قال في القاموس: الرحضاء: عرق يغسل الجلد, كثره ج2 ص331. 5 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج5 ص40-41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 يمين الرحمن: والحديث عن يمين الرحمن حديث عن يدي الله سبحانه وتعالى, وعقيدة أهل السنة في ذلك أن لله تعالى يدين مختصتين به ذاتيتين له كما يليق بجلاله, وأنه سبحانه خلق آدم بيده وأنه يقبض الأرض ويطوي السموات بيده اليمنى وأن يديه مبسوطتان, ومعنى بسطهما بذل الجود وسعة العطاء1، وقد أثبت أهل السنة اليدين لله تعالى؛ لنصوص القرآن الكريم الكثيرة, ومنها قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} 2، وقال سبحانه: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 3، وقال عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} 4، وقال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} 5. وقد تواتر في السنة مجيء اليد في حديث النبي, صلى الله عليه وسلم1. هذه بعض الأبحاث الداخلة تحت عقيدة الإيمان بالله عند أهل السنة, وإنما خصصناها بالذكر لورود بعض التفاسير المخالفة لها عند بعض أرباب الفرق فيما سيأتي من أبحاث. أما العقيدة في القرآن الكريم فهي: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق: يعتقد أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله, منه بدا بلا كيفية قولا، وأنزله على رسوله وحيا، وصدَّقه المؤمنون على ذلك حقا، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية, فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد   1 مجموع الفتاوى, لابن تيمية ج6 ص363. 2 سورة المائدة: من الآية 64. 3 سورة ص: من الآية 75. 4 سورة الزمر: من الآية 67. 5 سورة يس: من الآية 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 كفر, وقد ذمه الله وأوعده بسقر حيث قال تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} 1, فلما أوعد الله بسقر لمن قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} 1 علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر, ولا يشبه قول البشر2. تلكم عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن الكريم, قال عنها شارح الطحاوية: "هذه قاعدة شريفة وأصل كبير من أصول الدين ضل فيه طوائف كثيرة من الناس, وهذا الذي حكاه الطحاوي -رحمه الله- هو الحق الذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة لمن تدبرهما, وشهدت به الفطرة السليمة التي لم تغير بالشبهات والشكوك والآراء الباطلة"2. سلامة القرآن من التحريف: قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 3، وقال سبحانه: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ, لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 4. لذا ولغيره من النصوص أجمع أهل السنة على سلامة القرآن من التحريف أو التغيير أو التبديل أو الزيادة أو النقص, ومن اعتقد أن القرآن الكريم غير محفوظ فقد خرج عن ربقة الإسلام. ونصوص علماء أهل السنة في ذلك كثيرة, ومنها قول القاضي عياض رحمه الله تعالى: قد أجمع المسلمون أن القرآن المتلو في جميع أقطار الأرض, المكتوب في المصحف بأيدي المسلمين مما جمعه الدفتان من أول {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إلى آخر {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} , أنه كلام الله ووحيه المنزل على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وأن جميع ما فيه حق, وأن من نقص منه حرفا قاصدا لذلك   1 سورة المدثر: الآيتان 25-26. 2 شرح الطحاوية ص179. 3 سورة الحجر: الآية 9. 4 سورة فصلت: من الآيتين 41-42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 أو بدله بحرف آخر مكانه أو زاد فيه حرفا مما لم يشتمل عليه المصحف الذي وقع الإجماع عليه وأجمع على أنه ليس من القرآن عامدا لكل هذا, أنه كافر؛ ولهذا رأى مالك قتل من سب عائشة -رضي الله عنها- بالفرية لأنه خالف القرآن, ومن خالف القرآن قتل أي: لأنه كذب بما فيه, وقال ابن القاسم: من قال: إن الله تعالى لم يكلم موسى تكليما يقتل, وقاله عبد الرحمن بن المهدي، وقال محمد بن سحنون فيمن قال: المعوذتان ليستا من كتاب الله, يضرب عنقه إلا أن يتوب, وكذلك كل من كذب بحرف منه. وقال أبو عثمان الحداد: جميع من ينتحل التوحيد متفقون أن الجحد لحرف من التنزيل كفر وكان أبو العالية إذا قرأ عنده رجل لم يقل له: ليس كما قرأت ويقول: أما أنا فأقرأ كذا فبلغ ذلك إبراهيم فقال: أراه سمع أنه من كفر بحرف منه فقد كفر به كله، وقال عبد الله بن مسعود: من كفر بآية من القرآن, فقد كفر به كله ... 1. وقال ابن قدامة: "ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة أو آية أو كلمة أو حرفا متفقا عليه, أنه كافر"2. وكذا قال البغدادي: "وأكفروا -أي: أهل السنة- من زعم من الرافضة أن لا حجة اليوم في القرآن والسنة لدعواه أن الصحابة غيروا بعض القرآن وحرفوا بعضه"3. وقال ابن حزم: "القول بأن بين اللوحين تبديلا كفر صريح, وتكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم"4. وها أنت ترى حكم علماء أهل السنة والجماعة فيمن أنكر حرفا واحدا من القرآن الكريم, فكيف بمن ادعى أكثر من ذلك, والعياذ بالله. وما كنت لأزيد عن الإشارة لعقيدة أهل السنة في مثل هذا لولا أن نابتة   1 الشفا: القاضي عياض ج2 ص264-265. 2 لمعة الاعتقاد: موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي ص16-17. 3 الفرق بين الفرق: عبد القاهر البغدادي ص315. 4 الفصل في الملل والنحل: ابن حزم ج4 ص182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 من علماء الشيعة في العصر الحديث كادت ومكرت في سبيل تقرير هذه العقيدة إذ لم يثبتوها بطريق مألوف مباشر، بل أنكروا قولهم بالتحريف وزعموا أنها عقيدة أهل السنة وذهبوا يستدلون لافترائهم هذا بأدلة لا أشك في اعتقادهم وهنها وضعفها دلالة وثبوتا وإنما أوردوها خداعا وتمويها وما عدا ذلك فاستدلوا بقول أهل السنة بالناسخ والمنسوخ وباختلاف القراءات وشبه لهم أن قول أهل السنة بهذا قول بالتحريف قلبوا الحقيقة فقول أهل السنة بهذا دليل على الحفظ لا على ضده إذ إنهم لم يفتهم من القرآن حتى ما نسخ وحتى القراءات المتعددة للكلمة, فإذا كان لم يفتهم شيء من هذا ولا ذاك، بل دونوه وميزوا بين الناسخ والمنسوخ وبين ما يقرأ به وما لا يقرأ به, وهذا لعمري من أقوى الأدلة على حفظ هذا القرآن الكريم إلا عند صاحب هوى وبدعة. وإن المسلم ليعجب لحماس الشيعة في إيراد الأدلة عند أهل السنة والتكلف لإثباتها وتقرير دلالتها وهم يزعمون إنكار التحريف, ويعجب لهذا الحرص على تصحيحهم لهذه الأدلة ولا يدري سببا لم ينكرون -بزعمهم- القول بالتحريف إذا كانوا يعتقدون صحة هذه الأقوال. ويبطل عجب المسلم اللبيب إذا عرف أنهم ينكرون القول بالتحريف تقية وكيدا ومكرا, ويعوضون هذا الإنكار بإيراد الأدلة والشبه وحشو ذهن القارئ بها ونسبة ذلك إلى عقيدة أهل السنة حتى إذا ما قبل القارئ دلالة هذه الأدلة وصدقها قال بتحريف القرآن, فوافق معتقدهم حقيقة وإن رفضها وأنكرها فإنما أنكر أدلة أهل السنة ورفض رأي أهل السنة وخرجوا منه أبرياء.. وهذا لعمري كيد أي كيد, ومكر أي مكر. وأمر آخر, ذلكم أن كل من خالف من أهل الفرق فإنه أوّل آيات القرآن وحرف معانيها وحرف مدلولاتها عن حقيقتها إلى ما يؤيد مذهبه ولم يجرؤ أحد من أصحاب المذاهب والفرق إلى القول بالزيادة أو النقصان في القرآن إلا فرقة واحدة فرقة الشيعة, إذ لم يجدوا من النصوص القرآنية ما يؤيد عقيدتهم ولم يستطيعوا تأويلها وصرف معانيها عن حقيقتها صرفا يوازي انحراف عقيدتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 فلم يجدوا موازيا لهذا الانحراف إلا القول بتحريف القرآن وبغيره لا يستطيعون إثبات عقائدهم. وما كان نهجي أن أعرض للرأي المخالف وأنا أسوق عقائد أهل السنة لولا أن المخالف هنا متعين أولا، والحاجة ماسة إلى بيان أسلوبه ومكره في هذا ثانيا. ظاهر القرآن وباطنه: وجل ما يعتمد عليه أصحاب القول بأن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا, ما روي عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف, لكل حرف منها ظهر وبطن, ولكل حرف حد, ولكل حد مطلع" والحديث الذي سئل عنه ابن تيمية: "للقرآن باطن, وللباطن باطن إلى سبعة أبطن" فكان جوابه، رحمه الله تعالى: "أما الحديث المذكور فمن الأحاديث المختلقة التي لم يروها أحد من أهل العلم ولا يوجد في شيء من كتب الحديث, ولكن يروى عن الحسن البصري موقوفا أو مرسلا: "إن لكل آية ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا"1. وأما حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- فقد أورده الإمام الطبري -رحمه الله تعالى- بسندين قال عنهما الشيخ أحمد شاكر: "هو حديث واحد بإسنادين ضعيفين, أما أحدهما فلانقطاعه بجهالة راويه عمن ذكره عن أبي الأحوص، وأما الآخر فمن أجل إبراهيم الهجري راويه عن أبي الأحوص"، ثم قال: "والحديث بهذا اللفظ الذي هنا ذكره السيوطي في الجامع الصغير رقم 2727 ونسبه للطبراني في المعجم الكبير, ورمز له بعلامة الحسن ولا ندري إسناده عند الطبراني"2. ومع وصف ابن تيمية -رحمه الله تعالى- لنحو هذه الأحاديث بالاختلاق وتضعيف أحمد شاكر لهما, فإن أهل السنة بينوا المراد بالظاهر والباطن فيهما.   1 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج13 ص231-232. 2 تفسير الطبري: تخريج أحمد محمد شاكر ج1 ص22-23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 بين ذلك الإمام الطبري -رحمه الله تعالى- فقال: "وقوله صلى الله عليه وسلم: " وإن لكل حرف منها ظهرا وبطنا" فظهره الظاهر في التلاوة, وبطنه ما بطن من تأويله"1، وعلق على هذا الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله تعالى- بقوله: "الظاهر: ما تعرفه العرب من كلامها وما لا يعذر أحد بجهالته من حلال وحرام, والباطن: هو التفسير الذي يعلمه العلماء بالاستنباط والفقه ولم يرد الطبري ما تفعله طائفة الصوفية وأشباههم في التلعب بكتاب الله وسنة رسوله والعبث بدلالات ألفاظ القرآن وادعائهم أن لألفاظه "ظاهرا" هو الذي يعلمه علماء المسلمين و"باطنا" يعلمه أهل الحقيقة، فيما يزعمون"1. وبين ذلك ابن تيمية -رحمه الله تعالى- حيث قسم الباطن إلى قسمين "أحدهما: باطن يخالف العلم الظاهر و"الثاني" لا يخالفه, فأما الأول فباطل: فمن ادعى علما باطنا أو علما بباطن وذلك يخالف العلم الظاهر كان مخطئا إما ملحدا زنديقا وإما جاهلا ضالا، وأما الثاني فهو بمنزلة الكلام في العلم الظاهر قد يكون حقا وقد يكون باطلا ... فإن علم أنه حق قبل وإن علم أنه باطل رد وإلا أمسك عنه، وأما الباطن المخالف للظاهر المعلوم فبمثل ما يدعيه الباطنية القرامطة من الإسماعيلية والنصيرية وأمثالهم, ممن وافقتهم من الفلاسفة وغلاة المتصوفة والمتكلمين"2. ووضح هذا في موضع آخر فقال: "وجماع القول في ذلك أن هذا الباب نوعان: "أحدهما": أن يكون المعنى المذكور باطلا؛ لكونه مخالفا لما علم, فهذا هو في نفسه باطل فلا يكون الدليل عليه إلا باطلا؛ لأن الباطل لا يكون عليه دليل يقتضي أنه حق. و"الثاني": ما كان في نفسه حقا, لكن يستدلون عليه من القرآن والحديث بألفاظ لم يرد بها ذلك, فهذا الذي يسمونه "إشارات" و"حقائق التفسير"   1 المرجع السابق ج1 ص72. 2 مجموع الفتاوى ج13 ص235-236. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 لأبي عبد الرحمن فيه من هذا الباب شيء كثير, وأما النوع الأول فيوجد كثيرا في كلام القرامطة والفلاسفة المخالفين للمسلمين في أصول دينهم. وأما "النوع الثاني": فهو الذي يشتبه كثيرا على بعض الناس, فإن المعنى يكون صحيحا لدلالة الكتاب والسنة عليه، ولكن الشأن في كون اللفظ الذي يذكرونه دل عليه, وهذان قسمان: "أحدهما": أن يقال: إن ذلك المعنى مراد باللفظ, فهذا افتراء على الله, فمن قال: المراد بقوله: {تَذْبَحُوا بَقَرَةً} هي النفس وبقوله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} هو القلب {وَالَّذِينَ مَعَهُ} أبو بكر {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} عمر {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} عثمان {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} علي، فقد كذب على الله, إما متعمدا وإما مخطئا. "القسم الثاني" أن يجعل ذلك من باب الاعتبار والقياس لا من باب دلالة اللفظ, فهذا من نوع القياس فالذي تسميه الفقهاء قياسا هو الذي تسميه الصوفية إشارة, وهذا ينقسم إلى صحيح وباطل كانقسام القياس إلى ذلك"1. ثم قال: "وقد تبين من ذلك أن من فسر القرآن أو الحديث وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين, فهو مفترٍ على الله ملحد في آيات الله محرف للكلم عن مواضعه, وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام، وأما ما يروى عن بعضهم من الكلام المجمل مثل قول بعضهم: لو شئت لأوقرت من تفسير فاتحة الكتاب ... إلخ2 فهذا إذا صح عمن نقل عنه كعلي وغيره لم يكن فيه دلالة على الباطن المخالف للظاهر، بل يكون هذا من الباطن الصحيح الموافق للظاهر الصحيح. وقد تقدم أن الباطن إذا أريد به ما لا يخالف الظاهر المعلوم, فقد يكون حقا وقد يكون باطلا, ولكن ينبغي أن يعرف أنه قد كذب على علي وأهل بيته, لا سيما على جعفر الصادق ما لم يكذب على غيره من الصحابة"3.   1 مجموع فتاوى ابن تيمية: ج13 ص240-242. 2 بقية الأثر كما ورد في السؤال الموجه إلى ابن تيمية "كذا وكذا حمل جمل". 3 مجموع فتاوى ابن تيمية: ج13 ص243-244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وعذرا إذا ما استطردت بعض الاستطراد في بيان هذا, إذ إن كثيرا من الفرق يقوم انحرافها على التأويلات الباطنية, فلزم أن أفصل مذهب أهل السنة في ذلك. الإمامة: إن الإمامة فرض واجب على الأمة لأجل إقامة الإمام، ينصب لهم القضاة والأمناء ويضبط ثغورهم ويغزي جيوشهم ويقسم الفيء بينهم وينتصف لمظلومهم من ظالمهم, وبالجملة1 يقيم شأن الدولة بجميع مرافقها. ويرون أن طريق عقد الإمامة للإمام في هذه الأمة الاختيار بالاجتهاد. وقالوا: ليس من النبي -صلى الله عليه وسلم- نص على إمامة واحد بعينه2 نصا صريحا ويثبتون الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- تفضيلا له وتقديما على جميع الأمة, ثم لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ثم لعثمان -رضي الله عنه- ثم لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون3. وقالوا: لا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا, ولا ندعو عليهم ولا ننزع يدا من طاعتهم ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية, وندعو لهم بالصلاح والمعافاة، والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم إلى قيام الساعة, لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما4، والرافضة أخسر الناس صفقة في هذه المسألة؛ لأنهم جعلوا الإمام المعصوم هو الإمام المعدوم الذي لم ينفعهم في دين ولا دنيا!! فإنهم يدعون أنه الإمام المنتظر محمد بن الحسن العسكري5. هذا مجمل عقيدتهم في الإمامة.   1 الفرق بين الفرق: عبد القاهر البغدادي ص340. 2 المرجع السابق ص340. 3 العقيدة الطحاوية ص57. 4 العقيدة الطحاوية ص47-48. 5 شرح الطحاوية: ت جماعة من العلماء ص437. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 العصمة: ويعتقدون أن الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- معصومون فيما يخبرون به عن الله سبحانه وتعالى وفي تبليغ رسالاته باتفاق الأمة بخلاف غير الأنبياء فإنهم ليسوا معصومين كما عصم الأنبياء ولو كانوا أولياء لله1. وقد سئل ابن تيمية -رحمه الله تعالى- عمن ادعى العصمة لغير نبي فقال: "فإن الرافضة ادعت ذلك فيمن لا شك في إيمانه وتقواه، بل فيمن لا يشك أنه من أهل الجنة, كعلي والحسن والحسين -رضي الله عنهم- ومع هذا فقد اتفق أهل العلم والإيمان على أن هذا القول من أفسد الأقوال وأنه من أقوال أهل الإفك والبهتان, فإن العصمة في ذلك ليست لغير الأنبياء -عليهم السلام-" ثم قال: "والمقصود أن من ادعى عصمة هؤلاء السادة المشهود لهم بالإيمان والتقوى والجنة هو في غاية الضلال والجهالة, ولم يقل هذا القول من له في الأمة لسان صدق، بل ولا من له عقل محمود"2. المهدي: والمهدي حق, قال السيوطي, رحمه الله تعالى: "قال أبو الحسن محمد بن الحسين بن إبراهيم بن عاصم السحري: قد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى صلى الله عليه وسلم بمجيء المهدي وأنه من أهل بيته وأنه سيملك سبع سنين وأنه يملأ الأرض عدلا وأنه يخرج مع عيسى -عليه السلام- فيساعده على قتل الدجال بباب لدّ بأرض فلسطين وأنه يؤم هذه الأمة وعيسى يصلي خلفه3, وحكى التواتر أيضا محمد بن رسول الحسيني في كتابه: الإشاعة لأشراط الساعة4، وحكاه ابن قيم الجوزية في: المنار المنيف في الصحيح والضعيف5.   1 مجموع فتاوى ابن تيمية: جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد ج10 ص289-290. 2 مجموع فتاوى ابن تيمية: ج35 ص120 و126. 3 الحاوي للفتاوي: الإمام السيوطي ج2 ص165-166. 4 الإشاعة لأشراط الساعة: محمد بن رسول الحسيني ص112. 5 المنار المنيف في الصحيح والضعيف: ابن قيم الجوزية ص142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 قال الشيخ الذهبي, رحمه الله تعالى: "لم نر من المسلمين من ذهب مذهب الإمامية من تعيين المهدي ودعواهم أنه الإمام الثاني عشر الذي اختفى حيا وسيعود في آخر الزمان"1. إنكار الرجعة: ومن عقائد أهل السنة إنكار رجعة أحد من الأموات قبل قيام الساعة, فلا يرجع محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أحد من أصحابه إلا يوم القيامة إذا رجع الله المؤمنين والكافرين للحساب والجزاء, هذا إجماع أهل الإسلام قبل حدوث الروافض2. وقد نص القرآن الكريم نصا صريحا على أن لا رجعة, قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} 3، وقال سبحانه: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} 4. الميزان والصراط حسيان: ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما جاء في الكتاب, وبكل ما أخبر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما يكون بعد الموت. فيؤمنون بنصب الموازين لوزن أعمال العباد, قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} 5، والذي دلت عليه السنة أن ميزان الأعمال له كفتان   1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص8. 2 المحلى: ابن حزم ص28 ج1؛ والمعتمد في أصول الدين: محمد بن الحسين بن الغراء ص255. 3 سورة المؤمنون: الآيتان 99-100. 4 سورة السجدة: الآية 12. 5 سورة الأنبياء: الآية 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 حسيتان مشاهدتان1. قال شارح الطحاوية: "فلا يلتفت إلى ملحد معاند يقول: الأعمال أعراض لا تقبل الوزن, وإنما يقبل الوزن الأجسام!! فإن الله يقلب الأعراض أجساما"1، وقال: فعلينا الإيمان بالغيب كما أخبرنا به الصادق -صلى الله عليه وسلم- من غير زيادة ولا نقصان2. ونؤمن بالصراط وهو جسر على جهنم يمر الناس عليه على قدر أعمالهم؛ فمنهم من يمر كلمح البصر ومنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمشي مشيا ومنهم من يزحف زحفا ومنهم من يخطف فيلقى في جهنم, فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم, فمن مر على الصراط دخل الجنة3. أهل الكبائر يوم القيامة: ثار جدل طويل بين الفرق والمذاهب الإسلامية: هل يسمى مرتكب الكبيرة مؤمنا أو غير مؤمن؟ وهل يخلد في النار أو يخرج منها؟ وهل يشفع له أو لا يشفع له؟ وأصل النزاع بين هذه الفرق يتعلق بأصل الإيمان: هل يكون شيئا واحدا إذا زال زال جميعه, وإذا ثبت ثبت كله أم لا؟ أما المرجئة والجهمية والخوارج والمعتزلة, فجماع شبهتهم أن الحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها. وانقسم هؤلاء إلى قسمين: المرجئة قالوا: كل فاسق فهو كامل الإيمان, وإيمان الخلق متماثل لا متفاضل, والتفاضل في غير الإيمان من الأعمال, والأعمال ليست من الإيمان. وقالت الجهمية والخوارج والمعتزلة: لا يكون مع الفاسق إيمان, ثم انقسموا إلى قسمين: الخوارج قالت: هو كافر، والمعتزلة قالت: هو في منزلة بين المنزلتين، ثم اتفقوا في الحكم فقالوا: هو خالد في النار لا يخرج منها بشفاعة, ولا غيرها.   1 شرح الطحاوية: علي بن أبي العز ص472، 474. 2 شرح الطحاوية: علي بن أبي العز ص475. 3 مجموع فتاوى ابن تيمية: ج3 ص146-147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وكما أن الإسلام وسط بين الأديان, فإن أهل السنة استقروا في وسط الوسط بين الفرق والمذاهب وتوسطهم في هذه المسألة أنهم قالوا: إن الإيمان يتبعض فيذهب بعضه ويبقى بعضه كما في قوله عليه الصلاة والسلام: "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان". ولهذا مذهبهم أن الإيمان يتفاضل ويتبعض, وهذا -كما قال ابن تيمية- مذهب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم1. ولهذا, فإنهم لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي كما قال سبحانه وتعالى في آية القصاص: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} 2، وقال سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} 3. ويقولون: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته, فلا يعطى الاسم المطلق ولا يسلب مطلق الاسم4. وقالوا: إن أهل الكبائر لا يخلدون في النار كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} الآية5. قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: وقوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} مما يستدل به أهل السنة على أنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد, وأما دخول كثير من أهل الكبائر النار فهذا مما تواترت به السنن عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما تواترت بخروجهم من النار6.   1 مجموع الفتاوى ج18 ص270. 2 سورة البقرة: من الآية 178. 3 سورة الحجرات: من الآيتين 9، 10. 4 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج3 ص151-152. 5 سورة فاطر: من الآيتين 32، 33. 6 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج11 ص184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وما داموا لا يخلدون في النار فإنهم يخرجون منها, فالصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر الأئمة الأربعة وغيرهم يقرون بما تواترت به الأحاديث الصحيحة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الله يخرج من النار قوما بعد أن يعذبهم الله ما شاء أن يعذبهم, يخرجهم بشفاعة محمد -صلى الله عليه وسلم- ويخرج آخرين بشفاعة غيره, ويخرج قوما بلا شفاعة1. ذلكم رأي أهل السنة في إيمان أهل الكبائر, وعدم خلودهم في النار والشفاعة لهم. الولاء والبراء: ومذهب أهل السنة محبة أهل العدل والأمانة وبغض أهل الجور والخيانة, وهذا من كمال الإيمان وتمام العبودية فإن العبادة تتضمن كمال المحبة ونهايتها، وكمال الذل ونهايته، فمحبة رسل الله وأنبيائه وعباده المؤمنين من محبة الله وإن كانت المحبة التي لله لا يستحقها غيره فغير الله يحب في الله لا مع الله, فإن المحب يحب ما يحب محبوبه ويبغض ما يبغضه ويوالي من يواليه ويعادي من يعاديه ويرضى لرضائه ويغضب لغضبه ويأمر بما يأمر به وينهى عما ينهى عنه, فهو موافق لمحبوبه في كل حال، وقد يجتمع في العبد سبب الولاية وسبب العداوة والحب والبغض, فيكون محبوبا من وجه ومبغوضا من وجه والحكم للغالب2. محبة الصحابة: وخلاصة عقيدة أهل السنة في محبة الصحابة -رضوان الله عليهم- ما عبر عنه الطحاوي -رحمه الله - بقوله: "ونحب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا نفرط في حب أحد منهم ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم, ولا نذكرهم إلا بخير, وحبهم دين وإيمان وإحسان, وبغضهم كفر ونفاق وطغيان"3.   1 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج1 ص149. 2 انظر شرح الطحاوية: ابن أبي العز ص432-433. 3 شرح الطحاوية ص528. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وما قاله ابن تيمية، رحمه الله تعالى: "ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما وصفهم الله به في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1, وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا تسبوا أصحابي, فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" 2، ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم3. محبة أهل البيت: وأهل السنة والجماعة يحبون أهل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم, حيث قال يوم غدير خم: "أذكركم الله في أهل بيتي, أذكركم الله في أهل بيتي" 4. ويتولون أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمهات المؤمنين, ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة5. وهم مع هذا لا يشهدون لهم بعصمة ولا يغالون في أوصافهم ولا يعتقدون سقوط التكاليف عنهم, روى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم, حين أنزل الله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} 6 قال: "يا معشر قريش -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم   1 سورة الحشر: الآية 10. 2 صحيح البخاري: فضائل الصحابة ج4 ص195؛ صحيح مسلم: فضائل الصحابة ج4 ص1967. 3 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج3 ص152. 4 رواه مسلم في فضائل علي -رضي الله عنه- ج4 ص1873, والإمام أحمد في مسنده, ج4 ص367, والدارمي في سننه، ج2 ص154. 5 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج3 ص154. 6 سورة الشعراء: الآية 214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 لا أغني عنكم من الله شيئا, يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا, يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا, ويا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئا, ويا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم, سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئا" 1. التقية: التبس الأمر على طائفة من الناس جلاء هذا اللبس, ونبراس هذه القضية يكمن في التفريق بين كلمتي الإكراه والخوف، وبالتفريق بينهما تتضح جوانب القضية وتضيء زواياها. فالخوف هو توقع حلول مكروه أو فوت محبوب2, أما الإكراه فهو من الكره وهو فعل المضطر3 ولا يكون الاضطرار إلا بعد خوف، إذن فالإكراه خوف وزيادة. والخوف ليس عذرا في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإذن لو كان عذرا لما نهض أحد بتكاليف الإسلام، بل لما بلغ الأنبياء رسالاتهم التي أرسلوا بها إلا إذا ارتقى الخوف من درجة "التوقع" إلى درجة "اليقين" فحينئذ يكون بمنزلة الإكراه. وهل للمكره أن يقول أو يفعل ما يخالف عقيدته الإسلامية تقية ممن ألزمه بذلك؟ نصوص القرآن صريحة في جواز لا وجوب, قول ما يخلص المؤمن من إكراه الكفار له, قال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} 4، وقال سبحانه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ   1 رواه البخاري: كتاب التفسير، سورة الشعراء ج6 ص17. 2 المعجم الوسيط ج1 ص261. 3 تاج العروس: محمد مرتضى الزبيدي ج9 ص408. 4 سورة آل عمران: الآية 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} 1. قال القرطبي، رحمه الله تعالى: "والقضية لا تحل إلا مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم ومن أكره على الكفر فالصحيح أن له أن يتصلب ولا يجيب إلى التلفظ بكلمة الكفر، بل يجوز له ذلك"2. بل حكى الإجماع فقال: "أجمع العلماء على أن من أكره على الكفر فاختار القتل أنه أعظم عند الله ممن اختار الرخصة, واختلفوا فيمن أكره على غير القتل من فعل ما لا يحل له"3. بل روي عن معاذ بن جبل ومجاهد، رضي الله عنهما: "وكانت التقية في جدة الإسلام قبل قوة المسلمين, فأما اليوم فقد أعز الله الإسلام أن يتقوا من عدوهم"4. هذا إذا كانت التقية مع الكفار والإكراه بالقتل، فإنها تكون رخصة وأجمعوا على أن تركها أفضل فكيف بمن اتخذها مطية للكذب المطلق بالقول والفعل بلا حدود ولا قيود مع المسلمين, وزعم أنها من أصول الدين، بل إنها تسعة أعشار الدين وإن لا دين لمن لا تقية له5، {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 6. الإيمان بالقدر خيره وشره: قال ابن تيمية, رحمه الله تعالى: "وتؤمن الفرقة الناجية -أهل السنة والجماعة- بالقدر خيره وشره, والإيمان بالقدر على درجتين, كل درجة تتضمن شيئين: فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه   1 سورة النحل: الآية 106. 2 تفسير القرطبي ج4 ص57. 3 تفسير القرطبي ج10 ص188. 4 تفسير القرطبي ج4 ص57. 5 الكافي: الكليني ج2 ص217. 6 سورة الأعراف: الآية 139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 القديم الذي هو موصوف به أزلا, وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال. ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق, فأول ما خلق الله القلم قال له: "اكتب قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة"1. فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه, جفت الأقلام وطويت الصحف كما قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 2، وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 3 ... فهذا القدر قد كان ينكره غلاة القدرية قديما, ومنكره اليوم قليل. وأما الدرجة الثانية: فهو مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة, وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن, وأنه ما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه, لا يكون في ملكه إلا ما يريد, وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات. فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه لا خالق غيره ولا رب سواه. ومع ذلك, فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله ونهاهم عن معصيته، وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا يحب الكافرين ولا يرضى عن القوم الفاسقين ولا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد. والعباد فاعلون حقيقة والله خالق أفعالهم, والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة والله خالقهم   1 رواه أبو داود: كتاب السنة ج4 ص225-226. 2 سورة الحج: الآية 70. 3 سورة الحديد: الآية 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وخالق قدرتهم وإرادتهم, كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1. وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي -صلى الله عليه وسلم- مجوس هذه الأمة, ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته واختياره، ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها2. ذلكم تفصيل ما أردت تفصيله من عقيدة أهل السنة والجماعة وإنما خصصت بعضها به؛ لأنه موضع خلاف بين أهل السنة ومن عداهم من المذاهب فيما يلي من أبحاث, فكان لزاما أن أذكره تفصيلا هنا حتى إذا ما تناولته في مواضع تالية لعقائد منحرفة أكون قد قدمت الرأي الحق لمن أراده وتبرأ ذمتي من عرض آراء ضالة, من غير تبيان الصراط السوي.   1 سورة التكوير: الآيتان 28، 29. 2 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج3 ص148-150 باختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 أسس تفسير أهل السنة : يقوم منهج أهل السنة والجماعة في التفسير على أسس واضحة بينة, أهمها: أولا: تفسير القرآن بالقرآن: وهو أصح طرق التفسير, فما أجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر, وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر. ثانيا: تفسير القرآن بالسنة: فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: كل ما حكم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو مما فهمه من القرآن, قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} 1، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ   1 سورة النساء: من الآية 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 1، وقال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 2. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه" 3 يعني السنة4. وقال -أيضا- الإمام الشافعي رحمه الله: "وسنن رسول الله مع كتاب الله وجهان: أحدهما نص كتاب فاتبعه رسول الله كما أنزل الله والآخر جملة بين رسول الله فيه عن الله معنى ما أراد بالجملة وأوضح كيف فرضها عاما أو خاصا, وكيف أراد أن يأتي به العباد, وكلاهما اتبع فيه كتاب الله"5. وقال الطبري, رحمه الله تعالى: "إن مما أنزل الله من القرآن على نبيه -صلى الله عليه وسلم- ما لا يوصل إلى علم تأويله إلا ببيان الرسول -صلى الله عليه وسلم- وذلك تأويل جميع ما فيه من وجوه أمره: واجبه وندبه، وإرشاده، وصنوف نهيه، ووظائف حقوقه وحدوده ومبالغ فرائضه ومقادير اللازم بعض خلقه لبعض وما أشبه ذلك من أحكام آيه التي لم يدرك علمها إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته, وهذا وجه لا يجوز لأحد القول فيه إلا ببيان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تأويله بنص منه عليه, أو بدلالة قد نصبها دالة أمته على تأويله"6. وقال الإمام الشاطبي, رحمه الله تعالى: "إن السنة توضح المجمل وتقيد المطلق وتخصص العموم, فتخرج كثيرا من الصيغ القرآنية عن ظاهر مفهومها في أصل اللغة, وتعلم بذلك أن بيان السنة هو مراد الله تعالى من تلك الصيغ, فإذا طرحت واتبع ظاهر الصيغ بمجرد الهوى صار صاحب هذا النظر ضالا في نظره   1 سورة النحل: من الآية 44. 2 سورة النحل: من الآية 64. 3 رواه أحمد ج4 ص131؛ وأبو داود في السنة وسنده صحيح ج4 ص200. 4 مجموع الفتاوى ج13 ص363- 364. 5 الرسالة, للإمام الشافعي، تحقيق أحمد محمد شاكر ص91. 6 تفسير الطبري، تحقيق محمود شاكر ج1 ص74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 جاهلا بالكتاب خابطا في عمياء لا يهتدي إلى الصواب فيها، إذ ليس للعقول من إدراك المنافع والمضار في التصرفات الدنيوية إلا النزر اليسير وهي في الأخروية أبعد على الجملة والتفصيل"1. هذا بعض ما قاله علماء السنة في تفسير القرآن بالسنة, ومنه يعرف منزلة هذا النوع من التفسير، بل إنهم لا يقبلون سواه إذا صح عندهم. قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ومما ينبغي أن يعلم أن القرآن والحديث إذا عرف تفسيره من جهة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحتج في ذلك إلى أقوال أهل اللغة, فإنه قد عرف تفسيره"2، وقال أيضا: "ولم يكن السلف يقبلون معارضة الآية إلا بآية أخرى تفسرها أو تنسخها أو بسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- تفسرها, فإن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين القرآن وتدل عليه وتعبر عنه"2. ثالثا: تفسير القرآن بأقوال الصحابة: فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن والأحوال التي اختصوا بها كمعرفة أوضاع اللغة وأسرارها، ومعرفة عادات العرب وقت نزول القرآن, ومعرفة عادات اليهود والنصارى حينذاك, وقوة الفهم وسعة الإدراك ومعرفة أسباب النزول وما أحاط بآيات القرآن من أحداث وقت نزولها؛ لذا ولغيره تبوأ تفسيرهم هذه المنزلة من القبول عند علماء أهل السنة والجماعة لا سيما علماء الصحابة وكبراؤهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين كابن مسعود وابن عباس. رابعا: اعتبار أقوال التابعين: لأنهم تلقفوا علم الصحابة ووعوه ودارسوهم القرآن الكريم وسألوهم عنه كما قال مجاهد بن جبر رحمه الله تعالى: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته, أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها, وقال قتادة: ما في القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئا.   1 الموافقات: الشاطبي ج4 ص21. 2 مجموع فتاوى ابن تيمية: جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد ج13 ص27-29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وإنما قلت: اعتبار أقوال التابعين؛ لأن بعض علماء أهل السنة والجماعة اعتبر أقوالهم حجة ملزمة وبعضهم لم يعتبرها كذلك إلا أنه يأخذ بها ويميزها عن أقوال من جاء بعدهم. خامسا: تفسير القرآن بعموم لغة العرب: لأن القرآن الكريم نزل {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 1، ويتوقف فهمه على شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب الوضع، والمعاني تختلف باختلاف إعرابها، ومن هنا مست الحاجة إلى اعتبار علم النحو والتصريف الذي تعرف به الأبنية والكلمة المبهمة يتضح معناها بمصادرها ومشتقاتها2 ونقل عن بعض علماء السلف تأكيد مثل هذا فقال مجاهد: "لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالما بلغات العرب"3، وروى البيهقي في شعب الإيمان عن مالك بن أنس قال: "لا أوتى برجل غير عالم بلغات العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالا"4، بل قال الشاطبي: "كل معنى مستنبط من القرآن غير جار على اللسان العربي فليس من علوم القرآن في شيء, لا مما يستفاد منه ولا مما يستفاد به, ومن ادعى فيه ذلك فهو في دعواه مبطل"5. سادسا: التحذير من التفسير بالرأي المجرد: وأهل السنة حين جعلوا هذه الدرجات الخمس السابقة للتفسير حسب ترتيبها السالف, حذروا بعد هذا من التفسير بمجرد الرأي لقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 6، وقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 7، وقوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 8. فأضاف البيان   1 سورة الشعراء: من الآية 59. 2 مباحث في علوم القرآن: مناع القطان ص331. 3 الإتقان: السيوطي ج2 ص180. 4 البرهان في علوم القرآن: الزركشي ج2 ص160. 5 الموافقات: الشاطبي ج3 ص391. 6 سورة الإسراء: من الآية 36. 7 سورة البقرة: من الآية 169. 8 سورة النحل: من الآية 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 إليه وعليه حملوا قوله صلى الله عليه وسلم: "من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار"، رواه البيهقي من طرق من حديث ابن عباس، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من تكلم في القرآن برأيه فأصاب, فقد أخطأ" أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، وقال: غريب من حديث ابن جندب, وقال البيهقي في "شعب الإيمان": هذا إن صح, فإنما أراد -والله أعلم- الرأي الذي يغلب من غير دليل قام عليه, فمثل هذا الذي لا يجوز الحكم به في النوازل, وكذلك لا يجوز تفسير القرآن به1. ولهذا تحرج بعض الصحابة -رضي الله عنهم- من نحو هذا, فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أي سماء تظلني, وأي أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم! وغير ذلك كثير, حكى ابن تيمية -رحمه الله تعالى- طائفة منها ثم قال: "فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به, فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا فلا حرج عليه؛ ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير ولا منافاة لأنهم تكلموا فيما علموه, وسكتوا عما جهلوه, وهذا هو الواجب على كل أحد"2. سابعا: العبرة بعموم اللفظ, لا بخصوص السبب: والشمول متفرع من الشمول في الرسالة الإسلامية, فهي عامة لكل الناس, قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} 3، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} 4. وما دامت الشريعة الإسلامية ليست لطائفة دون أخرى، بل هي للناس كافة في كل زمان ومكان, فلا عجب أن يكون كتابها القرآن الكريم شاملا وعاما: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} 5، {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا   1 البرهان: بدر الدين الزركشي ج2 ص161-162. 2 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج13 ص374. 3 سورة الأعراف: من الآية 158. 4 سورة سبأ: من الآية 28. 5 سورة يوسف: الآية 104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 1. لهذا بنى أهل السنة قاعدة ساروا عليها في تناول آيات القرآن بشمول آيات القرآن الكريم ومنع اختصاصها بسبب نزولها. قال ابن تيمية, رحمه الله تعالى: "قولهم: إن هذه الآية نزلت في فلان وفلان, لا يريدون به أنها آية مختصة به كآية اللعان وآية القذف وآية المحاربة ونحو ذلك لا يقول مسلم: إنها مختصة بمن كان نزولها بسببه ... " ثم قال: "فلا يقول مسلم: إن آية الظهار لم يدخل فيها إلا أوس بن الصامت, وآية اللعان لم يدخل فيها إلا عاصم بن عدي أو هلال بن أمية وإن ذم الكفار لم يدخل فيه إلا كفار قريش, ونحو ذلك مما لا يقوله مسلم ولا عاقل. فإن محمدا -صلى الله عليه وسلم- قد عرف بالاضطرار من دينه, أنه مبعوث إلى جميع الإنس والجن والله تعالى خاطب بالقرآن جميع الثقلين"2. حتى ما خوطب به النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنهم شملوا به أمته ما لم يقم دليل على التخصيص, وجعلوا هذا هو الأصل في الخطاب فقال ابن تيمية: "إن الأصل فيما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما أمر به ونهي عنه وأبيح له سارٍ في حق أمته كمشاركة أمته له في الأحكام وغيرها حتى يقوم دليل التخصيص فما ثبت في حقه من الأحكام ثبت في حق الأمة إذا لم يخصص, هذا مذهب السلف والفقهاء"3. وقال أيضا: "إن قصر عمومات القرآن على أسباب نزولها باطل"4، وهذا ما عبر عنه علماء السلف بالقاعدة الشرعية: "العبرة بعموم اللفظ, لا بخصوص السبب".   1 سورة الأنعام: الآية 19. 2 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج16 ص148. 3 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج15 ص82. 4 المرجع السابق ج15 ص364. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ثامنا: ترك الإطناب فيما أبهم من القرآن: قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} 1، وفي قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} 2. لمحة ترشدنا إلى أن في خلق الله أسرارا لا تدرك للعباد, فإن في الصلاة من جهة أعداد ركعاتها وأوقاتها, وفي أنصبة الزكاة ومقادير الكفارات لمحات أخرى واضحة جلية في أن لله سبحانه في تكاليفه ما يعجز البشر عن إدراك أسراره وما عليهم إلا أن يؤمنوا ويمتثلوا, فتصدق فيهم العبودية ويخلص منهم الإيمان3. والقرآن الكريم فيه مما نعجز نحن البشر عن إدراك حقائقه وأمرنا أن نقول عنه: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} 4. وهذا لا يطرد فيما وضحت دلالته العربية وثبت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بيانه، بل الواجب أن نفهم منه ما بين فيه في موضع آخر أو بينه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو أحد أصحابه أو وضحت دلالته العربية. وما سوى ذلك نكل علمه إلى الله سبحانه وتعالى, فلو كان في ذكره فائدة لنا دنيا أو أخرى لذكره سبحانه وهو أعلم بصلاح أمورنا وما يستقيم عليه ديننا؛ ولهذا لما صعد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- المنبر وقرأ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} 5، فقال: ما الأب؟ ثم قال: إن هذا لهو التكلف, فما عليك أن لا تدريه, وسأل رجل ابن عباس -رضي الله عنهما- عن: {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} 6 فقال له ابن عباس: فما {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} 7؟ فقال   1 سورة الإسراء: الآية 38. 2 سورة الإسراء: من الآية 85. 3 تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت ص57. 4 سورة آل عمران: من الآية 7. 5 سورة عبس: الآية 31. 6 سورة السجدة: من الآية 5. 7 سورة المعارج: من الآية 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الرجل: إنما سألتك لتحدثني! فقال ابن عباس: هما يومان ذكرهما الله في كتابه, الله أعلم بهما1. والفرق بين هذا الأساس في التفسير والأساس السادس الخاص بالتحذير من التفسير بالرأي المجرد, أن الأساس السابق خاص في الآيات التي للرأي مجال فيها إذا لم يكن مجردا, أما هذا النوع -أعني المبهمات- مرجعه النقل المحض ولا مجال للرأي فيه, كما قال السيوطي2، والله أعلم. تاسعا: التقليل من شأن الإسرائيليات: وخلاصة موقف أهل السنة والجماعة من الإسرائيليات, أنهم يقسمونها إلى أقسام ثلاثة: أولها: ما وافق شريعتنا, فتجوز روايته للاستشهاد لا للاعتقاد. ثانيها: أن ما خالف شريعتنا, لا تصح روايته. ثالثها: أن ما ليس في شريعتنا ما يوافقه ولا ما يخالفه, فلا بأس بحكايته من غير تصديق ولا تكذيب. قال ابن كثير رحمه الله: فأما ما شهد له شرعنا بالصدق فلا حاجة بنا إليه استغناء بما عندنا، وما شهد له شرعنا منها بالبطلان فذاك مردود لا يجوز حكايته إلا على سبيل الإنكار والإبطال3. أما النوع الثالث فقال عنه: "وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة لا نصدقه ولا نكذبه، بل نجعله وقفا، وما كان من هذا الضرب منها فقد رخص كثير من السلف في روايته, وكثير من ذلك مما لا فائدة فيه ولا حاصل له مما ينتفع به في الدين, ولو كانت فائدته تعود على المكلفين في دينهم لبينته هذه الشريعة الكاملة الشاملة"4.   1 مجموع الفتاوى, ج13 ص372-373. 2 الإتقان: السيوطي ج2 ص145. 3 البداية والنهاية: ابن كثير ج1 ص6-7. 4 تفسير ابن كثير ج3 ص192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وقال ابن تيمية -رحمه الله تعالى- عن هذا النوع: "وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني"، وضرب لذلك مثالا بما ذكر عن أسماء أصحاب الكهف ولون كلبهم وعدتهم وعصا موسى من أي الشجر كانت وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة1، وغير ذلك.   1 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج13 ص367. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 نماذج من تفسير أهل السنة والجماعة في العصر الحديث : تزخر المكتبة الإسلامية بعدد كبير من تفاسير أهل السنة والجماعة والحمد لله، وحين نتناول هذه التفاسير بالدراسة هنا فإن هذا لا يعني سلامتها كلها من أي شائبة أو خطأ, لكنه يعني أنها في الجملة على هذا المنهج وإن كان في بعضها ما يؤخذ منها وما يرد. تنزيه الله عن البداء: قال الشيخ عبد الرحمن الدوسري1 في تفسيره لقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 2: "لقد أقام اليهود -عليهم لعائن الله- حملات عنيفة مركزة ضد الإسلام والمسلمين متخذين من نسخ بعض   1 هو الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن خلف الدوسري, ولد في البحرين عام 1332 ونشأ في الكويت وتعلم في المدرسة المباركية واشتغل بالأعمال الحرة، وكان له نشاط كبير في الدعوة وفي الصحافة ومنابر المساجد في الداخل والخارج, وأنفق من ماله بسخاء في سبيل ذلك، وله عدد من المؤلفات منها تفسير "صفوة الآثار والمفاهيم في تفسير القرآن العظيم" وأذيع أكثره على شكل حلقات من إذاعة المملكة العربية السعودية, ثم بدأت مؤخرا طباعته فصدر منه حتى الآن أربعة مجلدات وله غيره كثير من المؤلفات، رحمه الله تعالى. وكتب الشيخ سليمان بن ناصر الطيار عنه رسالة نال بها درجة الماجستير بعنوان: "حياة الداعية الشيخ عبد الرحمن بن محمد الدوسري" من كلية الدعوة والإعلام, جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. 2 سورة البقرة: الآية 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الآيات والأحكام ذريعة للطعن في ذات الله, زاعمين أن النسخ منافٍ لعلم الله مستلزم للبداء"1 ثم رد -رحمه الله- على هذا الزعم وأبطله. ورفض الأستاذ محمد حمزة2 الزعم بأن القول بالنسخ يلزم منه وصف الله بالبداء, رفض هذا وأنكره ورد عليه بأدلة العقل والنقل, قال: "وأما النقل, فإن الآيات التي تدل على إحاطة علم الله سبحانه وتعالى بجميع المعلومات أكثر من أن تذكر؛ قال الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 3، وقال سبحانه: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} 4, وقال جل شأنه: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} 5، نعلم من هذا أن البداء لا يجوز أن يتصف به الرب سبحانه وقد خسئ الروافض والمختارية إذ أجازوا على الله سبحانه أن يتصف بالبداء, فهذا ميزان العقل والشرع بين أيدينا ولكن شتان ما بين البداء والنسخ, فالبداء تجدد وحدوث في العلم، والنسخ تجدد في المعلوم لا في العلم, فالعلم واحد. فإنه لم ينكشف لله تعالى ما كان جاهلا به حتى أمر بنقيض ما كان آمرا، بل علم الله سبحانه أنه يأمر عباده بأمر مطلق معلوم النهاية لديه مستور على خلقه لحكمة يعلمها ثم يقطع ذلك التكليف في الوقت المعلوم عنده للحكمة التي أرادها، فلا جهل ولا بداء ولكن حكمة واختبار6. أما الدكتور أحمد الكومي والدكتور محمد طنطاوي, فأكدا في تفسيرهما لقوله   1 صفوة الآثار والمفاهيم: عبد الرحمن بن محمد الدوسري ج2 ص291. 2 لم أجد له ترجمة. 3 سورة الأنعام: الآية 59. 4 سورة الرعد: الآية 8, 9. 5 سورة النمل: الآية 65. 6 دراسات الأحكام والنسخ في القرآن الكريم: محمد حمزة ص60-61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 1 أكدا إحاطة علم الله سبحانه وتعالى بكل شيء وأنه يعلم الكليات والجزئيات فقالا: "إن علم الله تعالى محيط بالكليات والجزئيات وبكل شيء في هذا الكون, وبذلك يتبين بطلان رأي بعض الفلاسفة الذين قالوا بأن الله يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات"2 وما دام علمه سبحانه في الكليات والجزئيات, فإنه منزه عن البداء. إثبات الرؤية: وقد أثبت مفسرو أهل السنة والجماعة رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة, مستدلين بآيات من القرآن الكريم وأحاديث من السنة النبوية. ففي تفسير قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 3 قال الشيخ محمد العثمان القاضي4: "أي: وجوه يومئذ حسنة مشرقة, تعرف فيها نضرة النعيم، تنظر إلى وجه ربها عيانا بلا حجاب, وقد تواترت بها أحاديث سنة رسول الله وهي من المتواتر"5. وقال الأستاذ علي رفاعي محمد6 في تفسيرها بعد أن أورد بعض أحاديث   1 سورة الانعام: الآية 59. 2 تفسير سورة الأنعام: د. أحمد السيد الكومي، د. محمد سيد طنطاوي ص163. 3 سورة القيامة: الآيتان 22-23. 4 هو الشيخ محمد بن عثمان بن صالح بن عثمان القاضي من قبيلة آل تميم من الوهبة، قرأ على والده وعلى الشيخ عبد الرحمن بن سعدي ثم على الشيخ محمد الصالح العثيمين وعلى غيرهم من العلماء. وله عدد من المؤلفات منها: مقتطفات العلوم الفائقة، والحديقة اليانعة، وهذا الكتاب في التفسير: "منار السبيل في الأضواء على التنزيل" يقع في أربعة أجزاء في مجلدين. 5 منار السبيل في الأضواء على التنزيل: محمد العثمان القاضي ج4 ص286. 6 علي رفاعي محمد, من علماء الأزهر الشريف ومدرس الدعوة إلى الله بالدراسات العليا بجامعة الأزهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 الرؤية: "هذه الأحاديث وغيرها كثير تدل دلالة قاطعة على أن المؤمنين يوم القيامة ينظرون إلى ربهم في عرصات القيامة وفي الجنات, ومن تأول {نَاظِرَةٌ} بأنها تنتظر الثواب فقد بعد عن الحق والصواب ولم يفهم قوله تعالى في حق الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 1، فقد قال الإمام الشافعي: ما حجب الفجار إلا وقد علم أن الأبرار يرونه -عز وجل- وقد تواترت الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما دلت عليه الآية الكريمة"2. وقال به الشيخ محمد عبد الله الجزار3, فقال في تفسيرها: "في هذا اليوم نرى وجوه أهل الإيمان الخالص مشرقة مبتهجة ممتعة بالنظر إلى ربها الكريم, فتراه سبحانه بلا كيف ولا إحاطة فيكون ذلك كمال لذتها وتمام سرورها, وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وأسألك لذة النظر إلى وجهك, والشوق إلى لقائك" وفي معنى الحديث الآخر: "إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر"، ولما كانت رؤية المؤمنين لربهم سبحانه في الآخرة تكميلا لسرورهم فإن الله تعالى حرم الكفار من ذلك: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 4، ومن عقائد أهل السنة أن المؤمنين يرون الله تعالى في الآخرة ونعوذ بالله من طريقة من يلحد في آيات الله كالمعتزلة الذين يقولون تحريفا لمعنى الآية: منتظرة نعم ربها, فنحن نقول حقيقة: وجوه المؤمنين ناظرة إلى ربها ورائية له وهم يقولون: منتظرة ... إلخ، ونعوذ بالله من اتباع غير سبيل المؤمنين"5. وقد رجح الدكتوران أحمد السيد الكومي، ومحمد سيد طنطاوي في تفسيرهما لسورتي الأنعام والأعراف مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك, فقالا في تفسير قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} 6: "والذي نراه أن   1 سورة المطففين: آية 15. 2 بشائر الرضوان في تفسير القرآن: علي رفاعي محمد ج29 ص132. 3 لم أجد له ترجمة. 4 سورة المطففين: الآية 15. 5 الذخيرة في تفسير أجزاء قرآنية: محمد عبد الله الجزار ص516-517. 6 سورة الأنعام: الآية 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 رأي أهل السنة أقوى؛ لأن ظواهر النصوص تؤيدهم ولا مجال هنا لبسط حجج كل فريق فقد تكفلت بذلك كتب علم الكلام"1، وقالا في تفسير قوله تعالى حكاية لقول موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} 2: والذي نراه أن رؤية الله في الآخرة ممكنة كما قال أهل السنة لورود الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة التي تشهد بذلك"3. وقال الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي4 في تفسيرها: "وفي هذا دليل على أن رؤيته تعالى جائزة في الجملة؛ لأن طلب المستحيل من الأنبياء محال" قال له: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} هذا كلام على سبيل الاستدراك, يريد أن يبين به أنه لا يطيق الرؤية، وفي تعليق الرؤية على الاستقرار دليل على جوازها لأن استقرار الجبل عند التجلي ممكن بأن يجعل الله تعالى له قوة على ذلك"5. وقال الشيخ حسنين مخلوف6 في تفسير الزيادة في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} : هي النظر إلى وجه الله الكريم, وهي المغفرة والرضوان7. وقال في تفسير قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} : "وأما في النشأة   1 تفسير سورة الأنعام: الدكتور أحمد الكومي والدكتور محمد طنطاوي ص201. 2 سورة الأعراف: من الآية 143. 3 تفسير سورة الأعراف: الدكتور أحمد الكومي والدكتور محمد طنطاوي ص181. 4 لم أجد له ترجمة. 5 تفسير القرآن الحكيم: محمد عبد المنعم خفاجي ج9 ص72. 6 حسنين محمد مخلوف, ولد سنة 1890م في القاهرة ولما أكمل الدراسة في الأزهر التحق بالقسم العالي بمدرسة القضاء الشرعي ونال شهادتها في سنة 1914، عضو في هيئة كبار العلماء وتولى رئاسة محكمة طنطا ومنصب مفتي مصر, وعضو لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر ونال سنة 1403هـ جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، ومن مؤلفاته: صفوة البيان لمعاني القرآن في مجلدين, وكلمات القرآن "تفسير وبيان". 6 صفوة البيان: حسنين مخلوف ج1 ص345. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 الأخرى فقد ثبت في الحديث الصحيح أن المؤمنين يرون ربهم في عرصات يوم القيامة وفي روضات الجنات, ويدل عليه قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1، وفي الآية دلالة على إمكان الرؤية في ذاتها؛ لأنه تعالى علقها على استقرار الجبل وهو ممكن, وتعليق الشيء بما هو ممكن يدل على إمكانه, وإليه ذهب أهل السنة"2. وفسر الأستاذ عبد الله كنّون3 النظر في قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} 4 بقوله: "ينظرون ما أعطاهم الله من عظيم الكرامة وجليل النعمة, وأفضلها النظر إلى وجهه الكريم فهذا في مقابل ما عومل به الفجار من حجبهم عن الله عز وجل"5. وفسر قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 6 بقوله: "فلا يرونه كما يراه المؤمنون, قال الشافعي: لما حجب الله قوما بالسخط, دل على أن قوما يرونه بالرضى"7. الاستواء: وقد قال مفسرو أهل السنة والجماعة في القرن الرابع عشر الهجري في آيات الصفات, كما قال سلفهم.   1 سورة القيامة: الآيتان 22-23. 2 صفوة البيان لمعاني القرآن: حسنين مخلوف ج1 ص 278. 3 عبد الله عبد الصمد كنّون, من مواليد فاس بالمغرب سنة 1326, نال شهادة العالمية من جامعة القرويين سنة 1349، ونال بعض المناصب منها: الأمين العام لرابطة علماء المغرب، عضو مجمع اللغة العربية بمصر وعضو بمجمع البحوث الإسلامية بمصر وعضو المجمع العلمي بدمشق. ومن مؤلفاته: مفاهيم إسلامية، إسلام رائد، على درب الإسلام، تحركات إسلامية، وغيرها. 4 سورة المطففين: الآيتان 22-23. 5 تفسير سور المفصل من القرآن الكريم: عبد الله كنّون ص 338. 6 سورة المطففين: الآية 15. 7 تفسير سور المفصل: عبد الله كنّون ص337. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ففسر الأستاذ عبد الله كنون الاستواء في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 1 بقوله: "استواء يليق به كما هو مذهب السلف, وقد سئل عنه مالك -رحمه الله- فقال: "الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عن هذا بدعة"2. وفسره بهذا الأستاذ علي رفاعي محمد فقال: "استوى على العرش استواء يليق بجلاله, والله وحده هو الذي يعلم حقيقة معنى استوائه على العرش"3. وفسره بهذا الأستاذ حسنين محمد مخلوف فال: "أي: استواء يليق بكماله تعالى, بلا كيف ولا تشبيه ولا تمثيل"4. أما السيد عبد القادر ملا حويش آل غازي العاني, فرفض تفسير الاستواء في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 5 بالاستيلاء؛ لأن الاستيلاء معناه حصول الغلبة بعد العجز وهو محال في حقه تعالى ولأنه لا يقال: استولى على كذا إلا إذا كان له منازع فيه، وهذا في حقه تعالى محال أيضا, وإنما يقال: استولى إذا كان المستولى عليه موجودا قبل والعرش إنما حدث بتخليقه تعالى وتكوينه له وأيضا الاستيلاء واحد بالنسبة إلى كل المخلوقات فلا يبقى إلى تخصيص العرش بالذكر فائدة لذلك, فالأولى أن يفسر بما فسرناه هنا من أنه استواء يليق بذاته كما هو الحال في آيات الصفات من المجيء واليد والقبضة وغيرها؛ لأن القانون الصحيح وجوب حمل كل لفظ ورد في القرآن العظيم على ظاهره إلا إذا قامت الأدلة القطعية على وجوب الانصراف عن الظاهر ولا داعي للتأويل بما قد يوجب الوقوع في الخطأ وزلة القدم وانظر ما قاله السلف الصالح في هذا الباب6، ثم أورد عددا من أقوال علماء السلف -رحمهم الله تعالى- في الاستواء.   1 سورة الحديد: من الآية 4. 2 تفسير سور المفصل من القرآن الكريم: عبد الله كنون ص110. 3 بشائر الرضوان في تفسير القرآن: علي رفاعي محمد ج27 ص108. 4 صفوة البيان لمعاني القرآن: حسنين محمد مخلوف ج2 ص14. 5 سورة طه: الآية 5. 6 بيان المعاني: عبد القادر العاني ج2 ص184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 أما الشيخ محمد العثمان القاضي فاكتفى في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 1 بالاستشهاد بتفسير ابن كثير -رحمه الله تعالى- لذلك، ثم أورد قول مالك -رحمه الله تعالى- ورد بعد هذا تفسير المعتزلة للاستواء بالاستيلاء قائلا: "ورد هذا القول بأن العرب لا تعرف استوى بمعنى: استولى وإنما يقال: استولى فلان على كذا, إذا لم يكن في ملكه ثم ملكه والله تعالى لم يزل مالكا للأشياء كلها ومستوليا عليها, فأي تخصيص للعرش هنا دون غيره من المخلوقات"2. يمين الرحمن: قال الشيخ محمد العثمان القاضي في تفسير قوله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} 3، قال: "كثير من المفسرين فسرها بالقدرة, وهذا صرف للفظ عن ظاهره, وقد روى البخاري في4 صحيحه عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يقبض الله الارض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك, أين ملوك الأرض؟ " والسلف الصالح يثبتون الصفات ولا يتعرضون للكيفية، قال سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله به نفسه في كتابه, فتفسيره تلاوته والسكوت عن كيفيته"5. وقال الشيخ فيصل بن عبد العزيز المبارك6 في تفسير قوله تعالى:   1 سورة الأعراف: من الآية 54. 2 منار السبيل في الأضواء على التنزيل: محمد العثمان القاضي ج1 ص141. 3 سورة الزمر: من الآية 67. 4 صحيح البخاري: كتاب الرقاق ج7 ص194. 5 منار السبيل: محمد العثمان القاضي ج4 ص40. 6 ولد في حريملاء سنة 1313 وأخذ العلم عن علماء الرياض وقطر, وتولى القضاء بالجوف وله عدد من المؤلفات منها: توفيق الرحمن في دروس القرآن في أربعة أجزاء، وخلاصة الكلام شرح عمدة الأحكام في مجلد واحد، وبستان الأحبار مختصر نيل الأوطار في جزأين كبيرين، ولذة القارئ مختصر فتح الباري في ثمانية أجزاء وغير ذلك في الفقه والفرائض والنحو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 1، قال ابن جرير: واختلف أهل الجدل في تأويل قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} فقال بعضهم: عنى بذلك: نعمتاه وقال آخرون منهم: عنى بذلك: القوة، وقال آخرون منهم: بل يد الله صفة من صفاته هي يد غير أنها ليست بجارحة كجوارح آدم وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال به العلماء وأهل التاويل. انتهى ملخصا. قال البغوي: ويد الله صفة من صفات ذاته كالسمع والبصر والوجه، وقال جل ذكره: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 2، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلتا يديه يمين" والله أعلم بصفاته, فعلى العباد فيها الإيمان والتسليم، وقال أئمة السلف من أهل السنة في هذه الصفات: أمروها كما جاءت بلا كيف3. القرآن كلام الله منزل, غير مخلوق: قال الأستاذ محمد رشدي حمادي4 في تفسير قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوه} الآية5: احتج كثير من المعتزلة به6 على نفي الصفات وعلى أن القرآن مخلوق أما الثاني فلأن القرآن شيء فيدخل تحت العموم وأما الأول فلأن الصفات لو كانت موجودة له تعالى للزم أن تكون مخلوقة له. وأجيب بأنكم تخصون هذا العام بحسب ذاته ضرورة أنه يمتنع أن يكون خالقا لنفسه، وبحسب أفعال العباد، فنحن أيضا نخصصه بحسب الصفات وبحسب القرآن ونظرا لأن كثيرا من آراء المعتزلة تطل برءوسها عند كل آية من القرآن الكريم يشتمّون من لفظها الظاهري أنها يصح أن تكون دليلا على خلق القرآن, فسدا لهذه الذرائع وردا عليهم فيما يختص بقضية خلق القرآن   1 سورة المائدة: من الآية 64. 2 سورة ص: من الآية رقم 75. 3 توفيق الرحمن في دروس القرآن: فيصل المبارك ج2 ص44. 4 لم أجد له ترجمة. 5 سورة الأنعام: من الآية 102. 6 أي: عموم الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 فإني أحيلهم إلى كتاب "لكي تكون ... من قادة الفكر" تأليف صاحب هذا التفسير1. ثم نقل في تفسيره بعض الأقوال لعلماء السلف وجاء فيها: والقول المحفوظ عن جمهور السلف هو ترك الخوض في ذلك والتعمق فيه والاقتصار على القول بأن القرآن كلام الله وأنه غير مخلوق2. سلامة القرآن من التحريف: وقد نص على حفظ القرآن قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 3، قال الشيخ فيصل المبارك في تفسيرها: "وقال في آية أخرى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} 4 فأنزله الله ثم حفظه فلا يستطيع إبليس أن يزيد فيه باطلا ولا ينقص منه حقا حفظه الله من ذلك, وقال ابن كثير: ثم قرر تعالى أنه هو الذي أنزل عليه الذكر وهو القرآن وهو الحافظ له من التغيير والتبديل قلت: والحكمة في حفظ الله تعالى للقرآن دون سائر كتبه أنه آخرها وأن الذي جاء به خاتم الأنبياء فأبقاه الله محفوظا حجة على خلقه"5. وقال الشيخ محمد العثمان القاضي في تفسيرها: "الضمير في قوله: {لَهُ} راجع إلى الذكر يعني: وإنا للذكر الذي أنزلناه على محمد لحافظون يعني: من الزيادة فيه والنقص منه والتغيير والتبديل والتحريف, فالقرآن العظيم محفوظ من هذه الأشياء كلها، لا يقدر أحد من جميع الخلق من الجن والإنس أن يزيد فيه أو ينقص منه حرفا واحدا أو كلمة واحدة, وهذا مختص بالقرآن العظيم بخلاف سائر الكتب المنزلة فإنه قد دخل في بعضها التحريف والتبديل والزيادة والنقصان.   1 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج2 ص493. 2 المرجع السابق ج2 ص495. 3 سورة الحجر: الآية 9. 4 سورة فصلت: من الآية 42. 5 توفيق الرحمن في دروس القرآن: فيصل المبارك ج2 ص320. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ولما تولى الله عز وجل حفظ هذا الكتاب بقي مصونا على الأبد, محروسا من الزيادة والنقصان"1. وكذا الشيخ حسنين مخلوف في تفسيرها قال: " {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أي: من كل ما يقدح فيه كالتحريف والتبديل والزيادة والنقصان"2. العصمة: وعند تفسير قوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى، ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} 3 عقد السيد عبد القادر ملا العاني مطلبا في عصمة الأنبياء جاء فيه: "واعلم أن خبط القول فيها على ما قاله الإمام فخر الدين الرازي يرجع إلى أربعة أقسام: الأول: ما يقع في باب الاعتقاد وهو اعتقاد الكفر والضلال، فإن ذلك غير جائز في حقهم البتة، الثاني: ما يقع بالتبليغ فكذلك ممتنع في حقهم حتى الخطأ والنسيان فضلا عن التعمد على الصحيح؛ لأن الأمة4 أجمعت على عصمتهم من الكذب ومواظبتهم على التبليغ والتحريض وإلا لارتفع الوثوق بالأداء واتفقوا على أن ذلك لا يجوز وقوعه منهم عمدا ولا سهوا ولا خطأ ولا نسيانا ومن الناس من جوز سهوا؛ لأن الاحتراز منه غير ممكن وليس بشيء، ولا عبرة ولا قيمة له، الثالث: ما يقع بالفتيا, فقد أجمعوا أيضا على أنه لا يجوز قطعا خطؤهم فيها ونسيانهم وسهوهم سواء، فعدم جواز العمد من باب أولى. وما أجازه بعضهم على طريق السهو لا صحة له؛ لأن الفتيا من قسم التبليغ بالنسبة إليهم إذ لا فرق في وجوب اتباعهم في أفعالهم وأقوالهم. الرابع: ما يقع من أفعالهم, قال الإمام الفخر: والمختار عندنا أهل السنة والجماعة أنه لم يصدر   1 منار السبيل: محمد العثمان القاضي ج2 ص96. 2 صفوة البيان لمعاني القرآن: حسنين محمد مخلوف ج1 ص418. 3 سورة طه: من الآيتين 121-122. 4 الذي ورد في النص هو: "لأن الآية"، وكذلك وردت في الأصل الذي نقل منه هذا النص، وقد تتبعت النص فلم أجد فيه ذكرا لآية وظهر لي أنه تصحيف لـ "لأن الأمة" وبه تستقيم العبارة فأثبته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 منهم ذنب لا صغيرة ولا كبيرة من حين تنبئهم؛ لأن الذنب لو صدر عنهم لكانوا أقل درجة من أحد الأمة. ولأن معنى النبوة والرسالة أن يشهد على الله أنه شرع هذا الحكم مثلا وهو يوم القيامة شاهد على الكل, راجع الآية 40 من سورة النساء, والآية 89 من سورة النحل ... وهذا ما عليه إجماع أهل السنة والجماعة. واجتمعت الأمة على أن الأنبياء كانوا يأمرون الناس بطاعة الله فلو لم يطيعوه هم لدخلوا تحت قوله تعالى: {تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} 1، وقد قال تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} 2، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} 3، 4. لا رجعة لأحد قبل يوم القيامة: وقال بهذا أهل السنة والجماعة مستدلين بالكتاب والسنة، وقد سلف إيراد الأدلة. وفسر الشيخ محمد علي الصابوني5 قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} 6. قال:   1 سورة البقرة: من الآية 44. 2 سورة هود: من الآية 88. 3 سورة الأنبياء: من الآية 90. 4 بيان المعاني: عبد القادر ملا حويش العاني ج2 ص225-227 ملخصا. 5 هو الشيخ محمد علي بن جميل الصابوني, ولد في حلب سنة 1928م, أتم دراسته الثانوية في سوريا ثم التحق بالأزهر فنال العالمية 1952م والماجستير, تخصص في القضاء الشرعي 1954م ثم عاد إلى سوريا فدرس ثماني سنوات, ثم انتدب للتدريس بكلية الشريعة بمكة المكرمة ولا يزال بها, وله عدد من المؤلفات منها: النبوة والأنبياء؛ وروائع البيان في تفسير آيات الأحكام في القرآن؛ وصفوة التفاسير؛ ومختصر تفسير ابن كثير؛ وغير ذلك. 6 سورة الأنعام: الآيتان 27-28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 "أي: لو ردوا على سبيل الفرض؛ لأنه لا رجعة إلى الدنيا بعد الموت لعادوا إلى الكفر والإضلال, وإنهم لكاذبون في وعدهم بالإيمان"1. الميزان: قال الشيخ محمد العثمان القاضي في تفسير قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} 2: أي وزن الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها ... واختلف في كيفية الوزن فقيل: توزن صحف الأعمال بميزان له لسان وكفتان تنظر إليه الخلائق تأكيدا للحجة وإظهارا للنصفة وقطعا للمعذرة ... وقيل: توزن الأعمال قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} 3، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} ... الآية4. وقيل: يوزن الأشخاص دليله حديث: "يؤتى بالرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة" 5, وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود: "ألا تعجبون من دقة ساقيه! لهما عند الله أعظم من جبل أحد " 6، 7.   1 صفوة التفاسير: محمد علي الصابوني ج1 ص385. 2 سورة الأعراف: من الآية 8. 3 سورة الزلزلة: الآيتان 7، 8. 4 سورة الأنبياء: في الآية 47. 5 صحيح البخاري: كتاب التفسير ج5 ص236؛ صحيح مسلم: كتاب صفات المنافقين ج4 ص2147. 6 رواه الإمام أحمد في مسنده ج1 ص114 بلفظ عن أم موسى قالت: سمعت عليا -رضي الله عنه- يقول: أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ابن مسعود فصعد على شجرة أمره أن يأتيه منها بشيء, فنظر أصحابه إلى ساق عبد الله بن مسعود حين صعد الشجرة فضحكوا من حموشة ساقيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تضحكون لرجل؟ عبد الله أثقل في الميزان يوم القيامة من أحد" ج1 ص114. قال الأستاذ عبد القادر عطا والدكتور محمد عاشور: أخرجه الهيثمي 9/ 288، وعزاه إلى أبي يعلى الطبراني وقال: رجاله رجال الصحيح غير أم موسى وهي ثقة، ورواه الحاكم عن معاوية بن قرة عن أبيه، بمعناه: 3/ 317 والحموشة: الدقة. ا. هـ. المسند للإمام أحمد ت. عبد القادر عطا ومحمد عاشور ج1 ص395. 7 منار السبيل: محمد العثمان القاضي ج1 ص137-138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وقال الشيخ حسنين مخلوف في تفسيرها: "أي: والوزن الحق -أي العدل الذي لا ظلم فيه لصحائف الأعمال- كائن يوم يسأل الله الأمم ورسلهم، وإنما توزن الصحائف يومئذ بميزان لإظهار العدل الإلهي على رءوس الأشهاد"1. أما الشيخ محمد علي الصابوني, فأورد في تفسيرها رأي ابن كثير -رحمه الله تعالى- ثم قال: "أقول: لا غرابة في وزن الأعمال ووزن الحسنات والسيئات بالذات، فإذا كان العلم الحديث قد كشف لنا عن موازين للحر والبرد واتجاه الرياح والأمطار أفيعجز القادر على كل شيء عن وضع موازين لأعمال البشر"2. أهل الكبائر: قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا, ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} 3. قال الشيخ محمد العثمان القاضي في تفسيرها: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} الشرك وهم المؤمنون {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} جاثين على الركب. قالت المعتزلة: في هذه الآية حجة على مذهبنا وهو تخليد أهل الكبائر والفساق في النار، بدليل أن الله بين أن الكل يردونها ثم بين صفة من ينجو منها وهم المتقون, والفاسق لا يكون متقيا، فيبقى مخلدا في النار، وهذا احتجاج باطل. فالمتقي هنا هو الذي يتقي الشرك بقوله: "لا إله إلا الله" فصاحب الكبير متق للشرك؛ لأنه مؤمن بالله ورسوله, ومن آمن بذلك صح أن يقال: إنه متق للشرك, فصارت الآية التي توهموها حجة لهم هي عليهم لا سيما والنص شاهد بذلك، فقد روى البخاري في صحيحه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن برة من خير, ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه   1 صفوة البيان: حسنين مخلوف ج1 ص252. 2 صفوة التفاسير: محمد علي الصابوني ج1 ص437. 3 سورة مريم: الآيتان 71-72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وزن ذرة من خير, وفي لفظ: من إيمان". وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة الطويل: أن الناس قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فذكر الحديث إلى قوله: "ويحك يابن آدم ما أغدرك" الحديث بألفاظه. فصاحب الكبيرة قد يعاقب بقدر ذنبه ثم ينجو, والنصوص الصحيحة تؤيد هذا قطعا1. أما السيد عبد القادر ملا حويش فقال في تفسير هاتين الآيتين: "ولا دليل في هذه الآية لمن يقول: إن الفاسق وصاحب الكبيرة يخلد في النار؛ لأن المراد بالتقي المستثنى من الورود: من اتقى الشرك؛ لأن من آمن بالله ورسوله يصح أن يقال له: متقٍ الشرك, ولو كان مقترفا الكبائر من غير استحلال لأن المستحل لها كافر، ومن صدق عليه أنه متقٍ الشرك صح عنه أنه متقٍ؛ لأن التقى جزء من التقي من الشرك2. ومن صدق عليه المركب صدق عليه المفرد فثبت أن صاحب الكبيرة والفاسق متق، وإذا ثبت لك هذا وجب أن لا يخلد في النار وأنه يخرج منها لعموم هذه الآية، وعليه إجماع الأمة من علماء التوحيد"3، ثم استدل بالحديث السالف الذي رواه البخاري ثم قال: "فدلت الآية الأولى على أن الكل دخلوا النار، ودلت الثانية والأحاديث على أن الله أخرج منها المتقين والموحدين وترك فيها الظالمين المشركين فقط"3، وقال: "هذا, وإن مذهب أهل السنة والجماعة هو أن صاحب الكبيرة قد يعاقب بقدر ذنبه ثم ينجو لا محالة، ويجوز أن يعفو الله عنه، وهذه الطريقة يجب التمسك بها والجنوح إليها فكل قول يخالف هذا باطل لا قيمة له, إذ لا مستند له على الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة, أما أقوال المخالفين فهي كيفية لا عبرة بها"3. ثم ذكر أقوال المخالفين وأبطلها.   1 منار السبيل: محمد العثمان القاضي ج3 ص25. 2 الصحيح أن التقى من الشرك جزء من التقي، وليس العكس ولعله سبق قلم من المؤلف. 3 بيان المعاني: عبد القادر ملا حويش ج2 ص170- 173 بتلخيص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 الولاء والبراء: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 1. فسرها الأستاذ محمد سيد طنطاوي وقال: "والخطاب في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} للمؤمنين جميعا في كل زمان ومكان, إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب, والأولياء جمع ولي, ويطلق بمعنى النصير والصديق والحبيب. والمراد بالولاية هنا: مصافاة أعداء الإسلام والاستنصار بهم والتحالف معهم دون المسلمين, أي: يا أيها الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ... لا يتخذ أحد منكم أحدا من اليهود والنصارى وليا ولا نصيرا أي: لا تصافوهم مصافاة الأحباب ولا تستنصروا بهم, فإنهم جميعا يد واحدة عليكم، يبغونكم الغوائل ويتربصون بكم الدوائر. فكيف يتوهم بينكم وبينهم موالاة؟ "2. وأما المراد بالذين آمنوا من قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} 3, فقال في بيانه: "وما ورد من آثار تفيد أن المراد بالذين آمنوا شخص معين وهو علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لا يعتمد عليها؛ لأنها كما يقول ابن كثير: "لم يصح شيء منها بالكلية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها"، وقد توسع الإمام الرازي في الرد على الشيعة الذين وضعوا هذه الآثار, فارجع إليه إن شئت"4. وأكد الدكتور طنطاوي هذه المعاني عند تفسيره لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ   1 سورة المائدة: الآية 51. 2 تفسير سورة المائدة: الدكتور محمد سيد طنطاوي ص249. 3 سورة المائدة: الآية 55. 4 تفسير سورة المائدة: الدكتور محمد سيد طنطاوي ص265. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 1, بتحريم موالاة الكافرين مهما بلغت درجة قرابتهم, واعتبار هذه الموالاة من الكبائر؛ لوصف فاعلها بالظلم2. أما الأستاذ محمد رشدي حمادي فبين المراد بالولاية، في آية سورة المائدة السابقة فقال: "المراد بالولاية التناصر والمحالفة, وقيده بعضهم بكونها على المؤمنين، وليس المقصود استعمالهم في الوظائف غير القيادية والشئون العامة التي لا تمس عزة المؤمنين"3. ثم قال: "وهذا الحكم" في قطع الموالاة "باقٍ إلى يوم القيامة"3. أما الشيخ محمد العثمان القاضي فبين معنى الولاية في الآية المشار إليها بقوله: "والمراد من النهي عدم معاملتهم ومعاشرتهم ومناصرتهم, فلا يجوز وصفهم بالإخوة كما نسمع في بعض الإذاعات, والله يقول: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} 4، والمفهوم نفي الأخوة عنهم إذا لم يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. ويقول: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} 5، وليت المسلمين طبقوا أحكام شريعتهم وسلكوا ما كان عليه سلفهم الصالح"6، لكنه قال: "وأما مبايعتهم فلا بأس بها, فقد قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودرعه مرهون عند يهودي"6. محبة الصحابة وسائر المؤمنين: وقد ورد الأمر بذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 7، قال الشيخ محمد العثمان القاضي وفي قوله سبحانه:   1 سورة التوبة: الآية 23. 2 تفسير سورة التوبة: الدكتور محمد سيد طنطاوي ص86. 3 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج2 ص324-325. 4 سورة التوبة: آية 11. 5 سورة آل عمران: آية 73. 6 منار السبيل: محمد العثمان القاضي ج1 ص99-100. 7 سورة الحشر: الآية 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 {سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} ، دليل على المشاركة فيه، وأنهم تابعون للصحابة في عقائد الإيمان وأصوله، وهم أهل السنة والجماعة، الذين لا يصدق هذا الوصف التام إلا عليهم ووصفهم بالإقرار بالذنوب والاستغفار منها, واستغفار بعضهم لبعض، واجتهادهم في إزالة الغل والحقد عن إخوانهم المؤمنين, وأن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه وأن يكونوا كالعضو الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى, ثم قال: وفي ذلك حثّ على وجوب محبة من تقدم من المؤمنين ومراعاة حقوقهم علينا في السبق، وصفاء القلوب من بغض أحد منهم، عن ابن عمر أنه سمع رجلا يتناول بعض المهاجرين بالسب، فقرأ عليه: " {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} 1الآية. ثم قال: هؤلاء المهاجرون، أفمنهم أنت؟ قال: لا. ثم قرأ عليه: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} 1 الآية، ثم قال: هؤلاء الأنصار، أفأنت منهم؟ قال: لا. ثم قرأ عليه: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} 1 الآية، ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال: أرجو أن أكون منهم. قال: ليس من هؤلاء, واللهِ, من سبهم"2. وقال الأستاذ علي رفاعي محمد في الآية السابقة: "وترشد الآية إلى الترغيب في الدعاء للصحابة ولكل مؤمن، وثمرة ذلك تصفية القلوب وتطهيرها من الحقد والعداوة، وفي الآية تحذير من بغض أحد من الصحابة, أخرج ابن مردويه عن ابن عمر -رضي الله عنهما-3، ثم ساق الحديث السابق". محبة أهل البيت: قال تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} 4. قال الشيخ محمد القاضي في تفسيرها: "أي: لا أسألكم على تبليغ الرسالة جعلا "إلا المودة في القربى".   1 سورة الحشر: الآية 8-10. 2 منار السبيل: محمد العثمان القاضي ج4 ص200-201. 3 بشائر الرضوان في تفسير القرآن: علي رفاعي محمد ج28 ص40. 4 سورة الشورى: من الآية 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 قال الزجاج: استثناء ليس من الأول أي: إلا أن تؤدوا قرابتي فتحفظوها, والخطاب لقريش خاصة. قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد. والمعنى: إلا أن تودوني في قرابتي منكم، أي: تراعوا ما بيني وبينكم فتصدقوني. فالقربى ههنا قرابة الرحم, كأنه قال: اتبعوني للقرابة إن لم تتبعوني للنبوة. وقيل: القربى: قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم أي: لا أسألكم أجرا إلا أن تؤدوا لقرابتي حقهم وهم أهل البيت، للحديث الصحيح: "أذكركم الله في أهل بيتي". وقد وردت أحاديث صحيحة فيها الأمر بإكرام أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته ... فواجب على الإنسان مودتهم، وحب قرابته وآله من حبه1. ووضح الأستاذ أبو الأعلى المودودي2 المراد بأهل البيت في تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} 3، فقال: "يظهر من السياق الذي وردت فيه هذه الآية أن المراد بأهل البيت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الطاهرات؛ لأن الخطاب بدأ بقوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ} ، وهن بعينهن المخاطبات فيما قبل الآية التي بين يدينا وما بعدها. كما أن لفظ "أهل البيت" -علاوة على هذا- يستخدم في اللغة العربية في نفس المعنى الذي نستخدم نحن4 فيه لفظ أصحاب البيت ويدخل بالطبع في هذا المعنى زوجة الرجل وأولاده ولا يستطيع أحد أن يطلق لفظ "أهل البيت" مستثنيا منه   1 منار السبيل: محمد العثمان القاضي ج4 ص66. 2 ولد سنة 1903م في حيدرآباد، وبدأ نشاطه في الصحافة، وأسس الجماعة الإسلامية بلاهور 1941م وانتخب رئيسا لها. سجن عدة مرات وحكم عليه بالإعدام، ثم خفف إلى التأبيد وأطلق سراحه 1955م، واستمر في الدعوة إلى أن نال جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام سنة 1399هـ وتوفي -رحمه الله- سنة 1979م, وله عدد من المؤلفات منها: تفهيم القرآن، تفسير سورة النور، تفسير سورة الأحزاب، ما هي القاديانية؟، الحجاب، الجهاد, وغير ذلك. 3 سورة الأحزاب: من الآية 33. 4 التفسير في أصله مؤلف بالأوردية, ثم ترجم إلى العربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الزوجة، بل إن هذا اللفظ جاء في موضعين آخرين من القرآن الكريم نفسه بمعنى يشمل "الزوجة" في داخله إن لم تكن مقدمة فيه على غيرها، فقد جاء في سورة هود حين بشرت الملائكة إبراهيم -عليه السلام- بولده إسحاق وتعجبت زوجته حين سمعت ذلك وقالت: {يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} فردت عليها الملائكة: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [آيات 72 و73] ، وجاء في سورة القصص حين وصل موسى -عليه السلام- إلى بيت فرعون وهو رضيع وكانت امرأة فرعون تبحث عن مرضعة لترضع موسى فقالت أخته: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} [آية: 12] فاستخدام أهل اللغة إذن واستخدام القرآن نفسه لهذا اللفظ وسياق الآية ذاتها, كل ذلك يدل دلالة قاطعة على أن زوجات النبي المطهرات يدخلن كذلك في أهل بيته صلى الله عليه وسلم, كما يدخل أولاده. بل الأصح أن الخطاب في الآية إليهن أصلا أما أولاده فيدخلون فيه ضمنا وعلى هذا الأساس قال ابن عباس وعروة بن الزبير وعكرمة: إن المراد بأهل البيت في هذه الآية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم1. ثم قال: "وهناك فرقة لم تكتف في تفسير هذه الآية بارتكاب ظلم إخراج نساء النبي من زمرة أهل البيت وقصر اللفظ على سيدنا علي وفاطمة وأولادهما، بل بلغت في الظلم والعسف قدرا أكبر وأعظم, إذ استنتجت من قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} 2، أن عليا وفاطمة وأولادهما -رضي الله عنهم- معصومون كعصمة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام, فهم يقولون: إن المراد بالرجس الخطأ والذنب وقد طهر أهل البيت منه بنص هذه الآية غير أن لفظ الآية لا يقول: إن الله قد أذهب عنكم الرجس وطهركم تماما، بل إن الله يريد إذهاب الرجس عنكم وتطهيركم وسياق الآية وما يتصل بها من قبل ومن بعد لا يفصح عن أن المقصود هنا ذكر   1 تفسير سورة الأحزاب: أبو الأعلى المودودي, ترجمة أحمد إدريس ص66-67. 2 سورة الأحزاب: الآية 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 مناقب أهل البيت إنما الموضوع هنا هو نصح أهل البيت أن افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا؛ لأن الله يريد أن يطهركم. وبألفاظ أخر يعني أنكم إذا اخترتم كذا وكذا من السلوك فسوف تنالكم نعمة الطهر والنظافة وإلا فلا. ذلكم أننا لو فهمنا من قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} أنه قد عصمهم فليس هناك ما يمنعنا من التسليم بأن كل المسلمين المتوضئين والمغتسلين والمتيممين معصومون كذلك؛ لأن الله تعالى قال فيهم: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6] "1. وقد بين المراد بأهل البيت وبالتطهير في الآية السابقة -آية الأحزاب- الدكتور مصطفى زيد فقال في المراد بأهل البيت: "إن نساء النبي هن سبب نزول هذه الآيات، فدخولهن في أهل البيت موضع اتفاق بين جميع المفسرين إما وحدهن على قول، وإما مع غيرهن على قول آخر هو الصحيح"2، ثم ذهب يستدل لما رجحه من القولين وأورد بعد هذا ما زعمه ابن المطهر الحلي من الشيعة بقوله: "وفي هذه الآية دلالة على العصمة مع التأكيد بلفظ "إنما" وإدخال اللام في الخبر والاختصاص في الخطاب بقوله: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} ، وغيرهم ليس بمعصوم ... إلخ"، وعلق الدكتور مصطفى زيد على هذا الزعم بأنه لا اعتبار له وساق بعد هذا نصا لابن تيمية -رحمه الله تعالى- في كتابه: منهاج السنة في الرد على ما زعمه ابن المطهر وهو طويل, لكن فيه البيان كل البيان فليرجع إليه من شاء، وقد عقب الدكتور مصطفى عليه بقوله: "وقد آثرنا أن ننقل عن ابن تيمية هذا النص كاملا بالرغم من طوله؛ لأن مسألة الاستدلال بالآية على الإمامة والعصمة مسألة بالغة الخطر، فإن فيها تحميلا للآية ما لا تحتمله بحال ولا تدل عليه من قريب ولا بعيد, وفيها فوق هذا خروج على مبدأ مقرر ينبغي ألا يكون موضع رأي، وألا يكون محلا لاجتهاد قد يخطئ وقد يصيب, وهذا المبدأ هو الوقوف بالآيات عند ما تدل عليه، دون تكلف ولا انحراف بها عما أنزلت لتقرره, وأنه إذا كان فريق من المفسرين يقصر ما تدل عليه الآية على سبب   1 تفسير سورة الأحزاب: أبو الأعلى المودودي ص68-69. 2 سورة الأحزاب: عرض وتفسير الدكتور مصطفى زيد ص104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 نزولها، فلا أقل من أن يعتبر سبب النزول داخلا دخولا أوليا فيما تدل الآية عليه وهو ما يقرره ويؤكده جمهور المفسرين الذين يرون العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، أما أن يهمل سبب النزول ولا تعتبر الآية دالة عليه مما يوحي بأن له حكما آخر غير الحكم الذي تقرره الآية, فهذا مما يستنكره المفسرون بجملتهم ولا يفترقون في الحكم عليه. لا تدل الآية إذن على حصر أهل البيت في علي وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين, فإن سياقها صريح في النص على دخول نساء النبي فيهم. ومن ثم تقرر بحق أن الآية لم تتعرض للإمامة من قريب أو بعيد. كذلك لا تدل الآية على عصمة أهل بيت الرسول من الخطأ، وإلا ففيم كان دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم بعد نزول الآية؟ وفيم كانت الأوامر والنواهي التي وجهت في الآيات إلى نساء النبي وهن من أهل البيت؟ وفيم كان الوعيد لهن بمضاعفة العذاب ثم الوعد بالأجر المضاعف، حين يأتين بفاحشة وحين يقنتن؟ وأخيرا، فيم كان تذكيرهن بما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة؟ وما السر في أن هذا التذكير لم يجئ في الآيات إلا بعد تقرير أن الله يريد لهن أن يذهب الرجس عنهن، وأن يطهرهن تطهيرا؟ "1. أما الشيخ الغزالي خليل عيد2 -رحمه الله تعالى- فقد بين المراد بأهل البيت عند تفسير الآية بقوله: "وقد اختلف في أهل البيت فقيل: هم زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: هم علي وفاطمة والحسن والحسين خاصة، وقيل, وهو الأولى: هم كل من يكون من إلزام النبي صلى الله عليه وسلم من   1 سورة الأحزاب: عرض وتفسير الدكتور مصطفى زيد ص114-115. 2 ولد شيخنا الغزالي خليل عيد سنة 1911م وتخرج في كلية أصول الدين بالأزهر سنة 1939م ودرس في المعاهد الدينية, ثم صار شيخا لمعهد بني سويف سنة 1969م، ثم عمل مدرسا في كلية الشريعة بالرياض ثم في كلية أصول الدين بها إلى أن توفي -رحمه الله تعالى- أواخر سنة 1402، ومن مؤلفاته: تفسير لأربع عشرة سورة من المفصل، الضياء في أحكام الضعفاء الثلاثة من سورة النساء، تفسير سورة الأحزاب، تفسير سورة الأنفال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 الرجال والنساء والأزواج والإماء والأقارب, وكلما كان الواحد منهم أقرب وبالنبي صلى الله عليه وسلم ألزم وأخص كان أجدر وأحق بالدخول تحت هذا اللقب فيكون أحرى بإرادة الله أن يذهب عنه الرجس"1. أما الشيخ حسنين مخلوف فقد اكتفى بتفسير المراد بأهل البيت بقوله: "هم نساؤه صلى الله عليه وسلم بقرينة لاسياق"2. وإنما أطلت -بعض الإطالة- في بيان هذا؛ لأنه أصل ضلت فيه طائفة الشيعة وتطرفوا في تقريره حتى كان هو أصل ضلالهم ومبدأ انحرافهم, نسأل الله لنا ولهم الهداية. التقية والإكراه: قال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} 3, وقال سبحانه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم} 4. قال الأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي في تفسير الآية الأولى: "إلا أن تتقوا منهم تقاة أي: إلا أن تخافوا منهم مخافة فلكم موالاتهم باللسان دون القلب. وهذا قبل عزة الإسلام ويجري في بلد ليس قويا فيها، قال معاذ بن جبل: كان التقية في بدء الإسلام قبل استحكام الدين وقوة المسلمين، وأما اليوم فقد أعز الله الإسلام فليس ينبغي لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوهم"5، وقال: "هذا, وتدل هذه الآية على أن للمسلم أن يتقي ما يتقي من مضرة الكافرين، وقصارى   1 تفسير سورة الأحزاب: الغزالي خليل عيد ص68. 2 صفوة البيان لمعاني القرآن: حسنين مخلوف ج2 ص183. 3 سورة آل عمران: الآية 28. 4 سورة النحل: الآية 106. 5 تفسير القرآن الحكيم: محمد عبد المنعم خفاجي ج3 ص186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 ما تدل عليه آية سورة النحل أن ذلك من باب الرخص لأجل الضرورات العارضة لا من أصل الدين, المتبعة دائما1؛ ولذلك كان من مسائل الإجماع وجوب الهجرة على المسلم من المكان الذي يخاف فيه من إظهار دينه ويضطر فيه إلى التقية، ومن علامة المؤمن الكامل أن لا يخاف في الله لومة لائم، قال تعالى: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} 2، وقال: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3، وكان النبي وأصحابه يتحملون الأذى في ذات الله ويصبرون، وأما المداراة فيما لا يهدم حقا ولا يبني باطلا فهي كياسة مستحبة يقتضيها أدب المجالسة ما لم تنته إلى حد النفاق والدهان والاختلاق، وتكون مؤكدة في خطاب السفهاء تصونا من سفههم واتقاء لفحشهم"4. وقد فسرها بنحو هذا الشيخ حسنين مخلوف فقال: "إلا أن تتقوا منهم تقاة أي: إلا أن تخافوا منهم مخافة أو تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه من الضرر في النفس أو المال أو العرض, وذلك إذا كان الكفار غالبين ظاهرين أو كنتم في قوم كفار فيرخص لكم في مداراتهم باللسان على أن لا تنطوي قلوبكم على شيء في مودتهم، بل تدارونهم وأنتم لهم كارهون وألا تعملوا ما هو محرم كشرب الخبر، واطلاعهم على عورات المسلمين والانحياز إليهم في مجافاة بعض المسلمين فلا رخصة إلا في المداراة باللسان, وعن معاذ ومجاهد أن هذا الحكم قد نسخ بعد قوة الإسلام, وعن الحسن جواز التقية في كل وقت؛ لدفع الضرر بقدر الإمكان"5. أما الأستاذ محمد رشدي حمادي فقال في تفسيرها: "إلا أن تتقوا منهم تقاة" أي: من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته. قال ابن عباس: ليس التقية بالعمل, إنما التقية باللسان. ويؤيد   1 كما تزعم الشيعة. 2 سورة البقرة: من الآية 150. 3 سورة آل عمران: الآية 175. 4 تفسير القرآن الحكيم: محمد خفاجي ج3 ص188-189. 5 صفوة البيان لمعاني القرآن: حسنين محمد مخلوف ج1 ص103-104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 ما قال ابن عباس, قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} الآية. وقال البخاري: قال الحسن: التقية إلى يوم القيامة. وللتقية أحكام منها: إذا كان الرجل في قوم كفار يخاف منهم على نفسه جاز له أن يظهر المحبة والموالاة ولكن بشرط أن يضمر خلافه ويُعرِّض في كل ما يقول ما أمكن, فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلب, ومنها: أنها رخصة فلو تركها كان أفضل لما روى الحسن: "أنه أخذ مسيلمة الكذاب رجلين من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم، وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة ومحمد رسول قريش فتركه ودعا الآخر, وقال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ فقال: نعم نعم نعم، فقال: أتشهد أني رسول الله؟ فقال: إني أصم ثلاثا, فقدمه وقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئا له، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه"، ونظير هذه الآية: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} 1. ومنها: إنما تجوز فيما يتعلق بإظهار الموالاة والمعاداة. وقد يجوز أن تكون أيضا فيما يتعلق بإظهار الدين, فأما الذي يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنى وغصب الأموال وشهادة الزور وقذف المحصنات واطلاع الكفار على عورات المسلمين, فذلك غير جائز البتة"2. وهأنت ترى أن التقية عند مفسري أهل السنة والجماعة لا تكون إلا عند تحقق الخوف من الكفار, وأنها مع هذا رخصة تركها أفضل، وبشرط أن لا يرجع ضررها إلى غير صاحبها وأنها باللسان لا بالعمل ولا بالقلب. القضاء والقدر: وقد وضح الأستاذ محمد عبد الله الجزار عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان بالقضاء والقدر عند تفسيره لقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ   1 سورة النحل: من الآية 106. 2 موجز تفسير القرآن: محمد رشدي حمادي ج1 ص362-363. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} 1، فقال: "إن عقيدة القضاء والقدر من الدين وإنها لا تنافي اختيار الإنسان وتمكنه من سلوك سبيل السعادة, ففي قوله: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} إثبات أن للعبد مشيئة واختيارا وذلك يقتضي الاجتهاد والسعي وإثبات الأسباب والمسببات وذلك شرع الله. وفي قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} إثبات قدر الله وعموم مشيئته وأنه لا يقع في ملكه شيء قهرا عنه، بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن, وذلك يقتضي الالتجاء إلى الله مع العمل والاستعانة به والتوكل عليه وعدم غرور النفس بقوتها ولا بعلمها, فإن ذلك من ظلمها وجهلها, جعلنا الله وإياكم ممن يتخذ إلى ربه سبيلا وممن يدخلهم سبحانه في رحمته آمين"2. أما الأستاذ محمد رشدي حمادي فقال في تفسير قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 3، قال: " ... ومثل هذه الآية قوله تعالى من هذه السورة: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْوا} [6: 106] ، وقوله منها أيضا: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [36] ، وأيضا: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [39] ، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [5: 51] , وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [11: 118] , وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [10: 99] ، فالآيات في هذا المعنى كلها بيان لسنة الله في خلق الإنسان، وهي حجة على المجبرة والقدرية جميعا لا لهما. وقد تبارى المعتزلة والأشعرية في تطبيق هذه الآيات على مذاهبهما"، ثم قال: " ... وقد احتج السلف بالآية على منكري القدر قبل   1 سورة الإنسان: الآية 30. 2 الذخيرة الدينية في تفسير أجزاء قرآنية: محمد عبد الله الجزار ص539. 3 سورة الأنعام: الآيتان 148-149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 حدوث مذهبي المعتزلة والأشعرية، فقد روى أكثر مدوني التفسير المأثور وأبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه قيل له: إن أناسا يقولون: إن الشر ليس بقدر، فقال ابن عباس: بيننا وبين أهل القدر هذه الآية: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} إلى قوله: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} ، وأخرج أبو الشيخ عن علي بن زيد قال: انقطعت حجة القدرية عن هذه الآية. وقال الحافظ ابن كثير في قوله تعالى في رد الآية على شبهتهم أي بهذه الشبهة: ضل من ضل قبل هؤلاء وهي حجة داحضة باطلة؛ لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه ودمر عليهم وأدال عليهم الرسل الكرام وأذاق المشركين من أليم الانتقام. ا. هـ. وقد جارى أحمد بن المنير صاحب الكشاف على جعل شبهة المشركين عين شبهة المجبرة، ثم جعل الآيتين مبطلتين لمذهبي المعتزلة والمجبرة جميعا"، ثم نقل نص أحمد بن المنير وجاء فيه: " ... وجماع الرد على المجبرة ... في قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} إلى قوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} ، وتتمة الآية رد صراح على طائفة الاعتزال القائلين بأن الله تعالى شاء الهداية منهم أجمعين فلم تقع من أكثرهم ووجه الرد أن "لو" إذا دخلت على فعل مثبت نفته, فيقتضي ذلك أن الله تعالى لما قال: {فَلَوْ شَاءَ} لم يكن الواقع أنه شاء هدايتهم ولو شاءها لوقعت فهذا تصريح ببطلان زعمهم ومحل عقدهم, فإذا ثبت اشتمال الآية على رد عقيدة الطائفتين المذكورتين المجبرة في أولها والمعتزلة في آخرها فاعلم أنها جامعة لعقيدة السنة منطبقة عليها, فإن أولها كما بينا يثبت للعبد اختيارا وقدرة على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان, وآخرها يثبت نفوذ مشيئة الله في العبد وأن جميع أفعاله على وفق المشيئة الإلهية خير أو غيره وذلك عين عقيدتهم فإنهم كما يثبتون للعبد مشيئة وقدره, يسلبون تأثيرهما ويعتقدون أن ثبوتهما قاطع لحجته ملزم له بالطاعة على وفق اختياره ويثبتون نفوذ مشيئة الله أيضا وقدرته في أفعال عباده, فهم كما رأيت تبع للكتاب العزيز يثبتون ما أثبت وينفون ما نفى, مؤيدون بالعقل والنقل, والله الموفق". ا. هـ1.   1 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج2 ص547-550 باختصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 هذه: أمثلة تطبيقية لتفسير أهل السنة والجماعة حسب أصول عقائدهم, ليس قصدنا من إيرادها إثبات مذهب كل مفسر استشهدنا له بتفسير أو إنكار سلامة سواه، بل قصدنا إثبات القول بأصول أهل السنة وتفسيرهم في العصر الحديث. أما القصد الآخر فيثبته إيراد نماذج من مفسري أهل السنة والجماعة وتحقيق ذلك في تفاسيرهم وتطبيقه. ولقد اخترت من تفاسيرهم تفاسير ثلاثة، راعيت فيها أن يكون كل منها شاملا لآيات القرآن الكريم كلها، وأن يكون صاحبها ممن اشتهر بغزير عمله، وسعة اطلاعه، واستقامة أمره، وصلاح سيرته، وصحة مذهبه. ومع هذا, فإني وقد اخترت هذه التفاسير لا أنكر فضل سواها ولا أغمط حق غيرها, وما لنا عذر إلا أن المقام مقام تمثيل وليس مقام استيفاء وشمول, والله الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 نماذج من مفسرى أهل السنة مدخل ... نماذج من مفسري أهل السنة: وهؤلاء الذين وقع عليهم الاختيار: 1- محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي؛ وتفسيره: "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن". 2- عبد الرحمن السعدي؛ وتفسيره: "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان". 3- محمد جمال الدين القاسمي؛ وتفسيره: "محاسن التأويل". وسنبدأ بترجمة موجزة لكل منهم, يعقبها تطبيق لتفسيره على أصول وعقيدة أهل السنة والجماعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 أولا: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن : صاحب التفسير: هو: محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي. مولده: ولد -رحمه الله- سنة 1325 في "تنبة" من أعمال مديرية "كيفا" في شنقيط, وهي دولة موريتانيا الإسلامية الآن. نشأته: توفي والده وهو صغير يقرأ في جزء عم وترك له ثروة من الحيوان والمال, فسكن مع أمه عند أخواله وحفظ القرآن على خاله وعمره عشر سنوات, وتعلم رسم المصحف العثماني على ابن خاله، ودرس الأدب دراسة واسعة على زوجة خاله قال: أخذت عنها مبادئ النحو كالأجرومية وتمرينات ودروس واسعة في أنساب العرب وأيامهم والسيرة النبوية ونظم الغزوات وشروحه1. فكان بيت أخواله المدرسة الأولى له. ثم درس الفقه المالكي وألفية ابن مالك, ثم أخذ بقية الفنون على مشايخ متعددة في فنون مختلفة وكلهم من الجكنيين إلى أن برع فيها. رحلة الحج: أزمع -رحمه الله تعالى- على الحج عن طريق البر وعلى نية العودة بعد الحج, وكان كغيره في نفسه شيء غير قليل من رواسب الشبهات الملصقة بدعوة الشيخ   1 ترجمة للشيخ، رحمه الله: محاضرة ألقاها تلميذه عطية محمد سالم ملحقة في آخر الجزء التاسع من التفسير ص23 منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 محمد بن عبد الوهاب، وما أن وصل إلى البلاد حتى اتصل ببعض علمائها وقرأ بعض كتب الدعوة من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وبعض رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله- جميعا، وكان هذا كافيا لتنقية عقله وفكره مما شابه من تدنيس الخصوم وجلاء الحقيقة أمام ناظريه، وانقلب ثم عزمه على العودة إلى رغبة في البقاء. تدريسه في المسجد النبوي: كان -رحمه الله- يقول: "ليس من عمل أعظم من تفسير كتاب الله في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وتم له ذلك بأمر من جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله1، وبعد أن كان مقتصرا على المذهب المالكي ولما عزم على البقاء وبدأ التدريس في المسجد النبوي وخالط العامة والخاصة وجد من يمثل المذاهب الأربعة ومن يناقش فيها, وقد ظهر ذلك في منهجه في تفسيره: أضواء البيان حينما يعرض لآيات الأحكام فيستوفي أقوال العلماء, ويرجح ما يظهر له بمقتضى الدليل. تدريسه في الرياض: سنة 1371 افتتح في الرياض معهد علمي أعقبه افتتاح كليتي الشريعة واللغة العربية, وقد اختير -رحمه الله- لتدريس التفسير والأصول إلى سنة 1381 حين افتتحت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. عودته إلى المدينة المنورة: عاد -رحمه الله تعالى- إلى المدينة المنورة للتدريس في الجامعة الإسلامية, وفي سنة 1386هـ افتتح في الرياض المعهد العالي للقضاء, فكان -رحمه الله- أستاذا زائرا للتفسير والأصول.   1 ترجمة الشيخ ملحقة بالجزء التاسع من التفسير, كتبها تلميذه عطية محمد سالم ص37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وفي سنة 1391 صدر تشكيل لهيئة كبار العلماء, وكان رحمه الله أحد أعضائها1. وفي رابطة العالم الإسلامي كان عضو المجلس التأسيسي فيه، وكان له فيه خدمات جليلة. وفاته: توفي -رحمه الله تعالى- ضحى يوم الخميس 17/ 12/ 1393هـ بمكة المكرمة مرجعه من الحج, ودفن بمقبرة المعلاة وصلي على جثمانه في الحرم المكي، وفي ليلة الأحد أقيمت عليه صلاة الغائب بالمسجد النبوي. مؤلفاته: من أهم مؤلفاته، رحمه الله تعالى: 1- منع جواز المجاز في المنزَّل للتعبد والإعجاز: وغرضه فيه، نفي ادعاء المجاز في أسماء الله تعالى وصفاته، وإجراؤها على طريقة السلف بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه، وزاد هذا المعنى إيضاحا في كتابه آداب البحث والمناظرة. 2- دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب: أبان فيه مواضع قد يبدو تعارضها عند بعض الناس، وأزال هذه الشبهة بما يجلو هذا العارض. 3- مذكرة الأصول على روضة الناظر: جمع فيها بين أصول الحنابلة والمالكية والشافعية, وألفه لطلبة كليتي الشريعة والدعوة بالجامعة الإسلامية. 4- آداب البحث والمناظرة: بين فيه آداب البحث من إيراد المسائل وبيان الدليل ونحو ذلك, ويقع في جزأين, وهو أيضا مقرر في الجامعة. 5- "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن": ونفرده بالدراسة هنا2.   1 مشاهير علماء نجد وغيرهم: عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ ص146. 2 اقتبسنا هذه الترجمة من: أ- الترجمة التي ألحقها تلميذه عطية محمد سالم بالجزء التاسع من التفسير. ب- علماء ومفكرون عرفتهم: الأستاذ محمد المجذوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 التفسير: "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن": تعريف عام: وصل المؤلف -رحمه الله تعالى- في تفسيره هذا إلى قوله تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} آخر سورة المجادلة، واستغرق هذا سبعة مجلدات. - صدر المجلد الأول في غرة ذي القعدة سنة 1386 في حياة المؤلف. - صدر المجلد الثاني في غرة ذي الحجة سنة 1386 في حياة المؤلف. - صدر المجلد الثالث في ربيع الأول سنة 1383 في حياة المؤلف. - صدر المجلد الرابع في غرة ذي القعدة سنة 1384 في حياة المؤلف. - صدر المجلد الخامس في غرة ربيع الأول سنة 1390 في حياة المؤلف. - صدر المجلد السادس في غرة محرم سنة 1392 في حياة المؤلف. - صدر المجلد السابع في شهر شوال سنة 1396 بعد وفاة المؤلف -رحمه الله- ثم أكمل التفسير من بعده تلميذه عطية محمد سالم في مجلدين كبيرين. - صدر المجلد الثامن وهو الأول من التتمة في شهر رمضان سنة 1397هـ. - صدر المجلد التاسع وهو الثاني بدون تاريخ وفيه تفسير جزء عم، وضم معه بعض مؤلفات الشيخ -رحمه الله- وهي رسالة في الناسخ والمنسوخ ثم رسالة منع جواز المجاز عن المنزل للتعبد والإعجاز، ثم دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب ثم محاضرة لتلميذه الشيخ عطية محمد سالم وهي ترجمة لحياة الشيخ، رحمه الله تعالى. منهجه: بين المؤلف -رحمه الله تعالى- غرضه من تأليف هذا التفسير بقوله: "واعلم أن من أهم المقصود بتأليفه أمرين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 "أحدهما: بيان القرآن بالقرآن لإجماع العلماء على أن أشرف أنواع التفسير وأجلها تفسير كتاب الله بكتاب الله. إذ لا أحد أعلم بمعنى كلام الله جل وعلا من الله جل وعلا، وقد التزمنا أنا لا نبين القرآن إلا بقراءة سبعية سواء كانت قراءة أخرى في الآية المبينة نفسها، أو آية أخرى غيرها. ولا نعتمد على البيان بالقراءات الشاذة وربما ذكرنا القراءة الشاذة استشهادا للبيان بقراءة سبعية، وقراءة أبي جعفر ويعقوب وخلف ليست من الشاذ عندنا ولا عند المحققين من أهل العلم بالقراءات. والثاني: بيان الأحكام الفقهية في جميع الآيات المبينة -بالفتح- في هذا الكتاب، فإننا نبين ما فيها من الأحكام وأدلتها من السنة وأقوال العلماء في ذلك, ونرجح ما ظهر لنا أنه الراجح بالدليل من غير تعصب لمذهب معين ولا لقول قائل معين؛ لأننا ننظر إلى ذات القول لا إلى قائله لأن كل كلام فيه مقبول ومردود إلا كلامه -صلى الله عليه وسلم- ومعلوم أن الحق حق ولو كان قائله حقيرا. وقد تضمن هذا الكتاب أمورا زائدة على ذلك, كتحقيق بعض المسائل اللغوية وما يحتاج إليه من صرف وإعراب والاستشهاد بشعر العرب وتحقيق ما يحتاج إليه فيه من المسائل الأصولية والكلام على أسانيد الأحاديث كما ستراه إن شاء الله تعالى"1. وقال أيضا في بيان منهجه، رحمه الله تعالى: "واعلم أن مما التزمنا في هذا الكتاب المبارك أنه إن كان للآية الكريمة مبين من القرآن غير واف بالمقصود من تمام البيان, فإنا نتمم البيان من السنة من حيث إنها تفسير للمبين باسم الفاعل"2. وقال أيضا: "وربما كان في الآية الكريمة أقوال كلها حق وكل واحد منها يشهد له قرآن, فإنا نذكرها ونذكر القرآن الدال عليها, من غير تعرض لتجريح بعضها؛ لأن كل واحد منها صحيح"3.   1 أضواء البيان في إيضاح القرآن: محمد الأمين الشنقيطي ج1 ص3-4. 2 المرجع السابق: ج1 ص24. 3 المرجع السابق: ج1 ص20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وقد التزم -رحمه الله تعالى- بهذا, فالتزم تفسير القرآن بالقرآن معتمدا على القراءات السبع مبتعدا عن القراءات الشاذة, ومستندا إلى السنة النبوية الطاهرة, معتبرا لأقوال العلماء الثقات، لا يتعصب لرأي، ولا يحقر قولا, بل ينظر إلى ذات القول لا إلى قائله، يستوفي الأقوال ويرجح بالدليل والبرهان, إن كنت أصوليا وجدت في تفسيره دقائقه، وإن كنت من علماء الحديث وجدت فيه بدائعه، وإن كنت فقيها وجدت فيه وفاءه، وإن كنت من علماء العقيدة وجدت فيه صفاءها ونقاءها، بل عقيدة أهل السنة والجماعة التي لا تشوبها شائبة، وإن كنت من علماء كل هذا وجدت فيه رواءك وشفاءك. نماذج من تفسيره: الأسماء والصفات: أفرد المؤلف -رحمه الله تعالى- آيات الأسماء والصفات برسالة خاصة بيّن فيها أن كثرة الخوض والتعمق في البحث في آيات الصفات وكثرة الأسئلة في ذلك الموضوع, من البدع التي يكرهها السلف1. ثم أجمل الحديث عن آيات الصفات فقال عنها: دل القرآن العظيم أنه -أي مبحث آيات الصفات- يتركز على ثلاثة أسس من جاء بها كلها فقد وافق الصواب وكان على الاعتقاد الذي كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه والسلف الصالح, ومن أخلّ بواحد من تلك الأسس الثلاثة فقد ضل, وكل هذه الأسس الثلاثة يدل عليها قرآن عظيم. أحد هذه الأسس الثلاثة هو تنزيه الله جل وعلا عن أن يشبه شيء من صفاته شيئا من صفات المخلوقين, وهذا الأصل يدل عليه قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 2، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 3، {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} 4.   1 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات: ص5, تأليف محمد الأمين الشنقيطي. 2 سورة الشورى: من الآية 11. 3 سورة الإخلاص: الآية 4. 4 سورة النحل: من الآية 74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 الثاني من هذه الأسس: هو الإيمان بما وصف الله به نفسه؛ لأنه لا يصف الله أعلم بالله من الله {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} 1، والإيمان بما وصفه به رسوله -صلى الله عليه وسلم- لأنه لا يصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي قال في حقه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 2، 3. ولم يذكر -رحمه الله تعالى- الأساس الثالث هنا, لكنه في آخر بحثه قال: "هذه الأسس الثلاثة التي ركزنا عليها البحث وهي: 1- تنزيه الله عن مشابهة الخلق. 2- الإيمان بالصفات الثابتة بالكتاب والسنة, وعدم التعرض لنفيها. 3- قطع الطمع عن إدراك الكيفية"4. ذلكم مجمل موقفه -رحمه الله تعالى- من آيات الصفات. إثبات الرؤية: أبطل -رحمه الله تعالى- مذهب المعتزلة في إنكار رؤية الله تعالى يوم القيامة واستدلالهم بقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} 5, فقال: "استدل المعتزلة النافون لرؤية الله بالأبصار يوم القيامة بهذه الآية على مذهبهم الباطل، وقد جاءت آيات تدل على أن نفي الرؤية المذكورة، إنما هو في الدنيا، وأما في الآخرة فإن المؤمنين يرونه جل وعلا بأبصارهم كما صرح الكفار"6،   1 سورة البقرة: من الآية 140. 2 سورة النجم: الآيتان 3 و4. 3 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات: محمد الأمين الشنقيطي ص5. 4 المرجع السابق: ص27-28, وانظر تفسيره أضواء البيان ج2 ص272-288 ففيه البيان الوافي. 5 سورة الأعراف: من الآية 143. 6 هكذا وردت, ولعل العبارة: "كما صرح بحجب الكفار". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 1، فإنه يفهم من مفهوم مخالفته أن المؤمنين ليسوا محجوبين عنه جل وعلا. وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 2: "الحسنى: الجنة, والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم"، وذلك هو أحد القولين في قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} 3, وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم" , وتحقيق المقام في المسألة: أن رؤية الله جل وعلا بالأبصار جائزة عقلا في الدنيا والآخرة، ومن أعظم الأدلة على جوازها عقلا في دار الدنيا، قول موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} لأن موسى لا يخفى عليه الجائز والمستحيل في حق الله تعالى, وأما شرعا فهي جائزة وواقعة في الآخرة كما دلت عليه الآيات المذكورة، وتواترت به الأحاديث الصحاح, وأما في الدنيا فممنوعة شرعا كما تدل عليه آية الأعراف هذه، وحديث: "إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا" كما أوضحناه في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب"4. الاستواء: قدم -رحمه الله تعالى- لحديثه عن الاستواء بمقدمة وافية كافية عن صفات الله تعالى عموما, ثم قال: وأمثال هذا من الصفات الجامعة كثير في القرآن. ومعلوم أنه جل وعلا متصف بهذه الصفات المذكورة حقيقة على الوجه اللائق بكماله وجلاله، وأن ما وصف به المخلوق منها مخالف لما وصف به الخالق، كمخالفة ذات الخالق جل وعلا لذوات الحوادث ولا إشكال في شيء من ذلك. إلى أن قال: فإذا حققت كل ذلك علمت أنه جل وعلا وصف نفسه بالاستواء على العرش، ووصف غيره بالاستواء على بعض المخلوقات   1 سورة المطففين: الآية 15. 2 سورة يونس: من الآية 26. 3 سورة ق: من الآية 35. 4 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج2 ص297-298. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 فتمدح جل وعلا في سبع آيات من كتابه باستوائه على عرشه ولم يذكر صفة الاستواء إلا مقرونة بغيرها من صفات الكمال والجلال القاضية بعظمته وجلاله -جل وعلا- وأنه الرب وحده المستحق لأن يعبد وحده ... ثم ذكر -رحمه الله تعالى- الآيات السبع عن الاستواء في الأعراف وفي سورة يونس وفي سورة الرعد وفي سورة طه وفي سورة الفرقان وفي سورة السجدة وفي سورة الحديد، ثم قال: وقال جل وعلا في وصف الحادث بالاستواء على بعض المخلوقات: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} 1، {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} 2 الآية، {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} 3 الآية, ونحو ذلك من الآيات, وقد علمت مما تقدم أنه لا إشكال في ذلك وأن للخالق جل وعلا استواء لائقا بكماله وجلاله, وللمخلوق أيضا استواء مناسبا لحاله، وبين استواء الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق, على نحو: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 4 كما تقدم إيضاحه5. يد الله تعالى: قال رحمه الله تعالى: كل لفظ دل على صفة الخالق ظاهره المتبادر منه أن يكون لائقا بالخالق منزها عن مشابهة صفات الخلق، وكذلك اللفظ الدال على صفة المخلوق لا يعقل أن تدخل فيه صفة الخالق، فالظاهر المتبادر من لفظ اليد بالنسبة للمخلوق هو كونها جارحة وهي عظم ولحم ودم، وهذا هو الذي يتبادر إلى الذهن في نحو قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 6، والظاهر المتبادر من اليد بالنسبة للخالق في نحو قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ   1 سورة الزخرف: من الآية 13. 2 سورة المؤمنون: من الآية 28. 3 سورة هود: من الآية 44. 4 سورة الشورى: من الآية 11. 5 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج2 ص282-285 بتلخيص. 6 سورة المائدة: من الآية 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 بِيَدَيَّ} 1 أنها صفة كمال وجلال، لائقة بالله جل وعلا ثابتة له على الوجه اللائق بكماله وجلاله ... ولا يصح هنا تأويل اليد بالقدرة البتة لإجماع أهل الحق والباطل كلهم على أنه لا يجوز تثنية القدرة. ولا يخطر في ذهن المسلم المراجع عقله دخول الجارحة التي هي عظم ولحم ودم في معنى هذا اللفظ الدال على هذه الصفة العظيمة من صفات خالق السموات والأرض, فاعلم أيها المدعي أن ظاهر لفظ اليد في الآية المذكورة وأمثالها لا يليق بالله؛ لأن ظاهرها التشبيه بجارحة الإنسان وأنها يجب صرفها عن هذا الظاهر الخبيث، ولم تكتف بهذا حتى ادعيت الإجماع على صرفها عن ظاهرها أن قولك هذا كله افتراء عظيم على الله تعالى وعلى كتابه العظيم، وأنك بسببه كنت أعظم المشبهين والمجسمين وقد جرك شؤم هذا التشبيه إلى ورطة التعطيل، فنفيت الوصف الذي أثبته الله في كتابه لنفسه بدعوى أنه لا يليق به وأولته بمعنى آخر من تلقاء نفسك بلا مستند من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قول أحد من السلف. وماذا عليك لو صدقت الله وآمنت بما مدح به نفسه على الوجه اللائق بكماله وجلاله من غير كيف ولا تشبيه ولا تعطيل؟ وبأي موجب سوغت لذهنك أن يخطر فيه صفة المخلوق عند ذكر صفة الخالق؟ هل تلتبس صفة الخالق بصفة المخلوق عن2 أحد, حتى يفهم صفة المخلوق من اللفظ الدال على صفة الخالق؟ فاخشَ الله يا إنسان واحذر من التقول على الله بلا علم، وآمن بما جاء في كتاب الله مع تنزيه الله عن مشابهة خلقه, واعلم أن الله الذي أحاط علمه بكل شيء لا يخفى عليه الفرق بين الوصف اللائق به والوصف غير اللائق به حتى يأتي إنسان فيتحكم في ذلك فيقول: هذا الذي وصفت به نفسك غير لائق بك وأنا أنفيه عنك بلا مستند منك ولا من رسولك وآتيك بدله بالوصف اللائق بك. فاليد مثلا التي وصفت بها نفسك لا تليق بك لدلالتها على التشبيه بالجارحة، وأنا أنفيها عنك نفيا باتا، وأبدلها لك بوصف لائق بك وهو النعمة أو القدرة مثلا أو الجود!! سبحانك هذا بهتان عظيم3.   1 سورة ص: من الآية 75. 2 هكذا وردت ولعلها: "عند أحد". 3 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج7 ص444-446 بتلخيص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وقال أيضا: "فإن قيل: إن هذا القرآن العظيم نزل بلسان عربي مبين والعرب لا تعرف في لغتها كيفية لليد مثلا إلا كيفية المعاني المعروفة عندها, كالجارحة وغيرها من معاني اليد المعروفة في اللغة, فبينوا لنا كيفية لليد ملائمة لما ذكرتم, فالجواب من وجهين: الوجه الأول: أن العرب لا تدرك كيفيات صفات الله من لغتها؛ لشدة منافاة صفة الله لصفة الخلق، والعرب لا تعرف عقولهم كيفيات إلا لصفات الخلق, فلا تعرف العرب كيفية للسمع والبصر إلا هذه المشاهدة في حاسة الأذن والعين، أما سمع لا يقوم بأذن، وبصر لا يقوم بحدقة، فهذا لا يعرفون له كيفية البتة، فلا فرق بين السمع والبصر، وبين اليد والاستواء، فالذي تعرف كيفيته العرب من لغتها من جميع ذلك هو المشاهد في المخلوقات. وأما الذي اتصف الله به من ذلك فلا تعرف له العرب كيفية، ولا حدا لمخالفة صفاته لصفات الخلق إلا أنهم يعرفون من لغتهم أصل المعنى، كما قال الإمام مالك، رحمه الله: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، كما يعرفون من لغتهم أن بين الخالق والمخلوق والرزق والمرزوق والمحيي والمحيا، والمميت والممات فوارق عظيمة لا حد لها، تستلزم المخالفة التامة بين صفات الخالق والمخلوق. الوجه الثاني: أن نقول لمن قال: بينوا لنا كيفية لليد ملائمة لما ذكرتم من كونها صفة كمال وجلال منزهة عن مشابهة جارحة المخلوق: هل عرفت كيفية الذات المقدسة المتصفة باليد، فلا بد أن يقول: لا, فإن قال ذلك قلنا: معرفة كيفية الصفات تتوقف على معرفة كيفية الذات, فالذات والصفات من باب واحد، فكما أن ذاته جل وعلا تخالف جميع الذوات, فإن صفاته تخالف جميع الصفات، ومعلوم أن الصفات تختلف وتتباين باختلاف موصوفاتها، ألا ترى مثلا أن لفظ رأس كلمة واحدة؟ إن أضفتها إلى الإنسان فقلت: رأس الإنسان، وإلى الوادي فقلت: رأس الوادي، وإلى المال فقلت: رأس المال، وإلى الجبل فقلت: رأس الجبل، فإن كلمة رأس اختلفت معانيها وتباينت تباينا شديدا بحسب اختلاف إضافتها مع أنها في مخلوقات حقيرة. فما بالك بما أضيف من الصفات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 إلى الله وما أضيف منها إلى خلقه, فإنه يتباين كتباين الخالق والمخلوق، كما لا يخفى"1. سلامة القرآن من التحريف: قال رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2: "بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي نزل القرآن العظيم, وأنه حافظ له من أن يزاد فيه أو ينقص أو يتغير منه شيء أو يبدل، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ, لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 3، وقول: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ, إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} إلى قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} 4, وهذا هو الصحيح في معنى هذه الآية أن الضمير في قوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} راجع إلى الذكر الذي هو القرآن, وقيل: الضمير راجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} 5 والأول هو الحق كما يتبادر من ظاهر السياق"6. ظاهر القرآن: عند قول تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 7، رد رحمه الله تعالى على الذين يصرفون آيات القرآن الكريم عن ظاهرها حتى زعم أحدهم أن العلماء قالوا: إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر، رد رحمه الله تعالى على هذا الزعم ونحوه فقال: "من هم العلماء الذين قالوا: إن   1 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج7 ص449-451. 2 سورة الحجر: الآية 9. 3 سورة فصلت: الآية 42. 4 سورة القيامة: الآية 16-19. 5 سورة المائدة: من الآية 67. 6 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج3 ص107. 7 سورة محمد: الآية 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر؟ سموهم لنا، وبينوا لنا: من هم؟ والحق الذي لا شك فيه أن هذا القول لا يقوله عالم ولا متعلم؛ لأن ظواهر الكتاب والسنة هي نور الله الذي أنزله على رسوله ليستضاء به في أرضه وتقام به حدوده، وتنفذ به أوامره، وينصف به بين عباده في أرضه، والنصوص القطعية التي لا احتمال فيها قليلة جدا لا يكاد يوجد منها إلا أمثلة قليلة جدا كقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} 1. والغالب الذي هو الأكثر هو كون نصوص الكتاب والسنة ظواهر، وقد أجمع جميع المسلمين على أن العمل بالظاهر واجب حتى يرد دليل شرعي صارف عنه، إلى المحتمل المرجوح، وعلى هذا كل من تكلم في الأصول. فتنفير الناس وإبعادهم عن كتاب الله وسنة رسوله بدعوى أن الأخذ بظواهرهما من أصول الكفر هو من أشنع الباطل وأعظمه كما ترى, وأصول الكفر يجب على كل مسلم أن يحذر منها كل الحذر ويتباعد منها كل التباعد ويتجنب أسبابها كل الاجتناب, فيلزم على هذا القول المنكر الشنيع وجوب التباعد من الأخذ بظواهر الوحي"2. وفي تفسير قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} 3, قال: "وحاصل تحرير مسألة التأويل عند أهل الأصول أنه لا يخلو من واحدة من ثلاث حالات بالتقسيم الصحيح: الأولى: أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره بدليل صحيح في نفس الأمر يدل على ذلك، وهذا هو التأويل المسمى عندهم بالتأويل الصحيح والتأويل القريب ... ثم ضرب له مثالا. الحالة الثانية: أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره لأمر يظنه الصارف دليلا وليس بدليل في نفس الأمر, وهذا هو المسمى عندهم بالتأويل الفاسد والتأويل البعيد ... ثم ضرب لها مثالا.   1 سورة البقرة: من الآية 196. 2 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج7 ص442-443. 3 سورة آل عمران: من الآية 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 الحالة الثالثة: أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره لا دليل له أصلا، وهذا يسمى في اصطلاح الأصوليين لعبا, كقول بعض الشيعة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} 1 يعني عائشة, رضي الله عنها"2. الإمامة: في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} 3, قال "قال مقيده, عفا الله عنه": من الواضح المعلوم من ضرورة الدين أن المسلمين يجب عليهم نصب إمام تجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام الله في أرضه, ولم يخالف في هذا إلا من لا يعتد به ... وأكثر العلماء على أن وجوب الإمامة الكبرى بطريق الشرع كما دلت عليه الآية المتقدمة وأشباهها وإجماع الصحابة -رضي الله عنهم- ولأن الله قد يزع بالسلطان ما لا يزعه بالقرآن وكما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} 4؛ لأن قوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} ، فيه إشارة إلى إعمال السيف عند الإباء بعد إقامة الحجة ... واعلم أن ما تتقوله الإمامية من المفتريات على أبي بكر وعمر وأمثالهما من الصحابة، وما تتقوله في الاثني عشر إماما، وفي الإمام المنتظر المعصوم ونحو ذلك من خرافاتهم وأكاذيبهم الباطلة كله باطل لا أصل له، وإذا أردت الوقوف على تحقيق ذلك فعليك بكتاب: "منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية" للعلامة الوحيد الشيخ تقي الدين أبي العباس ابن تيمية -تغمده الله برحمته- فإنه جاء فيه بما لا مزيد عليه من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة على إبطال جميع تلك الخرافات المختلفة"5.   1 سورة البقرة: من الآية 67. 2 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج1 ص234-235. 3 سورة البقرة: من الآية 30. 4 سورة الحديد: من الآية 25. 5 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج1 ص50-51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 لا رجعة قبل يوم القيامة: قال رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} 1: بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا عاينوا الحقيقة يوم القيامة يقرون بأن الرسل جاءت بالحق ويتمنون أحد امرين: أن يشفع لهم شفعاء فينقذوهم، أو يردوا إلى الدنيا ليصدقوا الرسل ويعملوا بما يرضي الله, ولم يبين هنا هل يشفع لهم أحد؟ وهل يردون؟ وماذ يفعلون لو ردوا؟ وهل اعترافهم ذلك بصدق الرسل ينفعهم؟ ولكنه تعالى بين ذلك كله في مواضع أخر؛ فبين أنهم لا يشفع لهم أحد بقوله: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} 2.. الآية، وقوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} 3، وقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} 4، مع قوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} 5، وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} 6. وبين أنهم لا يردون في مواضع متعددة كقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ، وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} 7، فقوله: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} الآية, دليل على أن النار وجبت لهم فلا يردون ولا يعذرون، وقوله: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} 8، فصرح بأنه قطع عذرهم في الدنيا بالإمهال مدة يتذكرون فيها   1 سورة الأعراف: من الآية 53. 2 سورة الشعراء: من الآية 100. 3 سورة المدثر: الآية 48. 4 سورة الأنبياء: من الآية 28. 5 سورة الزمر: من الآية 7. 6 سورة التوبة: من الآية 96. 7 سورة السجدة: الآيتان 12-13. 8 سورة فاطر: من الآية 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وإنذار الرسل، وهو دليل على عدم ردهم إلى الدنيا مرة أخرى, وأشار إلى ذلك بقوله: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} 1 جوابا لقولهم: {أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} ، وقوله: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} 2، بعد قوله تعالى عنهم: {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} 3، وقوله: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} 4 ... الآية, بعد قوله: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} ، وقوله هنا: {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} ... الآية, بعد قوله: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ} ... الآية, فكل ذلك يدل على عدم الرد إلى الدنيا وعلى وجوب العذاب، وأنه لا محيص لهم عنه5. الميزان: قرر رحمه الله تعالى أن ظاهر القرآن الكريم يدل على تعدد الموازين لكل شخص فقال: "وقوله في هذه الآية الكريمة": {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ} 6, جمع ميزان وظاهر القرآن تعدد الموازين لكل شخص لقوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} 7، وقوله: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} 7، فظاهر القرآن يدل على أن للعامل الواحد موازين يوزن بكل واحد منها صنف من أعماله, كما قال الشاعر: ملك تقوم الحادثات لعدله ... فلكل حادثة لها ميزان والقاعدة المقررة في الأصول أن ظاهر القرآن لا يجوز العدول عنه إلا   1 سورة إبراهيم: من الآية 44. 2 سورة غافر: من الآية 12. 3 سورة غافر: من الآية 11. 4 سورة الشورى: من الآية 45. 5 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج2 ص270-271. 6 سورة الأنبياء: من الآية 47. 7 سورة الأعراف: من الآيتين 8 و9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 بدليل يجب الرجوع إليه, وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة: "الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد, وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه"1. الموالاة والمعاداة: قال رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} 2, وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي والزجر العظيم عن موالاة أعداء الله جاء موضحا في آيات أخر, كقوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 3، وقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 4، وقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} 5، وقوله تعالى: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} 6 ... الآية، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} 7، إلى غير ذلك من الآيات8. وقال رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} 9: ذكر في هذه الآية الكريمة أن من تولى اليهود والنصارى من المسلمين فإنه يكون منهم بتوليه إياهم, وبين في موضع آخر أن توليهم موجب لسخط الله   1 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج4 ص584-585. 2 سورة المجادلة: من الآية 22. 3 الممتحنة: من الآية 4. 4 سورة الفتح: من الآية 29. 5 سورة المائدة: من الآية 54. 6 سورة التوبة: من الآية 123. 7 سورة التوبة: من الآية 73. 8 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج7 ص824-825. 9 سورة المائدة: من الآية 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 والخلود في عذابه وأن متوليهم لو كان مؤمنا ما تولاهم، وهو قوله تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} 1. ونهى في موضع آخر عن توليهم مبينا سبب التنفير منه وهو قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} 2. إلى أن قال رحمه الله تعالى: "ويفهم من ظواهر هذه الآيات أن من تولى الكفار عمدا اختيارا رغبة فيهم, أنه كافر مثلهم"3. محبة الصحابة: قال رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} ... الآية4: ولا يخفى أنه تعالى صرح في هذه الآية الكريمة أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان وهو دليل قرآني صريح في أن من يسبهم ويبغضهم أنه ضال مخالف لله جل وعلا، حيث أبغض من رضي الله عنه، ولا شك أن من أبغض من رضي الله عنه مضاد له جل وعلا، وتمرد وطغيان5. أهل البيت: رد رحمه الله تعالى على بعض العلماء الذين قالوا: إن أزواجه -صلى الله عليه وسلم- لا يدخلن في أهل بيته في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ   1 سورة المائدة: من الآية 80-81. 2 سورة الممتحنة: من الآية 13. 3 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج2 ص98-99. 4 سورة التوبة: من الآية 100. 5 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج2 ص424. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} 1 بأن قرينة السياق صريحة في دخولهن؛ لأن الله تعالى قال: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ} ، ثم قال في نفس خطابه لهن: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} ، ثم قال بعده: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} ... الآية. وقد أجمع جمهور علماء الأصول على أن صورة سبب النزول قطعية الدخول, فلا يصح إخراجها بمخصص. والتحقيق إن شاء الله أنهن داخلات في الآية وإن كانت الآية تتناول غيرهن من أهل البيت2. وبين المراد بإذهاب الرجس عنهم فقال: "يعني أنه يذهب الرجس عنهم ويطهرهم بما يأمر به من طاعة الله وينهى عنه من معصيته؛ لأن من أطاع الله أذهب عنه الرجس وطهره من الذنوب تطهيرا"3. أما المراد بالمودة في القربى من قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} 4، فقال: "والتحقيق إن شاء الله, أن معنى الآية هو القول الأول {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي: إلا أن تودوني في قرابتي فيكم وتحفظوني فيها, فتكفوا عني أذاكم وتمنعوني من أذي الناس كما هو شأن أهل القرابات"5. القضاء والقدر: قال رحمه الله تعالى: إن في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} 6، وفي قوله سبحانه: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} 7، وفي قوله سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ   1 سورة الأحزاب: من الآية 33. 2 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج7 ص577. 3 المرجع السابق ج7 ص579. 4 سورة الشورى: من الآية 23. 5 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج7 ص192. 6 سورة الزخرف: الآية 20. 7 سورة الأنعام: من الآية 148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا} 1 إشكالا، ووجه الإشكال أن الله صرح بكذبهم في هذه الدعوى التي ظاهرها حق. وأجاب عن هذا بأن مراد الكفار بقولهم: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} ، وقولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} , مرادهم به: أن الله لما كان قادرا على منعهم من الشرك وهدايتهم إلى الإيمان ولم يمنعهم من الشرك دل ذلك على أنه راضٍ منهم بالشرك في زعمهم, قالوا: لأنه لو لم يكن راضيا به لصرفنا عنه, فتكذيب الله لهم في الآيات المذكورة منصب على دعواهم أنه راض به والله جل وعلا يكذب هذه الدعوى في الآيات المذكورة, وفي قوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} 2.فالكفار زعموا أن الإرادة الكونية القدرية تستلزم الرضى وهو زعم باطل وهو الذي كذبهم الله فيه في الآيات المذكورة3. إلى أن قال رحمه الله تعالى: وحاصل هذا أن الله تبارك وتعالى قدَّر مقادير الخلق قبل أن يخلق الخلق، وعلم أن قوما صائرون إلى الشقاء وقوما صائرون إلى السعادة، فريقا في الجنة وفريقا في السعير. وأقام الحجة على الجميع، ببعث الرسل وتأييدهم بالمعجزات التي لا تترك في الحق لبسا, فقامت عليهم حجة الله في أرضه لذلك، ثم إنه تعالى وفق من شاء توفيقه، ولم يوفق من سبق لهم في علمه الشقاء الأزلي4، وخلق لكل واحد منهم قدرة وإرادة يقدر بها على تحصيل الخير والشر وصرف قدرهم وإرادتهم بقدرته وإرادته إلى ما سبق لهم في علمه من أعمال الخير المستوجبة للسعادة، وأعمال الشر المستوجبة للشقاء فأتوا كل ما أتوا وفعلوا كل ما فعلوا، طائعين مختارين غير مجبورين ولا مقهورين: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 5، {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 6.   1 سورة النحل: من الآية 35. 2 سورة الزمر: من الآية 7. 3 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج7 ص221، 222 باختصار. 4 كذا, ولعلها: "في علمه الأزلي" الشقاء. 5 سورة الإنسان: الآية 30. 6 سورة الأنعام: من الآية 149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وادعاء أن العبد مجبور لا إرادة له ضروري السقوط عند عامة العقلاء، ومن أعظم الضروريات الدالة عليه أن كل عاقل يعلم أن بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية كحركة المرتعش فرقا ضروريا لا ينكره عاقل, إنك لو ضربت من يدعي أن الخلق مجبورون، وفقأت عينه مثلا، وقتلت ولده واعتذرت له بالجبر فقلت له: أنا مجبور ولا إرادة لي في هذا السوء الذي فعلته بك، بل هو فعل الله، وأنا لا دخل لي فيه؛ فإنه لا يقبل منك هذه الدعوى بلا شك، بل يبالغ في إرادة الانتقام منك قائلا: إن هذا بإرادتك ومشيئتك. ومن أعظم الأدلة القطعية الدالة على بطلان مذهب القدرية، وأن العبد لا يستقل بأفعاله دون قدرة الله ومشيئته، أنه لا يمكن لأحد أن ينكر علم الله بكل شيء قبل وقوعه, والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا ينكرها إلا مكابر، وسبق علم الله بما يقع من العبد قبل وقوعه برهان قاطع على بطلان تلك الدعوى، وإيضاح ذلك أنك لو قلت للقدري: إذا كان علم الله في سابق أزله تعلق بأنك تقع منك السرقة أو الزنى في محل كذا في وقت كذا, وأردت أنت بإرادتك المستقلة في زعمك دون إرادة الله ألا تفعل تلك السرقة أو الزنى الذي سبق بعلم الله وقوعه، فهل يمكنك أن تستقل بذلك وتصير علم الله جهلا, بحيث لا يقع ما سبق في علمه وقوعه في وقته المحدد له؟ والجواب بلا شك هو أن ذلك لا يمكن بحال كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 1. إنكار البداء على الله جل وعلا: وفي قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 2. قال رحمه الله تعالى: "وما زعمه المشركون واليهود من أن النسخ مستحيل على الله لأنه يلزمه البداء وهو الرأي المتجدد, ظاهر السقوط واضح البطلان لكل عاقل؛ لأن النسخ لا يلزمه البداء البتة، بل الله جل وعلا يشرع الحكم وهو عالم بأن مصلحته ستنقضي في الوقت   1 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج7 ص223-225. 2 سورة النحل: الآية 101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 المعين، وأنه عند ذلك الوقت ينسخ ذلك الحكم ويبدله بالحكم الجديد الذي فيه المصلحة, فإذا جاء ذلك الوقت المعين أنجز جل وعلا ما كان في علمه السابق من نسخ ذلك الحكم الذي زالت مصلحته بذلك الحكم الجديد الذي فيه المصلحة كما أن حدوث المرض بعد الصحة وعكسه، وحدوث الغنى بعد الفقر وعكسه، ونحو ذلك لا يلزم فيه البداء؛ لأن الله عالم بأن حكمته الإلهية تقتضي ذلك التغيير في وقته المعين له, على وفق ما سبق في العلم الأزلي كما هو واضح. وقد أشار جل وعلا إلى علمه بزوال المصلحة من المنسوخ وتمحضها في الناسخ بقوله هنا: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّل} , وقوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1، وقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} 2، فقوله: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} بعد قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} ، يدل على أنه أعلم بما ينزل، فهو عالم بمصلحة الإنسان ومصلحة تبديل الجديد من الأول المنسي3. الشفاعة: في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} 4. قال رحمه الله تعالى: "ظاهر هذه الآية عدم قبول الشفاعة مطلقا يوم القيامة, ولكنه بين في مواضع أخر أن الشفاعة المنفية هي الشفاعة للكفار والشفاعة لغيرهم بدون إذن رب السموات والأرض، أما الشفاعة للمؤمنين بإذنه فهي ثابتة بالكتاب، والسنة، والإجماع فنص على عدم الشفاعة للكفار بقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} 5، وقد قال: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} 6 ... " إلى أن قال: "هذا   1 سورة البقرة: الآية 106. 2 سورة الأعلى: الآية 6 و7. 3 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج3 ص328. 4 سورة البقرة: الآية 48. 5 سورة الأنبياء: من الآية 28. 6 سورة الزمر: من الآية 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 الذي قررنا من أن الشفاعة للكفار مستحيلة شرعا مطلقا, يستثنى منه شفاعته -صلى الله عليه وسلم- لعمه أبي طالب في نقله من محل من النار إلى محل آخر منها, كما ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- في الصحيح, فهذه الصورة التي ذكرنا من تخصيص الكتاب بالسنة"1. دقته في استخراج الأحكام: إلى جانب التزامه -رحمه الله تعالى- منهج أهل السنة والجماعة في التفسير, فإن الله قد آتاه قسطا وافرا من فهم عميق وعميق الفهم يدرك به مدلول الإشارة, ويغوص به في دقائق الأمور فيجلوها ويوضح ما لا يفطن إليه إلا مثله، ولهذا نضرب مثالا: أينا يفهم من قوله تعالى: " {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ, صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [سورة الفاتحة: آية 7] ؟ أينا يفهم دلالتها على صحة إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه؟ ولنقرأ له -رحمه الله تعالى- تقرير ذلك حيث قال: "يؤخذ من هذه الآية صحة إمامة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- لأنه داخل فيمن أمرنا الله في السبع المثاني والقرآن العظيم -أعني الفاتحة- بأن نسأله أن يهدينا صراطهم. فدل ذلك على أن صراطهم هو الصراط المستقيم وذلك في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ، وقد بين الذين أنعم عليهم فعد منهم الصديقين2. وقد بين صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر -رضي الله عنه- من الصديقين, فاتضح أنه داخل في الذين أنعم الله عليهم, الذين أمرنا الله أن نسأله الهداية إلى صراطهم فلم يبق لبس في أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- على الصراط المستقيم وأن إمامته حق"3.   1 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج1 ص64-65. 2 وذلك في قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] . 3 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج1 ص36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وهناك مثال آخر في استنباطه الفقهي, فمن قول هارون لأخيه موسى -عليهما السلام: {يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي} 1, استنبط رحمه الله تعالى لزوم إعفاء اللحية وإليك البيان: "هذه الآية الكريمة بضميمة آية الأنعام إليها تدل على لزوم إعفاء اللحية, فهي دليل قرآني على إعفاء اللحية وعدم حلقها, وآية الأنعام المذكورة هي قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ} ... الآية. ثم إنه تعالى قال بعد أن عد الأنبياء الكرام المذكورين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 2, فدل ذلك على أن هارون من الأنبياء الذين أمر نبينا -صلى الله عليه وسلم- بالاقتداء بهم، وأمره -صلى الله عليه وسلم- بذلك أمر لنا؛ لأن أمر القدوة أمر لاتباعه كما بينا إيضاحه بالأدلة القرآنية في هذا الكتاب المبارك في سورة المائدة ... فإذا علمت بذلك أن هارون من الأنبياء الذين أمر نبينا -صلى الله عليه وسلم- بالاقتداء بهم في سورة الأنعام وعلمت أن أمره أمر لنا؛ لأن لنا فيه الأسوة الحسنة وعلمت أن هارون كان موفرا شعر لحيته بدليل قوله لأخيه: {لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي} لأنه لو كان حالقا لما أراد أخوه الأخذ بلحيته تبين لك من ذلك بإيضاح أن إعفاء اللحية من السمت الذي أمرنا به في القرآن العظيم, وأنه كان سمت الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم"3. ومثل هذا عنده كثير. هذان مثالان فيهما بيان دقته في الاستنباط وهو قصدنا، ولمن أراد مزيد علم فليرجع إلى تفسيره -رحمه الله تعالى- ففيه بغيته. وبعد: ذلكم تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن, ما رأيت تفسيرا قديما أو حديثا فسر القرآن بالقرآن مثله, لا يكاد يتناول آية قرآنية إلا وبين ما تدل عليه   1 سورة طه: من الآية 94. 2 سورة الأنعام: من الآية 90. 3 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج4 ص506-507. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وما لا تدل عليه ثم أورد الآيات التي تكشف ما لم تدل عليه الآية الأولى, فأصبحت الآيات مجتمعة كالسبيكة الواحدة تجلو كل إبهام وتوضح كل غامض. ولا يعدل عن ظاهر القرآن الكريم إلا بدليل وقد رد ردودا طويلة على أولئك الذين يصرفون آيات القرآن عن ظاهرها لا لشيء إلا لشيء توهموه في صدورهم كبعض الصفات مثلا، أو لدليل حسبوه يعارض الظاهر فإذا به يجلو هذا الاشتباه فإذا بالتعارض قد زال، بل ذاب كما يذوب الملح في الماء. وفصل -رحمه الله تعالى- آيات الأحكام تفصيلا موسعا كدت أقول: لا مزيد عليه فيه, بغية كل باحث ومراد كل فقيه. أما أصول الفقه فهو الخبير فيه، لا تكاد تمر آية قرآنية فيها لأهل الأصول معترك إلا ودخل فيها وخرج والأنظار ترمقه, هممت أن أذكر مثالا فإذا بالأمثلة تصطرع ولم أستطع الحكم لأحدها فلينزل من أراد وردة إلى الحديقة وليقتطف منها ما شاء. أما مباحث اللغة والبلاغة والبيان ففيه منها ما يوقفك متربعا على عرش الاقتناع. ليس ما قلته وما لم أقله أيضا مصدره عين الرضا التي تكل عن كل عيب ولكنه عين ما رأيته حقا فوجب قوله ورأيت في ذكر المحاسن الأخرى إطالة فسكت عنها, ولو كان لي من الأمر شيء لقررته في كلياتنا الشرعية منها ليدرك به طلبة العلم الشرعي رائحة علماء السلف في استقامتهم وفي سعة أفقهم وأنها لا تزال قريبة منهم, فيشمروا عن سواعد الجد والطلب, وما ذلك على الله بعزيز. رحم الله الشيخ ووفق الله طلبة العلم لخدمة هذا التفسير الجليل, إذ لا يزال بحاجة ماسة إلى الترقيم والفهرسة ونحوهما والله الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 ثانيا: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان : صاحب التفسير: هو الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله آل سعدي الناصري التميمي الحنبلي. ولد في مدينة عنيزة بالقصيم سنة 1307, توفيت والدته وهو في الرابعة، ثم والده وهو في الثانية عشرة فكفلته زوجة والده وعطفت عليه أكثر من عطفها على أولادها وأدخلته مدرسة تحفيظ القرآن, فحفظه في الرابعة عشرة من عمره. ثم اشتغل بطلب علم التوحيد والتفسير والحديث والفقه وأصوله والنحو, فقرأ الكتب وحفظ المتون، إلى أن بلغ الثالثة والعشرين من عمره فجلس للتدريس, فكان يعلم ويتعلم واشتهر بعلمه وارتفع قدره, فأقبل طلبة العلم عليه وتلقي العلوم والمعارف عنه واشتهر عدد من تلاميذه. وفاته: توفي -رحمه الله تعالى- قبل فجر الخميس 22 جمادى الآخرة سنة 1376 بسبب نزيف في المخ أصابه يوم الأربعاء, وقد أرسل الملك فيصل بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- طائرة تحمل الأطباء لعلاجه ولسوء الأحوال الجوية ذلك اليوم لم تستطع الطائرة الهبوط على أرض المطار. مؤلفاته: ترك -رحمه الله تعالى- عددا كبيرا من المؤلفات العلمية طبع أكثرها على نفقته ووزعها مجانا, وما زال بعضها مخطوطا لم يطبع، ومن أهم مؤلفاته: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 1- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: وهو موضوع بحثنا هنا, وسنفرده بالدراسة. 2- تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن: وهو خلاصة التفسير المطول السابق. 3- فوائد قرآنية: لخصها بعض الباحثين من خلاصة التفسير السابق. 4- القواعد الحسان لتفسير القرآن: ذكر فيه سبعين قاعدة تعين على فهم كلام الله والاهتداء به، وتفتح له من طرق التفسير ومنهاج الفهم عن الله ما يغني عن كثير من التفاسير الخالية من هذه البحوث النافعة، طبع الكتاب بمطبعة أنصار السنة المحمدية، بتصحيح محمد حامد الفقي سنة 1366هـ. 5- المواهب الربانية من الآيات القرآنية: وهي فوائد فتح الله عليه بها في شهر رمضان سنة 1347هـ فقيدها، طبع طبعة جديدة سنة 1402. 6- فوائد مستنبطة من قصة يوسف: وافق الفراغ من تأليفها شهر صفر سنة 1375, وطبعت في نفس السنة. 7- الدلائل القرآنية في أن العلوم والأعمال النافعة العصرية داخلة في الدين الإسلامي: وهي رسالة صغيرة في حجمها تقع في خمسين صفحة من القطع الصغير, كتبها في محرم سنة 1375 وطبعت بمطابع الرياض سنة 1376. 8- التنبيهات اللطيفة: فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة وعليها منتخبات من تقارير الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، تم الفراغ منها في جمادى الأولى سنة 1369، طبعت بدون تاريخ. 9- الفواكه الشهية في الخطب المنبرية: طبعت سنة 1372هـ. 10- إرشاد أولي البصائر والألباب لنيل الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب بطريق مرتب على السؤال والجواب: طبع الطبعة الأولى سنة 1365, والطبعة الثانية سنة 1400هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 11- الفتاوى السعدية: وهي مجموعة فتاوى وكتابات وأسئلة وأجوبة كتبها -رحمه الله تعالى- بيده، جمعها بعض محبيه وطبعت الطبعة الأولى سنة 1388هـ والثانية سنة 1402هـ. هذه بعض مؤلفاته -رحمه الله تعالى- التي تجاوزت الثلاثين مؤلفا، نفع الله بها وغفر له, إنه سميع مجيب1. التفسير: يقع تفسيره: "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" في سبعة مجلدات، وقد فرغ -رحمه الله تعالى- من تأليفه سنة 1344, وصدرت طبعته الأولى سنة 1365 بمطبعة الترقي بدمشق ووزع مجانا على نفقة المؤلف. ثم صدرت طبعته الثانية بالمطبعة السلفية بالقاهرة. وصدرت طبعته الثالثة بالرياض بدون تاريخ, ولكن فيها ما يستدل به على أن طبعها كان سنة 1976م وسنة 1977م. وهذا التفسير وهو وإن كان شاملا لآيات القرآن الكريم كلها, إلا أنه ليس من التفاسير المطولة وتحدث -رحمه الله تعالى- عن ذلك فقال: "كثرت تفاسير الأئمة -رحمهم الله- لكتاب الله, فمن مطول خارج في أكثر بحوثه عن المقصود، ومن مقتصر يقتصر على حل بعض الألفاظ اللغوية بقطع النظر عن المراد، وكان الذي ينبغي في ذلك أن يجعل المعنى هو المقصود, واللفظ وسيلة إليه فينظر في سياق الكلام وما سيق لأجله ويقابل بينه وبين نظيره في موضوع آخر، ويعرف أنه سيق لهداية الخلق كلهم، عالمهم وجاهلهم, حضريهم وبدويهم، فالنظر لسياق الآيات مع العلم بأحوال الرسول وسيرته مع أصحابه   1 لخصنا هذه الترجمة من كتاب: مشاهير علماء نجد وغيرهم, تأليف عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ ومن قراءاتي الخاصة لمؤلفاته. وانظر ترجمته في الأعلام للزركلي, ومعجم المؤلفين لعمر رضا كحالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وأعدائه وقت نزوله من أعظم ما يعين على معرفته وفهم المراد منه, خصوصا إذا انضم إلى ذلك معرفة علوم العربية على اختلاف أنواعها. فمن وفق لذلك لم يبق عليه إلا الإقبال على تدبره وتفهمه وكثرة التفكر في ألفاظه ومعانيه ولوازمها وما تتضمنه وما تدل عليه منطوقا ومفهوما، فإذا بذل وسعه في ذلك فالرب أكرم من عبده، فلا بد أن يفتح عليه من علومه أمورا لا تدخل تحت كسبه. ولما منَّ البارئ عليَّ وعلى إخواني بالاشتغال بكتابه العزيز بحسب الحال اللائقة بنا، أحببت أن أرسم من تفسير كتاب الله ما تيسر، وما منَّ به الله علينا ليكون تذكرة للمحصلين وآلة للمستبصرين، ومعونة للسالكين، ولأقيده خوف الضياع، ولمن يكن قصدي في ذلك إلا أن يكون المعنى هو المقصود، ولم أشتغل في حل الألفاظ والعقود، للمعنى الذي ذكرت, ولأن المفسرين قد كفوا من بعدهم, فجزاهم الله عن المسلمين خيرا"1. قلت: وجزاه الله أيضا خيرا, ومع التزامه بما قال من الاكتفاء بأقوال المفسرين السابقين عن الإطناب في حل ألفاظ القرآن الكريم وتفسيره, فإن تفسيره يقع في سبعة مجلدات وذلك بسبب طريقة أحسبها خاصة به نبه بنفسه عليها في مقدمته فقال: اعلم أن طريقتي في هذا التفسير أني أذكر عند كل آية ما يحضرني من معانيها، ولا أكتفي بذكر ما تعلق بالمواضع السابقة عن ذكر ما تعلق بالمواضع اللاحقة؛ لأن الله وصف هذا الكتاب أنه "مثاني" تثنى فيه الأخبار والقصص والأحكام وجميع المواضيع النافعة لحكم عظيمة، وأمر بتدبره جميعه لما في ذلك من زيادة العلوم والمعارف وصلاح الظاهر والباطن وإصلاح الأمور كلها2. وقد التزم -رحمه الله تعالى- بما رسم لنفسه من منهج, فجاء تفسيره وسطا بين طويل التفاسير ومختصره.   1 تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن بن ناصر السعدي ج1 ص12-14. 2 المرجع السابق ج1 ص2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 نماذج من تفسيره: رؤية الله: قال -رحمه الله تعالى- مثبتا لرؤية الله يوم القيامة عند تفسير قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} 1 الآية، قال: "أي: لن تقدر الآن على رؤيتي, فإن الله تبارك وتعالى أنشأ الخلق في هذه الدار على نشأة لا يقدرون بها ولا يثبتون لرؤية الله، وليس في هذا دليل على أنهم لا يرونه في الجنة، فإنه قد دلت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية على أن أهل الجنة يرون ربهم تبارك وتعالى، ويتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم وأنه ينشئهم نشأة كاملة يقدرون معها على رؤية الله تعالى"2. وبين في موضع آخر أنهم ينظرون إلى ربهم حسب مراتبهم, فقال في تفسير قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ, إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 3، أي: "ينظرون إلى ربهم على حسب مراتبهم, ومنهم من ينظره كل يوم بكرة وعشيا، ومنهم من ينظره كل جمعة مرة واحدة"4. وفسر الزيادة في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 5 بالنظر إلى وجهه الكريم, فقال: "وهي النظر إلى وجه الله الكريم وسماع كلامه والفوز برضاه والبهجة بقربه, فبهذا حصل أعلى ما يتمناه المتمنون، ويسأله السائلون"6.   1 سورة الأعراف: من الآية 143. 2 تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن السعدي ج3 ص87. 3 سورة القيامة: الآيتان 22 و23. 4 تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن السعدي ج7 ص526. 5 سورة يونس: من الآية 26. 6 تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن ج3 ص345. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 الاستواء: في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 1، قال: "استوى استواء يليق بجلاله وعظمته وسلطانه"2، وقال في موضع آخر: "استواء يليق بجلاله, فوق جميع خلقه"3. العرش: قال عنه -رحمه الله تعالى: "العرش الذي هو سقف المخلوقات وأعلاها وأوسعها وأجملها"4، وقال في موضع آخر: "العرش العظيم الذي يسع السموات والأرض, وما فيهما وما بينهما"5. سلامة القرآن الكريم من التحريف: في تفسير قوله تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 6، قال: أي: لا يقربه شيطان من شياطين الإنس والجن لا بسرقة ولا بإدخال ما ليس منه به ولا بزيادة ولا نقص, فهو محفوظ في تنزيله، محفوظة ألفاظه ومعانيه، قد تكفل من أنزله بحفظه كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 7 8، وقال في تفسير هذه الآية الأخيرة: " {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أي: في حال إنزاله وبعد إنزاله، ففي حال إنزاله حافظون له من استراق كل شيطان رجيم، وبعد إنزاله أودعه الله في قلب رسوله واستودعه في قلوب أمته وحفظ الله ألفاظه من التغيير فيها والزيادة والنقص ومعانيه من   1 سورة الأعراف: من الآية 54. 2 المرجع السابق ج3 ص38. 3 المرجع السابق ج7 ص283. 4 المرجع السابق ج5 ص489. 5 المرجع السابق ج3 ص38. 6 سورة فصلت: الآية 42. 7 سورة الحجر: الآية 9. 8 المرجع السابق ج6 ص582. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 التبديل، فلا يحرف محرف معنى من معانيه إلا وقيض الله له من يبين الحق المبين، وهذا من أعظم آيات الله ونعمه على عباده المؤمنين، ومن حفظه أن الله يحفظ أهله من أعدائهم ولا يسلط عدوا يجتاحهم"1. كلام الله غير مخلوق: في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} الآيات2، قال رحمه الله تعالى: "وفي هذه الآيات من العبر والآيات إثبات الكلام لله تعالى وأنه لم يزل متكلما, يقول ما شاء ويتكلم بما شاء, وأنه عليم حكيم"3. وفي قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 4 قال: أي مشافهة منه إليه لا بواسطة حتى اشتهر بهذا عند العالمين فيقال: موسى كليم الرحمن5، وقال في موضع آخر: "وأما كلام الله فإنه من جملة صفاته، وصفاته غير مخلوقة، ولا لها حد ولا منتهى"6. لا رجعة لأحد قبل يوم القيامة: قال -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} 7، يخبر تعالى عن حال من حضره الموت من المفرطين الظالمين أنه يندم في تلك الحال إذا رأى مآله وشاهد قبح أعماله فيطلب الرجعة إلى الدنيا لا للتمتع بلذاتها واقتطاف شهواتها وإنما ذلك ليقول: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} من العمل وفرطت في جنب الله: {كَلَّا} أي: لا رجعة له ولا إمهال قد قضى الله أنهم إليها لا يرجعون8.   1 المرجع السابق ج4 ص158. 2 سورة البقرة: الآيات 30-34. 3 المرجع السابق ج1 ص73. 4 سورة النساء: من الآية 164. 5 المرجع السابق ج2 ص218. 6 المرجع السابق ج5 ص86. 7 سورة المؤمنون: الآيتان 99-100. 8 المرجع السابق ج5 ص379. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وقال في تفسير قوله تعالى: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} 1 أي:: "هل لنا طريق أو حيلة إلى رجوعنا إلى الدنيا لنعمل غير الذي كنا نعمل؟ وهذا طلب للأمر المحال الذي لا يمكن"2. أصحاب الكبائر: في الوعيد لمن قتل مؤمنا متعمدا المنصوص عليه بقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} 3، قال رحمه الله تعالى: "وهذا الوعيد له حكم أمثاله من نصوص الوعيد على بعض الكبائر والمعاصي بالخلود في النار أو حرمان الجنة، وقد اختلف الأئمة -رحمهم الله- في تأويلها، مع اتفاقهم على بطلان قول الخوارج والمعتزلة الذين يخلدونهم في النار، ولو كانوا موحدين"4, ثم نقل قولا لابن القيم -رحمه الله تعالى- بين فيه موقف أهل السنة والجماعة المعروف من أصحاب الكبائر. أما في تفسير قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 5، فقال -رحمه الله تعالى- فيها: "وقد احتج بها الخوارج على كفر صاحب المعصية وهي حجة عليهم كما ترى فإنها ظاهرة في الشرك, وهكذا كل مبطل يحتج بآية أو حديث صحيح على قوله الباطل فلا بد أن يكون فيما احتج به حجة عليه"6. أما الوعيد لمن عاد إلى أكل الربا في قوله تعالى: {مَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 7، فقال عنه: "في هذا أن الربا موجب   1 سورة الشورى: من الآية 44. 2 المرجع السابق ج6 ص626. 3 سورة النساء: من الآية 93. 4 المرجع السابق ج2 ص129. 5 سورة البقرة: من الآية 81. 6 المرجع السابق، ج1 ص103. 7 سورة البقرة: من الآية 275. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 لدخول النار والخلود فيها؛ وذلك لشناعته ما لم يمنع من الخلود مانع الإيمان, وهذا من جملة الأحكام التي تتوقف على وجود شروطها، وانتفاء موانعها وليس فيها حجة للخوارج كغيرها من آيات الوعيد، فالواجب أن تصدق جميع نصوص الكتاب والسنة فيؤمن العبد بما تواترت به النصوص من خروج من في قلبه أدنى مثقال حبة خردل من الإيمان, من النار ومن استحقاق هذه الموبقات لدخول النار إن لم يتب منها"1. الموالاة والمعاداة: في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ} 2 الآية، بين -رحمه الله تعالى- أصل الولاية فقال: "وأصل الولاية: المحبة والنصرة وذلك أن اتخاذهم أولياء موجب لتقديم طاعتهم على طاعة الله ومحبتهم على محبة الله ورسوله؛ ولهذا ذكر السبب الموجب لذلك وهو أن محبة الله ورسوله يتعين تقديمها على محبة كل شيء, وجعل جميع الأشياء تابعة لهما"3. وفي قوله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} 4 الآية، قال: "وفي هذه الآية الترهيب العظيم من موالاة الكافرين وترك موالاة المؤمنين, وأن ذلك من صفات المنافقين وأن الإيمان يقتضي محبة المؤمنين وموالاتهم، وبغض الكافرين وعداوتهم"5. وفي موضع آخر بين -رحمه الله تعالى- الولاية الواجبة على المؤمنين وما تدرك به وفائدتها وما يوجبها على المؤمنين؛ فقال -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ   1 المرجع السابق ج1 ص338 -339. 2 سورة التوبة: من الآية 23. 3 المرجع السابق ج3 ص212-213. 4 سورة النساء: من الآيتين 138-139. 5 المرجع السابق: ج2 ص197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ, وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} 1, فقال: "لما نهى عن ولاية الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم وذكر مآل توليهم أنه الخسران المبين, أخبر تعالى من يجب ويتعين توليه. وذكر فائدة ذلك ومصلحته فقال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} ، فولاية الله تدرك بالإيمان والتقوى فكل من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا ومن كان لله وليا فهو ولي لرسوله، ومن تولى الله ورسوله كان تمام ذلك تولي من تولاه وهم المؤمنون الذين قاموا بالإيمان ظاهرا وباطنا وأخلصوا للمعبود بإقامتهم الصلاة بشروطها وفروضها ومكملاتها وأحسنوا للخلق وبذلوا الزكاة من أموالهم لمستحقيها منهم، وقوله: {وَهُمْ رَاكِعُونَ} ، أي: خاضعون لله ذليلون, فأداة الحصر في قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} تدل على أنه يجب قصر الولاية على المذكورين والتبري من ولاية غيرهم. ثم ذكر فائدة هذه الولاية فقال: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} ، أي: فإنه من الحزب المضافين إلى الله إضافة عبودية وولاية وحزبه الغالبون الذين لهم العاقبة في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} ، وهذه إشارة عظيمة لمن قام بأمر الله وصار من حزبه وجنده, أن له الغلبة وإن أديل عليه في بعض الأحيان لحكمة يريدها الله تعالى, فآخر أمره الغلبة والانتصار {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} "2. محبة الصحابة: وفي تفسير قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} الآيات3، تحدث -رحمه الله تعالى- عن المهاجرين ثم عن الأنصار ثم قال: "فهذان الصنفان الفاضلان الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام الذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم،   1 سورة المائدة: الآيتان 55 و56. 2 تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن السعدي ج2 ص310-311. 3 سورة الحشر: الآيات 8، و9، و10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وأدركوا به من قبلهم فصاروا أعيان المؤمنين وسادات المسلمين وقادات المتقين, وحسب من بعدهم من الفضل أن يسير خلفهم ويأتمّ بهداهم"1. القضاء والقدر: فصل -رحمه الله تعالى- الحديث عن القضاء والقدر عند تفسيره لقوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ، قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 2، فقال رحمه الله تعالى: "هذا إخبار من الله أن المشركين سيحتجون على شركهم وتحريمهم ما أحل الله بالقضاء والقدر، ويجعلون مشيئة الله الشاملة لكل شيء من الخير والشر حجة لهم في دفع اللوم عنهم، وقد قالوا ما أخبر الله أنهم سيقولون كما قال في الآية الأخرى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} 3 الآية، فأخبر تعالى أن هذه الحجة لم تزل الأمم المكذبة تدفع بها عنهم دعوة الرسل ويحتجون بها فلم تجد فيهم شيئا ولم تنفعهم، فلم يزل هذا دأبهم حتى أهلكهم الله وأذاقهم بأسه, فلو كانت حجة صحيحة لدفعت عنهم العقاب، ولما أحل الله بهم العذاب؛ لأنه لا يحل بأسه إلا بمن استحقه فعلم أنها حجة فاسدة وشبهة كاسدة من عدة أوجه: منها: ما ذكر الله من أنها لو كانت صحيحة لم تحل بهم العقوبة. ومنها: أن الحجة لا بد أن تكون حجة مستندة إلى العلم والبرهان, فأما إذا كانت مستندة إلى مجرد الظن والخرص الذي لا يغني من الحق شيئا فإنها باطلة؛ ولهذا قال: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} ، فلو كان لهم علم وهم خصوم ألداء لأخرجوه، فلما لم يخرجوه علم أنه لا علم عندهم: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا   1 تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن السعدي ج7 ص336. 2 سورة الأنعام: الآيتان 148 و149. 3 سورة النحل: من الآية 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} ، ومن بنى حجة على الخرص والظن فهو مبطل خاسر, فكيف إذا بناها على البغي والعناد والشر والفساد؟ ومنها: أن الله تعالى أعطى كل مخلوق قدرة وإرادة يتمكن بها من فعل ما كلف به, فما أوجب الله على أحد ما لا يقدر على فعله ولا حرم على أحد ما لا يتمكن من تركه، فالاحتجاج -بعد هذا- بالقضاء والقدر ظلم محض وعناد صرف. ومنها: أن الله تعالى لم يجبر العباد على أفعالهم بل جعل أفعالهم تبعا لاختيارهم, فإن شاءوا فعلوا وإن شاءوا كفوا. وهذا أمر مشاهد لا ينكره إلا من كابر, وأنكر المحسوسات فإن كل أحد يفرق بين الحركة الاختيارية والحركة القسرية، وإن كان الجميع داخلا في مشيئة الله ومندرجا تحت إرادته. ومنها: أن المحتجين على المعاصي بالقضاء والقدر يتناقضون في ذلك, فإنهم لا يمكنهم أن يطردوا ذلك، بل لو أساء اليهم مسيء بضرب أو أخذ مال أو نحو ذلك واحتج بالقضاء والقدر لما قبلوا منه هذا الاحتجاج ولغضبوا من ذلك أشد الغضب، فيا عجبا كيف يحتجون به على معاصي الله ومساخطه ولا يرضون من أحد أن يحتج به في مقابله مساخطهم؟!!. ومنها: أن احتجاجهم بالقضاء والقدر ليس مقصودا ويعلمون أنه ليس بحجة، وإنما المقصود منه دفع الحق، ويرون أن الحق بمنزلة الصائل منهم يدفعونه بكل ما يخطر ببالهم من الكلام المصيب عندهم والمخطئ1. وقال -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 2: "وفي هذه الآية وأمثالها رد على فرقتي القدرية النفاة والقدرية المجبرة"3.   1 تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن السعدي ج2 ص495-497. 2 سورة التكوير: الآية 29. 3 تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن السعدي ج7 ص581. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 هذه أمثلة من تفسير ابن سعدي -رحمه الله تعالى- سلك فيها منهج أهل السنة والجماعة, اكتفى في بيانه بوجيز العبارة من غير إطناب ممل ولا إيجاز مخل, وهو وإن لم يعرض الكثير من آراء أهل السنة والجماعة بالشرح والبيان لاعتقاده -كما قرر في مقدمته- أن المفسرين قد كفوا من بعدهم، ومع هذا فإن تفسيره -رحمه الله تعالى- قد جاء وسطا بين حاجة العلماء وحاجة من دونهم, ليس بالصعب الذي لا ترتقي إليه أفهام هؤلاء ولا بالسهل الذي لا يجد فيه أولئك بغيتهم، بل جمع هذا وذاك وأحسبه لم يفصل الحديث في العقائد؛ لأنه إنما كان يخاطب طائفة من أهل السنة والجماعة لم يكن بينهم من منازع أو خصم فكان يكتفي بوجيز العبارة ودقيق الإشارة. نفع الله به وبعلومه, إنه سميع مجيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 ثالثا: محاسن التأويل صاحب التفسير: اسمه: محمد جمال الدين أبو الفرج بن محمد سعيد بن قاسم، وقاسم هذا فقيه الشام في عصره الشيخ قاسم بن صالح بن إسماعيل بن أبي بكر المعروف بالحلاق, وإلى هذا الفقيه ينسب حفيده فيسمى جمال الدين القاسمي. ولادته: ولقد ولد -رحمه الله تعالى- يوم الاثنين 8/ 5/ 1283 الموافق 17 أيلول 1866 من الميلاد، في دمشق. نشأته: تعلم -رحمه الله تعالى- القرآن أولا ثم تعلم الكتابة, ثم انتقل إلى مكتب في المدرسة الظاهرية فأخذ مبادئ التوحيد والصرف والنحو والمنطق والبيان والعروض وغيرها, ثم جود القرآن على شيخ القراء الشيخ أحمد الحلواني وقرأ على الشيخ سليم العطار والشيخ بكري العطار, وأجازه كثير من علماء عصره. تدريسه: بدأ في التعليم بسن مبكرة، وانتدبته الحكومة أربع سنوات من سنة 1308 إلى سنة 1312 لإلقاء دروس عامة خلال شهر رمضان في وادي العجم والنبك وبعلبك, وقام مقام أبيه في الدرس العام وإمامة الجامع وإلقاء الدروس فيه بعد وفاة والده سنة 1317, واستمر فيه إلى وفاته, رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 نشاطه: اتهم بعد عودته من الانتداب سنة 1313 وزيارته لمصر وللمدينة بتأسيس مذهب فقهي خامس هو "المذهب الجمالي" فقبضت عليه الحكومة ليلة واحدة ثم أخلي سبيله في الصباح, واعتذر له والي دمشق. وانقطع بعدها للتأليف وإلقاء الدروس الخاصة والعامة، وفي سنة 1326 حدثت له حادثة أخرى, حيث فُتشت كتبه وصُودر بعضها وأُعيدت له بعد شهرين. وحادثة ثالثة، حيث استُدعي أمام قاضي التحقيق بدمشق حيث اتهم بأن جمعية النهصة السورية لم تنشأ إلا بتشويقه هو والشيخ عبد الرزاق البيطار, وأنهما من أركانها, وأنها فرع لجمعيات في البلاد كاليمن ونجد. وأن لهم مكاتبات مع أمراء نجد ومواصلات ... وما مذهب الوهابية وكم عدة الوهابيين في الشام ... إلى نحو ذلك. أسلوبه في الدعوة: عرف عنه -رحمه الله تعالى- أنه كان عف اللسان والقلم لم يتعرض بالأذى لأحد من خصومه, سواء أكان ذلك في دروسه الخاصة أو العامة في مجالسه أو ندواته، وإنما كان يناقش بالبرهان والدليل من الكتاب والسنة. ولم تتضمن كتبه على كثرتها مع أن بعضها إنما وضع للرد على المخالفين, لم تتضمن لفظا نابيا أو كلمة جارحة وإنما اعتصم بالنقاش العلمي الأدبي ولم يكن -رحمه الله تعالى- يريد من الرد على مخالفيه إفحامهم أو تصغير أقدارهم أو الحط من شأنهم، وإنما كان هدفه الهدى والرشاد إلى صراط مستقيم. وفاته: توفي -رحمه الله تعالى- في دمشق مساء السبت 23/ 5/ 1332 ودفن في مقبرة الباب الصغير بدمشق، وله من العمر 49 عاما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 مؤلفاته: ترك -رحمه الله تعالى- عددا كبيرا من المؤلفات تقارب المائة عددا, وقد اطلع الزركلي على اثنين وسبعين مصنفا له ... وأهم مؤلفاته: 1- محاسن التأويل: وهو التفسير الذي سنفرده بالحديث, إن شاء الله. 2- قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث: في مجلد، بين يدي طبعة دار إحياء الكتب العربية الطبعة الثانية سنة 1380 بتحقيق وتعليق محمد بهجت البيطار. أما الطبعة الأولى ففي شهر شوال سنة 1353. 3- إصلاح المساجد من البدع والعوائد: في مجلد واحد, تبلغ صفحاته قرابة 280 صفحة، صدرت طبعته الأولى في القاهرة سنة 1341، وبين يدي الطبعة الرابعة سنة 1399 في بيروت, خرج أحاديثها وعلق على بعض مواطن الإشكال فيها الشيخ محمد ناصر الدين الألباني. 4- تاريخ الجهمية والمعتزلة: صدرت آخر طبعاته من مؤسسة الرسالة ببيروت سنة 1399. 5- تعطير المشام في مآثر دمشق الشام: مخطوط في أربعة مجلدات, ذكره الزركلي في أعلامه. 6- موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين: وغير ذلك من المؤلفات, رحمه الله رحمة واسعة ونفع بعلمه, إنه سميع مجيب1. التفسير: "محاسن التأويل": ويعرف هذا التفسير بـ"تفسير القاسمي" طبع في سبعة عشر مجلدا ويقع في 6316 صفحة بدون المجلد الأول الذي جعله مقدمة لتفسيره وصدرت   1 اعتمدت في ترجمته -رحمه الله تعالى- على ما ورد في ترجمته في كتابه: "قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث"، وعلى ما ورد في الأعلام للزركلي؛ ومعجم المؤلفين لعمر رضا كحالة؛ وفي كتاب الأدب العربي المعاصر في سورية للأستاذ سامي الكيالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 الطبعة الأولى بين عامي 1376-1377 من دار إحياء الكتب العربية، ووقف على طبعه وتصحيحه, ورقمه وخرج آياته وأحاديثه وعلق عليه الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي, وأصدرت دار الفكر ببيروت الطبعة الثانية سنة 1398 مصورة عن الطبعة الأولى. طريقته في التفسير: بين -رحمه الله تعالى- في مقدمة تفسيره أنه اطلع على ما قدر له من تفاسير السابقين وتعرف ما تخللها من الغث والسمين, ثم بعد أن صرف في الكشف عن حقائق التفسير شطرا من عمره ووقف على فحص دقائقه قدرا من دهره قال: "أردت أن أنخرط في سلك مفسريه الأكابر قبل أن تبلى السرائر وتفنى العناصر وأكون بخدمته موسوما وفي حملته منظوما, فشحذت كليل العزم وأيقظت نائم الهم واستخرت الله تعالى في تقرير قواعده وتفسير مقاصده في كتاب اسمه بعون الله الجليل: "محاسن التأويل" أودعه ما صفا من التحقيقات وأوشحه بمباحث هي المهمات وأوضح فيه خزائن الأسرار وأنقد فيه نتائج الأفكار وأسوق إليه فوائد التقطتها من تفاسير السلف وفرائد عثرت عليها في غضون الدفاتر وزوائد استنبطتها بفكري القاصر مما قادني الدليل إليه، وقوى اعتمادي عليه وسيحمد السابح في لججه والسانح في حججه ما أودعته من نفائسه الغريبة البرهان وأوردته من أحاديثه الصحاح والحسان وبدائعه الباهرة للأذهان, فإنها لباب اللباب ومهتدى أولي الألباب ولم أطل ذيول الأبحاث بغرائب التدقيقات، بل اخترت حسن الإيجاز في حل المشكلات اللهم إلا إذا قابلت فرسان مضمار الحق جولة الباطلات، فهنالك تصوب أسنة البراهين نحو نحور الشبهات"1. وقد جعل -رحمه الله تعالى- الجزء الأول مقدمة لتفسيره, قال عنها: "وهي قواعد فائقة وفوائد شائقة جعلتها مفتاحا لمغلق بابه, ومسلكا لتسهيل خوض عبابه, تعين المفسر على حقائقه وتطلعه على بعض أسراره ودقائقه"1.   1 محاسن التأويل ج1 ص5 و6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 ومفسرنا -رحمه الله تعالى- كثيرا ما ينقل نقولا طويلة عن علماء السلف, فينقل عن أحمد بن حنبل وابن تيمية وابن القيم وابن كثير وابن جرير الطبري والشاطبي والعز بن عبد السلام وابن حزم والرازي والزمخشري والراغب والقرطبي والبقاعي وغيرهم, رحمهم الله أجمعين. وكثيرا ما يستشهد -رحمه الله، وهو من علماء الحديث- بالأحاديث النبوية من الصحاح والسنن والمسانيد. وفي اللغة يرجع إلى كتب اللغة, كالقاموس والصحاح وغيرهما. وقد عاب بعض النقاد عليه -رحمه الله تعالى- كثرة نقله من الكتب وزعموا أن الرجل لم يكن له رأي شخصي وأنه إنما كان يعتمد في تأليفه على نقل آراء غيره, فرد عليهم الأستاذ سامي الكيالي فقال عنهم: "أخطئوا من ناحيتين: 1- لأن النقل بحد ذاته رأي, وقديما قيل: "اختيار المرء قطعة من عقله" فما كانت الآثار والآراء والأقوال التي ينقلها إلا آراء، ولو ارتأى أن يكتبها بنفسه، لكتب مثلها أو خيرا منها، ولكنه آثر أن يكتبها بقلم غيره للسبب الذي أشرت إليه. 2- لأن بعض تآليفه التي وضعها في أخريات أيامه لم يكن فيها النقل إلا عرضا ولتأييد فكرته بقول غيره, وقد كان ذلك في الوقت الذي لم يعد فيه يبالي بالخصوم وأصبح اسمه علما ضخما في العالم الإسلامي"1. أما السبب الذي أشار إليه الأستاذ سامي الكيالي فهو حسب اعتقاده أن الشيخ القاسمي لما رأى البدع قد تفشت وأن الخرافات قد استولت على الأذهان, أدرك أن أقواله سوف لا يكون لها من القيمة ما لأقوال الأئمة السابقين فكان يرتب الأفكار التي تجب معالجتها وينقل عن الغزالي وابن تيمية وابن حزم وابن الجوزي وابن القيم والشافعي وأبي حنيفة وأحمد ومالك وأمثالهم الأقوال الصحيحة التي تؤيد فكرته؛ ولهذا ظهر قسم من مؤلفاته وليس فيه إلا المقدمة   1 الأدب العربي المعاصر في سورية: سامي الكيالي ص155-156. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وبعض الأقوال القليلة النادرة ولم يكن ذلك عن عجز عن الكتابة، وإنما كان مقصودا لنشر الفكرة الإصلاحية التي يسعى إليها وليحمل الخصوم على قبولها والقناعة بها من أقوال أئمة لا يستطيعون أن يردوا عليها1. والحق أن الشيخ القاسمي -رحمه الله تعالى- كثيرا ما يعتمد على النقل, نضرب لذلك مثلا في بيان المحكم والمتشابه في الآية السابعة من آل عمران, اكتفى -رحمه الله تعالى- بنقل نص لابن تيمية -رحمه الله تعالى- في 32 صفحة ثم بنص لابن المرتضى اليماني صاحب كتاب: "إيثار الحق على الخلق" في 12 صفحة ولم يكن له إلا الربط بين النصين, ولا يعد هذا عيبا إذ لم يكن هدفه -رحمه الله تعالى- التأليف، بل كان هدفه الإصلاح ونشر الحق بين الناس وإزالة البدع والمنكرات, وتحت ظلال هذه الأهداف فإن الأمر سيان بين أن يأتي بكلام من عنده، أو بكلام غيره ما دام يعتقده حقا ويعتقده صوابا، بل الثاني أولى لما ذكره الأستاذ سامي. نماذج من تفسيره: الأسماء والصفات: أفرد القاسمي -رحمه الله تعالى- في المجلد الأول بيانا في أن الصواب في آيات الصفات هو مذهب السلف أورد فيه نقولا لبعض العلماء في إثبات ذلك, فنقل الباب الثاني في إقامة البرهان على أن الحق مذهب السلف من كتاب "إلجام العوام عن علم الكلام" للإمام الغزالي ثم نقل ما وصفه بالقول الشامل في هذا الباب ما قاله الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- ثم نقل عن الأوزاعي من كتابي الأسماء والصفات للبيهقي والسنة لأبي بكر الخلال, ثم نقل شرح ابن القيم لحديث: "فرح الله بتوبة عبده" من كتابه: طريق الهجرتين. ولئن كان -رحمه الله تعالى- ينقل هذه النصوص نقل المستشهد المؤيد, فإني لم أعتبرها رأيا له مع أن من يفعل فعله فينقل نقل المستشهد المؤيد إنما عبر   1 الأدب العربي المعاصر في سورية: سامي الكيالي ص155-156. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 عن رأيه بلفظ غيره فهي إن لم تكن رأيا له, فهي حتما دليل عليه. وإنما لم أعتبرها رأيا له دفعا للحجة وقطعا للمنازع، وسأعتمد في هذا وفي سواه على ألفاظه, رحمه الله تعالى. فمن ذلك تفسيره لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1, قال: "كما أن صدر الآية فيه رد على المشبهة فكذا تتمتها وهو قوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} رد على المعطلة؛ ولذا كان أعدل المذاهب مذهب السلف, فإنهم أثبتوا النصوص بالتنزيه من غير تعطيل ولا تشبيه وذلك أن المعطلين لم يفهموا من أسماء الله تعالى وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات فجمعوا بين التمثيل والتعطيل فمثلوا أولا وعطلوا آخرا, فهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته تعالى بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم فعطلوا ما يستحقه سبحانه وتعالى من الأسماء والصفات اللائقة به عز وجل بخلاف سلف الأمة وأجلاء الأئمة, فإنهم يصفون الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه وبما وصفه به نبيه -صلى الله عليه وسلم- من غير تحريف ولا تشبيه قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، فرد على المشبهة بنفي المثلية, ورد على المعطلة بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2. إثبات الرؤية: قال -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ, إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 3: "أي مشاهدة إياه, ترى جمال ذاته العلية ونور وجهه الكريم كما وردت بذلك الأخبار والآثار عن رسول الله صلوات الله عليه وسلامه"4. وكذا في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ ْأَرِنِي   1 سورة الشورى: من الآية 11. 2 محاسن التأويل ج14 ص5227. 3 سورة القيامة: الآيتان 22-23. 4 محاسن التأويل ج17 ص5996. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} الآية1, قال رحمه الله تعالى: "نبه تعالى على أن الجبل مع شدته وصلابته إذا لم يستقر فالآدمي مع ضعف بنيته أولى بأن لا يستقر، وفيه تسكين لفؤاد موسى بأن المانع من الانكشاف الإشفاق عليه, وأما أن المانع محالية الرؤية فليس في القرآن إشارة إليه"2. ثم رد على المعتزلة فقال: "وأما زعم المعتزلة أن الرؤية مجاز عن العلم الضروري فمعنى قوله: {أَرِنِي} ، أي: اجعلني عالما بك علما ضروريا, خلاف الظاهر فإن النظر الموصول بـ "إلى" نص في الرؤية البصرية فلا يترك بالاحتمال مع أن طلب العلم الضروري لمن يخاطبه ويناجيه غير معقول, وكذا زعمهم أن موسى -عليه السلام- كان سألها لقومه حين قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} 3, فسأل ليعلموا امتناعها, فإنه خلاف الظاهر وتكلف يذهب رونق النظم فترده ألفاظ الآية، وقد ثبت وقوع رؤيته تعالى في الآخرة بالكتاب والسنة؛ أما الكتاب فلقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ, إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وأما السنة فلا تحصى أحاديثها ولكن إذا أصيب أحد بداء المكابرة في الحق الصراح, عسر إقناعه مهما قوي الدليل وعظمت الحجة"4. وأكد هذه العقيدة عند تفسيره لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 5, فسر الزيادة بالتفضل كما قال تعالى: {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} ، وأعظم أنواعه النظر إلى وجهه تعالى الكريم؛ ولذا تواتر تفسيرها بالرؤية عن غير واحد من الصحابة والتابعين ورفعها ابن جرير إلى النبي -صلوات الله عليه- عن أبي موسى وكعب بن عجرة وأبي, وكذا ابن أبي حاتم وروى الإمام أحمد عن صهيب -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا ... } إلخ. وقال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار   1 سورة الأعراف: من الآية 143. 2 محاسن التأويل ج7 ص2851. 3 سورة البقرة: من الآية 55. 4 محاسن التأويل ج7 ص2852. 5 سورة يونس: من الآية 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 نادى منادٍ: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعدا، يريد أن ينجزكموه فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا، ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار؟ " قال: "فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه, فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقر لأعينهم". وهكذا رواه مسلم1. الاستواء: ما رأيت الشيخ القاسمي -رحمه الله تعالى- أفاض الحديث عن صفة من صفات الله تعالى كما أفاضه في صفة الاستواء, فقد كتب عن قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} "من ص2702 إلى ص2750" وليس له -رحمه الله تعالى- فيما كتب إلا الربط بين نصوص علماء السلف, فقد نقل عن البخاري والذهبي من كتابه "العلو" وعن الإمام أحمد بن حنبل من كتابه "الرد على الجهمية" وعبد القادر الجيلاني من كتابيه "تحفة المتقين" و"الغنية" وعن أبي إسماعيل الأنصاري من كتابه ذم الكلام وأهله وعن الكناني من كتابه "الرد على الجهمية" وابن عرفة من كتابه "الرد على الجهمية" وعن أبي الحسن الأشعري من كتابه "الإبانة" وعن ابن عبد البر من كتابه "التمهيد" وعن ابن تيمية من "الرسالة المدنية" ومن ولي الله الدهلوي من كتابه "حجة الله البالغة"، وعن الألوسي من محاكمة الأحمدين، وأكثر نقله عن ابن تيمية, رحمه الله تعالى. ثم عقب -رحمه الله تعالى- بعد هذه النقول بقوله: "وإنما أشبعنا الكلام في هذا المقام؛ لأنه من أصول العقائد الدينية ومهمات المسائل التوحيدية وقد كثر فيه تعارك الآراء وتصادم الأهواء ولم يأت جمهور المتكلمين المؤولين بشيء يعلق بقلب الأذكياء، بل اجتهدوا في إيراد التمحلات التي تأباها فطرة الله أشد الإباء, فبقيت نفوس أنصار السنة المحققين مائلة إلى مذهب السلف الصالحين فإن الأئمة منهم كان عقدهم ما بيناه فلا تكن من الممترين، والحمد لله رب العالمين"2.   1 محاسن التأويل: ج9 ص3341. 2 محاسن التأويل: ج7 ص2750. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 كلام الله: وفي قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 1 قال رحمه الله تعالى: "يعني خاطبه مخاطبة من غير واسطة؛ لأن تأكيد {كَلَّمَ} بالمصدر يدل على تحقيق الكلام وأن موسى -عليه السلام- سمع كلام الله بلا شك؛ لأن أفعال المجاز لا تؤكد بالمصادر فلا يقال: أراد الحائط يسقط إرادة، وهذا رد على من يقول: إن الله خلق كلاما في محل فسمع موسى ذلك الكلام. قال الفراء: "العرب تسمي كل ما يوصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل, لكن لا تحققه بالمصدر وإذا حقق بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام فدل قوله تعالى: {تَكْلِيمًا} ، على أن موسى قد سمع كلام الله حقيقة من غير واسطة, قال بعضهم: كما أن الله تعالى خص موسى -عليه السلام- بالتكليم وشرفه به ولم يكن ذلك قادحا في نبوة غيره من الأنبياء فكذلك إنزال التوراة عليه جملة واحدة لم يكن قادحا في نبوة من أنزل عليه كتابه منجما من الأنبياء, كذا في اللباب"2. ثم قال رحمه الله تعالى: "تنبيه: يحسن في هذا المقام إيراد عقيدة السلف الكرام في مسألة الكلام, فإنها من أعظم مسائل الدين، وقد تحيرت فيها آراء أهل الأهواء من المتقدمين والمتأخرين، واضطربت فيها الأقوال وكثرت بسببها الأهوال وأثارت فتنا وجلبت محنا وكم سجنت إماما وبكت أقواما وتشعبت فيها المذاهب واختلف فيها المشارب ولم يثبت إلا قول أهل السنة والجماعة المقتفين لأثر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام -رضي الله عنهم- فنقول"3. ثم نقل -رحمه الله تعالى- نصوص السلف في كلام الله وإثباته على الوجه اللائق به جل وعلا وأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق, فنقل نصوصا مطولة لابن تيمية تقع في "23 صفحة" ونقل بعد ذلك نصوصا لعلماء آخرين على مذهب أهل السنة والجماعة.   1 سورة النساء: من الآية 164. 2 محاسن التأويل: ج5 ص1723. 3 محاسن التأويل: ج5 ص1723-1724. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 سلامة القرآن من التحريف: قال -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1، أي: من كل من بغى له كيدا, فلا يزال نور ذكره يسري وبحر هداه يجري وظلال حقيته في علومه تمتد على الآفاق ودعائم أصوله الثابتة تطاول السبع الطباق رغما عن كيد الكائدين, وإفساد المفسدين: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} . وفي إيراد الجملة الثانية اسمية دلالة على دوام الحفظ2. وقال في تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} 3، قال: "أي: منيع محمي عن التغيير والتبديل, وعن محاكاته بنظير"4. الإمامة والعصمة: رد -رحمه الله تعالى- ما يستدل به المعتزلة والشيعة في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} 5, فقال: "وقد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الظالم ليس بأهل للإمامة والكشاف أوسع المقال في ذلك هنا، وأبدع في إيراد الشواهد، كما أن الشيعة استدلت بها على صحة قولهم في وجوب العصمة في الأئمة ظاهرا وباطنا على ما نقله الرازي عنهم وحاورهم, أقول: إن استدلال الفرقتين على مدعاهما وقوف مع عموم اللفظ إلا أن الآية الكريمة بمعزل عن إرادة خلافة السلطنة والملك. المراد بالعهد تلك الإمامة المسئول عنها، وهل كانت إلا الإمامة في الدين وهي النبوة التي حرمها الظالمون من ذريته؟ كما قال تعالى: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ   1 سورة الحجر: الآية 9. 2 محاسن التأويل: ج10 ص3748-3749. 3 سورة فصلت: من الآية 41. 4 محاسن التأويل: ج14 ص5211. 5 سورة البقرة: الآية 124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 مُبِينٌ} 1 ولو دلت الآية على ما ادعوا لخالفه الواقع.. فقد نال الإمامة الدنيوية كثير من الظالمين, فظهر أن المراد من العهد إنما هو الإمامة في الدين خاصة والاحتجاج بها على عدم صلاحية الظالم للولاية تمحل؛ لأنه اعتبار لعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ولا إلى السياق أو ذهاب إلى أن الخبر في معنى الأمر بعدم تولية الظالم كما قاله بعضهم وهو أشد تمحلا, ومعلوم أن الإمام لا بد أن يكون من أهل العدل، والعمل بالشرع كما ورد, ومتى زاغ عن ذلك كان ظالما"2. لا رجعة: في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 3. قال رحمه الله تعالى: "تمنوا الرجوع إلى الدنيا حين لا رجوع, واعدين أن لا يكذبوا بما جاءهم وأن يكونوا من المؤمنين"4. الميزان: في تفسير قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 5، قال: "قال السيوطي في الإكليل في هذه الآية: ذكر الميزان ويجب الإيمان به, انتهى"، ثم قال: "الذي يوضع في الميزان يوم القيامة قيل: الأعمال وإن كانت أعراضا إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساما ... ثم ذكر أدلة هذا القول ... وقيل: صحائف الأعمال هي التي توزن ... ثم استدل له ... وقيل: يوزن صاحب العمل ... ثم استدل له، وقال بعد هذا: قال الحافظ ابن كثير: وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحا فتارة توزن الأعمال   1 سورة الصافات: من الآية 113. 2 محاسن التأويل: ج2 ص246. 3 سورة الأنعام: الآية 27. 4 محاسن التأويل: ج6 ص2279. 5 سورة الأعراف: الآية 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وتارة يوزن محلها وتارة يوزن فاعلها, والله أعلم ... ثم ذكر الحكمة في وزن الأعمال فقال: إن قلت: أليس الله -عز وجل- يعلم مقادير أعمال العباد, فما الحكمة في وزنها؟ قلت: فيه حِكَم. منها: إظهار العدل وأن الله -عز وجل- لا يظلم عباده. ومنها: امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا, وإقامة الحجة عليهم في العقبى. ومنها: تعريف العباد ما لهم من خير وشر, وحسنة وسيئة. ومنها: إظهار علامة السعادة والشقاوة. ونظيره أنه تعالى أثبت أعمال العباد في اللوح المحفوظ ثم في صحائف الحفظة الموكلين ببني آدم من غير جواز النسيان عليه سبحانه وتعالى, كذا في اللباب"1. الصراط: وفي قوله تعالى عن الكافرين: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} 2 الآية، قال: "على إما على حقيقتها, أي: أُقيموا واقفين فوق النار على الصراط وهو جسر فوق جهنم, أو هي بمعنى في أي أُقيموا في جوف النار وغاصوا فيها وهي محيطة بهم, وصحح معنى الاستعلاء حينئذ كون النار دركات وطبقات بعضها فوق بعض"3. القضاء والقدر: فصَّل -رحمه الله تعالى- القول في القضاء والقدر وبين عقيدة الفرقة الناجية فقال في تفسيره لقوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ   1 محاسن التأويل: ج7 ص2613 إلى ص2618 باختصار. 2 سورة الأنعام: من الآية 27. 3 محاسن التأويل: ج6 ص2278. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} 1 الآيتين, قال رحمه الله تعالى: "هذه الآية تكرر نظيرها في التنزيل الكريم في عدة سور وهي من الآيات الجديرة بالتدبر لتمحيص الحق في المراد منها، فقد زعم المعتزلة أن فيها دلالة واضحة لمذهبهم من أن الله لا يشاء المعاصي والكفر كما تبجح بذلك منهم الطبرسي الشيعي في تفسيره وقال: إن فيها تكذيبا ظاهرا لمن أضاف مشيئة ذلك إلى الله سبحانه، وكذا الزمخشري في تفسيره. ومعلوم أن عقيدة الفرقة الناجية الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن, وأنه ما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه، لا يكون في ملكه إلا ما يريد، وهو خالق لأفعال العباد. وقد خالف في ذلك عامة القدرية -الذين سماهم النبي -صلى الله عليه وسلم- مجوس هذه الأمة- فقالوا: لا إرادة إلا بمعنى المشيئة وهو لم يرد إلا ما أمر به، ولم يخلق شيئا من أفعال العباد فعندهم أكثر ما يقع من أفعال العباد على خلاف إرادته تعالى. ولما كان قولهم هذا في غاية الشناعة تبرأ منهم الصحابة، وأصل بدعتهم -كما قال ابن تيمية- كانت من عجز عقولهم عن الإيمان بقدر الله والإيمان بأمره ونهيه, وسنبين تحقيق ذلك بعد أن نورد شبهتهم في هذه الآية وندفعها -بعون الله تعالى- بعدة وجوه فنقول: "قالوا": إن الله تعالى حكى عن المشركين أنهم قالوا: أشركنا بإرادة الله تعالى ولو أراد عدم إشراكنا لما أشركنا ولما صدر عنا تحريم المحللات، فقد أسندوا كفرهم وعصيانهم إلى إرادته تعالى كما تزعمون أنتم. ثم إنه تعالى رد عليهم مقالتهم وبين بطلانها وذمهم عليها وأوعدهم عليها وعيدا شديدا, فلو كان يجوز إضافة المشيئة إلى الله تعالى في ذلك, على ما تضيفون أنتم، لم يكن يرد ذلك عليهم ويتوعدهم!   1 سورة الأنعام: من الآيتين 148 و149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 "قلنا": إن المشيئة في الآية تتخرج على وجوه, ثم ذكر الشيخ القاسمي -رحمه الله تعالى- سبعة وجوه في الرد على شبهتهم نكتفي بإيراد واحد من هذه الوجوه عن الباقي, قال رحمه الله: "إن المشيئة في الآية بمعنى الأمر والدعاء إلى ذلك, أي: يقولون: إن الله أمرهم بذلك ودعاهم إليه كما أخبر عنهم في سورة الأعراف بقوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} فرد تعالى عليهم بقوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} ". ثم ذكر -رحمه الله تعالى- بقية الوجوه في الرد على شبهتهم, ونقل بعد هذا نصا لابن القيم الدمشقي من كتابه: طريق الهجرتين, ثم بحثا ضافيا لابن تيمية وأعقب هذا كله بقوله: إذن معنا قضيتان قطعيتا الثبوت: "إحداهما": كون الإنسان يعمل بقدرة وإرادة يبعثها علمه على الفعل أو الترك والكف، وهي بديهية. و"الثانية": هي أن الله هو الخالق الذي بيده ملكوت كل شيء وهي نظرية, ويتولد من هاتين القضيتين القطعيتين مسألتان نظريتان: الأولى: ما الفرق بين علم الله تعالى وإرادته وقدرته, وبين علم الإنسان وإرادته وقدرته؟ والجواب من وجوه. ... ثم ذكر -رحمه الله تعالى- ثلاثة وجوه أجملها في آخرها فقال: وبالجملة: إن المشاركة بين صفات الله تعالى وصفات عباده إنما هي في الاسم لا في الجنس, كما زعم بعضهم فبطل زعم من قال: إن إثبات كون الأفعال التي تصدر من الإنسان هي بقدرته وإرادته, يقتضي أن يكون شريكا لله تعالى, {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} . المسألة الثانية: وهي عضلة العقد ومحك المنتقد, أن القضاء عبارة عن تعلق علم الله تعالى أو إرادته في الأزل بأن الشيء يكون على الوجه المخصوص من الوجوه الممكنة والقدر وقوع الأشياء فيما لا يزال على وفق ما سبق في الأزل, ومن الأشياء التي يتعلق بها القضاء والقدر أفعال العباد الاختيارية، فإذا كان قد سبق القضاء المبرم بأن زيدا يعيش كافرا ويموت كافرا, فما معنى مطالبته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 بالإيمان وهو ليس في طاقته, ولا يمكن في الواقع ونفس الأمر أن يصدر منه؛ لأنه في الحقيقة مجبور على الكفر في صورة مختارة له؟ كما قال بعضهم. والجواب عن هذا: إن تعلق العلم والإرادة بأن فلانا يفعل كذا لا ينافي أن يفعله باختيار إلا إذا تعلق العلم بأن يفعله مضطرا كحركة المرتعش مثلا، ولكن أفعال العباد الاختيارية قد سبق في القضاء بأنها تقع اختيارية, أي: بإرادة فاعليها لا رغما عنهم, وبهذا صح التكليف ولم يكن التشريع عبثا ولا لغوا. وثم وجه آخر في الجواب، وهو: لو كان سبق العلم أو الإرادة بأن فاعلا يفعل كذا يستلزم أن يكون ذلك الفاعل مجبورا على فعله لكان الواجب، تعالى وتقدس، مجبورا على أفعاله كلها؛ لأن العلم الأزلي قد تعلق بذلك، وكل ما تعلق به العلم الصحيح لا بد من وقوعه. فتبين بهذا أن الجبرية ومن تلا تلوهم قد غفلوا عن معنى الاختيار واشتبهت عليهم الأنظار فكابروا الحس والوجدان ودابروا الدليل والبرهان وعطلوا الشرائع والأديان وتوهموا أنهم بعظمون الله, ولكنهم ما قدروا الله حق قدره ولا فقهوا سر نهيه وأمره، حيث جرءوا الجهال على التنصل من تبعة الذنوب والأوزار، وادعاء البراءة لأنفسهم والإحالة باللوم على القضاء والقدر، وذلك تنزيه لأنفسهم من دون الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل ذلك إغراء للإنسان بالانغماس في الفسوق والعصيان، فيا عجبا لهم كيف جعلوا أعظم الزواجر من الإغراء وهو الاعتقاد بإحاطة علم الله بالأشياء, أليس من شأن من لم يفسد الجبر فطرته ويظلم الجهل بصيرته أن يكون أعظم مهذب لنفسه ومؤدب لعقله وحسه اعتقاده بأن الله عليم بما يسر ويعلن ويظهر ويبطن, وأنه ناظر إليه ومطلع عليه؟ بلى إن الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك, وأما الذين ضلوا السبيل واتبعوا فاسد التأويل فيقولون كما قال من قبلهم وقص الله علينا ذلك بقوله عز وجل: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} الآية، فانظر كيف رماهم العليم الحكيم بالجهل وجعل احتجاجهم بالقدر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 أسباب وقوع البأس والبلاء بهم. وفي هذا القدر كفاية لمن لم ينطمس نور الفطرة من قلبه, والله عليم حكيم1. أهل الكبائر: في تفسير قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 2، قال رحمه الله تعالى: "ذهب أهل السنة والجماعة إلى أن الخلود في النار إنما هو للكفار والمشركين؛ لما ثبت في السنة تواترا من خروج عصاة الموحدين من النار, فيتعين تفسير السيئة والخطيئة في هذه الآية بالكفر والشرك, ويؤيد ذلك كونها نازلة في اليهود"3. وبهذا النحو فسر قوله تعالى عن آكلي الربا: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 4، قال: "ومن عاد أي: إلى تحليل الربا بعد النص, فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون"؛ لكفرهم بالنص وردهم إياه بقياسهم الفاسد بعد ظهور فساده, ومن أحل ما حرم الله عز وجل فهو كافر فلذا استحق الخلود, وبهذا تبين أنه لا تعلق للمعتزلة بهذه الآية في تخليد الفساق حيث بنوا على أن المتوعد عليه بالخلود العود إلى فعل الربا خاصة ولا يخفى أنه لا يساعدهم على ذلك الظاهر الذي استدلوا به. فإن الذي وقع العود إليه محمول على ما تقدم كأنه قال: ومن عاد إلى ما سلف ذكره، وهو فعل الربا واعتقاد جوازه والاحتجاج عليه بقياسه على البيع، ولا شك أن من تعاطى معاملة الربا مستحلا لها مكابرا في تحريمها مسندا إحلالها إلى معارضة آيات الله البينات, بما يتوهمه من الخيالات, فقد كفر ثم ازداد كفرا وإذ ذاك يكون الموعود بالخلود في الآية من يقال: إنه كافر مكذب غير مؤمن, وهذا لا خلاف فيه فلا دليل إذًا للمعتزلة على اعتزالهم في هذه الآية والله الموفق, أشار لذلك في الانتصاف. قال في فتح البيان:   1 محاسن التأويل: ج6 من ص2542 إلى ص2563 باختصار. 2 سورة البقرة: الآية 81. 3 محاسن التأويل: ج2 ص177. 4 سورة البقرة: من الآية 275. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 والمصير إلى هذا التأويل واجب؛ للأحاديث المتواترة القاضية بخروج الموحدين من النار1. الولاء والبراء: فسر -رحمه الله تعالى- قوله سبحانه: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} 2 الآية، بقوله: "أي: لا تجد قوما جامعين بين الإيمان بالله واليوم الآخر وبين موادة أعداء الله ورسوله. والمراد بنفي الوجدان نفي الموادة على معنى أنه لا يبنغي أن يتحقق ذلك وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتوصية بالتصلب في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والاحتراس من مخالطتهم ومعاشرتهم, وزاد ذلك تأكيدا وتشديدا بقوله: {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} أي: آباء الموادين, والضمير في: {كَانُوا} لمن حاد الله ورسوله والجمع باعتبار معنى {مَنْ} كما أن الإفراد فيما قبله باعتبار لفظها"3. أهل البيت: في قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} 4، قال رحمه الله تعالى: "أي أن تودوني في القرابة التي بيني وبينكم، وتصلوا الرحم التي بيننا ولا يكن غيركم يا معشر قريش أولى بحفظي ونصرتي ومودتي منكم ... والاستثناء منقطع ومعناه نفي الأجر أصلا؛ لأن ثمرة مودتهم عائدة إليهم لكونها سبب نجاتهم فلا تصلح أن تكون أجرا له. وقيل: المعنى أن تودوا قرابتي والذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم وقيل: {الْقُرْبَى} التقرب إلى الله تعالى أي: إلا أن تتوددوا إلى الله فيما يقربكم إليه، والمعنى الأول هو الذي عوّل عليه الأئمة   1 محاسن التأويل: ج3 ص709. 2 سورة المجادلة: من الآية 22. 3 محاسن التأويل: ج16 ص5729. 4 سورة الشورى: من الآية 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 ولم يرتض ابن عباس -رضي الله عنه- غيره, ففي البخاري عنه -رضي الله عنه- أنه سئل عن قوله تعالى: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فقال سعيد بن جبير: {الْقُرْبَى} آل محمد فقال ابن عباس: عجلت, إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة فقال: "إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة" 1، ثم لخص -رحمه الله تعالى- ما ورد في تفسير ابن كثير، وأورد كلام ابن تيمية في ذلك من كتابه: منهاج السنة, وفيه رد على تأويلات الشيعة في هذه الآية بما يبطلها، ولولا أني التزمت أن لا أنقل إلا نصوص المؤلف وأقواله لنقلتها لإبطال مزاعم الشيعة في ذلك فليرجع إليها في موضعها من يطلب الحق. الشفاعة: رد -رحمه الله تعالى- على من ينكر الشفاعة, فقال في تفسير قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} 2، قال: "تمسكت المعتزلة بهذه الآية على أن الشفاعة لا تقبل للعصاة؛ لأنه نفى أن تقضي نفس عن نفس حقا أخلت به من فعل أو ترك، ثم نفى أن يقبل منها شفاعة شفيع فعلم أنها لا تقبل للعصاة. والجواب: أنها خاصة بالكفار, ويؤيده أن الخطاب معهم كما قال: {مَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} 3، وكما قال عن أهل النار: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ، وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} 4، فمعنى الآية أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة ولا ينقذ أحدا من عذابه منقذ ولا يخلص منه أحد"5. تلكم أمثلة من تفسير محاسن التأويل لجمال الدين القاسمي -رحمه الله   1 محاسن التأويل: ج14 ص5237-5238؛ وانظر صحيح البخاري, كتاب التفسير ج6 ص37. 2 سورة البقرة: من الآية 48. 3 سورة المدثر: من الآية 48. 4 سورة الشعراء: الآيتان 100-101. 5 محاسن التأويل: ج2 ص121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 تعالى- نهج فيها نهج أهل السنة والجماعة, لا يعطل صفة ولا يشبه ولا يمثل، ولا يرد حديثا صحيحا ولا يطنب في بيان مبهم ولا يعنى بإيراد الإسرائيليات, وهو في كل هذا لا يكاد يخطو خطوة في تفسيره إلا في طريق اتضحت جادته ورأى فيها آثار علماء السلف الصالح, فبهم يقتدي ولأقوالهم يستدل. ولا يكاد القارئ يدلج في تفسيره حتى يتضح له أن المؤلف -رحمه الله تعالى- يكتفي بالنقل عن علماء السلف، ويورد حججهم وأدلتهم، وردودهم على شبه الخصوم بما يؤكد أن المؤلف -رحمه الله تعالى- كان يجعل همه -كل همه- الإصلاح ليس إلا وإنما يورد هذه النصوص -كما أسلفنا- ليلجم بها الخصوم فإنهم إن استطاعوا جدلا رد أقواله، صعب عليهم إبطال أقوال علماء بهم يقتدون ولعلمهم يعترفون, فكانت حجته لهم غالبة. ولالتزامي بأن لا أنقل إلا عبارته وأن لا أستدل إلا بنصوصه فإني لم أكد أجد في بعض القضايا له من لفظ إلا الربط بين نصوص علماء السلف؛ ولذا كانت بعض العقائد هنا غفلا من إيراد تفسيره لها, رحمه الله تعالى, ونفع بتفسيره وبسائر مؤلفاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 رأيي في هذا المنهج : لا شك أن منهج أهل السنة والجماعة في التفسير هو أسلم المناهج كسلامة منهجهم في العقيدة, وهل العقيدة الصحيحة إلا الفهم الصحيح للقرآن الكريم, وللسنة النبوية. وإن كانت من فروق بين مفسري أهل السنة والجماعة في القديم وفي العصر الحديث, فثم فروق بعضها يحسب حسنة للسابقين وبعضها فضيلة للمتأخرين. أول هذه الفروق حسب ملاحظتي القاصرة أن المفسرين السابقين أو أكثرهم يعتني بتفصيل عقيدة أهل السنة والجماعة فيما يمر في تفسيره من آيات قرآنية ويرد على شبه الخصوم وعلى الملل والنحل الباطلة والتفسيرات المنحرفة حتى إذا قضى عليها وطمس باطلها صب في أذنيك القول الصحيح والتفسير السليم, فلا يبقى في ذهنك إلا مذهب السلف الحق ولم تقم لغيره قائمة ولا تعكر صفوه شبهة. أما المفسرون في العصر الحديث, فإن أكثرهم وفي أكثر المسائل الخلافية لا يكاد يعرض لبيان تفسير باطل يرد عليه، أو نحلة منحرفة يبطلها ويكشف زيفها، بل يتجه اتجاها مباشرا إلى ألفاظ الآية وما تدل عليه من غير تعرض للشبهات والتفسيرات الزائفة ومن غير تعرض أحيانا إلى جلاء الحقيقة في معركة احتدمت في هذه الآية أو تلك, فكأنه وقر في ذهنه أنه إنما يؤلف لطائفة لا تجادل في معنى ولا تطلب دليلا لمنحى. وهذا أمر أحسب أن تلافيه واجب وأن الحاجة ماسة إلى تفسير يعنى فيه صاحبه إلى بيان عقائد أهل السنة وشرحها وبيان ما يتعلق بها وما يثار حولها من شبهات وما يستدل به منها بعض النحل وبيان الحق الواضح والدواء الشافي بما يجلو كل شبهة, ويثبت كل حقيقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وإن كان هذا الفارق يحسب لصالح المفسرين السابقين, فإن الفارق الثاني يعد من حسنات المعاصرين من أهل السنة والجماعة, ألا وهو نبذ الإسرائيليات, فلا تكاد تجد بينهم -والحمد لله- من يعتني بها أو يوردها إلا ما ندر. وفي مقابل ذلك نجد بعض تفاسير علماء السلف السابقين لم يطهروا تفاسيرهم منها, فأوردها بعضهم -رحمهم الله تعالى- وأطال فيما أورد إطالة خرجت عن حد المقبول إلى حد المذموم. وثمة فارق ثالث وهو عناية كثير من المفسرين في العصر الحديث بتطبيق التفسير على المجتمع وتوجيه الأمة إلى ما ينبغي أن يكونوا عليه حسب توجيهات القرآن الكريم، والعبور من خلال آيات القرآن الكريم إلى علاج مشاكل المجتمع الإسلامي السياسي والاجتماعي والاقتصادي, وهو أمر لا نظلم السابقين فننكر وجوده عندهم, ولكنه لم يكن كمنزلته عند المعاصرين ولم يعتنوا به عنايتهم. وفارق رابع برز في تفاسير المعاصرين وهو الاهتمام بالتفسير العلمي التجريبي وهو وإن كنا سنفرده -إن شاء الله- بحديث إلا أن وروده هنا كفارق بين القديم والحديث فقد اعتنى به المعاصرون أو أكثرهم لا أريد به ما يقع من المتطرفين ولكن تلك الإشارات واللمحات الخاطفة بين ثنايا التفسير التي تشير في غالبها إشارة تدبر وتفكر لا إشارة تفسير وربط بين النص والنظرية, هذه الإشارات تجدها في تفاسير المعاصرين أكثر منها عند من سبقهم. وفارق خامس وهو الميل إلى اختصار العبارة أدى إلى اختصار الأبحاث ثم تولد عندهم ميل إلى المختصرات فاختصروا تفاسير السابقين كابن كثير والنسفي والبيضاوى وغيرهم, بل مالوا إلى جمع الصفوة من التفاسير وإلى المختارات منها ولا أدري سبب ذلك: أهو ضعف في عطاء المفسر أو ضعف في همة المتلقي. وقد اكتفى بعض المفسرين من التفسير بتفسير سورة منه أو سور معدودة، لا أغمط بهذا حق بعضهم ممن أجاد وأفاد, ولكني قصدت بعضهم وبعضهم قليل, والله المستعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 الفصل الثاني: منهج الشيعة في تفسير القرآن الكريم تعريف الشيعة : شيعة الرجل بالكسر: أتباعه وأنصاره، والفرقة على حدة، ويقع على الواحد والمثنى والجمع, والمذكر والمؤنث1, ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} 2. وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة ... وكل من عاون إنسانا وتحزب له فهو له شيعة3. قال في القاموس: "وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولى عليا وأهل بيته, حتى صار اسما لهم خاصا"1، والحق أن هذا غير صحيح؛ لأن أهل السنة والجماعة يتولون عليا -رضي الله عنه- وأهل بيته، ولا يطلق عليهم شيعة, إذن فلا بد من إطلاق آخر. وإذا ما طلبنا تعريفا لهم من كتبهم وجدنا شيخهم "المفيد" يقرر أن لفظ الشيعة يطلق على "أتباع أمير المؤمنين علي, على سبيل الولاء والاعتقاد لإمامته بعد الرسول -صلوات الله عليه وآله- بلا فصل ونفي الإمامة عمن تقدمه في مقام الخلافة وجعله في الاعتقاد متبوعا لهم غير تابع لأحد منهم على وجه الاقتداء"4.   1 القاموس المحيط: الفيروزآبادي مادة شاع ج3 ص47. 2 سورة الصافات: الآية 83. 3 تاج العروس: محمد مرتضى الزبيدي ج5 ص405. 4 أوائل المقالات: أبو عبد الله العكبري, الملقب بالمفيد ص3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وهو نفسه يعترف بأن هذا التعريف "لا يشمل إلا الإمامية والجارودية من فرقة الزيدية, أما باقي فرقة الزيدية فلا يشملهم التشيع، وكذا لم يعتبر في التعريف الاعتقاد بإمامة أئمتهم المعروفين بعد علي -رضي الله عنه- مع أنه هو ومشايخهم ينكرون سمة التشيع لمن لم يؤمن بالأئمة, وزد على هذا العقائد الأخرى كالتقية والرجعة وغيرهما, فقد ربط علماؤهم وصف التشيع بالإيمان بها وكل هذا غير داخل في تعريف المفيد. وهناك تعاريف أخرى كثيرة وكلها تدور حول وصف الإيمان بإمامة علي -رضي الله عنه- ولا يذكر الخصائص الأخرى التي لا يشاركهم فيها أحد غيرهم؛ ولهذا فإن بعض علمائهم يتمسك بتعريف ابن حزم للشيعة حيث قال: "ومن وافق الشيعة في أن عليا -رضي الله عنه- أفضل الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأحقهم بالإمامة وولده من بعده فهو شيعي, وإن خالفهم فيما عدا ذلك مما اختلف فيه المسلمون, فإن خالفهم فيما ذكرنا فليس شيعيا"1. ومن هذا نرى أن ابن حزم جعل من خصائصهم الإيمان بإمامة علي -رضي الله عنه- وولده من بعده، فهو أدق من تعريف المفيد, وبين أيضا أن هذا هو الأصل في التشيع ولا أثر بعد ذلك فيما عداه من العقائد الأخرى, ويقصد بها التقية والعصمة والرجعة وغيرها. ومع أن هذا التعريف فيما نرى هو الأقرب وهو الذي اختاره بعض كتاب الشيعة المعاصرين, فإنه ينبغي أن نفرق بين الشيعة في أطوارهم الأولى والشيعة المتأخرين, فالشيعي في الطور الأول يطلق على كل من فضّل عليا وقدمه على عثمان -رضي الله عنهما- ولهذا قال ليث بن أبي سليم, الذي أخرج له مسلم: "أدركت الشيعة الأولى وما يفضلون على أبي بكر وعمر أحدا"2، وقال أبو إسحاق السبيعي: "خرجت من الكوفة وليس أحد يشك في فضل أبي بكر   1 الفصل في الملل والأهواء والنحل: ابن حزم، ج2 ص107. 2 المنتقى من منهاج الاعتدال: أبو عبد الله الذهبي ت360-361. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وعمر وتقديمهما وقدمت الآن وهم يقولون ويقولون ولا والله ما أدري ما يقولون"1. ولما سأل سائل شريك بن عبد الله -الذي أخرج له البخاري ومسلم وغيرهما- فقال له: أيهما أفضل أبو بكر أو علي؟ فقال له: أبو بكر، فقال له السائل: تقول هذا وأنت شيعي؟ فقال له: نعم ومن لم يقل هذا فليس شيعيا والله لقد رقى علي هذه الأعواد فقال: ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر فكيف نرد قوله وكيف نكذبه؟ والله ما كان كذابا2. ولهذا لا يستغرب وجود طائفة من أعلام المحدثين وغيرهم يطلق عليهم وصف التشيع وهم من أعلام السنة, ذلكم أن للتشيع في زمن السلف مفهوما آخر غير مفهومه لدى المتأخرين3؛ ولهذا فرق الذهبي في ميزانه بين التشيع في عهد السلف والتشيع عند المتأخرين فعد الأول بدعة صغرى لا يرد معها الحديث ولو رد لذهبت جملة من الآثار النبوية، وعد الثاني بدعة كبرى كالرفض والغلو فيه والحط على أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة4. وكما مر بنا, فإن تعريف ابن حزم الذي نقلناه آنفا لا يدخل فيه الشيعة في عصر السلف فهو مختص بمن بعدهم؛ ولذا فإنا نراه هو الأقرب للصواب, والله أعلم.   1 المرجع السابق ص360. 2 منهاج السنة: ابن تيمية ت محمد رشاد سالم ج1 ص7 و8. 3 فكرة التقريب بين أهل السنة والشيعة: رسالة ماجستير مسحوبة على الإستنسل للشيخ ناصر القفاري ج1 ص115. 4 ميزان الاعتدال لأبي عبد الله محمد بن أحمد الذهبي ج1 ص5 و6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 بداية ظهور التشيع : اختلف المؤرخون في بداية ظهور التشيع: القول الأول: وهو رأي الشيعة أنفسهم, أن بداية ظهور التشيع كان في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه، فقال محمد الحسين آل كاشف الغطاء: "إن أول من وضع بذرة التشيع في حقل الإسلام هو نفس صاحب الشريعة الإسلامية, يعني أن بذرة التشيع وضعت مع بذرة الإسلام جنبا إلى جنب وسواء بسواء, ولم يزل غارسها يتعاهدها بالسقي والعناية حتى نمت وأزهرت في حياته ثم أثمرت بعد وفاته"1، ثم استدل لذلك بأدلة واهية ليس هذا مجال نقدها وإبطالها. القول الثاني: إن التشيع ظهر يوم السقيفة بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث دعا بعض الصحابة في هذا اليوم إلى استخلاف علي، رضي الله عنه. والحق أنه لا دلالة في هذه الحادثة على بداية ظهور التشيع. القول الثالث: أن التشيع حدث يوم مقتل عثمان، رضي الله عنه2. قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى: "ففي خلافة أبي بكر وعمر وعثمان لم يكن أحد يسمى من الشيعة ولا تضاف الشيعة إلى أحد. فلما قتل عثمان تفرق المسلمون فمال قوم إلى أولياء عثمان, ومال قوم إلى علي, وقيل حينئذ: شيعة علي وشيعة عثمان"3. القول الرابع: أن موقعة صفين, والتحكيم بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما- هو بداية ظهور التشيع, وظهور الخوارج أيضا4. القول الخامس: أن مقتل الحسين بن علي -رضي الله عنهما- يعتبر بداية لظهور التشيع5. هذه مجمل الأقوال في بداية ظهور التشيع, أقربها فيما نرى القول الثالث وليس هذا موضع تحقيق ذلك.   1 أصل الشيعة وأصولها: محمد حسين آل كاشف الغطاء ص43. 2 انظر المذاهب الإسلامية: محمد أبو زهرة ص51-54. 3 منهاج السنة: ابن تيمية ج2 ص64. 4 نظرية الإمامة لدى الشيعة الاثني عشرية: أحمد محمود صبحي ص40؛ وتاريخ الإمامية: عبد الله فياض ص37. 5 نظرية الإمامة: أحمد صبحي ص47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 فرق الشيعة مدخل ... فرق الشيعة: ولم تتفق الشيعة في المذهب والعقيدة، بل افترقوا إلى فرق شتى. غالى بعضهم وتطرف في مذهبه حتى خرج عن ربقة الإسلام, وتوسط بعضهم حتى كاد أن يكون من أهل السنة والجماعة. وليس من شأني هنا أن أتناول جميع فرقهم ومذاهبهم, ولكني أقتصر على بيان, بل بعض بيان للفرق المعاصرة في المذهب الشيعي حيث اندثرت أكثر الفرق. وقد ذكر مصطفى غالب1: "أنه لم يبق من جميع فرق الشيعة حتى الآن إلا الإمامية الجعفرية الاثنا عشرية، والزيدية، والإسماعيلية -الآغاخانية والبهرة- والنصيرية والدرزية المتفرعة عن الإسماعيلية"2. وحدد مصطفى غالب مرتكز الخلاف بين فرق الشيعة بأنه: "في سوق الإمامة، وفي أشخاص الأئمة. فالكيسانية منهم أخرجوها عن ولد فاطمة بعد الاعتراف بإمامة علي والحسن والحسين "ع" وكذلك صنع الزيدية, فإنهم لم يعترفوا بإمامة الأئمة من بعد الإمام "الرضا" لعدم تحقق شرائط الإمامة فيهم على مذهبهم، وأما الإسماعيلية فقد وافقوا الإمامية في إمامة خمسة منهم وافترقوا عنهم في إمامة السادس وهو عند الإمامية السابع موسى بن جعفر الصادق إلى تمام اثني عشر إماما وعند الإسماعيلية إسماعيل بن جعفر "ع" وولده مبتدئة بمحمد بن إسماعيل وبعقبه إلى يوم الناس هذا"3. وعلى هذا يكون التقسيم التقريبي لهذه الفرق على الشكل التالي:   1 أحد دعاة الإسماعيلية في العصر الحديث والمروجين لأفكارهم. 2 الحركات الباطنية في الإسلام: مصطفى غالب ص56. 3 المرجع السابق: ص57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 2- الدرزية. 3- النصيرية. 4- الزيدية. وندرسها على هذا الترتيب. الإمامية: نسبة إلى الإمامة. وهم يعتقدون "أن هذا هو الأصل الذي امتازت به الإمامية وافترقت عن سائر فرق المسلمين وهو فرق جوهري أصلي"1. ويعتقدون أن الإمامة كالنبوة لا تكون إلا بالنص من الله تعالى على لسان رسوله أو لسان الإمام المنصوب بالنص إذا أراد أن ينص على الإمام من بعده2. ويعتقدون: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نص على خليفته والإمام في البرية من بعده. فعين ابن عمه علي بن أبي طالب أميرا للمؤمنين وأمينا للوحي وإماما للخلق"1. ويعتقدون أن الإمامة لعلي -رضي الله عنه- جاءت بطريق التلويح والتصريح والإشارة والنص3، وليس كما يعتقد الزيدية أنها بطريق التعريض بالوصف. ويعتقدون أن الإمامة انتقلت من بعد علي بن أبي طالب إلى الحسن بن علي ثم إلى أخيه الحسين بن علي ثم إلى ابنه علي بن الحسين "زين العابدين"، ثم إلى ابنه محمد بن علي "الباقر" ثم إلى ابنه جعفر بن محمد "الصادق". ثم افترقوا بعد ذلك إلى فرقتين: 1- الإمامية "الاثني عشرية". 2- الإمامية "السبعية" أو الإسماعيلية.   1 أصل الشيعة وأصولها: محمد الحسين آل كاشف الغطاء ص65. 2 عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر ص103. 3 أصل الشيعة وأصولها: محمد الحسين آل كاشف الغطاء ص66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 الإمامية الإثنى عشرية ... الإمامية الاثنا عشرية: ويرون أن الإمامة انتقلت بعد جعفر الصادق إلى ابنه موسى "الكاظم" ثم إلى ابنه علي الرضا ثم إلى ابنه محمد "الجواد"، ثم إلى ابنه علي "الهادي" ثم إلى ابنه "الحسن العسكري", ثم إلى ابنه محمد "المهدي" المنتظر في عقيدتهم, وبهذا يكون الأئمة عندهم اثني عشر فنُسبوا إلى هذا1. وأصول العقيدة عندهم خمسة2: الأول: التوحيد. الثاني: النبوة. الثالث: الإمامة. الرابع: العدل. الخامس: المعاد. وهذه الأصول الخمسة تتضمن عقائد أخرى انفردت بها الإمامية الاثنا عشرية ومنها: 1- البداء: حيث يقسمون القضاء الإلهي إلى ثلاثة أقسام: الأول: قضاء الله الذي لم يطلع عليه أحد من خلقه, والعلم المخزون الذي استأثر به لنفسه. "قالوا": ولا ريب في أن البداء لا يقع في هذا القسم.   1 أصل الشيعة وأصولها: محمد الحسين آل كاشف الغطاء ص59. 2 المرجع السابق. انظر الصفحات 61-75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 الثاني: قضاء الله الذي أخبر نبيه وملائكته بأنه سيقع حتما. "قالوا": ولا ريب في أن هذا القسم أيضا لا يقع فيه البداء. الثالث: قضاء الله الذي أخبر نبيه وملائكته بوقوعه في الخارج, إلا أنه موقوف على أن لا تتعلق مشيئة الله بخلافه. "قالوا": وهذا القسم هو الذي يقع فيه البداء1. ومعنى ذلك عندهم أنه تعالى قد يظهر شيئا على لسان نبيه أو وليه أو في ظاهر الحال لمصلحة تقتضي ذلك الإظهار ثم يمحوه فيكون غير ما قد ظهر أولا مع سبق علمه تعالى بذلك كما في قصة إسماعيل لما رأى أبوه إبراهيم أنه يذبحه2 ... قالوا: وقريب من البداء في هذا المعنى نسخ أحكام الشرائع السابقة بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم. بل نسخ بعض الأحكام التي جاء بها نبينا صلى الله عليه وسلم2. 2- الإمامة والعصمة: فقالوا: "ونعتقد أن الإمام كالنبي يجب أن يكون معصوما من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن, من سن الطفولة إلى الموت عمدا وسهوا كما يجب أن يكون معصوما من السهو والخطأ والنسيان"3. 3- المهدية: ويعتقدون أن المهدي: "هو شخص معين معروف, ولد سنة 256 هجرية ولا يزال حيا, هو ابن الحسن العسكري واسمه "محمد""4. 4- الرجعة: وهي مرتبطة بالعقيدة السابقة في المهدي, ذلك أنهم يعتقدون: "أن الله   1 البيان في تفسير القرآن: أبو القاسم الموسوي الخوثي ص387 و388. 2 عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر ص70. 3 المرجع السابق: ص45. 4 المرجع السابق: ص108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 تعالى يعيد قوما من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها, فيعز فريقا ويذل فريقا آخر, ويديل المحقين من المبطلين والمظلومين منهم من الظالمين, وذلك عند قيام مهدي آل محمد، عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام"1. وقالوا: "ولا يرجع إلا من علت درجته في الإيمان, أو من بلغ الغاية من الفساد"1. 5- التقية: ويعرفونها بأنها: "كتمان الحق وستر الاعتقاد فيه ومكالمة المخالفين وترك مخالفتهم بما يعقب ضررا في الدين والدنيا"2. وما زالت التقية سمة تعرف بها الإمامية دون غيرها من الطوائف والأمم3. 6- أنهم لا يقبلون من السنة إلا ما صح لهم من طرق أهل البيت عن جدهم, يعني ما رواه الصادق عن أبيه الباقر عن أبيه زين العابدين عن الحسين السبط عن أبيه أمير المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما ما يرويه مثل أبي هريرة وسمرة بن جندب ومروان بن الحكم وعمران بن حطان وعمرو بن العاص ونظائرهم, فليس له عند الإمامية من الاعتبار مقدار بعوضة4. 7- أنهم لا يعملون بالقياس وينسبون إلى أئمتهم القول: "إن الشريعة إذا قيست محق الدين"4. 8- وفي الصلاة تعطل الإمامية الاثنا عشرية صلاة الجمعة؛ لأنها لا تجوز   1 عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر ص109. 2 الصلة بين التصوف والتشيع: كامل مصطفى الشيبي ص403. 3 عقائد الإمامية: محمد المظفر ص114. 4 أصل الشيعة وأصولها: محمد الحسين آل كاشف الغطاء ص79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 ما دام الإمام غائبا, ولا تقام حتى يظهر الإمام المستتر, وقد أمر الخميني في شعبان سنة 1400 بأداء صلاة الجمعة. 9- الخمس: ويجب عندهم في سبعة أشياء: 1- غنائم دار الحرب. 2- الغوص. 3- الكنز. 4- المعدن. 5- أرباح المكاسب. 6- الحلال المختلط بالحرام. 7- الأرض المنتقلة من المسلم إلى الذمي. ويدفع الخمس إلى الإمام إن كان ظاهرا وإلى نائبه وهو "المجتهد العادل" إن كان غائبا. وهو عندهم حق فرضه الله لآل محمد -صلى الله عليه وسلم- عوض الصدقة التي حرمها عليهم من زكاة الأموال والأبدان. 10- نكاح المتعة: أو عقد الانقطاع, والمراد به عقد الزواج إلى أجل مسمى, وتجب العدة على الزوجة بعده: "وهي على الأقل خمسة وأربعون يوما"1. هذه: هي أهم سمات مذهب الإمامية الاثني عشرية وما تتميز به عن سائر المذاهب الأخرى, اكتفينا منها بأهمها ومن عرضها بالإشارة حتى لا يطغى على مسار البحث وهدفه.   1 المرجع السابق: ص 112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 منهجهم في تفسير القرآن الكريم: ولهم منهج مستقل في التفسير ساروا عليه لا يشاركهم أحد في جميع جوانبه. وتتعدد نواحي الخلاف بين منهجهم ومنهج أهل السنة والجماعة. طرق التفسير: فأصح طرق التفسير عند أهل السنة والجماعة -كما مر- والشيعة أيضا تفسير القرآن بالقرآن ثم بأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم اختلفوا بعد ذلك فأهل السنة يأخذون بعد هذا بأقوال الصحابة أما الإمامية الاثنا عشرية فهي: "ترى أن الصحابة والتابعين كبقية المسلمين لا حجية في أقوالهم إلا ما ثبت أنه حديث نبوي"1. أما الطريق عندهم بعد أقوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- فهي أقوال أئمتهم, قالوا: "وقد ثبت بطرق متواترة في حديث الثقلين أن أقوال العترة الطاهرة من أهل بيته -عليهم السلام- هي تالية لأقوال الرسول, فهي حجة أيضا"2. بل وتجاوزوا هذا, فرفضوا ما رواه الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وردوا رواياتهم كلها إلا ما صح من طرق أهل البيت, حيث يقول محمد الحسين آل كاشف الغطاء عن فرقته الإمامية ومذهبهم في قبول الروايات: "إنهم لا يقبلون من السنة "أعني: الأحاديث النبوية" إلا ما صح لهم من طرق أهل البيت"3. أما القياس فقد سبق ذكر قولهم: "إن الإمامية لا تعمل بالقياس, وقد تواتر عن أئمتهم أن الشريعة إذا قيست محق الدين"3. أما الإجماع, فليس حجة بنفسه إلا إذا كان الإمام المعصوم من المجمعين، أو كان الإجماع يعتمد على دليل معتبر، أو كاشفا عن رأيه في المسألة4. أما العقل ودليله, فلا يدخل فيه عندهم القياس ولا المصالح ولا الاستحسان4.   1 القرآن في الإسلام: محمد حسين الطباطبائي ص59 و60. 2 المرجع السابق: ص60. 3 أصل الشيعة وأصولها: محمد الحسين آل كاشف الغطاء ص79. 4 أعيان الشيعة، ج1 ص477 عن "التفسير والمفسرون" 2/ 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 إذن فطرق التفسير التي سلكوها هي تفسير القرآن بالقرآن وبالسنة "ويعنون بها ما ورد عن طرق أهل البيت" وبالإجماع بشرطه السابق، وبدليل العقل بخصوصه السابق. لذلك كان لهم آراء فقهية انفردوا بها بناء على هذه الأصول وجاء تفسيرهم لكثير من آيات الأحكام في القرآن الكريم متأثرا بهذه النظرة, كإباحة نكاح المتعة ومنع المسح على الخفين، وأن الواجب مسح الرجلين في الوضوء دون غسلهما ونحو ذلك ... وسيأتي إن شاء الله بيان بذلك. للقرآن ظاهر وباطن: وللقرآن عندهم ظهر وبطن ويقصدون بهذا: "أن للقرآن مراتب من المعاني المرادة بحسب مراتب أهله ومقاماتهم وأن الظهر والبطن أمران نسبيان فكل ظهر بطن بالنسبة إلى ظهره وبالعكس"1، ويستدل الطباطبائي لهذا بما ورد في "تفسير العياشي عن جابر قال: سألت أبا جعفر -عليه السلام- عن شيء من تفسير القرآن فأجابني, ثم سألته ثانية فأجابني بجواب آخر، فقلت: جعلت فداك, كنت أجبت في المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم! فقال: يا جابر, إن للقرآن بطنا, وللبطن بطن وظهرا وللظهر ظهر, يا جابر وليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن, إن الآية تكون أولها في شيء وأوسطها في شيء وآخرها في شيء, وهو كلام متصل ينصرف على وجوه"2. وقال: "وقد روي عن علي، عليه السلام: أن القرآن حَمَّال ذو وجوه"3، أما الراسخون الذين يعلمون تأويله فالمراد بهم عندهم آل محمد4, ويروون عن الصادق: نحن الراسخون في العلم, ونحن نعلم تأويله5.   1 أعيان الشيعة ج1 ص477 عن "التفسير والمفسرون" 2/ 26. 2 الميزان ج3 ص73. 3 تفسير الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي ج3 ص87. 4 المرجع السابق ج3 ص67. 5 المرجع السابق ج3 ص69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 أسلوب الجري في القرآن عندهم: وهو أن تطبق الآيات القرآنية على أئمتهم أو على أعدائهم, قال الطباطبائي في تفسيره: "واعلم أن الجري -وكثيرا ما نستعمله في هذا الكتاب- اصطلاح مأخوذ من قول أئمة أهل البيت عليهم السلام"1. وقال أيضا: "الروايات في تطبيق الآية القرآنية عليهم "عليهم السلام" أو على أعدائهم أعني: روايات الجري, كثيرة في الأبواب المختلفة, وربما تبلغ المئين"2. وسنعرض لهذا فيما بعد. التفسير العقلي: ذكرنا آنفا أن من طرق تفسير القرآن عندهم التفسير بالعقل وتفاسيرهم لمسائل علم الكلام متأثرة تأثرا بينا بنظرة المعتزلة, ويرجع هذا التأثر إلى أن عددا كبيرا من سلف الشيعة تتلمذ لبعض مشايخ المعتزلة, وهذا واضح بين في تفاسير الحسن العسكري، والشريف المرتضى, وأبي علي الطبرسي3 وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك في تفاسير المحدثين. تحريف القرآن: لا يكاد يذكر القول بتحريف القرآن إلا ويذكر مذهب الشيعة, ولا تكاد تقلب كتابا عن عقائد الشيعة إلا وتجده قد أفرد القول بتحريف القرآن بمقال, وهم فيما يكتبون سلكوا أحد طريقين: 1- إما أن يثبتوا بأدلتهم تحريف القرآن الكريم. 2- وإما أن ينكروا القول بالتحريف, وينكروا نسبته إلى الشيعة. ولنتحدث عمن سلك الطريق الأول.   1 المرجع السابق ج1 ص41. 2 المرجع السابق ج1 ص42. 3 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص25 و26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 القول بتحريف القرآن: ذكر إمامهم الخوئي في البيان في تفسير القرآن أن التحريف يراد منه عدة معانٍ: الأول: نقل الشيء عن موضعه وتحويله إلى غيره, ومنه قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عن مَوَاضِعِهِ} [4: 46] ثم ذكر أن كل من فسر القرآن بغير حقيقته وحمله على غير معناه فقد حرفه. الثاني: النقص أو الزيادة في الحروف أو في الحركات مع حفظ القرآن وعدم ضياعه, وإن لم يكن متميزا في الخارج عن غيره. الثالث: النقص أو الزيادة بكلمة أو كلمتين مع التحفظ على نفس القرآن المنزل. الرابع: التحريف بالزيادة والنقيصة في الآية والسورة مع التحفظ على القرآن المنزل, والتسالم على قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- إياها. ثم زعم أن هذه الأنواع الأربعة من التحريف واقعة في القرآن قطعا1. النوع الخامس: التحريف بالزيادة بمعنى أن بعض المصاحف الذي بأيدينا ليس من الكلام المنزل "والتحريف بهذا المعنى باطل بإجماع المسلمين، بل هو مما علم بطلانه بالضرورة"2، والحق أن كل من قرأت له ممن تعرض لهذا النوع ذكر الإجماع على عدم القول بتحريف القرآن بالزيادة فيه, إلا أني اطلعت على نص عند الشيعة يقول بهذا النوع, وهو ما رواه ميسرة عن أبي جعفر -عليه السلام- قال: "لولا أن زيد في كتاب الله ونقص منه ما خفي حقنا على ذي حجى"3.   1 البيان في تفسير القرآن: الخوئي ص197-199. 2 المرجع السابق ص200. 3 انظر تفسير العياشي 1/ 13؛ والصافي للمحسن الكاشي المقدمة السادسة ص10؛ والبرهان لهاشم البحراني 1/ 22؛ والبحار للحجلي 19/ 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 النوع السادس: التحريف بالنقيصة, بمعنى أن المصحف الذي بأيدينا، لا يشتمل على جميع القرآن الذي نزل من السماء, فقد ضاع بعضه من الناس. ثم قال: "والتحريف بهذا المعنى هو الذي وقع فيه الخلاف, فأثبته قوم ونفاه آخرون"1. والقول بتحريف القرآن الكريم عند الشيعة مما اتفقوا عليه من القرن الرابع إلى القرن السادس ولم ينكر أحد منهم القول بتحريف القرآن إلا أربعة: ابن بابوية القمي الملقب عندهم بالصدوق "ت 381" والمرتضى "ت 436" والطوسي "ت 450" والطبرسي "ت 548". واعترف بهذا الاستثناء شيخ الشيعة النوري الطبرسي حيث قال: "إنه لم يعرف الخلاف صريحا إلا من هؤلاء الأربعة"2. واعترف به أيضا نعمة الله الجزائري بقوله: "إن الأصحاب قد أطبقوا على صحة الأخبار المستفيضة، بل المتواترة الدالة بصريحها على وقوع التحريف في القرآن"3، ثم قال: "نعم قد خالف فيه المرتضى والصدوق والشيخ الطبرسي, وحكموا بأن ما بين دفتي هذا المصحف هو القرآن المنزل لا غير, ولم يقع فيه تحريف ولا تبديل"3. وما لنا ولعلمائهم السابقين والقول بتحريف القرآن يتشدق به طائفة من علمائهم المعاصرين, فهذا شيخهم محمد بن حيدر الخراساني يعقد فصلا في مقدمة تفسيره قال فيه: "الفصل الثالث عشر في وقوع الزيادة والنقيصة والتقديم والتأخير والتحريف والتغيير في القرآن الذي بين أظهرنا"، ثم قال: "اعلم أنه قد استفاضت الأخبار عن الأئمة الأطهار "ع" بوقوع الزيادة والنقيصة والتحريف والتغيير فيه بحيث لا يكاد لا يقع شك في صدور بعضها منهم وتأويل الجميع   1 المرجع السابق ص200. 2 فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب: حسين الطبرسي ص15. 3 الأنوار النعمانية: نعمة الله الجزائري ج2 ص357. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 بأن الزيادة والنقيصة والتغيير إنما هي في مدركاتهم من القرآن, لا في لفظ القرآن كلفة"1. وقال في موضع آخر عند تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2: ولا ينافي حفظه تعالى للذكر بحسب حقيقته التحريف في صورة تدوينه, فإن التحريف إن وقع, وقع في الصورة المماثلة له كما قال: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وما هو من عند الله3. ولا يكتفي شيخهم هذا بالادعاء بتحريف القرآن, فيعمد إلى ذكر المواضع التي زعم وقوع التحريف فيها, فقد أورد في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} 4 الآية, قال: "وعن أمير المؤمنين "ع" في جواب مسائل الزنديق الذي سأل عن أشياء أنه أسقط بين طرفي تلك الآية أكثر من ثلث القرآن"5. هذا شيخ من شيوخهم المعاصرين قال بتحريف القرآن الكريم، بل إن بعض علمائهم أفردوه بمؤلفات مستقلة, فقد ألف شيخهم حسين بن محمد تقي الدين الطبرسي المتوفى سنة 1320 كتابه: "فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب" وصفه صاحبه بأنه "كتاب لطيف وسفر شريف عملته في إثبات تحريف القرآن وفضائح أهل الجور والعدوان, وسميته: "فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب""6. وفي الهند ألف ميرزا سلطان أحمد الدهلوي كتابا سماه: "تصحيف كاتبين ونقص آيات كتاب مبين" وألف محمد مجتهد اللكنوي كتابه: "ضربة حيدرية".   1 بيان السعادة في مقامات العبادة ج1 ص12. 2 سورة الحجر: الآية 9. 3 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص402, وقد وقع المؤلف في خلط بين الآيتين 79 من البقرة و78 من آل عمران. 4 سورة النساء من الآية 3. 5 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص190. 6 فصل الخطاب: حسين الطبرسي الورقة أ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 ولست هنا بصدد جمع أقوال أصحاب هذا الرأي وأدلتهم, فهذا شأن آخر وإنما أردت إثبات أن هذا القول هو مذهب راسخ عند الشيعة, حتى أفردوه في مؤلفات خاصة. ولنذكر بعد هذا من سلك الطريق الثاني منهم, فأنكر القول بتحريف القرآن ونسبته إلى الشيعة. القول بسلامة القرآن من التحريف: وقد ذهب بعض الشيعة خاصة في العصر الحديث إلى إنكار القول بتحريف القرآن الكريم وأنكروا نسبة ذلك إلى الشيعة، بل زعموا نسبة ذلك إلى بعض علماء أهل السنة وعدوا القول بنسخ التلاوة قولا بالتحريف, متجاهلين -ولا أقول جاهلين؛ لأن مثل هذا لا يخفى- أن النسخ أمر إلهي والتحريف من شأن البشر فلا يعد ذلك تحريفا ولا يعد ذا نسخا. ثم ذهب كثير منهم في عصرنا هذا يعددون الأدلة على عدم تحريف القرآن فيقول الخوئي: "والحق بعد هذا كله أن التحريف بالمعنى الذي وقع النزاع فيه غير واقع في القرآن أصلا بالأدلة التالية: الدليل الأول قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [15: 9] ، الدليل الثاني قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [41: 42] "1. وقال شيخهم محمد رضا المظفر: "نعتقد أن القرآن هو الوحي الإلهي لا يعتريه التبديل والتغيير والتحريف, وهذا الذي بين أيدينا نتلوه هو نفس القرآن المنزل على النبي ومن ادعى فيه غير ذلك فهو مخترق أو مغالط أو مشتبه, وكلهم على غير هدى؛ فإن كلام الله الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِه} "2.   1 البيان في تفسير القرآن: أبو القاسم الخوئي ص207-210. 2 عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر ص85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وقال الخوئي: إن القول بعدم التحريف هو المشهور بل المتسالم عليه بين علماء الشيعة ومحققيهم1. وقال محمد الحسين آل كاشف الغطاء: "يعتقد الشيعة الإمامية ... أن الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه للإعجاز والتحدي ولتعليم الأحكام وتمييز الحلال من الحرام وأنه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة, وعلى هذا إجماعهم ومن ذهب منهم أو من غيرهم من فرق المسلمين إلى وجود نقص فيه أو تحريف فهو مخطئ نص الكتاب العظيم: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} والأخبار الواردة من طرقنا أو طرقهم الظاهرة في نقصه أو تحريفه ضعيفة شاذة وأخبار آحاد لا تفيد علما ولا عملا, فإما أن تؤول بنحو من الاعتبار أو يضرب بها الجدار"2. وقال السيد محسن الأمين: "إن كتب المحققين ومن يعتنى بقولهم من علماء الشيعة مجمعة على عدم وقوع التحريف في القرآن, لا بزيادة ولا نقصان"3. ولسنا بحاجة هنا إلى أن نسوق النصوص الكثيرة في إنكارهم تحريف القرآن أو نسبة ذلك إلى الشيعة, وإن القارئ لتصيبه الحيرة مما تقول هذه الطائفة منهم وإذا ما علم أن من عقائدهم التقية لم يجد بدا من حمل إنكارهم هذا على تلك العقيدة, ذلك أن تواتر الروايات عندهم في تحريف القرآن مما لا يمكن إنكاره. ولنعد هنا قولين من أقوال علمائهم لا نزيد عليهما, قال شيخهم نعمة الله الجزائري: "إن القول بصيانة القرآن وحفظه يفضي إلى طرح الأخبار المستفيضة بل المتواترة الدالة بصريحها على وقوع التحريف في القرآن ... مع أن أصحابنا -رضوان الله عليهم- قد أطبقوا على صحتها والتصديق بها"4.   1 البيان: ص206. 2 أصل الشيعة وأصولها: محمد حسين آل كاشف الغطاء ص63 و64. 3 الشيعة بين الحقائق والأوهام: السيد محسن الأمين ص160. 4 الأنوار النعمانية: نعمة الله الجزائري 2/ 357 و358. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وقال الطبرسي: "إن ملاحظة السند في تلك الأخبار الكثيرة توجب سد باب التواتر المعنوي فيها, بل هو أشبه بالوسواس الذي ينبغي الاستعاذة منه"1. فإذا كانت هذه الروايات وصلت عندهم إلى تلك الدرجة, فكيف يجرؤ أولئك على إنكار القول بتحريف القرآن وإنكار نسبة ذلك إلى عقيدة الشيعة. وإذا أضفنا إلى ذلك أن أولئك الذين أنكروا نسبة هذا إلى الشيعة وأنكروا تواتره فضلا عن صحته أنهم أقروا بأنفسهم في مواضع أخرى وهم يتخبطون بين الإنكار تقية والاعتراف عقيدة, أقروا بالقطع بصحة بعض الروايات في تحريف القرآن, فقال الخوئي مثلا عن تلك الروايات: "إلا أن كثرة الروايات تورث القطع بصدور بعضها عن المعصومين -عليهم السلام- ولا أقل من الاطمئنان بذلك وفيها ما روي بطرق معتبر, فلا حاجة بنا إلى التكلم في سند كل رواية بخصوصها"2. ولا ندري لِمَ يزعم محمد جواد مغنية3 أن القول بسلامة القرآن من الزيادة والنقصان "اليوم أصبح هذا القول ضرورة من ضرورات الدين وعقيدة لجميع المسلمين, إذ لا قائل بالنقيصة لا من السنة ولا من الشيعة, فإثارة هذا الموضوع والتعرض له في هذا العصر لغو وعبث أو دس وطعن على الإسلام والمسلمين"؟ 4. ولا ندري لم يزعم هذا وهو ممن لا يخفى عليه الحق في تلك القضية, لا تخفى عليه أبدا تلك المؤلفات لعلماء الشيعة في عصرنا هذا التي أفردوها لهذه الفرية وهذا الزعم؟   1 فصل الخطاب: ورقة 124. 2 البيان في تفسير القرآن: الحوئي ص226. 3 هو: محمد جواد مغنية العاملي: من علماء الشيعة الإمامية, ولد سنة 1322/ 1904م في طيردبا "قضاء صور" بلبنان, وتعلم بالنجف وعاد فسكن بيروت ومات فيها, ودفن بالنجف 1400/ 1979م. وله عدد كبير من المؤلفات منها: التفسير الكاشف في سبعة مجلدات, والتفسير المبين في مجلد كبير على هامش القرآن الكريم. 4 الشيعة في الميزان: محمد جواد مغنية ص58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وليس لنا إلا أن نسأل أولئك الذين أنكروا القول بتحريف القرآن ونسبوا القول بذلك -بهتانا- إلى جماعة من علماء السنة والشيعة وأنكروا -زورا- وجود أحد في هذا العصر يقول بهذا القول. ليس لنا إلا أن نسألهم: ما تقولون فيمن يعتقد هذا الاعتقاد؟ فيمن يعتقد تحريف القرآن الكريم, أمؤمن هو أم كافر؟ إن قلتم: مؤمن قلنا: إنه إيمان فريد من نوعه لكنه حتما ليس بالإيمان الذي جاء به الأنبياء والمرسلون وإن قلتم: هو كافر قلنا: لقد حكمتم على كثير من علمائكم, وبقى تخبطكم هذا من أي الصنفين هو الإيمان أو الكفر أو هو من قبيل التقية التي هي دينكم ودين آبائكم كما تقولون؟! نماذج من تفسيرهم: ذكرت فيما سبق موقف الشيعة من القرآن الكريم وتفسيره. وإذا أردنا أن نذكر شيئا من تفاسير الإمامية الاثني عشرية للقرآن الكريم فإنا نرى وجوب الاقتصار على تفسير الآيات التي يدعمون بها ما انفردوا به من آراء، ويستندون إليها في إثباتها، ونضيف إلى هذا ما اشتهر عنهم في قضايا أخرى. أولا: الإمامة للإمامة عند الإمامية مكانة كبيرة؛ إذ هي المحور الذي تدور حوله عقائدهم وترتكز عليه مبادئهم, حتى نسبوا إليها وسموا بالإمامية. ففي قوله تعالى خطابا لإبراهيم -عليه السلام: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} 1 يفسر السيد محمد الطباطبائي2 ذلك بقوله: " {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} أي: مقتدًى يقتدي بك الناس ويتبعونك في أقوالك وأفعالك3, ويرفض القول بأن المراد بالإمامة النبوة ويصفه بأنه في غاية السقوط"3.   1 سورة البقرة: من الآية 124. 2 سيأتي الحديث عنه إن شاء الله. 3 المرجع السابق: ج1 ص270. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 ثم يزيد تفسيره للإمامة إيضاحا فيقول: "والذي نجده في كلامه تعالى أنه كلما تعرض لمعنى الإمامة تعرض معها للهداية تعرض التفسير, قال تعالى في قصص إبراهيم -عليه السلام: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ، وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73] وقال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] ، فوصفها بالهداية وصف تعريف ثم قيدها بالأمر فبين أن الإمامة ليست مطلق الهداية، بل هي الهداية التي تقع بأمرالله"1. وهذا هو الفارق بين الإمامة والنبوة, فالنبوة والرسالة ليستا إلا مجرد إراءة الطريق, إذ يقول: "وبالجملة فالإمام هادٍ يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه فالإمامة بحسب الباطن نحو ولاية للناس في أعمالهم وهدايتها إيصالها إياهم إلى المطلوب بأمر الله دون مجرد إراءة الطريق الذي هو شأن النبي والرسول, وكل مؤمن يهدي إلى الله سبحانه بالنصح والموعظة الحسنة"2. ومن صفات الإمام عند الإمامية أنه "يجب أن يكون إنسان ذا يقين مكشوفا له عالم الملكوت, متحققا بكلمات من الله سبحانه"3، وهو أيضا أي الإمام "يحضر عنده ويلحق به أعمال العباد خيرها وشرها, وهو المهيمن على السبيلين جميعا سبيل السعادة وسبيل الشفاوة"3. أما أفعال الإمام فهي: "خيرات يهتدي إليها لا بهداية من غيره, بل باهتداء من نفسه بتأييد إلهي وتسديد رباني"4. أما أقواله كما يقول محمد جواد مغنية في تفسيره "فإن قول الإمام نبيا كان أو وصيا هو قول الله, وهداه هدى الله, وحكمه حكم الله الذي لا يحتمل العكس"5.   1 الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي: ج1 ص272. 2 المرجع السابق: ج1 ص272. 3 المرجع السابق: ج1 ص273. 4 الميزان: الطباطبائي ج1 ص274. 5 التفسير الكاشف: محمد جواد مغنية ج1 ص197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وبديهي بعد هذا أن يكون الإمام عندهم معصوما من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن, من سن الطفولة إلى الموت عمدا وسهوا, كما يجب أن يكون معصوما من السهو والخطأ والنسيان1. أما مستندهم في هذا, فيقول عنه محمد جواد مغنية في تفسيره: "واستدل الشيعة الإمامية بقوله تعالى: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} على وجوب العصمة للنبي والوصي, ووجه الدلالة أن الله قد بين صراحة أنه لا يعهد بالإمامة إلى ظالم، والظالم من ارتكب معصية في حياته مهما كان نوعها حتى ولو تاب بعدها حيث يصدق عليه هذا الاسم ولو آنا ما، ومن صدق عليه كذلك فلن يكون إماما"2، وقال: "ويكفي دليلا على عصمة أهل البيت "ع" شهادة الله لهم بالعصمة في الآية 33 من الأحزاب: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} "3. وهو أيضا ما فسره به الطباطبائي في الميزان, حيث قال في تفسير الآية السابقة: "فمن المتعين حمل إذهاب الرجس في الآية على العصمة"4. وقد حاول محمد جواد مغنية في تفسيره أن يعمم القول بالعصمة وأنكر اختصاص الشيعة بالقول بها فقال: "وفكرة العصمة لا تختص بالشيعة وحدهم, فإن السنة قالوا بها ولكنهم جعلوها للأمة مستندين إلى حديث لم يثبت عند الشيعة وهو: "لا تجتمع أمتي على ضلالة"". والمسيحيون قالوا بعصمة الباب, والشيوعيون بعصمة ماركس ولينين, وقال القوميون السوريون بعصمة أنطون سعادة, والإخوان المسلمون بعصمة حسن البنا5, وكل من استدل بقول إنسان واتخذ منه حجة ودليلا فقد قال بعصمته من حيث يريد أو لا يريد, وفي الصين مئات الملايين اليوم تؤمن بعصمة ماوتسي   1 عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر ص95. 2 الكاشف ج1 ص198؛ والتفسير المبين: محمد جواد مغنية ص25. 3 الكاشف ج1 ص198. 4 الميزان ج16 ص312. 5 هذا محض افتراء وبهتان على الإخوان المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 تونغ -نحن الآن في سنة 1967- ويشيدون بتعاليمه وإذا اختلف الشيوعيون فيما بينهم وكذلك غيرهم ممن ذكرنا, فإنهم يختلفون في تفسير أقوال الرؤساء والمراد منها لا في وجوب العمل بها، والولاء لها، تماما كما يختلف المسلمون في تفسير نصوص القرآن والمسيحيون في تفسير الإنجيل ... ومن خص العصمة بالشيعة فهو واحد من اثنين: إما جاهل مغفل، وإما مفترٍ متآمر1. وهذا كلام لا يخلو من مغالطة, ذلكم أن الشيعة لا تنفرد بالقول بالعصمة على إطلاقها, فأهل السنة أيضا قالوا بالعصمة للأنبياء لكن لم يقل أحد منهم بالعصمة للأئمة من بعدهم وهو ما اختص به الشيعة، أما قول المسيحيين والشيوعيين والقوميين فمما لا يحتج به ولا ينظر إليه عند مناقشة آراء الفرق الإسلامية. ثانيا: البداء مذهب أهل السنة في تفسير قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} 2 أنه: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ} من الأقدار {وَيُثْبِتُ} ما يشاء منها، وهذا المحو والتغيير في غير ما سبق به علمه وكتبه قلمه, فإن هذا لا يقع فيه تبديل ولا تغيير؛ لأن ذلك محال على الله، أن يقع في علمه نقص أو خلل؛ ولهذا قال: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} أي: اللوح المحفوظ، الذي ترجع إليه سائر الأشياء فهو أصلها وهي فروع وشعب. فالتغيير والتبديل يقع في الفروع والشعب كأعمال اليوم والليلة التي تكتبها الملائكة ويجعل الله لثبوتها أسبابا، ولمحوها أسبابا, لا تتعدى تلك الأسباب، ما رسم في اللوح المحفوظ. كما جعل الله البر، والصلة، والإحسان من أسباب طول العمر وسعة الرزق, وكما جعل المعاصي سببا لمحق بركة الرزق والعمر, وكما جعل أسباب التجارة من   1 الكاشف ج1 ص198 و199. 2 سورة الرعد: 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 المهالك والمعاطب سببا للسلامة وجعل التعرض لذلك سببا للعطب, فهو الذي يدبر الأمور بحسب قدرته وإرادته وما يدبره منها لا يخالف ما قد علمه وكتبه في اللوح المحفوظ1. هذا ما ذهب إليه أهل السنة في ذلك ولم يقل أحد منهم بالبداء, أما الإمامية الاثنا عشرية فلهم رأي آخر في هذه الآية ونحوها, ففي تفسيرها يقول محمد حسين الطباطبائي: "أقول: والروايات في البداء عنهم عليهم السلام متكاثرة مستفيضة, فلا يعبأ بما نقل عن بعضهم أنه واحد"2. ثم يوضح ما تدل عليه الآية بزعمه فيقول: "والرواية كما ترى تنفي البداء بمعنى علمه تعالى ثانيا بما كان جاهلا به أولا، بمعنى تغير علمه في ذاته كما ربما يتفق فينا، تعالى عن ذلك، وإنما هو ظهور أمر منه تعالى ثانيا بعدما كان الظاهر منه خلافه أولا، فهو محو الأول وإثبات الثاني والله سبحانه عالم بها جميعا"2. ويستدل الخوئي بهذه الآية أيضا, على إثبات النوع الثالث من أنواع البداء وعلى وقوعه فيقول: "الثالث: قضاء الله الذي أخبر به نبيه وملائكته بوقوعه في الخارج إلا أنه موقوف على أن لا تتعلق مشيئة الله بخلافه, وهذا القسم هو الذي يقع فيه البداء: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [13: 39] , {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [29: 4] "3، وقد دلت على ذلك روايات كثيرة منها هذه: 1- ما في تفسير على بن إبراهيم عن عبد الله بن مسكان عن أبي عبد الله -عليه السلام- قال: "إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكتبة إلى سماء الدنيا فيكتبون ما يكون من قضاء الله تعالى في تلك السنة, فإذا أراد الله أن يقدم شيئا أو يؤخره أو ينقص شيئا أمر الملك أن يمحو ما يشاء، ثم أثبت الذي أراده، قلت: وكل شيء هو عند الله مثبت في كتاب؟ قال: نعم، قلت: فأي   1 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: عبد الرحمن السعدي ج4 ص116 و117. 2 الميزان ج1 ص381. 3 البيان: للخوئي ج1 ص388. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 شيء يكون بعده؟ قال: سبحان الله، ثم يحدث الله أيضا ما يشاء تبارك وتعالى"1. واستدل أيضا بما في كتاب الاحتجاج عن أمير المؤمنين -عليه السلام- أنه قال: "لولا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة, وهي هذه الآية: {يَمْحُوا اللَّهُ ... } "1. وقال أيضا: "إن إنكار البداء يشترك بالنتيجة مع القول بأن الله غير قادر على أن يغير ما جرى عليه قلم التقدير, تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا"2. أما محمد رضا المظفر فعرف البداء في الإنسان بـ"أن يبدو له رأي في الشيء لم يكن له ذلك الرأي سابقا بأن يتبدل عزمه في العمل الذي كان يريد أن يصنعه إذ يحدث عنده ما يغير رأيه وعلمه به، فيبدو له تركه بعد أن كان يريد فعله وذلك عن جهل بالمصالح وندامة على ما سبق منه. والبداء بهذا المعنى يستحيل على الله تعالى؛ لأنه من الجهل والنقص وذلك محال عليه تعالى, ولا تقول به الإمامية"3. ثم اعترف بعد ذلك قائلا: "غير أنه وردت عن أئمتنا الأطهار -عليهم السلام- روايات توهم القول بصحة البداء بالمعنى المتقدم، كما ورد عن الصادق -عليه السلام: "ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل ابني" ولذلك نسب بعض المؤلفين في الفرق الإسلامية إلى الطائفة الإمامية القول بالبداء طعنا في المذهب وطريق آل البيت, وجعلوا ذلك من جملة التشنيعات على الشيعة"3. وليس لنا إلا أن نقول: إذا كان الأمر كما تزعم فلماذا هذا التطرف والتشدد في الأخذ بهذا المبدأ من جانب الشيعة؟ ولماذا جعلوه أصلا من أصول مذهبهم   1 المرجع السابق ج1 ص 388 و389. 2 المرجع السابق ج1 ص392 و393. 3 عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر ص69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 حتى قالوا: "ما عبد الله بشيء مثل البداء"1، وقالوا: "ما بعث الله نبيا قط إلا بتحريم الخمر وأن يقر لله بالبداء"2، وقالوا: "ما عظم الله عز وجل بمثل البداء"3، وقالوا: "لو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه"3؟ ما المقصود من إنزال هذا المعتقد هذه المنزلة؟ لو كان الأمر فيه اعتقاد كاعتقاد أهل السنة ما احتاج ذلك إلى كل هذا التوثيق والتأكيد, وما احتاج إلى أن يجعل أصلا من أصول العقيدة, وما احتاج إلى أن يكون أكبر ما عبد أو عظم الله به، ولكن الأمر أكبر من ذلك. قال سليمان بن جرير: إن أئمة الرافضة وضعوا لشيعتهم مقالتين لا يظهرون معهما من أئمتهم على كذب أبدا وهما: القول بالبداء وإجازة التقية إلى أن قال: "فأما البداء فإن أئمتهم أحلوا أنفسهم من شيعتهم محل الأنبياء من رعيتها في العلم ... فيما كان ويكون والإخبار بما يكون في غد وقالوا لشيعتهم: إنه سيكون في غد كذا كذا فإن جاء ذلك الشيء على ما قالوه قالوا لهم: ألم نعلمكم أن هذا يكون فنحن نعلم من قبل الله عز وجل ما علمه الأنبياء وبيننا وبين الله عز وجل مثل تلك الأسباب التي علمت بها الأنبياء عن الله ما علمت، وإن لم يكن ذلك الشيء الذي قالوا: إنه يكون على ما قالوا، قالوا لشيعتهم: بدا لله في ذلك بكونه"4. ويؤكد هذا ما نسبوه إلى أبي عبد الله وأبي جعفر وعلي بن الحسين والحسين بن علي والحسن بن علي وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه: "لولا آية في كتاب الله لحدثناكم بما يكون إلى أن تقوم الساعة: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ ... } "5. بل إن صاحب الكافي عقد بابا في أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون, وأنهم لا يخفى عليهم الشيء6، وعقد المجلسي بابا في "أنهم أعلم من الأنبياء, عليهم السلام"7. إذن فلا بد من اللجوء إلى عقيدة البداء بمعناها الباطل, إذ هو المخرج إذا وقع خلاف ما نسب إلى أئمتهم، وإذا ما أنكر "بعضهم" أن الإمامية يقولون بهذا فإنكارهم تقية إذ كتبهم على ما ينكرون شاهدة.   1 الكافي, كتاب التوحيد, باب البداء: محمد بن يعقوب الكليني ج1 ص146. 2 المصدر السابق 1/ 148. 3 البيان: الخوئي ج1 ص392. 4 المقالات والفرق: سعد القمي ص78؛ وفرق الشيعة: النوبختي ص55 و56. 5 البيان في تفسير القرآن: الخوئي ص390. 6 الكافي: الكليني ج1 ص260-263. 7 البحار: المجلسي ج26 ص194-200. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 ثالثا: المهدية مر عند ذكر أئمة الشيعة الاثني عشر أنهم على الترتيب: علي بن أبي طالب ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين "زين العابدين" ثم أبو جعفر محمد بن علي "الباقر" ثم أبو عبد الله جعفر بن محمد "الصادق" ثم موسى بن جعفر "الكاظم" ثم علي بن موسى "الرضا" ثم محمد بن علي "الجواد" ثم علي بن محمد "الهادي" ثم الحسن بن علي "العسكري". أما الإمام الثاني عشر فهو محمد بن الحسن "المهدي" وتعتقد الإمامية أنه ولد للنصف من شعبان سنة 255 في سامراء أيام الخليفة المعتمد, وتوفي والده وله من العمر خمس سنين1, ثم اختفى المهدي بعد ذلك واختفاؤه عندهم مر بمرحلتين: الأولى: الغيبة الصغرى، والثانية: الغيبة الكبرى. الغيبة الصغرى: يقول محمد جواد مغنية: "ومعنى الصغرى أن الإمام كان يحتجب عن الناس إلا عن الخاصة وأن اتصاله بشيعته كان عن طريق السفراء, فكان الشيعة يعطون الأسئلة إلى السفير وهو بدوره يوصلها إلى الإمام وبعد الجواب عنها والتوقيع عليها يرجعها إلى السائلين على يد سفيره ومن هنا سميت الغيبة الصغرى، أي: إنها ليست بغيبة كاملة بحيث انقطع فيها عن   3 الشيعة في الميزان: محمد جواد مغنية ص252. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 جميع الناس وكانت مدتها 74 سنة"1. وهم يعتقدون أن السفراء بين المهدي والناس في غيبته الصغرى أربعة "وكان السفير الأول بين الإمام الغائب وشيعته رجل يدعى عثمان بن عمر العمري الأسدي ... ولما توفي عثمان تولى السفارة بعده ولده محمد بأمر المهدي ثم تولاها بعده الحسين بن روح النوبختي ثم علي بن محمد السمري وبعد هؤلاء السفراء الأربعة انتهت الغيبة الصغرى"2. الغيبة الكبرى: "وتبتدئ بمنتصف شعبان "328هـ" وفيها انقطعت الاتصالات والسفارة بين الإمام وشيعته"3. وإذا ما سألت عن سبب اختفائه أجابك الطوسي: "لا علة تمنع من ظهور المهدي إلا خوفه على نفسه من القتل؛ لأنه لو كان غير ذلك لما ساغ له الاستتار"4. وهم يروون أن أبا عبد الله جعفر الصادق قال: "للغلام غيبة قبل قيامة قيل ولم قال يخاف على نفسه الذبح"5. ولا شك أن هذا تعليل واهٍ, فقد مر التشيع بفترات كان له الدولة وكانت له القوة ولا تزال إلى أيامنا هذه له دولة, وكلهم ينتظر خروجه فلم لم يظهر حتى الآن إن كان ما زعموه سببا. ورتبت الإمامية الاثنا عشرية على غيبة الإمام المهدي أحكاما منها تكفير من أنكر مهديهم, وزعموا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال عن منتظرهم: "من أنكر القائم من ولدي فقد أنكرني"6، وقال ابن بابوية القمي: "من أنكر   1 الشيعة في الميزان: محمد جواد مغنية ج252. 2 المرجع السابق ص253. 3 المرجع السابق ص253. 4 الغيبة: الطوسي ص199. 5 الكافي للكليني ج1 ص340. 6 إكمال الدين: ابن بابوية القمي ص390. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 القائم -عليه السلام- في غيبته مثل إبليس في امتناعه من السجود لآدم"1. ومن ذلك أنهم جعلوا انتظاره أصلا من أصول الدين, رووا عن أبي جعفر: "والله لأعطينك ديني ودين آبائي الذي تدين الله به: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ... وانتظار قائمنا"2. ورتبوا على هذا عدم وجوب صلاة الجمعة؛ لأنها لا تجب إلا مع الإمام ويقولون: "الجمعة والحكومة لإمام المسلمين"3، ويقول الخميني: "تجب صلاة الجمعة في هذه الأعصار مخيرا بينها وبين صلاة الظهر والجمعة أفضل والظهر أحوط وأحوط من ذلك الجمع بينهما"4. وما رأيت تخبطا مثل هذا التخبط كيف تجب الجمعة ثم يخير بينها وبين الظهر؟! ثم كيف تكون الجمعة أفضل والظهر أحوط؟! وهل الاحتياط في ترك الأفضل؟! ثم كيف يجمع بينها وبين الظهر؟! فهي إما صحيحة فلا يصلي معها ظهرا أو باطلة فلا يصليها أصلا, ولكنه أراد أن يقول بإسقاطها بدليل إباحته البيع بعد الأذان مخالفا نص القرآن الكريم فيقول: "لا يحرم البيع يوم الجمعة بعد الأذان في أعصارنا مما لا تجب الجمعة فيه تعيينا"5. أما تعسفهم في تأويل آيات القرآن الكريم لتوافق رأيهم في مهديهم المنتظر فكثير ذلك، بل إن أحدهم وهو صادق الحسيني الشيرازي ألف كتابا في ذلك أسماه: "المهدي في القرآن" ذكر فيه الآيات الكثيرة زعم أنها في المهدي. قال في مقدمته: "وبعد: فهذه عشرات من الآيات القرآنية البينات التي نزلت تفسيرا أو تأويلا أو تنزيلا أو تطبيقا أو تشبيها في ثاني عشر أئمة أهل البيت ولي أمر الله الإمام المهدي المنتظر عليه السلام ... وعجل الله فرجه الشريف"6. ولقوة   1 المرجع السابق: ص13. 2 الكافي "عن منتخب الأثر: لطف الله الصافي ص499". 3 منهاج الكرامة: ابن المطهر الحلي ج2 ص69. 4 تحرير الوسيلة: الخميني 1/ 231. 5 تحرير الوسيلة: الخميني 1/ 240. 6 المهدي في القرآن: صادق الحسيني الشيرازي ص5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 هذا المعتقد في نفسه قال: وكان شروعي لجمع هذه الآيات في ليلة ميلاد الإمام المهدي المنتظر سلام الله عليه من عام 1396هـ، حيث يمضي على ولادة الإمام "1141هـ" ولنذكر هنا أمثلة مما ذهب يتعسف في تأويلها. في تفسير قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ, الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} 1. قال: "أقول: يعني أن المتقين هم المؤمنون بالإمام المهدي -عليه السلام- ويعني الغيب هو نفس الإمام المهدي"2. وفي تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} 3، يقول: "هم الشاكون في الإمام المهدي, عجل الله فرجه الشريف"4. وإن شئت شيئا من المضحكات المبكيات فاستمع إلى تفسيره لقوله تعالى حكاية لقول الوط -عليه السلام: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} 5 قال في ذلك: "أقول إذن: "القوة" و"الركن الشديد" في هذه الآية الكريمة تأويلها الإمام المهدي, عليه السلام وأصحابه6. حتى قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} 7، لم يسلم من تعسف هذا في التفسير, فقال في ذلك: "أقول: الخنس بمعنى الاختفاء وتفسير الآية وارد في النجوم التي يختفي بعضها في وقت اختفائها, وتأويلها وارد في الإمام المهدي -عليه السلام- لأنه يختفي حيث يأمره الله بالاختفاء, ويظهر -كالشهاب الثاقب- حيث يأمره الله بالظهور"8. أما في قوله تعالى: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا   1 سورة البقرة: من الآيتين 2 و3. 2 المهدي في القرآن: ص10. 3 سورة هود: من الآية 21. 4 المهدي في القرآن: ص73. 5 سورة هود: من الآية 80. 6 المهدي في القرآن: ص75. 7 سورة التكوير: الآية 15. 8 المهدي في القرآن: ص253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 يَحْذَرُونَ} 1. فقد أورد رواية تقول: "إن فرعون وهامان هنا شخصان من جبابرة قريش, يحييهما الله تعالى عند قيام القائم من آل محمد في آخر الزمان, فينتقم منهما بما أسلفا". وقد علق على هذا قائلا: "أقول إذن: تكون هذه الآية الكريمة محققة في عصر الإمام المهدي -عليه السلام- ومن علامات ذلك العصر وسمات ذاك الزمان"2. وزعم -ولبئس ما زعم- أن المهدي سيتحقق على يديه ما لم يتحقق على أيدي الأنبياء من قبله، بل عجزوا عنه حيث قال في تفسير قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} 3. قال المؤلف: "روى الحافظ القندوزي "الحنفي" ... عن جعفر الصادق -رضي الله عنه- في قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} يقول: إذا أقام "القائم المهدي" لا يبقى أرض إلا نودي فيها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله "أقول" يعني أن هذه الآية الكريمة إشارة إلى عهد "المهدي" المنتظر -عليه السلام- إذ في زمانه الكلمة كلها لله على وجه الأرض كلها؛ لأن كل من في الأرض يسلم ويخضع لله تعالى ولم يتم هذا حتى اليوم لا في عهد الأنبياء السابقين -عليهم السلام- ولا في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا في عهود بعده أن يكون كل من على وجه الأرض مسلما لله خاضعا لدين الله {طَوْعًا وَكَرْهًا} 4. ولم ينفرد بهذا الزعم الباطل, فقد ذهب إليه الخميني في كلمة وجهها في 15 شعبان "1400هـ" من إذاعته في طهران5, وقد استنكرت بعض الصحف الإسلامية ذلك وأصدرت رابطة العالم الإسلامي بيانا بهذا الصدد6.   1 سورة القصص: من الآية 6. 2 المهدي في القرآن: ص 144. 3 سورة آل عمران: الآية 83. 4 المهدي في القرآن: ص21. 5 جريدة الرأي العام الكويتية 17 شعبان 1400هـ. 6 جريدة المدينة المنورة 4 رمضان 1400هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وذهب إلى هذا الباطل أيضا محمد الصادقي في تفسيره حيث قال في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} 1 قال: "فلا يبقى دين إلا دين الإسلام، وكما وعدناه في دولة القائم المهدي محمد بن الحسن العسكري -عليه السلام- الذي به يملأ الله الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا". إن جذور ومؤهلات هذه الغاية متواجدة في شريعة الإسلام مهما لم تتحقق زمن الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- وخلفائه حتى الآن ظهورا على الأديان, ولكنها سوف تتحقق في الدولة المحمدية الأخيرة التي يبتدئ بها مؤسسا لها حفيده المهدي المنتظر, عليه السلام2، ويقول: "إن الديانات الأخرى، من حق وباطل ليست لها مؤهلات الغلبة الشاملة وتأسيس دولة موحدة عالية لا في ذواتها، ولا في زعاماتها، ولكنما الإسلام يملك هذه الأهلية فيها معا فدستوره العالمي هو قرآنه الكامل، الحافل لكافة متطلبات الحياة وقيادته العالمية هي الظاهرة في رسوله وأوصيائه والباهرة أخيرا "!! " في القائم المهدي, عليه السلام"3. ومن عجائب تفسيرهم, تفسير محمد الصادقي لقوله تعالى: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ} 4، حيث يقول: فما هو الفجر هنا؟ إنه هو كل فجر من كل ليلة، وفجر شمس الرسالة المحمدية وفجر قيام المهدي -عليه السلام- من ولده، وفجر العقول عن ظلمات الأهواء, وفجر العيون والأنهار5. ثم نقل رواية عن الصادق "ع" قال: {وَالْفَجْرِ} هو القائم, والليالي العشر الأئمة من الحسن إلى الحسن {وَالشَّفْعِ} أمير المؤمنين وفاطمة، {وَالْوَتْرِ} هو الله وحده لا شريك له   1 سورة الصف: الآية 9. 2 الفرقان في تفسير القرآن: محمد الصادقي ج28 ص316. 3 الفرقان في تفسير القرآن: محمد الصادقي ج28 ص316. 4 سورة الفجر: الآيتان 1 و2. 5 الفرقان في تفسير القرآن: محمد الصادقي ج30 ص305 و306. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} هي دولة حبتر1, فهي تسري إلى دولة القائم2. ويعلق الصادقي على هذا التفسير قائلا: "أقول: وهذا تأويل لطيف "!! " لا ينافي تفسيره بغيره, فالليالي العشر هم الأئمة العشرة اعتبارا بما ظلموا وأظلمت عليهم حياتهم ولكن عليا "ع" مهما ظلم, فقد حكم ردحا من الزمن ثم القائم المهدي هو فجر الإسلام حيث يحيا ويتسع في زمنه"3. رابعا: الرجعة وترتبط بالعقيدة السابقة. ويريدون بالرجعة "أن الله تعالى يعيد قوما من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها, فيعز فريقا ويذل فريقا آخر, ويديل المحقين من المبطلين والمظلومين منهم من الظالمين"4. أما زمن ذلك فقالوا: "وذلك عند قيام مهدي آل محمد, عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام"4.   1 قال في القاموس ج1 ص3: الحبتر كجعفر: الثعلب، والقصير. ويريد به الشيعة أبا بكر أو عمر -رضي الله عنهما- على خلاف بينهم. وفي تفسير العياشي أحد أئمتهم لقوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر: 44] قال: "عن أبي بصير بن جعفر بن محمد -عليه السلام- قال: تؤتى بجهنم لها سبعة أبواب بابها الأول للظالم وهو زريق "يريد أبا بكر, رضي الله عنه" وبابها الثاني لحبتر "يريد عمر رضي الله عنه" والباب الثالث للثالث "يريد عثمان, رضي الله عنه" والرابع لمعاوية "رضي الله عنه" والباب الخامس لعبد الملك والباب السادس لعسكر بن هوسر "كناية عن بعض خلفاء بني أمية أو بني العباس, كذا قال المجلسي" والباب السابق لأبي سلامة "كناية عن أبي جعفر الدوانيقي" فهم أبواب لمن اتبعهم" تفسير العياشي ج2 ص243. قال المجلسي في بحار الأنوار ج4 ص378: "يحتمل أن يكون عسكر كناية عن عائشة وسائر أهل الجمل إذ كان اسم جمل عائشة عسكرا, وروي أنه كان شيطانا" بقي أن أقول: إن المجلسي والعياشي من أئمة الشيعة!!. 2 الفرقان في تفسير القرآن: محمد الصادقي ج30 ص305 و306. 3 الفرقان: محمد الصادقي ج30 ص306. 4 عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر ص109 و110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 أما من يرجع فقالوا: "ولا يرجع إلا من علت درجته في الإيمان أو من بلغ الغاية من الفساد ثم يصيرون بعد ذلك إلى الموت, ومن بعده إلى النشور وما يستحقونه من الثواب أو العقاب"1. أما موقفهم من تلك العقيدة فقالوا: "والإمامية بأجمعها عليه, إلا قليلين"1, ونذكر من تأويلهم للآيات في ذلك. تفسير سلطان بن حيدر لقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 2, قال: "وهذه الآية تدل على جواز الرجعة كما وردت الأخبار بها وصارت كالضروري في هذه الأمة, وقد احتج أمير المؤمنين -عليه السلام- بها على ابن الكوافي إنكاره الرجعة"3. وفي تفسير قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا} قال محمد حسين الطباطبائي: وظاهر الآية أن هذا الحشر في غير يوم القيامة؛ لأنه حشر للبعض من كل أمة لا لجميعهم، وقد قال الله تعالى في صفة الحشر يوم القيامة: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 47] 4، ثم قال: "فقد بان أن الآية ظاهرة في كون هذا الحشر المذكور فيها قبل يوم القيامة وإن لم تكن نصا لا يقبل التأويل4, ثم ذكر رواية عن حماد عن أبي عبد الله -عليه السلام- قال: ما يقول الناس في هذه الآية: {يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا} ؟ قلت: يقولون: إنه في القيامة قال ليس كما يقولون، إنها في الرجعة أيحشر الله في القيامة من كل أمة فوجا ويدع الباقين؟ إنما آية القيامة: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} 5. ثم علق قائلا: "أقول: وأخبار الرجعة من فرق الشيعة كثيرة جدا"5.   1 عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر ص109 و110. 2 سورة البقرة: الآية 55. 3 بيان السعادة في مقامات العبادة: سلطان محمد بن حيدر الجنابذي ج1 ص54. 4 الميزان في تفسير القرآن: ج15 ص397 و398. 5 المرجع السابق ج15 ص406. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وفي تفسير قوله تعالى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} 1 قال محمد الصادقي في تفسيره: "علمان متتابعان يفوق بعضهما البعض بعد الجهل المتمادي -العامد- يوم الدنيا: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} : عند سكرات الموت وهو بداية العلم، وفي الكرة2: يوم قيامة القائم "ع" بعد "الموت" {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} في المحشر"3، وقال أيضا: "أقول: الكرة هنا هي الرجعة في دولة الإمام المهدي "ع" وليست للكل وقد يقال بما أن المخاطبين هنا هم الكفرة الذين محضوا الكفر محضا, فهم كلهم حسب الروايات يرجعون ثم أقول: لا مانع من كون المرة الأولى للعلم شاملة للكرة ولسكرات الموت وما بعد الموت، وبذلك يجمع بين الروايات. إلا أن العلم بعد الكرة -إذن- تحصيل للحاصل قبل الكرة بعد الموت, إذن فما العلم هنا إلا عند الموت وبعده"4. خامسا: التقية ويريدون بها كما يقول أحد علمائهم المعاصرين: "أن تقول أو تفعل غير ما تعتقد لتدفع الضرر عن نفسك أو مالك أو لتحتفظ بكرامتك"5. وأدلتهم كما يقول: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [الآية 28 من سورة آل عمران] فالآية صريحة في النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء إلا في حال الخوف واتقاء الضرر والأذى, واستدلوا بالآية "106" من سورة النحل: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} ، واستدلوا أيضا بالآية "28" من سورة غافر: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} فكتم الإيمان وإظهار خلافه ليس نفاقا ورياء كما زعم من نعت التقية بالنفاق والرياء   1 سورة التكاثر: الآيتان 3 و4. 2 الكرة والرجعة بمعنى واحد. 3 الفرقان: محمد الصادقي ج30 ص434. 4 الفرقان: محمد الصادقي ج30 ص434. 5 الشيعة في الميزان: محمد جواد مغنية ص48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وبالآية "195" من سورة البقرة: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} 1. أما منزلة التقية عندهم فبينها أحد معاصريهم فقال: "روي عن صادق آل البيت -عليه السلام- في الأثر الصحيح: "التقية ديني ودين آبائي" و"من لا تقية له لا دين له"، وكذلك هي لقد كانت شعارا لآل البيت -عليهم السلام- دفعا للضرر عنهم وعن أتباعهم, وحقنا لدمائهم واستصلاحا لحال المسلمين وجمعا لكلمتهم، ولمًّا لشعثهم"2. وفي التفسير لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} 3، قال الطباطبائي: "وفي الآية دلالة ظاهرة على الرخصة في التقية على ما روي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ... وبالجملة الكتاب والسنة متطابقان في جوازها في الجملة والاعتبار العقلي يؤكده"4, يقول: "أقول: والأخبار في مشروعية التقية من طرق أئمة أهل البيت كثيرة جدا, ربما بلغت حد التواتر"5. ونقل في تفسيره ما ورد في الصافي عن كتاب "الاحتجاج عن أمير المؤمنين -عليه السلام- في حديث: "وآمرك أن تستعمل التقية في دينك فإن الله يقول "!! " وإياك ثم إياك أن تتعرض للهلاك وأن تترك التقية التي أمرتك بها, فإنك شائط بدمك ودماء إخوانك ... ""6. وللتقية عندهم حدود يبين بعضها الخميني فيقول في رواية سابقة عن الإمام الصادق "ع": ترون أن الإمام بالرغم من ظروف التقية المحطية به وفقدانه للسلطة يبين للمسلمين أو يعين لهم الحاكم والقاضي ويأمرهم بالرجوع والتحاكم إليه"7.   1 الشيعة في الميزان: محمد جواد مغنية ص50. 2 عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر ص114. 3 آل عمران: من الآية 28. 4 الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي ج3 ص153. 5 المرجع السابق: ج3 ص163. 6 المرجع السابق: ج3 ص162 و163. 7 الحكومة الإسلامية: الخميني ص129. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 ويقول: "فرض الأئمة -عليهم السلام- على الفقهاء فرائض مهمة جدا وألزموهم أداء الأمانة وحفظها, فلا ينبغي التمسك بالتقية في كل صغيرة وكبيرة, فقد شرعت التقية للحفاظ على النفس أو الغير من الضرر في مجال فروع الأحكام, أما إذا كان الإسلام كله في خطر فليس في ذلك متسع للتقية والسكوت"1. وللتقية فيهم آثار خطيرة على الإسلام والمسلمين, ولولا أن المقام هنا مقام عرض للتفسير وإثبات لعقائدهم فيه مجرد إثبات, لولا ذلك لذكرنا من آثار تلك العقيدة الكثير الكثير مما يحز في نفس المسلم ولا يخطر له ببال أن يصدر هذا عن فرقة أي فرقة, تعلن انتماءها للإسلام. سادسا: في القرآن الكريم أ- للقرآن ظهر وبطن: ويريدون بذلك كما اسلفنا "أن للقرآن مراتب من المعاني المرادة بحسب مراتب أهله ومقاماتهم, وأن الظهر والبطن أمران نسبيان, فكل ظهر بطن بالنسبة إلى ظهره وبالعكس"1. ويوضح الطباطبائي هذا فيقول: "يقول الله تعالى في كلامه المجيد: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} 2 ظاهر هذه الآية الكريمة أنها تنهى عن عبادة الأصنام كما جاء في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} 3، ولكن بعد التأمل والتحليل يظهر أن العلة في المنع من عبادة الأصنام أنها خضوع لغير الله تعالى وهذا لا يختص بعبادة الأصنام، بل عبر عز شأنه عن إطاعة الشيطان أيضا بالعبادة، حيث قال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا   1 المرجع السابق: ص142. 2 تفسير الميزان: ج3 ص73. 3 سورة النساء: 36. 4 سورة الحج: 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 الشَّيْطَانَ} 1 إلى أن قال الطباطبائي: "نرى بالنظرة البدائية في قوله: {وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} أنه تعالى ينهى عن عبادة الأصنام وعندما نتوسع بعض التوسع نرى النهي عن عبادة غير الله من دون إذنه, ولو توسعنا أكثر من هذا لنرى النهي عن عبادة الإنسان نفسه باتباع شهواتها. أما لو ذهبنا إلى توسع أكثر فنرى النهي عن الغفلة عن الله والتوجه إلى غيره. إن هذا التدرج -ونعني به ظهور معنى بدائي من الآية ثم ظهور معنى أوسع وهكذا- جارٍ في كل من الآيات الكريمة بلا استثناء"2. "هذا الذي ذكره الطباطبائي هنا مثالا للتفسير الباطن تجده يستند إلى آيات أخرى في بيان الآية الأولى, إضافة إلى هذا فإن هذا التفسير تربطه بالآية روابط قوية من حيث المعنى في الآيات جميعا ومن حيث العموم والخصوص. ولكن: هل قول الشيعة بأن للقرآن ظهرا وبطنا على هذا النحو؟ الحق أن الكثير والكثير من تفسير الشيعة من التفسير الباطني، وأن أغلبه من النوع الذي لا تربطه بالآية رابطة وكأن القرآن طلسم من الطلاسم أو ضرب من المعميات والألغاز. ويكفي أن نذكر هنا مثالا أو مثالين لولا خشيتنا أن يقال: هذان قولان شاذان لا عبرة بهما؛ لذا فسأستطرد بعض الاستطراد في الأمثلة حتى يزيد المؤمن إيمانا, ويزول شك من في قلبه كبير شك قبل هذا. في تفسير قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3، يورد الطباطبائي في ميزانه عن ابن شهر آشوب عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه وزيد بن علي بن الحسين، عليه السلام: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، يعني: ولاية علي بن أبي طالب،   1 سورة يس: 23. 2 القرآن في الإسلام: محمد حسين الطباطبائي، ص27 و28. 3 سورة يونس: الآية 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 ويعلق على هذا قائلا: "أقول: إن كانت الرواية موقوفة فهي من الجري أو من الباطن من معنى القرآن، وفي معناها روايات أخر"1. وفي قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} 2، يقول في الفقيه وتفسير العياشي عن الصادق عليه السلام قال: "الصراط المستقيم أمير المؤمنين عليه السلام"3. وهذا عبد الحسين شرف الدين الموسوي يقول في مراجعاته عن أئمتهم: "أليسوا حبل الله الذي قال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} الصادقين الذين قال: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وصراط الله الذي قال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} وسبيله الذي قال: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} ... إلى أن قال: "وأشار في السبع المثاني والقرآن العظيم إليهم، فقال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ, صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ألم يجعل المغفرة لمن تاب وآمن وعمل صالحا مشروطة بالاهتداء إلى ولايتهم، إذ يقول: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} ، ألم تكن ولايتهم من الأمانة التي قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} ، ألم تكن من السلم الذي أمر الله بالدخول فيه فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} ، أليست هي النعيم الذي قال تعالى: {لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} ؟ 4. بقي أن أقول: إن هذه السفسطة لم ترد في مؤلف مستور، بل في أحد مؤلفاتهم الحديثة المنشورة والموجهة لأهل السنة لإقناعهم بمذهب الشيعة؟!! فعلى أي أساس ذهب إلى هذه الأقوال؟ وأية رابطة بين الآية وما فسرها به؟   1 الميزان في تفسير القرآن: ج10 ص41. 2 الفاتحة: الآية السابعة. 3 الميزان: ج1 ص41. 4 المراجعات: عبد الحسين شرف الدين الموسوي، ص54-57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وهذا الدكتور محمد الصادقي يفسر قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} 1، بقوله: "أقول: فقد اتصل بحر النبوة بفاطمة الصديقة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ببحر الإمامة علي "ع", بحران ملتئمان متلاقيان، بينهما برزخ الرسالة القدسية المحمدية، إذ اتصل بحر الإمامة والنبوة روحانيا مسبقا، أن تربى علي في حجر النبي وفي جو الوحي والتنزيل، ثم اكتمل الاتصال الروحاني بوصلة جسمانية في زواج علي بفاطمة والنبي هو البرزخ بين البحرين إذ جمع الولاية والنبوة، وعلي له الولاية دون النبوة والوحي، وفاطمة هي بضع النبوة، دون الرسالة والإمامة والخارج منهما اللؤلؤ والمرجان: الحسنان هما مجمع الولاية روحانيا والنبوة نسبيا"2. وقال الطباطبائي: "وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} قال: علي وفاطمة, {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} ، قال: الحسن والحسين". "أقول" ورواه أيضا عن ابن مردويه عن أنس بن مالك مثله، ورواه في مجمع البيان عن سلمان الفارسي وسعيد بن جبير وسفيان الثوري. وهو من البطن"3. وقال بهذا أيضا من المعاصرين محمد حسين الكاشف الغطاء حيث قال في تفسيرها: "علي بحر نور الإمامة, وفاطمة بحر نور النبوة والكرامة"4. وقال محمد الصادقي في تفسير قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} 5: "ما يتوجه به إلى الله: ذوات قدسية ربانية، منهم باقون؛ لأنهم منه "!! " وهم عند الله: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} 6، فهو هنا انصرف عن المعنى المتبادر الظاهر   1 سورة الرحمن: الآيتان 19 و20. 2 الفرقان في تفسير القرآن: محمد الصادقي ج27 ص32. 3 الميزان ج10 ص103. 4 حياة الإمام الحسن بن على: باقر شريف القرشي، تقديم محمد حسين آل كاشف الغطاء. 5 الرحمن: 27. 6 الفرقان في تفسير القرآن: محمد الصادق ج27 ص35 و36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 "لوجه" إلى معنى التوجه, ويستدل لذلك بما ورد في تفسير القمي عن علي بن الحسين "ع": نحن الوجه الذي يؤتى الله منه"1. ويزيد الطباطبائي فيقول في تفسيره: "وفي مناقب ابن شهر آشوب"، قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} قال الصادق عليه السلام: نحن وجه الله2. ب- أسلوب الجري في القرآن: وهو نوع من أنواع التفسير الباطني للقرآن إلا أنه مخصوص بتطبيق الآيات القرآنية على أئمتهم أو على أعدائهم كما قال الطباطبائي في تفسيره: "واعلم أن الجري -وكثيرا ما نستعمله في هذا الكتاب- اصطلاح مأخوذ من قول أئمة أهل البيت عليهم السلام"، وقال: "والروايات في تطبيق الآيات القرآنية عليهم -عليهم السلام- وعلى أعدائهم، أعني روايات الجري كثيرة في الأبواب المختلفة"3. وهو كما قال في كثير من تفاسيرهم وما ورد من رواياتهم, ومن العجيب أنهم يحرصون على إيراده والقول به في تفسير الآية ولكنهم لا يعدونه تفسيرا، بل ينصون على أنه من الجري وسنذكر هنا أمثله لذلك. في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} 4، يقول محمد حسين الطباطبائي: "وفي المعاني عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ، قال: من آمن بقيام القائم عليه السلام أنه حق أقول وهذا المعنى مروي في غير هذه الرواية, وهو من الجري"5. وفي موضع آخر يضرب مثالا للأخبار الواردة في جري القرآن وانطباقه فيقول: "كما ورد في قوله: "وسيعلم الذين ظلموا آل محمد حقهم"، وما ورد من   1 الفرقان في تفسير القرآن: محمد الصادق ج27 ص35 و36. 2 الميزان ج19 ص103. 3 المرجع السابق ج1 ص41 و42. 4 سورة البقرة: من الآية 3. 5 الميزان ج1 ص46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 قوله: "ومن يطع الله ورسوله في ولاية علي والأئمة من بعده فقد فاز فوزا عظيما"، وهي كثيرة جدا"1. ويعلق على ما ورد في تفسير العياشي عن المفضل قال: سألت الصادق عليه السلام عن قوله: {أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} ، قال: التقية.. إلخ، فيقول: "أقول: الروايتان من الجري وليستا بتفسير"2. وفي تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} 3، يقول: "أقول: وفي العيون عن الرضا عليه السلام, تطبيق الآية على منكري الولاية وهو من الجري"2. وعلى ما في تفسير القمي في قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} ، قال: "الحسنة والله ولاية أمير المؤمنين عليه السلام, والسيئة والله عداوته". علق الطباطبائي على هذا بقوله: "أقول: وهو من الجري وليس بتفسير"4. أما المدعو صادق الحسيني الشيرازي فيقول في تفسير قوله تعالى: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [هود: 86] : أخرج العالم "الشافعي" السيد المؤمن الشبلنجي في "نور الأبصار" قال عن أبي جعفر، رضي الله عنه, قال في حديث طويل ذكره وفيه: "فإذا خرج "يعني المهدي" أسند ظهره إلى الكعبة واجتمع إليه 313 رجلا من أتباعه, فأول ما ينطق به هذه الآية: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، ثم يقول: أنا بقية الله وخليفته وحجته عليكم". "أقول": ولا ينافي هذا التأويل نزول الآية فعلا عن النبي شعيب عليه السلام؛ لأن التنزيل والتأويل شيئان والقرآن له ظاهر وله باطن فلا ينافي قصد أحدهما كون المراد في الآية الآخر أيضا"5.   1 الميزان: 12 ص113. 2 الميزان ج13 ص337. 3 سورة الكهف: الآية 101. 4 الميزان ج15 ص406. 5 المهدي في القرآن: صادق الحسيني الشيرازي ص76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وفي تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ ... } الآية1، قال الشيرازي: "لا منافاة بين ورود تأويل هذه الآية تارة من الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب "عليهما "كذا" السلام" وتارة في أصحاب الإمام المهدي المنتظر "عليه السلام" وذلك لأن عليا القائم مع أصحابه, كلاهما مصدقان لهذه الآية.. وكم لمثل ذلك من نظائر في القرآن, فالقرآن ظاهر وباطن وتنزيل وتأويل وتفسير ومعنى"2. وهذا الدكتور محمد الصادقي يقول في تفسير قوله تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} 3: "والوتر بين الأوصياء الأوفياء هو علي عليه السلام والشفع الحسنان عليهما السلام"، ويقول: "أقول: وقد وردت روايات أخرى في تأويل الشفع والوتر كلها من باب التطبيق، تشملها الآية الكريمة"4. أما الليالي العشر عنده, فيورد ما جاء في البرهان عن الصادق "ع" قال: والفجر هو القائم والليالي العشر الأئمة من الحسن إلى الحسن والشفع أمير المؤمنين وفاطمة والوتر هو الله وحده لا شريك له، والليل إذا يسر هي دولة حبتر فهي تسري إلى دولة القائم، ثم يقول: "أقول: وهذا تأويل لطيف لا ينافي تفسيره بغيره, فالليالي العشر هم الأئمة العشرة اعتبارا بما ظلموا وأظلمت عليهم حياتهم"5. وفي قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} ، وقوله سبحانه: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} يقول: "ومن باب الجري والتأويل قد يشمل البحران واللؤلؤ والمرجان بحري النبوة والإمامة, بحري عذب فرات لا ملح ولا أجاج"6.   1 سورة المائدة: من الآية 54. 2 المهدي في القرآن: صادق الشيرازي ص39 و40. 3 سورة الفجر: الآية 3. 4 الفرقان: ج30 ص308. 5 تفسير الفرقان: ج30 ص306. 6 الفرقان ج27 ص32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وأخيرا ففي تفسير قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} 1، يقول: "قد وردت أحاديث أن الأئمة من آل محمد هم النور, وهذا من التأويل والجري ... "2. والأمثلة هنا كثيرة جدا وربما تبلغ المئين, كما قال محمد حسين الطباطبائي في تفسيره3. ولا شك أن هذا من الإلحاد في آيات الله سبحانه ولا يخفى حكم الله على الملحدين في آياته: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 4. قال القاسمي: شملت الآية من يضع الكلام في الآيات على غير مواضعه كما فسرها ابن عباس، قال في الإكليل: ففيها الرد على من تعاطى تفسير القرآن بما لا يدل عليه جوهر اللفظ كما يفعله الباطنية والاتحادية والملاحدة وغلاة المتصوفة5. ولأن القرآن الكريم إنما أنزل لهداية الناس وفيما سلكوه إلغاء لهذه الهداية وإبطال لها، ولكن والحمد لله لن تبلغه أنفاسهم. أما الغزالي -رحمه الله- فقد عد هذا من الطامات، حيث قال: "وأما الطامات فيدخلها ما ذكرناه في الشطح, وأمر آخر يخصها وهو صرف ألفاظ الشرع عن ظواهرها المفهومة إلى أمور باطنة لا يسبق منها إلى الإفهام فائدة, كدأب الباطنية في التأويلات فهذا أيضا حرام وضرره عظيم, فإن الألفاظ إذا صرفت عن مقتضى ظواهرها بغير اعتصام فيه بنقل عن صاحب الشرع, ومن غير ضرورة تدعو إليه من دليل العقل, اقتضى ذلك بطلان الثقة بالألفاظ وسقط به منفعة كلام الله تعالى كلام رسوله صلى   1 سورة التغابن: الآية 8. 2 الفرقان ج28 ص378. 3 الميزان ج1 ص42. 4 سورة فصلت: الآية 40. 5 تفسير القاسمي ج14 ص5211, وانظر الإكليل للسيوطي ص354. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 الله عليه وسلم, فإن ما يسبق منه إلى الفهم لا يوثق به والباطن لا ضبط له, بل تتعارض فيه الخواطر ويمكن تنزيله على وجوه شتى, وهذا أيضا من البدع الشائعة العظيمة الضرر"1. ومن العجيب أنهم لما شعروا أن باب التأويل الباطني باب واسع يستطيع كل من دخل منه أن يصل إلى كل ما يدور بخلده ويجيش بخاطره2، وأن يدخل على القرآن ما ليس منه وخشية من أن ينافسهم في هذا الباب منافس, قصروا هذا الحق على أنفسهم، بل على أئمتهم فبوبوا الأبواب على: "أنه لا يعرف تفسير القرآن إلا الأئمة"3, وقالوا: "إن جميع التفاسير الواردة عن غير أهل البيت لا قيمة لها, ولا يعتد بها"4. وقد أدى بهم هذا إلى التخبط حتى فيما نسب من التفسير إلي إمام واحد!! أورد الطباطبائي في تفسيره كما رواه العياشي في تفسيره عن جابر قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن شيء من تفسير القرآن فأجابني، ثم سألته ثانية فأجابني بجواب آخر، فقلت: جعلت فداك كنت أجبت في المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم، فقال: يا جابر إن للقرآن بطنا وللبطن بطن، وظهرا وللظهر ظهر، يا جابر وليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن, إن الآية تكون أولها في شيء وأوسطها في شيء وآخرها في شيء, وهو كلام متصل ينصرف على وجوه"5. أليس هذا تخبطا وأليس من الطامات كما قال الغزالي، رحمه الله؟! ج- التفسير العقلي: قلنا: إن الشيعة تأثروا تأثرا بينا بالمعتزلة في هذا المنحى ويرجع هذا التأثر   1 إحياء علوم الدين: الغزالي ج1 ص43. 2 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص32. 3 الفصول المهمة: الحر العاملي ص57. 4 الشيعة والرجعة: محمد رضا النجفي ص19. 5 الميزان: ج3 ص73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 إلى أن عددا كبيرا من سلف الشيعة تتلمذ لبعض شيوخ المعتزلة, كما يظهر لنا جليا أن هذا الارتباط في التفكير شيء قديم غير جديد1. يقول محمد جواد مغنية في تفسير قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} 2 الآية: "والمراد بالحكمة والموعظة الحسنة الاعتماد على العقل فيما يستقل بإدراكه كالألوهية التي يتوصل الإنسان إلى معرفتها بالإمعان والتأمل في خلقه وفي خلق السموات والأرض، وكنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- التي يعرفها الباحثون من سيرته وطبيعة رسالته. أما منهج الإسلام في معرفة ما لا يستقل العقل بإدراكه من أصول العقيدة كبعض المغيبات فهو الاعتماد على وحي من الله إلى نبيه الذي ثبت بدليل العقل نبوته وصدقه فيما أخبر به عن الله جل وعز، أما المنهج لإثبات الشريعة فهو الكتاب والسنة والعقل ... "3. ومن المعلوم أن الشيعة لا توافق المعتزلة في كل ما ذهبت إليه من آراء وإلا لاتحدت الفرقتان وشق التمييز بينهما, ولكن الوشائج -لما ذكرنا- قوية ووجوه الشبه بارزة في الآراء الكلامية. فذلكم محمد جواد مغنية يقول في تفسير قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} 4، وتسأل: ظاهر الآية يدل على أن الله سبحانه هو الذي جعل أكابر المجرمين يجرمون ويمكرون بأهل الحق مع العلم بأنه تعالى ينهى عن المكر والإجرام، ويعاقب عليهما، فما هو التأويل؟ الجواب أن القصد من هذه النسبة إليه -جل ثناؤه- هو الإشارة إلى أن مشيئة الله قضت بأن تقوم السنن الاجتماعية على أساس التناقض بين المحقين والمبطلين، بين أرباب السلطان المعتدين وبين الناس المعتدى عليهم، ولا مفر من هذا التناقض   1 التفسير والمفسرون: الذهبي ج2 ص25. 2 سورة النحل: من الآية 125. 3 تفسير الكاشف: ج1 ص51. 4 سورة الأنعام: من الآية 123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 والصراع إلا بالقضاء على المجرمين ولا بد أن يتم ذلك وتعلو كلمة الحق على أيدي دعاة العدل والصلاح, مهما تضخم الباطل واستطال1. ويظهر رأيه أكثر وضوحا عند تفسيره لقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} الآية2، حيث يقول: "قال الرازي: تمسك أصحابنا -يريد السنة الأشاعرة- بهذه الآية في بيان أن الضلال والهداية من الله تعالى"، أما أصحابنا فيقولون: لو كان الضلال والهداية من الله لسقط التكليف وبطل الحساب والجزاء؛ لأنه تعالى أعدل من أن يفعل الشيء ويحاسب غيره عليه, كيف وهو القائل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ؟ أما الآية التي نحن في صدد تفسيرها فلا تدل على دعوى الرازي وأصحابه؛ لأنها لم ترد لبيان مصدر الضلالة والهداية وأنه من الله أو من غيره, وإنما وردت لبيان أن الناس فريقان: الفريق الأول: تتسع صدورهم للحق ويتفاعلون معه ويطمئنون إليه. الفريق الثاني: لا تتسع صدورهم للحق لجهلهم وضيق أفقهم ... 3. ولنسلم جدلا بما يقول في دلالة الآية ولننتقل معه إلى تفسيره لقوله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَالْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 4، ولنقرأ تفسيره حيث يقول: "ليس المراد أن من يخلق الله فيه الهداية فهو المهتدي ومن يخلق فيه الضلال فهو الضال. كلا، إن هذا تأباه الفطرة والبديهة ... لأن الله ليس بظلام للعبيد.."، إلى أن قال: "والذي نراه أن المعنى المقصود من الآية أن المهتدي حقا هو من كان عند الله مهتديا "!! " ولو كان عند الناس ضالا, وليس من شك أن الإنسان لا يكون من المهتدين في الميزان الإلهي إلا إذا آمن وعمل صالحا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس: 9] ، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ   1 تفسير الكاشف: محمد جواد مغنية ج3 ص259. 2 سورة الأنعام: من الآية 125. 3 تفسير الكاشف ج3 ص261 و262. 4 سورة الأعراف: الآية 178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] . وكذلك الضال فإنه من كان ضالا في حساب الله لا في حساب الناس, وبكلمة إن الآية تحدد معنى كل من المهتدي والضال بأنه من كان كذلك عند الله تماما كما قال الإمام علي "ع": "الغنى والفقر بعد العرض على الله"1. وكذا في تفسير قوله تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} 2, يقول: "ليس المراد بمن أضل الله ويضلل الله خلق الإضلال فيهم, كلا، وإنما المراد أن من حاد عن طريق الحق والهداية بإرادته، وسلك طريق الباطل والضلال باختياره, فإن الله يعرض عنه ويدعه وشأنه"!! ""3. د- رؤية الله: وكذا في الرؤية نجد مفسري الشيعة ينكرون جوازها ووقوعها, ونورد هنا آراء ثلاثة من مفسريهم في القرن الرابع عشر. فهذا محمد بن حيدر يقول في تفسيره لقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 4: "وجوه يومئذ ناضرة جواب سؤال مقدر عن حال الآخرة, إلى ربها ناظرة، أي: إلى ربها المضاف لظهور الولاية وصاحبها في ذلك اليوم أو إلى ربها المطلق لظهور آثاره، أي: إلى آثاره ناظرة أو منتظرة إلى ثواب"5. وفي تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} 6, يقول مغنية: "وحيث جاء في الآية الكريمة: {حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} نشير إلى النزاع القائم بين أهل المذاهب الإسلامية وفرقها من أن العقل: هل يجيز رؤية الله بالبصر أو يمنعها؟ قال الأشاعرة السنة: إن رؤية الله بالبصر   1 تفسير الكاشف ج3 ص424. 2 سورة النساء: من الآية 88. 3 تفسير الكاشف: ج2 ص400. 4 سورة القيامة: الآيتان 22 و23. 5 بيان السعادة في مقامات العبادة: محمد بن حيدر الجنابذي ج2 ص294. 6 سورة البقرة: من الآية 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 جائزة عقلا؛ لأنه موجود وكل موجود يمكن رؤيته، وقال الإمامية والمعتزلة: لا تجوز الرؤية البصرية على الله بحال، لا دينا ولا دنيا؛ لأنه ليس بجسم، ولا حالا في جسم ولا في جهة. وبعد أن منعوا الرؤية عقلا حملوا الآيات الدالة بظاهرها على جواز الرؤية، حملوها على الرؤية بالعقل والبصيرة لا بالعين والبصر، وبحقائق الإيمان، لا بجوارح الأبدان على حد تعبير الفيلسوف الشهير الكبير محمد بن إبراهيم الشيرازي المعروف بالملا صدرا، وبصدر المتألهين. ومما استدل به الملا صدرا على امتناع الرؤية قوله: "إن الإحساس بالشيء حالة وضعية للجوهر الحاس، بالقياس إلى المحسوس الوضعي، ففرض ما لا وضع له أنه محسوس, كفرض ما لا جهة له أنه في جهة". ثم يستدل بقول الفيلسوف الإنجليزي جون لوك فيقول: "وانتقل ذهني وأنا أقرأ عبارة هذا العظيم -يعني الملا صدرا- إلى الفيلسوف الإنجليزي جون لوك القائل بالواقعية النقدية، وملخصها أن للشيء صفات أولية ثابتة له واقعا، ولا تنفصل عنه إطلاقا، سواء أوجد من يدركها أم لم يوجد، كالعناصر المقومة المكونة للشيء ... وأيضا له صفات ثانوية نسبية لا توجد مستقلة عن ذات تحسها وتدركها كاللون والصوت والطعم, فاللون ليس صفة للشيء، كما يتراءى وإنما هو موجات ضوئية خاصة بين الشيء والعين عند العلماء، وأيضا الصوت موجات هوائية، والطعم لا وجود له لولا الفم، ومن هنا يختلف باختلاف الذائق صحة ومرضا ... واختصارا أنه لا لون بلا عين, ولا صوت بلا أذن, ولا طعم بلا فم، وليس من شك أن نور الله سبحانه يطغى على الموجات الضوئية وغيرها، وإذا انتفت هذه الموجات انتفت الرؤية"1؟! ولا شك أن مثل هذا الزعم يخالف الشرع والعقل, أما مخالفته الشرع فإن الأدلة الكثيرة جاءت بإثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة وهو نفسه يعترف بهذا, لكنه صرفها إلى الرؤية بالعقل والبصيرة مع أن ألفاظها لا تقبل أن تنصرف إلى الرؤية بالعقل والبصيرة.   1 تفسير الكاشف: محمد جواد مغنية ج1 ص107 و 108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 أما مخالفته العقل, فإن ذات الله تعالى لا تشبه الذوات فلا يصح أن تقاس على مخلوقاته عز شأنه، فكيف نقيس رؤية الخالق على رؤية المخلوق, وذات الخالق على ذات المخلوق: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ} . وهذا ينطبق أيضا على تفسير محمد الصادقي لقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ، تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} 1، حيث قال: "نسبة الظن إلى الوجوه الباسرة والنظر إلى الرب للوجوه الناضرة هذه النسبة وتلك تصرفها عن وجوه الأبصار إلى وجوه البصائر, فالوجه الظاهر لا يظن وإنما يبصر، والبصر الظاهر لا ينظر إلى الرب ذاته إذ: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [6: 103] ، وإنما البصيرة الباطنة هي التي تراه رؤية المعرفة دون كيفية ولا إحاطة, إضافة إلى أن النظر لا يستلزم الأبصار: {تَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [7: 198] ، وأحرى بعدم الأبصار إذا كان المنظور إليه غير مبصر! ثم النص بعد ذلك كله: {إِلَى رَبِّهَا} ، لا إلى الله والربوبية هي الرحمة والثواب والنعمة, وأهمها المعرفة الناتجة عن غاية الربوبية" إلى أن قال: "فرؤيته تعالى بالبصر وحتى إدراكه والحيطة به بالبصيرة أنها مستحيلة في كافة العوالم لكافة العالمين ... فلا يمكن رؤيته بالبصر إلا إذا صار مبصرا كخلقه "!! " ولا إدراكه بالبصيرة إلا إذا صار خلقه مثله في الألوهية "!! " استحالة مزدوجة في خرافة الرؤية والإدراك والإحاطة, إذن فالمعنى من نظر الوجوه هو نظر المعرفة "!! " وانتظار الثواب والرحمة ... "2. ولا نستطرد بعد هذا في بيان تأثرهم بالمعتزلة في بعض الآراء الكلامية، وقد سبق الإشارة إلى سببه.   1 سورة القيامة: الآيات 22-25. 2 الفرقان: محمد الصادقي ج29 ص285-287. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 سابعا: في آيات الأحكام كثيرة هي مواضع الخلاف في الفقه بين أهل السنة والشيعة, وليس في الإمكان في مثل هذا الموضع الإشارة إليها فضلا عن دراسة كل موضع وقد سبقت الإشارة إلى رأيهم في إقامة صلاة الجمعة ما دام الإمام غائبا، وكذا الخمس، وغير ذلك. ومما لا شك فيه أن نكاح المتعة وشذوذ الشيعة في القول به من بين سائر المذاهب, حتى أصبح سمة من أهم سمات المذهب الشيعي, لا شك أن مثل هذا يوجب علينا هنا الإشارة إليه كمثال لمنهج الشيعة في تفسير آيات الأحكام وصرفها؛ لتأييد آرائهم الفقهية كما صرفوا آيات العقائد لتأييد آرائهم العقائدية, ونحو ذلك. ونظرة في تاريخ نكاح المتعة في الإسلام تكشف لنا أنه كان قد أبيح في فترة من الفترات في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد اختلف في مدة الإباحة وزمانها حتى قالوا: إنها أبيحت ثلاثة أيام1. عن إياس بن سلمة عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رخص في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام, ثم نهى عنها2. عن قتادة عن الحسن أنه قال: والله ما كانت متعة النساء إلا ثلاثة أيام ما كانت قبلها ولا بعدها، زمن اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. واختلفوا في زمانها, فمن قائل: عام خيبر أو عام الفتح أو في حجة الوداع أو عام أوطاس، ولم يزل الناس حينذاك بين القول بالإباحة والقول بالتحريم. حتى حسم ذلكم النزاع الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بقوله على المنبر: "لا أوتى برجل تزوج بنكاح المتعة إلا غيبته تحت الحجارة". ثم توفي عمر -رضي الله عنه- وظهرت بعد ذلك فرق, كالشيعة والخوارج ونحوهم, فأخذت المتعة كغيرها شائبة الطائفية حيث نهى عنها عمر واختلفت الرواية فيها عن علي -رضي الله عنهما- فتعصب لها الشيعة وأخذوا   1 أخرجه مسلم ج4 ص131؛ والبيهقي ج7 ص204؛ والدارقطني ج3 ص258. 2 أخرجه عبد الرزاق ج7 ص505 في مصنفه، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه ج2 ص208 من مرسل الحسن البصري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 يدافعون عنها حتى أصبحت شعارا لهم1, وكثرت الروايات الموضوعة في ذلك حتى رووا فيما رووا: "أن من خرج من الدنيا ولم يتمتع, جاء يوم القيامة وهو أجدع"2، ورووا: "ليس منا من لم يؤمن بكرتنا "يعني الرجعة" ويستحل متعتنا"3 وزعموا فيما زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تمتع مرة كانت درجته كدرجة الحسين -عليه السلام- ومن تمتع مرتين فدرجته كدرجة الحسن, ومن تمتع ثلاث مرات كانت درجته كدرجة علي, ومن تمتع أربع مرات كانت درجته كدرجتي"4. وبلغت درجة تمسكهم بالقول بنكاح المتعة أنهم لا يقبلون فيه التقية, فقال محمد حسين آل كاشف الغطاء: "ومن طرقنا الوثيقة عن جعفر الصادق -عليه السلام- أنه كان يقول: ثلاث لا أتقي فيهن أحدا: متعة الحج, ومتعة النساء، والمسح على الخفين"5. ولا عجب بعد هذا وقد بلغوا في التمسك بهذا القول هذا الحد, أن يبحثوا له عن سند في القرآن الكريم. ففي تفسير قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} 6 يقول محمد بن حيدر الجنابذي من علماء القرن الرابع عشر: "وفي لفظ الاستمتاع وذكر الأجور وذكر الأجل على قراءة إلى أجل, دلالة واضحة على تحليل المتعة فريضة فرضت, أو حالكونها7 مفروضة عليكم بالعقد، {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ} من إعطاء الزيادة على الفريضة   1 نكاح المتعة عبر التاريخ: عطية محمد سالم ص16. 2 تفسير منهج صادقين: الملا فتح الله كاشاني ص356. 3 تفسير الصافي 1/ 347؛ والوسائل للحر العاملي ج7 ص438. 4 تفسير منهج صادقين: الملا فتح الله كاشاني ص356. 5 أصل الشيعة وأصولها: محمد حسين كاشف الغطاء ص100. 6 سورة النساء: من الآية 24. 7 هكذا وردت, ولعلها: أو حال كونها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 أو إسقاطهن شيئا من الفريضة: {مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} ، وفيه إشعار بكون الأجر من أركان عقد التمتع كما عليه من قال به, وروي عن الباقر "ع": لا بأس بأن تزيدها وتزيدك إذا انقطع الأجل فيما بينكما تقول: استحللتك بأجل1 آخر برضى منهما ولا تحل لغيرك حتى تنقضي عدتها وعدتها حيضتان: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} فحلل المتعة عن علم, ولغايات منوطة بالمصالح والحكم2. وقال محمد جواد مغنية في تفسير الآية نفسها: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} : "إذا تم الزواج المؤقت بين الرجل والمرأة وانقضى الوقت أو أوشك ثم بدا لهما أن يزيدا في الوقت والأجرة, فلا بأس في ذلك"3. وبعد: فتلكم نماذج لمنهج الشيعة في القرن الرابع عشر في تفسير القرآن الكريم ومحاولتهم تطبيق آياته على أصولهم وينطبق عليهم قول ابن تيمية -رحمه الله تعالى: "إن مثل هؤلاء اعتقدوا رأيا ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه, وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان, ولا من أئمة المفسرين لا في رأيهم ولا في تفسيرهم"4. وما أصدق الشيخ محمد حسين الذهبي -رحمه الله تعالى- حين قال: "فغالب ما في كتب الإمامية الاثني عشرية في تأويل الآيات وتنزيلها وفي ظهر القرآن وبطنه, استخفاف بالقرآن الكريم ولعب بآيات الذكر الحكيم ... وإذا كان لهم في تأويل الآيات وتنزيلاتها أغلاط كثيرة فليس من المعقول أن تكون كلها صادرة عن جهل منهم، بل المعقول أن بعضها قد صدر عن جهل, والكثير منها صدر عمدا عن هوى ملتزم وللشيعة -كما بينا- أهواء التزمتها"5.   1 كذا وردت ولعلها: بأجر آخر. 2 بيان السعادة في مقامات العبادة: سلطان محمد حيدر ج1 ص195. 3 التفسير المبين: محمد جواد مغنية ص89. 4 مجموع فتاوى ابن تيمية: عبد الرحمن بن القاسم ج13 ص358. 5 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 أهم كتب التفسير عند الإمامية الاثني عشرية في القرن الرابع عشر: للإمامية الاثني عشرية في القرن الرابع عشر الهجري عدد كبير من المؤلفات في التفسير, منها ما كان شاملا للقرآن الكريم كله, ومنها ما اقتصر على تفسير سورة واحدة أو سور محدودة, ومنها ما لم يكمل بعد فصدرت بعض أجزائه دون الباقي. وليس من السهل أن أذكر كل هذا وكل ما ألف فيه، ولعلي أكتفي هنا بذكر بعضها باختصار ثم أقدم دراسة مختصرة عن أهمها. فمن المؤلفات: 1- تفسير الميزان في تفسير القرآن , في عشرين مجلدا: تأليف علامتهم السيد محمد حسين الطباطبائي, وسنفرده بحديث. 2- التفسير الكاشف, في سبعة مجلدات: تأليف محمد جواد مغنية, صدرت طبعته الأولى في بيروت سنة 1968 وبين يدي الطبعة الثانية الصادرة في 1978م, الناشر دار العلم للملايين. 3- التفسير المبين: تأليف محمد جواد مغنية. قال عنه صاحبه: "إن هذا الكتاب تفسير وجيز لا نقاش فيه ولا مقارنة بين أقوال المفسرين ولا إسرائيليات ومطولات؛ لأن الهدف منه أن يتصور قارئ القرآن الكريم موضوع الآية ويتمثله, ولو من بعض جوانبه"1.   1 التفسير المبين: محمد جواد مغنية ص3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وكان في أول أمره يريد أن يختصر تفسير: جوامع الجامع لشيخهم الفضل بن الحسن الطبرسي، ثم عدل عن الاختصار وألفه تأليفا. الكتاب نشرته دار التعارف للمطبوعات، بيروت سنة 1398هـ في مجلد, عدد صفحاته 730 من القطع الكبير. 4- البيان في تفسير القرآن، لإمامهم الأكبر زعيم الحوزة العلمية السيد أبي القاسم الخوئي, صدر منه المجلد الأول في "ص557" ويحتوي على مدخل، وتفسير فاتحة الكتاب. صدرت طبعته الأولى سنة 1957م, وبين يدي الطبعة الرابعة وقد صدرت سنة 1395هـ 1975م, والناشر دار الزهراء، بيروت. 5- الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة: تأليف محمد الصادقي. وصدر منه حتى الآن أربعة مجلدات هي الأجزاء 30، 29، 27، 28 وهما في مجلد واحد، 26. وعلل المؤلف بدايته بالجزء الثلاثين من القرآن بقوله: "لأن السور التي يضمها هي بداية الوحي الشامل لما يحتاجه البدائيون في معرفة الإسلام فلنبدأ بها كلنا، علنا ندخل المدينة من بابها"1. أما هذا التفسير فهو "دراسات ... ألقيناها على طلاب علوم الدين في الحوزتين المباركتين "قم والنجف الأشرف"!! على زيادات وتنقيحات لفظية ومعنوية تفسيرا للقرآن بالقرآن متنا، وبالحديث هامشا"1. وقد صدرت طبعات الكتاب ما بين عامي 1395-1397. 6- بيان السعادة في مقامات العبادة, في مجلدين كبيرين: تأليف سلطان محمد بن حيدر محمد بن سلطان محمد، الجنابذي الخراساني.   1 الفرقان في تفسير القرآن: محمد الصادقي ج30 ص7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 انتهى مؤلفه من كتابته في 14/ 2/ 1311هـ وصدرت طبعته الأولى والأخيرة إذ لم يطبع بعدها, في 4/ 9/ 1314هـ. وقد كنت أنوي الحديث عنه بتفصيل, لولا أن الشيخ محمد حسين الذهبي -رحمه الله- قد تناوله بتفصيل لا يحتاج إلى مزيد. 7- آلاء الرحمن في تفسير القرآن، في 3 أجزاء: محمد جواد البلاغي, توفي سنة 1352هـ، طبع في صيدا سنة 1933-1934م. هذا بعض ما اطلعت عليه وقرأت فيه من تفاسيرهم ولم أشأ أن أذكر غير هذا, إما لأني لم أطلع عليه أو لأنه غير مستوفٍ للقرآن كله، بل هو في سور أو آيات أو موضوعات دون غيرها. وأحسب أني لست بحاجة أيضا إلى الكتابة عن كل مؤلف منها, بل سأكتفي بذكر تفسير واحد كبيان لمنهج الشيعة في تفسير القرآن الكريم في العصر الحديث, فأكتفي بتفسير الميزان في تفسير القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 "الميزان في تفسير القرآن": المؤلف: هو محمد حسين الطباطبائي. ولد سنة 1321-1903م في تبريز وبها أكمل تعليمه الابتدائي, ثم انتقل إلى النجف في العراق حيث واصل دراسته وغادرها بعد أن نال درجة الاجتهاد إلى إيران, وتصدر للتدريس في مدينة "قم". من آثاره تفسير "الميزان في تفسير القرآن" قيل: إنه استغرق منه عشرين سنة متتابعة, توفي سنة "1404"1. أما التفسير فالنسخة التي بين يدي هي الطبعة الثانية وجاء فيها أنها تمتاز عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف. وقد صدرت هذه الطبعة بين عامي 1391-1394هـ وهي من منشورات الأعلمي للمطبوعات ببيروت, وتقع في عشرين مجلدا. وفرغ المؤلف من تأليفه كما يقول: "في ليلة القدر المباركة, الثالثة والعشرين من ليالي شهر رمضان من شهور سنة 1392هـ". طريقة المؤلف: لا شك أن هذا الكتاب يعتبر من أهم مؤلفات الإمامية الاثني عشرية في التفسير في القرن الرابع عشر، بل أهمها على الإطلاق نظرا للشمولية التي سلكها مؤلفه فيه, فلم يقتصر فيه على لون من ألوان التفسير للقرآن فحسب، بل هو كما وصفه مؤلفه على غلاف كل جزء: "كتاب علمي، فني، فلسفي, أدبي، تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن" وقد حدد المؤلف في مقدمته خطته فقال: "وقد اجتنبنا فيها عن أن نركن إلى حجة نظرية فلسفية، أو إلى   1 معجم المفسرين: عادل نويهض ج2 ص777. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 فرضية علمية، أو إلى مكاشفة عرفانية، واحترزنا فيها عن أن نضع إلا نكتة أدبية يحتاج إليها فهم الأسلوب العربي أو مقدمة بديهية أو علمية لا يختلف "كذا" فيها الإفهام"1. ثم قال: "وأما آيات الأحكام فقد اجتنبنا تفصيل البيان فيها لرجوع ذلك إلى الفقه ... ثم وضعنا في ذيل البيانات متفرقات من أبحاث روائية نورد فيها ما تيسر لنا إيراده من الروايات المنقولة عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأئمة أهل البيت -سلام الله عليهم أجمعين- من طرق العامة والخاصة، وأما الروايات الواردة عن مفسري الصحابة والتابعين، فإنها على ما فيها من الخلط والتناقض لا حجة فيها على مسلم2, وسيطلع الباحث المتدبر في الروايات المنقولة عنهم -عليهم السلام- أن هذه الطريقة الحديثة التي بنيت عليها بيانات هذا الكتاب أقدم الطرق المأثورة في التفسير التي سلكها معلموه, سلام الله عليهم. ثم وضعنا أبحاثا مختلفة، فلسفية وعلمية وتاريخية واجتماعية وأخلاقية، حسب ما تيسر لنا"3. وقد جرى المؤلف على هذا النحو, وهذه أمثلة من تفسيره: الإمامة: في تفسير قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} 4. ربط   1 الميزان في تفسير القرآن: ج1 ص12 و13. 2 كذا زعم المؤلف, والحق أن الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم أجمعين- هم أعلم الناس بالتفسير بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أما الاختلاف الواقع في بعض أقوالهم فهو من باب اختلاف قوى الفهم والإدراك والتدبر والتأمل في آياته سبحانه, ثم إن علماء المسلمين جعلوا مقاييس يعرف بها الصحيح من الضعيف والسمين من الهزيل, وبها أدركنا ضعف وهزال -بل وضع- ما لجأ إليه المؤلف. 3 تفسير الميزان: ج1 ص13 و14. 4 سورة البقرة: الآية 124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 المؤلف بين هذه وما بعدها فقال عنها: "إنها شروع بجمل من قصص إبراهيم -عليه السلام- وهي كالمقدمة والتوطئة لآيات تغيير القبلة وآيات أحكام الحج وما معها من بيان حقيقة الدين الحنيف الإسلامي"1، ثم بين المراد بهذه الآية فقال: فقوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} .. إلخ إشارة إلى قصة إعطائه الإمامة وحبائه بها1. ثم بين المراد بالإمامة في الآية فقال: قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} ، أي: مقتدى يقتدي بك الناس ويتبعونك في أقوالك وأفعالك, فالإمام هو الذي يقتدي ويأتم به الناس؛ ولذلك ذكر عدة من المفسرين أن المراد به النبوة لأن النبي يقتدي به أمته في دينهم, قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 63] , لكنه في غاية السقوط2. وهو يرى أن الإمامة أعلى درجة من النبوة, فيقول: "وبالجملة فالإمام هادٍ يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه, فالإمامة بحسب الباطن نحو ولاية الناس للناس في أعمالهم وهدايتها إيصالها إياهم إلى المطلوب بأمر الله دون مجرد إرائه الطريق الذي هو شأن النبي والرسول وكل مؤمن يهدي إلى الله سبحانه بالنصح والموعظة الحسنة, قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم: 4] ، وقال تعالى في مؤمن آل فرعون: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [مؤمن: 38] ، وقال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] 3. ولا يخفى ضعف الاستدلال بالآيات المذكورة، بل عدمه فيما ذهب إليه من التفريق بين الإمامة والنبوة وإن كان مراده الاستدلال على الجملة الأخيرة: كل مؤمن يهدي إلى الله سبحانه بالنصح والموعظة الحسنة, فليس هذا محل النزاع، بل هو محل تسليم, وإنما محله ما زعمه من فرق بين الإمامة والنبوة.   1 الميزان: ج1 ص261. 2 الميزان: ج1 ص270. 3 الميزان: ج1 ص272. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 التقية: وفي تفسير قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} 1, قال: الاتقاء في الأصل: أخذ الوقاية للخوف ثم ربما استعمل بمعنى الخوف استعمالا لمسبب في مورد السبب, ولعل التقية في المورد من هذا القبيل. والاستثناء منقطع, فإن التقرب من الغير خوفا بإظهار آثار التولي ظاهرا من غير عقد القلب على الحب والولاية, ليس من التولي في شيء؛ لأن الخوف والحب أمران قلبيان متباينان ومتنافيان أثرا في القلب, فكيف يمكن اتحادهما؟ فاستثناء الاتقاء استثناء منقطع. وفي الآية دلالة ظاهرة على الرخصة في التقية على ما روي عن أئمة أهل البيت -عليهم السلام- كما تدل عليه الآية النازلة في قصة عمار وأبويه ياسر وسمية وهي قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] . وبالجملة, الكتاب والسنة متطابقان في جوازها في الجملة والاعتبار العقلي يؤكده, إذ لا بغية للدين ولا هم لشارعه إلا ظهور الحق وحياته وربما يترتب على التقية والمجاراة مع أعداء الدين ومخالفي الحق من حفظ مصلحة الدين وحياة الحق, ما لا يترتب على تركها وإنكار ذلك مكابرة وتعسف2. وقال أيضا: "أقول: والأخبار في مشروعية التقية من طرق أئمة أهل البيت كثيرة جدا, ربما بلغت حد التواتر, وقد عرفت دلالة الآية عليها دلالة غير قابلة للدفع"3.   1 آل عمران: من الآية 28. 2 الميزان في تفسير القرآن: ج3 ص153. 3 المرجع السابق ص163, ولمعرفة الحق في هذا وغيره من العقائد انظر ما كتبناه في منهج أهل السنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 رؤية الله: وفي تفسير قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1، يقول: "والمراد بالنظر إليه تعالى ليس هو النظر الحسي المتعلق بالعين الجسمانية المادية التي قامت البراهين القاطعة على استحالته في حقه تعالى، بل المراد النظر القلبي ورؤية القلب بحقيقة الإيمان على ما يسوق إليه البرهان, ويدل عليه الأخبار المأثورة عن أهل العصمة عليهم السلام"2. الخلود في النار: في تفسير قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 3، قال: "ومسألة انقطاع العذاب والخلود مما اختلف فيه أنظار الباحثين من حيث النظر العقلي, ومن جهة الظواهر اللفظية. والذي يمكن أن يقال: أما من جهة الظواهر فالكتاب نص في الخلود قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} الآية، والسنة من طرق أئمة أهل البيت مستفيضة فيه, وقد ورد من غير طريقهم أخبار في الانقطاع ونفي الخلود وهي مطروحة بمخالفة الكتاب"4، ثم ذهب يعدد بعض الإشكالات ويرد عليها. التفسير الباطني: وفي تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} 5 الآية، يقول: "وفي تفسير العياشي عن محمد بن منصور قال: سألت عبدا صالحا عليه السلام عن قول الله: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} قال: إن للقرآن ظهرا وبطنا, فأما ما حرم به في الكتاب   1 سورة القيامة: الآيتان 22 و23. 2 الميزان ج20 ص112. 3 سورة البقرة: من الآية 167. 4 تفسير الميزان ج1 ص412. 5 سورة الأعراف: من الآية 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 هو في الظاهر والباطن من ذلك أئمة الجور، وجميع ما أحل في الكتاب هو في الظاهر والباطن من ذلك أئمة الحق. أقول: ورواه في الكافي عن محمد بن منصور مسندا, وفيه: فجميع ما حرم الله في القرآن هو الظاهر والباطن من ذلك أئمة الجور، وجميع ما أحل الله في القرآن هو الظاهر والباطن من ذلك أئمة الحق. أقول: انطباق المعاصي والمحرمات على أولئك والمحللات على هؤلاء؛ لكون كل واحد من الطائفتين سببا للقرب من الله أو البعد عنه، أو لكون اتباع كل سببا لما يناسبه من الأعمال. ومن هذا الباب ما في التهذيب بإسناده عن العلاء بن سيابة عن أبي عبد الله -عليه السلام- في قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال: الغسل عند لقاء كل إمام1. وفي تفسير قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} 2، قال: "أقول: وروى تسميته صلى الله عليه وآله وسلم بالنجم بإسناده عن أبيه عن الحسين بن خالد عن الرضا -عليه السلام- وهو من البطن"3. فرض الرجلين في الوضوء: وفي تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} 4، قال: "وأما قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} فقد قرئ بالجر وهو لا محالة بالعطف على رءوسكم ... وقرئ {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب وأنت إذا تلقيت الكلام مخلي الذهن5   1 تفسير الميزان: ج8 ص94 و95. 2 سورة النجم, الآية الأولى. 3 تفسير الميزان: ج19 ص33. 4 سورة المائدة: من الآية 6. 5 القرآن الكريم لا يتلقاه المؤمنون بخلو ذهن, بل لا بد أن يضموا إليه بيان من أرسله الله ليبين لهم ما نزل إليهم ولا يعد هذا شائبة!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 غير مشوب الفهم لم يلبث دون أن تقضي أن {وَأَرْجُلَكُمْ} معطوف على موضع رءوسكم وهو النصب, وفهمت من الكلام وجوب غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين ولم يخطر ببالك أن ترد {وَأَرْجُلَكُمْ} إلى {وُجُوهَكُمْ} في أول الآية مع انقطاع الحكم في قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} ، بحكم آخر وهو قوله: "وامسحوا بوجوهكم"1، فإن الطبع السليم يأبى عن حمل الكلام البليغ على ذلك "إلى أن قال": وعلى ذلك وردت الروايات عن أئمة أهل البيت -عليهم السلام- وأما الروايات من طرق أهل السنة فإنها وإن كانت غير ناظرة إلى تفسير لفظ الآية وإنما تحكي عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفتوى بعض الصحابة, لكنها مختلفة: منها ما يوجب مسح الرجلين ومنها ما يوجب غسلهما. وقد رجح الجمهور منهم أخبار الغسل على أخبار المسح ولا كلام لنا معهم في هذا المقام؛ لأنه بحث فقهي راجع إلى علم الفقه, خارج عن صناعة التفسير"2؟! وهكذا لما أعيته الحيلة وعجز عن رد أدلة الجمهور المستندة إلى فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- زعم أنها خارجة عن صناعة التفسير, وما درى أن فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقوله ما هو إلا التفسير الصحيح للقرآن الكريم. إرث الأنبياء: وقال في ميراث الأنبياء ما قال به المذهب الشيعي, ففسر قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} 3، بقوله: "أي: ورثه ماله وملكه وأما قول بعضهم: المراد به وراثة النبوة والعلم ففيه أن النبوة لا تقبل الوراثة لعدم قبولها الانتقال، والعلم وإن قبل الانتقال بنوع من العناية غير أنه إنما يصح في العلم الفكري   1 كذا وردت وهو لا شك يقصد: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} . 2 تفسير الميزان ج5 ص222. 3 سورة النمل, من الآية 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 الاكتسابي. والعلم الذي يختص به الأنبياء والرسل كرامة من الله لهم وهبي ليس مما يكتسب بالفكر, فغير النبي يرث العلم من النبي لكن النبي لا يرث علمه من نبي آخر, ولا من غير نبي"1. وكذا في تفسير قوله تعالى حكاية لقول عبده زكريا: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} 2 نحا المؤلف في تفسيرها هذا النحو3. نكاح المتعة: والطباطبائي يجزم وبلا شك في جواز نكاح المتعة بناء على مذهبه, وها هو يفسر قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} 4. فيقول: "والمراد بالاستمتاع المذكور في الآية نكاح المتعة بلا شك, فإن الآية مدنية نازلة في سورة النساء في النصف الأول من عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد الهجرة على ما يشهد به معظم آياتها, وهذا النكاح أعني نكاح المتعة كانت دائرة بينهم معمولة عندهم في هذه البرهة من الزمان من غير شك -وقد أطبقت الأخبار على تسلم ذلك- سواء كان الإسلام هو المشرع لذلك أو لم يكن, فأصل وجوده بينهم بمرأى من النبي ومسمع منه لا شك فيه، وكان اسمه هذا الاسم ولا يعبر عنه إلا بهذا اللفظ. فلا مناص من كون قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} محمولا عليه مفهوما   1 تفسير الميزان ج15 ص349. 2 سورة مريم: الآيتان 4 و5. 3 لمعرفة الحق في هذا, انظر تفسير الشيخ الشنقيطي -رحمه الله تعالى- لهذه المسألة في الفصل الأول: الاتجاه الفقهي في التفسير, من الباب الثاني ص431, فإنه أجاد وأفاد رحمه الله تعالى. 4 سورة النساء: من الآية 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 منه هذا المعنى كما أن سائر السنن والعادات والرسوم الدائرة بينهم في عهد النزول بأسمائها المعروفة المعهودة كلما نزلت آية متعرضة لحكم متعلق بشيء من تلك الأسماء, بإمضاء أو رد أو أمر أو نهي لم يكن بد من حمل الأسماء الواردة فيها على معانيها المسماة بها من غير أن تحمل على معانيها اللغوية الأصلية ... فمن المتعين أن يحمل الاستمتاع المذكور في الآية على نكاح المتعة لدورانه بهذا الاسم عندهم يوم نزول الآية, سواء قلنا بنسخ نكاح المتعة بعد ذلك بكتاب أو سنة, أو لم نقل, فإنما هو أمر آخر. وجملة القول أن المفهوم من الآية حكم نكاح المتعة, وهو المنقول عن القدماء من مفسري الصحابة والتابعين, كابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب وقتادة ومجاهد والسدي وابن جبير والحسن وغيرهم, وهو مذهب أئمة أهل البيت عليهم السلام"1. ثم أنكر أن تكون هذه الآية منسوخة وتتبع الأقوال في نسخها وناسخها ورد عليها بمزاعم يطول ذكرها وتفنيدها، وقال بعد أن أورد التفسير الروائي للآية: "وأما حديث النسخ بالكتاب أو بالسنة فقد عرفت عدم رجوعه إلى محصل, على أن بعض الروايات يدفع البعض في جميع مضامينها إلا في أن عمر بن الخطاب هو الناهي عنها, المجري للمنع المقرر حرمة العمل وحد الرجم لمن فعل"2. وإن شئت الحق في هذه المسألة وغيرها من المسائل التي شذ بها الإمامية أو غيرهم من الفرق الضالة, فعليك بما ذكرته في تفسير أهل السنة والجماعة وفي منهج التفسير الفقهي, فقد جعلتهما ميزانا تزن به الأقوال الشاذة, وترجع إليهما عند التباس السبيل, والله الهادي.   1 تفسير الميزان: محمد الحسين الطباطبائي ج4 ص271 و272. 2 المرجع السابق: ج4 ص299. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 التفسير العلمي: نص المؤلف في مقدمة تفسيره على أنه سيجتنب في بياناته عن أن: "نركن إلى حجة نظرية فلسفية أو إلى فرضية علمية أو إلى مكاشفة عرفانية"1. والحق أنه التزم الابتعاد عن النظريات العلمية فندر أن أجد فيما اطلعت إليه من تفسيره حديثا عن هذه النظريات لا بالنفي ولا بالإثبات ومن النادر هذا ما جاء في تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} إلى قوله: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2 فقال فيها: "ثم إن هذه الأجرام الجوية المختلفة بالصغر والكبر والبعد والقرب "وقد وجد الواحد في الصغر على ما بلغه الفحص العلمي ما يعادل: 33 0.000000000000000000000000 من سنتيمتر مكعب والواحد في الكبر ما يعادل الملايين من حجم الأرض وهو كرة يعادل قطرها 9000 ميل تقريبا, واكتشف من المسافة بين جرمين علويين ما يقرب من ثلاثة ملايين سنة نورية، والسنة النورية من المسافة تعدل: 365×24×60×60× 300000 كيلومتر تقريبا". فانظر إلى هذه الأرقام التي تدهش اللب وتبهت الفكر, واقض ما أنت قاض في غرابة الأمر وبداعته"3. أقول: وإن هذه المعلومة العلمية التي قالها لم يذكرها من باب التفسير القائم على ألفاظ الآية, وإنما من باب الاستشهاد وقد أحسن -والحق يقال- بهذا الصنيع.   1 المرجع السابق: ج1 ص12. 2 سورة البقرة: الآية 164. 3 تفسير الميزان: ج1 ص396. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 رأيي في هذا التفسير: قراءة قصيرة في هذا التفسير تدرك منها أول ما تدرك, أن هذا الكتاب لم يؤلف للعامة وإنما للعلماء نظرا لما فيه من أبحاث دقيقة عميقة, ويقال فيه ما قيل في تفسير الكشاف, أنه من أحسن التفاسير لولا ما فيه من الاعتزال, أما هذا التفسير فهو من أحسن التفاسير في العصر الحديث ولولا ما فيه من التشيع المتطرف. ومن مزاياه هذه الأبحاث الواسعة الشاملة التي يوردها في تفسير بعض الآيات مستقصيا مستوفيا لأطراف القضية التي يبحثها, فمن ذلك مثلا تفسيره لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1 الآيات، فقد جاء تفسيره لها في 137 صفحة, وجاء تفسيره لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} 2 الآيات في حوالي 70 صفحة وتفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} 3 الآيات في حوالي 86 صفحة, وغير هذا كثير. وإني لأعجب حقا من هذه العقلية التي تغوص بك في عويص المعاني وتجلو لك غامض الحقائق أعجب منها إذا ما طفت إلى السطح كيف يلتبس عليها الأمر؟ وكيف تختلط عليها الحقائق وتلتبس السبل؟ وكيف تقبل هذه الخرافات والمهازل؟! صحيح أن المؤلف أورد غالب هذه الأمور تحت عنوان بحث روائي, وصحيح أن المؤلف يجعل بعضها من أسلوب الجري الذي قال عنه: "روايات الجري كثيرة في الأبواب المختلفة وربما تبلغ المائتين. ونحن بعد   1 سورة المائدة: الآية 116. 2 سورة آل عمران: الآية 7. 3 سورة الأنعام: الآية 74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 هذا التنبيه العام نترك إيراد أكثرها في الأبحاث الروائية؛ لخروجها عن الغرض في الكتاب، إلا ما تعلق بها غرض في البحث, فليتذكر"1. إن هذا التنبيه لا يعفيه من مسئولية إيرادها, ولا يبرئه من انحراف اعتقادها. وليست هذه الروايات هي المأخذ عليه فحسب, بل يؤخذ عليه كل ما يؤخذ على العقيدة الإمامية, فما تفسيره إلا على مذهبها, وما منهجه إلا منهجها, ولعل في هذا غنى عن استعراضها. رأيي في هذا المنهج: وما مثلي وأنا أريد الحديث عن منهجهم في التفسير إلا كمثل رجل وقف أمام قصر منيف انهدَّ عموده فتساقطت أركانه, وانطمرت معالمه فلم يظهر إلا العيوب والفجوات. لست أقول هذا تعصبا, ولست أقوله حقدا, ولكني أرى منهجا أسقط من حسابه العمود الذي تقوم عليه أصول التفسير وأركانه وهم يعترفون بهذا. فقد أرسل الله سبحانه وتعالى نبيه محمدا -صلى الله عليه وسلم- مبينا للقرآن الكريم, فقال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 2، وقال سبحانه: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 3 والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدا. ولا يشك عاقل أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ورضي الله عنهم, هم الذين تلقوا هذا البيان منه, وهم الذين نشروه بعد ذلك بين المسلمين كافة, فالطريق إليه لا يكون إلا عن طريقهم. فإذا ما قامت فرقة وأعلنت أنها لا تثق بهذا المروي عن طريق الصحابة -رضي الله عنهم- فإنما تعلن جهلها وتعلن انحرافها وقد نقلنا نص أحد   1 الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي ج1 ص42. 2 سورة النحل: من الآية 44. 3 سورة النحل: من الآية 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 علمائهم المعاصرين الذي صرح فيه بقوله: "إنهم لا يعتبرون من السنة "أعني الأحاديث النبوية" إلا ما صح لهم من طرق أهل البيت عن جدهم, يعني ما رواه الصادق عن أبيه الباقر عن أبيه زين العابدين عن الحسين عن السبط عن أبيه أمير المؤمنين عن رسول الله, سلام الله عليهم جميعا. أما ما يرويه مثل أبي هريرة وسمرة بن جندب ومروان بن الحكم وعمران بن حطان الخارجي وعمرو بن العاصي ونظائرهم, فليس لهم عند الإمامية من الاعتبار مقدار بعوضة, وأمرهم أشهر من أن يذكر"1. ولا أدري لِمَ خص هؤلاء بالذكر مع أنه في أول حديثه لم يعترف إلا بطرق أهل البيت، وما عداهم فلا يصح عندهم؟! ولا شك أن طرق أهل البيت لو سلمنا جدلا صحتها كلها, فإنه لم ترد بها كل أحكام الإسلام؛ ولهذا النقص الكبير قامت طائفة، بل طوائف بسد هذا النقص بالروايات الموضوعة والافتراءات ونسبتها زورا وبهتانا إلى أهل البيت, إذ كيف يقصرون الناس على طرق غير وافية! وأحسب أن هذا الانحراف في مصادر التشريع هو سبب كل انحراف في منهجهم هذا, إذا نظرنا إلى هذا المنهج نظرة من بُعد تظهره بصورة كاملة. وإذا ما قربنا الصورة إلى أعيننا ظهر لنا عدد من رجال الباطنية الذين أدخلوا في هذه العقيدة ما زادها شطنا عن الحق وأهله, وقد كنت أظنهم اندثروا وهلكوا فإذا بهم ما يزالون بين أظهر المسلمين, يتزيون بزيهم ويأكلون معهم. وقد كنت إلى عهد قريب من أولئك المخدوعين بهم الذين يؤرق مضاجعهم ويقلق راحتهم أن يقوم على منبر أو يكتب في كتاب رجل فيذمهم ويكشف سترهم وكنت أقول: يكفي ما أصاب المسلمين من سهام الأعداء فلنتجه إليهم ولنترك خصوماتنا فيما بيننا, فإذا بي والأيام تكشف لي كيدهم ومكرهم وقرأت في كتبهم الحديثة قبل القديمة مما جعلني أوقن بأنه يجب أن نعلن الدعوة إلى الإسلام بين صفوفهم, في نفس الوقت الذي نعلنه عند غير المنتسبين إلى   1 أصل الشيعة وأصولها: محمد الحسين آل كاشف الغطاء ص79 و80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 الإسلام إن لم يكن قبل ذلك, وأنه من الواجب أن نكشف خطرهم قبل أن نكشف خطر أولئك؛ إذ هم أشد وأنكى. وليس المقام هنا مقام كشف لهذه الحقائق, ولكنه ومضة قصدت فيها لفت انتباه من لم ينتبه, فسيرى بعد ذلك الحقيقة. عودة إلى منهجهم في التفسير: قلت: إن عدم اعتبارهم لما رواه الصحابة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو مصدر انحراف منهجهم وسقوطه؛ ولذلك لجئوا إلى أمور عدة يسدون بها ما انثلم: 1- فرووا الروايات الموضوعة, ونسبوها إلى أئمتهم. 2- اعتبروا كل رواية لأحد أئمتهم تشريعا؛ لأنهم بزعمهم معصومون. 3- لم يساعدهم ظاهر القرآن الكريم على ما انتحلوه من آراء وانحرافات, فقالوا بالباطن وقالوا بالجري. 4- ولم تكف هذه الأمور كلها, فقالوا بتحريف القرآن الكريم وهم وإن أنكره بعضهم فإنما ينكره تقية؛ فكتبهم التي بها يؤمنون وبأقوالها يعتقدون, مليئة بروايات التحريف. 5- وقالوا بالتقية والرجعة والبداء والإمامة والعصمة ... إلخ، مما لا يقوم على الأصل ولا يستند إلى كتاب ولا إلى سنة صحيحة, هذا كله بل بعضه يكشف زيف منهجهم وضلاله وحين يعودون إلى القرآن الكريم ويعترفون -حقا- بسلامته من الزيادة أو النقصان وحين يعترفون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها أصحابه العدول الثقات حينئذ يكون الاتجاه السليم، بل بدايته وحينئذ يؤخذ من تفسيرهم ويرد, أما والحالة هذه فلا ولا كرامة. وغني عن القول بعد هذا أن أصولهم في التفسير، بل في العقيدة كلها لا يقوم لها أصل ولا تقوم لها قائمة, ما دام عمودها منهدّا وركنها الأساس ساقطا, والله المستعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 الإسماعيلة ... الإسماعيلية: افترقت هذه الفرقة عن الإمامية الاثني عشرية بعد وفاة جعفر بن محمد الصادق, فقالت الاثنا عشرية بإمامة ابنه موسى الكاظم إلى اثني عشر إماما, فسموا بالإمامية الاثني عشرية، وقالت الإسماعيلية بإمامة ابنه إسماعيل فنسبوا إليه، وانتهى بوفاته دور الظهور وبدأ دور الستر فكانت الأئمة عندهم سبعة فلقبوا بالسبعية، وكان ابنه محمد المكتوم أول الأئمة المستورين عندهم. وهذا جدول لتوضيح تسلسل الإمامة عند فرق الشيعة الثلاث الاثني عشرية, والإسماعيلية، والزيدية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وإنما قال الإسماعيلية بإمامة محمد بن إسماعيل بن جعفر؛ لأنهم يعتقدون أن جعفرا قد أوصى بالإمامة لابنه إسماعيل, وعندما توفي إسماعيل في حياة والده جعفر علموا أنه إنما نصب ابنه إسماعيل للدلالة على إمامة ابنه محمد. وقويت شوكة هذه الطائفة في عهد المأمون وكان على رأسهم ميمون القداح مولى "جعفر الصادق"، حيث تظاهر وصحبه بحب آل البيت وادعوا الولاء التام والموالاة لهم وأعلنوا الإمامة لمحمد بن إسماعيل بن جعفر الذي "اضطر إلى ترك مسقط رأسه المدينة المنورة, وهاجر إلى خوزستان "جنب غرب إيران"، ثم تركها إلى بلاد الديلم "جنوب بحر قزوين" ولم يسمع عنه شيء بعد ذلك1. ولا نستبعد أن يكون ميمون القداح هذا هو الذي دبَّر هذه الخطة ليتولى أمور الدعوة من بعده، فقد زعم أنه ابن لمحمد بن إسماعيل بن جعفر هذا، ثم انتقلت أمور الدعوة من بعده إلى ولده عبد الله بن ميمون الذي كان يدعي علم الغيب والأسرار الروحانية والعلوم الخفية, ويزعم أنها انتهت إليه من جده محمد بن إسماعيل بن جعفر2. واتخذ من بلدة "ساباط" مركزا لدعوته ثم انتقل إلى الشام ولم تلعب الإسماعيلية دورا سياسيا إلا بعد الانتقال من "دور الستر" إلى دور "الظهور". وقد بدأ دور الستر بتولي محمد بن إسماعيل بن جعفر للإمامة, وقد اختلف في عدد الأئمة وترتيبهم في هذا الدور، واستمر دور الستر هذا إلى ظهور عبيد الله المهدي مؤسس الدولة الفاطمية في أواخر القرن الثالث الهجري وبه يبدأ دور الظهور. وانبثق عن هذه الفرقة فرق باطنية أخرى كالقرامطة والنصيرية والدروز، بل ينسب إليها فرق باطنية أخرى حدثت, وما تزال تحدث في العصور المتأخرة   1 طائفة الإسماعيلية: محمد كامل حسين ص14. 2 إخوان الصفاء: عمر الدسوقي ص20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 كالبابية والبهائية والقاديانية وما يسمى بالرسالة الثانية التي عانى وما زال يعاني منها المسلمون الأذى الشديد. وأصبحت هذه الفرق كلها تعرف باسم الحركات الباطنية, وهم جميعا كما وصفهم العلماء: "ظاهر مذهبهم الرفض, وباطنه الكفر المحض". وأمر مؤلفاتهم اشتهر حتى لا يكاد يخفى على ذي معرفة ذلكم التستر الشديد والتكتم الذي يسدلونه على مؤلفاتهم وكتبهم, وأشار إلى ذلك كل من كتب عنهم شيئا, لا فرق بين من يؤيدهم ومن يخالفهم, فكلاهما يلاقي العناء الشديد في ذلك. وقد اعترف أحد الدارسين عنهم وهو منهم بقوله: "وأعترف أني أثناء دراساتي الطويلة عن الإسماعيلية لم أقابل شيخا غيره عنده رغبة صادقة في إعارة كتبه أو تقديم يد المعونة لمن يدرس عقائد الفاطميين وتاريخهم وفقههم"، إلى أن قال: "ونرجو مخلصين أن تزول التقية والستر؛ فقد أصبحا لا قيمة لهما الآن"1. وتحدث في موضع آخر عن إحدى النسخ المخطوطة لكتاب يحققه, فقد مكث ثماني سنوات ونصف في البلد الذي توجد به النسخة عند أحد أصدقائه الإسماعيليين, ولم يسمح له برؤيتها إلا ساعة من الزمان برقابة ابنه في مقره الرسمي2. ولست بهذا أريد دفاعا عن نفسي وتبريرا لعجزي, ولكني أحكي واقعا عاناه كبار الباحثين المتخصصين مع صلتهم وصداقتهم بأصحاب المخطوطات, وإقامتهم معهم. وقد بحثت ونقبت كثيرا عن كتب الإسماعيلية بل الباطنية عامة قديما وحديثا, وقد حصلت على مجموعة من مؤلفاتهم, والعجيب أني لم أجد لهم كتابا في   1 من مقدمة آصف بن علي أصغر فيضي, لتحقيقه كتاب دعائم الإسلام: النعمان بن حيّون ج1 ص15. 2 المرجع السابق ج1 ص21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 التفسير لا في القديم ولا في الحديث، بل إن بعض مؤلفاتهم خاصة الحديثة منها, تقرؤها من أولها إلى آخرها فلا تجد فيها آية, ولا حديثا, والحمد لله على ذلك. وكل من كتب عن التفسير لدى الأقدمين منهم فإنما التمس نصوصا بين ثنايا مؤلفاتهم لم يفردوها بحديث ولم يقصدوا ذلك, بل عرضت لهم عرضا فقالوا بتفسيرها حسب ما يلائم عقائدهم. وفي البابية والقاديانية مثل هذه النصوص, لكن أصحابها ليسوا من أهل القرن الرابع عشر. وقد وعد الشيخ محمد حسين الذهبي -رحمه الله تعالى- تفسير البابية مثالا للتفسير الباطني, فأورد1 منه جملة مبثوثة في بعض كتبهم. ولئن أخذنا مفهوم الباطنية هذا وجعلناه يشمل كل فرقة انحرفت عن الإسلام وظهر إلحادها وتأويلاتها الضالة مع زعمها الانتماء إليه والالتزام به, خاصة إذا رأينا كثيرا من العلماء والمؤرخين مجمعين على أن فرق النصيرية والدروز والإسماعيلية كلها يجمعها "الفرقة الباطنية" مع أن فيما بينها اختلافا كبيرا في اعتقادها وتباينا ظاهرا في معبوداتها ويضمون إليها البابية والبهائية والقاديانية وهي كذلك أيضا, فإنا نعتقد بوجوب ضم طائفة جدّت في القرن الرابع عشر ولها أتباع ومؤلفات وكادت أن تكون لها دولة, لولا أن قيض الله للإسلام والمسلمين من أنقذهم من ذلك, أعني أتباع ما يسمى بـ"الرسالة الثانية" وداعيتها المتنبي المزعوم محمود طه. فإن كان الأمر كذلك فإني سأشير سريعا إليه كمثال للتفسير الباطني في العصر الحديث, وحسبك به من باطني.   1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص264-279. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 الجمهوريون : وهذا الاسم مما يطلقه أتباع محمود محمد طه على أنفسهم ويطلقون على أنفسهم اسم: "المسلمون" وعلى دعوتهم: "الرسالة الثانية" ودجالهم محمود طه من متطرفي الباطنية والمتصوفة الذين ينكر أفعالهم وأقوالهم كل أحد حتى الصوفيون المعتدلون، أظهر أفكاره ودعوته في السودان. وتقوم دعواه على الزعم بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين بعث في مكة جاء بالإسلام، ولما تبين له أن الناس في هذا الوقت لا يطيقون تلقي الإسلام1 انتقل إلى المدينة ودعا إلى الإيمان فأجابوه, فالرسول صلى الله عليه وسلم -بزعمهم- إنما جاء بالإيمان وفصله للناس. أما الإسلام فلم يقع في حقه التفصيل بل جاء به مجملا, وزعم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو طليعة المسلمين المقبلين فكأنما جاء لأمته "المؤمنين" من المستقبل, فهو المسلم الوحيد بينهم كما أن أبا بكر طليعة المؤمنين وكان بينه وبين النبي أمد بعيد. وسمى دعوته هذه بـ"الرسالة الثانية" لزعمه أن الرسالة الأولى المحمدية كانت للإيمان، والرسالة الثانية للإسلام. ووصف الأولى كما جاء في عنوان أحد كتبه "الرسالة الأولى لا تصلح للقرن العشرين"، فالرسالة الثانية بزعمه ناسخة للرسالة الأولى. وقال عن الرسالة الثانية: "الرسالة الثانية هي الإسلام وقد أجملها المعصوم إجمالا, ولم يقع في حقها التفصيل إلا في التشاريع -كذا- المتداخلة بين الرسالة الأولى وبينها, كتشاريع العبادات وتشاريع الحدود"2.   1 رسالة الصلاة: محمود محمد طه 68؛ والرسالة الثانية من الإسلام: محمود طه ص121. 2 الرسالة الثانية: محمود محمد طه ص142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وينكر أن الدين قد كمل, وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد بين القرآن. ويزعم أن الأمة الإسلامية لم تظهر بعد وهي مرجوة -كذا- الظهور في مقبل أيام البشرية وسيكون يوم ظهورها يوم الحج الأكبر, وهو اليوم الذي يتم فيه الخطاب الرحماني بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} 1، 2، وأن دخول الإسلام مرتبة لم تتحقق في المجتمعات الماضيات إلا للأنبياء حتى هؤلاء قصر عنهم بعضهم "!!! " كما يحدثنا القرآن: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} 3، 4 الآية، فهذا الدجال قد فهم من قوله تعالى: {الَّذِينَ أَسْلَمُوا} أن هناك أنبياء لم يسلموا وهذا سوء فهم وسوء معتقد؛ لأن قوله تعالى: {الَّذِينَ أَسْلَمُوا} وصف للنبيين يبين ما كانوا عليه، وليس للاحتراز من أنبياء غير مسلمين, فالوصف هنا للبيان لا للاحتراز؛ وذلك لأن الدين عند الله الإسلام: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 5، فكيف يبتغي هؤلاء الأنبياء غير الإسلام دينا ومن ابتغى سواه فهو من الخاسرين؟! ذلكم إجمال نظرته إلى الإيمان وإلى الإسلام, ونظرته إلى موقع دعوته المزعومة من الإسلام. وبعد أن ألزمت نفسي بقراءة كثير من كتبه والردود عليه, ظهر لي رأي فيه وفي دعوته لم أجد من أظهره وأبرزه عند الحديث عنه, ولعل ما توصلت إليه يكشف جانبا من أهداف دعوته الباطنية, فلئن كان يقف خلف الباطنية الأولى اليهودي عبد الله بن سبأ فلعل ابن سبأ نصراني يقف خلف دعوة الباطنية في   1 سورة المائدة: آية 3. 2 الرسالة الثانية: محمود محمد طه ص147 و148. 3 سورة المائدة: آية 44. 4 رسالة الصلاة: محمود محمد طه ص69. 5 سورة آل عمران: الآية 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 العصر الحديث وما أكثر السبئيين, خاصة إذا علمنا أن الإفساد1 البريطاني كان وراء الدعوات الباطنية في العالم الإسلامي كالقاديانية والبابية والبهائية وكل ما من شأنه نشر الإلحاد والفساد في العالم الإسلامي, بل وزرع اليهود في أرض المسلمين. أعود فأقول: إذا علم هذا, فليس بمستغرب أن يقف هؤلاء أو غيرهم من "سبئية" النصارى خلف دعوة محمود طه. ذلكم أن الدعوة الإسلامية تقوم على الوحدانية لله سبحانه وتعالى وتختلف عنها عقيدة النصارى فتقوم على عقيدة "التثليث", وإذا نظرنا بتأمل إلى عقيدة محمود طه هذا وجدناها تقوم على "الثنائية" في كل شيء, وكأنها تريد أن تشكك في الوحدانية فتستعد للتثليث وجاءت الثنائية هذه في كثير من عقائد الجمهوريين هؤلاء. فجاءت الثنائية بزعم وجود إلهين, واحد في السماء وآخر في الأرض وإله الخير وإله الشر, وأن الله والرحمن إلهان متحدان في واحد, وقال بوجود ذاتين ذات قديمة وذات حادثة, وإرادتين واحدة للخير وأخرى للشر, وأن الله واحد وله شركاء في نفس الوقت2. وجاءت بزعم أن ما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- هو "الرسالة الأولى" وما سيأتي بأنه "الرسالة الثانية" وهو يكتب ويشرح عقائد الرسالة الثانية, وكأنه النبي الذي جاء بها؟! وجاءت بزعم أن الإسلام إسلامان: إسلام أولي هو إسلام الأعراب الذين قالوا: {آمَنَّا} ورد عليهم القرآن: {قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} 3، ثم الإيمان الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- يليه الإسلام الثاني، وهو الذي حان وقته في هذا العصر, فالإسلام إسلامان4.   1 ويسميه بعض الناس "الاستعمار" وما هو بذاك. 2 جريدة المدينة, العدد 5634، مقال "دجال السودان" بقلم: سعد حسن لطفي ص8، الجمعة 8/ 11/ 1402هـ. 3 سورة الحجرات: من الآية 14. 4 رسالة الصلاة: محمود محمد طه ص68 و69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 وجاءت الثنائية بزعم أن للقرآن الكريم معنيين: معنى ظاهرا ومعنى باطنا. وجاءت الثنائية في مفهوم الصلاة, فالصلاة بالمعنى القريب هي الصلاة الشرعية ذات الحركات المعروفة1, وهي للذي يمر بمرحلة الإيمان الذي هو مرتبة الأمة الأولى, فالصلاة الشرعية في حقه فرض له أوقات يؤدى فيها، وحين يرتفع السالك إلى مرتبة الأصالة ويخاطب بالاستقلال عن التقليد ويتهيأ ليأخذ صلاته الفردية من ربه بلا واسطة تأسيا بالمعصوم ... فهو حينئذ لا تسقط عنه الصلاة وإنما يسقط عنه التقليد ويرفع من بينه وبين ربه بفضل الله، ثم بفضل كمال التبليغ المحمدي الحجاب الأعظم ... الحجاب النبوي2. ولتوضيح هذه العبارات أقول: إن عقيدته تقوم على أن أمة المؤمنين هم أمة التقليد, فهم يتلقون الأوامر الإلهية بواسطة النبي. أما أمة المسلمين فهم كالأنبياء يتلقون من الله مباشرة فهم أمة التلقي, فإذا انتقل الإنسان من التقليد وسقط عنه ما سماه "الحجاب الأعظم" حجاب النبوة, أصبح يتلقى الأوامر من ربه مباشرة وأصبح في حدود الشريعة الفردية وخرج من الشريعة الجماعية: "وتكون شريعته الفردية من الله بلا واسطة, فتكون له شهادته وتكون له صلاته وصيامه وزكاته وحجه, ويكون في كل أولئك أصيلا"3، وله بعد ذلك أن لا يفعل شيئا من هذه العبادات؛ لأنه بزعمهم يتلقى الأوامر من الله مباشرة, ومن الذي يستطيع أن يحتج عليه بتشريعات أمة التقليد؟! ولهذا عرف عن محمود طه هذا أنه لا يصلي, وليس هذا بمستغرب منه. وجاءت الثنائية بمفهوم العقل, فالعقل عنده عقلان: العقل الواعي والعقل الباطن4، والعلم عنده علمان: علم الظاهر وهو علم آيات الآفاق وعلم يقين وهو علم آيات النفوس وهو لابد آتٍ, ولكن الوقت بطبيعة الحال طرف فيه   1 المرجع السابق: ص74. 2 المرجع السابق: ص84 و85. 3 المرجع السابق: ص78. 4 رسالة الصلاة: محمود محمد طه ص32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 وهو لم يجئ بعد ذلك بأن "حكم الوقت" فيما مضى من تاريخ البشرية لم ينضح ليقضي بمثل هذا اليقين وإنه لآتٍ لا رب فيه, وبمثل هذا اليقين يجيء العلم الذي هو سبب الرزق1. وجاءت الثنائية بمفهوم الساعة. قال محمود طه: "والساعة ساعتان: ساعة التعمير وساعة التخريب ... فأما ساعة التعمير فهي لحظة مجيء المسيح ليرد الأشياء إلى ربها حسا ومعنى, وليملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا ... يومئذ يظهر الإسلام على جميع الأديان ... وأما ساعة التخريب فهي لحظة مجيء المسيح للمرة الثانية ليرد الأشياء إلى الله حسا وقد أبطأ المعنى وذلك: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} 2، والساعتان منضويتان في بعضهما في سياق القرآن فهو عندما يقول: "الساعة" إنما يعني المعنى القريب للساعة وهي ساعة التعمير والمعنى البعيد للساعة وهي ساعة التخريب, وإنما يقع التمييز بينهما عند القادرين عليه بفضل الله, ثم بفضل التفريد في التوحيد"3. وجاءت الثنائية أيضا في الزواج, وهما عنده: الزواج في الحقيقة والزواج في الشريعة، وقال: عامله الله بعدله عن الزواج في الحقيقة أنه زواج الإنسان الكامل بالله، وقال: "وتكون ثمرة العلاقة بين الذات القديمة وزوجها -الإنسان الكامل- المعارف اللدنية"4، أما الزواج في الشريعة فهو الزواج المعروف بين الرجل والمرأة. وإذا ضممنا إلى هذه المبادئ تقسيمه الإسلام إلى قسمين: "مرحلة الإيمان" الرسالة الأولى، و"مرحلة الإسلام" الرسالة الثانية, وقوله: "فأما مرحلة   1 الدين والتنمية الاجتماعية: محمود طه ص14 و15. 2 سورة الأنبياء: الآية رقم 104. 3 القرآن ومصطفى محمود والفهم العصري: محمود محمد طه ص180. 4 تطوير شريعة الأحوال الشخصية: محمود محمد طه ص59 و60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 الإيمان -ويقصد بها دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم- فهي مرحلة أقرب إلى بدائية اليهود، ومرحلة الإسلام -ويقصد بها دعوته- فهي أقرب إلى روحانية النصرانية1. فإذا قارنا بين عقيدة النصارى في أن الله هو المسيح عيسى ابن مريم واعتقاد هذا الدجال أن الله هو الحقيقة المحمدية أي: الإنسان الكامل واعتقاد النصارى أن الله هو زوج مريم، واعتقاد الدجال أن الله زوج نساء البشر، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وإذا ضممنا هذا إلى ذلك, فإن العلاقة تبدو لي واضحة أن هناك قوى نصرانية ذات نفوذ تقف خلف هذا الدخال, خاصة إذا علمنا أن أحد العلماء صرح بأن موظفي الإذاعة والتليفزيون قالوا له: إنهم يؤيدونه ضد الدجال وإنهم يكرهونه ولكنهم موظفون ويخافون على وظائفهم، وقال له بصراحة: إن الحكومة السودانية أعطت الدجال حصانة وجعلته فوق القانون, فلا يحاكم ولا ينشر أو يذاع نقد لدعوته2. قال هذا في فترة من الفترات, لكنه حُوكم قبلها عدة مرات وحكم عليه بالردة ومع هذا فلم ينفذ شيء من هذه الأحكام. وهو الآن بحمد الله في سجون السودان بعد إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية وما زلنا ننتظر تطبيقها عليه وعلى أتباعه.   1 القرآن ومصطفى محمود والفهم العصري: محمود طه ص168. 2 جريدة المدينة, العدد 5634، مقال "دجال السودان" بقلم: سعد حسن لطفي ص8، الجمعة 8/ 11/ 1402هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 يفسروا القرآن الكريم وفق نظرياتهم مهما أوتوا من الجرأة على التحريف والتبديل في معانيه, وقد يجدون أنفسهم بعد هذا بحاجة إلى الزعم بتحريف القرآن فيلجئون إليه, أو يعرضون عن تفسيره كاملا فيريحون ويستريحون. وليس من السهل وقد يكون ليس في الإمكان استخراج منهج كامل لمسالك هذه الطريقة في تفسير القرآن الكريم, وإنما يمكن فيما أرى رسم خطوط عريضة لطريقته في التفسير. فإن كان الأمر كذلك, فإني أحسب الخطوط العريضة لطريقة محمود طه هذا في تفسير القرآن الكريم لا تختلف اختلافا كبيرا عن سلفه الباطنيين. فهو مثلا لا يلتزم تفسير القرآن الكريم بالمأثور في شتى أنواعه من تفسير القرآن بالقرآن أو بأقوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو أقوال أصحابه -رضي الله عنهم- أو أقوال التابعين, رحمهم الله تعالى. ويفسر القرآن الكريم بما يخالف قواعد اللغة العربية, وأحيانا بما يتعارض معها. ويقول بالتفسير الباطني للقرآن الكريم, ويأتي من المعاني لآيات القرآن الكريم على ضوء هذا المعنى عنده بما لا يستند إلى كتاب, ولا إلى سنة, ولا إلى لغة. ويستشهد بأقوال غلاة الصوفية ويورد أقوالهم ويعتقد بوحدة الوجود. هذا كله مع الآراء والاعتقادات الجديدة التي جاء بها والتي أراد أن يفسد بها شريعة الإسلام بما زعمه تطوير الشريعة وما أدخله من عقائد زعمها عقائد الإسلام, وما هي إلا عقائد الكفر والضلال ولعلي أذكر بعد هذا أمثلة من هذه التفاسير الضالة. ثنائية الإله: قلنا آنفا: إنه يعتقد بالثنائية حتى في الإله الذي اتفق المسلمون على وحدانيته, فهو يعتقد أن الرحمن هو إله الأرض, وأن الله هو إله السماء وهما إله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 واحد فقال في تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} 1: "فإله الأرض إله الإرادة ... وإله السماء إله الرضا ... وإله الأرض الرحمن ... وإله السماء الله ... وإنما هو إله واحد"2. وقال: "اسم الله يطلق على معنيين أيضا: معنى بعيد وهو ذات الله الصرفة وهي فوق الأسماء والصفات, ومعنى قريب وهو مرتبة البشر الكامل الذي أقامه الله خليفة عنه في جميع العوالم وأسبغ عليه صفاته وأسماءه حتى اسم الجلالة "!! " فكلمة الله حيث قيلت تشير إلى هذين المعنيين"3، وأكد هذا القول في موضع آخر حيث قال: "الله هو الإنسان الكامل "!! " الذي ليس بينه وبين ذات الله المطلقة أحد وهو بين الذات وبين سائر الخلق, وهو الذي يتولى حسابهم نيابة عن الله, وهذا الإنسان الكامل المسمى الله هو المعني في المكان الأول بقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} 4. وقد فسر هذه الآية في مواضع عديدة من كتبه ومؤلفاته, فقال: {هَلْ يَنْظُرُونَ} الإشارة هنا إلى الكافرين والمنافقين, والمعنى: ما ينتظرون, قوله: {إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} يعني "الإنسان الكامل" يعني "الحقيقة المحمدية" قوله: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} يعني يأتيهم مجسدا في الدم واللحم, وتلك إشارة لمجيء المسيح, قوله: {وَالْمَلائِكَةُ} إشارة إلى أعوان المسيح ... وقوله: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} إشارة لساعة مجيئه, قوله: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} إشارة إلى الكمالات التي تظهر بمجيء المسيح وأعوانه, وهي الكمالات التي بها تملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا"5. وإذا تأملت بعد ذلك في أقوال رأيت ما هو أعجب وأعجب, فهو يقرر في   1 سورة الزخرف: الآية 84. 2 تطوير شريعة الأحوال الشخصية: محمود طه ص21. 3 جريدة المدينة, الرسالة الثانية مستمدة من الفكر الكنسي المحرف بقلم: سعد حسن لطفي, العدد 5768 في الجمعة 23/ 3/ 1403هـ عن كتاب رسائل ومقالات: محمود طه ص26. 4 المقال السابق: عن كتاب رسائل ومقالات: محمود طه ص29. 5 القرآن ومصطفى محمود: محمود طه ص45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 أحد كتبه: "كما كانت عقيدة التعدد عقيدة إسلامية, وكلاهما قد كان مرادا ومرضيا من الله"1, ويقول: "قد مر وقت كانت فيه عبادة الصنم مرضية عند الله, وذلك بحكم الوقت"2!! وقال أيضا عن الطاقة المتولدة عن انفلاق الذرة: "هذه القوة الهائلة هذه الطاقة إرادة الله ... هي الله"3، وله نصوص أخرى كثيرة من هذا النوع, مما يدل على انحراف عقيدته وتخبطه وضلاله. ومن تخبطه أيضا قوله: "إنك إن أشركت بالله غيره فأنت ضال, وإن نزهته عن الشريك فأنت ضال"4 ويقول: "إن الله تبارك وتعالى قد خلقنا على صورته"5، وقال عن الله عز وجل: "فهو لا يسمى ولا يوصف ومن ثم لا يعرف ... ولولا أنه تقيد في منزلة الاسم "الله" لما كان إليه من سبيل"6، وقال: "إنه من الكفر أن ننفي النقص عن الله؛ لأن تصورك للنقص ذنب في حد ذاته"7، وقال: "إن أسماء الله هي قيد والله لا قيد له؛ ولذلك فإن ذكر الأسماء لله كفر صريح"7. الصلاة: وله فهم جديد لكلمة {مَوْقُوتًا} من قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} 8، فهو يعقد بحثا عنوانه: "الصلاة بين المؤمن والمسلم"،   1 الدين والتنمية الاجتماعية: محمود طه ص4. 2 القرآن ومصطفى محمود والفهم العصري: محمود طه ص168. 3 الدين والتنمية الاجتماعية: محمود طه ص7. 4 القرآن ومصطفى محمود: محمود طه ص38. 5 المرجع السابق: ص42. 6 المرجع السابق: ص44. 7 جريدة المدينة, العدد 5768 الجمعة 23/ 3/ 1403, مقال الرسالة الثانية: سعد لطفي ص10. 8 سورة النساء: من الآية 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 ويعني بالمؤمن اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبالمسلم أتباعه, ويقول: "ماذا يكون من أمر آية: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} ؟ فاسمع إذن: المقصود هنا الصلاة الشرعية و {كِتَابًا مَوْقُوتًا} يعني فرضا له أوقات يؤدى فيها و {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} مرحلة أمة البعث الأول وهي الأمة التي تعيش في أخريات "كذا" أيامها, وقد ندبت لتواصل سير ترقيها وتطورها إلى "أمة المسلمين". إلى أن قال: "ويصبح شأن الآية: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} مع المسلم الذي يمر بمرحلة الإيمان الذي هو مرتبة الأمة الأولى أن الصلاة الشرعية في حقه فرض له أوقات يؤدى فيها, فإذا ارتقى بحسن أدائها بتجويده تقليد المعصوم حتى ارتقى في مراقي الإيقان ... حتى بلغ حق اليقين وسكن قلبه واطمأنت نفسه فأسلمت, طالعه المعنى البعيد لكلمة {مَوْقُوتًا} في الآية: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} وذلك المعنى في حقه هو أن الصلاة الشرعية فرض له وقت ينتهي فيه وذلك حين يرتفع السالك إلى مرتبة الأصالة ويخاطب بالاستقلال عن التقليد ويتهيأ ليأخذ صلاته الفردية من ربه بلا واسطة "!! " تأسيا بالمعصوم ... فهو حينئذ لا تسقط عنه الصلاة وإنما يسقط عنه التقليد ويرفع من بينه وبين ربه بفضل الله ثم بفضل كمال التبليغ المحمدي الحجاب الأعظم, الحجاب النبوي"1. ولا تفهمن من قوله: "فهو حينئذ لا تسقط عنه الصلاة" أنه لا يسقطها، بل هو يسقط الصلاة المعروفة ذات الحركات والقيام والركوع والسجود عمن ارتقى من درجة الإيمان إلى درجة الإسلام وإلا فما معنى قوله: إن الصلاة الشرعية فرض له وقت ينتهي فيه, وذلك حين يرتفع السالك إلى مرتبة الأصالة"؟ فالصلاة الشرعية صلاة المقلدين, أما صلاته هو فصلاة الأصالة ولكل فرد صلاته الخاصة التي يتلقاها عن ربه مباشرة كما يزعمون, وهذا ولا شك منتهى الكيد للإسلام والمسلمين, كيف لا وهم يريدون هدم عموده؟   1 رسالة الصلاة: محمود محمد طه ص84 و85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 الزواج: وقد احترت في اختيار عنوان لهذا البحث, ذلكم أنه تحدث فيه عن الذات الإلهية، وأنها هي النفس الواحدة "!! " وتحدث عن الزواج في الحقيقة والشريعة, وزعم زواج الله بالإنسان والعياذ بالله وعن خطيئة آدم وأنها الزنى بحواء قبل أن تباح له في الشريعة؟! كل هذه وغيرها مما ألحد فيه في هذا المبحث واخترت له العنوان الذي اختاره له صاحبه لا لشيء إلا لتنظر تشتّت الأفكار في مؤلفاته. ففي تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} الآية1، قال: "وهذه النفس الواحدة هي في أول الأمر وفي بدء التنزل نفس الله تبارك وتعالى, هي الذات القديمة التي منها تنزلت الذات الحادثة وتلك هي الإنسان الكامل "الحقيقة المحمدية" والإنسان الكامل هو أول قابل لتجليات أنوار الذات القديمة -الذات الإلهية- وهو من ثم زوجها ... وإنما كان الإنسان الكامل زوج الله؛ لأنه إنما هو في مقام العبودية ... ومقام العبودية مقام انفعال في حين أن مقام الربوبية مقال فعل ... فالرب فاعل والعبد منفعل ثم تنزلت من الإنسان الكامل زوجته فكان مقامها منه مقامه هو من الذات, فهي منفعلة وهو فاعل ... وهذا هو في الحقيقة مستوى العلاقة "الجنسية" بين الرجل والمرأة ... وحين يكون إنجاب الذرية هو نتيجة العلاقة "الجنسية بيننا وبين نسائنا {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} تكون ثمرة العلاقة بين الذات القديمة وزوجها -الإنسان الكامل- المعارف اللدنية"2. ثم تحدث عن الزواج في الشريعة بعد أن أفاض الحديث عن الزواج في الحقيقة فقال: "أسلفنا القول عن الزواج في الحقيقة, وندخل الآن على الزواج في "الشريعة" ونبدأ بأن حواء قد كانت زوج آدم في الحقيقة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} ، ففي هذا المقام فإن   1 سورة النساء: من الآية الأولى. 2 تطوير شريعة الأحوال الشخصية: محمود محمد طه ص59 و60 باختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 النفس الواحدة هي نفس آدم الإنسان الكامل الذي أقيم مقام الخلافة, وإنما كانت حواء زوج آدم في هذا المقام؛ لأنها تنزل عنه {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} فهي انبثاق نفسه عنه خارجه ... ثم إنه لما كان آدم أول رسول شريعة من رسل التوحيد, فقد أراد الله له ولزوجه أن يكونا زوجين في الشريعة ... ومن أجل ذلك فقد نهاه أن يتصل بها قبل أن تحلل له بالشريعة. وإلى ذلك الإشارة بقوله: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} ... وقد جاءت هذه الإشارة في سياق هو في غاية الإمتاع والروعة يقول تعالى فيه: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ، فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ، وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} 1 الآيات ... قوله: {وَيَا آدَمُ} يعني الخليفة يعني الإنسان الكامل {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} يعني زوجك في الحقيقة "الباطنة" والتي سيتم اقترانك بها في شريعتك "الظاهرة" فتنطبق بذلك الصنيع شريعتك وحقيقتك وظاهرك وباطنك ... ولكن قبل أن يتم هذا الاقتران الشرعي يجب أن لا تقربها وقد وردت الإشارة اللطيفة إلى ذلك بقوله: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} فإنكما إن تفعلا تكونا من {الظَّالِمِينَ} المعتدين على حد الشرع. وهذه إشارة إلى أول الشرائع التي بدأ الإنسان يرتفع بها في مراقي النفوس وجاءت منظمة للغريزة الجنسية ... و {الشَّجَرَةَ} هنا لها درجات من المظاهر: أولها وأدناها لآدم نفسه التي بين جنبيه.. ثم هي في تنزلها عنه شهوة نفسه هذه إلى الجنس ... ثم هي حواء ... ثم هي شجرة التين فإن شجرة التين إنما هي رمز النفس الأمارة.. وإنما نهي عنها لئلا تقوى بأكلها نفسه الحيوانية فتتكثف وتغلظ فلا تطيعه على التصعد باتباع الأمر الشرعي واجتناب النهي الشرعي ... فشجرة التين هي الشجرة المعنية في الظاهر فلما وقع الخلاف بأكلها تلاحقت حلقات السلسلة حتى وقع الخلاف بالمماسة, فتغشى زوجه بغير شريعة "!! " وحلقات هذه السلسلة المتلاحقة طويت في عبارة: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} والإشارة بقوله: {بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا}   1 سورة الأعراف: من الآيتين 20 و21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 إنما هي للأعضاء التناسلية فقد كانت محجوبة عنهما بنور البراءة والتقى, فظهرت بظلام الإثم والمخالفة قوله: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} إشارة إلى الحجاب الذي أملاه الخزي الذي صاحب الخطيئة"1. ويظهر في تفسيره هذا تخبطه في عقيدة الإيمان بالله وتفسيره الباطني الذي يصله بأصول فرق الباطنية وأحسب أن أمر بطلان هذا التفسير واضح بين لا يحتاج القارئ لمثل هذا البحث إلى إيراده؛ لأن إبطاله وهدمه معلوم من الشريعة بالضرورة, وتنكره الأصول قبل الفروع. الحجاب: وهو يزعم أن الأصل في الإسلام السفور وليس الحجاب, ويقول: "الحجاب ليس أصلا في الإسلام والأصل في الإسلام السفور؛ لأن مراد الإسلام العفة وهو يريدها عفة تقوم في صدور النساء والرجال لا عفة مضروبة بالباب المقفول, والثوب المسدول"2. ويفسر قوله تعالى عن آدم وحواء -عليهما السلام- لما أكلا من الشجرة وبدت لهما سوآتهما: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} بقوله الذي نقلناه آنفا: "إشارة إلى الحجاب الذي أملاه الخزي الذي صاحب الخطيئة, وقد تحدثنا عن ذلك في موضعه من كتابنا "الرسالة الثانية من الإسلام" تحت عنوان "الحجاب ليس أصلا في الإسلام"3. وإذا رجعنا إلى الموضع الذي أشار إليه وجدناه يقول هناك: "فأخذا يستران عوراتهما بورق التين يومئذ بدأ الحجاب, فهو نتيجة الخطيئة وسيلازمها حتى يزول بزوالها إن شاء الله -هكذا يقول ويتمنى- ومن ذلك قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} ، وهو يعني قد خلقناكم   1 تطوير شريعة الأحوال الشخصية: محمود طه ص64-66 باختصار. 2 القول الفصل في الرد على محمود طه: حسين زكي ص116؛ عن الرسالة الثانية: محمود طه ص129. 3 تطوير شريعة الأحوال الشخصية: محمود طه ص66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وفرضنا عليكم لبس ثياب القطن والصوف وغيرهما مما يواري عوراتكم ... وقوله: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} يعني التوحيد والعفة والعصمة المودوعة في قلوبكم قوله: {ذَلِكَ} يعني إلباس العفة {خَيْرٌ} من إلباس القطن"1. الإباحية المطلقة: ويستدل بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية2, على الإباحية المطلقة فيقول: وكلما استقامت السيرة ضاقت لذلك دائرة المحرمات وانداحت دائرة المباحات على قاعدة الآية الكريمة: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} 3 فإذا استمر السير بالسائر إلى نهايته المرجوة وهي تمام نقاء السريرة وكمال استقامته بالسيرة عادت جميع الأعيان المحسوسة إلى أصلها من الحل, وانطبقت الآية الكريمة: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 4. واستدلاله هذا ينبئ عن جهل تام بأسباب النزول وتحريف لآيات الله, ذلكم أن هذه الآية نزلت فيمن شرب الخمر من المؤمنين ومات قبل تحريمها، فقد قال ابن عباس، رضي الله عنهما: "لما نزل تحريم الخمر قالوا: يا رسول الله, فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟، فنزلت: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} الآية"5.   1 القول الفصل في الرد على محمود طه: حسين زكي ص116. 2 سورة المائدة: من الآية 93. 3 سورة النساء: من الآية 147. 4 سورة المائدة: الآية 93. 5 قال الأستاذ أحمد شاكر، رحمه الله تعالى: "إسناده صحيح, رواه أحمد في مسنده: 2088، 2452، 2691 مطولا، 2775، ورواه الترمذي في السنن "كتاب التفسير" وقال: هذا حديث حسن صحيح", ورواه الحاكم في المستدرك 4/ 143 وقال: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي وقال: "صحيح" "تفسير الطبري ج10 ص577". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وما كنت لأرد عليه لولا أن هذه الشبهة قد تلتبس على بعض الأبصار فأردت بيان حقيقتها، وإلا فقد جاء بما هو أعظم فرية وأكثر انحرافا وإلحادا, ولم أعمد إلى الرد عليه؛ لأن الحق فيه واضح معلوم بالضرورة من الشريعة التي يزعم الانتساب إليها. الظلم: وقد ورد عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- تفسير الظلم في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 1 بأنه الشرك. ولم يرتض محمود طه هذا التفسير مع علمه بوروده عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحته, وجاء بتفسير جديد قال: "ولما نزل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} ، شق على الناس فقالوا: يا رسول الله أينا لا يظلم نفسه؟ فقال: "إنه ليس الذي تعنون ... ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: يا بنيّ لا تشرك بالله, إن الشرك لظلم عظيم""2، فسري عنهم لأنهم علموا أنهم لم يشركوا مذ آمنوا ... والحق أن المعصوم فسر لهم الآية في مستوى المؤمن"!! " وهو يعلم أن تفسيرها في مستوى المسلم فوق طاقتهم, ذلك بأن الظلم في الآية يعني الشرك الخفي, على نحو ما ورد في آية سر السر: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} 3، 4. ولا يخفى ما في هذا التفسير من مخالفة لبيان الرسول صلى الله عليه وسلم، أما الزعم بأنه فسر لهم الظلم على مستوى المؤمنين ولم يفسره لهم على مستوى المسلم فأمر باطل منكر؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- جاء بدين واحد   1 سورة الأنعام: الآية 82. 2 صحيح البخاري: كتاب التفسير ج6 ص20؛ صحيح مسلم: كتاب الإيمان ج1 ص114 و115. 3 سورة طه: الآية 111. 4 القول الفصل: حسين محمد زكي ص65 و66 عن الرسالة الثانية: محمود طه ص122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 كامل, الخطاب فيه لأول الأمة خطاب لآخرها، بل جعل أصحابه هم القدوة التي يقتدى بهم، وما عدا ذلك فمحض افتراء. المؤمن والمسلم: ويقول في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} 1: فيه إشارة لطيفة جدا إلى أن المسلمين الذين يجيئون بعد المؤمنين ثم يكونون خيرا منهم2. وبعد: هذه إلمامة سريعة لأفكار محمود طه وتفسيراته الزائغة، ولست بأول من صنفه مع الباطنية، بل سبقني إلى ذلك علماء أعلام ممن رد عليه، فقد قال الأستاذ سعد حسن لطفي مثلا عن محمود طه و"الدجال" محمود: "من متطرفي الباطنية والمتصوفة"3. وقال الأستاذ أحمد البيلي: "لقد تبين لي من مجموعة الكتب والرسائل التي وضعها لشرح آرائه, فوجدته يذهب مذهب الباطنيين في تفسير الآيات على النحو الذي ادعاه من قبل البهائية والقاديانية, وهما فرقتان خرجتا عن دائرة الإسلام وصارتا مستقلتين, وإن تمسح أتباعهما بالإسلام"4. وفي موضع آخر قارن الأستاذ أحمد البيلي بين دعوة محمود طه وبين البابية والبهائية والقاديانية، ثم قال: "مما سبق نرى أن الجمهوريين أخذوا من كل فرقة من هذه الفرق شيئا, وأطلقوا على هذا الخليط "الدعوة الإسلامية الجديدة""5. وغيرهما كثير ممن نسبه إلى الباطنية, أضف إلى ذلك عقائده الباطلة   1 سورة محمد: الآية 38. 2 الإسلام رسالة خاتمة لا رسالتان: إعداد وزارة الشئون الدينية والأوقاف في السودان, عن الرسالة الثانية: محمود طه ص126. 3 جريدة المدينة, العدد 5634؛ مقال دجال السودان: سعد حسن لطفي ص8. 4 الإسلام رسالة خاتمة لا رسالتان: ص65. 5 المرجع السابق: ص55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وتفسيراته الإلحادية وإنكاره لأصول الدين وتشكيكه في كثير مما هو معلوم من الدين بالضرورة, كل هذا وغيره يدل على نهجه الذي سلكه, وأمر الباطنية معلوم لا يخفي, يلبسون لكل عصر لباسه: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} 1. وأختتم حديثي عنه بخبر نشرته جريدة المدينة المنورة عنوانه: "استجابة لضغوط دينية حظر الأنشطة العامة لدجال السودان" ونصه كما يلي: "علمت المدينة أن السلطات الأمنية والدينية في السودان قد منعت الأنشطة والتجمعات العامة لجماعات -دجال السودان- محمود محمد طه الذي يسمي جماعته بـ"الجمهوريين" وكانت أنشطة هذا الدجال قد تواصلت بصورة مكثفة طيلة السنوات العشر الأخيرة في العاصمة السودانية المثلثة وبقية المدن السودانية الكبرى وخاصة عاصمة الإقليم الأوسط "مدني" وهي مسقط رأس الدجال الذي بدأ حياته كمهندس ري بمشروع الجزيرة، ثم تحول إلى الدجل والتحريف تحت زعم "الرسالة الثانية للإسلام" والتي قال: إنه هو داعيتها الوحيد، وكانت جهات سودانية دينية عديدة قد اشتكت من أنشطة هذا الدجال والذي استغل حظر السلطات السودانية بالأنشطة الحزبية والطائفية العامة وأخذ يجند "الشباب والشابات والصبايا والأحداث لخدمة دعوته بعد أن يقوم بتهيئتهم وشحنهم بأفكاره التخريبية ويدفع بهم إلى الشوارع والطرقات والمقاهي والحدائق العامة ليلا ونهارا؛ لتوزيع مطبوعاته الدجلية المنافية للإسلام. والمعروف أن القضاء الشرعي السوداني كان قد أصدر في الستينات فتوى شرعية أعلن فيها ردة الدجال محمود محمد طه عن الإسلام. هذا, وقد قوبل القرار السوداني الأخير بترحيب كبير من جماهير المسلمين السودانيين, كما أشاد كبار العلماء ورجالات الدين بدور وجهد "جريدة المدينة" في فضح أفكار الدجال المشبوه"2.   1 سورة الأنفال: من الآية 30. 2 جريدة المدينة المنورة, العدد 5750 يوم الاثنين 5/ 3/ 1403هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 بقي أن أقول: إن نشاطه في السودان قديم, فقد حدثنا الأستاذ محمد أمان بن علي الجامي في كتابه: أضواء على طريق الدعوة إلى الإسلام, أنه زار السودان في العطلة الصيفية من عام 1383 والتقى في عطبرة في "دار النشاط الإسلامي" بمحمود طه هذا وكان يبث أفكاره وإلحاده1. أما الحكم عليه, فقد حكم عليه بالردة من محكمة الخرطوم العليا الشرعية, وذلك يوم الاثنين 27 شعبان 1388 الموافق 18/ 11/ 1968 لكن المحكمة صرفت النظر عن البنود من نمرة 2 إلى نمرة 6 من الدعوى التي أقامها ضده حسبة الأستاذ الأمين داؤد محمد والأستاذ حسين محمد زكي, وهي من الأمور التي تتعلق وتترتب على الحكم بالردة2. ولهذا فلم يكن لهذا الحكم الأثر الذي ينتظره المسلمون, ولعله ينفذ بعد أن أعلنت السودان تطبيق الشريعة الإسلامية3، وفق الله العاملين المخلصين وحفظ الله الإسلام والمسلمين من كيد الأعداء, ورد كيدهم في نحورهم, إنه سميع مجيب.   1 طريق الدعوة إلى الإسلام: محمد أمان الجامي ص82. 2 انظر نص الحكم وما يتعلق به في ملحق "الإسلام رسالة خاتمة لا رسالتان" نشر وزارة الشئون الدينية والأوقاف, جمهورية السودان الديمقراطية ص83. 3 حمدا لله كثيرا, فقد تم بعد طباعة هذا البحث تنفيذ حكم الإعدام في محمود محمد طه في يوم الجمعة 26/ 4/ 1405 الموافق 19/ 1/ 1985م, وقد تصدر بيان رئاسة السجون عن تنفيذ حكم الإعدام فيه قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه ". انظر جريدة الأيام السودانية الصادرة يوم السبت 27/ 4/ 1405، العدد 460/ 11, السنة 32. وانظر جريدة الصحافة السودانية الصادرة يوم السبت 27/ 4/ 1405، العدد 7946. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 الزيدية : وهم أتباع زيد بن علي بن الحسين الملقب بـ"زين العابدين" وهو أخ لـ"محمد الباقر" الإمام الخامس من الأئمة الاثني عشر عند الشيعة. وحين سئل زيد هذا عن أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- ترضى عنهما, فانقسم الشيعة في زيد إلى قسمين: قسم رفضه فقال لهم: رفضتموني؟ فسموا رافضة، وقسم وافقه فسموا زيدية؛ نسبة إليه1. ثم إن الزيدية انقسموا إلى فرق ثلاث: 1- البترية أو الصالحية. 2- الجريرية أو السليمانية. 3- الجارودية. فالبترية: نسبة إلى كثير النوى، ويلقب بالأبتر، ويسمون أيضا بالصالحية نسبة إلى الحسن بن صالح بن حي، واعتبرهما الشهرستاني فرقة واحدة لاتفاق مقالتهما2. وهم يعتقدون أن عليا -رضي الله عنه- كان أفضل الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأولاهم بالإمامة، وأن بيعة أبي بكر وعمر ليست بخطأ؛ لأن عليا ترك ذلك لهما، ويقفون في عثمان وفي قتلته ولا يقدمون عليه بإكفار، وينكرون رجعة الأموات إلى الدنيا ولا يرون لعلي -كرم الله وجهه- إمامة إلا حين بويع3.   1 منهاج السنة: ابن تيمية ج1 ص9 و10. 2 الملل والنحل: الشهرستاني ج1 ص161. 3 مقالات الإسلاميين: أبو الحسن الأشعري ج1 ص144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 أما الجريرية أو السليمانية: فنسبة إلى سليمان بن جرير الزيدي، الذي أثبت إمامة أبي بكر وعمر, وزعم أن الأمة تركت الأصلح في البيعة لهما؛ لأن عليا كان أولى بالإمامة منهما، إلا أن الخطأ في بيعتهما لم يوجب كفرا ولا فسقا ... وأهل السنة يكفرون سليمان بن جرير من أجل أنه كفر عثمان رضي الله عنه1. أما الجارودية: فنسبة إلى أبي الجارود زياد بن أبي زياد، وزعموا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نص على إمامة علي بالوصف دون الاسم, وزعموا أيضا أن الصحابة كفروا بتركهم بيعة علي، وقالوا أيضا: إن الحسن بن علي كان هو الإمام بعد علي, ثم أخيه الحسين كان إماما بعد الحسن ... ثم صارت الإمامة بعد الحسن والحسين شورى في ولدي الحسن والحسين, فمن خرج منهم شاهرا سيفه داعيا إلى دينه وكان عالما ورعا فهو الإمام. قال عبد القاهر البغدادي: هذا قول الجارودية، وتكفيرهم واجب لتكفيرهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم2. والبترية أو الصالحية أقرب الفرق الزيدية إلى مذهب أهل السنة، وأبعدهم عنه الفرقة الجارودية، حتى إن بعض علماء الشيعة يخرجون ما عدا الجارودية من فرق الزيدية عن اسم التشيع3. وها أنت ترى أن الخلاف في مجمله بين فرق الزيدية الثلاث إنما هو في الإمامة, وما يتعلق بها من أحكام، أما ما عدا ذلك فهم يوافقون المعتزلة في الأصول؛ لأن زيد بن علي تلقى العلم على يد واصل بن عطاء فاقتبس منه الاعتزال وصار أصحابه كلهم معتزلة, كما يقول الشهرستاني4 وإن كان قوله هذا   1 الفرق بين الفرق: عبد القاهر البغدادي ص23 و24. 2 المرجع السابق: ص22 و23. 3 أوائل المقالات: محمد بن النعمان المفيد "من شيوخ الشيعة، ص40". 4 الملل والنحل: الشهرستاني ج1 ص155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 -فيما أرى- تغليبا، وإلا فالحق أنهم لا يوافقونهم تمام الموافقة، فمذهبهم مزيج من آراء أهل السنة والمعتزلة والخوارج والاثني عشرية، ويخالفون الشيعة الاثني عشرية في كثير من الآراء فهم لا يتبرءون من الشيخين ولا يكفرونهما ويجوزون إمامتهما1 وينكرون التقية2 والعصمة للأئمة والنص على الأئمة3 ويترضون عن الصحابة -رضي الله عنهم-4 والذين يقولون خلاف ذلك يخالفون إمامهم زيد بن علي, وهذا هو رأي الزيدية الحقة. أما المتطرفة منهم والغالية فهم الجارودية كما ذكرنا؛ ولذا فإن البترية والسليمانية يكفرون الجارودية، وكذا الجارودية تكفر السليمانية والبترية5. ومما أجمعت عليه الزيدية من آراء: 1- قال عبد القاهر: أجمعت الفرق الثلاث الذين ذكرناهم من الزيدية على القول بأن أصحاب الكبائر من الأمة يكونون مخلدين في النار, فهم من هذا الوجه كالخوارج6. 2- وأجمعوا على تصويب علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في حربه، وعلى تخطئة من خالفه7. 3- وأجمعت الزيدية على أن عليا -رضي الله عنه- كان مصيبا في تحكيمه الحكمين ... وهما اللذان أخطآ وأصاب هو8.   1 المرجع السابق: ج1 ص155. 2 الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم: محمد بن إبراهيم الوزير اليماني ص49 و50. 3 الإمام زيد: محمد أبو زهرة ص188. 4 الروض الباسم: محمد الوزير ص49 و50. 5 الفرق بين الفرق: عبد القاهر البغدادي ص24. 6 المرجع السابق ص25؛ ومقالات الإسلاميين: أبو الحسن الأشعري ج1 ص149. 7 المرجع السابق: ج1 ص149. 8 الملل والنحل: الشهرستاني ج1 ص150. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 4- والزيدية بأجمعها ترى السيف والعرض على أئمة الجور وإزالة الظلم وإقامة الحق1. 5- وهي بأجمعها لا ترى الصلاة خلف الفاجر, ولا تراها إلا خلف من ليس بفاسق2. 6- وأجمعت على تفضيل علي على سائر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى أنه ليس بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- أفضل منه3. أما في الفروع فهم على مذهب أبي حنيفة، رحمه الله تعالى، إلا في مسائل قليلة وافقوا فيها الشافعي -رحمه الله تعالى- والشيعة4. منهج الزيدية في تفسير القرآن الكريم: ليس هناك من كبير فارق بين منهج الزيدية ومنهج أهل السنة والجماعة إلا الجارودية منهم, فإنهم أقرب إلى الاثني عشرية منهم إلى أهل السنة. ولهذا فإنا, كما قال الشيخ محمد حسين الذهبي، رحمه الله تعالى: لا نطمع بعد ذلك أن نرى للزيدية أثرا مميزا وطابعا خاصا في التفسير كما رأينا للإمامية؛ لأن التفسير إنما يتأثر بعقيدة مفسرة ويتخذ له طابعا خاصا واتجاها معينا, حينما يكون لصاحبه طابع خاص واتجاه معين, وليست الزيدية -بصرف النظر عن ميولهم الاعتزالية- بمنأى بعيد عن تعاليم أهل السنة وعقائدهم, حتى يكون لهم في التفسير خلاف كبير5. وإذا كان الذهبي -رحمه الله تعالى- لم يكد يظفر بشيء من تفاسيرهم إلا تفسير الشوكاني -رحمه الله تعالى- المسمى: "فتح القدير" وتفسير آخر لآيات الأحكام اسمه: "الثمرات اليانعة" لشمس الدين يوسف بن أحمد، وقال، رحمه   1، 2، 3 مقالات الإسلاميين: أبو الحسن الأشعري ص150. 4 الملل والنحل: الشهرستاني ج1 ص162. 5 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص281. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 الله: "هذا هو كل ما عثرنا عليه للزيدية من كتب في التفسير"1، إذا كان الذهبي -رحمه الله تعالى- قال هذا ومجاله أوسع زمنا وذهنه أوسع علما، فإني بحثت عن شيء من تفاسيرهم في القرن الرابع عشر مجال بحثي, ونقبت في بطون الكتب والأبحاث وسألت أهل الذكر وأهل العلم من أهل السنة والزيدية وغيرهم, فلم يرشدني أحد منهم إلى كتاب في التفسير للزيدية ألف في القرن الرابع عشر الهجري. وأرفع القلم هنا لانتظار تفسير جديد أو للاستمرار في البحث والتنقيب علي أجد ما لم أعثر عليه فيما مضى. وحينئذ أمسك القلم كرة أخرى, وبالله التوفيق.   1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص281. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 الفصل الثالث: منهج الأباضية في تفسير القرآن الكريم التعريف بالأباضية : لا أريد أن أتحدث عن نشأة فرقة الخوارج هنا؛ لأن انقداح شرارتهم الأولى بعد التحكيم بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما- أمر مشهور. هذا أولا, ولأنه لم يبق منهم في وقتنا هذا أحد, وهذا ثانيا. أما ثالثا فلأن الأباضية يرفضون كل الرفض وينفون كل النفي نسبتهم إلى الخوارج ويصفون "إطلاق لفظ الخوارج على الأباضية أهل الحق والاستقامة من الدعايات المغرضة التي نشأت عن التعصب السياسي أولا, ثم المذهبي ثانيا لما ظهر غلاة المذاهب, وقد خلطوا بين الأباضية والأزارقة والصفرية والنجدية, فالأباضية أهل الحق لم يجمعهم جامع بالصفرية والأزارقة ومن نحا نحوهم إلا إنكار التحكيم بين علي ومعاوية وهو رأي علي قبل الضغط عليه بقبول التحكيم, ولما كان مخالفونا لا يتورعون ولا يكلفون أنفسهم مئونة البحث عن الحق ليقفوا عنده, خلطوا بين الأباضية أهل الحق الذين لا يستبيحون مالا ولا قطرة من دم موحد وبين من استحلوا الدماء بالمعصية الكبيرة حتى قتلوا الأطفال تبعا لآبائهم, مع أن الفرق كبير جدا كالفرق بين المستحل والمحرم, فماذا بعد الحق إلا الضلال؟! "1. لهذه الأمور نقتصر في هذا الموضع على فرقة الأباضية وحدها, وقد آثرنا ألا ننقل إلا من كتبهم أو ما طبع تحت إشرافهم أو ما لا ينكرون نسبته إليهم.   1 الأباضية بالجريد, تأليف صالح باجية من مقدمة محمد حمد الحارثي "أباضي" ص2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 أما نسبتهم فإلى عبد الله بن أباض بن تيم اللات بن ثعلبة, من بني مرة بن عبيد رهط الأحنف بن قيس آل مقاعس التميمي، كان من أهل العراق, جاء إلى الإمام جابر بن زيد لأخذ العلم عنه وكان يناظره في أموره وفي مهماته الدينية, وفيما يأتي منها وما يذر1. وأما مركز المذهب الأباضي فقد كان في البصرة حيث نشأ فيها, ثم اتصل بعمان وقامت له بالمغرب دولة، وامتد المذهب إلى اليمن وإلى خراسان وإلى مصر وإلى الجزيرة العربية2. أما في وقتنا هذا فذكر السفير العماني في تونس أن مذهبهم الأباضي منتشر في "المغرب والمشرق: فهم في مكة والمدينة والبصرة وخراسان واليمن وحضرموت وعمان وأفريقية الشرقية"3. ولا أعتقد صحة انتشارهم في المناطق الست الأولى المذكورة, أما انتشارهم في أفريقية الشرقية فلعل الصحيح أنهم في زنجبار وليس في كل هذه المنطقة، كما أنه لم يذكر لهم وجودا في تونس والجزائر وليبيا مع وجودهم في جبل نفوسة وزوارة من طرابلس وجزيرة جربة من تونس ووادي ميزاب بالجزائر4. هذا بالنسبة لنسبته ومركزه, أما تاريخ ظهوره ففي القرن الأول من الهجرة إذ إن عبد الله بن أباض كان معاصرا لعبد الملك بن مروان "26-86هـ" وكان بينهما مراسلات ولا يعرف لولادة أو وفاة عبد الله بن أباض تاريخ5.   1 طلقات المعهد الرياضي في حلقات المذهب الأباضي، سالم بن حمود بن شامس السيابي ص77. 2 المرجع السابق ص79 و80. 3 الأباضية بالجريد, صالح باجية, مقدمة محمد حمد الحارثي "أباضي". 4 مختصر تاريخ الأباضية, تأليف أبي ربيع سليمان الباروني ص27 "أباضي". 5 المرجع السابق ص20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 عقائدهم : في معرفة الله: قالوا: "إن معرفة الله تبارك وتعالى واجبة بالعقل قبل ورود الشرع, فلما ورد الشرع زادها إيضاحا وأعلن إيجابها"1. وقال أحد أئمتهم نظما: معرفة الباري من العقول ... فكيف بالسماع والنقول ولا يجوز جهلها لجاهل ... طرفة عين عند ذي الدلائل2 أما في الصفات فقالوا: "لا يخفى على أهل العلم أن الله عز وجل خاطبهم بلسانهم وحاورهم بما يجري بمعقولهم، فهم يفهمون الخطاب من نفس القرائن قبل التحقق لفحوى الخطاب، ولما تقرر في الشريعة أن الله عز وعلا مباين لمخلوقاته في الذات والصفات والأفعال لم يعد لهم وهم أو جهل في شيء من وحي الله عز شأنه, فإن صفات المخلوق تخالف صفات الخالق تبارك وتعالى فلا يرتبك الفهم العربي مهما كان في معرفة اللسان. فلذا لما كان الأخذ في اللغة باليد ومراقبة الأشياء المبصرة بالعين, وهكذا عبر الله تبارك وتعالى عن معانيها بمثل ما عبر به عن نفس ما في الإنسان فقال: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} 3, فالعين في حق الله عز وعلا معروفة بأنها حفظه واليد مفهومة في حقه قدرته لما قدمنا من استقرار الفهم باستحالة صفة الإنسان أن تكون صفة الرحمن, وهكذا بقية الصفات كالقبضة والاستواء والمجيء والجد والمكر والجنب, فإن هذه عبارات يتخاطب بها البشر فيما بينهم فخاطبهم الله عز وجل فيما بينهم وإياه لاستقرار معانيها عندهم في حق الله, فلا يذهبون بها إلى غيرها, وقد علموا أن الله جلت قدرته مباين لهم في الأحوال كلها, كما وضع لهم ذلك في قوله:   1 طلقات المعهد الرياضي في حلقات المذهب الأباضي: سالم بن حمود بن شامس السيابي ص91. 2 جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام ج1 ص6 و7؛ عبد الله بن حميد بن سلوم السالمي. 3 سورة طه: من الآية 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1، 2. ثم قالوا: "فمن حاد عن نهجهم فقد رمى نفسه في لجة لا يرى خلاصه منها أبدا، ومعنى جد الله عظمته وجنبه أمره كما صرح به العلماء, والمكر عقوبتة واستوى على العرش معناه القهر والغلبة ... ووجهه تعالى ذاته"3. وقالوا: "إنه موجود بغير مشاهدة، قديم بلا بداية أوجد منها نفسه, دائم بلا نهاية، حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، عالم بما كان وما يكون، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا يخفى عليه شيء في الظلمات, قادر بلا تكلف متكلم بلا لسان، سميع بلا آذان بصير بلا حدقة ولا أجفان, إله كل شيء وخالقه وإليه منتهاه، اخترع الخلق من غير مثال, سبحانه من قادر حكيم بفعل ما يشاء ويحكم ما يريد"4. إنكار الرؤية: مذهبهم في الرؤية الإنكار بشدة حيث قالوا: "لا يخفى أن القول بالرؤية يهدم التوحيد من أساسه، ويقضي عليه من أصله فإن الرؤية توجب الحلول والله منزه عنه وتثبت التحيز، وتقرر الظرفية وتحقق التلون، وتقضي بالجهة ونحو ذلك، فهذه كلها قوادح في صحة الألوهية يتعالى الله عز وجل عنها، ولم تبق صفة من الصفات الإلهية ثابتة على أساسها ولا قائمة على قواعدها، فالذي يرى لا يصلح أن يكون ربا "!! " فإن الرؤية للمخلوقات، ورب الأرض والسموات منزه عنها، والتكييف لا يليق بجلال الله وعظمته وهو من لوازمها والتمييز للذات العلية غير ممكن، والقائل بالرؤية مخطئ خطأ لا يغتفر أو يتوب إلى الله ويستغفره، وما ورد مثبتا لها فقد أنكره المسلمون "!! " وحكموا بوضعه،   1 سورة الشورى: من الآية 11. 2 طلقات المعهد الرياضي في حلقات المذهب الأباضي: سالم بن حمود بن شامس ص99 و100. 3 طلقات المعهد الرياضي: سالم بن حمود بن شامس ص100. 4 المرجع السابق: ص101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 فإن أصله في دسائس اليهود لفهم الله" "!! "1. القرآن الكريم: ترى الأباضية أن القرآن مخلوق, فقال أحد علمائهم المعاصرين: "الأباضية يقولون: إن الله خالق كل شيء والقرآن شيء من الأشياء, وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} 2. والقرآن كما قلنا شيء من الأشياء، وهو كلام الله خلقه الله وقدره بحسب الحوادث التي ستكون من العباد كما اقتضاها قضاؤه وقدره, فإن دلائل الحدوث في نفسه ظاهرة وهي شاهدة بخلقه ولو كان غير مخلوقلكان قديما، ولو كان قديما لكان مشاركا لله في صفة القدم، ولو شاركه في صفة القدم لتعددت القدماء ولو تعددت القدماء انتفى قدمه الخاص به الذي اتصف به, فإنه صار له فيه شركاء وهذا ظاهر الفساد ساقط الاعتبار، ولو كان متكلما كخلقه للزم له ما يلزم لخلقه من اللسان الذي هو آلة الكلام ولزم له أشداق وفم يخرج منه الكلام، وهذا باطل عقلا، ثم وصفه الله بأنه حادث في قوله عز وجل: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} 3 ووصفه بأنه منزل من اللوح وكان حالا فيه والتنزيل صفة الحدوث، وكونه حالا في اللوح، فاللوح حادث ولا يحل في الحادث إلا حادث عقلا وبديهة, وهذه الصفات كلها تعطي معنى الحدوث، ووصفه بأنه آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وصدورهم حادثة والحال في الحادث حادث قطعا؛ لأن القديم منزه عن الحوادث فالله عز وجل لا يطرقه معنى الحدوث ولا يليق به تعالى وإلا لم تصح الصفات الكمالية له تعالى، وكلام الله ليس على وتيرة كلام الخلق وإن كان الكلام المعروف هو ما على المنهج المألوف تتألف كلماته من الحروف، فإن الله جل جلاله خالق الحروف والأصوات والآلات التي بها يتكون، والله منزّه عن هذا كله قطعا"4.   1 طلقات المعهد الرياضي: سالم بن حمود بن شامس العماني ص107. 2 سورة الفرقان: من الآية 2. 3 سورة الأنبياء: الآية 2. 4 الحقيقة والمجاز: سالم بن حمود بن شامس "أباضي" ص27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 مسألة الخلود: يعتقد الأباضية أن "داخل النار من عصاة الموحدين مخلد فيها لا يخرج منها أبدا, فهو في الخلود مثل داخل الجنة, إلا أن الموحد أخف عذابا من غيره"1 وقال ناظمهم: ومن يمت على الكبير عُذِّبا ... وذاك في القرآن حكما وجبا ........................ ... ........................ لكنه في النار قطعا يخلد ... فهو بها معذب مؤبد خروجهم في الذكر قد نفاه ... ربي, فيا ويل لمن يلقاه2 وقال أحد علمائهم المعاصرين: "إن ثواب الله لعباده المؤمنين الجنة وإن عقاب الله لأعدائه النار، وإن الجنة والنار لا تفنيان، ومن اعتقد فناءهما كفر شركا؛ لأن الله قال في الجنة: {خَالِدِينَ فِيهَا} ، وكذلك قال في النار والعياذ بالله منها, في مئات من الآيات وصرح جل وعز بذلك فالثواب والعقاب أبديان، وكذلك ثبت في السنة النبوية, إذ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار, جيء بالموت فيذبح بين الجنة والنار وينادي منادٍ: يا أهل الجنة خلود ولا موت, ويا أهل النار خلود" 3. وعلى هذا عقيدة الأباضية متابعة القرآن وسنة المصطفى من آل عدنان صلى الله عليه وسلم، ومن خالف هذه العقيدة متأولا فهو فاسق ضال منافق كافر نعمة، ومن خالفها بغير تأويل فهو كافر شركا"4.   1 مختصر تاريخ الأباضية: أبو الربيع سليمان الباروني "أباضي" ص65. 2 جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام: عبد الله بن حميد بن سلوم "أباضي" ج1 ص12. 3 صحيح البخاري, كتاب التفسير ج5 ص236؛ وصحيح مسلم, كتاب الجنة ج4 ص2189. 4 الحقيقة والمجاز: سالم بن حمود بن شامس السيابي "أباضي معاصر" ص29 و30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 مسألة الشفاعة: ويرون أن الشفاعة لا تنال أصحاب الكبائر من الأمة المحمدية, ولا ينالها إلا من مات منهم على الوفاء والتوبة النصوح1. قال أحد علمائهم نظما2: ومن يمت على الكبير عذبا ... وذاك في القرآن حكما وجبا ليس له شفاعة من أحد ... من الورى حتى النبي أحمد ارتكاب الكبيرة: يطلق الأباضية على الموحد العاصي كلمة كافر, ويعنون بها كافر النعمة ويجرون عليه أحكام الموحدين. فالكفر عندهم كفر نعمة ونفاق وهو هذا, وكفر شرك وجحود وهو الذي يخرج الإنسان من الملة الإسلامية3. فالعصاة من الموحدين عندهم "قد خرجوا من الشرك بلا إله إلا الله محمد رسول الله، وخرجوا عن المؤمنين بفعل المعاصي, فإن الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" 4 ... الحديث، وذلك فرع على قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ} لهم يا محمد {لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} 5. ومعنى قولوا: إنا مسلمون بقولكم: لا إله إلا الله محمد رسول الله, أما الإيمان فلا لأنكم تفعلون ما لا يرضاه, فأنتم باعترافكم بوحدانية الله حين قلتم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فبهذا أسلمتم فحرمت دماؤكم وأموالكم إلا بحقها وحسابكم على الله، إما عفو, وإما عقاب"6.   1 مختصر تاريخ الأباضية: أبو الربيع سليمان الباروني "أباضي معاصر" ص66. 2 جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام: عبد الله بن حميد بن سلوم "أباضي" ج1 ص12. 3 مختصر تاريخ الأباضية: للباروني "أباضي" ص66. 4 رواه ابن ماجه في سننه, أبواب الفتن ج2 ص461. 5 سورة الحجرات: الآية 14. 6 جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام: عبد الله بن حميد بن سلوم "أباضي" ج1 ص14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 وهم ينكرون ما قال به المعتزلة من أن مرتكب الكبيرة قد خرج من الإيمان بكبيرته ولم يدخل الكفر لإقراره بشهادة: أن لا إله إلا الله, وإنما هو في منزلة بين المنزلتين, ينكر الأباضية هذه المنزلة حيث يقول ناظمهم في "باب في الكفر": من لم يكن متقيا لله ... فهو أخو كفر بلا اشتباه لأنه ما بينهن منزله ... كذاك في القرآن ربي أنزله وكشفه بأن تقسمنه ... للشرك والنعمة فأفهمنه1 والخلاصة عندهم: أن الدرجات عندهم إيمان, كفر نعمة كفر شرك. الميزان والصراط: ويرى جمهور الأباضية أن الميزان ليس بحسي والله غني عن الافتقار إليه, وإنما هو تمييز معنويللأعمال: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} 2 كيف والأعمال ليست بأمور محسوسة حتى توزن بميزان من نوعها والصراط أيضا ليس بحسي, وإنما هو دين الله الحق وطريقه القويم, فمن اتبعه فاز ونجا ومن حاد عنه خسر وهوى، ومن الأباضية من يجيز أن يكون الميزان والصراط حسيين3. الولاية والبراءة: تعتقد الأباضية أن كلا من الولاية والبراءة تنقسم إلى قسمين: ولاية أشخاص وولاية جملة, وكذا البراءة براءة الأشخاص وبراءة الجملة قالوا: "ولا يخفى أن الولاية والبراءة تجبان للأفراد كما تجبان للجماعة, ومن خصهما بالجماعة دون الأفراد وقع في قصور وتقصير"4. ومن ولاية الأشخاص ولاية أم موسى وامرأة فرعون وكذلك مؤمن آل فرعون والرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى.   1 طلقات المعهد الرياضي: سالم بن حمود بن شامس "أباضي" ص86. 2 سورة الأعراف: من الآية 8. 3 مختصر تاريخ الأباضية ص66 و67. 4 طلقات المعهد الرياضي: سالم بن حمود بن شامس ص117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وفي البراءة ما يقابل هؤلاء كالذي حاج إبراهيم في ربه، وكالذي جاء في قوله تعالى: {الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} 1, فهذه أدلة واضحة كالشمس ولا توجد هذه الأحوال إلا مع الأباضية2. هذا شأن الولاية والبراءة للأشخاص عندهم, أما الولاية أو البراءة للجملة، فقالوا: "لا يخفى أن وجوب الاستغفار للمؤمنين والمؤمنات موجب لولايتهم, إذ لا معنى للأمر بالاستغفار للمؤمنين والمؤمنات في مثل هذا المقام إلا الوجوب ولا يصح الاستغفار لغير الولي"2، ولا يخفى أن البراءة تجب من أهل المعاصي مطلقا سواء كانت كبائر كفر نعمة، أو كبائر شرك كما نص على ذلك القرآن وإجماع المسلمين مطلق على ذلك، والبراءة الشرعية توجب البغض، أي: إن البغض ثمرة البراءة من أهل المعاصي مطلقا وكذلك الشتم أي: شتم العاصي لعصيانه ولعن الكافر لكفره3. أما صورة الولاية فهي: "أن يتولى المكلفون من تثبت ولايته وهو الطائع الوفي بما أمره الله فيحبونه لذلك ويستغفرون له ويساعدونه في شئونه الدنيوية من بيع وشراء وسائر المعاملات، وأما البراءة فصورتها أن يتبرءوا من العاصي ويقطعون معاملته ويهجرونه بحيث يصير كأنه بمعزل عن العالم إلى أن يتوب إلى الله, فإذا تاب وأقلع عن معصيته أعيدت إليه هذه الحقوق وعُومل بما يعامل به سائر إخوانه"4. ولذلك وجد عندهم اصطلاحات الخطة والهجران والإبعاد والطرد وهي "ألفاظ تترادف على معنى واحد وذلك متى أجرم واحد من أهل الطريق أو ظهرت عليه خزية أو أتى بنقيصة في قول أو عمل فإنه يهجره أهل الصلاح, فلا يكلم ولا يحضر جماعة ولا يؤم ولا يؤاكل ولا يجالس, وكانت خطة حالت   1 سورة الأعراف: من الآية 175. 2 طلقات المعهد الرياضي: سالم بن حمود بن شامس ص118. 3 المرجع السابق ص119. 4 مختصر تاريخ الأباضية: أبو الربيع سليمان الباروني ص65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 بينه وبين أهل الخير, فإن تاب واستغفر قبل منه ورجع إلى الجماعة وزال عنه شين ذلك الوسم, ويكون بقاؤه في وحشة الهجران بقدر عظم الذنب وصغره وتوبة المجرم وإصراره"1. ولا يزال هذا الأمر يطبق في بعض جهاتهم, قال الأستاذ حافظ رمضان عن هؤلاء: "لا تزال بقية هؤلاء في بلاد الجزائر وهم يعيشون على وتيرة منظمة وتقاليد عريقة ولا تحكم بينهم محاكم الدولة, وإذا ماطل مدين دائنه دخل المسجد وأعلن ذلك, وحينئذ يقاطع الناس المدين فلا يسلمون عليه ولا يعاملونه حتى يوفي ما عليه"2. وهو أيضا حال الميزابيين اليوم بالجزائر "فإنهم ما زالوا في تطبيق أحكام الولاية والبراءة"3. الإمامة: قلت: إن الأباضية ترفض كل الرفض انتماءها أو نسبتها إلى فرقة الخوارج، مع أنهم يوافقون فرقة الخوارج في كل مواقفهم مما جرى بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما- ومع أن الخوارج لم يطلق عليهم هذا الوصف إلا لمواقفهم تلك. وعلى كل حال, فالأباضية ترى أن عليا -رضي الله عنه- حين قبل بالتحكيم بينه وبين معاوية -رضي الله عنه- فإنه بهذا قد خلع نفسه عن الإمامة وولاها الحكمين على عهد الله وميثاقه، ولهما أن يوليا من شاءا ويعزلا من شاءا, وقد اتفق الحكمان على خلع علي واختلفا في تولية معاوية فولاه إياها عمرو بن العاص ولم يولها إياه أبو موسى الأشعري. وهم لا يرضون معاوية إماما في الدنيا فضلا عن أن يكون إماما للدين؛ لذلك تسرعوا إلى بيعة عبد الله بن   1 الأباضية بالجريد: صالح باجية ص186. 2 أبو الهول قال لي: حافظ رمضان ص150. 3 مختصر تاريخ الأباضية: أبو الربيع سليمان الباروني ص66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وهب الراسبي المعروف بذي الثفنات، ولما وقعت البيعة منهم له لزمت وحرم تركها بغير موجب، فإذا فعل الإمام موجب فسخها لزم خلعه منها، وإن أصر عليها وجب على المسلمين قتاله، وذلك كما إذا فسخ إمامته أو جار أو ظلم أو ترك واجبا دينيا, وذلك بعد تتويبه فإذا تاب قبل منه1. وبهذا يتبين أن خروجهم على علي -رضي الله عنه- إنما هو لقبوله التحكيم وهم يعتبرون هذا القبول فسخا لإمامته, وفسخه لإمامته يوجب عندهم خلعه وإن أصر على الإمامة وجب قتاله بعد استتابته. ولا ريب بعد هذا أن تكون الإمامة عند هؤلاء في منزلة كبرى وأصلا من أصولهم, يضعون له ويبنون عليه الأحكام. ولذلك قالوا: "وعندنا أن الإمامة من الأصول لما صح عن عمر وغيره من الأمر بقتل من تعين نصبه إماما, فأبى من قبولها "!! " إلا أنها ليست مما يقدح تخلفه في صفة الله. فمعنى كونها من الأصول أنه لا يجوز الخلاف فيها"2. والإمامة عندهم واجبة "ووجوب نصب الإمام في الأمة معروف من الكتاب والسنة وإجماع الأمة, ألا ترى أن الصحابة اشتغلوا بعلاج قضية الإمامة عندما تحققوا موت النبي -صلى الله عليه وسلم- لما يرون من لزوم أمرها, فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يدفن بعد وهم في أمر الإمامة ... وفي القرآن الأمر بالحدود في الزنى والخمر3 والقذف والسرقة وقتل القاتل وقطاع الطرق وغير ذلك والمخاطب بذلك الإمام ومن في معناه من سلطان وأمير وإمام, فإذن هذه ألقاب لا معول عليها بل المعول على العدل ولا يخفى أن الإنسان لا يحكم على نفسه، وليس له أن ينفذ حدا على غيره فضلا عن نفسه ما لم يكن إماما أو سلطانا عادلا. فإن السلطان العادل ظل الله في أرضه, سواء كان إماما   1 الحقيقة والمجاز: سالم بن حمود بن شامس ص16 بتصرف. 2 مختصر تاريخ الأباضية: أبو الربيع سليمان الباروني "ص68" نقلا من شرح محمد بن يوسف أطفيش للعقيدة. 3 ليس في القرآن حدّ للخمر, فلعله سهو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 أو أميرا أو خليفة أو سلطانا بحسب الاصطلاح, قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الحدود والجمعات والفيء والصدقات إلى الأئمة"، والمراد من هؤلاء كلهم العادل, قال الله عز وجل لنبيه إبراهيم الخليل -عليه الصلاة والسلام: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} 1. وكذلك الأمر في تعجيل إمامة عمر -رضي الله عنه- لولا وجوبها لكان لقائل أن يقول: ما حاجة على الإمامة "كذا" وليترك الناس على ما هم عليه ولكنهم لم يتركوهم بل بايعوا بعد عمر عثمان بن عفان, ثم بايعوا بعد عثمان علي بن أبي طالب ... وهكذا ... وبذلك أجمعت الأمة على وجوب الإمامة"2. ولهم شروط في وجوب الإمامة إذا توفرت الشروط وجبت الإمامة, ولهم شروط أيضا في الإمام الذي تصح له البيعة. أما شروط وجوب الإمامة: "فأن يكون أهل الحق3 نصف عدوهم المتخوف منه أو أكثر، ولهم ما يكفيهم من علم ومال وسلاح وكراع، وإذا عقدت الإمامة لمن هو لها أهل لم يجز له تركها"4، ولم أجد بيان الحكم إذا كانوا أقل من نصف عدوهم. أما شروط الإمام فـ"أن يكون ذكرا بالغا عاقلا عالما بالأصول والفروع متمكنا من إقامة الحجج وإزالة الشبه ذا رأي وخبرة في الحروب شجاعا ولو كان لا يباشرها بنفسه لا يلين ولا يفشل من أهوالها ولا يهاب إقامة الحدود وضرب الرقاب في سبيل الله ونصرة الحق, وإذا توفرت هذه الشروط في القرشي فهو أولى وإلا فغيره ممن رضيه أهل الحل والعقد من المسلمين، ولا يفهم من هذه الشروط أن نصب الإمام غير واجب إذا فقد شرط منها, لا بل يتعين عليهم نصبه ولو كان   1 سورة البقرة: الآية 124. 2 الحقيقة والمجاز: سالم بن حمود بن شامس ص23-25 باختصار. 3 المراد بهم هنا الأباضية. 4 مختصر تاريخ الأباضية ص66 عن الشرح الكبير على العقيدة, للشيخ محمد بن يوسف أطفيش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 دون هذه المنزلة, إذ العبرة بالشروط الأساسية التي لا يشاد صرح الإمامة بدونها"1. قالوا: "والقوة والعلم من ضروريات صفات الإمام الذي يصلح أن يكون قائد أمة أو زعيم عامة فإنه إذا كان ضعيفا فإن ضعفه يؤخره عن القيام بالواجبات التي تناط به ... والعلم هو الأساس الذي يجب على المسلم أن يمشي عليه ما عاش. وبالأخص أهل المناصب إذ تتوجه إلى الإمام حدود وولاية وبراءة وما إليها من جباية الزكاة وبيوت الأموال والقيام بمصالح الأمة إلى أشياء عديدة, فينظر بالعلم من يقدم على العمل ومن يؤخر, فإن بالعلم يقوم الدين؛ ولهذا أوجب الأباضية العلم في الإمامة"2. أما شرط القرشية فلا يقولون به, بل قالوا: "إن وجد المستقيم في قريش حسنت بيعته, وإذا بويع وجبت طاعته لا من حيث إنه قرشي بل من حيث إنه صالح, فإن المطلوب في الأمة الصلاح وهل لقريش مزيد فضل بدون الصلاح؟ فإن الله عز وجل أمر بالصلاح ودعا ... والواقع أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يول قريشا فقط وإنما ولى من عدة قبائل في العرب، وصحة الإمامة أصل لصحة الولاية فإنها فرع عليها، وما جاز في الأصل جاز في الفرع ولم يجعل الله عز وعلا الأمر في أمة خاصة أو في قبيلة خاصة أو في بلد خاص"3. بل يكفي أن يكون الخليفة متصفا بالفضيلة, سائرا بموجب الكتاب والسنة لتصح خلافته, فإن انحرف عنهما أي: الكتاب والسنة, فقد تهور في أعماله ورجع القهقرى، ولا بد أن يكون تعلق بالهوى وخلع ربقة التقوى فلا يصح أن يبقى على هذا الحال إماما ... وليس من الحق أن نترك المنحرف عن واجب الكتاب والسنة لا عقلا ولا نقلا فيما علمنا4، وتجب طاعته ما دام على الحق والعدل شعاره, فإن جار في الحكم وخالف الحق ولم يتب جاز, بل وجب الخروج عنه5.   1 المرجع السابق. 2 الحقيقة والمجاز ص22 و23. 3 المرجع السابق ص25 و26. 4 المرجع السابق: ص26 و27. 5 مختصر تاريخ الأباضية: أبو الربيع سليمان الباروني ص68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 موقفهم من الصحابة، رضوان الله عليهم: إن الأباضية يوالون أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- أما الأول فقد كان: "عاملا بما جاءت به النبوة, تابعا لأوامرها, قائما بما قامت به الأمة, محافظا لسيرتها، وبذلك لم يفقد من النبي عليه الصلاة والسلام إلا شخصه الكريم ونزول الوحي بعده1. ومات والأمة الإسلامية كلمة واحدة راضية عنه عند موته"2. أما عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقد: "سار مسيرة صاحبه وأعطى القوس باريها وأجرى الأمور مجاريها"1 حتى مات شهيدا مبكيا عليه مأسوفا على مآثره وعلى سيرته المرضية وأيامه الزاهية البهية3. أما عثمان -رضي الله عنه- فليس له عندهم مثل منزلة صاحبيه -رضي الله عنهما- ونذكر هنا ما يتعلق به -رضي الله عنه- من رسالة بعث بها إمامهم عبد الله بن أباض إلى عبد الملك بن مروان قال فيها: "فولوا عثمان فعمل ما شاء الله بما يعرف أهل الإسلام, حتى بسطت له الدنيا وفتح له من خزائن الأرض ما شاء الله, ثم أحدث أمورا لم يعمل بها صاحباه قبله وعهد الناس بنبيهم حديث, فلما رأى المؤمنون ما أحدث أتوه فكلموه وذكروه بكتاب الله وسنة من كان قبله من المؤمنين, فشق عليه أن ذكروه بآيات الله "!! " وأخذهم بالجبروت وضرب منهم من شاء وسجن ونفى"4، وقال أحد معاصريهم: "فإن كان عثمان على حق فالخارجون عليه المحاربون له ضالون بذلك تجب منهم البراءة، فما لكم تقولون: رضي الله عنهم, وهم خارجون على إمام الحق وإن كان عثمان ظالما وخرجوا عليه لظلمه, فمن الواجب القيام على الظالم حتى يرجع عن ظلمه" إلى أن قال: "أما كون عثمان أمير المؤمنين وكل ما يفعله أمير المؤمنين من الحق والباطل   1 طلقات المعهد الرياضي: سالم بن حمود بن شامس ص73. 2 مختصر تاريخ الأباضية ص15. 3 مختصر تاريخ الأباضية ص16. 4 المرجع السابق ص21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 مقبول عند الله وهو لذلك يجب أن يحترم. وإذا كان كذلك فما بال مائة ألف سيف في المدينة بأيدي المهاجرين والأنصار الذين وصفهم الله عز وجل بالاستقامة في الدين, لا تدافع عن الإمام المحق, فما لهؤلاء الناس لا يأتون بالحق1 الذي يجب على كل مسلم أن يكون عليه؟! "2. أما علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فهم يعتقدون أنه إمام بالإجماع, بايعه المسلمون عن رضى به واختيار له من بين أقرانه؛ لما يرون فيه المناسبة لمنصب الإمامة ... وزاد على أقرانه الستة بكونه من بيت النبوة, فهو العالم العابد الزاهد الأمين الثقة التقي الذي سلم من الأهواء والتحيزات العنصرية, متجردا لله, قائما بحقوق الله، ثابتا على سلطان الله، يتساوى معه البعيد والقريب في الحق, لا تأخذه في الله لومة لائم. وهذه هي صفة علي بن أبي طالب وهو لم يزل كذلك حتى دخل عليه داخل3 في سياسته ليضله عن طريقه, وهو يعتقد فيه أنه يريد الحق ويدعو إليه, وهو بطانة سوء لعلي بن أبي طالب فلذلك أثر عليه ...   1 أما وقد دعا إلى الإتيان بالحق, فإنا نقول: إن المائة ألف سيف التي بأيدي المهاجرين والأنصار لم تغمد عبثا ولا تخليا عن عقيدة ولكنها بعثت واحدا منها هو المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- إلى عثمان وهو محاصر تخيره بثلاثة أمور: إما أن تخرج فتقاتلهم فإن معك عددا وقوة وأنت على الحق وهم على الباطل، وإما أن تخرق لك بابا سوى الباب الذي هم عليه فتقعد على راحلتك فتلحق بمكة فإنهم لن يستحلوك وأنت بها، وإما أن تلحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية. فقال عثمان رضي الله عنه: أما أن أخرج فأقاتل فلن أكون أول من خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أمته بسفك الدماء، وأما أن أخرج إلى مكة فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يلحد رجل من قريش بمكة يكون عليه نصف عذاب العالم" فلن أكون أنا إياه، وأما أن ألحق بالشام فلن أفارق دار هجرتي ومجاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم "رواه الإمام أحمد في مسنده ج1 ص67 من مسند عثمان بن عفان رضي الله عنه". بل إن عثمان -رضي الله عنه- كان ينهى أهل بيته عن تجريد السلاح. إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء, محمد الخضري ص198. 2 الحقيقة والمجاز: سالم بن حمود بن شامس ص21. 3 يقصد: الأشعث بن قيس رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 ولا نعتقد في علي ما تعتقده فيه الشيعة، بل هو عبد من عباد الله وهو هكذا يقول, وبسبب بطانته السيئة وقع ما وقع1. أما خلاصة رأيهم فيه -رضي الله عنه- بعد ذلك, فإنهم يرون أنه بقبوله التحكيم قد خلع نفسه عن الإمامة وولاها الحكمين على عهد الله وميثاقه أن يوليا من شاءا ويعزلا من شاءا, فقد اتفقا على خلعه واختلفا في التولية له, فولى أحدهما معاوية واحرنجم الثاني فلم يفعل شيئا وافترقا على ذلك، ولما رأى أولئك المؤمنون نهاية الواقع وما كانوا يرضون معاوية إماما في الدنيا, فضلا عن أن يكون إماما للدين فلذلك تسرعوا إلى البيعة لعبد الله بن وهب الراسبي المعروف بذي الثفنات، فلما وقعت البيعة لزمت, وحرم تركها بغير موجب"2. ولذا فهم يعتقدون أن البيعة انتقلت بعد علي -رضي الله عنه- إلى عبد الله بن وهب الراسبي, الذي بايعوه بعد التحكيم. "ولما بايعوه بعثوا إلى أصحابهم مسرورين ببيعتهم مبتهجين برضاه وقبوله على يقين واطمئنان أن علي بن أبي طالب لا يعود يطالبهم بإمامة أو يدعيها"3. ولكن عليا -رضي الله عنه- توجه إلى عبد الله الراسبي وأباد جيشه في النهروان, وكان عبد الله من بين القتلى، قال أحد مؤرخيهم: "ولا أظنه أمر بقتلهم ولا أشار إليهم ورأى السكوت يسعه حيث قال له القائمون بأمره عن القوم ما قالوا, ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم حيث نسبوا إلى أهل الحق ما نسبوا؛ ليتوصلوا إلى الباطل بما حصلوا, ولا أرى عليا إلا خليا من دماء القوم ولا ألومه, وهو قاصدهم ليتفاهم معهم ويتفاوض هو وإياهم"4. لكنهم مع هذا لا يتبرءون من عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي رضي الله عنه.   1 الحقيقة والمجاز ص21 و22. 2 المرجع السابق ص15. 3 طلقات المعهد الرياضي: سالم بن حمود بن شامس ص21. 4 الحقيقة والمجاز ص17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 أما معاوية -رضي الله عنه- فإنهم يعتقدون أن أولئك القائمين بالنهروان, كل واحد منهم أفضل من معاوية بمسافات1، "كذا" وهم يعتقدون أنه "خرج على الإمام محاربا له, شاقا عصا المسلمين يريد أن يفرق جمعهم ويهدم بناءهم ويقلب أمورهم ظهرا لبطن؛ ليسيطر عليهم فيكون ملكا فيهم وزعيما عليهم"2، وقالوا: "فخرج معاوية على علي وعلى المسلمين، بل خرج على الدين لما كان علي بن أبي طالب إمام عامة, ثبتت إمامته بإجماع خرج عليه يشق عصا المسلمين ولا يبالي بما يكون من خصام وما يكون من دماء تسفك على غير حق، بل خرج على الإمام يشق طريق الخصام ولا يبالي بسفك دماء المسلمين"2، هكذا زعموا في معاوية -رضي الله عنه- أما طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعائشة -رضي الله عنهم أجمعين- فقالوا عنهم بعد بيعتهم لعثمان، رضي الله عنه: "وبايعه فيمن بايع طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام ثم نكثا ما بعنقهما من البيعة, واستنفرا معهما أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر, فحاربهم علي وقهرهم ... أما السيدة عائشة فقد تابت من عملها بعد ذلك, وندمت أشد الندم"3. موقفهم من مخالفيهم: سأكتفي هنا بإيراد جزء من خطبة أبي حمزة المختار بن عوف أحد كبار أئمتهم، التي وجهها إلى أهل المدينة المنورة بعد استيلائه عليها فقال: "أيها الناس, نحن من الناس والناس منا إلا عابد وثن وملكا جبارا، وصاحب بدعة يدعو الناس إليها، وإن امتنعوا من ذلك دعوناهم إلى أن نجري عليهم حكم الله تعالى من دفع الحقوق والخضوع لواجب الأحكام, فإن أذعنوا لذلك تركناهم على ما هم عليه ووجب لهم من الحقوق والأحكام ما يجب لنا وعلينا إلا ما كان من الاستغفار, فلا حق لهم فيه ما داموا متمادين على ما هم عليه ووسعنا وإياهم   1 الحقيقة والمجاز ص14. 2 المرجع السابق ص11 و12. 3 مختصر تاريخ الأباضية: أبو الربيع سليمان الباروني ص16 و17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 العدل ولهم حقوقهم من الفيء والغنائم والصدقات على وجوهها, ولهم علينا دفع الظلم عنهم كما يجب لسائر المسلمين، والعدل في الأحكام والدفاع عنهم وإن غزوا معنا فلهم سهامهم كما لنا، ومن امتنع منهم مما وجب عليه من الحقوق أدبناه بما يقمعه ونرده إلى سواء السبيل, وإن جاوزوا ذلك سفكنا دماءهم واستحللنا قتالهم وإن اعترفوا بطاعتنا وانفردوا ببلادهم وأجروا فيها أحكامهم تركناهم وذلك ما لم يكن رد على آية محكمة أو سنة قائمة ونستقضي عليهم منهم من يقوم بواجب الحقوق عليهم ولهم ونقبل قوله في ذلك على أسلوب القضاة كلهم, ولا يمنعنا من ولايتهم إلا ما هم عليه ونأخذ منهم كل ما يجب من الحقوق ونردها في فقرائهم وذوي الحاجة منهم وإن اتهمناهم في شيء أعذرنا إليهم, ولا نتركهم يظهرون منكرا بين أيدينا إذا كان عندهم منكرا ديانة ونمنعهم أن يحدثوا في أيامنا ما لم يكن إلا أن يكون أمرا لا مكروه تحته, وإن خرجوا علينا وهزمناهم, فإنا لا نتبع مدبرا ولا نجهز على جريح وأموالهم مردودة عليهم إلا ما كان عائدا لبيت المال, فإنا نأخذه ونصرفه في وجوهه ... وإن قدرنا عليهم قتلنا منهم كل من قتل أحدا منا بعينه قصاصا ونسرح سبيل الأسارى ولا نتبع المنهزمين ولا نعترض أحدا منهم إلا من طعن في الدين أو قتل من المسلمين أو دل عليهم, فهؤلاء يقتلون إذا قدرنا عليهم إلا من تاب قبل ذلك, ونصلي على قتلاهم وندفنهم ونجري المواريث بيننا وبينهم على وجوهها, والأموال والحرمات على وجوهها"1. مصادر التشريع: مصادر التشريع عند الأباضية هي مصادره عند أهل السنة, أعني: الكتاب والسنة والإجماع والقياس, لا ينكرون شيئا منها ولا يجحدونه كما وصفهم بعض من كتب عنهم، قال أحد علماء الأباضية: "وأحكام الشريعة كلها مأخوذة من طريق واحد وأصل واحد, وهو كتاب رب العالمين, وهو قوله تبارك وتعالى:   1 مختصر تاريخ الأباضية: أبو الربيع سليمان الباروني ص72 و73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُم ..... } 1 الآية، والسنة مأخوذة من الكتاب, قال الله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} 2. والسنة علم بكتاب الله عز وجل وبه أوجب اتباعها والإجماع أيضا علم بكتاب الله عز وجل وبالسنة التي هي من كتاب الله؛ لأن الإجماع توقيف, والتوقيف لا يكون إلا عن الرسول صلى الله عليه وسلم3. وعندهم أن ما ذكر في الكتاب أو السنة أو الإجماع, فهو نص والنص أصل يقاس عليه قالوا: "فما وجد في هذه الثلاثة الأصول فهو أصل, وما لم يوجد فهو فرع ويقاس عليهن ما لم يذكر في إحداهن4 وقالوا: لا تقاس الأصول بعضها ببعض, والأصول ما جاء من الكتاب والسنة والإجماع, ويقاس ما لم يأت في الأصول على الأصول، والأصول مسلمة على ما جاءت"5. وقال ناظمهم: يستخرج الحكم من الكتاب ... وهكذا من سنة الأواب كذلك الإجماع فيما اجتمعوا ... كذلك القياس فيما فرعوا6 والمراد بالكتاب القرآن الكريم لا يقولون بتحريفه لا بزيادة ولا نقصان، أما عمادهم في السنة فهو ما جمعه أحد علمائهم وهو: "الجامع الصحيح"، مسند الإمام الربيع بن حبيب, قال عنه أحد علمائهم المعاصرين: "اعلم أن هذا المسند الشريف أصح كتب الحديث رواية, وأعلاها سندا"7، وقال: "فجميع ما تضمنه الكتاب صحيح باتفاق أهل الدعوة "يقصد الأباضية" وهو أصح كتاب بعد   1 سورة الأعراف: من الآية 3. 2 سورة النساء: من الآية 59. 3 المصنف لأبي بكر أحمد بن عبد الله بن موسى الكندي السمدي النزوي "أباضي" ج1 ص50 و51. 4 المصنف لأبي بكر أحمد بن عبد الله بن موسى "أباضي" ج1 ص50. 5 المصنف لأبي بكر أحمد بن عبد الله بن موسى "أباضي" ج1 ص50 و51. 6 جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام: عبد الله بن حميد السالمي ج1 ص21. 7 الجامع الصحيح: مسند الربيع بن حبيب, ومن مقدمة عبد الله بن حميد السالمي ص2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 القرآن العزيز, ويليه في الرتبة الصحاح من كتب الحديث"1. ويقصد بكتب الحديث كتب أهل السنة, فهم يقدمون مسند الربيع بن حبيب أولا ثم صحيح البخاري ومسلم وغيرهما ثانيا. فهم يقبلون ما جاء في كتب الحديث عند أهل السنة ولكن ليس بنفس درجتها عندهم، بل هي تالية لمسند الربيع, وعلى هذا فإن وقع خلاف بين مسند الربيع مثلا وصحيح البخاري أخذوا بما في مسند الربيع. الآراء الفقهية: ولا تكاد تجد كبير فارق بين أهل السنة والأباضية إلا كما تجد الفارق بين المذاهب الأربعة، ويرجع ذلك للاتفاق على أصول التشريع من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، زد على هذا اعترافهم بالكتب الصحاح عند أهل السنة, ولا تكاد تجد لموقفهم من الصحابة -رضوان الله عليهم- من أثر على اتجاههم الفقهي؛ لأنهم لا يردون رواياتهم, وإن ردوا فقليلا لا يكاد يبين له أثر بخلاف الشيعة الذين لا يقبلون إلا ما يرد عن أئمة أهل البيت؛ فكان الاختلاف بينهم وبين أهل السنة في الأصول والفروع. ولا أرى من داعٍ لذكر أمثلة على ذلك, فالفروع كثيرة. أما في الأركان فقال أحد علمائهم: "ولا أعلم بين الفريقين -يعني الأباضية وأهل السنة- خلافا في الصلاة ووجوبها وأدائها في الأوقات الخمسة وعدد الركعات, ولا في الحج وأركانه ومناسكه, ولا في الزكاة ونصابها ومواضع صرفها, ولا في الصوم ووجوبه وأغلب مصححاته ومفسداته"2. قلت: وإذا كان الاتفاق في الأصول, فإن الاختلاف في الفروع أمر مقبول إن شاء الله, ما دام الاجتهاد فيها مستندا إلى الكتاب والسنة والإجماع والقياس, وما داموا يرجعون إلى كتب أهل السنة والجماعة.   1 الجامع الصحيح: مسند الربيع بن حبيب, من مقدمة عبد الله بن حميد السالمي ص2. 2 مختصر تاريخ الأباضية: أبو الربيع سليمان الباروني ص71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 التصوف: أما الفرق الصوفية كالقادرية والعروسية والرفاعية والعيساوية والساعدية والتيجانية والسنوسية والبكطاشية وغيرها كثير, فليس لها وجود في المذهب الأباضي, وهي في نظره من البدع المحرمة شرعا ولا يتوقف الوعظ والإرشاد وتهذيب النفوس على إحداث مثل هذه الطرق والانتساب إلى رجالها على النمط المعهود عندهم, ومع هذا فلا ينكر الأباضيون كرامة الأولياء ووجود الصالحين من عباد الله المخلصين ولزوم احترامهم, لكن لا على هذا الوجه: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} 1، 2. فهم كأهل السنة يؤمنون بالكرامات ووجود الصالحين من عباد الله, لكن ليس على الوجه الذي يقوم به الصوفية من التبرك بهم والطواف حول قبورهم وتقديسهم؛ ولذا لا تجد في بلاد الأباضية المزارات والقبور ونحو ذلك.   1 سورة البقرة: من الآية 48. 2 مختصر تاريخ الأباضية: ص70 و71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 التفسير الأباضي : ظاهرة بارزة في تاريخ الأباضية العلمي هي قلة المؤلفات ليس في العصر الحديث فحسب، بل في القديم أيضا، وتبرز هذه الظاهرة أكثر ما تبرز في إنتاجهم في تفسير القرآن الكريم, إذ لا يكاد يذكر لهم من تفسير سوى تفاسير ثلاثة في القديم, وثلاثة في العصر الحديث. ومن الثلاثة القديمة لا يوجد إلا تفسير واحد في أربعة مجلدات, ومؤلفه هود بن محكم وتداوله بين الأباضية في المغرب، أما الباقي فمفقود وهما تفسير عبد الرحمن بن رستم الفارسي من القرن الثالث، وتفسير يوسف بن إبراهيم الورجلاني من أهل القرن السادس الهجري1. وفي العصر الحديث لا تجد إلا ثلاثة تفاسير, وتعجب إذا عرفت أنها كلها   1 انظر "التفسير والمفسرون": محمد حسين الذهبي ج2 ص315. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 لمؤلف واحد, وأن المطبوع من هذه الثلاثة اثنان, أما الثالث فلم يتمه مؤلفه ولم يطبع. وظاهرة أخرى متعلقة بالظاهرة الأولى, تلكم هي قلة ما يطبع من هذه المؤلفات القليلة, ثم قلة انتشار المطبوع وتوزيعه. وقد عانيت كثيرا في الحصول على بعض هذه المطبوعات وكنت أظن الأمر خاصا بي, فإذا به أعم وكنت أظنه غير مقصود, فإذ بي أحسبه مقصودا، واطلعت على ما حصلت عليه من مطبوعاتهم, علَّ فيها تعليلات فلم أجد ما يوجب هذا العمل. وعلى كل حال, فقد حصلت والحمد لله على بغيتي وفوق هذا حصلت على الموجود من مؤلفاتهم التفسيرية في العصر الحديث, وهي كما قلت آنفا ثلاثة الموجود منها اثنان, وكلها للشيخ محمد بن يوسف أطفيش: 1- تفسير داعي العمل ليوم الأمل: وهو التفسير الذي لم يكمله مؤلفه, وقد اطلع الشيخ محمد حسين الذهبي على نسخته المخطوطة لدى ابن أخي المؤلف في القاهرة, ورآها تحتوي على تفسير الأجزاء الأربعة الأخيرة من القرآن وتقع في مجلدين1. 2- هميان الزاد إلى دار المعاد: وهو تفسير يقع في 13 مجلدا. 3- تيسير التفسير: ويقع في مجلدات سبعة. وهذان التفسيران هما المطبوع من تفاسير الأباضية في العصر الحديث، بل لم أجد ذكرا لغيرهما ولم يؤلف سواهما في التفسير. وقد وقفت عندهما حائرا: هل قراءة هذين التفسيرين وهما لمؤلف واحد تعطي صورة حقيقية عن منهج الأباضية في التفسير, أو أنهما يعطيان صورة عن منهج مؤلفهما في التفسير لا منهج الأباضية؟ وقد انقدح في ذهني أن هذا يرجع إلى مدى التزام المؤلف بمذهبه, فإن كان ملتزما بعقيدته الأباضية التزاما كاملا فهو إن لم يعط صورة كاملة بدقائق تفصيلها   1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص316. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 عن المنهج الأباضي, فإنه حتما سيعطي الخطوط العريضة لمنهج الأباضية في التفسير باعتباره ملتزما به. ثم نظرت إلى مؤلفهما فوجدته إماما من أئمتهم المعتبرين الذين لهم مكانتهم عند الأباضية علما والتزاما, ولو لم يكن متصفا بهاتين الصفتين لما حل عندهم بهذه المنزلة. فتوكلت على الله وعزمت على اعتبار هذين التفسيرين مصدرا لمنهج الأباضية في التفسير في العصر الحديث, وكان لا بد أن أكتب ترجمة موجزة عن مؤلفهما، ثم تعريفا بالتفسيرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 تفسيري: هميان الزاد إلى دار المعاد, وتيسير التفسير التعريف بالمؤلف : اسمه ونسبه: أما اسمه فهو: محمد بن يوسف بن عيسى بن صالح أطفيّش1، أو أطّفيّش2. وأما ألقابه فكثيرة, منها ما هو نسبته إلى بلده ومنها ما هو نسبته إلى مذهبه. فمن الأول: "الميزابي المصعبي اليسجني"3، ومن الثاني: "الوهبي الأباضي"3، ومنها: "الحفصي العدوي الجزائري"4. مولده ونشأته: ولد سنة 1236 في بلدة يسجن في وادي ميزاب بالجزائر, ونشأ بين قومه وعرف عندهم بالزهد والورع واشتغل بالتدريس والتأليف وهو شاب لم يتجاوز   1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص319 عن ابن أخي المؤلف. 2 الأعلام: خير الدين الزركلي ج7 ص156، وقال: إنه لفظ بربري مركب من ثلاث كلمات: أطّف بمعنى أمسك وأيّا بمعنى أقبل, تعال, وأش ومعناها: كل, قال: يقال: إن أحد أسلافه لقب به لمناداته صديقا له يدعوه إلى الطعام. 3 مقدمة تيسير التفسير، لصاحب الترجمة ج1 ص5. 4 الأعلام: خير الدين الزركلي ج7 ص156، وقال: الحفصي نسبة إلى أبي حفص عمر بن الخطاب, والعدوي نسبة إلى عدي بن كعب القرشي جد عمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 السادسة عشرة وانكب على القراءة والتأليف, وله من المؤلفات في شتى العلوم ما يربو على الثلاثمائة مؤلف1. لذا، فهو علّامة في التفسير والفقه والأدب, أباضي المذهب, كان له أثر بارز في قضية بلاده السياسية2. مؤلفاته: له "داعي العمل ليوم الأمل" في مجلدين، و"تفسير هميان الزاد" في 13 مجلدا, و"تيسير التفسير" في سبعة مجلدات, و"شرح النيل" في 10 أجزاء كبيرة في الفقه, و"حي على الفلاح" 6 أجزاء فقه و"شامل الأصل والفرع" في علوم الشريعة في جزأين, و"وفاء الضمانة بأداء الأمانة" حديث 3 أجزاء, ونظم المغني لابن هشام في خمسة آلاف بيت، وله مؤلفات عديدة في النحو والصرف والبلاغة والفلك والعروض والوضع والفرائض وغيرها3. وفاته: توفي في 23 ربيع الثاني4 سنة 1332هـ وله من العمر ست وتسعون سنة. التعريف بالتفسيرين: أول هذين التفسيرين هو "هميان الزاد إلى دار المعاد"5، وهو التفسير   1 التفسير والمفسرون: محمد الذهبي عن ابن أخي المؤلف ج2 ص319؛ والأعلام للزركلي ج7 ص157. 2 الأعلام: الزركلي ج7 ص157. 3 انظر "التفسير والمفسرون": الذهبي ج2 ص319؛ والأعلام للزركلي ج7 ص157؛ ومعجم المؤلفين: عمر رضا كحالة ج12 ص133. 4 معجم المؤلفين: عمر رضا كحالة ج12 ص133. 5 ورد هيميان بياءين قبل الميم وبعدها, إلا أنه في مقدمة كتابه: تيسير التفسير أشار إليه باسم "هميان" بياء واحدة بعد الميم، وأرى أن الصحيح هو بياء واحدة؛ لأني لم أجد له معنى بياءين، قال في القاموس: الهميان بالكسر: شداد السراويل، ووعاء للدراهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 الذي ألفه صاحبه في صغره1. طبع في زنجبار بالمطبعة السلطانية سنة 1314هـ، وأصدرت الطبعة الثانية وزارة التراث القومي والثقافة، في سلطنة عمان سنة 1401هـ وبين يدي الجزء الأول من هذه الطبعة ما اطلعت عليه منها حتى الآن2. وسأرجع في دراستي هذه إلى الطبعة الثانية في الجزء الأول فقط, أما بقية الأجزاء فسأرجع إلى الطبعة الأولى. أجزاء الكتاب: ذكر في "التفسير والمفسرون" أن تفسير هميان الزاد إلى دار المعاد يقع في 13 مجلدا كبيرا3، وذكر الزركلي أنه يقع في 14 جزءا4، أما في مقدمة الطبعة الثانية فذكر وزير التراث العماني أنهم عثروا على نسخة وحيدة منه في 15 جزءا. وقد حاولت التأكد من العدد الصحيح لمجلدات الكتاب فطلبت المجلد الأخير منه في دار الكتب المصرية, فناولوني المجلد الثاني عشر وآخره تفسير سورة الحجرات, واعتذروا بعدم وجود ما بعد هذا المجلد. وقد لخص المؤلف منهجه في هذا التفسير بقوله: "وبعد, فهذا تفسير رجل يسجني أباضي وهبي, ويعتمد فيه على الله سبحانه وتعالى ثم على ما يظهر لفكره بعد إفراغ وسعه ولا يقلد فيه أحدا إلا إذا حكى قولا أو قراءة أو حديثا أو قصة أو أثرا لسلف، وأما نفس تفاسير الآي والرد على بعض المفسرين والجواب فمنه، إلا ما تراه منسوبا، وكان ينظر بفكره في الآية أولا ثم تارة يوافق نظر جار الله والقاضي5 وهو الغالب والحمد لله وتارة يخالفهما، ويوافق وجها أحسن مما أثبتاه أو مثله ... ويتضمن -إن شاء الله- الكفاية, في الرد على المخالفين فيما   1 تيسير التفسير: محمد بن يوسف أطفيش ج1 ص7 ط2. 2 حصلت بعد صف أحرف كتابي هذا على الأجزاء التالية: الثاني 1401هـ والثالث 1402هـ والرابع 1403هـ ونهايته الآية 51 من سورة النساء. 3 التفسير والمفسرون ج2 ص316. 4 الأعلام للزركلي ج7 ص157. 5 يعني: الزمخشري والبيضاوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 زاغوا فيه وإيضاح مذهب الأباضية الوهبية واعتقادهم, وذلك بحجج عقلية ونقلية"1. وثاني هذين التفسيرين: "تيسير التفسير للقرآن الكريم" وهو اختصار للتفسير السابق, صدرت الطبعة الأولى منه في سبعة مجلدات طبع بلاد المغرب، وبالحروف المغربية وصدرت أجزاؤه بين سنتي 1325-1327هـ، وقد أعادت وزارة التراث القومي والثقافة في سلطنة عمان طبعه, فصدر الجزء الأول منه بمناسبة مطلع القرن الخامس عشر الهجري, وبين يدي من هذه الطبعة الجزء الأول وهو ما صدر منها حتى الآن2. وكالتفسير السابق سأرجع إلى الجزء الأول من الطبعة الثانية، وبقية الأجزاء إلى الطبعة الأولى. وذكر المؤلف في مقدمة هذا التفسير سبب تأليفه له فقال: "أما بعد, فإنه لما تقاصرت الهمم عن أن تهيم بهميان الزاد إلى دار المعاد الذي ألفته في صغر السن، وتكاسلوا عن تفسيري: داعي العمل ليوم الأمل, أنشطت همتي إلى تفسير يغتبط ولا يمل, فإن شاء الله قبله بفضله وأتمه قبل الأجل، وأنا مقتصر على حرف نافع ولمصحف عثمان تابع، وأسأل ذا الجلال أن ينعم علي بالقبول والإكمال"3.   1 هميان الزاد إلى دار المعاد ج1 ص5. 2 حصلت بعد صف أحرف هذا الكتاب على الجزء الثاني "بدون تاريخ" والجزء الثالث, وصدر سنة 1405هـ ونهايته آخر سورة الأنعام. 3 تيسير التفسير: محمد بن يوسف أطفيش ج1 ص7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 منهجه في التفسير: درج المؤلف خاصة في تفسيره: هميان الزاد على أن يقدم لكل سورة بمقدمة يذكر فيها أسماء هذه السورة والمدني والمكي منها وعدد آياتها وكلماتها وحروفها, ثم ما ورد من الأحاديث في فضلها, ويختم ذلك ببيان فوائدها. ذكر المؤلف في أسماء سورة البقرة أن "خالد بن معدان كان يسميها: فسطاط القرآن"1. وورد في حديث مرفوع في مسند الفردوس، وذلك لعظمها   1 هميان الزاد ج1 ص 163 وانظر سنن الدارمي ج2 ص 446- 447. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 ولما جمع فيها من الأحكام التي لم تجمع في غيرها وفي حديث المستدرك تسميتها سنام القرآن1 وسنام كل شيء أعلاه, وفي صحيح مسلم تسميتها وآل عمران الزهراوين1. وفي المكي والمدني منها قال: "وهي مدنية واستثنى بعضهم منها آيتين: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} ، {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} 1 ... إلخ. وفي عدد آياتها وكلماتها وحروفها قال: "آيها مائتان وخمس وثمانون، وقيل: مائتان وست وثمانون، وقيل: مائتان وسبع وثمانون, وكلمها ستة آلاف ومائة وإحدى وعشرون, وحروفها خمسة وعشرون ألفا وخمسمائة حرف"1. ثم تحدث عن فضلها فقال: "قال أبو بردة: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اقرءوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه, اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما, اقرءوا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة" 2. وأورد غير ذلك من الأحاديث3. ثم يختم كل مقدمة بذكر فوائد للسورة أو التداوي بها بما يشبه الأوهام والخرافات, حاشا أن أنكر أن القرآن شفاء ولكن تخصيص بعض الآيات أو بعض السور ببعض الأمراض والآفات مما لا أعرف له دليلا. قال عن سورة البقرة: "قال جعفر الصادق: من كتب سورة البقرة وأمسكها عليه زالت عنه الأوجاع كلها، وإن علقها أيضا على صغير زالت عنه أوجاعه وهان عليه الفطام ولم يخف عليه -بحول الله تعالى- وإن علقت على المصروع زال عنه الصرع"4.   1 هميان الزاد ج1 ص163، وانظر سنن الدارمي ج2 ص446 و447. 2 رواه الإمام أحمد في مسنده ج5 ص249؛ ومسلم في صحيحه ج6 ص90 باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة. 3 هميان الزاد ج1 ص163. 4 المرجع السابق ج1 ص164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 وأذكر تأكيدا ما أورده أيضا في سورة الفاتحة حيث قال عنها: "وقالوا: وإذا كتبت في إناء طاهر وغسلت ومسح بها المريض وجهه عوفي -بإذن الله تعالى- وإذا شرب من هذا الماء من يجد خفقانا سكن -بإذن الله تعالى- وإذا كتبت بمسك وزعفران في إناء من زجاج طاهر ثم محيت بماء ورد وشرب منها البليد الذي لا يحفظ شيئا حفظ كل ما سمع وزالت بلادته, وإذا كتبت يوم الجمعة في الساعة الأولى في إناء ذهب1 بمسك وكافور ومحيت بماء ورد وجعل ذلك في قارورة ومسح بها وجهه من يدخل على السلطان أو يخاف من عدو نال القبول والهيبة والمحبة من عدوه، وإذا كتبت بماء ورد ومسك في جام زجاج ومحيت بماء كانون وسحق به كحل أصفهاني جلا البصر وصححه وحفظ صحة العين وأزال أمراضها, وإن أضيف إلى الإثمد مرارة ديك أفرق ومرارة دجاجة سوداء واكتحل بها, نظر إلى الأشخاص الروحانية وخاطبهم وخاطبوه بما يريد"2"!! " ثم يستمر في ذكر هذه الخرافات ولا ينسى أن يقول: "إنه إنما يذكر فضائل السور في أوائلها ليرغب الطالب القارئ في تفسيرنا هذا في درسها وحفظها وتكرار قراءتها رجاء لنيل ثوابها"3. هذا بيان للمقدمة التي التزمها الشيخ أطفيش قبل تفسيره للسورة. ونأتي هنا إلى ذكر أهم القضايا والأسس التي يقوم عليها منهجه في التفسير. الإطناب: وإنما بادرت إلى ذكر هذا الأساس وتقديمه على ما سواه؛ لأنه سمة بارزة في هذين التفسيرين. ومما لا شك فيه أن للإطناب محاسن وعيوبا, ولكنه هنا أدى بالمؤلف إلى اقتراف ما لا ينبغي وقوعه من مفسر في تفسيره, نذكر من ذلك أمثلة ثلاثة وقصدي الاختصار. أولها: عدم الاكتفاء بالتفسير الصحيح الثابت في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ   1 لا يجوز اتخاذ الإناء من ذهب. 2 هميان الزاد ج1 ص16 و17. 3 هميان الزاد ج1 ص17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 1. ورد بيان الكلمات في آية أخرى بقوله تعالى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2. وهو نفسه يورد هذا التفسير الصحيح3, لكنه يضيف إلى هذا -إطنابا- أقوالا لا تصح أو على الأقل لا يصح ذكرها بجانب التفسير القرآني. فذكر أقوالا عديدة نذكر منها قوله: "وعن ابن عباس في رواية: هن ما روي أن آدم -عليه السلام- قال: "يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى قال: ألم تكن أسكنتني الجنة؟ قال: بلى قال: فلم أخرجتني منها؟ قال: بخطيئتك قال: يا رب أأنا أتيت شيئا ابتدعته من تلقاء نفسي، أو شيئا قدرته علي قبل أن تخلقني؟ قال: بل قدرته عليك قبل أن أخلقك قال: يا رب كما قدرته علي فاغفر لي". وقال محمد بن كعب القرظي: هي قوله: سبحانك لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا, وظلمت نفسي فارحمني, إنك أنت أرحم الراحمين، وقيل: لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك, رب عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي فإنك أنت الغفور الرحيم, لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك, ربي عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين. وقالت طائفة: إن آدم رأى مكتوبا على ساق العرش: محمد رسول الله فتشفع به فهي الكلمات ... وقيل: إن الله تعالى أنزل ياقوتة من ياقوت الجنة ووضعها على موضع البيت على قدر الكعبة, لها بابان باب شرقي وباب غربي, وفيها قناديل من نور, ثم أوحى الله تعالى إليه أن لي حرما بحيال عرشي فأته, فطف به كما طاف حول عرشي وصلِّ عنده كما يصلى عند عرشي, فهناك أستجيب دعاك, فانطلق آدم من أرض الهند إلى أرض مكة لزيارة بيت الله وقيض الله تعالى له ملكا يرشده فكان كلما نزل موضعا وضع عليه قدمه صار عمرانا, وما تعداه صار مفاوز وقفارا. فلما وقف بعرفة وكانت حواء تطلبه وقصدته من جدة فالتقيا بعرفة يوم عرفات فعرف كل منهما الآخر فسمي عرفات، فلما   1 سورة البقرة: الآية 37. 2 سورة الأعراف: الآية 23. 3 هميان الزاد ج1 ص485؛ تيسير التفسير ج1 ص59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 انصرف إلى منى قال لآدم: "تمن" قال: أتمنى المغفرة والرحمة, فسمي ذلك الموضع منى وغفر ذنبهما"1. هذه بعض الأقوال لا كلها التي أوردها في بيان الكلمات, ولا شك أن الإطناب أدى به إلى إيراد ما لا يصح. ثانيها: أدى به الإطناب إلى إيراد الكثير مما ليس مجاله التفسير، بل هو إلى شعوذة الدجالين أقرب, ففي تفسير قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} 2 ... الآية. قال: "ومن كانت أشجاره قليلة الأثمار فليصم الخميس ويفطر في المغرب على هندبا ويصلي المغرب, ثم يكتب هذه الآيات: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} إلى: {خَالِدُونَ} في قرطاس ولا يتكلم ويمضي إلى شجرة تكون في وسط البستان ويعلقها عليها, فإن كان فيها ثمر فليأكل منها واحدة وإن لم يكن لها ثمر فليأكل ورقة من ورقها وإن لم يكن لها ورق فليأكل من ثمر مثلها، ويشرب عليها ثلاث جرعات من ماء وينصرف؛ فإنه يرى ما يسره من حسن الثمرة والبركة إن شاء الله"3. وقال أيضا: "ومن أراد أن يحبه أحد محبة عظيمة فليأخذ مرآة من فضة جديدة أو عاج ويكتب في كاغد: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} إلى قوله: {قدير} 4، إلى قوله: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} 4 في يوم الجمعة في زيادة الهلال ويأخذ نملتين من شجرة تكون الواحدة طالعة والأخرى هابطة، وما فيها5 ثم تجتمعان ويقفان قليلا وجه الواحدة إلى وجه الأخرى"6 قلت: ونقف بالقلم هنا فلا نهبط معه بنقل هذه الشعوذة والدجل بل السحر. وأقف أيضا هنا عن نقل أمثلة كثيرة متوفرة, وقد سبقت الإشارة إلى أنواع   1 هميان الزاد إلى دار المعاد ج1 ص485 و486, وانظر تيسير التفسير ج1 ص59. 2 سورة البقرة: الآية 25. 3 هميان الزاد ج1 ص379 و380. 4 سورة البقرة: الآية 20. 5 هكذا وردت. 6 هميان الزاد ج1 ص325. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 منها عند حديثنا عما يقدمه عند تفسيره لكل سورة من بيان فوائد السورة وما يستطيب بها لأجله. ثالثها: أدى به ذلك إلى الإطناب فيما أبهم في القرآن الكريم كالحروف المقطعة في أوائل السور, فإنه يورد في تفسير ذلك أقوالا عديدة استغرقتها الصفحات "من 165 إلى ص183" ولا أرى كبير فائدة في إيراد هذه الأقوال أو بعضها ما دامت لا تقوم على دليل صحيح, ومع هذا فإني سأورد الرأي الذي مال إليه وأكتفي بإيراده عن إيراد ما عداه قال: "وكنت أشبه المقام بمقام من أراد أن يتكلم لمن استغرق قلبه في شيء فيقدم إليه ما يصغي به إلى الكلام كأن يجيده أو يغمز بدنه أو يقرعه بالحصى، ومن ذلك الوادي أن تشير إلى من كان في كلام دنيوي بالبسملة تنبيها على أن يقر، ثم رأيت عن الجويني ما يناسبه إذ قال: القول بأنها تنبيهه1 جيد؛ لأن القرآن كلام عزيز وفوائده عزيزة، فينبغي أن يرد على سمع متنبه فكان من الجائز أن يكون الله قد علم في بعض الأوقات كون النبي -صلى الله عليه وسلم- في عالم البشر مشغولا, فأمر جبريل بأن يقول عند نزوله: {الم} {الم} {حم} ليسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- صوت جبريل فيقبل عليه ويصغي إليه، وإنما لم تستعمل الكلمات المشهورة في التنبيه كألا وأما؛ لأنها من الألفاظ التي تعارفها الناس في كلامهم والقرآن كلام لا يشبه الكلام, فناسب أن يؤتى فيه بألفاظ تنبيه لم تعهد؛ لتكون أبلغ في قرع سمعه. انتهى"2. لكني أذكر, فأشكر للمؤلف أنه ذكر تفسير السلف لهذه الأحرف في تفسيره الآخر: تيسير التفسير حيث قال: " {الم} الله هو العالم بمعناه وبمعنى {المص} ، و {المر} ، {الر} .. وأذكر ما قيل"3 ثم ذكر قولا واحدا. ومن أسس منهجه: تفسير القرآن بالقرآن: وهذا ولا شك أصح طرق التفسير وأولاها, والمؤلف كثيرا ما يذكر تفسير   1 كذا وردت, ولعلها: "تنبيهية". 2 هميان الزاد ج1 ص171 و172. 3 تيسير التفسير ج1 ص13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 القرآن بالقرآن أو ما يكون شاهدا للآية المفسرة, لكنه كما سبقت الإشارة في الأساس الأول كثيرا ما يورد مع هذا التفسير تفاسير أخرى لا تصح, وكان الأولى الاكتفاء بالتفسير القرآني وبيان معناه. ونذكر من تفسيره القرآن بالقرآن ما أورده عند تفسير الكلمات في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} 1، حيث قال: "قال ابن عباس وسعيد بن المسيب والحسن بن علي ومجاهد وعكرمة: تلك الكلمات هي ما حكى الله سبحانه وتعالى عنه: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} "2، 3، وفي تيسير التفسير ذكر أن هذا التفسير هو الأصح4. وفي تفسير قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 5، يذكر ما ورد من حديث مرفوع عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- من تفسيرها باليهود والنصارى ثم يعقب: وذلك واضح من كتاب الله؛ لأن ذكر غضب الله على اليهود متكرر في كتاب الله, كقوله عز وعلا: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} 6، وقوله: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} ... الآية7. وأما النصارى فمذكورون في الضلال كقوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} 8، 9.   1 سورة البقرة: من الآية 37. 2 سورة الأعراف: الآية 23. 3 هميان الزاد ج1 ص485. 4 تيسير التفسير ج1 ص59. 5 سورة الفاتحة: الآية 7. 6 سورة آل عمران: من الآية 112. 7 سورة المائدة: من الآية 60. 8 سورة المائدة: من الآية 77. 9 هميان الزاد ج1 ص155 و156. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 تفسير القرآن بالسنة: أصح طرق التفسير بعد تفسير القرآن بالقرآن هو تفسيره بالسنة, والمؤلف هنا يأخذ بهذا النوع من التفسير ويورده كثيرا في تفسيره, يورد منه ما هو تفسير للآية وما هو شاهد, أو له وجه علاقة بها، وهو هنا وهناك لا يلتزم الأخذ بالصحيح فيورد فيه الصحيح والضعيف، بل الموضوع وكل منها كثير وكثير في تفسيره. فمن ذلك تفسيره لقوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 1, قال: "أخرج أحمد والترمذي وحسنه2 وابن حبان في صحيحه عن عدي بن حاتم عنه -صلى الله عليه وسلم- أن " {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} هم اليهود وأن {الضَّالِّينَ} هم النصارى"، وأخرج ابن مردويه عن أبي ذر، سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} قال: "اليهود"، وعن {الضَّالِّينَ} قال: "النصارى"، وكذلك فسر ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والسدي وابن زيد والحسن"3. وفي تفسير قوله تعالى حكاية لقول الملائكة: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} 4, قال المؤلف: "وروى البخاري ومسلم عن أبي ذر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل: أي الكلام أفضل؟ فقال: "ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده: سبحان الله وبحمده " 5. وفي تفسير قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} 6   1 سورة الفاتحة: الآية 7. 2 قال الترمذي: حسن غريب, لا نعرفه إلا من حديث سماك بن حرب ج5 ص204. 3 هميان الزاد ج1 ص155. 4 سورة البقرة: من الآية 30. 5 هميان الزاد ج1 ص423 و424 ولم أجده في البخاري، ورواه مسلم, كتاب الذكر ج4 ص2093. 6 سورة البقرة: الآية 238. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 روى: "قال صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى -صلاة العصر- ملأ الله بيوتهم نارا" 1. وفي قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} 2, قال: "وعن أبي سعيد عنه صلى الله عليه وسلم: "يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل أو النبي ومعه الرجلان وأكثر فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فيقال له: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيدعى محمد وأمته فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم، فيقال: وما أعلمكم؟ فيقولون: جاءنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا، فذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} الآية " 3، 4. وكما أشرت آنفا, فإن المؤلف لا يلتزم بالصحيح من الحديث, بل يستدل بالموضوع منها من غير بيان لوضعه أو درجته, ومن ذلك ما ذكره عند تفسيره لقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} 5 أورد من الموضوعات الكثيرة ومنها قوله: "وروى سفيان بإسناده من حديث قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لما هبط آدم من الجنة إلى الأرض بأرض الهند وعليه ذلك الورق الذي كان لباسه من الجنة إلى أرض الهنديبس وتطاير فعبق منه شجر الهند ففاح العود والصندل والمسك والعنبر والكافور" قالوا: يا رسول الله, المسك هو من الدواب؟ قال: "إنما هي دابة شبه الغزال رعت من ذلك الشجر, فصير الله تعالى المسك من عرقها إذا رعت الربيع جعله مسكا وتساقط فينتفع به الآدميون". قالوا: يا رسول الله, العنبر من دابة في البحر؟ قال:   1 تيسير التفسير ج1 ص380؛ والحديث رواه مسلم ج5 ص128, كتاب المساجد. 2 سورة البقرة: من الآية 143. 3 تيسير التفسير ج1 ص196 و197. 4 رواه الإمام أحمد ج3 ص58. 5 سورة البقرة: من الآية 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 "أجل كانت في البر ترعى, فبعث الله تعالى إليها جبريل فساقها وما معها, حتى قذفها في البحر"1، 2. وذكر أيضا عند تفسيره للآية السابقة حديثا: "عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بلباس الصوف تجدون به قلة الأكل، وعليكم بلباس الصوف تعرفون به الآخرة، إن النظر في الصوف ليورث في القلب التفكر, والتفكر يورث الحكمة, والحكمة تجري في الجوف مجرى الدم, فمن كثر تفكره قل طعامه وكلّ لسانه, ومن قل تفكره كثر طعامه وقسا قلبه, والقلب القاسي بعيد من الله -عز وجل- بعيد من الجنة, قريب من النار" 3، 4. وقد يذكر المؤلف الحديث الصحيح الذي لا يوافق مذهبه بصيغة التشكيك في صحته, فمن ذلك مثلا قوله عن حديث الرؤية الثابت "إنكم سترون ربكم ... " الحديث: "وحديث الرؤية إن صح فمعناه ... "5. الأخذ بالإسرائيليات: ولا شك أن الموقف الصحيح من الإسرائيليات معروف بين، فما وافق شريعتنا تجوز روايته للاستشهاد لا للاعتقاد, وما خالفها لا تصح روايته, وما ليس من هذا ولا من ذاك فلا بأس بحكايته من غير تصديق ولا تكذيب، بل قال   1 هميان الزاد ج1 ص476. 2 الحديث موضوع. انظر تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة, لأبي الحسن علي بن محمد بن عراق الكناني ج1 ص246. 3 هميان الزاد ج1 ص477. 4 قلت: ما أورده المؤلف من الحديث إنما هو الزيادة, وأصل الحديث: "عليكم بلباس الصوف تجدوا حلاوة الإيمان في قلوبكم". قال البيهقي عن هذه الزيادة: "وهذه زيادة منكرة"، وقال ابن الجوزي في الموضوعات: "لا يصح, الكديمي يضع، وشيخه لا يحتج به"، وقال بهذا أيضا السيوطي في اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة ج2 ص264. 5 هميان الزاد ج5 ص173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 ابن كثير-رحمه الله- عن هذا النوع: "وكثير من ذلك مما لا فائدة فيه ولا حاصل له مما ينتفع به في الدين, ولو كانت فائدته تعود على المكلفين في دينهم لبينته هذه الشريعة الكاملة الشاملة"1. والاستشهاد بالإسرائيليات على كل حال مذموم في التفسير للقرآن الكريم, خاصة إذا كثر إيراده والاستطراد فيه إلى حد رواية الغرائب والعجائب التي تصرف عن التدبر في آيات القرآن الكريم. والمؤلف أكثر من الأخذ بالإسرائيليات وأورد منها في القصص والأخبار ما يصرف القارئ عن تدبر الآيات ومعانيها, واستطرد فيها استطرادا يجعل القارئ ينسى لطول الحديث الآيات المتناولة بالتفسير. وقد أورد في تفسير قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} 2 أقوالا في كيفية إزلال الشيطان -لعنه الله- لآدم وحواء -عليهما السلام- ومن ذلك: " ... وقيل: قام عند الباب فناداهما وروى أنه أراد الدخول, فمنعته الخزنة فدخل في فم الحية, فدخلت به وهم لا يشعرون "!! "، وقيل: تمثل في صورة دابة فدخل ولم يشعروا "!! " وقيل: كانت الجن تدخل الجنة وإنما منع منها إبليس وحده فأرسل بعض أتباعه منهم فأزلهما فنسب الإزلال إليه لأنه آمر به ومحب له, وذكر بعضهم أن الحية كانت صديقة لإبليس, فلما منعته الخزنة من الدخول أتاها فسألها أن تدخله الجنة في فيها فأدخلته وهم لا يعلمون به "!! " مع أنها مرت عليهم وكان لها أربع قوائم كقوائم البعير من أحسن الدواب, وكانت من خزان الجنة قيل: وسم أنيابها من مكث إبليس في فيها ومسخها الله -عز وجل- لذلك ورد قوائمها في بطنها وقيل: كانا على باب الجنة وكانا يخرجان منها وكان إبليس عدو الله قريبا من الباب, فوسوس لهما وقد دخل مع آدم الجنة لما دخل ورأى ما فيها من النعيم والكرامة ... وقيل: إن إبليس -عدو الله- لما سمع بدخول آدم الجنة حسده, وقال: يا ويلاه أأنا أعبد الله منذ كذا وكذا ألف   1 تفسير ابن كثير ج3 ص192. 2 سورة البقرة: من الآية 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 سنة ولم يدخلني الله الجنة, وهذا خلق خلقه الله الآن فأدخله الله الجنة؟ فاحتال في إخراج آدم -عليه السلام- فوقف على باب الجنة ثلاثمائة سنة حتى اشتهر بالعبادة وعرفوه بها, وهو في كل ذلك ينتظر خروج خارج من الجنة, فبينما هو كذلك إذ خرج الطاووس، وكان من سادات الطيور, فلما رآه إبليس قال: أيها الخلق الكريم على الله, من أنت وما اسمك, فما رأيت من خلق الله تعالى أحسن منك؟ قال: أنا طائر من طيور الجنة اسمي طاووس، فقال له إبليس: أنا من الملائكة الكروبيين, وجعل يبكي"1. وخلاصة بقية القصة التي أوردها المؤلف كاملة أن إبليس حاول إقناع الطاووس بإدخاله الجنة فأرشده الطاووس إلى من يستطيع إدخاله الجنة وهي الحية, وبعد حوار معها اقتنعت وأدخلت إبليس الجنة، ثم اتصل إبليس بآدم وحواء فأرشدهما إلى شجرة الخلد حيث أكلا منها. حتى في تفسيره المختصر "تيسير التفسير" أشار إلى هذه الأقوال ثم ذكر المواضع التي أهبطوا إليها، فقال: "فنزل آدم بسرنديب من الهند على جبل يسمى "نود"، وحواء بجدة -بضم الجيم- في مدة أربعين عاما فيما قيل, والله قادر على أقل كما ينزل جبريل وغيره في لحظة وإبليس بالأبلة من أعمال البصرة، وزوجه بأصبهان أو سجستان أو نصيبين والحية بأصبهان والطاووس بالشام"2. ثم يذكر ترتيب الهبوط: "أهبط إبليس ثم الحية فالطاووس, ثم آدم وحواء"2. وقال في تفسير قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} 3 الذي فر بثوبك لتتبعه من مغسلك عاريا ليرى بنو إسرائيل أنه ما بك أدرة، كانوا يغتسلون عراة وموسى في خلوة فاتهموه بانتفاخ بيضته وهو4 ذراع له أربعة أوجه، وقيل: كرأس الرجل من رخام وقيل: خفيف وقيل: حجر كان عند آدم   1 هميان الزاد ج1 ص463-465. 2 تيسير التفسير ج1 ص58. 3 سورة البقرة: من الآية 60. 4 أي: الحجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 وصل مع العصا إلى شعيب فأعطاهما موسى.. ويقال: حجر مربع يخرج من كل وجه ثلاث أعين, لكل سبط عين وكانت من أس الجنة, طولها عشرة أذرع على طول موسى, لها شعبتان تتقدان في الظلمة نورا حيثما كان, وأمامهم في التيه فلهم عمود من نور ليلا حملها معه آدم من الجنة وتوارثها الأنبياء إلى شعيب فأعطاها موسى1. وذكر في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} 2 الآية، قصة قتيل بني إسرائيل، فقال: "وقد قتل لهم قتيل لا يدرى قاتله اسمه عاميل, وسألوا موسى أن يدعو الله أن يبينه لهم والقتيل ذو مال قتله بنو عمه وقيل: ابنا عمه اثنان، وقيل: أخوه وقيل: ابن أخيه، وهم فقراء ليرثوه، وحملوه إلى باب قرية وألقوه فيه فطلبوا آثاره, وادعوا القتل على رجال جاءوا بهم إلى موسى -عليه السلام- وروى أنه قتله قريب له ليتزوج زوجه، وقيل: ليتزوج بنته وقد أبى"3. واستمر في سرد هذه القصة, وإنما أوردت أولها لبيان شدة اهتمامه بكل تفاصيل هذه الإسرائيليات واستقصائه للأقوال فيها. وفي تفسير قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 4 الآية, ذهب يذكر أنواع السموات فقال: "فالأولى من زبد الماء متجمدا, والثانية من رخام أبيض, والثالثة من حديد, والرابعة من نحاس, والخامسة من فضة, والسادسة من ذهب, والسابعة من ياقوت أحمر، وقيل: الأولى زبد جامد, والثانية من نحاس, والثالثة من فضة, والرابعة من ذهب, والخامسة من ياقوت, والسادسة من زمرد, والسابعة من نور العرش"5.   1 تيسير التفسير ج1 ص86 و87. 2 سورة البقرة: من الآية 67. 3 تيسير التفسير ج1 ص98 و99. 4 سورة البقرة: من الآية 164. 5 تيسير التفسير ج1 ص226. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 ويلاحظ أني أوردت أكثر ما أوردت من الأمثلة من تفسيره: تيسير التفسير وفيه الكثير, وقصدي من هذا أنه إذا كان هذا ما أورده في المختصر ففي المطول أكثر منه وأطول, وهذا هو الواقع، فللإسرائيليات في التفسيرين مجال رحب. اهتمامه بالمسائل النحوية واللغوية والبلاغية: ومن السمات البارزة أيضا في هذا التفسير إسهاب صاحبه في المسائل النحوية خاصة وفي اللغوية والبلاغية لكنهما أقل من الأولى. ومن أمثلة ذلك ما ذكره في إعراب {غَيْرِ} من قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 1، فقال: " {غَيْرِ} هو بدل من {الَّذِينَ} بدل مطابق نظرا إلى معنى أن {الْمَغْضُوبِ 2 عَلَيْهِمْ} هم الذين سلموا من الغضب والضلال، وذكر ابن هشام أن البدل بالمشتق ضعيف، لكن لفظه {غَيْرِ} ليست مشتقة وتأويلها بالمشتق مثل المخالف والمغاير لا يمنع إبدالها ولا يضعفه, فإن الاسمية غالبة عليه وتأويلها فرع, ويجوز أن تكون نعتا للذين مبينا إن أريد بـ {الَّذِينَ} المؤمنون فقط، ومقيدا إن أريد به كل من أنعم الله عليه بنعمته دنيوية أو أخروية أو بمطلق الإيمان, وعلى كل من الإبدال والنعت بوجهيه يكون المعنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة الإيمان وبين السلامة من غضب الله والضلال، وإن قلت: {الَّذِينَ} معرفة و {غَيْرِ} لا يتعرف بإضافة, فكيف تنعت المعرفة بالنكرة؟ قلت: التحقيق أنها تتعرف بالإضافة إذا وقعت بين المتضادين كما هنا, وذلك إن كان الضد له ضد واحد كما هنا، فإنه ليس في المكلفين إلا المغضوب عليهم والمنعم عليهم, وكما في قولك: الحركة غير السكون. وأما الضدان اللذان لهما أجزاء وأكثر فلا تتعرف بالوقوع بينهما نحو البياض غير السواد, فإن هناك صفرة وحمرة وغير ذلك، والتعريف في ذلك والتعريف في الآية للجنس, فإن المنعم عليه ليس شخصا واحدا وكذا المغضوب عليه كما نصت عليه الآية بصيغة الجمع, وأيضا إذا   1 سورة الفاتحة: الآية 7. 2 هكذا وردت, ولعل الصواب: أن {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ} ليستقيم الكلام بعدُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 تقرر أن المراد بـ {الَّذِينَ} الجنس جاز نعته بغير ولو قلنا: إن غير هو نكرة لجواز نعت المعرفة بأل الجنسية والموصول الجنسي بالنكرة نحو قوله: في أنيابها السم ناقع فنعت السم بناقع, ومقتضى الظاهر أن يقول: سم ناقع أو السم الناقع وبسطت الكلام على هذه في النحو وقد أجازوا في الجملة بعد ذلك أن يكون نعتا حالا"1. وفي إعراب: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} 2، قال: "لم يقع النداء في القرآن بغير يا، وهي الأصل، فما حذف منه حرف النداء مثل: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا} وآية المؤمنون3 قدر فيه يا لذكرها في غيره ولأصالتها"4. ويناقش أحيانا المفسرين في إعراب الآيات وما يراه فيها, فمن ذلك إعرابه لقوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} 5، فقال: "و {أَمْ} متصلة متعلقة بقوله: {أَتُحَاجُّونَنَا} , أو منقطعة للانتقال من التوبيخ على المحاجة إلى التوبيخ على الافتراء على الأنبياء ووجه الاتصال ذمهم بجمعهم بين المحاجة في الله والقول بأن إبراهيم ومن معه كانوا هودا أو نصارى، مع كون واحد منهما كافيا في القبح، وأبو حيان لما رأى أن الغالب في المتصلة استدعاء وقوع إحدى الجملتين والسؤال عن أحدهما وما هنا ليس كذلك، اقتصر على المنقطعة وهكذا عادته، يرى غير الغالب كأنه غير موجود فيقتصر على الغالب6. وأحيانا يستشهد لصحة الإعراب ببعض القراءات, فمن ذلك إعراب قوله   1 هميان الزاد 1 ص156 و157. 2 سورة البقرة: من الآية 21. 3 كذا وردت, ولعلها خطأ من الناسخ أو مطبعي, وصحتها كما أرى: وآية {أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} ا. هـ وهي إشارة إلى قوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور: 31] والله أعلم. 4 تيسير التفسير ص31. 5 سورة البقرة: من الآية 140. 6 تيسير التفسير ج1 ص191. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 تعالى: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} 1, فقال: " ... ومفعول {أَضَاءَ} محذوف أي: كلما أضاء لهم مومضا أو شيا شجرة "كذا" أي: نوره مشوا في مطرح نوره, فالهاء عائدة إلى البرق ويجوز عودها إلى الوضع الذي أضاء لهم المحذوف, ويجوز كونه لازما أي: كلما ظهر لهم البرق ولمع مشوا فيه، ويدل له قراءة ابن أبي عبلة: "كلما أضاء2 لهم" بترك الهمزة الأولى والهاء للبرق"3. ويعتني في تفسيره بالمسائل اللغوية والبلاغية ويوليها اهتماما بالغا وبيانا واضحا، فقال مثلا في تفسير قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} 4: "والعمى عدم البصر مما في شأنه أن يبصر فلا يقال لغير الحيوانات: أعمى ولا لما لا عين له منها فمن خلق بلا عينين لا يقال له أعمى؛ لأنه ليس من شأنه أن ينظر بلا عين وكذا من خلق بعين واحدة لا يقال لموضع عينه الأخرى أعمى، ويطلق العمى أيضا على عدم نور القلب فمن لا نور في قلبه يميز به الحق فلا فائدة في نظر عينيه لما لم يستعملوا آذانهم وألسنتهم وعيونهم فيما خلقت له من الهدى سموا بأسماء من لا سمع ولا نطق ولا بصر لهم إذ لم ينتفعوا بها، فكانت كالعدم فهم كمن إيفت حاسته -بكسر الهمزة وإسكان الياء كبيعت- أي: أصيبت بآفة، قال الشاعر: ما بال قوم صديق ثم ليس لهم ... عهد وليس لهم دين إذا أتمنوا صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا أي: إذا سمعوا خيرا ذكرت به صاروا كمن لا يسمع فلا ينطقون به ولا ينشرونه, وإن ذكرت بسوء كانت لهم آذان السمع فيعونه وينشرونه أو من أذنت للشيء إذا أصغيت إليه. وقال آخر: أصم عما ساءه سميع   1 سورة البقرة: من الآية 20. 2 كذا كتبت, ولعله أراد "ضاء" بحذف الهمزة الأولى. 3 هميان الزاد ج1 ص316. 4 سورة البقرة: الآية 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 وقال آخر: أصم عن الشيء الذي لا أريده ... وأسمع خلق الله حين أريد وعدي أصم بعن لتضمين معنى التغافل, وقال آخر: وأصممت عمرا وأعميته ... عن الجود والفخر يوم الفخار وكل من لفظ أصم وأبكم وأعمى صفة مشبهة لا اسم تفضيل، والآية من باب الاستعارة التصريحية باعتبار كل واحد من لفظ صم ولفظ بكم ولفظ عمي فتلك ثلاث استعارات، أو ذلك كله استعارة تمثيلية، وإنما قلت بأن ذلك من الاستعارة مع كون المشبه والمشبه به كليهما مجتمعين في الكلام من حيث إن المشبه به خبر للمشبه المحذوف المقدر المجعول من أجزاء الكلام فكأنه مذكور، أي: هم صم بكم عمي، أو هؤلاء صم بكم عمي؛ لأنه لا فرق عندي في الاستعارة بين عدم كون المشبه من أجزاء الكلام وكونه من أجزائه مذكورا أو مقدرا، إذا لم يقصد المتكلم التشبيه بل قصد أن المشبه هو نفس المشبه به مبالغة"1، ثم ذهب يوجه هذا القول في شيء من الاستطراد لا حاجة لنقله هنا. وهو لا يسلم دائما بما يقوله علماء اللغة، بل يناقشهم ويرد عليهم فمن ذلك ما جاء في تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} 2، فقال: "والبعوضة واحد البعوض وهو البق الصغار فيما ذكره الجوهري, وليس كذلك بل هو الحيوان الذي يطير وينتشر في الأجنة صيفا, سمي من البعض بمعنى القطع، يقال: بعضة وبضعة وعضبة أي: قطعة. قال الشاعر: لنعم البيت بيت بني دثار ... إذا ما خاف بعض القوم بعضا أي: قطعا"3.   1 هميان الزاد ج1 ص297 و298. 2 سورة البقرة: من الآية 26. 3 المرجع السابق ج1 ص384 و385. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 وأحيانا يستشهد من اللغة لأسلوب القرآن, ففي الآية السابقة مثلا يقول: "ومما قيل في الاستخفاف بالبعوض قوله: إذا كان شيء لا يساوي جميعه ... جناح بعوض عند من كنت عبده وأشغل جزء منه كلك ما الذي ... يكون على ذا الحال قدرك عنده يعني الدنيا، وقوله: لا تستخفن الفتى بعداوة ... أبدا وإن كان العدو ضئيلا إن القذى يؤذي العيون قليله ... ولربما جرح البعوض الفيلا وقوله: لا تحقرن صغيرا في عداوته ... إن البعوضة تدمي مقلة الأسد" وهو لا يتعصب لرأيه في اللغة فيستدل للرأي الآخر كما يستدل لرأيه، ففي تفسير الفوقية في قوله تعالى: {فَمَا فَوْقَهَا} من الآية السابقة، يرى أن المراد بها: "ما زاد على بعوضة في صغر الجثة كجناحها كما ضرب به المثل في الحديث, وهكذا كنت أفسر الفوقية بالغلبة في الصغر والزيادة فيه ورأيت بعد ذلك زكريا قال: إنه مذهب المحققين لمطابقته البلاغة، ولما سيق له الكلام" إلى أن قال: "وقيل: معنى ما فوقها وما زاد عليها في الكبر كالذباب والعنكبوت أي: لا يستحي أن يضرب مثلا بالبعوضة فضلا عما فوقها ويحتمل الوجهين ما روى مسلم عن إبراهيم عن الأسود أنه دخل شباب من قريش على عائشة وهي بمنى وهم يضحكون فقالت: ما يضحككم؟ فقالوا: فلان خر على طنب فسطاط فكادت عنقه أو عينه تذهب، فقالت: لا تضحكوا إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها, إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة" 1.   1 رواه مسلم، كتاب البر والصلة ج4 ص1991. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 فإنه يحتمل أن يكون المراد ما جاوز الشوكة في القلة كنخبة النمل أي: عضتها في قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفارة لخطاياه حتى نخبة النملة"، ويحتمل ما هو أشد من الشوكة وأوجع كالخرور على طنب الفسطاط"1. وقارئ هذا التفسير يعجب لسعة معارف المؤلف اللغوية, خاصة إذا عرف أن لغته الأصلية هي البربرية، فقد قال في أحد المواضع: "وذلك متبين في لغتنا البربرية"2، وقال في موضع آخر: إنا نقول: في لغتنا البربرية ... "3. اهتمامه بالقراءات وتوجيه بعضها: اعتنى المفسر في تفسيريه ببيان أوجه القراءات فيما يتناوله من الآي, مما يدل على سعة اطلاعه في هذا المجال وهو حينما يتناول هذا لا يقف موقفا سلبيا، بل تراه يوجه بعض القراءات ويستدل لها ويبين معنى الآية على تلك القراءة، قال في تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} 4: "وقرأ ابن أبي عبلة: "لأذهب بأسماعهم وأبصارهم" فالباء فيها صلة للتأكيد ومدخولها مفعول به والتعدية بالهمزة لا بها بخلافها في قراءة الجمهور، فإنها للتعدية لعدم الهمزة فيها وإنما جعلت حرف التعدية في قراءة ابن أبي عبلة هو الهمزة والصلة هي الباء؛ لأن الأصل في التعدية الهمزة لا الباء, ولأنها الكثير في التعدية والباء فيها قليلة بالشبه"5. وقال في تفسير قوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} 6: "وقرأ عبيد بن عمير: "مطّهّرة" بتشديد الطاء وكسر الهاء مشددة, والأصل: متطهرة أبدلت التاء طاء   1 هميان الزاد ج1 ص386. 2 المرجع السابق ج1 ص454. 3 المرجع السابق ج1 ص436. 4 سورة البقرة: من الآية 20. 5 هميان الزاد ج1 ص322 و323. 6 سورة البقرة: من الآية 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 فأدغمت في الطاء بعدها, قال بعض العرب: ما أحوجني إلى بيت الله فأطهر به تطهرة، وفي هذا الكلام دليل على جواز لحوق التاء للمصدر الذي على وزن التفعل ولو كان صحيح اللام إذا أريدت الوحدة مثل: تعلم تعلمة، وإن قلت: لم لم يقل: طاهرة أو متطهرة؟ قلت: لأن مطهرة أبلغ لأن معناه أن غيرهن قد طهرهن، وما هو إلا الله عز وجل. وأما طاهرة ومتطهرة فمعناهما طاهرات لا أن مطهرا طهرهن، ومتطهرة أبلغ من طاهرة؛ لأن التفعل للكسب والعلاج, فكأنهن قصدن الطهارة وبالغن فيها، وكذا قرأ به عبيد لكن أدغم1. ويستدل أحيانا لبعض الأقوال في التفسير ببعض القراءات, فمن ذلك ما جاء في تفسيره لقوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْرًا} 2. "والمراد: مصرا من الأمصار، أو القاهرة أو أعمالها، وعلى الأخيرين نون مع أنه علم القاهرة أو أعمالها؛ لأنه ثلاثي ساكن الوسط كهند، أو بتأويل البلد أو المحل، ويدل لهما قراءة عدم التنوين"3. وقال عند قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} 4: "وقرأ ابن كثير بنصب {آدَمُ} ، ورفع {كَلِمَاتٍ} ؛ لأن المتلاقيين, كل منهما لقي الآخر, فالكلمات جئن إلى آدم واستقبلنه حتى وصلنه, تقول: تلقيت المسافر وتلقاني. والتلقي استقبال من جاء من بعد واستعماله في آدم على قراءة الجمهور وفي الكلمات على قراءة ابن كثير مجاز، وما ذكرته أولى من حمل قراءة ابن كثير على القلب"5. وفي قوله تعالى: {الَّتِي وَقُودُهَا} 6 قال: "أي: ما توقد به, وأما الوقود   1 هميان الزاد ج1 ص377 و378. 2 سورة البقرة: من الآية 61. 3 تيسير التفسير ج1 ص89 و90. 4 سورة البقرة: من الآية 37. 5 هميان الزاد ج1 ص485. 6 سورة البقرة: من الآية 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 -بضم الواو- فمصدر بمعنى اشتعال النار، وقرأ به عيسى بن عمر الهمداني. أما على المصدرية مبالغة بحيث نزل قوة الاشتعال منزلة الناس والحجارة، كأن نفس الناس والحجارة هي الاشتعال، كقولك: زيد صوم إذا أكثر الصوم وقولهم: حياة السراج الزيت أي: ما يحيا إلا به، فكأنه نفس الزيت، وما تتقد النار إلا بالناس والحجارة, فكأن الاتقاد نفس الناس والحجارة. وأما على المصدرية وتقدير مضاف أي: متعلق {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} , أو محل {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} , أو وقودها احتراق الناس والحجارة, أو اشتعال الناس والحجارة بها, أما على التسمية بالمصدر بدون أن تعتبر المبالغة ولا تقدير مضاف كقولك: زيد فخر قومه وزين بلده أي: والذي يفتخر قومه به ويتزين بلده به وقيل: كل من الوقود بالفتح، والوقود بالضم يكون اسما لما تتقد به, ومصدرا بمعنى الاتقاد, قال سيبويه: سمعنا من يقول: وقدت النار وقودا عاليا، والاسم بالضم"1. ولا أدل من اهتمام المؤلف بالقراءات وتوجيهها من أنه يعقد أحيانا فصولا استطرادية, فمن ذلك مثلا الفصول التي عقدها في أحكام الياء عند القراء، فصل كل ياء بعدها همزة مفتوحة، فصل كل ياء بعدها همزة مكسورة، فصل كل ياء بعدها همزة مضمومة، فصل كل ياء بعدها ألف ولام، فصل كل ياء بعدها ألف مفردة، فصل أحكام الياء عند باقي حروف المعجم2. عنايته بالأحكام الفقهية: قلت في الحديث عن آراء الأباضية الفقهية: إنه ليس بينهم وبين أهل السنة فارق يذكر, فهم يوافقونهم في الأصول, أما في الفروع فخلافهم كالخلاف بين المذاهب الأربعة وقد يتجاوزونه فينفردون برأي دون المذاهب الأربعة. وصاحب التفسيرين سار في تفسيره لآيات الأحكام وفق مذهبه الأباضي, ولا يمنعه هذا من أن يورد آراء المذاهب الفقهية الأخرى.   1 هميان الزاد ج1 ص356 و357. 2 انظر الصفحات من 501 إلى 505؛ هميان الزاد ج1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 قال في تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} 1: "استدل المعتزلة والفخر بالآية على أن الأشياء قبل ورود الشرع على الحل إن كانت نافعة، وعليه كثير من الشافعية والحنفية ولا تحتمل الآية أن اللام للضرر، مثل: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} ولا دليل على أن المراد بالآية الإباحة على شرط نزول الوحي بها، وقيل: إنها قبل الشرع على الحظر، وقيل بالوقف، والأول أولى"2. وأفاض في تفسير قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} 3 الآية، فمما قال: "وائتوا بهما تامين بشروطهما وأركانهما ولا تكدروهما بشيء، والأمر فيهما واجبان ذاتا وتماما"4. ثم رد على من قال: إن العمرة ليست واجبة، أما الإحصار في قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} فقال: "أي: منعتم عن الإتمام بعدو أو مرض أو غيرهما كضياع نفقة"، ثم قال: "هذا مذهبنا ومذهب أبي حنيفة, ويدل له قوله صلى الله عليه وسلم: "لا إحصار إلا من مرض أو عدو أو أمر حابس" وهو عموم. قال عروة: كل شيء حبس المحرم فهو إحصار, وروي عن بعض الصحابة: من أحرم بحج أو عمرة ثم حبس عن البيت بمرض يجهده أو عدو يحبسه, فعليه ذبح ما استيسر من الهدي، وأهل عمر بن سعيد بعمرة فلسع فقال ابن مسعود: ابعثوا بالهدي واجعلوا بينكم وبينه يوم أمارة, فإذا كان ذلك فليحل, وخص مالك والشافعي الحكم بحصر العدو لقوله: {فَإِن أَمِنْتُمْ} وقول ابن عباس: لا حصر إلا حصر العدو ويعترض بالحديث المرفوع قبل هذا، وليس ضعيفا, قيل: لأنه روي من طرق مختلفة، وأن شرط الحاج محلي حيث حبست فلا هدي عليه أن حبس بعدو أو غيره لقوله صلى الله عليه وسلم لضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب: "حجي   1 سورة البقرة: من الآية 29. 2 تيسير التفسير ج1 ص46. 3 سورة البقرة: من الآية 196. 4 تيسير التفسير ج1 ص287. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 واشترطي وقولي: محلي حيث حبستني يا الله"1 والأصل أنه لا يختص هذا بها بل هو لها ولغيرها عند أحمد وأحد قولي الشافعي, والحديث حجة لنا ولأبي حنيفة أن غير العدو كالعدو في الآية, والعمرة كالحج2. ويرى أن المرض الذي يبيح الفطر في رمضان لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} 3 الآية: "مرضا يشق معه الصوم بعض مشقة أو يضره أو يتأخر معه برؤه أو يزيد به المرض, وذلك بالتجربة أو بإخبار الطبيب المسلم الحاذق لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 4 فإذا كان الصوم يعسر مع مرض حل الإفطار، لا كما قيل عن ابن سيرين أنه أفطر لوجع أصبعه ولا كما قال الشافعي: لا يفطر حتى يجهده الجهد الذي لا يحتمل, وروي عن مالك أنه يفطر صاحب الرمد الشديد أو الصداع المضر وليس به مرض يضجعه إن شاء، واحتج من أباح الإفطار بالمرض ولو لم يعسر ولم تكن فيه مشقة بإطلاق الآية وهو رواية عن الشافعي وهو قول ابن سيرين والحسن البصري، وبأن السفر قد يخلو من مشقة وحل الإفطار فيه ولو بلا مشقة لأنه سبب لهما، ويجاب بأن الرخصة لم تتعلق بنفس المرض لتنوعه إلى ما يزاد بالصوم، وإلى ما يخفف به، ولا يكون مرخصا البتة، فجعل ما يزاد به مرخصا بخلاف السفر؛ لأنه لا يعرى عن المشقة فجعل نفسه عذرا"5. أما القدر المباح عند الضرورة من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به في قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} 6 "في الأكل من ذلك بقدر ما يوصله أو يحيا به ولا يأخذ معه من ذلك، والمذهب تحريم   1 البخاري: النكاح ج6 ص123؛ مسلم: الحج ج2 ص868, وكلاهما بلفظ: "اللهم محلي حيث حبستني". 2 تيسير التفسير ج1 ص289 و290. 3 سورة البقرة: من الآية 184. 4 سورة البقرة: من الآية 185. 5 تيسير التفسير ج1 ص262. 6 سورة البقرة: من الآية 173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 الزيادة على ما يمسك الرمق وكذا روي عن أبي حنيفة والشافعي, وقال عبد الله بن الحسن البصري: يأكل قدر ما يدفع الجوع, وقال مالك: يأكل حتى يشبع ويتزود, فإذا وجد الحلال طرحه"1. وغالب آراء المؤلف الفقهية بل المذهب الأباضي موافق لمذهب أبي حنيفة -رحمه الله تعالى- لذا كثيرا ما نرى المؤلف يقول: ومذهبنا ومذهب أبي حنيفة بل قال في أحد المواضع عن أبي حنيفة -رحمه الله تعالى: "وهو كثير الوفاق بينه وبيننا, معاشر الأباضية الوهبية في المسائل"2. وقد يختلفون برأي عن الحنفية بل عن المذاهب الأربعة كلها, فشذوا مثلا بالقول بفطر من أصبح جنبا, حيث قال المؤلف في تفسير قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} 3: "حتى غاية للأكل والشرب لا لهما وللجماع لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أصبح جنبا أصبح مفطرا" 4، فيجب الكف عنه إذا لم يبق ما يتطهر فيه"5, فهو إذًا يرى أن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر إنما هو غاية للأكل والشرب   1 تيسير التفسير ج1 ص243. 2 المرجع السابق ج1 ص357. 3 سورة البقرة: من الآية 187. 4 ورد بعدة روايات عن أبي هريرة -رضي الله عنه- وقد روى البخاري في صحيحه ج2 ص132 عن عائشة وأم سلمة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم. وقال ابن حجر بعد أن ساق عدة روايات عن أبي هريرة: "فاتفقت هذه الروايات على أنه كان يفتي بذلك" وقال: "وروى ابن أبي شيبة من طريق قتادة عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة رجع عن فتياه: من أصبح جنبا فلا صوم له" وأورد ابن حجر رواية ابن جريج: "فقال أبو هريرة: هما قالتاه؟ قال: نعم قال: هما أعلم" ورواية النسائي "هي -أي عائشة- أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منا" وقول بعضهم: "إن حديث عائشة أرجح لموافقة أم سلمة لها على ذلك ورواية اثنين تقدم على رواية واحد ولا سيما وهما زوجتاه, وهما أعلم بذلك من الرجال ... إلخ". فتح الباري ج4 ص143-148. 5 تيسير التفسير: ج1 ص273. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 فقط. أما الجماع فغايته قبل هذا التبين بوقت كافٍ للغسل, وهو خلاف مذهب الأئمة الأربعة وجمهور العلماء سلفا وخلفا1. والمؤلف لا يلتزم كثيرا المذهب الأباضي في الفقه بل يخالف أحيانا بعض أصحابه, فهو يرى فيمن أفطر شهر رمضان كله لعذر أن يقضي عدد أيام شهر رمضان الذي أفطره "إن كان تسعة وعشرين قضى تسعة وعشرين فقط. ولو بدأ القضاء من أول شهر وكان فيه ثلاثون, فلا تهم فإنما عليه قضاء شهر رمضان الذي خوطب به, فإذا كان من تسعة وعشرين لم يزدد, والآية حجة لي وذكر بعض أصحابنا وشهروه وبعض قومنا أنه إن بدأ من أول الشهر أتمه زاد على رمضان أو نقص, وبعض إن نقص أتمه"2. وكذا في إفطار المريض أيلزمه تبييت النية للإفطار أم لا؟ فقال: "أما المريض فيبيت الإفطار من الليل وإن أفطر بلا تبييت وخاف على نفسه أو عضوه أفطر بقدر ما يصل به الليل، وقيل: أو بما يشاء فيبيت نية الإفطار في الليل المستقبل، وزعم بعض قومنا أن يفطر المريض بلا تبييت إفطار بخلاف المسافر لقوله تعالى: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} وليس بشيء لقوله تعالى: {لا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} فليتم المريض يومه إن قدر على إتمامه كالمسافر"3. وأحيانا يصرح بخلافه للمذهب, فمن ذلك قوله: "والمذهب أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا, والذي عندي أنه شرع لنا وأنه يقدم على الاجتهاد ما لم ينافه القرآن أو الحديث أو الإجماع بدليل راجح, ولا خلاف في أنه ليس شرعا لنا إذا صرح في ذلك بخلافه ولا يصح أن شيئا شرع لمن قبلنا إلا إن ذكر عنهم في القرآن أو الحديث أو الإجماع أو رواه ثقة أسلم منهم كعبد الله بن سلام"4.   1 انظر تفسير ابن كثير ج1 ص230. 2 تيسير التفسير ج1 ص263. 3 تيسير التفسير ج1 ص263. 4 المرجع السابق ج1 ص327. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 التزام المذهب الأباضي في العقيدة: التزم المفسر في تفسيريه المذهب الأباضي في العقيدة وهو كغيره من المفسرين أصحاب المذاهب الأخرى لا يكاد يجد آية يوافق ظاهرها مذهبه إلا جعلها دليلا عليه ولا آية تخالف مذهبه إلا أولها بما لا يكون بينها وبين مذهبه خلاف أو معارضة، ونحن حين نسوق تأويله لبعض الآيات من هذا وذاك نعني بالعرض أكثر من سواه -كما هو مسلكنا في غيره من المذاهب- فنقول: الأسماء والصفات: يرى المؤلف "أن أسماء الله توقيفية، وقيل: تقاس فيما ورد فيه لفظ الفعل أو غيره مسندا فنقول: الله تائب على عباده؛ لورود تاب عليه وتاب عليهم، وباني السماء وداحي الأرض"1. وينكر الجهة لله تعالى فيقول: "والله ينزه عن الجهات والأمكنة والتنقل"2. أما الغضب في قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} 3 فقال عنه: "والغضب هيجان النفس إرادة الانتقام، وعبارة بعضهم: تغير يحصل عند غليان دم القلب لإرادة الانتقام, وقيل: هيجان دم القلب لإرادة الانتقام وذلك كله في حق المخلوق، وإذا كان مسندا إلى الله تعالى كما هو المراد في الآية فالمقصود لازم ذلك ومسببه, وهما الانتقام وإن شئت فقل: العقاب"4. أما الاستواء في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} 5 فقال: "ومعنى استوئه تعالى إلى السماء: قصده إليها وتوجيه الإرادة إليها بأن يخلقها, يقال: استوى زيد إلى كذا كالسهم المرسل إذا قصده من غير أن يميل إلى غيره فكذا   1 تيسير التفسير ج1 ص60. 2 المرجع السابق ص60. 3 سورة الفاتحة: من الآية 7. 4 هميان الزاد ج1 ص158. 5 سورة البقرة: من الآية 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 خلق ما في الأرض وخلق بعده السموات بلا خلق شيء بين خلقهن وخلق ما في الأرض ووزن استوى: افتعل بمعنى تكلف السواء وهو أصل معناه وأطلق في اللغة على الاعتدال: تسوية وضع الأجزاء، تقول: استوى زيد على الأرض أي: جلس عليها جلوسا مستوية إليه أعضاؤه التي جلس بها معتدلا, ولا يصح حمل الآية على ذلك؛ لأنه من خواص الجسم والله -جل وعلا- ليس جسما ولا عرضا, لو كانت الآية على هذا المعنى لقال: ثم استوى في السماء أو على السماء لا {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} لكن الله -جل وعلا- لا يوصف بهذا المعنى ولو قال: في السماء أو على السماء لكان ماولا1 بالقهر والغلبة, ويجوز تأويل الآية بهما، لكن تأويلها بالقصد والإرادة أولى لأنه أقرب إلى أصل الاستواء وهو تكلف السواء ولتعديته بإلى وللتسوية المرتبة عليه بالفاء، وعن ابن عباس: {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} ارتفع إليها, وفي رواية صعد والمراد: ارتفاع أمره أو صعد أمره أو ارتفع إليها وصعد بقصد وإرادة, قال الطبري: علا أمره وقدرته وسلطانه، وقال ابن كيسان: قصد إلى السماء أي: بخلقه واختراعه؛ وذلك لأنه تعالى منزه عن الانتقال والحلول, والمراد بالسماء الجهة العليا التي فيها السموات؛ لأنه ليس فيها حين الاستواء إليها سماء ولا سموات"2. وفي تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 3 قال: "و {اسْتَوَى} بمعنى استولى بالملك والغلبة والقوة والتصرف فيه كيف شاء, و {الْعَرْشِ} جسم عظيم, وذلك مذهبنا ومذهب المعتزلة وأبي المعالي وغيره من حذاق المتكلمين وخص العرش بذكر الاستيلاء لعظمه, ويصح أن يكون المعنى استوى أمره ولم يكن فيه عوج, فكنى عن ذلك باستوى على العرش"4. أما يمين الرحمن فأولها بقوله: "ويمين الرحمن عبارة عن المنزلة الرفيعة   1 كذا وردت, ولعلها: مؤولا. 2 هميان الزاد ج1 ص406. 3 سورة الأعراف: من الآية 54. 4 هميان الزاد ج6 ص361. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 والعرب تذكر "يمين" في الأمر الحسن, ودل لذلك قوله: "كلتا يديه يمين"1, التأويل في مثل ذلك هو الحق وأما قول سلف الأشعرية في مثل ذلك: إنا نؤمن به وننزهه عن صفة الخلق ونكل معناه إلى الله نقول: هو على معنى يليق وكذا طوائف من المتكلمين فجمود وتعامٍ عن الحق"2. إنكار الرؤية: وهو ينكر إمكان رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة، بل يكفر من قال بها أو أجازها. فعد طلب قوم موسى -عليه السلام- لرؤية الله "ارتدادا منهم"3. وقد ذكر في هذا الموضع عددا من الروايات عن طلب قوم موسى رؤية الله ثم ذكر رواية أن موسى -عليه السلام- سأل ربه أن ينظر إليه بالمجاهرة ثم عقب على هذه الرواية بقوله: "وهذه الرواية تقتضي أن موسى يجيز الرؤية حتى سألها ومُنعها وليست كذلك بل إن صح سياق هذه الرواية فقد سألوه الرؤية قبل ذلك, فنهاهم عن ذلك وحرمه أو سكت انتظارا للوحي في ذلك, فلما فرغ وخرج عاودوه ذكر ذلك فقال لهم: قد سألته على لسانكم كما تحبون, لأخبركم بالجواب الذي يقمعكم لا لجواز الرؤية فتجلى للجبل بعض آياته فصار دكا فكفروا بطلب الرؤية لاستلزامها اللون والتركيب والتحيز والحدود والحلول والعجز عن الاستقلال وعما بعد عن المحل كل العجز أو بعضه والجهل به كل الجهل أو بعضه, وذلك كله يستلزم الحدوث وذلك كله محال عن الله وإذا كان ذلك مستلزما عقلا لم يختلف دنيا وأخرى فالرؤية محال دنيا وأخرى، ولا بالإيمان والكفر والنبوة وعدمها"4. والمؤلف ينكر على من علل أخذ الصاعقة لهم بسبب اشتراطهم الرؤية   1 من حديث: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل, وكلتا يديه يمين, الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا" رواه مسلم: الإمارة ج3 ص 1458؛ وأحمد ج2 ص160؛ والنسائي: آداب القضاة ج8 ص221. 2 هميان الزاد ج5 ص339. 3 تيسير التفسير ج1 ص79. 4 هميان الزاد ج2 ص42 و43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 للإيمان: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} 1 وليست الصاعقة لمجرد طلبهم الرؤية، ينكر المؤلف هذا القول، حيث يقول: "فأخذتهم الصاعقة بظلمهم, إذ سألوا رؤية الله جل وعلا الموجبة لتشبيهه بالخلق, والصاعقة نار لطيفة من السماء, وقالت الأشعرية: الصاعقة إنما هي من أجل امتناعهم من الإيمان بما وجب إيمانه2 إلا بشرط الرؤية لا من أجل طلب الرؤية وهو خلاف ظاهر الآية مع أن الرؤية توجب التحيز والجهات والتركيب والحلول واللون وغير ذلك من صفات الخلق, ويدل لما قلته قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} 3 والأشعرية لما أفحموا قالوا: بلا كيف, وحديث الرؤية إن صح فمعناه: يزدادون يقينا بحضور ما وعد الله في الآخرة, فلا تشكون في وجود الله وكمال صدقه وقدرته كما لا تشكون في البدر"4. وقال في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} 5 الآية: "والآية دليل على كفر مجيز الرؤية دنيا أو أخرى؛ وذلك لأن إجازتها ولو في القلب إجازة لتكييفه، وتكييفه ممتنع لأن فيه تشبيها، وإدراكه بالقلب تكييف لا يتصور بدونه فلا يصح قولهم: بلا كيف وتكييفه في القلب بلا تقدير أن يكيفه لغيره هو من نفس المحذور، فبطل قول طوائف من المبتدعة أن الصاعقة ليست لمجرد الطلب بل لعنادهم واشتراطهم, وإذا كان المنع للتشبيه لم يضرنا أنها نزلت لطالبها في الدنيا"6. القول بخلق القرآن: جرى المؤلف في تفسيريه على مذهبه المذهب الأباضي في القول بأن كلام الله مخلوق, فقال في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى   1 سورة البقرة: من الآية 55. 2 صحة العبارة: بما وجب الإيمان به. 3 سورة الأنعام: من الآية 103. 4 هميان الزاد: ج5 ص172 و173. 5 سورة البقرة: من الآية 55. 6 تيسير التفسير ج1 ص81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} 1 الآية: "والقائلون هم السبعون الذين اختارهم موسى من قومه الذين لم يعبدوا العجل لميقات وقت لهم من خيارهم, أمره الله أن يأتي بهم إلى طور سيناء ليعتذروا ويطلبوا العفو عن عبادة العجل فأتى بهم وأمرهم أن يتطهروا ويطهروا ثيابهم ويصوموا وقالوا له: ادع الله أن يسمعنا كلامه فأسمعهم" إلى أن قال: "سمعوا كلام الله بأن خلق صوتا في أبدانهم أو في الهواء أو حيث شاء وفي أبدانهم وأسماعهم"2. بل قال ما هو أصرح من هذا في تفسير قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 3، حيث قال: "النسخ دليل على أن القرآن حادث مخلوق، ولا نثبت الكلام النفسي فضلا عن أن يقال: التعبير من عوارض ما يتعلق به الكلام النفسي، وهي الأفعال، في الأمر والنهي، والنسب الخبرية في الخبر، وفي إثبات الكلام النفسي إثبات كون الله ظرفا ومتحيزا, وإن رجع ذلك إلى العلم لزم أن كل ما علمه قديم، والقرآن هو هذه الألفاظ لا غيرها"4. حقيقة الإيمان: أفاض الشيخ أطفيش الحديث في تفسير قوله تعالى في وصف المتقين بـ {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} 5، أفاض في الحديث عن الإيمان فكتب فيه من ص193 إلى ص210 أي: ما يقرب من ثماني عشرة صفحة ليس بوسعنا هنا نقلها بل أذكر ما يعطي صورة واضحة عن عقيدة المؤلف عن المذهب الأباضي. بعد أن عرف الإيمان لغة قال: "والإيمان في الشرع يطلق تارة على التصديق بما علم بالضرورة أنه من دين سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-   1 سورة البقرة: من الآية 55. 2 تيسير التفسير ج1 ص80. 3 سورة البقرة: من الآية 106. 4 تيسير التفسير ج1 ص151. 5 سورة البقرة: من الآية 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 كنفي الشركة عن الله سبحانه وتعالى وإثبات النبوة والرسالة والبعث والجزاء، ومعنى كون ذلك معلوما بالضرورة أنه مشهور، حتى كأنه أمر ضروري لا يحتاج إلى كسب، ثم ما لوحظ إجمالا كالملائكة والكتب والرسل، كنفي1 الإيمان به إجمالا وما لوحظ تفصيلا كجبريل وموسى والإنجيل اشترط الإيمان به تفصيلا حتي إن من لم يصدق بمعين من ذلك فهو مشرك، كذا ذكر بعض الشافعية وهو حق كما نقول معشر الأباضية الوهبية، إلا أن جمهورنا يوجب معرفة جبريل وآدم، ولا يمهل المكلف إلى ورود معرفتهما عليه، كما لا نمهله نحن ولا قومنا في معرفة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- والقرآن، ولا يشرك الإنسان بإنكار نبي لم يتواتر". وتارة يطلق على مجموع الاعتقاد والإقرار أو العمل2 بمقتضى ذلك، فمن أخل بالاعتقاد وحده أو به وبالعمل فهو مشرك من حيث الإنكار, منافق أيضا من حيث إنه أظهر ما ليس في قلبه, ومن أخذ3 بالإقرار وحده أو بالإقرار والعمل فهو مشرك عند جمهورنا وجمهور قومنا, وقال القليل: إنه إذا أخل بالإقرار وحده فمسلم عند الله من أهل الجنة, وإن أخل به وبالعمل ففاسق كافر كفر نعمة، ونريد باسم آخر له وهو لفظ منافق وإن أخل بالعمل فقط فمنافق عندنا فاسق ضال كافر كفرا دون شرك، غير مؤمن الإيمان التام، وقالت المعتزلة: خارج عن الإيمان غير داخل في اسم الكفر, سواء كفر الشرك وما دونه، وروى الإيمان: إقرار باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان، وقيل: هو من كلام بعض السلف واختلفوا -الخوارج- وهم الذين خرجوا عن ضلالة علي4، فقالت الأباضية الوهبية وسائر الأباضية فيمن أخلَّ بواحد من الثلاثة ما تقدم: من إشراكه بترك   1 هكذا وردت, وصحة العبارة: "اشترط الإيمان به إجمالا" وبه يستقيم المعنى. 2 هكذا وجدتها بالطبعتين, وصحة العبارة لها: "والإقرار والعمل" بدون أو، كما يدل سياق الكلام. 3 هكذا وجدتها بالطبعتين أيضا, وصحتها: "ومن أخل" باللام لا بالذال، كما يدل سياق الكلام. 4 يقصد علي بن أبي طالب, كرم الله وجهه ورضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 الاعتقاد أو بترك الإقرار، وينافق بترك العمل، ويثبتون الصغيرة, وقال الباقون كذلك وأنه لا صغيرة، ومذهب المحدثين أن انضمام العمل والإقرار إلى الاعتقاد على التكميل لا على أنه ركن, ونحن نقول: انضمامها إليه ركن وهما جزء ماهيته، وقيل: شرط خارج عن الماهية لا ينتفع به بدونهما، وإن ماهيته هي التصديق بالقلب فقط وأما الإقرار فلإشهار دين الله -تبارك وتعالى- وتعظيمه والدعاء إليه، ونفي أحكام المشركين عن نفسه، وأما العمل فلوجوب الصدق، فمن لم يعمل فقد كذب اعتقاد وإقراره إن أقر وخرج عن عبادته من أقر له واعترف واعتقد أنه عبده، وعلى كلا القولين من أن الإقرار والعمل شرطان، أو شطران لماهية الإيمان يكفي إقراره وعمله في خلوة عن حضور أحد، وزعمت الكرامية الإيمان هو التلفظ بالشهادتين سواء طابقه الاعتقاد أم لا، فإن طابقه نجا ولو لم يعمل, وإلا فهو مخلد في النار من غير أن يسموه مشركا، فعندهم التلفظ ينفي اسم الشرك باطنا كما ينفيه ظاهرا، ولا ينفي حكمه وهو الجزاء بالنار إن لم يطابقه الاعتقاد، ويبطل قولهم ما وردت به لغة العرب والقرآن والسنة أن الإيمان تصديق بالقلب وإذعانه، وقال أبو حنيفة وبعض الأشاعرة: الإيمان تصديق بالجنان وإقرار باللسان؛ لأن التصديق لما اعتبر بكل من اللسان والجنان كان كل منهما جزءا من ماهية الإيمان، ولكن تصديق القلب ركن لا يحتمل السقوط، وتصديق اللسان يسقط لنحو خرس أو إكراه وهو موافق لما نقوله معشر الأباضية الوهبية غير أنا نقول: "إن العمل جزء من ماهية الإيمان, لكن لا يخفى أنه جزء من ماهية الإيمان التام لا من مطلق الإيمان، بدليل أنه لا نحكم بالشرك على من ترك العمل، قال1: الإيمان باقٍ فيمن ترك العمل، ولكنه لا ينفيه فمطلق الإيمان تركت ماهيته عندنا بالاعتقاد والإقرار فقط, ورجح بأن الله جل وعلا ذم المعاند أكثر من الجاهل المقصر, ويجاب بأن الذم للإنكار والعناد لا لمجرد عدم الإقرار"2.   1 صحة العبارة: فإن الإيمان. 2 هميان الزاد؛ ج1 ص194-196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 ثم بعد هذا كله ذكر الشيخ محمد أطفيش الرأي الذي يميل إليه بين هذه الآراء فقال: "وقيل, أي الإيمان: الاعتقاد فقط، وأما الإقرار فلما مر من إشهار الدين والدعاء إليه ونفي أحكام الشرك ونحو ذلك، وللعبادة والثواب والتوكيد ويدل له إضافة الإيمان إلى القلب مثل: {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَان} 1، ولم يؤمن قلبه: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} 2، وعطف العمل الصالح عليه في مواضع لا تحصى، ونطق اللسان من العمل الصالح، وقرنه بالمعاصي كالاقتتال والقتل والظلم في نحو: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} 3، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} 4، {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} 5، مع ما في ذلك من قلة التغير عن معناه اللغوي، ومن قربه إليه ويدل لذلك تعديه بالباء يتبادر منه التصديق, ويدل له أنا إذا رأينا من أحد إمارة المؤمنين حكمنا بإيمانه وأزلنا عنه حكم الشرك, وكذا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعلم أن الإيمان في القلب، وأنه بأية علامة كشف عنه حكمنا به، سواء كشف عنه اللسان أو غير اللسان، ولست في ذلك قاصدا لمخالفة أصحابنا -رحمهم الله- ولكن ذكرت ما أدى إليه اجتهادي"6. وهو بما أدى به إليه اجتهاده من القول بأن الإيمان هو الاعتقاد, قد خالف جمهور الأباضية حيث يقول: "غير أن جمهورنا كما علمت إلا قليلا جدا وجمهور قومنا أيضا يقولون: لا إيمان بلا إقرار"6. وقد وهم الشيخ محمد حسين الذهبي -رحمه الله تعالى- فقد اعتقد أن المؤلف سار على رأي الأباضية في هذا, فقال في وصفه: "إنه يحاول محاولة جدية   1 سورة النحل: من الآية 106. 2 سورة الحجرات: من الآية 14. 3 سورة الحجرات: من الآية 9. 4 سورة البقرة: من الآية 178. 5 سورة الأنعام: من الآية 82. 6 هميان الزاد: ج1 ص196 و197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 في تحقيق أن العمل جزء من الإيمان، ولا يتحقق الإيمان بدونه"1 مع أن الذهبي نفسه نقل نصا للمؤلف خلاف هذا. ففي تفسير قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} 2 أكد المؤلف على قيمة العمل مع الإيمان, لكنه لم يجعله جزءا منه أو لا يتحقق الإيمان بدونه، بل صرح بأن عطف العمل الصالح على الإيمان يدل على المغايرة بين المتعاطفين ولنسق كلام المؤلف بنصه: " {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} ترى الإنسان يقيد كلامه مرة واحدة بقيد, فيحمل سائر كلامه المطلق على هذا القيد، فكيف يسوغ لقومنا أن يلغوا تقييد الله عز وجل الإيمان بالعمل الصالح مع أنه لا يكاد يذكر الفعل من الإيمان إلا مقرونا بالعمل الصالح, بل الإيمان نفسه مفروض لعبادة من يجب الإيمان به وهو الله تعالى، إذ لا يخدم الإنسان مثلا سلطانا لا يعتقد بوجوده وبثبوت سلطنته, فالعمل الصالح كالبناء النافع المظلل المانع للحر والبرد والمضرات, والإيمان أس فلا ينفع الأس بلا بناء عليه ولو بنى الإنسان ألوفا من الأسوس ولم يبن عليها؛ لهلك باللصوص والحر والبرد وغير ذلك, فإذا ذكر الإيمان مفردا قيد بالعمل الصالح وإذا ذكر العمل الصالح فما هو إلا فرع الإيمان، إذ لا تعمل لمن لا تقر بوجوده, وفي عطف الأعمال الصالحات على الإيمان دليل على أن كلا منهما غير الآخر؛ لأن الأصل في العطف المغايرة بين المتعاطفين, ففي عطف الأعمال الصالحات على الإيمان إيذان بأن البشارة بالجنات إنما يستحقها من جمع بين الأعمال الصالحات والإيمان، لكن الأعمال الصالحات تشمل الفرض والنفل والمشروط الفرض وأما النفل فزيادة خير"3. وبهذا يتبين أن الإيمان عند المؤلف هو الاعتقاد فقط, أما الأعمال الصالحات والإيمان فكل منهما غير الآخر ولكن الجمع بينهما شرط لاستحقاق البشارة بالجنات.   1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص322. 2 سورة البقرة: من الآية 25. 3 هميان الزاد: ج1 ص361 و362. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 حكم مرتكب الكبيرة: سار الشيخ أطفيش في هذا على مذهبه مذهب الأباضية الوهبية, وهم كما سبق القول يطلقون على الموحد العاصي كلمة كافر, ويعنون بها كافر النعمة ويجرون عليه أحكام الموحدين، ويقسمون الكفر إلى قسمين: كفر نعمة ونفاق وهو هذا الذي نتحدث عنه، وكفر شرك وجحود وهو المخرج من الملة الإسلامية. وقد قارن الشيخ أطفيش في تفسير قوله تعالى: {وَيُؤْمِنُونَ بالغيب} 1، بين آراء المذاهب فقال: "ثم إنه لا يخفى أن الحق معنا في قولنا: إن مرتكب الكبيرة كافر كفر نفاق وهو كفر نعمة, موحد, إيمانه ناقص، لا كما زعمت المرجئة أنه مؤمن كامل الإيمان ولا كما زعمت المعتزلة أنه لا كافر ولا مؤمن, فإن أرادوا: لا مؤمن إيمانا كاملا ولا كافر كفر شرك فقد صدقوا, وإن أرادوا نفي اسم الكفر عنه مطلقا كذبتهم آثار وأحاديث جمعتها في بعض ما منَّ الله به عليَّ من التأليف ... ولا كما قالت المالكية والشافعية والحنابلة والحنفية: إنه لا يسمى باسم كافر أصلا، ووافقنا محققوهم على أنه يسمى به على معنى كفر النعمة، ولا كما زعمت الصفرية من أنه مشرك، ولا كما زعم بعض الصفرية أنه مشرك بالمعصية مطلقا ولو لم تكن كبيرة"2. ويظهر لي والله أعلم أن الخلاف في هذه الجزئية لفظي؛ ذلكم أن أهل السنة يصفون مرتكب الكبيرة بأنه مؤمن ناقص الإيمان, أما الأباضية -والشيخ أطفيش من أئمتهم- فيعتقد أنه يجوز نفي الإيمان عن ناقص الإيمان باعتبار الكمال, فهؤلاء سموه ناقص الإيمان ووقفوا وهؤلاء قالوا: إنه غير مؤمن بل كافر كفر نعمة لا كفر شرك, لا يخرج من الملة ولا يحكم عليه بأحكام المرتدين ويعامل معاملة الموحدين، وهذا كلام الشيخ أطفيش في تفسير إحدى الآيات حيث يقول: "إنه يجوز نفي الإيمان عن ناقص الإيمان باعتبار الكمال كما في قوله صلى   1 سورة البقرة: من الآية 3. 2 هميان الزاد: ج1 ص204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 تائب يرجى له أنه إن شاء الله عذبه بقدر ذنبه وأدخله النار, وإن شاء غفر له، ومذهبنا أن من مات على كبيرة غير تائب لا يرجى له"1. أما إذا صدمته بالآية التي تنص على مغفرة الله لمن يشاء وتعذيبه لمن يشاء في قوله سبحانه: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} قال: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} الغفران له: أن يوفقه للتوبة {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} تعذيبه بأن لا يوفقه. وليس من الحكمة أن يعذب المطيع الموفي وليس منها أن يرحم العاصي المصر وقد انتفى الله من أن يكون ظالما وعد من الظلم النقص من حسنات المحسن والزيادة في سيئات المسيء وليس من الجائز عليه ذلك خلافا للأشعرية في قوله2: يجوز أن يدخل الجنة جميع المشركين والنار جميع الأبرار, وقد أخطئوا في ذلك لا يجوز ذلك ولو شخص واحد"3. هذا هو الخلاف الأول نحو مرتكب الكبيرة, فأهل السنة كما ذكرنا قالوا: إنه تحت المشيئة والأباضية قالوا: لا يغفر له إلا بالتوبة، أما الخلاف الثاني ففي خلوده في النار بعد دخوله. خلود مرتكب الكبيرة في النار: أما أهل السنة فيعتقدون أن أصحاب الكبائر في النار لا يخلدون, هذا إن أدخلهم الله إياها ولم يغفر لهم قبل الدخول، أما الأباضية فيعتقدون خلود أصحاب الكبائر في النار لا يفنون ولا تفنى، ففي تفسير قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 4، قال: "لا يخرجون منها: المشركون والفاسقون والأصل في الخلود الدوام، وحمله على المكث الطويل إنما يصح لدليل ولا خلاف في دوام المشرك في النار, ومعنى إحاطة الخطيئة به أنها أهلكته إذ لم يتخلص منها بالتوبة, وليس المراد أنها به بمعنى   1 هميان الزاد: ج12 ص73. 2 كذا بالإفراد, والضمير يرجع للأشعرية. 3 هميان الزاد: ج4 ص240 و241. 4 سورة البقرة: الآية 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 أنها في قلبه وجوارحه, فلا دليل في الآية على أن الخلود إنما هو لمن عمَّت1 قلبه بالشرك؛ لأنه إذا صرنا إلى معنى تعميم البدن بالمعصية, ورد علينا أن من جسد الكافر ما لم تصدر منه معصية مثل عنقه وأعلى صدره إذا لم تصدر منهما"2. وفسر الخلود بالدوام في قوله تعالى: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 3، حيث قال: "دائمون, وخلود أهل النار فيها وأهل الجنة فيها دوام"4. وقال في تفسير قوله تعالى عن آكلي الربا: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 5: وأصحاب الكبائر من أهل التوحيد مخلدون. أما الخلاف الثالث في حق مرتكب الكبيرة بين أهل السنة والأباضية, ففي الشفاعة لأصحاب الكبائر إذ ينكرها الأباضية إلا للموحدين, لا لأصحاب الكبائر ولا للمشركين. الشفاعة: أما أهل السنة, فيعتقدون شفاعته -صلى الله عليه وسلم- لأهل الكبائر من أمته ويشاركه فيها الملائكة والنبيون والمؤمنون أيضا6، أما الأباضية فقال الشيخ أطفيش في تفسير قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} 7: والآية دليل لنا وللمعتزلة على أن لا شفاعة لأهل الكبائر؛ لأن الآية ولو كانت في المشركين لكنها في صفة يوم من شأنه أنه لا شفاعة فيه بدفع العذاب عن مستحقه, ولا مقام أو زمان من مقامات الموقف وأزمنته نص   1 أي: الخطيئة. 2 تيسير التفسير: ج1 ص113 و114. 3 سورة البقرة: من الآية 81. 4 تيسير التفسير: ج1 ص114. 5 سورة البقرة: من الآية 275. 6 انظر شرح الطحاوية ص258. 7 سورة البقرة: من الآية 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 فيهما على ثبوتها للفساق1, ولا الشخص المصر2. وقال في تفسير قوله تعالى: {وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَة} 3، قال: "وذلك مخصوص بالمشرك, فإنه لا شفاعة له هنالك إلا شفاعة القيام لدخول النار, ولا نفع له في دخول النار وإنما الشفاعة للموحد التائب"4. وفي تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} 5، قال: "فالآية نص أو كالنص في أن لا شفاعة لأهل الكبائر, أي: أنت بريء منهم على كل وجه"6. إذن: فخلاصة رأي الشيخ أطفيش في تفسيريه بل مذهبه الأباضي أن مرتكب الكبيرة كافر كفر نعمة، لا يغفر الله له إن لم يتب، خالد في النار لا تفنى ولا يفنى، ولا يشفع له فيخرج منها أو يخفف عنه، والله أرحم مما قالوا. خلق أفعال العباد: يعتقد المؤلف أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق لأفعال العباد, وأن وقوع المعاصي بإرادته ومشيئته مع اختيار العاصي جاء ذلك في تفسيره لقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} 7، حيث قال: "ولو شاء الله عدم إشراكهم بالله تعالى ما أشركوا به تعالى شيئا, فالآية دليل على أن إشراكهم بإرادة الله ومشيئته، وفيه رد على المعتزلة في قولهم: لم يرد معصية العاصي ... وزعموا أن المعنى لو شاء الله لأكرههم على عدم الإشراك، ولزم   1 بل ثبت بالتواتر عند أهل السنة ثبوت الشفاعة لأهل الكبائر. انظر شرح الطحاوية ص258. 2 تيسير التفسير: ج1 ص71. 3 سورة البقرة: من الآية 123. 4 هميان الزاد: ج2 ص299. 5 سورة الأنعام: من الآية 159. 6 هميان الزاد: ج6 ص274. 7 سورة الأنعام: من الآية 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 عليهم أن يكون مغلوبا على أمره إذا عصى ولم يرد المعصية، بل أراد الإيمان منهم ولم يقع -تعالى الله عن ذلك- والحق أن المعصية بإرادته ومشيئته مع اختيار العاصي، لا جبر، للذم عليها والعقاب والنهي عنها"1. وكذا عند تفسيره لقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 2، قال: "من إيمان وكفر وخير وشر, مما هو كائن دنيا وأخرى"3. أما الإرادة في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} 4، فقال: " {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} في دينه أي: بشرعه، وهو مراد أبي حيان إذ فسر الإرادة بالطلب, قال ذلك خروجا عن تبديل الإرادة فإن إرادة الله لا تتبدل وذلك منه خروج عن مذهب الاعتزال, إذ زعمت المعتزلة أن إرادته تعالى قد يخالفها العبد وتبطل"5. موقفه من الصحابة، رضوان الله عليهم: هم يوالون أبا بكر الصديق وعمر الفاروق -رضي الله عنهما- ويذمون عثمان وعليا -رضي الله عنهما- وهذا أطفيش يقول في تفسير قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} 6، فقال: "قال المخالفون عن الضحاك: إن {الَّذِينَ آمَنُوا} هم عمر وأبو بكر وعثمان وعلي, وإن استخلافهم إمامتهم العظمى وسيأتي -وقد مر أيضا- ما يدل على بطلان دخول عثمان وعلي في ذلك"7. وقال أيضا: "وفي أيام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي بعدهم كانت الفتوح العظيمة, وتمكن الدين لأهله, لكن لا دليل في ذلك على إصابة عثمان وعلي فإنهما   1 هميان الزاد: ج6 ص68. 2 سورة الزمر: من الآية 62. 3 هميان الزاد: ج12 ص77. 4 سورة البقرة: من الآية 185. 5 تيسير التفسير: ج1 ص267. 6 سورة النور: من الآية 55. 7 هميان الزاد: ج10 ص280. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 -ولو كانت خلافتهما حقا برضى الصحابة- لكن ما ماتا إلا وقد بدلا وغيرا فسحقا"1 "!! ". أما ما قاله في عثمان -رضي الله عنه- وحده, فمنه ما قاله في تفسير قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} ، من الآية السابقة حيث قال: "وأقول والله أعلم بغيبه: إن أول من كفر تلك النعمة وجحد حقها عثمان بن عفان"2، ثم ذهب يذكر من مثالبه ما هو منه بريء أو لا يصل به -رضي الله عنه- إلى حد الجرأة على ذمه وقدحه. وكعادته في تأويل ما يخالف مذهبه من الآي أو الحديث, ذهب يؤول تأويلا باطلا ما ورد من الحديث في فضل عثمان -رضي الله عنه- من مثل ما قاله فيه صلى الله عليه وسلم بعد أن جهز عثمان جيش العسرة, فقال عليه الصلاة والسلام: "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم" فقال في تأويل ذلك مشككا في صحة الحديث: "فإن صح هذا, فذلك أيضا دعاء"3. وقال في الحديث الآخر في ذلك أيضا: "لا يضر عثمان ما عمل بعدها", قال: "فإن صح ذلك فمعنى ذلك الدعاء له بالخير, لا القطع بأنه من أهل الجنة"3. ولن نذهب نذكر درجة هذين الحديثين ومدى دلالتهما في البشارة لعثمان -رضي الله عنه- بالجنة ولكن نذكر حديثا رواه البخاري في صحيحه, قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يحفر بئر رومة فله الجنة" فحفرها عثمان، وقال: "من جهز جيش العسرة فله الجنة" فجهزه عثمان4. ولا ننسى الحديث الآخر الذي رواه البخاري أيضا في صحيحه عن   1 المرجع السابق ج10 ص281. 2 هميان الزاد: ج10 ص282. 3 المرجع السابق ج7 ص313. 4 رواه البخاري, كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, باب مناقب عثمان رضي الله عنه ج4 ص202. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 النبي -صلى الله عليه وسلم- حين صعد أحدا فرجف, فقال عليه الصلاة والسلام: "اسكن أحد, فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان" 1. هذا من ناحية عثمان -رضي الله عنه- أما ما قال في علي -رضي الله عنه- فمنه ما قد مر بنا من وصفه للخوارج بأنهم: "الذين خرجوا عن ضلالة علي"2، وقال في موضع آخر معرضا بعلي, رضي الله عنه: "وأيضا الباغي من يرى التحكيم فيما كان لله فيه حكم، والسافك دماء من لم يتبعه على هذه الزلة"3. وعند استدلال علي -رضي الله عنه- بحديث سمعه من الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم, ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ... " إلخ الحديث. علق الشيخ أطفيش على هذا الاستدلال قائلا: "فترى علي بن أبي طالب وهو خصم يتأول الحديث فيمن خاصموه, أعني غلبوه في الخصومة فخصموه, والحمد لله رب العالمين وهو مدع ويأتيك ما يبطل هذه الدعوى, ولا يخفي بطلانها"4. وقال في بعض الأحاديث في فضل آل محمد: "وذلك كله صحيح الرواية, لكن المراد بآله: آله الذين لم يبدلوا, فخرج علي ونحوه ممن بدل فإنه قتل من قال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل قاتله الجنة" 5. وهكذا بعد عثمان وعلي -رضي الله عنهما- سلك الأباضية في بقية الصحابة, فجعلوا القياس من بعدهما التحكيم, فمن رضي بالتحكيم فهو مبطل وذموه، وصرح بهذا الشيخ أطفيش في تأويله لقوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} 6.   1 المرجع السابق: ج4 ص204. 2 هميان الزاد: ج1 ص195. 3 المرجع السابق: ج9 ص183 و184. 4 المرجع السابق: ج4 ص185. 5 هميان الزاد: ج12 ص227. 6 سورة آل عمران: من الآية 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 فقال: "إن الراضين بالتحكيم هم المبطلون"1. إشادته بمذهبه: كثيرا ما يشيد الشيخ أطفيش بمذهبه الأباضي الوهبي ويحسنه ويرجح أدلته ويصفه بالحق وأهله أهل الحق, وها هو في تفسير قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْت َ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} 2 يقول: "واعلم يا أخي -رحمك الله- أني استقريت المذاهب المعتبرة كمذهبنا معشر الأباضية ومذهب المالكية ومذهب الشافعية ومذهب الحنفية ومذهب الحنبلية بالمنقول والمفعول3, ولم أر مستقيما منها في علم التوحيد والصفات سوى مذهبنا؛ فإنه مستقيم خالٍ عن التشبيه والتعطيل, حججه لا تقاومها حجة ولا تثبت لها, والحمد لله وحده"4. ومن قام بالقرآن والسنة فهو الجماعة والسواد الأعظم وأهل السنة ولو كان واحدا ومن خالفهما فهو مبتدع ضال. ولذا فهو يرى أن الأباضية هم الجماعة والسواد الأعظم وهم أهل السنة أيضا، وها هو يقول في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ... } الآية5, فقال: والآية مانعة لمن قدر على الاجتهاد من التقليد ومانعة لمن قدر على النظر والترجيح أن يقلد قولا من الأقوال ويترك نظره وترجيح ما يظهر ترجيحه له واتباع القرآن والسنة ليس تقليدا, واعلم أن الحق هو القرآن والسنة وما لم يخالفها من الآثار, فمن قام بذلك فهو الجماعة والسواد الأعظم ولو كان واحدا؛ لأنه نائب النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة والتابعين الذين اهتدوا وكل مهتد، ومن خالف ذلك فهو مبتدع ضال ولو كان جمهورا, هذا ما يظهر لي بالاجتهاد وكنت أقرره للتلاميذ عام تسعة وسبعين ومائتين وألف, فأصحابنا الأباضية الوهبية هم   1 هميان الزاد: ج4 ص186. 2 سورة هود: من الآية 112. 3 هكذا وردت, وصحة العبارة: والمعقول. 4 هميان الزاد: ج8 ص212 و213. 5 سورة البقرة: من الآية 170. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 الجماعة والسواد الأعظم وهم أهل السنة, ولو كانوا أقل الناس؛ لأنهم المصيبون في أمر التوحيد وعلم الكلام والولاية والبراءة والأصول دون غيرهم, وأما الفروع فقولهم فيها أصح لأدلته, لكن قد يشاركهم غيرهم في الصحة فيما خالفهم, ثم اطلعت بعد ذلك بنحو عامين على ما ذكرته ووجدته نصا للثوري, قال الشعراني: كان سفيان الثوري يقول: المراد بالسواد الأعظم هم من كان من أهل السنة والجماعة ولو كان واحدا, والحمد لله والشاهد في قوله: ولو كان واحدا مع حقيقة قوله: أهل السنة والجماعة الصادقة على أصحابنا ولو أراد هو أهل المذاهب الأربعة وهم أهل أهواء"1!! موقفه من المذاهب الأخرى: جرى المؤلف على إطلاق لقب "أصحابنا" ويريد به أتباع المذهب الأباضي. أما أهل السنة والجماعة فيسميهم"القوم" أو "قومنا" ويطلق عليهم غالبا التقسيم الفقهي: "الحنفية والشافعية والمالكية والحنبلية" فيقول مثلا وهو يبحث في العقيدة لا الفقه: "لا كما قالت المالكية والشافعية والحنابلة والحنفية"2. يقول هذا تهربا من إطلاق وصف أهل السنة، أما إذا أراد أن يذكر هذا اللقب فإنه يقول: "ووافقنا على ذلك محققو المتسمين بأهل السنة"3؛ لأن أهل السنة عنده -كما مر آنفا- هم الأباضية. وهو مع هذا يخصهم بمزية من بين المذاهب الأخرى, فهو يقدم أقوال أهل السنة بقوله: "قالوا" أو "وقال" أما بقية المذاهب الأخرى فيقدم أقوالهم بالزعم فيقول: وزعمت المرجئة، وزعمت المعتزلة وزعمت الشيعة وزعمت الصفرية ونحو ذلك4, وهو أحيانا يتجاوز هذا كله ويتعصب ضدهم بشدة ويصف أهل المذاهب الأربعة بأنهم أهل أهواء5 ولكن هذا في تفسيريه قليل.   1 هميان الزاد: ج2 ص445 و456. 2 هميان الزاد: ج1 ص204. 3 المرجع السابق: ج1 ص202. 4 انظر مثلا هميان الزاد: ج1 ص204؛ وج5 ص376. 5 هميان الزاد: ج2 ص456. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 المعتزلة: وتأثر الشيخ أطفيش, بل المذهب الأباضي بالمعتزلة واضح بين في بعض العقائد، بل حرص المؤلف على النص في مقدمته القصيرة لتفسيره: "هميان الزاد" حرص على أن ينص على أنه "يوافق نظر جار الله والقاضي وهو الغالب والحمد لله, وتارة يخالفهما ويوافق وجها أحسن مما أثبتاه أو مثله"1. لذا فقد وافق المعتزلة مثلا في أنه "لو لم يبعث الله رسلا ولا كتبا لوجب الإيمان من العقل كما قال: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُون} لما نصب من الأدلة في أنفسهم وفي غيرهم وإنما الرسل والكتب لتفصيل الأحكام والشريعة, هذا تحقيق المقام ولو اشتهر في المذهب أن حجة الله الكتب والرسل"2. ووافقهم أيضا في صفات الله تعالى وفي إنكار الرؤية وفي القول بخلق القرآن وفي خلود أهل الكبائر في النار وإنكار الشفاعة لأهل الكبائر وفي التهجم على بعض الصحابة -رضي الله عنهم- وفي غير ذلك. وهو مع هذا يخالفهم في بعض الأمور مثل أن مرتكب الكبيرة كافر كفر نعمة لا كما قالت المعتزلة لا كافر ولا مؤمن، بل منزلة بين المنزلتين, ويخالفهم أيضا في نحو أن العبد يخلق فعله فهو يرى -كما مر- أن الله هو خالق الأفعال من غير إنكار اختيار العبد, وغير ذلك. الصفرية: وهي إحدى فرق الخوارج, فإن المؤلف كثيرا ما يرد أقوال هذه الفرقة ويصفها بالزعم ويخصها بالأحاديث الواردة عن الخوارج, ومن ذلك أنه أورد الحديث الذي رواه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- "أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن ليس   1 هميان الزاد: ج1 ص5. 2 هميان الزاد: ج1 ص490. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 قراءتكم إلى قراءتهم, ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء" 1. فيعلق أطفيش على هذا الحديث بقوله: "فلعل الحديث فيمن رضي بالتحكيم بعد زمان علي من المخالفين الفائقين في العبادة المصوبين للتحكيم الذي أخذوا به وفي الصفرية ونحوهم"2. ثم أضاف حديثا آخر خصهم به فقال: "ومن ذلك ما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول وأهوى بيده إلى العراق: "يخرج منه قوم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم, يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية" 3 هذا نفس الحديث فأخطأ سهل بن حنيف في تأويله هذا الحديث بمن لم يرض الحكومة وإنما هو في الصفرية4, وهو كثيرا ما يرد أقوالهم وينكر عليهم ويذمهم5. الصوفية: أما التصوف والصوفية وتفسيرها, فقد أنحى عليهم باللائمة وذمهم ولم يعذرهم, وأعلن أنه لا يقبل شهادتهم ويتقرب إلى الله ببغضهم والبراءة منهم, وأن تفاسيرهم لم يأذن الشرع بها، بل يضعف الأقوال بمقدار قربها من تفسير الصوفية, ولعلي أكتفي بعد هذه المقدمة بسوق النصوص. قال في تفسير قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون} 6: "وقيل: المعنى: ومما خصصناهم به من أنوار معرفة الله جل وعلا يفيضون, وهذا القول الذي قبله7 أظنهما للصوفية أو لمن يتصوف وليس تفسير الصوفية عندي مقبولا إذا خالف الظاهر وكان تكلفا أو خالف أسلوب العربية, ولا أعذر من يفسر به ولا أقبل شهادته وأتقرب إلى الله تعالى ببغضه والبراءة منه، فإنه لو كان في نفسه   1 رواه مسلم, كتاب الزكاة, باب 48 ج2 ص748. 2 هميان الزاد: ج4 ص185. 3 صحيح البخاري, كتاب الاستتابة ج8 ص53. 4 هميان الزاد: ج4 ص185. 5 انظر مثلا: هميان الزاد ج1 ص204؛ وتيسير التفسير ج1 ص253. 6 سورة البقرة: من الآية 3. 7 هكذا وردت في الطبعتين, ولعله بالعطف أي: والذي قبله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 حقا, لكن جعله معنى للآية أو للحديث خطأ؛ لأنه خروج عن الظاهر وأساليب العرب الذين يتخاطبون بها, وتكلف من التكلف الذي يبغضه الله"1. وفي تفسير قوله تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} 2، أنكر تفسيرها بـ"أن هذا3 رزقناه في الجنة هو الذي يرزقنا الله في الدنيا من المعارف والطاعات أي: جزاؤها, فهو يتفاوت بتفاوتها في اللذة ووجه الشبه والشرف والمزية وعلو الطبقة" أنكر هذا التفسير وقال: "وتفسيرها بهذا قريب من تفاسير الصوفية وبمقدار قربها منها يضعف؛ لأن تفاسيرهم لم يأذن الشرع بها, وبها خرجوا عنه إذا اعتقدوا أنها معانٍ نزل القرآن على إرادتها, أعاذنا الله -جل وعلا- والله أعلم"4. وفي تفسير قوله تعالى: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيه} 5 قال: "وقيل: المعنى أخرجهما من رفعة المنزل إلى سفالة الذنب, وهذا ضعيف قريب من تفسير الصوفية لا يتبادر من اللغة العربية ولا يرد فيها"6. حكم اتباع هذه المذاهب: رد الشيخ أطفيش حديث علي -رضي الله عنه- السابق عن الخوارج أنهم "يقرءون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء" رد تأويله بأنهم الذين خرجوا على علي -رضي الله عنه- لأن عباد أهل السنة وقراءهم أكثر عبادة وقراءة فقال: "فإن عباد قومنا -يعني أهل السنة- فيما نرى من اجتهادهم في كتب القوم أكثر عبادة وقراءة وهم المعروفون بذلك أكثر وليس نافع لهم مع بغضهم المسلمين واعتقادهم   1 هميان الزاد: ج1 ص216. 2 سورة البقرة: من الآية 25. 3 هكذا وردت ولعلها: أن هذا الذي ... 4 هميان الزاد: ج1 ص372. 5 سورة البقرة: من الآية 36. 6 هميان الزاد: ج1 ص472. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 الرؤية وغيرها مما يقدح في توحيدهم وإسلامهم"1. هذا رأيه في أهل السنة الذين يصفهم بقومنا، ويعد مذهبهم من المذاهب المعتبرة2، ورأيه في غيرهم من المذاهب الأخرى أشد، وهؤلاء وأولئك أصحاب كبائر لأنهم اقترفوا ما يقدح في توحيدهم وإسلامهم مع بغضهم للمسلمين واعتقادهم بالرؤية, فما موقفه من أصحاب هذه المذاهب أو أصحاب الكبائر؟ خلاصة رأيه أن حكمهم "حكم المؤمن في أنه يناكح ويوارث ويغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين، وهو كالمشرك في الذم واللعن والبراءة منه واعتقاد عداوته وألا تقبل له شهادة"3.   1 المرجع السابق: ج4 ص185. 2 هميان الزاد: ج8 ص313. 3 المرجع السابق: ج1 ص394. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 منهجه في التفسير : الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"، أي: لا يزني وهو مؤمن إيمانا كاملا بل ناقصا، فحينئذ يقال له: آمن ولا يقال: مؤمن كما نفى عنه في الحديث اسم مؤمن؛ لأنه يوهم كمال إيمانه إلا بقيد، فيجوز: مؤمن ناقص الإيمان"1. إذن: فالخلاف بين الفريقين لفظي, هؤلاء سموه ناقص الإيمان وهؤلاء قالوا: إن ناقص الإيمان لا يسمى مؤمنا لتوهم كمال الإيمان, فيجوز: ناقص الإيمان، وسموه هم كافر نعمة لا كافر شرك. لكن الخلاف الشديد بين الفريقين في عقاب مرتكب الكبيرة, وهو حتما ليس خلافا لفظيا. لا يغفر لصاحب الكبيرة ما لم يتب: هذا أول خلاف بين الفريقين, ذلكم أن الأباضية يرفضون قول أهل السنة بأن صاحب الكبيرة تحت المشيئة, إن شاء غفر له وإن شاء عذبه. فالشيخ أطفيش مثلا في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} 2 يقول: "ولا دليل في الآية على جواز المغفرة لصاحب الكبيرة الميت بلا توبة منها, كما زعم غيرنا لحديث: "هلك المصرون""3، وكذا قال في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 4: "والمراد بالآية التنبيه على أنه لا يجوز لمن عصى الله -أي عصيان كان- أن يظن أنه لا يغفر له ولا تقبل توبته، وذلك مذهبنا معشر الأباضية, وزعم القاضي -يقصد البيضاوي- وغيره أن غير الشرك يغفر بلا توبة، ومشهور مذهب القوم -يريد أهل السنة- أن الموحد إذا مات غير   1 هميان الزاد ج1 ص202. 2 سورة البقرة: من الآية 284. 3 هميان الزاد: ج3 ص443. 4 سورة الزمر: من الآية 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 رأيي في هذا التفسير : وإلى هنا يقف القلم في دراسة هذين التفسيرين وهما ما أعرف من تفاسير الأباضية في العصر الحديث؛ لذا اعتمدتهما كمثال لمنهج الأباضية في تفسير القرآن وإن كان اعتبار مفسر واحد لا يدل دلالة قاطعة على منهج مذهبه إلا أنه, ولا شك في ذلك يعطي الخطوط العريضة التي تقوم عليها أسس مذهبه لن نزعم أن: 1- الإكثار من إيراد الإسرائيليات. 2- الاهتمام بالمسائل النحوية والبلاغية واللغوية. 3- الإطناب في المبهمات. 4- العناية بتوجيه القراءات. لن نزعم أن هذه الأسس هي أسس المنهج الأباضي في التفسير, ولكنا نجزم بأن من أسسهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 1- تأويل ما يخالف عقيدتهم من آيات القرآن. 2- تأويل ما يخالف عقيدتهم من السنة وتقديم ما رواه علماؤهم على ما سواه, وينبني عليه موقفهم من تفسير الآية وكذا رأيهم الفقهي. 3- تأثرهم بالمعتزلة وهو وإن لم يكن تأثرا فهو موافقة لهم في كثير من الآراء في العقيدة, كالقول بخلق القرآن وإنكار الرؤية وتقديم العقل, ونحو ذلك. 4- الولاية والبراءة وأثرهما في عقيدتهم, وتفسيرهم بين واضح. 5- موقفهم من الصحابة -رضوان الله عليهم- وذم بعضهم والتهجم عليهم. 6- إشادتهم بمذهبهم وذم ما سواه من المذاهب الأخرى، واعتقادهم أنهم هم أهل الحق وما سواهم كافر كفر نعمة. نجزم أن هذه الأسس في منهجه هي من أسس المنهج الأباضي, ذلكم أن هذه الأسس متفرعة عن العقيدة وعقيدة الرجل التي يصرح بها هي الأباضية. أما مناقشة آرائهم والرد على ما يخالف عقيدة أهل السنة منها, فإني أحيل القارئ إلى قراءة رأي أهل السنة في كل ما يعرض له من تفاسير ضالة, سواء كان في المنهج الأباضي أو في غيره, إذ جعلت منهج أهل السنة في أول المناهج؛ ليكون ميزانا حقا يوزن به ما يرد من أقوال وآراء لمذاهب أخرى تالية. وإن كان لي من وقفة فإني أقف متسائلا: لِمَ يرفض الأباضية كل هذا الرفض تسميتهم بالخوارج ما داموا يدافعون عن الخوارج ويبررون أفعالهم ويتأولون ما ورد في حقهم من أحاديث، بل إن الشيخ أطفيش نفسه يعد أحيانا الفرقة الأباضية من الخوارج فيقول مثلا: "واختلف الخوارج وهم الذين خرجوا عن ضلالة علي, فقالت الأباضية الوهبية وسائر الأباضية ... "1؟!   1 هميان الزاد: ج1 ص195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 لا أدري لم يرفض بعضهم هذا الوصف بشدة, ويقرره آخرون في مواضع أخرى؟! ووقفة أخرى مع الأباضية ومنهجهم في التفسير فأقول: إذا كان الأباضية يعدون من الكبائر الإصرار على ترك السنة كإحفاء الشارب وجعل طرف العمامة تحت الحلق "!! " بلا استخفاف بهذه السنة يعدون هذا كفر نفاق1, ثم يحكمون على من كفر كفر نفاق، أن الله لا يغفر له وأنه خالد في النار ولا يشفع له أبدا, فإن هذا وحده كافٍ على بطلان مذهبهم وانحراف عقيدتهم؛ لأن الله سبحانه أرحم مما يزعمون, وهو الرحمن الرحيم. الحكم عليهم: وأختم حديثي عنهم ببيان أقوال أهل السنة فيهم, وقد أوجزه ابن قدامة فقال: "والخارجون عن قبضة الإمام أصناف أربعة" ثم قال: "الثالث الخوارج الذين يكفرون بالذنب ويكفرون عثمان وعليا وطلحة والزبير وكثيرا من الصحابة ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم إلا من خرج معهم, فظاهر قول الفقهاء من أصحابنا المتأخرين أنهم بغاة حكمهم حكمهم, وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور الفقهاء وكثير من أهل الحديث. ومالك يرى استتابتهم, فإن تابوا وإلا قتلوا على إفسادهم لا على كفرهم, وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنهم كفار مرتدون حكمهم حكم المرتدين وتباح دماؤهم وأموالهم, فإن تحيزوا في مكان وكانت لهم منعة وشوكة صاروا أهل حرب كسائر الكفار وإن كانوا في قبضة الإمام استتابهم كاستتابة المرتدين فإن تابوا, وإلا ضربت أعناقهم وكانت أموالهم فيئا لا يرثهم ورثتهم المسلمون. ثم قال: "وأكثر الفقهاء على أنهم بغاة ولا يرون تكفيرهم، قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا وافق أهل الحديث على تكفيرهم وجعلهم كالمرتدين ... وذكر ابن عبد البر عن علي -رضي الله عنه- أنه سئل عن أهل النهر أكفار هم؟ قال: من   1 هميان الزاد: ج1 ص201. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 الكفر فروا. قيل: فمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا قيل: فما هم؟ قال: قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا وبغوا علينا وقاتلونا فقاتلناهم. وهذا رأي عمر بن عبد العزيز فيهم وكثير من العلماء1. ومع هذا فقد رجح ابن قدامة جواز قتلهم ابتداء, والإجازة على جريحهم. والذي أراه أنهم لا يكفرون إلا إذا استحلوا محرما كبدء قتال المسلمين أو تكفير مسلم أو استحلال ماله أو دمه من غير حله، والله الهادي.   1 المغني: ابن قدامة ج8 ص104-107 باختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 الفصل الرابع: منهج الصوفية في تفسير القرآن الكريم التعريف بالصوفية : أول ما يواجه الباحث عن الصوفية الاختلاف في أصل وسبب هذه التسمية, والأقوال في ذلك كثيرة. أورد عبد الحليم محمود طائفة منها نقلا عن القشيري في رسالته مع مناقشة لكل رأي بإيجاز, فقال: إن الآراء أصبحت معروفة, بل لقد كانت معروفة من قديم الزمان وصاحب الرسالة القشيرية يستعرضها رأيا رأيا, وينقضها جميعا. 1- فأما قول من قال: إنه من الصوف وتصوف إذا لبس الصوف كما يقال: تقمص إذا لبس القميص فذلك وجه، ولكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف. 2- ومن قال: إنهم منسوبون إلى صفة مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فالنسبة إلى الصفة لا تجيء على نحو الصوفي. 3- ومن قال: إنه من الصفاء, فاشتقاق الصوفي من الصفاء بعيد في مقتضى اللغة. 4- وقول من قال: إنه مشتق من الصف, فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم من حيث المحاضرة من الله تعالى: المعنى صحيح ولكن اللغة لا تقتضي هذه النسبة إلى الصف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 وإذا كان صاحب الرسالة القشيرية ينتقد كل هذه الآراء, فإنه إذًا لا يرى الاشتقاق ويقول: هذه التسمية غلبت على هذه الطائفة فيقال: رجل صوفي وللجماعة: صوفية ومن يتوصل إلى ذلك يقال له: متصوف وللجماعة: المتصوفة. وليس يشهد للاسم من حيث العربية قياس ولا اشتقاق, وإلا ظهر فيه أنه كاللقب1. وحقيقة, إنني لا أرى من ثمرة لإعمال الذهن وتضييع الوقت في الربط بين الاسم والمسمى فليس من المحتم دائما -كما يقول عبد الحليم- أن يكون المعنى الأصلي للاسم هو المراد مما وضع الاسم له؛ إذ المعنى الأصلي قد يتطور ويتغير ويختلف وقد يقصد عكسه ... حقيقة, إن الباحثين كثيرا ما يجدون صلة وثيقة بين المعنى الأصلي للاسم وما وضع الاسم له أو بين الاسم والمسمى, ولكن ذلك ليس مطردا2. ومما يزيد الانفصام بين الاسم والمسمى خاصة في عصرنا هذا, ما اعترف به عبد الحليم هذا حيث قال: "على أني أرى -كما يرى كثير غيري وكما يثبت التاريخ- أن هذه الكلمة "تصوف" لم توضع في الأصل للتصوف بمعناه العادي الذي نفهمه الآن، وإنما وضعت في المبدأ لتدل على نمط من العزوف عن الدنيا، إنها كانت علامة الزاهدين والمتنسكين فسمي بها هؤلاء الذين انصرفوا عن الدنيا3.   1 قضية التصوف: عبد الحليم محمود ص30 و31. 2 المرجع السابق ص34. 3 المرجع السابق ص35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 المراد بالتصوف : وأكثر من اختلافهم ذاك اختلفوا في معنى التصوف ولا أعد مبالغا إذا ما قلت: إنهم ذكروا مئات المعاني للتصوف, ونحن نحرص هنا على أن نذكر أقوال المعاصرين أو ما يصرح المعاصرون بترجيحه, فمن الأول ما ذكره الشيخ عبد الواحد يحيى حيث قال: "أما أصل هذه الكلمة "صوفي" فقد اختلف فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 اختلافا كبيرا ووضعت فروض متعددة وليس بعضها أولى من بعض وكلها غير مقبولة أنها في الحقيقة تسمية رمزية, وإذا أردنا تفسيرها ينبغي لنا أن نرجع إلى القيمة العددية لحروفها وأنه لمن الرائع أن نلاحظ أن القيمة العددية لحروف "صوفي" تماثل القيمة العددية لحروف "الحكيم الإلهي" فيكون الصوفي الحقيقي إذًا هو الرجل الذي وصل إلى الحكمة الإلهية, إنه "العارف بالله" إذ إن الله لا يعرف إلا به"1. وإني لأعجب لهذه العقليات التي تقيم عقائدها على أوهام ومتى كانت الأوهام أساسا تقام عليه العقائد؟! ولسنا نوافق الدكتور عبد الحليم محمود على وصفه للقول السابق بأنه رأي لا يمكن أن ينقض بالأدلة المنطقية وأنه ينفر منه آخرون من غير ما حجة وإن كنا نوافقه على أنه "ولكنه لا يمكن أيضا أن يؤيد بالأدلة المنطقية ويستسيغه قوم دون برهان"1 لا نوافقه في النصف الأول من عبارته ونحمد الله أنه لم يطلب الرد عليه بالأدلة الشرعية, إذ ننزه هذه الأدلة عن الخوض بها في مثل هذه الأوهام, أما الرد على الرجل بمثال منطقه فنقول قياسا على قوله: إن القيمة العددية لحروف "صوفي" تماثل القيمة العددية لحروف "مزل الحكيم"2 فيكون الصوفي الحقيقي إذًا هو الرجل الذي أوصل نفسه إلى منطقه إن كان حكيما زل بها, وإن كان دون كان أزل. هذا هو الرد حسب منطقه وحسب مفهومه, وما كنا لنستدل بمثل هذه الأدلة لولا أنه جرنا إليها جرا. ولندع هذا التعريف ونورد هنا بعض التعاريف التي رأى الدكتور عبد الحليم أنها تتجه الوجهة الصحيحة فيما يتعلق بالمعنى الحقيقي لهذا الموضوع, فأورد من هذه الأقوال: 1- أبو سعيد الخراز, المتوفى سنة 268هـ.   1 قضية التصوف: ص32. 2 كلمة "صوفي" "الحكيم الإلهي" "مزل الحكيم" مجموع القيمة العددية لكل منها 186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 سئل عن الصوفي فقال: "من صفّى ربه قلبه, فامتلأ قلبه نورا, ومن دخل في عين اللذة بذكر الله". 2- "الجنيد البغدادي" المتوفى سنة 297هـ. التصوف هو أن يميتك الحق عنك ويحييك به "!! ". 3- أبو بكر الكتاني, المتوفى سنة 322هـ. التصوف صفاء ومشاهدة. 4- جعفر الخلدي, المتوفى سنة 348هـ. التصوف: طرح النفس في العبودية, والخروج من البشرية "!! " والنظر إلى الحق بالكلية. ونقد هذه الأقوال ونقاشها يخرج بنا عن الحدود التي رسمناها في منهج البحث, وأشرنا إليها كثيرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 نشأة التصوف وتطوره : يقسم بعض الباحثين الأدوار التي مر بها التصوف من نشأته إلى عصرنا هذا إلى أربعة أدوار: الدور الأول, الدور التمهيدي: ويبدأ بوفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وينتهي بنهاية القرن الثاني الهجري, وهو دور الزهد. الدور الثاني, الدور الفلسفي: ويبدأ من أوائل القرن الثالث الهجري وينتهي في منتصف القرن السابع, وهو دور البلوغ والكمال. الدور الثالث, دور الانحطاط: ويبدأ من منتصف القرن السابع وينتهي في منتصف القرن الثالث عشر. الدور الرابع, وهو دور التجديد: ويبدأ من منتصف القرن الثالث عشر حتى وقتنا الحاضر, وهو دور النهضة والانطلاق1.   1 التصوف بين الحق والخلق: محمد فهر شقفة ص40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 وهذا التقسيم وإن كان ليس دقيقا كل الدقة إلا أنه يرسم الخطوط العريضة التي أحاطت بالتصوف يمنة ويسرة حتى يومنا هذا, وإن كان مدلول التصوف في كل دور يختلف عن مفهومه في الدور الآخر, وقد نقلنا آنفا عبارة الدكتور عبد الحليم محمود أن إطلاق كلمة تصوف في الأصل غير إطلاقها الذي نفهمه الآن. ذلكم أن المراد به في الدور الأول نمط من العزوف عن الدنيا وأنه كان علامة الزاهدين والمتنسكين إلى أن انتقل إلى الدور الثاني حيث دخلت الفلسفة التصوف فتحول إلى التصوف الفلسفي, فأصبح بعض الصوفية يدين بمسائل "فلسفية لا تتفق ومبادئ الشريعة بما أثار عليهم جمهور أهل السنة وجعلهم يحاربون التصوف الفلسفي, ويؤيدون التصوف الذي يدور حول الزهد والتقشف وتربية النفس وإصلاحها، حتى كادوا يقضون عليه في نهاية القرن السابع الهجري"1. وبهذا دخل التصوف الدور الثالث وهو دور الانحطاط حيث تحولت الصوفية شيئا فشيئا عن الفلسفة والبحث فيما وراء الطبيعة إلى جلسات الذكر والمجاهدة مع الغناء والرقص وتأسست التكايا ونشأت الطرق وكثر المرتزقة والدجالون والمحتالون والمشعوذون وكثر التكلم بالكرامات وخوارق العادات واشتد الإيمان بالأولياء, فنصبت فوق قبورهم القباب وأقيمت لهم الموالد والأعياد ونسبت إليهم شتى المعجزات, وكانت قبورهم تزار لجلب الأولاد أو الشفاء من الأمراض والعاهات أو جلب الحظ والإكثار من الرزق2. أما الدور الرابع الذي ذكره بعض الدارسين وهو دور النهضة والتجديد فلا أعتقد صحته؛ ذلكم أن الصوفية قد لاقت في العصور المتأخرة صحوة إسلامية كانت حربا عليها؛ فنهضت في الجزيرة العربية دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فهدمت القباب, وأبطلت النذور لها وإقامة الموالد ونحوها حتى كاد التصوف أن يزول لولا طائفة لا تزال تبث سمومها المخدرة في المجتمع. وقامت ضد الصوفية دعوات أخرى ورجال آخرون في مناطق شتى في   1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص5. 2 التصوف بين الحق والخلق ص50 و51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 العالم الإسلامي في مصر والشام والهند وغير ذلك, لكن لم يكن لهذه الدعوات ما للدعوة الإسلامية في الجزيرة العربية. ولذا فلا تزال الصوفية في تلك المناطق على تفاوت بينها, تزاول شعائرها وتبث خرافاتها وأوهامها ولا أدري لم يسمي بعض الباحثين هذه الفترة بالدور الرابع عصر النهضة والتجديد, إلا إن كانوا يقصدون به تجديد الخرافات والبدع والمنكرات؟! وإلا فكيف يزعم زاعم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أوتي علم كل شيء"!! " حتى الروح والخمس التي في آية: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} "!! " وكيف يزعم أن للرسول صلى الله عليه وسلم أن يقطع أرض الجنة "!! " وكيف يصف الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه لم يقع ظله على الأرض ولا رئي له ظل في شمس ولا قمر لأنه كان نورا1!!. إذا كان قائل هذا القول من المنتسبين إلى العلماء فلا عجب أن تنتشر بين عامتهم هذه المجالس والتكايا والغناء والرقص فيما يسمونه مجالس الذكر وأن يكثر بينهم المرتزقة والمشعوذون والدجالون. ولا شك أن واجبا كبيرا يلقى اليوم على عاتق العلماء المسلمين لتحرير هؤلاء العامة من أولئك الأدعياء.   1 حوار مع المالكي: عبد الله بن منيع ص21 و22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 عقائد التصوف : لن نذهب بعيدا في إيراد النصوص وبسطها لبيان ذلك, ونقصر الحديث على بيان جوهر التصوف وهل هناك أكثر بيانا للشيء من بيان جوهره؟ كيف وصاحب البيان من الصوفية؟ يقول الدكتور عبد الحليم محمود: "وجوهر الطريق الصوفي هو ما سماه الصوفية المقامات والأحوال"1. فما هي المقامات؟ وما هي الأحوال؟   1 قضية التصوف: عبد الحليم محمود ص48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 قال: "والمقامات هي المنازل الروحية التي يمر بها السالك إلى الله فيقف فيها فترة من الزمن مجاهدا في إطارها حتى يهيئ الله سبحانه وتعالى له سلوك الطريق إلى المنزل الثاني لكي يتدرج في السمو الروحي من شريف إلى أشرف, ومن سامٍ إلى أسمى, وذلك مثلا كمنزل "التوبة" الذي يهيئ إلى منزل "الورع" ومنزل "الورع" يهيئ إلى منزل "الزهد" وهكذا حتى يصل الإنسان إلى منزل المحبة, وإلى منزل الرضى"1. "أما الأحوال, فإنها النسمات الروحية التي تهب على السالك فتنتعش بها نفسه لحظات خاطفة، ثم تمر تاركة عطرا تتشوق الروح للعودة إلى تنسم أريجه, وذلك مثل الأنس بالله"1. وقد اختلف الصوفية في المقامات والأحوال بين مجمل لها ومفصل, ولكن الملاحظ -كما يقول عبد الحليم- أنه ليس اختلاف تناقض وتعارض, وإنما هو اختلاف بسط وإيجاز2. وللتفريق بين الأحوال والمقامات, قال أحد أئمتهم: "فالأحوال مواهب والمقامات مكاسب والأحوال تأتي من عين الجواد, والمقامات تحصل ببذل المجهود, وصاحب المقام ممكن في مقامه, وصاحب الحال مترق عن حاله"3. منازل المقامات: للصوفي عند الصوفي منازل للسالكين, ومقامات للطالبين يرتقي فيها منزلة منزلة ومقاما مقاما, هذه المنازل والمقامات هي: التوبة: فالتوبة أول منزل من منازل السالكين, وأول مقام من مقام الطالبين4.   1 قضية التصوف: عبد الحليم محمود ص48 و49. 2 المرجع السابق: ص49. 3 الرسالة القشيرية ج1 ص206. 4 المرجع السابق: ج1 ص276. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 الورع: قالوا: وإذا صدقت التوبة استلزمت لا محالة الورع, والورع هو أن يترك الإنسان كل ما فيه شبهة1. الزهد: قال أحد أئمتهم: "والورع يقتضي الزهد"1. التوكل: وللتوكل درجات هي: التوكل, التسليم، التفويض، ومع ذلك فإن كلمة التوكل تطلق على كل درجاته وتستعمل في كل أنواعه2. المحبة: ولن يتأتى حب الله سبحانه دون أداء الفرائض, والحب دون أداء الفرائض زيف وكذب3. الرضا: قالوا: وإذا كانت المحبة تبعها الرضا, وذلك أن المحب راضٍ دائما عن أعمال محبوبه4. وقالوا: "والرضا آخر المقامات, ثم يقتضي من بعد ذلك أحوال أرباب القلوب ومطالعة الغيوب وتهذيب الأسرار لصفاء الأذكار, وحقائق الأحوال"5!!.   1 حقيقة التصوف: ص62. 2 حقيقة التصوف: عبد الحليم محمود ص76. 3 المرجع السابق: ص 86. 4 المرجع السابق: ص89. 5 المرجع السابق: ص93 عن اللمع ص80 و81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 من شروط التصوف : ويكفي هنا ذكر شرط جوهري للتصوف ذكره أحد علمائهم, ننقله هنا بنصه: "ولا بد في التصوف من شرط جوهري هو التأثير الروحي أو بتعبير أدق "البركة" وهي لا تتأتى إلا بواسطة "شيخ" ومن هنا كانت السلسلة، وهل السلسلة إلا بركات تنتقل من شيخ إلى مريد يوشك أن يصبح شيخا فيؤثر بدوره في مريد أو مريدين؟ "1.   1 حقيقة التصوف: عبد الحليم محمود ص116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 طبيعة التصوف : وقد أشار إليها الدكتور عبد الحليم محمود فقال عن طبيعة التصوف: "إن التصوف ليس عملا علميا ولا بحثا نظريا, إنه لا يتعلم بواسطة الكتب على الطريقة المدرسية بل إن ما كتبه كبار مشايخ الصوفية أنفسهم لا يستخدم إلا كحافز مقوٍّ للتأمل والإنسان لا يصير بمجرد قراءته متصوفا, على أن ما كتبه كبار الصوفية لا يفهمه إلا من كان أهلا لفهمه, ولأجل أن يسير الإنسان في طريق التصوف لا بد له من: 1- استعداد فطري خاص لا يغني عنه اجتهاد أو كسب. 2- الانتساب إلى "سلسلة" صحيحة, إذ إن "البركة" التي تحصل من الانتساب إلى السلسلة الصحيحة هي الشرط الأساسي الذي لا يصل الإنسان بدونه إلى أية درجة من درجات التصوف حتى البدائية منها. 3- ثم يأخذ المتصوف, الطيب الفطرة، الذي باركه شيخه في الجهاد الأكبر: التأمل الروحي، وفي الذكر, أي: استحضار الله في كل ما يأتي وما يدع وفي تركيز الذهن في الملأ الأعلى؛ فيصل موفقا من درجة إلى درجة حتى يصل إلى أعلى الدرجات, وهي حالة تسمو على حدود الوجود المؤقت فيصبح ربانيا, ذلك هو الصوفي الحقيقي1. هذا ما قاله أحد علمائهم المعاصرين الذين حرصت كثيرا على أن أعتمد على ما كتبه في بيان عقائد الصوفية لمعاصرته لفترة البحث أولا, ولكونه من الصوفية ثانيا, ولكونه من كبار علمائهم بل شيخ الأزهر ثالثا. ولا أدري من أين جاء أو جاءوا باشتراط هذه السلسلة في العبادة؟! ومتى كان التعبد في الإسلام بواسطة وقد جاء بالقضاء على الواسطة بين العبد وربه؟! وما الفرق بينهم وبين: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ؟! 2. {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} 3, فألغى كل واسطة بين العبد وربه، إلا أنها عودة إلى الجاهلية وشر منها, نسأل الله لنا ولهم الهداية.   1 حقيقة التصوف: عبد الحليم محمود ص118. 2 سورة الزمر: من الآية 3. 3 سورة غافر: من الآية 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 أقسام التصوف : مما سبق في بيان أدوار الصوفية يتبين أن التصوف ينقسم إلى قسمين: الأول: تصوف نظري فلسفي وهو التصوف الذي يقوم على دراسات وأبحاث فلسفية، وقد تطور هذا النوع وأدى بأكثر أصحابه إلى الإلحاد, والخروج عن الإسلام بما أوردوه من اصطلاحات وعبارات تخالف الإسلام من أصوله, وهو إلحاد فكري. الثاني: تصوف عملي وهو القائم على التقشف والزهد والتفاني في الطاعة، وقد أدى هذا القسم بطائفة كبيرة من المنتسبين إليه إلى أمور شركية من اتخاذ الأولياء وعبادة القبور واتخاذ التكايا وما يسمى مجالس الذكر, فكثر فيهم المشعوذون والدجالون, واتخذوا بعض الاصطلاحات والعبارات وضمنوها أسرارا ومكنونات لا يكشفها ولا يدريها إلا أصحاب المقامات, وفسروا على ضوئها آيات القرآن الكريم. وعلى ضوء هذين القسمين, انقسم التفسير عند الصوفية إلى اتجاهين: 1- تفسير صوفي نظري. 2- تفسير صوفي فيضي أو إشاري. التفسير الصوفي النظري: وقد سلك هذا الاتجاه في التفسير فلاسفة الصوفية, ويعد ابن عربي شيخ هذه الطريقة1, وهي طريقة قصدها الشيخ محمد حسين الذهبي حين قال: "يأبى الصوفي إلا أن يحول القرآن عن هدفه ومقصده إلى ما يقصده هو, ويرمي   1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 إليه, وغرضه بهذا كله أن يروج لتصوفه على حساب القرآن, وأن يقيم نظرياته وأبحاثه على أساس من كتاب الله, وبهذا الصنيع يكون الصوفي قد خدم فلسفته التصوفية ولم يعمل للقرآن شيئا, اللهم إلا هذا التأويل الذي كله شر على الدين, وإلحاد في آيات الله"!!! 1. وإذا كان الذهبي -رحمه الله تعالى- يصرح بـ:"هذا, ولم نسمع بأن أحدا ألف في التفسير الصوفي النظري كتابا خاصا يتبع القرآن آية آية, كما ألف مثل ذلك بالنسبة للتفسير الإشاري, وكل ما وجدناه من ذلك هو نصوص متفرقة اشتمل عليها التفسير المنسوب إلى ابن عربي, وكتاب الفتوحات المكية له, وكتاب الفصوص له أيضا, كما يوجد بعض من ذلك في كثير من كتب التفسير المختلفة المشارب"2. إذا كان الذهبي يصرح بهذا والفترة التي يدرسها فترة طويلة من نشأة التصوف إلى عصرنا هذا, وضمنها فترة انتشر فيها التصوف وكثر فيها أربابه، فإني أقول أيضا: إني لم أجد في هذا العصر أيضا أحدا كتب في هذا الاتجاه من التفسير الصوفي, وإن كان هناك من يقول به إلا أنه لم يتعرض في دراسته له إلى القرآن الكريم والحمد لله، فلنعرض عن هذا اللون من التفسير الصوفي. التفسير الفيضي "الإشاري": تعريفه: هو تأويل آيات القرآن الكريم بغير ظاهرها بمقتضى إشارات خفية تظهر لأرباب السلوك, ويمكن الجمع بينها وبين الظاهر المراد أيضا. وقد ذكر الشيخ محمد حسين الذهبي وجهين للتفريق بين التفسير الصوفي الإشاري, والتفسير الصوفي النظري هما: أولا: أن التفسير الصوفي النظري ينبني على مقدمات علمية تنقدح في ذهن الصوفي أولا, ثم ينزل القرآن عليها بعد ذلك.   1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص12. 2 المرجع السابق ج3 ص17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 وأما التفسير الإشاري فلا يرتكز على مقدمات علمية, بل يرتكز على رياضة روحية يأخذ بها الصوفي نفسه حتى يصل إلى درجة تنكشف لها فيها من سجف العبارات هذه الإشارات القدسية, وتنهل على قلبه من سحب الغيب ما تحمله الآيات من المعارف السبحانية. ثانيا: أن التفسير الصوفي النظري يرى صاحبه أنه كل ما تحتمله الآية من المعاني وليس وراءه معنى آخر يمكن أن تحمل الآية عليه, هذا بحسب طاقته طبعا. أما التفسير الإشاري فلا يرى الصوفي أنه كل ما يراد من الآية, بل يرى أن هناك معنى آخر تحتمله الآية ويراد منها أولا وقبل كل شيء: ذلك هو المعنى الظاهر الذي ينساق إليه الذهن قبل غيره1.   1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 موقف العلماء من هذا اللون في التفسير : اختلف العلماء في قبول التفسير الإشاري أو رده, فمنهم من قبله, ومنهم من اعتبره من صفات الكمال والعرفان, ومنهم من رده, ومنهم من اعتبره إلحادا في آيات الله وخروجا به عن الحق. وليس لنا أن نطلب من الرافضين لهذا التفسير دليلا؛ ذلكم أن الأصل عدم قبول هذا النوع من التفسير لأن تفسير القرآن لا يكون إلا بالقرآن أو بالسنة أو بالمتبادر من عموم لغة العرب؛ لأن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين, فلا يصح تفسيره بخلاف ظاهر اللفظ إلا بدليل يصرف المعنى المراد من ظاهر اللفظ إلى معنى آخر. أما من قال بهذا اللون من التفسير, ومال إليه فهو المطالب بالدليل. أدلة المؤيدين: ومن الأدلة التي استدلوا بها: 1- ما رواه الفريابي بسنده عن الحسن عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 قال: "لكل آية ظهر وبطن, ولكل حرف حد, ولكل حد مطلع" وسبق ذكر القول الصحيح في هذا الحديث ونحوه. 2- ما رواه البخاري عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنه قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من حيث علمتم, فدعاه ذات يوم فأدخله معهم فما رئيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم. قال: ما تقولون في قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ؟ فقال بعضهم: أمرنا نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا, وسكت بعضهم فلم يقل شيئا. فقال لي: أكذلك تقول يابن عباس؟ فقلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعلمه له قال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وذلك علامة أجلك فسبح بحمد ربك واستغفره, إنه كان توابا، فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول"1. 3- ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس أنه قال: "إن القرآن ذو شجون وفنون وظهور وبطون لا تنقضي عجائبه ولا تبلغ غايته, فمن أوغل فيه برفق نجا, ومن أخبر فيه بعنف هوى, أخبار وأمثال وحلال وحرام وناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه وظهر وبطن, فظهره التلاوة وبطنه التأويل فجالسوا به العلماء وجانبوا به السفهاء. وما روي عن أبي الدرداء أنه قال: "لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يجعل للقرآن وجوها". وما روي عن ابن مسعود أنه قال: "من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن". قالوا: وهذا الذي قاله هؤلاء الصحابة -رضوان الله عليهم- لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر2.   1 رواه البخاري، باب التفسير ج6 ص221. 2 انظر التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 ونختم حديثنا عن التفسير الإشاري بإيراد أقوال بعض العلماء في ذلك, فمنهم: الزركشي في برهانه: قال الزركشي في البرهان: "كلام الصوفية في تفسير القرآن قيل: إنه ليس بتفسير, وإنما هو معانٍ ومواجيد يجدونها عند التلاوة"1. ابن الصلاح في فتاويه: وقال ابن الصلاح في فتاويه, وقد سئل عن كلام الصوفية في القرآن: "وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحدي المفسر أنه قال: صنف أبو عبد الرحمن السلمي حقائق التفسير, فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر. قال ابن الصلاح وأنا أقول الظن بمن يوثق به منهم أنه إذا قال شيئا من أمثال ذلك أنه لم يذكره تفسيرا, ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة المذكورة من القرآن العظيم, فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية وإنما ذلك منهم تنظير لما ورد به القرآن, فإن النظير يذكر بالنظير". ثم قال: "ومع ذلك فيا ليتهم لم يتساهلوا في مثل ذلك؛ لما فيه من الإبهام والإلباس"2. النسفي والتفتازاني: قال النسفي في العقائد: "النصوص على ظواهرها والعدول عنها إلى معانٍ يدعيها أهل الباطل: إلحاد", وعلق التفتازاني في شرحه للعقائد على هذا بقوله: "سميت الملاحدة باطنية لادعائهم أن النصوص ليست على ظاهرها, بل لها معانٍ لا يعرفها إلا المعلم وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكلية". قال: "وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها, ومع ذلك ففيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف لأرباب السلوك يمكن التوفيق بينها وبين الظواهر المرادة, فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان"3.   1 البرهان في علوم القرآن: بدر الدين الزركشي ج2 ص170. 2 فتاوي ابن الصلاح ص29. 3 العقائد النسفية وشرحها: سعد الدين التفتازاني ص143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 الغزالي في الإحياء: وقال الغزالي في إحياء علوم الدين: "وأما الشطح فنعني به صنفين من الكلام أحدثه بعض الصوفية: "أحدهما" الدعاوى الطويلة العريضة في العشق مع الله تعالى والوصال المغني عن الأعمال الظاهرة حتى ينتهي قوم إلى دعوى الاتحاد وارتفاع الحجاب والمشاهدة بالرؤية والمشافهة بالخطاب فيقولون: قيل لنا: كذا وقلنا: كذا ... وهذا فن من الكلام عظيم ضرره في العوام حتى ترك جماعة من أهل الفلاحة فلاحتهم, وأظهروا مثل هذه الدعاوى, فإن هذا الكلام يستلذه الطبع إذ فيه البطالة من الأعمال مع تزكية النفس بدرك المقامات والأحوال. فلا تعجز الأغبياء عن دعوى ذلك لأنفسهم, ولا عن تلقف كلمات مخبطة مزخرفة, ومهما أنكر عليهم ذلك لم يعجزوا عن أن يقولوا: هذا إنكار مصدره العلم والجدل والعلم حجاب والجدل عمل النفس, وهذا الحديث لا يلوح إلا من الباطن بمكاشفة نور الحق. فهذا ومثله مما قد استطار في البلاد شرره وعظم في العوام ضرره, حتى من نطق بشيء منه فقتله أفضل في دين الله من إحياء عشرة. الصنف الثاني من الشطح: كلمات غير مفهومة, لها ظواهر رائقة وفيها عبارات هائلة وليس وراءها طائل, وذلك إما أن تكون غير مفهومة عند قائلها، بل يصدرها عن خبط في عقله وتشويش في خياله لقلة إحاطته, بمعنى كلام قرع سمعه وهذا هو الأكثر، وإما أن تكون مفهومة له ولكنه لا يقدر على تفهيمها وإيرادها بعبارة تدل على ضميره لقلة ممارسته للعلم وعدم تعلمه طريق التعبير عن المعاني بالألفاظ الرشيقة, ولا فائدة لهذا الجنس من الكلام إلا أنه يشوش القلوب ويدهش العقول ويحير الأذهان, أو يحمل على أن يفهم منها معاني ما أريدت بها ويكون فهم كل واحد على مقتضى هواه وطبعه". إلى أن قال: "وأما الطامات فيدخلها ما ذكرناه في الشطح, وأمر آخر يخصها وهو صرف ألفاظ الشرع عن ظواهرها المفهومة إلى أمور باطنة لا يسبق منها إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 الإفهام فائدة كدأب الباطنية في التأويلات, فهذا أيضا حرام وضرره عظيم, فإن الألفاظ إذا صرفت عن مقتضى ظواهرها بغير اعتصام فيه بنقل عن صاحب الشرع من غير ضرورة تدعو إليه من دليل العقل, اقتضى ذلك بطلان الثقة بالألفاظ وسقط به منفعة كلام الله تعالى وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- فإن ما يسبق منه إلى الفهم لا يوثق به والباطن لا ضبط له, بل تتعارض فيه الخواطر ويمكن تنزيله على وجوه شتى, وهذا أيضا من البدع الشائعة العظيمة الضرر وإنما قصد أصحابها الإغراب؛ لأن النفوس مائلة إلى الغريب ومستلذة لها, وبهذا الطريق توصل الباطنية إلى هدم جميع الشريعة بتأويل ظواهرها وتنزيلها على رأيهم ... ومثال تأويل أهل الطامات قول بعضهم في تأويل قوله تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} : إنه إشارة إلى قلبه وقال: هو المراد بفرعون وهو الطاغي على كل إنسان. وفي قوله تعالى: {أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} ، أي: كل ما يتوكأ عليه ويعتمده مما سوى الله عز وجل فينبغي أن يلقيه ... " إلى أن قال: "ومن يستجيز من أهل الطامات مثل هذه التأويلات مع علمه بأنها غير مرادة بالألفاظ, ويزعم أنه يقصد بها دعوة الخلق إلى الخالق يضاهي من يستجيز الاختراع والوضع على رسول الله صلى الله عليه وسلم, لما هو في نفسه حق ولكن لم ينطق به الشرع ... بل الشر في تأويل هذه الألفاظ أطم وأعظم؛ لأنها مبطلة للثقة بالألفاظ, وقاطعة طريق الاستفادة والفهم من القرآن بالكلية"1. هذا ما قاله الإمام الغزالي -رحمه الله تعالى- وإنما أطلت في نقل نصوصه لما فيها من الدقة والشمول, بحيث لم يبق لأحد منهم حجة فيما ادعاه. ولا أحب في ختام حديثي هذا عن موقف العلماء من التفسير الإشاري إلا أن أجعل في ختامه رأي عالم أو عالمين من العلماء المعاصرين في التفسير الإشاري, فأكتفي بنقل رأي الذهبي والزرقاني؛ ففيهما الكفاية والسداد.   1 إحياء علوم الدين: الغزالي ج1 ص42-44 باختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 رأي الذهبي: بعد أن نقل الذهبي رأي ابن الصلاح والتفتازاني وابن عطاء الله السكندري قال: "فهؤلاء العلماء حسنوا ظنهم بالقوم فحملوا أقوالهم الغريبة التي قالوها في القرآن على أنها ذكر لنظير ما ورد به القرآن أو على أنها إشارات خفيفة ومعانٍ إلهامية تنهل على قلوب العارفين وتزهوهم عن إرادة التفسير الحقيقي لكتاب الله بمثل هذه الشروح الغريبة التي نقلت عنهم, وهذا عمل حسن وصنيع جميل من هؤلاء العلماء, وقد تابعناهم عليه حملا لحال المؤمن على الصلاح ... ولكن لم يلبث أن تبدد حسن ظننا بالقوم على أثر تلك المقالة التي قرأناها لابن عربي في فتوحاته, وفيها يصرح بأن مقالات الصوفية في كتاب الله ليست إلا تفسيرا حقيقيا لمعاني القرآن وشرحا لمراد الله من ألفاظه وآياته, ويذكر لنا أن تسميتها إشارة ليس إلا من قبيل التقية والمداراة لعلماء الرسوم أهل الظاهر, وفي هذه المقالة يحمل حملة شعواء على أهل الرسوم -على حد تعبيره- الذين ينكرون عليه وعلى غيره من الصوفية"1. رأي الزرقاني: أما الشيخ عبد العظيم الزرقاني فيقول عن التفسير الإشاري: "ولعلك تلاحظ معي أن بعض الناس قد فتنوا بالإقبال على دراسة تلك الإشارات والخواطر فدخل في روعهم أن الكتاب والسنة، بل الإسلام كله ما هي إلا سوانح وواردات على هذا النحو من التأويلات والتوجيهات, وزعموا أن الأمر ما هو إلا تخييلات, وأن المطلوب منهم هو الشطح مع الخيال أينما شطح, فلم يتقيدوا بتكاليف الشريعة ولم يحترموا قوانين اللغة العربية في فهم أبلغ النصوص العربية كتاب الله وسنة رسول الله, صلى الله عليه وسلم.. فواجب النصح لإخواننا المسلمين يقتضينا أن نحذرهم الوقوع في هذه الشباك ونشير عليهم أن ينفضوا أيديهم من أمثال تلك التفاسير الإشارية الملتوية, ولا يعولوا على أشباهها مما ورد في كلام القوم بالكتب الصوفية؛ لأنها كلها أذواق ومواجيد خارجة   1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص35 و36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 عن حدود الضبط والتقييد, وكثيرا ما يختلط فيها الخيال بالحقيقة والحق بالباطل, وإذا تجردت من ذلك فقلما يظهر منها مراد القائل, وإذا ظهر فقد يكون من الكفريات الفاحشة التي نستبعد صدورها من العلماء والمتصوفة، بل من صادقي عامة المسلمين ... فالأحرى بالفطن العاقل أن ينأى بنفسه عن هذه المزالق وأن يفر بدينه من هذه الشبهات, وأمامه في الكتاب والسنة وشروحهما على قوانين الشريعة واللغة رياض وجنات: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} "1.   1 مناهل العرفان: عبد العظيم الزرقاني ج1 ص557 و558 باختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 شروط قبول التفسير الإشاري : ثم إن العلماء الذين قبلوا هذا النوع من التفسير وضعوا له شروطا أربعة هي: 1- ألا يتنافى وظاهر النظم القرآني الكريم. 2- أن يكون له شاهد شرعي يؤيده. 3- ألا يكون له معارض شرعي أو عقلي. 4- أن لا يدعي أن التفسير الإشاري هو المراد وحده دون الظاهر, بل لا بد من الاعتراف والتسليم بالمعنى الظاهر أولا إذ لا يطمع في الوصول إلى الباطن قبل أحكام الظاهر, ومن ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم التفسير الظاهر فهو كمن ادعى البلوغ إلى صدر البيت قبل أن يجاوز الباب"1. ثم إن المراد بالقبول هنا عدم رفضه لا وجوب اتباعه والأخذ به. أما عدم رفضه فلعدم منافاته لظاهر القرآن ولوجود الشاهد الذي يعضده من الشرع وكل ما كان كذلك لا يرفض. أما عدم وجوب الأخذ به فلأن النص القرآني لم يوضع للدلالة عليه، بل هو من قبيل الوجدانيات التي لا تقوم على دليل ولا تستند إلى برهان, والتي لا تنضبط بلغة ولا تتقيد بقانون.   1 الإحياء: الغزالي، ج1 ص298؛ الإتقان: السيوطي، ج2 ص185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 أهم المؤلفات في التفسير الإشاري مدخل ... أهم المؤلفات في التفسير الإشاري: انقسم المفسرون السابقون في تفاسيرهم من ناحية التفسير الإشاري إلى أقسام خمسة: الأول: من أعرض كل الإعراض عن هذا اللون من التفسير ولا تجد له فيه ذكرا, وأمثلة هذا النوع كثيرة. الثاني: من التزم في أكثر تفسيره التفسير بالظاهر مع إشارات قليلة إلى التفسير الإشاري, ومثاله تفسير النيسابوري. الثالث: من جعل غالب همه في التفسير الإشاري, لكن يضيف إليه بقلة التفسير الظاهر, كتفسير سهل التستري. الرابع: من جعل همه كله في التفسير الإشاري ولا يشير مطلقا إلى التفسير الظاهر, كتفسير أبي عبد الرحمن السلمي. الخامس: من جمع بين التفسير الإشاري والتفسير الصوفي النظري مع الإعراض كل الإعراض عن التفسير بالظاهر, وذلك كتفسير ابن عربي. هذه أقسام خمسة كان المفسرون عليها قديما, وإذا عدت إلى الحاضر لم تكد تجد أحدا من الأنواع الثلاثة الأخيرة، على حد علمي. أما اللون الأول فهو الموجود وبكثرة, وأما اللون الثاني فموجود ولكن أقل كثرة من سابقه. ومما زاد القلة قلة أن بعض أقطاب التصوف في العصر الحديث ألفوا في التفسير، ولا يكاد القارئ يجد أية دلالة لا من قريب ولا من بعيد على انتمائهم الصوفي في التفسير, بينما تنضح بل تفيض كتبهم الأخرى برموزهم واصطلاحاتهم. وفي مقابل هؤلاء وجد في تفاسير بعض غير الصوفيين، بل ومن المعروفين بمحاربة بدع الصوفية، وجد في تفاسيرهم هذا اللون من التفسير وهو وإن كان بقلة إلا أنهم عرفوا به وذلك كبعض تفاسير محمد عبده في تفسير المنار. وهم وإن كانوا لا يشيرون لا من قريب ولا من بعيد إلى انتماء هذا النوع من التفسير لديهم إلى اللون الصوفي إلا أن العلاقة بينهما واضحة, فكلاهما يصرف ظاهر الآية عن معناه الحقيقي إلى معنى باطني لا صلة له لفظية أو معنوية بها فهو صرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 للفظ عن ظاهره من غير سبب, سواء سمي تفسيرا رمزيا أو إشاريا أو تمثيليا. ولعلي بعد هذا أذكر بعض المؤلفات الصوفية التي تضمنت تفسيرا إشاريا, فمن ذلك: 1- بيان السعادة في مقامات العبادة، "في مجلدين كبيرين": تأليف سلطان محمد بن حيدر الجنابذي. 2- أسرار القرآن: السيد محمد ماضي أبو العزائم. 3- ضياء الأكوان في تفسير القرآن: صدر منه جزآن، تأليف أحمد سعاد العقاد. كما أن هناك تفاسير أخرى هي لعلماء الصوفية, وسأذكر بعضها علما بأن بعضها خالٍ من أية دلالة على صوفية صاحبه حسب قراءتي، وبعضها لم أطلع عليه, فمن الأول: 1- "مراح لبيد لكشف معاني القرآن المجيد" والمشهور بـ"التفسير المنير لمعالم التنزيل": وهو في مجلدين, صدرت طبعته الثالثة سنة 1374, والمؤلف محمد نووي الجاوي ت 1316. 2- أوضح التفاسير: محمد عبد اللطيف "ابن الخطيب", لا يزال حيا. 3- قرة العين من البيضاوي والجلالين: يوسف بن إسماعيل النبهاني ت 1350. ومن الثاني: 1- تفسير القرآن: الحسن بن محمد بوجمعة البعقيلي ت 1368. 2- تفسير القرآن العظيم: عثمان بن محمد شطا البكري ت 1310 إلى سورة "المؤمنون". 3- الواردات الإلهية: محمد بن عبد الغني البيطار ت 1328. 4- نفحة الرحمن في تفسير القرآن: محمد بن حسن الصيادي "أبو الهدى" ت 1328. 5- تفسير سورة البقرة: محمود الرفاعي ت 1350. وغير ذلك. وسنتناول اثنين من هذه التفاسير بشيء من التفصيل, إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 أولا: بيان السعادة في مقامات العبادة المؤلف: أما اسم مؤلفه كما جاء في تفسيره, فهو سلطان محمد بن حيدر محمد بن سلطان محمد بن دوست محمد بن نور محمد بن الحاج محمد بن الحاج قاسم علي البيرختي الجنابذي الخراساني، من علماء الشيعة الإمامية، نسبته إلى جنابذ "كونابذ" قرية في نواحي نيسابور, توفي سنة 1311/ 1894م. التفسير: وهو تفسير "بيان السعادة في مقامات العبادة". ويقع في مجلدين كبيرين، فرغ منه مؤلفه في الرابع عشر من شهر صفر المظفر من شهور السنة الحادية عشرة بعد الثلاثمائة بعد الألف من الهجرة النبوية، وتم طبعه في الرابع عشر من شهر رمضان المبارك "سنة 1314"1 في طهران. منهجه في التفسير: لا أريد هنا أن أدرس منهج هذا التفسير دراسة مستوفية إلا من الجانب الصوفي ليس غير، ولكن هذا لا يعني أن نغفل الإشارة إلى ذكر أهم سمات هذا التفسير واتجاهاته.   1 بيان السعادة في مقامات العبادة: محمد حيدر ج2, الصفحة الأخيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 فأقول: إن صاحب التفسير مع أنه صوفي فهو شيعي متطرف من الشيعة الإمامية الاثني عشرية نضرب مثلا من آرائه الشيعية المتطرفة: الأئمة هم ورثة علم محمد صلى الله عليه وسلم: قال المؤلف في مقدمة تفسيره: "إن عليا أول العشرة ووارث علم محمد -صلى الله عليه وسلم- وبعده الأحد عشر من ولده, وإن الحادي عشر منهم غائب قائم منتظر لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج, ويملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا, وإن هؤلاء الاثني عشر أئمته وشفعاؤه يوم القيامة"1. وقال عن العترة: "إن العترة مبينون2 القرآن, فالقرآن إمام صامت والعترة قرآن ناطق, وكما أن محبة العالم من العترة وتعظيمه والنظر إليه والجلوس عنده واستماع قوله والتدبر في أفعاله وأحواله وأخلاقه والتفكر في شئونه والتسليم له ولمتشابهات ما مسه2 وتخلية بيت القلب لنزوله بملكوته فيه بملاحظة أنه حبل الله الممدود إلى الناس ومن غير عناد معه من أعظم العبادات"3. وعقد الفصل العاشر في مقدمته لتأكيد هذه الأمور السابقة, وجاء في هذا الفصل: "الفصل العاشر في أن علم القرآن بتمام مراتبه منحصر في محمد -صلى الله عليه وسلم- وأوصيائه الاثني عشر وليس لغيرهم إلا بقدر مقامه. قد مضى أن بطون القرآن وحقائقه كثيرة متعددة وأن بطنه الأعلى وحقيقته العليا هو محمدية محمد وعلوية علي وهو مقام المشيّة التي هي فوق الإمكان وكل نبي ووصي كان لا يتجاوز مقامه إلا مكان سوى محمد وأوصيائه ومن لم يبلغ إلى مقام المشية لا يعلم ما فيه ولا يبين من ذلك المقام شيئا إلى أن قال: "ولما كان مقام محمد -صلى الله عليه وسلم- وعلي -عليه السلام- وأولاده المعصومين مقام المشية   1 بيان السعادة في مقامات العبادة: محمد حيدر ج1 ص2. 2 كذا وردت. 3 بيان السعادة: محمد حيدر ج2 ص2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 كان علم القرآن كله عندهم وكان علي هو من عنده علم الكتاب, كما في الآية بإضافة العلم إلى الكتاب المفيد للاستغراق"1. تحريف القرآن: ذكرنا في المنهج الشيعي لتفسير القرآن استفاضة الأخبار عن أئمتهم بوقوع التحريف في القرآن وهو ما يؤكده صاحب هذا التفسير محمد حيدر الخراساني, إذ جاء في مقدمة تفسيره وفي الفصل الحادي عشر منها قوله: "الفصل الثالث عشر في وقوع الزيادة والنقيصة والتقديم والتأخير والتحريف والتغيير في القرآن الذي بين أظهرنا2 الذي أمرنا بتلاوته وامتثال أوامره ونواهيه ... إلخ". اعلم أنه قد استفاضت الأخبار عن الأئمة الأطهار "ع" بوقوع الزيادة والنقيصة والتحريف والتغيير فيه بحيث لا يكاد لا يقع3 شك في صدور بعضها منهم, وتأويل الجميع بأن الزيادة والنقيصة والتغيير إنما هي في مدركاتهم من القرآن لا في لفظ القرآن كلفة، ولا يليق بالكاملين في مخاطباتهم العامة؛ لأن الكامل يخاطب بما فيه حظ العوام والخواص وصرف4 للفظ من ظاهره من غير صارف وما توهموه صارفا من كونه مجموعا عندهم في زمن النبي وكانوا يحفظونه ويدرسونه وكان الأصحاب مهتمين بحفظه عن التغيير والتبديل, حتى إنهم ضبطوا قراءات القراء وكيفيات قراءاتهم, فالجواب عنه: أن كونه مجموعا غير مسلم, فإن القرآن نزل في مدة رسالته إلى آخر عمره نجوما. وقد استفاضت الأخبار بنزول بعض السور وبعض الآيات في العام الآخر, وما ورد من أنهم جمعوه بعد رحلته وأن عليا جلس في بيته مشتغلا بجمع القرآن أكثر من أن يمكن إنكاره, وكونهم يحفظونه ويدرسونه مسلم, لكن كان الحفظ والدرس فيما كان بأيديهم واهتمام الأصحاب بحفظه وحفظ قراءات القراء وكيفيات قراءاتهم كان   1 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص10. 2 لا أدري لِمَ عدل المؤلف عن وصفه بين أيدينا إلى بين أظهرنا, وقد ذم الله في كتابه الذين نبذوه وراء ظهورهم؟! 3 هكذا بالنفي, وصحة سياق العبارة: لا يكاد يقع. 4 علق المؤلف على هذا بأنه عطف على كلفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 بعد جمعه وترتيبه وكما كان الدواعي متوفرة في حفظه كذلك كانت متوفرة من المنافقين في تغييره, وما قيل: إنه لم يبق لنا حينئذ اعتماد عليه والحال أنا مأمورون بالاعتماد عليه واتباع أحكامه والتدبر في آياته وامتثال أوامره ونواهيه وإقامة حدوده وعرض الأخبار عليه لا يعتمد عليه في صرف مثل هذه الأخبار الكثيرة الدالة على التغيير والتحريف عن ظواهرها؛ لأن الاعتماد على هذا المكتوب ووجوب اتباعه وامتثال أوامره ونواهيه وإقامة حدوده وأحكامه إنما هي للأخبار الكثيرة الدالة على ما ذكر, لا للقطع بأن ما بين الدفتين هو الكتاب المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- من غير نقيصة, وزيادة, وتحريف فيه"1. نزول القرآن بتمامه في الأئمة, وفي أعدائهم: وعقد المؤلف الفصل الرابع عشر في أن القرآن نزل بتمامه في الأئمة الاثني عشر بوجه, ونزل فيهم وفي أعدائهم بوجه, ونزل أثلاثا: ثلث فيهم وفي أعدائهم، وثلث سنن وأمثال، وثلث فرائض وأحكام بوجه"2. هذه أمور ثلاثة حرصت على سياقها مستطردا؛ لأنها ما اجتمعت إلا في متطرفي الشيعة الاثني عشرية وهو ما أردت إثباته بادئ ذي بدء لهذا التفسير، ومن ثَمَّ ننطلق إلى مرادنا من هذا التفسير وهو التفسير الصوفي فيه. المنهج الصوفي في تفسيره: وأول ما يواجهنا في تفسيره من انتمائه إلى التفسير الإشاري قوله في مقدمة تفسيره: "وقد كان يظهر لي بعض الأحيان من إشارات الكتاب وتلويحات الأخبار لطائف ما كنت أجدها في كتاب ولا أسمعها من خطاب, فأردت أن أثبتها في وريقات, وأجعلها نحو تفسير للكتاب"3. وقد أغرق المؤلف تفسيره بكثرة التأويلات الصوفية والشطحات والمواجيد   1 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص12. 2 المصدر السابق: ج1 ص12. 3 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 والإشارات والاصطلاحات التي لا يكاد يعرف لها معنى, بل هي أشبه ما تكون بالطلاسم. قصة خلق آدم: ونبدأ ذكر الأمثلة على إشاراته ورموزه وتفسيره الصوفي بما فسر به الآيات القرآنية في خلق آدم وحواء -عليهما السلام- حيث قال: "اعلم أن قصة خلق آدم "على" وحواء "على" من الطين ومن ضلعه الأيسر ومن أمر الملائكة بسجود آدم1 "على" وإباء إبليس عن السجدة وإسكان آدم "على" وحواء "على" الجنة, ونهيهما عن أكل شجرة من أشجارها ووسوسة إبليس لهما وأكلهما من الشجرة المنهية وهبوطهما من المرموزات المذكورة في كتب الأمم السالفة وتواريخهم كما ذكرنا سابقا, فالمراد بآدم في العالم الصغير اللطيفة العاقلة الآدمية الخليفة على الملائكة الأرضيين وعلى الجنة والشياطين المطرودين عن وجه أرض النفس والطبع المسجودة للملائكة المخلوقة من الطين الساكنة في جنة النفس الإنسانية, وهي أعلم عن مقام النفس الحيوانية من المخلوق من ضلع جنبها الأيسر الذي يلي النفس الحيوانية زوجتها المسماة بحواء؛ لكدرة لونها بقربها في النفس الحيوانية، والمراد بالشجرة المنهية مرتبة النفس الإنسانية التي هي جامعة لمقام الحيوانية، والمرتبة الآدمية والمراد بالحية واختفاء إبليس بين لحييها القوة الواهمة, فإنها لكونها مظهرا لإبليس تسمى بإبليس في العالم الصغير ووسوسته تزيينها ما لا حقيقة له للجنب الأيسر من آدم المعبر عنه بحواء وهبوط آدم "على" وحواء "على" عبارة عن تنزلهما إلى مقام الحيوانية وهبوط إبليس والحية وذريتهما عبارة عن تنزلها عن مقام التبعية لآدم, فإن إبليس لما كان الواهمة أحد مظاهره كان رفعتها رفعته وشرافتها باستخدام آدم لها شرافته، وهبوط الواهمة كان هبوطا له، وإذا أريد بالشجرة النفس الإنسانية ارتفع الاختلاف من الأخبار, فإن النفس الإنسانية شجرة لها أنواع الثمار والحبوب وأصناف الأوصاف والخصال؛ لأن الحبوب والثمار وإن لم تكن بوجوداتها العينية الدانية الموجودة فيها لكن الكل بحقائقها   1 كذا, ولعل الصحيح: بالسجود لآدم. والمراد بـ"على" عليه السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 موجودة فيها، فتعيين تلك الشجرة بشيء من الحبوب والثمار أو العلوم والأوصاف بيان لبعض شئونها. روى في تفسير الإمام "على" أنها شجرة علم محمد "صلى" وآل محمد "صلى" الذين آثرهم الله تعالى به دون سائر خلقه فقال الله تعالى: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَة} ، شجرة العلم فإنها لمحمد "صلى" وآله "صلى" دون غيرهم ولا يتناول منها بأمر الله إلا هم، ومنها ما كان يتناوله النبي "صلى" وعلي "على" وفاطمة "على" والحسن "على" والحسين "على" بعد إطعامهم المسكين واليتيم والأسير حتى لم يحسوا بجوع ولا عطش ولا تعب ولا نصب وهي شجرة تميزت من بين سائر الأشجار بأن كلا منها إنما يحمل نوعا من الثمار, وكانت هذه الشجرة وجنسها تحمل البر والعنب والتين والعناب وسائر أنواع الثمار والفواكه والأطعمة؛ فلذلك اختلف الحاكون فقال بعضهم: برة وقال آخرون: هي عنابة وهي الشجرة التي من تناول منها بإذن الله ألهم علم الأولين والآخرين من غير تعلم, ومن تناول بغير إذن الله خاب من مراده وعصى ربه "أقول: آخر الحديث يدل على ما قالته الصوفية من أن السالك ما لم يتم سلوكه ولم ينته إلى مقام الفناء ولم يرجع إلى الصحو بعد المحو بإذن الله, لم يجز له الاشتغال بالكثرات ومقتضيات النفس زائدا على قدر الضرورة وشجرة علم محمد "صلى" وآل محمد "صلى" إشارة إلى مقام النفس الجامع لكمالات الكثرة والوحدة"1. وهذا النوع من التفسير عنده وعند الصوفية لا يدرك بالقوة البشرية ولا بالمدارك الشيطانية, فلم يبق إلا الإلهام الإلهي حيث يقول: "ولما كان قصة آدم وخلقته وأمر الملائكة بسجدته وإباء إبليس عن السجود وهبوطه عن الجنة وبكاؤه في فراق الجنة ... إلخ, من مرموزات الأوائل وقد كثر ذكره في كتب السلف خصوصا كتب اليهود وتواريخهم ورد أخبارنا2 مختلفة في هذا الباب اختلافا كثيرا مرموزا بها إلى ما رمزوه ومن أراد أن يحملها على ظاهرها تحير فيها, ومن رام أن يدرك المقصود بقوته البشرية والمدارك الشيطانية منها طرد عنها ولم يدرك منها   1 بيان السعادة: ج1 ص45 و46. 2 كذا وردت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 إلا خلاف مدلولها"1. وهذا النوع من التفسير هو الذي سلكه الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسيره, فقال في تفسير الآيات السابقة في قصة آدم عليه السلام: "وتقرير التمثيل في القصة على هذا المذهب هكذا أن إخبار الله الملائكة بجعل الإنسان خليفة في الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض وقوى هذا العالم وأرواحه التي بها قوامه ونظامه لوجود نوع من المخلوقات يتصرف فيها, فيكون به كمال الوجود في هذه الأرض, وسؤال الملائكة عن جعل خليفة يفسد في الأرض؛ لأنه يعمل باختياره ويعطي استعدادا في العلم والعمل لا حد لهما هو تصوير لما فيه استعداد الإنسان لذلك, وتمهيد لبيان أنه لا ينافي خلافته في الأرض, وتعليم آدم الأسماء كلها بيان لاستعداد الإنسان لعلم كل شيء في هذه الأرض وانتفاعه به في استعمارها, وعرض الأسماء على الملائكة وسؤالهم عنها وتنصلهم في الجواب، تصوير لكون الشعور الذي يصاحب كل روح من الأرواح المدبرة للعوالم محدودا لا يتعدى وظيفته, وسجود الملائكة لآدم عبارة عن تسخير هذه الأرواح والقوى له ينتفع بها في ترقية الكون بمعرفة سنن الله تعالى في ذلك, وإباء إبليس واستكباره عن السجود تمثيل لعجز الإنسان عن إخضاع روح الشر وإبطال داعية خواطر السوء التي هي مثار التنازع والتخاصم والتعدي والإفساد في الأرض, ولولا ذلك لجاء على الإنسان زمن يكون فيه أفراده كالملائكة بل أعظم, أو يخرجون عن كونهم من هذا النوع البشري"2. وهو أيضا نفس التأويل الذي أوّل به محمد عبده المراد بالملائكة بقوله: "يشعر كل من فكر في نفسه ووازن بين خواطره عندما يهم بأمر فيه وجه للحق أو للخير، ووجه للباطل أو للشر بأن في نفسه تنازعا كأن الأمر قد عرض فيها على مجلس شورى, فهذا يورد وذاك يدفع, وأحد يقول: افعل وآخر يقول: لا تفعل حتى ينتصر أحد الطرفين ويترجح أحد الخاطرين فهذا الشيء   1 المرجع السابق: ج1 ص42. 2 تفسير المنار: ج1 ص281 و282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 الذي أودع في أنفسنا ونسميه قوة وفكرا, وهو في الحقيقة معنى لا يدرك كنهه وروح لا تكتنه حقيقتها, لا يبعد أن يسميه الله تعالى ملكا أو يسمي أسبابه ملائكة أو ما شاء من الأسماء فإن التسمية لا حجر فيها على الناس فكيف يحجر فيها على صاحب الإرادة المطلقة والسلطان النافذ والعلم الواسع"، ثم قال: "ولو أن نفسا مالت إلى قبول هذا التأويل لم تجد في الدين ما يمنعها من ذلك والعمدة على اطمئنان القلب وركون النفس إلى ما أبصرت من الحق"، وقد علق تلميذه السيد رشيد رضا على هذا بقوله: "إن غرض الأستاذ من هذا التأويل الذي عبر عنه بالإيماء وبالإشارة إقناع منكري الملائكة بوجودهم بتعبير مألوف عندهم, تقبله عقولهم"1. ولا أشك في ضلال هذا النوع من التفسير الذي يصرف أخبار القرآن عن ظاهرها وحقائقها إلى أوهام يتخيلها إيماءات أو إشارات, مهما كان هدف قائلها, ومهما كان مراده ما دامت المعاني التي ساقها لا تمت إلى النص بصلة أصيلة, أو أدلة قوية صريحة. الإنسان بين نشأتي الجذب والسلوك: وظهر تفسيره الصوفي المليء باصطلاحات ورموز وإشارات الصوفية في تفسيره لقوله تعالى: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} 2. وقد ذكر في سبب نزولها ما خلاصته أن عليا -رضي الله عنه- حلف أن لا ينام بالليل، وأن بلالا -رضي الله عنه- حلف أن لا يفطر بالنهار أبدا, وأما عثمان بن مظعون فإنه حلف أن لا ينكح أبدا. فلما علم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك "صعد المنبر, فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "ما بال أقوام يحرمون على أنفسهم الطيبات، إني أنام الليل وأنكح وأفطر بالنهار, فمن رغب عن سنتي فليس مني" فقام هؤلاء فقالوا: يا رسول الله فقد حلفنا على ذلك, فأنزل الله آيات الحلف الآتية"3.   1 تفسير المنار: ج1 ص268-270. 2 سورة المائدة: الآية 88. 3 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص250. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 وبما أن المؤلف إمامي يعتقد بعصمة علي -رضي الله عنه- فإن في هذا الأمر إشكالين وضحهما ورد عليهما بقوله: "أولا بأن أمثال هذه المعاتبات ونسبة التحريم والاعتداء والتقوى ولغو الإيمان غير مناسبة لمقام علي -عليه السلام- وثانيا بأنه -عليه السلام- ما كان عالما بأن تحريم الحلال إن كان بالاستبداد والرأي كان من البدع والضلال, وإن كان بالنذر وشبهه كما دل عليه الخبر كان مرجوحا غير مرضي لله تعالى, ومع ذلك حرمه على نفسه أو كان جاهلا بذلك, وكلا الوجهين غير لائق بمقامه, عليه السلام. والجواب الجلي لطالبي الآخرة والسالكين إلى الله الذين بايعوه بالولاية وتابعوه بقدم صدق واستشموا نفحات نشأته حال سلوكه أن يقال: إن السالك إلى الله يتم سلوكه باستجماعه بين نشأتي الجذب والسلوك, بمعنى توسطه بين تفريط السلوك الصرف وإفراط الجذب الصرف, فإنه إن كان في نشأة السلوك فقد جمد طبعه ببرودة السلوك حتى يقف عن السير، وإن كان من نشأة الجذب فقط فني بحرارة الجذب عن أفعاله وصفاته وذاته بحيث لا يبقى منه أثر ولا خبر, وهو وإن كان في روح وراحة لكنه ناقص كمال النقص من حيث إن المطلوب منه حضوره بالعود لدى ربه مع جنوده وخدمه وأتباعه وحشمه, وهو طرح الكل وتسارع بوحدته, فالسالك إلى الله تكميله مربوط بأن يكون في الجذب والسلوك منكسرا برودة سلوكه بحرارة جذبه, فالجذب والسلوك كالليل والنهار أو كالصيف والشتاء من حيث إنهما يربيان المواليد بتضادهما, فهما مع كونهما متنازعين متآلفان متوافقان. إذا علمت ذلك, فاعلم أن السالك إذا وقع في نشأة الجذب وشرب من شراب الشوق الزنجبيلي, سكر وطرب ووجد بحيث لا يبقى في نظره سوى الخدمة للمحبوب, وكلما رآه منافيا للخدمة رآه ثقلا ووبالا على نفسه ومكروها لمولاه فيصمم في طرحه ويعزم على ترك الاشتغال به, وهو من كمال الطاعة لا أنه ترك الطاعة كما يظن, فلا ضير أن يكون أمير المؤمنين على حال سلوكه وقع في تلك النشأة وحرم على نفسه كل ما يشغله عن الخدمة لكمال الاهتمام بالطاعة, ولما لم يمكن تحصيل الكمال التام إلا بالجمع بين النشأتين أسقاه محمد -صلى الله عليه وسلم- من شراب السلوك؛ لأنه كان مكملا مربيا له ولغيره؛ ولذا قالوا: لا بد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 أن يكون للسالك شيخ وإلا فيوشك أن يقع في الورطات المهلكة ولا منقصة في أمثال هذه المعاتبات على الأحباب, بل فيها من اللطف والترغيب في الخدمة ما لا يخفى وعلي كان عالما بأن الكمال لا يحصل إلا بالنشأتين, لكنه يرى حين الجذب أن كل ما يشغله عن الخدمة فهو مكروه المحبوب ومرجوح عنده فحلف على ترك المرجوح، أو يقال: إن عليا لما كان شريكا للرسول -صلى الله عليه وسلم- في تكميل السلاك لقوله: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" وكان له شأن الدلالة ولمحمد صلى الله عليه وسلم شأن الإرشاد والمرشد بنشأته النبوية شأنه تكميل السالك بحسب نشأة السلوك وإن كان بنشأته الولوية, وشأن الإرشاد شأنه التكميل بحسب الجذب والدليل بنشأته الولوية شأنه التكميل بحسب نشأة الجذب وإن كان بنشأته النبوية وشأن الدلالة شأنه التكميل بحسب السلوك, فالدليل بولايته يقرب السالك إلى الحضور ويعلمه آداب الحضور وطريق العبودية من عدم الالتفات إلى ما سوى المعبود وطرح جميع العوائق من طريقه والمرشد بنبوته يبعده عن الحضور ويقربه إلى السلوك ويرغبه فيه, فهما في فعلهما كالنشأتين متضادان متوافقان, فأمير المؤمنين علي لما رأى بلالا وعثمان مستعدين لنشأة الجذب رغبهما إلى تلك النشأة بطرح المستلذات وترك المألوفات, وشاركهما في ذلك ليستكمل بذلك شوقهما ويتم جنبهما, ولما مضى مدة ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن عودهما إلى السلوك أوفق وأنفع لهما, ردهما إلى نشأة السلوك وعاتبهما بألطف عبارة ولا يرد نقص على أمير المؤمنين علي"1. مراتب السالك: وضح المؤلف في تفسيره المراتب التي يمر بها السالك, وذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 2، فقال: "اعلم أن للإنسان من أول تخيره إلى آخر مراتبه تطورات   1 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص250 و251. 2 سورة المائدة: الآية 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 ونشآت, وبحسب كل نشأة له أعمال وإرادات وشرور وخيرات وللسالك إلى الله من بدو سلوكه إلى آخر مراتبه غير المتناهية مقامات ومراحل وأسفار ومنازل، والتقوى تارة تطلق على التحفظ عن كل ما يضر الإنسان في الحال أو في المآل, وهو معناها اللغوي وبهذا المعنى تكون قبل الإسلام وقبل الإيمان ومعهما وبعدهما، وتارة تطلق على التحفظ عما يصرفه عن توجهه إلى الإيمان, وبهذا المعنى تكون مع الإسلام وقبل الإيمان ومع الإيمان, لكن في مرتبة الإسلام فإنه ما لم يسلم لم يتصور له توجه واهتداء إلى الإيمان حتى يتصور صارف له عن الإيمان وحفظ عن ذلك الصارف، والتقوى بهذا المعنى عبارة عن تحفظ النفس عن جملة المخالفات الشرعية, وتارة تطلق على ما يصرفه عن الطريق الموصل له إلى غايته ويدخله في الطريق الموصلة إلى الجحيم, وبهذا المعنى لا تكون قبل الإيمان؛ لأنه لم يكن ح1 في الطريق بل تكون مع الإيمان الخاص الذي به يكون الوصول إلى الطريق, والإيمان قد يطلق على الإذعان وهو معناه اللغوي, وقد يطلق على ما يحصل بالبيعة العامة وهو الإيمان العام المسمى بالإسلام, وقد يطلق على ما قد يحصل بالبيعة الخاصة الولوية وهو الإيمان الحقيقي, وقد يطلق على شهود ما كان موقنا به وهو الإيمان الشهودي" إلى أن قال: "والإنسان من أول تميزه نشأته نشأة الحيوان لا يدري خيرا إلا ما اقتضته القوى الحيوانية، ولا شرا إلا ما استكرهته، ولا يتصور له التقوى سوى التقوى اللغوية, فإذا بلغ مقام المراهقة حصل له في الجملة تميز الخير والشر الإنسانيين وتعلق به زاجر إلهي باطني بحيث يستعد لقبول الأمر والنهي من زاجر بشري, لكن لا يكلف لضعفه ويمرن لوجود الاستعداد والزاجر الباطني ويتصور له التقوى بالمعنى الأول والثاني في هذا المقام بمقدار تميز الخير والشر الإنسانيين, فإذا بلغ أوان التكليف وقوى التميز والاستعداد والزاجر الإلهي تعلق به التكليف من الله بواسطة النذر، وبقبوله التكليف بالبيعة والميثاق يحصل له الإسلام ويتصور له التقوى أيضا بالمعنى الأول والثاني, ولا يتصور له التقوى بالمعنى الثالث لعدم وصوله إلى الطريق بعد، وفي هذا المقام يكلفه المكلف الإلهي بالتكاليف الغالبية, وينبهه على أن للإنسان طريقا   1 كذا في الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 إلى الغيب وله بحسب هذا الطريق تكاليف أخر ويدله على من يريه الطريق ويكلفه التكليفات الأخر إشارة أو تصريحا أو يريه بنفسه الطريق, فإذا ساعده التوفيق وتمسك بصاحب الطريق حتى قبله وكلفه بالبيعة والميثاق التكليفات القلبية صار مؤمنا بالإيمان الخاص, ومتمسكا بالطريق متقيا بالمعنى الثالث وسالكا إلى الله وله في سلوكه مراحل ومقامات وزكاة وصوم وصلاة وترؤات وفناءات ففي المرتبة الأولى يرى من نفسه الفعل والترك وجملة صفاته, فإذا ترقى وطرح بعض ما ليس له ويرى الفعل من الله -ولا حول ولا قوة إلا بالله- صار فانيا من فعله باقيا بفعل الحق, فإذا ترقى وطرح بعضا آخر بحيث لا يرى من نفسه صفة صار فانيا من صفته باقيا بصفة الله, فإذا ترقى وطرح الكل بحيث لا يرى نفسه في البين صار فانيا من ذاته, وفي هذا المقام -إن أبقاه الله- صار باقيا بعد الفناء ببقاء الله وتم له السلوك وصار جامعا بين الفرد والجمع والوحدة والكثرة, وجعل العرفاء الشامخون بحسب الأمهات أسفار السالك وسيره أربعة وسموها أسفارا أربعة: السفر الأول السير من النفس إلى حدود القلب وهو سيره في الإسلام وعلى غير الطريق ويسمونه السفر من الخلق إلى الحق, والثاني سيره من حدود القلب إلى الله وهو سيره في الإيمان وعلى الطريق وبدلالة الشيخ المرشد وفي هذا السير يحصل الفناءات الثلاثة ويسمونه السفر من الحق في الحق إلى الحق, والثالث سيره بعد الفناء في المراتب الإلهية من غير ذات وشعور بذات, ويسمونه السفر بالحق في الحق, والرابع سيره بالحق في الخلق بعد صحوه وبقائه بالله ويسمونه السفر بالحق في الخلق إذا علمت ذلك فنقول: معنى الآية أنه ليس على الذين بايعوا بالبيعة العامة النبوية وقبول الدعوة الظاهرة, وأسلموا بقبول الأحكام القالبية وتوجهوا من ديار الإسلام التي هي صدورهم إلى ديار الإيمان التي هي قلوبهم وعملوا الأعمال التي أخذوها من صاحب إسلامهم جناح فيما فعلوا وحصلوا من الأفعال والعلوم, ولما كان المراد بالتقوى في لسان الشارع هو المعنى الثاني والثالث دون الأول لم يقل تعالى شأنه: ليس على الذين اتقوا وآمنوا في تلك المرتبة واقتصر على الإيمان والعمل الصالح, لكن نفى الجناح بشرط أن اتقوا صوارفهم عن التوجه إلى الإيمان والترحل إلى السفر الثاني والوصول إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 الطريق وجملة المخالفات الشرعية صوارف عن هذا التوجه وآمنوا بالبيعة الخاصة الولوية وقبول الدعوة الباطنة وعملوا الصالحات التي أخذوها من صاحب الطريق, ثم اتقوا نسبة الأفعال والصفات إلى أنفسهم وآمنوا شهودا بما آمنوا به غيابا, وفي هذا المقام يقع السالك في ورطات الحلول والاتحاد والإلحاد وسائر أنواع الزندقة من الثنوية وعبادة الشيطان والرياضة بخلاف الشرائع الإلهية ومغلطة الأرواح الخبيثة بالأرواح الطيبة, فإنه مقام تحته مراتب غير متناهية وورطات غير محصورة وأكثر ما فشا في القلندرية من العقائد والأعمال نشأ من هذا المقام والسالك في هذه المرتبة لا يرى صفة لنفسه ولا فعلا من نفسه؛ ولذلك أسقط العمل الصالح ولم يذكره ثم اتقوا من رؤية ذواتهم, وهذا هو الفناء التام والفناء الذاتي, وفي هذا المقام لا يكون لهم ذات بعد التقوى حتى يتصور لهم إيمان أو عمل والسالك في هذا السفر لا نهاية لسيره ولا تعين لوجوده ولا نفسية له ويظهر منه الشطحيات التي لا تصح من غيره كما تظهر منه في المقام السابق أيضا, وكما لا يرى السالك في هذا المقام لنفسه عينا ولا أثرا لا يرى لغيره أيضا عينا ولا أثرا, ومن هذا المقام نشأت الوحدة الممنوعة وما يترتب عليها من العقائد الباطلة والأعمال الكاسدة, فإن أدركته العناية وأفاق من فنائه وصار باقيا ببقاء الله صار محسنا بحسب الذات والصفات والأفعال؛ ولذلك قال تعالى بعد ذكر التقوى {وَأَحْسَنُوا} وأسقط الإيمان والعمل جميعا؛ لأنه بعد فنائه الذاتي وبقائه بالله صار ذاته وصفته وفعله حسنا وإحسانا حقيقيا, وأما قبل ذلك فإنه لا يخلو من شوب سوئه وإساءته بقدر بقاء نسبة الوجود إلى نفسه قبل فنائه, وأيضا قبل الفناء بقدر نسبة الوجود إلى نفسه يكون مبغوضا لا محبوبا على الإطلاق وبعد الفناء وقبل الفناء بالله لا موضوع له حتى يحكم عليه بالمحبوبية والمبغوضية وبعد البقاء بالله يصير محبوبا على الإطلاق؛ ولذلك قال: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} في آخر الآية"1.   1 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص251 و252. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 مراتب الكمال: وتحدث في تفسيره عن مراتب كمال الإنسان عند تفسيره لقوله تعالى مخاطبا إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} 1 فقال: "فالإمامة آخر جميع مراتب كمالات الإنسان, فإن أول كمالاته العبودية من أولى درجاتها, وهي أولى درجات السلوك إلى الطريق متدرجا فيه إلى الوصول إلى الطريق متدرجا في السلوك على الطريق إلى الله, إلى أن خرج من أنانيته ورقيَّة نفسه ودخل في زمرة عباده واستكمل العبودية, وصار عبدا خالصا, فإن أدركته العناية وأبقاه الله بعد فنائه وأحياه بحياته لتكميل خلقه, فإما أن يوكله بإصلاح قلبه الذي هو بيت الله حقيقة وبإصلاح أهل مملكة نفسه من غير إذن له في الرجوع إلى خارج مملكته, وهو مقام النبوة المفردة عن الرسالة أو يأذن له مع ذلك بإصلاح المملكة الخارجة وهو الرسالة المفردة عن الخلة أو يختاره مع ذلك لنفسه ممتازا به عن سائر رسله معيدا له كرة أخرى غير العود الأول, فإن العود الأول كان بطرح كل ما أخذ وبهذا العود يعود معه جميع ما أعطاه الله وهو جميع ما سواه وهو الخلة, فإن استكمل مقام الخلة بأن كان مقامه مع الحق هو مقامه مع الخلق مع التمكن في ذلك اختاره للإمامة وتفويض جملة الأمور إليه بحيث لا يسقط ورق من شجر إلا بإذن وكتاب وأجل منه, وليس وراء هذه مقام ومرتبة, وقد علم من هذا أن كل إمام خليل وكل خليل رسول وكل رسول نبي وكل نبي عبد وليس بالعكس, وأن الإمامة بهذا المعنى هو الجمع بين المقام في الخلق والمقام عند الحق من غير قصور في شىء منهما, مع التمكن في ذلك"2. هذا ما قاله ذلكم المفسر عن مقام الإمامة, ولئن كان وقوفي عند كثير من كلماته كثيرا وكثيرا, فإن أشده دهشة وأعظمه استغرابا عند قوله المنقول آنفا " ... اختاره للإمامة وتفويض جملة الأمور إليه بحيث لا يسقط ورق من شجر إلا بإذن وكتاب وأجل منه" لا يدهشني قوله: "وليس وراء هذه مقام ورتبة" لأني   1 سورة البقرة: من الآية 124. 2 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 أعتقد أنه ليس بعد مقام الألوهية مقام والرجل خص مقام الإمامة بأدق خصائص الألوهية والعياذ بالله, فهل يعتقد أن المرء يترقى في مقامات الكمال حتى يصل إلى مقام الإمامة بخصائص الألوهية, أو يعتقد أن مقام الإمامة ومقام الألوهية سيان ورمزان لمعنى واحد, أو يعتقد غير هذا وذاك؟ وكلها اعتقادات لا تخرج بحال من الأحوال عن الانحراف, والإلحاد في آيات الله. اصطلاحات ورموز: وتفسيره مليء باصطلاحات الصوفية ورموزها, ولو ذهبنا نذكر أمثلة لخرجنا عن حد الاعتدال في عرض المقصود إلى الإطناب ونسلم من الخروج عنه بذكر بعضها, فمن ذلك: القرية: للقرية في قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} 1. فسرها بقوله: "إن كان النزول في ضعفاء مكة فلا اختصاص لها بهم كما في الخبر فالقرية مكة, وكل قرية لا يجد الشيعة فيها وليا من الإمام ومشايخهم، وكل قرية وقع بها الأئمة بين منافقي الأمة وقرية النفس الحيوانية التي لا يجد الجنود الإنسانية فيها وليا, ويطلبون الخروج منها إلى قرية الصدور ومدينة القلب ويسألون الحضور عند إمامهم أو مشايخهم في بيت القلب خاليا عن مزاحمة الأغيار بقولهم: {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} "2. اليتيم: في قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُم} 3, قال في تفسيره: "اعلم أن   1 من سورة النساء: من الآية 75. 2 بيان السعادة: ج1 ص211. 3 سورة النساء: من الآية 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 اليتيم كالرحم روحاني وجسماني, فالجسماني من انقطع من صغره عن أبيه الجسماني، والروحاني من انقطع عن إمامه الذي هو أبوه الروحاني كما ورد تصريحا وإشارة. واليتيم عن الإمام إما بغيبته عن شهود حسه بموت وغيره أو بغيبته عن شهود بصيرته بعدم استعداد الحضور وعدم حصول الفكر الذي هو مصطلح الصوفية, فإن من لم يتمثل مثال الشيخ في صدره ولم يشاهد صورته المثالية بعين بصيرته كان منقطعا عن إمامة وحقه الخدمة والمواساة والمحبة والنصيحة التي يعطون الميثاق عليها, هذا هو اليتيم الروحاني في العالم الكبير. وأما في العالم الصغير فالقوى الحيوانية والبشرية ما لم تبلغ في التبعية للنفس إلى مقام التمتع والالتذاذ بشهود النفس لشيخها تكون يتامى ومالها وحقها التلذذ بمشتهياتها ومقتضياتها في الحلال, فإن التلذذ في الحلال جعل قسيما لتزود المعاد في الأخبار"1. البروج والسراج والقمر: وذلك في تفسيره لقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} 2. فسر البروج بقوله: "يجوز أن يراد بالبروج الكواكب السيارة ... أو أن يراد اللطائف النبوية والولوية المحصورة كلياتها في اثنتي عشرة غير المنتهي جزئياتها إلى حد المحدودة بحسب الأمهات إلى مائة وأربعة وعشرين ألفا أو مائة وعشرين ألفا أو مائة ألف، وأن يراد الأنبياء "على" والأولياء "على" فإنهم بتعلقهم بأبدانهم الأرضية أركان الأرض، وبتجردهم الذاتي عن أرض الطبع أركان السماء, وأن يراد الجهات الفاعلية المحيية والمميتة والمفيضة للأرزاق أو المفيضة للعلوم والمعبر عنها بإسرافيل وعزرائيل وميكائيل وجبرائيل"3. وفسر {سِرَاجًا وَقَمَرًا} بقوله: "والمراد بحسب التأويل من السراج لطيفة   1 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص190. 2 سورة الفرقان: من الآية 61. 3 بيان السعادة: محمد حيدر ج2 ص87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 الولاية, فإنها المضيئة بذاتها ومن القمر لطيفة النبوة والرسالة, فإنها كاسبة للنور من الولاية"1. التعليم والتلقين: وقد بين كيفية التعليم والتلقين عند الصوفية عند تفسيره لقوله تعالى: {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} 2, فقال: "وقد بقي بين الصوفية أن يكون التعليم والتلقين بتعاضد نفسين متوافقتين, يسمى أحد الشخصين هاديا والآخر دليلا والشيخ الهادي له الهداية وتولي أمور السالك فيما ينفعه ويجذبه والشيخ الدليل ينصره لمدافعته الأعداء ويخرجه عن الجهل والردى بدلالته طريق التوسل إلى شيخ الهدى, وفي الآية إشارة إلى أن السالك ينبغي له أن يطلب دائما حضوره عند شيخه بحسب مقام نورانيته ومقام صدره, وهو معنى انتظار ظهور الشيخ في عالم الصغير, وأما ظهور الشيخ بحسب بشريته على بشرية السالك فلا يصدق عليه أنه من لدن الله, وإذا ظهر الشيخ بحسب النورانية كان وليا من لدن الله ونصيرا من لدنه"3. وبعد: هذه أمثلة من تفسيره الصوفي رأينا فيها كيف جنح بصوفيته في تفسير القرآن الكريم من معانيها الظاهرة إلى رموز واصطلاحات وإشارات, فجعل مثلا القرية قرية النفس واليتيم من لا إمام له والبروج الأنبياء والأولياء أو الجهات الفاعلية المحيية والمميتة والسراج الولاية والقمر النبوة والولي والنصير الشيخ الهادي والشيخ الدليل، وغير ذلك من الأوهام التي جرفه إليها تصوفه والمعاني التي لا يدل عليها لفظ ظاهر, ولا دليل صحيح. ولا يفوتني أن أذكر هنا أني إنما ذكرت من تفسيره الجانب الصوفي, إذ إني أكتب عن المنهج الصوفي عامة وليس عن تفسيره خاصة فإن طلبت أبرز عقائده   1 بيان السعادة: محمد حيدر ج2 ص87. 2 سورة النساء: من الآية 75. 3 بيان السعادة: محمد حيدر ج2 ص211. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 أجملتها بأنه شيعي إمامي متطرف يعتقد أن عليا وارث علم محمد -صلى الله عليه وسلم- وبعده الأئمة الأحد عشر من ولده، وأن العترة هم المبينون للقرآن الكريم, وأن علم القرآن عندهم وما عداهم فعلمه قاصر ويعتقد بتحريف القرآن وتبديله, ويقول بالرجعة وجواز نكاح المتعة وبمسح الرجلين في الوضوء، وأن الأنبياء يورثون وينكر رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وغير ذلك من عقائد الشيعة. والتفسير يحتوي على خرافات وأوهام في العقائد وفي القصص وفي الأخبار لا يجمعها سليم العقيدة ولا يدونها سليم الرأي، لا أريد أن أعدد بعضها من غير إثبات لنصوصها, ولو فعلت هذا وذاك لطال بنا الحديث ودلفنا عن المراد, ولعل فيما ذكرنا من تفسيره الصوفي وفاء ولو بعض وفاء بالموضوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 ثانيا: ضياء الأكوان في تفسير القرآن المؤلف: قالوا في تعريفه: إنه العارف بالله تعالى أحمد سعد عثمان علي العقاد. ولد بمدينة الفيوم سنة 1307, وإنه من سلالة الأولياء والصالحين فقد كان أجداده من السادة الصوفية, ولهم مؤلفات عديدة ومخطوطات كثيرة في كافة علوم التصوف والفقه والتفسير. وقالوا: إن العناية الإلهية أرادت به أن يلتقي بالعارف بالله السيد محمد ماضي أبي العزائم فوجهه نحو الاستقامة. والتحق بالأزهر سنة 1324 ولما انتهت دراسته فيه عينته وزارة الأوقاف إماما وخطيبا في أحد المساجد, فاشتغل فيه بالتدريس للعامة. وله عدد من المؤلفات منها ما طبع, ومنها ما لم يزل مخطوطا. ومن الأول: 1- الدين النصيحة. 2- كنوز العارفين في ميراث الأنبياء والصالحين. 3- كتاب الهجرة النبوية. 4- كتاب مواهب الإنسان. 5- الأنوار القدسية في شرح أسماء الله الحسنى. 6- السعادة في الدخول من باب التوبة. ومن الثاني: 1- ريحانة العارفين في حكمة أحكام الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 2- الشرف الأعلى في إسراء من "دنا فتدلى". 3- الإنسان الكامل. 4- مقامات أهل اليقين. 5- الفقه على المذاهب الأربعة. وفاته: توفي في 16 صفر سنة 1373 1. تفسيره: وأما تفسيره "ضياء الأكوان في تفسير القرآن" فقد صدر منه تفسير الجزء الأول والجزء الثاني من القرآن الكريم، وصدرت الطبعة الأولى سنة 1391 ولم أحصل إلا على الجزء الثاني من التفسير, ويحتوي على تفسير الجزء الثاني من القرآن الكريم. وقد حدَّد المؤلف في مقدمة الجزء الأول منهجه بقوله: "فقد عزمت -بحول الله تعالى وقوته- على كتابة تفسير للقرآن الكريم يكون سهل العبارة ريّق الإشارة يجمع بين جمال تفسيره وأسرار تأويله متحريا في ذلك الصحيح من الأقوال مجتنبا الحشو، والتطويل"2. وكتب الدكتور عبد الحليم محمود مقدمة للجزء الثاني جاء فيها: "ولصاحب الفضيلة الشيخ أحمد في تفسيره أنفاس مباركة ولمحات روحية طيبة نابعة من ممارسته للتصوف علما وعملا. وقد شاعت هذه الأنفاس واللمحات في تفسيره؛ فزادته بهجة إلى بهجة ونورا على نور"3. وقد انتشرت هذه الأنفاس التي أشار إليها عبد الحليم في هذا التفسير وتباعدت, وتتبعت عددا منها وجعلت لها عناوين هي من عبارات الصوفية أولا,   1 انظر ترجمته في آخر الجزء الثاني من تفسيره, ومناهج المفسرين: منيع عبد الحليم محمود ص361 و362. 2 عن كتاب مناهج المفسرين: منيع عبد الحليم محمود ص362. 3 ضياء الأكوان في تفسير القرآن: أحمد سعد العقاد, من مقدمة عبد الحليم محمود ص4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 ويدور عليها الحديث ثانيا, ووردت بحروفها ثالثا, قصدت من إيرادها إثبات نهجه النهج الصوفي في التفسير وهذه بعضها: التجلي: في تفسير قوله تعالى: {مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} 1 قال: "ويعني: التوجه للكعبة حق وكأن الله تعالى يقول: أنا الحق وتجليت بنور الحق على الكعبة المكرمة. فالمعظم لها إنما يعظم الحق والزائر لها إنما يزور الحق فبنور الروح ترى الحق متجليا في رسول الله وفي كتاب الله وفي الكعبة المكرمة تجليا خاصا لأهل المعرفة, جعلنا الله ممن خضعوا للحق وعرفوا الحق"2. الصلاة: وفي تفسير قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} 3, قال: "وللعارفين مشاهد, فصلاة الجسم بالحركات الظاهرة, وصلاة القلب بالحضور والخشية, وصلاة النفس بالخوف والأدب, وصلاة الروح بشهود الحق متجليا مشهودا بأنواره, حيث أشار لذلك رسول الله بقوله: "وجعلت قرة عيني في الصلاة" فالمؤمن لا تقر عينه ويشرح صدره إلا بشهود مولاه قريبا حاضرا جميلا جليلا"4. الحج: وفي قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه} 5 تحدث عن الحج المعروف عند المسلمين ثم ذكر نوعا آخر من الحج هو الحج عند من سماهم العارفين   1 سورة البقرة: من الآية 149. 2 ضياء الأكوان: ج2 ص14 و15. 3 سورة البقرة: الآية 238. 4 ضياء الأكوان: ج2 ص149. 5 سورة البقرة: من الآية 196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 فقال: "ولكن للعارفين حج آخر يحجونه متى اشتاقوا لحبيبهم وهو حج الروح لا يتكلفون سفرا ولا انتقالا؛ لأن مطلوبهم في أنفسهم وهو القلب الذي هو بيت الله العامر بأسرار الله وأنواره, وقد قال بعض العارفين: عجبت لمن يحن ويرحل لبيت الخليل1 وهو الكعبة, كيف لا يحن ويشاهد العجائب في بيت بناه الرب الجليل وهو القلب والغرض من القلب هو العامر بالإيمان والحب والتقوى والرحمة, فهو كنز السعادة فكعبة الأشباح بمكة المكرمة وكعبة الأرواح معك وهو قلبك, فاحرص على الطواف حول المعاني التي فيك يتجل لك خالقك وبارئك متعنا الله بتلك المعاني"2. أما نحن المسلمون فنحمد الله أن حمانا من هذه المعاني الضالة التي تمس حرمة بيت الله, وتقلل من شأن ركن من أركان الإسلام لمصلحة شبهة من شبهات الشيطان. شراب المعاني: وأشار إلى هذا عند تفسيره لقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} 3, فقال: "فحرمها الله تحريما كليا؛ لأنه علم من قلوبهم الاستعداد لقبول الأمر وذوقهم لحلاوة المعاني الروحية التي هي ألذ عند النفوس من كل شراب, وهي الراح الطهور التي من شرب منها كأسا هام في الحبيب واطلع على السر العجيب"4. الذكر: قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُم} 5 فسر المؤلف الذكر هنا بقوله: "والذكر له ثلاث حقائق: ذاكر ومذكور وذكر. فالذاكر هو   1 تقليل من شأن الكعبة المشرفة التي وصفها الله بالبيت الحرام, وبقوله سبحانه: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} ، فهل البيت بعد هذا بيت الخليل أو بيت الله؟ 2 ضياء الأكوان: أحمد العقاد ج2 ص84. 3 سورة البقرة: الآية 219. 4 ضياء الأكوان: ج2 ص106. 5 سورة البقرة: من الآية 152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 العبد الطائع، والمذكور هو الرب النافع, والذكر صفة تسكن في قلب العبد فتوقظه وتنوره وتشرح صدره وتصله بربه" ثم ذكر صفة الذكر فقال: "والذكر إما باللسان ليذكر غيره, أو بالقلب ليتذكر ما فيه من أسرار ربه وذكر القلب أنفع للذاكر, والكمال أن يجمع العبد بين ذكر القلب واللسان فينفع نفسه وينفع إخوانه، أما ذكر اللسان فهو أن تقول: الله الله بأدب وخشوع حتى يشرق عليك نور الاسم أو تذكر إخوانك بنعم الله وتشوقهم إلى جماله حتى يصطلحوا عليه, أما ذكر القلب فهو أن تفكر وتتذكر ما فيك من روح وعقل وحواس وإيمان وجمال"1. حقيقة الإنسان: تحدث بذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين} 2 فقال: "ولما كان الإنسان مكونا من حقيقتين: الأولى روحية والثانية بشرية, فالروحية تتنجس بالمعاصي والبشرية تتنجس بالجنابة والحيض والنفاس وجميع النجاسات والعبد لا يؤذن له بالدخول في الحضرة الإلهية إلا إذا تطهر من النجاستين، وتجمل بالطهارتين" ثم قال: "فيعلم من ذلك أن سالك الطريق إلى الله يجب عليه أن يعتني بالظاهر والباطن حتى يتجمل بجمال أسمائه تعالى الظاهر والباطن؛ ولهذا السر قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين} يعني: يا أيها المؤمن لست معصوما من الوقوع في النقائص, فبادر بالتوبة وهي انغماسك في بحر اسمه التواب فتخرج وعليك حلل الجمال والكمال ويمنحك الله الحب بسبب اعترافك بالنقص, وذلك يكون بكثرة تكرار التوبة والتواب هو الذي يشعر بالنقص في نفسه فيجعله يتوب في كل نفس, فينال مقام المحبة فالنقص عند العارفين معراج إلى الكمال" ثم قال: "فاعرف سبيل الوصول إلى مقام المحبة وحافظ على طهارة الضمير وطهارة الجسم فتتمكن من مقام المحبوبين"3.   1 ضياء الأكوان: أحمد العقاد ج2 ص18. 2 سورة البقرة: من الآية 222. 3 ضياء الأكوان: أحمد العقاد ج2 ص118 و119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 جنة الشهود: وإن شئت أن تعرف بعد هذا رأيه في ثواب التائبين قبل ثواب الآخرة, فقد أورده عند تفسيره لقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 1 فقال: "وقد ذاق العارفون حلاوة هذا السر, فرجعوا من الأكوان إلى المكون ورجعوا من أنفسهم إلى بارئها, ومن رجع إلى الله بالتوبة فقد وصل إلى الله وقامت قيامته ونصب له الميزان ودخل جنة الشهود وسيدخل جنة النعيم, إن شاء الله بغير حساب"2. إيلام الحواس: ذلكم أن المؤلف جرى على نهج الصوفية في اعتقادهم أن إيلام الحواس يوصل العبد للصفات الملكية, وهذا ما زعمه عند تفسيره لقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} 3. فقال: "والمراد بالجوع الصيام, فإنه يؤلم البشرية ويوصل العبد للصفات الملكية, بل يرفعه إلى الحظائر القدسية" إلى أن قال: "ومن هذه الآية عرف أهل الطريق أن الحس لا يأخذ العبد بشهادته وحكمه فهو كثير الخطأ يرى: اللذة في الأموال والأنفس والثمرات والحق تعالى يراها في المؤلم للحس والمخوف للنفس, فالحس قاطع لطريق الآخرة محجوب بمناظره وظواهره. فكل مؤلم فيه خير كما قال الحكماء: كل مر دواء ومتى انكشفت تلك الحقائق يسجد العبد شكرا لله على عنايته به في البلاء وترتفع ستائر عن النتائج؛ فتزول المرارة وتحل محلها اللذة والبهجة والسرور"4. ومما لا شك فيه أن هذا ليس هو منهج الإسلام الذي أطلق ميزانه بقوله:   1 سورة البقرة: من الآية 245. 2 ضياء الأكوان: ج2 ص153. 3 سورة البقرة: الآية 155. 4 ضياء الأكوان: أحمد العقاد ج2 ص22 و23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 "عجبا لأمر المؤمن, إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن, إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له, وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له" 1 وأطلقه بقوله: "وفي بضع أحدكم صدقة" قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام كان عليه وزر, فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر" 2 وأطلقه بقوة لأولئك النفر الذين قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر, وقال ثالثهم: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا, فأعلنها رسول الحق: "أما والله, إني لأخشاكم لله وأتقاكم له, لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء, فمن رغب عن سنتي فليس مني" 3. هذا هو منهج الإسلام في إيلام الحواس وما أخال هؤلاء الذين اعتقدوا أن إيلام الحواس يوصل العبد للصفات الملكية, ما أخالهم إلا رغبوا عن سنته -عليه الصلاة والسلام- ولذلك فهم يفرحون ويستبشرون بالابتلاء, ويسألون الله الحفظ إذا وقعت عليهم النعمة, وهذا ما قالوه في الابتلاء. الابتلاء: وذلك عند قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} 4. فقال: "ولا بد أن يكون الاسترجاع بالقلب والروح لا باللسان فقط, فالمؤمن إن أتته النعمة تنبه وخاف أن تكون بلية وسأل الله الحفظ, وإن أتته البلية فرح واستبشر؛ لأن في طيها عطية, جعلنا الله من أهل اليقظة5 والحضور"6.   1 رواه مسلم, كتاب الزهد ج18 ص125. 2 رواه مسلم, كتاب الزكاة ج7 ص92. 3 رواه البخاري, كتاب النكاح ج6 ص116؛ ومسلم, كتاب النكاح ج9 ص176. 4 سورة البقرة: من الآية 155 و156. 5 أهل اليقظة هم الذين يلتزمون حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن المؤمن, أنه إذا أصابته سراء شكر, وإذا أصابته ضراء صبر، ولم يقل: فرح, ويستبشر كما يزعم هؤلاء. 6 ضياء الأكوان: أحمد العقاد ج2 ص25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 الصيام: والصيام الحقيقي كما يقول في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل} 1: "والصيام الحقيقي يكون بسبع جوارح: صوم البطن عن الأكل والشراب, وصوم الفرج عن النكاح, وصوم اللسان عن كل ما لا يرضي الله تعالى, وصوم العين عن النظر إلى المحرمات, والأذن عن التجسس على العورات, واليد عن إيذاء الخلق أو كتابة ما يسيء لأحد, والرجل عن السعي إلى ما يغضب الله, وهذا هو الصيام الكامل الذي يجعل صاحبه تتفتح له أبواب الجنان, وتغلق له أبواب النيران"2. حدود الله: أما المراد بقربها المنهي عنه في قوله تعالى من الآية السابقة: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} فخصه بأهل اليقين فقال: "يعني: يا أهل اليقين, لا تقربوا الحدود واجعلوا بينكم وبينها سدا من الحلال حتى لا تقربوا منها, ولقد كان بعض الصحابة يقول: كنا نترك سبعين بابا من الحلال مخافة أن نقع في باب واحد من الحرام, والعارفون بالله يرون أن الدنو من المنكر أشد من الدنو من النار الملتهبة أو الوحوش المغتالة أو الحشرات السامة"3. إتيان البيوت: المبين في قوله تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} 4. فسره بقوله: "وفي الآية إشارة لأهل الذوق والفهم, وهي أن العلوم التي يجب أن يطلبها العبد أولا ويحرص عليها ويجتهد في البحث عنها هي العلوم   1 سورة البقرة: من الآية 187. 2 ضياء الأكوان: ج2 ص64. 3 المرجع السابق: ج2 ص67. 4 سورة البقرة: من الآية 189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 الدينية كعلم التوحيد وعلم الفقه وعلم التصوف, أما بحث الإنسان عن علم الفلك وعلوم الحساب والرياضة والجغرافيا قبل أن يتمكن من العلوم الدينية فهو خطأ, ومثاله كمن يأتي البيوت من ظهورها فكأن الحق يقول: ادخلوا إلى حضرات القرب من باب السعادة والعناية, وهو فهم العلوم الشرعية, ولا تعكسوا الأمر فتطلبوا علوم الدنيا فقط"1. جهاد النفس: وتحدث عن جهاد النفس في تفسيره لقوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2 قال: "ومن أراد أن يذوق حلاوة الجهاد في نفسه فعليه أن يسل عليها سيوف العزم والمحاسبة, ويقهرها في قيود الشريعة حتى لا تلتفت إلى منكر أو محرم وتحيا فيها المعاني اللطيفة فيكون صاحبها فتح الله له باب الملكوت, ونصره على أعدى الأعداء وهي النفس, فإذا حارب الكفار تمت له السعادتان: سعادة النفس والآفاق, فيتجلى له الحق ويأنس بالحق ويزول الباطل, جعلنا الله من المجاهدين في سبيله"3. منى: ومنى من المشاعر المقدسة في الحج, لكن المؤلف يفهم منه معنى آخر عند تفسيره لقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَات} 4 فقال: "لما أكرم الله الحجاج بالوقوف بعرفة ثم الذهاب إلى منى, وفيه الإشارة بأن الله تعالى أعطاهم المنى أو تجلى لهم بسر كرمه وحبه ونوره وظهوره؛ لهذا قال لهم: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَات} "5.   1 ضياء الأكوان: ج2 ص70. 2 سورة البقرة: من الآية 192. 3 ضياء الأكوان: ج2 ص72 و73. 4 سورة البقرة: من الآية 203. 5 ضياء الأكوان: أحمد العقاد ج2 ص83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 أدب الدعاء: وهي آداب خص بها العقل والقلب والروح, بينها عند تفسيره لقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 1. فقال في بيانها: "ونحن نؤمن أن هذا القرب كما يليق بنزاهة جنابه فالعقل نقول له: تأدب واعتقد أن قرب الله هو إحاطة بك وقهر لك تحت سلطانه, فلا تخرج عن الحدود والقلب نقول له: شاهد أنوار الله في آياته الدالة على أنه أقرب إلينا من كل قريب, فالأشياء قامت به وهو قيومها وهي عدم والوجود منه, فإن جاءتك نعمة فهو الموصل لها إليك بالوسائل والأسباب, ونقول للروح: شاهدي أنوار تجليه وظهور معانيه فظهور المعاني يستر المباني ويجعلها أقرب للقلب من كل روحاني وجسماني, وقد وصل العارفون إلى الله على معراج اسمه القريب, فإنهم خشعوا وتأدبوا وشاهدوه قريبا مجيبا"2 الأولياء: وقد خص المؤلف في تفسيره الأولياء بخصائص وأولاهم عناية كبيرة, وهذه بعض تلك المواضع: شهادة الأولياء: يختلف الأولياء بالشهادة عن غيرهم, فغيرهم يستشهد بالقتل في ميدان الجهاد, أما الأولياء فاستشهادهم بالقتل بسيف المحبة وسهام مخالفة النفس وسيف طلب العلم, نص على هذا عند تفسيره لقوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} 3 حيث قال: "والأولياء لهم قدم صدق في هذه الحياة, فإن منهم من قتل بسيف المحبة, ومنهم من قتل بسهام مخالفة النفس, ومنهم من قتل بسيف طلب العلم والسهر في تحصيله والتلذذ به ونسيان   1 سورة البقرة: من الآية 186. 2 ضياء الأكوان: أحمد سعد العقاد ج2 ص61. 3 سورة البقرة: الآية 154. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 البشرية فيحييهم الله في برازخهم, ويكتبهم عنده شهداء, جعلنا ممن استنارت بصائرهم فشاهدوا تلك الحقائق"1. زيارة الأولياء: وهو لا يحث على زيارة الأولياء فحسب, بل يوجب إعانة زوار الأولياء وتقديم المال والطعام اللازمين لهم, وعد زوار الأولياء من أبناء السبيل الذين تدفع إليهم الزكاة المستحبة والواجبة "وساوى" بين المسافر الذي يطلب العلم والمسافر الذي يزور الأولياء, قال بهذا عند تفسيره لقوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ..} 2 الآية, ففسر ابن السبيل بقوله: "وابن السبيل هو المسافر الذي يطلب العلم أو يزور الأولياء أو ينظر في آيات الله أو يتعرف بإخوان المؤمنين, فله حق على من نزل بهم أن يكرموه ويدخلوا عليه السرور ويعطوه مما أعطاهم الله" ثم قال: "وإذا دعا ابن السبيل لمن أكرمه استجاب الله دعاءه, فهو من رتبة المهاجرين الذين تركوا الأوطان والخلان"3. رياض الأولياء: ولم يكتف بوجوب إعانة زوار الأولياء, بل جعل رياض الأولياء من الأماكن الطاهرة التي تستجاب فيها الدعوات, فقال: "والأفضل أن يتحرى العبد أوقات الإجابة كوقت السحر والأماكن الطاهرة كالمساجد ورياض الأولياء, ويقدم التوبة والاستغفار ويتوسل برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويرفع شكواه إلى الله معتقدا في نفسه أنه كالغريق, ولا يأخذ بيده إلا مولاه القادر"4 ومن المعلوم أن التوسل برسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يجوز أيضا.   1 ضياء الأكوان: ج2 ص21. 2 سورة البقرة: من الآية 177. 3 ضياء الأكوان: أحمد العقاد ج2 ص49. 4 ضياء الأكوان: أحمد العقاد ج2 ص61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 ذنوب الأولياء: ولكن والحق يقال لم يعتقد العصمة للأولياء, ونص على هذا عند تفسيره لقوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُم} 1 فقال: "فإذا وقع من الولي ذنب فلا تعرض عنه؛ فإنه يذنب ويتوب, ومن اعتقد العصمة في الأولياء فقد أخطأ, فاقتدِ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو الإمام المعصوم"2. وإلى هنا نكتفي بما ذكرنا من تفسيره الصوفي, ولعل فيه إن شاء الله كفاية لمرادنا.   1 سورة البقرة: من الآية 187. 2 ضياء الأكوان: أحمد العقاد ج2 ص64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 رأيي في التفسير الصوفي الحديث : استدل المتصوفة على صحة تفسيرهم بقوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 1, وقوله سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} 2, وبقوله صلى الله عليه وسلم: "لكل آية ظهر وبطن, ولكل حرف حد, ولكل حد مطلع" 3 واستدلوا بحادثة استدعاء عمر لابن عباس في مجلسه مع أشياخ بدر -رضي الله عنهم أجمعين- وقد سبق بيان الحادثة. هذا هو أهم ما استدلوا به لصحة تفسيرهم, وأن هذا دليل على سلامة تفاسيرهم وأن لها أصلا شرعيا. ونحن لا ننكر وجوب التدبر في القرآن الكريم, ولا ننكر أيضا أن يكون لمعاني القرآن معانٍ ظاهرة متبادرة للذهن ومعانٍ أخرى حق تحتاج إلى تدبر وتمعن, يؤتيه الله من يشاء من عباده وتتفاوت فيه الدرجات, لكنا نرفض كل الرفض أن يكون هذا النوع هو الذي يزعمه الصوفية من إشارات ورموز وطلاسم قوامها الوجد والذوق، تذهب صفاء القرآن الكريم ونقاءه. ولا بد أن نبين هنا رأيا لم نكد نجد أحدا قال به إلا الدكتور السيد أحمد خليل, الذي أجمل الإشارة إليه وليته زادها تفصيلا4.   1 سورة محمد: الآية 24. 2 سورة النساء: من الآية 78. 3 أخرجه الفريابي من رواية الحسن مرسلا, عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد سبق تخريج هذا الحديث عند بيان منهج أهل السنة في التفسير. 4 دراسات في القرآن: الدكتور السيد أحمد خليل ص127 و128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 إنه يجب أن نفرق بين نوعين من التفسير, هما: 1- التفسير الإشاري. 2- التفسير الرمزي. أما الأول فحق, وهو ينقسم إلى قسمين: تفسير إشاري معنوي. وتفسير إشاري لفظي. ونريد بالتفسير الإشاري المعنوي: التفسير المرتبط بإشارة المعنى العام للآية أو السورة, وهي الدلالة على معنى آخر يستبطن المعنى الإجمالي فهما يؤتيه الله من يشاء من عباده لا يخالف نصا, ولا يجافي لفظا, ولا يجاوز معنى حقا. ومن هذا النوع ما سبق ذكره من استدعاء عمر لابن عباس -رضي الله عنهم- في مجلسه مع شيوخ بدر -رضي الله عنه- وسؤال عمر لهم: ما تقولون في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ؟ فقال بعضهم: أمرنا نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا, وسكت بعضهم فلم يقل شيئا, فقال لي: أكذلك تقول يابن عباس؟ فقلت: لا قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم, أعلمه له قال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وذلك علامة أجلك, {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول, رواه البخاري. ومن هذا النوع أيضا ما رواه ابن جرير الطبري لما نزلت: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 1 وذلك يوم الحج الأكبر, بكى عمر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك؟ " قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا, فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص! فقال: "صدقت" 2. كل هذا المعاني معانٍ باطنة لا تخالف المعنى الظاهر للآية, ولا تنتهك نطاق لفظه ولا حدود معانيه, فكان القبول لها حليفا. ونريد بالتفسير الإشاري اللفظي: التفسير المرتبط بإشارة لفظه خاصة   1 سورة المائدة: من الآية 3. 2 تفسير الطبري: ج9 ص519. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 يستدل بها على معنى آخر يستبطن معناها في سياقها العام, ومن هذا النوع من التفسير ما استدل به العز بن عبد السلام على صحة أنكحة الكفار من قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} 1 ومنه أيضا ما استدل به المفسرون من قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} 2 بأنه "عبر عنه بهذه العبارة إشارة إلى جهة وجوب المؤن عليه؛ لأن الوالدات إنما ولدن للآباء ولذلك ينسب الولد للأب دون الأم"3. هذا هو التفسير الإشاري السليم بقسميه, فهم لا يعكر معنى ولا يخالف نصا ولا يجافي لفظا بل يستمد مقوماته من النص الماثل أمامه من غير تحريف ولا تأويل خارج عن حدود الدين واللغة, وهو الذي تدل عليه النصوص والأدلة التي استدلوا بها لصحة التفسير الإشارى إذ هذا هو ما تدل عليه. أما النوع الذي يجب أن نفرق بينه وبين التفسير الإشاري فهو التفسير الرمزي, وهو التفسير الذي سلكه الصوفيون وهم يحسبون أنهم يسلكون الأول وما هم بسالكيه. ذلكم أن التفسير الرمزي تفسير صوفي يعتمد في سبيل الوصول إلى المعرفة على منهج قوامه الوجد والذوق والترقي في مقاماتهم, حتى يصل المتصوف مقام العرفان فتفيض عليه -بزعمهم- مكنونات العلم وأسرار المعرفة, بل يصل إلى أبعد من هذا فتفوض جملة الأمور إليه بحيث لا يسقط ورق من شجر إلا بإذن وكتاب وأجل منه, وليس وراء هذه مقام ومرتبة4. ولأن تفاسيرهم لا تخضع لقاعدة ولا لأصل, بل تختلف باختلاف مقام الصوفي ومواجده وذوقه؛ لذا "تختلف تفسيراتهم اختلافا شديدا لا يمكن حده أو النظر في أبعاده"5.   1 سورة المسد: الآية 4. 2 سورة البقرة: من الآية 233. 3 تفسير القاسمي: ج3 ص610. 4 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص79. 5 دراسات في القرآن: د. السيد أحمد خليل ص127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 ولهذا جعل الصوفية معجما خاصا باصطلاحات حتى هم أنفسهم لا يعرفون بعضها ويحذرون المريد من الشك فيما لا يفهمه من طلاسمهم, وهذا النوع هو الذي أراده الإمام الغزالي في الصنف الثاني من الشطح عند الصوفية, حيث قال عنه: "كلمات غير مفهومة لها ظواهر رائعة وفيها عبارات هائلة, وليس وراءها طائل, وتلك إما أن تكون غير مفهومة عند قائلها بل يصدرها عن خبط في عقله وتشويش في خياله لقلة إحاطته بمعنى كلام قرع سمعه, وهذا هو الأكثر وإما أن تكون مفهومة له ولكنه لا يقدر على تفهيمها وإيرادها بعبارة تدل على ضميره لقلة ممارسته للعلم وعدم تعلمه طريق التعبير عن المعاني بالألفاظ الرشيقة, ولا فائدة لهذا الجنس من الكلام إلا أنه يشوش القلوب ويدهش العقول ويحير الأذهان أو يحمل على أن يفهم منها معانٍ ما أريدت, ويكون فهم كل واحد على مقتضى هواه وطبعه"1. هذه ناحية من ناحيتين يؤدي إليهما التفسير الذي يقوم على الوجد, والذوق. أما الناحية الثانية فهو ما زعموه من الحب لله وتفريغ القلب من سواه والعشق والهيام, وقسموا أنفسهم حسب تفاوتهم في هذا إلى مراتب, وأعلاها مرتبة الفناء, وهي أن ينتهي سلوكه إلى الله تعالى في الله يستغرق في بحر التوحيد والعرفان بحيث تضمحلّ ذاته في ذاته وصفاته في صفاته, ويغيب عن كل ما سواه ولا يرى في الوجود إلا الله, وهو الذي يسمونه: الفناء في التوحيد"2. وقد مر بنا أن الغزالي عدّ هذا النوع من شطح الصوفية وأنها "الدعاوى الطويلة العريضة في العشق مع الله تعالى والوصال المغني عن الأعمال الظاهرة, حتى ينتهي قوم إلى دعوى الاتحاد وارتفاع الحجاب والمشاهدة بالرؤية والمشافهة بالخطاب, فيقولون: قيل لنا: كذا وقلنا: كذا"3.   1 إحياء علوم الدين ج1 ص42 و43. 2 مصرع التصوف: برهان الدين البقاعي ص81 عن التفتازاني في شرح المقاصد. 3 إحياء علوم الدين: الغزالي ج1 ص43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 وقد حرصت في التفسيرين اللذين درسناهما في التصوف وهما: بيان السعادة في مقامات العبادة، وضياء الأكوان في تفسير القرآن: أن يكون أولهما من النوع الأول في التفسير الرمزي وهو التفسير الذي يكثر فيه الألفاظ الغامضة والطلاسم والاصطلاحات، وأن يكون ثانيهما من النوع الثاني فيه وهو ما تكثر فيه عبارات العشق والشوق، حيث جعل الحج عند العارفين حج الروح إلى القلب الذي هو بيت الله العامر وليس إلى بيت الخليل؟! وزعم حلاوة المعاني راحا طهورا من شربها هام في الحبيب, وجعل الذكر ترديد: الله الله حتى يشرق عليك نور الاسم, وجعل شهادة الأولياء بقتلهم بسيوف المحبة وسهام مخالفة النفس ونحو ذلك. وقد حان وقت صلاة الظهر وأنا في مكتبة أحدهم في بلد إسلامي وعدت بعد أدائها والرجل لا يزال في مكانه, وحين سألته: لِمَ لم يصلِّ؟ اكتفى بضحكة أحسبها ساخرة وكأنه يقول كما وصفهم الغزالي في النص السابق: "إنه قام بالوصال المغني عن الأعمال الظاهرة" أما وصاله فقد امتلأت كتبه بشنيع الأقوال, فهو يزعم حب الإله فينادي إلهه بقوله: "أحببتك حبا لا يعدله حب مخلوق لك, اللهم سوى مصطفاك وحده الذي خلقته بالحب ومن الحب وفي الحب" ثم ندم على هذا الاستثناء فأعاده بدونه: "لقد أحببتك يا مولاي حبا لا يساويه حب أحد قبلي, ولن يدانيه حب أحد بعدي"1. وهو يزعم أنه رأى الله لا في صنعه, بل في الحقيقة وعلى الحقيقة فقال: إلهي لم أرد أني رأيتك في صنعك وفي إبداعك وفيما أنشأته في ملكك وتنشئه في ملكوتك فحسب, فهذا ما تراه البهم والعجماوات بل رأيتك في الحقيقة: على الحقيقة"2. ذكرني هذا بقول الغزالي عنهم: وصال مغن عن الأعمال الظاهرة وادعاء المشاهدة بالرؤية.   1 الحب: ابن الخطيب ص82 و83. 2 الحب: ابن الخطيب ص90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 خلاصة الرأي: أن المقبول هو التفسير الإشاري على المعنى الذي ذكرته, والمرفوض هو التفسير الرمزي الصوفي الذي لا يقوم على قواعد صحيحة ولا أسس سليمة, وإنما قوامه الوجد والذوق الذي ما أنزل الله به من سلطان. انتهى الجزء الأول, ويليه -إن شاء الله- الجزء الثاني, وأوله الباب الثاني: الاتجاهات العلمية في التفسير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 المجلد الثاني الباب الثاني: الاتجاهات العلمية في التفسير الفصل الأول: المنهج الفقهي في التفسير مدخل ... الباب الثاني: الاتجاهات العلمية في التفسير الفصل الأول: المنهج الفقهي في التفسير أنزل الله سبحانه وتعالى هذا القرآن العظيم لحِكَم عظيمة، غايتها ونهايتها: 1- تصحيح العقيدة. 2- تقويم السلوك. أما أولها: فقامت به آيات العقائد، وبنته على قواعد سليمة قوامها أركان الإيمان. أما الثاني؛ فتفلت به آيات الأحكام على وجه اختاره الله لعباده، ضلوا إن عملوا بسواه، وكفروا إن حكموا بغيره. وقد استحوذ هذان الركنان على جُلِّ -أو إن شئت فقل: كل- آيات القرآن الكريم، وما عداهما من آيات القصص والأمثال والوعد والوعيد لا يخرج كله عن تقرير عقيدة أو تقويم سلوك، فهو داخل في دائرة هذين الركنين، لا يخرج عنهما بحال من الأحوال. ولكونه -عليه الصلاة والسلام- هو المبيِّن لما نزل؛ فقد أَوْلَى هذين الركنين جُلَّ اهتمامه وكبير عنايته، فلا تكاد تمر مناسبة أو يقع انحراف في العقيدة عن خطأ أو جهل أو عن عمد من المشركين إلا وبيَّن -عليه الصلاة والسلام- العقيدة الصحيحة ونقاها، من الشوائب كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس فتعود بيضاء نقية؛ بل هي المحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلا هالك، ولا تكاد تقع حادثة أو قضية من القضايا إلا وبيَّن لهم صلى الله عليه وسلم حِكَمَ الله فيها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 بما يزول به الباطل، ويظهر به الحق، ويُذعن له المؤمنون، ويحكِّمونه فيما بينهم، ثم لا يجدون في أنفسهم حرجًا مما قضى ويسلموا تسليمًا. بل لم يكن صلى الله عليه وسلم في كل هذا أو ذاك ينتظر وقوع حادثة أو سؤال سائل؛ بل كان يشرح لهم جوانب العقيدة، ويبسط لهم أحكام الشريعة على كل حال وفي كل آنٍ، قد يبين هذا من نفسه، وقد تنزل به آيات القرآن؛ فصار هذان منهلَيْنِ ينهل منهما العلماء الأحكام الشرعية. إذًا فلم تكن السنة وحدها مختصة ببيان الأحكام، ولم يكن القرآن الكريم كذلك؛ بل هما معًا المصدر الحق لاستمداد كل هذا. ولا شك أن دلالة النصوص القرآنية لا تظهر بصورة شاملة للحُكْم في كثير من الأحوال، كما أنها لا تدل بصورة قطعية على الأحكام في بعض الأحوال. كما أن السُّنة النبوية ليست على درجة واحدة في الثبوت عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بل هي تتفاوت بين الصحة والضعف؛ فكان لزامًا لمن أراد استنباط الأحكام الشرعية أن يأخذ بالكتاب والسُّنة معًا، فكلاهما مبيِّن للآخر بالخصوص والعموم أو الإطلاق والتقييد وغير ذلك، ولا يُنكر هذا إلا مكابر معاند. ولهذه الاختلافات في دلالة النصوص القرآنية، وتفاوت ثبوت بعض الأحاديث، وللعَلاقة الثابتة بين الكتاب والسنة، لهذا كله أصبح المجال في غالبه مجال اجتهاد وإعمال ذهن واستنباط؛ بل سَمِّه فقهًا. وبهذا نكون نشأة الفقه مبكرة في صدر الإسلام؛ لكن تطور الاختلاف في الفروع إلى أن يكون لكل طريقة في الاستنباط مذهب فقهي، له قواعده وأصوله ومنهجه في استخراج الأحكام؛ إنما حدث في القرن الثاني الهجري؛ حيث نشأت المذاهب الفقهية المعروفة، والمعترَف بسلامة أصولها وصحة قواعدها، وهي: 1- المذهب الحنفي. 2- المذهب المالكي. 3- المذهب الشافعي. 4- المذهب الحنبلي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 وقد ظهرت مذاهب أخرى؛ لكنها اندثرت أو لم تكن كالمذاهب الأربعة؛ من حيث: سلامتها، وكثرة أتباعها، وصحة قواعدها، وأمثلة هذا مدرسة الليث وابن أبي ليلى والأوزاعي والطبري، وأبي داود الظاهري والجعفري والزيدي والإباضي، وغير ذلك. وقد سعى أتباع كل مذهب فقهي إلى آيات الأحكام في القرآن الكريم؛ يفردونها بالتأليف، يفسرونها حسب قواعد مذهبهم في استنباط الأحكام؛ فخرجت تفاسير لآيات الأحكام لا تكاد تجد بينها وبين كتب الفقه كبير فارق؛ ذلكم أن أصول الاستنباط وقواعده واحدة، وخالط بعضها تعصب للمذهب مذموم، وجاء بعضهاالآخر محمودًا. فمن المؤلفات في ذلك: - من المذهب الحنفي: تفسير أحكام القرآن لأبي بكر الرازي المعروف بالجصاص، ويقع في ثلاثة مجلدات. - ومن المذهب المالكي: تفسير أحكام القرآن لأبي بكر ابن العربي، ويقع في أربعة مجلدات، ومنه أيضًا تفسير الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله القرطبي، ويقع في عشرة مجلدات كبار. - ومن المذهب الشافعي: كتاب أحكام القرآن، جمعه أبو بكر البيهقي من نصوص الإمام الشافعي، ويقع في مجلد واحد، وأحكام القرآن للكيا الهراسي، ويقع في مجلدين، وكتاب الإكليل في استنباط التنزيل لجلال الدين السيوطي في مجلد. - أما المذهب الحنبلي: فلم أجد تفسيرًا -مطبوعًا- لآيات الأحكام على أصول هذا المذهب، ولعل تفسير زاد المسير لابن الجوزي وإن لم يكن خاصًّا بآيات الأحكام إلا أنه حنبلي المذهب، وهناك من المخطوطات تفسير أحكام القرآن لأبي يعلى، وتفسير الخرقي، وقد سبقت الإشارة إليهما في التمهيد1.   1 انظر ص42-43. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 وهناك مؤلفات في تفسير آيات الأحكام لغير هذه المذاهب، لا أرى موجبًا لذِكْرِها. وما ذكرتُه من أمثلة للمؤلفات ليس كل ما كتب فيها؛ فقد اعتنى العلماء في القديم بهذا اللون من التفسير، وإذا ما حوَّلنا النظر إلى العصر الحديث فلا نكاد نجد منها ما يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وقد تبين لي من مُطالعتي لهذه التفاسير أن هناك فروقًا بين المؤلفات الحديثة والمؤلفات القديمة؛ أذكر منها: أولًا: أن غالب المؤلفات الحديثة غير شاملة لآيات الأحكام كلها؛ بل تقتصر على بعض الآيات من بعض السور، ولعل سبب ذلك أن هذه المؤلفات إنما وضعت لطلبة الدراسات في الكليات؛ فكان ما يُكتب فيها حسب مناهج الدراسة في هذه الكليات، بخلاف المؤلفات في القديم؛ فهي شاملة لآيات الأحكام الصريحة وغير الصريحة؛ لأنه لا يلتزم منهجًا وضعه له غيره لا يحيد عنه. ثانيًا: أن التفاسير في العصر الحديث لا تلتزم مذهبًا بعينه، فهي تفسر آيات القرآن الكريم حسب المتبادر منها من غير توجيه لها أو صرف إلى مذهب معين؛ ولهذا فلا تجد فيها التعصب للمذهب الذي سرى في بعض المؤلفات القديمة؛ بل إن مؤلفي العصر الحديث يُصرحون في مقدِّمة تفاسيرهم بأنهم لا يلتزمون مذهبًا بعينه؛ وإنما يتبعون ما يرون أنه الحق. ثالثًا: أن التفاسير في العصر الحديث لا تستطرد في الحديث عن فروع الفروع؛ بل تكتفي ببيان مهمات الآيات المدروسة ودلالتها من غير توسع يحوِّل التفسير إلى كتاب فقهي موسَّع بكل أبعاده وجوانبه. وهذا خلاف بعض التفاسير القديمة التي تذكر في تفسير الآية ما لا يمت لها بصلة، ولا مكان له إلا كتب الفقه المطولة. رابعًا: وهذا الفارق متولِّد عن الفارق الذي قبله؛ وهو أن اقتصار المؤلفات الحديثة -على ما ذكرنا- وكونها تؤلف للدارسين جعلها أقل حجمًا من المؤلفات القديمة؛ إذ لا يتجاوز حجم أكبرها مجلدين، بخلاف المؤلفات القديمة التي وصل بعضها إلى عشرة مجلدات كبار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 خامسًا: اختلاف الأسلوب بين العصرين؛ ذلكم أن المؤلِّفين في القديم يكتبون بأسلوب علمي مركز، تحتاج بعض العبارات فيه إلى شرح وبيان، خلاف الأسلوب الحديث الذي يكتب به المتأخرون؛ حيث يُوفِّي العبارة حقها؛ بل قد يزيد التوضيح إلى درجة الإطناب. سادسًا: اعتنى بعض المؤلفين في العصر الحديث بالرد على ما يُثار حول بعض القضايا الفقهية من شبهات؛ كحد قطع يد السارق، ورجم الزاني، وتحريم الربا، وتعدد الزوجات، ونحو ذلك، ولم يكن هذا موجودًا بهذا الاهتمام عند الأولين. وبعد: فإن هذه المزاينا وإن كان ظاهرها أنها لصالح المؤلفين في العصر الحديث؛ فإنها لا تعني أن مؤلفاتهم هي الأفضل؛ بل الأفضل لو كتب أحد المعاصرين تفسيرًا شاملًا لآيات الأحكام -كفعل السابقين- غير ملتزم بمنهج دراسي، وبأسلوب حديث، ويعتني فيه بالرد الواضح على ما يُثار من شبهات، أقول: لو وُجد هذا لكان عندي هو الأفضل، أما والأمر على غير ذلك فلكل من هؤلاء وأولئك فضل لا يُنكر. وإذا ما أردنا أن ندرس تفسير آيات الأحكام في العصر الحديث بشيء من التفصيل؛ فإني أؤثر تقسيمها تقسيمًا عقائديًّا؛ ذلكم أن أتباع المذاهب الأربعة في الفقه كلهم ينص على أنه لا يتعصب لمذهب بعينه من المذاهب الأربعة، فآراؤهم في مجملها لا تخرج عن هذه المذاهب، ورابطتها مذهب أهل السنة. أما الفقه الجعفري؛ فهو وإن كان مذهبًا غير معترَف به عند العلماء المعتبرين، إلا أنا رأينا عدم إغفاله ونحن نكتب عن تفسير آيات الأحكام؛ لتناول مفسري الشيعة لها، وتأويلهم لها حسب مذهبهم الشيعي، وكذا الإباضية تناول بعض مفسريهم آيات الأحكام بما يخالف المذهب الصحيح، فرغبت الإشارة إليه؛ وعلى هذا فسيكون تناولي للفقه على هذا الترتيب. أولًا: فقه أهل السُّنة والجماعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 ثانيًا: فقه الشيعة "الإمامية الاثنا عشرية". ثالثًا: فقه الإباضية. علمًا أن تناولي لفقه أهل السُّنة سيكون على الإجمال ثم على التفصيل: أما الإجمال، فأعرض فيه لتفسير آيات الأحكام عند مَن فسَّر القرآن الكريم كاملًا، أما التفصيل، فدراسة لتفاسير أَفردتْ آيات الأحكام ولم تتناول سواها. وهذا في فقه أهل السُّنة، أما فيمن سواهم فعلى الإجمال دون التفصيل؛ وذلك إما لعدم حصولي على تفسير خاص بآيات الأحكام عندهم، أو لعدم وجود هذا النوع من التفاسير لديهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 أولا: فقه أهل السنة والجماعة مدخل ... أولًا: فقه أهل السُّنة والجماعة من المسائل الفقهية ما وافقت فيه الشيعة والإباضية أهل السنة والجماعة تمام الموافقة، أو خالفتهم فيه مخالفة لا تُذكر. ومن المسائل -وهو محصور ومعدود- ما كان الاختلاف فيه كبيرًا، وقد يصل إلى درجة التضاد، هذا النوع الأخير من المسائل هو ما أتوسع في الحديث فيه هنا، أما غيره فنذكره -إن ذكرناه- لبيان طريقة تناول هؤلاء وأولئك لآيات الأحكام ليس إلا. ونحن نذكر رأي كل فرقة في مكانه؛ ولذا تتكرر الأبحاث حسب تكرر المذاهب؛ فتتناول مثلًا بحث نكاح المتعة عند أهل السنة عامة، ثم عند مفسري آيات الأحكام آحادًا، ثم نتناوله بإيراد آراء الشيعة عند دراسة فقههم وهكذا. أولًا: غسل الرِّجْلين في الوُضوء في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} 1 الآية. اتفق أصحاب المذاهب الأربعة أن فرض الرجلين الغسل وليس المسح، وبسطوا في ذلك حججهم ومنهم؛ الشيخ الشنقيطي -رحمه الله تعالى- حيث قال في تفسيرها: "في قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} ثلاث قراءات: واحدة شاذة، واثنتان متواترتان؛ أما الشاذة: فقراءة الرفع، وهي قراءة الحسن، وأما المتواترتان: فقراءة النصب وقراءة الخفض؛ أما النصب فهي قراءة نافع وابن عامر والكسائي وعاصم في رواية حفص من السبعة، ويعقوب من الثلاثة.   1 المائدة: آية 6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 وأما الجر، فهو قراءة ابن كثير وحمزة وأبي عمرو وعاصم في رواية أبي بكر. أما قراءة النصب فلا إشكال فيها؛ لأن الأرجل فيها معطوفة على الوجوه، وتقرير المعنى عليها: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وأرجلكم إلى الكعبين، وامسحوا برءوسكم؛ وإنما أدخل مسح الرأس بين المغسولات محافظة على الترتيب؛ لأن الرأس يمسح بين المغسولات؛ ومن هنا أخذ جماعة من العلماء وجوب الترتيب في أعضاء الوضوء حسبما في الآية الكريمة. وأما على قراءة الجر، ففي الآية الكريمة إجمال؛ وهو أنها يُفهم منها الاكتفاء بمسح الرِّجْلين في الوضوء عن الغسل كالرأس، وهو خلاف الواقع للأحاديث الصحيحة الصريحة في وجوب غسل الرجلين في الوضوء، والتوعد بالنار لمن ترك ذلك؛ كقوله صلى الله عليه وسلم. "ويل للأعقاب من النار" 1. اعلم أولًا أن القراءتين إذا ظهر تعارضهما في آية واحدة لها حُكْم الآيتين كما هو معروف عند العلماء، وإذا علمت ذلك فاعلم أن قراءة {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب صريح في وجوب غسل الرجلين في الوضوء، فهي تفهم أن قراءة الخفض إنما هي لمجاورة المخفوض مع أنها في الأصل منصوبة بدليل قراءة النصب، والعرب تخفض الكلمة لمجاورتها للمخفوض مع أن إعرابها النصب أو الرفع. وما ذكره بعضهم من أن الخفض بالمجاورة معدود في اللحن الذي يتحمل لضرورة الشعر خاصة، وأنه غير مسموع في العطف، وأنه لم يجز إلا عند أَمْنِ اللبس؛ فهو مردود بأن أئمة اللغة العربية صرحوا بجوازه؛ وممن صرح به الأخفش وأبو البقاء وغير واحد، ولم ينكره إلا الزجاج، وإنكاره له مع ثبوته في كلام العرب وفي القرآن العظيم يدل على أنه لم يتتبع المسألة تتبعًا كافيًا. والتحقيق أن الخفض بالمجاورة أسلوب من أساليب اللغة العربية، وأنه جاء في القرآن لأنه بلسان عربي مبين ... ". ثم ذكر الشيخ الشنقيطي -رحمه الله   1 صحيح البخاري: كتاب الوضوء ج1 ص49، ومسلم: كتاب الطهارة ج 1 ص213. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 تعالى- عددًا من الأمثلة من الشعر العربي، فذكر بيتًا لامرئ القيس ثم لذي الرمة ثم للنابغة ثم لامرئ القيس ثانية ثم لزهير ثم لشاعر لم يسمِّه، وأورد بعد ذلك أمثلة لورود الخفض بالمجاورة في القرآن الكريم، وقال بعد هذا كله: "وبهذا تعلم أن دعوى -كون الخفض بالمجاورة لحنًا لا يحتمل إلا لضرورة الشعر- باطلة، والجواب عما ذكروه من أنه لا يجوز إلا عند أمن اللبس هو أن اللبس هنا يزيله التحديد بالكعبين؛ إذ لم يرد تحديد الممسوح وتزيله قراءة النصب كما ذكرنا، فإن قيل: قراءة الجر الدالة على مسح الرجلين في الوضوء هي المبيِّنة لقراءة النصب بأن تجعل قراءة النصب عطفًا على المحل؛ لأن الرءوس مجرورة بالباء في محل نصب على حد قول ابن مالك في الخلاصة: وجر ما يتبع ما جر ومن ... راعى في الاتباع المحل فحسن وابن مالك وإن كان أورد هذا في "إعمال المصدر" فحكمه عام؛ أي: وكذلك الفعل والوصف، كما أشار له في الوصف بقوله: واجرر أو انصب تابع الذي انخفض ... كمبتغي جاه ومالًا من نهض "فالجواب" أن بيان قراءة النصب بقراءة الجر -كما ذكر- تأباه السنة الصريحة الصحيحة الناطقة بخلافه، وبتوعد مرتكبه بالويل من النار، بخلاف بيان قراءة الخفض بقراءة النصب، فهو موافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه قولًا وفعلًا. فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: تخلَّف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها فأدركنا، وقد أرهقتنا الصلاة -صلاة العصر- ونحن نتوضأ؛ فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: "أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار". وكذلك هو في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه. وفي صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار". وروى البيهقي والحاكم بإسناد صحيح عن عبد الله بن حارث بن جزء أنه سمع رسول الله صلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 الله عليه وسلم يقول: "ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار". وروى الإمام أحمد وابن ماجه وابن جرير عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ويل للأعقاب من النار". وروى الإمام أحمد عن معيقيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ويل للأعقاب من النار". وروى ابن جرير عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النار"، قال: فما بقي في المسجد شريف ولا وضيع إلا نظرت إليه يقلب عرقوبيه ينظر إليهما. وثبت من أحاديث الوُضوء عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان وعلي وابن عباس ومعاوية وعبد الله بن زيد بن عاصم والمقداد بن معد يكرب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل الرِّجْلين في وضوئه إما مرة أو مرتين أو ثلاثًا، على اختلاف رواياتهم. وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جَده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل قدميه، ثم قال: "وهذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" 1. والأحاديث في الباب كثيرة جدًّا، وهي صحيحة صريحة في وجوب غسل الرجلين في الوضوء، وعدم الاتجزاء بمسحهما2. ذلكم تفسير الشيخ الشنقيطي لهذه الآية، وقد قال بهذا أيضًا الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله تعالى- ولكن باختصار فقال معددًا الأحكام التي تُؤخذ من الآية المذكورة: "الثالث عشر: الأمر بغسل الرجلين إلى الكعبين، ويقال فيهما ما يقال في اليدين. الرابع عشر: فيها الرد على الرافضة، على قراءة الجمهور بالنصب، وأنه لا يجوز مسحهما ما دامتا مكشوفتين. الخامس عشر: في الإشارة إلى مسح الخفين، على قراءة "وأَرْجُلِكم" وتكون كل من القراءتين   1 رواه ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما. كتاب الطهارة، ج1 ص162. 2 أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: محمد الأمين الشنقيطي، ج2 ص7-13 باختصار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 محمولة على معنى؛ فعلى قراءة النصب فيها غسلهما إن كانتا مكشوفتين، وعلى قراءة الجر فيها مسحهما إذا كانتا مستورتين بالخف"1. وكذا الدكتور محمد سيد طنطاوي، فإنه أورد ملخصًا لتفسير القرطبي -رحمه الله تعالى- للآية، ثم أشار إلى أن ابن كثير عقد فصلًا أورد فيه كثيرًا من الأحاديث التي وردت في غسل الرجلين وجعل عنوانه: "ذكر الأحاديث الواردة في غسل الرجلين وأنه لَا بُدَّ منه". وأورد بعض الأحاديث التي ساقها ابن كثير، ثم استدل ببعض الأقوال الأخرى، وختم نُقولَه هذه بقوله: "هذا ومن كل ما تقدم نرى وجوب غسل الرجلين في الوضوء، سواء أكانت القراءة بالنصب أم بالجر، وقد بسطت بعض كتب الفقه والتفسير هذه المسألة بسطًا موسعًا، فليرجع إليها مَن شاء"2. وبهذا ترى أنه اكتفى بعرض آراء العلماء السابقين المعتبرين في تفسير الآية، واكتفى بتأييد هذه الآراء. ثانيًا: صلاة الجمعة وقد أفاض الشيخ عطية محمد سالم -تلميذ الشيخ محمد الأمين الشنقيطي- في تتمته لتفسير شيخه، أفاض الحديث في أحكام صلاة الجمعة والأذان من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} 3 الآية، حتى فاق في فصوله التي عقدها كثيرًا من كتب الفقه المتخصصة، ومن بين هذه الفصول فصل تحت عنوان: "حُكْم صلاة الجمعة عند الفقهاء"، قال فيه بعد إيراد الآية السابقة: "وفيه الأمر بالسعي إذا نُودي إليها، والأمر يقتضي الوجوب ما لم يوجد له صارف، ولا صارف له هنا؛ فكان يكفي حكاية الإجماع على وجوبها، كما حكاه ابن المنذر وابن قدامة وغيرهما، ونقله الشوكاني، وهو قول الأئمة الأربعة -رحمهم الله- ولكن وُجد مَن يقول: إن   1 تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن السعدي، ج2 ص252. 2 تفسير سورة المائدة: الدكتور محمد سيد طنطاوي، ص82. 3 سورة الجمعة: من الآية 9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 الجمعة ليست بواجبة، ولعله ظن أن في الآية صارفًا للأمر عن الوجوب، وهو ما جاء في آخر السياق في قوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} ، فقالوا: "إن ألأمر لتحصيل الخير المذكور، وقد نُقل عن بعض أتباع بعض الأئمة -رحمهم الله- ما يُوهم أنها ليست بفرض، وهو مسطر في كتبهم، مما قد يغتبر به بعض البسطاء، ولا سيما مع ضعف الوازع وكثرة الشاغل في هذه الآونة، مما يستوجب إيراده وبيان ردِّه من أقوال أصحابهم وأئمتهم، رحمهم الله جميعًا"1. ثم أورد أقوال أصحاب المذاهب الأربعة وأئمتهم بما يثبت به قولهم جميعًا بوجوبها، ثم قال بعدما أورده كله: "فهذه نصوص المذاهب الأربعة في وجوب الجمعة وفَرْضِها على الأعيان؛ فلم يبقَ لأحد بعد ذلك أدنى شبهة يلتمسها من أيِّ مذهب ولا تتبع شواذه للتهاون بفرض الجمعة لنيابة الظهر عنها. ثم اعلم أن في الآية قرينة على هذا الوجوب، وأنه لا صارف للأمر عن وجوب السعي إليها؛ وذلك أن مع الأمر بالسعي إليها الأمر بترك البيع والنهي عنه، وإذا كان ترك البيع واجبًا من أجلها فما وجب هو من أجله كان وجوبه هو أَوْلَى، قال في المغني: فأمر بالسعي، ويقتضي الأمر الوجوب، ولا يجب السعي إلا إلى الواجب، ونهى عن البيع لئلا يشغل به عنها، فلو لم تكن واجبة لما نهى عن البيع من أجلها، وهو واضح كما ترى، والأحاديث في الوعيد لتاركها بدون عذر مشهورة تؤكد الوجوب"2، ثم ذكر بعض الأحاديث في ذلك. أما الشيخ جمال الدين القاسمي، فقد أوجز العبارة في أحكام صلاة الجمعة، ورَدَّ على مَن زعم فرضية الظهر بعدها، فقال رحمه الله تعالى: "وظاهره أنه لا يشرع بعدها صلاة ما، غير أنه كان صلى الله عليه وسلم يتنفل بعدها في بيته ركعتين -وفي رواية: أربعًا- وأما اعتقاد فرضية الظهر بعدها إذا تعددت؛ فتعصب مذهبي لا برهان له"3.   1 أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: تتمة الشيخ عطية محمد سالم، ج8 ص287. 2 المرجع السابق، ج8 ص292. 3 تفسير القاسمي: ج16 ص5804. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 ثالثًا: الخمس في الغنائم: يرى فقهاء المذاهب الأربعة أن المراد بالغنيمة ما حواه المسلمون من أموال الكفار، وذلك في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} 1. فقال الشيخ الشنقيطي في تفسيره لها: "ظاهر هذه الآية الكريمة أن كل شيء حواه المسلمون من أموال الكفار، فإنه يخمس حسبما نص عليه في الآية، سواء أوجفوا عليه الخيل والركاب أو لا؛ ولكنه تعالى بيَّن في سورة الحشر أن ما أفاء الله على رسوله من غير إيجاف المسلمين عليه الخيل والركاب أنه لا يخمس، ومصارفه التي بيَّن أنه يصرف فيها كمصارف خمس الغنيمة المذكورة هنا؛ وذلك في قوله تعالى في فيء بني النضير: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} 2 الآية، ثم بيَّن شمول الحكم لكل ما أفاء الله على رسوله من جميع القرى بقوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} 3 الآية. اعلم أولًا أن أكثر العلماء فرَّقوا بين الغنيمة والفيء؛ فقالوا: الفيء هو ما يسره الله للمسلمين من أموال الكفار من غير انتزاعه منهم بالقهر ... وأما الغنيمة فهي ما انتزعه المسلمون من الكفار بالغلبة والقهر ... وقال بعض العلماء: "إن الغنيمة والفيء واحد، فجميع ما أُخذ من الكفار على أي وجه كان غنيمة وفيئًا، وهذا قول قتادة -رحمه الله- وهو المعروف في اللغة"4. هذا ما قاله -رحمه الله تعالى- في الغنيمة. أما تفسيره للخمس الذي يُؤخذ من هذه الغنيمة فقال عنه: "ظاهر الآية أنه يجعل ستة أنصباء: نصيب لله   1 سورة الأنفال: من الآية 41. 2 سورة الحشر: من الآية 6. 3 سورة الحشر: من الآية 7. 4 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي، ج2 ص315، 316، باختصار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 جل وعلا، ونصيب للرسول صلى الله عليه وسلم، ونصيب لذي القربى، ونصيب لليتامى، ونصيب للمساكين، ونصيب لابن السبيل". ثم قال: "والتحقيق أن نصيب الله جل وعلا ونصيب الرسول صلى الله عليه وسلم واحد، ذكر اسمه جل وعلا استفتاح كلام للتعظيم"، ثم استدل لهذا القول بعدة أدلة أعقبها بقوله: "فإذا عرفت أن التحقيق أن الخمس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم يقسم خمسة أسهم؛ لأن اسم الله ذكر للتعظيم وافتتاح الكلام به، مع أن كل شيء مملوك له جل وعلا، فاعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصرف نصيبه الذي هو خمس الخمس في مصالح المسلمين؛ بدليل قوله في الأحاديث التي ذكرناها آنفًا: "والخمس مردود عليكم"1، وهو الحق ... ". ثم ذكر الأقوال في نصيبه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته وعقَّب عليها قائلًا: "ولا يخفى أن كل الأقوال في نصيب النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته راجعة إلى شيء واحد؛ وهو صرفه في مصالح المسلمين"2. أما نصيب ذوي القربى من الخمس، فقد ذكر فيه ثلاث مسائل: الأولى: هل يسقط بوفاته أم لا؟ وقال فيها: "وقد ذكرنا أن الصحيح عدم السقوط خلافًا لأبي حنيفة". أما الثانية فعن المراد بذي القربى، وقال عن ذلك: "أما ذوو القربى فهم بنو هاشم وبنو المطلب، على أظهر الأقوال دليلًا، وإليه ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور ومجاهد وقتادة وابن جريج ومسلم بن خالد". أما المسألة الثالثة: فهل يفضل ذكرهم على أنثاهم؟ ورجح -رحمه الله تعالى- أنه لا يفضل ذكرهم على أنثاهم3. ثم عقب على هذه الأبحاث في الخمس بقوله: "وأما قول بعض أهل البيت كعبد الله بن محمد بن علي وعلي بن الحسين رضي الله عنهم: بأن الخمس كلهم دون غيرهم، وأن المراد باليتامى والمساكين يتاماهم ومساكينهم، وقول مَن   1 الإمام أحمد: ج5 ص316، والنسائي: كتاب قسم الفيء 7، ص131. 2 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي، ج2 ص357-360، باختصار. 3 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي، ج2 ص361-346، باختصار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 زعم أنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم يكون لقرابة الخليفة الذي يوليه المسلمون، فلا يخفى ضعفهما والله تعالى أعلم"1. وخلاصة رأيه -رحمه الله تعالى- أن الخمس من الغنائم في الحروب يُقسم إلى خمسة أسهم: أما سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته فيصرف في مصالح المسلمين، وسهم ذوي القرى فيصرف لبني هاشم والمطلب، أما أسهم اليتامى والمساكين وابن السبيل فليس المراد بهم يتامى ومساكين أهل البيت؛ بل هو عام ليتامى ومساكن المسلمين. وهذا الذي قاله الشيخ الشنقيطي -رحمه الله- هو الذي قال به أصحاب المذاهب الأربعة مع بعض الاختلافات الفرعية خلافًا للشيعة كما سيأتي بيانه إن شاء الله، وهو أيضًا ما قال به طائفة المفسرين في العصر الحديث. ومنهم الشيخ جمال الدين القاسمي؛ فقد بين هذا إجمالًا وتفصيلًا، قال في إجماله: " {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} أي: قل أو كثر من الكفار {فَأَنَّ لِلَّهِ} أي: الذي منه النصر المتفرع عليه الغنيمة {خُمُسَهُ} شكرًا له على نصره وإعطائه الغنيمة، و {وَلِلرَّسُولِ} أي: الذي هو الأصل في أسباب النصر، و {وَلِذِي الْقُرْبَى} وهم بنو هاشم والمطلب، و {وَالْيَتَامَى} أي: مَن مات آباؤهم ولم يبلغوا؛ لأنهم ضعفاء. {وَالْمَسَاكِينِ} لأنهم أيضًا ضعفاء كاليتامى. {وَابْنِ السَّبِيلِ} وهو المسافر الذي قطع عليه الطريق، ويريد الرجوع إلى بلده، ولا يجد ما يتبلغ به"2. هذا ما ذكره -رحمه الله تعالى- إجمالًا، ولا موجب لذكر تفصيله خشية الإطالة. ومن المفسرين أيضًا الذين ذكروا ما ذكره الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله تعالى- فقال: " {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} أي: أخذتم من مال الكفار قهرًا بحق، قليلًا كان أو كثيرًا". ثم قال: "وأما هذا الخمس فيقسم خمسة أسهم: سهم لله ولرسول يصرف في مصالح المسلمين العامة من غير تعيين   1 أضواء البيان، محمد الأمين الشنقيطي، ج2 ص328. 2 تفسير القاسمي: ج8 ص2997. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 لمصلحة؛ لأن الله جعله له ولرسوله، والله ورسوله غنيان عنه؛ فعُلم أنه لعباد الله، فإذا لم يعين الله له مصرفًا دلَّ على أن مصرفه للمصالح العامة. والخمس الثاني: لذي القربى؛ وهم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب، وإضافة الله إلى القرابة دليلٌ على أن العلة فيه مجرد القرابة؛ فيستوي فيه غنيهم وفقيرهم، ذكرهم وأنثاهم. والخمس الثالث: لليتامى؛ وهم الذين فقدت آباؤهم وهم صغار، جعل الله لهم خمس الخمس رحمة بهم؛ حيث كانوا عاجزين عن القيام بمصالحهم، وقد فُقد مَن يقوم بمصالحهم. والخمس الرابع: للمساكين؛ أي: المحتاجين الفقراء من صغار وكبار وذكور وإناث. والخمس الخامس: لابن السبيل؛ وهو الغريب المنقطع به في غير بلده. وبعض المفسرين يقول: "إن خمس الغنيمة لا يخرج عن هذه الأصناف، ولا يلزم أن يكونوا فيه على السواء؛ بل ذلك تبع للمصلحة، وهذا هو الأَوْلَى"1. وقد أجمل الغزالي خليل عيد -رحمه الله تعالى- المعنى العام للآية فقال: "بيَّن الله تعالى لعباده أن الأشياء التي غنموها من الكفار، وحصلوا عليها بالقوة، يجب أن تخمس؛ أي: تقسم إلى خمسة أخماس، وأن يكون خمسها لله ولرسوله، ولأقرباء الرسول صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب، وللأيتام الذين فقدوا آباءهم وهم صغار لم يبلغوا الحلم، وللمساكين الذين ليس عندهم ما يكفيهم، ولأبناء السبيل المسافرين الذين يحتاجون إلى ما يساعدهم في سفرهم"2. ولن أطيل بذكر غير مَن ذكرت، والخلاصة: أن رأي فقهاء أهل السنة أن الخمس إنما هو من غنائم الحرب، وأنه للرسول، ويصرف في مصالح المسلمين، ولبني   1 تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن السعدي، ج3 ص169، 170. 2 تفسير سورة الأنفال: الغزالي خليل عيد، ص91. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 هاشم وبني المطلب من قرابته صلى الله عليه وسلم، واليتامى والمساكن وابن السبيل من سائر أمته عليه الصلاة والسلام. رابعًا: إِرْث الأنبياء عليهم السلام والأنبياء لا يورثون؛ وإنما قال بأنهم يورثون بعض الرافضة، ومما استدلوا به -كما سيأتي بسط وجهه- قوله تعالى عن زكريا عليه السلام: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} 1، زاعمين أن الإرث هنا إرث مالي، وقد بيَّن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي الموروث هنا بقوله رحمه الله تعالى: "معنى قوله: {خِفْتُ الْمَوَالِيَ} أي: خفت أقاربي وبني عمي وعصبتي أن يضيعوا الدِّين بعدي، ولا يقوموا لله بدينه حق القيام؛ فارزقني ولدًا يقوم بعدي بالدين حق القيام، وبهذا التفسير تعلم أن معنى قوله: {يَرِثُنِي} أنه إِرْثُ عِلْم ونبوة ودعوة إلى الله والقيام بدينه، لا إرث مال. ويدل لذلك أمران: "أحدهما": قوله: {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} ومعلوم أن آل يعقوب انقرضوا من زمان؛ فلا يورث عنهم إلا العلم والنبوة والدِّين. "والأمر الثاني": ما جاء من الأدلة على أن الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- لا يورث عنهم المال؛ وإنما يورث عنهم العلم والدين؛ فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا نورَّث، ما تركنا صدقة" 2. ومن ذلك أيضًا ما رواه الشيخان أيضًا عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال لعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعيد وعلي والعباس رضي الله عنهم: أُنشدكم الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم   1 سورة مريم: الآيتين 5، 6. 2 البخاري: باب فرض الخمس، ج4 ص42، ومسلم: كتاب الجهاد، ج3 ص1380. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 قال: "لا نورث، ما تركناه صدقة"، قالوا: نعم1. ومن ذلك ما أخرجه الشيخان أيضًا عن عائشة -رضي الله عنها- أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين تُوفي أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن، فقالت عائشة: أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما تركنا صدقة" 2. ومن ذلك ما رواه الشيخان أيضًا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتسم ورثتي دينارًا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومئونة عاملي فهو صدقة" 2. وفي لفظ عند أحمد: "لا تقتسم ورثتي دينارًا ولا درهمًا". ومن ذلك أيضًا ما رواه أحمد والترمذي وصححه3 عن أبي هريرة: أن فاطمة -رضي الله عنها- قالت لأبي بكر رضي الله عنه: مَن يرثك إذا مت؟ قال: ولدي وأهلي، قالت: فما لنا لا نرث النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن النبي لا يورث"؛ ولكن أعول مَن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوله، وأُنفق على مَن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق. فهذه الأحاديث وأمثالها ظاهرة في أن الأنبياء لا يورَّث عنهم المال؛ بل العلم والدين"4. ثم ذكر -رحمه الله تعالى- عددًا من الأحاديث في عموم عدم الإرث المالي في جميع الأنبياء، وقال بعد ذلك: "وبهذا الذي قررنا تعلم أن قوله هنا: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} يعني: وراثة العلم والدين لا المال. وكذلك قوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} 5 الآية، فتلك الوراثة أيضًا وراثة عِلْمٍ ودين، والوراثة قد   1 البخاري: باب فرض الخمس، ج4 ص43، ومسلم: كتاب الجهاد، ج3 ص1377-1378. 2 صحيح البخاري: باب فرض الخمس، ج4 ص45، صحيح مسلم: كتاب الجهاد، ج3 ص1382، وأحمد ج2 ص242. 3 مسند الإمام أحمد، ج1 ص10، وسنن الترمذي: كتاب السير، ج4 ص157، وقال: حسن غريب من هذا الوجه، ولعله -رحمه الله- وَهِمَ حين قال: والترمذي وصححه. 4 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي، ج4 ص206، 207. 5 سورة النمل: من الآية 16. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 تُطلق في الكتاب والسنة على وراثة العلم والدين؛ كقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} 1 الآية، وقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} 2، وقوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ} 3 الآية، إلى غير ذلك من الآيات. ومن السنة الواردة في ذلك ما رواه أبو الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "العلماء ورثة الأنبياء"، وهو في المسند والسنن4، 5. هذا بعض ما ذكره -رحمه الله تعالى- في إِرْث الأنبياء، وأكتفي به كمثال لتفسير هذه الآية عند علماء السُّنة والجماعة. خامسًا: نكاح المتعة أجمع فقهاء أهل السُّنة والجماعة -بل سائر المذاهب- على تحريم نكاح المتعة إلا طائفة الشيعة؛ بل صار القول بها سمة من سمات التشيع العديدة. واستدلوا بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُن} 6 الآية، وفسرها أهل السُّنة بما مثاله في تفسير الشيخ الشنقيظي -رحمه الله تعالى- حيث قال: "يعني: كما أنكم تستمتعون بالمنكوحات فأعطوهن مهورهن في مقابلة ذلك، وهذا المعنى تدل له آيات من كتاب الله؛ كقوله تعالى: {وكيف تأخذونه وقد   1 سورة فاطر: من الآية 32. 2 سورة الشورى: من الآية 14. 3 سورة الأعراف: من الآية 169. 4 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي، ج4 ص208، 209. 5 البخاري: كتاب العلم "الترجمة" ج1 ص10، وأحمد، ج5 ص196، وأبو داود: كتاب العلم، ج3 ص317، وابن ماجه: المقدمة، ج1 ص97، 98. 6 سورة النساء: من الآية 24. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْض} 1 الآية، فإفضاء بعضهم إلى بعض المصرح بأنه سبب لاستحقاق الصداق كاملًا هو بعينه الاستمتاع المذكور هنا في قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} الآية، وقوله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} 2، وقوله: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} 3 الآية. فالآية في عقد النكاح لا في نكاح المتعة، كما قال به مَن لا يعلم معناها، فإن قيل التعبير بلفظ الأجور يدل على أن المقصود الأجرة في نكاح المتعة؛ لأن الصداق لا يُسمَّى أجرًا؛ فالجواب: أن القرآن جاء فيه تسمية الصداق أجرًا في موضع لا نزاع فيه؛ لأن الصداق لما كان في مقابلة الاستمتاع بالزوجة كما صرح به تعالى في قوله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَه} الآية، صار له شبه قوي بأثمان المنافع فسُمي أجرًا، وذلك الموضع هو قوله تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} 4 أي: مهورهن بلا نزاع، ومثله قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} 5 الآية؛ أي: مهورهن؛ فاتضح أن الآية في النكاح لا في نكاح المتعة، فإن قيل: كان ابن عباس وأُبي بن كعب وسعيد بن جبير والسدي يقرءون: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى، وهذا يدل على أن الآية في نكاح المتعة؛ فالجواب من ثلاثة أوجه6: الأول: أن قولهم: إلى أجل مسمى، لم يثبت قرآنًا لإجماع الصحابة على عدم كَتْبه في المصاحف العثمانية، وأكثر الأصوليين على أن ما قرأه الصحابي على أنه قرآن ولم يثبت كونه قرآنًا لا يستدل به على شيء؛ لأنه باطل من أصله؛ لأنه لم ينقله إلا على أنه قرآن؛ فبَطَل كونه قرآنًا ظهر بطلانه من أصله. الثاني: أنا لو مشينا على أنه يحتج به كالاحتجاج بخبر "لآحاد" كما قال به   1 سورة النساء: من الآية 21. 2 سورة النساء: من الآية 4. 3 سورة البقرة: من الآية 229. 4 سورة النساء: من الآية 25. 5 سورة المائدة: الآية 5. 6 لكنَّه رحمه الله تعالى ذكر أربعة أوجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 قوم، أو على أنه تفسير منهم للآية بذلك فهو معارض بأقوى منه؛ لأن جمهور العلماء على خلافه، ولأن الأحاديث الصحيحة الصريحة قاطعة بكثرة بتحريم نكاح المتعة، وصرح صلى الله عليه وسلم بأن ذلك التحريم دائم إلى يوم القيامة، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث سبرة بن معبد الجهني -رضي الله عنه- أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فقال: "يأيها الناس، إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا". وفي رواية لمسلم في حجة الوداع1، ولا تعارض في ذلك لإمكان أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك يوم فتح مكة، وفي حجة الوداع أيضًا، والجمع واجب إذا أمكن، كما تقرر في علم الأصول وعلوم الحديث. الثالث: أنا لو سلمنا تسليمًا جدليًّا أن الآية تدل على إباحة نكاح المتعة؛ فإن إباحتها منسوخة -كما صح نسخ ذلك- في الأحاديث المتفق عليها عنه صلى الله عليه وسلم، وقد نسخ ذلك مرتين: الأولى يوم خيبر، كما ثبت في الصحيح، والأخرى يوم فتح مكة، كما ثبت في الصحيح أيضًا. الرابع: أنه تعالى صرح بأنه يجب حفظ الفرج عن غير الزوجة والسرية في قوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} 2 في الموضعين، ثم صرح بأن المبتغي وراء ذلك من العادين بقوله: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِك} الآية. ومعلوم أن المستمتَع بها ليست مملوكة ولا زوجة؛ فمتبغيها إذن من العادين بنص القرآن، أما كونها غير مملوكة فواضح، وأما كونها غير زوجة فلانتفاء لوازم الزوجية عنها؛ كالميراث والعدة والطلاق والنفقة، ولو كانت زوجة لورثت واعتدَّت، ووقع عليها الطلاق، ووجبت لها النفقة كما هو ظاهر"3.   1 صحيح مسلم: كتاب النكاح ج2 ص1025. 2 سورة المؤمنون: من الآية 6، وسورة المعارج: الآية 30. 3 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج1 ص322-324. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 وخشية الإطالة في هذا البحث، ولما سيأتي من زيادة بيان -إن شاء الله- نكتفي بما أوردناه هنا في نكاح المتعة وفي غيره. وهذا ما وعدنا بذِكْرِه مجملًا لتفاسير شاملة تناولت آيات الأحكام. أما ما وعدنا بذِكْرِه مفصلًا أو ببعض التفصيل، فهي دراسة تفاسير تناولت آيات الأحكام خاصة ولم تتناول سواها، وهنا مكان الوفاء بالوعد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 تفاسير آيات الأحكام : وهذا النوع من التفسير -كما أشرت سابقًا- لم يؤلَّف فيه الكثير؛ بل هي مؤلفات معدودة، حصلت منها على ما يأتي: 1- نيل المرام في تفسير آيات الأحكام، تأليف: السيد محمد صديق حسن، وبين يدي طبعة 1399هـ، في مجلد واحد صفحاته تقريبًا 570، وبتحقيق وتعليق: علي السيد صبح المدني. 2- روائع البيان تفسير آيات الأحكام، تأليف: محمد علي الصابوني. 3- تفسير آيات الأحكام، أشرف على طَبْعِه وتنقيحه: محمد علي السايس. 4- تفسير آيات الأحكام، تأليف: مناع القطان. 5- قبس من التفسير الفقهي، الدكتور الشافعي عبد الرحمن السيد. 6- دراسات في تفسير بعض آيات الأحكام، للدكتور كمال جودة أبو المعاطي. وسنعرض لها آحادًا بشيء من التفصيل، وعلى هذا الترتيب السالف: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 أولًا: نيل المرام في تفسير آيات الأحكام أولًا: المؤلف1 هو أبو الطيب محمد صديق خان بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني البخاري القنوجي. ولد في "بريلي" ثم رحل صغيرًا إلى قنوج، وتعلم بـ"دلهي" في الهند، وانتهى به الترحال في "بهوبال"؛ حيث تزوج ملكتها، عُرف بكثرة الكتابة فكان يكتب في اليوم الواحد عند كراريس، ومن مؤلفاته: الإذاعة لما كان ويكون بين يدي الساعة، والدين الخالص، والعبرة بما جاء في الغزو والشهادة والهجرة، وفتح البيان في مقاصد القرآن في عشرة مجلدات، وغير ذلك، وقد بلغت مؤلفاته نيِّفًا وستين مصنفًا بالعربية والفارسية والهندية. ولد سنة 1248، وتُوفي سنة 1307. ثانيًا: التفسير تناول -رحمه الله تعالى- في تفسيره الآيات التي يَحتاج إلى معرفتها كلُّ راغب في معرفة الأحكام الشرعية القرآنية، ويرى أنها مائتا آية أو قريب من ذلك، ولم يصح عنده القول بأنها خمسمائة آية، قال: "وإن عدلنا عند وجعلنا الآية كل جملة مفيدة يصح أن تسمى كلامًا في عُرْف النحاة كانت أكثر من خمسمائة آية   1 اقتبستُ الترجمة من ترجمته المنشورة في مقدمة تفسيره هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 وهذا القرآن مَن شك فيه فليعد"1. ثم بيَّن -رحمه الله تعالى- أنه لم يستقصِ في تفسيره هذا نوعين من آيات الأحكام: أحدهما: ما مدلوله بالضرورة؛ كقوله سبحانه وتعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} للأمان من جهله إلا أن تشتمل الآية من ذلك على ما لا يُعلم بالضرورة؛ بل بالاستدلال، فأذكرها لأجل القسم الاستدلالي منها؛ كآية الوضوء والتيمم. وثانيهما: ما اختلف المجتهدون في صحة الاحتجاج به على أمر معين، وليس بقاطع الدلالة ولا واضحها، فإنه لا يجب على مَن لا يعتقد فيه دلالة أن يعرفه؛ إذ لا ثمرة لإيجاب معرفة الاستدلال به، وذلك كالاستدلال على تحريم لحوم الخيل بقوله تعالى: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَة} 2، وهذا لا تجب معرفته إلا على مَن يحتج به مِن المجتهدين؛ إذ لا سبيل إلى حصر كل ما يظن أو يجوز فيه استنباط الأحكام من خفي معانيه، ولا طريق إلى ذلك إلا عدم الوجدان، وهي من أضعف الطرق عند علماء البرهان"3. ثم بعد أن بيَّن ما لا يريد ذكره وضَّح ما يقصد ذكره بقوله: "وليس القصد إلا ذكر ما يدل على الأحكام دلالة واضحة؛ لتكون عناية طالب الأحكام به أكثر، وإلا فليس يحسن من طالب العلم أن يهمل النظر في جميع كتاب الله تعالى مقدمًا للعناية فيه، شاملًا للطائف معانيه، مستنبطًا للأحكام والآداب من ظواهره وخوافيه؛ فإنه الأمان من الضلال والعبود الأعظم في جميع الأحوال"4. ثم أوجز منهجه فيما تناوله من هذه الآيات لقوله: "وهأنا أُفسر تلك الآيات المشار إليها بتفسير وجيز جامع لما له وعليه، ولم آخذ فيها من الأقوال   1 نيل المرام من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص13. 2 سورة النحل: من الآية 8. 3 نيل المراد من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص13، 14. 4 نيل المراد من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص13، 14. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 المختلفة إلا الأرجح، ومن الدلائل المتنوعة إلا الأصح الأصرح، ولعمري لا يوجد قَطُّ تفسير موجز بهذا النمط"1. نماذج من تفسيره: والأمثلة على التزامه المنهج الذي رسمه لنفسه آنفًا كثيرة، نقتبس منها بعض الأبحاث التي وقع فيها خلاف بين أهل السنة ومَن عداهم؛ حتى يتضح منها انتماؤه، فمن ذلك: غسل الرجلين في الوضوء: قال تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} 2، فجاء تفسيهر لها بقوله: قرأ نافع بنصب أرجل، وهي قراءة الحسن البصري والأعمش، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة بالجر، فقراءة النصب تدل على أنه يجب غسل الرجلين؛ لأنها معطوفة على الوجوه والأيدي، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء. والفصل بالمسموح بين المغسولات يفيد وجوب الترتيب في تطهير هذه الأعضاء، وعليه الشافعي. وقراءة الجر تدل على أنه يجوز الاقتصار على مسح الأرجل؛ لأنها معطوفة على الرءوس، وإليه ذهب ابن جرير الطبري، وهو مروي عن ابن عباس. قال داود الظاهري: "يجب الجمع بين الأمرين على اقتضاء القراءتين". وقال ابن العربي: "اتفقت الأمة على وجوب غسلهما، وما علمت مَنْ رَدَّ ذلك إلا الطبري من فقهاء المسلمين، والرافضة من غيرهم، وتعلق الطبري بقراءة الجر". ثم قال رحمه الله تعالى: ولكن قد ثبت في السنة المطهرة بالأحاديث الصحيحة مِن فعله صلى الله عليه وسلم وقوله غسل الرجلين فقط.   1 نيل المرام من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص13، 14. 2 سورة المائدة: من الآية 6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 وثبت عنه أنه قال: "ويل للأعقاب من النار"، وهو في الصحيحين وغيرهما؛ فأفاد وجوب غسل الرجلين، وأنه لا يجزئ مسحهما؛ لأن شأن المسح أن يصيب ما أصاب ويخطئ ما أخطأ، فلو كان مجزئًا لما قال: "ويل للأعقاب من النار". وقد ثبت أنه قال بعد أن توضأ وغسل رجليه: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به"، وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أن رجلًا توضأ فترك على قدمه مثل موضع الظفر؛ فقال له: "ارجع فأحسن وضوءك"1 2. الخمس من الغنائم: وذلك من قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} 3. فقال -رحمه الله تعالى- في بيانها: قال القرطبي: "اتفقوا على أن المراد بالغنيمة في هذه الآية مالُ الكفار إذا ظفر بهم المسلمون على وجه الغلبة والقهر"، قال: "ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص؛ ولكن عرف الشرع قيد اللفظ بهذا النوع". ثم قال: وقد حكى الإجماع جماعةٌ من أهل العلم عن أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين، وممن حكى ذلك ابن المنذر وابن عبد البر والداودي والمازري والقاضي عياض وابن العربي. والأحاديث الواردة في قسمة الغنيمة من الغانمين وكيفيتها كثيرة جدًّا، قال القرطبي: "ولم يقل أحدٌ -فيما أعلم- إن قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَال} الآية، ناسخ لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية؛ بل قال الجمهور: إن قوله: {أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} ناسخ، وهم الذين لا يجوز عليهم التحريف ولا التبديل لكتاب الله"4.   1 نيل المرام من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص314، 315. 2 صحيح مسلم: كتاب الطهارة ج1 ص215. 4 نيل المرام من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص378، 379. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 أما بيانه لكيفية قسمة الخمس فقال فيه: قد اختلف العلماء في كيفية قسمة الخمس على أقوال ستة: الأول: قالت طائفة: يقسم الخمس على ستة؛ فيجعل السدس للكعبة وهو الذي لله، والثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والثالث لذوي القربى، والرابع لليتامى، والخامس للمساكين، والسادس لابن السبيل. القول الثاني: قال أبو العالية والربيع: إنها تُقسَّم -أي: الغنيمة- على خمسة، فيعزل منها سهم واحد ويقسم أربعة على الغانمين، ثم يضرب يده في السهم الذي عزله، فما قبضه من شيء جعله للكعبة، ويقسم بقية السهم الذي عزله على خمسة للرسول من بعده في الآية. القول الثالث: عن زين العابدين علي بن الحسين أنه قال: إن الخمس لنا، فقيل له: إن الله يقول: {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل} ؟ فقال: يتامانا وماسكيننا وأبناء سبينا. القول الرابع: قول الشافعي: إن الخمس يقسم على خمسة، وإن سهم الله وسهم رسوله واحد، يصرف في مصالح المؤمنين، والأربعة الأخماس على الأصناف الأربعة المذكورة في الآية. القول الخامس: قول أبي حنيفة: إنه يقسم الخمس على ثلاثة: اليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وقد ارتفع حكم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته كما ارتفع حكم سهمه، قال: ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر، وبناء المساجد، وأرزاق القضاة والجند، ورُوي نحو هذا عن الشافعي. القول السادس: قول مالك: إنه موكول إلى نظر الإمام واجتهاده، فيأخذ منه بغير تقدير، ويعطي منه الغزاة باجتهاده، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين، قال القرطبي: "وبه قال الخلفاء الأربعة وبه عملوا"، وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم: "ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم"، فإنه لم يقسمه أخماسًا ولا أثلاثًا؛ وإنما ذَكَرَ ما في الآية مَنْ ذَكَرَ على وجه التنبيه عليهم؛ لأنهم مِن أهم مَن يدفع إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 قال الزجاج محتجًّا لهذا القول: "قال الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} 1، وجائز بالإجماع أن ينفق في غير هذه الأصناف إذا رأى ذلك"2. أما سهم "ذي القربى" فقال عنه: "اختلف أهل العلم: هل ثبت وبقي سهمهم اليوم أم سقط بوفاته صلى الله عليه وسلم، وصار الكل مصروفًا إلى الثلاثة الباقية؟ فذهب الجمهور -ومنهم مالك والشافعي- إلى الثبوت واستواء الفقراء والأغنياء للذكر مثل حظ الأنثيين، وقال أبو حنيفة وأهل الرأي بسقوط ذلك، والتفصيل يُطلب من مواطنه"3. نكاح المتعة: والآية مثار البحث هذا هي قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} 4، وقد بحثها -رحمه الله تعالى- بحثًا شافيًا كافيًا فقال: وقد اختلف أهل العلم في معنى الآية؛ فقال الحسن ومجاهد وغيرهما: المعنى فيما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الشرعي فآتوهن أجورهن؛ أي: مهورهن. وقال الجمهور: إن المراد بهذه الآية نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام، ويؤيد ذلك قراءة أُبي بن كعب وابن عباس وسعيد بن جبير: "فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن"، ثم نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، كما صح ذلك من حديث علي -عليه السلام- قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر"، وهو في الصحيحين5 وغيرهما.   1 سورة البقرة: من الآية 215. 2 نيل المرام من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص380، 381. 3 نيل المراد من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص382. 4 سورة النساء: من الآية 24. 5 البخاري: كتاب المغازي ج5 ص78، صحيح مسلم: كتاب النكاح ج2 ص1027. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 وفي صحيح مسلم من حديث سبرة بن معبد الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم فتح مكة: "يأيها الناس، إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، والله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخلِّ سبيلها، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا". وفي لفظ لمسلم: أن ذلك كان في حجة الوداع، فهذا هو الناسخ، وقال سعيد بن جبير: نستختها آية الميراث؛ إذ المتعة لا ميراث فيها. وقال القاسم بن محمد وعائشة: تحريمها ونسخها في القرآن، وذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} 1، وليست المنكوحة بالمتعة من أزواجهم ولا مما ملكت أيمانهم، فإن من شأن الزوجة أن ترث وتورث، وليست المتمتع بها كذلك. وقد رُوي عن ابن عباس أنه قال بجواز المتعة، وأنها باقية لم تنسخ، ورُوي عنه أنه رجع عن ذلك عندما بلغه الناسخ. وقد قال بجوازها جماعة من الروافض، ولا اعتبار بأقوالهم، وقد أتعب نفسه بعض المتأخرين بتكثير الكلام على هذه المسألة، وتقوية ما قاله المجوزون لها، وليس هذا المقام مقام بيان بطلان كلامه. وقد طول الشوكاني -رحمه الله- البحث، ودفع الشبهة الباطلة التي تمسك بها المجوزون لها في شرحه للمنتقى فليرجع إليه، وأشرنا إليه في مسك الختام شرح بلوغ المرام2. نكاح المشركات والكتابيات: وذلك في قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} 3، فقال رحمه الله تعالى: "في هذه الآية النهي عن نكاح المشركات وتزوجهن. قيل: المراد   1 سورة المؤمنون: الآيتين 5، 6. 2 نيل المراد من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص198، 199. 3 سورة البقرة: من الآية 221. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 بالمشركات الوثنيات، وقيل: إنها تعم الكتابيات؛ لأن أهل الكتاب مشركون، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} 1، وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية؛ فقالت طائفة: إن الله حرَّم نكاح المشركات فيها، والكتابيات من الجملة ثم جاءت آية المائدة2 فخصت الكتابيات من هذا العموم، وهذا محكي عن ابن عباس ومالك وسفيان بن سعيد وعبد الرحمن بن عمر والأوزاعي، وذهبت طائفة إلى أن هذه الآية ناسخة لآية المائدة، وأنه يحرم نكاح الكتابيات والمشركات -وهذا أحد قولي الشافعي- وبه قال جماعة من أهل العلم، ويجاب عن قولهم: إن هذه الآية ناسخة لآية المائدة بأن سورة البقرة من أول ما نزل، وسورة المائدة من آخر ما نزل، والقول الأول هو الراجح"3. قطع يد السارق: وذلك في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} 4، قال -رحمه الله- في تحديد موضع القطع: "والقطع معناه الإبانة والإزالة وجمع الأيدي لكراهة الجمع بين اثنتين، وقد بينت السُّنة المطهرة أن موضع القطع الرسغ، وقال قوم: يقطع من المرفق، وقال الخوارج: من المنكب"5. وبعد: هذه أمثلة من تفسيره -رحمه الله تعالى- لآيات الأحكام، ومنها يتضح عدم تأويله لأيٍّ منها بما تقول به بعض الفرق؛ كالشيعة والخوارج ونحوهم؛ بل   1 سورة التوبة: من الآية 30. 2 وهي قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [الآية: 5] . 3 نيل المرام من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص82، 83. 4 سورة المائدة: من الآية 38. 5 نيل المرام من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص427. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 التزم أقوالَ علماء أهل السنة والجماعة؛ بل لم يخرج فيها عن المذاهب الأربعة من غير تعصب لأحدها. وسبق أن ذكرنا بيانه -رحمه الله تعالى- أنه لم يتناول في تفسيره إلا الآيات الصريحة في الدلالة على الأحكام الفقهية؛ بل وترك من هذا النوع الأخير ما هو متفق عليه أو معلوم بالضرورة؛ كإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. وهو بحق كتاب في آيات الأحكام، جَمَعَ فيه صاحبه نفائس الأقوال بعبارة قصيرة؛ فحق له أن يكون من أصول المراجع في ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 ثانيًا: روائع البيان تفسير آيات الأحكام من القرآن أولًا: المؤلف 1: هو الأستاذ محمد علي بن جميل الصابوني، ولد في مدينة حلب عام 1928م. تحصيله العلمي: تخرج من الثانوية الشرعية، وهي آخر مراحله الدراسية في سوريا، وأكمل دراسته في الأزهر؛ فنال الشهادة العالية "الليسانس" سنة 1952م، ونال شهادة الماجستير في تخصص القضاء الشرعي سنة 1954م، وكان موفدًا من جهة وزارة الأوقاف السورية لإتمام الدراسة العليا. أعماله: اشتغل بالتدريس ثماني سنوات في الثانويات العامة بحلب، ثم انتدب للتدريس بمكة المكرمة في كلية الشريعة، وقد أمضى في التدريس بالكلية ما يزيد على عشرين عامًا. مؤلفاته: له عدة مؤلفات هي: 1- من كنوز السنة "دراسات أدبية ولغوية من الحديث الشريف". 2- المواريث في الشريعة الإسلامية على ضوء الكتاب والسنة. 3- النبوة والأنبياء.   1 هذه الترجمة أرسلها المؤلف إلى الأستاذ محمد بن عبد العزيز السديس، ونشرها في كتابه الدراسات القرآنية المعاصرة: ص269، 270، وقد أضفت إليها ما جَدَّ من مؤلفات ونحوها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 4- روائع البيان في تفسير آيات الأحكام في القرآن. 5- شبهات وأباطيل حول تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم. 6- مختصر تفسير ابن كثير في ثلاثة مجلدات. 7- صفوة التفاسير في ثلاثة مجلدات. 8- التبيان في علوم القرآن. ثانيًا: الكتاب: هو: روائع البيان تفسير آيات الأحكام من القرآن، جاء وصفه على الغلاف بأنه: "تفسير خاص لآيات الأحكام، مستمد من أوثق مصادر التفسير القديمة والحديثة بأسلوب مبتكر وطريقة جديدة، مع عرض شامل لأدلة الفقهاء، وبيان الحكمة التشريعية". ويقع هذا التفسير في مجلدين متوسطي الحجم، تبلغ صفحات المجلد الأول 631 صفحة "بدون فهارسه"، والمجلد الثاني كذلك يقع في 619 صفحة، وانتهى المؤلف منه في غرة رجب سنة 1391هـ. وصدرت طبعته الأولى في نفس العام، والطبعة الثانية سنة 1397هـ. طريقته في التفسير: وقد وضح الشيخ طريقته في التفسير بقوله: "جمعت فيه الآيات الكريمة -آيات الأحكام خاصة- على شكل محاضرات علمية جامعة تجمع بين القديم في رصانته، والحديث في سهولته، وسلكتُ في هذه المحاضرات طريقة ربما تكون جديدة ميسرة؛ وهي أنني عمدت إلى التنظيم الدقيق مع التحري العميق؛ فتناولت الآيات التي كتبت عنها من عشرة وجوه، على الشكل الآتي: أولًا: التحليل اللفظي مع الاستشهاد بأقوال المفسرين وعلماء اللغة. ثانيًا: المعنى الإجمالي للآيات الكريمة بشكل مقتضب. ثالثًا: سبب النزول إن كان للآيات الكريمة سبب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 رابعًا: وجه الارتباط بين الآيات السابقة واللاحقة. خامسًا: البحث عن وجوه القرآءات المتواترة. سادسًا: البحث عن وجوه الإعراب بإيجاز. سابعًا: لطائف التفسير، وتشمل: "الأسرار والنكات البلاغية والدقائق العلمية". ثامنًا: الأحكام الشرعية وأدلة الفقهاء، مع الترجيح بين الأدلة. تاسعًا: ما ترشد إليه الآيات الكريمة بالاختصار. عاشرًا: خاتمة البحث، وتشمل: "حكمة التشريع" لآيات الأحكام المذكورة"1. ثم وبتواضع العلماء أنكر أن يكون ما جاء في هذا الكتاب بجُهْده فحسب؛ بل هو خلاصة نتاج أدمغة فطاحل العلماء، ثم شبه نفسه بقوله: "وما مثلي إلا كمثل إنسان رأى جواهر ولآلئ ودررًا ثمينة مبعثرة هنا وهناك؛ فجمعها ونظمها في عقد واحد، أو كمثل شخص دخل حديقة غنَّاء، فيها أحاسن الأثمار والورود والأزهار ما يدهش الأبصار، فامتدت يده برفق إليها؛ فجعلها في باقة واحدة، ووضعها في كأس؛ فكانت بهجة للقلب وفتنة للعين"1. وقال: "وما كنت أسطر شيئًا حتى أقرأ ما يزيد على خمسة عشر مرجعًا من أمهات المراجع في التفسير عدا عن مراجع اللغة والحديث، ثم أكتب هذه المحاضرات مع التنبيه إلى المصادر التي نقلت عنها بكل دقة وأمانة"1. وسنذكر أمثلة من تفسيره لأحكام خاصة، ثم نذكر بعدها ما رأينا من ملاحظات.   1 روائع البيان تفسير آيات الأحكام من القرآن: محمد علي الصابوني ج1 ص11، 12. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 نماذج من تفسيره: خمس الغنائم: قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وقد بسط العلماء أحكام الغنائم، وكيفية تقسيم الخمس منها، مستندين إلى هذه الآية. وقد وضح الشيخ الصابوني هذه الأحكام بالوجوه التي أشار إليها آنفًا، فقال تحت عنوان: "التحليل اللفظي": "غنمتم: الغنيمة ما أُخذ من الكفار قهرًا بطريقة القتال والغلبة، أما ما أُخذ منهم بغير حرب أو قتال فهو "فيء" -كما مر سابقًا1- قال الشاعر: وقد طوفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب خمسه: بضم الميم وإسكانها لغتان، وقد قُرئ بهما، والخمس أن يقسم الشيء إلى خمسة أجزاء، ثم يؤخذ جزء واحد منه، والواجب الشرعي أن تخمس الغنائم فيصرف الخمس فيما ذكره الله، ويوزع الباقي -وهو أربعة أخماس- بين الغانمين، قال القرطبي: لما بيَّن الله تعالى حكم الخمس وسكت عن الباقي دلَّ ذلك على أنه ملك للغانمين. لذي القربى: هم قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم "بنو هاشم، وبنو المطلب" على الصحيح من الأقوال، كما سيأتي إن شاء الله. اليتامى: هم أولاد المسلمين الذين هلك آباؤهم في سن الصغر قبل البلوغ؛ لأنه لا يتم بعد البلوغ. المساكين: هم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين. ابن السبيل: هو المنقطع في سفره مع شدة حاجته؛ وإنما قيل: "ابن السبيل" لأنه لما انقطع في سفره أصبح الطريق كأنه أب له"1 ... إلخ.   1 المرجع السابق: ج1 ص600، 601. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 وقال تحت عنوان: "المعنى الإجمالي": "يقول الله جل ثناؤه ما معناه: اعلموا أيها المؤمنون أن كل ما غنمتموه من الكفار المحاربين -أيًّا كان قليلًا أو كثيرًا- حق ثابت لكم. وحكمه: أن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل؛ فاقسموه خمسة أقسام، واجعلوا خمسه لله يُنفق في مصالح الدين وإقامة الشعائر وعمارة الكعبة وكسوتها، ثم أعطوا الرسول صلى الله عليه وسلم منه كفايته لنفسه ولنسائه، ثم أعطوا منه ذي القربى من أهله وعشيرته، ثم المحتاجين من سائر المسلمين؛ وهم اليتامى والمساكن وابن السبيل، ثم بيَّن سبحانه وتعالى أن هذا هو مقضتى الإيمان، وهو الإذعان والخضوع لأوامره وأحكامه، وعدم الخلاف والنزاع فيما بينهم؛ لأن الله عز وجل هو الذي قسم فأعطى كل ذي حق حقه، كما راعى مصالح العباد جميعًا، فما على المؤمنين إلا الرضا والتسليم لحكم الله العلي الكبير"1. ومن بيانه في المعنى الإجمالي هذا يظهر أنه يرجح القول: إن الغنائم توزع إلى خمسة أقسام، وأن الخمس يوزع إلى ستة أسهم: لله ولرسوله ولذي القربى واليتامى والمساكن وابن السبيل، خلافًا لمن قال: إن سهم الله سبحانه وتعالى وسهم رسوله واحد، ثم ذكر -وفقه الله تعالى- لطائف تحت عنوان: "لطائف التفسير". نذكر منها قوله: "اللطيفة الأولى: التنكير في قوله تعالى: {مِنْ شَيْءٍ} يفيد التقليل؛ أي: أي شيء كان، سواء كان هذا الشيء قليلًا أو كثيرًا، عظيمًا أو حقيرًا، حتى الخيط والمخيط "الإبرة". اللطيفة الثانية: ذكر الله تعالى في القسمة في قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَه} لتعليمنا التبرك بذكر اسم الله المعظم، واستفتاح الأمور باسمه تعالى، ولا يقصد منه أن الخمس يقسم على ستة؛ منها: "الله" فإن الله الدنيا والآخرة، والله هو الغني الحميد، أو يراد منه إنفاقه في سبيل الله؛ فيكون الكلام على حذف مضاف"1. ومما ذكرنا في المعنى الإجمالي علمنا أن المؤلف قسَّم الخمس إلى ستة أسهم،   1 المرجع السابق: ج1 ص601، 602. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 عَدَّ منها سهم الله سبحانه وتعالى، وذكر أنه يُنفق في مصالح الدين وإقامة الشعائر وعمارة الكعبة وكسوتها، فهو إذًا يؤيد أن الكلام على حذف مضاف، وليس ذكر اسمه تعالى لمجرد التبرك. ثم ذكر -وفقه الله تعالى- عددًا من الأحكام المستفادة من الآية تحت عنوان: "الأحكام الشرعية". نذكر منها: الحكم الثاني: كيف يوزع الخمس بين الغانمين؟ وجاء فيه قوله: "ذكرت الآية الكريمة أن خمس الغنائم يُوزع لمن سماهم الله عز وجل في كتابه العزيز، وهم ستة: "الله، الرسول، ذو القربى، اليتامى، المساكين، ابن السبيل"، وسكتت عن الباقي؛ فدل ذلك على أنه يوزع على الغانمين. سهم الله: أما سهم الله عز وجل، فقد اختلف المفسرون فيه على قولين: أ- أنه يصرف على الكعبة؛ لأن قوله: "الله" أي: لبيت الله، فهو على حذف مضاف. ب- وقال الجمهور: إن قوله "الله" استفتاح كلام يقصد به التبرك، فلله الدنيا والآخرة، وهو المالك لكل ما في السماوات والأرض. وعلى هذا الرأي يكون الخمس بين خمسة: "الرسول، ذي القربى، اليتامى، المساكين، ابن السبيل". سهم الرسول: أما سهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه حق له صلى الله عليه وسلم، يأخذه من الغنيمة ويضعه حيث شاء لأهل بيته أو في مصالح المسلمين، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم". وقال آخرون: إن لفظ "الرسول" في الآية استفتاح كلام، كما قالوا في قوله: "لله"، وإن الخمس يقسم على أربعة أسهم: "ذوي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 سهم ذي القربى: والمراد قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد اختُلف في "ذي القربى" على ثلاثة أقوال: 1- قيل: إنهم قريش جميعًا. 2- وقيل: إنهم بنو هاشم فقط. 3- وقيل: إنهم بنو هاشم وبنو المطلب، هذا هو الرأي الصحيح والراجح، ومما يدل عليه ما رواه البخاري عن "مطعم بن جبير" من -بني نوفل- قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان -من بني عبد شمس - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله، أعطيت بني المطلب وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد، إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام"، فدل الحديث على أن المراد بذي القربى "بنو المطلب وبنو هاشم". ويرى بعضهم أن القرابة لا يعطون إلا أن يكونوا فقراء، وهذا الحكم ثابت للرسول صلى الله عليه وسلم ولذي قرباه في حياته، وأما بعد وفاته فإنه يرجع إلى بيت مال المسلمين. قال أبو حنيفة: يقسم الخمس على ثلاثة: "اليتامى، والمساكين، وابن السبيل"؛ لأنه قد ارتفع سهم الرسول صلى الله عليه وسلم بموته، كما ارتفع سهم أقربائه بموته، وهذا منقول عن الشافعي أيضًا، قالوا: ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر، وبناء المساجد، وأرزاق القضاة والجند، ويُصرف في مصالح المسلمين. سهم اليتامى: وهذا السهم يُصرف على أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم وهم في سن الصغر، وأما بعد البلوغ فيزول عنهم وصف اليتيم. سهم المساكين: وهم أهل الفاقة والحاجة من ضعفاء المسلمين، الذين لا يملكون من حطام الدنيا شيئًا، ويحتاجون إلى مواساة ومساعدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 سهم ابن السبيل: وهو الغريب الذي انقطع في سفره، فإنه يُعطَى من الخمس حتى ولو كان غنيًّا في بلده؛ ذلك لأننا نعتبر حالته التي هو عليها الآن. مذهب المالكية: وقد خالف المالكية هذه الأقوال المتقدمة جميعًا، ورأوا أن الخمس -خمس الغنيمة- يُجعل في بيت المال يُنفق منه على ما ذُكر في الآية وعلى غيرهم بحسب ما يراه الإمام من المصلحة، وقالوا: إن ذكر هذه الأصناف في الآية الكريمة إنما هو على سبيل المثال لا على سبيل التمليك، وهو من باب إطلاق "الخاص وأريد به العام"1، ثم ساق أدلة هذا القول وعقَّب عليه بقوله: "وهذا الرأي للمالكية سديد ووجيه"1. هذا غالب ما قاله في الغنائم والخمس؛ وإنما أطلت فيما نقلت حتى أعطي صورة لطريقته في تناول الآية من جوانب عدة، ثم لما في تفسيره من بيان واضح، وسأختصر -إن شاء الله- ما سأذكره من أمثلة لتفسيره بعد. نكاح المتعة: وشبهة مَن أباحه قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} 2، وتحت عنوان: "الأحكام الشرعية" رد الشيخ الصابوني على مَن أباح نكاح المتعة، ووضح الحكم الصحيح، وذلك في الحكم الخامس منها، فقال: "الحكم الخامس: حكم المتعة وآراء الفقهاء فيها وقد أجمع العلماء وفقهاء الأمصار قاطبة على حرمة "نكاح المتعة"، لم يخالف فيه إلا الروافض والشيعة، وقولهم مردود؛ لأنه يصادم النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، ويخالف إجماع علماء المسلمين والأئمة المجتهدين.   1 المرجع السابق: ج1 ص604-607. 2 سورة النساء: من الآية 24. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 وقد كانت المتعة في صدر الإسلام جائزة، ثم نُسخت واستقر على ذلك النهي والتحريم، وما رُوي عن ابن عباس من القول بحلها؛ فقد ثبت رجوعه عنه، كما أخرج الترمذي عنه -رضي الله عنه- أنه قال: "إنما كانت المتعة في أول الإسلام؛ كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة، فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه مقيم؛ فتحفظ له متاعه، وتصلح له شأنه، حتى نزلت الآية الكريمة: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} 1، فكل فرج سواهما فهو حرام"2. فقد ثبت رجوعه عن قوله، وهو الصحيح، وحكي أنه إنما أباحها حالة الاضطرار والعنت في الأسفار؛ فقد روي عن ابن جبير أنه قال: قلت لابن عباس: لقد سارت بفتياك الركبان وقال فيها الشعراء، قال: "وما قالوا؟ " قلت: قالوا: قد قلت للشيخ لما طال مجلسه ... يا صاح هو لك في فتوى ابن عباس هل لك في رخصة الأطراف آنسة ... تكون مثواك حتى مصدر الناس فقال: "سبحان الله ما بهذا أفتيت؟! وما هي إلا كالميتة والدم ولحم الخنزير، ولا تحل إلا للمضطر". ومن هنا قال الحازمي: "إنه صلى الله عليه وسلم لم يكن أباحها لهم وهم في بيوتهم وأوطانهم؛ وإنما أباحها لهم في أوقات بحسب الضرورات حمى حرَّمها عليهم في آخر الأمر تحريم تأبيد". ثم ذكر الأدلة الشرعية والعقلية على تحريم المتعة؛ ذكر منها خمسة أدلة ثم ختمها بقول الخطابي: "تحريم المتعة كالإجماع إلا عن بعض الشيعة، ولا يصح على قاعدتهم في الرجوع في المخالفات إلى "علي" -رضي الله عنه- فقد صح عنه أنها نُسخت، ونقل البيهقي عن "جعفر بن محمد" أنه سُئل عن المتعة فقال: هي الزنا بعينه، فبَطَلَ بذلك كل مزاعم الشيعة"3.   1 سورةالمؤمنون: من الآية 6، والمعارج: من الآية 30. 2 رواه الترمذي: كتاب النكاح ج3 ص430. 3 روائع البيان: محمد علي الصابوني ج1 ص457-459. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 الحجاب: وقد أفاض في الحديث -جزاء الله خيرًا - عن حجاب المرأة المسلمة وأجاد، ولئن كان لا يتسنى لنا أن نشم كل الورود التي قطفها كما قال في مقدمة تفسيره، فإنه أيضًا لا يسعنا إلا أن نقف عند بعضها وقفة تُبهج النفس وتمتع النظر وتشنف الأسماع بسامي المعاني وقويم العبارات. وكان مما قال في تفسير قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} 1 الآية. قال تحت عنوان: "الأحكام الشرعية"، وتحت الحكم الثاني: وأما عورة المرأة بالنسبة للرجل: فجميع بدنها عورة على الصحيح، وهو مذهب "الشافعية والحنابلة"، وقد نص الإمام أحمد -رحمه الله- على ذلك فقال: وكل شيء من المرأة عورة حتى الظفر، وذهب "مالك وأبو حنيفة" إلى أن بدن المرأة كله عورة ما عدا "الوجه والكفين"، ولكل أدلة سنوضحها بإيجاز إن شاء الله تعالى. أدلة المالكية والأحناف: استدل المالكية والأحناف على أن "الوجه والكفين" ليسا بعورة بما يلي: أولًا: قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فقد استثنت الآية ما ظهر منها؛ أي: ما دعت الحاجة إلى كشفه وإظهاره وهو الوجه والكفان. وقد نُقِلَ هذا عن بعض الصحابة والتابعين؛ فقد قال "سعيد بن جبير" في قوله تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: الوجه والكف. وقال "عطاء": الكفان والوجه، وروي مثله عن الضحاك.   1 سورة النور: الآيتين 30، 31. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 ثانيًا: واستدلوا بحديث عائشة ونصه: أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق؛ فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لها: "يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرى منها إلا هذا وهذا" وأشار إلى وجهه وكفيه. ثالثًا: وقالوا: مما يدل على أن الوجه والكفين ليسا بعورة أن المرأة تكشف وجهها وكفيها في صلاتها وتكشفهما أيضًا في الإحرام، فلو كانا من العورة لما أُبيح لها كشفها؛ لأن ستر العورة واجب لا تصح صلاة الإنسان إذا كان مكشوف العورة. أدلة الشافعية والحنابلة: 1- استدل الشافعية والحنابلة على أن الوجه والكفين عورة بالكتاب والسنة والمعقول: أولًا: أما الكتاب فقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} فقد حرمت الآية الكريمة إبداء الزينة، والزينة على قسمين: خِلْقِية ومكتسبة، والوجه من الزينة الخِلْقِية؛ بل هو أصل الجمال ومصدر الفتنة والإغراء، وأما الزينة المكتسبة فهي ما تحاوله المرأة في تحسين خِلْقَتِها؛ كالثياب والحلي والكحل والخضاب. والآية الكريمة منعت المرأة من إبداء الزينة مطلقًا، وحرمت عليها أن تكشف شيئًا من أعضائها أمام الرجال أو تظهر زينتها أمامهم، وتأولوا قوله تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} إن المراد ما ظهر بدون قصد ولا عمد؛ مثل: أن يكشف الريح عن نحرها أو ساقها أو شيء من جسدها، ويصبح معنى الآية على هذا التأويل: ولا يبدين زينتهن أبدًا، وهن مؤاخذات على إبداء زينتهن إلا ما ظهر منها بنفسه، وانكشف بغير قصد ولا عمد، فلسن مؤاخذات عليه؛ فيكون الوجه والكف من الزينة التي يحرم إبداؤها. ثانيًا: وأما السنة، فما ورد من الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي تدل على حرمة النظر؛ منها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 أ- حديث جرير بن عبد الله: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فقال: "اصرف نظرك" 1. ب- حديث علي: "يا علي، لا تتبع النظرة النظرة؛ فإنما لك الأُولَى وليست لك الآخرة" 2. ج- حديث الخثعمية الذي رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الفضل بن العباس يوم النحر خلفه، وكان رجلًا حسن الشعر أبيض وسيمًا، فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه؛ فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه؛ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر ... "3، الحديث في حجة الوداع. فجميع هذه النصوص تفيد حرمة النظر إلى الأجنبية، ولا شك أن الوجه مما لا يجوز النظر إليه؛ فهو إذًا عورة4. قلت: هذا ما رأيت ذكره من الأدلة التي أوردها، ثم رجح رأي الشافعية والحنابلة، وردَّ على ما ذكر من أدلة المالكية والحنفية، ثم قال بعد ذلك: "أقول: الأئمة الذين قالوا بأن "الوجه والكفين" ليسا بعورة اشترطوا بألا يكون عليهما شيء من الزينة، وألا يكون هناك فتنة، أما ما يضعه النساء في زماننا من الأصباغ والمساحيق على وجوههن وأكفهن بقصد التجميل، ويظهرن به أمام الرجال في الطرقات؛ فلا شك في تحريمه عند جميع الأئمة، ثم إن قول بعضهم: إن الوجه والكفين ليسا بعورة، ليس معناه أنه يجب كشفهما أو أنه سنة وسترهما بدعة، فإن ذلك ما لا يقول به مسلم؛ وإنما معناه أنه لا حرج في كشفهما عند   1 مسلم: الآداب ج3 ص1699، أحمد ج4 ص358، سنن أبي داود: كتاب النكاح ج2 ص246، وسنن الترمذي: كتاب الأدب ج 5 ص101. 2 مسند أحمد ج5 ص351، وسنن أبي داود: كتاب النكاح ج2 ص246، والترمذي: الأدب ج5 ص101، والدارمي: الرقاق ج2 ص298. 3 صحيح البخاري: كتاب الحج ج2 ص140، مسلم: كتاب الحج ج2 ص973. 4 روائع البيان: محمد علي الصابوني ج2 ص154-156. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 الضرورة، وبشرط أمن الفتنة. أما في مثل هذا الزمان الذي كثر فيه أعوان الشيطان، وانتشر فيه الفسق والفجور، فلا يقول أحد بجواز كشفه، لا من العلماء ولا من العقلاء؛ إذ مَن يرى هذا الداء والوباء الذي فشا في الأمة -وخاصة بين النساء بتقليدهن لنساء الأجانب- فإنه يقطع بحرمة كشف الوجه؛ لأن الفتنة مؤكدة والفساد محقق، ودعاة السوء منتشرون، ولا نجد المجتمع الراقي المهذب الذي يتمسك بالآداب الفاضلة، ويستمع لمثل قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} ولا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصرف بصرك"، فالاحتياط في مثل هذا العصر والزمان واجب، والله يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم"1. هذا ما قاله -وفقه الله- هنا، وقال مثله أو أحسن منه تحت عنوان: بدعة كشف الوجه، وجعله خاتمة لهذا البحث، وقال مثل هذا في سورة الأحزاب، وكله حري به أن يقرأ ويدرك، كيف لا وهي فتنة ترقب الشباب، وكيف لا وهم عماد الأمة ومستقبلها. قطع يد السارق: قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم} 1، قال في بيان موضع قطع اليد: "دل قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} على وجوب قطع اليد في السرقة، وقد أجمع الفقهاء على أن اليد التي تُقطع هي "اليمنى"؛ لقراءة بن مسعود: "فاقطعوا أيمانهما". ثم اختلفوا: من أين تقطع اليد؟ فقال فقهاء الأمصار: تقطع من المفصل -مفصل الكف- لا من المرفق ولا من المنكب، وقال الخوارج: تقطع إلى المنكب، وقال قوم: تُقطع الأصابع فقط.   1 المرجع السابق ج2 ص157، 158. 2 سورة المائدة: الآية 38. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 حجة الجمهور ما رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد السارق من الرسغ، وكذلك ثبت عن "علي" و"عمر بن الخطاب" أنهما كانا يقطعان يد السارق من مفصل الرسغ؛ فكان هو المعول عليه"1. وقال في حكمة هذا التشريع: "وأعداء الإنسانية يستعظمون قتل القاتل وقطع يد السارق، ويزعمون أن هؤلاء المجرمين ينبغي أن يحظوا بعطف المجتمع؛ لأنهم مرضى بمرض نفساني، وأن هذه العقوبات الصارمة لا تليق بمجتمع متحضر يسعى لحياة سعيدة كريمة، إنهم يرحمون المجرم من المجتمع ولا يرحمون المجتمع من المجرم الأثيم الذي سلب الناس أمنهم واستقرارهم وأقلق مضاجعهم، وجعلهم مهددين بين كل لحظة ولحظة في الأنفس والأموال والأرواح. وقد كان من أثر هذه النظريات التي لا تستند إلى عقل ولا إلى منطق سليم أن أصبح في كثير من البلاد "عصابات" للقتل وسفك الدماء وسلب الأموال، وزادت الجرائم واختل الأمن وفسد المجتمع، وأصبحت السجون ممتلئة بالمجرومين وقطاع الطريق. والعجيب أن هؤلاء الغربيين الذين يرون في الحدود الإسلامية شدة وقسوة لا تليق بعصرنا المتحضر، والذين يدعون إلى إلغاء عقوبة "القتل والزنا وقطع يد السارق" ... إلخ، هم أنفسهم يفعلون ما تشيب له الرءوس، وتنخلع لهوله الأفئدة، فالحروب الهجمية التي يثيرونها، والأعمال الوحشية التي يقومون بها؛ من: قتل الأبرياء، والاعتداء على الأطفال والنساء، وتهديم المنازل على مَن فيها، لا تعتبر في نظرهم وحشية، ولقد أحسن الشاعر حين صور منطق هؤلاء الغربيين بقوله: قتل امرئ في غابة ... جريمة لا تغتفر وقتل شعب آمن ... مسألة فيها نظر   1 روائع البيان: محمد علي الصابوني ج1 ص555، 556. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 نعم، إن الإسلام شرع عقوبة قطع يد السارق، وهي عقوبة صارمة؛ ولكنه أمن الناس على أموالهم وأرواحهم، وهذه اليد الخائنة التي قُطعت إنما هي عضو أشل تأصل فيها الداء والمرض، وليس من المصلحة أن نتركها حتى يسري المرض إلى جميع الجسد؛ ولكن الرحمة أن نبرتها ليسلم سائر البدن، ويد واحدة تُقطع كفيلة بردع المجرمين، وكف عدوانهم، وتأمين الأمن والاستقرار للمجتمع. فأين تشريع هؤلاء من تشريع الحكيم العليم، الذي صان به النفوس والأموال والأرواح!! "1. هذا ما قاله -وفقه الله- في هذا الحد الشرعي، وأحب أن أهمس في أذنه -ومثله خبير بهذا- أن أولئك القوم ما نقموا هذه الحدود لبشاعتها بزعمهم، وما نقموها لوحشيتها كما يدعون؛ وإنما نقموها لأنهم ينقمون أصلها؛ أعني: الدين الإسلامي كله، وفي التاريخ المعاصر شواهد على ما أقول كثيرة، إن أردت أن أذكر منها شاهدًا واحدًا ذكرت موقف الولايات المتحدة الأمريكية، وهي أم المكائد والمشاكل في العصر الحديث؛ من باكستان الإسلامية، ما أن فكرت أو اتجهت باكستان لصناعة القنبلة الذرية؛ حتى وضعت أمامها العراقيل والعقبات، وحتى صاحت في آذان جنودها: احذروا القنبلة الذرية الإسلامية، لم ترفع هذه الصيحة وهذا النداء وهذه السمة ضد القنبلة النصرانية، ولا ضد القنبلة الشيوعية ولا اليهودية، ولا حتى الهندوسية؛ ولكن قد كانت الدولة المعنية تحمل الصبغة الإسلامية، فإن لجنة الشئون الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي توقف آية مساعدة عسكرية أو تكنولوجية لباكستان ما لم يلتزم الرئيس الأمريكي، بأن لا تجوز باكستان سلاحًا نوويًّا أو تسعى لحيازة مثل هذه الأسلحة2. لا أقصد من هذا أن أقول: لا تردوا على شبهاتهم في الحدود ونحوها؛ لأن عداءهم أكبر من ذلك؛ ولكني قصدت القول: لا تطمعوا منهم باعتراف، ولا تمنوا أنفسكم به، وصدق الله العظيم {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} 3.   1 المرجع السابق ج1 ص557، 558. 2 جريدة الرياض، العدد 5764 يوم الأربعاء 2/ 7/ 1404هـ ص21. 3 سورة الصف: من الآية 8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 وبعد: هذه أمثلة لتفسير الشيح محمد علي الصابوني لآيات الأحكام في القرآن الكريم، التي التزم فيها منهجه الذي بيَّنه وذكرناه في مقدمة تفسيره وفي مقدمة حديثنا عنه. وقد اتسم تفسيره لها بمزية قد لا تجدها في كثير من التفاسير مثل تفسيره؛ فقد حَرَصَ على ألا يورد الأحكام جافة من غير أن يدعو إلى تطبيقها في المجتمعات الإسلامية، أو إزالة ما أصابها من دنس أصحاب الشبهات والشهوات، فقَلَّ أن يتناول حكمًا شرعيًّا إلا وبيَّن محاسنه ومزاياه، وردَّ ما يلصق به من لدن خصومه؛ كتشريع تعدد الزوجات، والحجاب الذي أوردنا بعض ما قال فيه وأبدع، وردَّ على دعاة الاختلاط وأصحاب الصور والتماثيل، وألجم الناقمين على الحدود الإسلامية وقطع كيدهم. وإن كان لي من ملاحظات -إن صحت تسميتها بذلك- فهي أنه وفقه الله لم يتناول كثيرًا من آيات الأحكام وبعضها هام جدًّا، ولم يتناول كذلك آيات الميراث في سورة النساء، ونحو ذلك. وأذكر منها أيضًا أنه تناول آيات القرآن على شكل محاضرات، ولو تناولها على طريقة السلف بأن يورد السورة ثم الآيات التي يريد دراستها مرتبة، ويشير إليها في الفهارس على هذا النحو لكان أفضل، لا أفضل هذه الطريقة لكونها طريقة السلف فحسب؛ ولكن لكونها أيسر على الباحث في حصوله على مراده. وأذكر منها أيضًا ضرورة التوسع في بعض الأبحاث، والاختصار في بعضها، والأطناب المحبب في حكم التشريع، التي يذكرها لبعض الأحكام الشرعية، خاصة أنه قلَّ أن تجد تفسيرًا يعتني بها على هذا النحو. هذا ما أردت بيانه، واللهَ أسألُ أن ينفع به وبتفسيره، إنه سميع مجيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 ثالثًا: تفسير آيات الأحكام أولًا: المؤلف العجيب أن هذا الكتاب القيِّم لا يُعرف له مؤلف، وكثير من طلبة العلم يعده للشيخ محمد علي السايس، وبين يدي طبعة صدرت سنة 1356-1937م خالية من اسم مؤلفها، وطبعة أخرى بين يدي صدرت سنة 1373 كتب على غلافها: أشرف على تنقيحها وتصحيحها فضيلة الأستاذ الشيخ محمد على السايس، ولعل هذا هو ما جعل الكتاب إلى الشيخ. بقي أن نقول: إن الصحيح أنها نسبة تنقيح وتصحيح وليست جمعًا وتأليفًا؛ ولهذه النسبة نكتب تعريفًا للشيخ محمد على السايس. المنقح المصحح 1: ولد في مدينة مطوبس التابعة لمحافظة كفر الشيخ إحدى محافظات الوجه البحري لمصر في يوم 16 أغسطس 1899 ميلادية "1319 هجرية"، وتُوفي عن عمر 77 عامًا في فجر يوم الأربعاء الموافق 24 نوفمبر 1976م "أول ذي الحجة 1396هـ" حفظ القرآن كله في سن التاسعة، والتحق بالأزهر، وتدرج فيه حتى حصل على عالمية الأزهر في سن 28، وعُين في مدينة أسيوط، ثم نقل إلى كلية   1 زودني بهذه الترجمة ابنه الدكتور سامي محمد علي السايس، الذي يعمل أستاذًا مساعدًا في مركز العلوم والرياضيات بالرياض، وقد حَرَصْتُ على أن أنشر هذه الترجمة كاملة -رغم طولها نسبيًّا- لأني لم أجد أحدًا ترجم له من قبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 أصول الدين مدرِّسًا، وتدرج في الرقي حتى أصبح عميدًا لكلية أصول الدين، ثم عميدًا لكلية الشريعة سنة 1957م. نال الشهادة العالمية "عودلت بالدكتوراه" 1927م الموافق ذي القعدة 1345هـ، ثم نال تخصص القضاء الشرعي "إبريل 1932م" الموافق ذي الحجة 1350هـ، ثم عضوية جماعة كبار العلماء "1950م"، وبعد أن أُلغيت الجماعة نال عضوية مجمع البحوث الإسلامية في 5/ 7/ 1961م، وكان عضوًا في المجلس الأعلى للأزهر من 18/ 2/ 1954 حتي تُوفي، وكانت تجدد له 8 كل ثلاثة أعوام. وعُين عميدًا لكلية أصول الدين سنة 1954م لمدة ثلاث سنوات، فعميدًا لكلية الشريعة الإسلامية سنة 1957م لمدة سنتين؛ حيث أحيل على المعاش في 1/ 3/ 1959 قبل السن القانونية؛ وذلك لمعارضته لتغيير نظام التعليم في الأزهر. وعُين أمينًا لمجمع البحوث الإسلامية، ثم أحيل على المعاش في السن القانونية في 16/ 8/ 1964 بعد بلوغه 65 سنة. أهم مؤلفاته "تاريخ التشريع الإسلامي"، وبقية المؤلفات خاصة بمناهج الدراسة في كلية الشريعة، ومن بحوثه "تحديد أوائل الشهور العربية". أشرف وناقش عددًا كبيرًا من الرسائل العلمية، ومن أصحاب تلك الرسائل الشيخ محمد حسين الذهبي، ومنهم الدكتور يوسف القرضاوي. وكانت له جلسات علمية مع بعض المشايخ بقاعة محمد عبده في الأزهر؛ مثل: الشيخ عبد الرحمن تاج، والشيخ محمود شلتوت، والشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ محمد دراز، وغيرهم. وحصل على عدد من الأوسمة؛ منها: الوسام الملكي في عهد الملك فاروق، ووسام الشرف لجمهورية مصر في الطبقة الأولى في عهد الثورة. وتُوفي عقب مناقشته لإحدى رسائل الدكتوراه بثلاث ساعات، رحمه الله رحمة واسعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 ثانيًا: تفسير آيات الأحكام: قلت آنفًا: إن بين يدي طبعة صدرت سنة 1356، وعليها ما يدل على صدورها عن الجامع الأزهر -كلية الشريعة الإسلامية- وجاء عنوانها: "مذكرة في تفسير آيات الأحكام"، ثم صدرت طبعة أخرى بعد ذلك سنة 1373 حُذف منها كلمة "مذكرة في" وبقي الاسم "تفسير آيات الأحكام"، وأضيف إليها اسم مَن أشرف على التنقيح والتصحيح. وأحسب أن هذه المذكرة وضعها أحد المشايخ لتلاميذه في الأزهر، ثم تناوبتها أيدي المشايخ من بعده بالحذف والإضافة والتنقيح والتغيير ونحو ذلك؛ فلم ينسبها أحد لنفسه؛ فبقيت مجهولة المؤلف. كما أن هناك فارقًا بين الطبعتين المذكورتين: أن الأولى تزيد على الأخيرة بتفسير آيات الأحكام في سورتي العنكبوت والروم، بينما حذف من الأخيرة. وسأعتمد في الإشارة إلى النقول هنا على الطبعة الأخيرة المنقحة المصححة، والله الهادي. نماذج من تفسيره: فرض الرجلين في الوضوء: قال في ذلك عند تفسير قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} 1: "قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب معطوف على وجوهكم؛ فيجب غسل الأرجل إلى الكعبين، يؤيد ذلك عمل النبي صلى الله عليه وسلم وعمل أصحابه في حياته وبعد مماته، فكان الحكم مجمَعًا عليه. وأما قراءة الجر، فمحمولة على الجوار، كما في قوله في سورة هود: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} بجر "أليم" لمجاورة "يوم" المجرورة، وفائدة الجر للجوار هنا في قوله: "وأرجلكم" التنبيه على أنه ينبغي الاقتصاد في صب الماء على الأرجل، وخص الأرجل بذلك لأنها مظنة   1 سورة المائدة: من الآية 6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 الإسراف لما يعلق بها من الأدران"1. خمس الغنائم: والنص الوارد في ذلك -كما مر بنا- قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} 2 الآية. قال المؤلف: "هذه الآية بيَّنت أن غنائم الحرب تخمس؛ فيجعل خمس لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وأربعة الأخماس الباقية بيَّنت السنة أنها تُقسم على الجيش، للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم أو سهمان، على اختلاف في الروايات". وقال: "وقد ذكرت الآية أن الخمس لستة: أولهما: الله عز وجل، وقد اختلف المفسرون فيه على قولين: 1- أن قوله: {لِلَّهِ خُمُسَهُ} مفتاح كلام لم يقصد به أن الخمس يقسم على ستة منها الله -لله الدنيا والآخرة- بل يقسم الخمس على خمسة: للرسول ولذي القربى ... إلخ، ويكون الغرض من ذكر الله تعليمنا التبرك بذكره، وافتتاح الأمور باسمه، أو يكون معناه أن الخمس مصروف في وجوه القرب إلى الله، ثم بيَّن تلك الوجوه فقال: للرسول ولذي القربى فأجمل أولًا ثم فصل. 2- أن المراد لبيت الله، فسهمُ الله يصرف في الكعبة، نقل عن أبي العالية، والظاهر القول الأول لإجماع الحجة عليه. ثانيها: رسول الله، وقد ذكر بعضهم أنه افتتاح كلام كما قالوه في "الله"، والغنيمة تقسم على أربعة، وقال الأكثرون: إن الغنيمة تُقسم على خمسة؛ أولها: سهم الرسول يضعه حيث رأى.   1 تفسير آيات الأحكام: تنقيح محمد علي السايس ج2 ص173. 2 سورة الأنفال: من الآية 41. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 ثالثها: ذو القربى، والمراد بها قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد اخْتُلف في ذوي القربى؛ فقيل: هم قرابة رسول الله من بني هاشم، وقيل: هم قريش كلها، وقيل: هم بنو هاشم وبنو المطلب، وهو الراجح. رابعها: اليتامى؛ وهم أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم. خامسها: المساكين؛ وهم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين. سادسها: ابن السبيل؛ وهو المجتاز سفرًا قد انقطع به. وقد خالفت المالكية هذه الأقوال المتقدمة جميعها، ورأوا أن خمس الغنيمة يُجعل في بيت المال، ينفق منه على من ذُكر وعلى غيرهم بحسب ما يراه الإمام، وكأنهم رأوا أن ذكر هذه الأصناف على سبيل المثال، وهو من باب الخاص أُريد به العام، وأصحاب الأقوال المتقدمة رأوا أنه من باب الخاص أُريد به الخاص"1. نكاح المتعة: قال في قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} 2. قال إنها "أمر بإتيان الأزواج مهورهن، وأجاز الحط بعد الاتفاق برضا الزوجين؛ وعلى ذلك تكون الآية نزلت في النكاح المتعارف. وقيل: نزلت في المتعة؛ وهي أن يستأجر الرجلُ المرأةَ بمال معلوم إلى أجل معين، وكان الرجل ينكح امرأة وقتًا معلومًا ليلة أو ليلتين أو أسبوعًا، بثبوت أو غير ثبوت، ويقضي منها وطرًا ثم يتركها. واتفق العلماء على أنها كانت جائزة، ثم اختلفوا؛ فذهب الجمهور إلى أنها نُسخت، وذهب ابن عباس إلى أنها لم تُنسخ، وهناك رواية عنه أنها نسخت، ورُوي أنه رجع عن القول بها قبل موته.   1 تفسير آيات الأحكام: تنقيح محمد علي السايس ج3 ص6-8. 2 سورة النساء: من الآية 24. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 والراجح أن الآية ليست في المتعة؛ لأن الله ذكر المحرمات في النكاح المتعارف، ثم ذكر أنه أحل ما رواء ذلكم؛ أي: في هذا النكاح نفسه. والراجح أن حكم المتعة الثابت بالسنة قد نُسخ؛ لما أخرجه مالك عن علي أن الرسول صلى الله عليه وسلم: نهى عن متعة النساء، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية. وروى الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه قال: غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو قائم بين الركن والمقام، مسندًا ظهره إلى الكعبة، يقول: "يأيها الناس، إني أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء، ألا وإن الله قد حرمها عليكم إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخلِّ سبيلها، لا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا". ورُوي عن عمر: لا أُوتى برجل تزوج امرأة إلى أجل إلا رجمتهما بالحجارة1، ويدل على تحريم المتعة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} 2، والمستمتَع بها ليست ملك يمين بالاتفاق، وليست زوجة لانتفاء خصائص الزوجية عنها؛ لأنها لا ترثه ولا يلحق به ولدها"2. نكاح الكتابيات: ذكر المؤلف في قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} 4 الآية، أنه "قد اختلف العلماء في هذه الآية؛ فذهب بعضهم إلى أن لفظ المشركات يعم كل مشركة، سواء أكانت وثنية أم يهودية أم نصرانية، ولم يُنسخ أو يخص منها شيء؛ فيكن جميعًا قد حرم على المسلم زواجهن.   1 مصنف ابن أبي شيبة ج4 ص293، وسنن ابن ماجه: أبواب النكاح ج1 ص605. 2 سورة المؤمنون: من الآية 6. 3 تفسير آيات الأحكام: تنقيح محمد علي السايس ج2 ص76، 77. 4 سورة البقرة: من الآية 221. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 وذهب بعضهم إلى أن المراد بالمشركات مَن لا كتاب لهن من المجوس والعرب دون الكتابيات، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالمشركات عام في جميع مَن ذكرنا، إلا أنه نُسخ بقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 1. ثم ذكر المؤلف سبب الخلاف، وأنه فرع عن التفريق بين الكافر والمشرك، ثم علق على ما رُوي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فرَّق بين طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- وزوجته اليهودية، وبين حذيفة بن اليمان وزوجته النصرانية، فقال: "ورحم الله عمر بن الخطاب؛ فقد كان ينظر إلى مصالح المسلمين -نسائهم ورجالهم- ويسوسهم بالنظر والمصلحة، وما أحوجنا إلى مثل هذه السياسة؛ فإن كثيرًا من الشباب المسلمين في مصر رغبوا عن زواج المحصنات المسلمات إلى زواج الكتابيات الأجنبيات"2. قطع يد السارق: ونص على ذلك قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 3، قال المؤلف: "واليد تُطلق على العضو المخصوص إلى المنكب؛ وعلى هذا العضو إلى مفصل الكف، كما في قوله تعالى لموسى عليه السلام: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} 4، والمراد ما كان إلى مفصل الكف، ولا خلاف بين السلف من الصدر الأول ولا بين فقهاء الأمصار في أن قطع يد السارق يكون إلى مفصل الكف، لا إلى المرفق، ولا إلى المنكب، وقال الخوارج: تُقطع إلى المنكب، وقال قوم: تُقطع الأصابع فقط. حجة الجمهور ما رواه محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد السارق من   1 سورة المائدة: من الآية 5. 2 تفسير آيات الأحكام: تنقيح محمد علي السايس ج1 ص127، 128. 3 سورة المائدة: من الآية 38. 4 سورة النمل: من الآية 12. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 الرسغ، وما رُوي عن علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- أنهما كانا يقطعان يد السارق من مفصل الرسغ، فكان هو المعول عليه"1. رأيي في هذا التفسير: وإن كان لي من ملاحظات على هذا التفسير، فهي ملاحظات بعضها أشرت إليه في التفاسير التي قبله، وبعضها خاص به. أما الأول منها، فكونه مؤلَّفًا لطلاب يلتزم فيه المؤلف بالمنهج المقرر عليهم؛ فيؤدي به هذا الالتزام إلى الاختصار، لا أقصد الاختصار المحمود؛ بل الاختصار القاصر الذي يجعل صاحبه يعرض عن بيان بعض الأحكام جملة، وعن بيان أدلة بعض الآراء الأخرى أحيانًا، أو ترجيح رأي لم تستوفَ أدلة ترجيحه، ونحو ذلك. أما الثاني فملاحظة خاصة، وأحسبها ترجع إلى تعاقب المؤلفين على هذا التفسير أو تعددهم؛ وهي ذلك الاضطراب في بعض العبارات والأخطاء اللغوية في بعضها. والله الموفق.   1 تفسير آيات الأحكام: محمد علي السايس ج2 ص191. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 رابعًا: تفسير آيات الأحكام أولًا: المؤلف 1 هو أبو محمد مناع خليل القطان. مولده: وُلد في شهر أكتوبر 1925م في قرية "شنشور" مركز أشمون من محافظة المنوفية. حياته العلمية: بدأ حياته العلمية بحفظ القرآن الكريم في كُتَّاب القرية، والتحق بمدرستها الابتدائية، ثم التحق في شبين الكوم بالمعهد الديني، ومن أبرز مشايخه في تلك الفترة: الشيخ عبد الرزاق عفيفي، والشيخ عبد المتعال سيف النصر، والشيخ علي شلبي، ثم التحق بكلية أصول الدين، وتخرج سنة 1951م مع إجازة التدريس، ومن أساتذته في هذه الفترة: محمد زيدان، والدكتور محمد البهي، والدكتور محمد يوسف موسى. أعماله: أُعير للتدريس في المملكة العربية السعودية سنة 1953، للتدريس بالمعاهد العلمية إلى سنة 1958م، ثم انتقل للتدريس في كلية الشريعة بالرياض سنة 1378، وشارك في التدريس بالمعهد العالي للقضاء منذ افتتاحه سنة 1378، وعُين مديرًا للمعهد سنة 1392. ثم أُسندت إليه إدارة الدراسات العليا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سنة 1399، نال درجة الأستاذية، وأشرف على أكثر من 30 رسالة   1 انظر ترجمة فضيلته في: 1- الدراسات القرآنية المعاصرة: محمد بن عبد العزيز السديس ص165، 166. 2 - علماء ومفكرون عرفتهم: محمد المجذوب ص425-437. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 دكتوراه، كما أشرف على ما يزيد على ثمانين رسالة ماجستير، وقام بفحص الإنتاج العلمي لأساتذة بعض الجامعات للترقية إلى درجة أستاذ مشارك وأستاذ داخل المملكة وخارجها، وناقش كثيرًا من الرسائل العلمية؛ ومنها هذه الرسالة التي بين يديك. مؤلفاته: له عدد من المؤلفات؛ منها: 1- مباحث في علوم القرآن. 2- تفسير آيات الأحكام. 3- نظام الأسرة في الإسلام. 4- التشريع والفقه في الإسلام تاريخًا ومنهجًا. 5- نظرية التملك في الإسلام. 6- الثقافة الإسلامية. 7- الدعوة إلى الإسلام. 8- الحديث والثقافة الإسلامية. ثانيًا: التفسير: تفسير آيات الأحكام: ويقع في جزأين: الأول منهما يحوي مقرر السنة الثالثة في كلية الشريعة بالرياض، وعدد صفحاته 187، والثاني يحوي مقرر السنة الرابعة فيها، وعدد صفحاته 220 بدون الفهارس. وصدرت الطبعة الأولى من التفسير عن المكتب الإسلامي سنة 1384. طريقته في التفسير: ذكر المؤلف في مقدمته الحامل له على تأليف هذا التفسير فقال: "وقد حملني على كتابته -حين عهد إليَّ بتدريس مادة التفسير بكلية الشريعة بالرياض- رغبة الطلاب في تدوين الدرس وإملائه؛ حتى يتوفر عليهم الجُهْد في البحث بأمهات الكتب، وإني إذ أتسجيب لرغبتهم أوصيهم بالاعتماد على المراجع، والتدريب على منهج المفسرين؛ فذلك سبيل العلم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 إذًا فهو من التفاسير التي أُلفت لفئة معينة أولًا، وعلى حسب منهج مرسوم سلفًا لا يزيد عنه ولا ينقص منه ثانيًا؛ لذا فقد بدأ في التفسير من سورة الأنعام، وانتهى بسورة الأحزاب. والمؤلف يذكر الآية التي يريد تفسيرها، ثم يذكر بعدها سبب نزولها إن كان له سبب، ثم أحيانًا يذكر صلة الآية بما قبلها تحت عنوان الربط حينًا، وتحت عنوان مكان هذه الآيات من السورة حينًا آخر، وتحت عنوان صلة الآية بما قبلها حينًا ثالثًا، ثم المفردات والإعراب، ويذكر فيه القراءات إن كان في الآية قراءات، ثم بعد ذلك إن كان بين العلماء اختلاف في تفسير الآية عقد عنوان "الأحكام"، وإن لم يكن بينهم خلاف جعل العنوان "ما يستفاد من الآيات"، ويختم بعض الآيات ببيان حكمة التشريع. هذه هي عناصر تفسيره لآيات الأحكام، قد تجتمع في آية -وهو قليل- وقد لا تجتمع على ما أشرنا إليه. وهو في كل هذا يلتزم عقيدة أهل السنة والجماعة في آيات العقائد إن عرضت له، ويلتزم المذاهب الصحيحة في آيات الأحكام، مُعرضًا عن المذاهب الباطلة، منتقدًا لها. نماذج من تفسيره: غاية الجهاد في الإسلام: يرى الشيخ مناع أن غاية القتال في الإسلام ألا يوجد شرك يدفع المسلمين إلى البلاء والشدة، وحتى لا يفتن مسلم عن دينه بضروب الإلحاد والفساد، ودليله لهذا قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} 1. فقال في حديثه عن الأحكام في الآية: "حددت الآية غاية القتال في الإسلام؛ وهي زوال الأديان الباطلة جميعًا من   1 سورة الأنفال: الآيتين 39، 40. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 العالَم؛ حتى لا يبقى شرك، ويكون التوحيد خالصًا لله {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} ، وفي الصحيحين: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل" 1، ومقتضى ذلك: قتال مَن امتنع عن الدخول في الإسلام، أما ترك قتال مَن يؤدي الجزية؛ فلتخصيص أهل الكتاب من العموم في الآية والحديث؛ حيث إن المراد التعبير عن إعلاء كلمة الله، وإذعان المخالفين، والغرض من دفع أو ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام، فالمعنى المقصود: الأمر بالقتال حتى يُسلموا، أو يلتزموا ما يؤدي بهم إلى الإسلام؛ وبهذا يتبين أن القتال بأي دافع آخر -كالوطنية والقومية- ليس قتالًا في سبيل الله"2. وأكد الشيخ مناع -وفقه الله- هذا المفهوم عند حديثه عن حكمة التشريع في هذه الآية؛ حيث رَدَّ على طائفة من المسلمين بقوله: "وهذه الآية ترد على هؤلاء الذين يتملقون خصوم الإسلام، بتحريف الكلم عن مواضعه في رد دعوى انتصار الإسلام بالسيف؛ حيث يقولون بحرية الأديان، مستدلين بما جاء في صدر الإسلام؛ مثل قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين} [البقرة: 256] وتظهر حكمة مشروعية القتال في الإسلام إذا عرفنا أنه ضرورة اجتماعية لإقامة الحق وإعلاء الدين، وإلا لتغلب أهل الشر والفساد {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40] وما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفك الدماء، وما كان   1 صحيح البخاري: كتاب الإيمان ج1 ص11، 12، صحيح مسلم: كتاب الإيمان ج1 ص52. 2 تفسير آيات الأحكام: مناع القطان ج1 ص66، قلت: رَدَّ أبو عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- الجزية على أهل بعض بلاد الروم؛ لما عجز عن الدفاع عنهم، وقوله: "ما كان لنا أن نأخذ أموالكم ولا نمنع بلادكم" يدل على أن أخذها مقابل حمايتهم، ونشر الأمن في بلادهم، وما يلزم ذلك من مؤنة، فلا يصح القول بأن أخذها لاضطرارهم إلى الإسلام، وإلا لكان هناك ما هو أنجع من وسائل الاضطرار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 انتشار دينه على أشلاء أعدائه؛ ولكنه رحمة الله المسداة لإنقاذ الإنسانية من أوضار الشرك والشقاء، وبلمسها الشافي لعلاج أمراضها؛ حتى يحقق لها السعادة والأمن والرخاء تحت لواء شريعة الله، فلا ضير على الإسلام أن يجبر1 الكفار على الدخول فيه؛ لأنه يقدم لهم السعادة في الدنيا، والثواب في الآخرة، كما لا ضير على طبيب أن يجبر مريضًا على تناول الدواء؛ لأنه يقدم له ما فيه علاجه وعافيته"2. خمس الغنائم: في الحكم الخامس من الأحكام التي ذكرها في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} 3 الآية، قسم الشيخ مناع أقوال العلماء في خمس الغنائم فقال: "اختُلف في كيفية تقسيم الخمس؛ فقال بعضهم: 1- يقسم الخمس على ستة لظاهر الآية؛ فالسدس الأول لله ويجعل للكعبة، وورد عن أبي العالية أثر ضعيف في ذلك. 2- وزعم بعض أهل البيت أن الخمس كله لهم دون غيرهم، وهذا زعم باطل. 3- وقال كثير من أهل العلم: يُقسم الخمس على خمسة، وسهم الله وسهم رسوله واحد، يُصرف في مصالح المسلمين، وذُكر اسم الله في الآية استفتاح كلام للتعظيم، وبهذا قال أحمد والشافعي وأبو حنيفة، إلا أنهم اختلفوا في سهم رسول الله وسهم ذوي القربى بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، والمشهور: أن سهم الرسول باقٍ للإمام.   1 نص القرآن الكريم على أنه {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين} فلا ينبغي أن نقول: إنه لا ضير أن يجبر الكفار على الدخول فيه، وأحب أن أشير إلى وجوب التفريق بين الإجبار على الدخول في الدين، والإكراه على إقامة نظام إسلامي يظلل البشرية كلها، فالأول محظور بنص القرآن، والثاني واجب بنصوص الجهاد. 2 تفسير آيات الأحكام: مناع القطان ج1 ص66، 67. 3 سورة الأنفال: من الآية 41. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 4- وقال جماعة: إن خمس الغنيمة موكول إلى نظر الإمام واجتهاده، فيأخذ منه من غير تقدير، ويعطي القرابة باجتهاده، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين، والمراد بذكر الله في الآية بيان أن الخمس يُصرف في وجوه القُرَب إلى الله، وتخصيص الوجوه المذكورة للتنبيه على فَضْلِها، وهو قول مالك، وأيده ابن تيمية وقال: عليه أكثر السلف، وهو أصح الأقوال"1. الدولة دين وسياسة: وعند تفسيره لقوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} 2. أنكر الشيخ مناع -وفقه الله- على أولئك الذين فصلوا بين الدين والسياسة، فعدَّ من الأحكام لهذه الآية أن "فيها جمع سلطة النبوة والحكم وسياسة الأمور وحماية الدولة في الشريعة، فكيف يسوغ للمارقين عن شريعة الإسلام فصل الدين عن الدولة مع عموم رسالة الإسلام وكمالها؟! "3. ثم قال في المعنى الإجمالي لهذه الآية: "وبهذا جمع الله في سلطة داود الدين والدولة، أو النبوة والحكم، وقد عرف الناس في تاريخ الحضارة الغربية ثورتها على الكنيسة ورجالها؛ لأسباب ليست في طبيعة الإسلام وحضارته، ويأبى ببغاواتنا المستغربون إلا أن ينهجوا نهج أساتذتهم؛ فيقفوا من الإسلام ورجاله موقف أولئك من الكنيسة ورجالها؛ حتى فصلوا بين الدولة والدولة، وعزلوا الإسلام عن تنظيم حياة المجتمع، وسياسة شئون الأمة؛ فأصبحت الشريعة المحمدية في معظم ديار الإسلام طقوسًا تعبدية، يؤديها مَن يشاء في المنزل أو المسجد، أفلا ينظر هؤلاء إلى داود في نبوته وحكمه، وقد كانت رسالته قبل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بعشرات القرون؛ ليأخذوا من ذلك العظة والعبرة؟! "4.   1 تفسير آيات الأحكام: مناع القطان ج1 ص71. 2 سورة الأنبياء: الآية 87. 3 تفسير آيات الأحكام: مناع القطان ج2 ص9. 4 تفسير آيات الأحكام: مناع القطان ج2 ص10. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 حجاب المرأة: في قوله تعالى مخاطبًا نساء المؤمنين: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} 1، قال الشيخ مناع: "والذي يدل عليه سياق الآية النهي عن إبداء الزينة إلا ما كان ظاهرًا لا يمكن إخفاؤه، أو ظهر بدون قصد، فيما لا بد منه للمرأة من حركة أو إصلاح شأن أو هبوب ريح أو نحو ذلك، مما تدعو إليه الضرورة؛ لأن قوله تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} يفيد أنه ظهر بنفسه من غير قصد، وهذا بخلاف ما يتعمد الإنسان إظهاره. وعلى هذا، فلا يصح أن يرجع الخلاف في وجوب ستر الوجه والكفين أو عدم وجوب ذلك إلى الآية؛ وإنما يرجع غلى اختلاف الأدلة من السنة؛ فيستدل مَن يرى عدم الوجوب بحديث خطبة العيد؛ حيث يقول الراوي: فقامت امرأة من وسط النساء سفعاء الخدين2، وبحديث المرأة الخثعمية في الحج التي جاءت تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أردف خلفه الفضل بن عباس، فأخذ يلتفت إليها وتنظر إليه، والرسول يحول وجهه من الشق الآخر، وبعدم وجوب ستر ذلك في الصلاة والحج. واستدل مَن يرى وجوب ستر الوجه والكفين بقول عائشة في حديث الإفك حين استيقظت على استرجاع صفوان: فخمرت وجهي بجلبابي، وبقولها: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا جازونا أسدلت إحادنا جلبابها من رأسها على وجهها، والنهي عن انتقاب المرأة المحرمة ولبس القفاز دليل على أن النقاب والقفاز كانا معروفَيْنِ في النساء اللاتي لم يحرمن، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن. وفَرْقٌ بين لباس الصلاة والحجاب، فالمرأة لا يجوز لها أن تصلي مكشوفة الرأس، ولو كانت في بيتها لا يراها أحد، وفي غير الصلاة يجوز لها ذلك؛ فالحجاب شيء آخر فوق   1 سورة النور: من الآية 31. 2 صحيح مسلم: كتاب العيدين ج2 ص603، مسند الإمام أحمد ج3 ص318، سنن الدارمي: العيدين ج1 ص377، والنسائي: العيدين ج3 ص186. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 زينة الصلاة، وإن سَمَّى ذلك الفقهاء "باب ستر العورة في الصلاة". هذا، وقد اتفق الجميع على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه عند خوف الفتنة أو كثرة الفُساق، ونحن في عصر تفنن فيه النساء في تزيين وجوههن وأيديهن بأنواع من الزينة والأصبغة، وضَعُفَ الإيمان، وكثر الفساد، وأُهدرت الفضيلة، وعمت الفتنة؛ فلا ينبغي لمسلم أن يشك في وجوب ستر الوجه والكفين قطعًا لدابر الشر، ولو وقف الأمر عند الوجه والكفين في المجتمعات السافرة لهان الخطب؛ بل كشفت المرأة باسم المدينة ... والحرية في ديار الإسلام عن الساق والفخذ والرأس والصدر والظهر، وأظهرت تفاصيل ما سترته من جسدها بما يثير الفتنة، ويجعل العري أهون شرًّا منه"1. وبعد: هذه بعض الأمثلة من تفسير آيات الأحكام عند الشيخ مناع القطان؛ وإنما لم نذكر بعض الأحكام الأخرى التي وقع الخلاف فيها بين أهل السنة ومَن عداهم؛ لكون المؤلف لم يتناولها في تفسيره؛ إذ بدأ تفسيره -كما أشرنا- من سورة الأنعام وانتهى بسورة الأحزاب؛ فلم يكن شاملًا لسور القرآن، ولم يكن لأحكام السورة كلها متقصيًا، وهي -كما قلنا- فيمن سبقه ضريبة الالتزام بالمنهج الدراسي؛ إذ الكتاب مؤلَّف لطائفة من الطلاب، وليس تفسيرًا شاملًا، وفيما ذكرنا كفاية -إن شاء الله- للدلالة على اتجاه المؤلف، جزاه الله خيرًا، وأجزل له الأجر والمثوبة.   1- تفسير آيات الأحكام: مناع القطان ج2 ص101، 102. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 خامسًا: قبس من التفسير الفقهي أولًا: المؤلف هو: الدكتور الشافعي عبد الرحمن السيد، ولم أعثر له على ترجمة. ثانيًا: التفسير هو قبس من التفسير الفقهي "بحوث في بعض آيات القرآن الكريم"، ومن عنوان الكتاب "قبس" و"بعض آيات" يتضح أن مادة الكتاب ما هي إلا بحوث فقهية في بعض آيات الأحكام في القرآن الكريم. وإذا ما ألقينا نظرة على هذا التفسير وجدنا عدد صفحاته تبلغ 208 صفحة كَمًّا، وخمسة دروس -أو إن شئت فقل: تفسير خمس آيات- كيفًا، والكتاب يُذَكرني بتفسير الجصاص وابن العربي والقرطبي في توسعهم في تفسير آيات الأحكام؛ حتى كادت تختلط بكتب الفقه، وأحسبه لو فسر آيات الأحكام كلها لجاء تفسيره هذا لا يقل عنها حجمًا أيضًا. وقد وضح الدكتور الشافعي في مقدمة تفسيره هذا منهجه في التفسير بقوله: "ولما كان من الخطأ الذي يقع فيه البعض أن يقدم على بحث مسألة من المسائل، أو تقرير حكم من الأحكام، وفي ذهنه ترجيح مسبَق لبعض الآراء على بعضها الآخر، أو لديه حافز يغريه بالعمل على نصر فريق على آخر، ربما كان هذا الحافز ولاءه لمذهب من المذاهب أو حاكم من الحكام. فإنني سوف أعمل ما وسعني من جُهْدٍ لتجنب هذا الخطأ، وسأعرض في تناولي لبعض آيات الأحكام بعض معاني مفرداتها من الناحية اللغوية والعربية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 "كذا" بقدر ما يتصح بها المعنى، ثم أُجمل المعنى العام للآية الكريمة، وأربطها بما يسبقها، مع ذكر سبب نزولها إن وجد. وبعد ذلك أعرض لما تشتمل عليه من أحكام في مسألة أو مسائل على حسب ما يقتضيه المقام، وسأذكر -إن شاء الله- المسألة والآراء فيها، وأدلة كل رأي، والمناقشات التي وردت عليها، ثم إن بدا لي ترجيح بعضها فعلت، وإلا فحسبي أنني ذكرت الأدلة ومناقشاتها من مصادرها المختلفة، ثم صغتها في عبارة سهلة ميسرة، وترتيب حَسَنٍ، يعطي فكرة شاملة للموضوع كله"1. وقسم تفسيره إلى خمسة دروس، تناول في كل درس آية من آيات الأحكام، هن -حسب ورودها عنده- كما يلي: الدرس الأول: في الحج تفسير قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} 2، وجاء في 52 صفحة. الدرس الثاني: المحافظة على أموال السفهاء واليتامى تفسير قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} 3، وجاء في 50 صفحة. الدرس الثالث: القتل الخطأ وما يتعلق به من أحكام تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} 4 الآية، وجاء تفسيرها في 53 صفحة. الدرس الرابع: بعض أحكام القتل العمد:   1 قبس من التفسير الفقهي: الدكتور الشافعي عبد الرحمن السيد ص4. 2 سورة آل عمران: الآيتين 96، 97. 3 سورة النساء: الآيتين 5، 6. 4 سورة النساء: من الآية 92. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} 1، وجاء تفسيرها في 24 صفحة. الدرس الخامس: قصر الصلاة في السفر: تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} 2. هذه هي الدروس الخمسة، وهذه هي الآيات الخمس أو تزيد، وكما أنه لا يسعنا أن نورد مثالًا كاملًا لتفسير آية فإنه لا يسعنا إلا أن نورد عرضًا لتفسير درس من دروسه؛ حتى نرى عمق الأبحاث الفقهية فيه، والتي قد لا تجدها في كبير كتب الفقه، ومثال ذلك: الدرس الثاني: المحافظة على أموال السفهاء واليتامى: ذكر أولًا نص الآية، ثم صلتها بما قبلها، ثم معاني المفردات، ثم المعنى العام للنص الكريم، وكل هذه الأبحاث التفسيرية حقًّا لم تتجاوز تسع صفحات، أما البقية فعقد بحثًا عنوانه: "بعض المطالب التي يتضح من خلالها ما في النص الكريم من أحكام"، ومن هذه المطالب: المطلب الأول: في الحجر على السفيه: بيَّن فيه معنى الحجر لغةً واصطلاحًا، ومعنى السفه كذلك، ثم آراء العلماء في الحجر على السفيه، وبسط أدلة كل قول من الكتاب والسنة، ثم بحث في مَن يضرب الحجر على السفيه. المطلب الثاني: في تصرفات السفيه: تحدث عن تصرفاته قبل الحجر عليه، ثم بعد الحجر عليه، وقسم الأخير   1 سورة النساء: الآية 93. 2 سورة النساء: من الآية 101. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 إلى تصرفات فيما ليس بمال، وتصرف بما كان ماليًّا، وتصرف بما يُفضي إلى المالية، وبحث كل نوع على حدة. والمطلب الثالث: الإنفاق على السفهاء وفصَّل القول فيه، وذكر أقوال العلماء وأدلتهم. المطلب الرابع: كيفية اختبار اليتامى، وشروط دفع أموالهم إليهم؛ فتحدث أولًا عن كيفية اختبارهم، ثم ثانيًا عن شروط دفع المال إلى اليتيم، فذكر أقوال العلماء في الشرط الأول "بلوغ النكاح"، وفصَّل القول فيه، ثم في الشرط الثاني "إيناس الرشد"، ثم ذكر الخلاف في شرط ثالث. ثم تحدث عن تصرف المرأة في مالها، وذكر آراء العلماء وأدلتهم، ثم عن الإشهاد على الدفع، ثم تحذير للأولياء. المطلب الخامس: ما يحل للأولياء من مال اليتامى ذكر فيه أقوال العلماء في المخاطَب بهذه الآية: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} الآية، وأدلة كل قوم، ثم عقد بحثًا عنوانه: التكييف الفقهي لما يأكله الولي، والقول بأنه أجره، ثم بحث ما وُجِّهَ لهذا الرأي من نقد، ثم القول بأنه قرض، ثم القول بأنه رزق للأولياء، ثم استنتاج. ومن هذا العرض للأبحاث التي تناولها عند تفسير الآية السالفة يتضح لنا مدى تعمقه في الأبحاث الفقهية؛ حتى يحسبه القارئ كتابًا في الفقه، قدَّم صاحبه لكل درس فيه بآية وبعض تفسير لها. ومعذرة إذا كان عرضي لهذا التفسير من دون ذكر أمثلة، فما تركت ذلك إلا خشية الإطالة، وفيما عرضت بيان لمنهجه، وفيه الكفاية والسداد إن شاء الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 سادسًا: دراسات في تفسير بعض آيات الأحكام أولًا: المؤلف: هو: الدكتور كمال جودة أبو المعاطي. مدرس الفقه المقارن، بكلية الشريعة والقانون في جامعة الأزهر، وهو أيضًا لم أجد له ترجمة. ثانيًا: التفسير: دراسات في تفسير بعض آيات الأحكام، صدرت الطبعة التي بين يدي سنة 1400، وعدد الصفحات 181 صفحة بدون الفهارس. لخص المؤلف طريقته فيه بقوله: "فهذه دراسات في تفسير بعض آيات الأحكام، وقد حاولت في هذه الدراسات تفسير الآيات المختارة بما قاله علماء التفسير القدامى منهم والمحدثون، مرجحًا ما رأيته جديرًا بالترجيح، ومضعفًا ما كان جديرًا بالتضعيف. كما حاولت المحافظة على الأسلوب العلمي الرصين والممتاز لأعلام المفسرين، موضحًا ما يحتاج إلى توضيح، وقد نسقت ذلك كله في صورة ميسرة تُوفر على الدارس الكثير من العناء والجَهْد"1. وهذا التفسير قريب من سابقه؛ فقد قسمه مؤلفه إلى أربعة أبواب، تناول في   1 دراسات في تفسير بعض آيات الأحكام: الدكتور كمال جودة أبو المعاطي ص3. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 الباب الأول أربع آيات من سورة الأنفال، وفي الباب الثاني ثماني آيات من سورة التوبة، وفي الباب الثالث مثلها من سورة النحل، وفي الباب الرابع آيتين من سورة الإسراء، وآية من سورة الكهف. ومن هذا يظهر أنه غير شامل لسور القرآن؛ بل ولا لآيات الأحكام في السور التي تناولها؛ وإنما قصد صاحبه فيه الاختصار. والمؤلف يقدِّم أحيانًا تمهيدًا للسورة التي يتناول آيات الأحكام منها، ثم يتناول الآية الأولى تحت عنوان الفصل الأول، أما الأبحاث التي يعقدها تحت هذه الفصول عادة فهي: مبحث في توضيح بعض المفردات، ومبحث في أسباب النزول، ومبحث فيما يُستنبط من الآية، وأحيانًا يربط الآية بما قبلها، وأحيانًا يُجْمِلُ معنى الآية، وعدة أبحاث في دراسات فقهية للآية التي يتناولها. مثال من تفسيره: وهذه بعض الأمثلة من تفسيره: خمس الغنائم: وذلك في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} 1 الآية. قال: "المبحث الأول: في توضيح بعض المفرادات: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} والغنيمة في اللغة: ما ينال الرجل أو الجماعة بسعي، والمغنم والغنيمة بمعنى واحد، يقال: غنم القوم غنمًا ومغنمًا. واعلم أن الاتفاق حاصل على أن المراد بقوله تعالى: {غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} مال الكفار إذا ظفر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر، ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص على ما بيَّناه؛ ولكن عرف الشرع قيد اللفظ بهذا النوع ... "2.   1 سورة الأنفال: من الآية 41. 2 دراسات في تفسير بعض آيات الأحكام: د. كمال جودة أبو المعاطي ص20. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 المبحث الثاني: في كيفية قسمة الغنائم: وقال فيه: "اعلم أن هذه الآية يقتضي أن يُؤخذ خمسها، وفي كيفية قسمة ذلك الخمس قولان: الأول: وهو المشهور أن ذلك الخمس يخمس؛ فسهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسهم لذوي قرباه من بني هاشم وبني المطلب، دون بني شمس وبني نوفل ... وثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل، وأما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فعند الشافعي -رحمه الله- أنه يقسم على خمسة أسهم: سهم لرسول الله يُصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين؛ كعدة الغزاة من الكراع والسلاح، وسهم لذوي القربى -أغنيائهم وفقرائهم- يُقسَّم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، والباقي للفِرَق الثلاثة؛ وهم: اليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وقال أبو حنيفة: إنه بعد وفاة الرسول عليه السلام سهمه ساقط بسبب موته، وكذلك سهم ذوي القربى، وإنما يعطون لفقرهم، فهم أسوة بسائر الفقراء، ولا يعطى أغنياؤهم، فيقسم على اليتامى والمساكين وابن السبيل، وقال مالك: الأمر في الخمس مفوض إلى رأي الإمام، إن رأى قسمته على هؤلاء فعل، وإن رأى إعطاء بعضهم دون بعض فله ذلك. واعلم أن ظاهر الآية مطابق لقول الشافعي -رحمه الله- وصريح فيه، لا يجوز العدول عنه إلا لدليل منفصل أقوى منها، وكيف وقد قال في آخر الآية {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّه} ؟ يعني: إن كنتم آمنتم بالله فاحكموا بهذه القسمة، وهو يدل على أنه متى لم يحصل الحكم بهذه القسمة لم يحصل الإيمان بالله. القول الثاني: وهو قول أبي العالية أن خمس الغنيمة يقسم على ستة أقسام؛ فواحد منها لله، وواحد لرسول الله، والثالث لذوي القربى، والثلاثة الباقية لليتامى والمساكن وابن السبيل، والدليل عليه أنه تعالى جعل خمس الغنيمة لله ثم للطوائف الخمسة ... "1.   1 دراسات في تفسير بعض آيات الأحكام: د. كمال جودة أبو المعاطي ص22، 23. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 المبحث الثالث: تناول فيه هذه الآية من حيث إنها منسوخة أو محكمة، ورجح أن الآية محكمة غير منسوخة المبحث الرابع: في الباقي من الغنيمة بعد الخمس قال فيه: "لما بيَّن الله عز وجل حكم الخمس، وسكت عن الأربعة الأخماس، دل ذلك على أنها ملك للغانمين ... وذلك ما لا خلاف فيه بين الأمة ولا بين الأئمة، على ما حكاه ابن العربي في "أحكامه" وغيره1. المبحث الخامس: وفيه معنى الآية الإجمالي، وذكر أيضًا ما يستفاد منها فقال في المعنى الإجمالي: "واعلموا -أيها المسلمون- إن ما ظفرتم به من مال الكفار فحكمه أن يقسم خمسة أخماس: خمس منها لله وللرسول ولقرابة النبي واليتامى؛ وهم أطفال المسلمين الذين مات آباؤهم وهم فقراء، والمساكين؛ وهم ذوو الحاجة من المسلمين، وابن السبيل؛ وهو المنقطع في سفره المباح، والمخصص من خمس الغنيمة لله وللرسول يرصد للمصالح العامة التي يقررها الرسول في حياته والإمام بعد وفاته، وباقي الخمس يصرف للمذكورين، وأما الأخماس الأربعة الباقية من الغنيمة التي سكتت عنها الآية، فهي للمقتالين، فاعلموا ذلك، واعملوا به إن كنتم آمنتم بالله حقًّا، وآمنتم بما أنزلنا على عبدنا محمد من آيات التثبيت والمدد، ويوم الفرقان الذي فرقنا فيه بين الكفر والإيمان، وهو اليوم الذي التقى فيه جمعكم وجمع الكافرين ببدر، والله عظيم القدرة على كل شيء، وقد نصر المؤمنين مع قلتهم، وخذل الكافرين مع كثرتهم"2. وبهذا انتهى تفسيره للآية. والمؤلف كثير النقل عن: الرازي والقرطبي وابن العربي وأبي السعود،   1 دراسات في تفسير بعض آيات الأحكام: د. كمال جودة أبو المعاطي ص25. 2 المرجع السابق ص26، 27. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 والكتاب بحاجة لتوسعة بعض الأبحاث وتنقيح بعضها، وإصلاح بعض جُمَلِه من حيث اللغة، وحبذا لو قام صاحبه بتفسير بقية آيات الأحكام، نفع الله به. وبعد: هذه هي المؤلفات في تفسير آيات الأحكام عند أهل السنة والجماعة، والتي اطلعت عليها. وقد أجملت ما لاحظته عليها في أول هذا الفصل بما لا أرى موجبًا لإعادته. بقي أن أقول هنا ما قلته عن تفسير أهل السنة والجماعة لآيات العقائد، فكما قلت هناك: إن الحاجة ماسة لتأليف تفسير يُعْنَى بآيات العقائد، ويرد فيه على شبهات الخصوم وتأويلات الباطنية الباطلة؛ فإن الحاجة هنا أيضًا لا تقل عنها درجة في كتابة تفسير لا يلتزم منهجًا مدرسيًّا يقيد صاحبه؛ بل ينظر في مجتمعه فيفسر آياته بما يبرز علاجها لأمراضه، وينظر أخرى فينفي عنها التأويلات الزائفة للفِرَق الضالة، وينظر ثالثة فينشر أريجها بين المسلمين، داعيًا إلى امتثالها، ودفع وإزالة ما يعوق تطبيقها في المجتمعات الإسلامية كافة ... وإنا لمنتظرون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 ثانيا: فقه الشيعة الإمامية "الاثنى عشرية" فرض الرجلين في الوضوء ... ثانيًا: فقه الشيعة الإمامية "الاثنا عشرية" بعد بحث وتنقيب لم أعثر على تفسير لآيات الأحكام في القرآن الكريم عند الشيعة الإمامية "الاثنا عشرية"، وقد سبق القول مني أني سأعرض فقههم من كتب غير مقتصرة على آيات الأحكام؛ بل هي تفاسير شاملة لآيات القرآن الكريم. كما أن المجال لا يتسع لعرض كل مواضع الخلاف بين فقه أهل السنة وفقههم؛ وإنما نذكر بعض مواضعه؛ وذلك لأحد أمرين: أولهما: خشية الإطالة فيها لو أوردنا مواضع الخلاف كلها، حتى ولو كان العرض مختصرًا. ثانيهما: أن بعض مواضع الخلاف لم يرد دليله في القرآن الكريم؛ فلم يتناوله الفريقان أو تناوله أحدهما توسعًا في أبحاث الآية لا في تفسيرها، ومثله لا يدخل ي مجالنا هنا. أما المواضع التي رأينا تناولها، فهي المواضع التي عرضنا تفسيرها وأقوال العلماء يها عند أهل السنة والجماعة، وها نحن نعيد هذه الأبحاث لبيان الآراء الفقهية فيها عند الشيعة ليظهر رأي كل، والله الموفق. فرض الرجلين في الوضوء: وعرفنا -فيما سبق- أن فرض الرجلين عند أهل السنة غسلهما وأدلتهم في ذلك، أما الشيعة فيرون أن فرضهما المسح، وهذا محمد حسين الطباطبائي يقول في تفسير قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} 1: "وأما   1 سورة المائدة: من الآية 6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 قوله: {وَأَرْجُلَكُم} فقد قرئ بالجر، وهو لا محالة بالعطف على رءوسكم، وربما قال القائل: إن الجر للإتباع كقوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] وهو خطأ، فإن الإتباع على ما ذكروه لغة رديئة لا يحمل عليها كلام الله تعالى، وأما قوله: {كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} فإنما الجعل هناك بمعنى الخلق، وليس من الإتباع في شيء. على أن الإتباع -كما قيل- إنما ثبت يما ثبت في صورة اتصال التابع والمتبوع، كما قيل في قولهم: جحر ضبٍّ خربٍ، بجر الخرب إتباعًا، لا في مثل المورد مما يفضل العاطف بين الكلمتين. وقرئ: {وَأَرْجُلَكُم} بالنصب، وأنت إذا تلقيت الكلام مخلَّى الذهن غير مشوب الفهم لم يلبث دون أن تقضي أن "أرجلكم" معطوف على موضع "رءوسكم" وهو النصب، وفهمت من الكلام وجوب غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين، ولم يخطر ببالك أن ترد "أرجلكم" إلى "وجوهكم" في أول الآية مع انقطاع الحكم في قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} بحكم آخر وهو قوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} ؛ فإن الطبع السليم يأبي عن حمل الكلام البليغ على ذلك، وكيف يرضى طبع متكلم بليغ أن يقول مثلًا: قبلت وجه زيد ورأسه ومسحت بكتفه ويدَه، بنصب "يد" عطفًا على "وجه زيد" مع انقطاع الكلام الأول، وصلاحية قوله "يده" لأن يعطف على محل المجرور المتصل به، وهو أمر جائز دائر كثير الورود في كلامهم. وعلى ذلك وردت الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، وأما الروايات من طرق أهل السنة فإنها وإن كانت غير ناظرة إلى تفسير لفظ الآية؛ وإنما تحكي عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفتوى بعض الصحابة؛ لكنها مختلفة: منها ما يوجب مسح الرجلين، ومنها ما يوجب غسلهما. وقد رجح الجمهور منهم أخبار الغسل على أخبار المسح، ولا كلام لنا   1 ورد في الأصل: "وامسحوا بوجوهكم"، وهو سبق قلم فصححتُه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 معهم في هذا المقام؛ لأنه بحث فقهي راجع إلى علم الفقه، خارج عن صناعة التفسير"1. إلى أن قال: "فالأحرى للقائل بوجوب غسل الرجلين في الوضوء أن يقول كما قال بعض السلف كأنس والشعبي وغيرهما على ما نقل عنهم: إنه نزل جبريل بالمسح والسنة الغسل "كذا"، ومعناه نُسخ الكتاب بالسنة. وينتقل البحث بذلك عن المسألة التفسيرية إلى المسألة الأصولية: هل يجوز نسخ الكتاب بالسنة أو لا يجوز؟ والبحث فيه من شأن الأصولي دون المفسر، وليس قول المفسر بما هو مفسر: إن الخبر الكذائي2 مخالف للكتاب إلا للدلالة على أنه غير ما يدل عليه ظاهر الكتاب دلالة معولًا عليها في الكشف عن المراد دون الفتيا بالحكم الشرعي الذي هو شأن الفقيه"3. ومن الشيعة أيضًا محمد جواد مغنية؛ حيث قال في تفسيره لهذه الآية {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} : ورد في الأرجل قراءتان؛ إحادها: النصب، والأخرى: الخفض. وقال: السنة يجب غسل الأرجل لا مسحها؛ لأنها معطوفة على الأيدي، على القراءتين. أما قراءة النصب فواضح إذ الأيدي منصوبة لفظًا ومحلًا. وأما على قراءة الجر فللجوار والإتباع؛ أي الرءوس مجرورة والأرجل مجاورة لها، فجرت الأرجل لعلاقة المجاورة، تمامًا كقول العرب: "جحر ضبٍّ خربٍ"، مع العلم بأن خرب يجب رفعه؛ لأنه صفة للجحر لا للضب؛ ولكنه خفض لمجاورته للضب. وقال الشيعة: يجب مسح الأرجل لا غسلها؛ لأنها معطفوة على الرءوس، أما على قراءة الجر فواضح؛ إذ الرءوس مجرورة بالياء، وأما على قراءة النصب فمعطوفة على محل الرءوس؛ لأن كل مجرور لفظًا منصوب محلًا. ثم قال الشيعة: إن العطف على الأيدي لا يجوز لأمرين:   1 الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي ج5 ص222. 2 نسبة إلى "كذا"، والمعنى: الخبر الفلاني. 3 الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي ج5 ص224. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 الأول: إنه خلاف الفصاحة لوجود الفاصل بين الأيدي والأرجل؛ وهو قوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُم} ولو كان الأرجل معطوفة على الأيدي لقال: "وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ" ولم يفصل بين الأيدي والأرجل بمسح الرأس. الثاني: إن العطف على الأيدي يستدعي أن يكون لكل قراءة معنى مغاير للآخر؛ إذ يكون المعنى على قراءة النصب الغسل، وعلى قراءة الجر المسح، وهذا بخلاف العطف على الرءوس، فإن المعنى يكون واحدًا على القراءتين، بالإضافة إلى أن الجر للجوار رديء لم يرد في كلام الله إطلاقًا1، 2. هذا مذهب الشيعة في فرض الرجلين في الوضوء، ولا يخلو ما قاله الطباطبائي أولًا ومغنيه ثانيًا من بعض الأقوال التي يرد عليها؛ فتبطل وتهوى ولو تعقبناها لطال؛ وإنما بسطنا رأي أهل السنة قَبْلُ حتى يرجع إليه مَن لم يسعفه ذهنه بالدليل والحجة حتى يكون على المحجة، وسنفعل كذلك فيما سيأتي من أبحاث إن شاء الله تعالى.   1 التفسير الكاشف: محمد جواد مغنيه ج3 ص23. 2 لو قال المؤلف: لم يرد في كلام العرب، أو في اللغة؛ لملكت زمام نفسي، وألزمتها القاعدة التي التزمتها؛ وهي الإحالة إلى رأي أهل السنة، أما وقد نسب عدم الورود إلى كلام الله؛ فإني أسمح لنفسي أن أورد قول الشنقيطي -رحمه الله تعالى- في ذلك: "ومن أمثلة الخفض بالمجاورة في القرآن في النعت قوله تعالى: {عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيط} بخفض محيط مع أنه نعت للعذاب، وقوله تعالى: {عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} ، ومما يدل على أن النعت للعذاب، وقد خُفض للمجاورة كثرة ورود الألم في القرآن نعتًا للعذاب، وقوله: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} على قراءة مَن قرأ بخفض "محفوظ" كما قاله" القرطبي. "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: محمد الأمين الشنقيطي ج2 ص11، 12. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 صلاة الجمعة : قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} 1 الآية.   1 سورة الجمعة: من الآية 9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 قال محمد جواد مغنيه في تفسيرها: "صلاة الجمعة فرض كتابًا وسُنَّة وإجماعًا؛ وهي ركعتان مع خطبتين قبلها، ويُكتفَى بها عن صلاة الظهر، وتختص بالرجال دون النساء، ولا خلاف في شيء من ذلك بين المسلمين؛ وإنما الخلاف بينهم: هل تجب صلاة الجمعة مطلقًا من غير شرط، أو تجب مع وجود السلطان أو مَن يستنيبه لها؟ قال الحنفية والإمامية: وجود السلطان أو نائبه شرط؛ ولكن اشترط الإمامية عدالة السلطان، وإلا كان وجوده كعدمه، واكتفى الحنفية بوجود السلطان وإن لم يكن عادلًا. وقال الشافعية والمالكية والحنابلة: تجب مطلقًا وُجِدَ السلطان أم لم يوجد، وقال كثير من فقهاء الإمامية: إذا لم يوجد السلطان العادل أو نائبه ووُجِدَ فقيه عادل يخير بينها وبين الظهر"1. ومغنيه لم يوضح حالات وجوب الجمعة ووجود الإمام والعلاقة بينهما حتى يتسنى له أن يقرن الإمامية مع الحنفية، وهو وأتباعه حريصون كل الحرص على مثل هذا، والحالات التي لا تخرج عنها الأقوال كلها أربع: 1- وجوب صلاة الجمعة وجد السلطان أم لم يوجد، وهو رأي المالكية والشافعية والحنابلة. 2- وجوب صلاة الجمعة إذا وُجد السلطان، وهو رأي الحنفية. 3- وجوبها مع وجود الإمام العدل، وقال به طائفة من الشيعة. 4- إنها لا تجب إلا مع وجود الإمام المعصوم، وقال به طائفة من الشيعة. ومن هذا يظهر أن الشيعة كلهم يشترطون وجود الإمام العادل، وخصته طائفة بالإمام المعصوم. وعلى القول الأخير: لا تجب الجمعة لعدم ظهور الإمام المنتظر، وعلى القول الثالث: لا تجب لعدم وجود الإمام العادل، وإن كانت نسبة الإمام للعدل أمر يُختلف فيه: متى يكون عدلًا يُصلَّى معه ومتى يكون غير ذلك.   1 التفسير الكاشف: محمد جواد مغنيه ج7 ص326، 327. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 وبهذا يظهر أن الشيعة -على القولين- لا توجب صلاة الجمعة في هذه العصور، أما وقد صدر أمر الخميني في السنوات الأخيرة بأدائها فلعله يرى أحد أمرين: 1- إما أنه الإمام العادل؛ فتجب لذلك عنده. 2- وإما أن أمره أمر ندب لا إيجاب، ويؤيد هذا قوله في كتابه تحرير الوسيلة: "تجب صلاة الجمعة في هذه الأعصار مخيرًا بينها وبين صلاة الظهر، والجمعة أفضل، والظهر أحوط وأحوط من ذلك الجمع بينهما"1، وقوله أيضًا: "لا يحرم البيع يوم الجمعة بعد الأذان في أعصارنا مما لا تجب فيه تعيينًا"2، هذا ما ادعاه، ودع عنك التعارض والتضارب في عبارته على قصرها، فكيف تجب على التخيير وكيف تكون الأفضل، ويكون الظهر الأحوط؟! وعلى كل حال قصدت من هذا أن أقول ما خلاصته: إن الشيعة في العصر الحديث إما أنهم يشترطون الإمام العادل، وإما أنهم يشترطون الإمام المعصوم. ومن الذين يشترطون الإمام العادل وينكرون شرط الإمام المعصوم محمد الصادقي؛ حيث يقول في تفسير الآية: "لا توجد أية حجة تختص فريضة الجمعة بالمؤمنين زمن حضور المعصومين، ولو كانت لضربت عرض الحائط؛ لمخالفتها الكتاب والسنة الثابتة، ومنها ما رواه الفريقان -يقصد السنة والشيعة- عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه خطب لأول جمعة أقامها في المدينة المنورة فقال: "إن الله افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في يومي هذا، في شهري هذا، في عامي هذا إلى يوم القيامة، فمن تركها استخفافًا بها، أو جحودًا لها، فلا جمع الله له شمله، ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ألا ولا زكاة له، ألا ولا حجَّ له، ألا ولا صيام له، ألا ولا بر له، ألا ولا بركة له حتى يتوب، فمن تاب تاب الله عليه"3،   1 تحرير الوسيلة: الخميني ج1 ص231. 2 تحرير الوسيلة: الخمينيج 1 ص240. 3 نسبه المؤلف إلى "الدر المنثور ج6 ص218، ووسائل الشيعة ج3 ص7 ح28، وابن ماجه ج1 ص334 باب فرض الجمعة". اهـ. إلا أني رأيته عند ابن ماجه وفيه: "في عامي هذا إلى يوم القيامة، فمن تركها في حياتي أو بعدي وله إمام عادل أو جائر استخفافًا بها" الحديث، والمؤلف لم يذكر هذا النص لأنه حجة عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 ولم يُستثنَ - فيمَن استُثنِيَ- المؤمنون زمن غيبة الإمام المعصوم، رغم استثناء المجنون والصغير اللذين لم يشملهما قلم التكليف"1. وقال أيضًا: "إن السعي إلى ذكر الله فيها، والاجتماع فيه، ليس إلا عند اجتماع الشرائط: عددًا ومسافة، وعدالة للإمام، وقدرة على إلقاء الخطبة، ثم ما دونها هراء مختلق كاشتراط حضور المعصوم أو إذنه الخاص، فلا أثر له إسلاميًّا عندنا"2. إذًا، فصلاة الجمعة عنده واجبة إذا وُجد الإمام العدل؛ بل تؤدَّى حتى مع عدم وجود الإمام العدل وغيره من شروطها؛ ولكن بصورة أخرى غير الصورة المعروفة لصلاة الجمعة، فقال: "وعند فقد الشرائط أو بعضها فأربع ركعات بنية الجمعة"2؛ والسبب في ذلك أنه "لا صلاة ظهرًا يوم الجمعة إلا صلاة الجمعة، هي ركعتان بعد خطبتين مع شرائطها، وهي أربع ركعات كصلاة الظهر لولا الشرائط أو إمكانيتها يجهر في الأوليين، كما في ركعتي الجمعة بنية الجمعة لا الظهر، وكما في المعتبرة المستفيضة"2. وعلَّق على جملته الأخيرة في الهامش بقوله: "منها موثقة سماعه قال: سألت أبا عبد الله "ع" عن الصلاة يوم الجمعة، فقال: أما مع الإمام فركعتان، وأما مَن يصلي وحده فهي أربع ركعات بمنزلة الظهر "وسائل الشيعة ج3 ص13، 14" راجع كتابنا: على شاطئ الجمعة"3. قلت: وكل كلامه لتقرير ما جاء في هذا الأثر عن إمامهم، وخلاصة أقواله أنه إذا وُجد الإمام العادل فصلاة الجمعة ركعتان، وإذا لم يوجد فأربع ركعات بنية الجمعة، ولا دليل عنده ولا عندهم إلا رواياتهم الباطلة عند أهل السنة والجماعة.   1 الفرقان في تفسير القرآن: محمد الصادقي ج28 ص340. 2 المرجع السابق: ج28 ص344، 345. 3 الفرقان في تفسير القرآن: محمد الصادقي ج28 هامش ص345. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 خمس الغنائم : والمراد بالغنيمة وتوزيع الخمس منها موضع خلاف بين أهل السنة والجماعة وبين الاثنا عشرية، والنص الوارد في ذلك قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} 1 الآية. قال مغنيه من الشيعة في تفسيرها: "وقد اختلف السنة والشيعة في المعنى المراد من الغنيمة في الآية؛ فقال السنة: هي ما يغنمه المسلمون من الكفار بقتال؛ وعلى قولهم هذا تكون مسألة الخمس عبارة عن قضية لا واقع لها من الناحية العملية في هذه الأيام، تمامًا كمسألة العبيد والإماء؛ إذ لا دولة إسلامية تجاهد الكفار والمشركين في هذا العصر2. وقال الشيعة: إن الغنيمة أعم مما يأخذه المسلمون من الكافرين بقتال، وإنها تشتمل المعدن كالنفط والذهب وغيرهما، وأيضًا تشمل الكنز المدفون تحت الأرض إذا لم يُعرف له صاحب، وتشمل ما يخرجه الإنسان من البحر بالغوص كاللؤلؤ، وما يفضل عن مؤنة الإنسان وعياله مما اكتسبه في سنته، وتشمل المال الذي فيه حلال وحرام، ولم يعلم شخص الحرام ولا مقداره ولا صاحبه، وتشمل الأرض التي يشتريها الذمي من المسلم، والتفصيل في كتب الشيعة، ومنها الجزء الثاني من كتابنا: فقه الإمام جعفر الصادق ... وعلى قول الشيعة تكون مسألة الخمس مسألة لها واقع من الناحية العملية "!! ".   1 سورة الأنفال: من الآية 41. 2 ما رأيت مثل مكر هذا: إنه يلسع ولكن من القفى، وإلا فهل يجهل أن عدم وقوع قضية من القضايا في عصر من العصور لا يعني عدم صحة تشريعها؟! أَوْلَا يعلم أن الشريعة الإسلامية جاءت لكل عصر وليس لعصر معين؟! ثم إنه ما عطل أحد من الشريعة مثلما عطلت الشيعة بزعم غيبة الإمام، أفلا يصح أن يصرح سواهم بالحكم الشرعي مع عدم وجود دواعيه؟! ولكنه الهوَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 وكما اختلف الشيعة والسنة في معنى الغنيمة فقد اختلفوا في عدد أسهم الخمس وتقسيمها على مستحقيها؛ قال الشيعة: يقسم الخمس إلى قسمين؛ والأول منهما ثلاثة أسهم: سهم لله وسهم لرسوله وسهم لذوي القربى، وما كان لله فهو للرسول، وما كان للرسول فهو لقرابته، وولي القرابة بعد النبي هو الإمام المعصوم القائم مقام النبي "!! " فإن وُجد أُعطي له، وإلا وجب إنفاقه في المصالح الدينية؛ وأهمها: الدعوة إلى الإسلام، والعمل على نشره وإعزازه. أما القسم الثاني فهو ثلاثة أسهم: سهم لأيتام آل محمد صلى الله عليه وسلم وسهم لمساكينهم وسهم لأبناء السبيل منهم خاصة، لا يشاركهم أحد في ذلك؛ لأن الله حرَّم عليهم الصدقات فعوضهم عنها بالخمس. وقال الطبري في تفسيره وأبو حيان الأندلسي في البحر المحيط: "قال علي بن أبي طالب عليه السلام: اليتامى والمساكين أيتامنا ومساكيننا". وقال الطبري في تفسيره أيضًا: "إن علي بن الحسين -رضي الله عنه- قال لرجل من أهل الشام: أما قرات في الأنفال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} ، قرأ الآية. قال الشامي: نعم وإنكم لأنتم؟ قال: نعم". أما مذهب السنة فندع الكلام عنه إلى عالِمَيْنِ كبيرين: أحدهما من القدماء وهو الرازي، والثاني من الجدد وهو المراغي"2. ثم نقل نصًّا للرازي فيه ذكر أقوال أهل السنة، ونصًّا آخر للمراغي ذكر مغنيه منه ما يبين أن المراد بذوي القربى بنو هاشم وبنو المطلب، ولم يذكر السطر الذي قبله، ونص فيه المراغي على أن المراد باليتامى والمساكين وابن السبيل هم المحتاجون من سائر المسلمين3؛ وإنما اكتفى بما نقل لأمر في نفسه يخفيه. ومن الشيعة أيضًا محمد حسين الطباطبائي، فقال في تفسيره للآية: "وظاهر   1 علق الشيخ محمود شاكر -رحمه الله تعالى- على إسناد هذا الأثر فقال: "هذا إسناد هالك". تفسير الطبري ج13 ص554. 2 التفسير الكاشف: محمد جواد مغنيه ج3 ص482، 483. 3 انظر: تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج4 ص5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 الآية أنها مشتملة على تشريع مؤبَّد كما هو ظاهر التشريعات القرآنية، وأن الحكم متعلق بما يسمى غنمًا وغنيمة، سواء كان غنيمة حربية مأخوذة من الكفار أو غيرها مما يطلق عليه الغنيمة لغة؛ كأرباح المكاسب، والغوص، والملاحة، والمستخرَج من الكنوز، والمعادن، وإن كان مورد نزول الآية هو غنيمة الحرب فليس للمورد أن يخصص. وكذا ظاهر ما عد من موارد الصرف بقوله: {لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} انحصار الموارد في هؤلاء الأصناف، وأن لكل منهم سهمًا؛ بمعنى: استقلاله في أخذ السهم، كما يستفاد مثله من آية الزكاة من غير أن يكون ذكر الأصناف من قبيل التمثيل. فهذا كله مما لا ريب فيه بالنظر إلى المتبادر من ظاهر معنى الآية، وعليه وردت الأخبار من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت -عليهم السلام- وقد اختلفت كلمات المفسرين من أهل السنة في تفسير الآية، وسنتعرض لها في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى"1. وإذا ما انتقلنا إلى ما أشار إليه وجدناه يسوق هناك عددًا من رواياتهم؛ ومنها: "في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن أبي عمير عن الحسين بن عثمان عن سماعه قال: سألت أبا الحسن -عليه السلام- عن الخمس فقال: في كل ما أفاد الناس من قليل أو كثير. وفيه عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح قال: الخمس في خمسة أشياء: من الغنائم والغوص ومن الكنوز ومن المعادن والملاحة، يؤخذ من كل هذه الصنوف الخمس فيجعل لمن جعل الله له، ويقسم أربعة أخماس بين مَن قاتل عليه وولي ذلك، ويقسم بينهم الخمس على ستة أسهم: سهم لله، وسهم لرسوله، وسهم لذي القربى، وسهم للتيامى، وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل، فسهم الله وسهم رسوله لأُولِي الأمر من بعد رسول الله وراثة، فله   1 الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي ج9 ص91. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 ثلاثة أسهم: سهمان وراثة، وسهم مقسوم له من الله، فله نصف الخمس كلا، ونصف الخمس الثاني بين أهل بيته: فسهم ليتاماهم، وسهم لمساكينهم، وسهم لأبناء سبيلهم، يقسم بينهم على الكتاب والسنة ما يستغنون به في سنتهم، فإن فضل منهم شيء فهو للوالي، وإن عجز أو نقص عن استغنائهم كان على الوالي أن ينفق من عنده ما يستغنون به؛ وإنما صار عليه أن يمونهم؛ لأن له ما فضل عنهم ... وهؤلاء الذين جعل الله لهم الخمس هم قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الذين ذكرهم الله فقال: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} وهم بنو عبد المطلب أنفسهم، الذكر منهم والأنثى، ليس فيهم من أهل بيوتات قريش ولا من العرب أحد، ولا فيهم ولا منهم في هذا الخمس من مواليهم، وقد تحل صدقات الناس لمواليهم، وهم والناس سواء". وقال أيضًا: "أقول: والأخبار عن أئمة أهل البيت -عليهم السلام- متواترة في اختصاص الخمس بالله ورسوله والإمام من أهل بيته ويتامى قرابته ومساكينهم وأبناء سبيلهم، لا يتعداهم إلى غيرهم، وأنه يقسم ستة أسهم على ما مر في الروايات، وأنه لا يختص بغنائم الحرب؛ بل يعم كل ما يسمى غنيمة لغة من: أرباح المكاسب والكنوز والغوص والمعادن والملاحة، وفي رواياتهم -كما تقدم- أن ذلك موهبة من الله لأهل البيت بما حرم عليهم من الزكوات والصدقات"1. إذًا، فالخلاف بينهم وبين أهل السنة في أن الغنائم عندهم تشمل: أرباح التجارة والكنوز والغوص والمعادن والملاحة. أما عند أهل السنة والجماعة فهي غنائم الحرب مع الكفار، أما الخمس فلأهل البيت عند الشيعة، وعند أهل السنة فسهم الله ورسوله لمصالح المسلمين وذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل من سائر المسلمين.   1 تفسير الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي ج9 ص103، 104 باختصار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 نكاح المتعة : وهذا هو أشهر الاختلافات الفقهية بين أهل السنة والجماعة وبين الشيعة الاثنا عشرية؛ ذلك أن نكاح المتعة محرم عند أهل السنة إجماعًا، ومباح عند الشيعة؛ بل كاد أن يكون شعارًا لهم. وموضع استدلالهم قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} 1، قال مغنيه في تفسيره لها: "وقد كثر الكلام والنقاش حول هذه الآية: هل المراد بها الزواج الدائم فقط أو زواج المتعة فقط، أو هما معًا؟ وعلى فرض إرادة المتعة: فهل نُسخت هذه الآية ونُسخ معها زواج المتعة؟ وفيما يلي يتضح الجواب عن جميع ما أثير أو يثار من التساؤلات حول زواج المتعة. جاء في كتب الحديث والفقه والتفسير للسنة والشيعة أن المسلمين اتفقوا -قولًا واحدًا- على أن الإسلام شرع متعة النساء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها أصحابه؛ من ذلك ما جاء في الجزء السابع من صحيح البخاري، كتاب الترغيب في النكاح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جيش المسلمين، فقال لهم: "قد أَذِنَ الله لكم أن تستمتعوا؛ فاستمتعوا". وفي رواية ثانية للبخاري: "أيما رجل وامرأة توافقا فعشرة ما بينهما ثلاث ليال، فإن أحبا أن يتزايدا أو يتتاركا تتاركا"2. وفي صحيح مسلم ج2 باب "نكاح المتعة" ص623 طبعة 1348هـ عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه قال: استمتعنا على عهد رسول الله وأبي بكر   1 سورة النساء: من الآية 24. 2 ما رأيت تدليسًا مثل تدليس هذا الرجل ودسه. نص الحديث الذي بتره هنا بترًا جاء باقيه: "أو يتتاركا تتاركًا، فما أدري أشيء كان لنا خاصة أم للناس عامة، قال أبو عبد الله وبينه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه منسوخ". صحيح البخاري: كتاب النكاح باب "31" نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة آخرًا ج6 ص129. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 وعمر، وفي الصفحة نفسها حديث آخر عن جابر قال فيه: ثم نهانا عمر1، ومثله عن الجزء الثالث من مسند الإمام أحمد بن حنبل. ثم قال: "وهذه الروايات ونظائرها موجودة في أكثر صحاح السنة وتفاسيرهم وكتبهم الفقهية؛ وعليه يكون النزاع في أنه: هل المراد بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ} إلخ، الزواج الدائم فقط، أو زواج المتعة فقط، أو هما معًا؟ يكون هذا النزاع عقيمًا لا جدوى منه؛ لأن النتيجة هي هي لا تختلف في شيء، سواء أقلنا: إن آية {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ} عامة للمتعة، أو قلنا: هي مختصة بالزواج الدائم؛ إذ المفروض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بزواج المتعة باتفاق المسلمين، وأن كل ما أمر الرسول به فإن الله يأمر به أيضًا؛ لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] . أجل بعد أن اتفق السنة والشيعة على أن الإسلام شرع المتعة اختلفوا في نَسْخِها وتحريمها بعد الجواز والتحليل؟ قال السنة: حرمت بعد أن كانت حلالًا، وقال الشيعة: كانت حلالًا ولا تزال إلى آخر يوم، وبديهة أن على السنة أن يثبتوا النسخ والتحريم من الرسول صلى الله عليه وسلم". إلى أن قال: "والسنة يعترفون بأن عليهم عبء الإثبات دون الشيعة؛ ولذلك استدلوا على ثبوت النسخ بروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورد الشيعة هذه الروايات وناقشوها متنًا وسندًا، وأثبتوا بالمنطق السليم أنها موضوعة على الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بأدلة. منها: أن السنة يعترفون بأنها مضطربة متناقضة، قال ابن رشد في الجزء الثاني من البداية في مسألة نكاح المتعة ما نصه بالحرف: "في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّم المتعة يوم خيبر، وفي بعضها يوم الفتح، وفي   1 وهذا أيضًا من النصوص المبتورة، وبقية الحديث عند مسلم: ثم نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما. صحيح مسلم بشرح النووي ج9 ص184. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 بعضها في غزوة تبوك، وفي بعضها في حجة الوداع، وفي بعضها في عمرة القضاء، وفي بعضها عام أوطاس، وهو اسم مكان في الحجاز، ومحل غزوة من غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم". ثم قال ابن رشد: "رُوي عن ابن عباس أنه قال: ما كانت المتعة إلا رحمة من الله رحم بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولولا نهي عمر عنها ما اضطر إلى الزنا إلا شقي. ومنها -أي: من ردود الشيعة على روايات النسخ- أنها ليست بحجة حتى ولو سلمت من التناقض؛ لأنها من أخبار الآحاد، والنسخ إنما يثبت بآية قرآينة أو بخبر متواتر، ولا يثبت بالخبر الواحد. ومنها: ما جاء في صحيح مسلم من أن المسلمين تمنعوا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر، وهذا ينفي نسخها في عهد الرسول، وإلا كان الخليفة الأول محللًا لما حرم الله والرسول ... وأصدق شيء في الدلالة على عدم النسخ في عهده صلى الله عليه وسلم قول عمر بالذات: "متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما"، ومهما شككت فلا أشك ولن أشك في أن عمر لو سكت عن هذا النهي لما اختلف اثنان من المسلمين في جواز المتعة وحليتها إلى يوم يبعثون. وتسأل: بعيد جدًّا أن يقول عمر هذا؛ لأنه تحريم لما أحله الله، وردٌّ على رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى؟ الجواب: أجل هو أبعد من بعيد؛ لأنه كما قلت: رد على الله ورسوله ... ولكن المسلمين اتفقوا على أن عمر قال ذلك، وما رأيت واحدًا منهم نفى نسبته إليه؛ بل في بعض الروايات أن عمر نهى عن ثلاثة أشياء أمر بها النبي لا شيئين، قال القوشجي في شرح التجريد -وهو من علماء السنة- قال في آخر مبحث الإمامة: "إن عمر صَعِدَ المنبر وقال: أيها الناس، ثلاث كن على عهد رسول الله أنا أنهى عنهن وأحرمهن وأعاقب عليهن: متعة النساء، ومتعة الحج، وحي على خير العمل". وروى كل من الطبري والرازي أن عليًّا قال: لولا أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي، ومثله عن تفسير الثعلبي والسيوطي"1. هذا ما قاله مغنيه، ولقد عانيت ما عانيت من كبح جماح القلم عن الرد على مزاعمه؛ لأني آثرت اتصال حلقات كلامه حتى يتم له إتمام أدلته الواهية، ثم أعود عليها ناقضًا لها عودًا سريعًا خشية فوات ما فيه نفع، وأنفة من الخوض في الحديث مع مثله؛ ولكن آسف أن أقول مثل هذا لولا أني وقد قرأت في تفسيره ظهر لي ظهور الشمس في رابعة النهار كيف يصوغ ألفاظه ويبتر النصوص ويدلس على قراء كتابه بما لا يستغرب من مثله. ونأخذ بعد هذا ما زعمه من ردود الشيعة على روايات أهل السنة في نسخ نكاح المتعة، ووصفه لهذه الردود بأنها ناقشت الروايات متنًا وسندًا!! وإذا ما نظرنا للأمثلة التي ذكرنا فإنا لا نرى فيها نقدًا لا لسند ولا لمتن حديث بعينه!! دع عنك ما زعمه أنهم أثبتوا بالمنطق السليم أنها موضوعة على الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم. ولا أدري كيف سوغ لنفسه مثل هذا القول؟! وهو الذي لم يذكر حديثًا واحدًا أثبت وضعه لا بالمنطق السليم ولا بمنطقه هو!! لا أحجه بأنه قد رواها البخاري ومسلم، فمنزلتهما عنده لا تخفى؛ ولكن أحجه باستشهاده هو بأحاديثهما التي تنص على تشريع المتعة، وهي نفسها تنص على أنها نُسخت، فأخذ ببعضه وأعرض عن بعض. ثم وعجب بعد عجب أو يحسب نفسه يؤلف تفسيرًا في سبعة مجلدات للعامة أم يستخف بقراء تفسيره؟! لا أشك في أن مَن يقرأ تفسيرًا بحجم تفسيره أنه قد ارتقى من درجة العامي الذي لا يعلم شيئًا من شئون العلماء إلى درجة من درجات العلم ومهما، كانت هذه الدرجة من العلم فإنه لا يخفى على صاحبها أن ورود أحاديث كثيرة تنص على أن تحريم المتعة كان يوم خيبر، وفي بعضها في غزوة تبوك، وفي بعضها في حجة الوداع، إلى آخر هذه الأحاديث، لا يعني تناقضها؛   1 التفسير الكاشف: محمد جواد مغنيه ج2 ص295-298، باختصار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 وإنما يعني تكرر التنبيه على تحريم المتعة عدد هذه المرات؛ ولكن الرجل يحسب أنه وهو يسوق عبارة ابن رشد قد عثر على حجة له؛ فإذا هي عليه، ولا أظنه يخفى عليه هذا؛ ولكنه ما ذكرت؟! أما ما ذكره من أن روايات النسخ ليست بحجة؛ لأنها من أخبار الآحاد، فإنا نقول له: أوتظن أنت إن إباحة المتعة ثبت بالتواتر حتى تطلب ناسخًا متواترًا؟! إن زعمت أن الآية تنص على ذلك فلا يسلم لك عاقل؛ إذ الخلاف في المراد بها مشهور، وأنت نفسك قلت في تفسيرك: إن النزاع في المراد بالآية عقيم لا جدوى منه، وقلت: إن المفروض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بزواج المتعة باتفاق المسلمين. إذًا، فليست الآية دليلًا قاطعًا لكم ولا لنا؛ وإنما مرجعنا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولننظر بعد هذا في أحاديثه عليه الصلاة والسلام. قال أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي: "كل ما نقل إباحة المتعة نقل تحريمها أيضًا، وحصلت رواية التحريم عن غير من نقل الإباحة زيادة عليها، فإن كانت إباحتها بنقل من نقل من حيث الإجماع فتحريمها أيضًا من حيث الإجماع؛ لأن ما ثبت به الإباحة ثبت به التحريم"1. ودونك أحاديثه الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم اقرأها بتمامها وسترى ما نقول، أما إن أغلقت عينًا وفتحت عينًا؛ فإنك لن ترى الحقيقة كاملة إن كانت الحقيقة ضالتك. وسأرشدك إلى النص الذي نقلته أنت عن ابن رشد، وقرأت فيه كم مرة حرمت المتعة وجاءت النصوص لتحريمها. أما ما ذكرت من أنه أبعد من بعيد أن يقول عمر رضي الله عنه: متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما؛ لأنه رد على الله ورسوله، فقد كنت أتمنى لك الثبات على حُسْن الظن بصحابة رسول الله صلى الله عليه   1 رسالة تحريم نكاح المتعة: لأبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي ص123. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 وسلم، وأنك لم تستثنِ بقولك: "ولكن المسلمين اتفقوا على أن عمر قال ذلك، وما رأيت أحدًا منهم نفا نسبته إليه"، كنت أتمنى أن قومت ميزان فَهْمِك، وبحثت عن الفهم الصحيح الذي يناسب حُسْنَ الظن في صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم إن كنت تملكه، وأن تشك في فَهْمِك ولا تشك في عقيدة هذا الصحابي، وتسأل أهل الذكر إن كنت لا تعلم. فإن سألت أجابوك: إن هذا غلط قبيح؛ لأن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مع علمه وزهده لا يجوز أن يقول ما أحله رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أحرمه وأعاقب عليه، وقد ثبت عنه في أخبار كثيرة أنه يقفو فيها أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويطلب البينة على ما يُدَّعَى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعاقب مَن خالف شيئًا من سنته، ويأمر بالمواظبة عليها والأخذ بها، والمنع من تعديها ومجاوزتها، ولو رام تحريم ما أحله رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقره الصحابة عليه ولم يقبلوه منه، ولا اعترضوا عليه فيه كما اعترضوا فيما هو أيسر من ذلك وأخف؛ فبطل الدليل؛ وإنما أراد عمر -رضي الله عنه- بذلك أنها كانت مباحة في أول الإسلام؛ فنُسخت الإباحة، وحُرمت من جهة النبي صلى الله عليه وسلم. فمعنى قوله: "إن مَن استحلها وفعلها بعدما حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسخها عاقبته على ذلك"، وهذا واضح لا لبس فيه؛ فإنه قد ثبت أن رجلًا فعل ذلك ولم يعلم بالنسخ؛ فلذلك زجر عمر عنها لما يكون له من النظر في أمور الدين1. ولقالوا لك أيضًا: إن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- نهى عنها على المنبر وتوعد عليها وغلظ أمرها، وذلك بحضرة المهاجرين والأنصاري، فلم يعارضه أحد منهم ولا رد عليه قوله في ذلك، ولا يجوز لمثلهم المداهنة في الدين، ولا السكوت على استماع الخطأ، لا سيما فيما هو راجع إلى الشريعة وثابت   1 رسالة تحريم نكاح المتعة: أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي ص107، 108. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 في أحكامها على التأييد، فلما سكتوا على ذلك ولم ينكره منهم أحدٌ عُلِمَ أن ذلك هو الحق، وأنه ثابت في الشريعة من نسخ المتعة وتحريمها، كما ثبت عنده مضار ذلك، كأن جميعهم قرروا تحريمها وتثبتوا نسخها؛ فكانت حرامًا على التأييد، وقد رُوي ذلك عن جماعة من الصحابة سوى عمر؛ فروي تحريمها عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس؛ لأنه رجع عن إباحتها لما بان له الصواب في ذلك، ونقل إليه تحريمها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مذهب التابعين والفقهاء والأئمة أجمعين، ولو لم يقل بتحريم المتعة إلا واحد من الصحابة -رضوان الله عليهم- إذا لم يكن له فيهم مخالف لوجب علينا الأخذ بقوله، والمصير إلى علمه؛ لأنه لم يقل ذلك إلا عن علم ثاقب ورأي صائب، وقد أجمعوا كلهم على ذلك؛ فكان مَن خالف ذلك واستحل نكاح المتعة مخالفًا للإجماع معاندًا للحق والصواب1. وبعد، عذرًا أن أطلت في الرد بعض الإطالة، فما الرد عليه قصدت؛ ولكن شبهة أردت إزالتها حتى تنجلي الحقيقة لمن التبس عليه الأمر. وخشية من أن أحتاج إلى اعتذار آخر مع اعتذاري هذا؛ فإني أكتفي بالإشارة إلى ذلك البحث الطويل عن نكاح المتعة الذي بسطه محمد حسين الطباطبائي في تفسيره2، وذلك البحث الآخر الذي أورده أبو القاسم الموسوي الخوئي في تفسيره3، أيضًا أترك هذين البحثين اكتفاء بما نقلته عن مغينه في تفسيره أولًا، ولطول هذين البحثين حتى ولو اختصرتهما ثانيًا، وبالله التوفيق.   1 رسالة تحريم نكاح المتعة: أبو الفتح نصر المقدسي ص77، 78، باختصار. 2 الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي ج4 ص271-310. 3 انظر: البيان في تفسير القرآن: أبو القاسم الخوئي ج1 ص313-330. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 نكاح المشركات والكتابيات : قال تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} 1 الآية، جاء في تفسير محمد جواد   1 سورة المائدة: آية 5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 مغنيه لها قوله: "اتفق فقهاء المذاهب على أن المسلم لا يحل له أن يتزوج بمن لا تدين بشيء إطلاقًا، ولا بمن تعبد الأوثان والنيران وما إليها، واختلفوا في زواج الكتابية؛ أي: النصرانية واليهودية، فقال أصحاب المذاهب الأربعة السنية: يجوز، واستدلوا بهذه الآية، واختلف فقهاء الشيعة بين مجيز ومانع ومفصل بين الزواج الدائم والمقطع، فأجاز الثاني ومنع الأول. ونحن مع القائلين بالجواز مطلقًا، ومستندنا: أولًا: الأدلة الدالة على إباحة الزواج بوجه عام. ثانيًا: قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} . ثالثًا: الروايات الكثيرة عن أهل البيت -رضي الله عنهم- وذكرها صاحب الوسائل والجواهر، ووصفها هذا بالمستفيضة؛ أي: بلغت حدًّا من الكثرة يقرب من التواتر، ونقلنا بعضها في الجزء الخامس من فقه الإمام جعفر الصادق. وتسأل: وما أنت صانع بقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} 1، وقوله: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكوَافِرِ} 2؟ الجواب: المشركات غير الكتابيات؛ بدليل عطف المشركين على أهل الكتاب في الآية الأولى من سورة البينة: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} ، أما قوله: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكوَافِرِ} فغير صريح في الزواج؛ لأن الإمساك بالمعصم كما يكنى به عن الزواج يكنى به عن غير الزواج أيضًا، قال صاحب المسالك: إن الآية ليست صريحة في إرادة النكاح ولا فيما هو أعم منه"3. وهكذا أنهى مغنيه تفسيره لهذه الآية، وإن كان في جوابه المختصر هذا ما لا يسلم، وتثور فيه الأسئلة؛ لكنه مر عليها على عجل لا يمكنه من استقصاء الأدلة وإبطال الاعتراضات، وحسبنا أنه ذكر رأيه.   1 سورة البقرة: من الآية 221. 2 سورة الممتحنة: من الآية 10. 3 التفسير الكاشف: محمد جواد مغنيه ج3 ص19، 20. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 أما أبو القاسم الخوئي فقد تحدث في تفسيره عن بعض الآيات التي قيل: إنها ناسخة أو منسوخة، وبيَّن أنه لا تناسخ بينها؛ ومن هذه الآيات التي تناولها قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} 1، قال في تفسيره: "أدعي أنها منسوخة بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} 2، ذهب إليه ابن عباس، ومالك بن أنس، وسفيان بن سعيد، وعبد الرحمن بن عمر، والأوزاعي، وذهب عبد الله بن عمر إلى أن الآية الثانية منسوخة بالأُولَى فحرم نكاح الكتابية. والحق: أنه لا نسخ في شيء من الآيتين؛ فإن المشركة -التي حرمت الآية الأولى نكاحها- إن كان المراد منها التي تعبد الأصنام والأوثان -كما هو الظاهر- فإن حرمة نكاحها لا تنافي إباحة نكاح الكتابية التي دلت عليها الآية الثانية؛ لتكون إحداهما ناسخة والثانية منسوخة، وإن كان المراد من المشركة ما هو أعم من الكتابية- كما توهمه القائلون بالنسخ- كانت الآية الثانية مخصصة للآية الأولى، ويكون حاصل معنى الآيتين جواز نكاح الكتابية دون المشركة، نعم المعروف بين علماء الشيعة الإمامية أن نكاح الكتابية لا يجوز إلا بالمتعة إما لتقييد إطلاق آية الإباحة بالروايات الدالة على تحريم النكاح الدائم، وأما لدعوى ظهور الآية الكريمة في المتعة دون العقد الدائم، ونقل عن الحسين والصَدُوقَيْنِ جواز الدائم أيضًا"3. وهذا محمد حسين الطباطبائي -أيضًا- يقول بجواز نكاح الكتابية في تفسيره لقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} 4، بعد أن بيَّن بيانًا فيه طول أن لفظ المشركين في القرآن غير ظاهر الإطلاق على أهل الكتاب، قال بعد ذلك: فقد ظهر من هذا البيان على طوله أن ظاهر الآية؛ أعني: قوله تعالى:   1 سورة البقرة: من الآية 221. 2 سورة المائدة: من الآية 5. 3 البيان في تفسير القرآن: أبو القاسم الخوئي ج1 ص306، 307. 4 سورة البقرة: من الآية 221. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} قَصْرُ التحريم على المشركات والمشركين من الوثنيين دون أهل الكتاب. ومن هنا يظهر فساد القول بأن الآية ناسخة لآية المائدة؛ وهي قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 1 الآية. أو أن الآية؛ أعني قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} ، وآية الممتحنة؛ أعني قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} 2، ناسختان لآية المائدة، وكذا القول بأن آية المائدة ناسخة لآيتي البقرة والممتحنة. وجه الفساد: أن هذه الآية -أعني: آية البقرة- بظاهرها لا تشمل أهل الكتاب، وآية المائدة لا تشمل إلا الكتابية؛ فلا نسبة بين الآيتين بالتنافي حتى تكون آية البقرة ناسخة لآية المائدة أو منسوخة بها، وكذا آية الممتحنة، وإن أخذ فيها عنوان الكوافر، وهو أعم من المشركات ويشمل أهل الكتاب، فإن الظاهر أن إطلاق الكافر يشمل الكتابي بحسب التسمية؛ بحيث يوجب صدقة عليه انتفاء صدق المؤمن عليه، كما يشهد به قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِين} 3، إلا أن ظاهر الآية -كما سيأتي إن شاء الله العزيز- أن مَن آمن من الرجال وتحته زوجة كافرة يحرم عليه الإمساك بعصمتها؛ أي: إبقاؤها على الزوجية السابقة، إلا أن تؤمن فتمسك بعصمتها، فلا دلالة لها على النكاح الابتدائي للكتابية. ولو سلم دلالة الآيتين -أعني: آية البقرة، وآية الممتحنة- على تحريم نكاح الكتابية ابتدائيًّا لم تكونا بحسب السياق ناسختين لآية المائدة؛ وذلك لأن آية المائدة   1 سورة المائدة: من الآية 5. 2 سورة الممتحنة: من الآية 10. 3 سورة البقرة: من الآية 98. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 وارادة مورد الامتنان والتخفيف، على ما يعطيه التدبر في سياقها، فهي آبية عن المنسوخية؛ بل التخفيف المفهوم منها هو الحاكم على التشديد المفهوم من آية البقرة، فلو بُني على النسخ كانت آية المائدة هي الناسخة. على أن سورة البقرة أول سورة نزلت بالمدينة بعد الهجرة، وسورة الممتحنة نزلت بالمدينة قبل فتح مكة، وسورة المائدة آخر سورة نزلت على رسول الله ناسخة غير منسوخة، ولا معنى لنسخ السابق اللاحق1.   1 الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي ج2 ص203، 204. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 الحجاب : والحجاب -كما قلنا- متفق على وجوبه بين المسلمين؛ ولكن اختلفوا في حدوده، وهذا محمد جواد مغنيه يقول في تفسير قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} 1، والمراد بالزينة هنا موضعها؛ لأن الزينة بما هي لا يحرم النظر إليها، والمراد بالظاهر من موضع الزينة الوجه والكفان فقط، وقد استدل الفقهاء بهذه الآية على وجوب الحجاب، وأن جميع بدن المرأة عورة إلا ما استُثنِي منه؛ أي: الوجه والكفين، فقد سُئل الإمام جعفر الصادق "ع" عن الذراعين: هل هما من الزينة التي قال الله عنها: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} ؟ فقال: نعم، وما دون الوجه والكف من الزينة؛ أي: المحرمة. وفي أحكام الآيات للجصاص أحد أئمة الأحناف: "والمراد بما ظهر الوجه والكفان". وفي تفسير الرازي الشافعي: "اتفقوا على أن الوجه والكفين ليسا بعورة"2. وقال في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} 3 الآية: "إن قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} عام يشمل الستر والحجاب لجميع أجزاء البدن، بما فيه الرأس   1 سورة النور: من الآية 31. 2 التفسير الكاشف: محمد جواد مغنيه ج5 ص415. 3 سورة الأحزاب: من الآية 59. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 والوجه، ويؤيد هذا الشمول قوله سبحانه: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} ، فقد كانت المسلمات في أول الإسلام يخرجن من بيوتهن سافرات متبذلات على عادة الجاهلية؛ فطلب سبحانه من نبيه الكريم في هذه الآية أن يأمرهن بالستر والحجاب، والأمر يدل على الوجوب فيكون الحجاب واجبًا. أجل، لقد خرج من هذا العموم الوجه والكفان؛ لقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} "1 2. وأما محمد حسين الطباطبائي فقال في تفسير آية الأحزاب: "وأما قوله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فالإبداء الإظهار، والمراد بزينتهن مواضع الزينة؛ لأن نفس ما يتزين به كالقرط والسوار ولا يحرم إبداؤها فالمراد بإبداء الزينة إبداء مواضعها من البدن. وقد استثنى الله سبحانه منها ما ظهر، وقد وردت الرواية أن المراد بـ {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} الوجه والكفان والقدمان كما سيجيء إن شاء الله"3. وقد أورد الطباطبائي في البحث الروائي عددًا من رواياتهم في تحديد حجاب المرأة؛ منها قوله: "وفيه -الكافي- بإسناده عن مروك بن عبيد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله -عليه السلام- قال: قلت له: ما يحل أن يرى من المرأة إذا لم يكن محرمًا؟ قال: الوجه والكفان والقدمان. أقول: ورواه في الخصال عن بعض أصحابنا عنه -عليه السلام- ولفظه: الوجه والكفين والقدمين. وفي قرب الإسناد للحميري عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر -عليه السلام- قال: سألته عن الرجل ما يصلح له أن ينظر إليه من المرأة التي لا تحل له؟ قال: الوجه والكف وموضع السوار"4.   1 التفسير الكاشف: محمد جواد مغنيه ج6 ص240. 2 سورة النور: 31. 3 الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي ج15 ص111. 4 المرجع السابق: ج15 ص116. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 هذا ما قاله محمد حسين الطباطبائي، وذاك ما قاله محمد جواد مغنيه، ومن هذه النصوص عنهما يتضح أنهما يريان أن المستثنى من الزينة التي لا يصح أن ينظر إليها الرجل الأجنبي هما الوجه والكفان، وزاد الطباطبائي القدمين، وقد سبق بيان آراء أصحاب المذاهب الأربعة أهل السنة والجماعة، بما يعفيني من مناقشة أدلتهما والرد عليهما، وبما يثبت الحق -إن شاء الله- فانظره عند حديثنا عن تفسير آيات الأحكام للشيخ محمد علي الصابوني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 إرث الأنبياء : والشيعة خلاف أهل السنة والجماعة في أن الأنبياء -عليهم السلام- يورثون، ويستدلون بما حكاه الله سبحانه وتعالى من دعاء زكريا عليه السلام: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} 1. وقد أفاض محمد حسين الطباطبائي في تفسير هذه الآية على مذهب الشيعة فقال: "والمراد بالوراثة وراثة ما تركه الميت من الأموال وأمتعة الحياة، وهو المتبادر إلى الذهن من الإرث بلا ريب؛ إما لكونه حقيقة في المال ونحوه مجازًا في غيره كالإرث المنسوب إلى العلم وسائر الصفات والحالات المعنوية، وإما لكونه منصرفًا إلى المال إن كان حقيقة في الجميع، فاللفظ على أيِّ حال ظاهر في وراثة المال، ويتعين بانضمامه إلى الولي كون المراد به الولد، ويزيد في ظهروه في ذلك قوله قَبْلُ: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} "2. ثم بدأ السيد الطباطبائي يرد على بعض الأقوال التي فسرت الإرث بإرث النبوة أو إرث العلم أو إرث التقوى، رَدَّ على القول الأول منها بقوله: "يدفعه ما عرفت آنفًا أن الذي دعاه -عليه السلام- إلى هذا الدعاء والمسألة هو ما شاهده من مريم، ولا خبر في ذلك عن النبوة ولا أثر، فأي رابطة بين أن يشاهد منها عبادة وكرامة فيعجبه ذلك وبين أن يطلب من ربه ولدًا يرثه النبوة؟   1 سورة مريم: 5، 6. 2 الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي ج14 ص11. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 على أن النبوة مما لا يورث بالنسب، وهو ظاهر، ولو أصلح ذلك بان المراد بالوراثة مجرد إتيان نبي بعد نبي أو ظهور نبي من ذرية نبي بنوع من العناية مجازًا ظهر الإشكال من جهة أخرى؛ وهي عدم ملاءمة ذلك قوله بعد: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} ؛ إذ لا معنى لقول القائل: هب لي من لدنك ولدًا نبيًّا واجعله رضيًّا، ولو حُمل على التأكيد كان من تأكيد الشيء بما هو دونه، وكذا احتمال أن يكون المراد بالرضي المرضي عند الناس؛ لمنافاته إطلاق المرضي كما تقدم، مع عدم مناسبته لداعيه كما مر"1. وقد استطرد بعد ذلك في ردود أخرى على أقوال أخرى بما يطول نقله أو الإشارة إليه؛ فيكفي منها ما نقلناه. وإن أردت الحق في هذه المسألة فانظر بيانه فيما نقلناه من تفسير الشيخ الشنقيطي في أول هذا البحث.   1 المرجع السابق: ج14 ص11. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 قطع يد السارق : وهذا أيضًا من مسائل الخلاف في الأحكام الفقهية بين أهل السنة والجماعة وبين الشيعة، فقد اتفقت المذاهب الأربعة الإسلامية على أن اليد تُقطع من مفصل الكف، أما الشيعة فلهم رأي آخر. قال محمد جواد مغنيه في تفسير قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 1 الآية: "أما كيفية القطع فقد اتفقت المذاهب الأربعة على أن الكف اليمنى تقطع من المفصل، وقال الإمامية: تقطع أصابعه الأربعة من الكف اليمنى وتترك الراحة والإبهام"2. أما الطباطبائي فقد اختصر الحديث هنا على غير عادته فيما نقلناه عنه من أحكام؛ بل قد جاءت عبارته مجملة محتملة؛ حيث قال: "واليد ما دون المنكب   1 سورة المائدة: من الآية 38. 2 التفسير الكاشف: محمد جواد مغنيه ج3 ص55. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 والمراد بها في الآية اليمين بتفسير السنة، ويصدق قطع اليد بفصل بعض أجزائها أو جميعها عن البدن بآلة قطاعة"1. وكلامه هذا مجمل، تدخل تحته كل الأقوال التي قبلت من أن القطع من الكتف أو من المرفق أو من الكف أو أربعة أصابع؛ بل يدخل فيه ما لم يقل به أحد؛ وهو قطع بعض الأصبع. وأعيدك مرة أخرى إلى تفسير أهل السنة والجماعة معدن الحق ومنهله؛ لتعرف هناك صحيح القول من سقيمه، أعاذنا الله وإياكم من سقمه. تلكم أمثلة قليلة من آراء الفقه الشيعي المسمَّى بالفقه الجعفري، اقتصرت فيما أوردت من الخلاف بين فقههم وفق أهل السنة على ما ورد في القرآن الكريم -بل بعض ما ورد- أما باقي الخلاف وأكثره ففي آيات أخرى وفي مواضع لم يرد دليلها من الكتاب، وهي اختلافات كثيرة جعلت الفقه الجعفري فقهًا غير معترف به عند العلماء المعتبرَين. وأذكر في هذه المناسبة واقعة جرت في رابطة العالم الإسلامي، حينما قدم مندوب إيران طلبًا باعتراف الرابطة بالمذهب الجعفري، ومعه وثيقة من بعض الجهات العلمية ذات الوزن الكبير "!! " تؤيده على دعواه وتجيبه إلى طلبه؛ فإن قبلوا طلبه دخلوا مأزقًا، وإن رفضوه واجهوا حرجًا؛ فاقترحوا أن يتولى الأمر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله تعالى- وكان حينذاك عضوًا في المجلس التأسيسي للرابطة؛ فعقدت جلسة خاصة لذلك، فقال -رحمه الله- في هذا المجلس: لقد اجتمعنا للعمل على جمع شمل المسلمين والتأليف بينهم وترابطهم أمام خطر عدوهم، ونحن الآن مجتمعون مع الشيعة في أصول هي: الإسلام دين الجميع، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم رسول الجميع، والقرآن كتاب الله، والكعبة قبلة الجميع، والصلوات الخمس وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام، ومجتمعون على تحريم المحرمات؛ من قتل وشرب   1 الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي ج5 ص329. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 وزنا وسرقة ونحو ذلك، وهذا القدر كافٍ للاجتماع والترابط، وهناك أمور نعلم جميعًا أننا نختلف فيها، وليس هذا مثار بحثها، فإن رغب العضو الإيراني بحثها واتباع الحق فيها فليختر من علمائهم جماعة ونختار لهم جماعة ويبحثون ما اختلفنا فيه، ويعلن الحق ويلتزم به أو يسحب طلبه الآن، فأقر الجميع قوله -رحمه الله تعالى- وسحب العضو طلبه1. وما أجمل أن نختم حديثنا عنهم وعن فقههم بهذه الحادثة!!   1 انظر: ترجمة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي الملحقة في آخر الجزء التاسع من تفسيره أضواء البيان، ص 50، 51. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 ثالثا: فقه الأباضي مدخل ... ثالثًا: الفقه الإباضي لا يكاد الباحث يجد من فارق كبير بين الفقه الإباضي وفقه المذاهب الأربعة عند أهل السنة والجماعة إلا النادر، وإلا مثل ما يقع بين مذهب وآخر منها. وقد ذكر الشيخ أبو الربيع سليمان الباروني -من الإباضية- بعض أوجه الخلاف بين أهل السنة والجماعة والإباضية في مسائل العقيدة، وعقب على ما ذكر قائلًا: "وما عدا ما تقدم فالخلاف فيه، سواء في العبادات والمعاملات، شأنه شأن الخلافات الواقعة بين المذاهب الأربعة، فما تجده سائغًا عند الإباضية والمالكية قد تجده ممنوعًا عند الحنفية والشافعية مثلًا والعكس، وهكذا في أغلب المسائل"1. وقد نظرت في بعض الخلافات ولم أجد من فارق، اللهم إلا المسح على الخفين؛ إذ يرى أهل السنة والجماعة أنه متواتر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أن الإباضية لا يقولون به، وما عدا هذا فيما اطلعت لا يكاد يُذكر. ولذا فإني أقتصر على بعض الأمثلة على تفسيرهم لبعض ما ورد من آيات الأحكام. وكما كانت دراستي عن منهج الإباضية في التفسير معتمدة على تفسيرين للشيخ محمد بن يوسف إطفيش؛ لعدم وجود سواهما، فإن الأمر كذلك هنا. الأمثلة:   1 مختصر تاريخ الإباضية: أبوالربيع سليمان الباروني ص69. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 مسح الرجلين : وفرضهما في الوضوء ورد في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} 1، قال الشيخ إطفيش في تفسيرها: " {وَأَرْجُلَكُمْ} عطف على وجوه أو ايدي، فهو مغسولة كما جاءت به السنة وعمل الصحابة، وهو قول الجمهور، وكما جاء الحد بقوله عز وجل: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ولم يجيء في المسح الحد، وساغ الفصل بين المتعاطفين بجملة غير معترضة -وهي {فَاغْسِلُوا} - للإيماء إلى تقليل صب الماء حتى كأنها تمسح كالرأس؛ لأنها مظنة الإسراف في الماء إلى الآن، وإلى الترتيب وجوبًا أو ندبًا، ولو كانت الواو لا تفيده لكن يستفاد بذكرها بعد، والترتيب يفاد بالذكر إذا لم يكن مانع كما يفاد بحرفه كالفاء، قال صلى الله عليه وسلم في السعي: "أبدأ بما بدأ الله به"، ولولا قصد الترتيب لم يفصل بالرأس، وليس واجبًا عندنا وعند أبي حنيفة ... ثم إنها كانت إن تمسح فقد نسخ مسحها بالحديث. قال عطاء: والله ما علمت أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على القدمين، وعن عائشة -رضي الله عنها-: لأن تقطعا أحب إليَّ من أن تمسحا"2. ولعل هناك صلة بين شدة إنكارهم لمسح الرجلين في الوضوء، وإنكارهم لمسح الخفين، إلا أن الشيخ إطفيش لم يتناول الأخير في تفسيره.   1 سورة المائدة: من الآية 6. 2 تيسير التفسير: محمد بن يوسف إطفيش "الطبعة الأولى" ج2 ص30، 31. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 نكاح الكتابيات : أما نكاح الكتابية، فإنهم فرقوا بين الحربية والذمية؛ فحرموا الأولى منهن. قال الشيخ في تفسير قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} 1: "ولو كتابيات ذميات، جروا على تحريم الكتابيات الذميات كغيرهن، ثم نسخ تحريمهن بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} 2، وبقيت   1 سورة البقرة: من الآية 221. 2 سورة المائدة: من الآية 5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 الكتابيات المحربات وسائر المشركات على التحريم، ولو اقترنت الآيتان لقلت: إن ذلك تخصيص للعموم، كما اشتهر في المذهب وعند الشافعية من أن ذلك من تخصيص العام، ومن جواز تأخير دليل الخصوص في العموم، ولو كانت مقارنة بين العام والخاص، ولك أن تقول: لا نسخ ولا تخصيص؛ بل المشركات في الآية غير الكتابيات؛ لأنه كثر في القرآن مقابلة المشركات بالكتابيات؛ كقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} 1، ولو كان أهل الكتاب أيضًا مشركين؛ لقوله سبحانه: {عَمَّا يُشْرِكُون} 2، وأجاز بعض قومنا نكاح الحربيات الكتابيات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب وليس بشيء، ونص ابن عباس على المنع وهو الصحيح"3. وقد أكد هذا المنع في تفسيره لآية المائدة فقال: "ولا تحل الحربية ولو حرة عندنا، وهو قول ابن عباس؛ لبعد شأنها، ولأن التزوج بر، وقد قال الله جل وعلا: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّه} 4 ... إلخ، وقال الله عز وجل: {لا تَجِدُ قَوْمًا} 5 ... إلخ، وقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} 6، وكيف يكون الود والرحمة للكافرة؟! ويستثنى من ذلك الحب الممنوع مقدار مخصوص للكتابية التي ليست محاربة، فيجوز في حقها لها على متزوجها، وذهب البعض إلى أن هذه الآيات تفيد الكراهة فقط، وعن الشافعي كراهة تزوج الحرة الكتابية المحاربة، وأباحها الشافعية"7.   1 سورة البينة: من الآية الأولى. 2 سورة التوبة: من الآية 31. 3 تيسير التفسير: محمد بن يوسف إطفيش ج1 ص335. 4 سورة الممتحنة: من الآية 9. 5 سورة المجادلة: من الآية 22. 6 سورة الروم: من الآية 21. 7 تيسير التفسير: محمد يوسف إطفيش ج2 ص25. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 الإصباح على جنابة : وعند الإباضية أنه يجب الكف عن الجماع قبل وقت الإمساك بوقت كافٍ للغسل، فإن أصبح جنبًا فقد أفطر، وقد أشار إلى ذلك إشارة سريعة الشيخ إطفيش عند تفسيره لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر} 1، فقال: "حتى" غاية للأكل والشرب لا لهما وللجماع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أصبح جنبًا أصبح مفطرًا" 2؛ فيجب الكف عنه إذا لم يبق ما يتطهر فيه"3. هذه بعض الأمثلة على تفسير آيات الأحكام عند الشيخ محمد بن يوسف إطفيش، وإن كنت قد اكتفيت بالقليل فمرجع ذلك غلى ضيق مجال الخلاف بيننا وبينهم في الأحكام الفقهية؛ وإنما ينحصر الخلاف الكبير في بعض العقائد، وقد سبق تناولنا لهذا الخلاف في موضع آخر ليس هذا محله. وبنهاية حديثي عن تفسير آيات الأحكام عند الإباضية ينتهي حديثنا عن تفسير آيات الأحكام في العصر الحديث. ولا أحسبني بحاجة إلى إبداء الرأي فيه؛ فقد ذكرت رأيي في كل منهج من هذه المناهج عند ذكره وتناوله أمثلته، وما لم أناقشه من الآراء الفقهية عند الشيعة أو الإباضية فإنما فعلت ذلك اكتفاءً بذِكْرِي تفسير أهل السنة له في موضعه؛ إذ هو المقياس الصحيح، وبالله التوفيق.   1 سورة البقرة: من الآية 187. 2 ابن ماجه: كتاب الصيام ج1 ص520. 3 تيسير التفسير: محمد بن يوسف إطفيش ج1 ص273. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 الفصل الثاني: المنهج الأثري في التفسير المراد به : نقصد بالمنهج الأثري في التفسير ما يُعرف بالتفسير بالمأثور، وقد اتفق أهل التفسير -إلا فيما ندر- على أن المراد به: ما جاء في القرآن الكريم نفسه من البيان والتفصيل لبعض آياته، وما نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وما نقل عن أصحابه -رضي الله عنهم- من ذلك، واختلفوا فيما نقل عن التابيعن -رحمهم الله تعالى- هل هو من التفسير بالمأثور أو من التفسير بالرأي؟ ومما لا شك فيه أن أصح طرق التفسير تفسير القرآن بالقرآن، ثم تفسيره بالسنة، ثم تفسيره بأقوال الصحابة، وإلى هذه الدرجات ينقسم التفسير بالمأثور. وقد أَوْلَى علماء التفسير من السلف التفسير بالمأثور -بأنواعه السالفة- عناية كبيرة؛ فأوردوا في تفاسيرهم الكثير والكثير منها، وزادوا عليه أحيانًا ببيان آرائهم بالترجيح فيما فيه احتمال. وليس من الحق الاعتقاد بأن التصنيف في التفسير بالمأثور عمل آلي ليس لصاحبه من عمل فيه إلا النقل؛ بل إن هذا النوع من التفسير يحتاج إلى جُهْد من المفسر وجُهْد من القارئ للتفسير لتحري مذهب المفسِّر، جُهْد من المفسر ليجمع حول الآية "ما يرى" أنها متجهة إليه، فيقصد إلى "ما يتبادر إلى ذهنه" من معناها، وتحت هذا التأثير قد يقبل مرويًّا ويُعنَى به ولو لم يكن صحيحًا، ويرفض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 مرويًّا حين لا يرتاح إليه، وجُهْد من القارئ لاستشفاف مذهب المفسر وآرائه، وتحري الآثار التي رفضها المفسر لعدم موافقتها له؛ ومن ثم كان التفسير المأثور لصاحب الرأي من أخطر التفاسير؛ حيث إن المفسر بالرأي ينص على رأيه صريحًا؛ بينما ذو الرأي المفسر بالمأثور يلبس آراءه ثوب المأثور فيخدع به مَن لا يعرف صحيحه من ضعيفه. ولا يقلل هذا بحال من الأحوال من قيمة التفسير بالمأثور؛ إذ المراد بثناء العلماء ما صح من التفسير بالمأثور وليس ما دونه. وليس من شأننا هنا بحيث هذا النوع من التفسير والتوسع فيه، فذلك شأن آخر لا يعنينا هنا، ما دام الاتفاق على تقدميه قائمًا وعلى فضله دائمًا، فلننظر في تفاسير القرن الرابع عشر الهجري، ولننظر موقعها من هذا التفسير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 التفسير بالمأثور في القرن الرابع عشر الهجري : مما يؤسف له ويحز في النفس أني لم أكد أجد مَن يُعنَى بهذا النوع من التفسير، ويوليه جل اهتمامه من مفسير القرن الرابع عشر الهجري، وحاشا أن أسيء بهم الظن فأعتقد أنهم ينكرونه، وحاشا أن أسيء الظن بعلمهم فأظنهم لا يدركونه. وإن التمست لهم عذرًا بعد ذلك فلا أظنه إلا أنهم اكتفوا من التفسير بالمأثور بمعانيه عن ألفاظه ونصوصه، فإن عرضت لهم آية من القرآن يفسرونها ذكروا التفسير من غير أن يذكروا الآية المفسرة، أو ذكروه من غير ذكر الحديث الصحيح فيه. والذي يجعلني أجزم جزمًا بقيمة هذا النوع من التفسير عند مفسري القرن الرابع عشر حرص بعضهم على وصف تفاسيرهم به؛ بل اشتقاق أسمائها منه، فهذا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله تعالى- يسمي تفسيره: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، وأحسبه اسمًا على مسمى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 بل تعلق بهذه التسمية مَن لم يلتزمها ولا يقصد التزامها، فهذا الأستاذ عبد الكريم الخطيب يسمِّي تفسيره: "التفسير القرآني للقرآن"، وهو كما يقول في مقدمة تفسيره لم يكتب فيه إلا ما وقع في مشاعره "!! " من صور العجب والدهش والروعة عندما يرتيل آيات الله ترتيلًا. وتعلق بهذه التسمية مَن ادعاها لدس آراء مختلفة وتلبيسها هذا اللباس المحبب إلى المؤمنين، فهذا محمد الصادقي من مفسري الشيعة يسمِّي تفسيره: "الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة". بل وقد تعلَّق بهذه التسمية أحد الملحدين في هذا العصر، واتخذ من هذه التسمية ستارًا لإلحاده وكفره، يحسب أنه يخدع بهذا المؤمنين، فهذا محمد أبو زيد يسمِّي تفسيره -بل إلحاده- "الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن". قصدت من هذا بيان أن التفسير بالمأثور ليس شعارًا يُتخذ؛ بل هو مضمون يُلتزم، وقصدت أن أبيِّن منزلة هذا النوع من التفسير -أعني: التفسير بالمأثور- عند المعاصرين؛ حتى التزمه أهل الحق وادعاه أهل الضلال والإلحاد. ثم أني نظرت فيما بين يدي من التفاسير في القرن الرابع عشر فوجدت أكثرها اهتمامًا بالتفسير بالمأثور هما: 1- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للشيخ محمد الأمين الشنقيطي. 2- الموجز في تفسير القرآن الكريم "المصفى" الجامع بين صحيح المأثور وصريح المعقول، تأليف المستشار محمد رشدي حمادي. ولذا، فإني آثرت أن أفرد كلًّا منهما بدراسة موجزة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 أولا: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن مدخل ... أولًا: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن أما المؤلف: فهو الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وقد سبقت ترجمته. أما الكتاب: فهو هو أضربه مثلًا مرة أخرى؛ ولكن للتفسير بالمأثور هنا. وما ذنبي إذا كان المؤلف -رحمه الله تعالى- التزم مذهب هل السنة والجماعة فضربته لهم مثلًا، وما ذنبي إذا كان -رحمه الله- قد برع في تفسير آيات الأحكام؛ فاقتبست من تفسيره لها أمثلة للتفسير الصحيح، وما ذنبي ثالثة إذا كان -رحمه الله- قد برز على أقرانه في التفسير بالمأثور؛ فكان بحق إمام المفسرين في القرن الرابع عشر. فهل يشفع لي إن ذكرته وشكرته في جانب أن أغمطه حقه في جانب آخر؟ لا أظن هذا، ولا يخطر لي ببال، كيف وهو قد صرح في مقدمة تفسيره تصريحًا لا لبس فيه أن من أهم المقصود بتأليفه أمرين: أحدهما: بيان القرآن بالقرآن؛ لإجماع العلماء على أن أشرف أنواع التفسير وأجلها تفسير كتاب الله بكتاب الله؛ إذ لا أحد أعلم بمعنى كلام الله جلا وعلا من الله جل وعلا1. ثم شرح الطريقة التي التزمها في هذا النوع من التفسير بقوله: "وقد التزمنا أنا لا نبيِّن القرآن إلا بقراءة سبعية، سواء كانت قراءة أخرى في الآية المبينة نفسها، أو آية أخرى غيرها، ولا نعتمد على البيان بالقراءات الشاذة، وربما   1 أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: محمد الأمين الشنقيطي ج1 ص3. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 ذكرنا القراءة الشاذة استشهادًا للبيان بقراءة سبعية، وقراءة أبي جعفر ويعقوب وخلف ليست من الشاذ عندنا ولا عند المحققين من أهل العلم بالقراءات"1. وذكر أن الأمر الثاني من مقصوده في هذا التفسير بيان الأحكام الفقهية، فإذا كان مقصوده بيان القرآن وتفسير آيات الأحكام، فهو بلا شك مثال صحيح لهذين المنهجين في التفسير، وإذا كان قد التزم فيهما بمذهب أهل السنة والجماعة لم يحد عنه فهو مثال أيضًا يجب اعتباره.   1 أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: محمد الأمين الشنقيطي ج1 ص3. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 أمثلة من تفسيره : ذكرنا آنفًا أن التفسير بالمأثور على ثلاثة طرق؛ أصحها تفسير القرآن بالقرآن، ثم بالسنة، ثم بأقوال الصحابة. وعلى هذه الطرق الثلاثة سيكون سيرنا بإذن الله في هذا التفسير المبارك. أولًا: تفسير القرآن بالقرآن: وهذا النوع من التفسير هو الذي أبرزه المؤلف في تفسيره واعتنى به عناية كبيرة؛ بل أفرده بدراسة قيِّمة في مقدمة تفسيره، لا أحسبك تجدها بهذا الجمع والتتريب عند سواه، ولولا أنه ذكر من أنواع بيان القرآن بالقرآن أكثر من عشرين نوعًا في أكثر من عشرين صفحة لسقتها لك بحذافيرها؛ فهي الكنز عليك به من معدنه، وتعجب حين تقرأ له بعد أن عدَّد هذه الأنواع قوله: "واعلم -وفقني الله وإياك لما يحبه ويرضاه- أن هذا الكتاب المبارك -يعني: تفسيره- تضمن أنواعًا كثيرة جدًّا من بيان القرآن بالقرآن غير ما ذكرنا، وتركنا ذكر غير هذا منها خوف إطالة الترجمة، والمقصود بما ذكرنا من الأمثلة مطلق بيان كثرة الأنواع التي تضمنها واختلاف جهاتها -وفي البعض تنبيه لطيف على الكل- والغرض أن يكون الناظر في الترجمة على بصيرة مما يتضمنه الكتاب في الجملة قبل الوقوف على جميع ما فيه"1.   1 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج1 ص26. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 ولذا فلا تثريب عليَّ أن ذكرت بعض الأمثلة لبعض الأنواع التي جاءت في تفسيره -رحمه الله تعالى- فهي أنواع كثيرة وأمثلة أكثر، فمن ذلك: بيان الإجمال: وقد ذكر -رحمه الله تعالى- في مقدمة تفسيره أن الإجمال يكون بسبب الاشتراك، سواء كان الاشتراك في اسم أو فعل أو حرف. ومن الاشتراك في اسم قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} 1، قال -رحمه الله تعالى- في ذلك: "في المراد بالعتيق هنا للعلماء ثلاثة أقوال: الأول: أن المراد به القديم؛ لأنه أقدم مواضع التعبد. الثاني: أن الله أعتقه من الجبابرة. الثالث: أن المراد بالعتق فيه الكرم، والعرب تسمي القديم عتيقًا وعاتقًا، ومنه قول حسان رضي الله عنه: كالمسك تخلطه بماء سحابة ... أو عاتق كدم الذبيح مدام لأن مراده بالعاتق الخمر القديمة التي طال مكثها في دنها زمنًا طويلًا، وتسمي الكرم عتقًا، ومنه قول كعب بن زهير: قنواء في حرتيها لبصير بها ... عتق مبين وفي الخدين تسهيل فقوله عتق مبين؛ أي: كرم ظاهر، ومنه قول المتنبي: وبين عتق الخيل في أصواتها أي: كرمها، والعتق من الجبابرة كالعتق من الرق، وهو معروف. وإذا علمت ذلك فاعلم أنه قد دلت آية من كتاب الله على أن العتيق في الآية بمعنى: القديم الأول، وهي قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} الآية، مع أن المعنيين الآخرين كلاهما حق؛ ولكن القرآن دل على   1 سورة الحج: من الآية 29. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 ما ذكرنا، وخير ما يفسر به القرآن القرآن"1. وقد يكون الإجمال بسبب إبهام في اسم جنس جمعًا كان أو مفردًا أو اسم جمع أو صلة موصول أو معنى حرف. ومثال الإجمال بسبب الإبهام في اسم جنس مجموع قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} 2، قال -رحمه الله تعالى- في ذلك: "لم يبين هنا ما هذه الكلمات؛ ولكنه بيَّنها في سورة الأعراف بقوله: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} "3، 4. ومثال الإجمال بسبب الإبهام في اسم جنس مفرد قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} 5 الآية، قال -رحمه الله تعالى- في تفسيرها: "لم يبين هنا هذه الكلمة الحسنى التي تمت عليهم؛ ولكنه بينها في القصص بقوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} "6، 7. ومن أمثلة هذا النوع -أعني: أن يكون الإجمال بسبب الإبهام في اسم جنس مفردًا- قوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} 8، قال -رحمه الله تعالى-: "فقد بينها بقوله: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} 9 ونحوها من الآيات"10.   1 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج5 ص686، 687. 2 سورة البقرة: من الآية 37. 3 سورة الأعراف: من الآية 23. 4 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج1 ص63. 5 سورة الأعراف: من الآية 137. 6 سورة القصص: الآيتين 5، 6. 7 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج2 ص297. 8 سورة الزمر: من الآية 71. 9 سورة السجدة: من الآية 13. 10 أضواء البيان: للشنقيطي ج1 ص8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 ومثال الإجمال بسبب الإبهام في اسم جمع قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} 1 الآية، قال -رحمه الله تعالى- في تفسيرها: "لم يبين هنا مَن هؤلاء القوم؛ ولكنه صرح في سورة الشعراء بأن المراد بهم بنو إسرائيل؛ لقوله في القصة بعينها: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيل} 2 الآية، وأشار إلى ذلك هنا بقوله بعده: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ} 3 الآية" 4. ومثال الإجمال بسبب الإبهام في صلة موصول قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] قال -رحمه الله تعالى- في تفسيرها: "لم يبين هنا مَن هؤلاء الذين أنعم الله عليهم، وبيَّن ذلك في موضع آخر بقوله: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} "5. ومثال الإجمال بسبب الإبهام في معنى حرف قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} 6، وقال -رحمه الله تعالى- في تفسيرها: "عبر في هذه الآية الكريمة بمن التبعيضية الدالة على أنه ينفق لوجه الله بعض ماله لا كله، ولم يبين هنا القدر الذي ينبغي إنفاقه، والذي ينبغي إنفاقه هو الزائد على الحاجة وسد الخلة التي لا بد منها، وذلك كقوله: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} 7، والمراد بالعفو: الزائد على قدر الحاجة التي لا بد منها على أصح التفسيرات، وهو مذهب الجمهور"8.   1 سورة الأعراف: من الآية 137. 2 سورة الشعراء: من الآية 59. 3 سورة الأعراف: من الآية 137. 4 أضواء البيان: محمد الشنقيطي ج2 ص297. 5 أضواء البيان: الشنقيطي ج1 ص35، والآية من سورة النساء: 69. 6 سورة البقرة: من الآية 3. 7 سورة البقرة: من الآية 219. 8 أضواء البيان: محمد الشنقيطي ج1 ص38. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 ومن أنواع البيان: بيان الإجمال الواقع بسبب احتمال في مفسر الضمير، ومن أمثلته قوله تعالى: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيد} 1. قال -رحمه الله تعالى-: "فإن الضمير يحتمل أن يكون عائدًا إلى الإنسان، وأن يكون عائدًا إلى رب الإنسان المذكور في قوله: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُود} 1؛ ولكن النظم الكريم يدل على عوده إلى الإنسان، وإن كان هو الأول في اللفظ؛ بدليل قوله بعده: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} 1، فإنه للإنسان بلا نزاع وتفريق الضمائر بجعل الأول للرب والثاني للإنسان لا يليق بالنظم الكريم"2. ومن أنواع البيان: أن يذكر شيء في موضع ثم يقع سؤاله عنه في موضع آخر؛ كقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} 3، قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: "لم يبين هنا ما العالَمون، وبيَّن ذلك في موضع آخر بقوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} 4 الآية"5. ومن أمثلته قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّين} 6، قال -رحمه الله تعالى-: "لم يبينه هنا وبينه في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} 7 الآية"8. ومن أنواع البيان التي ذكرها المؤلف رحمه الله تعالى أن يذكر أمر في موضع، ثم يذكر في موضع آخر شيء يتعلسق بذلك الأمر، كأن يذكر له سبب أو مفعول او ظرف مكان أو ظرف زمان أو متعلق.   1 سورة العاديات: الآيات 6-8. 2 أضواء البيان: الشنقيطي ج1 ص9، 10. 3 سورة الفاتحة: الآية الأولى. 4 سورة الشعراء: من الآيتين 23، 24. 5 أضواء البيان: الشنقيطي ج1 ص33. 6 سورة الفاتحة: الآية 4. 7 سورة الانفطار: الآيات 17-19. 8 أضواء البيان: الشنقيطي ج1 ص34. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 فمثال ذكر سببه قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} 1، قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: "لم يبين هنا سبب قسوة قلوهم؛ ولكنه أشار إلى ذلك في موضع آخر كقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} 2، وقوله: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} 3 الآية"4. ومن أمثلة المتعلق قوله تعالى: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَان} 5 الآية، وقوله: {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَة} 6، وقوله: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} 7 فقد ذكر لانشقاقها متعلقًا في الفرقان في قوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} 8 الآية9. هذه بعض الأمثلة الكثيرة جدًّا، والتي وردت في تفسيره -رحمه الله تعالى- على أصح طرق التفسير؛ ألا وهو تفسير القرآن بالقرآن، وهو النوع الأول من التفسير بالمأثور. ثانيا: تفسير القرآن بالسنة أما تفسير القرآن بالسنة ومن أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أورد -رحمه الله تعالى- عددًا كثيرًا منها، وهذه بعضها: فمن ذلك: تفسيره لقوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ   1 سورة البقرة: من الآية 74. 2 سورة المائدة: من الآية 13. 3 سورة الحديد: من الآية 16. 4 أضواء البيان: الشنقيطي ج1 ص16. 5 سورة الرحمن: من الآية 37. 6 سورة الحاقة: من الآية 16. 7 سورة الانشقاق: الآية الأولى. 8 سورة الفرقان: الآية 25. 9 أضواء البيان: محمد الشنقيطي ج1 ص15. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 وَلا الضَّالِّينَ} 1، قال: "قال جماهير من علماء التفسير: "المغضوب عليهم" اليهود "الضالون" النصارى، وقد جاء الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه"2. وقال في تفسير قوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 3، وأما الذين قالوا الأطهار فاحتجوا بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِن} 4 "قالوا: عدتهن المأمور بطلاقهن لها الطهر لا الحيض كما هو صريح الآية، ويزيده إيضاحًا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر المتفق عليه: "فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرًا قبل أن يمسها فتلك العدة كما أمره الله"5، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم صرح في هذا الحديث المتفق عليه بأن الطهر هو العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء، مبينًا أن ذلك هو معنى قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِن} ، وهو نص من كتاب الله وسنة نبيه في محل النزاع. قال مقيده -عفا الله عنه- الذي يظهر لي أن دليل هؤلاء هذا فصل في محل النزاع؛ لأن مدار الخلاف هل القروء الحيضات أو الأطهار؟ وهذه الآية وهذا الحديث دل على أنها الأطهار. ولا يوجد في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم شيء يقاوم هذا الدليل، لا من جهة الصحة، ولا من جهة الصراحة في النزاع؛ لأنه حديث متفق عليه مذكور في معرض بيان معنى آية من كتاب الله تعالى"6. وفي تفسير قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} 7، قال -رحمه الله تعالى-: "أنكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة على مَن يتقي غيره؛ لأنه لا ينبغي أن يتقي إلا   1 سورة الفاتحة: من الآية 7. 2 أضواء البيان: محمد الشنقيطي ج1 ص37. 3 سورة البقرة: من الآية 228. 4 سورة الطلاق: الآية الأولى. 5 البخاري: التفسير ج6 ص67، مسلم: الطلاق ج2 ص1093. 6 أضواء البيان: محمد الشنقيطي ج1 ص130. 7 سورة النحل: من الآية 52. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 من بيده النفع كله والضَّر كله؛ لأن غيره لا يستطيع أن ينفعك بشيء لم يرده الله لك، ولا يستطيع أن يضرك بشيء لم يكتبه الله عليك" -إلى أن قال- وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" 1، وفي حديث ابن عباس المشهور: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف" 2، 3. وفي تفسير قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} 4 الآيتين، قال: وهذا الذي دلت عليه الآيتان من الزجر عن النظر إلى ما لا يحل جاء موضحًا في أحاديث كثيرة. منها ما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والجلوس بالطرقات"، قالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بُدٌّ نتحدث فيها، قال: "فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه"، قالوا وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: "غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر" انتهى. هذا لفظ البخاري في صحيحه5، وذكر -رحمه الله تعالى- عددًا من الأحاديث غير هذا. والأمثلة في تفسيره القرآن بالسنة كثيرة جدًّا؛ منها ما هو تفسير مُبهم، ومنها ما هو تخصيص للعام، ومنها ما هو مقيد لمطلق، ومنها ما هو بيان لمعنى أو متعلقه،   1 البخاري: كتاب الأذان ج1 ص205، مسلم: كتاب الصلاة ج1 ص347. 2 رواه الإمام أحمد في سنده ج1 ص293، والترمذي في سننه: كتاب القيامة، باب 59 ج4 ص667. 3 أضواء البيان: محمد الشنقيطي ج3 ص256، 257. 4 سورة النور: الآيتين 30، 31. 5 أضواء البيان: محمد الشنقيطي ج6 ص190، وانظر البخاري: كتاب المظالم ج3 ص103. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 ومنها ما هو بيان أحكام زائدة على ما جاء في القرآن، ومنها ما هو بيان للناسخ والمنسوخ، ومنها ما هو تأكيد لما جاء في القرآن، وغير ذلك. ثالثا: تفسير القرآن بأقوال الصحابة: والمؤلف -رحمه الله تعالى- كثيرًا ما يستشهد بالتفسير الصحيح لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثيرًا ما يذكر لتفاسيرهم شواهد من آيات القرآن الكريم أو من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم. ففي تفسير قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} . قال -رحمه الله تعالى-: " {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} وقع نظيره قطعًا لأهل مكة لما لجوا في الكفر والعناد، ودعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف" 2، فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء حتى أكلوا الجيف والعلهز -وهو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحروه- وأصابهم الخوف الشديد بعد الأمن، وذلك الخوف من جيوش رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزواته وبعوثه وسراياه، وهذا الجوع والخوف أشار لها القرآن على بعض التفسيرات؛ فقد فسر ابن مسعود آية "الدخان" بما يدل على ذلك". ثم ذكر -رحمه الله تعالى - بعض الروايات عن ابن مسعود -رضي الله عنه- وعقب عليها قائلًا: "وفي تفسير ابن مسعود -رضي الله عنه- لهذه الآية الكريمة- ما يدل دلالة واضحة أن ما أذيقت هذه القرية المذكورة في "سورة النحل" من لباس الجوع أذيقه أهل مكة حتى أكلوا العظام، وصار الرجل منهم   1 سورة النحل: الآية 112. 2 البخاري: كتاب التفسير ج6 ص39، صحيح مسلم: كتاب صفات المنافقين ج4 ص2157. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 يتخيل له مثل الدخان من شدة الجوع، وهذا التفسير من ابن مسعود -رضي الله عنه- له حكم الرفع لما تقرر في علم الحديث من أن تفسير الصحابي المتعلق بسبب النزول له حكم الرفع، كما أشار له صاحب طلعة الأنوار بقوله: تفسير صاحب له تعلق ... بالسبب الرفع له محقق وكما هو معروف عند أهل العلم"1. وقال -رحمه الله تعالى- مثل هذا التوثيق لتفسير الصحابي عند تفسيره لقوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} 2، فساق الحديث الذي رواه الشيخان وأبو داود والترمذي3، عن جابر -رضي الله عنه- قال: كانت اليهود تقول إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول؛ فنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} 4، ثم علق على ذلك قائلًا: "فظهر من هذا أن جابرًا -رضي الله عنه- يرى أن معنى الآية: فائتوهن في القبل على أية حالة شئتم ولو كان من ورائها"5، ثم قال: "والمقرر في علوم الحديث" ... إلخ النص السابق قبل أسطر. وفي تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 6 الآية، قال -رحمه الله تعالى-: "لا يخفى ما يسبق إلى الذهن في هذه الآية الكريمة من عدم ظهور وجه الربط بين هذا الشرط وهذا الجزاء؛ وعليه ففي الآية نوع إجمال، والمعنى كما قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: إنه كان الرجل تكون عنده اليتيمة في حجره، فإن كانت جميلة تزوجها   1 أضواء البيان: الشنقيطي ج1 ص340-342. 2 سورة البقرة: من الآية 222. 3 البخاري: كتاب التفسير ج5 ص160، مسلم: النكاح ج2 ص1058، سنن أبي داود: النكاح ج2 ص249، والترمذي: التفسير ج5 ص215. 4 سورة البقرة: من الآية 223. 5 أضواء البيان: الشنقيطي ج1 ص124. 6 سورة النساء: من الآية 3. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 من غير أن يقسط في صداقها، وإن كانت دميمة رغب عن نكاحها وعضلها أن تنكح غيره؛ لئلا يشاركه في مالها، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا إليهن، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن ... وهذا المعنى الذي ذهبت إليه أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنه- يبينه ويشهد له قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} 1. وقالت رضي الله عنها: إن المراد بما يُتلَى عليكم في الكتاب هو قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} الآية؛ فتبين أنها يتامى النساء؛ بدليل تصريحه بذلك في قوله: {فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} الآية، فظهر من هذا أن المعنى: وإن خفتم ألا تقسطوا في زواج اليتيمات فدعوهن, وانكحوا ما طاب لكم من النساء سواهن، وجواب الشرط دليل واضح على ذلك؛ لأن الربط بين الشرط والجزاء يقتضيه، وهذا هو أظهر الأقوال لدلالة القرآن عليه"2. وكذا في تفسير قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} 3، قال -رحمه الله تعالى-: "في معنى هذه الآية أوجه للعلماء؛ منها: أن المعنى: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين يوم القيامة سبيلًا، وهذا مروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس -رضي الله عنهم- ويشهد له قوله تعالى في أول الآية: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ} الآية، وهو ظاهر"4. وفي تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً} 5، قال -رحمه الله تعالى-: "والتحقيق أن المراد بالكلالة عدم الأصول والفروع، وهذا قول   1 سورة النساء: من الآية 127. 2 أضواء البيان: الشنقيطي ج1 ص266، 267. 3 سورة النساء: من الآية 141. 4 أضواء البيان: الشنقيطي ج1 ص377. 5 سورة النساء: من الآية 12. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وأكثر الصحابة، وهو الحق إن شاء الله تعالى"1. هذه بعض الأمثلة لتفسير الصحابة -رضي الله عنهم- التي أوردها المؤلف -رحمه الله تعالى- في تفسيره، والمطلع على تفسيره يدرك بحق اهتمامه -رحمه الله تعالى- بتحري تفسير الصحابة -الصحيح منه- والقول به، والاستشهاد لما يعضده من الآي والحديث. ومن هذه الأمثلة التي سقناها من تفسيره القرآن بالقرآن وبالسنة وبأقوال الصحابة -رضي الله عنهم- يظهر أثر التفسير بالمأثور في تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن "بما يجعله في مقدمة التفاسير في العصر الحديث من غير منازع حسب ما اطعلت عليه من التفاسير".   1 أضواء البيان: الشنقيطي ج1 ص275. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 ثانيا: الموجز في تفسير القرآن الكريم منهجه في التفسير ... ثانيًا: الموجز في تفسير القرآن الكريم ِ"المصفى: الجامع بين صحيح المأثور وصريح المعقول" أما المؤلف: فهو المستشار محمد رشدي حمادي، ولم أجد له ترجمة. أما الكتاب: فهو الموجز في تفسير القرأن الكريم "المصفى الجامع بين صحيح المأثور وصريح المعقول". وبين يدي الجزء الأول منه، ويقع في 551 صفحة بدون الفهارس، وفيه تفسير سور: الفاتحة والبقرة وآل عمران، والجزء الثاني ويقع في 567 صفحة كذلك، وفيه تفسير سورة النساء والمائدة والأنعام. وهما ما حصلت عليه من هذا التفسير الذي ليس فيه ما يدل على رَقْمِ الطبعة ولا تاريخها، وطبع هذان الجزآن في دار إحياء الكتب العربية. منهجه في التفسير: قال المؤلف في مقدمته للتفسير معرفًا به: "هو خلاصة التفاسير المجمع عليها بين المفسرين من علماء الأمة الإسلامية، وقد خلا من تأويلات المذاهب الشاذة، والإسرائيليات، والتفسير بالرأي، التي عمرت بها كتب التفاسير دون مبرر، فضلًا عن أنه تفسير وافٍ لفهم نصوص القرآن العظيم كما بيَّنها الرسول الكريم، وكما أجمع عليها المفسرون طوال العصور من تفسيرات لا تخرج النصوص عن مبانيها، وليس لي فيه من فضل سوى الاقتباس والاختيار، ولم أضف إليه بدعًا من المذاهب أو الآراء، وعلى الله قصد السبيل"1، وسنذكر إن شاء الله -آخر- ما التزم به من هذه الأمور وما لم يلتزم به.   1 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج1 ص3. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 أمثلة من تفسيره : تفسير القرآن بالقرآن: ففي الفاتحة مثلًا فسَّر "يوم الدين: من قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّين} 1 بقوله: "وبينه الله تعالى في سورة الانفطار بقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} "2 [الانفطار: 17-19] . وفسر قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} 1 بقوله: "ويعني: الأنبياء والمؤمنين، وقد بينه في سورة النساء بقوله: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} "3 [النساء: 96] . وفسر قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 1 بقوله: "وقال السهيلي: وشاهد ذلك قوله تعالى في اليهود: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} 4، وفي النصارى: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا} 5، 6. ومن سورة البقرة مثلًا فسر قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} 7 الآية، بقوله: "ونحن ذاكرون لك -إن شاء الله- ما يجلي المعنى في الآية، مقتفين أثر ابن العدل8 والقرطبي فيما قالاه في معنى "كان"، وأنها للثبوت لا للمضي، غير أنا نقدم لك ما جاء في كتاب الله من وصف الأمة بالواحدة، والمعنى من ذلك الوصف في مواضعه المختلفة؛ ليكون في ذلك توضيح لما نقصد إليه، وسند لنا فيما إليه نعمد، والله الموفق.   1 سورة الفاتحة: الآيتين 4، 7. 2 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج1 ص8. 3 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج1 ص9. 4 سورة البقرة: من الآية 90. 5 سورة المائدة: من الآية 77. 6 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج1 ص9. 7 سورة البقرة: من الآية 213. 8 هكذا ولعلها "ابن العربي". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 ورد وصف الأمة بالواحدة في قوله تعالى في سورة الأنبياء {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ، وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [21: 92، 93] جاءت هذه الآية الكريمة: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} إلخ بعد ذكر جمع من الأنبياء -صلوات الله عليهم- وذكر ما كان من شأنهم مع قومهم، والخطاب فيها للأنبياء كما يفسره قوله تعالى في سورة المؤمنين بعدما ذكر من أحوال الأنبياء والمرسلين وما كان من أقوامهم معهم: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ، فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [23: 51-54] . وقد جاء لفظ "أمة" بالنصب في الآيتين على الحال، والخبر قد تم في قوله: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} أي: هذا الجمع من الأنبياء والمرسلين أمتكم؛ أي: جماعتكم حال أنها أمة واحدة؛ أي: ليس جمعًا تربطه الروابط البعيدة، كما يقال: أمة الهند على اختلاف مللها وتفرق كلمتها؛ بل هي أمة تربطها رابطة قريبة هي رابطة الاهتداء بنور الله، والدعوة إلى توحيده، والقيام على شرعه، وحمل الناس على اتباع أحكامه، فهي مجتمعة على أمر واحد لا تعدد فيه هو الحق والعدل، فهي جديرة بأن تكون أمة واحدة، وإن شئت قلت كما قالوا: إن الأمة بمعنى الملة -في الآيتين- يراد بذلك أن الله يخبر المرسلين بأن هذا الذي سبق في الكلام من السير في الناس بهداية الله، والمثابرة على ذلك، وعدم المبالاة بما يكون منهم من تكذيب أو تعذيب، هذه هي ملتكم ودينكم وهو أمر واحد لا تعدد فيه، يأتي به السابق، ويتبعه عليه اللاحق، لا يختلف فيه نبي عن نبي، ولا يناكر فيه مرسل مرسلًا. هذا المعنى من الوَحْدَة هو الذي جاء في قوله تعالى في سورة هود: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين} [11: 118] ، وفي قوله في سورة الشورى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِير} 1 [42: 8] ".   1 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج1 ص187، 188. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 هذا بعض ما قاله المؤلف جزاه الله خيرًا، وقد وأطال في الحديث عن هذه الآيات ونحوها وصلة بعضها ببعض. وفي سورة آل عمران في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 1 الآية، قال بعد بيان: "واعلم أن نص القرآن دل على أنه تعالى حين رفعه ألقى شبهه على غيره، قال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 157، 158] "2. ومنه أيضًا تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} 3، قال: "وهذا هو الغيب الذي أمر المكلفون بالإيمان به ومدحوا عليه في مثل قوله تعالى: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [2: 1، 2] والدليل على كون المراد أن من يجتبيهم من رسله يطلعهم على ما شاء أن يبلغوه لعباده من خبر الغيب هو مثل قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} [72: 26-29] "4. ومن سورة النساء قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا} 5، قال في تفسيرها: "في الكلام إضمار تقديره: {وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} فقرينهم الشيطان {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا} والقرين:   1 سورة آل عمران: من الآية 55. 2 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج1 ص388. 3 سورة آل عمران: من الآية 179. 4 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج1 ص526. 5 سورة النساء: من الآية 38. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 المقارن؛ أي: الصاحب والخليل، والمعنى: مَن قَبِلَ من الشيطان في الدنيا فقد قارنه؛ أي: أن الحامل لأولئك المتكبرين على ما ذكر هو وسوسة الشيطان التي عبر عنها في آية البقرة بقوله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [2: 268] ، فبيَّن أن هؤلاء قرناء الشيطان"1. ومن سورة المائدة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} 2، قال: "إلا ما يُتلى عليكم مما حرم؛ أي: يقرأ عليكم في القرآن والسنة من قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة} 3 الآية، من هذه السورة، وقوله عليه الصلاة والسلام: "وكل ذي ناب من السباع حرام"، وهو الذي استثناه"3. ومن سورة الأنعام في قوله تعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 4، قال: "أي: قرأت الكتب، وقيل: "دارست" أي: دارست أهل الكتاب وتعلمت منهم، رُوي هذا عن ابن عباس، وأولى القراءات بالصواب عند الطبري قراءة مَن قرأ: "وليقولوا درست" بتأويل قرأت وتعلمت؛ لأن المشركين كذلك كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وقد أخبر الله عن قيلهم ذلك بقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] فهذا خبر من الله ينبئ عنهم أنهم كانوا يقولون: إنما يتعلم محمد ما يأتيكم به من غيره"5. هذه بعض الأمثلة على تفسيره القرآن بالقرآن أصح طرق التفسير بالمأثور؛ بل أصح طرق التفسير على الإطلاق.   1 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج2 ص58. 2 سورة المائدة: الآية الأولى. 3 المرجع السابق: ج2 ص234. 4 سورة الأنعام: الآية 105. 5 المرجع السابق: ج2 ص498. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 تفسير القرآن بالسنة: فمن ذلك مثلًا تفسيره لقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم} 1،: قال: "يقول: لا تجعلوا الله بالحلف به مانعًا لكم من أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس؛ ولكن إذا حلفتم على ألا تصلوا رحمًا ولا تتصدقوا ولا تصلحوا وعلى أشباه ذلك من أبواب البر؛ فكفروا وائتوا الذي هو خير، وفي الحديث: "إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فائتِ الذي هو خير وكفر عن يمينك" 2 "3. وفي قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا} 4 الآية، قال: "وفي الحديث: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء" 5، 6. وفي قوله تعالى عن امرأة عمران لما وضعت ابنتها مريم: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} 7، قال: "وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يُولد فيستهل صارخًا من مس الشيطانه إيَّاه إلا مريم وابنها"، ثم يقول أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} "8.   1 سورة البقرة: الآية 224. 2 صحيح البخاري: كتاب الإيمان ج7 ص216، وصحيح مسلم: كتاب الإيمان ج11 ص116، إلا أن الحديث فيهما بتقديم "فكَفِّر عن يمينك" على "وائت الذي هو خير". 3 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج1 ص213. 4 سورة البقرة: من الآية 275. 5 رواه الإمام أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، والنسائي في سننه عن أبي سعيد الخدري. 6 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج1 ص271. 7 سورة آل عمران: من الآية 36. 8 الموجز في تفسير القرآن: محمد رشدي حمادي ج1 ص370، صحيح البخاري: التفسير ج5 ص166، ومسلم: الفضائل ج4 ص1838. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 وفي تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 1، قال: "وفي الصحيحين عن ابن مسعود لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله: "ليس هو كما تظنون؛ إنما هو كما قال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} " 2، 3. ولولا خشية الإطالة لسقنا أكثر من ذلك من تفسيره القرآن بالسنة، وفيما ذكرنا كفاية إن شاء الله. تفسير القرآن بأقوال الصحابة: وهي الدرجة الثالثة من التفسير بالمأثور، وقد أورد الأستاذ محمد رشدي حمادي كثيرًا من هذا النوع من التفسير في تفسيره، نذكر منه: في تفسيره: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} 4، قال: "وعن ابن عباس في قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أي: قاضي يوم الدين، وهو يوم الحساب والقضاء فيه بين الخلائق؛ أي: يوم يدان فيه الناس بأعمالهم لا قاضي غيره"5. وفي قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} 6 الآية، قال: "عن ابن عباس: هو قول الرجل في درج كلامه واستعجاله في المحاورة، لا والله، وبلى والله، دون قصد لليمين"7. وفي قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 8، قال:   1 سورة الأنعام: الآية 82. 2 سورة لقمان: من الآية 13. 3 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج2 ص 464. 4 سورة الفاتحة: من الآية 4. 5 المرجع السابق: ج1 ص8. 6 سورة البقرة: من الآية 225. 7 المرجع السابق: ج1 ص214. 8 سورة البقرة: من الآية 228. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 "وفي كتاب أبي داود والنسائي عن ابن عباس قال في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} الآية، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق بها، وإن طلقها ثلاثًا فنسخ ذلك وقال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} الآية" 1. وفي تفسير قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} 2 قال: "ورُوي عن ابن عباس أيضًا أنه قال: هذا مَثَلٌ ضربه الله للمرائين بالأعمال يبطلها يوم القيامة أحوج ما كان إليها كمثل رجل كانت له جنة وله أطفال لا ينفعونه، فكَبِرَ وأصاب الجنة أعصار؛ أي: ريح عاصف فيه نار فاحترقت؛ ففقدها أحوج ما يكون إليها"3. وفي تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} 4، قال: "قال ابن عباس: أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه، ونهاهم عن التصدق برذالة المال ودنيئه -وهو خبيثه- فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا"5. وبعد هذه بعض الأمثلة أيضًا من تفسيره للقرآن بأقوال الصحابة، وبهذا يكون هذا التفسير محتويًا على أنواع التفسير بالمأثور الثلاثة: تفسير القرآن بالقرآن، وتفسيره بالسنة، وتفسيره بأقوال الصحابة. رأيي في هذا التفسير: والحق أن هذا التفسير مع حرصه على إيراد التفسير بالمأثور إلا أنا نراه لم يلتزم تمامًا بما وعد به في مقدمة تفسيره. فهو تفسير لم يخلُ من الإسرائيليات كما وعد صاحبه؛ بل إنه ينقل عن هذه   1 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج1 ص215. 2 سورة البقرة: من الآية 266. 3 المرجع السابق: ج1 ص266. 4 سورة البقرة: من الآية 267. 5 المرجع السابق: ج1 ص267. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 الكتب مباشرة؛ أعني: التوراة والإنجيل، وعن غيرها من مصادر الإسرائيليات، وأحسب أن الذي أدَّى به إلى ذلك توسعه في التاريخ القديم منه توسعًا يوقعه أحيانًا في الإسرائيليات وما لا فائدة تُرجَى من تناوله. ومن المآخذ عليه أيضًا تلك الأبحاث العلمية والفلكية التي يتوسع فيها أحيانًا توسعًا مذمومًا في تفسيره للقرآن؛ ومن ذلك مثلًا: ذلك الحديث المسهب1 عن علم الفلك الذي تحدث فيه عن علم الفلك عند علماء المسلمين، وتسلسل هذا العلم إلى نزول رجلين على سطح القمر، ثم حديث عن المجموعة الشمسية والمسافات بينها ودرجات الحرارة فيها، ثم حديث عن المجرات، ثم حديث عن علم النجوم، وكان الأَوْلَى لمثل تفسيره ألا يعرض فيه مثل هذه الأبحاث خاصة أنه وعد في المقدمة بأن تفسيره خلا من التفسير بالرأي، فهل هذه المعلومات خارجة عن الرأي؟! ومنها أيضًا ذلك البحث الذي ألحقه بالجزء الأول تحت عنوان "تفسير فواتح السور"2، أدرج فيه ما سماه بتفسير علمي لفواتح سور القرآن، وذلك فيه أيضًا ما ينبغي تنزيه مثل هذا التفسير عنه. ومآخذ أخرى هي أقل شأنًا مما ذكرنا، ومع هذا فتبقى لهذا التفسير محاسنه من التفسير بالمأثور، ومن معالجته لشئون الحكومة الإسلامية، ووجوب تعديل القوانين حتى توافق التشريع الإسلامي، وتكراره لذلك عند كل مناسبة، ثم تشخيصه لداء العالم الإسلامي في العصور الحديثة، ووصفه الدواء لكثير من مشاكله. رأيي في تفاسير هذا اللون في القرن الرابع عشر: الحق أني لم أجد مثل هذين التفسيرين عناية بالمأثور مع الفارق الكبير بين عناية الأول منهما -أعني: الشيخ محمد الأمين الشنقيطي- وعناية الثاني -أعني:   1 انظر تفسيره ج2 ص480. 2 انظر تفسيره أيضًا ج1 ص547. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 المستشار محمد رشدي حمادي- فقد تفوق الأول بلا نزاع في هذا اللون من التفسير تفوقًا لا يدانيه الثاني، ومع هذا يبقى للأستاذ محمد رشدي حمادي درجته المتقدمة في هذا اللون. ومع هذا وذاك فلا يزال ميدان التفسير بالمأثور يعاني قلة خائضي عبابه، وكم كنت أتمنى أن يقوم مَن آتاه الله سَعَة في العلم بتأليف أو بجمع الآيات التي يفسر بعضها بعضًا وأن يضم إليها سعة في العلم بتأليف أو بجمع الآيات التي يفسر بعضها بعضًا، وأن يضم إليها الأحاديث الصحيحة المرفوعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، مبينًا درجة كل حديث، ويرتب هذا كله حسب ترتيب المصحف، وليس له فيما جمع إلا الربط بين آية وآية أو آية وحديث، وله أيضًا مع هذا تخريج الأحاديث ليس إلا، وأحسب أن العلماء والعامة بحاجة ماسة إلى هذا التفسير، وعسى أن يكون فرجًا قريبًا. وإن كان لي من رأي بعد هذا أقوله في الموجود من التفاسير الحديثة فهو أنها -أو غالبها- لا تهتم بالتفسير بالمأثور، حاشى أن أتهمهم بقصد هذا؛ ولكن الأمر فيما أظن اعتقاد بعضهم أن الناس قد انصرفوا عن هذا اللون من التفسير، وإيراد بعضهم الآخر التفسير بالمأثور بالمعنى من غير إيراد الآيات أو الأحاديث بنصوصها، وانشغال بعض ثالث إلى مباحث أخرى على حساب التفسير بالمأثور، وقد يكون هنا تعليلات أخرى، والله الموفق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 الفصل الثالث: المنهج العلمي التجريبي في التفسير المراد به : بادئ ذي بدء ينبغي أن ننبه إلى أمرين هامين في هذه المسألة: أولهما: جواب لشبهة أو سؤال: ماذا نعني بالعلمي من قولنا: التفسير العلمي؟ هل يعني هذا أن التفاسير الأخرى غير علمية؟ ولا شك أن مدار الخلاف ومركزه في المراد بالعلم هنا. فالعلم كلمة شاملة تشمل شتى أنواع المعارف البشرية القديم منها والجديد، ثم تجاذبت هذه الاصطلاح أيدي العلماء، كلٌّ يطلقه على ما تدور فلك أبحاثه عليه، فقال الحكماء في تعريفه : إنه صورة الشيء الحاصلة في العقل، أو حصول الصورة في العقل، أو تعلق النفس بالشيء على جهة انكشافه. وقال المتكلمون: إنه صفة يتجلى بها الأمر لمن قامت به، وزعم الماديون أنه ليس إلا خصوص اليقينيات التي تستند إلى الحس وحده، وقال علماء التدوين: إنه المسائل المضبوطة بجهة واحدة، والغالب أن تكون تلك المسائل نظرية كلية، وقد تكون ضرورية، وقد تكون جزئية1. هذا ما قاله أولئك، وليس سبيلنا هنا بيان تلك الاصطلاحات ونقدها؛ وإنما سبيلنا عرضها دون ما سواه؛ لنقف منه على إطلاقات هذا اللظ "العلم".   1 انظر مناهل العرفان: عبد العظيز الزرقاني ج1 ص5، 6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 وإذا ما نظرت إلى المراد به عند علماء الشرع وجدت الغزالي يوضح ذلك بقوله: "قد كان العلم يُطلق على العلم بالله تعالى وبآياته وبأفعاله في عباده وخلقه ... وقد تصرفوا فيه بالتخصيص حتى شهروه في الأكثر بمن يشتغل بالمناظرة مع الخصوم في المسائل الفقهية وغيرها ... ولكن ما ورد من فضائل العلم والعلماء أكثره في العلماء بالله تعالى وبأحكامه وبأفعاله وصفاته، وقد صار الآن مطلقًا على مَن لا يحيط من علوم الشرع بشيء سوى رسوم جدلية في مسائل خلافية؛ فيعد بذلك من فحول العلماء مع جهله بالتفسير والأخبار وعلم المذهب وغيره، وصار ذلك سببًا مهلكًا لخَلْق كثير من أهل الطلب للعلم"1. هذه بعض الاصطلاحات في لفظة "علم"، فهل هي أو أحدها المراد في التفسير العلمي للقرأن؟ نظرة واحدة إلى كتب التفسير العلمي تفيدك أن ليست هذه الاصطلاحات أو أحدها هي المراد من "العلمي" أو "العلم"؛ فلنبحث عن اصطلاح آخر، ولنطوِ صفحات التاريخ إلى العصر الحديث. إذ قد ظهر في هذا العصر مدلول آخر للعلم نلمس جوانبه في وصفهم لهذا القَرْن أو العصر بأنه عصر العلم "والتطور والنهضة" إلى آخره؛ وإنما يهمنا وصفه بعصر العلم وهم يقصدون بذلك أن العلم هو العلم الطبيعي القائم على دراسة ما في الكون من مواد وعناصر وكائنات، لها خصائصها الذاتية وأنظمتها التي تحكمها من كيمياء وطبيعة وميكانيكا، وغير ذلك من علوم الطب والرياضة والفلك، وما يتضمنه ذلك من حقائق كونية، وأن العمل في إطار هذا المفهوم للعلم هو تطبيق العلم عمليًّا باستعمال الأجهزة والأدوات والوسائل الأخرى الحديثة من مختبرات ومراصد وتجارب واستنباطات منطقية وغير ذلك2. هذا ما قصدوه من وصف عصرهم بعصر العلم، وهو ما تناولوه فيما سموه بالتفسير العلمي.   1 إحياء علوم الدين: أبو حامد الغزالي ج1 ص39. 2 القرآن وإعجازه العلمي: محمد إسماعيل إبراهيم ص44، بتصرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 ونحن وإن كنا نقول: إنه لا مشاحة في الاصطلاح؛ لكنه ينبغي أن يكون في الاصطلاح ما يميزه عن سواه؛ حتى لا تلتبس الأمور وتتداخل الأسماء؛ ولذا فإني نظرتُ -ونظر غيري- إلى هذه العلوم التي تناولها المفسرون تحت عنوان التفسير العلمي فوجدتها تجمعها التجربة والتجارب، فهي علوم ماثلة للأعيان وخاضعة في غالبها للتجربة؛ إذًا فلِمَ لا نخصها بهذه الصفة؟ فلنسمِّ هذا اللون من التفسير "التفسير العلمي التجريبي للقرآن الكريم"؛ حتى يتيمز هذا اللون من التفسير العلمي عن الألوان العلمية الأخرى من العقائد والفقه ونحوها، وكلها علم لا شك فيه. ثانيهما: وهو متولد عن الأمر الأول؛ إذ يظهر من إطلاق التفسير العلمي على هذه العلوم في العصر الحديث ان هذه التسمية "التفسير العلمي للقرآن الكريم" تسمية حديثة؛ وإنما قلنا: التسمية، ولم نقل: التفسير العلمي نفسه؛ لأنا نجزم بوجود هذا اللون في وقت مبكر؛ لكنه لم يكن مثل العصر الحديث كثرة ولا مقاربًا له. بل إن كتب التفسير في العصر الحديث أفردته بمؤلفات خاصة. وظهرت تفاسير تحمل في عنوانها: "التفسير العلمي" أو "الإعجاز العلمي" ونحو ذلك؛ فكان التفسير العلمي من خصائص العصر الحديث في التفسير وإن وُجِدَ بقلة فيما قبله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 تعريفه : ومن الطريف أنك لا تكاد تجد في كتب التفسير العلمي وغيره مَن يذكر تعريفه وبيان المراد منه، ولعله لظهروه يغفل أولئك تعريفه؛ ولكنه على كل حال بحاجة إلى تعريف يحدد مجاله؛ فيعرف ما يدخل فيه وما لا يدخل. ولم أجد من ذكر له تعريفًا إلا الأستاذ أمين الخولي؛ حيث قال: "هو التفسير الذي يُحَكِّمُ الاصطلاحات العلمية في عبارة القرآن، ويجتهد في استخراج مختلف العلوم والآراء الفلسفية منها"1.   1 التفسير معالم حياته، منهجه اليوم: أمين الخولي ص19-20. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 ونقل هذا التعريف بحروفه الشيخ محمد حسين الذهبي في كتابه التفسير والمفسرون1، وهو وإن لم يُشر إلى مصدر التعريف فإن كتاب الخولي من مصادره؛ فتبادر إلى الذهن أنه نقله عنه، والله أعلم. واختصر هذا التعريف الدكتور موسى شاهين لاشين فقال في تعريفه: "يقصد بالتفسير العلمي التفسير الذي يحكم الاصطلاحات العلمية في عبارات القرآن، ويحاول استخراج العلوم المختلفة من آياته"2. وهذا التعريف الذي ذكره الدكتور موسى هو نفس التعريف السابق مع بعض التغيير، ولم يُشر الدكتور أيضًا إلى مصدره. وتأثر بهذا التعريف أيضًا الأستاذ محمد الصباغ؛ فقال في تعريفه: "إنه تحكيم مصطلحات العلوم في فَهْمِ الآية، والربط بين الآيات الكريمة ومكتشفات العلوم التجريبية والفلكية والفلسفية"3. ولعلك تقول بعد هذا: تذكر هذه التعريفات ثم تقول: إنك لا تكاد تجد تعريفًا؟ ومخلصي وعذري من هذا أن التعريفات الثلاثة الأخيرة مرجعها كلها إلى التعريف الأول، فهي إما ناقلة له بحروفه، وإما ناقلة له بتقديم وتأخير، وإما متأثرة به وبألفاظه. وتجد القاسم المشترك بين هذه التعريفات أنها تصف هذه اللون من التفسير بأنه "تحكيم"!! للمصطلحات العلمية في عبارة القرآن، ولا شك أن في هذا التعبير شيء من القسوة. وتجد أيضًا أنها اتفقت على عبارة "المصلطحات العلمية"، ولم يذكر أحدهم الحقائق أو النظريات أو المكتشفات أو المشاهدات العلمية، وهذا يؤيد اتحاد مصدر التعريف عندهم.   1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص140. 2 اللآلئ الحِسَان في علوم القرآن: موسى شاهين لاشين ص377. 3 لمحات في علوم القرآن: محمد الصباغ ص203. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 وتجدها أيضًا تصف صاحب التفسير العلمي بأنه "يجتهد في استخراج مختلف العلوم والآراء الفلسفية"، والذي أعتقده أن التفسير العلمي بمعناه المعروف لا يشمل إيراد الآراء الفلسفية، كما لا يعم مختلف العلوم؛ بل في أنواع معينة منها كالطب والرياضيات والفلك وعلم الحيوان والنبات والكيمياء وعلم طبقات الأرض، ونحو ذلك من العلوم التجريبية، فلا يشمل مختلف العلوم على إطلاقها. ولذا فإني أعتقد قصور هذا التعريف، وقد انتقد هذا التعريف أيضًا الشيخ عبد الله الأهدل في رسالته "التفسير العلمي للقرآن الكريم"، فقال عن تعريف الخولي والذهبي: "فقولهما: يحكم الاصطلاحات العلمية في عبارة القرآن غير دقيق؛ لأنه ما كل تفسير علمي، كذلك وتعبيرهما هذا "يحكم" يُوحي بأن الآية المراد تفسيرها لها معنى آخر، غير المعنى العلمي الذي يراد منها أن تدل عليه، وهذا وإن صدق على بعض التفسير المتمحل والشطحات العلمية، فإنه لا ينطبق على البعض الآخر". ثم قال: "وربما كان التعريف الصحيح للتفسير العلمي أن يقال: "هو تفسير الآيات الكونية الواردة في القرآن على ضوء معطيات العلم الحديث، بغض النظر عن صوابه وخطئه"؛ ليشمل التفسير الصحيح والتفسير الخاطئ"1. والذي يظهر لي -والله أعلم- أن التعريف الأقرب إلى أن يكون جامعًا مانعًا أن يقال: "المراد بالتفسير العلمي هو اجتهاد المفسر في كشف الصلة بين آيات القرآن الكريم الكونية ومكتشفات العلم التجريبي، على وجه يظهر به إعجاز للقرآن، يدل على مصدره، وصلاحيته لكل زمان ومكان". ولا شك أن وصفه بـ"اجتهاد المفسر" يدخل فيه التفسير العلمي المقبول والمرفوض؛ لأن المجتهد قد يخطئ وقد يصيب، وقولنا: "الربط" ليشمل ما هو تفسير وما هو من قبيله؛ كالاستئناس بالآية في قضية من قضاياه ونحو ذلك، وقولنا: "العلم   1 التفسير العلمي للقرآن الكريم: بحث ماجستير أعدَّه الشيخ عبد الله بن عبد الله الأهدل "نسخة مسحوبة على الاستنسل ص15". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 التجريبي" يُخرج بقية العلوم الكلامية والفلسفية ونحوها، وقولنا: "على وجه" لبيان ثمرته، وقولنا: "يدل على مصدره" نقصد به أنه إذا ما ثبت هذا التوافق بين نصوص القرآن الكريم وحقائق العلوم، ولم يقع أيُّ تعارض بين نص قرآني وحقيقة علمية -مهما كانت جدتها وحداثتها- فإنه لا يمكن أن يقول مثل هذه النصوص بشر قبل اكتشافها بقرون، ولا بُدَّ من أن يكون المتكلم بها هو موجِدُ هذه الحقائق ومكونها؛ وهو الله سبحانه وتعالى، وقولنا: "وصلاحيته لكل زمان ومكان" نقصد به أنه صالح لكل عصر، لا تأتي عليه الأيام ولا الحدثان بما يبطل شيئًا منه، فهو صالح لكل عصر وأوان. هذا ما ظهر لي الآن من المعنى المراد به، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 موقف العلماء السابقين من التفسير العلمي التجريبي مدخل ... موقف العلماء السابقين من التفسير العلمي التجريبي: مما لا شك فيه أن مثل هذا اللون في تفسير القرآن الكريم في جدته وتجدده سيكون له خصوم، وسيكون له أنصار، يلتمس كل منهم دليلًا ينصر به رأيه ويؤيده به، ثم يكر على دليل الخصم فيبطله. وقد كان هذا الأمر في التفسير العلمي للقرآن الكريم منذ لحظات بزوغه، ونحن وإن كنا لا نعرف هذا الحدث باليوم أو بالسنة، إلا أن العلماء اتفقوا على أن الإمام الغزالي -المتوفَّى سنة 505هـ- من أوائل المتكلمين في هذا النوع من التفسير؛ وعلى هذا فيكون ظهوره على وجه التقريب في أواخر القرن الخامس الهجري، واتفقوا أيضًا على أن الغزالي نفسه أكثر مَن استوفى بيان هذا القول إلى عهده1. ومما لا شك فيه أن الإمام الغزالي لم يكن وحيدًا في الميدان يجول ويصول،   1 انظر مثلًا: التفسير معالم حياته: أمين الخولي ص20، والتفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص140، ولمحات في علوم القرآن: محمد الصباغ ص203، والتفسير العلمي للقرآن الكريم: عبد الله الأهدل ص85، اتجاهات التفسير في العصر الراهن: عبد المجيد المحتسب ص247، وغيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 فقد نزل معه أنصار، ونازله خصوم، وما زالت المعركة الفكرية قائمة لم تهدأ لها ثائرة، ولم تقعد لها قائمة، ولم تطفأ لها نار. وما دام حديثنا هنا محصورًا في العصر الحديث، فإنه لا يسعنا ونحن ندخل معركة طال عمرها، وسد الأفق غبارها، إلا وأن يكون لدينا علم ومعرفة بما قاله السابقون من الأنصار والخصوم؛ حتى نبدأ الطريق من أوله، ونأتي البيوت من أبوابها. وبما أن الإمام الغزالي من أوائل المتكلمين في ذلك، وهو أيضًا من المؤيدين والمروجين لهذا اللون من التفسير؛ فإنا نبدأ بذكر آراء المؤيدين وبرأيه هو قبلهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 رأي المؤيدين : ونذكر من هؤلاء المؤيدين لهذا التفسير العلمي عددًا من العلماء المسلمين، الذين أظهروا تأييدهم له وأعلنوه، وكانوا من أوائل مطبقيه على نصوص القرآن الكريم؛ ومن هؤلاء: الإمام الغزالي: وقد بسط القول في هذا في كتابيه: إحياء علوم الدين، وجواهر القرآن، فقد عقد في أولهما الباب الرابع من كتاب آداب تلاوة القرآن في: "فهم القرآن وتفسيره بالرأي من غير نقل"، دلل فيه على أن القرآن يشتمل على مجامع العلوم كلها، فقال مثلًا: "اعلم أن مَن زعم أن لا معنى للقرآن إلا ما ترجمه ظاهر التفسير فهو مخبر عن حد نفسه، وهو مصيب في الإخبار عن نفسه؛ ولكنه مخطئ في الحكم برد الخَلْق كافة إلى درجته التي هي حده ومحطه؛ بل الأخبار والآثار تدل على أن في معاني القرآن متسعًا للأرباب الفهم، قال علي -رضي الله عنه-: "إلا أن يؤتي الله عبدًا فهمًا في القرآن"، فإن لم يكن سوى الترجمة المنقولة فما ذلك الفهم، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن للقرآن ظهرًا وبطنًا وحدًّا ومطلعًا"1.   1 سئل ابن تيمية -رحمه الله تعالى- عن حديث: "للقرآن باطن، وللباطن باطن إلى سبعة أبطن"، فقال: "أما الحديث المذكور فمن الأحاديث المختلقة، التي لم يروها أحدٌ من أهل العلم، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث؛ ولكن يُروَى عن الحسن البصري موقوفًا أو مرسلًا "أن لكل آية ظهرًا وبطنًا وحدًّا ومطلعًا". مجموع الفتاوى: لابن تيمية ج13 ص231، 232، وانظر ما كتبته عن الظاهر والباطن في منهج أهل السنة والجماعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 ويُروى أيضًا عن ابن مسعود موقوفًا عليه، وهو من علماء التفسير، فما معنى الظهر والبطن والحد والمطلع؟ وقال علي -كرم الله وجهه-: "لو شئت لأوقرت سبعين بعيرًا من تفسير فاتحة الكتاب"، فما معناه وتفسير ظاهرها في غاية الاقتصار، وقال أبو الدرداء: لا يفقه الرجل حتى يجعل للقرآن وجوهًا، وقد قال بعض العلماء: لكل آية ستون ألف فَهْم، وما بقي من فهمها أكثر، وقال آخرون: القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم؛ إذ كل كلمة علم، ثم يتضاعف ذلك أربعة أضعاف؛ إذ لكل كلمة ظاهر وباطن وحد ومطلع، وترديد رسول الله صلى الله عليه وسلم "بسم الله الرحمن الرحيم" عشرين مرة1، لا يكون إلا لتدبره باطن معانيها، وإلا فترجمتها وتفسرها ظاهر لا يحتاج مثله إلى تكرير، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "من أراد علم الأولين والآخرين فليتدبر القرآن"؛ وذلك لا يحصل بمجرد تفسيره الظاهر. وبالجملة، فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله عز وجل وصفاته، وفي القرآن شرح ذاته وأفعاله وصفاته، وهذه العلوم لا نهاية لها، وفي القرآن إشارة إلى مجامعها، والمقامات في التعمق في تفصيله راجع إلى فَهْم القرآن، ومجرد ظاهر التفسير لا يشير إلى ذلك؛ بل كل ما أشكل فيه على النظار، واختلف فيه الخلائق في النظريات والمعقولات، ففي القرآن إليه رموز ودلالات عليه يختص أهل الفَهْم بدركها"2. ثم زاد ذلك بيانًا وتفصيلًا في كتابه جواهر القرآن، وقد اختصر حديثه هذا الأستاذ أمين الخولي3، واختصره أحسن منه الشيخ محمد حسين الذهبي،   1 رواه أبو ذر الهروي في معجمه من حديث أبي هريرة بسند ضعيف. "المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار" للحافظ زين الدين العراقي، ضمن إحياء علوم الدين للإمام الغزالي ج1 ص289. 2 إحياء علوم الدين: أبو حامد الغزالي ج1 ص296. 3 التفسير معالم حياته، منهجه اليوم: أمين الخولي ص20، 21. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 فقال رحمه الله تعالى: "ثم إننا نتصفح كتابه "جواهر القرآن" الذي ألفه بعد الأحياء كما يظهر لنا من مقدمته؛ فنجده يزيد هذا الذي قرره في الإحياء بيانًا وتفصيلًا؛ فيعقد الفصل الرابع منه لكيفية انشعاب العلوم الدينية كلها، وما يتصل بها من القرآن عن تقسيمات وتفصيلات تولاها لا نطيل بذكرها، ويكفي أن نقول: إنه قسم علوم القرآن إلى قسمين: أولًا: علم الصدف والقشر، وجعل من مشتملاته: علم اللغة، وعلم النحو، وعلم القراءات، وعلم مخارج الحروف، وعلم التفسير الظاهر. والثاني: علم اللباب، وجعل من مشتملاته: علم قصص الأولين، وعلم الكلام، وعلم الفقه، وعلم أصول الفقه، والعلم بالله واليوم الآخر، والعلم بالصراط المستقيم وطريق السلوك. ثم يعقد الفصل الخامس منه لكيفية انشعاب سائر العلوم من القرآن؛ فيذكر علم الطب والنجوم وهيئة العالَم وهيئة بدن الحيوان وتشريح أعضائه وعلم السحر وعلم الطلسمات وغير ذلك. ثم يقول: "ووراء ما عددته علوم أخرى يعلم تراجمها ولا يخلو العالَم عمن يعرفها، ولا حاجة إلى ذكرها؛ بل أقول: ظهر لنا بالبصيرة الواضحية التي لا يتمارى فيها أن في الإمكان والقوة أصنافًا من العلوم بعد لم تخرج من الوجود، وإن كان في قوة الآدمي الوصول إليها، وعلوم كانت قد خرجت إلى الوجود واندرست الآن؛ فلن يوجد في هذه الأمصار على بسيط الأرض مَن يعرفها، وعلوم أخرى ليس في قوة البشر أصلًا إدراكها والإحاطة بها، ويحظى بها بعض الملائكة المقربين، فإن الإمكان في حق الآدمي محدود، والإمكان في حق الملَك محدود إلى غاية في الكمال، بالإضافة كما أنه في حق البهيمة محدود إلى غاية في النقصان1؛ وإنما الله سبحانه هو الذي لا يتناهى العلم في حقه". ثم يقول بعد ذلك: "ثم هذه العلوم -ما عددناها وما لم نعدها- ليست   1 فيما نقله الشيخ الذهبي -رحمه الله تعالى- هنا سقط "سبق نظر" أصلحتُه من مرجعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 أوائلها خارجة عن القرآن، فإن جميعها مغترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى وهو بحر الأفعال، وقد ذكرنا أنه بحر لا ساحل له، وأن البحر لو كان مدادًا لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد، فمن أفعال الله تعالى -وهو بحر الأفعال1- مثلًا الشفاء والمرض؛ كما قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} 2، وهذا الفعل الواحد لا يعرفه إلا مَن عرف الطب بكماله؛ إذ لا معنى للطب إلا معرفة المرض بكماله وعلاماته ومعرفة الشفاء وأسبابه. ومن أفعاله تقدير معرفة الشمس والقمر ومنازلهما بحسبان، وقد قال الله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَان} 3، وقال: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} 4، وقال: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} 5، وقال: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} 6، وقال: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} 7. ولا يعرف حقيقة سير الشمس والقمر بحسبان وخسوفهما، وولوج الليل في النهار، وكيفية تكور أحدهما على الآخر، إلا مَن عرف هيئات تركيب السماوات والأرض، وهو علم برأسه، ولا يعرف كمال معنى قوله: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} 8 إلا مَن عرف تشريح الأعضاء من الإنسان ظاهرًا وباطنًا، وعددها وأنواعها وحكمتها ومنافعها، وقد أشار في القرآن في مواضع إليها، وهي من علوم الأولين والآخرين، وفي القرآن مجامع علم الأولين والآخرين. وكذلك لا يعرف كمال   1 إن كان الضمير "هو" يرجع إلى لفظ الجلالة فإن "بحر الأفعال" ليست من أسمائه، ولا من صفاته عند السلف. 2 سورة الشعراء: من الآية 80. 3 سورة الرحمن: من الآية 5. 4 سورة يونس: من الآية 5. 5 سورة القيامة: الآيتين 8، 9. 6 سورة الحج: من الآية 61. 7 سورة يس: من الآية 38. 8 سورة الانفطار: الآيات 6، 7، 8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 معنى قوله: {سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} 1 ما لم يعلم التسوية والنفخ والروح، ووراءها علوم غاضمة يغفل عن طلبها أكثر الخَلْق، وربما لا يفهمونها إن سمعوها من العالِم بها، ولو ذهبت أفصل ما تدل عليه آيات القرآن من تفاصيل الأفعال لطال، ولا تمكن الإشارة إلا إلى مجامعها ... فتفكر في القرآن، والتمس غرائبه؛ لتصادف فيه مجامع علم الأولين والآخرين وجملة أوائله"2. هذه بعض نصوص الإمام الغزالي، وإذا ما تأمل متأمل فيها وجد في نصوصه نحو قوله: "وفي القرآن إشارة إلى مجامعها"، "ففي القرآن إليه رموز وعلامات ودلالات عليه"، "ثم هذه العلوم ما عددناها وما لم نعدها ليست أوائلها خارجة من القرآن"، وأخيرًا قوله: "وفي القرآن مجامع علم الأولين والآخرين". وللمتأمل أن يسأل عن موقف الغزالي؛ إذ إن هذه النصوص الدالة على أن في القرآن رموز ... وعلامات ... ودلالات وأوائل ... ومجامع العلوم لا تدل دلالة كاملة على موقف صاحبها، وإن كانت صريحة في تأييد التفسير العلمي، إلا أنها تقصر عن تحديد مدى هذا التأييد، ولا يهمنا الأمر بقدر ما يهمنا أن هذه النصوص للإمام الغزالي -وهي من أقدم النصوص التي بين أيدينا من هذا النوع- تدل على أن قائلها قد وضع الأسس النظرية للتفسير العلمي، وبعبارة أخرى أصرح وأوضح: إن الغزالي روَّج للتفسير العلمي، ومهد السبيل لمن أراد سلوكه وإن كان هو لم يسكله؛ لكن جاء مِن بعده وقريب منه مَن التزم هذا النوع التزامًا بلغت درجته فيه أن قيل عن تفسيره فيه كل شيء إلا التفسير، ذلكم هو الفخر الرازي. رأي الفخر الرازي "ت 606هـ": والرازي نفسه يحس أنه مكثر من هذا النوع من التفسير؛ فيفترض اعتراضًا ويرد عليه؛ فيقول في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ   1 سورة الحجر: من الآية 29. 2 جواهر القرآن: لأبي حامد الغزالي ص30. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} 1 الآية: "ربما جاء بعض الجهال والحمقى وقال: إنك أكثرت في تفسير كتاب الله تعالى من علم الهيئة والنجوم وذلك ع، لى خلاف المعتاد؛ فيقال لهذا المسكين: إنك لو تأملت في كتاب الله عز وجل حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته، وتقريره من وجوه: الأول: أن الله تعالى ملأ كتابه من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السماوات والأرض، وتعاقب الليل والنهار، وكيفية أحوال الضياء والظلام، وأحوال الشمس والقمر والنجوم، وذكر هذه الأمور في أكثر السور وكررها وأعادها مرة بعد أخرى، فلو لم يكن البحث عنها والتأمل في أحوالها جائزًا لما ملأ الله كتابه منها. والثاني: أن تعالى قال: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} 2، فهو تعالى حث على التأمل في أنه كيف بناها، ولا معنى لعلم الهيئة إلا التأمل في أنه كيف بناها، وكيف خلق كل واحد منها. والثالث: أنه تعالى قال: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 3، فبيَّن أن عجائب الخلقة وبدائع الفطرة في أجرام السماوات أكثر وأعظم وأكمل مما في أبدان الناس. الرابع: أنه تعالى مدح المتفكرين في خلق السماوات والأرض، فقال: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} 4، ولو كان ذلك ممنوعًا منه لما فعل. الخامس: أن مَن صنف كتابًا شريفًا مشتملًا على دقائق العلوم العقلية والنقلية؛ بحيث لا يساويه كتاب في تلك الدقائق، فالمعتقدون في شرفه وفضيلته   1 من سورة الأعراف: من الآية 54. 2 سورة ق: الآية 6. 3 سورة غافر: الآية 57. 4 سورة آل عمران: الآية 191. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 فريقان؛ منهم مَن يعتقد كونه كذلك على سبيل الجملة من غير أن يقف على ما فيه من الدقائق واللطائف على سبيل التفصيل والتعيين، ومنهم مَن وقف على تلك الدقائق على سبيل التفصيل والتعيين، واعتقاد الطائفة الأولى وإن بلغ إلى أقصى الدرجات في القوة والكمال، إلا أن اعتقاد الطائفة الثانية يكون أكمل وأقوى وأوفى، وأيضًا فكل مَن كان وقوفه على دقائق ذلك الكتاب ولطائفه أكثر كان اعتقاده في عظمة ذلك المصنف وجلالته أكمل"1. ولذلك فإن الرازي وقد أبدى رأيه في التفسير العلمي، فإنه أكثر من تطبيقه في تفسيره، وتناول شتى العلوم والمعارف مما يبوئه درجة متقدمة في صفوف مؤيدي التفسير العلمي؛ بل بين متطرفي أنصاره. رأي الزركشي "ت 794هـ": ومن المؤيدين أيضًا الإمام بدرالدين الزركشي، متأثرًا -فيما يبدو لي- بموقف الإمام الغزالي؛ لاتحاد الأدلة وبعض العبارات؛ فقد أورد الزركشي بعض الأقوال التي أوردها الغزالي؛ كقول بعض العلماء: لكل آية ستون ألف فَهْم، وما بقي من فهمها أكثر، وقول آخر: القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم؛ إذ لكل كلمة علم، ثم يتضاعف ذلك أربعة؛ إذ لكل كلمة ظاهر وباطن وحد ومطلع ... ثم عقب الزركشي عن هذه الأقوال وغيرها بقوله: "وبالجملة فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله تعالى وصفاته، وفي القرآن شرح ذاته وصفاته وأفعاله، فهذه الأمور تدل على أن في فهم معاني القرآن مجالًا رحبًا، ومتسعًا بالغًا، وأن المنقول من ظاهر التفسير ليس ينتهي الإدراك فيه بالنقل، والسماع لا بُدَّ منه في ظاهر التفسير؛ ليتقى به مواضع الغلط، ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط والغرائب التي لا تُفهم إلا باستماع فنون كثيرة ... "2. بل إن الإمام الزركشي -رحمه الله تعالى- عقد فصلًا خاصًّا عنونه بقوله: "في القرآن علم الأولين والآخرين"، وقال فيه: "وفي القرآن علم الأولين   1 التفسير الكبير: الفخر الرازي ج14 ص121. 2 البرهان في علوم القرآن: بدر الدين الزركشي ج2 ص154، 155. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 والآخرين، وما من شيء إلا ويمكن استخراجه منه لمن فهمه الله تعالى ... "1. رأي السيوطي "ت 911هـ": وذهب الإمام السيوطي إلى نحو ما ذهب إليه الإمامان: الغزالي والزركشي، وزاد على أدلتهما أدلة أخرى، وقد أفرد النوع الخامس والستين من أنواع علوم القرآن في العلوم المستنبطة من القرآن، ودلل لذلك بقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 2، وقال سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} 3، وقال صلى الله عليه وسلم: "ستكون فتن"، قيل: وما المخرج منها قال: "كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم" أخرجه الترمذي وغيره، وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود قال: من أراد العلم فعليه بالقرآن؛ فإن فيه خبر الأولين والآخرين، وقال البيهقي: يعني أصول العلم4. وقال أيضًا: "وأنا أقول: قد اشتمل كتاب الله العزيز على كل شيء، أما أنواع العلوم فليس منها باب ولا مسألة هي أصل، إلا وفي القرآن ما يدل عليها، وفيه عجائب المخلوقات وملكوت السماوات والأرض، وما في الأفق الأعلى وتحت الثرى، وبدء الخلق، وأسماء مشاهير الرسل والملائكة، وعيون أخبار الأمم السالفة، إلى غير ذلك مما يحتاج شرحه إلى مجلدات"5. رأي ابن أبي الفضل المرسي: وأورد السيوطي -رحمه الله تعالى- لتأييد مذهبه نصًّا طويلًا لابن أبي الفضل المرسي، قال فيه عن القرآن الكريم: "قد احتوى على علوم أخرى من علوم الأوائل؛ مثل: الطب والجدل والهيئة والهندسة والجبر والمقابلة والنجامة وغير ذلك"6.   1 البرهان في علوم القرآن: بدر الدين الزركشي ج2 ص181. 2 سورة الأنعام: من الآية 38. 3 سورة النحل: من الآية 89. 4 الإتقان في علوم القرآن: للإمام السيوطي ج2 ص125، 126. 5 المرجع السابق: ج2 ص129. 6 الاتقان: الإمام السيوطي ج2 ص127. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 ثم ذهب يبين بعض مواضع ذلك؛ فيذكر مدار كل علم، ثم يذكر الآية التي جمعت ذلك حسب رأيه، وزاد على هذا بأن ذكر أن في القرآن أصول الصنائع وأسماء الآلات التي تدعو الضرورة إليها؛ كالخياطة والحدادة والنجارة والغزل والنسج والفلاحة والصيد والغوص والصياغة والزجاجة والفخار والملاحة ... إلخ، وهو يذكر بعد كل مهنة ما يراه شاهدًا لها من القرآن الكريم. كان هذا عرضًا لبعض آراء مؤيدي التفسير العلمي للقرآن الكريم؛ بل اشتماله على كل العلوم وشتى المعارف، ولم يكن هذا مسلمًا لهم ولم يكن سالمًا عن المعارضة والرفض. ولئن أبحث لنفسي بعض الإطناب في ذكر آراء المؤيدين فإني سأكبح من جماحها في ذكر آراء المعارضين، ليس لتأييد فريق على فريق؛ وإنما لأن المعارض هنا هو الإمام الشاطبي الذي أشبع الحديث حتى لم يبقِ مكانًا لمزيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 رأي المعارضين : رأي الشاطبي "ت 790هـ": بدأ الشاطبي -رحمه الله تعالى- حديثه ببيان العلوم التي كانت منتشرة بين العرب وقت نزول القرآن الكريم، ثم بيَّن موقف الشريعة من هذه العلوم بقوله: "فصححت الشريعة منها ما هو صحيح وزادت عليه، وأبطلت ما هو باطل، وبينت منافع ما ينفع من ذلك ومضار ما يضر منه"1. وذكر من ذلك علم النجوم وعلم الأنواء وأوقات نزول المطر وعلم التاريخ وأخبار الأمم الماضية، ثم بيَّن ما كان أكثره باطلًا أو جميعه؛ كعلم العيافة وازجر والكهانة وخط الرمل والضرب بالحصى والطيرة، ومن النوع الأول الطب والتفنن في علوم البلاغة وضرب الأمثال2.   1 الموافقات: للإمام الشاطبي ج2 ص71-76. 2 الموافقات: للإمام الشاطبي ج2 ص71، 72. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 ثم قرر بعد هذا: أن كثيرًا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد؛ فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين من علوم الطبيعيات والتعاليم1 والمنطق وعلم الحروف، وجميع ما ينظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها، وهذا إذا عرضناه -على ما تقدم- لم يصح، وإلى هذا فإن السلف الصالح -من الصحابة والتابعين ومن يليهم- كانوا أعرف بالقرآن ومعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من هذا المدعى سوى ما تقدم، وما ثبت فيه من أحكام التكليف وأحكام الآخرة، وما يلي ذلك ولو كان لهم في ذلم خوض ونظر لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة، إلا أن ذلك لم يكن؛ فدل على أنه غير موجود عندهم، وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشيء مما زعموا2. وبيَّن ذلك في موضع آخر عند ذكر العلوم المضافة إلى القرآن؛ فبعد أن ذكر من العلوم ما هو كالأداة لفهمه والوسيلة لاستخراج فوائده قال: "ولكن قد يدَّعَى فيما ليس بوسيلة أنه وسيلة إلى فهم القرآن، وأنه مطلوب كطلب ما هو وسيلة بالحقيقة، فإن علم العربية أو علم الناسخ والمنسوخ، وعلم الأسباب، وعلم المكي والمدني، وعلم القراءات، وعلم أصول الفقه، معلوم عند جميع العلماء أنها مُعِينَةٌ على فَهْم القرآن، وأما غير ذلك فقد يعده بعض الناس وسيلة أيضًا، ولا يكون كذلك -كما تقدم في حكاية الرازي- في جعل علم الهيئة وسيلة إلى فَهْم قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} 3، وزعم ابن رشد الحكيم في كتابه الذي سماه بـ"فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال" أن علوم الفلسفة مطلوبة؛ إذ لا يفهم المقصود من الشريعة على الحقيقة إلا بها، ولو قال قائل: إن الأمر بالضد مما قال لما بعد في المعارضة.   1 أي: الرياضيات من الهندية وغيرها. 2 الموافقات: الشاطبي ج2 ص79، 80. 3 سورة ق: من الآية 6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 وشاهد ما بين الخصمين شأن السلف الصالح في تلك العلوم: هل كانوا آخذين بها أم تاركين لها أو غافلين عنها؟ مع القطع بتحققهم بفهم القرآن، يشهد لهم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والجم الغفير، فلينظر امرؤ أين يضع قدمه؟ "1. ثم ذكر الشاطبي -رحمه الله تعالى- الرد على أولئك بما خلاصته: "إن ما استدلوا به من الآيات فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد، أو المراد بالكتاب في قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 2 اللوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية، وما يُنقل عن علي -رضي الله عنه- أو غيره في هذا لا يثبت، فليس بجائز أن يُضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، كما أنه لا يصح أن يُنكر منه ما يقتضيه"3. ذلكم موجز رأي الشاطبي -رحمه الله تعالى- ورده على أنصار التفسير العلمي للقرآن الكريم. رأى أبي حيان الأندلسي "ت 745هـ": ونقتصر في بيان رأيه -رحمه الله تعالى- على ذكر مَثَل طريف ضربه مثلًا لمن فسر القرآن بالرأي، فقد انتقد في تفسيره "البحر المحيط" طريقة الرازي في تفسيره وغيره، بقوله: "ونظير ما ذكره الرازي وغيره أن النحوي مثلًا يكون قد شرع في كتاب في النحو، فشرع يتكلم في الألف المنقلبة، فذكر أن الألف في الله أهي منقلبة من ياء أو واو، ثم استطرد من ذلك إلى الكلام في الله تعالى فيما يجب له ويجوز عليه ويستحيل، ثم استطرد من ذلك إلى إعجاز ما جاء به القرآن وصدق ما تضمنه، ثم استطرد إلى أن من مضمومنه البعث والجزاء بالثواب وبالعقاب، ثم المثابون   1 الموافقات: الشاطبي ج3 ص375، 376. 2 سورة الأنعام: من الآية 38. 3 الموافقات: الشاطبي ج2 ص80، 81. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 في الجنة لا ينقطع نعيمهم، والمعاقبون في النار لا ينقطع عذابهم، فبينا هو في علمه يبحث في الألف المنقلبة إذا هو يتكلم في الجنة والنار، ومَن هذا سبيله في العلم فهو من التخليط والتخبيط في أقصى الدرجة. وكان استأذنا العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي -قدس الله تربته- يقول ما معناه: متى رأيت الرجل ينتقبل من فن إلى فن في البحث أو التصنيف؛ فاعلم أن ذلك إما لقصور علمه بذلك الفن، أو لتخليط ذهنه وعدم إدراكه؛ حيث يظن أن المتغايرات متماثلات، وإنما أمعنت الكلام في هذا الفصل لينتفع به مَن يقف عليه، ولئلا يعتقد أنا لم نطلع على ما أودعه الناس في كتبهم في التفسير؛ بل إنما تركنا ذلك عمدًا، واقتصرنا على ما يليق بعلم التفسير، وأسأل الله التوفيق والصواب"1. وذلكم رأيه لا أظنه بحاجة إلى بيان، يرفض هذا اللون ويرفض القول به، لا عجزًا عنه؛ وإنما عمدًا وقصدًا لعدم الخروج عن حدود التفسير المقبول عنده. وحتى لا نبهت القوم حقهم، ونحن نريد هنا الحديث عن موقف العلماء المعاصرين فيعتقد معتقد أن لا فرق بين المؤيدين القدامى والمعاصرين، فعلينا أن نعلن هنا حقيقة في حق العلماء السابقين الذين أجازوا مبدأ تفسير القرآن بالعلوم؛ تلكم هي أننا لا نكاد نصادف في آثارهم العلمية محاولات تطبيقية تلح على الربط بين النظرية العلمية والحقيقة القرآنية كما نجد في آثار علمائنا المعاصرين، ذلك أن شغلهم الشاغل في ذلك الوقت كان الاقتباس مما نقل إليهم من التراث اليوناني والانتفاع بمقولاته الفلسفية والمنطقية في تأكيد الحقيقة الدينية لتستقيم لهم قضية التوفيق بين العقل والنقل2. أما في العصر الحديث، فإن الذين يؤيدون هذا الاتجاه العلمي في التفسير يزعمون أن القرآن يشير إلى مستحدثات الاختراع، وما يحقق بعض غوامض العلوم الطبيعية، ولعل متحققًا بهذه العلوم الحديثة لو تدبر القرآن وأحكم النظر   1 البحر المحيط: أبو حيان الأندلسي ج1 ص341. 2 الفكر الديني في مواجهة العصر: عفت محمد الشرقاوي ص422، 423. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 فيه وكان بحيث لا تعوزه أداة الفَهْم، ولا يلتوي عليه أمر من أموره؛ لاستخرج منه إشارات كثيرة تومئ إلى حقائق العلوم1، فلا يكاد يجدُّ اختراع، أو يظهر اكتشاف، أو تُنَظَّر نظرية، إلا ويعيدون النظر والبحث في آيات القرآن، وكأنهم على موعد مؤكد مع آية قرآنية يطبقونها على هذا أو ذاك، زاعمين أن القرآن نص على هذا قبل كذا وكذا من القرون. بمعنى آخر: إن السابقين جعلوا الحقيقة القرآنية اصلًا، ذكروا ما يؤيد هذه الحقيقة من نظريات أو حقائق علممية، وإن المعاصرين جعلوا النظريات أو الحقائق العلمية أصلًا يدعمونها ويفسرونها بآيات قرآنية قد تؤيدها صراحة أو يفهم منها ذلك، وقد لا تدل على شيء من هذا؛ فيتكلفون في التوفيق بين هذا وذاك. وحقيقة أخرى -خاصة- أني لا أقصد فيما قلت هنا بـ"السابقين" أو بـ"المعاصرين" العموم والشمول؛ وإنما أردت غالبهم، وما هم بقليل.   1 إعجاز القرآن والبلاغة النبوية: مصطفى صادق الرافعي ص142. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 موقف العلماء المعاصرين من التفسير العلمي التجريبي مدخل ... موقف العلماء المعاصرين من التفسير العلمي التجريبي: ولا زالت المعركة العلمية هذه مشتعلة؛ بل زاد لهبها، واشتعل أوارها، وتنوع وتطور سلاحها، وتطرف المتطرفون، واعتدل المعتدلون. وقال أحد المتطرفين ولم يستثنِ أحدًا: "إن دراسة القرآن في العصور الخالية كانت تكلفية، وقراءة سطحية، وعلومًا لفظية، فعكف الناس على الألفاظ، وكثر الحفاظ، وقَلَّ المفكرون؛ فجمدت القرائح، وماتت العلوم"2؛ بل دعا العلماء إلى التفطن لما ذكره وتفسير القرآن نحو تفسيره: "وإن لم يفعلوا ذلك لم تعش الأمم الإسلامية قرنًا واحدًا؛ بل تفنيها الأمم الأجنبية"1. وقال متطرف آخر من الناحية الأخرى، وهو وإن تطرف في الرفض؛ لكنه   1 الجواهر في تفسير القرآن الكريم: طنطاوي جوهري ج2 ص211. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 لم يتطرف في العبارة كتطرف السابق؛ فقد اكتفى بأن وصف التفسير العلمي بأنه "بدعة حمقاء"1، ووصفه بأنه "التفسير الحرباوي"2؛ لأنه يعتقد أن صاحبه يغير تفسيره حسب تغير العلوم وتجدد النظريات. وإذا ما تأمل متأمل وتدبر في أقوال متعصبي الفريقين لرأى رأي العين أن الفريقين لا يتكلمون لغة واحدة، ويصول كل منهم ويجول في غير ميدان الآخر، ولو أزالوا على أعينهم غشاوة التعصب لرأوا فيما بينهم جزيرة خضراء، فيها الثمر الداني، والهواء العليل، والماء القراح، يمكن أن يلتقوا فيها، ففيها متسع لآرائهم، وفيها مجال لأقوالهم؛ بحيث تكون كلمتهم واحدة، وموقفهم واحدًا. وإذا ما تأمل وتدبر مرة أخرى؛ فإنه سيجد أن العلماء وإن كانوا ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: 1- متطرفين في التأييد. 2- متطرفين في الرفض. 3- معتدلين. فإنه إذا تدبر سيجد أنهم ينقسمون حقيقة إلى قسمين من حيث القبول والرد؛ فالقسم الأول والقسم الثالث كلاهما يقبل التفسير العلمي وإن اختلفت درجتهما في القبول، والقسم الثاني يرفضه، ومن هذا التقسيم الأخير سيكون منطلقنا لعرض آراء العلماء في العصر الحديث في ذلك.   1 الذكر الحكيم: محمد كامل حسين ص182. 2 المرجع السابق: ص186. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 أقوال المؤيدين : وليس من السهل ولا من المقبول أن نبسط القول لكل قائل به؛ بل نقتصر من كلامه ونعتصر ما فيه الدلالة؛ فمن هؤلاء: الجواهري: وإنما نبدأ به لكونه قد أصبح عَلَمًا في هذا اللون من التفسير، لا يكاد يذكر هذا إلا ويذكر ذاك، وإن كنا سنعرض له بدراسة خاصة ولتفسيره، فإنا نذكر هنا بعض عباراته لتأييد هذا اللون من التفسير، فمن ذلك قوله مثلًا: "يا أمة الإسلام، آيات معدودات في الفرائض اجتذبت فرعًا من علم الرياضيات، فما بالكم -أيها الناس- بسبعمائة آية، فيها عجائب الدنيا كلها، الله أكبر، جل العلم وجلت الحكمة، هذا زمان العلوم، هذا زمان ظهور نور الإسلام، هذا زمان رقيه، يا ليت شعري لماذا لا نعمل في آيات العلوم الكونية ما فعله آباؤنا في آيات الميراث؛ ولكني أقول: والحمد لله إنك تقرأ في هذا التفسير خلاصات من العلوم ودراستها أفضل من دراسة علم الفرائض؛ لأنه فرض كفاية. فأما هذه فإنها للازدياد في معرفة الله، وهي فرض عين على كل قادر. إن هذه العلوم التي أدخلناها في تفسير القرآن هي التي أغفلها الجهلاء المغرورون من صغار الفقهاء في الإسلام، فهذا زمان الانقلاب وظهور الحقائق، والله يهدي مَن يشاء إلى سواء الصراط"1. ويقول أيضًا: "لماذا ألَّف علماء الإسلام عشرات الألوف من الكتب الإسلامية في علم الفقه، وعلم الفقه ليس له في القرآن إلا آيات قلائل، لا تصل مائة وخمسين آية، فلماذا كثر التأليف في علم الفقه وقل جدًّا في علوم الكائنات التي لا تخلو منها سورة؛ بل هي تبلغ 750 آية صريحة، وهناك آيات أخرى دلالتها تقرب من الصراحة، فهل يجوز في عقل أو شرع أن يبرع المسلمون في علم آياته قليلة ويجهلون علمًا آياته كثيرة جدًّا، إن آباءنا برعوا في الفقه؛ فلنبرع نحن الآن في علم الكائنات، لنقم به لترقى الأمة"2.   1 الجواهر في تفسير القرآن الكريم: طنطاوي جوهري ج3 ص19، 20. 2 المرجع السابق: ج25 ص55، 56. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 رأي الإسكندراني: وهو محمد بن أحمد الإسكندراني، صاحب كتاب "كشف الأسرار النورانية القرآنية فيما يتعلق بالأجرام السماوية والأرضية والحيوانات والنباتات والجواهر المعدنية"، وهو تفسير لا يقل عن تفسير الجواهر السابق في توسعه العلمي، وقد ألمح في مقدمته القصيرة للتفسير عن موضع علم التفسير بقوله: "فموضوع علم التفسير كلام الله تعالى الذي يُتوصل به إلى معرفة الأجرام السماوية والأرضية، والمولدات الثلاثة والتوحيد والأحكام الشرعية، وغايته معرفة جمع الأحكام المستنبطة من الآيات الشريفة القرآنية، فمنفعته عامة لعموم الاحتياج إليه، وفائدته مطلوبة لترتب بقاء الأحكام عليه؛ فلذلك كانت معرفته من أقرب الوسائل إلى الاعتراف بالخالق ذي الصفات العلية، ولا شك أن لهذه الأجرام المشار إليها والآثار مؤثر؛ وهو الإله الموجد للعقول والنفوس والأجسام الفلكية والعنصرية"1. رأي الكواكبي: وعبد الرحمن الكواكبي يرى أن القرآن الكريم سبق علماء أوربا وأمريكا بثلاثة عشر قرنًا إلى كثير من الاكتشافات التي تعزى إليهم، فيقول: "إن العلم كشف في هذه القرون الأخيرة حقائق وطبائع كثيرة، تُعزى لكاشفيها ومخترعيها من علماء أوربا وأمريكا، والمدقق في القرآن يجد أكثرها ورد به التصريح أو التلميح في القرآن منذ ثلاثة عشر قرنًا، وما بقيت مستورة تحت غشاء من الخفاء إلا لتكون عند ظهورها معجزة للقرآن، شاهدة بأنه كلام ربٍّ لا يعلم الغيب سواه"2. رأي محمد مصطفى المراغي: وأيَّد التفسير العلمي الشيخ محمد المراغي فقال في مقدمته لكتاب "الإسلام والطب الحديث": "قرأت لسعادة الطبيب النطاسي عبد العزيز إسماعيل باشا   1 كشف الأسرار النورانية: محمد أحمد الإسكندراني ج1 ص3. 2 طبائع الاستبداد: عبد الرحمن الكواكبي ص44. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 نتفًا مما كان يُكتب له بمجلة الأزهر تحت عنوان "الإسلام والطب الحديث"؛ فأعجبني منه ما توخاه من التوفيق بين معاني بعض الآيات القرآنية الكريمة وبين مقررات الطب الحديث، وحمدت له هذه النزعة العلمية التي لو تحلى بها كل مبرز في فرع من فروع العلم؛ لاجتمع لدينا ذخر عظيم من هذه التطبيقات الثمينة، تستفيد منه النابتة الحديثة زيادة معرفة بإعجاز القرآن، وإيقان بأن الله ما فرط في كتابه من شيء. لست أريد من هذا أن أقول: إن الكتاب الكريم اشتمل على جميع العلوم جملة وتفصيلًا بالأسلوب التعليمي المعروف؛ وإنما أريد أن أقول: إنه أتى بأصول عامة لكل ما يهم الإنسان معرفته والعمل به؛ ليبلغ درجة الكمال جسدًا ورُوحًا، وترك الباب مفتوحًا لأهل الذكر من المشتغلين بالعلوم المختلفة؛ ليبينوا للناس جزئياتها بقدر ما أوتوا منها في الزمان الذي هم عائشون فيه"1. رأي محمد رشيد رضا: أما الشيخ محمد رشيد رضا فيعد هذا نوعًا من أنواع الإعجاز للقرآن، فيقول: "الوجه السابع: اشتمال القرآن على تحقيق كثير من المسائل العلمية والتاريخية التي لم تكن معروفة في عصر نزوله، ثم عرفت بعد ذلك بما انكشف للباحثين والمحققين من طبيعة الكون وتاريخ البشر وسنن ذلك في الخَلْق"2، ثم ذكر الأمثلة لذلك. رأي محمد فريد وجدي: وقال الأستاذ وجدي: "من مطالب الأوساط من الدين أن يكون مرنًا يتسع لما يجد من الآراء العلمية ولا يستعصي على ما يثبت أو يرجح من المذاهب الفلسفية، ولا ما يقوم الدليل عليه من الشئون الكونية، والواقع أنه قليل على الإسلام أن يُوصف بالمرونة وسَعَة الصدر للآراء والمذاهب والكونيات؛ لأنه دين   1 الإسلام والطب الحديث: عبد العزيز إسماعيل، مقدمة الشيخ محمد مصطفى المراغي ص5، 6. 2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص210. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 انطلاق وتعقل وتفكير ومطالبة بالفَهْم وبالدليل، وإشعار بالتبعية الشخصية، ونهي عن التقليد"1. وقال في موضع آخر: "وخير ينبوع يستمد منه العلم كتاب الله عز وجل، فهو الخضم الغطمطم2 الذي لا ساحل له"، ثم قال: "هنا يتغالى بعضهم فيسألون: هل للتليفون والتلغراف والراديو ... إلخ إلخ من ذكر في القرآن، مصدقًا لقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 3؟ هذا التغالي ناشئ من سوء فَهْم الآية الكريمة، قال العلامة البيضاوي في تفسيرها: "المراد بالكتاب هنا اللوح المحفوظ، فإنه مشتمل على ما يجري في العالَم من الجليل والدقيق ... أو القرآن فإنه قد دون فيه ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلًا أو مجملًا". فأنت ترى أن المفسرين لم يفهموا من هذه الآية ما يريد أن يفهمه الناس اليوم؛ من أن القرآن يحوي كل شيء لفظًا ومعنى، وكل ما يكتشف من العلم في سائر الوجود إلى يوم القيامة إشارة وعبارة؛ لذلك يتكلف المسئولون عن ورود المكتشفات الجديدة في الكتاب أجوبة يصرفون فيها بعض الآيات عن معانيها؛ لتنطبق على ما يسألون عنه مما لا عَلاقة لها به ألبتة"4. رأي جمال الدين القاسمي: أما الشيخ جمال الدين القاسمي فقد عقد في مقدمته لتفسيره فصلًا بعنوان: "فصل في بيان دقائق المسائل العلمية الفلكية الواردة في القرآن الكريم"، جاء فيه بعد ان فسَّر بعض الآيات تفسيرًا علميًّا: "فالناس قديمًا فهموا أمثال هذه الآية   1 الإسلام دين الهداية والإصلاح: محمد فريد وجدي ص51. 2 قال في لسان العرب: "الغطم: البحر العظيم الكثير الماء ... والغَطْمَطَة: التطام الأمواج". 3 سورة الأنعام: من الآية 38. 4 القرآن ينبوع العلوم والعرفان: علي فكري من تقريظ الأستاذ محمد فريد وجدي ص8، 9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 بما يوافق علومهم، حتى إذا كشف العلم الصحيح عن حقائق الأشياء علمنا أنهم كانوا واهمين، وفهمنا معناها الصحيح، فكأن هذه الآيات جعلت في القرآن معجزات للمتأخرين تظهر لهم كلما تقدمت علومهم"1. رأي مصطفى صادق الرافعي: أما الرافعي فيقول عن إعجاز القرآن الكريم العلمي وتفسيره به: "ولعل متحققًا بهذه العلوم الحديثة لو تدبر القرآن وأحكم النظر فيه وكان بحيث لا تعوزه أداة الفَهْم، ولا يلتوي عليه أمر من أمره؛ لاستخرج منه إشارات كثيرة تومئ إلى حقائق العلوم، وإن لم تبسط من أنبائها، وتدل عليها وإن لم تسمها بأسمائها"2. رأي محمود شكري الألوسي: قال في مقدمة كتابه "ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان": "اعلم أن الشريعة الغراء لم ترد باستيعاب قواعد العلوم الرياضية؛ إنما وردت بما يستوجب سعادة المكلفين في العاجل والآجل، وبيان ما يتوصلون به إلى الفوز بالنعيم المقيم، وربما أشارت لهذه الأغراض إلى ما يستنبط منه بعض القواعد الرياضية. وقد ورد القرآن الكريم -في بيان ذلك- بما خاطب به العرب مما يعلمونه من علوم تلقوها خلفًا عن سلف، فقد كانت لهم علوم ذكرناها في الكتاب الذي ألفناه في بيان أحوالهم"3. رأي عبد الحميد بن باديس: وقال الشيخ عبد الحميد: "من أساليب الهداية القرآنية إلى العلوم الكونية أن يعرض علينا القرآن صورًا من العالَم العلوي والسفلي في بيان بديع   1 محاسن التأويل: محمد جمال الدين القاسمي ج1 ص337. 2 إعجاز القرآن والبلاغة النبوية: مصطفى صادق الرافعي ص142. 3 ما دل عليه القرآن: محمود شكري الألوسي ص11. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 جذاب، يشوقنا إلى التأمل فيها والتعمق في أسرارها، وهنا1 يذكر لنا ما خبأه في السماوات والأرض لنشتاق إليه، وننبعث في البحث عنه، واستجلاء حقائقه ومنافعه، بدافع غريزة حب الاستطلاع، ومعرفة المجهول، وبمثل هذا انبعث أسلافنا في خدمة العلم، واستثمار ما في الكون إلى أقصى ما استطاعوا، ومهدوا بذلك السبيل لمن جاء بعدهم، ولن نعز عزهم إلا إذا فهمنا الدين فَهْمهم وخدمنا العلم خدمتهم"2. وقال في موضع آخر: "لنقف خاشعين متذكرين أمام معجزة القرآن العلمية؛ ذلك الكتاب الذي جعله الله حجة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وبرهانًا لدينه على البشر مهما ترقوا في العلم وتقدموا في العرفان ... "3. رأي محمد أحمد الغمراوي: أما الأستاذ الغمراوي فهو يرى أن الإعجاز العلمي هو الذي لا يتوقف تقديره والتسليم به على معرفة لغة لا تتيسر معرفتها لكل أحد، ويرى أيضًا أن الناحية العلمية هذه تشمل كل النواحي ما عدا الناحية البلاغية، فتشمل الناحية النفسية والتشريعية والتاريخية والكونية. ثم قال: "هذه النواحي هي التي ينبغي أن يشمر المسلمون للكشف عنها وإظهارها للناس في هذا العصر الحديث، ولن يستطيعوا ذلك على وجهه حتى يطلبوا العلوم كلها؛ ليستعينوا بكل علم على تفهم ما اتصل به من آيات القرآن، ويستعينوا بها جميعًا على استظهارأسرار آيات القرآن التي اتصلت بالعلوم جميعًا، ولا غرابة في أن يتصل القرآن بالعلوم جميعًا؛ فما العلوم إلا نتاج تطلب الإنسانية أسرار الفطرة، والقرآن ما هو إلا كتاب الله فاطر الفطرة، فلا غرو أن يتطابق القرآن والفطرة، وتتجاوب كلماتها وكلماته، وإن كانت كلماتها   1 ورد هذا النص في تفسيره لقوله تعالى: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل: 25] . 2 تفسير ابن باديس في مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير: عبد الحميد بن باديس ص460. 3 المرجع السابق ص60. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 وقائع وسننًا، وكلماته عبارات وإشارات تتضح وتنبههم طبق ما تقتضيه حكمة الله في مخاطبة خَلْقه؛ ليأخذ منها كل عصر على قدر ما أوتي من العلم والفَهْم، وكذلك دواليك على مر العصور ... ". إلى أن قال: "هذا النوع من الإعجاز يعجز الإلحاد أن يجد موضعًا للتشكيك فيه، إلا أن يتبرأ من العقل؛ فإن الحقيقة العلمية -التي لم تعرفها الإنسانية إلا في القرن التاسع عشر أو العشرين مثلًا، والتي ذكرها القرآن- لا بُدَّ أن تقوم عند كل ذي عقل دليلًا محسوسًا على أن خالق هذه الحقيقة هو منزل القرآن"1. رأي الدكتور عبد العزيز إسماعيل: ويرى الطبيب عبد العزيز إسماعيل في كتابه "الإسلام والطب الحديث" أن من إعجاز القرآن فصاحته، وأن المتأخرين أمثالنا أكثرهم لا يقدر الفصاحة حق تقديرها لعدم تبحرهم فيها، وأنه لهذا كان من الضروري إظهار إعجاز القرآن من نواحٍ أخرى "فالقرآن ليس بكتاب طب أو هندسة أو فلك؛ ولكنه يشير أحيانًا إلى سنن طبيعية ترجع إلى هذه العلوم، وبما أنه صادر من واضع السنن كلها كان جميع ما جاء فيه حقًّا لا شبهة فيه، وإن لم يكن ذلك مدركًا وقت نزوله إلا على طريق الإجمال أو التأويل؛ لعدم استبحار العلوم إذ ذاك؛ ولكن مع الترقي في العلوم قلما كان يعمد إلى تأويله، وكثر ما وجب أخذه على ظاهره في ذلك العهد". إلى أن قال منبهًا: "ويجب أن أنبه إلى نقطة هامة؛ وهي أن العلوم مهما تقدمت فهي عرضة للزلل، فينبغي ألا يطبق على الآيات الكريمة إلا ما يكون قد ثبت ثبوتًا قطعيًّا ولم يقبل الشك، فكثير من النظريات العلمية عرضة للتغيير والتبديل، وهذه لا يجوز تطبيقها على الآيات حتى ولو اتفقت مع ظاهرها؛ إنما يطبق منها ما يكون قد اجتاز دور النظريات وصار حقيقة ثابتة لا شك فيها"2. رأي حنفي أحمد: وفي كتابه التفسير العلمي للآيات الكونية في القرآن يرى الأستاذ حنفي   1 الإسلام في عصر العلم: محمد أحمد الغمراوي ص257-259. 2 الإسلام والطب الحديث: الدكتور عبد العزيز إسماعيل ص13، 14. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 أحمد أن الحديث في القرآن عن الكائنات جاء كما جاء غيره من الأحاديث مناسبًا لجميع الناس على اختلاف درجات عقولهم وأفهامهم. ثم قال: "ولكن المتأملين في هذا الحديث من أهل العلم والخبرة بالكائنات يرون في ألفاظه وعباراته فوق معانيها الظاهرة معاني أخرى دقيقة، تنطوي على أصول وجوامع من العلم الواسع الدقيق عن الكائنات الذي لم يكن معروفًا للناس من قبل، ولم يتعرفوا عليه إلا تدريجًا بعد انتشار العلم الحديث بينهم في القرنين الأخيرين، وتنكشف هذه المعاني الدقيقة لهؤلاء المتأملين من أصحاب العقول الراجحة على ضوء علمهم الخاص، إما من صريح النص حينًا وإما من إشارات ورموز فيه حينًا آخر1. رأي عبد الرزاق نوفل: أما الأستاذ عبد الرزاق نوفل، فكل كتبه حديث عن الإعجاز العلمي إلا القليل منها، وجاء في أحد مؤلفاته قوله: "إن من ضمن أوجه إعجازه التي تخرص ألسنة كل مكابر الإعجاز العلمي؛ فقد أثبت التقدم الفكري في العلوم في العصر الحديث أن القرآن كتاب علم، قد جمع أصول كل العلوم والحكمة، وكل مستحدث من العلم نجد أن القرآن قد وجه إليه النظر أو أشار إليه ... "2. رأي محمد متولي الشعراوي: أما الشيخ محمد متولي الشعراوي، فيرى أن القرآن الكريم مزَّق حواجز الغيب الثلاثة ... مزق حجاب الزمن الماضي، وروى لنا بالتفصيل تاريخ الرسل وحوادث مَن سبقنا مِن الأمم ... ومزق حجاب المكان، وروى لنا ما يدور داخل نفوس الكفار، والذين يحابرون الإسلام ... ومزق حجاب المستقبل القريب، وتنبأ بأحداث ستقع بعد شهور. ثم قال: "ثم بعد ذلك مزق القرآن حجاب المستقبل البعيد؛ ليعطي الأجيال القادمة من إعجازه ما يجعلهم يصدِّقون القرآن ويسجدون لقائله وهو الله؛ ولكن القرآن نزل في زمن لو أن هذه المعجزات المستقبلة جاءت تفصيلية لكفر عدد من المؤمنين، وانصرف   1 التفسير العلمي للآيات الكونية في القرآن: حنفي أحمد ص5، 6. 2 القرآن والعلم الحديث: عبد الرزاق نوفل ص23. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 آخرون؛ ذلك أن الكلام كان فوق طاقة العقول في ذلك الوقت؛ ومن هنا وحتى لا يخرج المؤمن عن إيمانه، ويستمر الإعجاز جاء القرآن بنهايات النظريات، بقمة نواميس الكون إذا تليت على المؤمنين في ذلك الوقت ... مرت عليهم ولم ينتبهوا إلى مدلولها الحقيقي العلمي، وإذا قيلت بعد ذلك على الأجيال القادمة عرفوا ما فيها من إعجاز، وقالوا: إن هذا الكلام لا يمكن أن يقوله شخص عاش منذ آلاف السنين؛ إذًا لَا بُدَّ أن هذا القرآن حق من عند الله، وأن قائله هو الله الخالق"1. رأي محمود أبو الفيض المنوفي: وذلك في كتابه "القرآن والعلوم الحديثة"، قال فيه: "إن العلم في عصرنا الحاضر قد كشف عن حقائق قرآنية كثيرة وردت في آياتٍ من كتاب الله قبل أن يرتقي العلم ويشب عن الطوق"2. وعقد في موضع آخر فصلًا بعنوان: "في أن القرآن هو الإمام الذي أحصى الله فيه كل شيء تصريحًا أو تلميحًا"، وجاء فيه قوله عن القرآن الكريم: "إنه أول كتاب ديني تصدَّى للكلام عن أصول المعارف العلمية والفلسفية أحيانًا تلميحًا وأخرى تصريحًا، ومرة إجمالًا وأخرى تفصيلًا، وكان ذلك طبعًا قبل أن يكتشف العلم أسلوبه الحديث، وقبل أن يخلق العلماء المحدثون، وقد تكلم القرآن إجمالًا عن الكائنات السماوية والأرضية في مجموعها من ألغاز إلى السدم إلى الكواكب والشموس والأفلاك والشهب والنيازك، وعن شمسنا ونظامنا وانشقاق الأرض عنها وباقي السيارات وتوابعها، وتكلم عن بقية الخليقة من جماد ونبات وحيوان، وكيفية تكوين الجنينين النباتي والحيواني وجنين الإنسان ... "3.   1 معجزة القرآن: محمد متولي الشعراوي ص38، 39. 2 القرآن والعلوم الحديثة: محمود أبو الفيض المتوفي ص18. 3 القرآن والعلوم الحديثة: محمود أبو الفيض المنوفي ص49، 50. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 رأي محمود أحمد مهدي: قال في كتابه البرهان من القرآن: "في القرآن الكريم 750 آية كونية تشرح بإيجاز خلاصة ما أكن الله سبحانه في العوالم الكونية من تراكيب مادية بدقة تدق على العقل، أوجد بها هذه المكونات من سماء وأرض ونبات وحيوان"1. وقال في موضع آخر: "والآن ونحن في أواخر القرن العشرين، هذا القرن الذي بلغ بزعم عرفائه القمة من إدراك العلم وتحقيق غاياته، يجب أن نواتر من الآيات القرآنية ما يتوافق مع الكشوف العلمية المستحدثة، وما يرد العلم رغمًا عنه إلى الموافقة على عظمة القرآن الكريم، مقارنين كل آية بما يقابلها من التحقيق العلمي الحاضر"2. رأي محمد بن سعيد الدبل: وعدَّد الأستاذ محمد الدبل وجوه الإعجاز في القرآن الكريم، وعَدَّ منها الإعجاز العلمي، وقال عنه: "وقد سلك القرآن الكريم في هذا الوجه طريقة الاستدلال على خالق الكون ومنشئه استدلالًا فطريًّا يتناسب مع جميع العقول والأفهام؛ فتحدثت آياته عن كل ما يحيط بالإنسان من عجائب هذا الكون، تحدث عن الأرض والسماء، والليل والنهار، والشمس والقمر، وعن الجبال والبحار، والرياح والنبات والحيوان، وعن الإنسان نفسه، ذلك الآدمي الذي يسخر تلك المخلوقات فيما يزود به معاشه بقدرة الخالق الحكيم، كما أشار القرآن إلى حقائق أماط اللثام عن الحكمة من وجودها، وأشار إلى حقائق تارة بالتلميح وتارة بالتصريح ومرة بالإجمال وأخرى بالتفصيل"3. رأي الشيخ عبد العزيز بن خلف آل خلف: قال في كتاب له شحنه بالتفسير العلمي: "فقد أنزل الله القرآن العزيز تبيانًا؛ أي: مبين، ودليل على كل ما يمكن أن يقال له شيء من جميع ما في السماوات   1 البرهان من القرآن: محمود أحمد مهدي ص47، 48. 2 المرجع السابق ص46. 3 النظم القرآني في سورة الرعد: محمد بن سعد الدبل ص29. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 وما في الأرض"1. وقال: "إنه من الواجب على المسلمين -الفرد منهم والجماعة، وعلى أولي العلم أوجب- أن يفتشوا في طياته؛ حتى يظهر الدليل القطعي على كل صغير وكبير، ونطبق معانيه المباركة على صيرورة تلك المستحدثات المصنوعة التي بهرت عقول الجاهلين، كل فرد بمفرده؛ حتى تكون صيرورتها معجزات متتابعات من معجزات القرآن العزيز"2. وقال: "إن من الحق الذي لا ريب فيه أن القرآن العزيز قد حمل في طياته للبشرية كل هدى، وكل دليل بارز على كل أمر يحدث في هذا الكون ديني أو دنيوي للنفع أو للضرر"1. رأي الدكتور محمد عبد الله دراز: قال الدكتور دراز في كتابه "مدخل إلى القرآن الكريم" تحت عنوان حقائق علمية: "ولكن القرآن في دعوته إلى الإيمان والفضيلة لا يسوق الدروس من التعاليم الدينية والأحاديث الجارية وحدها؛ وإنما يستخدم في هذا الشأن الحقائق الكونية الدائمة، ويدعو عقولنا إلى تأمل قوانينها الثابتة، لا بغرض دراستها وفَهْمِها في ذاتها فحسب؛ وإنما لأنها تذكِّر بالخالق الحكيم القدير، ونلاحظ أن هذه الحقائق التي يقدمها تتفق تمامًا مع آخر ما توصل إليه العلم الحديث"، ثم ذكر -رحمه الله تعالى- أمثلة لذلك. وعلق على ذلك بقوله: "ولكن الحماس دفع بعض المفسرين المحدثين إلى المبالغة في استخدام هذه الطريقة التوفيقية لصالح القرآن؛ بحيث أصبحت خطرًا على الإيمان ذاته؛ لأنها إما أن تقلل من الاعتماد على معنى النص باستنطاقه ما لا تحتمله ألفاظه وجمله، وإما أن تعول أكثر مما يجب على آراء العلماء، وحتى على افتراضاتهم المتناقضة، أو التي يصعب التحقيق من صحتها.   1 دليل المستفيد على كل مستحدث جديد: الشيخ عبد العزيز بن خلف بن عبد الله آل خلف ج1 ص68. 2 المرجع السابق ج1 ص70. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 وبعد أن نستبعد هذه المبالغات عن البحث نرى أن من مقتضيات الإيمان -التي لا غنى عنها- أن نضاهي الحقائق الفورية التي نجدها في القرآن مع نتائج العلماء المنهجية البطيئة"1. رأي حسن البنا: قسَّم -رحمه الله تعالى- المقررات العلمية إلى قسمين: قسم تظاهرت عليه الأدلة وتوافرت الحجج؛ حتى كاد يلحق بالبدهيات، وقسم لا زال في طور البحث العلمي، وكل الذي بين يدي العلماء الكونيين منه فروض تؤيدها بعض القرائن التي لم ترقَ إلى مرتبة الأدلة القاطعة أو الحجج المقنعة، فما كان من القسم الأول فلا شك أن ما أشار إليه القرآن الكريم منه يوافق كل الموافقة ويطابق كل المطابقة ما عرفه العلماء الكونيون؛ حتى إنه من الحق أن يقال: إن ذلك من إعجاز هذا الكتاب الذي جاء به أمي لم يتعلم في مدرسة، ولم يلتحق بجامعة من الجامعات، ومن أمثلة ذلك إشاراته إلى أطوار الجنين، وتلقيح الرياح، وتَكَوُّن السحاب وصلته بالرياح ... إلخ. وما كان من القسم الثاني فمن التجني وظلم الحقيقة أن يوازن بينه وبين ما جاء في القرآن الكريم، فلننتظر حتى يطمئن العلم الكوني إلى ما بين يديه2. وبعد: هذه إشارات لآراء بعض مؤيدي التفسير العلمي، ولا شك أني أكثرت من عددهم وإن لم أكن أطلت في بسط آراء كل منهم وعمدًا أكثرت، وقصدًا أوجزت؛ وإنما فعلت ما فعلت لأمور خمسة أمست الكفاية في بعضها قائمة وحجة أحسبها لي. أول هذه الأمور: أني قصدت بيان مدى انتشار القول بالتفسير العلمي في العصر الحديث، وأنه قد أصبح شائعًا وأضحى مطروقًا. وثانيها: أني قصدت بيان توزعهم زمنًا؛ حتى كان فيهم مَن تُوفي أوائل   1 مدخل إلى القرآن الكريم: الدكتور محمد عبد الله دراز ص176، 177. 2 مقدمة في التفسير مع تفسير الفاتحة وأوائل سورة البقرة: حسن البنا ص21. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 القرن الرابع عشر، ومنهم مَن لا يزال حيًّا يرزق، وكلهم مؤيد له، مدافع عنه، لم يرجع آخرهم عن قول أولهم. وثالثها: أني قصدت بيان انتشارهم مكانًا؛ ففيهم المصري والشامي والجزائري والعراقي والسعودي وغيرهم. ورابعها: أني قصدت تعدد مذاهبهم وعقائدهم؛ ففيهم السني وفيهم الشيعي وفيهم الصوفي وغيرهم. وخامسها: أني قصدت تعدد تخصصهم العلمي؛ ففيهم القاضي وفيهم الطبيب والمهندس والصيدلي والفلكي واللغوي والمعلم الأديب وغيرهم. وهذه مجتمعة رأيت أنها تشفع لي -بل توجب عليَّ- أن أذكر الكثير من مؤيدي التفسير العلمي؛ حتى أعطي الصورة الحقيقية للواقع، وهي مرادنا. وأخيرًا، حقيقة يجب أن أنبه إليها أن هؤلاء المذكورين ليسوا كلهم على درجة واحدة في قبولهم للتفسير العلمي؛ فإن فيهم مَن يؤيده كل التأييد ويقبله كل القبول، لا يرد منه شيئًا، ويعتقد أن القرآن تبيان لكل شيء؛ بمعنى أنه مبين لكل شيء بخصوصه ودقائقه وتفاصيله، وفيهم مَن يعتقد أن فيه تأييد كل الحقائق العلمية، وفيهم -أخيرًا- مَن يعتقد قبول التفسير العلمي على أضيق نطاق، وعدم تطبيق الآيات العلمية، ووجد في نصوص الآيات القرآنية ما يدل دلالة صريحة عليها، بمعنى آخر: لا يجوز التفسير العلمي وعندهم إلا بالربط بين حقيقة علمية وحقيقة قرآنية، أما الحقيقة العلمية فواضحة وبينة، أما مرادهم بالحقيقة القرآنية فهي التي تكون الدلالة فيها واضحة بينة، لا تكلف فيها ولا تحريف، ولا صرف للألفاظ عن مدلولاتها، أو تحميلها من المعاني ما لا تستوعبه ألفاظها. وإنما ساغ لي أن جمعتهم -وهم على هذا الاختلاف- أن قبوله والاعتراف به يجمعهم، وأنهم تناولوه -على تفاوت- في تفاسيرهم؛ فكان هذا رباطًا بينهم، وجامعًا لأقوالهم. أما الطائفة الأخرى منهم الذين رفضوه، ورفضوا القول به، ورفضوا قبوله، ورفضوا تطبيقه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 أقوال المعارضين : وهم ولا شك وإن كانوا الأقل إلا أنهم ليسوا بقلة، وفوق هذا منهم أعلام لرأيهم قيمته ومكانته، وذِكْرُنا لذلك العدد من المؤيدين يوجب علينا ذِكْرَ مثلهم أو ما يقاربه من المعارضين؛ التماسًا للحياد في العرض، والعدالة في القسمة؛ فمن هؤلاء: محمود شلتوت: وهو من أبرز المعارضين للتفسير العلمي وأشهرهم؛ فقد ذكر في تفسيره ناحيتين يجب تنزيه التفسير عنهما، وجعل تفسير القرآن على مقتضى النظريات العلمية الناحية الثانية منهما، فقال: "وأما الناحية الثانية: فإن طائفة أخرى هي طائفة المثقفين الذين أخذوا بطرف من العلم الحديث، وتلقنوا أو تلقفوا شيئًا من النظريات العلمية والفلسفية والصحية وغيرها، أخذوا يستندون إلى ثقافتهم الحديثة، ويفسرون آيات القرآن على مقتضاها. نظروا في القرآن فوجدوا الله سبحانه وتعالى يقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 1؛ فتأولوها على نحو زين لهم أن يفتحوا في القرآن فتحًا جديدًا؛ ففسروه على أساس من النظريات العلمية المستحدثة، وطبقوا آياته على ما وقعوا عليه من قواعد العلوم الكونية، وظنوا أنهم بذلك يخدمون القرآن، ويرفعون من شأن الإسلام، ويدعون له أبلغ دعاية في الأوساط العلمية والثقافية.   1 سورة الأنعام: من الآية 38. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 نظروا في القرآن على هذا الأساس؛ فأفسد ذلك عليهم أَمْرَ علاقتهم بالقرآن، وأفضى بهم إلى صورمن التفكير لا يريدها القرآن، ولا تتفق مع الغرض الذي من أجله أنزله الله، فإذا مرت بهم آية فيها ذِكْر للمطر، أو وصف للسحاب، أو حديث عن الرعد أو البرق؛ تهللوا واستبشروا، وقالوا: هذا هو القرآن يتحدث إلى العلماء الكونيين، ويصف لهم أحدث النظريات العلمية عن المطر والسحاب، وكيف ينشأ، وكيف تسوقه الرياح". ولم يزل الشيخ شلتوت يذكر بعض الأمثلة الخاطئة في التفسير العلمي، ثم عقب عليها ببيان جوانب الخطأ في هذا الاتجاه بقوله: "هذه النظرة للقرآن خاطئة من غير شك؛ لأن الله لم ينزل القرآن ليكون كتابًا يتحدث فيه إلى الناس عن نظريات العلوم ودقائق الفنون وأنواع المعارف. وهي خاطئة من غير شك؛ لأنها تحمل أصحابها والمغرمين بها على تأويل القرآن تأويلًا متكلفًا، يتنافى مع الإعجاز، ولا يسيغه الذوق السليم. وهي خاطئة؛ لأنها تعرض القرآن للدوران مع مسائل العلوم في كل زمان ومكان، والعلوم لا تعرف الثبات ولا القرار ولا الرأي الأخير، فقد يصح اليوم في نظر العلم ما يصح غدًا من الخرافات. فلو طبقنا القرآن على هذه المسائل العلمية المتقلبة؛ لعرضناه للتقلب معها، وتحمل تبعات الخطأ فيها، ولأوقفنا أنفسنا بذلك موقفًا حرجًا للدفاع عنه. فلندع للقرآن عظمته وجلالته، ولنحفظ عليه قدسيته ومهابته، ولنعلم أن ما تضمنه من الإشارة إلى أسرار الخَلْق وظواهر الطبيعة؛ إنما هو لقصد الحث على التأمل والبحث والنظر؛ ليزداد الناس إيمانًا مع إيمانهم. وحسبنا أن القرآن لم يصادم -ولن يصادم- حقيقة من حقائق العلوم تطمئن إليها العقول"1.   1 تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت ص11، 13، 14. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 وهأنت ترى أن الشيخ شلتوت يرفض هذا اللون من التفسير، ويعده مما يجب أن ينزه عنه التفسير، ويذكر جوانب الخطأ فيه، ويدعو إلى أن ندع للقرآن عظمته وجلالته، مع اعترافه أن القرآن لم يصادم -ولن يصادم- حقيقة علمية. والذي أعتقده أن الشيخ شلتوت ما اتخذ هذا الموقف إلا كردِّ فعل لما شاهده في عصره من جُرأة كثير من المفسرين ونحوهم على آيات القرآن، يفسرونها بكل ما فيه مسحة من العصر علمية، معرضين أو غافلين عن التفريق بين حقها وباطلها؛ مما أوقعهم وسيوقعهم في حرج شديد حين ظهور بطلان ما اتكئوا عليه من النظريات، وهو بُعْدُ نظر منه رحمه الله. أمين الخولي: ولئن كان الشيخ شلتوت من أبرز المعارضين ومن أشهرهم، فإن أمين الخولي هو أبرزهم وأشهرهم إن كان مقياس ذلك قوة الرفض وضعفه؛ فقد عقد أمين الخولي في رسالة له صغيرة عن "التفسير معالم حياته منهجه اليوم" عقد بحثًا عنوانه: "إنكار التفسير العلمي"، ذكر فيه قِدَمَ الاتجاه إلى التفسير العلمي، وقِدَمَ المخالفة في صحته، وعرض فيه أدلة الشاطبي وأقواله في إنكار هذا اللون من التفسير، ثم عقب على هذا بقوله: "وإذا كان هذا هو الرأي القديم العهد في فهم القرآن فهمًا يجعله مصدر العلوم المختلفة، ويأخذ كَلِمَه باصطلاحات حادثة بعده بأزمنة غير قصيرة؛ فإنك لتضم إلى هذا البيان من النظرات الحديثة ما يؤيده ويعززه؛ فمنها: 1- الناحية اللغوية في حياة الألفاظ وتدرج دلالتها، لو ملكنا منها ما لَا بُدَّ لنا أن نملكه في تحديد هذا التدرج، وتأريخ ظهور المعاني المختلفة للكلمة الواحدة، وعهد استعمالها فيها؛ لوجدنا من ذلك ما يحول بيننا وبين هذا التوسع العجيب في فَهْم ألفاظ القرآن، وجعلها تدل على معاني وإطلاقات لم تعرف لها ولم تستعمل فيها، أو إن كانت تلك الألفاظ قد استعملت في شيء منها، فباصطلاح حادث في الملة بعد نزول القرآن بأجيال. 2- الناحية الأدبية أو البلاغية -إن شئت- والبلاغة -فيما يقال- مطابقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 الكلام لمقتضى الحال، فهل كان القرآن على هذا النحو المتوسع من التفسير العلمي كلامًا يوجه إلى مَن خُوطب به من الناس في ذلك العهد، مرادًا به تلك المعاني المذكورة، مع أنها معانٍ من العلم لم تعرفها الدنيا إلا بعدما جازت آمادًا فسيحة، وجاهدت جهادًا طويلًا، ارتقى به عقلها وعلمها!!! وهب هذه المعاني العلمية المدعاة كانت هي المعاني المرادة بالقرآن، فهل فهمها أهل العربية منه إذا ذاك وأدركوها؟! وإذا كانوا قد فهموها فما لنهضتهم العلمية في علوم الحياة المختلفة لم تبدأ بظهور القرآن، ولم تقم على هذه الآيات الشارحة لمختلف نظريات العلوم المفهمة لدقائقها!! وإن كانت لم تفهم منها، ولم يدركها أصحاب اللغة الخُلَّص من عبارتها كما هو الواقع فعلًا فكيف تكون معاني القرآن المرادة؟ وكيف تكون تلك الألفاظ مفهمة لها؟ وهل هذه هي المطابقة لمقتضى الحال؟! 3- وهناك الناحية الدينية أو الاعتقادية؛ وهي التي تبين مهمة كتاب الدين، وهل هو كتاب يتحدث إلى عقول الناس وقواهم العالمة عن مشكلات الكون وحقائق الوجوه العلمية؟ وكيف يساير ذلك حياتهم ويكون أصلًا ثابتًا لها تختم به الرسالات السماوية كما هو الشأن في القرآن، مع أن هؤلاء المتدينين لا يقفون من معرفة هذه الحقائق عند غاية محدودة، ولا ينتهون منها عند مدى ما! فكيف تؤخذ جوامع الطب والفلك والهندسة والكيمياء من القرآن على نحو ما سمعت آنفًا، وهي جوامع لا يضبطها اليوم أحد إلا تغير ضطبه لها بعد يسير من الزمن أو كثير، وما ضبطه منها القدماء قد تغير عليهم فيما مضى، ثم تغير تغيرًا عظيمًا فيما تلا!! والحق البيِّن أن كتاب الدين لا يُعنَى بهذا من حياة الناس، ولا يتولاه بالبيان، ولا يكفيهم مؤنته حتى يلتمسوه عنده، ويعدوه مصدرًا فيه. وأما ما اتجهت إليه النوايا الطيبة من جعل الارتباط بين كتاب الدين والحقائق العلمية المختلفة ناحية من نواحي بيان صدقه أو إعجازه أو صلاحيته للبقاء ... إلخ، فربما كان ضَرُّه أكثر من نفعه، على أنه إن كان لَا بُدَّ لأصحاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 هذه النوايا ومَن لف لفهم من أن يتجهوا إليه؛ ليدفعوا مناقضة الدين للعلم، فلعله يكفي في هذا ويفي، ألا يكون في كتاب الدين نص صريح يصادم حقيقة علمية يكشف البحث أنها من نواميس الكون ونظم وجوده، وحسب كتاب الدين بهذا القدر صلاحية للحياة ومسايرة للعلم وخلاصًا من النقد"1. هذا ما يراه أمين الخولي، وفيه ما يُقبل وفيه ما يُرد، وما توقفت عند نصوصه مثل وقوفي عند قوله: "والحق البيِّن أن كتاب الدين لا يُعنَى بهذا من حياة الناس ولا يتولاه بالبيان ... إلخ"؛ إذ لا أدري على أي أساس قال هذا، وما هي المقدمات التي كانت نتائجها الفصل بين الدين والعلم، ولن أقف طويلًا في محاورته؛ إذ الحديث آتٍ بعدُ، إن شاء الله. محمد حسين الذهبي: أما الشيخ الذهبي -رحمه الله تعالى- فهو كالخولي يعقد فصلًا عنوانه: "إنكار التفسير العلمي"، بسط فيه رأي الشاطبي وأدلته وأطال في ذلك، ثم تحدث الذهبي عن اختياره في هذا الموضوع، قال فيه: "أما أنا فاعتقادي أن الحق مع الشاطبي -رحمه الله- لأن الأدلة التي ساقها لتصحيح مدعاه أدلة قوية، لا يعتريها ضعف، ولا يترطق إليها خلل، ولأن ما أجاب به على أدلة مخالفيه أجوبة سديدة دامغة، لا تثبت أمامها حججهم ولا يبقى معها مدعاهم، وهناك أمور أخرى يتقوى بها اعتقادنا أن الحق في جانب الشاطبي ومن لفَّ لفه"2. ثم ذكر الذهبي -رحمه الله تعالى- نفس الأمور الثلاثة التي ذكرها قبله أمين الخولي في إنكار التفسير العلمي، مع بعض الاختلاف في بعض العبارات، وإن كانت المعاني في كل واحدة، والأمور الثلاثة -كما مر- هي: 1- الناحية اللغوية.   1 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي ص25، 26. 2 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص157. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 2- الناحية البلاغية. 3- الناحية الاعتقادية. ثم عقب على هذه الأمور الثلاثة نحو تعقيب الخولي فقال: "وإذا كان أرباب هذا المسلك في التفسير يستندون إلى ما تناولته بعض آيات القرآن من حقائق الكون ومشاهده، ودعوة الله لهم بالنظر في كتاب الكون وآياته التي بثها في الآفاق وفي أنفسهم، إذا كانوا يستندون إلى مثل هذا في دعواهم أن القرآن قد جمع علوم الأولين والآخرين؛ فهم مخطئون ولا شك؛ وذلك لأن تناول القرآن لحقائق الكون ومشاهده، ودعوته إلى النظر في ملكوت السماوات والأرض وفي أنسهم، لا يراد منه إلا رياضة وجدانات الناس، وتوجيه عامتهم وخاصتهم إلى مكان العظة والعبرة، ولفتهم إلى آيات قدرة الله ودلائل وحدانيته، من جهة ما لهذه الآيات والمشاهد من روعة في النفس وجلال في القلب، لا من جهة ما لها من دقائق النظريات وضوابط القوانين، فليس القرآن كتاب فلسفة أو طب أو هندسة. وليعلم أصحاب هذه الفكرة أن القرآن غنيٌّ عن أن يعتز بمثل هذا التكلف الذي يوشك أن يخرج به عن هدفه الإنساني الاجتماعي في: إصلاح الحياة، ورياضة النفس، والرجوع بها إلى الله تعالى. وليعلم أصحاب هذه الفكرة أيضًا أن من الخير لهم ولكُتَّابهم ألا ينحوا بالقرآن هذا المنحى في تفسيرهم؛ رغبة منهم في إظهار إعجاز القرآن وصلاحيته للتمشي مع التطور الزمني، وحسبهم ألا يكون في القرآن نص صريح يصادم حقيقة علمية ثابتة، وحسب القرآن أنه يمكن التوفيق بينه وبين ما جد ويجد من نظريات وقوانين علمية تقوم على أساس من الحق، وتستند إلى أصل من الصحة"1. والذهبي كما ترى يرفض التفسير العلمي أو تطبيق آيات القرآن عليه كل   1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص159، 160. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 الرفض، ويبدو لي أنه متأثر بهذا برجلين؛ أولهما: الإمام الشاطبي -رحمه الله تعالى- فقد بسط رأيه وأدلته مؤيدًا لها. وأما ثانيهما: فأمين الخولي؛ فقد أورد نفس حججه وأدلته التي زادها على أدلة الشاطبي. محمد عزة دروزة: رفض الأستاذ دروزة التفسير العلمي واستخراج النظريات العلمية والفنية والكونية من الكلمات والآيات عند تفسيره لقوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} 1، فقال: "ولقد قرأنا مقالًا أراد كاتبه أن يجعل صلة بين اختصاص البنان بالذكر وبين ما ظهر حديثًا من علم بصمات الأصابع، وما صار له من خطورة في إثبات شخصيات الناس، وتمشيًا مع الفكرة التي سادت بعض الناس من استخراج النظريات العلمية والفنية والكونية من الكلمات والآيات القرآنية للتدليل على صدق القرآن وإعجازه، ومعجزات الله المشار إليها فيه، وفي هذا في اعتقادنا تحميل لكلمات القرآن وآياته غير ما تتحمل، وإخراج له من نطاق قدسيته وغايته، وتعريض له للجدل والنقاش. ولقد نزل القرآن بلسان العرب على قوم يفهمونه، وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بشرحه وتبيانه، والنظريات الحديثة لم تكن معلومة ولا مكشوفة، ولا يصح لمسلم مهما حسنت نيته أن يدعي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف جميع ما تضمنته آيات القرآن"2. عباس العقاد: أما العقاد -رحمه الله- فقد رفض التفسير العلمي، وجعل سبب رفضه تجدد العلوم الإنسانية، وأنها لا تستقر على حال، وقد تتقوض قاعدة علمية بعد أن رسخت؛ ولهذا فهو يرفض أن يربط بين النص القرآني المحكَم مع هذه النظريات. قال رحمه الله تعالى: "تتجدد العلوم الإنسانية مع الزمن على سنة   1 سورة القيامة: الآية 4. 2 التفسير الحديث: محمد عزة دروزة ج2 ص7. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 التقدم، فلا تزال بين ناقص يتم وغامض يتضح، وموزع يتجمع، وخطأ يقترب من الصواب، وتخمين يترقى إلى اليقين، ولا يندر في القواعد العلمية أن تتقوض بعد رسوخ أو تتزعزع بعد ثبوت، ويستأنف الباحثون تجاربهم فيها بعد أن حسبوها من الحقائق المفروغ منها عدة قرون. فلا يطلب من كتب العقيدة أن تطابق مسائل العلم، كلما ظهرت مسألة منها لجيل من أجيال البشر، ولا يطلب من معتقديها أن يستخرجوا من كتبهم تفصيلات تلك العلوم، كما تعرض عليهم في معامل التجربة والدراسة؛ لأن هذه التفصيلات تتوقف على محاولات الإنسان وجهوده، كما تتوقف على حاجاته وأحوال زمانه. قد أخطأ أناس في العصور الأخيرة؛ لأنهم أنكروا القول بدوران الأرض واستدارتها، واعتمادًا على ما فهموه من ألفاظ بعض الآيات"1. ثم ذكر أمثلة أخرى نحو هذا من الأخطاء من التفسير العلمي وعقب عليها قائلًا: "وخليق بأمثال هؤلاء المعتسفين أن يحسبوا من الصديق الجاهل؛ لأنهم يسيئون من حيث يقدرون الإحسان، ويحملون على عقيدة إسلامية وزر أنفسهم وهم لا يشعرون. كلَّا، لا حاجة بالقرآن الكريم إلى مثل هذا الادعاء؛ لأنه كتاب عقيدة يخاطب الضمير، وخير ما يطلب من كتاب العقيدة في مجال العلم أن يحث على التفكير، ولا يتضمن حُكْمًا من الأحكام يشل حركة العقل في تفكيره، أو يحول بينه وبين الاستزادة من العلوم ما استطاع، وكل هذا مكفول للمسلم في كتابه، كما لم يكفل قط في كتاب من كتب الأديان"2. عائشة عبد الرحمن: حين ألف الدكتور مصطفى محمود كتابه "محاولة لفهم عصري للقرآن"   1 الفلسفة القرآنية: عباس محمود العقاد ص15. 2 المرجع السابق ص16، 17. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 أصدرت بنت الشاطئ الدكتورة عائشة كتابها "القرآن والتفسير العصري" ردت فيه على الدكتور مصطفى. ثم كتبت "مستخلصًا" لكتابها هذا، وألحقته بكتاب آخر لها هو "القرآن وقضايا الإنسان"، وزادت عليه ردودًا حتى جاء أضعاف الكتاب الأصلي. وقد تساءلت وأجابت على تساؤلها بقولها: "فماذا عسانا أن نصنع لنرسخ الإيمان في ضمائر الشاب وعقولهم، ممن يدرسون علوم العصر، ويدخلون المشرحة والمعمل والمصنع، ويتابعون جهود علماء الفضاء ورحلات القمر! هل نأتيهم بقرآن غير هذا الذي نزل على نبي أمي في بيئة بدوية، أو نضحك على عقولهم ببدع من التأويلات تقدم لهم من القرآن كل علوم الدنيا وعصريات التكولوجيا؟! أبناء الجيل ليسوا من البلاهة والغفلة والسذاجة؛ بحيث يجوز عليهم أن يقول لهم قائل: إننا عرفنا الطائرات النفاثة؛ إذ عذنا برب الفلق من {شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} واهتدنيا إلى أسرار الذرة بـ {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} ! 1. إلى أن قالت: "وخطر على عقلية الجماهير أن نخايلها بهذه الألفاظ المضخمة من بدع التأويلات العصرية العلمية، تمسخ عقليتهم، ويختل بها منطقهم، وتخدر وعيهم بغرور السبق إلى علوم العصر"2. وقالت: "الإسلام يتجه إلى العقل في ترسيخ الإيمان، وكتابه المحكم يفصل الآيات لقوم يعقلون ويعلمون ويؤمنون، ويضرب الأمثال لعلنا نتفكر ونفقه ونؤمن. وقد حرر القرآن الإنسان من الأغلال التي تعوق تحقيقه لآية إنسانيته المكرمة أو تقيد مسعاه الطامح إلى ما سخر له الله: كل ما في السموات وما في الأرض.   1 القرآن وقضايا الإنسان: عائشة عبد الرحمن ص426. 2 المرجع السابق ص428. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 بغير العقل لا يتميز حق من باطل، ولا هدى من ضلال، وبغير العلم لا سبيل إلى تسخير شيء مما في الأرض أو في السماء. ولا حرج من الدين في أن يقرأ أبناؤنا نظرية التطور وأصل الأنواع في بحوث "دارون"، والنظرية المادية في إعلان "ماركس" ومؤلفاته، وشروح تلاميذه العلماء وإضافتهم. لكن المحظور أن يقرءوا النظرية مشوهة ممسوخة مدسوسة على القرآن باسم العلم والعصرية والإيمان. وأبناؤنا المسلمون يدرسون علوم العصر وأسرار الرياضيات والتكنولوجيا في موسكو ولندن وباريس وأدنبرة وفيينا وبرلين وبراج، ويطلبون العلم ولو كان في الصين. ويحظر عليهم دينهم أن يطلبوا أيَّ علم إلا ممن وضح أنه أحاط بكل شيء علمًا، ووسع علمه السماوات والأرض والدنيا والآخرة. أذكر أن فقيهًا من علمائنا سأله سائل في آية {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 1، فهل يُعلم من القرآن كم رغيفًا يخبز من إردب قمح؟ قال: نعم، واتصل تليفونيًّا بمخابز "الرمالي" فأعطاه مدبرها الجواب، قال السائل: لكن هذا ليس من القرآن؟ رد شيخنا: بلى، في القرآن: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 2، وقد فعلت. ومن أهل الذكر نلتمس العلم، ونطلب الدين؛ فنرجح فيه إلى الله وإلى الرسول في الكتاب والسنة وفقه الأئمة وبحوث العلماء"3. وهذا الموقف الذي وقفته من التفسير العلمي يبدو لي أنه متأثر بموقف أستاذها وزوجها أمين الخولي، الذي تأثرت به بنت الشاطئ كثيرًا، فلعل هذا من ذاك.   1 سورة الأنعام: من الآية 38. 2 سورة النحل: من الآية 43. 3 القرآن وقضايا الإنسان: عائشة عبد الرحمن ص428-430. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 محمد كامل حسين: وهو من أكثر المعارضين معارضة؛ بل إنه وصف التفسير العلمي بأوصاف لم يسبق إليها، فقال عنه خاصة الآيات الكونية: "إنه دعوى لا دليل عليها، ولا حاجة للمؤمنين بها، وأن هذه الآيات يجب أن تُفهم على ما فهمه المسلمون الأولون؛ حيث قالوا: هذا شيء نؤمن به ولا نصوره تصويرًا واقعيًّا، والذين يفسرون الآيات الكونية تفسيرًا علميًّا يدلون بذلك على ضعف إيمانهم، ولو كانوا مؤمنين حقًّا ما كانت بهم حاجة إلى شيء من ذلك يقوى به إيمانهم، فليس مقصودًا بالآيات الكونية غير الوعظ، والتفسير الحق هو الذي يقربها من أذهاننا تقريبًا يؤدي إلى الموعظة والعبرة، وكل تعمق في تصويرها تصويرًا واقعيًّا هو بدعة حمقاء"1. ولم يكتفِ بوصفه على عجل بأنه بدعة حمقاء؛ بل جعل هذا الوصف عنوان فصل هو "التفسير العلمي بدعة حمقاء" وقال: "كنت أحسب أن أمر هذه البدعة لا يُعنَى به أحد ولا يقام له وزن حتى اعتنقها طبيب كبير، وقال بها قاضٍ ممتاز، ودافع عنها كيميائي معروف، وخُيِّل إلى الناس أن مفكرين وعلماء من هذا الطراز إذا قالوا: إن العلم الحديث موجود في القرآن؛ فلا بد أن يكون قولهم حقًّا"2. ومما لا شك فيه أن في عباراته وألفاظه ما لا يُقبل ولا يصح، لا نريد نقدها وليس هذا هدفنا، وإن كان مرادنا يتحقق بإثبات كونه من الرافضين المعارضين. شوقي ضيف: فقد تحدث شوقي ضيف في مقدمة كتابه "سورة الرحمن وسور قصار" عن منهج ابن تيمية وابن قيم الجوزية، ثم عن منهج الشيخ الإمام محمد عبده، إلى أن قال: "وقد تلت الشيخ الإمام تفاسير كثيرة؛ منها ما اهتدى بهديه، ومنها ما خاض   1 الذكر الحكيم: محمد كامل حسين ص59. 2 المرجع السابق ص182. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 في مباحث علمية كنت ولا أزال أراها تجنح عن الجادة؛ إذ القرآن فوق كل علم، ومن الخطأ أن يُتخذ ذريعة لإثبات نظرية علمية في الطبيعة والعلوم الكونية والفلكية، وهو لم ينزل لبيان قواعد العلوم ولا لتفسير ظواهر الكون، وما ذكر فيه من خلق السماوات والأرض والأفلاك والكواكب إنما يراد به بيان حكمة الله، وأن للوجود خالقًا أعلى يدبره وينظم قوانينه، ولا ريب في أن القرآن يدعو أتباعه دعوة عامة إلى العلم والتعلم للعلوم الرياضية والطبيعية والكونية؛ ولكن هذا شيء والتحول بالقرآن إلى كتاب تستنبط منه النظريات العلمية شيء آخر لا يتصل برسالته ولا بدعوته، إنه دين لهداية البشرية يزخر بما لا يُحصى من قيم رُوحية واجتماعية وإنسانية، وحسب المفسر أن يُعنَى ببيان ما فيه من هذه القيم، ومن أصول الدين الحنيف وتعالميه، التي أضاءت المشارق والمغارب أضواء غامرة1. الدكتور صبحي الصالح: عدَّد الدكتور صبحي الصالح آفاق الدراسات القرآنية الحديثة؛ فعد الأفق الحديث الثاني التوفيق العلمي، وقال عنه: "هذا الأفق الثاني مدعاة إلى الزلل لدى أكثر الذين خاضوا فيه من المعاصرين؛ لأن عملية التوفيق تفترض غالبًا محاولة للجمع بين موقفين يتوهم أنهما متعاديان ولا عداء، أو يُظن أنهما متلاقيان ولا لقاء؛ أعني: أنه لا ينبغي أن يحالف النجاح بصورة حتمية كل عملية من عمليات التوفيق"2. إلى أن قال: "وقد تولى كبر هذا التوفيق المحفوف بكثير من الزلل طنطاوي جوهري في تفسيره الجواهر الذي قيل فيه: إن فيه كل شيء ما عدا التفسير! "3. ثم ذكر نصًّا للجوهري فيه دفاع عن منهجه، وعقَّب عليه بذكر أمور   1 سورة الرحمن وسور قصار: الدكتور شوقي ضيف ص10. 2 معالم الشريعة الإسلامية: الدكتور صبحي الصالح ص291. 3 المرجع السابق ص292. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 أخذت على تفسير الجوهري، ثم قال: "لذلك انتقد شيخ الأزهر المرحوم محمود شتلوت هذه المحاولات التوفيقية الخاطئة التي تبعد الناس عن هداية القرآن"1، وساق بعد ذلك قول الشيخ محمود شلتوت. أحمد محمد جمال: عارض الأستاذ أحمد محمد جمال تفسير الآيات تفسيرًا علميًّا والخوض بها في ذلك، فقال في ذلك: "أجل ... القرآن الكريم هو كتاب الإسلام وحامل معجزاته الباهرة؛ من أنباء وقصص وغيوب غابرة وحاضرة وآتية، بعضها تحقق فعلًا، وبعضها يتحقق على مدار الزمن، وتعاقب الأجيال. ولكن "القرآن" مع ذلك ليس كتابًا علميًّا؛ أي: ليس كتاب نظريات علمية، وليس من شأنه أن يكون كذلك؛ فالنظريات العلمية تتناقض وتصدق اليوم، أو هكذا يبدو أنها صادقة، ثم تكذب غدًا. وحاشى القرآن ما تناقض قَطُّ في أنبائه، ولا في قصصه، ولا في مبادئه التشريعية والخلقية. ويخطئ بعض المثقفين من المسلمين حتى يحاولون تطبيق بعض إشارات القرآن أو بعض لفتاته المعجزة على الاكتشافات أو النظريات الحديثة، وهم يظنون أنهم يرفعون بذلك شأن القرآن؛ بينما يعرِّضونه بادعاءاتهم للتناقض والانتقاد والتعارض، ويضعونه دون موضعه من التقديس والتصديق"2. وقد عرض الأستاذ أحمد جمال بعض التفاسير العلمية الحديثة وناقشها بما يبطلها. عبد المجيد المحتسب: أما الأستاذ عبد المجيد فهو ينكر نزعة التفسير العلمي للقرآن الكريم، ولا يسوغ إخضاع الآيات القرآنية للعلوم الكونية والطبيعية ألبتة، ولا يوافق   1 المرجع السابق ص293. 2 على مائدة القرآن مع المفسرين والكُتَّاب: أحمد محمد جمال ص323. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 الذين يستخرجون النظريات العلمية من الآيات القرآنية، وعلل ذلك بـ"أن القرآن الكريم ليس كتاب علم؛ مثل: الكيمياء والذرة والهندسة والفلك والفيزياء وغير ذلك؛ وإنما هو كتاب أنزله الله تعالى على رسوله محمد عليه الصلاة والسلام؛ ليكون هدى ورحمة للناس1. ثم ذكر أربعة أدلة لاتخاذه هذا الموقف من التفسير العلمي، وقد فصَّل القول في أدلته بعض التفصيل، فقال ما خلاصته: "أولها: إن جعل الارتباط بين القرآن وبين الحقائق العلمية المختلفة ناحية من نواحي بيان صدقه أو إعجازه أو صلاحيته للبقاء هو خلط بين علم التفسير وعلم إعجاز القرآن. وثانيها: من المعروف بداهة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفهم القرآن جملة وتفصيلًا، ومن الطبيعي كذلك أن يفهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في جملته؛ أي: بالنسبة لظاهره وأحكامه، وكل مَن يرجع إلى كتب السنة يجد أنها قد أفردت للتفسير بابًا من الأبواب التي اشتملت عليها، ذكرت فيه كثيرًا من التفسير المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا أمعنا النظر في هذا التفسير المأثور فإنا لا نجد فيه أي أصل من أصول العلوم المختلفة التي يتبجح بها أنصار وأصحاب الاتجاه العلمي في تفسير القرآن. ثالثها: أن القرآن إما أن يكون من عند الله أو من العرب أو من محمد، ولا يمكن أن يكون من العجم؛ لأن العرب عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله؛ فالأعاجم بالضرورة أعجز، فالقرآن ليس من عند العرب، أما محمد عليه السلام فلو كان القرآن من عنده لكان أسلوب الحديث هو نفس أسلوب القرآن، والمعروف أن القرآن يختلف عن أسلوب الحديث؛ إذًا فالقرآن ليس من عند محمد، وإذا لم يكن القرآن من عند محمد عليه السلام ولا من عند العرب فهو من عند الله سبحانه وتعالى.   1 اتجاهات التفسير في العصر الراهن: عبد المجيد المحتسب ص314. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 هذه هي الطريقة الصحيحة لإثبات صدق القرآن وصلاحيته للحياة، وليست طريقة إثبات ذلك نظريات علمية في القرآن الكريم. رابعها: أن القرآن الكريم يشير كثيرًا إلى أشياء في الكون؛ مثل: الشمس والقمر والأهلة والنجوم والرياح، وحث الإنسان على أن يتدبر خلق السماوات والأرض، كل ذلك لتهيئة الإنسان إلى الإيمان عن طريق العقل بالخالق، وليربط الإيمان بالله عن طريق الفطرة بالإيمان بالله عن طريق العقل؛ ولكن الله سبحانه وتعالى لم يطلق العِنَانَ للعقل البشري في بحث كل ما ورد في القرآن الكريم؛ لأن عقل الإنسان قاصر، وقد يضيع في متاهات إذا بحث بعض الموضوعات. وقد يكون التقدم العلمي في أحوال كثيرة عاملًا مساعدًا على الوصول إلى الإيمان بالخالق الواجب الوجود، وقد يكون خلاف ذلك؛ ولكن هذا شيء، وإخضاع الآيات القرآنية للعلوم المختلفة شيء آخر، وبخاصة النظريات المتغيرة"1. هذه خلاصة الأدلة التي أوردها الأستاذ عبد المجيد المحتسب في ردِّه التفسير العلمي للقرآن الكريم. والذي يظهر لي أن في بعضها ضعفًا في الاستدلال لا يقوى على الاحتجاج به؛ وإنما ذكرتها كوجهة نظر لأحد الباحثين أولًا، ولأنها تقوى بإضافتها إلى حُجج العلماء الآخرين وتقويها، أحسبها كذلك. سيد قطب: وكما ختمت آراء المؤيدين برأي حسن البنا -رحمه الله تعالى- وهو مَن هو؛ فإني أختم آراء المعارضين برأي سيد قطب -رحمه الله تعالى- وهو مَن هو. وقد أفاض -رحمه الله تعالى- الحديثَ في نقد التفسير العلمي، وعذرًا إن أكثرت من نقل جواهره، وإن كان لي من ملاحظات ليس على جواهره تلك؛ وإنما على تصنيفه مع الرافضين؛ فسأرجِئُه إلى آخر نصوصه حتى يُفهم عَنِّي ما أردت قوله.   1 اتجاهات التفسير في العصر الراهن: عبد المجيد المحتسب ص314-323، باختصار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 قال -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} 1: "لقد كان القرآن بصدد إنشاء تصور خاص، ونظام خاص، ومجتمع خاص، كان بصدد إنشاء أمة جديدة في الأرض، ذات دَوْرٍ خاص في قيادة البشرية؛ لتنشئ نموذجًا معينًا من المجتمعات غير مسبوق، ولتعيش حياة نموذجية خاصة غير مسبوقة، ولتقر قواعد هذه الحياة في الأرض، وتقود إليها الناس. والإجابة "العلمية" عن هذا السؤال ربما كانت تمنح السائلين علمًا نظريًّا في الفلك إذا هم استطاعوا، بما كان لديهم من معلومات قليلة في ذلك الحين أن يستوعبوا هذا العلم، ولقد كان ذلك مشكوكًا فيه كل الشك؛ لأن العلم النظري من هذا الطراز في حاجة إلى مقدمات طويلة، كانت تعد بالقياس إلى عقلية العالم كله في ذلك الزمان معضلات. من هذا عدل عن الإجابة التي لم تتهيأ لها البشرية ولا تفيدها كثيرًا في المهمة الأولى التي جاء القرآن من أجلها، وليس مجالها على أية حال هو القرآن؛ إذ القرآن قد جاء لما هو أكبر من تلك المعلومات الجزئية، ولم يجئ ليكون كتاب علم فلكي أو كيمياوي أو طبي، كما يحاول بعض المتحمسين له أن يلتمسوا فيه هذه العلوم، أو كما يحاول بعض الطاعنين فيه أن يتلمسوا مخالفاته لهذه العلوم! إن كلتا المحاولتين دليل على سُوء الإدراك لطبيعة هذا الكتاب ووظيفته ومجال علمه. إن مجاله هو النفس الإنسانية والحياة الإنسانية. وإن وظيفته أن ينشئ تصورًا عامًّا للوجود وارتباطه بخالقه، ولوضع الإنسان في هذا الوجود وارتباطه بربه، وأن يقيم على اساس هذا التصور نظامًا للحياة يسمح للإنسان أن يستخدم كل طاقاته، ومن بينها طاقته العقلية، التي تقوم هي بعد تنشئتها   1 سورة البقرة: من الآية 189. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 على استقامة، وإطلاق المجال لها لتعمل بالبحث العلمي في الحدود المتاحة للإنسان وبالتجريب والتطبيق، وتصل إلى ما تصل إليه من نتائج ليست نهائية ولا مطلقة بطبيعة الحال. إن مادة القرآن التي يعمل فيها هي الإنسان ذاته: تصوره واعتقاده، ومشاعره ومفهوماته، وسلوكه وأعماله، وروابطه وعَلاقاته. أما العلوم المادية والإبداع في عالم المادة بشتى وسائله وصنوفه، فهي موكولة إلى عقل الإنسان وتجاربه وكشوفه وفروضه ونظرياته؛ بما أنها أساس خلافته في الأرض، وبما أنه مهيأ لها بطبيعة تكوينه. والقرآن يصحح له فطرته كي لا تنحرف ولا تفسد، ويصحح له النظام الذي يعيش فيه كي يسمح له باستخدام طاقاته الموهوبة له، ويزوده بالتصور العام لطبيعة الكون وارتباطه بخالقه، وتناسق تكوينه، وطبيعة العَلاقة القائمة بين أجزائه -وهو أي الإنسان أحد أجزائه- ثم يدع له أن يعمل في إدراك الجزئيات والانتفاع بها في خلافته، ولا يعطيه تفصيلات؛ لأن معرفة هذه التفصيلات جُزْءٌ من عمله الذاتي. وإني لأعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرآن، الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه، وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه، وأن يستخرجوا منه جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها، كأنما ليعظموه بهذا ويكبروه! إن القرآن كتاب كامل في موضوعه، وموضوعه أضخم من تلك العلوم كلها؛ لأنه هو الإنسان ذاته الذي يكشف هذه المعلومات وينتفع بها. والبحث والتجريب والتطبيق من خواص العقل في الإنسان، والقرآن يعالج بناء هذا الإنسان نفسه، بناء شخصيته وضميره وعقله وتفكيره، كما يعالج بناء المجتمع الإنساني الذي يسمح لهذا الإنسان بأن يحسن استخدام هذه الطاقات المذخورة فيه، وبعد أن يوجد الإنسان السليم التصور والتفكير والشعور، ويوجد المجتمع الذي يسمح له بالنشاط، يتركه القرآن يبحث ويجرب، ويخطئ ويصيب، في مجال العلم والبحث والتجريب، وقد ضمن له موازين التصور والتدبر والتفكير الصحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 كذلك لا يجوز أن نعلق الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن أحيانًا عن الكون في طريقه لإنشاء التصور الصحيح لطبيعة الوجود وارتباطه بخالقه، وطبيعة التناسق بين أجزائه، لا يجوز أن نعلق هذه الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن بفروض العقل البشري ونظرياته، ولا حتى بما يسميه "حقائق علمية" مما ينتهي إليه بطريق التجرِبة القاطعة في نظره. إن الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة مطلقة. أما ما يصل إليه البحث الإنساني -أيًّا كانت الأدوات المتاحة له- فهي حقائق غير نهائية ولا قاطعة، وهي مقيدة بحدود تجاربه وظروف هذه التجارب وأداواتها. فمن الخطأ المنهجي -بحكم المنهج العلمي الإنساني ذاته- أن نعلق الحقائق النهائية القرآنية بحقائق غير نهائية، وهي كل ما يصل إليه العلم البشري! هذا بالقياس إلى "الحقائق العلمية"، والأمر أوضح بالقياس إلى النظريات والفروض التي تُسمى "علمية"؛ ومن هذه النظريات والفروض كل النظريات الفلكية، وكل النظريات الخاصة بنشأة الإنسان وأطواره، وكل النظريات الخاصة بنفس الإنسان وسلوكه، وكل النظريات الخاصة بنشأة المجتمعات وأطوارها ... فهذه كلها ليست "حقائق علمية" حتى بالقياس الإنساني؛ وإنما هي نظريات وفروض، كل قيمتها أنها تصلح لتفسير أكبر قدر من الظواهر الكونية أو الحيوية أو النفسية أو الاجتماعية، إلى أن يظهر فرض آخر يفسر قدرًا أكبر من الظواهر، أو يفسر تلك الظواهر تفسيرًا أدق! ومن ثم فهي قابلة دائمًا للتغيير والتعديل والنقص والإضافة؛ بل قابلة لأن تنقلب رأسًا على عقب؛ بظهور أداة كشف جديدة، أو بتفسير جديد لمجموعة الملاحظات القديمة! وكل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات متجددة متغيرة -أو حتى بحقائق علمية ليست مطلقة كما أسلفنا- تحتوي أولًا على خطأ منهنجي أساسي، كما أنها تنطوي على معانٍ ثلاثة كلها لا يليق بجلال القرآن الكريم: الأولى: هي الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 والقرآن تابع؛ ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم، أو الاستدلال له من العلم، على حين أن القرآن كتاب كامل في موضوعه ونهائي في حقائقه، والعلم ما يزال في موضوعه ينقض اليوم ما أثبته بالأمس، وكل ما يصل إليه غير نهائي ولا مطلق؛ لأنه مقيد بوسط الإنسان وعقله وأدواته، وكلها ليس من طبيعتها أن تعطي حقيقة واحدة نهائية مطلقة. والثانية: سُوء فَهْم طبيعة القرآن ووظيفته؛ وهي أنه حقيقة نهائية مطلقة تعالج بناء الإنسان بناء يتفق -بقدر ما تسمح طبيعة الإنسان النسبية- مع طبيعة هذا الوجود وناموسه الإلهي؛ حتى لا يصطدم الإنسان بالكون من حوله؛ بل يصادقه ويعرف بعض أسراره، ويستخدم بعض نواميسه في خلافته، نواميسه التي تكشف له بالنظر والبحث والتجريب والتطبيق، وفق ما يهديه إليه عقله الموهوب له ليعمل، لا ليتسلم المعلومات المادية جاهزة. والثالثة: هي التأويل المستمر -مع التمحل والتكلف- لنصوص القرآن؛ كي نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر، وكل يوم يجد فيها جديد. وكل أولئك لا يتفق وجلال القرآن، كما أنه يحتوي على خطأ منهجي كما أسلفنا. ولكن هذا لا يعني ألا ننتفع بما يكشفه العلم من نظريات ومن حقائق عن الكون والحياة والإنسان في فَهْمِ القرآن ... كلا! إن هذا ليس هو الذي عنينا بذلك البيان، ولقد قال الله سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} 1، ومن مقتضى هذه الإشارة أن نظل نتدبر كل ما يكشفه العلم في الآفاق وفي الأنفس من آيات الله، وأن نوسع بما يكشفه مدى المدلولات القرآنية في تصورنا. فكيف ودون أن نعلق النصوص القرآنية النهائية المطلقة بمدلولات ليست نهائية ولا مطلقة؟ هنا ينفع المثال:   1 سورة فصلت: الآية 53. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 يقول القرآن الكريم مثلًا: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} ، ثم تكشف الملاحظات العلمية أن هناك موافقات دقيقة وتناسقات ملحوظة بدقة في هذا الكون؛ الأرض بهيئتها هذه ويبعد الشمس عنها هذا البعد، وبعد القمر عنها هذا البعد، وحجم الشمس والقمر بالنسبة لحجمها، وبسرعة حركتها هذه، ويميل محورها هذا، وبتكوين سطحها هذا، وبآلاف من الخصائص ... هي التي تصلح للحياة وتوائمها، فليس شيء من هذا كله فلتة عارضة ولا مصادفة غير مقصودة ... هذه الملاحظات تفيدنا في توسيع مدلول: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} 1، وتعميقه في تصورنا، فلا بأس من تتبع مثل هذه الملاحظات لتوسيع هذا المدلول وتعميقه ... وهكذا. هذا جائز ومطلوب؛ ولكن الذي لا يجوز ولا يصح علميًّا هذه الأمثلة الأخرى: يقول القرآن الكريم: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِين} 2، ثم توجد نظرية في النشوء والارتقاء لوالاس ودارون تفترض أن الحياة بدأت خلية واحدة، وأن هذه الخلية نشأت في الماء، وأنها تطورت حتى انتهت إلى خلق الإنسان، فنحمل نحن هذا النص القرآني ونلهث وراء النظرية لنقول: هذا هو الذي عناه القرآن!! لا، إن هذه النظرية أولًا ليست نهائية؛ فقد دخل عليها من التعديل في أقل من قرن من الزمان ما يكاد يغيرها نهائيًّا، وقد ظهر فيها من النقص المبني على معلومات ناقصة عن وحدات الوراثة التي تحتفظ لكل نوع بخصائصه، ولا تسمح بانتقال نوع إلى نوع آخر ما يكاد يبطلها، وهي معرضة غدًا للنقض والبطلان؛ بينهما الحقيقة القرآنية نهائية، وليس من الضروري أن يكون هذا معناها؛ فهي تثبت فقط أصل نشأة الإنسان، ولا نذكر تفصيلات هذه النشأة، وهي نهائية في النقطة التي تستهدفها، وهي أصل النشأة الإنسانية ... وكفى ولا زيادة.   1 سورة الفرقان: آية 2. 2 سورة المؤمنون: آية 12، وقد جاءت هذه الآية في الأصل "خَلْقَ الْإنْسَانِ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 ويقول القرآن الكريم: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} 1، فيثبت حقيقة نهائية عن الشمس؛ وهي أنها تجري، ويقول العلم: إن الشمس تجري بالنسبة لما حولها من النجوم بسرعة قدرت بنحو 12 ميلًا في الثانية؛ ولكنها تجري في دورانها مع المجرة التي هي واحدة من نجومها تجري جميعًا بسرعة 170 ميلًا في الثانية؛ ولكن هذه الملاحظات الفلكية ليست هي عين مدلول الآية القرآنية. إن هذه تعطينا حقيقة نسبية غير نهائية قابلة للتعديل أو البطلان. أما الآية القرآنية فتعطينا حقيقة نهائية -في أن الشمس تجري- وكفى؛ فلا نعلق هذه بتلك أبدًا. ويقول القرآن الكريم: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} 2، ثم تظهر نظرية تقول: إن الأرض كانت قطعة من الشمس فانفصلت عنها؛ فنحمل النص القرآني ونلهث لندرك هذه النظرية العلمية، ونقول: هذا ما تعنيه الآية القرآنية! لا، ليس هذا هو الذي تعنيه! فهذه نظرية ليست نهائية، وهناك عدة نظريات عن نشأة الأرض في مثل مستواها من ناحية الإثبات العلمي! أما الحقيقة القرآنية فهي نهائية ومطلقة، وهي تحدد فقط أن الأرض فُصِلَتْ عن السماء، كيف؟ ما هي السماء التي فُصلت عنها؟ هذا ما لا تتعرض له الآية؛ ومن ثم لا يجوز أن يقال عن أي فرض من الفروض العلمية في هذا الموضوع: إنه المدلول النهائي المطابق للآية! وحسبنا هذا الاستطراد بهذه المناسبة؛ فقد أردنا به إيضاح المنهج الصحيح في الانتفاع بالكشوف العلمية في توسيع مدلول الآيات القرآنية وتعميقها، دون تعليقها بنظرية خاصة أو بحقيقة علمية خاصة تعليق تطابق وتصديق، وفرق بين هذا وذاك"3.   1 سورة يس: الآية 38. 2 سورة الأنبياء: من الآية 30. 3 في ظلال القرآن: سيد قطب ج1 ص181-184. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 ذلكم الرأي الواضح البيِّن لسيد قطب -رحمه الله تعالى- سقناه بطوله وبحروفه لما فيه من استفياء واستقصاء وشمول، ولئن سماه -رحمه الله- "استطرادًا "فإني لا أسميه إلا وفاء وجلاء للحق، وإني أعترف أني قد حاولت أن أختصر هذا النص مع الوفاء بالمعنى فما استطعت، وما توقفت عند جملة أريد حذفها إلا ورأيت تمام المعنى لا يقوم إلا بها. وقد وعدت قبل أن أسوق النص أن أوضح لِمَ صنفتُه -رحمه الله تعالى- مع المانعين للتفسير العلمي، ولعل معترضًا يقول: كيف تضعه هنا وهو يقول في النص المنقول نفسه مستدركًا: "ولكن هذا لا يعني ألا ننتفع بما يكشفه العلم من نظريات ومن حقائق عن الكون والحياة والإنسان في فَهْم القرآن ... ". وللإجابة على هذا أقول: إنه -رحمه الله- بيَّن أن مادة القرآن التي يعمل فيها هي الإنسان ذاته: تصوره واعتقاده ... إلخ، أما العلوم المادية، فهي موكولة إلى عقل الإنسان وتجاربه وكشوفه ... إلخ. وأقول: إنه -رحمه الله- يعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرى، ووصفهم بأنهم: 1- يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه. 2- وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه. 3- وأن يستخرجوا منه جزئيات في علم الطب والكيمياء والفلك وما إليها، فإذا كان وَصَفَهُمْ بهذا فكيف يكون مؤيدًا أو أن يقبل قولهم!! وأقول: إنه -رحمه الله تعالى- وصف حقائق القرآن بأنها نهائية، ووصف ما يصل إليه البحث الإنساني بأنها حقائق غير نهائية ولا قاطعة، ثم وصف تعليق الحقائق النهائية القرآنية بحقائق غير نهائية بأنه خطأ منهجي. هذا في "الحقائق العلمية"، أما النظريات والفروض العلمية فوصف كل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بها -إضافة إلى الخطأ المنهجي- بأنها تنطوي على ثلاثة معانٍ، كلها لا تليق بجلال القرآن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 أولها: الهزيمة الداخلية ... إلخ. ثانيها: سوء فَهْم طبيعة القرآن ووظيفته ... إلخ. ثالثها: التأويل المستمر مع التمحل والتكلف لنصوص القرآن ... إلخ. فإذا كان -رحمه الله- وصف تعليق الآيات القرآنية بالحقائق العلمية بأنه خطأ منهجي، ومجرد محاولة التعليق للإشارات القرآنية بالنظريات والفروض العلمية بأنه خطأ منهجي أيضًا، وذكر فيه زيادة ما ذكر ... فأين التأييد أو القبول عنده للتفسير العلمي؟ فإن قلت: إنه أيد الانتفاع بالكشوف العلمية في توسيع مدلول الآيات القرآنية وتعميقها. قلت: إن هذا لا يعد قبولًا للتفسير العلمي كتفسير؛ وإنما وهذا ما فهمته أن تذكر كشواهد لتوسيع المدلول، وفرق بين هذا وذاك، ويذكرني موقفه منه بموقف ابن تيمية -رحمه الله تعالى- من الإسرائيليات؛ حيث ذكر أنها تُذكر للاستشهاد لا للاعتقاد1.   1 مجموع فتاوى ابن تيمية: ج13 ص366. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 الرأي المختار : قبل أن أذكر الرأي الذي أميل إليه يجب أن أذكر حقيقة قد كنت أظنها لا تخفى إلى أن رأيت أحد الباحثين يقع في خلافها. تلكم هي التفريق بين "التفسير العلمي" و"الإعجاز العلمي". أما أولهما فهو مثار البحث والمناقشة، وأما ثانيهما فأحسبه أمرًا مسلمًا لا جدال فيه ولا إشكال. ذلكم أن كتابًا أُنزل قبل أربعة عشر قرنًا من الزمن، وعرض لكثير من مظاهر هذا الوجود الكونية؛ كخلق السماوات والأرض، وخلق الإنسان، وسوق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 السحب وتراكمه، ونزول المطر، وجريان الشمس والقمر، وتحدث عن الكواكب والنجوم والشهب وأطوار الجنين والنبات والبحار، وغير ذلك كثير، ومع ذلك كله لم يسقط العلم كلمة من كلماته، ولم يصادم جزئية من جزئياته، فإذا كان الأمر كذلك فإن هذا بحد ذاته يعتبر إعجازًا علميًّا للقرآن. هذه النتيجة المتولدة عن أن القرآن لم ولن يصادم حقيقة علمية، لم أرَ بين علماء المسلمين من أنكرها، لا في القديم ولا في الحديث، وكل ما يثار من ضجة وما يسطر في الصحف ما هو إلا عن التفسير العلمي لا عن الإعجاز العلمي. فالإعجاز العلمي قاعدة صُلْبة يقف عليها المسلمون جميعًا بكل ثقة وكل أمن؛ لكن طائفة منهم قالت: ما دام الإعجاز العلمي متحققًا في القرآن وثابتًا فما علينا أن نطبقه بين آياته واحدة واحدة، وبين الحقائق العلمية واحدة واحدة. وامتنعت طائفة أخرى عن تطبيقه لا خوفًا عليه من النقض، وليس خشية على حقائقه؛ ولكن لعدم الثقة في مداركنا نحن البشر؛ فقد نحسب نظرية علمية حقيقة علمية، فما تلبث قليلًا إلا وتتقوض بعد رسوخ وتتزعزع بعد ثبوت ولات حين مناص نقع في الحرج الشديد؛ فيكذب القرآن وهو الصادق فتكون البلية، فالعيب والنقص في مداركنا وليس في حقائق القرآن. إذًا فالمسلمون جميعًا يقولون بالإعجاز العلمي للقرآن؛ ولكنهم يختلفون في التفسير العلمي. هذا ما أحببت الإشارة إليه وبيانه، وكنت أظن هذا من الوضوح بما لا يخفى حتى رأيت أحد الباحثين يعقد مبحثًا في رسالته، ويقسم العلماء إلى قسمين: الأول القائلين بالإعجاز العلمي للقرآن، والثاني المانعين من القول بالإعجاز العلمي، وساق نصوصًا لهؤلاء يرفضون بها التفسير العلمي، وحَسِبَهم ينكرون بها الإعجاز العلمي. وإذا ما اتضح هذا، وحق لي أن أقول بعده الرأي الذي أميل إليه في التفسير العلمي؛ فإني أقول رأيًا ما فطرته ولا ابتدعته، وقاله قبلي كثيرون. ذلكم أن الحق فيما أرى وسط بين مذهبين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 فلا رفض ولا إنكار للتفسير العلمي يمنع من: 1- إدراك وجوه جديدة للإعجاز في القرآن من ناحية إثبات التوافق بين حقائقه النهائية القاطعة، وبين ما يثبت من الحقائق العلمية التي لا يقبل ثبوتها أيَّ نوع من الشك. 2- دفع مزاعم القائلين بأن هناك عداوة بين الدين والعلم. 3- استمالة غير المسلمين إلى الإسلام من هذا الطريق ببيان إعجازه العلمي لهم. 4- الحث على الانتفاع بقوى الكون ومواهبه. 5- امتلاء النفس إيمانًا بعظمة الله وقدرته حينما يقف الإنسان في تفسير كلام الله على خواص الأشياء ودقائق المخلوقات حسبما تصورها علوم الكون1، وحينما يرى الحقائق القرآنية ثابتة وصامدة تتكسر تحت أقدامها "النظريات" العلمية، وتعانقها بسلام "الحقائق" العلمية. لا رفض يمنع هذا، ولا تسليم مطلقًا للتفسير العلمي؛ لأن: 1- إعجاز القرآن ثابت، وهي غني عن أن يُسلك في بيانه هذا المسلك المتكلَّف الذي قد يذهب بالإعجاز، وهناك من ألوان الإعجاز غير هذا ما يشهد للقرآن بأنه كتاب الله المنزَّل على محمد صلى الله عليه وسلم2. 2- أن الدعوة القرآنية إلى النظر في الكون والعلوم هي دعوة لعامة الناس وخاصتهم إلى موضع العبرة والعظة؛ ليهتدي الناس بها إلى خالقها وموجدها، وليس إلى بيان دقائقها وكشف علومها. 3- أنه مدعاة إلى الزلل لدى أكثر الذين خاضوا فيه من المعاصرين؛ لأن عملية "التوفيق" تفترض غالبًا محاولة للجمع بين موقفين يتوهم أنهما متعاديان   1 مناهل العرفان في علوم القرآن: عبد العظيم الزرقاني ج1 ص568، 569. 2 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص159. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 ولا عداء، أو يظن أنهما متلاقيان ولا لقاء؛ أعني: أنه لا ينبغي أن يحالف النجاح بصورة حتمية كل عملية من عمليات "التوفيق"1. 4- أن تناول القرآن بهذا المنهج وبذلك المدى يضطر المفسر إلى مجاوزة الحدود التي تحتملها ألفاظ النص القرآني الكريم؛ لأنه يحس بالضرورة متابعة العلم في مجالاته المختلفة، مع أن كثيرًا من حقائق العلم مؤقتة ومتغيرة، ولا تظهر كلها دَفْعَة واحدة؛ بل تنكشف يومًا بعد يوم؛ وحينئذ يكون التعجل في تلمس المطابقة بين القرآن والعلم تعجلًا غير مشروع2. 5- أن ما يكشف من العلوم إنما هو نظريات وفروض كل قيمتها أنها تصلح لتفسير أكبر قدر من الظواهر الكونية أو الحيوية أو النفسية أو الاجتماعية، إلى أن يظهر فرض آخر يفسر قدرًا أكبر من الظواهر، أو يفسر تلك الظواهر تفسيرًا أدق؛ ومن ثم فهي قابلة دائمًا للتغيير والتعديل والنقص والإضافة؛ بل قابلة لأن تنقلب رأسًا على عقب بظهور أداة كشف جديدة، أو بتفسير جيدة لمجموعة الملاحظات القديمة3؛ ومن ثم فلا يصح أن نعلق الحقائق القرآنية النهائية بمثل تلك النظريات حتى لا نقف محرجين عند ثبوت بطلان تلك النظرية. أقول: لا رفض للتفسير العلمي مطلقًا ولا تأييد وتسليم له مطلقين؛ بل جمع بين حقيقتين: حقيقة قرآنية ثابتة بالنص الذي لا يقبل الشك، وحقيقة علمية ثابتة بالتجربة والمشاهدة القطعيين؛ ومن هنا كان المسلمون كلهم متفقين -كما أسلفنا- على أن القرآن الكريم لم ولن يصادم حقيقة علمية؛ وإنما يقع التصادم عندما ندعي حقيقة علمية في الكون وهي ليست حقيقة علمية، أو ندعي حقيقة قرآنية وهي ليست حقيقة قرآنية4.   1 معالم الشريعة الإسلامية: صبحي الصالح ص290. 2 الفكر الديني في مواجهة العصر: عفت الشرقاوي ص443. 3 في ظلال القرآن: سيد قطب ج2 ص97. 4 معجزة القرآن: محمد متولي الشعراوي ص47. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 لهذا فلا بأس -فيما أرى- من إيراد حقائق علمية ثابتة لا تقبل الشك عند تناول النص القرآني، مع إدراك معنى النص وفَهْمِه فهمًا سليمًا خاليًا من الشوائب والمؤثرات الخارجية، أو الميل به والانحراف لموافقة تلك الحقيقة العلمية، وهذا أيضًا كله مشروط بـ: 1- ألا تطغى تلك المباحث على المقصود الأول من القرآن؛ وهو الهداية والإعجاز. 2- أن تذكر تلك العلوم لأجل تعميق الشعور الديني لدى المسلم والدفاع عن العقيدة ضد أعدائها. 3- أن تذكر تلك الأبحاث على وجه يدفع المسلمين إلى النهضة، ويلفتهم إلى جلال القرآن، ويحركهم إلى الانتفاع بقوى هذا الكون الذي سخره الله لنا انتفاعًا يعيد للأمة الإسلامية مجدها1. 4- ألا تذكر هذه الأبحاث على أنها هي التفسير الذي لا يدل النص القرآني على سواه؛ بل تذكر لتوسيع المدلول، وللاستشهاد بها على وجه لا يؤثر بطلانها فيما بعد على قداسة النص القرآني؛ ذلك أن تفسير النص القرآني بنظرية قابلة للتغيير والإبطال يثير الشكوك حول الحقائق القرآنية في أذهان الناس كلما تعرضت نظرية للرد أو البطلان2.   1 مناهل العرفان في علوم القرآن: عبد العظيم الزرقاني ج1 ص569، 570. 2 مجلة كلية أصول الدين، العدد الثاني ص58، مقال: "نظرات في مدرسة التفسير الحديثة" للدكتور مصطفى مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 أهم المؤلفات فيه: لا أقصد أن أذكر تحت هذا العنوان شيئًا من التفاسير التي تناولت -عَرَضًا- التفسير العلمي، كما لا أقصد أن أذكر "كل" التفاسير التي أفردته بمؤلفات خاصة. فظهر أن مرادي هنا أن أذكر أهم المؤلفات في التفسير العلمي في العصر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 الحديث، والتي أفردتها بالدراسة دون ما سواها من ألوان التفسير، أو أن تكون الألوان الأخرى لا تكاد توجد في أبحاثها؛ وعلى هذا فإني سأقتصر على ما ذكرت مع تعريف موجز لكل منها، ثم أفرد بعضها بدراسة خاصة كنموذج للتفسير العلمي في العصر الحديث. فمن أهم المؤلفات في ذلك: 1- الجواهر في تفسير القرآن الكريم: المؤلف: طنطاوي جوهري. 2- كشف الأسرار النورانية القرآنية: المؤلف: محمد بن أحمد الإسكندراني. 3- الكون والإعجاز العلمي للقرآن: المؤلف: الدكتور منصور حسب النبي. 4- الإعجاز العددي للقرآن الكريم: المؤلف: عبد الرزاق نوفل. 5- مع الطب في القرآن الكريم: المؤلف: عبد الحميد دياب والدكتور أحمد قرقوز. وسنفرد هذه المؤلفات -إن شاء الله- بدراسة خاصة لكل منها؛ لأهميتها في هذا الموضوع. أما البقية من التفاسير فهي: 6- الإسلام في عصر العلم: المؤلف: محمد أحمد الغمراوي. ولد بمدينة زفتا بمحافظة الغربية في مصر سنة 1893م، حفظ القرآن الكريم، وتخرج في مدرسة المعلمين العليا سنة 1914م، ثم عمل مدرسًا بالمدارس الثانوية للجمعية الخيرية الإسلامية، وابتعث بعد ذلك إلى إنجلترا للتخصص في الكيمياء والطبيعة، وبعد عودته اختير أستاذًا للكيمياء في كلية الصيدلة إلى أن أحيل للمعاش، وفي سنة 1960م دعي إلى المملكة العربية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 السعودية؛ فأسس كلية الصيدلة بجامعة الرياض، وعمل بها أستاذًا وعميدًا ثلاث سنوات، ثم عهدت إليه إدارة الأزهر بالتدريس في كلية أصول الدين، ثم درس لطلبة الدراسات العليا بنفس الكلية، وتوفي -رحمه الله تعالى- سنة 1971م. الكتاب: حينما كان المؤلف -رحمه الله تعالى- يدرس في كلية أصول الدين طبعت لجنة التأليف بعض محاضراته فيها بعنوان: "في سنن الله الكونية"، وكان له نشاط في المجالات الإسلامية ومنها تلك السلاسل تحت عنوان: "دلالة القرآن على نفسه أنه من عند الله" و"السماء في القرآن وفي العلم" و"الجبال في القرآن"، وكان له مذكرات دوَّنها طلابه في كراستين؛ واحدة بعنوان: "إسلاميات"، والثانية بعنوان: "سنن كونية". وقد دعا هذا أحد أصدقاء المؤلف -وهو الدكتور أحمد عبد السلام الكرداني- إلى القيام بجمع هذا الكنز العلمي وتنسيقه وترتيبه وطبعه في هذا الكتاب "الإسلام في عصر العلم"، وقد كان لهذا الكتاب أثره بين علماء المسلمين في العصر الحديث1، ويقع الكتاب في 460 صفحة، وفي مجلد واحد. وقد قسمه جامعه إلى أربعة أبواب؛ هي: تحدث المؤلف في الباب الأول وعنوانه: "الإسلام دين الفطرة" وفيه عشرة فصول، تحدث عن الإسلام والفطرة، والإسلام دين العزة ودين الكرامة ودين الوفاء، وفي الفصل الخامس الإسلام والعلم والمدينة، وفي السادس الإسلام وسنن العلم، وفي السابع الطواف نظرة علمية، وفي الثامن الإسلام وسنن الاجتماع، ثم الإسلام والهجرة، ثم الاستعمار والإسلام. أما الباب الثاني فهو "محمد رسول الهدى" وفيه أربعة فصول، وفي الباب الثالث القرآن المعجزة الخالدة وفيه تسعة فصول. أما أهم الأبواب وأوسعها فهو الباب الرابع "من الإعجاز العلمي للقرآن"، وفيه ستة فصول، تحدث في   1 أخذت ترجمة المؤلف وبعض المعلومات الواردة هنا من الترجمة التي كتبها الدكتور أحمد عبد السلام الكرداني في مقدمة "الإسلام في عصر العلم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 الفصل الأول عن القرآن والعلم، وفي الثاني "تفسير الآيات الكونية"، وفي الثالث "الجبال في القرآن"، وفي الرابع "السماء في القرآن"، وفي الخامس "الظواهر الجوية في القرآن" و"نظرة في النبات" و"الطاقة"، وفي السادس "مخترعات العصر والقرآن". هذا هو الكتاب وهذه هي أبحاثه، ولولا أني أخشى المطالبة بالبراهين لسقت أهم محاسنه وأهم المآخذ عليه، ولو أوردت هذا وذاك لأخذ حيزًا في البحث طويلًا. 7- القرآن والعلوم العصرية: المؤلف: طنطاوي جوهري. ستأتي ترجمته -إن شاء الله- عند الحديث عن تفسيره: "الجواهر في تفسير القرآن الكريم". الكتاب: هو رسالة صغيرة لا تتجاوز صفحاتها 85 ورقة من الحجم المتوسط، بين يدي طبعتها الثانية، وصدرت سنة 1371 من مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي. اختار المؤلف فيه بعض الآيات، وفسرها تفسيرًا علميًّا؛ فيذكر "فصل في تفسير آية كذا"، ثم يذكر تحت هذا الفصل شتى العلوم والمعارف التي يحسبها تفسيرًا للآية. 8- القرآن ينبوع العلوم والعرفان: المؤلف: على فكري. هو علي فكري ابن الدكتور محمد عبد الله، ولد سنة 1296 في القاهرة، وتُوفي بها سنة 1372، ثم عمل مدرسًا ثم كاتبًا بوزارة المعارف، ثم نُقل إلى دار الكتب المصرية سنة 1330 تقريبًا، وله عدد من المؤلفات؛ منها: 1- الكتاب موضع الحديث "ينبوع العلوم والعرفان". 2- آداب الفتى. 3- آداب الفتاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 4- عظة النساء. 5- مسامرات البنات. 6- المكاتبات الفكرية. 7- دليل العملة والمعاملة. 8- سعادة الزوجين. 9- التربية الاجتماعية. 10- سبيل النجاح. 11- تربية البنين. 12- الإنسان. 13- الآداب الإسلامية. 14- تقوم الأخلاق. 15- السمير المهذب "أربعة أجزاء". 16- المعاملات المادية والأدبية، 4 أجزاء. 17- أحسن القصص، خمسة أجزاء1. هذه هي مؤلفاته؛ وإنما سقتها ليتضح أن المؤلف غير متخصص في التفسير، وأن كتابته في التفسير ككتابة كثير من المعاصرين كتابة مثقف وليست كتابة مفسر. الكتاب: ينبوع العلوم والعرفان ويقع الكتاب في ثلاثة أجزاء متوسطة الحجم، وصدرت الطبعة الأولى من الكتاب سنة 1365. وقد وضح في مقدمته ما يحتوي عليه كتابه فقال بعد أن ذكر أن القرآن الكريم قد أشار بوضوح تام إلى العلوم الكونية التي تدارسها العالم القديم والحديث، قال: "لهذا رأيت وجوبًا عليَّ -خدمة للدين والعلم والإنسانية- أن أضع كتابًا جامعًا بقدر الإمكان لما جاء في كتاب الله العزيز من الآيات في العلوم الآتية: الطب والصيدلة، الصحة، التاريخ الطبيعي، الحيوان، النبات، المعادن، الكيمياء، علم طبقات الأرض، الجيولجيا، الطبيعة، الهواء، الماء، النار، الحرارة، الصوت، الضوء، النور، الكهرباء، المغناطيسية، اللاسلكي "الراديو" "التليفزيون"، الفلك، الجغرافيا، تقويم البلدان، الملاحة البحرية، السياحة والأسفار، السياحة، التاريخ الأثري، والتاريخ العام، والفنون الحربية، الصناعة والتجارة، الحساب، الهندسة، العمارة والري، الكتابة وأداوتها والمكتبات.   1 أخذت هذه الترجمة من الأعلام: للزركلي ج4 ص319، 320. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 هذا مع تفسير الآيات تفسيرًا مختصرًا مفيدًا يدل على معناها، وأسميته "القرآن ينبوع العلوم والعرفان"؛ ليكون في اسمه ما يدل على ما فيه، وأتبعت الآيات بنُبذة عن كل علم مع خلاصة وجيزة من تعاريفه الأولية"1. "أما الآيات المتعلقة بالعلوم الشرعية والحكمية والفلسفية فلم أتعرض لها؛ لأن لها كتبًا خاصة بها، وفيها ما يغني عن البحث في موضوعاتها"2. وقد قسم هذه الأبحاث المذكورة على أجزاء كتابه الثلاثة، وقد جرى المؤلف على أن يفرد كل علم بمبحث خاص يفسر في الآيات التي يعتقد صلتها به تفسيرًا علميًّا، ثم يورد نُبذة مختصرة أو كلمة عامة عن العلم الذي يتحدث عنه؛ عن أصله ونشأته وأبحاثه، الجديد منها والقديم. مما لا يعنينا استيفاؤه هنا أو إيراد أمثلة منه. 9- القرآن والعلوم الحديثة: المؤلف: محمود أبو الفيض المنوفي. وهي رسالة صغيرة الحجم في 80 صفحة، الناشر عيسى البابي الحلبي. 10 - الإسلام والطب الحديث: المؤلف: الدكتور عبد العزيز إسماعيل. ولد سنة 1306، وتُوفي سنة 1361، تعلم الطب في القاهرة ثم في إنجلترا، وكان أستاذًا للدراسات العليا، وله من المؤلفات غير هذا الكتاب: رسالة في "الطب والقرآن"، وعددًا من المقالات في المجالات الطبية3. الكتاب: ولقد نال الكتاب على صِغَرِ حجمه شهرة كبيرة عند مَن تناول   1 القرآن ينبوع العلوم والعرفان: علي فكري ج1 ص15، 16. 2 القرآن ينبوع العلوم والعرفان: علي فكري ج1 ص15، 16. 3 الأعلام: الزركلي ج4 ص15. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 هذا الموضوع، ولعل هذه الشهرة ترجع للمقدمة التي كتبها شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي، وأشاد بها في الكتاب وأثنى عليه وعلى صاحبه. ويقع الكتاب في 132 صفحة متوسع الحجم، صدرت طبعته الثانية سنة 1959م. 11- ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان: المؤلف: محمود شكري الألوسي. وهو حفيد شهاب الدين محمود الألوسي صاحب التفسير المعروف "روح المعاني". وُلد في بغداد سنة 1273، وتلقى العلم عن أبيه وعمه أبي البركات نعمان خير الدين الألوسي وغيرهما، وتُوفي في بغداد سنة 1342، وله عدد من المؤلفات؛ أهمها: 1- غاية لأماني في الرد على النبهاني في جزأين. 2- فصل الخطاب في شرح مسائل الجاهلية للإمام محمد بن عبد الوهاب. 3- الأدلة العقلية على ختم الرسالة المحمدية. وغير ذلك من المؤلفات1. الكتاب: ويقع في 144 صفحة تقريبًا، صدرت طبعته الأولى سنة 1380هـ والثانية سنة 1391هـ، والناشر المكتب الإسلامي. 12- التفسير العلمي للآيات الكونية في القرآن: المؤلف: حنفي أحمد. الكتاب: وهذا العنوان وضعه له مؤلفه في الطبعة الثانية، وكان قد صدر في الطبعة الأولى بعنوان "معجزة القرآن في وصف الكائنات".   1 انظر ترجمته في مقدمة الكتاب نفسه، ص8، 9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 ويقع الكتاب في طبعته الثالثة في 454 صفحة. 13- شواهد العلم في هدى القرآن "معجزات القرآن يشهد بها العلم الحديث": المؤلف: محمد سعدى المقدم. الكتاب: يقع في جزأين، اطلعت على الجزء الأول الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1950 في 152 صفحة. ويحتوي الكتاب على أربعة أبواب: الأول القرآن، والثاني بداية الخلق، وهما في الجزء الأول، وباب يبحث فيما يختص بالأرض، والرابع في نهاية الدنيا أو "يوم القيامة"، وهما في الجزء الثاني. وقد شن المؤلف في مقدمته حملة على الأزهر والأزهرين الذين أهملوا الجديد وصاروا وراء القديم!! وحمل الأخطاء والشطط في كتابه على الأزهر؛ لأنهم رفضوا مراجعته قبل الطبع. بقي أن أقول: إن تخصص المؤلف ماجستير في الاقتصاد السياسي وليس فيه تفسير للآيات؛ بل هو أقوال لفلاسفة الغرب وعلمائهم. 14- الإعجاز العلمي في القرآن: المؤلف: أحمد عبد السلام الكرداني. وهو نماذج مستقاة من الكتاب السابق "الإسلام في عصر العلم" للدكتور محمد أحمد الغمراوي. 15- العلوم الطبيعية في القرآن: المؤلف: يوسف مروة. الطبعة الأولى بيروت 1387، ويقع في 274 صفحة. 16- القرآن ونهاية العالم: المؤلف: كتب على غلافه: الأسيوطي الفلكي يقدم: القرآن ونهاية العالم، ولا أعرف هذا المؤلف. وناشر الكتاب علي السيد سليمان صاحب دار الكتب الشرقية بالأزهر، بدون تاريخ، ويقع في ثمانين صفحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 17- رحلة عبر الغيب بين آيات القرآن وصفحات الأكوان: المؤلف: عبد الكريم عثمان. الكتاب: متوسط الحجم، يقع في 141 صفحة. 18- معجزات القرآن الكريم في العلم والسياسة والاجتماع "باللغتين العربية والإنجليزية": المؤلف: محمود مهدي الإستانبولي. الكتاب: كتاب موجز في موضوعه، يذكر نص الآية ثم إشارة إلى معناها ومدلولها العلمي، ثم ترجمة ذلك إلى اللغة الإنجليزية، صدر الكتاب سنة 1380، ويقع في 76 صفحة. 19- معجزة القرآن: المؤلفة: نعمت صدقي. صدرت الطبعة الثانية من دار الاعتصام بالقاهرة سنة 1398، ويقع الكتاب في 195 صفحة. 20- القرآن وإعجازه العلمي: المؤلف: محمد إسماعيل إبراهيم، وعدد صفحاته 174 صفحة. 21- البرهان من القرآن: المؤلف: محمود أحمد مهدي، عدد صفحاته 361 صفحة. 22- القرآن والعلم الحديث: المؤلف: عبد الرزاق نوفل، ستأتي ترجمته إن شاء الله. الكتاب: طبع سنة 1393 بيروت، عدد صفحاته 225. 23- الرياضيات في القرآن الكريم: المؤلف: خليفة عبد السميع خليفة. الكتاب: صدرت الطبعة الأولى سنة 1403، وجاء على غلافه أنه أول كتاب يتناول الإعجاز الرياضي وعلوم الحساب والجبر والهندسة وعلمي الإحصاء والميكانيكا، وعدد صفحاته 184 صفحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 24- معجزة القرن العشرين في كشف سباعية وثلاثية أوامر القرآن الكريم: المؤلف: ابن خليفة عليوي. الكتاب: الطبعة الأولى سنة 1403، عدد صفحاته 110، الناشر دار الإيمان، دمشق. 25- الإعجاز الحسابي في القرآن الكريم: المؤلف: رشاد خليفة. الكتاب: رسالة صغيرة في 26 صفحة. 26- تسعة عشر، دلالات جديدة في إعجاز القرآن: المؤلف: رشاد خليفة. الكتاب: نص محاضرة ألقاها المؤلف في الكويت، وتقع في 30 صفحة من الحجم الصغير. 27- معجزة القرآن العددية: المؤلف: صدقي البيك. الكتاب: نشرته مؤسسة علوم القرآن، دمشق، بيروت، وصدرت الطبعة الأولى سنة 1401، والكتاب له صلة وثيقة بالكتابين السابقين وبمؤلفهما، ومتمم لهما. 28- لفتات علمية من القرآن: المؤلف: يعقوب يوسف. الكتاب: نشرته الدار السعودية للنشر والتوزيع، والطبعة الثانية صدرت سنة 1390 في 100 صفحة. 29- الإعجاز العلمي في القرآن: المؤلف: حمزة سالم الصيرفي. الكتاب: صدرت طبعته الأولى سنة 1399، وعدد صفحاته 48 صفحة. 30- القرآن الكريم والغلاف الجوي: المؤلف: محمد عفيفي الشيخ. الكتاب: صدر سنة 1400 في 131 صفحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 31- تفسير الآيات الكونية: المؤلف: الدكتور عبد الله شحاتة. الناشر: دار الاعتصام، الطبعة الأولى سنة 1400 في 316 صفحة. 32- القرآن والطب: المؤلف: أحمد محمود سليمان، وعدد صفحاته 146 صفحة. 33- آيات الله تعالى: المؤلف: محمد وفا الأميري. الكتاب: في جزأين: الأول 450 صفحة، والثاني 315 صفحة، الناشر دار الرضوان، حلب. 34- القرآن والطب: المؤلف: الدكتور الحج محمد وصفي. الناشر: دار الكتب الحديثة بالقاهرة، صدرت الطبعة الأولى سنة 1380 في 220 صفحة. 35- الإعجاز الطبي في القرآن: المؤلف: الدكتور السيد الجميلي. الناشر: دار التراث العربي، القاهرة، صدرت الطبعة الثانية سنة 1400 في 194 صفحة. هذه بعض المؤلفات في التفسير العلمي التجريبي في العصر الحديث، ولئن كان المقام لا يسمح لنا بدراستها تفصيلًا؛ فإنه لا يعفينا من دراستين: 1- دراسة في التفسير ذاته مستمدة من هذه التفاسير بمجموعها. 2- دراسة تفاسير منها دراسة مستقلة. يعبر عن أولاهما بدراسة نماذج للتفسير العلمي في العصر الحديث، ويعبر عن الثانية بدراسة نماذج من المؤلفات في التفسير العلمي الحديث، وهذه أُولَى الدراستين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 نماذج للتفسير العلمي التجريبي في العصر الحديث: وكما أنه ليس بمقدورنا أن نقدم دراسة لكل هذه المؤلفات؛ فإنه ليس بمقدورنا أن نقدم أمثلة لكل الآيات التي تناولوها بالتفسير العلمي؛ فلنذكر بعضًا منها، ولنقدم قبله تفسير السلف لكل آية حتى نعرف موقع تفسيرهم منه؛ فمن ذلك: أولًا: قوله تعالى {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} ذهب السلف في المراد بالماء في هذه الآية إلى قولين؛ أولهما: أن المراد به الماء المعروف، وثانيهما: أن المراد به النطفة؛ وعلى الأول أن الماء سبب حياة كل شيء حي، وعلى الثاني أن أصل كل شيء هو النطقة. قال الشوكاني -رحمه الله تعالى- في تفسيره: " {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} أي: أحيينا بالماء الذي ننزله من السماء كل شيء فيشمل الحيوان والنبات؛ والمعنى: أن الماء سبب حياة كل شيء، وقيل: المراد بالماء هنا النطفة، وبه قال أكثر المفسرين"1، وقال ابن كثير: " {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} أي: أصل كل الأحياء"2. أما التفسير العلمي الذي يقدمه الأستاذ أحمد محمود سليمان فليس بهذا ولا بذاك؛ فهو يفسره بأن الماء هو أصل الحياة؛ بمعنى أن المخلوقات كلها نشأت أول ما نشأت في الماء، وخلقها الله أول ما خلقها في الماء، فأول ما ظهر من الحيوانات ذات الخلية الواحدة لا تراها العين المجردة، ثم تبع ذلك حيوانات ذات خلايا عدة، وهكذا تطورت الحياة في الماء خلال ملايين الأعوام، ثم بدأت بعض الحيوانات تخرج من البحر إلى البر، ثم نشأت الزواحف التي اتخذت البر لها مسكنًا، ثم الطيور ثم ذوات الأربع، وذكر أن أول مَن قال بهذه النظرية هو التوراة، أما القرآن فلم يقتصر على هذا "!! " بل أبان أن الماء هو أصل جميع الكائنات من حيوان ونبات؛ مما يدل على هيمنة القرآن العلمية على ما سبقه مِن   1 فتح القدير: الإمام الشوكاني ج3 ص405. 2 تفسير ابن كثير: ج3 ص187. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 الكتب المقدسة، وهذا قوله بنصه بعد أن قدم لتفسيره بأن الشمس تسطع على البحار فيتبخر ماؤها فتنشأ السحب الثقال ثم يهطل المطر وتتكون البحيرات والأنهار، قال بعد ذلك: "تلك قصة الماء التي يراها كلُّ إنسان في كل مكان وزمان، جعل الله منه النبات، وأحيا به الإنسان والحيوان، أما في غابر الأزمان حينما كان الإنسان لا يزال في ضمير الكون سرًّا من الأسرار؛ فإنه بعد أن خلق الله الأرض، وبدأ يهيئها للعُمران أودعها الحياة أول ما أودعها ماء البحار؛ إذ خلق في جوفها أبسط الكائنات من نبات وحيوانات. وأول الحيوانات التي ظهرت في الماء تلك التي تتكون من خلية واحدة لا تراها العين المجردة، ثم تبعت تلك الحيوانات حيوانات ذات خلايا عدة: الحيوانات اللافقرية، ثم الحيوانات الفقرية التي تنتمي إليها الأسماك. ظلت الحيوانات حتى ذلك الحين في جوف البحار والمحيطات إلى أن ظهرت بعد ذلك الكائنات التي تجمع في معيشتها بين البر والماء؛ هي الحيوانات البرمائية التي تنتمي إليها الضفادع. استمر هذا التطور الذي أخذ الملايين من الأعوام في مجراه؛ حتى نشأت الزواحف التي أخذت الأرض لها مسكنًا دون الماء، ثم تبعها في سلسلة التطور الطير الذي اتخذ الأرض له مسرحًا والهواء، ثم ختمت السلسلة بذوات الأربع؛ فامتلأت الأرض بالزواحف والطيور والحيوانات، وكلها قُذفت بادئ ذي بدء من بطن مياه البحار والمحيطات. وأول مَن قال بهذه النظرية التوراة، التي تكلمت عن نشأة الحيوانات البرية في الإصحاح الأول من سِفْرِ التكوين كما ذكرت آنفًا، ومضمون ما قالت التوراة: هو أن المياه أخرجت زحافات، ثم خلق الله بعد ذلك الطير، ثم تبع ذلك ظهور الحيوانات الثديية. أما القرآن الكريم، فلم يقتصر على هذا؛ بل أبان أن الماء هو أصل جميع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 الكائنات من حيوان ونبات، مما يدل على هيمنة القرآن العلمية على ما سبقه من الكتب المقدسة، وعلى إعجاز هذه الآية التي نزلت في وقت كان العالَم فيه غارقًا في دياجير الظلمات. وهذه الآية الكريمة -أستغفر الله- بل هذا الجزء من الآية لا يحمل إعجازًا فقط؛ بل يحمل في ثناياه إعجازًا فوق إعجاز، فالماء هو أصل الحياة أو هو الذي نشأت في جوفه الكائنات أول ما نشأت"1. هذا ما زعمه تفسيرًا للآية، وما هو بتفسير حق، وما هو بتفسير مقبول؛ بل أحسبه يعارض أخبار القرآن الكريم العديدة ونصوصه الكثيرة. انظر إلى قوله مثلًا عن الزواحف والطيور والحيوانات: "وكلها قُذفت بادئ ذي بدء من بطن مياه البحار والمحيطات"، وقوله عن الماء: "هو الذي نشأت في جوفه الكائنات أول ما نشأت". كيف نسي أن الإنسان وهو من الكئنات أنه شيء خُلق من طين في السماء، وأمر الله الملائكة بالسجود له، ثم أدخله الله الجنة، ثم أنزله إلى الأرض، فأين هذه والزعم بأن نشأت المخلوقات كلها في جوف الماء. دَعْ عنك مناقشته في دعواه في هذا التطور للمخلوقات كلها وترتيب ظهورها ... إلخ، مما لا يقوم عليه دليل ولا يسنده برهان، إلا ما لا يعتد به، ولا يؤخذ به في تفسير كتاب الله. وأحسب أن ما زعمه تفسيرًا للآية ما هو بتفسير؛ بل هو مردود على قائله، وليستغفر الله منه. ثانيًا: قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} 2   1 القرآن والطب: أحمد محمود سليمان ص68. 2 سورة البقرة: الآية 222. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 قال الشوكاني -رحمه الله تعالى- في تفسيره: "وقوله: {قُلْ هُوَ أَذًى} أي: قل هو شيء يتأذى به؛ أي: برائحته، والأذى كناية عن القذر، ويطلق على القول المكروه، ومنه قوله تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} 1، ومنه قوله تعالى: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} 2" 3. وقال الإمام الطبري -رحمه الله تعالى-: "القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذًى} يعني تعالى ذكره بذلك: قل لمن سألك من أصحابك يا محمد عن المحيض هو أذى، والأذى هو ما يؤذى به من مكروه فيه، وهو في هذا الموضع يُسمى أذى لنتن ريحه وقذره ونجاسته، وهو جامع لمعانٍ شتى من خلال الأذى غير واحدة"4. أما أصحاب التفسير العلمي الحديث فبينوا أضرار الجماع وقت الحيض الطبية؛ فقال الأستاذ أحمد محمود سليمان في تفسيرها: إنه والله لتشريع حكيم يدعو إليه الطب الحديث والذوق السليم والخُلُق القويم؛ فالمحيض الذي يشمل العادة الشهرية والأنزفة الرحمية والدم الناتج عن الولادة والإجهاض فوق أنه كريه الرائحة منفر، فإنه يحمل أذى كبيرًا وشرًّا مستطيرًا للزوجين على السواء. إنه يعرض الرجل لالتهاب مجرى البول إذا ما تسرب بعض دم الحيض الفاسد إليه حاملًا معه جراثيم الأمراض، ولا يقتصر أذاه للرجل على ذلك، فلو فرض ووجد عند المرأة مثلًا عدوى وراثية بالزهري؛ فإنها لا تظهر في الأحوال العادية؛ لأن العدوى تكون كامنة، أما دم الحيض فربما وُجد به بعض الجراثيم مما قد يتسبب عنه عدوى الرجل. هذا هو ضرره للرجال: التهاب في مجرى البول، وتعرض لمرض الزهري، من مرض قد يكون كامنًا.   1 سورة البقرة: من الآية 264. 2 سورة الأحزاب: من الآية 48. 3 فتح القدير: الشوكاني ج1 ص225. 4 جامع البيان: الإمام الطبري ج2 ص225. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618 أما ضرره للنساء فأشد وأنكى، فمقاومة المرأة للأمراض ومناعتها وقت الحيض تنقص إلى حدها الأدنى؛ فتكون أكثر تعرضًا للعدوى إذا ما دخلت جراثيم الأمراض المهبل أو عنق الرحم، وهو أمر كثير الحدوث وقت الجماع، أما في غير أوقات الحيض فإن هذه الجراثيم يتغلب عليها الجسم بشدة مقاومته، وبما أن الرحم يكون مدة الحيض محتقنًا، فإذا أضيف إليه ما تحدثه المباشرة من الاحتقان الشديد؛ فقد يحدثان نزفًا، ولا سيما إذا كان به أورام أو التهابات. أما بعد الولادة، فإن الرحم لا يكون في حجمه الطبيعي، ويستمر كذلك ستة أسابيع تقريبًا، وهي المدة التي قد يستمر فيها النزيف من الرحم عقب الولادة، والتي تتطهر بعدها معظم النساء. وقد تؤدي المباشرة في أثناء الحيض إلى التهاب في الرحم، يحدث عند السيدات حالات عصبية يستعصي علاجها؛ ولذلك مُنعت المباشرة حتى تطهر المرأة فيعود إليها بهاؤها وجاذبيتها، وتنتظم نفسيتها، وتزول العوامل التي تضر بصحتها؛ وحينئذ لا يوجد مانع من الجماع وإتيان الرجل للمرأة من حيث أمرهما الله إتيانًا طبيعيًّا؛ إذ إن المباشرة من غير الموضع الطبيعي فيها ضرر كبير، وهي تعبتر إثمًا يستوجب التوبة؛ إذ إن هذه المباشرة قد يتسبب منها التهاب في مجرى البول للرجل وفي البروتستاتا، غير ما يحدث عندها من جروح، فوق أنها تفقد الرجولة، وتورث التخنث، وتهد من قوى الرجل. وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحذيرًا شديدًا من المباشرة في أثناء الحيض ومن غير الطريق الطبيعي بقوله: "ملعون مَن أتى امرأة وهي حائض 1، ملعون مَن أتى امرأة في دبرها 2، ملعون مَن عمل عمل قوم لوط" 3، 4.   1 لم أجده بهذا اللفظ. 2 رواه أحمد في مسنده ج2 ص444، وأبو داود في سننه، كتاب النكاح ج2 ص249. 3 رواه الطبراني في الأوسط، ورواه الحاكم "جامع الأصول ج3 ص550"، وأحمد في مسنده عن ابن عياش. 4 القرآن والطب: أحمد محمود سليمان ص115، 116. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 أما الدكتور عبد العزيز إسماعيل فقسم إفرازات الجسم إلى نوعين: نوع له فائدة في الجسم؛ مثل: الهضم أو التناسل أو إفرازات داخلية تنظم أجهزة الجسم وأنسجته ... إلخ، وهو ضروري للحياة وليس فيه ضرر. ونوع ليس له فائدة؛ بل هو بالعكس يجب إفرازه من الجسم إلى الخارج، وهو مكون من مواد سامة إذا بقيت في الجسم أضرت به، وذلك مثل: البول والبراز والعرق والحيض. وقال أيضًا: فهذه الآية الكريمة علَّمت الإنسان قبل أن يعرف شيئًا عن أنواع الإفرازات أن المحيض أذى، وأنه لا يفيد الجسم. وأما الجزء الثاني من الآية الكريمة: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} فسببه أن الأعضاء التناسية تكون في حالة احتقان، والأعصاب تكون في حالة اضطراب؛ بسبب إفرازات الغدد الداخلية، فالاختلاط الجنسي يضرها وربما منع نزول الحيض، كما يحصل كثيرًا من الاضطراب العصبي، وقد يكون سببًا في التهاب الأعضاء التناسلية. وهذا هو السبب في أن الطبيب الأخصائي لا يكشف على مرضاه من النساء وقت المحيض1. أما الدكتور الحاج محمد وصفي فقد أطال في بيان أضرار وطء الحائض عندما تناول الآية المذكورة؛ فتحدث أولًا عن بلاغة القرآن الكريم في اختيار التعبير بكلمة "أذى"، التي لم يجد رغم محاولته كلمة تقوم مقامها أو تحمل حملها، ثم تحدث عن حكم المحيض عنج اليهود ثم عند النصارى ثم في الإسلام، ثم عن توجيه النهي للرجال، ثم عن دورة الحيض وآلامه، ثم عن عرضة الحائض للأمراض، ثم عن الوسط المهبلي وتغيره بالحيض، ثم عن أذى وطء المرأة أثناء الحيض، وأنه سبب لالتهاب المهبل وما يشنأ عنه من مرض يكفي أنه يسبب العقم، وذكر من أضراره حمل البكتريا إلى دخل المهبل وما تسببه من أمراض،   1 الإسلام والطب الحديث: الدكتور عبد العزيز إسماعيل ص39، 40. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 وذكر من أضراره أنه من أهم الأسباب المهيئة لتعفن الرحم الذي يسبب العقم والآلام الشديدة للمرأة، وتحدث عن منابع العدوى، ثم تحدث عن الأضرار التي تصيب الرجل، ثم ذكر حِكْمَتين للمنع؛ أولهما: تقوية الإرادة، وثانيهما: أن الحيض لا إنبات فيه1. أما الدكتور السيد الجميلي فزاد على ما ذكر من أضرار الجماع وقت الحيض أن مرض الجذام ينتقل وينجم عن المباضعة في المحيض2. هذه إشارات لما قاله أصحاب التفسير العلمي التجريبي في تفسير هذه الآية، وإذا ما نظرنا نظرة مقارنة بينه وبين ما أوردناه أولًا من تفسير للطبري وللشوكاني، وبين نص الآية أيضًا؛ لرأينا أن الآية تنص نصًّا على أنه أذى؛ لكنها لم تذكر ما هو هذا الأذى، ونحن المسلمين يكفينا اعتقادًا أن في جماع الحائض أذى وأنه محرم، وإذا ما أردنا زيادة تعليل ليس لأجل تعليق الحكم عليها؛ وإنما للعلم والمعرفة ليس إلا، فلا بأس أن تقرأ للطبري والشوكاني أن الأذى رائحته الكريهة، ولا بأس أن يذكر الأطباء أن الأذى هو أضراره الطبية؛ وعلى هذا فلم يخترع أصحاب التفسير العلمي هنا طريقًا بدعًا؛ وإنما التقوا مع السلف في التعليل؛ وإنما لم يتفقوا على علة. ثالثًا: قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} 3 قال الشوكاني -رحمه الله تعالى- في تفسيرها: "يقال: ثنَى صدره عن الشيء: إذا ازورَّ عنه وانحرف منه، فيكون في الكلام كناية عن الإعراض؛ لأن مَن أعرض عن الشيء ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه. وقيل معناه: يعطفون صدورهم على ما فيها من الكفر والإعراض عن الحق؛ فيكون في الكلام كناية عن الإخفاء لما يعتقدونه من الكفر، كما كان دأب المنافقين، والوجه الثاني أَوْلَى"، إلى   1 القرآن والطب: الدكتور الحاج محمد وصفي، انظر الصحفات 66-82. 2 الإعجاز الطبي في القرآن: الدكتور السيد الجميلي ص140. 3 سورة هود: الآية 5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 أن قال: "وجملة "يعلم ما يسرون وما يعلنون" مستأنفة لبيان أنه لا فائدة لهم في الاستخفاء؛ لأن الله سبحانه يعلم ما يسرونه في أنفسهم أو في ذات بينهم وما يظهرونه، فالظاهر والباطن عنده سواء، والسر والجهر سيان، وجملة "إنه عليم بذات الصدور" تعليل لما قبلها وتقرير له، وذات الصدور هي الضمائر التي تشتمل عليها الصدور، وقيل: هي القلوب؛ والمعنى: أنه عليم بجميع الضمائر، أو عليم بالقلوب وأحوالها في الإسرار والإظهار، فلا يحفي عليه شيء من ذلك"1. وقد فسَّر الدكتور عبد العزيز إسماعيل هذه الآية تفسيرًا علميًّا حديثًا فقال: "هذه الآية سهلة الفَهْم بعدما تقدمت علوم النفس والتنويم المغناطيسي وغيرها، وظهر جليًّا أن كل فكرة يقابلها تغيير كيماوي في الخلايا المخية، وكما أنه لا حركة في الأرجل دون أن يحصل انقباض العضلات، كذلك لا يمكن أن يفكر الإنسان دون أن تحصل تغييرات في خلايا المخ، وليس هذا هو الذي يحصل فقط؛ بل إن هذه التغييرات تبقى مسجلة في المخ الباطني، ومن الممكن أن يتذكرها الشخص بعد مدة طويلة تحت تأثيرات مخصوصة كالانفعالات العصبية أو التنويم المغناطيسي وغيرها، ولو نسيها الشخص تمام النسيان. وقد اكتشفت أخيرًا أجهزة كهربائية يمكن بها معرفة حالة بعض الخلايا المخية إذا كانت في حالة هدوء أو حالة انشغال، وقد ترتقي العلوم أكثر من ذلك، هذا حال الإنسان مع جهله. والله سبحانه وتعالى يعلم كل ما يجول في مخ الإنسان، وكل ما جال في مخه، وهو أعلم بها من الإنسان نفسه؛ لأنه عرضة للنسيان"2. وقد استغربت وصف الدكتور عبد العزيز لهذه الآية بأنها سهلة الفَهْم بعدما تقدمت علوم النفس والتنويم المغناطيسي! ذلكم أن الآية لم تكن صعبة الفَهْم قبل ذلك للذين يؤمنون بالغيب.   1 فتح القدير: الإمام الشوكاني ج2 ص481، 482. 2 الإسلام والطب الحديث: الدكتور عبد العزيز إسماعيل ص92، 93. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 ثم إني لا أقبل أن يعلل علم الله سبحانه وتعالى بما في صدر الإنسان بالتغييرات التي تحدث في خلايات المخ عند التفكير؛ فالله سبحانه وتعالى يعلم ذلك حتى ولو لم يحدث -إن كان يحدث- هذا التغيير في الخلايا؛ بل الله سبحانه يعلم ما في الصدور وما سيكون في الصدور؛ أي: قبل أن يفكر الإنسان بالتفكير بالشيء، فعلمه سبحانه علم قبل ومع وبعد التفكير الإنساني، وهو علم مستقل بذاته عن التغييرات في خلايا المخ، فلا تزيده تلك علمًا ولا ينقصه عدمها علمًا. ولذلك فإن قول الدكتور إسماعيل آخرًا: "والله سبحانه وتعالى يعلم كل ما يجول، وكل ما جال ... " إلخ بحاجة إلى أن يزاد فيه: "وكل ما سيجول"؛ لأن الأمرين السابقين مرتبطان حسب قوله بالتغييرات، وعلم الله -كما قلنا- لا تؤثر فيه هذه التغييرات فتقيده بمدلولاتها؛ فكان علمه سبحانه بكل شيء، والله أعلم. رابعًا: قوله تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} 1 قال الشوكاني -رحمه الله تعالى- في تفسيرها: " {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} جواب قسم محذوف، وفيه زيادة وعيد وتهديد؛ أي: والله لترون الجحيم في الآخرة. قال الرازي: وليس هذا جواب لو؛ لأن جواب لو يكون منفيًّا، وهذا مثبت، ولأنه عطف عليه {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ} وهو مستقبل لا بد من وقوعه، قال: وحذف جواب لو كثير، والخطاب للكفار، وقيل: عام كقوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} ". إلى أن قال: "ثم كرر الوعيد والتهديد للتأكيد فقال: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} أي: ثم لترون الجحيم الرؤية التي هي نفس اليقين، وهي المشاهدة والمعاينة، وقيل المعنى: لترون الجحيم بأبصاركم على البعد منكم، ثم لترونها مشاهدة على القرب، وقيل: المراد بالأول رؤيتها قبل دخولها، والثاني رؤيتها حال دخولها، وقيل: هو إخبار عن دوام بقائهم في النار؛ أي: هي رؤية دائمة متصلة، وقيل: المعنى لو تعلمون اليوم علم اليقين وأنتم في الدنيا لترون الجحيم بعيون قلوبكم، وهو أن تتصوروا أمر القيامة وأهوالها"2.   1 سورة التكاثر: الآيتان 5، 6. 2 فتح القدير: الإمام الشوكاني ج5 ص489. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 قلت: وهأنت ترى من الأقوال التي ساقها الشوكاني -رحمه الله تعالى- أن أحدًا منهم لم يقل: إن الرؤية للنار في الدنيا بالأبصار، وإن قال أحدهم: إنها في الدنيا بعيون القلوب، ولم يقل بالعيون الباصرة. أما الأستاذ محمود القاسم ففسر الرؤية هنا بتفسير عجيب، ذكر فيه أننا نعلم علم اليقين؛ إذًا فبإمكاننا رؤية الجحيم، وأن الرؤية في الدنيا رؤية بصرية، وقد رد التفاسير التي فسرت الرؤية بالآخرة. فقسم أولًا الكتلة الكونية إلى قسمين: 1- نجوم ملتهبة لها كل صفات جهنم الواردة في القرآن والحديث. 2- وكواكب باردة يشملها قوله تعالى: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} لأن الكواكب الباردة هي حجارة مختلفة الأنواع مثل الأرض، وقال: "إذًا فالكتلة الكونية هي جهنم". ثم ذكر أنه يصح أن يوصف مَن رأى بعض الشيء بأنه رآه من باب إطلاق اسم الكل على الجزء؛ فتقول لرفيقك: لقد رأيت البحر وأنت لم ترَ منه إلا جزءًا صغيرًا. ثم تساءل عن الجزء الذي نراه في قوله تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} وكان جوابه لنفسه: يكفي لتحقق الآية أن نرى واحدًا من النجوم الملتهبة، التي هي من نوع جهنم، ولها جميع صفاتها كالشمس مثلًا، مع العلم أن بالإمكان رؤية نجوم أخرى مثلها أو أكبر وأشد حرًّا. ثم تساءل مرة أخرى: هل الشمس من نوع جهنم؟ وهل لها جميع صفاتها؟ ثم أجاب بدراسة للشمس من حيث المظهر مع صور للشمس وسطحها، ومن حيث طبيعتها، ثم قرر النتيجة. "للشمس من حيث مظهرها وطبيعتها جمع صفات جهنم الواردة في القرآن والحديث". ثم قال: "وبالتالي الكون "الدنيا" بكليته هو جهنم، وهي موزعة حاليًا على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 نجوم مضطربة، وكواكب خنس، وغبار وغازات، والشمس جزء منها تمثلها، وما علينا لنرى طبيعتها الجهنمية إلا أن نضع عيننا على عدسة نظارة فلكية خاصة نوجهها نحو الشمس"1. وبعد، فلن أطيل في الرد على هذا التفسير إلا بما يستلزمه المقام؛ فأقول: إن جهنم من الأمور الغيبية التي لا يحق لنا أن نزيد في بيانها غير ما ورد به الشرع، ولم يرد في الشرع بيان لمكان جهنم الان وإمكان رؤيتها لنا في الدنيا، وقد التزم علماءالسلف -رحمهم الله تعالى- هذا الأمر؛ فلم يشر أحدهم إلى شيء من ذلك، وهم الأعلم باللغة ومدلولاتها، والأعلم بالشرع ومفاهيمه، ومع هذا فلم ينسب لأحدهم أنه أشار إلى الشمس أو غيرها زاعمًا أنها جهنم. أما انطباق أوصاف جهنم على بعض الموجودات الكونية فلا يعني هذا أن تلك الكتلة هي جهنم، ولو صح هذا الزعم وصح هذا المقياس لجاءنا مَن يزعم أن الأرض التي نعيش عليها هي الجنة في الآخرة، ويشير إلى مناطق لا تخلو منها الأرض فيها الهواء العليل والظل الظليل والفواكه والثمار، ولن يعدم من النصوص ما يستدل بها كاستدلال ذاك فيقول مثلًا: روى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة" 2، وسيجد في الصحيحين: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة" 3. لكن هذا وذاك لا يكفيان ولا يدلان على أن الأرض هي الجنة، مع النص المباشر على هذه الأجزاء من الأرض، بخلاف الشمس فلم يكن هناك أي نص مباشر للشمس يجعل بعض أجزائها من النار، فإذا كان الأمر كذلك في الأرض فأنَّى لرجل أن يزعم أن الشمس جزء من جهنم.   1 براهين: محمود القاسم ص157، وانظر الصفحات 132-156. 2 رواه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة، باب ما في الدنيا من أنهار الجنة ج4 ص2183. 3 رواه البخاري في كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل ما بين القبر والمنبر ج2 ص557، ورواه مسلم في كتاب الحج، باب 92 ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة ج2 ص1010، وزاد في إحدى رواياته: "ومنبري على حوضي". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 لا شك أن هذا التفسير لو لم يُربط بينه وبين النصوص القرآنية لكان من الحديث في الأمور الغيبية بلا برهان، فكيف والأمر تجاوز هذا إلى تفسير النصوص القرآنية به، أحسب هذا أمرًا لا ينبغي من مسلم يلتزم بأحكام دينه حتى ولو كان ذا قصد سامٍ في الدعوة إلى الله، فليس هذا بالطريق الحق والله الهادي. خامسًا: قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ، بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} 1. قال الشوكاني -رحمه الله تعالى-: " {عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} على أن نجمع بعضها إلى بعض فنردها كما كانت مع لطافتها وصغرها، فكيف بكبار الأعضاء؛ فنبه سبحانه بالبنان وهي الأصابع على بقية الأعضاء، وأن الاقتدار على بعثها وإرجاعها كما كانت أَوْلَى في القدرة من إرجاع الأصابع الصغيرة اللطيفة المشتملة على المفاصل والأظافر والعروق اللطاف والعظام الدقاق، فهذا وجه تخصيصها بالذكر"2. أما الأستاذ محمد إسماعيل إبراهيم فقال في تفسيرها: "تدل عبارة تسوية البنان على معنى لم يكشف العلم سره إلا بعد نزول الآية بأكثر من ألف سنة؛ حينما عرف أن لكل بنان بصمة خاصة به، تختلف فيها اتجاهات خطوطها اختلافًا واضحًا بين فرد وآخر وبين جمع البشر، وقد استخدم الإنسان هذه الاختلافات في تحقيق الشخصية عن طريق البصمات، وقد أفادت هذه الحقيقة في التعرف على الأشخاص عن طريق بصماتهم، في حالة وقوع جرائم يترك الجناة فيها بصماتهم على أي شيء تناولوه"3. قلت: والذي يجمع بين تفسيري السلف والعلم الحديث أن كلًّا منهما يؤكد أن تخصيص البنان بالذِّكْرِ يدل على أن مَن أعاد خلقها فهو أقدر على إعادة خلق غيرها من بقية الأعضاء، وإن اختلف التعليل عند هؤلاء وهؤلاء؛ فالشوكاني   1 سورة القيامة: 3، 4. 2 فتح القدير: الإمام الشوكاني ج5 ص336. 3 القرآن وإعجازه العلمي: محمد إسماعيل إبراهيم ص111. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 حسب العلة صغرها ولطافتها ودقة عظامها، ومحمد إسماعيل عللها بأن لكل بنان بصمة خاصة به من بين جميع البشر، وفي الأمر سَعَة لتعليل الكل، والله أعلم. سادسًا: قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} 1. قال الطبري -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} : "وهذا مَثَلٌ من الله تعالى ذكره، ضربه لقلب هذا الكافر في شدة تضييقه إياه عن وصوله إليه -أي: إلى الإسلام- مثل امتناعه من الصعود إلى السماء وعجزه عنه، لأن ذلك ليس في وُسْعِه"2. وقال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "وقال ابن المبارك عن ابن جريج: ضيقًا حرجًا بلا إله إلا الله، حتى لا تستطيع أن تدخل قلبه كأنما يصعد في السماء من شدة ذلك عليه، وقال سعيد بن جبير يجعل صدره ضيقًا حرجًا قال: لا يجد فيه مسلكًا إلا صَعِدَ، وقال السدي: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} من ضيق صدره، وقال عطاء الخراساني: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} يقول: مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد إلى السماء، وقال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} يقول: فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء فكذلك لا يستطيع أن يدخل التوحيد والإيمان قلبه حتى يُدخله الله في قلبه"3. ذلكم تفسير السلف، أما التفسير العلمي فيقدمه الأستاذ محمد عفيفي الشيخ فقال في ذلك: "الله سبحانه وتعالى يقرر أن الارتفاع إلى عِنَانِ السماء يصحبه ضيق الصدر والشعور بالاختناق، وقد اكتشف العلماء أخيرًا أن ذلك بسبب نقص الضغط الجوي وكميات الأكسيجين التي تستقبلها الرئتان، وهذه   1 سورة الأنعام: الآية 125. 2 جامع البيان: الإمام الطبري ج12 ص109. 3 تفسير ابن كثير: ج2 ص189. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 الحقيقة لم تتوصل إليها البشرة علميًّا إلا بعد أن صَعِدَ الإنسان فعلًا غلى طبقات الجو العليا"1. سابعًا: قوله تعالى {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} 2 قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "أي: وجعل بينهما برزخًا؛ وهو الحاجز من الأرض؛ لئلا يبغي هذا على هذا وهذا على هذا؛ فيُفسد كل واحد منهما الآخر، ويُزيله عن صفته التي هي مقصودة منه"3. أما التفسير العلمي فيستدل الأستاذ يعقوب يوسف بما نشرت بعثة السيرجون أمري مع بعثة الجامعة المصرية وخفر السواحل لدرس أعماق البحر الأحمر والمحيط الهندي في جنوب عدن، بعض الملاحظات التي تستدعي النظر، ومما جاء في "مجلة الفتح 354" أن البعثة وجدت المياه في خليج العقبة تختلف في خواصها وتركيبها الطبيعية والكيميائية عن المياه في البحر الأحمر، وحققت البعثة -بواسطة قياس الأعماق- وجود حاجز مغمور عند مجمع البحرين، يبلغ ارتفاعه أكثر من ألف متر، وتبعد قيمته نحو ثلاثمائة متر عن سطح البحر. وذكر أيضًا أن هذه النتيجة تماثل ما وصلت إليه السفينة "مباحث": أن مياه المحيط الهندي تختلف في خواصها عن مياه البحر الأحمر، ويعلل ذلك بوجود الحاجز المغمور عند ملتقى كل بحرين، ثم قال: "هذه الحقيقة الرائعة التي تثبتها الأرقام الموجودة في خزائن كلية العلوم بالجامعة المصرية وفي خزائن جامعة كمبردج التي وصلت إليها "البعثة المذكورة" بعد أن زودت بأحدث الآلات العلمية، وتدرعت بجنود من العلم، أنزلها الله في قرآنه منذ 13 قرنًا4. والذي يظهر لي أن ما ذكره الأستاذ يعقوب -إن صح- لا يسمى حاجزًا   1 القرآن الكريم وعلوم الغلاف الجوي: محمد عفيفي الشيخ ص87. 2 سورة الرحمن: الآيتين 19، 20. 3 تفسير ابن كثير: ج4 ص290. 4 لفتات علمية من القرآن: يعقوب يوسف ص57. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 ما دام اتصال خليج العقبة بالبحر الأحمر من جهة والبحر الأحمر بالمحيط الهندي من جهة أخرى ظاهرًا للعِيَانِ، وتعبره البواخر الضخمة، فالذي تلج منه تلك فالماء أكثر ولوجًا منها؛ فأين الحاجز هنا؟! وقد استمتعت لمحاضرة للشيخ عبد المجيد الزنداني تناول فيها بيان هذا الحاجز، وتحدث عنه بتفسير أوضح من تفسير الأستاذ يعقوب له؛ حيث قال في محاضرته: "يقول الله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَان، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} 1، هذان البحران اللذان التقيا هما بحران مالحان؛ بدليل قول الله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} ، فالحديث في الآية إذًا عن بحر مالح ومالح، وليس عن بحر مالح وعذب بنص الآية، وما معنى هذا؟ نعم، وجدوا أن بين البحر الأحمر مثلًا والمحيط الهندي حاجزًا في باب المندب يحجز بين مياه البحر الأحمر ومياه المحيط الهندي، ولولا هذا الحاجز لطغت صفات مياه المحيط على مياه البحر؛ لأن البحر شيء يسير بجانب المحيط. لكن هناك صفات وخصائص خاصة بمياه البحر الأحمر، وصفات وخصائص خاصة بمياه المحيط الهندي، هذا الحاجز ينهما لكي لا يطغى هذا على هذا، ثم هذا الحاجز ليس ثابتًا لكنه في حالة ذَهَاب وإياب واضطراب. ومرج في لغة العرب معناها: الذهاب والإياب والاضطراب. والحاجز هذا بين البحرين ليس ثابتًا؛ لكنه في حالة يمرج فيها فهو مارج يمرج؛ ولذلك قال تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَان} . وقد أمكن تصوير هذا الحاجز، وكنت إذا قرأت هذه الآية يأتي في ذهني الآية الأخرى؛ وهو قول الله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} 2. كثير من المفسرين يقولون هذه الآية مثل هذه الآية؛ لكن استوقفتني الآية عندما أردت أن أتأمل وأتعمق، استوقفني في الآية {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ   1 سورة الرحمن: 19-22. 2 سورة الفرقان: 53. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} ، هناك لم يذكر هذا عذب وهذا ملح، قال البحرين". ثم قال: " {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} فدل على أنهما بخصائص متقاربة وأنهما مالحان، ثم لما ذكر العذب والمالح قال: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} . قال: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} زيادة {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} على الآية التي هناك، هناك تقول: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَان} لكن هنا تقول: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} ، القرآن لا يقول لغوًا، كلام الله الحكيم الحرف فيه لي معنى. فما هذا المعنى ما هو هذا الشيء؟ ذهبت أسأل أساتذة علوم البحار في كلية علوم البحار في جامعة الملك عبد العزيز: يا أخوة الله، يقول بين الأنهار والبحار برزخ وحجر؟ قالوا: أما البرزخ موجود؛ فهناك برزخ يحجز بين ماء النهر وماء البحر، هذه مسألة واضحة وصورها عندنا وسترون الصورة بأعينكم، البرزخ موجود قلنا: طيب، وحجر ما هو الحجر؟ الحجر في لغة العرب هو الشيء الذي يمنع به أشياء؛ ولذلك هذه ارض محجورة؛ أي: يسمح فيها لبعض الحيوانات أو لبعض الناس وتحجر عن غيرهم، قالوا: هو هذا الموجود بين البحر والنهر، هناك شيء اسمه المصب، مياه المصب هذه ندرسها دراسة مستقلة؛ لأن لها خصائص مستقلة؛ لأنها ليست من ماء البحر وليست من ماء النهر، لها خصائص مشتركة بين ماء البحر وبين ماء النهر لا هي عذبة ولا هي مالحة وإنما وسط. قالوا: أبرز صفات مياه المصبات أنها أغنى المناطق في العالم بالأسماك؛ ولكن أسماك مخصوصة بالمصب، وماء المصب ومنطقة المصب أرض محجورة على نوع أسماك البحر ومجموع أسماك النهر، فممنوع الدخول من أسماك النهر ومن أسماك البحر، محجورة على بعض الأنواع فقط، لا يعيش فيها إلا أنواع مخصوصة فقط، أما باقي الكائنات الحية فهي ممنوعة محجورة؛ إذًا فهذا معنى {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} 1.   1 محاضرة للشيخ عبد المجيد الزنداني في موسم حج 1404 بعنوان: "آيات الله تعالى في الأنفس والآفاق". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 وفي نهاية المحاضرة عرض الشيخ عبد المجيد صورًا للبرزج والحجر أُخذت عن طريق سفن الفضاء وقال: "هذا الأزرق الخفيف هو الحجر هو المصب، فهذا الحاجز هو الحاجر بين النهر والبحر، {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} البرزخ هذا الحاجز الذي يفصل بين الماءين والحجر هو المصب". هذا ما قاله الشيخ عبد المجيد في هذا الحاجز "البرزخ"، ولا يرد عليه ما أوردناه على ما ذكره الأستاذ يعقوب، الذي وصف الحاجز بأنه حاجز مغمور يبلغ ارتفاعه أكثر من ألف متر، وتبعد قمته نحو ثلاثمائة متر عن سطح البحر؛ حيث وصفه الشيخ عبد المجيد بأنه ليس ثابتًا؛ بل هو مارج مضطرب يذهب ويؤب يدخل ماء المحيط في البحر من غير أن يختلط، ثم يعود إلى الوراء، وفي طريق عودته يدخل معه ماء البحر ومن غير أن يختلط أيضًا، ثم يعود إلى الوراء، وهكذا من غير أن يحدث اختلاط بين الماءين، بقي أن أقول: وفوق كل ذي علم عليم. ثامنًا: قوله تعالى {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون} 1 قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله، يرجون نصرهم ورزقهم، ويتمسكون بهم في الشدائد، فهم في ذلك كبيت العنكبوت في ضعفه ووَهْنِه، فليس في أيدي هؤلاء من آلهتهم إلا كمن يتمسك ببيت العنكبوت؛ فإنه لا يجدي عنه شيئًا"2. وأما التفسير العلمي فساقه الأستاذ يوسف مروة حيث يقول: "كشف بعض علماء الحشرات الألمان عن أن بعض العناكب تنسج خيوطًا دقيقة جدًّا؛ إذ إنها تنسج بيتها من خيوط، كل خيط منها مؤلف من أربعة خيوط أدق منه، وكل واحد من هذه الخيوط الأربعة مؤلف من ألف خيط، وكل واحد من   1 سورة العنكبوت: الآية 41. 2 تفسير ابن كثير: ج3 ص431. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 الألف يخرج من قناة خاصة في جسم العنكبوت، وهذا يعني أن كل خيط ينقسم إلى 4 × 1000 = 4000 خيط، وذكر بعض العلماء الألمان الباحثين في هذا الميدان أنه إذا ضم أربعة بلايين خيط "4.000.000.000" إلى بعضها لم تكن أغلظ من شعرة واحدة من شعر لحيته، مع العلم أن متوسط قطر شعر اللحية لا يتجاوز 0.1 مليمتر؛ وبذلك فإن قطر مقطع الخيط الذي تنسجه العنكبوت يساوي 1 على 4.000.000.000 من المليمتر، وأن الكيفية التي خلق الله بها في جسم العنكبوت ألف ثقب يخرج منها ألف خيط في آنٍ واحد؛ حيث يخرج الخيط الدقيق فيتجمع كل ألف خيط في خيط أغلظ، ومن الخيوط الجديدة يتجمع كل أربعة سوية لتشكيل خيط أكبر، وهكذا تتجمع الخيوط لتنشئ مسكنًا ومصيدة للعنكبوت؛ لتدعو العاقل والعالم والمؤمن إلى التفكير في عظمة الخالق"1. ولا شك أن ما ذكره الأستاذ يوسف من عجائب خلق الله سبحانه وتعالى؛ لكن هذا يجب ألا يصرفنا عن التفكير في مدلول الآية؛ فالآية دلت على وهن بيت العنكبوت وليس على خيط العنكبوت حتى نذكر من دقته ووهنه، ووصف البيت بالوهن وهو مجموع الخيوط أبلغ من وصف الخيط الواحد بالوهن، وعلى كل فهذا ليس بتفسير للآية؛ وإنما شاهد لها، أما وهن بيت العنكبوت فظاهر بيِّن لا يحتاج إلى استدلال ولا إلى مكتشفات، والله أعلم. تاسعًا: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} 2. قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "ينبه تعالى على أنه خلق جميع الناس من آدم -عليه السلام- وأنه خلق منه زوجته حواء ثم انتشر الناس منهما"3. وقال الشوكاني -رحمه الله تعالى-: "قال جمهورالمفسرين: المراد بالنفس   1 العلوم الطبيعية في القرآن: يوصف مروة ص209، 210. 2 سورة الأعراف: من الآية 189. 3 تفسير ابن كثير: ج2 ص294. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 632 الواحدة آدم، وقوله: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} معطوف على {خَلَقَكُمْ} أي: هو الذي خلقكم من نفس آدم، وجعل من هذه النفس زوجها وهي حواء، خلقها من ضلع من أضلاعه، وقيل المعنى: {جَعَلَ مِنْهَا} من جنسها، كما في قوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} 1، والأول أولى"2. أما الأستاذ عبد الرزاق نوفل -رحمه الله تعالى- فقد فسر الآية هنا تفسيرًا علميًّا خاطئًا، وفي مؤلفاته كثير من ذلك؛ ففسر النفس الواحدة وزوجها بالإلكترونات والبروتونات، فقال: "أعتبر اكتشاف الإلكترون أكبر نصر علمي أمكن العقل البشري أن يصل إليه حتى إنهم يطلقون على هذا العصر الذي نعيش فيه الآن العصر الإلكتروني؛ إذا يعتبر أن هذا أروع وأهم اكتشاف تميز به عصر من العصور؛ إذ أمكن الوصول إلى الجوهر الفرد وَحْدَة الخلق التي منها خلق كل شيء في الوجود: الإنسان والحيوان والماء والهواء ... الحي والجماد، والأرض والسماء، فوجد أنها وَحْدَة تناهٍ في الصغر إلى درجة لا يقبل الفكر أن يتمثلها، فقطعة الإلكترون أقل من قطعة الذرة بمائة ألف مرة، أما كتلته في حالة السكون فإن الجرام الواحد يزن 9.000.000.000.000.000.000.000.000.000 إلكترون، وأن هذه الجسيمات التي يتكون منها الوجود هي جسيمات متشابهة؛ أي: واحدة تمامًا، وأن منها الموجب والسالب، وهذه الحقيقة العلمية التي يتيه بها العصر الحديث قد جاء بها القرآن الكريم منذ 1400 سنة في صراحة ووضوح؛ إذ تقرر الآية 189 من سورة الأعراف أن كل ما خلق الله إنما خلقه من نفس واحدة وجعل منها زوجها {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أليست هذه هي البروتونات والإلكترونات ... الكهارب الواحدة موجبة وسالبة؛ أي: النفس الواحدة ... الزوجية الجنس بين موجب وسالب. وكذلك الآية الأولى من سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} ، والآية 98 من سورة الأنعام:   1 سورة النحل: من الآية 72. 2 فتح القدير: الإمام الشوكاني ج2 ص274. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ، وغيرها من الآيات التي تشير إلى وَحْدَة الخَلْق"1. ولا شك عندي أن هذا تفسير خاطئ، وقع فيه الأستاذ عبد الرزاق نوفل، ولو نظر إلى كلمات الآية لتبين له ذلك. فالآية تنص على {نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} فهل البروتونات والإلكترونات نفس؟! والخطاب في الآية {خَلَقَكُمْ} وفي النساء {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} ، وفي الأنعام {أَنْشَأَكُمْ} ، والآية تخاطب الناس -أي: البشر- وتتحدث عن خلقهم ونشأتهم فكيف يقول: كل شيء في الوجود، ويقول: إن كل ما خلق الله إنما خلقه من نفس واحدة، فمن أين جاء بهذا العموم؟! وبقية الآية التي لم يوردها الأستاذ عبد الرزاق كاملة تقول: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، فهل هذا ينطبق على البروتونات والإلكترونات المزعومة، سبحانك ربي!. فلننزه القرآن الكريم عن مثل هذه التفسيرات الباطلة التي لا يحتاج بطلانها إلى ثبوت بطلان النظرية العلمية؛ بل إن الآية القرآنية نفسها تحمل في عباراتها ما لا يدل على هذه النظريات، فضلًا عن تفسيرها به. عاشرًا: قوله تعالى {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} 2 قال ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسيرها: "رُوي عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد أنهم قالوا: لها عمد ولكن لا ترى، وقال إياس بن معاوية: السماء على الأرض مثل القبة؛ يعني: بلا عمد، وكذا رُوي عن قتادة، وهذا هو اللائق بالسياق، والظاهر من قوله تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَع   1 القرآن والعلم الحديث: عبد الرزاق نوفل ص156، 157. 2 سورة الرعد: من الآية 2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 634 عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 1، فعلى هذا يكون قوله: {تَرَوْنَهَا} تأكيدًا لنفي ذلك؛ أي: هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها، وهذا هو الأكمل في القدرة"2. أما التفسير العلمي فقدمه الأستاذ محمود أحمد مهدي، ذكر فيه أن الأعمدة التي تمسك هذه العوالم الضخمة هي قانون الجاذبية، فقال: "وعن هذا الإمساك تحدث العلماء أخيرًا وبعد لأي وجهد من أن الذي يمسك هذه العوالم الضخمة كلها، ويتحكم فيها قبضًا وبسطًا -بإرادة الله طبعًا- هو قانون الجاذبية ... أجل، إنها الجاذبية التي اهتدى إليها العلماء والعلم؛ ولكن بعد أن أشار إليها القرآن وبرهن بجلاء {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} وما كانت تلك العمد أو الأعمدة إلا الجاذبية التي تجذب الثقيل إلى الأثقل، والكبير إلى الأكبر"3. الحادي عشر: قال تعالى: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى، فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} 4. قال الشوكاني -رحمه الله تعالى- في تفسيره: " {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} صفة أخرى للرب؛ أي: أنبت العشب وما ترعاه النعم من النبات الأخضر {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} أي: فجعله بعد أن كان أخضر غثاء؛ أي: هشيمًا جافًّا كالغثاء الذي يكون فوق السيل {أَحْوَى} أي: اسود بعد اخضراره؛ وذلك أن الكلأ إذا يبس اسود، قال قتادة: الغثاء الشيء اليابس، ويقال للبقل والحشيش إذا انحطم ويبس: غثاء وهشيم ... وقال الكسائي: هو حال من المرعى؛ أي: أخرجه أحوى من شدة الخضرة والري {فَجَعَلَهُ غُثَاءً} بعد ذلك، والأحوى مأخوذ من الحوة وهي سواد يضرب إلى الخضرة، قال في الصحاح: والحوة سمرة الشفة، ومنه قول ذي الرمة: لمياء في شفتيها حوة لعس ... وفي اللثات وفي أنيابها شنب"5   1 سورة الحج: من الآية 65. 2 تفسير ابن كثير: ج2 ص538. 3 البرهان من القرآن: محمود أحمد مهدي ص75، 76. 4 سورة الأعلى: الآيتين 4، 5. 5 فتح القدير: الإمام الشوكاني ج5 ص423، 424. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 635 ومن هذا التفسير للإمام الشوكاني -رحمه الله تعالى- يظهر أن المراد بالأحوى؛ أي: الأسود بعد اخضراره؛ لأن الكلأ إذا يبس اسود؛ لكن أصحاب التفسير العلمي -أو أحدهما- قدم تفسيرًا آخر لم يسبق إليه فيما أعلم، فقال الأسيوطي الفلكي في تفسير تلك الآية: "الغثاء هو اليابس، والأحوى من الحوة؛ وهي في لسان العرب سواد إلى الخضرة أو حمرة إلى السواد، وقد كثر في كلام العرب حتى سموا كل أسود أحوى ... إذًا فتفسير {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} هو جعله بعد خضرته يابسًا أسود. وهل هناك نبات إذا جف صار يابسًا أسود؟ لا توجد -فيما نعلم- نباتات هكذا؛ إذًا فكيف أخرج الله تبارك وتعالى المرعى ثم جعله يابسًا أسود؟ كيف ومتى؟ ألا ينطبق هذا كل الانطباق على الفحم الحجري الذي تكوَّن معظمه في حقب الحياة القديمة حينما ظهرت النباتات غير المزهرة والسرخسيات بكثرة عظيمة، ثم تراكمت فوقها في بعض الجهات رواسب أخرى؛ فتحولت إلى فحم حجري مع طول الزمن وارتفاع الضغط والحرارة. نعم هذا هو الغثاء الأحوى الذي تكلم عنه القرآن الكريم وعلله فأصاب وأوجز. قال وأصاب في وقت كانت فيه مثل هذه الحقائق غريبة على عقول البشر، قال هذا فسبق العلم بقرون عدة. أفليس هذا إعجازًا؟ بلى والله إنه نعم الإعجاز"1. قلت: والذي قال الأسيوطي الفلكي نظرية علمية لم ترتقِ إلى درجة الحقيقة العلمية الثابتة التي يجوز جوازًا أن يشار إليها إشارة في تفسيبر القرآن، فعلينا أن نجرد تفسير القرآن الكريم من هذه النظريات العلمية التي ما تزال تتأرجح يمنة ويسرة؛ خشية أن تميل معها بعض القلوب إذا مالت، فلنتقِ الله ربنا، ولنحترم كتابه وننزله منزلته. وليست هذه النظرية بالوحيدة، وليس هذا هو التفسير العلمي الخاطئ   1 القرآن ونهاية العالم: الأسيوطي الفلكي ص39. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 عند المسمى "الأسيوطي الفلكي"، ففيه كثير وكثير من التفسيرات الجريئة بنظريات لا تزال مهزوزة غير ثابتة. وبعد: هذه بعض الأمثلة اقتبستها من بعض التفاسير العلمية، حاولت فيما ذكرت منها أن أنواع الأمثلة العلمية من علم الطب والنفس والفلك وخلق الإنسان والبحار والحشرات، أصل المخلوقات والنباتات وغير ذلك. وكما عددت مواضيعها فقد عددت مصادرها؛ فضربت أمثلة من عدد من التفاسير العلمية في العصر الحديث؛ حتى أُعطي صورة -قدر ما استطعت- عن التفسير العلمي في العصر الحديث أبحاثه ومصادره، وفيه المقبول وفيه المردود. أما الدراسة فيما هو أعمق من ذلك وأوسع فهو شأن دراسة متخصصة في التفسير العلمي، لا دراسة شاملة لعرض اتجاهات التفسير في العصر الحديث. وهذا -ولا شك- لا يعفينا من ضرب أمثلة للمؤلفات في التفسير العلمي في العصر الحديث ودراستها دراسة مستقلة لنعطي صورة عن قرب لهؤلاء المفسرين بعد أن قدمنا -فيما أظن- صورة لهم مجتمعين عن بعد، وهذا أوان ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 نماذج التفسير العلمي التجريبي في العصر الحديث : لا شك أن هذا التفسير لو لم يُربط بينه وبين النصوص القرآنية لكان من الحديث في الأمور الغيبية بلا برهان، فكيف والأمر تجاوز هذا إلى تفسير النصوص القرآنية به، أحسب هذا أمرًا لا ينبغي من مسلم يلتزم بأحكام دينه حتى ولو كان ذا قصد سامٍ في الدعوة إلى الله، فليس هذا بالطريق الحق والله الهادي. خامسًا: قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ، بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} 1. قال الشوكاني -رحمه الله تعالى-: " {عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} على أن نجمع بعضها إلى بعض فنردها كما كانت مع لطافتها وصغرها، فكيف بكبار الأعضاء؛ فنبه سبحانه بالبنان وهي الأصابع على بقية الأعضاء، وأن الاقتدار على بعثها وإرجاعها كما كانت أَوْلَى في القدرة من إرجاع الأصابع الصغيرة اللطيفة المشتملة على المفاصل والأظافر والعروق اللطاف والعظام الدقاق، فهذا وجه تخصيصها بالذكر"2. أما الأستاذ محمد إسماعيل إبراهيم فقال في تفسيرها: "تدل عبارة تسوية البنان على معنى لم يكشف العلم سره إلا بعد نزول الآية بأكثر من ألف سنة؛ حينما عرف أن لكل بنان بصمة خاصة به، تختلف فيها اتجاهات خطوطها اختلافًا واضحًا بين فرد وآخر وبين جمع البشر، وقد استخدم الإنسان هذه الاختلافات في تحقيق الشخصية عن طريق البصمات، وقد أفادت هذه الحقيقة في التعرف على الأشخاص عن طريق بصماتهم، في حالة وقوع جرائم يترك الجناة فيها بصماتهم على أي شيء تناولوه"3. قلت: والذي يجمع بين تفسيري السلف والعلم الحديث أن كلًّا منهما يؤكد أن تخصيص البنان بالذِّكْرِ يدل على أن مَن أعاد خلقها فهو أقدر على إعادة خلق غيرها من بقية الأعضاء، وإن اختلف التعليل عند هؤلاء وهؤلاء؛ فالشوكاني   1 سورة القيامة: 3، 4. 2 فتح القدير: الإمام الشوكاني ج5 ص336. 3 القرآن وإعجازه العلمي: محمد إسماعيل إبراهيم ص111. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 حسب العلة صغرها ولطافتها ودقة عظامها، ومحمد إسماعيل عللها بأن لكل بنان بصمة خاصة به من بين جميع البشر، وفي الأمر سَعَة لتعليل الكل، والله أعلم. سادسًا: قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} 1. قال الطبري -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} : "وهذا مَثَلٌ من الله تعالى ذكره، ضربه لقلب هذا الكافر في شدة تضييقه إياه عن وصوله إليه -أي: إلى الإسلام- مثل امتناعه من الصعود إلى السماء وعجزه عنه، لأن ذلك ليس في وُسْعِه"2. وقال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "وقال ابن المبارك عن ابن جريج: ضيقًا حرجًا بلا إله إلا الله، حتى لا تستطيع أن تدخل قلبه كأنما يصعد في السماء من شدة ذلك عليه، وقال سعيد بن جبير يجعل صدره ضيقًا حرجًا قال: لا يجد فيه مسلكًا إلا صَعِدَ، وقال السدي: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} من ضيق صدره، وقال عطاء الخراساني: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} يقول: مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد إلى السماء، وقال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} يقول: فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء فكذلك لا يستطيع أن يدخل التوحيد والإيمان قلبه حتى يُدخله الله في قلبه"3. ذلكم تفسير السلف، أما التفسير العلمي فيقدمه الأستاذ محمد عفيفي الشيخ فقال في ذلك: "الله سبحانه وتعالى يقرر أن الارتفاع إلى عِنَانِ السماء يصحبه ضيق الصدر والشعور بالاختناق، وقد اكتشف العلماء أخيرًا أن ذلك بسبب نقص الضغط الجوي وكميات الأكسيجين التي تستقبلها الرئتان، وهذه   1 سورة الأنعام: الآية 125. 2 جامع البيان: الإمام الطبري ج12 ص109. 3 تفسير ابن كثير: ج2 ص189. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 أمثلة من المؤلفات في التفسير العلمي التجريبي أولا: تفسير الجواهر في تفسير القرآن الكريم ... أمثلة من المؤلفات في التفسير العلمي التجريبي: وعدنا سابقًا أن نقدم دراسة موجزة لستة من المؤلفات في التفسير العلمي التجريبي، وحان موعد ذلك هنا. أولًا: تفسير الجواهر في تفسير القرآن الكريم أولًا: المؤلف: هو الشيخ طنطاوي جوهري، وُلد سنة 1287 بكفر عوض الله حجازي في "الشرقية"، تلقى العلم في الأزهر ثم في المدرسة الحكومية ثم دار العلوم وتخرج فيها سنة 1310، وعُين بعد تخرجه مدرسًا في دار العلوم، وقد طُلب للقضاء فلم يقبل، وكان رئيسًا لجمعية المواساة الإسلامية بالقاهرة، وتولى رئاسة تحرير "مجلة الإخوان المسلمين" مدة، وانقطع للتأليف فصنف كتبًا كثيرة نحو 30 مؤلفًا؛ منها: 1- الجواهر في تفسير القرآن الكريم، وهو موضوع بحثنا هنا. 2- الأرواح. 3- أصل العالم. 4- أين الإنسان؟ 5- التاج المرصع بجواهر القرآن والعلوم. 6- جمال العالم "دراسات في الحيوان والطير والهوام والحشرات". 7- جواهر العلوم. 8- جواهر التقوى. 9- النظر في الكون بهجة الحكماء وعبادة الأذكياء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 638 10- الزهرة في نظام العالم. 11- السر العجيب في حكمة تعدد أزواج النبي. 12- سوانح الجوهري. 13- ميزان الجواهر في عجائب هذا الكون الباهر. 14- نظام العالم والأمم. 15- النظام والإسلام. 16- القرآن والعلوم العصرية. وتُوفي -رحمه الله تعالى- في القاهرة سنة "1358"1. وبالنظرة السريعة لهذه المؤلفات ندرك ميل طنطاوي إلى العلوم الحديثة واهتمامه بها اهتمامًا كبيرًا حتى غلب على تفسيره. ثانيًا: الكتاب: يقع هذا التفسير في خمسة وعشرين جزءًا، أضاف أضاف إليها مؤلفها الجزء السادس والعشرين على أنه ملحق لتفصيل ما أجمل فيه من العلوم الكونية والأحكام الشريعة واختلاف المذاهب فيها. وجاء في آخر هذا الجزء: تم طبع الجزء الأول من "ملحق الجواهر: تفسير القرآن"، مما يدل على أن المؤلف سيضيف إلى هذا الملحق جزءًا آخر، والذي يهمنا هنا أنه أتم التفسير؛ وعليه فإنا نستطيع القول: إنه أول تفسير علمي كامل للقرآن الكريم، ولا يزال حتى الآن لم يؤلف أحد مؤلفًا مثله في شموله لآيات القرآن الكريم، كما أنه من أوائل إن لم يكن أول تفسير كامل للقرآن الكريم في مصر في القرن الرابع عشر الهجري. ولهاتين المزيتين اتجهت إليه الأنظار اتجاهًا بينًا؛ فلم أرَ فيما أعلم تفسيرًا حديثًا تناولته الأقلام بالدراسة والنقد حتى كاد ألا تخلو منه دراسة في علوم القرآن حديثة، مثل هذا التفسير إلا تفسير المنار.   1 اقتبست هذه الترجمة من تقويم دار العلوم للأستاذ محمد عبد الجواد، العدد الماسي بمناسة مرور 75 عامًا على مدرسة دار العلوم 1872-1947، ومن الأعلام للزركلي ج3 ص230، 231. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 639 سبب تأليفه: وقبل أن تعرف سبب تأليف هذا الكتاب ينبغي أن تنظر إلى أصل القضية، وهو سبب اتجاه مؤلفه هذا الاتجاه العلمي، وهو سبب هام جدًّا لم أرَ فيما قرأت مَن أشار إليه مِن أن المؤلف نفسه يذكره نصًّا في تفسيره لهذا، ولأنه القاعدة التي أحسب أن يقوم عليها أصحاب التفسير العلمي التجريبي المتطرفون منهم خاصة؛ فإني رأيت أن أنقل هذا النص بطوله، فلعل فيه بيانًا لسبب اتجاه صاحبه وغيره ... قال: "كنت في أول أمري مجاورًا بالجامع الأزهر، ثم قامت الحوادث العرابية ودخل الإنجليز بلادنا؛ فانقطعت ثلاث سنين عن العلم، وكنت في أثناء ذلك أزاول الأعمال الزراعية بيدي مع مَن يزرعون، وقد اعتراني مرض طويل في المعدة لازمني، وقد كان والدي في مرض أيضًا، وفوق ذلك كله كنت أفكر في هذه الدنيا وأقوال: يا ليت شعري، ألها خالق؟ وهل الأنبياء كلموه؟ إني لا أصدق إلا إذا عرفت أنا بنفسي ولا أتكل على أحد. إن هذه الطرق الحديدية تجري عليها القطارات وليست من صنع المسلمين، فيا ليت شعري، ماذا يقول الفرنجة الذين صنعوها؟ هل لهذا العالم إله؟ أنا لا أصدق إلا إذا عرف عقلي. إن هذا العالم ليس فيه شيء من النظام. إنه مبعثر. إنه مختل معتل. إنني أرى هذه البقرات وهؤلاء الرجال والنساء وهذه الحبات من الذرة تُوضع في الأرض، وهذا الماء الجاري فيها، وهذه المحاريث التي تشق الأرض، كل ذلك غير متناسب ولا منتظم؛ فالمرأة واقفة والرجل كذلك، والمحراث ممتد مستطيل من الأرض إلى أعلى، كأنه زاوية والثوران رءوسهما إلى أمام، والرجال والنساء رءوسهم إلى أعلى، والماء يجرى على الأرض لا يرفع رأسه مثلهما، فهذه الدنيا مضطربة مرتبكة مختلفة، لا أرى فيها نظامًا ولا أحكامًا، وإذا فقد النظام والأحكام فلا إله خالق إن هي إلا أحوال متغيرة وأمور مبعثرة، ولدها الاتفاق، وأظهرتها المصادفات. فلما أحسست بهذه الخواطر، رجعت إلى نفسي وقلت: إن العلماء في الدين يقولون: إننا ننظر للعالم العلوي والسفلي، فهأنا ذا نظرت فلم أجد إلا خللًا، ولم أَزْدَدْ إلا شكًّا؛ فلم يبقَ عندي أمل إلا في أمر واحد؛ وهو أن أوجه قلبي إلى مَن صنعني، فإن كان موجودًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 640 أجابني، وهذا هو الأمر الذي أجعله نصب عيني؛ حينئذ شمرت عن ساعدي الجِد، وأخذت أصوم بعض الأيام وأصلي بعض الليالي؛ فكنت أَجِدُ في ذلك لذة وسرورًا، وتوجهت إليه سائلًا بقلب محترق؛ ولكم قلت: يا خالق هذه الدنيا، أنا لم أخلق نفسي؛ بل وجدت أني هكذا، وأني أوجه قلبي إلى ذلك الموجود الذي خلقني، وإذا كان خالقًا لي فهو عظيم وكبير ورحيم، وإن لي جسمًا ورُوحًا؛ فلتتوجه الروح إليه ولتسأله أن أقف على الحقيقة، يا ألله، أنت خلقتني فعلمني، أوا، ومَن لي بأن أقف على هذا الوجود وسره فأكتب ما أقف عليه لمن بعدنا، حتى إذا وجد في الدنيا مَن احترق فؤاده لمعرفة هذه الدنيا رأى أمامه ما جربت من الأعمال، وما قاسيت من الأحوال؛ فيهتدي ولا يجد هذا العناء. وصرت أطلب ذلك في الحقول وعلى شطوط الأنهار، ولكم دعوت في الخلوات، وناجيت في الصلوات في المنزل وعلى شطوط الأنهار، وتارة أحضر تفسير القرآن للجلالين، وأقرأ تفسير الألفاظ الذي كتب هناك فأقول: يا رب، هذه الظواهر لم أقف على سرها، أما اللفظ ففهمته فأين عجائب الدنيا، وبينما أنا كذلك إذ وقع في يدي كتاب جاء فيه حديث: "لقد أنزلت عليَّ الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتدبرها، ويل له، ويل له، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} ... إلخ1، 2. فقلت: هذا حسن، أمن هذا الباب كان دخول الأنبياء؛ فصرت أقف على شواطئ الأنهار وفي الحقول وأنظر إلى السحاب وأفكر فيه وهذا ابتداء العجب". إلى أن قال: "ثم أخذتُ أطالع تفسير القرآن كل يوم ربعًا، وكان الجزء يتم في ثمانية أيام، وكنت أحفظ التفسير عن ظهر قلب حفظًا عقليًّا؛ ظنًّا مني أن فَهْمَهُ حرام كما كان يقال إلا بتوقيف من الشيخ، ثم أخذت أدرس ذلك أشهرًا قليلة وأنا أدعو الله فاستجاب الدعاء، ووصلت إلى الأزهر ثانيًا، وزال خطر الانقطاع منه، وأتممت العلوم التي كانت فيه على وجه التقريب، ثم دخلت إلى مدرسة "دار العلوم"، وكانت زاخرة بكل ما أريده، ووجدت فيها كل ما كنت أصبو إليه، وأنا في   1 لم أجده. 2 سورة البقرة: الآية 164. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 641 الحقول، وكنت أتعجب أن يكون هذا في بلادنا وأنا عنه محجوب؛ فوجدت أن النفوس الإنسانية قد بحثت وفكرت، ولقد كنت أعتقد أن الدروس التي أقرؤها عبادات، وأنها خير العبادات حتى فن الرسم؛ فكنت أرسم في الدرس وأنا معتقد أنه عبادة؛ لأنه مشحذ للذهن، مقوٍّ للعلم، معلمٌ للنظام الذي كنت أبحث عنه في الحقل فلا أجده. كل ذلك بعدما درست القرآن في الأزهر الشريف على جلة الشيوخ الكبار، ثم صرت مدرسًا في المدارس المصرية الابتدائية والتجهيزية والعالية، وكذا "الجامعة المصرية" أيضًا في قليل من الزمن. وفي أثناء ذلك كنت أختلس من الوقت ما أقدر عليه وأؤلف كتبًا؛ فبلغت الرسائل والكتب ما يقرب من أربعين، ونُشرت بين المسلمين؛ وذلك لأفي بعهدث الذي عاهدت الله عليه، ولم يكن في شيء من ذلك مني تكلف؛ بل كان الوجدان هو الذي يسوقني، وهناك تجلت في النفس أحوال تدعو إلى النشر بين المسلمين لا محل لذكرها الآن؛ وهأنذا أكتب في هذا التفسير ما يفتح به عليَّ. أقول: وإني الآن أحمد الله عز وجل إذ وصلت في التفسير إلى هذه السورة، وما كان ذلك من الميسور ولا بعضه؛ ولكن الله هو الذي أعانني، وهو الذي سهل ذلك لي، وأن أقصى ما أردته في هذه الحياة أن أتم هذا التفسير وأن ينشر، وعند ذلك أعتقد أني أديت ما أعتقد أنه واجب على دينًا ووجدانًا، وهناك أشعر بإتمام المطلوب، وأن ولوعي بنشر هذه الآراء كولوعي بمعرفتها، فأنا اليوم كنفسي من قبل يوم أن كنت صغيرًا، هنالك الاهتمام بالتعلم، وهنا الاهتمام بالنشر، وهما في النفس سواء؛ بل إني أجد القلب شديد الاهتمام بثانيها أكثر منه بأولهما. وها هو ذا أمانة في يديك أيها الذكي، وستقرأ فيما كتبه الكاتبون من الأمة الإسلامية في الشرق والغرب، فاجعل نصب عينيك هداية المسلمين {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} ". إلى أن قال: "إن الدين الإسلامي دين حكمة وشريعة، دين يأمر يجميع العلوم، وهأنذا أديت ما عليَّ من النصح، وتركت الأمر لمن بعدنا، وسنفارق الدنيا، وسيقوم بهذا رجال ذوو عقول كبيرة نفوذ وشوكة بين المسلمين، وسيقلبون نظام الدنيا ويملئونها حُكْمًا وعدلًا، ولتعلمن نبأه بعد حين"1.   1 الجواهر: طنطاوي جوهري ج11 ص71-74، باختصار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 642 هذا ما قاله في تعليل اتجاهه، وهو اعتراف صريح منه بأن مبعثه كان الشك والتفكير في هذه الدنيا: أَلَهَا خالق؟ وهل الأنبياء كلموه؟ واعترف بأنه لا يصدق إلا إذا عرف بنفسه ولا يتكل على أحد!! وتساءل عن رأي الفرنجة: هل يقولون بأن لهذا العالم إلهًا؟ ثم اعترف أخرى بأنه لا يصدق إذا عرف عقله!! واستمر شكة هذا إلى أن دخل مدرسة دار العلوم، وكانت زاخرة بكل ما يريده، ووجد فيها كل ما يصبو إليه، ثم أبدى عجبه أن يكون هذا في بلاده وهو عنه محجوب، ووجد فن الرسم مقويًا للعلم معلمًا للنظام "نظام الكون" الذي بحث عنه في الحق فلم يجد! وقد صرح في موضع آخر بأنه أراد من تأليفه ألا يشك الناس في أمر هذا الوجود كما شك1. إذًا فبسبب اتجاهه الاتجاه العلمي طلبه علاج الشك في قلبه، فهل هذا الشك هو الدافع له وحده ... ودَفَعَ غيره كما دفعه إلى طلب المانع لهذا الشك؟ وهل الاتجاه إلى العلوم التجريبية علاج للشك أم هو زيادة في الطمأنينة القلبية لمن لم شك؟ أحسب هذا وذاك وغيرهما أمورًا توزعت بين أصحاب التفسير العلمي التجريبي للقرآن الكريم؛ فمنهم مَن شك، ومنهم مَن يطلب الطمأنينة التي طلبها إبراهيم عليه السلام: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} 2، وهؤلاء انقسموا إلى قسمين؛ أولهما: طلب الطمأنينة في التطبيق بين آيات القرآن والحقائق العلمية، ومنهم مَن آثر طلبها من غير ربط بين هذه وتلك، وفيهم المخطئ، وفيهم المصيب، والله عليم بذات الصدور. وعودة إلى الشيخ طنطاوي جوهري لمعرفة سبب تأليفه لهذا التفسير الكبير بحجمه وبعلومه ومعارفه؛ فقد أشار إلى ذلك في مقدمة تفسيره؛ حيث قال: "أما بعد، فإني خُلقت مغرمًا بالعجائب الكونية، ومعجبًا بالبدائع الطبيعية، ومشوقًا إلى ما في السماء من جمال، وما في الأرض من بهاء وكمال، آيات بينات،   1الجواهر: طنطاوي جوهري ج17 ص182. 2 سورة البقرة: من الآية 260. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 643 وغرائب باهرات، شمس تدور، وبدر يسير، ونجم يضيء، وسحاب يذهب ويجيء، وبرق يأتلق، وكهرباء تخترق، ومعدن بهي، ونبات سني، وطير يطير، ووحش يسير، وأنعام تسري، وحيوان يجري". إلى أن قال: "ثم إني لما تأملت الأمة الإسلامية وتعاليمها الدينية؛ ألفيت أكثر العقلاء، وبعض أجلة العلماء، عن تلك المعاني معرضين، وعن التفرج عليها ساهين لاهين، فقليل منهم مَن فكر في خَلْق العوالم، وما أُودع فيها من الغرائب! فأخذت أؤلف كتبًا لذلك شتى؛ كنظام العالم والأمم، وجواهر العلوم، والتاج المرصع، وجمال العالم، والنظام والإسلام، ونهضة الأمة وحياتها، وغير ذلك من الرسائل والكتب، ومزجتُ فيها الآيات القرآنية بالعجائب الكونية، وجعلت آيات الوحي مطابقة لعجائب الصنع وحكم الخلق، وأشرقت الأرض بنور ربها، وتقبلها أجلة العلماء قبولًا حسنًا، وتُرجم منها الكثير إلى اللغة الهندية المسماة بالأوردية، وإلى لغة القازان بالبلاد الروسية، وإلى لغة جاوة في الأوقيانوسية؛ ولكن كل ذلك لم يشفِ مني الغليل، ولم يقم على غنائه من دليل؛ فتوجهت إلى ذي العزة والجلال أن يوفقني أن أفسر القرآن، وأجعل هذه العلوم من خلاله، وأتفيأ في بساتين الوحي وظلاله، ولكم طلبت منه جل جلاله بالدعوات في الخلوات، وابتهلت إليه وهو المجيب؛ فاستجاب الدعاء"1. إذًا فالدافع له توجيه أنظار الأمة الإسلامية إلى هذه العلوم، ولم يشفِ غليله أن يفرد هذه العلوم بمؤلفات خاصة؛ بل شفاه أن فسر القرآن، وجعل هذه العلوم في خلاله. لهذا فإنه يدعو بكل ما أُوتي من قوة إلى الأخذ بهذه العلوم والمعارف، وإدخالها في تفسير القرآن الكريم، وينعى على العلماء السابقين الذين وجهوا عنايتهم إلى كتب الفقه وآيات الفقه، وهن لا يتجاوزن مائة وخمسين آية، وأعرضوا -كما يقول- عن علوم الكائنات التي لا تخلو منها سورة؛ بل هي تبلغ 750 آية؟! وقد جاوز في دعوته حد الاعتدال، وأفرط في تجاوزه حد المباح؛ فذم وعم   1 الجواهر في تفسير القرآن الكريم: طنطاوي جوهري ج1 ص2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 644 وقال ما لا يصح أن يقال، ونسب آراءه ومفاهيمه قولًا لله تعالى، فقال مثلًا: "سيقول بعض المسلمين: لقد نظرنا في النبات وعرفنا الله فإذا متنا وسألنا الله نقول: هكذا قد نظرنا وعرفناك، وأنا أقول: لكن الله يقول "!! ": النظر التام يكون بالعلم التام، فأين علمكم التام بهذه المخلوقات ولو بطريق فرض الكفاية؟ فيقول العالم المسلم: إني قرأت كتب قدمائنا كالمواقف وأمثالها، فيقال له: كلا، ثم كلا، هذه كتب وضعت لزمن غير زمانكم ولأمم غير أممكم، وليس لها مقصود إلا الرد على المبتدعة الذين ماتوا؛ فأنتهم تجادلون مع الأموات؛ ولكن المقصود إدراك العوالم لذاتها لا للجدال بها، وليس يمكنكم ذلك إلا بإشاعة هذه العلوم في دياركم؛ فيقرأ الصغار في المدارس فن الأشياء، ويقرأ الكبار نفس هذه العلوم، والعامة تبع الخاصة1. وقال فيما قال من حديثه الذي لا نقبله ولا نرتضيه، وذلك في تفسيره لقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} 2، وما بعدها من الآيات قال: "ألا تتعجب من هذه الآيات، كيف ذكر الله فيها ما يأكله الإنسان وما يأكله الحيوان وكأنه يشير بطرف خفي وحكمه إلى باطن الأمر فيقول: أيها المسلمون، أنا أمرتكم بالنظر في النبات لأجل معرفتي، وأنتم بذلك الأعلون، ولو أني اخترت لكم قراءة العلوم من طريق الحياة الدنيا لعشتم بها كما عاش الفرنجة وغلبوكم، ولكنكم أنتم الذين اخترتكم لحفظ أرضي، وقد ملأت الأرض بعلوم النبات وغيره من علوم الطبيعة، وأنتم خير أمة أخرجت للناس؛ فلتقوموا بعد قراءة هذا التفسير وأمثاله "!! " ولتأخذوا علوم الأمم المحيطة بكم، وأنتم تقصدون بقراءتها الرقي إليَّ، وأني أرقيكم أسرع من غيركم، ويكفي في الرقي العلمي عشرون سنة، كما يقوله علماء السياسة والاجتماع عندكم، فهأنذا أيها المسلمون ملأت أوربا وأمريكا واليابان بالعلم؛ فقوموا من رقدتكم، وخذوا هذه العلوم، هم قرءوها للدنيا فاقرءوها أنتم لحبي وللغرام بي ولأجل لقائي،   1 الجواهر: طنطاوي جوهري ج25 ص55. 2 سورة عبس: الآية 24. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 645 بل أنتم ستقرءونها وتعشقوني بها "!!! "1. ونحن نرفض هذه الدعوة من الشيخ طنطاوي إلى العلوم بهذه الأساليب؛ فلا يصح أن ينسب إلى الله قولًا لم يقله حتى ولو كان يعده إشارة من طرف خفي، ولا تصح هذه العبارات؛ أعني: عبارات الغرام والعشق، فهي اصطلاحات ما أنزل الله بها في مقامه من سلطان. وكثيرًا ما يقارن طنطاوي جوهري بين عناية العلماء بالفقه وآيات الفقه، وعدم اهتمامهم بالعلوم الكونية وآياته، ويتساءل: "لماذا ألف علماء الإسلام عشرات الألوف من الكتب الإسلامية في علم الفقه، وعلم الفقه ليس له في القرآن إلا آيات قلائل لا تصل مائة وخمسين آية؟ فلماذا كثر التأليف في علم الفقه، وقل جدًّا في علوم الكائنات التي لا تخلو منها سورة؛ بل هي تبلغ 750 آية صريحة؟ وهناك آيات أخرى دلالتها تقرب من الصراحة، فهل يجوز في عقل أو شرع أن يبرع المسلمون في علم آياته قليلة، ويجهلون علمًا آياته كثيرة جدًّا؟ إن آباءنا برعوا في الفقه فلنبرع نحن الآن في علم الكائنات، لنقم به لترقى الأمة، فهذا الذي ينظر نظرًا سطحيًّا لآيات النظر في العالم نراه لم يكتفِ في البيع والهبة والميراث والحج والصلاة بالنظر السطحي؛ بل نراه في الوُضوء الذي هو شرط من شروط الصلاة لم يكتفِ بالنظر الظاهري؛ بل ازداد البحث فيه جدًّا في مئات المجلدات المؤلفة في المذاهب الأربعة وغيرها، أفلا ينظر المسلمون اليوم إلى علوم الدين الحقة وهي علوم الكائنات، علوم معرفة الله؟ إن علم الفقه لحفظ الأمم، وعلم الكائنات لمعرفة الله وحياة الأمم، وما به الحياة مقدَّم على ما به حفظ الحياة؛ إذ لا حفظ للحياة ولا عبادة لله إلا بعد ثبوت الحياة"2. وتجاوز طنطاوي دعوته إلى دراسة العلوم الكونية إلى ذم قراءة كتب لأمم مضت وانقضت بعبارة أخرى: كتب السلف، يقول مثلًا: "وكتب التوحيد كتب أكثرها جدلية، وليس ينقذ أمة الإسلام من جهالتها   1 الجواهر: طنطاوي جوهري ج25 ص55. 2 المرجع السابق: ج25 ص56. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 646 إلا تأليف رسائل قصيرة وطويلة، ونشرها بين العامة حتى يعرفوا ربهم ويخشوه، ومن جمع ما كتبناه في هذا التفسير استخرج منه رسائل تُنشر بين الناس بلا مشقة، فليعدل المسلمون عما هم فيه من قراءة كتب لأمم مضت وانقضت "!! " ونحن في زمان أراد الله أن يظهر نور جماله إلى الأمم الإسلامية؛ فيشرق نوره على ربوعها، ويكون ذلك مصداقًا لقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} 1، 2. أما علم الفرائض، فقال: إن دراستها فرض كفاية، وإن هذه العلوم فرض عين وقد أغفلها الجهلاء "!! " المغررون "!! " من صغار الفقهاء في الإسلام؛ حيث قال: "يا ليت شعري، لماذا لا نعمل في آيات العلوم الكونية ما فعله آباؤنا في آيات الميراث؟ ولكني أقول: الحمد لله الحمد لله أنك تقرأ في هذا التفسير خلاصات من العلوم، ودراستها أفضل من دراسة علم الفرائض؛ لأنه فرض كفاية، فأما هذه فإنها للازدياد في معرفة الله، وهي فرض عين على كل قادر، كما هو مقرر في باب الشكر للإمام الغزالي، وهي نفس علم التوحيد الحقيقي، والمعرفة والشكر يكونان على كل امرئ بقدر طاقته، إن هذه العلوم التي أدخلناها في تفسير القرآن هي التي أغفلها الجهلاء المغررون "!! " من صغار الفقهاء في الإسلام، فهذا زمان الانقلاب وظهور الحقائق"3. وعباراته ونصوصه في الحث على الاتجاه بالتفسير نحو طريقته كثيرة جدًّا4، وبأساليب متعددة، وهو كثير الإشادة والثناء على تفسيره4، وكثيرًا ما يكرر أن في تفسيره خلاص الأمة وشفاءها4، وأنه ينبغي -بل يجب- أن يسلك المفسرون هذا المسلك، وينشروا هذه العلوم بين المسلمين؛ حتى يفوزوا وينتصروا إن أرادوا الفوز وأرادوا النصر، وتعجب إذا ما رأيته يقرر أن كتابته لهذا التفسير   1 سورة التوبة: من الآية 33. 2 الجواهر: طنطاوي جوهري ج25 ص57. 3 المرجع السابق: ج3 ص19، 20. 4 انظر مثلًا مقدمة تفسيره ج1 ص3، ج8 ص113. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 647 فرض عين، ويقرر أن قراءة كتابه إما فرض كفاية لمن يقرءون العلوم للمنافع الدنيوية، وإما فرض عين على كل مَن أمكنه الازدياد من العلوم1. ولهذا فلا عجب أن يكون بعض هذا دافعًا له إلى سلوك منهج التفسير العلمي التجريبي في القرآن الكريم، وأن يكون أحد -بل أول- مطبقيه تطبيقًا كاملًا على آيات القرآن الكريم كلها في هذا القرن الرابع عشر. تاريخ تفسيره: نص في مقدمة تفسيره على بداية تناوله للتفسير بقوله: "وكان ابتداء التفسير إذ كنت مدرسًا بمدرسة دار العلوم، فكنت أُلقي بعض آيات على طلبتها، وبعضها كان يكتب في مجلة الملاجئ العباسية، وهأنذا اليوم أوالي التفسير مستعينًا باللطيف الخبير"2، وهذا يدل على أنه بدأ فيه بعد سنة 1310هـ، وله من العمر 23 سنة. طريقته في التفسير: يبدأ المؤلف تفسير كل سورة بمقدمة يذكر فيها ما للسورة من أسماء، مكية هي أو مدنية، وعدد آياتها، وترتيبها في النزول، وأحيانا صلتها بالسورة التي قبلها، وهذا كله في أسطر قليلة جدًّا. ثم يقسم السورة إلى أقسام؛ كل قسم يتكون من عدد من آيات السورة، وغالبًا ما يفرد البسملة في أوائل كل سورة بقسم خاص هو القسم الأول، وأحيانًا يسميه الفصل الأول، وأحيانًا مبحث في التسمية، ثم يتبعه بالقسم الثاني، وفيه التفسير اللفظي لآيات هذا القسم، وهو تفسير لفظي مختصر جدًّا أقرب ما يكون لتفسير الجلالين، ثم يتبعه بما يسميه "لطائف هذا القسم"، وأحيانًا يسميها أبحاثًا، وأحيانًا جواهر، وأحيانًا حكايات، وأحيانًا يضع عنوانًا خاصًّا بما تحته من أبحاث، ويفعل في القسم الثالث وغيره ما فعله في القسم الثاني. وفي   1 الجواهر: طنطاوي جوهري ج8 ص191. 2 الجواهر: طنطاوي جوهري ج1 ص3. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 648 نهاية السورة يكتب تذييلًا لتفسير السورة وتحته فصول، وأحيانًا يضع لطائف عامة آخر السورة لكل أقسامه، وكل هذه الأبحاث ما عدا التفسير اللفظي مليء بالأبحاث العلمية التجريبية البحتة، موضحة بالصور والتفصيل الدقيق. وكثيرًا ما يذكر في هذه الأبحاث الأحداثَ التي تقع له في حياته اليومية1، وما يراه في منامه2، وأحيانًا خيالات يتحول بها من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح؛ فيلتقي بروح البصيرة فيحدِّثها وتحدثه الأمر العجاب3، وأحيانًا كثيرة يسميها إلهامًا أو نفحة ربانية وإشارة قدسية وبشارة رمزية أُمر به بطريق الإلهام4 "!! " بل أحيانًا يختلط عليه الأمر فلا يدري عما كتبه حُلْم هو أو حديث نفس أو إلهام5. وهو إضافة إلى كثرة توضيحه لأبحاثه العلمية يُورد صورًا كثيرة للأفلاك6 والكواكب7 والشمس8 والقمر9 والسديم10 والمياه11   1 انظر مثلًا: ج18 ص4، ج20 ص103، ج6 ص109، ج17 ص181-186، ج7 ص67، ج8 ص174، ج25 ص123. 2 انظر مثلًا: ج18 ص139، ج20 ص234-237، ج12 ص215، ج20 ص18، 19، ج19 ص107، 108. 3 انظر مثلًا: ج19 ص161-200، ج20 ص29. 4 انظر مثلًا: ج1 ص3. 5 انظر: ج7 ص112، وانظر: ج8 ص117-120. 6 انظر مثلًا: ج12 ص239-242. 7 انظر مثلًا: ج4 ص74، 75. 8 انظر مثلًا: ج4 ص78. 9 انظر مثلًا: ج17 ص199-201. 10 انظر مثلًا: ج6 ص36-39، ج26 ص206-218. 11 انظر مثلًا: ج9 ص144-145، ج17 ص184، ج21 ص104-113. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 649 والأشجار1 والأحجار2 والحيوانات3 والحشرات4 والأسماك5 والإنسان6 والنباتات7 والجراثيم والميكروبات8 وأجزاء الإنسان؛ كالبصمات9 والعين10 والأذن11 والجهاز الهضمي12 والديدان13 والطيور 14، ويضع الجداول العلمية الرياضية 15 والكيميائية والفيزيائية16 والفلكية17 والخرائط الجغرافية18 والصناعات والمخترعات الحديثة19. أما ما يستشهد من الآراء والأقوال، فإضافة إلى رؤاه وأحلامه في اليقظة والمنام وما يعده إلهامًا فهو يستشهد بأقوال علماء الشرق والغرب في القديم   1 انظر مثلًا: ج17 ص104، 105، ج25 ص16، 17. 2 انظر مثلًا: ج19 ص122-126. 3 انظر مثلًا: ج26 ص4، 5. 4 انظر مثلًا: ج24 ص39-53، ج11 ص116، 117، ج11 ص123، ج9 ص149، 150، ج15 ص36-39، ج25 ص131-136. 5 انظر مثلًا: ج24 ص35-38، ج11 ص153، 154. 6 انظر مثلًا: ج11 ص104، 106، ج17 ص234، 235. 7 انظر مثلًا: ج15 ص207-211، ج17 ص211، ج25 ص70، 71. 8 انظر مثلًا: ج10 ص155، ج22 ص58، 59. 9 انظر مثلًا: ج19 ص154-160. 10 انظر مثلًا: ج23 ص30، ج2 ص34. 11 انظر مثلًا: ج2 ص31. 12 انظر مثلًا: ج15 ص222، 223، ج17 ص74، 75. 13 انظر مثلًا: ج11 ص118، ج10 ص115-124، ج25 ص137. 14 انظر مثلًا: ج24 ص235-240، ج15 ص41، ج13 ص173-181. 15 انظر مثلًا: ج23 ص137-142. 16 انظر مثلًا: ج19 ص235-237، ج14 ص131، ج1 ص243. 17 انظر مثلًا: ج12 ص239، ج17 ص203-205، ج18 ص195-197. 18 انظر مثلًا: ج12 ص61-68، ج10 ص251، ج16 ص181، ج17 ص173. 19 انظر مثلًا: ج15 ص168، ج17 ص53، ج17 ص169. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 650 والحديث، وقد برز في تفسيره بروزًا واضحًا باستشهاده بنصوص إنجيل برنابا1، وجمهورية أفلاطون2، ونصوص أخوان الصفا3، وألف ليلة وليلة4، وكليلة ودمنة5، والعديد من الجرائد والمجلات الغربية والعربية6. ولا يخفى على ذي لب أمر الاستشهاد بمثل هذا في تفسير القرآن الكريم، وإضافة إلى هذه الشواهد فهو يذكر شواهد أخرى عجيبة من التنويم المغناطيسي وتحضير الأرواح7، زد حساب الجمل8 وخوضه في فواتح السور خوضًا عجيبًا9. خلاصة الأمر الحق في هذا التفسير من قال عنه فيه كل شيء إلا التفسير، ولئن كنا أجملنا الإشارة إلى هذه السمات في تفسيره فإنه يلزمنا لزومًا أن نذكر أمثلة -بعض أمثلة- لهذا التفسير، لا نثبت فيها كل ما قلناه؛ إذ لو فعلنا لاحتاج الأمر إلى دراسة خاصة لهذا التفسير العجيب؛ وإنما مرادنا بعض الأمثلة التي تعطي صورة عامة لطريقته في التفسير، وما عدا ذلك فقد أشرنا إلى مواضعه في الهوامش إشارة فيها الكفاية. نماذج من تفسيره: أمران كانا سبب توقفي فترة من الزمن عند هذا المبحث على وضوحه وظهوره:   1 انظر مثلًا: ج1 ص61-63، ج2 ص122-124، ج1 ص47. 2 انظر مثلًا: ج17 ص186، 243، ج8 ص177، ج20 ص242-244. 3 انظر مثلًا: ج2 ص184، ج8 ص150، 151، ج20 ص30، ج19 ص207-210، ج2 ص8. 4 انظر مثلًا: ج20 ص233، 234. 5 انظر مثلًا: ج17 ص240. 6 انظر مثلًا: ج25 ص128، ج18 ص57، ج20 ص195، ج19 ص241. 7 انظر مثلًا: ج1 ص84، ج8 ص182، 183، ج19 ص29، ج19 ص219-221، ج9 ص10-12. 8 انظر مثلًا: ج2 ص5. 9 انظر مثلًا: ج2 ص5-14، ج23 ص20-26، ج20 ص35-38، ج10 ص61، 62، ج13 ص4، 5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 651 أولهما: أن كثرة الأبحاث في هذا التفسير -التي كلها يصلح أن يكون مثالًا لطريقة صاحبه في تفسير القرآن الكريم- سبب لحيرة مَن يريد أن يختار بعضها أيها يقدم وأيها يؤخر، أيقدم هذا لقصر أبحاثه ويدع ذاك لطولها، أم يقدم هذا لما فيه من التطرف في التفسير، أم يقدمه لما فيه من الرأي الغريب الشاذ، أم يقدمه لما فيه من مخالفة الحق أو لما فيه من مخالفة النصوص الشرعية، أو يغمض عينه عن هذه الجوانب السلبية في التفسير ويقلب الصفحات تلو الصفحات ملتمسًا تفسيرًا مقبولًا عله يجد فيها شيئًا، أو يذكر شيئًا من هذا وذاك؟ فأيها يترك ويأخذ من هذا؟ وأين يجد ذاك؟ قر قراري في نهاية الأمر أن أذكر من التفسير ما له صلة في موضع البحث؛ ذلكم أني أبحث هنا في التفسير العلمي التجريبي، ولست أكتب عن منهج الجوهري في التفسير، فلأدع الجوانب العقدية والاجتماعية والأدبية، ولأحصر صلتي به في الجانب العلمي، ولأقتطف من هذا الجانب ما أراه المدى الذي وصل إليه في التزام هذا الجانب، أما الجوانب الأخرى فلها شأن آخر مع غير هذا البحث. ومن هنا فإني أذكر من الأمثلة ما أراه متطرفًا فيها في التزامه التفسير العلمي، فهو الجانب الذي نبحثه أولًا، وهو الذي يكشف درجة المؤلف ومنزلته في هذا اللون من التفسير ثانيًا، وإني لأجزم أنه يتربع حتى الآن في المركز الأول لا يكاد ينافسه أحد. أما ثانيهما: فلقد ترددت قليلًا في أن أذكر نصوصه بطولها أو أتصرف فيها بالاختصار والحذف، وخشيت أن يكون لتصرفي أثر في معانيها؛ فآثرت أن أذكرها بطولها؛ لتعطي الصورة الصادقة الكاملة حتى وإن كان فيها إطالة، وآثرت أيضًا أن يكون الاختصار في الأمثلة في عددها لا في ذاتها. علم تحضير الأرواح: والمؤلف متأثر تأثرًا بينًا بما يُسمى تحضير الأرواح، فكثيرًا ما يورد في تفسيره محاورات لأرواح يزعمها محضرة، وهو حين يورد هذه الأقوال يوردها مسلمًا مصدقًا لها. أما مَن لم تصح عنده هذه الخزعبلات فهو عند الشيخ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 652 طنطاوي مقلد مع أنه يقر بأن هذا العلم قد اختلط فيه الحق بالباطل والصدق بالكذب. ومع هذا يتأسف على تأخر المسلمين في هذا المضمار، وكان الأَوْلَى بالأمة المسلمة -حسب زعمه- أن تكون السباقة في هذا المضمار، المجدة في تعلمه. وحديثه عن الأرواح وتفسيره لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} 1 الآيات -طويل، أنقل منه الموضع المراد على طوله حتى تكتمل الصورة، قال في تفسيره لهذه الآية: "وأما علم تحضير الأرواح فإنه من هذه الآية استخراجه، إن هذه الآية تُتلى والمسلمون يؤمنون بها حتى ظهر علم تحضير الأرواح بأمريكا أولًا، ثم بسائر أوربا ثانيًا، فلأذكر نُبذة منه لتعرف كيف كان مبدأ هذا العلم، وكيف كان انتشاره بين الأمم، وفائدة هذا العلم أن مَن صحت عنده أحوال الأرواح وظهورها أيقن بالآخرة وبالحياة بعد الموت إيقانًا تامًّا، وأما مَن لم تصح عنده فإنه مقلد كسائر الناس، ولتعم أن هذا العلم متشعب، اختلط فيه الحق بالباطل والصدق بالكذب، وصار الناس فيه طائفتين: طائفة مكذبة، وطائفة مصدقة، ولكل حجج ليس هذا محلها؛ ولكن بالإجمال أقول: إن في العلم التباسًا كثيرًا وشكوكًا بسبب الأحوال الطارئة على المشتغلين به، وكان الأَوْلَى بأمة الإسلام أن تكون السابقة في مضماره، المجدة في تعلمه، المتقدمة على سائر الأمم في تحصيله؛ لتهدي الناس إلى سواء الصراط. أفلا يرى المسلم ما جاء في هذه السورة في قوله تعالى: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وفعل إبراهيم ذلك، وقطع الطير ودعاها فأجابت فاطمأن، وهل نحن أكثر إيمانًا من إبراهيم؟ كلا، فإذا كان إبراهيم يطلب اليقين بالمعاينة فنحن أَوْلَى، والأنبياء أعلم منا، فكان يجب على المسلمين أن يكونوا هم البادئين بعلم إحضار الأرواح   1 سورة البقرة: الآيات من الآية 66 إلى الآية 74. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 653 لا أمريكا؛ لأن الله ذكر لنا في سورة البقرة هنا أنهم ضربوا القتيل فحيي وأخبر بمن قتله، وهو الذي كان وارثًا له فحرم الميراث، وإذا صح هذا في نفس واحدة فجميع الأنفس يجب أن تكون كذلك، وأنها حية بعد الموت، وليس يمكن أن يكون هذا يقينًا إلا إذا رأينا بأنفسنا في زماننا بلا شك، وأنَّى لنا ذلك إلا بالكد والنصب والتعب والسهر ليلًا ونهارًا في العلم والعمل. ولقد ألفت كتابًا سمتيه "كتاب الأرواح" ضمنته ما ورد إلينا من أوربا وأمريكا من كيفية إحضارها، وهكذا ما يقابل ذلك مما ورد في القرآن والحديث وكلام الصالحين، فرأيت اتفاقًا بين الأمتين، فلأنقل لك الآن ما جاء في التوراة من إحضار الأرواح مثلما في عصرنا تمامًا، ثم أتبعه بنُبذة مما في كتاب الأرواح الذي ألفته في تاريخ هذا العلم، ولست أريد بذلك أن تقلد ما أقول؛ ولكن أقول يجب أن يكون في المسلمين جماعة صادقون مخلصون قاصدون وجه الله والدار الآخرة لا عرض الدنيا، ينقطعون لهذا العلم، ويحضرون الأرواح؛ لأجل العلم والمعرفة، ولا يتكلون على أوربا وأمريكا، ويميزون الخبيث من الطيب، وطرق التحضير واضحة في كتاب الأرواح المذكور". ثم ذكر نصًّا استدل به على ما ذكر من التوراة إلى أن قال: "أما ما جاء في العصر الحاضر الذي يناسب مسألة القتيل الذي ضربوه ببعض البقرة، ومسألة إبراهيم الخليل وقوله لله عز وجل: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ، ومسألة صموئيل النبي مع طالوت المعبر عنه بلفظ شارل في التوراة الذي ذكرنا قصته الآن فهاكه، قلت في كتاب الأرواح: قال شير محمد: هل يذكر لي الأستاذ كيف كان بدء هذه الحركة في العالم الحديث؟ قلت: إن هذه الحركة بدأت مع الإنسان على ظهر الأرض، وعاشت مع الأمم دهورًا وأحقابًا، فلما كانت هذه القرون الحاضرة، وأظلمت الدنيا، واسود وجه الحقيقة، وأخذ الناس يجهرون بالإلحاد؛ أرسل ربك لهم عجائب، وبث لهم من الأرض غرائب، وانبعث لهم من عوامل الغيب، وسطعت الحقائق، وأشرقت الأرض بنور ربها في سنة 1846م، ذلك أنه سمع في تلك السنة طرقات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 654 متوالية في بيت رجل يسمى "فيكمان" من قرية "هيدسفيل" من نواحي ولاية نيويورك، وتوالى ذلك ليالي ذوات عدد؛ فذعرت تلك الأسرة، وقذف في أفئدتهم الرعب، فهجروا المكان بعد أشهر، فسكنت الدار أسرة "جون فوكس" المؤلفة من الرجل وامرأته وابنتيه، فعادت الطرقات، وتوالت الضربات، وهرع الجيران؛ لينقبوا عن تلك الأصوات المزعجة، ثم اهتدوا إلى سبيل الرشاد؛ إذ علموا أن تلك أفعال ناجمة من عقل؛ فاصطلحوا مع مصدرها على لفظ نعم ولفظ لا بطرقتين وثلاث، ففهموا أنها رُوح أصابها شر قد قتلها رجل في هذا البيت. والذي كشف ذلك "مدام فوكس" والقتيل الطارق يدعي "شارل ريان" قتل منذ أعوام عديدة في ذلك البيت، وكان في حياته دوَّارًا، قتله مَن كان يبيت عنده لسلب ماله، وكانت عمره إحدى وثلاثين سنة، ثم شاع الخبر وذاع، واستهزأ الناس بذلك وسخروا منها، وقالوا: إن هذا لكذب مبين، وانتقلت عائلة فوكس إلى قرية "روستر" من الولايات المتحدة، وشاع الخبر وذاع، وثار علماء الدين والملحدون وسائر الشعب على المرأة وابنتيها، وتعرضن للموت مرارًا. فعين القوم لجنة من العلماء لكشف الحقيقة؛ فأعلنت أنه لا أثر للشعوذة ولا للاحتيال، فهاج الشعب وعين لجنة أخرى؛ فقررت كالأولى، وعينوا ثالثة؛ فأذعنت كسابقتيها، فهم الطغام بإهلاك الابنتين، وسبوا وشتموا علماء اللجان المذكورة؛ ولكن الابنتين لم يصبهما ضرر، وقامت الجرائد والمجالات تنشر مقالات الهزؤ والسخرية بهذا العمل، ومن العجب أنه لم يمضِ أربع سنين حتى فشا المذهب في سائر الولايات المتحدة حتى لم يكن يخلو بيت من وسيط أو وسيطة يخابر القوم على يده الأرواح، وقد يجلسون حول منضدة، ويتلون أحرف الهجاء، وعند وصولهم إلى الحرف المقصود تطرق المائدة برجلها، ولم تمضِ سنة 1854م؛ أي: بعد الحادث بثماني سنين حتى أصبح أمر هذا الحادث من أعمال دار الندوة ومجلس الأعيان الملتئم في مدينة واشنطون". إلى أن قال: "وتعجب من القرآن كيف ذكر مسائل الحياة بعد الموت في قصة الخليل كما ذكرناه، وأنه أمر بتقطيع الطيور وخلط لحمها بعظمها وريشها، ثم يدعوها فتحيا في أواخر هذه السورة، وأنت تعلم أننا عن هذا عاجزون، وهذه معجزات لنبي، وذلك النبي أرد أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 655 يطمئن قلبه بالمعاينة بعد الإيمان، ولا جرم أن إيماننا أقل من إيمان الأنبياء؛ فنحن أَوْلَى بطلب المعاينة، وطريق الخليل فيها مقفل بابها علينا. فمن فضله تعالى ذكر هنا أن القتيل قد حيي بضربه ببعض البقرة، وهذا فتح باب لإحضار الأرواح؛ فكأنه يقول في مسألة إبراهيم: اطلبوا الحقائق لتطمئنوا، وهنا يقول: اسلكوا السبل التي بها تستحرونها، ولا تنالون شيئًا من هذا إلا بجدكم وكدكم، فالعلم لا يُنال إلا بالمشقة والنَّصَب، فإذا وجدتم أن طريق موسى في إحياء الموتى يصعب عليكم فالتسموا غيره" {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} "هذا ما بدا لي في هاتين الآيتين للخليل وموسى الذي سار على قدم جده في النبوة، فحيي الميت على يديه، وفي السورة آيتان أخريان في إحياء الموتى؛ وهما: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} ، والآية الأخرى نزلت في العزير؛ إذ قال في بيت المقدس: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} ، ثم نظر الطعام الذي كان معه والشراب فرآهما على حالهما لم يتغيرا، وصار ينظر إلى حماره وهو يحيا وتتصل العظام ببعضها وتُكسى لحمًا؛ فعلم {أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} . فالمسلم إذا قرأ هذه الآيات التي حكيت عن بني إسرائيل يقول في نفسه: أنا آمنت، فإن كان من العامة لم يطلب المزيد، وإن كان من الخاصة قال: أنا أطلب المعاينة والمشاهدة، والمشاهدة بإحدى طريقتين: الطريقة الأولى: ما سلكه المجاهدون الزاهدون؛ ولكنها محفوفة بالخطر، ومَن شاهد منهم شيئًا لا يمكن لغيره التصديق به. الطريقة الثانية: طريقة استحضار الأرواح، وهي عامة كما تقدم في هذا المقام؛ ولكن استحضار الأرواح أيضًا على ما يقولون صعب المنال، ويقولون: إن الأرواح النقية لا تخاطب إلا قلوبًا نقية خالصة؛ فرجع الأمر عند الصوفية وعند علماء العصر الحاضر من أوربا إلى أن المدار على الإخلاص والصدق، وطلب الحقيقة والتوجه لله، فهذا هو الأصل عند الجميع. ولذلك ترى الذين يظنون أنهم استحضروا الأرواح متى غلب علهيم حب الدنيا تحضر إليهم أرواح كاذبة خاطئة على مقدار هممهم، وتكلمهم بالأكاذيب والمواعيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 656 العرقوبية، كما أن المجاهد من الصوفية لا ينال الزلفى إلا باحتقار العالَم الفاني، ولما كانت السورة التي نحن بصددها قد جاء فيها حياة العزير بعد موته، وكذلك حماره، ومسألة الطير وإبراهيم الخليل، ومسألة الذين خرجوا من ديارهم فرارًا من الطاعون فماتوا ثم أحياهم، وعلم الله أننا نعجز عن ذلك؛ جعل قبل ذكر تلك الثلاثة في السورة ما يرمز إلى استحضار الأرواح في مسألة البقرة، كأنه يقول: إذا قرأتم ما جاء عن بني إسرائيل من إحياء الموتى في هذه السورة عند أواخرها فلا تيئسوا من ذلك؛ فإني قد بدأت بذكر استحضار الأرواح فاستحضروها بطرقها المعروفة و {اسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . ولكن ليكن المحضِر ذا قلب نقي خالص على قدم الأنبياء والمرسلين كالعزير وإبراهيم وموسى؛ فهؤلاء لخلوص قلوبهم وعلو نفوسهم أريتهم بالمعاينة ليطمئنوا، وأنا أمرت نبيكم أن يقتدي بهم فقلت: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} فاقتدوا بهم في تعلم ما تطمئنون به وتوقنون؛ ولكن قبل ذلك اقتدوا بالأنبياء في طهارة القلوب وزوال الرجس من النفوس، فإن هذه الأمور إنما تعرف بالتجرِبة والعمل، لا بالقياس ولا بالنظر والحدس الفكري1. هذا أهم ما قاله الشيخ طنطاوي جوهري في تفسير هذه الآيات وأمثالها، صرف معانيها إلى تحضير الأرواح، وفسرها تفسيرًا لا يقبله ذو لب يعرف مرامي القرآن الكريم وأهدافه؛ حتى قال الشيخ مصطفى محمد الحديدي الطير عن هذا التفسير: "هو من أغرب ما يقال في تفسير القرآن الكريم، فهو أبعد ما يكون عن معناه وعن أهدافه وأغراضه، كما أن تحضير الأرواح علم كاذب؛ فلا يوافق الدين على الإيمان به، ولا يعترف بأخبار الأرواح التي تحضر عن طريقه، فهي أرواح جن، تكذب بادعاء أنها الأرواح المطلوب إحضارها ومكالمتها، وكيف يمكن أن تكون صادقة وهي تقول عن نفسها: إنها في الجنة، وقد تكون مشركة أو منكرة للدين في حياتها؟! وكيف يمكن استحضارها في حين أن السطان عليها لله الواحد القهار؟! "   1 الجواهر: طنطاوي جوهري ج1 ص84-89. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 657 وعلى الرغم من أن الشيخ -رحمه الله- كان رجلًا تقيًّا على ما عرفته فيه وجربته منه، فإنه كان ذا خيال خصيب، وكان لهذا يُخضع القرآن لما يتخيله في معانيه بأفكاره العريضة ذات الآفاق البعيدة وإن جانبها الصواب، غفر الله له ما قال عن حسن ظن مما خالف فيه ما ينبغي في تفسير كتاب الله المجيد1. ونحن لا نريد قولًا ونقدًا على ما قال الشيخ مصطفى، إلا أن تحضير الأرواح كان دعوة هدامة ذات صلة عميقة بالماسونية والصهيونية العالمية، واقرأ إن شئت ما كتبه الدكتور محمد محمد حسين -رحمه الله تعالى- عن الروحية في كتابه "الروحية الحديثة دعوة هدامة"؛ فقد كشف فيه زيف هذه الدعوة، وذكر فيه أن من أهدافها القضاء على الدين الحق وإلغاء أثره "فالذين يدعون استحضار أرواح الموتى يستحضرون رُوح المسلم ورُوح النصراني ورُوح اليهودي ورُوح البوذي وغير أولئك، وهؤلاء من أهل الجاهلية على تباين نحلهم من مختلف بقاع الأرض، ويزعمون أنهم يعيشون جميعًا في سعادة وهناء ومعنى ذلك أن السعادة والهناء لا تتوقف على الدين الذي يختاره الناس لأنفسهم في حياتهم الأرضية؛ وذلك يؤدي إلى الاستخفاف بالأديان كلها، وإلى تكوين مفاهيم دينية جديدة"2. على أن الذي يهمنا في موضع بحثنا أن الشيخ طنطاوي كان من المخدوعين بهذه الدعوة الزائفة التي راجت في عصره رواجًا كبيرًا؛ فحشدها في تفسيره، ومع هذا ومع حسن ظننا به إلا أنه تجب الإشارة والتحذير من هذا الاتجاه. قوامين بالقسط: في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} 3.   1 اتجاه التفسير في العصر الحديث: مصطفى محمد الحديدي الطير ص75. 2 الروحية الحديثة: محمد محمد حسين ص6، 7. 3 سورة النساء: من الآية 135. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 658 أدخل الشيخ طنطاوي الاكتشافات العلمية الحديثة في وسائل الاعتراف في تفسير هذه الآية على نحو غريب لا أعلم أنه سبق إليه، فقال: "يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ... } إلخ، يأمرنا أننا إذا قتلنا أو سرقنا أو زنينا ووقفنا تحت آلات القتل نقر، وإذا رأيت أبي واقفًا وآلة الشنق منصوبة له أقول: إن أبي قاتل، ولا أخجل ولا أخاف، كل ذلك يأمرني به الله. يأمرنا الله بما لم يشهد أحد عمله إلا نادرًا جدًّا، وليس في النوع الإنساني مَن يبادر إلى ذلك إلا في النادر؛ ولكن الله سبحانه إنما يريد أن يعيش الناس بسلام ووئام، ويكونوا إخوانًا لتحلوَ الحياة ويكون الصفاء. فهل لك أن تسمع من العلم الحديث والكشف الغريب ما يجعل هذا الإقرار أمرًا متداولًا؟ هل لك أن تقرأ ما رسمته الدولة المعاصرة لنا وما كشفوه في هذا المقام حتى تحكم أنهم إذا ساروا على هذا المنوال سنين أصبح ما يقوله الله الآن أمرًا معتادًا، ويقر الإنسان على نفسه وعلى أمه وعلى أبيه وعلى قريبه وعلى ملكه وعلى اللص الذي سرق معه؛ بل يصبح الناس لا سرقة عندهم ولا قتل إلا نادرًا، ويزول الكذب في الشهادات وتصدق الأحكام؟ فلأذكر لك ثلاث مسائل: المسألة الأولى: الإقرار بمصل الصدق وأصل هذا المصل أن طبيبًا يُسمى الدكتور هاوس من المختصين بالتوليد، وعادة الطباء أنهم إذا رأوا امرأة تعسر وضعها حقنوها بهذا المصل المسمى "اسكوبلامين"، فلاحظ أثناء الحقن والمرأة تضع وهي لا تحس بألم أنها تُفشي أسرارًا ما كانت تنطق بها عادة؛ بل تلك الأسرار من أكبر الفضائح والعار، فتوجه إلى رجال الحكومة وأحضروا من السجون نحو خمسائة مسجون وحقنوهم بالمصل كما تحقن الوالدات واستنطقوهم؛ فكانوا يجيبون إجابات صريحة، ويخبرون بالحقائق كما هي، ولم يجدوا في جميع مَن سألوهم كلمة واحدة تخالف الصواب، ولما أفاق أولئك الرجال دُهشوا لما علموا أنهم أجابوا بالحقائق التي أنكروها قبلًا، وقد قال العلماء في ذلك: إن استعماله سيفضي إلى إخلاء السجون من الأبرياء، ولقد وضعوا الرجال المتهمين على موائد كما تُوضع المرضى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 659 وحقنوهم ثم سألوهم في معارض حضرها رجال القضاء والطب فأسفرت عن النتائج عينها، ويقولون: إنه في بلاد الإنجليز التي كشف فيها هذا المصل يقدم عشرة متهمين للمحاكمة فلا يحكم إلا على واحد لثبوت التهمة ويبرأ الباقي، ومتى حقنوا بهذا المصل ظهر المحق من المبطل، وأيضًا يقبض على الثلث من المقبوض عليهم خطأ ويبرءون فيما بعد؛ فهذا المصل ينفي التهمة ويخرجهم، وليس هذا نافعًا لإنجلترا وحدها؛ بل للعالم قاطبة متى انتشر في الكرة الأرضية. المسألة الثانية: إن الجناة يعرفون في العالم الإنساني الآن بآثار الإبهام، وذلك أن بلادنا المصرية جعلت إدارة خاصة لآثار الأصابع، وجعلتها أصنافًا وأنواعًا؛ بحيث إن الإنسان ليس يكون أثر إبهامه له مشابه آخر في الشرق أو في الغرب؛ ولذلك تراهم يأتون المذنبين ويأمرونهم بوضع أصابعهم على الورق وهي ملوثة بالحبر؛ فهذا الأثر يدل على صاحبه لا يشاركه فيه سواه. هكذا الأقدام فإن عرب البادية في بلادنا يعرفون الناس بآثارهم؛ كالقدماء من العرب الذين كانوا يقصون الأثر، فكل امرئ له قَدَمٌ بصفات خاصة لا يشاركه سواه. المسألة الثالثة: لقد ظهر في أمريكا وفي أوربا علم يقال له علم "السيكومتري"؛ أعني: علم قياس الأثر، وقد استعملت هذه اللفظة سنة 1842، وهي مشتقة من لفظة يونانية "سيكي" أي: النفس، و"مترون" أي: قياس، ومعناها اللفظي: قياس النفس. وقالوا في هذا العلم: إنه لا يقع ظل على حائط من دون أن يترك أثرًا فيه يمكن إظهاره بالوسائل الصناعية، وكل غرفة تظن أنها محجوبة عن العيون فيها آثار كل ما حصل فيها ولو من مئات السنين؛ بل كل حَجَر وشجر ومدر توجد عليه رسوم ما حصل عنده من خير أو شر، فكل حركة وكل فكرة تصدر من الناس ترسم على ما حولهم؛ فكأن هناك صورًا لطيفة لا عدد لها، ثابتة على جميع الأشياء، لا تزول بمرور القرون والدهور". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 660 إلى أن قال: "انظر إلى هذه المسائل الثلاث بعقلك وتفكر فيها، ألست ترى أن المسألة الأولى هي التي تحقق إقرار الإنسان على نفسه وعلى أبويه، وتكون الأمم أقرب إلى السعادة منها الآن؟ وإذا كان هذا الكشف الحديث يعم العالم ويظهر صدقه، أفليس ذلك يكون مما يجب علينا الأخذ به متى تحققنا أن ما يقوله الفرنجة حتى لا خطأ فيه، فلسنا نحن نأخذ بقولهم؛ بل نجرب تجاربهم ونعمل بها بعد التحقيق. وإذا كان النوع الإنساني ليس عنده من الصدق والأمانة ما يحمله على الإقرار على النفس والأهل، أفلا يكون أمثال هذا المصل -إذا صح ما يقال- من أوجب الواجبات على أمة الإسلام؛ بل أقول فوق ذلك: إنه يجب على أمراء الإسلام والمجالس النيابية أن يظهروا رجالًا في العلوم ويمدوهم بقوتهم حتى يكشفوا ويخترعوا وينظروا، وكفانا نَوْمًا فقد نامت عقول المسلمين آمادًا طويلة"1. وهل هذا التفسير مقبول، لا أشك أنه كسالفه وككثير من تفاسير الشيخ مردودة مرفوضة؛ بل هو نفسه أورد اعتراضًا على هذا التفسير من قِبَلِ أحد العلماء، وذهب فيرده على هذا الاعتراض يقيسه على أمور الآخرة، وأن الله سبحانه يُشهد على الإنسان يده ورجله ولسانه على ما فعل وما قال. فإذا كان الله قبل هذه الشهادة من الجلود والجوارح، فكيف لا تُقبل ممن يحقن بالمصل ويشهد بالحق؟! ولا شك أن هذا قياس ما الفارق، ثم لو سلمنا جدلًا فما دخل الأمر بالاعتراف والقول بالحق والقسط بوسائل استخراج اعترافه قسرًا، فرق بين الأمرين يجعل ما أورده مرفوضًا منكرًا في هذا المقام، فضلًا عن الخلاف في اعتراف المكره أو غير العاقل. أما نقد هذا التفسير نقدًا مفصلًا، فليس في طاقة بحثنا هذا؛ فلنعطه حقه في العرض والأمثلة فحسب.   1 الجواهر: طنطاوي جوهري ج3 ص97، 98، 99. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 661 الرواسي في الأرض: وذلك من قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} 1. فقد أورد في تفسيرها أحدث النظريات العلمية في الجبال والبراكين وأسباب هيجان البراكين، وقد تحدث قبل ذلك عن الآية التي قبلها، وذكر أن فيها معجزتين: أن السماوات والأرض كانتا رتقًا، وأن الله جعل من الماء كل شيء حي. ثم تحدث عن المعجزة الثالثة في هذه الآية فقال: "ثم أتى بمعجزة ثالثة فقال: "وجعلنا في الأرض رواسي" أي: جبالًا ثوابت كراهة "أن تميد" أي: تميل "بهم" وتضطرب، فإنك سترى أن الأرض لها ستة أدوار -تقدم ذكرها في سورة هود- وهذه الأدوار الستة مقسمة إلى 26 طبقة، والدور الأول منها كان عبارة عن الزمن الذي كون فيه على الكرة الأرضية النارية قشرة صوانية صُلْبة، قدر زمنها بنحو ثلاثمائة مليون سنة، ومعلوم أن الأرض كانت نارًا ملتهبة فبردت قشرتها وصارت صوانية؛ وهي الغلاف الحقيقي لتلك الكرة النارية، ولا تزال الأرض تُخرج لنا من أنفاسها المتضايقة ونارها المتقدة في جوفها كلَّ وقت نارًا بالبراكين التي شرحناها سابقًا في هذا التفسير في سورة "آل عمران". فهذه البراكين أشبه بأفواه تتنفس بها الأرض لتخرج بعض النار من باطنها، ثم يخرب ذلك البركان وينفتح بركان آخر، وهذه البراكين تخرج نارًا وموادًّا ذائبة تدلنا على أصل أرضنا وما كانت عليه قبل الدهر. فهذه القشرة الصُّلْبة لولاها لتفجرت ينابيع النار من سائر أطرافها، كما كانت بعدما انفصلت من الشمس كثيرة الثوران والفوران، وهذه القشرة الصوانية البعيدة المغلفة للكرة النارية هي التي ثبتت منها هذه الجبال التي نراها فوق أرضنا، كما يقول علماء طبقات الأرض. فمن هنا ظهر أن هذه الجبال جعلت لحفظها من أن تميل؛ لأن الطبقة الصوانية هي الحافظة لكرة النار التي تحتها، والكرة الصوانية هذه نبتت لها أسنان طالت وامتدت حتى ارتفعت فوق الأرض، فلو زالت هذه الجبال لبقي   1سورة الأنبياء: 31. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 662 ما تحتها مفتوحًا؛ وإذا ذاك تثور البراكين آلافًا مؤلفة، وتضطرب الأرض اضطرابًا عظيمًا وتزلزل زلزالًا شديدًا؛ لأن الباركين وثوراتها زلزلة، فما بالك إذا كانت الجبال كلها لم تكن وَخَلَتْ أماكنها، ثم إن هذه الجبال قطعة من نفس القشرة غاية الأمر أنها ارتفعت، فما هي إذن إلا حافظة للكرة النارية التي لو تركت وشأنها لاضطربت في أقرب من لمح البصر؛ فأهلكت الحرث والنسل. هذه هي المعجزة الأخرى للقرآن؛ لأن السابقين ومَن عاصروهم كانوا يؤمنون به فقط، فظهور ذلك اليوم من المعجزات القرآنية. ولقد أجمع العلماء قديمًا وحديثًا أن الجبال على الأرض لا قيمة لها بالنسبة للكرة الأرضية، فلو فرضنا أن هذه الكرة الأرضية كرة قطرها ذراع لم تكن الجبال فوقها إلا كنحو نصف سبع شعيرة فوقها، ولو أن الأرض كرة قطرها متر واحد لم تزد الجبال عليها ملليمترًا واحدًا ونصفه فقط، فما هذا الجزء الحقير بالنسبة لتلك الكرة حتى أنه يمنع ميلها وسقوطها، فكأن الناس يؤمنون بهذه الآية. وقد ظهرت هذه النبوة فعلًا في العلم الحديث، ولم تظهر إلا على يد من كفروا بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والمسلمون لا يعلمون إلا من الفرنجة، وأنا أكتب عنهم ومن كتبهم، فصدق الله وجاءت المعجزات تترى في هذا التفسير. فالله هو الذي فصل الأرض من الشمس وكانتا ملتحمتين، والله هو الذي خلق الدواب في البحر، ثم ارتقت إلى أن ارتفعت في الهواء، وإن كان هذا المعنى فيه نظر إن حملنا الآية عليه، والله هو الذي جعل الجبال حافظة للكرة الأرضية أن تهتز وتضطرب؛ لأنها نار والجبال متصلة بالطبقة الصوانية المحيطة بالنار، فالله هو الحافظ لها. كل ذلك دال على وَحْدَته؛ ولكن الأهم من ذلك أن القرآن ورد به ولم يعرفه الناس؛ بل لم يفسر به القرآن على وجه علمي برهاني إلا في هذا العصر؛ وإنما كان يفسر قديمًا بمجرد الإيمان، فهذه هي المعجزة الثالثة. واعلم أن الكرة الأرضية بعد أن تمت أدوارها الستة المذكورة في سورة "هود " وفي سورة "الأنعام"، ومضى دور الطوفان العام، ثم الدور الحالي، ونظمت الأحوال على ما هي عليه الآن؛ ظهرت فيها "الفجاج"؛ وهي المسالك الواسعة، وكما نظمها الله وأخرج زرعها ونوع حيوانها حتى وصل النبات الآن على ما يقول "اسبنسر" 320 ألف نبات، والحيوان أيضًا مليوني نوع، وخلق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 663 الإنسان وأبدع كل شيء فيها، هكذا نظم السماء وجعلها سقفًا محفوظًا؛ فحفظ الشموس في مداراتها؛ بحيث لا تختلط ولا تختبط؛ بل حفظها سالمة في أماكنها الخاصة، بها قوة الجاذبية بالاصطلاح العلمي. فالقمر والشمس والكواكب الأخرى متجاذبات حافظات لمداراتها لا تخرج عنها وإلا لاختل هذا العالم"1. السماوات السبع: ورد لفظ السماوات السبع في القرآن الكريم عدة مرات في عدة سور؛ أما الجوهري فله فَهْمٌ آخر في تحديد السماوات السبع أورده عند تفسيره لقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} 2، ذهب إلى أن السماوات ليست سبعًا، وهو تفسير عجيب من تفسيره لا يستغرب؛ فقد أنكر أن يكون للعدد هنا مفهوم؛ فالسماوات ليست سبعًا، وورود سبع سماوات لا يمنع أن يكون العدد أكثر من سبع، ثم أشاد بهذا التفسير قائلًا بهذا فليرتق المسلمون وليتعلموا. وهذا نص تفسيره: "واعلم أن العدد ليس له مفهوم، وبه قال أكابر المفسرين والحكماء، فإذا قال الله: سبع سماوات، فليس ذلك بمانع أن يكون العدد أكثر، وإذا عرفت أن هذا الجرم اللطيف العجيب الممتد إلى أمد ينقطع الفكر دونه، ومجال لا يصل إليه الوهم فيه من العجائب والبدائع والكواكب والمخلوقات ما لا يُحصى، فسواء أكان سبعًا أم ألفًا؛ فذلك كله من فعل الله، دال على جماله وكماله، وهو تجلياته وأنواره المشرقة المتلألئة الفائضة من مقام القدس الأعلى متنزلة في العوالم، وكل كواكب من الكواكب الجارية له مدار خاص به، وكل شمس من الشموس -التي ذكرناها- لها مدار خاص، وسياراتها كذلك، والله هو الفاعل المختار، مفيض الخيرات والجمال والحسن والإشراق. قال الإمام الغزالي في كتاب "تهافت الفلاسفة": "إذا ثبت حدوث العالم، فسواء أكان كرة أو مثمنًا أو مسدسًا، وسواء   1 الجواهر: طنطاوي جوهري ج10 ص198، 199. 2 سورة البقرة: من الآية 29. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 664 أكانت السماوات وما تحتها ثلاث عشرة طبقة -كما قالوا- أو أقل أو أكثر، فنسبة النظر فيه إلى البحث الإلهي كنسبة النظر إلى طبقات البصلة وعددها وعدد حب الرمان، فالمقصود كونها من فعل الله فقط كيفما كانت". أقول: إياك أن يصدَّك -أيها الفطن- لفظ سبع عن البحث والتنقيب، فالعدد ليس بقيد، وانظر إلى هذا الجمال، ولا تكن من الخائفين الجبناء الذين يظنون أن هذا ينافي القرآن، أو تكون من المساكين الذين يلحدون ويكفرون لسماع مثل هذا اللفظ؛ وذلك لسخافة عقولهم وقلة علمهم، وهذان الفريقان من الذين قال الله فيهم: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} ، فقال صاحبي: إذًا أنت تؤيد المذهب الحديث، فقلت له: حاشى لله أن أؤيد حديثًا أو قديمًا؛ وإنما القرآن طبقناه على المذهب القديم، ثم ظهر بطلان ذلك المذهب، وجاء الحديث فوجدناه أقرب إليه، وإلا فهو أعلى منهما وأعظم، وما يدرينا أن يكون هناك مذاهب ستحدث في المستقبل، فهل القرآن كرة طرحت بصوالجة، يتلقفها رجل رجل؟ كلا؛ إنما هذا التطبيق الذي ذكرته ليطمئن قلب المسلم، وليعلم أن عمل الله وصنعه لا ينافي كلامه، فالتطبيق للاطمئنان. فقال: وَلِمَ كان المذهب الحديث أقرب إلى القرآن؟ قلت: أولًا: جاء في القرآن {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُون} والمذهب الحديث أرانا سَعَة مخلوقاته، وأنها لا تُدرك. ثانيًا: كان القدماء يقولون: الكواكب والأفلاك لا تفنَى، والرأي الحديث يقول: إن الكواكب تتجدد وتفنَى كالإنسان والحيوان. وقالوا: إنهم رصدوا كواكب لا تزال في طور التكون، وذكروا منها نحو ستين ألفًا، وأن كواكب قد فنيت، يقول الله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} ، ومنها ذلك الكوكب الذي بين المشترى والمريخ، وصار كواكب صغيرة جدًّا، فهذا أقرب إلى القرآن؛ لقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} . فقال صاحبي: ما ملخص ما مضى؟ فقلت: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 665 أولًا: أن السماء يراها الناس واحدة. ثانيًا: أن الدين جعلها سبعًا، والفلاسة جعلوها تسعًا. ثالثًا: المسلمون القدماء جعلوها سبعًا منها سماوات، والكرسي والعرش: هما الفلكان الباقيان اتباعًا للفلسفة القديمة، وإنجيل برنابا تبعها، فقال: تسع سموات، والمذهب القديم أبطل؛ فبَطَلَ تبعًا له ما جاء في إنجيل برنابا، وما جاء عن العلماء الذين صدقوه من المسلمين. رابعًا: أن المذهب الحديث أبان أن عظمة الله فوق ما ذكره القدماء، وأصبح ما كان عند القدماء بالنسبة للعلم الحديث أشبه بذرة بالنسبة للأرض والجبال والبحار؛ بل أقل كثيرًا جدًّا. خامسًا: العالم لا فراغ فيه، فالسماوات موجودة فعلًا ببراهين القدماء والمحدثين. سادسًا: وهي سبع سموات وذلك حق؛ لأنها طباق بعضها فوق بعض. سابعًا: المذهب الجديث يثبت فناء العالم، وفناء الكواكب، وهو موافق للقرآن؛ فهو معجزة له. ثامنًا: أن ما قلناه ليس القصد منه أن يخضع القرآن للمباحث، فإنه ربما يبطل المذهب الحديث كما بَطَلَ القديم، فالقرآن فوق الجميع؛ وإنما التطبيق ليأنس المؤمنون بالعلم ولا ينفروا منه لمخالفته لألفاظ القرآن في نظرهم. فقال صحابي: قد أفدت إفادة تامة، ولم يبقَ عندي إلا سؤال واحد؛ وهو لم عبر الله بسبع سموات، ولم يعبر بسماء واحدة مع أن الناس لم يروا غيرها؟ قلت: اعلم أن الله لو ذكر سماء واحدة لوقفت عقول المسلمين عليها، ولم يبحثوا عن غيرها؛ ولكنهم لما سمعوها أخذوا يقرءون فلسفة اليونان، ثم قرأنا الفلسفة الحديثة؛ فعرفنا نعمة الله وحكمته، والتعبير بالسبع امتحان وابتلاء من الله؛ لأنها تحير عقول الباحثين، فمن كان مريض النفس، صغير العقل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 666 ضئيل الفكر؛ جبن وجزع وخاف. وقال: إني أخاف الله رب العالمين، فلا يبحث في العوالم، ويظن أن الله يغضب على مَن بحث من المؤمنين في جمال جلاله، ومَن قويت عزيمته، وعلت همته، وارتقت نفسه، فإنه يبحث ويعرف فعل الله عز وجل، ويقول في نفسه: إن هذا فعل الله، وأنا أقرأ كلامه، وكلاهما دال عليه، وقوله لا يناقض فعله إلا عند الجاهلين. أما أنا فإني أبحث صنعته، وبعد ذلك أطبقها على كلامه بهذا؛ فليرتق المسلمون وليتعلموا، فكم من ذكي مسلم قرأ العلوم الحديثة وكفر بالدين؛ ظانًّا أنه نال من العلم ما جهله الأنبياء، وكم من غبي مسلم اطلع على هذه المباحث فنفر منها لاعتقاده أنها تنافي الدين. "والحق أقول": إن قليلًا من الأذكياء المسلمين مَن يصدقون بالدين مع العلوم، وأكثبر المصدقين بالدين من الجهلاء وعلماء الدين. أما أكثر المتعلمين العصريين، فإنهم يقولون: الدين شيء والعلوم شيء"1. هذا ما قاله الجوهري، والذي يظهر لي أن الذي دعاه إلى إنكار مدلول العدد "سبع" أنه أخطأ في التفريق بين السماوات والأفلاك -وغريب منه هذا- وظن أن لا فرق بينهما، ووجد أن القرآن ينص على لفظ سبع عدة مرات في آيات متعددة من سور متفرقة، ورأى مرة أخرى أن علماء الهيئة الجديدة يذكرون من الأفلاك ما هو أكثر من ذلك؛ فوجد نفسه مضطرًّا لإلغاء مفهوم العدد في القرآن؟! ولو تأمل في آيات القرآن الكريم التي بينت عدد السماوات لوجدها تذكر ذلك بأساليب مختلفة: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} 2، {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ} 3، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} 4، {قُلْ   1 الجواهر: طنطاوي الجوهري ج1 ص50، 51. 2 سورة البقرة: من الآية 29. 3 سورة الإسراء: من الآية 44. 4 سورة المؤمنون: من الآية 17. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 667 مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْع} 1، {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَات} 2، {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَات} 3، {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقا} 4، {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} 5، {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} 6. إن اتفاق ونص هذه الآيات القرآنية كلها على سبع لا يصح أبدًا أن يقال فيه: لا مدلول له؛ وعلى هذا فلا يصح أن يترك أو يؤول نص القرآن هذا التأويل الباطل؛ لأن العلم الحديث عجز عن إدراك هذه السماوات، فما زال علم الفلك يحبو في الدرجات الدنيا، فالحذر الحذر من صرف معاني القرآن الكريم عن معانيها لأجل نظريات ما زالت قاصرة أو من أجل فهم خاطئ لمدلول آية ومدلول نظرية. ثم إن الحديث هنا حديث عن أمر غيبي لا ندعه لمثل هذه المفاهيم القاصرة، والنظريات البدائية. وما تحت الثرى: في تفسير قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} 7، ذكر طنطاوي أن قوله تعالى: {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} تحريض للمسلمين على دراسة علوم المصريين التي تظهر الآن تحت الثرى، وأن الأمم الأوربية اليوم تقرأ علمًا يسمى "علم الآثار المصرية"، وقال غير هذا، وإليك نصر تفسيره: "لما ذكر العرش والاستواء عليه أخذ يشرح العوالم التي استولى عليها؛ فبدأ   1 سورة المؤمنون: من الآية 86. 2 سورة فصلت: من الآية 12. 3 سورة الطلاق: من الآية 12. 4 سورة الملك: من الآية 3. 5 سورة النبأ: الآية 12. 6 سورة نوح: من الآية 15. 7 سورة طه: الآية 6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 668 بأهمها؛ وهي السماوات بخلاف إنزال القرآن، فإنه من عالم أعلى إلى عالم أدنى كما تقدم، ثم ثنَّى بالأرض لأنها أدنى منزلة، فمقام تَعداد الممالك غير بيان المكان الذي أنزل القرآن لأهله. وقوله: {وَمَا بَيْنَهُمَا} دخل في ذلك عوالم السحاب والكهرباء وجميع العلم المسمى "الآثار العلوية"، وهو من علوم الطبيعة قديمًا وحديثًا. وقوله: {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} يشير لعلمين لم يعرفا إلا في زماننا، وهما علم طبقات الأرض المتقدم مرارًا في هذا التفسير وعلم الآثار المتقدم بعضه في سورة يونس، والآتي بعضه في سورة سبأ، وأن قوله هناك: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} يشير إلى ما ظهر من بلاد اليمن "!! " التي تشتمل على "سبأ"؛ فقد ظهرت هناك نقوش ومدائن لم تكن معروفة من قبل، وظهر "سد العرم" وسيأتي رسمه، كل ذلك والمسلمون لا علم لهم بذلك مع أنه في بلادهم وعلى مقربة منهم. فالله هنا يقول: {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} ليحرض المسلمين على دراسة علوم المصريين التي تظهر الآن تحت الثرى المذكورين في هذه السورة، وأن سحرتهم شهدوا بصدق النبوة الموسومة؛ لأنهم وجدوا علمًا فوق علمهم؛ وهو علم النبوة، فجدير بعلوم هؤلاء أن تدرس وتعلم؛ لهذا كله قال: {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} !! واعلم أن الأمم الأوربية اليوم يقرءون علمًا يسمى "علم الآثار المصرية" فهو فن خاص، وقد انتشرت الآثار هناك في زماننا ويسمى بعلم الاجيتلوجي1. إن هذا التفسير مثل ما سبقه من تفاسير لا يحتاج الأمر فيه إلى تتبعه بالنقد، فكل مَن أوتي حظًّا من الفَهْم يدرك بعد هذه المعاني عن آيات القرآن الكريم كتفسير لها. تفسير الفاتحة: وأحيانًا كثيرة يدخل الشيخ طنطاوي الجوهري في تفسير السورة من العلوم ما لا يعقل، ويحملها ما لا تحتمل، لا أحسبه يورده كتفسير أو يقصده كذلك؛ وإنما   1 الجواهر: طنطاوي جوهري ج9 ص66. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 669 استطرادًا في الحديث واستشهادًا، وهو ولا شك عندي أنه أمر غير محمود؛ لكنه أقل خطرًا من إيراده كتفسير للآية. ومن السور التي أدخل فيها االشيخ طنطاوي جوهري هذه العلوم أول سور القرآن الكريم؛ أعني: سورة الفاتحة، وإليك بعض -أكرر بعض- ما أدخل فيها، قال: "نزلت هذه السورة لتعليم العباد: كيف يتبركون باسم الله عز وجل في سائر أحوالهم، وكيف يحمدونه ويستعينون به، فيبتدئ القارئ قائلًا: أقرأ متبركًا باسم الله الرحمن المنعم بجلائل النعم؛ كالسماوات والأرض والصحة والعقل، الرحيم المنعم بدقائقها؛ كسواد العين، وتلاصق شعرات أهدابها المانعات من دخول الغبار المؤذِي لها، مع أن النور يلمع من خلالها، وينقل صور المرئيات إلى حدقتها فشبكيتها فالدماغ، فهذه الدقة في الصنع والحِكَمة في الوضع التي أباحت لضوء الشمس والكواكب مثلًا أن يلج، ومنعت الغبار أن يدخل يعبر عنها بلفظ: الرحيم؛ تتميمًا للنعمة، وتكميلًا للهناء والسعادة. ولما كان أكثر الناس لا يلحظون العجائب الكامنة فيهم، ولا يعرف نفسه إلا قليل منهم، وهم أكابر الحكماء والأولياء؛ وجب أن أبيِّن في هذا المقام بعض رحمة الله عز وجل في العالم المشاهَد: فمنها ما أشار إليه "العلامة الأستاذ ميلن إدوارد: أن حيوانًا يسمى اكسلوكوب" يعيش منفردًا في فصل الربيع، ومتى باض مات حالًا، فمن رحمة الله، وجميل صنعه، ورأفته بالخَلْق أن ألهم هذا الحيوان أن يبني بيتًا قبل أن يبيض على منوال ما كانت تفعله عاد من اتخاذ البيوت بالحَفْر؛ ولكن هذا في خشب، وأولئك في صخر، فيعمد ذلك الحيوان إلى قطعة من الخشب، فيحفر فيها حفرة مستيطلة، ثم يجلب طلع الأزهار، وبعض الوراق السكرية، ويحشو بها ذلك السرداب، ثم يبيض على ذلك بيضة، ثم يأتي بنشارة الخشب ويجعلها عجينة، ويجعل منها سقفًا لذلك السرداب، والحكمة في ذلك: أن هذه البيضة متى فقست وخرجت الدودة كفاها ذلك الطعام سنة، وهي المدة التي لا تستطيع تلك الدودة أن تحصل فيها قوتها، ومتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 670 أتم الحيوان ذلك صنع سردابًا آخر فوقه على هذا المنوال، وهكذا يضع جملة أدوار، فانظر كيف شملت الرحمة ما خلق وما لم يخلق، فإن ذلك الطعام المخزون في السرداب رحمة ألهمها ذلك الحيوان من الحشرات لولده الذي سيخلق. "ومن هذه العجائب" ما شاهده العلماء الباحثون في أمر النحل والنمل والعنكبوت: "فأما النحل" فتعجب كيف جعل الرحمن الرحيم له سبلًا مذللة، فإنه متى فتح زهرة أول النهار ليمتص رحيقها المختوم ويرجع به إلى الخلية فيضعه فيها، يلهم ألا يفتح زهرة في ذلك اليوم، إلا ما كان من جنس تلك الزهرة لرحمة النحل ورحمة الناس، أما رحمة النحل: فإنه لا يعوزه أن يحتال في فتح زهرات أخرى من نوع آخر فيطول عناؤه، وأما رحمة الناس: فإن ما يعلق برجلي النحلة من حبوب طلع الذكور من النبات، إذا وصل إلى زهرة أنثى علق بها من ذلك الطلع بعضه؛ فأثمر ذلك النبات لحصول الإلقاح بهذه الرحمة العجيبة. "وأما النمل" فمن عجائب الرحمة الخاصة به أن الله خلق له حشرة تسمى "إفس" باللسان الإفرنجي، يحاربها النمل ويغلبها، ومتى غلبها أخذ يستولدها ويربيها ويسميها في ورق الورد، ومتى أكلت وشبعت أقبل النمل عليها وامتص منها مادة حُلوة؛ فكأنه بقر له بشرب لبنه. "وأما العنكبوت" فإنها ألهمت النسج البديع بهندسة فاقت هندسة الإنسان، وعلل ذلك العلماء بقولهم: إن هندسته إلهية وهندسة الإنسان بتعليم البشر؛ فلذلك يغلط الإنسان، ولا يغلط العنكبوت في الهندسة. ولما كان بيت العنكبوت أضعف بيت ألهمها الله أن تبحث عن صمغ وغراء من أماكنها وأشجارها، وتلطخ بها خيوطها التي نسجتها؛ فتكسبها لزوجة؛ فلذلك لا تمزقها الرياح إذا فاجأتها، ولا الأعاصير إذا ساورتها، وإذا مر بها الذباب التقطته بمادتها اللزجة. فانظر إلى آثار رحمة الله كيف كانت المادة الصمغية صائنة بيت العنكبوت الضعيف من التمزيق إذا هبت الزعازع واهتاجت الأعاصير، مع أنها قد تقتلع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 671 الأشجار وتخرب المساكن، ثم تكون شبكة صائد وحيلة محتال، هذا هي الرحمة والحكمة1. وهكذا ألهم الله الأنبياء وأوحى إليهم أن يعلِّموا العباد كيف يتبركون باسم الله في أول أعمالهم؛ كالقراءة والأكل، ذاكرين ربهم ورحمته الواسعة التي عمت سائر العوالم، فيمتلئ قلب العبد إيقانًا بالرحمة، واستبشارًا بالنعمة، وفرحًا برحمة الرحمن الرحيم"2. ولسنا نحن الذين نشعر بتحميله لهذه السورة وغيرها ما لا تحتمل من المعاني؛ بل هو نفسه يدرك ذلك؛ فيوجه لنفسه سؤالًا عن ذلك قائلًا: "لعلك تقول: ما لي أراك تحمل الفاتحة ما لا تحتمل، وتدخل فيها من العلوم ما لا يعقل؟ "، ويجيب على هذا السؤال بما خلاصته: أنه لا يلزم أن يلحظ كل قارئ للقرآن تلك المعاني فيه، وضرب لذلك مثلًا: كفلاح ركب دابته ومعه ولده الصغير، واتجه إلى حقله فرأى مهندسًا للري وعالمًا للطبيعة وحكيمًا، وذكر كل واحد من هؤلاء تختلف نظرته إلى الحقل علوًا وانخفاضًا، وأن الأمر في القرآن الكريم كذلك تختلف نظرات قرائه إليه ومداركهم فيه3. ولا شك أن هذا جواب غير مقنع؛ ذلكم أن القرآن الكريم أُنزل لهداية الناس، لا ليكون موسوعة علمية يحشر فيها كل ما هب ودب من النظريات والعلوم، ويكفيه هنا وفي غيره من المواضع أني يشير إليها إشارة من غير استيعاب لها، ويصرف اهتمامه إلى مفهومها اللغوي ومدلولاتها الشرعية، وحسبه وحسبنا هذا. بعض آراء العلماء في هذا التفسير: قلنا: إن المؤلف نفسَه يشعر أحيانًا كثيرة بتوسعه في تفسير الآية؛ فيطرح على نفسه سؤالًا عن هذا الأمر ثم يجيب عليه، وأحيانًا يطرح هذا الاعتراض   1 سترى عجائب وصورًا شتى في سورة النحل والنمل والعنكبوت "الجوهري". 2 الجواهر: طنطاوي جوهري ج1 ص3-5. 3 المرجع السابق: ج1 ص16، 17. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 672 صديقه الذي يدارسه التفسير، وأحيانًا يكون من أحد العلماء أو غيرهم الذين يحضرون مجلسًا من مجالسه، وكثيرًا ما يورد هذه الاعتراضات في تفسيره ويرد عليها. وحساسيته المفرطة من نقد تفسيره أو اتجاهه العلمي تظهر كثيرًا بين ثنايا تفسيره، وتتجلى بصور متعددة؛ فهو حينًا ينقد العلماء السابقين الذين فرطوا بهذا العلم، وأحيانًأ يذم علماء المسلمين الذين أولوا 150 آية هي آيات الفقه -بحسابه- عناية كبيرة، ولا يولون الآيات الكونية وهي 750 آية -بحسابه- مثل هذه العناية، وأحيانًا تظهر حساسيته هذه بدعوته الملحة لسلوك هذا المنهج العلمي في التفسير، وأنه بهذا يرتقي المسلمون، وأنه بهذا يكون نصرهم وفلاحهم، وأحيانًا يذكر بعض ما يراه في منامه -بل وخياله- وما يسميه إلهامًا، من ثناء على تفسيره وطريقته فيه، ويؤرقه كثيرًا أن يذم تفسيره أو يمنع. وقد سطر في تفسيره الرسالة التي بعثها إلى عبد العزيز بن سعود ملك نجد والحجاز -حينذاك- حين منع تفسيره في البلاد السعودية، ومن هذه الرسالة يدرك قارئها مدى تأثره النفسي لهذا القرار، والتماسه السماح بتداول تفسيره، وخاطب في رسلته هذه المراقبين الذين منعوا كتابه مستنكرًا: "بأي كتاب أم بأية سنة يدخل تفسيري للقرآن جميع أقطار الإسلام شرقًا وغربًا، وأكثرهم في قبضة المستعمرين من غير ديننا، وتوصد الأبواب دونه في الحرمين الشريفين وسائر بلاد الحجاز ونجد، وتصدون عن قراءته عموم المملكة السعودية وحجاج بيت الله الحرام من سائر الأقطار مع أنهم يقرءونه في بلادهم، أليس أهل نجد والحجاز أمس بنا رحمًا وأقرب منا نسبًا؟ أفليس هذا الصد إذا لم يكن بدليل يكون تقطيعًا للأرحام؟ أليست هذه العلوم هي التي أوجبها القرآن في آخر سورة التوبة؟ أوليست تراث أجدادنا الفاتحين؟ "1. وليست هذه المشاعر التي أحس بها من نفسه، ولا الاعتراضات من جلسائه، ولام مصادرة كتابه ومنعه هي نهاية المطاف، فقد توالت الردود على   1 الجواهر: طنطاوي جوهري ج5 ص245. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 673 تفسيره ونقده في تطرقه في هذا السبيل. وسأذكر هنا بعض ردود وآراء المعتدلين في الرد الذين يحسنون به ظنًّا ويثنون عليه في دنيه وغيرته؛ لكن هذا لا يمنعهم من نقد تفسيره وقوله ما يرونه حقًّا. فمن هؤلاء الشيخ محمد حسين الذهبي -رحمه الله تعالى- الذي قال بعد أن أورد بعض الأمثلة من تفسيره: "هذا هو تفسير الجواهر، وهذه نماذج منه وضعتها أمام القارئ ليقف على مقدار تسلط هذه النزعة التفسيرية على قلم مؤلفه وقلبه. والكتاب -كما ترى- موسوعة علمية، ضربت في كل فن من فنون العلم بسهم وافر، مما جعل هذا التفسير يوصف بما وصف به تفسير الفخر الرازي، فقيل عنه: "فيه كل شيء إلا التفسير"؛ بل هو أحق من تفسير الفخر بهذا الوصف وأَوْلَى به، وإذا دل الكتاب على شيء فهو أن المؤلف -رحمه الله- كان كثيرًا ما يسبح في ملكوت السماوات والأرض بفكره، ويطوف في نواحٍ شتَّى من العلم بعقله وقلبه؛ ليجلي للناس آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم، ثم ليظهر لهم بعد هذا كله أن القرآن قد جاء متضمنًا لكل ما جاء ويجيء به الإنسان من علوم ونظريات، ولكل ما اشتمل عليه الكون من دلائل وأحداث؛ تحقيقًا لقول الله تعالى في كتابه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 1؛ ولكن هذا خروج بالقرآن عن قصده، وانحراف به عن هدفه"2. أما الشيخ مصطفى محمد الحديدي الطير، فقد ذكر أيضًا بعض الأمثلة من تفسيره ثم عقب عليها قائلًا: "في وسعنا بعد أن عرفنا نماذج مما كتبه، أن نسمي كتابه هذا جواهر العلوم، لا جواهر التفسير، فهو في وادٍ، وتفسير القرآن في وادٍ آخر"3. وقال أيضًا: "وعلى الرغم من أن الشيخ -رحمه الله- كان رجلًا تقيًّا على   1 سورة الأنعام: من الآية 38. 2 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص183. 3 اتجاه التفسير في العصر الحديث: مصطفى محمد الحديدي الطير ص73. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 674 ما عرفته فيه وجربته منه، فإنه كان ذا خيال خصيب، وكان لهذا يخضع القرآن لما يتخيله في معانيه بأفكاره العريضة ذات الآفات البعيدة وإن جانبها الصواب، غفر الله له ما قال عن حسن ظن مما خالف فيه ما ينبغي في تفسير كتاب الله المجيد"1. أما الدكتور عبد المجيد المحتسب فقال: "والحق يقال: إن الشيخ طنطاوي جوهري مع مخالفتنا إياه في منحاه ونزعته، يبدو حسن النية فيما ذهب إليه؛ فقد وجد أن السبيل التي سلكها تبعث الأمة الإسلامية بعثًا جديدًا في ميدان التقدم العلمي"2. ثم علَّق الدكتور على قرار منع الكتاب ومصادرته في الحجاز ونجد فقال: "والحق يقال: إن المانعين لهذا التفسير لاحظوا جنوح صاحبه؛ بل ولوعه الشديد بإخضاع الآيات القرآنية وقهرها لكي تحمل الكثير من مسائل العلوم الكونية. وهذا تعسف ظاهر وميل بالقرآن عن مقصده الأسمي؛ ألا وهو هداية البشر لما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، وإن دل هذا المنع على شيء فإنما يدل على الورع وصيانة القرآن عن أن ينحرف أحد بتفسيره"2. أما الدكتور محمد إبراهيم شريف فقال: "ومع توافر حُسْن النية لدى طنطاوي جوهري فيما ذهب إليه من هذا الاتجاه العلمي في التفسير؛ حيث رأى أن السبيل التي سلكها تبعث في الأمة الإسلامية بعثًا جديدًا في ميدان التقدم العلمي، كما تدل عليه نداءاته وخطاباته للأمة الإسلامية وعلمائها وفيضها بالغيرة والإشفاق والإخلاص، مع ذلك قُوبل تفسيره في الأوساط الإسلامية في مصر والبلاد العربية بالمعارضة والإنكار، فقيل عنه ما قيل عن غيره من قديم: إن فيه كل شيء إلا التفسير؛ حيث يذكر من الفصول المطولة في العلوم المختلفة ما يصد قارئه عما أنزل الله لأجله القرآن، ونظر إليه على أنه مخدر للأمة وملهاة   1 المرجع السابق: ص75. 2 اتجاهات التفسير في العصر الراهن ص276، 277. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 675 لها عن طريق التقدم الحقيقي بما يقدم لها ما يطمئنها إلى أنها سبقت عصرها في كل ما يتطاول به الغرب من علوم حديثة"1. وقال أيضًا: "لقد كان تفسير الجواهر أول محاولة كاملة في الاتجاه العلمي في التفسير حديثًا، ولم تخلُ هذه المحاولة من تعجل واندفاع في أحضان بعض النظريات الجديدة التي لم تستحكم طاقات فتلها، ولم يتأكد بعد أنها حقائق ثابتة لا تقبل الجدل"1. وقال: "ومن هنا كانت بعض التجاوزات في هذا التفسير مما يخضع فيه جوهري لخياله الخصب، خاصة فيما يتعلق بالأمور الغيبية؛ كعالم الجن والشياطين، واستحضار الأرواح، والتنويم الصناعي، والوقوع في أسر بعض النظريات العلمية القديمة والحديثة، والتورط في النقل عن مصادر غير موثوق صحتها، أو ليست لها قيمة علمية أو دينية؛ ككتب الأدب والأساطير، والفلسفات، والمذاهب القديمة، والأناجيل، وقد أسهب طنطاوي في ذلك كثيرًا، كما أسهب في بيان كثير من العلوم المختلفة التي تشير إليها الآيات الكونية والعلمية حتى جاوز حدود معانيها، ولم يحاول الجمع بينها؛ فخفي بذلك كثير من حقيقة ومقدار العلم المنزل فيها. ولكن من الحق أن نقول: إن طنطاوي في محاولته المبكرة هذه قد وضع بعض الملاحظات الهامة والقواعد التي تحكم تفسيره في هذه الناحية، كما وضع بعض القواعد المنهجية الخاصة به، والتي تتيح لقارئ تفسيره التعرف على مضمون الآيات مع عدم التعرض لتفصيلات العلوم المرتبطة بها، ومن حق هذا التفسير الذي هُوجم كثيرًا بحق وبغير حق أن نسجل هذه الملاحظات والقواعد"2. ثم ذكر أن الملاحظات تأتي في شكل حوار مع صديق له يسأله ويجيبه؛ بما يرفع ظنونه وشكوكه في مسلك التفسير واتجاهه العلمي.   1 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم الشريف ص709، 711. 2 المرجع السابق: ص712. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 676 وذكر أن أظهر ما اختص به هنا جانبان؛ الأول: تفسيره لآيات القرآن الكريم تفسيرًا لفظيًّا مختصرًا، باستطاعة القارئ للتفسير أن يتعرف على هذه المعاني دون متابعة البحوث المستفيضة، والثاني: أنه يقسم السورة إلى أجزاء متعددة، يتناولها جزءًا جزءًا1. هذه بعض آراء العلماء المعاصرين في هذا التفسير. رأيي في هذا التفسير: وإن كان لي من رأي في هذا التفسير فهو لا يخرج عمَّا ذكرت من الآراء فيه؛ لكن يجب أن أنبه إلى ملاحظة تمر هنا وتمر في مواضع أخرى: إني وأولئك العلماء الأفاضل الذين ذكرت رأيهم في تفسير الجواهر كلنا ندرس ونحكم على التفسير لا على صاحبه. وعلى هذا فإني أرى بغض النظر عن حسن الظن بالمؤلف -مع حسنه عندي- أن تفسيره خاطئ، انحرف عن جادة الصواب في تفسير القرآن الكريم انحرافًا لا يقبله ذو الذوق السليم، فضلًا عن الخبير بشروط التفسير. ولا شك أن تحميل هذه النصوص القرآنية ما لا تحتمل، وإدخال العلوم والنظريات التي لم يستقر قرارها، والصور الشمسية للبشر والحيوانات بين ثنايا صفحات التفسير، وتلك الأوهام والخرافات التي يتخيلها في خياله الواسع حتى يتمثل أشخاص الخيال ذات أجساد واقفة أمامه، وينسلخ حينًا من عالم الأجساد إلى ما يسميه عالم الأرواح، وإدخاله تلك المنامات التي يراها في منامه، أو تلك الأوهام التي يسميها إلهامًا، كل هذا وذاك لا يُقبل في تفسير القرآن الكريم. فعلينا -وإن أحسنا الظن به- أن نعلن ونحذر من هذا التفسير وأمثاله، ولو كان كتبها مستقلة عن آيات القرآن الكريم لكان له وجه من القبول، أما والحالة هذه فإني لا أرى له وجهًا.   1 المرجع السابق: ص713-715. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 677 غفر الله للمؤلف ورحمه، ووفق الله المسلمين لما فيه الحق والخير في حياتهم الدنيا والآخرة، إنه سميع مجيب. هذا ما أحببت قوله عن هذا التفسير؛ وإنما أطلت فيه لعدة أسباب؛ أهمها: أنه أول تفسير علمي شامل لآيات القرآن الكريم في العصر الحديث، وإضافة إلى أنه من أوائل التفاسير عامة في هذا القرن، وفوق هذا وذاك هو أشهر وأوفَى كتب التفسير العلمي؛ فكان حقه وحق هذه الدراسة الاستيفاء. ومن هنا فإنني سألتزم الاختصار غايته في عرض الكتب التالية التي اخترتها كنماذج للتفسير العلمي في العصر الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 678 ثانيًا: كشف الأسرار النورانية القرآنية أولًا: المؤلف هو محمد بن أحمد الإسكندراني ثم الدمشقي، أحد علماء الطب في دمشق، عَمِلَ في العسكرية البحرية في مصر إلى سنة 1256، ثم رحل إلى دمشق حيث تولى رئاسة أطباء الجيش إلى سنة 1258، وعمل طبيبًا للحكومة في مستشفى الغرباء ودائرة البلدية مدة طويلة، وتُوفي في دمشق سنة 1306، ولم يُولد له. وله من المؤلفات: 1- تبيان الأسرار الربانية بالنباتات والمعادن والخواص الحيوانية، طبع. 2- الأزهار المجنية في مداواة الهيضة الهندية، طبع. 3- البراهين البينات في بيان حقائق الحيوانات، طبع معظمه. 4- وهذا التفسير الذي ندرسه. ثانيًا: الكتاب كشف الأسرار النوراية القرآنية فيما يتعلق بالأجرام السماوية والأرضية والحيوانات والنباتات والجواهر المعدنية. وطبع هذا الكتاب بالمطبعة الوهبية وبتاريخ 5/ 2/ 1297، وذلك في ثلاثة مجلدات. سبب تاليفه: ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- أنه في سنة 1290 اجتمع في محفل حافل ببعض الأطباء "المسيحيين"؛ فشرعوا يتحادثون في كيفية تكوُّن الأحجاز الفحمية، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 679 وفي أنها هل أشير إليها في التوراة والإنجيل أم لا؟ فبعد الأسئلة والأجوبة حكموا أنه لا يوجد لها ذكر فيها أصلًا لا صريحًا ولا إشارة، ثم خصوه بالسؤال: هل أشير إليها في القرآن الشريف أم صرح بذكرها؟ وإن لم يشر إليها فكيف قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 1؟ وإن أشير إليها فيه ففي أي موضع؟ فتصدر للجواب، وتلطف في الخطاب، وتصفح ألوفًا من مسائل الفصحاء، وتتبع كلام العلماء وطلبه من كتب التفسير والطب، ثم ازدادت همته بعد وقوفه على حقيقة تكون الحجر المشار إليه؛ فبيَّن كيفية تكوُّن الحيوانات والنباتات والأجرام السماوية والأرضية والجواهر المعدنية. ثم وضح خطته فقال: "وأبرزت ذلك في ثلاثة ابواب كأنها بساتين أزهار أو حدائق معارف تفجرت منها الأنهار". إلى أن قال: "وتشاورت مع أرباب المعارف وأهل الإشارات فانحط الرأي على أن من اللازم لما قصدته من بيان كيفية التكونات التي ذكرتها تأليف كتاب يشتمل على شرح الآيات القرآنية المتعلقة بذلك شرحًا يكشف معناها وحقيقتها؛ فاستنهضت جواد الفكر كرًّا وفرًّا، وغصت في ميادين تفسير الآيات مؤملًا ظفرًا ونصرًا، وشجعني على ذلك صدق النية فيما هممت، وخلوص الطوية فيما عرضت؛ فجمعت من كتب التفسير والطب ما تفرق، ومن شتات المسائل ما تمزق، وسلكت في هذا المختصر جزالة الألفاظ مع تمام المعاني". إلى أن قال: "ورتبته على مقدمة في الأحجار الفحمية وثلاثة أبواب في الحيوانات والنباتات والأجرام الأرضية والسماوية، وكل باب منها مشتمل على مسائل ومباحث وخاتمة"2. وإذا ما نظرت أجزاء الكتاب الثلاثة وجدتها قد تقاسمت الأبواب الثلاثة؛ فتحدث في الجزء الأول: الباب الأول: في كيفية تكون الحيوانات وما يتعلق بذلك. وأورد في الجزء الثاني: الباب الثاني: في كيفية خلق السماوات والأرض.   1 سورة الأنعام: من الآية 38. 2 كشف الأسرار النورانية: محمد بن أحمد الإسكندراني ج1 ص3-5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 680 وأورد في الجزء الثالث: الباب الثالث: في تفسير الآيات الشريفة المتضمنة لذكر النباتات، وسنذكر مثالًا من كل باب إن شاء الله تعالى. نماذج من تفسيره: من الباب الأول الخاص بالحديث عن الحيونات تحدث عن دابة الأرض التي دلت على موت سليمان -عليه السلام- وذلك في قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} 1. قال عن الدابة: "وهذه الدابة هي السوس؛ أي: سوس الخشب، من رتبة الحشرات، فلا يمكننا أن نذكر في شأنها كلامًا عامًّا، وعددها كثير جدًّا؛ لأنه يدخل تحتها أكثر من خمسين ألف نوع، وحياة الإنسان لا تكفي لدراستها جيدًا بمفردها، وهي إحدى الرتب المهمة بسبب تنوع أشكالها ولطاقة ألوانها، خصوصًا الخصال والقوى الإلهامية الخاصة بكل نوع، وتقسميها إلى أقسام ثانوية مؤسسة خصوصًا على صفات متخذة من جهازها الفمي وأجنحتها وأربطتها وقرونها وانقلاباتها؛ منها الحشرات ذات الأجنحة الشبكية، والنمل الأبيض ينسب لهذا القسم، ومنها الحشرات ذات المنقار وذات المنقاب؛ أي: الآلة التي تنقب بها هذه الحشرات النباتات لإحداث العفص، ومنها الحشرات ذات الأجنحة القشرية، وأبدان هذه الحشرات لها ستة أرجل، وتقرض أوراق الأشجار والأزهار والجذور والأزرار والحبوب وتحدث إتلافًا، ومنها ما يقرض الجوخ والأقمشة التي من الصوف والفراء، ومنها دودة القز، ومنها الحشرات الجناحية النصف، وهذه الحشرات دودة الصبغ ودودة البلوط والبق وحشرة الملك وسوس الخشب المسمى بالدابة وسوس القمح وجنس القمل والقمل والحشرات الماصة كالبرغوث ونحوه، ومنها ما سبق الكلام عليه؛ مثل: النمل والدراريح والنحل وغير ذلك"2. ومن الباب الثاني الخاص بالحديث عن السماوات والأرض، تحدث عن الصواعق والكهربائية، وذلك عند تفسيره لقوله تعالى:   1 سورة سبأ: من الآية 14. 2 كشف الأسرار النورانية: محمد الإسكندراني ج1 ص229. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 681 {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} 1. أسوقه بنصه لترى أن ليس ثمة صلة بين ما قاله وبين التفسير، ولئلا يحسب أني حذفت منه ما يصح تسميته بالتفسير قال: "قال المفسرون: نزلت هذه الآية في عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخي لبيد بن ربعية، أتيا النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمانه ويجادلانه ويريدان الفتك به، فقال أربد بن ربيعة أخو لبيد بن ربيعة: أخبرنا عن ربنا أمن النحاس هو أم من الحديد؟ فردعهم النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا على أربد بما يلحق بالحديد، وعلى عامر بغُدَّة، ثم إنه لما رجع أربد أرسل الله عليه صاعقة فأحرقته، ورُمي عامر بغُدَّة كغُدَّة البعير ومات في بيت سلولية. وههنا نذكر الآثار الجوية النارية، فنقول: "الآثار الجوية النارية": قد زاد بسبب هذه الآثار في الأزمنة السالفة اندهاش الناس وخوفهم، إما من التلف الذي يتبع ظهورها، وإما من الضوء الساطع الذي ينتشر منها، وإما من عظمها المهول مع تدميرها الأشياء معًا، وطالما صدرت خرافات وتوهمات فاسدة في منشأ الرعد والأضواء الشمالية؛ أي: الفجر الكاذب، والذي تقدم ذكره والأكر النارية. "والكهربائية الجوية والصاعقة والرعد": هذا السائل وجده أرسطاطاليس في قطعة كهرباء، وسماه بهذا الاسم، وهو نوعان كالمغناطيس، والجو يحتوي دائمًا على مقدار من هذا السائل يختلف قلة وكثرة، فإذا كان الهواء ساكنًا والسماء مصحية كانت كهربائية الجو زجاجية، وتغير حالتها كل مرتين؛ فقبل طلوع الشمس بزمن قليل تكون في غاية ضعفها، ثم تتزايد بسرعة وتصل إلى غاية قوتها الأولى نحو الساعة الثامنة الفلكية؛ أعني: قبل الظهر بأربع ساعات في الشهر الثالث من الربيع، ثم تأخذ في الضعف شيئًا فشيئًا، وبعد الزوال بساعتين يكون الاستشعار بها قليلًا؛ أعني: أنها تكون زائدة في الضعف جدًّا، وفي الساعة الرابعة   1 سورة الرعد: من الآية 13. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 682 تقريبًا تكون في غاية ضعفها، ثم في المساء بعد مغيب الشمس بساعة أو ساعتين تكون قوتها كهي في الصباح؛ أعني: في غاية قوتها، ثم تأخذ في التناقص أولًا بسرعة، ثم تبطئ حتى تصل إلى غاية ضعفها الثاني، وهذا التغيران يشاهدان السنة كلها حتى في زمن الغيم، غير أن قوتهما تختلف باختلاف كثرة الغمام وسمكه، وكهربائية الصيف أقوى من كهربائية الشتاء بمرتين، والغالب أنها في جميع الأشهر تزيد أو تنقص على طريقة النسبة المستقيمة لارتفاع الشمس على الأفق، وثبت من المشاهَدات أن العواصف تكون أقوى وأكثر في زمن القمر الجديد والامتلاء منها في أوقات الربيع. "في النسبة الكهربائية": وليس هناك نسبة بين كهربائية الجو وثقله وحرارته بخلاف رطوبته؛ فإن لها بها نسبة عظيمة؛ لأن غايتي ارتفاع الكهربائية تكونان في الوقت الذي يكون يه الهواء متحملًا لمقدار عظيم من الرطوبة، ومتى تكاثف البخار المائي المتحمل له الجو، وسقط على هيئة مطر أو ثلجٍ أو برد؛ فإنه يتكهرب بكهربائية تزيد جدًّا عن كهربائية الجو إذا كان الزمن هادئًا وصحيًّا. "في بيان الكهربائية": ثم إن كهربائية الماء الجوي تارة تكون زجاجية، وتارة راتنجية ككهرباء الهواء، وتكون أيضًا في الصيف أعظم منها في الشتاء. "تنبيه" اعلم أن المغناطيس سيال واحد؛ ولكن جعل الله تعالى فيه خاصيتين: إحداهما جنوبية والأخرى شمالية، وجعل تعالى السيال الكهربائي متنوعًا إلى نوعين: أحدهما زجاجي والآخر راتنجي على حسب تسلطنه في أفراد المعادن، وأيضًا هو سار في السائلات الجوية، ويكون على حسب تجمعه وقوته زجاجيًّا أو راتنجيًّا؛ وذلك إذا سح المطر مرتين وتخلل بينهما زمن قليل فإنه قد يتفق أن أحدهما يتكهرب بكهربائية مخالفة لكهربائية الآخر، وإن كان متساويين في الشدة، ويندر جدًّا وجود أمطار غير مكهربة، ولا يشاهَد ذلك إلا في الأمطار التي تحصل في المسافة التي تخلل بين سحتي مطر مختلفتي الكهربية أو حينما يكون المطر خفيفًا. "في بيان الضباب": الضباب الرطب يكون عمومًا أقل كهربائية من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 683 الضباب البارد الجاف، وزجاجية الثلج أكثر من راتنجيته، ولم تعرف إلى الآن الحالة الكهربائية للبَرَد -بفتح الراء-. "في كهربائية الغمام": قد اعتبرت الغمامة الكثيفة الحاملة للعواصف جسمًا واحدًا يتراكم على سطحه مقدار مخصوص من السائل الكهربائي المنتشر في الفضاء المعرَّض لتأثير هذه الغمامة، ولعل ذلك هو الذي يحدث شكل هذه الكتل المتكونة من الأبخرة الحوصلية المائية، فثبت بموجب ما ذكر أن الجو يكون دائمًا مكهربًا، ومثله في ذلك الغمام، وأنه يمكن أن كهربائية إحدى سحابتين قريبتين لبعضهما تكون مخالفة لكهربائية الأخرى. "في تداخل السحاب في بعضه": إذا كان الهواء مضطربًا، ولم يكن لكتلته إلا اتجاه واحد؛ فإن السحب تنجذب بالريح وتتبع اتجاهه، ولا يحصل بينها وبين بعضها ملامسة ولا معارضة ولا اختلاط، أما إذا تقلب الجو برياح متعارضة فإنه يشاهَد إذ ذاك شرر كهربائي واضطراب وانزعاج متى تقاربت السحب لبعضها حتى تتجاذب؛ أي: يدخل كل منها في سلطنة جذب الأخرى؛ فحينئذ يشقق البرق والسحابة العاصفة ويسمع الرعد، وكثيرًا ما يشاهَد سير طبقات من السحب في اتجاهات متعارضة، أو أن تلك الطبقات تأتي من السماء من مواضع مختلفة وتنضم بعد ذلك في محل واحد، ومن هذا المحل تظهر العواصف، وذلك عقب تأثير الغمام على بعضه بيسير. "في الغمامة الصاعقية": قد يشاهَد أحيانًا على الأفق غمامة مظلمة مسودة تبقى واقفة جزءًا من النهار، وتكون السماء في غير هذا الموضع نقية مصحية، ثم يتجه الريح نحو تلك الغمامة الصاعقية وتتقدم نحو السمت حتى تصل إليه بسرعة، وتغطي الكون ببرقع معتم، وتسير مسبوقة بالرياح والبرق والرعد، ومتبوعة بالأمطار الوابلة والبَرَد -بفتح الراء- الذي ينتشر ويتدحرج في ممرها. "في كهربائية الأرض ونزول الصواعق": قد ثبت في الأرض مكهربة كالهواء؛ ولكن يقال: هل كهربائيتها من نوع كهربائية الهواء؟ أقول: المقرر خلافه؛ فإن علماء الهيئة ذكروا أن كهربائية الهواء في الغالب تكون زجاجية بخلاف كهربائية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 684 الأرض فإنها راتنجية، فإذا انقطعت الموازنة بين هذين السائلين، وانجذب بموجب أسباب مخصوصة في محل ما مقدار كبير من أي نوع كان من الكهربائية حصل في الموضع المقابل لذلك المحل تراكم كهربائية مخالفة في الاسم للأولى، والغالب تولد العواصف من هذا الحادث، فإذا كان في شدة قوته فإن الشرر المنقذف من الغمام جهة الأرض أو من الأرض جهة الغمام يحصل الموازنة بينهما ثانيًا، وهذا هو أصل الصاعقة الصاعدة والصاعقة النازلة التي هي مهولة مخيفة؛ بسبب ما يحدث عنها من الإتلاف والإهلاك المدهش الغريب، كيف لا وهي صورة تتشكل بأشكال غريبة مخالفة لبعضها ولم تصل العلوم إلى الآن لتوضيحها. وبعد ذَهاب الريح العاصف والصاعقة يظهر كأن الكون اكتسب قوة جديدة، وتعظم قوة الحيوانات وتشتد، وتزيد حيويتها، ويحسن الإنبات، وتصير الروائح العطرية للأزهار أقبل وألطف، وبالاختصار يظهر كأن الكائنات كلها حظيت بحياة جديدة قوية. وقد غلط من ظن أن أصوات النواقيس ولغط طلق المدافع يشتت الصواعق؛ إذ الغالب أن الحركة المنطبعة في الهواء من اهتزازات الأجسام الرنانة تجذب هذه الصاعقة إليها، وإنه كثيرًا ما يحصل أن الصاعقة تصيب أبراج النواقيس وتهدمها زمن ضربها، وتحرق السفينة زمن طلقها مدافعها، ومما يشتت الصواعق القوية جدًّا المطر الغزير الذي هو موصل جيد للسائل الكهربائي؛ فيحصل موازنة بين الأرض والجو، ولم يعرف إلى الآن سبب لغط الصاعقة والرعد، هل ذلك بمجرد قعقعة منعكسة من الغمام، أو تتابع أصوات متواصلة بينها وبين بعضها مسافة قصيرة، أو أن ذلك من مصادمة الهواء الذي يتكون فيه وقت حصول الصاعقة خلو؛ بسبب اتحاد كتلة عظيمة من السائل الناري؛ حيث يحصل ذلك في الطبقات المرتفعة من الجو، أو أن ذلك من مصادمة الهواء لشرر كهربائي، اجتاز فيه بسرعة قوية، وحيث إن حالة اهتزازاته الرنينة وسَعَتها وشدتها تكون على حساب قوة هذا الأثر المهول؟ والذي يظهر لي أن الأخير هو القريب للعقل"1. هذا هو كل ما قاله في تفسيرها، فهل تراه كذلك؟!   1 كشف الأسرار النورانية: محمد الإسكندراني ج2 ص135-138. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 685 الزوج البهيج: ومن الباب الثالث الخاص بذكر النباتات فسر قوله تعالى: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} 1 بقوله: "قال تعالى: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} إشارة إلى ما تقطف ثماره ويثمر من غير زراعة في كل سنة، وإلى ما يزرع ويقطف في كل سنة؛ فكأنه تعالى خلق ما يقطف كل سنة ويزرع، وما لا يزرع كل سنة ويقطف مع بقاء أصلهما، ولولا التأبير العام في النبات لم يثمر، فالله تعالى هو الذي قدَّر ذلك لذلك؛ فجعل أعضاء التناسل منضودة بالطلع فوق بعضه، وجعل الأكمام وقاية لها ونعمة للعباد. وقوله تعالى: {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} المراد بالبهيج: الحسن، فالأكمام مركب كل منها من النوار؛ أي: الزهر المسمى بالتويج والكأس، وفيه مباحث: "المبحث الأول في الغلافات الزهرية": الأعضاء -التي تقدم الكلام عليها- محيطة بغلافين؛ هما: الزهر والتويج، فالغلاف الزهري يسمى بسيطًا إذا لم يكن مكونًا إلا من غلاف زهري واحد، ويسمى مزدوجًا إذا كان مكونًا من الكأس والتويج، ومتى كان الغلاف الزهري بسيطًا فالغلاف الذي يفقد هو التويج دائمًا؛ لأن النباتيين يسمون الغلاف الموجود بالكأس على أي حال كان لونه وشكله وقوامه؛ وحيث إنه لا يوجد للنباتات ذات الفلقة الواحدة إلا غلاف بسيط واحد يمكن أن يقال: إن النباتات المذكورة عديمة النوار -أي: التويج- ومع ذلك فقد يتفق أحيانًا أن النباتات ذات الفلقة الواحدة يظهر أن لها غلافين زهريين؛ لأن التقاسيم المكونة لغلافها تكون على هيئة حراشيف صغيرة موضوعة صفين، تنشأ من الجزء الظاهر للذنيب الزهري. "المبحث الثاني في التويج": التويج: الغِلاف الزهري الأكثر قربًا من أعضاء التناسل، وقوامه رخو، ولونه مختلف جدًّا، وفي بعض الأحيان تكون له ألوان جميلة بهية، ومكثه قليل للغاية جدًّا، وغالبًا يزول متى ابتسم الزهر. وفيه أمور:   1 سورة ق: من الآية 7. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 686 "الأول: في تركيب التويج": يتكون التويج من وريقات تويجية، وسبب تسميتها بالوريقات كثرة مشابهتها للأوراق، وكل وريقة تويجية مكونة من جزأين؛ وهما: الظفر والصفيحة، فالأول يقابل ذنيب الورقة، والثاني يقابل قرصها، فالظفر هو الجزء السفلي المستضيق غالبًا، وهو الذي تلتصق بواسطته الوريقة التويجية في الحامل الزهري، والصفيحة هي الجزء العلوي المستعرض، ذو الشكل المختلف، وهو يعلو الظفر. "الثاني: في الوريقة التويجية العديمة الظفر": أحيانًا لا يوجد الظفر في الوريقات التويجية؛ فيحنئذ تسمى وريقة التويج بعديمة الظفر؛ أي: بعديمة الذنيب، وقد يكون الظفر طويلًا أو قصيرًا أو مسطحًا أو قنويًّا، ولا فائدة لنا في تفسير هذه التسميات؛ لأنها واضحة، ولها أسماء مختلفة أيضًا تعرف بها الأوضاع المختلفة للوريقات التويجية، وكذا شكلها، فمثلًا يمكن أن تكون قائمة أو منبسطة أو مائلة إلى الداخل وإلى الخارج أو مقعرة أو على هيئة قلنسوة أو مهمازية أو غير ذلك. "الثالث: في ذي الوريقات الكثيرة": عدد وريقات التويج يكون مختلفًا جدًّا؛ ولأجل بيانها تستعمل أسماء مخصوصة لها فيقال مثلًا: إن التويج ذو وريقتين أو ثلاثة أو أربعة وهكذا، فيسمى بالتويج ذي الوريقات الكثيرة، وقد يكون التويج ذو الوريقات الكثيرة منتظمًا؛ أي: مكونًا من وريقات تويجية متساوية موضوعة بانتظام حول أعضاء التناسل، وفي هذه الحالة يكتسب أشكالًا تخدم لتمييز بعض فصائل عن بعضها، كما في وريقات الفصيلة الوردية والقرنفلية والصليبية، وقد يكون غير منتظم كوريقات تويج القسم الفراشي من الفضيلة البقولية. "الرابع: في التويج الوردي": يسمى التويج ورديًّا إذا كان مكونًا عادة من ثلاث وريقات إلى خمس، أظافرها قصيرة جدًّا، وصفيحتها منبسطة على شكل وردة، وهذا الوصف العام خاص بجميع النباتات التي تُنسب إلى الفصيلة الوردية. "الخامس: في التويج القرنفلي": يسمى التويج بهذا الاسم إذا كان مركبًا من خمس وريقات ذات أظافر طويلة، ومغطاة نحو قاعدتها بالكأس، وفي هذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 687 الحالة تكون صفائح وريقات التويج منبسطة على هيئة وردة، كما في القرنفل البستاني، وجميع نباتات الفصيلة القرنفلية. "السادس: في التويج الصليبي": يسمى التويج صليبيًّا إذا كان مكونًا من أربع وريقات ظفرية موضوعة على هيئة الصليب كما في الفصيلة الصليبية. "السابع: في التويج الكثير الوريقات غير المنتظم": يكون التويج غير منتظم إذا كان مكونًا من خمس وريقات غير متساوية، لها أشكال مختلفة، ويدخل تحته التاج الفراشي، وذلك التويج يقال: إنه فراشي إذا كان مكونًا من خمس وريقات غير منتظم شكلها، شبيه بالفراش الذي تكون أجنحتها منبسطة، وهذا النوع يشاهَد في الفصيلة البقولية، ويسمى غير منتظم إذا كان ولم يمكن نسبته إلى التويج الفراشي، وفي التويج ذو الوريقات الكثيرة تسقط الوريقات التويجية كل واحدة على حدتها أو يقال: إن سقوطها بهذه الكيفية هي الحالة الأغلبية"1. وهكذا يذكر أنواع التويج، وذكر في المبحث الثالث الكأس؛ وهو الغِلاف الظاهر للزهر، وذكر فيه أبحاثًا كثيرة متشعبة. رأيي في هذا التفسير: إذا ما ذهبنا نقارن هذا التفسير بالتفسير الذي سبقه وجدنا هذا الأخير يمتاز بأنه لا يدعو ولا يلح إلى هذا الاتجاه في التفسير، وأمر آخر أهم من هذا أنك تجد في مواضع منه نكهة التفسير؛ فتجد الروايات من السنة، وتجد القراءات في الآية الواحدة، وتجد أقوال المفسرين السابقين في الآية، ومن الفروق أيضًا أن هذا الأخير لا يعتد بتلك الخيالات والأوهام والمنامات الكثيرة الحق منها والباطل ولا يزعم إلهامًا، ومنها خلو هذا التفسير من المصورات للنباتات والحيوانات والبشر وغير ذلك، ومنها عدم اعتماده فلسفات الأمم الكافرة في القديم والحديث، ومنها أن هناك من الآيات ما يفسر تفسيرًا لا تكاد فيه ما تنكره.   1 كشف الأسرار النورانية: محمد الإسكندراني ج3 ص42، 43. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 688 ومع هذا، فإن هذا التفسير مغرق في الاتجاه العلمي، وإذا ما نظرت في فهرس هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة لا يظهر لك أنه كتاب في التفسير إلا بتمهل، فإذا قلبت صفحاته ازددت شكًّا حتى تقع على أول كل بحث؛ فتجد فيه ما يدل على أنه كتاب في التفسير، وإليك شاهدًا لما أقول فهرسًا لأحد الأبحاث. المقالة "السادسة عشر" في قوله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} ، وفيه مسألتان في كيفية القراءات: المسألة الأولى: في الزيادة، وفيها مباحث تسعة الأول: في ذكورة الجنين. الثاني: هل يمكن بالاختيار أن المتجامعين يولدان أحد النوعين؟ الثالث: في بيان علامات الحمل. الرابع: في العلامات العقلية في ظواهر الحمل. الخامس: في انقطاع الحيض. السادس: في انتفاخ البطن. السابع: في بيان الحركات الذاتية للجنين. الثامن: في الحمل المضاعف. التاسع: في بيان الحبل على الحبل. المسألة الثانية: في قوله تعالى {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَام} ، وفيه مباحث سبعة: الأول: في سيلان الحيض. الثاني: في اندفاع الطمث. الثالث: في سير الطمث وكمية الدم. الرابع: في أسباب الطمث ودوريته. الخامس: في بيان مجلس الحيض. السادس: في انقطاع الطمث في سن اليأس. السابع: في العلوق الفاسد، وفيه أنواع: - الأول: في البذور الكاذبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 689 - الثاني: في بيان المضغ اللحمية. - الثالث: في بيان المضغ الحوصيلية1. هذا مثال واحد لأحد أبحاثه، يكاد القارئ يجزم أنه كتاب في طب النساء والولادة، وهكذا أبحاثه الأخرى بحث في الفلك، وبحث في النبات، وبحث في المعادن، ولا شك أني كما رفضت طريقة الشيخ الجوهري فإني أرفض أيضًا طريقة هذا التفسير؛ لما فيه من الإغراق المذموم في المسائل العلمية، وطغيانها على المعاني المتعلقة بالآية المباشرة من التفاسير الصحيحة. وإنما أطلت في هذا التفسير -قليلًا- لأني لم أجد أحدًا كَتَبَ عنه إلا مجرد إشارة لا تتجاوز أسطرًا فيما أعلم.   1 كشف الأسرار النورانية: محمد الإسكندراني ج1 ص7. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 690 ثالثًا: الكون والإعجاز العلمي للقرآن أولًا: المؤلف هو الدكتور منصور حسب النبي، أستاذ ورئيس قسم الطبيعة بكلية البنات بجامعة عين شمس، ولم أجد له ترجمة. ثانيًا: الكتاب هو الكون والإعجاز العلمي للقرآن، عدد صفحاته 391. وقد قسَّم المؤلف كتابه إلى ستة أبواب؛ تحدث في الباب الأول عن وجود الله ووحدانيته، وفي الباب الثاني عن دستور الكون ويقصد به نظام الكون، وتحدث في الباب الثالث عن المجموعة الشمسية، وفي الرابع عن كوكب الأرض، أما الباب الخامس فتحدث عن النجوم والمجرات، وفي الباب السادس والأخير عن الكونيات. وقد أبدى المؤلف عجبه في مقدمة كتابه من المهاجرين للتفسير العلمي حاليًا بدعوى أن العلم يتغير، وهذه مغالطة؛ لأن العلم الصحيح لا يتغير؛ لأنه نتيجة لحقيقة ثابتة ثبوتًا قطعيًّا1. والذي أعتقده أن المؤلف أخطأ الفَهْم هنا؛ فلا أحد ينكر أن "العلم الصحيح" لا يتغير؛ ولكن إلى أن يصل إلى هذه الدرجة لم يزل متغيرًا متقلبًا، وهو في هذه الحالة يسمى نظرية، وفي حالة الاستقرار الصحيح يسمى حقيقة علمية. فهل يعتقد المؤلف أن العلم في القرن العشرين وصل كله إلى درجة الحقيقة العلمية؟!   1 الكون والإعجاز العلمي للقرآن: منصور حسب النبي ص8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 691 لا أظن جوابه إيجابًا إذ هو يخالف الواقع، وإذا ما أجاب بالسلب قلنا: إن المهاجمين للتفسير العلمي يهاجمون الذين حشروا مؤلفاتهم بالعلم في درجته المتقلبة "النظرية"، وربطهم هذا المتأرجح يمنة ويسرة بالقرآن الكريم الثابت الراسخ. وهو نفسه يتناول في تفسيره نظريات علمية لم تستقر، فهل يرى أو يعتقد ان هذا هو العلم الصحيح؟ اقرأ له عن حديثه عن المكان والزمان بين العلم والقرآن، وتأمل في لفظة "تعيين" التي يكررها وليست تقدير. قال مثلًا: "ولقد استخدم العلماء بعض المواد المشعة كاليورانيوم والكربون "14" لتعيين عمر الأرض وعمر الحياة على الأرض، كما استخدم العلماء ظاهرة تمدد الكون وإتساعه المتواصل لتعيين عمر الكون"1. ثم انظر للجدول الذي وضعه للحوادث الكونية وزمنها، مع اعترافه بأنه زمن تقريبي، وأنه طبقًا لتصورات العلم الحديث؛ ومن هذه التواريخ التي ذكرها أن انفجار كرة الكون الأولية "البيضة الكونية" بيج بانج "!! " منذ 13 بليون سنة، وسلسل الأحداث إلى أن وصل إلى تكون الأرض بكتلتها الحالية منذ 4.5 بليون سنة. أما ظهور الإنسان في هذا الجدول منذ فترة تتراوح بين 11 و35 ألف سنة1. العجيب حقًّا أن المؤلف يُورد هذا عند تناوله لقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} 2، وقوله سبحانه: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّون} 3. ومرة أخرى يقول في تفسير آخر: "ويحتوي جوف الأرض على الحديد،   1 الكون والإعجاز العلمي للقرآن: د/ منصور حسب النبي ص98، 99. 2 سورة البقرة: من الآية 189. 3 سورة الحج: من الآية 47. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 692 فلقد أثبتت جميع البحوث بأن لب الأرض مكون أساسًا من الحديد والنيكل، مصداقًا لقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} 1. ولقد ثبت فعلًا أن الحديد أحد العناصر التي توجد في الشمس بوفرة، وذلك بواسطة التحليل الطيفي الحديث، وبهذا يتضح دقة التعبير في الآية الكريمة في فعل "أنزلنا"؛ حيث نزل الحديد من الشمس إلى الأرض"2. والكتاب مليء بالشواهد على ما ذكرنا، ومليء أيضًا -كتفسير الجواهر- بالصور العلمية، ويشترك مع ما سبق في الحكم، والله أعلم.   1 سورة الحديد: من الآية 25. 2 الكون والإعجاز العلمي للقرآن: د/ منصور حسب النبي ص174. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 693 رابع: مع الطب في القرآن الكريم ... رابعًا: مع الطب في القرآن الكريم أولًا: المؤلف اشترك في تأليف هذا الكتاب الدكتور عبد الحميد دياب والدكتور أحمد قرقوز. ثانيًا: الكتاب هو مع الطب في القرآن الكريم، صدرت الطبعة الأولى سنة 1400 في 208 صفحة. والطريف أن هذا الكتاب أعدَّه المؤلفان لنيل إجازة دكتور في الطب وليس في التفسير. ومع أن المؤلفين ينصان نصًّا: "إننا راعينا في البحث عدم تحميل الآيات القرآنية أكثر مما تحمل، وتجنبنا تطويعها للمعطيات العلمية، كما لم يكن البحث محاولة لتفسير الآيات القرآنية بنتائج العلوم الحديثة، إلا إذا كانت الآية قاطعة الدلالة، وكانت المعطيات العلمية حقائق ثابتة أيضًا"1. إلا أنهما أحيانًا ينسيان هذا الالتزام؛ فيفسران الآية بما لا تدل عليه دلالة قاطعة بغض النظر عن كونه حقيقة أو نظرية علمية، نضرب لذلك مثلًا ما ذكراه عند تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} 2.   1 مع الطب في القرآن الكريم: عبد الحميد دياب وأحمد قرقوز ص12. 2 سورة النجم: الآيتين 45، 46. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 694 فقالا: "تحوي البيضة الملقحة التي سيتشكل منها الجنين 22 زوجًا من الصبغيات الجسمية مع زوج من الصبغيات الجنسية، وتأتي هذه الصبغيات من اجتماع بويضة الأنثى التي تحوي دائمًا "22 صبغي جمسي + الصبغ الجنسي x". ومن نطفة الرجل التي تحوي "22 صبغي جسمي + صبغي جنسي إما x أو y"؛ لأن نصف نطاف الرجل تحوي الصبغي "x" ونصفها تحوي الصبغي "y". أما بويضة الامرأة فدائمًا تحمل الصبغي الجنسي "x"، فإذا اتحدت البيضة مع نطفة حاوية على الصبغى الجنسي "x" كان الجنين أنثى، وإذا اتحدث مع نطفة حاوية على الصبغى الجنسي "y" كان الجنين ذكرًا؛ أي حسب المعادلة: نطفة "y" + "بويضة "x" = "x y" ذكر نطفة "x" + بويضة "xx" = "x" أنثى فنطاف الرجل إذًا هي المسئولة عن تحديد الجنس؛ لأنها تحمل الأشكال المتغايرة من الصبغيات الجنسية، وهذا ما ذكره قبل أربعة عشر قرنًا حين قال: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} "1. هذا ما قالاه، والحق أني لم أجد أي دلالة أو إشارة في الآية على هذا، فضلًا عن أن يكون له دلالة قاطعة، كما ذكرنا آنفًا. ونذكر مثالًا آخر نحو هذا، ما قالاه عند تفسير قوله تعالى: {وَعِنَبًا وَقَضْبًا} 2. قالا: "العنب فاكهة واسعة الانتشار في العالم، وتشكل جزءًا أساسيًّا من راتب معظم السكان الغذائي، وأهم ما يميز هذه الفاكهة الطيبة هو احتواؤها على سكر العنب "غلوكوز" بنسبة عالية حتى سُمي باسمها، وسكر العنب هو شكل بسيط للسكاكر، تمتصه الأمعاء بسهولة كبيرة، ويدخل مباشرة في عمليات   1 مع الطب في القرآن الكريم: دياب وقرقوز ص27. 2 سورة عبس: الآية 28. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 695 الاستقلاب دون تغير أو تحول؛ بل إن باقي السكاكر يلزمها أن تتحول إلى سكر عنب في الجسم؛ حتى يمكنه الاستفادة منها في تزويد الجسم بالطاقة والقدرة، ويشذ عن ذلك سكر الفواكه "فركتوز" الذي يمكنه ذلك"1. وهذا القول -كسابقه- لم أجد في الآية دلالة عليه إلا من باب الدلالة التي يفهمها أولئك. وكذلك لا ترد في القرآن كلمة الشمس مثلًا إلا ويذكر هؤلاء بُعدها وعرضها ومحيطها وحرارتها، ثم ينتقلون إلى الكواكب السيارة حولها وخصائص كل كوكب. وأحيانًا ينصرف المؤلفان عن المعنى الحق المتبادر من الآية الواضح البيِّن إلى معنى آخر لا يدل عليه النص، خذ مثلًا قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} 2، كلنا نفهم مدلول هذه الآية المتبادر؛ وهو الحث على قراءة القرآن والتهجد به آخر الليل؛ لكنهما قالا معنى آخر؛ وهو أنه ترغيب بالنوم المبكر والاستيقاظ منذ الفجر، ثم ذكرا الفوائد الصحية للقيام المبكر من النوم، وأن من مزاياه ارتفاع نسبة غاز الأوزون في الجو عند الفجر3، وغير ذلك من فوائد الاستيقاظ المبكر، ولم يتعرضها لقراءة القرآن أو العبادة عامة من هذا الوقت، وهي المقصود الأول في الآية. إضافة إلى هذا اشتمل الكتاب على لوحات توضيحية لأجزاء الإنسان، ومع هذا فإن في الكتاب -في أكثره- تفاسير علمية محمودة التزما فيها ما وعدا به في مقدمة الكتاب التزامًا يجعله في مقدمة المؤلفات العلمية المعتدلة في التفسير.   1 مع الطب في القرآن الكريم: دياب وقرقوز ص161. 2 سورة الإسراء: من الآية 78. 3 مع الطب في القرآن الكريم: دياب وقرقوز ص108، 109. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 696 خامسًا: الإعجاز العددي للقرآن الكريم أولًا: المؤلف هو عبد الرزاق نوفل، وُلد سنة 1337 تقريبًا، وتُوفي في شهر شعبان سنة 1404هـ إثر نوبة قلبية مفاجئة في أعقاب مرضه بالملاريا. وله عدد كبير من المؤلفات بغلت 68 كتابًا؛ ومنها: 1- الله والعلم الحديث1. 2- الإسلام والعلم الحديث. 3- القرآن والعلم الحديث. 4- المسلمون والعلم الحديث. 5- الإسلام دين ودنيا. 6- محمد رسولًا نبيًّا. 7- كيف ولماذا. 8- بين الدين والعلم. 9- القرآن والمجتمع الحديث. 10- بين يدي الله. 11- الرحمن الرحيم. 12- دين وفكر. 13- من الآيات العلمية. 14- الحياة الأخرى. 15- السماء وأهل السماء. 16- أسئلة حرجة. 17- يوم القيامة. 18- أسرار وعجب. 19- عالم الجن والملائكة. 20- الدعوة إلى الإسلام. وله غير هذه المؤلفات كثير، وبنظرة سريعة على عناوين هذه الكتب ندرك الاتجاه العلمي الراسخ عند صاحبها رحمه الله تعالى.   1 وهو أول كتاب صدر للأستاذ عبد الرزاق نوفل، عام 1957. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 697 ومن الطريف أن الأستاذ عبد الرزاق نوفل -رحمه الله تعالى- يحذِّر من تفسير القرآن الكريم بأكمله تفسيرًا علميًّا، ويعد هذا من أخطر ما يمكن على التفسير، وعلل ذلك بأنه لا يمكن للفرد -مهما كانت طاقته ودرجة علمه- القيام بتفسير آيات القرآن كلها، فكيف يلم الإنسان منفردًا بكل ما تضمنه القرآن من علوم وإعجاز إلمامًا يجعله على درجة من العلم تمكِّنه من القيام بهذا العمل الضخم الجليل الخطير؟ 1، ولعله -رحمه الله تعالى- يرمز إلى الشيخ طنطاوي جوهري رحمه الله تعالى. مع أن كتبه -ما ذكرنا منها وما لم نذكر- تطفح بالتفسير العلمي المحمود منه والمذموم، ومؤلفاته مليئة بالتفسير بالنظريات العلمية التي لم يستقر قرارها بعد، وسنعرض هنا لواحد من مؤلفاته. ثانيًا: الكتاب هو الإعجاز العددي للقرآن الكريم، ويقع هذا الكتاب في ثلاثة أجزاء، ولم يكن المؤلف عند إصداره الجزء الأول يقدر إصدار جزء ثانٍ؛ وإنما خطر له ذلك بعد صدور أوله. وتبلغ صفحات الكتاب بأجزائه الثلاثة 524 صفحة من الحجم الوسط. ودراسة الأعداد في القرآن الكريم ظاهرة برزت في العصر الحديث سريعًا؛ فكتب عن العدد 19، ثم أدخل ما يسمى بـ"الكمبيوتر"؛ أي: الحاسب الآلي، وظهرت أعداد أخرى وأخرى. ولن نعرض لهذه الدراسات المتشعبة؛ حتى لا يتشتت الذهن هنا، ونكتفي بذكر عنوان لمقالة نشرها الدكتور محمد أحمد أبو فراخ عنوانها: "بدعة الإعجاز الحسابي". أما موضع بحثنا هنا -أعني: كتاب الأستاذ عبد الرزاق نوفل- فليس المقام هنا مقام دراسة موسعة؛ بل هو إشارة سريعة ليس إلا، وإذا كان الأمر كذلك   1 بين الدين والعلم: عبد الرزاق نوفل ص65. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 698 فلن أشير إلى مواضع الحسن فيه؛ وإنما إلى جانب الآحر؛ إذ الأول هو الأصل في الدراسات القرآنية، وأما الثاني فهو الجسم الغريب الذي يجب التنبيه والتحذير منه. خاصة إذا علمنا أن أرباب الإعجاز الحسابي يعترفون اعترافًا صريحًا إلى إن هذا الجهاز "الكمبيوتر" قد يعطي أعدادًا غير صحيحة، أو ترتكب في الجدول أخطاء مطبعية، وقد تأكد هذا لديهم في بعض السور وأعداد بعض الحروف1. وهناك سبب آخر أهم وأخطر؛ وهو أن الدارس في هذا الفن يدفعه حرصه على إثبات هذا الإعجاز العددي إلى التمحل والتكلف في سبيل الوصول إلى أعداد متطابقة؛ فيعد مرة ما لا يُعد، ويحذف أخرى من غير سبب، ويتضح هذا بمثالين أذكرهما من موضع بحثنا كتاب الإعجاز العددي في القرآن. خذ مثلًا ما ذكره أنه تكرر ذكر إبليس في القرآن الكريم 11 مرة فقط، وبنفس العدد -أي: 11 مرة- تكرر الأمر بالاستعاذة منه2. وإذا نظرنا إلى لفظ الاستعاذة وجدنا المؤلف لا يورد منه إلا ما هو بلفظ "أعوذ" ولفظ "فاستعذ"، أما الألفاظ "عذت"، "ويعوذون"، "أعيذها"، "معاذ الله"، فإنه لا يعد شيئًا منها مع أن بعضها نص بالاستعاذة من الشيطان: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} 3، فإن قلت: إنه نص على ما هو أمر بالاستعاذة من إبليس، قلت: إنه عد من الآيات ما ليست أمرًا بالاستعاذة منه: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} 4، {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} 5، {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} 6، فأين الأمر بالاستعاذة   1 معجزة القرآن العددية: صدقي البيك ص23. 2 الإعجاز العددي للقرآن الكريم: عبد الرزاق نوفل ج2 ص15. 3 سورة آل عمران: من الآية 36. 4 سورة البقرة: من الاية 67. 5 سورة هود: من الآية 47. 6 سورة مريم: من الآية 18. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 699 هنا؟ بل أين الاستعاذة من إبليس هنا؟ في الأولى استعاذ بالله من الجهل، وفي الثانية استعاذ به سبحانه من أن يسأل الله ما ليس له به علم، وفي الثالثة استعاذت بالله ممن تمثل لها بشرًا سويًّا قبل أن تعرفه. وعلى هذا كله لا يستقيم له الأمر فيما ذكر؛ ولهذا يبدو التكلف واضحًا بينًا. خذ مثالًا آخر، قال: ورد اليوم مفردًا 365 مرة بعدد أيام السنة1، وإذا ما نظرنا فيما جمع وجدناه لفظي "اليوم" و"يومًا" وترك "يومكم"، "يومهم"، "يومئذ"؛ لأنه لو فعل لاختلف الحساب والعد. والأدعى من ذلك والأخطر أنه أدَّى به إلى أمر لا يُرتضَى ولا يصح بحال من الأحوال. فقد أراد أن يظهر اتفاق عدد ذكر الرسل والأنبياء وعدد ذكر أسمائهم في القرآن؛ فقال: "بلغ عدد مرات ذكر الرسل ومشتقاتها في القرآن الكريم 368 مرة ... ولما كان النبي قد تكرر 75 مرة، والبشير تكرر 18 مرة، والنذير تكرر 57مرة، ومجموع ذلك 518"، ذكر أنه باستعراض عدد مرات ذكر أسماء الرسل والأنبياء والمبشرين والمنذرين نجد أنهم تكرروا بالأعداد التالية: "موسى 136"، "إبراهيم 69"، "نوح 43"، "يوسف 27"، "لوط 27"، "عيسى 25"، وهكذا إلى أن ذكر: "ناقة الله 7"!! وبهذا فقط تساوى مجموع ذكر الرسل والنبيين والمبشرين والمنذرين بعدد مرات ذكر أسمائهم تمامًا2؟! ولا شك أن عدَّه لناقة الله مع أسماء الأنباء تمحل لا يُقبل منه ولا من غيره أبدًا، وما ألجأه إلى ذلك في هذا الموضع وفي مواضع أخرى كثيرة إلا الفتنة بحب الجديد على العقول والأذهان.   1 الإعجاز العددي للقرآن الكريم: عبد الرزاق نوفل ج3 ص168، 169. 2 الإعجاز العددي في القرآن الكريم: عبد الرزاق نوفل ج3 ص149-153. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 700 بقي أن أقول: إن هذا الإعجاز ما زال بحرًا مظلمًا فيه فجوات وفيه مهلكات، فالحذر الحذر من أن تقودنا العاطفة إلى المهالك، لست أشك في سلامة قصد عبد الرزاق نوفل -رحمه الله تعالى- ولكن هذا شيء والخطأ والصواب والتحذير منه شيء آخر، غفر الله له، ورحمه جزاء نيته، ولنحذر أن نقع في مثل هذه الأمور حتى تنبلج الحقيقة، ويشرق ضوؤها؛ وحينئذ فليتجه إليها المؤمنون، فهي ضالتهم، ومَن اتبع الأوهام وقع في المهالك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 701 رأيي في هذه المؤلفات : أُورد هنا خلاصة رأيي في هذه المؤلفات مجموعة: أما الرأي الذي اخترته في التفسير العلمي التجريبي عامة فقد سلف بيانه؛ وإنما قدمته على ما ذكرته من هذه التفاسير؛ حتى يعرف القارئ موقفي من الرفض والقبول لكل ما أنقله من نصوصها. وإنما أذكر أخيرًا رأيي في هذه المؤلفات العلمية مجتمعة، وهو رأي لا أطيل بيانه أكثر مما أطلت. وبنظرة عجلى على هذه المؤلفات لمن أراد أن يتصفحها يدرك أننا بحاجة في هذا العصر لمؤلَّف في التفسير العلمي التجريبي، تؤلفه مجموعة من العلماء في الشريعة وفي التفسير وفي اللغة وفي العلوم الحديثة، يجتمعون ويقررون ما يوافق الحقائق القرآنية ذات الدلالة الصريحة، ويضمون إليها الحقائق العلمية الثابتة التي قرَّ قرارها وأمن ثبوت زيفها وبطلانها، يثبتونه لا على أن تفسير؛ وإنما كشاهد وزيادة بيان لمعاني الآية ومدلولاتها. وإنما ألجأني إلى هذا أني نظرت إلى هذه المؤلفات الموجودة فوجدتها إما لعالم في الشريعة يخطئ في العلوم الحديثة فيثبت ما لم يثبت، وإما لعالم في العلوم الحديثة يجهل أصول التفسير ولا يدري من أمرها شيئًا؛ فيحمل الآية ما لا تحتمل، ويوجهها إلى ما لا تتجه إليه. حذرًا من هذا وخشية من ذاك، اتجهتُ إلى هذا الاقتراح، ولعل الله يهيئ لهذه الأمة مَن يحققه، إنه سميع مجيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 702 الباب الثالث: منهج المدرسة الاجتماعية الحديثة في التفسير تمهيد 1: كأني بك تنظر إليَّ مندهشًا، وتحدق بي متعجبًا، وألمح على شفتيك سؤالًا؛ بل أسئلة تزاحمت في الظهور، فلم يُتح الزحام لها سبيلًا للخروج؛ فانعكست بين ثنايا وجهك معلنة عن معناها! قرأت منها فيما قرأت: أليس الإسلام هو دين العقل؟ هل جاء في الإسلام ما يخالف العقل، أو جاء العقل بما يبطل شيئًا من الإسلام؟ إذًا فكيف تضع للعقل منهجًا في التفسير؟ هل المناهج الأخرى مجردة من العقل؟ أوليس أصحاب بعضها هم العقلاء؟ إذًا فكيف يكون المنهج هنا هو الموسوم بالعقل وهو هناك مجرد منه؟! أسئلة كثيرة مدارها العقل والتفسير ومنهج الإسلام، فيها قطعت استرسالي في قراءتها لأربت على كتف صاحبها قائلًا: على مهلك وعلى رَسْلك، لا أظنك أول مَن شكك بين هذا المنهج وصفته، فلا يلزم إذًا ما اتصفت طائفة بصفة اتصافها بها حقيقة، كما لا يلزم من تجرد اسمها من هذه الصفة خلوها منها، في المؤلفات العلمية إذا لم يطابق العنوان محتوى الكتاب وصفوه -حديثًا- بأنه من خداع   1 كنت أود أن أستغني عن هذا الباب بكتابي "منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير"؛ لولا أني أحببت وفاء هذه الدراسة بالمناهج والاتجاهات في القرن الرابع عشر؛ فكتبت ما كتبت في هذا الباب ملخصًا في غالبه من ذاك، ومن أراد التوسع فقد أشرت إلى سبيله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 705 العناوين، قس على هذا -إن شئت- الملل والنحل والمذاهب والمناهج، فكثيرًا من هذه وتلك لا صلة لها بأسمائها ... خذ مثلًا المعتزلة في العصر القديم، يسمون أنفسهم أهل التوحيد! وهل التوحيد الحقيقي يعترف بتعدد الخالقين وأن كل إنسان يخلق فعله، أم هو الاعتراف بأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق لكل شيء؟! خذ مثلًا آخر، الشيعة يزعمون حب علي ونصرته، وهل يكون حب أحد يفعل ما يكره ويذم؛ بل بغير الاقتداء بفعله؟! خذ مثلًا الخوارج، يصفون أنفسهم بأنهم "الشراة"، يزعمون أنهم اشتروا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله، وهل شراؤها يكون بقتال علي رضي الله عنه وأرضاه؟! وخذ مثلًا النصارى، يزعمون أنهم "مسيحيون"، فهل المسيح قال: اتخذوني وأمي إلهين؟! حاشى وكلا؛ إذًا فليسوا هم بمسيحيين. وهل أضرب لك مثلًا بالمبادئ والملل في العصر الحديث؛ كالبعثية التي تنكر البعث، وغيرها وغيرها. إذًا فلا يلزم من رفع الشعار الدلالة على الالتزام، فكم من راية رفعها أعداؤها، ناهيك عن هذه الأزمة التي تلونت المذاهب فيها تلون الحرباء، فلا تعرف المقبل منها من المدبر إن لم يخصك الله بنور إيماني تتبين به المحجة البيضاء؛ فلا تزيغ عنها فتهلك. ثم أربت على كتفك مرة أخرى، لن تعرف المنهج العقلي ولن نعرفه حقًّا حتى تعرف ونعرف مدلول العقل ومعناه ومداركه ومجالاته ومنزلته في الإسلام ومكانته، لا أريد أن أجعل البحث هنا مبحثًا كلاميًّا جدليًّا؛ ولكنها مقدمة لَا بُدَّ منها، وباب لَا بُدَّ من الولوج منه؛ لنصل إلى المراد، فلنأتِ البيوت إذًا من أبوابها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 706 المراد به : وما علينا أن يقول غيرنا في تعريفه ما يقولون، وكتاب الله بين أيدينا، الذي هو عصمة أمرنا، وبه نجاتنا، وبالعمل به فلاحنا، فلنأخذ من مَعِينِهِ، ولنبحث فيه -وهو الكتاب الذي لا يخالفه العقل ولا ينقضه- عن معنى العقل ومدلوله وعمله؛ إذًا فلنعرف العقل في القرآن الكريم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 706 العقل في القرآن : من المعلوم أن العقل ينقسم إلى قسمين: 1- عقل غريزي: يهبه الله لمن يشاء من عباده فيُسمى عاقلًا، ويسلبه عمن يشاء فيُسمى مجنونًا وتسقط عنه التكاليف، فهو -إذًا- مناط التكليف، والحق أن الناس تتفاوت درجاتهم في هذا العقل بين المعدم منه كالمجنون ثم المعتوه، وهكذا إلى مَن به خفة، إلى أن يصلوا إلى درجة العقلاء؛ إذًا فهم فيه متفاوتون، خلافًا للأشاعرة والمعتزلة الذين قالوا: إن العقل لا يختلف؛ لأنه حجة عامة يرجع إليها الناس عند اختلافهم، ولو تفاوتت العقول لما كان كذلك1، ولا يمنع هذا الذي قالوه تفاوت عقول الناس؛ لأن التكاليف على قدر العقول، وإلا فما معنى أن يسقط التكليف عن المجنون وغير ذلك؛ لكن الذي ينبغي أن نقوله: إن هذا العقل هبة من الله ينعم بها على مَن يشاء مِن عباده. 2- عقل مكتسب: والمراد به العلم والفَهْم؛ بل هو عمل ونتاج العقل الغريزي، ومتولد منه، ولا ثمرة ولا فائدة للعقل الغريزي إن لم يكن عقلًا متحركًا منتجًا، وهذا العقل هو الذي خصَّه القرآن الكريم بالخطاب، قال الراغب في مفرداته: "كل موضع ذم الله الكفار بعدم العقل فإشارة إلى الثاني دون الأول: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} إلى قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 2، ونحو ذلك من الآيات، وكل موضع رفع التكليف عن العبد لعدم العقل فإشارة إلى الأول"3. فلننظر بعد هذا قول علماء التفسير ذلكم قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن   1 شرح الكوكب المنير: لأبي البقاء محمد بن شهاب الدين الفتوحي ص25. 2 سورة البقرة: الآية 171. 3 المفردات في غريب القرآن: الراغب الأصفهاني ص346. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 707 يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُون} 1، فإنا سنجدهم يتفقون على أن معنى "عقلوه" فهموه وضبطوه بعقولهم2. وهكذا سائر الآيات التي جاء بها ذكر العقل، نجدها كلها تدور حول معنى العلم والفَهْم والإدراك والتدبر، وبهذا ندرك أن المقصود من العقل في القرآن الكريم هو العلم والفَهْم. ومما يزيد الأمر وضوحًا أن أكثر آيات القرآن الكريم جاءت على وجهين متقابلين3: الوجه الأول: آيات تنعى على أولئك الذين لا يعلمون عقولهم التي وهبهم الله إياها، وأنعم بها عليهم؛ فعطلوها عن عملها الذي خلقها الله له، وأنقادوا لشهواتهم ورغباتهم؛ فأصبحوا كمن لا عقل له؛ بل هم أضل. الوجه الثاني: ويقابل ذلك النعي على أولئك دعوة مَن استعمل عقله إلى إعماله على الوجه الأمثل حسب إرشاد القرآن الكريم وتوجيهاته، وتوجيه أعماله وتفكيره وتدبره لما فيه الخير والصلاح، وإلا صار وبالًا على صاحبه وعلى مجتمعه. إذًا، فالمقصود فيما نرى بالعقل في القرآن الكريم العقل المكتسب الناشئ عن حركة العقل الغريزي، حركة يدرك بها الحق، ويعمل به، وينقاد إليه، ويفهم بها الباطل؛ فيحذره ويجتنبه، مسترشدًا بهذا وذاك بدليل الوحي، وبدون هذه الحركة فإن العقل الغريزي لا أثر له إلا كونه حُجة على صاحبه يوم القيامة. فالقرآن إذًا إنما يستثير فينا تحريك العقل؛ حتى يؤدي عمله، وعمله الفقه   1 سورة البقرة: الآية 75. 2 انظر: تفسير ابن كثير ج1 ص118، وتفسير الشوكاني "فتح القدير" ج1 ص102، وتفسير أبي السعود ج1 ص116، وتفسير الخازن ج1 ص60، وتفسير القاسمي ج2 ص166، والتفسير الوسيط ص116. 3 العقل مجالاته وآثاره في ضوء الإسلام: رسالة قيمة أعدَّها لنيل درجة الماجستير الشيخ عبد الرحمن بن زيد الزنيدي ص46. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 708 والتفكر والتذكر والتدبر؛ ولهذا فإنا نرى القرآن الكريم يحث أحيانًا كثيرة على نتاج العقل؛ إذ هو المراد وهو المقصود؛ ولذلك نرى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- يقول: "فالعقل لا يُسمى به مجرد العلم الذي لم يعمل به صاحبه، ولا العمل بلا علم؛ بل إنما يُسمى به العلم الذي يعمل به والعمل بالعلم؛ ولهذا قال أهل النار: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 1، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} 2 3. لا أريد أن أقول: إن هذا هو العقل بكل إطلاقاته، فلا ماشحة في الاصطلاح؛ ولكن أريد أن أقول: هذا ما أحسبه المراد بالعقل في القرآن الكريم، وهذا هو العقل الذي يخاطبه ويوجه إليه أوامره كتابُ الله، ومن حُرِمَ منه فقد حُرِمَ، أما من حُرِمَ الأول -أعني: الغريزي- فهو غير مكلف، وبالتبع غير مخاطب، جعلنا الله وإياكم ممن يسمعون كلامه فيعقلونه.   1 سورة الملك: من الآية 10. 2 سورة الحج: من الآية 46. 3 رسالة في العقل والروح: لابن تيمية، ضمن مجموعة الرسائل المنبرية ج2 ص34. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 709 مكانة العقل في الإسلام : وللعقل بعد هذا في الإسلام منزلة كبيرة ودرجة رفيعة، يتبوأ فيها ويتفيأ ظلالها، فليس ثمة عقيدة تحترم العقل الإنساني وتعتمد عليه في ترسيخها كالعقيدة الإسلامية، وليس ثمة كتاب خاطب العقل وغالَى بقيمته وكرامته ككتاب الإسلام، ونظرة إلى آيات القرآن الكريم تلقى عبارات {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} {لِقَوْمٍ يَفْقَهُون} تتكرر عشرات المرات، مؤكدة المنهج القرآني الفريد في الاقتناع العقلي للإيمان، كل هذا يؤكد ما للعقل من منزلة كبرى في الإسلام. وإذا ما ذهبت تلتمس مظاهر أخرى عديدة لتكريم الإسلام للعقل برزت لك جوانب مشرقة؛ أذكر منها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 709 أولًا: قيام الدعوة إلى الإيمان على الإقناع العقلي: وتظهر سمات ذلك بأساليب شتى؛ مثل: 1- الدعوة إلى التفكر والتدبر في كتابه {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} 1، ثم يستثير العقل الإنساني متحديًا له أن يأتي بمثل هذه القرآن، حتى إذا ما عجز سلَّم مقتنعًا بأنه من عند الله {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} 2، {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} 3. ودعا العقل إلى التدبر في مخلوقات الله {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} 4، ثم يستثيره مرة أخرى أن يجد خللًا في شيء منها حتى إذا ما عجز زاد تسليمًا واقتناعًا {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِير} 5. ودعاه إلى التدبر في تشريعاته، ففيها عبرة وفيها إعجاز {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} 6. ودعاه إلى التدبر والنظر في أحوال الأمة الماضية وعاقبة معاصيهم التي أصروا عليها {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} 7، {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ   1 سورة ص: آية 29. 2 سورة هود: آية 13. 3 سورة الطور: آية 34. 4 سورة الروم: آية 8. 5 سورة الملك: آية 3، 4. 6 سورة البقرة: آية 179. 7 سورة الأنعام: آية 11. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 710 وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِين} 1. ودعاه إلى التدبر والنظر والتأمل في هذه الحياة الدنيا ونعيمها الزائل {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} 2. هذه بعض مظاهر التأمل التي دعا القرآنُ العقلَ إليها، وهو حين يدعوه إلى ذلك لا يريد منه أن يقف عند حدود التأمل والنظر، فليس ذلك بمراد لذاته؛ وإنما ليعبر منه إلى ثمرته وفائدته؛ فيقوِّم به عقيدته، ويرسي أركانها، ويثبت قواعدها ثباتًا لا تزعزعه هبات؛ بل رياح الشهوات؛ وحينئذ يكون الفلاح، وحينئذ يكون الإيمان الحق؛ ذلكم هو المراد وهو الهدف؛ لكنه ليس هو نهاية المطاف. ثانيًا: وحين يصل القرآنُ بالعقل إلى هذه الدرجة فإنه لا يدعه هملًا؛ بل وجه طاقته إلى هدف آخر أوسع رُقعة وأعظم نتيجة؛ تلكم هي مراقبة الحياة الاجتماعية مراقبة إصلاح وتوجيه لما فيه فلاحها وسعادتها {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 3. وليست هذه المهمة لإصلاح المجتمع مسئولية المجتمع كله فحسب؛ بل هي مسئولية كل فرد فيه، فلا قيمة للصلاح إذا اقتصر على إصلاح الذات ولم يتسع لإصلاح الآخرين مع القدرة على ذلك {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} 4، {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 5.   1 سورة الأنعام: آية 6. 2 سورة الكهف: آية 45. 3 سورة آل عمران: آية 104. 4 سورة الأنفال: آية 25. 5 سورة المائدة: الآيتين 78، 79. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 711 ثالثًا: والقرآن حين يدعو إلى الإيمان ينعى على المقلدين الذين لا يُعملون عقولهم، ويتبعون نظريات واهية وآراء زائفة، لا لشيء إلا لأنهم ألفوا آباءهم عليها {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} 1، وحذر من هذا السلوك، وأن يتبع الإنسان ما ليس له به علم {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} 2. رابعًا: وكرَّمه ودعاه إلى العلم، وطلبه وقرن سبحانه ذِكْرَ أولي العلم بذِكْرِه عز وجل وذِكْرِ ملائكته {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 3. وجعل العلم مشاعًا؛ لأنه غذاء العقل، ولعن أولئك الذين يحتكرونه {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 4. خامسًا: وكرَّمه فأسند إليه استنباط الأحكام فيما لا يوجد فيه نص من كتاب أو سنة أو إجماع. سادسًا: وتوَّج تكريمه له بالأمر بالمحافظة عليه، وتحريم كل ما يغطي فعله وأثره، فضلًا عما يزيله؛ فحرم شرب الخمر {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} 5، وجعل فيه الدية كاملة على مَن تسبب في إزالته عن آخره6.   1 سورة البقرة: الآية 170. 2 سورة الإسراء: الآية 36. 3 سورة آل عمران: الآية 18. 4 سورة البقرة: الآيتين 159، 160. 5 سورة المائدة: من الآية 90. 6 انظر: المغني: لابن قدامة ج8 ص37. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 712 لكن الإسلام مع هذا التكريم كله وهذا الاهتمام حَدَّ للعقل حدودًا، هي كل ما يستطيع تبيينه، وحذره من الولوج فيما لا يستطيع إدراكه؛ خشية عليه، وحرصًا على سلامته حتى لا يضل، وكيف له وهو المخلوق أن يدرك ذات الخالق؟! بل أنَّى له أن يدرك كل المخلوقات؟! فليؤمن بما استطاع إدراكه، وليبني على ما أدرك ما لم يدرك، وما أعظمها من شفقة حين قال عليه الصلاة والسلام: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا: خَلَقَ الله الخَلْق فمن خَلَقَ الله؟ فمن وجد من ذلك شيئًا؛ فليقل: آمنت بالله" 1. وما أعظمه من توجيه {يَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} 2، صرف الجواب عن ماهيتها؛ لأنه ليس من شئون العقل ولا من مداركه. توجيه وشفقه هما التوجيه السديد حتى لا يتيه العقل فيما ليس من دركه، وليس من طاقته، وهما لا شك تكريم وأي تكريم. ولذا، كذا الصحابة -رضي الله عنهم- لا يخوضون فيما لا يستطيعون دركه ومعرفته؛ فهذا عمر -رضي الله عنه- يقرأ على المنبر: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} 3، فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأبُّ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر4. وليس هذا من عمر بالتسليم الأعمى -كما يعبر عنه- أو بمطلق التقليد؛ بل هو وقوف منه عند حد المعرفة، وإعراض عما زاد عنها مما هو تكلف، فهو وغيره يعرف أن "أبًّا" نبت يخرج من الأرض؛ بدليل سياق الآيات {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا، وَعِنَبًا وَقَضْبًا} 4 الآيات.   1 رواه مسلم: كتاب الإيمان ج1 ص119. 2 سورة الإسراء: من الآية 85. 3 سورة عبس: الآية 31. 4 مجموع فتاوى ابن تيمية ج13 ص372. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 713 والأمثلة على وقوف السلف عند حدود المعرفة الواجبة وتَرْك التكلف فيما بعد ذلك كثيرة. وعلى هذا مضى المسلمون في العصر الأول من الإسلام، عرفوا ما للعقل فدرسوه، وما ليس له فاجتنبوه؛ بل اجتنبوا مَن عُرف بالأهواء والسؤال عن المتشابه، فهذا "صبيغ بن عسل" جعل يسأل عن متشابه القرآن في أجناد المسلمين حتى قَدِمَ مصر؛ فبعث عمرو بن العاص به إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- فلما أتاه الرسول بالكتاب فقرأه قال: أين الرجل؟ أبصر لا يكون ذهب فتصيبك مني العقوبة الوجيعة، فأتى به؛ فقال عمر: سبيل محدثة؛ فضربه وأعاده إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري: ألا يجالسه أحد من المسلمين، قال أبو عثمان النهدي: فلو جاءنا ونحن مائة لتفرقنا عنه1. ثم لم تزل هذه الأمور تتسع حتى تكلم معبد بن خالد الجهني في القَدَر، فقال: "لا قَدَر والأمر أُنُف"2، وقد أخذ عن معبد هذا غيلان الدمشقي3 -الذي نشره بين المسلمين، وقُتل من أجله- وقد أنكر عليهم مذهبهم هذا مَن كانه حيًّا من الصحابة؛ كعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وأبي هريرة، وابن عباس، وأنس بن مالك، وعبد الله بن أبي أوفى، وعقبة بن عامر الجهني4. وأساس مذهب القدرية إنكار القدر، وأن للإنسان الحرية المطلقة في أفعاله، لا سلطان لأحد على إرادته. وفي مقابل هؤلاء نشأت فرقة أخرى تقول بأن الإنسان مجبور على الفعل، لا اختيار له ولا قدرة؛ كالريشة في الهواء، وتعددت الفِرَق بعد هذا وافترقت.   1 تهذيب تاريخ ابن عساكر: هذَّبه عبد القادر بن أحمد الدومي المعروف بابن بدران ج6 ص385. 2 تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري: لابن عساكر الدمشقي ص10. 3 تهذيب التهذيب: ابن حجر ج1 ص236. 4 الفَرْق بين الفِرَق: عبد القاهر البغدادي ص15. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 714 ولم تزل العلوم العقلية بعد هذا تنمو وتتسع متوازنة مع توسع الفتوحات الإسلامية، ومع دخول الناس على اختلاف مشاربهم، وتعدد منازعهم، وتنوع رغباتهم وحقائقهم في الإسلام، اتسعت هذه العلوم؛ فترجمت العلوم إلى العربية، وأقبلوا بصفة خاصة على الفلسفة اليونانية؛ لحاجتهم إليها في الجدل والمناظرة؛ فتجاوز الحديث عن المنطق أدناه إلى الحديث عن حدوده وقضاياه وأقيسته، فظهرت في المؤلفات عبارات واصطلاحات ومدلولات لم يكن لها سابق وجود؛ فتحدثوا عن العرض والهيولى والجوهر والصورة والقياس والقضايا السالبة والموجبة. ومن الطريف أن العقل نفسه لم يسلم من هذا التنازع؛ فتنازعت فيه طوائف؛ طائفة تمجده وترفع من مقامه إلى درجة تقديسه، وإعطائه أكثر من حقه، وعُرف هؤلاء بالمعتزلة؛ ولهذا سماهم بعض المستشرقين بـ"العقليين"1 أو المدرسة العقلية الأُولَى. وفي مقابل هؤلاء ذهبت طائفة إلى احتقار العقل وامتهانه، واعتقدوا في بعض البله والمجانين، وزعموا أنهم أولياء، وفضلوهم على متبعي طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم2. ولكل مِن هؤلاء وأولئك شبهات وضلالات، والحق وسط بينهما، تجاوزه الأولون فضلوا، وقصر دونه الآخرون فضلوا، واستقر السلف وما زالوا على عرشه فاهتدوا وما زالوا مهتدين.   1 ضحى الإسلام: أحمد أمين ج3 ص89. 2 شرح العقيدة الطحاوية: علي بن علي بن أبي العز الحنفي ص573. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 715 نشأة المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة : كانت هذه صورة عن بعد للموقف من العقل في ضحى الإسلام؛ لكنها لم تلبث أن هدأت -إن لم تكن خمدت- تبعًا للشعوب الإسلامية التي أنهكتها الحروب الصليبية وهجمات التتار والمآسي والنكبات التي مر بها العالم الإسلامي، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 715 التي أسلمته إلى فترة البيات -وليس بياتًا شتويًّا؛ وإنما بيات طويل- أخلد فيها العالم الإسلامي إلى الدعة، وآثر السكون والخمول. فتداعت عليه الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها؛ فأكلوا منه وشربوا وراحوا يقتسمون البلاد ويستخرجون ثرواتها وأهلها نائمون. وأمست البلاد الإسلامية كافة تحت سيطرة البلاد الأوربية التي استغلت خيراتها وثرواتها، وكان أن استيقظ نفر على هذا الضجيج الحضاري؛ فكانوا تمامًا كنفر ناموا حقيقة، ثم وقع على رءوسهم وهم نائمون جلبة وضوضاء مفزعة؛ فقامت طائفة مضطربة تقفز يمنةً ويسرةً على غير هدى، وتتكلم بكلام هو وليد دهشتها ورعبها، وقامت طائفة أخرى بهدوء وسكينة؛ فهللوا وكبروا وذكروا الله فأنزل الله على قلوبهم السكينة. ولم تزل الطائفة الثالثة نائمة لم تشعر بشيء، وأنَّى لهم؟! تلكم الطوائف الثلاث هي واقع المسلمين -فيما أحسبه- في نهضتهم الحديثة قامت طائفة -كما قام الأولون- مندهشين مبهورين فزعين مضطربين، يدعون إلى الحضارة الغربية دعوة عمياء، وينعقون بما لا يفهمون أو بما يفهمون ولا يعقلون، وقام الآخرون فنظروا بعيون بصيرة وقلوب مطمئنة فاختاروا السبيل السوي ودعوا إليه، ولم تزل الطائفة النائمة تغط في سبات عميق. أما العدو الصائل فقد أعد للأمر عُدته؛ فأقصى أصحاب الثقافة الدينية أصحاب القلوب المطمئنة عن ميادين الإصلاح الاجتماعي، وحصر وظائفهم في المساجد التي قَلَّ روادها عمومًا، وسلم المضطربين الفزعين الوظائف الحكومية وأدوات التوجيه الاجتماعي؛ فكانوا لا يسيرونها إلا بوحي وتوجيه منه وكان المراد!! وأبقى على النائمين نومهم. فكان للاستعمار -بل الاستهدام إن صح التعبير- السيطرة على أجهزة التعليم في كثير من البلاد الإسلامية، فضلًا عن جهوده الدائبة لنشر التغريب واللادينية بكل الوسائل الممكنة، وأوهموا الناس أن حالة العالم الإسلامي تمامًا كحالة أوربا في العصور الوسطى، وأنه لن ينهض إلا بما نهضت به أوربا من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 716 فصل السلطة الدينية عن السلطة المدنية ومن ... ومن ... ومن ... وبذلك يتحقق له ما تحقق للأوربيين. ودهش علماء المسلمين دهشة وأي دهشة، وأنَّى يسمع لهم صوت وسط هذا الضجيج! وأنَّى يسمع لهم صوت وأفواههم مكممة!! ونادوا بقدر ما يستطيعون، وذهبوا يردون على تلك الأفكار والمذاهب بأساليب وطرق شتى. وحاولت فئة منهم التقريب والتوفيق بين العلم والدين، وبينت للناس أن الدين الإسلامي الحق لا يحارب العلم الصحيح، ولا ينافي العقل الصريح، وبينت للناس أن الإسلام دين العقل والحرية والفكر، وذهبت تبين لهم ذلك المنهج، وتقيم الدين الإسلامي على العقل -الذي لا يقر أرباب الثقافة الغربية غيره حَكَمًا- وبينت أن ليس في الإسلام ما لا يقره العقل، وحاولت أن تفسر القرآن الكريم على هذا المنهج وهذا الأساس؛ فكانت بحق المدرسة العقلية الاجتماعية. وكان لهذه المدرسة رجال، وكان لها مفسرون لهم نشاط واسع في: نشر هذه الثقافة، ومكافحة الاستعمار، ومقاومة الهجوم على الدين عامة والدين الإسلامي خاصة، وإلقاء تبعة التخلف الحضاري عليه. وكان من رجال هذه المدرسة المؤسسين لها جمال الدين الأفغاني، وتلميذه محمد عبده، وتلاميذه: محمد مصطفى المراغي، ومحمد رشيد رضا، وغير هؤلاء كثير. وسميت حركتهم هذه بالنهضة الإصلاحية، وكان لها جوانب إصلاحية محمودة، وكان لها بجانب هذا شطحات ما كانوا ليقعوا فيها لولا تطرفهم في تحكيم العقل في كل الأمور؛ حتى جاوزوا الحق والصواب في أمور لا تَخْفَى. والمتمعن في طريقتهم في التفسير يجد أسسًا واضحة بيِّنة يقوم عليها تفسيرهم ويرتكز، وهذا أوان بيان هذه الأسس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 717 منهج المدرسة العقلية الاجتماعية في التفسير الأساس الأول: الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم ... منهج المدرسة العقلية الاجتماعية في التفسير: يقوم منهج التفسير لدى المدرسة العقلية الاجتماعية على أسس متعددة، ولئن كان لا يسعنا أن نطيل الحديث في بيانها فإنه لا يسعنا أن نوجزه إيجازًا مخلًّا، فليكن أمرنا فيه وسطًا بين هذا وذاك، والأسس التي استطعت أن أضبطها هي: الأساس الأول: الوَحْدَة الموضوعية في القرآن الكريم وقد أيد كثير من علماء السلف الوَحْدَة الموضوعية في القرآن الكريم؛ ومنهم ابن العربي الذي قال: "ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني علم عظيم"1. وقال ولي الدين الملوي ردًّا على مَن أنكر الوَحْدَة الموضوعية: "قد وهم مَن قال: لا يطلب للآي الكريمة مناسبة"، إلى أن قال: "والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيء عن كونها مكملة لما قبلها أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها، ففي ذلك علم جم، وهكذا في السور يُطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له"2. ومال رجال المدرسة العقلية الاجتماعية إلى هذا الرأي فقالوا بالوَحْدَة الموضوعية في سور القرآن الكريم، وعدوه أساسًا في فَهْم القرآن الكريم، فقال محمد رشيد رضا: "مَن نظر في ترتيب السور كلها في المصحف يرى أنه قد رُوعي في ترتيبها الطول والتوسط والقصر في الجملة، ومن حكمته أن في ذلك عونًا على تلاوته وحفظه، فالناس يبدءون بقراءته من أوله فيكون الانتقال من السبع الطوال إلى المئين فالمثاني فالمفصل أنفى للملل وأدعى إلى النشاط، ويبدءون بحفظه من آخره؛ لأن ذلك أسهل على الأطفال؛ ولكن في كل قسم من الطول والمئين والمفصل تقديمًا لسور قصيرة على سور أطول منها، ومن حكمة   1 الاتقان في علوم القرآن: السيوطي ج2 ص108، والبرهان: للزركشي ج1 ص36. 2 الإتقان: السيوطي ج2 ص108. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 718 ذلك أنه قد رُوعي التناسب في معاني السور مع التناسب في الصور؛ أي: مقدار الطول والقصر"1. ثم تحدث -رحمه الله تعالى- عن التناسب بين سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام، أما الفاتحة فلم يراعِ مناسبتها لما بعدها وحده؛ إذ هي فاتحة القرآن كله، فقال عن المناسبة بين هذه السور: "سورة البقرة أجمع سور القرآن لأصول الإسلام وفروعه، ففيها بيان التوحيد، والبعث، والرسالة العامة والخاصة، وأركان الإسلام العملية، وبيان الخَلْق والتكوين، وبيان أحوال أهل الكتاب والمشركين والمنافقين في دعوة القرآن، ومحاجة الجميع، وبيان أحكام المعاملات المالية والقتال والزوجية، والسور الطوال التي بعدها متممة لما فيها؛ فالثلاث الأولى منها مفصلة لكل ما يتعلق بأهل الكتاب؛ ولكن البقرة أطالت في محاجة اليهود خاصة، وسورة آل عمران أطالت في محاجة النصارى في نصها الأول، وسورة النساء حاجتهم في أواخرها، واشتملت في أثنائها على بيان شئون المنافقين مما أُجمل في سورة البقرة، ثم أتمت سورة المائدة محاجة اليهود والنصارى فيما يشتركان فيه، وفيما ينفرد كل منهما به. ولما كان أمر العقائد هم الأهم المقدَّم في الدين، وكان شأن أهل الكتاب فيه أعظم من شأن المشركين؛ قدمت السور المشتملة على محاجتهم بالتفصيل، وناسب أن يجيء بعدها ما فيه محاجة المشركين بالتفصيل؛ وتلك سورة الأنعام، لم تستوفِ ذلك سورة مثلها، فهي متممة لشرح ما في سورة البقرة مما يتعلق بالعقائد، وجاءت سورة الأعراف بعدها متممة لما فيها ومبينة لسنن الله تعالى في الأنبياء المرسلين وشئون أممهم معهم، وهي حجة على المشركين وأهل الكتاب جميعًا؛ ولكن سورة الأنعام فصَّلت الكلام في إبراهيم الذي ينتمي إليه العرب وأهل الكتاب في النَّسَب والدين، وسورة الأعراف فصَّلت الكلام في موسى الذي ينتمي إليه أهل الكتاب، ويتبع شريعته جميع أنبيائهم حتى عيسى المسيح عليه الصلاة والسلام. ولما تم بهذه السورة تفصيل ما أُجمل في سورة البقرة من العقائد في   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج7 ص287. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 719 الإلهيات والنبوات والبعث، ناسب أن يذكر بعدها ما يتم ما أجمل فيها من الأحكام، ولا سيما أحكام القتال والمنافقين، وكان قد فصَّل بعض التفصيل في سورة النساء؛ فكانت سورتا الأنفال والتوبة هما المفصلتين لذلك، وبهما يتم ثلث القرآن"1. وقال ايضًا بهذا القول من رجال المدرسة العقلية الاجتماعية محمود شلتوت -رحمه الله تعالى- فقال: "إن جميع ما في القرآن، وإن اختلفت أماكنه، وتعددت سوره وأحكامه؛ فهو وَحْدَة عامة، لا يصح تفريقه في العمل، ولا الأخذ ببعضه دون البعض"2. ولتأكيد الوَحْدَة الموضوعية بين سور القرآن الكريم نرى رجال المدرسة العقلية الاجتماعية يوازنون بين التفاسير؛ فيختارون منها ما يرونه ملتئمًا مع السياق؛ ولهذا فلربما استعرضوا آراء المفسرين السابقين في تفسير آية أو كلمة قرآنية ورفضوها لمخالفتها لهذا الأساس؛ فالإمام محمد عبده -رحمه الله تعالى- مثلًا عند تفسيره لقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} 3 يستعرض آراء المفسرين، ثم يقول بعد ذلك: "هذا تقرير ما جرى عليه المفسرون في الآيات، وإذا وازنا بين سياق آية {مَا نَنْسَخْ} وآية {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} 4 نجد أن الأولى ختمت بقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} 3، والثانية بقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} 4، ونحن نعلم شدة العناية في أسلوب القرآن بمراعاة هذه المناسبات، فذكر العلم والتنزيل ودعوى الافتراء في الآية الثانية يقتضي أن يُراد بالآيات فيها آيات الأحكام، وأما ذكر القدرة والتقرير بها في الآية الأولى فلا يناسب موضوع الأحكام ونسخها؛ وإنما يناسب هذا ذكر العلم   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج7 ص288، 289. 2 الإسلام عقيدة وشريعة: محمود شلتوت ص487. 3 سورة البقرة: الآية 106. 4 سورة النحل: من الآية 101. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 720 والحكمة فلو قال: "ألم تعلم أن الله عليم حكيم" لكان لنا أن نقول: إنه أراد نسخ آيات الأحكام لما اقتضته الحكمة من انتهاء الزمن أو الحال التي كانت فيها تلك الأحكام موافقة للمصلحة، وقد تحير العلماء في فَهْم الإنساء على الوجه الذي ذكروه؛ حتى قال بعضهم: إن معنى "ننسها" نتركها على ما هي عليه من غير نسخ، وأنت ترى أن هذا -وإن صح لغة- لا يلتئم مع تفسيرها؛ إذ لا معنى للإتيان بخير منها مع تركها على حالها غير منسوخة. "قال"1: والمعنى الصحيح الذي يلتئم مع السياق إلى آخره أن الآية هنا هي ما يؤيد الله تعالى به الأنبياء من الدلائل على نبوتهم؛ أي: "ما ننسخ من آية" نقيمها دليلًا على نبوة من الأنبياء؛ أي: نزيلها ونترك تأييد نبي آخر بها، أو ننسها الناس لطول العهد بمن جاء بها، فإننا بما لنا من القدرة الكاملة والتصرف في الملك نأتي بخير منها في قوة الإقناع وإثبات النبوة أو مثلها في ذلك، ومن كان هذا شأنه في قدرته وسَعَة ملكه فلا يتقيد بآية مخصوصة يمنحها جميع أنبيائه"2. وانطلاقًا من هذا الأساس لدى رجال المدرسة العقلية الاجتماعية، فإنا نرى الأستاذ محمد عبده يرفض تحديد "فجر" بعينه أو "ليال عشر" بعينها من قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ} 3؛ بل هما مطلقان، والعلة في ذلك الوَحْدَة الموضوعية في آيات القرآن الكريم. قال: "كثر خلاف المفسرين والرواة في معنى كل من الفجر وليال عشر إلى آخر ما أقسم به، وقد يفسر الواحد منهم الفجر بمعنى ثم يأتي في الليالي العشر بما لا يلائمه، وغالب ذلك يجري على خلاف ما عودنا الله في نسق كتابه الكريم، وقد جرت سنة الكتاب بأنه إذا أريد تعيين يوم أو وقت ذكره بعينه؛ كيوم القيامة في {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} 4، وكاليوم الموعود في سورة {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} 5، وكليلة القدر في سورتها، فإذا أطلق الزمن ولم يقيد كان المراد ما يعمه معنى الاسم، كما سبق في قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا   1 أي: الأستاذ الإمام محمد عبده. 2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص416، 417. 3 سورة الفجر: الآيتين 1، 2. 4 سورة القيامة: الآية الأولى. 5 سورة البروج: الآية الأولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 721 عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} 1، فالفجر هنا -على هذا- هو جنس ذلك الوقت المعروف الذي يظهر فيه بياض النهار في جلد الليل الأسود، وينبعث الضياء لمطاردة الظلام، وهو وقت تنفس الصبح، وهو معهود في كل يوم؛ فصح أن يُعرَّف بالألف واللام"2، وقال نحو هذا في "وليال عشر". واستنادًا إلى هذا الأساس أيضًا ينفي عن تفسير الآية القرآنية كل ما لا يتفق عنده مع مفهوم الوَحْدَة الموضوعية في القرآن الكريم؛ فتراه ينفي عن قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 3 الآيات، ينفي الأستاذ الإمام عن تفسير هذه الآيات قصة الغرانيق التي يلصقها بعضهم في تفسير الآية، فقال: "ما أقرب هذه الآيات في مغازيها إلى قوله تعالى في سورة آل عمران: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} 4، وقد قال بعد ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّار} 5، ثم قال: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} 6 إلخ الآيات. وكأن إحدى الطائفتين من القرآن شرح للأخرى؛ فالذين في قلوبهم زيغ هم الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم، والراسخون في العلم هم الذين أوتوا العلم، وهؤلاء هم الذين يعلمون أنه الحق من ربهم؛ فيقولون: آمنا به كل من عند ربنا؛ فتخبت له قلوبهم، وإن الله ليهديهم إلى صراط   1 سورة التكوير: الآيتين 17، 18. 2 تفسير جزء عم: محمد عبده ص76. 3 سورة الحج: الآية 52. 4 سورة آل عمران: الآية 7. 5 سورة آل عمران: الآية 10. 6 سورة آل عمران: الآية 12. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 722 مستقيم، وأولئك هم الذين يفتنون بالتأويل، ويستغلون يقال وقيل ما يلقي إليهم الشيطان ويصرفهم عن مرامي البيان ويميل بهم عن محجة الفرقان، وما يتكئون عليه من الأموال والأولاد لن يغني عنهم من الله شيئًا فستوافيهم آجالهم، وتسقبلهم أعمالهم، فإن لم يوافهم الأجل على فراشهم فسيغلبون في هواشهم1، وهذه سُنة جميع الأنبياء مع أممهم، وسبيل الحق مع الباطل من يوم رفع الله الإنسان إلى منزلة يميز فيها بين سعادته وشقائه، وبين ما يحفظه وما يذهب ببقائه، وكما لا مدخل لقصة الغرانيق في آيات آل عمران لا مدخل لها في آيات سورة الحج"2. وبهذا الأساس أيضًا فسر الأستاذ عبد القادر المغربي "المرسلات" بالرياح قائلًا: "وقلما ذكر القرآن إطلاق الرياح إلا عبَّر عنه بفعل أرسل ففي؛ سورة فاطر: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} 3، وفي الحجر: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} 4، وفي الأحزاب: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا} 5، وفي الأعراف: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} 6، وفي الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاح} 7، وفي آيات أخرى غيرها، فقوله تعالى هنا: {وَالْمُرْسَلات} من هذا القبيل"8. ويتضح مدى التزامهم لهذا الأساس حين نراهم يذمون رواة اسباب النزول الذين عمدوا إلى الآيات ذوات أسباب النزول؛ ليفردوها عن بقية الآيات، ويتناولوها بالتفسير والشرح من هذا الجانب، وهم بهذا -كما يقول الأستاذ محمد   1 الهراش: المواثبة والمخاصمة. 2 الإثارة الثالثة: محمد عبده ص182-184، ضمن تفسير الفاتحة وست سور من خواتيم القرآن رشيد رضا. 3 سورة فاطر: من الآية 9. 4 سورة الحجر: من الآية 22. 5 سورة الأحزاب: من الآية 9. 6 سورة الأعراف: من الآية 57. 7 سورة الروم: من الآية 46. 8 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص126. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 723 رشيد رضا- يمزقون الطائفة الملتئمة من الكلام الإلهي، ويجعلون القرآن عضين متفرقة بما يفككون الآيات ويفصلون بعضها من بعض، وبما يفصلون بين الجمل الموثقة في الآية الواحدة؛ فيجعلون لكل جملة سببًا مستقلًّا، كما يجعلون لكل آية من الآيات الواردة في مسألة واحدة سببًا مستقلًّا"1. تلكم أمثلة يظهر منها التزامهم للقول بالوَحْدَة الموضوعية في القرآن الكريم التزامًا يجعله أساسًا من الأسس البارزة في منهجهم.   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص11. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 724 الأساس الثاني: الوَحْدَة الموضوعية في السورة القرآنية وهو كالأساس الذي قبله من الأسس الواضحة في منهج المدرسة العقلية الاجتماعية في التفسير، وقد وقف العلماء السابقون منه موقفهم من سابقه أيضًا بين منكر ومؤيد. طائفة قالت بالتناسب بين آيات القرآن الكريم وتناسقها؛ ومنهم الشيخ ولي الدين الملوي الذي قال: "وقد وهم مَن قال لا يُطلب للآي الكريمة مناسبة؛ لأنها على حسب الوقائع المتفرقة، وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلًا وعلى حسب الحكمة ترتيبًا وتأصيلًا، فالمصحف على وَفْق ما في اللوح المحفوظ، مرتبة سورة كلها وآياته بالتوقيف كما أنزل جملة إلى بيت العزة، ومن المعجز البين أسلوبه ونظمه الباهر، والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيء عن كونها مكملة لما قبلها أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها، ففي ذلك علم جم، وهكذا في السور يُطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له"1، وقال بالمناسبة أيضًا الإمام الشاطبي2، والإمام السيوطي3، وغيرهم. وذهبت طائفة أخرى إلى أن القرآن الكريم لم يأتِ على نسق الكتب   1 الإتقان: للسيوطي ج2 ص108. 2 انظر: الموافقات: الشاطبي ج4 ص414، 415. 3 انظر: الإتقان: السيوطي ج2 ص110. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 724 الموضوعية؛ إذ ليست له مقدمة وليست فيه مباحث موضوعية مرتبة لها مقاصد وأغراض في فصول وأبواب؛ وإنما كان القرآن مشتملًا على عدة سور، كل سورة منه احتوت على آيات متعددة، كل آية في غرض، فهذه للوعظ، وتلك للزجر، وهذه قصة وأخرى لحكم من الأحكام، وأخرى لوصف الجنة أو النار1. وقد عاب الإمام عز الدين بن عبد السلام ذلك وعد طالبه متكلفًا؛ حيث قال: "المناسبة علم حسن؛ لكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط، ومَن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك يصان عن مثله حسن الحديث فضلًا عن أحسنه، فإن القرآن نزل في نيِّف وعشرين سنة في أحكام مختلفة، شرعت لأسباب مختلفة، وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض"2. وكما قال رجال المدرسة العقلية الاجتماعية بالوَحْدَة الموضوعية في القرآن الكريم قالوا بالوَحْدَة الموضوعية في السورة القرآنية؛ فقال الشيخ عبد العزيز جاويش: "قد يغفل المفسر عمَّا بين آيات القرآن من الارتباط والتناسب، وما قد يفيد بعضها بعضًا من البيان أو التقييد؛ فيأخذها بالتأويل مفككة العرى مبددة النظم، حتى إذا استعصى عليه أمرها ونبا عقله عن فَهْمِها، لا يزال يركب في تأويلها صعاب المراكب، ويلتمس بلوغ معانيها بتسنم الجبال وقطع السباسب، وقلما سلمت أقدامهم من العثار أو استطاعوا إبراز ما فيها من الآثار"3. وكما ردوا من التفاسير التفسير الذي يخالف الوَحْدَة الموضوعية في القرآن، فإنهم يردون هنا ما يخالف الوَحْدَة الموضوعية في السورة أو هدفها العام؛ حتى جعلوا هذا الأخير أساسًا في فَهْم آياتها؛ ولذلك فإنا نرى -مثلًا- الأستاذ الإمام محمد عبده يرفض تفسير الرزق في قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ   1 الوَحْدَة الموضوعية في القرآن الكريم: محمد محمود حجازي ص13. 2 الإتقان: السيوطي ج2 ص108. 3 أسرار القرآن: عبد العزيز جاويش ص117. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 725 وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} 1، بأنه كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف. ويؤكد هذا الرفض بقوله: "والله لم يقل ذلك، ولا قاله رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا هو مما يُعرف بالرأي، ولم يثبته تاريخ يعتد به، والروايات عن مفسري السلف متعارضة، وفي أسانيدها ما فيها". ثم أورد التفسير الذي يراه موفقًا للهدف العام للسورة فقال: "وأنت ترى أنه لا دليل في الآية على أن الرزق كان من خوارق العادات، وإسناد المؤمنين الأمر إلى الله في مثل هذا المقام معهود في القديم والحيدث". ثم قال: "أما ما سيقت القصة لأجله، وهو الذي يجب أن نبحث فيه، ونستخرج العبر من قوادمه وخوافيه، فهو تقرير نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، ودحض شبه أهل الكتاب الذين احتكروا فضل الله، وجعلوه خاصًّا بشعب إسرائيل، وشبه المشركين الذين كانوا ينكرون نبوته لأنه بشر، وبيان ذلك أن المقصد الأول من مقاصد الوحي هو تقرير عقيدة الألوهية، وأهم مسائلها مسألة الوحدانية، وتقرير عقيدة البعث والجزاء، وعقيدة الوحي والأنبياء، وقد افتتحت السورة بذكر التوحيد وإنزال الكتاب، ثم كانت الآيات من أولها إلى هذه القصة -أوقبيل هذه القصة- في الألوهية والجزاء، وبعد البعث بالتفصيل وإزالة الشبهات والأوهام في ذلك، ثم بيَّن أن الإيمان بالله وادعاء حبة ورجاء النجاة في الآخرة والفوز بالسعادة فيها؛ إنما تكون باتباع رسوله، وقفى على ذلك بهذه القصة التي تزيل شُبَه المشركين وأهل الكتاب في رسالته، وتردها على وجوههم. رد عليهم بما يعرفونه من أن آدم أبو البشر، وأن الله اصطفاه، ومن اصطفاء نوح، ومن اصطفاء إبراهيم، فإن كان الأمر له في اصطفاء مَن يشاء مِن عباده -وبذلك اصطفى هؤلاء على عالمي زمانهم- فما المانع له من اصطفاء محمد صلى الله عليه وسلم بعد ذلك على العالمين كما اصطفى أولئك"2. وكما رد الإمام محمد عبده قصة الغرانيق التي يوردها بعض المفسرين في   1 سورة آل عمران: من الآية 37. 2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص293، 294. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 726 تفسيرهم لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 1، كما رد قصة الغرانيق لالتزامه الوَحْدَة الموضوعية في القرآن الكريم، فإنه أنكرها أيضًا لالتزامه الوَحْدَة الموضوعية في السورة القرآنية، فقال: "والآن أرجع إلى تفسير الآيات على الوجه الذي تحتمله ألفاظها، وتدل عليه عباراتها، والله أعلم". ثم استعرض هذه الآيات قائلًا: "ذكر الله لنبيه حالًا من أحوال الأنبياء والمرسلين قبله؛ ليبين لهم سنته فيهم وذلك بعد أن قال: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ، وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ، وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} 2، إلى آخر الآيات، ثم قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ، وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} 3 إلخ. فالقصص السابق كان في تكذيب الأمم لأنبيائهم، ثم تبعه الأمر الإلهي بأن يقول النبي صلى الله عليه وسلم لقومه: إنني لم أرسل إليكم إلا لأنذركم بعاقبة ما أنتم عليه، ولأبشر المؤمنين بالنعمي، وأما الذين يسعون في الآيات والأدلة التي أقيمها على الهدى وطرق السعادة؛ ليحولوا عنها الأنظار، ويحجبوها عن الأبصار، ويفسدوا أثرها الذي أُقيمت لأجله، ويعاجزوا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ أي: يسابقونهم ليعجزوهم ويسكتوهم عن القول، وذلك بلعبهم بالألفاظ، وتحويلهم عن مقصد قائلها -كما يقع عادة من أهل الجدل والمماحكة- هؤلاء الضالون المضلون هم أصحاب الجحيم، وأعقب ذلك بما يفيد أن ما ابتلي به النبي صلى الله عليه وسلم من المعاجزة في الآيات، قد ابتلي به الأنبياء السابقون، فلم يبعث نبي في أمة إلا كان له خصوم يؤذونه بالتأويل والتحريف، ويضادون أمانيه، ويحولون بينه وبين ما يبتغي بما يقولون في سبيله من العثرات؛ فعلى هذا   1 سورة الحج: من الآية 52. 2 سورة الحج: الآيات 41-44. 3 سورة الحج: الآيات 49-52. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 727 المعنى الذي يتفق مع ما لقيه الأنبياء جميعًا يجب أن تفسير الآية"1. ثم ذكر تفسيرين للآية مع القول بالوَحْدَة الموضوعية في السورة القرآنية وفي السور القرآنية. وقد برزت ظاهرة في تفاسير أصحاب المدرسة العقلية الاجتماعية؛ ألا وهي اهتمامهم ببيان الغرض العام في السورة؛ حتى يكون محور ارتكاز في التفسير.   1 الإثارة الثالثة: الإمام محمد عبده ص178-180. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 728 الأساس الثالث: تحكيم العقل في التفسير لا ينكر صاحب لب ما للعقل من قيمة، وما له من مكانة كبيرة في الحياة عامة، ولا ينكر صاحب فَهْم وعلم ما له من قيمة ومكانة في الإسلام أيضًا، تشهد لذلك النصوص العديدة والآثار البارزة والعلامات البينة، كلها تدل عليه وتشير إليه. دعا الإسلام إلى استعمال العقل في مواضع عديدة: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} 1، {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 2، وغير هذا كثير3. وذم الإسلام بعض الأفعال لمخالفتها العقل: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 4، {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} 5، {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} 6، وغير هذا كثير7.   1 سورة البقرة: من الآية 73. 2 سورة البقرة: من الآية 242. 3 مثلًا آل عمران: الآية 118، والنحل الآية 12. 4 سورة الحجرات: من الآية 4. 5 سورة الحشر: من الآية 14. 6سورة الأنبياء: من الآية 67. 7 مثلًا سورة البقرة: الآية 44 والآية 76، وآل عمران: الآية 65، والأنعام: الآية 32. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 728 وذكر الإسلام من أسباب دخول النار عدم الاهتداء بالعقل {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 1. هذه بعض أمثلة على مكانة العقل في الإسلام، بعضها يرسي له مكانة سامية ودرجة عالية، ومع هذا التكريم فقد كرمه مرة أخرى تكرمة عدها بعض مَن لا علم له ولا معرفة امتهانًا، وعدها ذوو العقول والألباب لا تقل عن سابقها من المكارم؛ تلكم المكرمة أنه حد له حدودًا لا يتجاوزها، ورسم له مراسم لا يتعداها، لا لشيء إلا لأنه سيضل فيها ويتيه، ولا لشيء إلا لأنها فوق مداركه وفوق قدراته وطاقاته، ومن الخير له كل الخير أن يقف دونها لايخوض فيها، وفي هذا -ولا شك- تكريم له وأي تكريم. وكما مر بنا فقد نبتت في الإسلام نابتة أعطت العقل أكثر من حقه، وزعمت أنه خُلق ليعرف، وهو قادر على أن يعرف كل شيء المنظور وغير المنظور، وجعلوه الحَكَمَ الذي يحكم في كل شيء، والنور الذي يجلو كل ظلمة، حكموه في إيمانهم وفي جميع شئونهم الخاصة والعامة2، حتى قال عالمهم ومفسرهم الزمخشري رامزًا للعقل بالسلطان: "امشِ في دينك تحت راية السلطان، ولا تقنع بالرواية عن فلان وفلان، فما الأسد المحتجب في عرينه أعز من الرجل المحتج على قرينه، وما العنز الجرباء تحت الشمأل البليل أذل من المقلد عند صاحب الدليل"3. وقد أدى بهم تحكيم العقل المجرد عن النص إلى ان شطحوا بعقولهم شطحات وهفوا هفوات في الكتاب والسنة؛ بل في جوانب كثيرة من العقيدة، ما كانوا ليقعوا فيها لو اهتدوا إلى سبيل الحق. وقد امتطى هذه الصهوة رجال جاءوا من بعدهم، فمال بهم وأدى بهم إلى أمور خاطئة، واعتقادات باطلة، وأحكام زائفة، وهم وإن لم يوافقوهم كل الموافقة   1 سورة الملك: من الآية 10. 2 الفكر الإسلامي بين الأمس واليوم: محجوب بن ميلاد ص114. 3 أطواق الذهب في المواعظ والخطب: الزمخشري مقالة 37 ص28. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 729 فهناك قواعد مشتركة وعقائد متماثلة تجمع بين هؤلاء وهؤلاء؛ حتى أطلق على هؤلاء المتأخرين: "معتزلة العصر الحديث"1، ولن نسميهم باعتزال؛ بل نسميهم بالصفة المشتركة بينهم، فليكونوا ولتكن مدرستهم المدرسة العقلية الحديثة، وقد اتجهت المتأخرة إلى الإصلاح الاجتماعي؛ فكان حقًّا لها أن يلصق بها هذا الوصف فتكون المدرسة العقلية الاجتماعية. كيف لا والأستاذ الإمام محمد عبده يعد أصول الإسلام؛ فيعد الأول والثاني منها النظر العقلي وتقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض؛ حيث يقول: "الأصل الأول للإسلام النظر العقلي لتحصيل العلم، فأول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلي، والنظر عنده هو وسيلة الإيمان الصحيح، فقد أقامك منه على سبيل الحجة وقاضاك إلى العقل، ومن قاضاك إلى حاكم فقد أذعن إلى سلطته، فكيف يمكنه بعد ذلك أن يجوز أو يثور عليه؟! "2. ولا شك أن وصف الإسلام بأنه "يذعن لسلطة العقل" تعبير مخالف للصواب ومخالف للحق؛ فالإسلام عقيدة أوسع من أن تذعن لوسيلة، والعقل وسيلة أضيق من أن تحيط بالعقيدة، تلكم صفات الله تعالى، ما حقيقتها؟! وهل يدرك العقل ذلك منها؟! إن زعم ذلك زاعم فقد كذب وافترى على العقل، وإن فوض أمرها فقد اعتقد ما لا يدرك العقل فأنَّى للعقيدة الصحيحة الصادقة أن تذعن لسلطة هي أضعف من إداركها! ولنعجل بالأصل الثاني من أصول الإسلام عند الأستاذ الإمام قال: "الأصل الثاني للإسلام تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض"، إلى أن قال: "وبهذا الأصل الذي قام على الكتاب وصحيح السنة وعمل النبي صلى الله عليه وسلم مُهدت بين يدي العقل كل سبيل، وأُزيلت من سبيله جمع العقبات، واتسع له المجال إلى غير حد"3.   1 اليقظة الإسلامية في مواجهة الاستعمار: أنور الجندي ص132. 2 الإسلام والنصرانية: محمد عبده ص72، 73. 3 الإسلام والنصرانية: محمد عبده ص74، 75. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 730 وقال أيضًا مما يبين درجة العقل عنده: "وتقرر بين المسلمين كافة -إلا مَن لا ثقة بعقله ولا بدينه- أن من قضايا الدين ما لا يمكن الاعتقاد به إلا من طريق العقل؛ كالعلم بوجود الله وبقدرته على إرسال الرسل، وعلمه بما يوحي به إليهم"1. وهذا الشيخ عبد العزيز جاويش يرفع العقل إلى مرتبة تستطيع أن تصل بالنفس الإنسانية إلى مراتب الكمال في الأحكام والتصورات والنظم الاجتماعية وغيرها؛ ليس بالوحي ولكن بالبحث والتنقيب والتجارب! يقول: "إن من الممكن أن تصل العقول البشرية بالبحث والتنقيب والتجارب إلى ما تصبو إليه النفس الإنسانية من مراتب الكمال في الأحكام والتصورات والنظم الاجتماعية والمسائل العلمية والآداب الخلقية ... إلخ"2. إذًا فإذا كانت العقول قادرة على هذا، فما الحكمة من إرسال الرسل؟! لإتمام الحجة. لا، لا يصح هذا؛ لأن الحجة قائمة بقدرة العقل المزعومة، ويبقى السؤال معلقًا ما بقي هذا الزعم. ويقول الشيخ جاويش أيضًا: "إن القرآن الذي هو كتاب دين الفطرة ما كان ليأتي بما ينافي الآراء القويمة أو تغم حكمته على العقول السليمة، ولم يكن ليكلف العقل الإيمان بما لا يعقل، أو يحمل الجسم ما لا طاقة له به، أو أن يفترض على الإنسان ما ليس من موسوعات فطرته؛ إذًا فوظيفته في البشر رسم أقرب الطرق إلى الهداية، وحفظ العباد عن مواطن الهلاك التي يغشاها طلاب الحق والحقيقة، لا من طريق الوحي؛ بل من طرائق التجارب ... إلخ"3. وذلكم الأستاذ محمد فريد وجدي يستدل بأحاديث باطلة أو منكرة أو ضعيفة سندًا لعقيدته في العقل، ويصف هذه الأحاديث -وهي بهذه الدرجة- بأنها   1 رسالة التوحيد: محمد عبده ص7. 2 الإسلام دين الفطرة والحرية: عبد العزيز جاويش ص137. 3 الإسلام دين الفطرة والحرية: عبد العزيز جاويش ص145. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 731 "قواعد إلهية"! فأورد حديث: "الدين هو العقل، ولا دين لمن لا عقل له"1، وحديث: "يأيها الناس، اعقلوا عن ربكم وتواصوا بالعقل تعرفوا ما أمرتم به وما نهيتم عنه، واعلموا أنه ينجدكم عند ربكم" 2 ... إلخ، ثم عقب عليهما قائلًا: "بهذه القواعد الإلهية نال العقل حريته، وتخلص من وثاق كان يثن منه ويتعثر في أصفاده، وصار هو المرشد الحقيقي للإنسان، وهي الوظيفة التي خلقه لأجلها الملك الديان"3. إذًا، فهذه درجة الحكم العقلي لدى رجال المدرسة العقلية الاجتماعية، طبقوه ودعوا لذلك في تفسير القرآن الكريم، وهذا الأستاذ محمد فريد وجدي يقول في تفسير بعض الآيات: "كل هذه الآيات تتناولها القاعدة الأصولية التي انفرد بها هذا الدين؛ وهي أنه لو تعارض نص وعقل أو علم صحيح أُوِّلَ النص وأُخِذَ بحكم العقل أو العلم، وقد أَوَّل آباؤنا من هذه الآيات ما خالف عقولهم أو ناقض العلم الصحيح، ونحن نجري على سننهم فنؤول ما يخالف عقولنا منها. جرى المسلمون على هذا السمت؛ فكان تطورهم العلمي يمدهم بالمعلومات، وعلماؤهم يؤولون الآيات؛ حتى تآخي العلم والدين، وسارا كفرسي رهان لا يسبق أحدهما الآخر، فانقسم الناس إلى فريقين: فريق للدين يقل كل يوم عددًا، وفريق للمدنية يزداد كل يوم مددًا؛ ولكن كانوا في وَحْدَة   1 قال الشيخ الألباني في كتابه: "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة": "الدين هو العقل ومَن لا دين له لا عقل له" باطل، أخرجه النسائي في الكنى، وعنه الدولابي في الكنى والأسماء ج2 ص104، وقال النسائي: حديث باطل منكر. انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ص13. 2 قال العراقي في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار: حديث: "يأيها الناس اعقلوا عن ربكم وتواصوا بالعقل" الحديث، داود بن المحبر أحد الضعفاء، في كتاب العقل من حديث أبي هريرة، وهو في مسند الحارث بن أبي أسامة عن داود. انظر: إحياء علوم الدين: للغزالي ج1 ص89. 3 المدنية والإسلام: محمد فريد وجدي ص52. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 732 لا انفصام لها؛ فبلغوا إلى ما لا تبلغه أمة قبلهم من بسطتي الدنيا والدين"1. لذا فهم يصرفون الآيات القرآنية عن ظاهرها إذا صعب عليهم فَهْمُها أو التبست على عقولهم معانيها، وأنكروا كثيرًا من المعجزات أو أولوها بما لا تكون به معجزة خارقة، وردوا بعض الأحاديث الصحيحة، وغير ذلك مما سيأتي بيانه إن شاء الله. وخذ مثلًا لذلك تفسير الشيخ عبد القادر المغربي لقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُور} 2؛ حيث قال: "مَن في السماء هو الله تعالى؛ لكن قام البرهان العقلي على أن الإله الأزلي خالق الكل وضابط الكل لا يتصور أن يكونه مستقرًّا في مكان؛ فوجب إذًا صرف الآية عن ظاهرها وحملها على معنى يلتحم مع ما أثبته العقل وقام عليه البرهان، والقرآن يفسر بعضه بعضًا؛ فآية {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} 3 تنفي أن تكون ذات الله في السماوات وفي الأرض؛ إذ كيف يعقل أن تكون الذات الواحدة في مكانين في آنٍ واحد؟! لا جرم أن يكون المراد بكونه تعالى في السماء وفي الأرض أن مشيئته وحكمه نافذ فيهما، وسلطانه وقهره غالب عليهما"4. ومن تفسير الشيخ عبد القادر أيضًا تفسيره لقوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} 5؛ حيث قال: "هذا هو خبر سيدنا يونس حسبما أخذناه من النصوص الصحيحة، وليس فيه ما يستبعد وقوعه، اللهم إلا التقام الحوت له ومكثه في طبنه حينًا من الزمن حيًّا يُرزق ثم نبذه في ذلك الفضاء، على أنه إن حق لأهل القرون الماضية أن يستبعدوا خبر صاحب الحوت؛ فلا يحق لأبناء عصرنا ذلك الاستبعاد بعد أن رأوا بأعينهم سبح   1 الإسلام دين الهداية والإصلاح: محمد فريد وجدي ص92. 2 سورة الملك: الآية 16. 3 سورة الأنعام: من الآية 3. 4 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص9. 5 سورة القلم: الآية 48. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 733 الكثير منهم في بطون الغواصات أيامًا متطاولات تحت البحار الطاميات، وطيرانهم مثل ذلك في أجواء السماوات، فالإله الذي خلق العقل البشري، ومهد له سبيل الوصول إلى مثل هذه العجائب؛ ألا يكون قادرًا على أن ييسر حصول مثله لعبده يونس ببعض الأسباب التي لم تزل مجهولة لنا؟! هذا ما نقوله للمتسائل المتعجب، أما نحن معشر المسلمين فنؤمن بما ورد في الكتاب ما دام أنه غير محال في العقل"1. ومن التفسير العقلي التفسير بالرأي المجرد عن الدليل الصحيح، وهذا الأستاذ محمد عبده يفسر قوله تعالى: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} 2 بقوله: "وفرعون هو حاكم مصر الذي كان في عهد موسى -عليه السلام- وللمفسرين في الأوتاد اختلاف كبير، وأظهر أقوالهم ملاءمة للحقيقة أن الأوتاد: المباني العظيمة الثابتة، وما أجمل التعبير عما ترك المصريون من الأبنية الباقية بالأوتاد؛ فإنها هي الأهرام، ومنظرها في عين الرائي منظر الوتد الضخم المغروز في الأرض؛ بل إن شكل هياكلهم العظيمة في أقسامها شكل الأوتاد المقلوبة، يبتدئ القسم عريضًا وينتهي بأدق مما ابتدأ، وهذه هي الأوتاد التي يصح نسبتها إلى فرعون على أنها معهودة للمخاطبين"3. ويعلق الأستاذ الإمام على تفسير الجلال السيوطي لقوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} 4 بقوله: "وقال مفسرنا الجلال السيوطي: إن الرعد مَلَك أو صوته، والبرق سوطه يسوق به السحاب"، كأن الملَك جسم مادي؛ لأن الصوت المسموع بالآذان من خصائص الأجسام، وكأن السحاب حمار بليد لا يسير إلا إذا زجر بالصراخ الشديد والضرب المتتابع"5.   1 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص29، 30. 2 سورة الفجر: الآية 10. 3 تفسير جزء عم: محمد عبده ص79. 4 سورة البقرة: الآية 19. 5 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص174. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 734 ولكنه يقول في موضع آخر عن الملائكة: "وإذا ورد أنهم موكلون بالعوالم الجسمانية كالنبات والبحار؛ فأننا نستدل بذلك على أن في الكون عالمًا آخر ألطف من هذا العالم المحسوس، وأن له علاقة بنظامه وأحكامه، والعقل لا يحكم باستحالة هذا؛ بل يحكم بإمكانه لذاته، ويحكم بصدق الوحي الذي أخبر به"1. وهذا تلميذه الأستاذ محمد رشيد رضا يرى أن الإمداد في قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِين} 2، إمداد روحاني لا مادي، وقال: "وما أدري أين يضع بعض العلماء عقولهم عندما يغترون ببعض الظواهر وببعض الروايات الغريبة التي يردها العقل ولا يثبتها ما له قيمة من النقل، فإذا كان تأييد الله للمؤمنين بالتأييدات الروحانية التي تضاعف القوة المعنوية، وتسهيله لهم الأسباب الحسية كإنزال المطر، وما كان له من الفوائد لم يكن كافيًا لنصره إياهم على المشركين بقتل سبعين وأسر سبعين؛ حتى كان ألف -وقيل: الآف- من الملائكة يقاتلونهم معهم، فيفلقون منهم الهام، ويقطعون من أيديهم كل بنان، فأي مزية لأهل بدر فُضلوا بها على سائر المؤمنين ممن غزوا بعدهم وأذلوا المشركين وقتلوا منهم الألوف؟ ". إلى أن قال: "ألا إن في هذا من شأن تعظيم المشركين، ورفع شأنهم، وتكبير شجاعتهم، وتصغير شأن أفضل أصحاب الرسول وأشجعهم، ما لا يصدر عن عاقل، إلا وقد سلب عقله لتصحيح روايات باطلة، لا يصح لها سند، ولم يرفع منها إلا حديث مرسل عن ابن عباس، ذكره الألوسي وغيره بغير سند، وابن عباس لم يحضر غزوة بدر؛ لأنه كان صغيرًا، فروايته عنها حتى في الصحيح مرسلة، وقد روى عن غير الصحابة حتى عن كعب الأحبار وأمثاله"3. وغريب من الشيخ محمد رشيد رضا أن يغمز مرويات عن ابن عباس -رضي الله عنهما- بأنها حتى في الصحيح مرسلة، وهو العارف بالحديث وعلومه   1 المرجع السابق: ج1 ص254. 2 سورة الأنفال: الآية 9. 3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج9 ص566، 567. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 735 ولا أظنه يخفى عليه حكم مرسل الصحابي حتى إن ابن الصلاح لم يعده من أنواع المرسل قائلًا: "ثم إنا لم نعد في أنواع المرسل ونحوه ما يُسمى في أصول الفقه "مرسل الصحابي" مثل ما يرويه ابن عباس وغيره من أحداث الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسمعوه منه؛ لأن ذلك في حكم الموصول المسند؛ لأن روايتهم عن الصحابة والجهالة بالصحابي غير قادحة؛ لأن الصحابة كلهم عدول والله أعلم"1. وغريب منه أيضًا أن يغمز ابن عباس -رضي الله عنهما- بأنه روى عن غير الصحابة حتى عن كعب الأحبار وأمثاله، فهل يرى الشيخ رشيد بأن ابن عباس -رضي الله عنهما- يروي عمن لا يثق بصدقه وأمانته؟! بل وما دخل روايته عن كعب الأحبار بروايته عن غزوة بدر؟! لا أرى هذا إلا ضعفًا في الحجة. ومن تفسير الأستاذ محمد رشيد رضا بالرأي المجرد تفسيره للمسخ في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} 2 بقوله: "أي: فكانوا بحسب سُنة الله في طبع الإنسان وأخلاقه كالقردة المستذلة المطرودة من حضرة الناس؛ والمعنى: أن هذا الاعتداء الصريح لحدود هذه الفريضة قد جرأهم على المعاصي والمنكرات بلا خجل ولا حياء؛ حتى صار كرام الناس يحتقرونهم ولا يرونهم أهلًا لمجالستهم ومعاملتهم". ثم قال: "وذهب الجمهور أيضًا إلى ان معنى {كُونُوا قِرَدَةً} أن صورهم مُسخت فكانوا قردة حقيقيين، والآية ليست نصًّا فيه، ولم يبقَ إلا النقل ولو صح لما كان في الآية عبرة ولا موعظة للعصاة؛ لأنهم يعلمون بالمشاهَدة أن الله لا يمسخ كل عاص فيخرجه عن نوع الإنسان؛ إذ ليس ذلك من سننه في خَلْقه؛ وإنما العبرة الكبرى في العلم بان من سنن الله تعالى في الذين خلوا من قبل أن مَن يفسق عن أمر ربه، ويتنكب الصراط الذي شرعه له؛ ينزل عن مرتبة الإنسان، ويلتحق بعجماوات   1 علوم الحديث: ابن الصلاح ص50، 51. 2 سورة البقرة: الآية 65. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 736 الحيوان، وسنة الله تعالى واحدة، فهو يعامل القرون الحاضرة بمثل ما عامل به القرون الخالية"1. ولا أظن هذا الذي قاله الشيخ رشيد رضا إلا زَلَّة قلم في أمر واضح بيِّن، فليس هذا العقاب هو الوحيد من نوعه في الأمم السابقة؛ عذبت أمة بالطوفان، وعذبت أخرى بالصيحة، وعذبت ثالثة بحجارة من سجيل، وعذب آخرون بالخسف وبالجراد وبالقُمَّل والضفادع وغير ذلك، والعصاة يعلمون بالمشاهَدة أن الله لا يعذب كل عاصٍ بهذا العذاب، فهل يعد هذا مبطلًا لحقيقة هذه العقوبات أو مبررًا لتأويلها -بل تحريفها- عن معانيها لمجرد كونهم لا يرونها سُنة من سنن الله في العصاة؟! هذا بعض ما أدى بهم إليه تحكيم العقل المجرد عن النص، وهي قضايا آحادية تولدت حتى أصبح بعضها أساسًا مستقلًّا بذاته في منهجهم في التفسير، نذكر من هذه الأسس التي تولدت عن هذا لأصل لديهم إنكار التقليد وذمه، وموقفهم من التفسير بالمأثور، ورد بعض الأحاديث الصحيحة، والتحذير من الإسرائيليات، وتأويل المعجزات والخوارق بما يبطلها، وكان تأويل بعض القصص القرآنية بالتمثيل وعدم وقوعها، وموقفهم من بعض الغيبيات كالملائكة والجن، وبعض علامات الساعة وأماراتها، وموقفهم من السحر، وغير ذلك كثير. كلها أمور تولدت من هذا الأساس العميق المتأصل في منهجهم؛ بل عمود منهجهم الأول، ونحن هنا -في دراستنا هذه- سنعرض لبعض هذه الأبحاث عرضًا سريعًا غرضنا منه جلاء الصورة وبيان أبعادها وحدودها ليس إلا، وليس من شأننا دراسة هذا الأساس أو هذا المنهج دراسة نقدية موسعة، فلذلك شأن آخر؛ وإنما غرضنا عرض مناهج التفسير في العصر الحديث، وندع لمن شاء أن يدرس كل منهج دراسة نقدية موسعة ففي كل منها مادة وفيرة للدراسة ومعالم بارزة محمودة ومذمومة.   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص344. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 737 الأساس الرابع: إنكار التقليد وذمه والتحذير منه وهو أساس متولد -كما ذكرنا- من سابقه، ويطلق التقليد ويراد به في عرف الفقهاء "وقبول قول الغير من غير حجة"، ولا يُسمى الأخذ بالكتاب أو السنة أو الإجماع تقليدًا؛ لأن ذلك هو الحجة في نفسه1. ولا يخفى أمر الاجتهاد والتقليد في عمومه، وقد حدثت بين المسلمين حوادث تحز في نفس المسلم من عبارات مؤيدي الاجتهاد أو أنصار التقليد، وما أدى التطرف بطائفة من هؤلاء وأخرى من أولئك إلى أقوال وأفعال لا تحمد، وليس بحثنا هنا بحثًا أصوليًّا نعرض فيه أقوال هؤلاء وهؤلاء؛ ولكنه بيان لموقف رجال المدرسة العقلية الاجتماعية في التفسير. وهو موقف تلحظه في كل سطر؛ بل في كل كلمة من كلماتهم، يرفضون التقليد وينكرونه ويذمون أصحابه وينعون عليهم فعلهم. وهذا الأستاذ الإمام محمد عبده -أستاذ المدرسة ورائدها- جعل تحرير الفكر من قيد التقليد أول أمر دعا إليه؛ حيث قال: "ثم لم ألبث بعد قطعه من الزمن أن سئمت الاستمرار على ما يألفون، واندفعت إلى طلب شيء مما لا يعرفون؛ فعثرت على ما لم يكونوا يعثرون عليه، وناديت بأحسن ما وجدت ودعوت إليه، وارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين؛ الأول: تحرير الفكر من قيد التقليد، وفَهْم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتباره من ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله؛ لترد من شططه، وتقلل من خلطه وخبطه، وقد خالفت في الدعوة إليه رأي الفئتين العظيمتين اللتين يتركب منها جسم الأمة: طلاب علوم الدين ومَن على شاكلتهم، وطلاب فنون هذا العصر ومَن هو في ناحيتهم"2. وهذا الاجتهاد الذي يدعو إليه الأستاذ الإمام سهل المنال على الجمهور   1 روضة الناظر وجنة المناظر: ابن قدامة المقدسي ص205. 2 تاريخ الأستاذ الإمام: محمد رشيد رضا ج1 ص11. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 738 الأعظم، وقد وضح ذلك بقوله: "فرض الإسلام على كل ذي دين أن يأخذ بحظه من علم ما أودع الله في كتبه، وما قرره من شرعه، وجعل الناس في ذلك سواء بعد استيفاء الشرط بإعداد ما لَا بُدَّ منه للفَهْم، وهو سهل المنال على الجمهور الأعظم من المتدينين، لا تختص به طبقة من الطبقات، ولا يحتكر مزيته وقت من الأوقات"1. ولأنه سهل المنال فإن تلميذه السيد رشيد رضا يعد ما اشترطه العلماء في بلوغ رتبة الاجتهاد افتياتًا على الله تعالى، فقال: "وإن في إطلاق مقلدة المصنفين من خلف القرون الوسطى القول بإيجاب تقليد المجتهدين في أمور الدين، وتحريم الأخذ بالدليل فيه -لاشتراطهم فيه استعداد كل مستدل مستقل للتشريع- لافتياتًا على دين الله، ونسخًا لكتاب الله، وشرعًا لم يأذن به الله، خلاصته: تحريم العلم وإيجاب الجهل، وهذا منتهى الإفساد للفطرة والعقل، وهو أقطع المدى لأوصال الإسلام، وأفعل المعاول في هدم قواعد الإيمان، وعلة العلل لانتشار البدع التي ذهبت بهداية الدين واستبدلت بها الخرافات ودخل الدجالين"2. ولهذا فإنك ترى الحرص الشديد لدى رجال المدرسة العقلية الاجتماعية على ذم التقليد والتشنيع على المقلدين، وخلطوا بين التقليد في العقيدة والتقليد في الأحكام، وقلبوا الآيات، ففي تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} 3 قال الأستاذ محمد عبده: "فما جرى عليه المقلدون من المسلمين من الأخذ بآراء بعض الفقهاء في العبادات والحلال والحرام هو عين ما أنكره كتاب الله تعالى على أهل الكتاب، وجعله منافيًا للإسلام؛ بل جعل مخالفتهم فيه هي عين الإسلام، فليعتبر المعتبرون"4. وخذ مثلًا ما قاله في قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا   1 رسالة التوحيد: محمد عبده ص162، 163. 2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص114. 3 سورة آل عمران: من الآية 64. 4 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص327. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 739 وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَاب} 1: "لولا أن حيل بين المقلدين وهداية القرآن لكان لهم في هذه الآية أشد زلزال لجمودهم على أقوال الناس وآرائهم في الدين، سواءكانوا من الأحياء أم الميتين، وسواء كان التقليد في العقائد والعبادات أم في أحكام الحلال والحرام؛ إذ كل هذا مما يؤخذ عن الله ورسوله، ليس لأحد فيه رأي ولا قول إلا ما كان من الأحكام متعلقًا بالقضاء، وما يتنازع فيه للناس فلأولي الأمر فيه الاجتهاد بشرط إقامة للعدل". إلى أن قال: "في مثل هؤلاء المتبوعين والتابعين نزل في قوله تعالى في سورة الأعراف: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ، وَقَالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} 2، فكلٌّ يؤاخذ بعمله، فإذا حمل الأول الآخر على رأيه، ودعاه إلى اتباعه فيه، أو في رأي غيره الذي يقلده هو فيه فهو من الأئمة المضلين، وعليه إثمة ومثل إثم مَن أضلهم مِن غير أن ينقص من إثمهم شيء؛ إذ حرم الله عليهم اتخاذ الأنداد من دون الله فاتخذوهم"3. وهذا الشيخ عبد العزيز جاويش يرى أن الاجتهاد يلزم كل مَن قدر على فَهْم القرآن والكتب الصحاح! حيث يقول: "فكل مَن يعرف لغة القرآن لا ينبغي له بحال ما أن يقلد غيره تقليدًا متى قدر على فَهْمِه وفهم الكتب الصحاح في السنة، فلم ينسد ولن ينسد باب الاجتهاد برغم أنف مَن أرادوا أن يحجروا على العقول البشرية، ويقيموا عليها أوصياء من الأولين؛ حتى تسير كما ساروا، وتقول بما قالوا"4. هذه بعض نصوصهم وعباراتهم، ولا شك أن الدعوة المتطرفة لا يتولد عنها   1 سورة البقرة: الآية 166. 2 سورة الأعراف: من الآيتين 38، 79. 3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص79. 4 الإسلام دين الفطرة والحرية: عبد العزيز جاويش ص70. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 740 إلا نتائج متطرفة وأحكامًا كذلك. خذ مثلًا الشيخ محمد مصطفى المراغي أمر بتشكيل لجنة تنظيم الأحوال الشخصية وأوصاهم بقوله: "ضعوا من المواد ما يبدو لكم أنه يوافق الزمان والمكان، وأنا لا يعوزني بعد ذلك أن آتيكم بنص من المذاهب الإسلامية يطابق ما وضعتم"1. إن هذه العبارة أخطر من أن يُعلق عليها بكلمة أو كلمتين، فلنترك التعليق عليها لذوي الألباب؟! وخذ مثلًا آخر اجتهد؛ الشيخ محمد عبده فتبين له أنه: "من العجيب أن فقهاء المذاهب الأربعة وربما غيرهم أيضًا قالوا: إن الصلاة بلا حضور ولا خشوع يحصل بها أداء الفرض ويسقط الطلب، ما هذا الكلام! إنه لباطل، كل آية تذكر في القرآن تبطله"2، أتدرون ما نتيجة هذا الاجتهاد، اسمعوها من أقرب الناس إليه، يقول السيد رشيد رضا عن أستاذه: "وأصرح مع هذا بأنه كان كثيرًا "!! " ما يجمع بين صلاتي الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، حتى في الحضر إذا لم يتيسر له صلاة الأولى بالخشوع والحضور الذي يعتقد وجوبه"3. وخذ مثلًا ثالثًا من الشيخ محمد رشيد رضا؛ فهو يرى إباحة التيمم للمسافر حتى مع وجود الماء؛ حيث يقول: "ألا إن من أعجب العجب غفلة جماهير الفقهاء عن هذه الرخصة الصريحة في عبارة القرآن، التي هي أظهر وأَوْلَى من قصر الصلاة وترك الصيام، وأظهر في رفع الحرج والعسر الثابت بالنص وعليه مدار الأحكام، واحتمال ربط قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} 4 بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} 4 بعيد؛ بل ممنوع ألبتة -كما تقدم- على أنهم لا يقولون به في المرضى؛ لأن اشتراط فقد الماء في حقهم لا فائدة له؛ لأن الأصحاء مثلهم فيه   1 المجددون في الإسلام: عبد المتعال الصعيدي ص548، والفتح المبين في طبقات الأصوليين: عبد الله مصطفى المراغي ج3 ص198. 2 تاريخ الأستاذ الإمام: السيد رشيد رضا ج1 ص941. 3 المرجع السابق: ج1 ص1043. 4 سورة النساء: من الآية 43. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 741 فيكون ذكرهم لغوًا يتنزه عنه القرآن. ونقول: إن ذِكْرَ المسافرين كذلك، فإن المقيم إذا لم يجد الماء يتيمم بالإجماع، فلولا أن السفر سبب للرخصة كالمرض لم يكن لذكره فائدة؛ ولذلك عللوه بما هو ضعيف متكلف، وما ورد في سبب نزولها من فقد الماء في السفر أو المكث مدة على غير ماء لا ينافي ذلك"1. وهاك مثلًا رابعًا لاجتهاد الشيخ محمد عبده وتلميذه السيد رشيد رضا؛ وذلك في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} 2، يرى السيد رشيد أن الربا المحرم هو ما كان أضعافًا مضاعفة، فيقول: "والمراد بالربا فيها ربا الجاهلية المعهود عند المخاطبين عند نزولها، لا مطلق المعنى اللغوي الذي هو الزيادة، فما كل ما يسمى زيادة محرم"3. ومن قبله قال شيخه الأستاذ الإمام: "إن الناس تحدث لهم باختلاف الزمان أمور ووقائع لم ينص عليها في هذه الكتب، فهل نوقف سير العالم لأجل كتبهم؟ هذا لا يستطاع؛ وذلك اضطر العوام والحكام إلى ترك الأحكام الشرعية، ولجئوا إلى غيرها. إن أهل بخارى جوَّزوا الربا لضرورة الوقت عندهم، والمصريون قد ابتلوا بهذا؛ فشدد الفقهاء على أغنياء البلاد فصاروا يرون أن الدين ناقص؛ فاضطر الناس إلى الاستدانة من الأجانب بأرباح فاحشة استنزفت ثرورة البلاد وحولتها للأجانب، والفقهاء هم المسئولون عند الله تعالى عن هذا، وعن كل ما عليه الناس من مخالفة الشريعة؛ لأنه كان يجب عليهم أن يعرفوا حالة العصر والزمان، ويطبقوا عليه الأحكام بصورة يمكن للناس اتباعها "!! " أي: كأحكام الضرورات، لا أنهم يقتصرون على المحافظة على نقوش هذه الكتب ورسومها، ويجعلونها كل شيء، ويتركون لأجلها كل شيء"4. هذه إشارات موجزة لبعض مواضع اجتهاداتهم في تفسير آيات الأحكام في القرآن الكريم، يظهر منها المدى الذي وصلوه في دعوتهم إلى الاجتهاد ونبذ التقليد، وجلها بل كل عباراتهم في هذا السبيل تعلن اتخاذهم له أساسًا هامًّا في منهجهم في التفسير.   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج5 ص121. 2 سورة آل عمران: الآية 130. 3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج4 ص123. 4 تاريخ الأستاذ الإمام: محمد رشيد رضا ج1 ص944. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 742 الأساس الخامس: التقليل من شأن التفسير بالمأثور ومن المعلوم أن التفسير بالمأثور يشمل أنواعًا أربعة: أولها: تفسير القرآن بالقرآن. ثانيها: تفسيره بالسنة النبوية. ثالثها: تفسيره بأقوال الصحابة -رضي الله عنهم-. رابعها: تفسيره بأقوال التابعين -رحمهم الله تعالى-. أما أولها، فقد أشرنا إلى قبولهم له، وأنه أشرف أنواع التفسير وأصح طرقه، ونقصد بحديثنا هذا النوع الثاني؛ وإنما قصرنا الحديث عليه دون الثالث والرابع؛ لأن مَن رد التفسير بالسنة النبوية فهو أسرع إلى رد أقوال الصحابة والتابعين رضي الله عنهم. ومن المعلوم منزلة التفسير بالسُّنة النبوية ومكانتها لدى علماء السلف، وأنها تأتي في المرتبة الثانية بعد القرآن الكريم بدليل الكتاب والسنة. وقد درج علماء المدرسة العقلية الاجتماعية على التقليل من شأن التفسير بالمأثور، والتشكيك فيه، وعدم الاحتجاج به، وإن كانوا يظهرون قبوله واعتباره. وهذا السيد محمد رشيد رضا -إمام المدرسة في علم الحديث- يقول: "وأما الروايات المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعلماء التابعين في التفسير؛ فمنها ما هو ضروري أيضًا؛ لأن ما صح من المرفوع لا يقدم عليه شيء، ويليه ما صح من علماء الصحابة مما يتعلق بالمعاني اللغوية أو عمل عصرهم، والصحيح من هذا وذاك قليل، وأكثر التفسير بالمأثور قد سرى إلى الرواة من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 743 زنادقة اليهود والفرس ومسلمة أهل الكتاب كما قال الحافظ ابن كثير"1. وقال الأستاذ رشيد أيضًا: "فالحق أن كل ما لا يُعلم إلا بالنقل عن المعصوم من أخبار الغيب الماضي أو المستقبل وأمثاله لا يقبل في إثباته إلا الحديث الصحيح المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه قاعدة الإمام ابن جرير التي يصرح بها كثيرًا"2. ثم قال: "وغرضنا من هذا كله أن أكثر ما رُوي في التفسير المأثور أو كثيره حجاب على القرآن، وشاغل لتاليه عن مقاصده العالية المزكية للأنفس المنورة للعقول، فالمفضلون للتفسير المأثور لهم شاغل عن مقاصد القرآن بكثرة الروايات التي لا قيمة لها سندًا ولا موضوعًا"2. وقال أيضًا: "فكل حديث مشكل المتن أو مضطرب الرواية أو مخالف لسنن الله تعالى في الخَلْق أو لأصول الدين أو نصوصه القطعية أو للحسيات وأمثالها من القضايا اليقينية فهو مظنة لما ذكرنا في هذه التنبيهات"1. ثم قال: "فمن صدق رواية مما ذكر ولم يجد فيها إشكالًا؛ فالأصل فيها الصدق، ومَن ارتاب في كل شيء منها أو أورد عليه بعض المرتابين أو المشككين إشكالًا في متونها؛ فليحمله على ما ذكرنا من عند الثقة بالرواية؛ لاحتمال كونها من دسائس الإسرائيليات، أو خطأ الرواية بالمعنى، أو غير ذلك مما أشرنا إليه، وإذا لم يكن شيء منها ثابتًا بالتواترالقطعي فلا يصح أن يجعل شبهة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بالقطع، ولا على غير ذلك من القطعيات"3. وقال أيضًا على أستاذه: "لقد كان الأستاذ الإمام يقول: إن الإسلام الصحيح هو ما كان عليه أهل الصدر الأول قبل ظهور الفتن، ولم يكن يثق إلا بأقل القليل مما رُوي في الصحاح من أحاديث الفتن"3. وقال أيضًا: "وقد ثبت أن الصحابة -رضي الله عنهم- كان يروي بعضُهم عن بعض وعن التابعين حتى عن كعب الأحبار وأمثاله، والقاعدة عند أهل السنة أن جميع الصحابة عدولٌ؛ فلا يخل جهل اسم راوٍ منهم بصحة السند،   1 تفسير المنار: رشيد رضا ج1 ص7، 8، ولم يُشر رشيد رضا إلى المصدر، ولم نقف لابن كثير -رحمه الله تعالى- على مثل هذا. 2 المرجع السابق: ج1 ص10. 3 المرجع السابق: ج9 ص465-467. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 744 وهي قاعدة أغلبية لا مطردة، فقد كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم منافقون ... "1. وقال: "ولا شك في أن أكثر الأحاديث قد رُوي بالمعنى كما هو معلوم، واتفق عليه العلماء، ويدل عليه اختلاف رواة الصحاح في ألفاظ الحديث الواحد حتى المختصر منها، وما دخل على بعض الأحاديث من المدرجات؛ فعلى هذا كان يروي كل أحد ما فهمه، وربما وقع في فَهْمِه الخطأ؛ لأن هذه أمور غيبية"1. هذا بعض ما قاله إمام هذه المدرسة في الحديث وعلومه، ومن بعضه ندرك مدى تشكيكه وقلة ثقته في التفسير بالماثور بل السنة عمومًا؛ لأن عباراته أوسع من أن تخصص، وإذا كان هذا من الشيخ رشيد فلا عجب ألا يثق أستاذه محمد عبده إلا بأقل القليل مما رُوي في الصحاح من أحاديث الفتن. وأما الشيخ محمد مصطفى المراغي فيقول: "وطاعة الرسول واجبة في حياته وبعد مماته فيما علم أنه دعا إليه دعوة عامة من السنن العملية المبينة للكتاب، ومن السنن القولية القطعية في الرواية والدلالة ... "2. وقال الشيخ أحمد مصطفى المراغي في بيان منهجه في التفسير: "ومن ثم رأينا ألا نذكر رواية مأثورة إلا إذا تلقاها العلم بالقبول، ولم نرَ فيها ما يتنافر مع قضايا الدين التي لا خلاف فيها بين أهله، وقد وجدنا أن ذلك أسلم لصادق المعرفة، وأشرف لتفسير كتاب الله، وأجذب لقلوب المثقفين ثقافة علمية لا يقنعها إلا الدليل والبرهان ونور المعرفة الصادقة"3.   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج9 ص465-467، علمًا أنه لم يجرؤ أحد من المنافقين على الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم في الرواية، لا في عهده ولا في عهد أصحابه رضي الله عنهم؛ لأن المنافق يعلم علمًا يقينًا أن الصحابة سيكشفون أمره ويهتكون ستره؛ فلا يصح التشكيك بعدالة الصحابة لوجود المنافقين، فالقضية هنا عكسية؛ إذ موقفهم من المنافقين يزيد الثقة في مروياتهم. 2 الدروس الدينية لسنة 1357هـ: محمد مصطفى المراغي ص24. 3 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج1 ص19. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 745 ومن قبلهم قال الأستاذ الإمام محمد عبده: "إن الحديث الذي يصل إلينا من طريق الآحاد إنما يحصل الظن عند مَن صح عنده، أما مَن قامت له الأدلة على أنه غير صحيح؛ فلا تقوم به عليه حجة، وعلى أي حال فلنا -بل علينا- أن نفوض الأمر في الحديث، ولا نحكمه في عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب وبدليل العقل"1. كانت هذه بعض نصوصهم القولية، وإذا ما نظرنا إلى الجانب التطبيقي فإنا نراهم حينًا يوردون ما يتعلق بالآية من السنة النبوية، وحينًا ما يفسرونها، وحينًا ثالثًا يوردون التفسير المأثور من غير إشارة إلى الحديث الذي ورد فيه، وحينًا رابعًا يرفضون التفسير بالمأثور وإن صح. فمن الأول ما أورده الشيخ محمود شلتوت في تفسير قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} 2: "وإذا كان شخص الرسول قد غاب عن أعين الآخرين، فهو حاضر في قلوبهم، ماثل في أنفسهم، ولم تنقطع أسوتهم به ... فمنزلة وجوده فيهم بعد مماته هي منزلة وجود الكتاب فيهم، كلاهما متواتر يلقاه جيل من المؤمنين عن جيل، وقد ورد في الخبر أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه قال: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي" 3، 4. ومنه ما أورده الشيخ محمد مصطفى المراغي في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} 5 فقال: "وفي الحديث الشريف: "من أحب أن يكون أكرم الناس فليتقِ   1 تفسير جزء عم: محمد عبده ص181. 2 سورة آل عمران: من الآية 101. 3 تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت ص129. 4 رواه الحاكم في المستدرك ج1 ص93، ورواه مالك في الموطأ، باب النهي عن القول بالقدر. 5 سورة البقرة: الآية 183. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 746 الله"1، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس" 2، 3. وفي قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 4 أورد الشيخ محمد مصطفى المراغي حديث: "خذوا من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله عز وجل لن يمل حتى تملوا" 5، وفي حديث معاذ عندما أطال الصلاة: "أفتان أنت يا معاذ؟ 6 إن منكم منفرين، فإذا ما صلى أحدكم بالناس فليتجوز؛ فإن منهم الكبير والضعيف وذا الحاجة" 7، 8. ومن الثاني ما نقله السيد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} 9، فقال: "وقد روى مسلم في صحيحه عن عقبة بن عامر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وقد تلا هذه الآية على المنبر يقول: "ألا أن القوة الرمي" قالها ثلاثًا، وهذا كما قال بعض المفسرين من قبيل حديث: "الحج عرفه" بمعنى: أن كلًّا منهما أعظم الأركان في بابه ... "10.   1 لم أجده، ويشهد لمعناه قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وما رواه البخاري سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أكرم؟ قال: "أكرمهم عند الله أتقاهم". صحيح البخاري ج5 ص216. 2 الدروس الدينية لعام 1357هـ: محمد مصطفى المراغي ص 8، 9. 3 رواه الترمذي، كتاب صفة القيامة ج4 ص634، وابن ماجه، كتاب الزهد ج2 ص553. 4 سورة البقرة: 185. 5 رواه البخاري، كتاب الصيام ج2 ص244، ورواه مسلم كتاب الصيام ج2 ص811. 6 رواه البخاري، كتاب الأذان ج1 ص173، ومسلم كتاب الصلاة ج1 ص339، والإمام أحمد في مسنده ج3 ص299. 7 رواه البخاري، كتاب الأذان ج1 ص173، ومسلم كتاب الصلاة ج1 ص340. 8 الدروس الدينية لعام 1357هـ: محمد مصطفى المراغي ص20. 9 سورة الأنفال: من الآية 60. 10 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج10 ص69، وحديث مسلم ج3 ص1522، كتاب الإمارة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 747 وأورد أيضًا تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للظلم في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُون} 1، فيقول: "روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من حديث ابن مسعود: أن الآية لما نزلت شق ذلك على الناس وقالوا: يا رسول الله، وأينا لَمْ يظلم نفسه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} 2؛ إنما هو الشرك. وروي تفسير الظلم هنا بالشرك عن أبي بكر وعمر وابن عباس وأُبي بن كعب وحذيفة وسلمان الفارسي وغيرهم من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم" 3. ومنه أيضًا تفسير الأستاذ الإمام محمد عبده المراد بالصلاة الوسطى في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} 4، بقوله: وللعلماء في ذلك ثمانية عشر قولًا، أوردها الشوكاني "في نيل الأوطار"، أصحها رواية ما ذهب إليه الجمهور من كونها صلاة العصر؛ لحديث علي عند أحمد ومسلم وأبي داود مرفوعًا: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" 5. ومنه أيضًا تفسير الشيخ أحمد مصطفى المراغي للحساب اليسير في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} 6 بما رُوي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم حاسبني حسابًا يسيرًا" قلت: وما الحساب اليسير؟ قال: "ينظر في كتابه ويتجاوز عن سيئاته، فأما من نُوقش الحساب فقد هلك" 7، 8.   1 سورة الأنعام: الآية 82. 2 سورة لقمان: من الآية 13. 3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج7 ص582. 4 سورة البقرة: الآية 238. 5 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص437. 6 سورة الانشقاق: الآيتين 7-8. 7 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج30 ص91. 8 رواه الإمام أحمد في مسنده ج6 ص48. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 748 ومنه ما أورده الشيخ عبد القادر المغربي في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} 1، قال: "ويُروى أنه صلى الله عليه وسلم أمر وفد ثقيف بالصلاة فقالوا: "لا ننحني؛ فإنها سبة لنا"، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود" 2، على أن الإسلام إنما جاء لترويض النفوس العاتية وتذليل أَنَفَتِها"3. ومن الثالث تفسير أحمد مصطفى المراغي لقوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} 4 بقوله: "وكلمة التقوى هي لا إله إلا الله"5، وهو تفسير ورد فيما أخرجه الترمذي وابن جرير عن أُبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قال: لا إله إلا الله"؛ لكن الشيخ المراغي لم يشر إلى الحديث. ومن الرابع وهو كثير في تفسيرهم؛ حيث ردوا كثيرًا من السنة النبوية الطاهرة التي تفسر بعض آيات القرآن الكريم أو تتعلق به، لم يردوها لضعف في سندها أو لمخالفة ما هو معلوم من الشريعة؛ وإنما فعلوا ذلك لأنها لا تتفق مع ما ذهبوا إليه في تفسير الآية؛ فردوا أحاديث صحيحة رواها البخاري ومسلم وغيرهما من أئمة الحديث. فمن ذلك ما ورد في السنة عن الكوثر الذي أعطاه الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى البخاري -رحمه الله- عنه أنس -رضي الله عنه- قال: لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال: "أتيت على نهر حافتاه قباب الؤلؤ مجوفًا، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر" 6، وأخرج أحمد   1 سورة المرسلات: الآية 48. 2 رواه الإمام أحمد ج4 ص218، وأبو داود كتاب الخراج ج3 ص163، وكلاهما وراه بلفظ: "لا خير في دين ليس فيه ركوع". 3 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص135، 136. 4 سورة الفتح: من الآية 26. 5 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج26 ص109. 6 صحيح البخاري، كتاب التفسير {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ج6 ص219. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 749 ومسلم -رحمهما الله تعالى- عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكوثر نهر وعدنيه ربي عز وجل في الجنة" 1. قال السيوطي رحمه الله تعالى: "له طرق لا تُحْصَى"2. هذا ما ورد في السنة في بيان المراد بالكوثر، وهذه هي درجته فيها؛ ولكن الأستاذ الإمام محمد عبده يقول بغير هذا، واقرأ معي قوله: "وأما أن هناك نهرًا في الجنة اسمه الكوثر، وأن الله أعطاه نبيه، فلا يفهم من معنى الآية؛ بل الذي يدل عليه سياق السورة وموضع نزولها هو الذي بيَّناه من أحد القولين، والأول -وهو النبوة وما في معناها- أرجح. أما الاعتقاد بوجود هذا النهر في الجنة فموقوف على تواتر الأخبار التي وردت به، وقد ذهب جماعة إلى أنها متواترة المعنى؛ فيجب الاعتقاد بوجود النهر على وجه عام دون تفصيل أوصافه؛ لكثرة الخلاف فيها. ولكن التواتر لا يصح أن يكون برأي جماعة أو برأي آخرين، فحد التواتر هو ما تراه في القرآن: تعرفه طبقة عن طبقة، يُؤْمَنُ تواطؤ كل منها على الكذب، إلى أن وصل إليك، لا تنكره فرقة من فرق المسلمين قاطبة، فهذا التواتر هو الذي يوجب اليقين، وليس الأمر كذلك في أحاديث النهر؛ فإنها -وإن كثرت طرقها- لم تبلغ هذا المبلغ؛ فلا يصدق عليها اسم المتواتر، خصوصًا وأنه يظن بالرواة سهولة التصديق في مثل هذا الخبر؛ لما فيه من غرابة الكرامة وجمال الوصف؛ فيسهل على كل راوٍ الميل إلى تصديق ما يقال له، وهذا يخل بشرط التواتر؛ لأن أول شرط فيه ألا يكون في الطبقات رائحة التشيع للمروي"3. ومن هذه الأقوال للأستاذ الإمام يظهر موقفه من السنة، وأنه يرد صحيحها لأسباب واهية، لم يقل بها أحدٌ من قبله، لا من علماء الحديث، ولا من سواهم، ومثل   1 مسند أحمد ج3 ص220، 236، وصحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب من قال البسملة آية من أول كل سورة سوى براءة ج4 ص113. 2 الإتقان في علوم القرآن: الإمام السيوطي ج2 ص204. 3 تفسير جزء عم: محمد عبده ص165. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 750 هذه الأسباب لا اعتبار لها، وقد اعترف الأستاذ رشيد رضا بأن الأستاذ الإمام "كان مقصرًا في علوم الحديث؛ من حيث: الرواية، والحفظ، والجرح والتعديل"1، ومر بنا أيضًا وصفه له بأنه كان لا يثق إلا بأقل القليل مما رُوِيَ في الصحاح من أحاديث الفتن2. وتارة يرفضون التفسير بالمأثور بأسلوب آخر؛ وهو الزعم بأنه من الإسرائيليات، حتى وإن رواه البخاري ومسلم، خذ مثلًا تفسير الأستاذ محمد رشيد رضا لقوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} 3؛ حيث قال: "ولا ثقة لنا بشيء مما رُوي في هذا التبديل من ألفاظ عبرانية ولا عربية، فكله من الإسرائيليات الوضعية، كما قاله الأستاذ الإمام هنالك، وإن خرج بعضه في الصحيح والسنن موقوفًا ومرفوعًا؛ كحديث أبي هريرة المرفوع في الصحيحين وغيرهما: "قبل لبني إسرائيل: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} 4، فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا: حطة حبة في شعرة"، وفي رواية: "شعيرة"، ورواه البخاري في تفسير السورتين5 من طريق همام بن منبه أخي وهب، وهما صاحبا الغرائب في الإسرائيليات، ولم يصرح أبو هريرة بسماع هذا من النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيحتمل أنه سمعه من كعب الأحبار؛ إذ ثبت أنه روى عنه، وهذا مدرك عدم اعتماد الأستاذ -رحمه الله تعالى- على مثل هذا من الإسرائيليات وإن صح سنده "!! "؛ ولكن قلما يوجد في الصحيح المرفوع شيء يقتضي الطعن في سندها"6. وخذ مثلًا آخر لهذا الأسلوب في رد التفسير بالمأثور بما قاله السيد محمد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا   1 تاريخ الأستاذ الإمام: محمد رشيد رضا ج1 ص5. 2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج9 ص466. 3 سورة الأعراف: من الآية 162. 4 سورة البقرة: الآية 58. 5 يقصد سورتي: البقرة والأعراف. 6 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج9 ص348. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 751 لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} 1، قال: "وأقوى الأحاديث الواردة في طلوع الشمس من مغربها ما رواه البخاري في كتاب الرقاق عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانه خيرًا". اهـ، وأخرجه أيضًا أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم"2. ثم قال: "هذا وإن أبا هريرة -رضي الله عنه- لم يصرح في هذه الأحاديث بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم، فيخشى أن يكون قد روى بعضها عن كعب الأحبار وأمثاله فتكون مرسلة؛ ولكن مجموع الروايات عنه وعن غيره ثبت هذه الآية بالجملة؛ فننظمها في سلك المتشابهات، ونحمل التعارض بين الروايات وما في بعضها من مخالفة الأدلة القطعية على ما أشرنا إليه من الأسباب؛ كالرواية عن مثل كعب الأحبار من رواة الإسرائيليات، والله أعلم"3. وخذ مثلًا ثالثًا وأخيرًا لهذا الأسلوب، ما قاله السيد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} 4، قال: وفي حديث أخرجه أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: "خلق الله عز وجل التربة يوم السبت ... الحديث ". ثم قال: "إن كل ما رُوي في هذه المسألة من الأخبار والآثار مأخوذ من الإسرائيليات لم يصح فيها حديث مرفوع، وحديث أبي هريرة هذا -وهو أقواها- مردود بمخالفة متنه لنص كتاب الله "!! " وأما سنده فلا يغرنك رواية مسلم له به "!! " فهو قد رواه كغيره عن حجاج بن محمد الأعور المصيص عن ابن جرير، وهو قد تغير في آخر عمره، وثبت أنه حدَّث بعد اختلاط عقله، كما في   1 سورة الأنعام: من الآية 158. 2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج8 ص210، 211. 3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج8 ص210، 211. 4 سورة الأعراف: من الآية 54. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 752 تهذيب التهذيب وغيره والظاهر "!! " أن هذا الحديث مما حَدَّث به بعد اختلاطه"1. وهكذا ترى السيد محمد رشيد رضا يرد الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبارات: "يحتمل أنه سمعه من كعب الأحبار"، و"فيخشى أن يكون قد روى بعضها عن كعب الأحبار"، و"الظاهر أن هذا الحديث مما حدث به بعد اختلاطه"، ولا أدري متى كانت هذه الأوهام سبيلًا لرد الحديث، وإذًا لو فعلنا لذهبت البقية الباقية. أما ثالث أساليب رفضهم للتفسير بالماثور فهو وإن لم يكن رفضًا مباشرًا إلا أنه إغفال له يجعله في درجة المرفوع، فهذا الشيخ أحمد مصطفى المراغي مثلًا يفسر المغضوب عليهم والضالين في قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 2 بقوله: "والمغضوب عليهم هم الذين بلغهم الدين الحق الذي شرعه الله لعباده؛ فرفضوه ونبذوه وراءهم ظهريًا، وانصرفوا عن النظر في الأدلة؛ تقليدًا لما ورثوه عن الآباء والأجداد ... والضالون هم الذين لم يعرفوا الحق، أو لم يعرفوه على الوجه الصحيح، وهؤلاء هم الذين لم تبلغهم رسالة أو بلغتهم على وجه لم يستبن لهم فيه الحق"3. يقول هذا مع أن تفسير المغضوب عليهم والضالين باليهود والنصارى هو الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم وجميع الصحابة والتابعين وأتباعهم، حتى قال ابن أبي حاتم: لا أعلم في ذلك اختلافًا بين المفسرين4. ومن هذا الأسلوب أيضًا ما قاله الشيخ عبد القادر المغربي في تفسير {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} 5:" أي: أعطيناك يا محمد الخير الكثير ... إلخ"6. وقد تقدم بيان ما ورد في الكوثر من الحديث الصحيح.   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج8 ص449. 2 سورة الفاتحة: من الآية السابعة. 3 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج1 ص37. 4 الإتقان: السيوطي ج2 ص190. 5 سورة الكوثر: الآية الأولى. 6 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص89. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 753 ومنه أيضًا تفسير الشيخ أحمد مصطفى المراغي لقوله تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} 1، فقال: "أي: أن الزلزلة التي تكون حين قيام الساعة قبل قيام الناس من أجداثهم ... إلخ"2. مع أنه ورد فيما أخرجه أحمد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد والنسائي والترمذي والحاكم وصححاه عن عمران بن حصين قال لما نزلت {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} ... إلى قوله: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيد} 3، كان صلى الله عليه وسلم في سفر فقال: "أتدرون أي يوم ذلك؟ " قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم، قال: "ذلك يوم يقول الله تعالى لآدم -عليه السلام- ابعث بعث النار ... إلخ "، قال الألوسي: وحديث البعث مذكور في الصحيحين وغيرهما؛ لكن بلفظ آخر، وفيه كالمذكور ما يؤيد كون هذه الزلزلة في يوم القيامة4. هذه إشارات وتلميحات لبعض مواقفهم من التفسير بالمأثور، أحسبها تدل دلالة بينة على منهجهم في هذا اللون من التفسير.   1 سورة الحج: من الآية الأولى. 2 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج17 ص84. 3 سورة الحج: الآيتين الأولى والثانية. 4 تفسير روح المعاني: لأبي الفضل شهاب الدين محمود الألوسي ج17 ص110، 111. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 754 الأساس السادس: التحذير من التفسير بالإسرائيليات خلاصة موقف السلف -رحمهم الله تعالى- من الإسرائيليات ذكره ابن تيمية -رحمه الله تعالى- حيث ذكر أن الأحاديث الإسرائيلية تُذكر للاستشهاد لا للاعتقاد، وأنها على ثلاثة أقسام: "أحدها" ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح. و"الثاني" ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه. و"الثالث" ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 754 فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم -يقصد حديث: "وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" - وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني1. وقد شن رجال المدرسة العقلية الاجتماعية حملة شعواء على الإسرائيليات، وحذروا من تناولها في تفسير القرآن الكريم، وعابوا على المفسرين السابقين تداولهم لها، واعتبروا هذا خطأ لا يغتفر. وهذا الأساس عندهم متولِّد من الأساس السابق تحكيم العقل وتطرفهم فيه تولد عنه رفضهم الشديد للإسرائيليات، وقد أدى بهم تطرفهم هذا إلى تكذيب بعض الإسرائيليات التي وافقت ما جاء في شريعتنا، وأدى بهم أيضًا إلى تكذيب بعض الأحاديث الصحيحة الثابتة خشية أو احتمال أو للظاهر أن يكون الصحابي الذي روى الحديث سمعه من كعب الأحبار!! وأدى بهم أيضًا إلى أن تناولوا بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- بالتجريح، وشككوا في إيمان بعض التابعين الذين شهد لهم السلف الصالح بالعدالة، وروى لهم البخاري ومسلم، ونسبوا العلماء الذين وثقوهم إلى الغفلة. ومع هذا الموقف الصُّلْب، والرفض الحاسم الجازم، فإن رجال المدرسة العقلية الاجتماعية -أو غالبهم- أباح لنفسه ما حرم على غيره؛ فقد أوردوا من الإسرائيليات ونصوص التوراة والإنجيل كثيرًا وكثيرًا؛ بل -ويا للعجب- فقد أوردوا ما يخالف النص القرآني!! وأحسب هذا -ولا شك- نتيجة كل دعوة متطرفة. فلنرتب الأوراق ولنسق الشواهد على ما ذكرنا واحدًا واحدًا، هذه أولًا بعض النصوص لرجال المدرسة التي تبين حكم الأخبار الإسرائيلية، وهذا الأستاذ الإمام محمد عبده يقول عند تفسيره لقوله تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خطَايَاكُمْ} 2 الآية، فقد ذكر الأستاذ الإمام بعض أقوال المفسرين، ثم قال:   1 مجموع فتاوى ابن تيمية: جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد ج13 ص366، 367. 2 سورة البقرة: من الآية 58. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 755 "ومنشأ هذه الأقوال الروايات الإسرائيلية، ولليهود في هذا المقام كلام كثير وتأويلات خُدِعَ بها المفسرون، ولا نجيز حشوها في تفسير كلام الله تعالى"1. وقال عن هذه التفاسير: "كما ولعوا بحشوها بالقصص والإسرائيليات التي تلقفوها من أفواه اليهود وألصقوها بالقرآن؛ لتكون بيانًا له وتفسيرًا، وجعلوا ذلك ملحقًا بالوحي والحق الذي لا مرية فيه، إنه لا يجوز إلحاق شيء بالوحي غير ما تدل عليه ألفاظه وأساليبه، إلا ما ثبت بالوحي عن المعصوم الذي جاء به ثبوتًا لا يخالطه الريب"2. وقال الشيخ عبد العزيز جاويش عن الإسرائيليات: "وهذا وليحذر المسلمون قراءة ما جاء في تفاسير القرآن في هذا الموضوع من الإسرائيليات، وما ابتدعه أصحابها من التأويلات وغريب الروايات، فإنها مضلة للعقول، مبعدة لها عما قصده كتاب الله الحكيم"3. وأما الشيخ محمود شلتوت فوصفها بقوله: "قيد هذا التراث العقول والأفكار بقيود جنت على الفكر الإسلامي فيما يختص بفَهْم القرآن والانتفاع بهداية القرآن ... "4. أما الشيخ أحمد مصطفى المراغي، فيصف رواة الإسرائيليات بأنهم "ساقوا إلى المسلمين من الآراء في تفسير كتابهم ما ينبذه العقل، وينافيه الدين، وتكذبه المشاهَدة، ويبعده كل البعد ما أثبته العلم في العصور اللاحقة"5. والأستاذ رشيد رضا هو أشد رجال المدرسة العقلية الاجتماعية حربًا على الإسرائيليات ورواتها، واقرأ قوله: "كان من سوء حظ المسلمين أن أكثر ما كُتب في التفسير يشغل قارئه عن هذه المقاصد العالية والهداية السامية؛ فمنها ما يشغله   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص325. 2 المراجع السابق: ج1 ص175. 3 أسرار القرآن: عبد العزيز جاويش ص138. 4 تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت ص9، 10. 5 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج1 ص19. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 756 عن القرآن بمباحث الإعراب وقواعد النحو، وبعضها يلفته عنه بكثرة الروايات وما مزجت به من خرافات الإسرائيليات، وأكثر التفسير المأثور قد سرى إلى الرواة من زنادقة اليهود والفرس ومسلمة أهل الكتاب"1. وقد رد الأستاذ رشيد رضا بعض الأحاديث الصحيحة زاعمًا أنها من الإسرائيليات؛ ومن ذلك حديث البخاري الذي رواه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- في كتاب التفسير: "قيل لبني إسرئيل: ادخلوا الباب سجدًا وقولوا حطة؛ فدخلوا يزحفون على أستاهم فبدلوا وقالوا: حبة في شعرة" 2، واختاره السيوطي في التفسير فقال عنه السيد رشيد: "ما اختاره الجلال مروي في الصحيح؛ ولكنه لا يخلو من علة إسرائيلية"3. وأدى به تطرفه إلى أن ذم رواة الإسرائيليات الثقات ككعب الأحبار ووهب بن منبه، فقال عن وهب عند روايته أن موسى -عليه السلام- كان يقرع لهم أقرب حجر فتفجر منه عيون: "وهذا من الخرافات التي اختلقها وهب، ليس لها أصل عند اليهود ولا عند المسلمين"، إلى أن قال: "وقد عدوه مع أمثال هذه الخرافات ثقة في الرواية"4. وقال عن كعب الأحبار: "بمثل هذه الروايات كان كعب الأحبار يغش المسلمين؛ ليفسد عليهم دينهم وسُنتهم، وخُدع به الناس لإظهاره التقوى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"5. وقال في موضع آخر: "ولكن البلية في الرواية عن مثل كعب الأحبار وممن روى عنه أبو هريرة وابن عباس ومعظم التفسير المأثور مأخوذٌ عنه وعن تلاميذه   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص7، 8. 2 صحيح البخاري: كتاب التفسير، سورة البقرة ج6 ص23. 3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص325. 4 المرجع السابق: ج9 ص343. 5 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج9 ص459. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 757 ومنهم المدلسون كقتادة، وكذا غيره من كبار المفسرين كابن جريج"1، وقال عن كعب أخيرًا: "وكعب الأحبار الذي أجزم بكذبه؛ بل لا أثق بإيمانه"2. وقال عن كعب ووهب: "إن بطلي الإسرائيليات وينبوعي الخرافات كعب الأحبار ووهب بن منبه"3، وقال عنهما: "ولو فطن الحافظ ابن حجر لدسائسهما وخطأ من عدلهما من رجال الجرح والتعديل لخفاء تلبيسهم عليهم لكان تحقيقه لهذا البحث أتم وأكمل"4، وقال: "ثم ليعلم أن شر رواة هذه الإسرائيليات أو أشدهم تلبيسًا وخداعًا للمسلمين هذان الرجلان: كعب الأحبار ووهب بن منبه"5. وشاركه في الهجوم الشيخ أحمد مصطفى المراغي الذي وصف بعض الروايات بقوله: "وما هي إلا إسرائيليات تلقفها المفسرون من أهل الكتاب الذين كانوا يكيدون للإسلام والعرب كروايات وهب بن منبه وهو فارسي الأصل، ومثله روايات كعب الأحبار الإسرائيلي، وقد كان كلاهما كثير الرواية للغرائب التي لا يُعرف لها أصل معقول ولا منقول، وقومهما كانوا يكيدون للمسلمين الذين فتحوا بلاد فارس وأجلوا اليهود من الحجاز"6. هذا غيض من فيض، من بحر ذمهم لكعب الأحبار ووهب بن منبه، مع اعترافهم في النصوص التي سقناها وفي غيرها بتعديل الجمهور وتوثيقهم لهما، واعترافهم أيضًا أن أبا هريرة وابن عباس -رضي الله عنهم- وغيرهم من الصحابة قد رووا عن كعب الأحبار، فهل يعتقد هؤلاء أن الصحابة -رضي الله عنهم- تروي عن كذاب وضَّاع لا يوثق فيه؟! أليست روايتهم عنه تزكية له؟! أفلا نقبل إذًا بتزكية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم   1 المرجع السابق: ج9 ص466. 2 مجلة المنار: محمد رشيد رضا ج9 المجلد 27 ص697. 3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج9 ص438. 4 المرجع السابق: ج9 ص442. 5 مجلة المنار: ج10 مجلد 27 ص783. 6 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج9 ص24. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 758 أما كعب فقد روى له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي؛ بل إن الجمهور على توثيقه؛ ولذا لا تجد له ذكرًا في كتب الضعفاء والمرتوكين، وقد اتفقت كلمة نقاد الحديث على توثيقه1. وأما وهب فقد روى له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، وقال الذهبي في ميزانه: كان ثقة صادقًا كثير النقل من كتب الإسرائيليات، قال العجلي: ثقة تابعي كان على قضاء صنعاء، وقد ضعفه الفلاس وحده ووثقه جماعة2، وقال أبو زرعة والنسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات3. إذًا، فلا شك مطلقًا في خطأ رجال المدرسة العقلية الاجتماعية في ذم كعب الأحبار ووهب بن منبه ... ولكن مهلًا لا أقصد بهذا مطلقًا أن كل ما رُوي عنهما صحيح، ولا أقول: إنه ليس فيه كذب ولا افتراء؛ ولكن لا يعني وجود هذا أن ينسب إليهما ويحملا تبعته، فكم حديث موصوع مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نسب ظلمًا وزورًا إلى أبي هريرة أو ابن عباس أو غيرهما، فهل يجرؤ أحد -إلا معتدٍ- على التشكيك فيهما وفي عدالتهما، الأمر هناك في كعب وفي وهب كما هو هنا في أبي هريرة وابن عباس، فقد يكون الكذب من غيرهما، أو أنهما نقلاه على أنه مما في كتبهم، وهما يعتقدان صحته ولم يعلما كذبه؛ لخفاء الثابت والمحرَّف في كتب أهل الكتاب، كما قال ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: "إن بعض الذي يُخبر به كعب عن أهل الكتاب يكون كذبًا؛ لا أنه يتعمد الكذب، وإلا فقد كان كعب من أخيار الأحبار"4، قلت: ومثل هذا يقال عن وهب. عودة إلى الموضع في صُلْبه؛ ذلكم موقف رجال المدرسة العقلية الاجتماعية من رواية الإسرائيليات يظهر منه الرفض الشديد والمتطرف لها؛ ولكنهم -وبكل أسف- لم يلتزموا بأنفسهم ما دعوا إليه، وقديمًا قال الشاعر:   1 مقالات الكوثري: محمد زاهد الكوثري ص32، 33. 2 ميزان الاعتدال: محمد بن أحمد الذهبي ج4 ص352، 353. 3 تهذيب التهذيب: ابن حجر العسقلاني ج11 ص167. 4 فتح الباري: ابن حجر العسقلاني ج13 ص335. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 759 لا تنهَ عن خلق وتأتِيَ مثلَهُ ... عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ بل لم يأتِ هؤلاء مثله، فتجاوزوا المثل، فزجوا بما لم يزج به المفسرون السابقون؛ فرووا من الإسرائيليات ما رواه السابقون، وزادوا عليهم برجوعهم بأنفسهم إلى المصادر التي أخذ منها كعب ووهب!! ولم يقل أحد منهم في نفسه ما قاله في كعب ووهب، فأباحوا لأنفهسم ما لم يبيحوه لسواهم، ونقلوا من الإسرائيليات ما يخالف النص القرآني الكريم ولم ينقدوه أو يبطلوه؛ بل وحرفوا معاني نصوص القرآن الكريم حتى توافق ما جاءوا به من الإسرائيليات. لست أقول ما قلت من غير تأمل وتفكر، ولست ألقي الكلام على عواهنه -كما يقولون- وليس هذا من قبيل استفزاز المشاعر ضدهم؛ بل هو الحقيقة والواقع، ولنسق الأمثلة واحدًا واحدًا. أما روايتهم لما ورد من الإسرائيليات من غير رد لها حسب منهجهم الذي ذكروه، فما أورده السيد رشيد رضا في تفسيره حيث قال: "روى نحو هذا ابن جرير، قال: حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: وُكِّلَ بالبقرتين اللتين سارتا بالتابوت أربعة من الملائكة يسوقونها ... إلخ"1. وقال في تفسير قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} 2: "ويروون في هذا الضرب روايات كثيرة، قيل: إن المراد اضربوا المقتول بلسانها، وقيل: بفخذها، وقيل: بذنبها"3. ومنه أيضًا ما ذكره الأستاذ أحمد مصطفى المراغي في المائدة التي أُنزلت من السماء فقال: "وللعلماء في الطعام الذي نزل في المائدة آراء؛ فقيل: هو خبز وسمك، وقيل: خبز ولحم، وقيل: كان ينزل عليهم طعامًا أينما ذهبوا، كما كان ينزل   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص484. 2 سورة البقرة: من الآية 73. 3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص351. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 760 المن على بني إسرائيل، كما رواه ابن جرير عن ابن عباس"1. ومنه ما قاله أيضًا في تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ} 2، قال: "وقد كان العلماء قديمًا يعلمون تخلخل الهواء في الطبقات العالية في الجو، وهي نظرية لم تدرس في العلوم الطبيعية إلا حديثًا، فقد أُثِرَ عن كعب الأحبار أنه قال: إن الطير يرتفع في الجو اثني عشر ميلًا، ولا يرتفع فوق ذلك"3. ومنه ما قاله الشيخ عبد القادر المغربي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} 4، حيث قال: "وجاء في كتب الأوائل أن في زمن "أنوش بن شيث بن آدم" ابتدأت عبادة الأوثان، وجعل الناس يسمون المخلوقات آلهة، فكان أنوش يجمع أهل بيته وذويه للصلاة والتسبيح وعبادة الله وحده، وفي زمن إدريس -عليه السلام- وهو "أخنوخ بن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش - كثر النفاق، وانغمس الناس في الآثام؛ فأنزل عليه وحي في سفر هو صحف إدريس المشهورة، ولم يبقَ من ذلك السفر سوى فِقْرَةٍ، يقولون: إنها وجدت في أطواء بعض الكتب المقدسة"5. هذا هو النوع الأول من وقوعهم في الإسرائيليات، ينقلون منها ما نقله السابقون، أما النوع الثاني وهو نقلهم ما يخالف النص القرآني من غير تكذيب له؛ فمنه ما نقله الشيخ عبد القادر المغربي في تفسيره لسورة نوح -عليه السلام- حيث قال: "وذكر في الأسفار القديمة أن نوحًا ولد لسنة 182 من عمر أبيه "لامك" ولسنة 1056 لجده الأكبر آدم -عليه السلام- ومعنى نوح: الراحة والتعزية. وكان عمر نوح 500 سنة لما أخذ يلد أولاده: سامًا وحامًا ويافث، وكان   1 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج7 ص59. 2 سورة النحل: من الآية 79. 3 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج14 ص119. 4 سورة نوح: من الآية الأولى. 5 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص55. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 761 عمره 600 سنة لما حصل الطوفان"1. أما مصدر المعارضة للقرآن الكريم فقد أبرزته مراقبة الثقافة بالأزهر التي علقت على الطبعة التي بين يدي عند هذا الموضع بقولها: "قوله تعالى في سورة العنكبوت: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَان} 2 يفيد أن الطوفان حدث بعد أن أمضى نوح بين قومه 950 سنة؛ فالقرآن يخالف في ذلك ما نقله المؤلف عن الأسفار القديمة"3. قلت: ولا ينفع الشيخ قوله بعد هذا: "هذا منخول ما جاء في الكتاب القديمة من خبر نوح -عليه السلام- ونحن معشر المسلمين لا نصدقها ولا نكذبها؛ بل نَكِلُ أمرها إلى العلم الحديث، فهو الذي يمحصها ويميز غثها من سمينها"4. وإنما قلت: لا ينفعه هذا؛ لأن منهجنا -معشر المسلمين- ليس ما ذكر؛ بل تكذيب ما خالف النص القرآني لا التوقف أو تفويض أمره إلى العلم الحديث! أما النوع الثالث من أنواع وقوعهم في الإسرائيليات التي حذروا منها فهو رجوعهم بأنفسهم إلى مصادر أهل الكتاب، ونقلهم منها مباشرة لمجملات القرآن الكريم وبمهماته؛ بل وجعل هذه النصوص دليلًا مرجحًا وميزانًا للمفاضلة بين أقوال المفسرين؛ بل رد التفاسير التي تخالف هذه النصوص؛ حتى قال أحدهم: "ومنه نعلم أن كل ما خالفها -أي: التوراة- من أقوال المفسرين في معنى الطمس على أموالهم، فهو من أباطيل الروايات الإسرائيلية التي كان من مقاصد كعب الأحبار وأمثاله منها، كما نرى صد اليهود عن الإسلام بما يرويه في تفسير المسلمين للقرآن مخالفًا لما هو متفق عليهم عندهم"5.   1 المرجع السابق: ص56. 2 سورة العنكبوت: الآية 14. 3 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي هامش ص56. 4 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص56. 5 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج11 ص474. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 762 وأمثلة هذا النوع كثيرة جدًّا في تفاسيرهم؛ ومنها ما قاله الأستاذ أحمد مصطفى المراغي في تفسير {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 1، فقال: "وجاء في إنجيل يوحنا: وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته"2. ومنه أيضًا قوله في تفسيره قوله تعالى: {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} 3، قال: "وقد جاء في الفصل السادس من سِفْرِ الخروج من التوراة: فقال الرب لموسى الأثرى: ما أصنع بفرعون، إنه بيد قديره سيطلقكم، وبيد قديره سيطردكم من أرضه ... "4. ومنه ما قاله الشيخ عبد القادر المغربي في تفسير قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} 5 الآية، قال: "ويكفي في الاستشهاد على ذلك ما جاء في "رؤى دانيان" من أسفار العهد القديم "ورؤيا يوحنا" من أسفار العهد الجديد، وقد قال المفسرون من علماء أهل الكتاب: إنه وإن يكن يوجد في سفر دانيال حوادث غير اعتيادية، فليس هذا بمستغرب؛ لأنه يعم الكتاب المقدس تقريبًا "وقالوا في رؤيا يوحنا": إن معناها عويص، وهي مشحونة بمسائل محيرة لا يمكن حلها قبل تتمة ألف سنة"6 إلخ. ومنه ما قاله الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} 7 الآية، قال: "وهذا التابوت المعرف صندوق له قصة معروفة في كتب اليهود؛ ففي أول الفصل   1 سورة المائدة: من الآية 117. 2 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج7 ص64. 3 سورة الأعراف: من الآية 129. 4 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج9 ص39. 5 سورة المدثر: من الآية 31. 6 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص95. 7 سورة البقرة: من الآية 248. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 763 الخامس والعشرين من سفر الخروج ما نصه: وكلم الرب موسى قائلًا: كلم بني إسرائيل ... إلخ"1، ثم ذكر النص. وقال أيضًا: "وفي سفر تثنية الاشتراع أن موسى لما كمل كتابة هذه التوراة أمر اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلًا: خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم؛ ليكون شاهدًا عليكم [31: 24-30] "2. وقال أيضًا في موضع آخر: "وأما ما ورد في التوراة الحاضرة في شأن الألواح فمنه ما جاء في سفر الخروج من [23: 12] وقال الرب لموسى: اصعد إلى الجبل وكن هناك فأعطيك لوحي الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها؛ لتعلمهم الكلمات العشر، وجاء في وصف اللوحين منه [32: 15] ثم انثنى موسى ونزل من الجبل ولوحا الشهادة في يده: لوحان مكتوبان على جانبيهما من هنا ومن هناك كانا مكتوبين" 3. أما النوع الرابع -وهو النوع الأخطر من أنواع وقوعهم في الإسرائيليات- فهو صرفهم معنى النص القرآني؛ ليوافق نصوص أهل الكتاب، ونضرب لذلك مثلًا بتفسير الشيخ محمد عبده وتلميذه السيد رشيد رضا لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِين} 4 الآيات، حين مال الشيخان إلى أن المراد في الآيات بيان نوع من التشريع الموجود عند بني إسرائيل، يتوصل به إلى معرفة القاتل المجهول. ثم يربط بين هذا المعنى وبين ما جاء في التوراة فيقول: "على أن هذا الحكم منصوص في التوراة؛ وهو أنه إذا قتل قتيل لم يعرف قاتله فالواجب أن تذبح بقرة غير ذلول في واد دائم السيلان، ويغسل جميع شيوخ المدينة القريبة من المقتل أيديهم على العجلة التي كسر عنقها في الوادي ... إلخ"5.   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص480. 2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص482. 3 المرجع السابق: ج9 ص185. 4 سورة البقرة: من الآية 67. 5 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص347، 348. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 764 وقد أيد الشيخ رشيد رضا ما ذهب إليه شيخُه بذكر النص الوارد في التوراة المتعلق بقتل البقرة، ثم قال بعد هذا: "فعُلم من هذا أن الأمر بذبح البقرة كان لفصل النزاع في واقعة قتل"1، ثم قال: "والظاهر مما قدمنا أن ذلك العمل كان وسيلة عندهم للفصل في الدماء عند التنازع في القاتل إذا وجد القتيل قرب بلد ولم يعرف قاتله؛ ليعرف الجاني من غيره ... ومعنى إحياء الموتى على هذا حفظ الدماء التي كانت عرضة لأن تُسفك بسبب الخلاف في قتل تلك النفس؛ أي: يحييها بمثل هذه الأحكام، وهذا الإحياء على حد قوله تعالى: {مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [5: 32] ، وقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ، فالإحياء هنا معناه الاستبقاء كما هو المعنى في الآيتين، ثم قال: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِه} بما يفصل بها في الخصومات، ويزيل من أسباب الفتن والعداوات"2. وبهذا يكون الشيخ محمد عبده وتلميذه صَرَفَا معنى الآية عن أن تكون قصة واقعة أحيا الله فيها القتيل {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} ليكون آية للناس {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} صرفا هذه الآيات عن هذا المعنى إلى أنها وردت لبيان حكم كان في بني إسرائيل، فعلوا هذا ليوافق ما جاء عن أهل الكتاب "والإسرائيليات". هذه بعض مواطن وقوعهم فيما حذروا منه، فوقعوا في مثله أو أسوأ منه، وقد ترددت في اعتبار هذا من أسس منهجهم ما داموا لم يلتزموا، لولا أني رأيت أن القول الصريح مقدَّم على الفعل في الاستدلال، فأقوالهم صريحة في رفض الإسرائيليات؛ فاعتبرته كذلك وإن لم يلتزموه.   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص347، 348. 2 المرجع السابق: ج1 ص351. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 765 الأساس السابع: القرآن هو المصدر الأول في التشريع وتظهر أبعاد هذا الأساس لدى رجال المدرسة في قول الأستاذ الإمام محمد عبده: "وأريد أن يكون القرآن أصلًا تحمل عليه المذاهب والآراء في الدين، لا أن تكون المذاهب أصلًا والقرآن هو الذي يحمل عليها، ويرجع بالتأويل أو التحريف إليها، كما جرى عليه المخذولون وتاه فيه الضالون"1. ويؤكد هذا التأصيل تلميذُه السيد رشيد رضا بقوله: "إن القاعدة القطعية المعروفة عمن أنزل عليه القرآن صلى الله عليه وسلم وعن خلفائه الراشدين -رضي الله عنهم- أن القرآن هو الأصل الأول لهذا الدين، وأن حكم الله يُلتمس فيه أولًا، فإن وُجد فيه يؤخذ وعليه يعول ولا يحتاج معه إلى مأخذ آخر، وإن لم يوجد التُمس من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على هذا أقر النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا حين أرسله إلى اليمن، وبهذا كان يتواصى الخلفاء والأئمة من الصحابة والتابعين"2. وأيد هذا الشيخ محمود شلتوت قائلًا: "إن مصادر التشريع في الإسلام ثلاثة: القرآن والسنة والرأي، وهي في المصدرية على هذا الترتيب، فما وجد في القرآن أخذ منه ولا يطلب له مصدر سواه، وما لم يوجد فيه بحث عنه فيما صحت روايته وثبت وروده عن الرسول صلى الله عليه وسلم"3. ومع هذه النصوص نصوص أخرى تميز المراد من النصوص الأولى وتظهره؛ ذلكم أن تلك النصوص السالفة قابلة لهذا وذاك، قابلة لمن يجعل القرآن هو المصدر الأول ولا يقبل معه ما يبين مجمله ولا يخصص عمومه، وقابلة لمن جعل القرآن هو المصدر الأول من غير رد لما صح من السنة، والذي يظهر أن رجال المدرسة العقلية الاجتماعية كثيرًا ما يميلون إلى المراد الأول؛ فينكرون من صحيح السنة ما لا يوافق تفسيرهم لآية في القرآن الكريم، وكأن التفسير الذي مالوا إليه قد قامت أركانه، وصحت قوائمه، وتبوأ منزلة هي أقوى درجة من صحيح السنة، فردوا هذا الأخير لأجل فَهْمِهم الخاطئ. فهذا الإمام محمد عبده ينكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد سحر   1 فاتحة الكتاب: محمد عبده ص46. 2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج5 ص120. 3 الإسلام عقيدة وشريعة: محمود شلتوت ص469. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 766 فيقول: "والذي يجب اعتقاده أن القرآن مقطوع به، وأنه كتاب الله بالتواتر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يجب الاعتقاد ما يثبته وعدم الاعتقاد بما ينفيه، وقد جاء بنفي السحر عنه -عليه السلام- حيث نسب القول بإثبات حصوله إلى المشركين وأعدائه، ووبخهم على زعمهم هذا؛ فإذن هو ليس بمسحور قطعًا. وأما الحديث على فرض صحته فهو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها في باب العقائد، وعصمة النبي من تأثير السحر في عقله عقيدة من العقائد لا يؤخذ في نفيها عنه إلا باليقين، ولا يجوز أن يؤخذ فيها بالظن والمظنون"1، إلى أن قال: "وعلى أي حال، فلنا -بل علينا- أن نفوض الأمر في الحديث، ولا نحكمه في عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب وبدليل العقل". وقد كفانا مؤنة الرد على الأستاذ الإمام الشيخ محمد حسين الذهبي -رحمه الله تعالى- حيث قال: "وهذا الحديث الذي يرده الأستاذ الإمام رواه البخاري وغيره من أصحاب الكتب الصحيحة، وليس من وراء صحته ما يخل بمقام النبوة؛ فإن السحر الذي أُصيب به النبي عليه الصلاة والسلام كان من قبيل الأمراض التي تَعْرِضُ للبدن بدون أن تؤثر على شيء من العقل"2، وقال: "ثم إن الحديث روايه البخاري وغيره من كتب الصحيح؛ ولكن الأستاذ الإمام -ومَن على طريقته- لا يفرقون بين رواية البخاري وغيره، فلا مانع عندهم من عدم صحة ما يرويه البخاري، كما أنه لو صح في نظرهم فهو لا يعدو أن يكون خبر آحاد لا يثبت به إلا الظن، وهذا في نظرنا هدم للجانب الأكبر من السنة، التي هي بالنسبة للكتاب بمنزلة الْمُبَيِّن من الْمُبَيَّن، وقد قالوا: إن البيان يلتصق بالمبيَّن"3. وخذ مثلًا لذلك -آخر- تفسير الشيخ أحمد مصطفى المراغي لقوله   1 تفسير جزء عم: محمد عبده ص180، 181. 2 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص240، 241. 3 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص241. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 767 تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، قال الشيخ المراغي مكتفيًا بالقرآن دون السنة: "وما صح من الأحاديث في النهي عن طعام غير هذه الأنواع الأربعة فهو إما مؤقت وإما للكراهة فقط، ومن الأول تحريم الحُمُر الأهلية، فقد روى ابن أبي شيبة والبخاري عن ابن عمر قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحُمُر الأهلية يوم خيبر"، ومن الثاني ما رواه البخاري ومسلم عن أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير"1. لكن الشيخ المراغي جعل تحريم غير هذه الأربعة إما مؤقتًا وإما للكراهة، ولم يتحدث عما ورد بلفظ التحريم من غير علة عارضة تقيده بزمان أو مكان، وقد كفاه مؤنة هذا الصنف الأستاذ محمد رشيد رضا حيث قال: "وما ورد منه بلفظ التحريم فهو مروي بالمعنى2 لا بلفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس مراد من رد تلك الأحاديث بآية الأنعام من الصحابة وغيرهم أنه لا يقبل تحريم ما حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن منصوصًا في القرآن؛ بل معناه أنه لا يمكن أن يحرم النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا جاء نص القرآن المؤكد بحله، واعتبر هذا بما أخرجه أحمد وأبو داود عن عيسى بن نميلة الفزاري عن أبيه قال: كنت عند ابن عمر فسُئِلَ عن أكل القنفذ فتلا هذه الآية: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} فقال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة يقول: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "خبيثة من الخبائث"، فقال ابن عمر: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله فهو كما قال. اهـ. فقوله "إن كان"   1 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج8 ص58. 2 جرأة غريبة من الشيخ محمد رشيد رضا على رد الأحاديث، وبكل سهولة يزعم بصيغة العموم: "وما ورد منه بلفظ التحريم فهو مروي بالمعنى"، وهل يصلح هذا لرد الأحاديث بدون تتبع؟!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 768 مشعر بشكه فيه، وأنه إن فرض أنه قال وجب قبوله؛ لأن الله أمر بإتباعه؛ ولكن بمعنى أنه خبيث غير محرم كالثوم والبصل على أن الحديث ضعيف"1. وهذا الذي قاله محمد رشيد رضا غريب منه، فهل خفي عليه -ولا أظنه- أن قول ابن عمر رضي الله عنهما: "إن كان ... إلخ" رجوع منه -رضي الله عنه- عن فَهْمِه إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وغريب منه أيضًا أن يجهل -ولا أظنه كذلك- حُكْم الخبائث في الإسلام؛ فيكفي أن يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذه خبيثة من الخبائث؛ لنعرف من القرآن أنه عليه الصلاة والسلام يحل لنا الطيبات ويحرم علينا الخبائث. ليس لي أن أذكر أمثلة أكثر من هذا فهي كثيرة في تفاسيرهم، وفيما ذكرت ما يكفي للمراد إن شاء الله تعالى.   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج8 ص163. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 769 الأساس الثامن: الشمول في القرآن الكريم وهو أمر مسلَّم؛ إذ الشمول فيه فرع عن الشمول في الرسالة الإسلامية عامة، فهي ليست لأمة دون الأمم، ولا لطائفة دون طائفة، ولا لزمن دون زمن {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} 1؛ ولذا جاء القرآن الكريم أيضًا -وهو كتاب هذه الرسالة- شاملًا {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 2، {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِين} 3. أدرك هذا رجال المدرسة العقلية الاجتماعية فالتزموه في تفسيرهم، فقال أستاذهم الإمام محمد عبده: "إن القرآن هادٍ ومرشد إلى يوم القيامة، وإن معانيه عامة وشاملة، فلا يعد ويوعد ويعظ ويرشد أشخاصًا مخصوصين؛ وإنما نيط وعده   1 سورة الأعراف: من الآية 158. 2 سورة الأنعام: من الآية 19. 3 سورة يوسف: من الآية 104. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 769 ووعيده وتبشيره وإنذاره بالعقائد والأخلاق والعادات والأعمال التي توجد في الأمم والشعوب"1. وقال تلميذه من بعده: "فإن كان مات مَن كانوا سبب النزول فالقرآن حتى لا يموت ينطق حُكْمَه ويحكم سلطانه على الناس في كل زمان"2. ولعلنا ندرك من هذا النص الأخير أنهم يحرصون كثيرًا على عدم تخصيص الآيات ذوات سبب النزول بالسبب؛ بل يلتزمون القول بالشمول في غالب ذلك. خذ مثلًا لذلك ما قاله الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسير الأتقى والأشقى من قوله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى، لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى، وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} 3 الآية، قال: "وبتفسير الأتقى والأشقى على النحو الذي سمعته تبطل تلك الإشكالات التي أوردها المفسرون في الحصر، وما أشكل عليهم إلا تقييدهم بالعادة في استعمال ألفاظ: كذب وتولى، وتحكيمهم عاداتهم واصطلاحاتهم التي وضعوها من عند أنفسهم لأنفسهم في كتاب الله تعالى وسنة رسوله، ثم إنهم يوردون ههنا أسبابًا للنزول، وأن الآيات نزلت في سيدنا أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- لأنه اشترى من أرقاء المسلمين ضعفاء وأعتقهم من ماله لا يبتغي في ذلك إلا وجه الله، ورووا غير ذلك، وقالوا: إن الأشقى هو أمية بن خلف، وقيل غير ذلك، ومتى وجد شيء من ذلك في الصحيح لم يمنعنا من التصديق به مانع؛ ولكن معنى الآيات لا يزال عامًّا -كما رأيت- والله أعلم"4. ومن ذلك تفسير الشيخ محمد رشيد رضا لقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} 5؛ حيث قال: "وهذه الآيات   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص179. 2 المرجع السابق: ج1 ص153. 3 سورة الليل: الآيات 14-17. 4 تفسير جزء عم: محمد عبده ص106. 5 سورة البقرة: الاية 8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 770 التي نحن بصدد تفسيرها الآن هي المبينة لحال الفرقة الرابعة، وهي فرقة من الناس توجد في كل آنٍ وفي كل عصر، وليست الآيات -كما قيل- في أولئك النفر من المنافقين الذين كانوا في عصر التنزيل؛ ولذلك قال تعالى في بيان حالهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} ، ولم يقل عنهم: إنهم يقولون مع ذلك: "وآمنا بك يا محمد"، وما كان القرآن ليعتني بأولئك النفر الذين لم يلبثوا أن انقرضوا كل هذه العناية ويطيل في بيان حالهم أكثر مما أطال في الأصناف الثلاثة الذين هم سائر الناس"1. ومثلًا آخر تفسير الشيخ أحمد مصطفى المراغي للمغضوب عليهم والضالين، وذلك في سورة الفاتحة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 2. فقد ورد في السنة تخصيص هذا العموم بأن المغضوب عليهم هم اليهود والضالين هم النصارى؛ لكن الشيخ المراغي يميل إلى العموم فيقول في تفسيرها: "والمغضوب عليهم هم الذين بلغهم الدين الحق الذي شرعه الله لعباده؛ فرفضوه ونبذوه وراءهم ظهريًّا، وانصرفوا عن النظر في الأدلة؛ تقليدًا لما ورثوه عن الآباء والأجداد، والضالون هم الذين لم يعرفوا الحق أو لم يعرفوه على الوجه الصحيح، وهؤلاء هم الذين لم تبلغهم رسالة أو بلغتهم على وجه لم يستبن لهم فيه الحق"3. ومثل ذلك تفسير الشيخ عبد القادر المغربي لقوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} 4، والخطاب في قوله: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ} وإن كان موجهًا إلى الفريقين: المصدقين والمكذبين، كان سببه صادرًا عن المكذبين وهم المشركون، فإنهم كانوا يوصي بعضهم بعضًا بألا يجهروا ما يدور بينهم؛ لئلا يطلع عليه النبي صلى الله عليه وسلم"5.   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص149. 2 سورة الفاتحة: من الآية 7. 3 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج1 ص37. 4 سورة الملك: من الآية 13. 5 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص7، 8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 771 وهذا أخيرًا مثل من تفسير الشيخ محمد مصطفى المراغي على هذا النحو في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1، فقد ذكر سبب نزول الآية، ثم قال: "يصح أن يكون هذا أو غيره سبب نزول الآية؛ لكن الآية عامة تشمل كل خيانة الله ورسوله"2. ولعل فيما ذكرنا من أمثلة ما فيه الكفاية لتقريره أساسًا من أسس التفسير لدى رجال المدرسة العقلية الاجتماعية. ونحن حين نقول بالشمول في القرآن والعموم في الرسالة الإسلامية فلا يعني إطلاق ذلك؛ فلا شك أن في القرآن آيات خاصة جاءت الأدلة على خصوصها؛ فلا ينبغي أن يطلق العموم في القرآن على هذا النحو، خاصة إذا أورد التخصيص للآية في السنة النبوية المطهرة. ولو كان منهجنا في الدراسة مناقشة المذاهب والآراء مناقشة واسعة؛ لتتبعنا هنا ما ذكرنا وغيره مما لم نذكر من تفاسيرهم، وذكرنا مواقع التطرف ومواقع الاعتدال في كلٍّ.   1 سورة الأنفال: الآية 27. 2 الدروس الدينية لعام 1357: محمد مصطفى المراغي ص29. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 772 الأساس التاسع: التحذير من الإطناب فيما ورد مبهمًا في القرآن الكريم، والحديث عن هذا الأساس مرتبط بالحديث عن الأساس السادس؛ وهو تحذيرهم من الإسرائيليات، فكلاهما إعراض عن الحديث عن شيء من غير دليل صحيح وسند مقبول. وهذا الأساس من الوضوح لدى رجال المدرسة العقلية الاجتماعية بمكان؛ فقد رفعوا أصواتهم، وكرروا نداءاتهم، ودعوا إلى تنقية التفاسير مما عَلَقَ بها من أحاديث وضعها القصاص والوضاعون في بيان مبهم في القرآن الكريم؛ ليدعموا به معتقدًا زائفًا أو دعوة باطلة، أو لغرض دنيوي، أو لطلب مكانة ومنزلة بين العامة؛ فلجئوا إلى ذلك الأسلوب الهجين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 772 وأول ما يواجه القارئ للقرآن الكريم مما استأثر الله تعالى بعلمه ما يسمى بـ"فواتح السور"، وقد بيَّن الشيخ محمود شلتوت ما هو خير للناس في فَهْم هذه الفواتح، فقال: "ولعل من الخير للناس أن يوفروا على أنفسهم عناء البحث في معاني هذه الحروف وأسرار ترتيبها واختيارها على هذا النحو، وأن يكفوا عن الخوض فيما لا سبيل إلى علمه ولم يكلفهم الله به، ولم يربط به شيئًا من أحكامه أو تكاليفه"1. ومن أشهر المبهمات أيضًا والتي توقف عندها عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ثم قال لنفسه: "إن هذا لهو التكلف يا عمر"؛ ذلكم هو "أبًّا" من قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} 2، وقد أعرض الأستاذ الإمام محمد عبده عن الخوض في ذلك عند تفسيرها فقال: "فالمطلوب منك في هذه الآيات هو أن تعلم أن الله يمن عليك بنعم أسداها إليك في نفسك وتقويم حياتك، وجعلها متاعًا لك ولأنعامك، فإذا جاء في سردها لفظ لم تفهمه لم يكن من جد المؤمن أن ينقطع لطلب هذا المعنى بعد فَهْم المراد من ذِكْرِه؛ بل الواجب على أهل الجد والعزيمة أن يعتبروا بتعداد النعم، وأن يجعلوا معظم همهم الشكر والعمل، هكذا كان شأن الصحابة -رضي الله عنهم- ثم خلف من بعدهم خلف وقفوا عند الألفاظ، وجعلوها شغلًا شاغلًا، لا يهمهم إلا التشدق بتصريفها وتأويلها وتحميلها ما لا تحتمله، وقد تركوا قلوبهم خالية من الفكر والذكر، وأعضاءهم معطلة عن العمل الصالح والشكر"3. وكما توقف عن القول في معنى "أبًّا" توقف عن القول فيما لا علم له به؛ فتوقف عن القول بالحافظين من قوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ، كِرَامًا كَاتِبِين} 4؛ فأعلن إيمانه بذلك إجمالًا، ولم يبحث عمَّا وراء ما ورد في النصوص   1 تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت ص61. 2 سورة عبس: الآية 31. 3 تفسير جزء عم: محمد عبده ص21. 4 سورة الانفطار: الآيتين 10، 11. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 773 الصحيحة فقال: "ومن الغيب الذي يجب علينا الإيمان به ما أنبأنا به في كتابه من أن علينا حفظة يكتبون أعمالنا حسنات وسيئات؛ ولكن ليس علينا أن نبحث عن حقيقة هؤلاء، ومن أي شيء خُلقوا، وما هو عملهم في حفظهم وكتابتهم، هل عندهم أوراق وأقلام ومداد كالمعهود عندنا -وهو ما يبعد فَهْمه- أو هناك ألوح تُرسم فيها الأعمال؟ وهل الحروف والصور التي تُرسم هي على نحو ما نعهد، أو إنما هي أرواح تتجلى لها الأعمال؛ فتبقى فيها بقاء المداد في القرطاس إلى أن يبعث الله الناس؟ كل ذلك لا نكلف العلم به؛ وإنما نكلف الإيمان بصدق الخبر، وتفويض الأمر في معناه إلى الله، والذي يجب علينا اعتقاده من جهة ما يدخل في عملنا هو أن أعمالنا تُحفظ وتُحصى، لا يضيع منها نقير ولا قطمير"1. ونحو هذا تفسير تلميذه الشيخ محمد مصطفى المراغي لقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} 2؛ حيث قال: "والآية تدل بظاهرها على أن الجنة مخلوقة الآن؛ لأن الفعل الماضي يُفهم هذا؛ غير أنه من الجائز أن يكون من قبيل قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} 3، فلا يدل على خلقها الآن، والبحث في هذا لا فائدة له ولا طائل تحته"4. وفي تفسير قوله تعالى: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ} 5 يقول: "وهل هذا الصوت صوت جهنم نفسها؛ بمعنى: أن المواد التي تلتهب فيها يُسمع لها هذا الصوت، أو هو صوت أهلها الذين ألقوا ويلقون فيها؟ لم يكلفنا الشرع تعيين أحد الأمرين، كما لم يكلفنا أن نعرف جهنم والجنة وسائر شئون عالَم الغيب معرفة كُنْه وتحديد؛ وإنما كل ما على المؤمن أن يعتقد أنه تعالى أعدَّ دارًا للأشرار تُسعر فيها النار وتفور، ويُسمع لها صوت على المعنى الذي يريده سبحانه   1 جزء عم: محمد عبده ص36. 2 سورة آل عمران: الآية 132. 3 سورة الزمر: من الآية 68. 4 الدروس الدينية لعام 1356هـ: محمد مصطفى المراغي ص21. 5 سورة الملك: الآية 7. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 774 وتعالى، أما ما وراء ذلك من اعتقاد أن مواد جهنم وعناصرها وطبائعها وغليانها وحسيسها من جنس ما نعرفه في الدنيا أو لا، فهذا مما لم نكلفه رحمة بنا؛ إذ القصد أن يؤدي علمنا بالنار إلى الخشية والازدجار، وهذا يحصل بمجرد ما قصه الله علينا من أمرها، وأن الداخل إليها يشعر من الألم بأقصى ما يعهده في دار الدنيا"1. وعودة إلى أستاذ هذه المدرسة وإمامها الشيخ محمد عبده، نذكر له توقفه عن الإطناب في شأن الميزان يوم القيامة؛ وذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَة} 2، قال: "ومن عجيب ما قاله بعض المفسرين: "إنه ميزان بلسان وكفتين كأطباق السماوات والأرض، ولا يعلم ماهيته إلا الله"!!، فماذا بقي من ماهيته بعد لسانه وكفتيه حتى يفوض العلم فيه إلى الله؟! والكلام فيه جرأة على غيب الله بغير نص صريح متواتر عن المعصوم، ولم يرد في الكتاب إلا كلمة الميزان، وقدر ما يمكننا أن نفهم منها لننتفع بما نعتقد وما عدا ذلك فعلمه إلى الله سبحانه ... وعليك أيها المؤمن المطمئن إلى ما يخبر الله به أن تؤمن أن الله يزن الأعمال، ويميز لكل عمل مقداره، ولا تسل: كيف يزن؟ ولا كيف يقدر؟ فهو أعلم بغيبه، والله يعلم وأنتم لا تعلمون"3. هذه بعض الأمثلة على توقف رجال المدرسة العقلية الاجتماعية عن الإطناب فيما أبهمه القرآن الكريم مما لا طائل في معرفته.   1 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص7. 2 سورة القارعة: الآيتين 6، 7. 3 جزء عم: محمد عبده ص145، 146. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 775 الأساس العاشر: الإصلاح الاجتماعي مدخل ... الأساس العاشر: الإصلاح الاجتماعي وبلغت منزلة هذا الأساس ودرجتُه عند رجال المدرسة العقلية الاجتماعية أن أصبح كالأساس الثالث -تحكيم العقل- صفة من صفاتهم التي بها يُعرفون وإليها يُنسبون؛ حتى أضيف إلى اسم المدرسة؛ فعرفت بالمدرسة العقلية الاجتماعية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 775 ذلكم أن رجال المدرسة وهم يواجهون أو يعاصرون يقظة العالم الإسلامي الذي انبهرت طائفة منه بمعالم الحضارة الغربية اتجهوا كغيرهم من المصلحين إلى تلمس السبيل الأمثل لإصلاح المجتمع الإسلامي وَفْقَ أحكام الشريعة الإسلامية؛ بحيث تسبق هذه الأمة أمة الغرب أو تلحق بها مع التزامها لمبادئ دينها. وهي مهمة غير ميسرة تحف بها العقبات، وتحيط بها المتاهات، وتزيغ بها الأهواء، وتلتبس بها السبل، فإن أحاط صاحبها نفسه بنور القرآن الكريم، ولم يَحِدْ عن نوره يَمْنَةً أو يَسْرَةً لم يزل على جادة الحق حتى ينجو وينجِّي، وإلا هلك وأهلك. لا عجب أن يكون القرآن الكريم هو النبراس في دياجير الظلام؛ فقد وصفه منزله -عز شأنه- بقوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} 1. ولا عجب أن يكون القرآن الكريم هو الهداية {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} 2. ولا عجب أن يكون القرآن الكريم هو النور؛ فقد أنزله الله كذلك {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} 3. والتاريخ شاهد للقرآن بهذا؛ فليتأمل المتأمل في تاريخ المسلمين، وينظر إلى تلك الروح التي سرت في جسد الأمة الإسلامية في القرن الأول ما إن أشرقت أول شعاعة لهذا القرآن الكريم من غار حراء إلا والقلوب تأوي إليه والأفئدة تهفو إليه، وإذا بالفرد قد أصبح جماعة، وإذا بالجماعة قد أصبحت أمة، وإذا بالأمة قد أصبحت أممًا حتى خاطب حاكمها سحابة في عِنَانِ السماء: أيتها السحابة أمطري حيث شئت، فإن خراجك سيأتي إليَّ.   1 سورة إبراهيم: الآية الأولى. 2 سورة الإسراء: من الآية 9. 3 سورة النساء: من الآية 174. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 776 كانت هذه الأمة أمة مستذلة قبل أن يسري فيها نور القرآن، كانت تقول: "للبيت رب يحميه"، وما إن أشرق فيها نوره حتى صارت جنود مَن يحميه؛ بل لم تقف موقف الحماية؛ فهبت لتاج كسرى الوثني تلقيه، ولتاج قيصر الرومي تحطمه وترميه؛ حتى لا يقف حاجزًا لهذا النور، فليس هو لأمة دون أمة ولا لأرض دون أرض؛ إذًا فليفسح له السبيل، وليفتح له الطريق؛ حتى تشرق الأرض بنور ربها، وهكذا كان. أشرق النور وانجلت الظلمات فصار الناس يرون الحق والسبيل السوي فيسلكونه، ويرون الباطل وطريق الضلال فيجتنبونه، نعموا بالعدل، وما أدراك ما هو؛ فقد بسطه نبي هذه الأمة، وما زالت كلمته تجلجل "والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها"، وبسطه خلفه مَن بعده حتى قال خليفتهم: والله لو عثرت شاة في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها: لِمَ لَمْ أمهد لها الطريق، قال ذلك في منتهى إدرك المسئولية على عاتقه. ونعموا بالأمن فلا يضيع دم أحد هدرًا، حتى ولو اشترك أهل صنعاء في قتله، ولا يضيع مال حتى تقطع يد لنصف دينار منه، ولا يضيع شرف حتى يجلد صاحب كلمة تخدشه، أو ترجم نفس تنتهكه، أو تقطع أيدي وأرجل اعتدت عليها، ولن يُهدر سن ولا عين ولا جرح ولا شَعَرَة حتى يقاد لصاحبها ويقتص. أي أمن هذا؟! وأي سلام؟! إنه أمن الإيمان، وسلامة الإسلام، الذي عجزت وتعجز أن تدانيه آية قوانين مستحدَثة، وآية أنظمة وضعية. إذًا، فلا عجب أن يكون ذلكم الكتاب الكريم شاملًا لصلاح الدنيا وسعادة الاخرة، ولا عجب أبدًا أن يكون ملاذ المصلحين ودستور الحاكمين ومنار المهتدين، إليه يأوي أولئك يستمدون منه قواعد الإصلاح الاجتماعي وأسسه، وإليه يأوي هؤلاء الحاكمون يستمدون منه أصول الحكم الإسلامي، وإرساء قواعد الدولة الإسلامية، ويأوي إليه المهتدون ينعمون بفييء ظلاله وأمن جواره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 777 كنت أقول: إن التاريخ شاهد على ما ذكرنا، وإنه شاهد -لا أشك في شهادته- أن الأمة الإسلامية تقوى بتمسكها به، وتضعف بتركها له أو إعراضها عنه. سادت الدولة الإسلامية أرجاء واسعة من الأرض، بسطت عليها سلطتها، وأرست دعائم حُكْمها العادل، ثم ضعف تمكسها بالقرآن الكريم وأحكامه؛ فما لبثت أن بدأت تتهاوَى وتسقط الواحدة تلو الأخرى؛ حتى أصبحت غثاء كغثاء السيل، وحتى تداعت عليها الأمم كتداعي الأكلة على قصعتها. حتى أفاق العالم الإسلامي من نومته، واستيقظ من غفلته؛ فإذا به مكبلًا مقيدًا يبغي الفكاك، شمرت طائفة من العلماء عن سواعدها داعية إلى سبيل السلامة وما فيه النجاة، والتفتوا إلى القرآن الكريم يرسلون أنواره في زوايا الظلمات؛ حتى يكشفوا ما فيه هلاكهم فيحذروه، وما في نجاتهم فيسلكوه. أرسلوا هذا النور القرآني إلى عادات باطلة صارت عقائد راسخة، وإلى عقائد أصيلة أصبحت في عالم النسيان، نبهوا المسلمين إلى عدوهم الحقيقي ليحذروه، ودعوهم إلى الإسلام وتحكيم مبادئه وترسيخ أصوله. وكان من هؤلاء رجال المدرسة العقلية الاجتماعية، الذين شاء الله أن يعيشوا -أو كثير- منهم تلك الفترة؛ فقاموا حسب طاقتهم وجُهْدهم بهذه المهمة؛ فخاضوا في شتى القضايا، وبسطوا كثيرًا من الإصلاحات، وكان لهم شأن البشر حسنات وكان لهم غيرها. اتجهوا إلى تفسير القرآن الكريم يطبقونه على مجتمعهم، فإن جاء ذكر عمل محمود أشادوا به ودعوا إلى امتثاله، وإن جاء ذكر عمل مذموم شنئوه وحذروا الناس منه؛ فكان هذا -وهو كذلك- هو المدخل الصحيح للمصلح الاجتماعي. كانت القضايا الاجتماعية لا تكاد تحد ولا تعد، بدءًا من الحكومة الإسلامية والقواعد التي تقوم عليها، ومرورًا بالوَحْدَة الإسلامية والحرية الفردية والحرية السياسية وحرية العقيدة، ثم إصلاح العقائد من الخرافات والأوهام التي ألصقت بها إلصاقًا، ثم إصلاح التعليم وما أدراك ما التعليم! ثم إصلاح الاقتصاد عامة، ونشر الاقتصاد الإسلامي خاصة، ثم القضية التي يسمونها قضية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 778 المرأة، ما لها وما عليها، ما تطلبه وما يطلب منها، شغلت الناس حينًا من الدهر وما زالت، ثم قضايا التربية الإسلامية والالتزام بمبادئه التهذيبية كالأمانة والصدق والصبر، مما يهذب النفس الإسلامية، ويصبغها بمثله ومبادئه، ثم قضايا الخمر والزنا والسرقة، وبيان آثارها وأضرارها في المجتمع. ولا أظن القلم سيتوقف من قريب إن ذهبت أُعدِّد -مجرد تَعداد- القضايا الاجتماعية في تلك الفترة، حتى إنه لا يخلو تفسير آية من آيات القرآن الكريم من ألف مدخل ومدخل إلى قضية من تلكم القضايا. وقد جد رجال المدرسة العقلية الاجتماعية في أن يلتزموا عند تفسير كل آية ما يتعلق بالإصلاح الاجتماعي، ويتخذوا منها مدخلًا إلى الإصلاح؛ حتى وُصف أستاذ هذه المدرسة ضمن أوصافه بـ"المصلح الاجتماعي". وليس علينا ونحن نعرض هنا التزامهم لهذا الجانب في التفسير أن نعرض لكل الجوانب الإصلاحية ولا لأكثرها؛ فلنعرض إذًا لبعض جوانب الإصلاح الاجتماعي مما يُثبت سلوكهم إياه وعملهم به؛ حتى صار أساسًا من أسس تفسيرهم؛ بل صفة تطلق عليهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 779 الحريَّة: وحين نطلق -نحن المسلمين- لفظ الحرية فإنا لا نعني بها ذلك المفهوم الغربي؛ بمعنى التجرد من الدين والمبادئ؛ بل التحرر من سلطان ورجال الكنيسة في العصور الوسطى، ومن سلطان الإقطاعيين والفكر الأجوف والتقليد الأعمى، فتلك الحرية نتاج فكر لا وجود له في الإسلام، وبالتبع فليست تلك الحرية من مقاصد الإسلام. فلقد بوأ الإسلام الحرية منزلة لا تدعوها إلى الهجوم عليه؛ لأنها نابعة منه وقائمة عليه، فكيف تثور الحرية على قاعدتها الراسخة، تشعبت الحرية في الإسلام، ورسخت فيه عروقها؛ فصارت ماءه الذي تشربه، وهواءه الذي تتنفسه، خذ من تلك الشعب إن شئت: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 779 الحرية في العقيدة: فقد أعلنها الإسلام صريحة {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} 1، قال الشيخ محمد عبده في تفسيرها: " {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قاعدة كبرى من قواعد دين الإسلام، وركن عظيم من أركان سياسته، فهو لا يجيز إكراه أحد على الدخول فيه، ولا يسمح لأحد أن يُكره أحدًا من أهله على الخروج منه؛ وإنما نكون متمكنين من إقامة هذا الركن وحفظ هذه القاعدة إذا كنا أصحاب قوة ومنعة، نحمي بها ديننا وأنفسنا ممن يحاول فتنتنا في ديننا اعتداء علينا بما هو آمن أن نعتدي بمثله عليه، إذًا أمرنا أن ندعوا إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة، فالجهاد من الدين بهذا الاعتبار؛ أي: أنه ليس من جوهره ومقاصده؛ وإنما هو سياج له وجنة، فهو أمر سياسي لازم له للضرورة"2. وزاد الأستاذ محمد رشيد رضا وضوحًا بقوله: "ولكن قد يرد علينا أننا قد أمرنا بالقتال"، ثم يجيب على هذا بقوله: "إن الإكراه ممنوع، وإن العمدة في دعوة الدين بيانه حتى يتبين الرشد من الغي، وإن الناس مخيرون بعد ذلك في قبوله وتركه، شرع القتال لتأمين الدعوة ولكف شر الكافرين عن المؤمنين؛ لكيلا يزعزعوا ضعيفهم قبل أن تتمكن الهداية من قلبه، ويقهروا قويهم بفتنته عن دينه كما كان يفعلون في مكة جهرًا؛ ولذلك قال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} 3، 4. ومما يتصل بحرية العقيدة حرية الجدل الديني ما دام جدالًا بالتي هي أحسن، فقد قال الأستاذ محمد فريد وجدي في تفسير قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} 5: "ولا تجادلوا أهل   1 سورة البقرة: من الآية 256. 2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص37. 3 سورة البقرة: من الآية 193. 4 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص39. 5 سورة العنكبوت: من الآية 46. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 780 الكتاب إلا بالخصلة التي هي أحسن الخصال؛ كمقابلة خشونتهم باللين، وشغبهم بالنصح، إلا الذين ظلموا منهم بالإفراط في الاعتداء"1. وحرية من العبودية لغير الله: فالأصل في الإنسان حريته من العبودية إلا الله سبحانه وتعالى، وهذا يذكِّرنا بقول عمر -رضي الله عنه- مستنكرًا: "ومتى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ ". ولذلك حث الإسلام على العتق وتحرير الأرقاء، قال الشيخ محمد عبده في تفسيره قوله تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ} 2: "وفك الرقبة عتقها أو المعاونة عليه، وقد ورد في فضل العتق ما بلغ معناه حد التواتر، فضلًا عما ورد في الكتاب، وهو يرشد إلى ميل الإسلام إلى الحرية وجفوته للأَسْرِ والعبودية"3. حرية سياسية: فشرع الشورى، قال السيد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} 4: "وشاورهم في الأمر العام الذي هو سياسة الأمة في الحرب والسلم والخوف والأمن وغير ذلك من مصالحهم الدنيوية؛ أي: دم على المشاورة وواظب عليها، كما فعلت قبل الحرب في هذه الواقعة -غزوة أحد- وأن أخطئوا الرأي فيها فإن الخير كل الخير في تربيتهم على المشاورة بالعمل دون العمل برأي الرئيس وإن كان صوابًا؛ لما في ذلك من النفع لهم في مستقبل حكومتهم إن أقاموا هذا الركن العظيم "المشاورة"، فإن الجمهور أبعد عن الخطأ من الفرد في الأكثر، والخطر على الأمة في تفويض أمرها إلى الرجل الواحد أشد وأكبر، قال الأستاذ الإمام:   1 المصحف المفسر: محمد فريد وجدي ص537. 2 سورة البلد: الآيات 11-13. 3 تفسير جزء عم: محمد عبده ص89. 4 سورة آل عمران: من الآية 159. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 781 ليس من السهل أن يشاور الإنسان ولا أن يشير، وإذا كان المستشارون كثارًا كثر النزاع وتشعب الرأي، ولهذه الصعوبة والوعورة أَمَرَ الله تعالى نبيه أن يقرر سُنة المشاورة في هذه الأمة بالعمل؛ فكان يستشير أصحابه بغاية اللطف، ويصغى إلى كل قول، ويرجع عن رأيه إلى رأيهم"1. ويعلل عدم وضع الرسول صلى الله عليه وسلم قاعدة ونظامًا للشورى بحِكَم وأسباب؛ منها: أ- أن هذا الأمر يختلف باختلاف أحوال الأمة الاجتماعية في الزمان والمكان. ب- أن النبي صلى الله عليه وسلم لو وضع قواعد مؤقتة للشورى بحسب حاجة ذلك الزمن لاتخذها المسلمون دينًا، وحاولوا العمل بها في كل زمان ومكان، وما هي من أمر الدين. ج- ومنها أنه لو وضع تلك القواعد من نفسه عليه الصلاة والسلام لكان غير عامل بالشورى، وذلك محال في حقه؛ لأنه معصوم من مخالفة أمر الله، ولو وضعها بمشاورة مَن معه من المسلمين لقرر فيها رأي الأكثرين منهم، كما فعل في الخروج إلى أُحُد، وقد تقدم أن رأي الأكثرين كان خطأ ومخالفًا لرأيه صلى الله عليه وسلم، أليس تركها للأمة تقرر في كل زمان ما يؤهلها له استعدادها هو الأحكم2. كانت تلكم بعض جوانب الحرية في الإسلام، نبه إليها رجال المدرسة العقلية الاجتماعية، ودعوا إلى إصلاح الأوضاع الاجتماعية على ضوئها.   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج4 ص199، 200. 2 المرجع السابق: ج4 ص201، 202. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 782 التحذير من البدع والمنكرات في العقائد : وهذا السبيل في الإصلاح منتشر في تفاسيرهم وبكثرة، كيف لا وقد كانت العقائد الإسلامية في عصرهم يشوبها كثير من البدع والخرافات التي ابتدعها المبتدعون ما أنزل الله بها من سلطان. انتشر بين المسلمين تقديس الأولياء، والتمسح بعتباتهم، ولزوم المقابر، ودعاء الأموات، والذبح لغير الله، بله العقائد المنحرفة والملل الملحدة. وحذر رجال المدرسة الاجتماعية المسلمين مما وقع فيه أكثرهم من البدع والمنكرات؛ كتقديس الأولياء، والذبح عند قبورهم، ودعائهم لهم، واستغاثتهم واستعانتهم بهم، ففي قوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} 1 قال السيد رشيد: "إن الصالحين المصلحين في الأرض هم الذين يحفظ الله بهم الأمم من الهلاك ما داموا يطاعون فيها بحسب سنة الله، وقد فهم الوعاظ والفقهاء من خلفنا الجاهل خلاف ما كان يفهمه السلف الصالح من بركة الصالحين المتقدمين، وحفظ الله الأمم بهم؛ فظنوا أن المراد بهم الذين يكثرون من الصيام والقيام وقراءة الأوراد والأحزاب. كلا، إن من أصحاب الأوراد من يقوم ليلة بورد من تشريع مبتدع هو به عاصٍ لله تعالى؛ لعبادته بغير ما شرعه، فكان مما قال فيهم: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} 2؛ أي: بهلاكهم. وفي الحديث: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر" 3، كم من مصلٍّ هو مصداق لحديث: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بُعْدًا" 4، وكذا كان دراويش مهدي السودان وأمثالهم من المسلمين الجاهلين لهداية القرآن، فنكل بهم الإفرنج بمساعدة الفاسقين من المسلمين واستولوا على بلادهم، وقد علمنا من أخبار المهدي أنه كان على علم وبصيرة في صلاحه؛ ولكن قواده لم يكونوا بعده مثله، وصلاح دراويشه لا بصيرة فيه ولا علم"5.   1 سورة هود: من الآية 116. 2 سورة الشورى: من الآية 21. 3 قال محمد رشيد رضا معلقًا: "رواه ابن ماجه بهذا اللفظ، وأحمد والحاكم بتقديم وتأخير". 4 قال محمد رشيد رضا معلقًا: "رواه أحمد في الزهد عن ابن مسعود موقوفًا، وابن جرير عنه مرفوعًا". 5 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج12 ص244، 245. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 783 وهذا الشيخ أحمد مصطفى المراغي يستدل بقوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} 1 على "أن سماع هذا الوعيد وأشباهه يُوجب على المؤمن أن يفكر طويلًا ويتأمل فيما وصل إليه حال المسلمين اليوم، وكيف أن علماءهم يجارون العامة في بدعهم وضلالاتهم وهم يعترفون ببعدها عن الدين، ولا يكون لهم وازع من نواهيه وقوارعه الشديدة وزواجره التي تخر لها الجبال سجدًا"2. وأكد هذا الشيخ محمد عبده بتفسيره الآية نفسها بقوله: "نقرأ هذا التشديد والوعيد، ونسمعه من القارئين، ولا نزدجر عن اتباع أهواء الناس ومجاراتهم على بدعهم وضلالتهم؛ حتى أنك ترى الذين يشكون في هذه البدع والأهواء، ويعترفون ببعدها عن الدين، يجارون أهلها عليها، ويمازجونهم فيها، وإذا قيل لهم في ذلك قالوا: ماذا نعمل؟ ما في اليد حيلة، العامة عمى، آخر زمان. وأمثال هذه الكلمات هو جيوش الباطل، تؤيده وتمكنه في الأرض؛ حتى يحل بأهله البلاء، ويكون من الهالكين"3. وقد علق الأستاذ محمد رشيد رضا على تفسير أستاذه هذا بقوله: "وأعجب من هذا الذي ذكره الإمام أنك ترى هؤلاء المعترفين بهذه البدع والأهواء ينكرون على منكرها، ويسفهون رأيه، ويعدونه عابثًا أو مجنونًا؛ إذ يحاول ما لا فائدة فيه عندهم، فهم يعرفون المنكر وينكرون المعروف، ويدعون مع ذلك أنهم على شيء من العلم والدين. وأعجب من هذا الأعجب أن منهم مَن يرى أن إزالة هذه المنكرات والبدع ومقاومة هذه الأهواء والفتن جناية على الدين، ويحتج على هذا بأن العامة تحسبها من الدين، فإذا أنكرها العلماء عليهم تزول ثقتهم بالدين كله لا بها خاصة!! وبأنها لا تخلوا من خير يقارنها؛ كالذكر الذي يكون في المواسم   1 سورة البقرة: من الآية 145. 2 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج2 ص12. 3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص18، 19. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 784 والاحتفالات التي تُسمي بالموالد، وكلها بدع ومنكرات، حتى إن الذكر الذي يكون فيها ليس من المعروف في الشرع!! والسبب الصحيح في هذا كله هو محاولة إرضاء الناس بمجاراتهم على أهوائهم وتأويلها لهم، ولولا ذلك لما سكت العالمون بكونها بدعًا ومنكرات عليها؛ إنهم إنما سكتوا بالثمن {اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} 1، وهم مع ذلك يظهرون التعجب من جحود أهل الكتاب للنبي والقرآن، وما كانوا أشد منهم جحودًا، ولا أقوى جمودًا! هذا إيماء إلى اتباع العلماء أهواء العامة بعد ما جاءهم من العلم، وما نزل عليهم في الكتاب من الوعيد عليه، ولو شرح شارح اتباعهم لأهواء السلاطين والأمراء والوجهاء والأغنياء، وكيف يفتونهم ويؤلفون الكتب لهم، ويخترعون الأحكام والحيل الشرعية لأجلهم، وكيف حرموا على الأمة العمل بالكتاب والسنة، وألزموها كتبهم -لظهر لقارئ الشرح كيف أضاع هؤلاء الناس دينهم؛ فسلط الله عليهم مَن لم يكن له عليهم سبيل"2. وفي تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} 3 يتحدث الأستاذ عبد القادر المغربي عن نشأة الوثنية، ثم يقول: "مَن تأمل ما قلناه في مناشئ ظهور الوثنية في البشر، فهم السر في كون الدين الإسلامي يحرم إقامة الصور ونصب التماثيل وتشييد القبور وتجصيصها على رمم العظماء، وفي حديث علي -رضي الله عنه-: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لي: "لا تدع صنمًا إلا طمسته ولا قبرًا إلا سويته" 4، فإن الوثنيين كانوا يتخذون من مواثل القبور والأصنام ذكرى لرجالهم الصالحين، وليست ذكراهم لهم ذكرى عظة واعتبار؛ وإنما هي ذكرى استمداد أسرار واقتباس أنوار واستغراق واستحضار واسترزاق واستمطار والتماس منافع واستكفاء أضرار؛   1 سورة التوبة: من الآية 9. 2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص19. 3 سورة نوح: الآية 23. 4 رواه أحمد ومسلم وأبو داود؛ ولكن بلفظ: "ألا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 785 فَسَدَّ دين الإسلام الذريعة بتحريم هذه المواثل؛ خشية أن تسترهب ضعفاء العقول وتستهويهم، ومن مزالق الوثنية تقربهم وتدنيهم، فلله الإسلام فما أعدله فيما شرع وحكم، وما أوضح نهجه فيما خط لنا من الهداية ورسم"1. وفي قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} 2 الآية، يقول السيد رشيد رضا: "فإذا قيل لهم: إن أصله الغلو في الصالحين -ولا سيما الميتين منهم- واعتقاد تصرفهم في الكون، ودعاؤهم في طلب النفع ودفع الضَّر، وأن مثله أو منه ما كان يُحكى عن مسلمي بخارى: إن شاه نقشبند هو الحامي لها؛ فلن تستطيع الدولة الروسية الاستيلاء عليها، وما كان يُحكى من مسلمي المغرب الأقصى من حماية مولاي إدريس لفاس وسائر المغرب أن تستولي عليها فرنسا أنكروا على القائل أن هذا كذلك، وقالوا: إنما هو توسل بجاه الأولياء عند الله، وليس من المنكر أن يدفعوها بكرامتهم؛ فكرامة الأموات ثابتة كالأحياء. وقد بينا لهم جهلهم هذا بتبدل الأسماء ومخالفتهم لكتاب الله تعالى وسنة رسوله وسيرة السلف الصالح من الأمة في فتوحاتهم وتأسيس ملكهم وحفظه، وخصصنا أخواننا أهل المغرب الأقصى بالإنذار منذ أنشئ المنار، وأرشدناهم إلى تنظيم قواتهم الدفاعية العسكرية، وطلب الضباط له من الدولة العثمانية، وإلى العلوم والفنون المرشدة إلى القوة والثروة والنظام، وإلا ذهبت بلادهم من أيديهم قطعًا، فقال المغوون لهم من أهل الطرائق القدد بلسان حالهم أو مقالهم: إن صاحب المنار معتزلي منكر لكرامات الأولياء، وما هو بمعتزلي ولا أشعري؛ بل هو قرآني سني. وها هي ذي فرانسا استولت على بلادهم كما أنذرهم، وظهر أن أكبر مشايخ الطريق نفوذًا ودعوى للكرامات بالباطل كالتجانية كانوا وما زالوا من خدمة فرانسا ومساعديها على فتح البلاد واستعباد أهلها، أو إخراجهم من دين الإسلام إلى الإلحاد أو النصرانية، من حيث يدرون أو لا يدرون.   1 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص62. 2 سورة هود: من الآية 101. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 786 يجهل أمثال هؤلاء وغيرهم من الذين يظنون أن الشرك بالله تعالى خاص بعبادة الأصنام والأوثان، إن أصل هذا الشرك هو الغلو في تعظيم الصالحين، والتبرك أو التوسل بأشخاصهم؛ لإبطال سنن الله. وأكبر مصائب الإسلام أن افتتان المسلمين بالصالحين الذين اتبعوا فيه سنن مَن قبلهم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قد كان سببًا لإلحاد فريق كبير من الذين يتعلمون علوم العصر، ومنها سنن الخلق والاجتماع ومروقهم من الدين باعتقادهم أن الإسلام دين خرافي هو الذي أضاع ملك المسلمين"1. وفي قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} 2 يجمل لنا السيد رشيد رضا تفسير أستاذه محمد عبده فيقول: "ثم ذكر أن هذا الشرك قد فشا في المسلمين اليوم، وأورد شواهد على ذلك عن المعتقدين الغالين في البدوي "شيخ العرب" والدسوقي وغيرهما لا تحتمل التأويل، وبيَّن أن الذين يؤولون لأمثال هؤلاء إنما يتكلفون الاعتذار لهم لزحزحتهم عن شرك جلي واضح إلى شرك أقل منه جلاء ووضوحًا؛ ولكنه شرك ظاهر على كل حال، وليس هو من الشرك الخفي الذي وردت الأحاديث بالاستعاذة منه، الذي لا يكاد يَسْلَمُ منه إلا الصديقون"3.   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج12 ص246، 247. 2 سورة النساء: من الآية 36. 3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج5 ص83. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 787 الجانب التهذيبي : وعُنِيَ أربابُ المدرسة ببيان الفضيلة ودعوة المجتمع إليها والرذيلة وتحذير المجتمع منها، ففي تفسير قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} 1 يطنب الأستاذ رشيد رضا في بيان حُكْم الصلاة في الإسلام، ثم يقول بعد هذا: "أرأيت هذه الآيات العزيزة والأحاديث الناطقة بالعزيمة، قد   1 سورة البقرة: الآية 238. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 787 نال التأويل منها نيله في الزمن الماضي، وأعرض جماهير المسلمين عنها في الزمن الحاضر؛ حتى كثر التاركون الغافلون والمارقون، وقل عدد المصلين الساهين، وندر المصلون المحافظون؛ ذلك أن الإسلام عند هؤلاء المسلمين الذين يصفون أنفسهم بالمتمدنين قد خرج عن كونه عقيدة دينية إلى كونه جنسية سياسية، آية الاستمساك به والمحافظ عليه والدفاع عنه مدح كبراء حكامه، وإن كانوا لا يقيمون حدوده، ولا ينفذون أحكامه؛ بل رفعوا أنفسهم إلى مرتبة التشريع العام، واستبدال القوانين الوضعية بما نزل الله من الأحكام. ماذا كان من أثر ترك الصلاة والتهاون بالدين في المدن والقرى والمزارع؟ كان من أثره في المدن فشو الفواحش والمنكرات، تجد حانات الخمر ومواخير الفجور والرقص وبيوت القمار غاصة بخاصة الناس وعامتهم، حتى في ليالي رمضان ليالي الذكر والقرآن، وعَبَدَ الناس المال، لا يبالون أجاء من حرام أم من حلال، وانقبضت الأيدي عن أعمال الخير، وانبسطت في أفعال الشر، وزال التعاطف والتراحم، وقلت الثقة من أفراد الأمة بعضهم ببعض؛ فلا يكاد يثق المسلم إلا بالأجنبي، وغير ذلك من فساد الأخلاق وقبح الفعال في الأفراد، وأكبر من ذلك انحلال الروابط الملية؛ بل تقطع أكثرها. المحافظ على هذه الصلاة الفضلى ينتهي عن الفحشاء والمنكر. المحافظ على هذه الصلاة لا يمنع الماعون. المحافظ على هذه الصلاة لا يخلف ولا يلوي في حق غيره عليه. المحافظ على هذه الصلاة لا يضيع حقوق أهله وعياله، ولا حقوق أقاربه وجيرانه، ولا حقوق معامليه وإخوانه. المحافظ على هذه الصلاة يُعظِّم الحق وأهله، ويحتقر الباطل وجنده. المحافظ على هذه الصلاة لا تجزعه النوائب، ولا تفل غرار عزمه المصائب، ولا تبطره النعم، ولا تقطع رجاءه النقم"1. ويحث الإمام محمد عبده على خُلُق الصبر في تفسير قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص440-443، بتلخيص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 788 وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} 1 بقوله: "والصبر خُلُق من أمهات الأخلاق؛ بل مساك كل خلق، قالوا في فضل الصبر: إنه ذُكر في القرآن نحو سبعين مرة، وليس لنا فائدة كبرى في تحديد العدد؛ ولكن جاء في الكتاب العزيز ذكر الصبر ومدح أهله وتبشيرهم بالفوز والفلاح، والصبر مَلَكَةٌ في النفس يتيسر معها احتمال ما يشق احتماله، والرضا بما يكره في سبيل الحق، وهو خُلُق يتعلق به؛ بل يتوقف عليه كمال كل خُلُق، وما أتى الناس من شيء ما أتوا من فقد الصبر أو ضعفه"2. وعن الخصام والرِّشوة يقول السيد رشيد: "وكم من ثروة نفدت، وبيوت خربت، ونفوس أهينت، وجماعة فرقت، وما كان لذلك من سبب إلا الخصام والإدلاء بالمال إلى الحكام، ولو تأدب هؤلاء الناس بآداب الكتاب الذي ينتسبون إليه لكان لهم من هدايته ما يحفظ حقوقهم، ويمنع تقاطعهم وعقوقهم، ويحل فيهم التراحم والتلاحم محل التزاحم والتلاحم"3. وفي بيان أحوال الأمم المقهورة يفسر السيد رشيد رضا قوله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} 4 "ذلك أن الأمم إذا قهرها العدو ونكل بها يفسد بأسها ويغلب عليها الجبن والمهابة، فإذا أراد الله تعالى إحياءها بعد موتها ينفخ رُوح الشجاعة والإقدام في خيارها -وهم الأقلون- فيعملون ما لا يعمله الأكثرون، قال الأستاذ الإمام: وفي الآية من الفوائد الاجتماعية أن الأمم التي تفسد أخلاقها وتضعف، قد تفكر في المدافعة عند الحاجة إليها، وتعزم على القيام بها إذا توفرت شرائطها التي يتخيلونها، على حد قول لشاعر: وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعان وحده والنزالا   1 سورة العصر: من الآية 3. 2 تفسير سورة العصر: محمد عبده ص23، 24. 3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص201. 4 سورة البقرة: من الآية 246. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 789 ثم إذا توافرت الشروط يضعفون ويجبنون ويزعمون أنها غير كافية؛ ليعذروا أنفسهم، وما هم بمعذورين"1. وفي ذم بخس الناس أشياءهم يقول السيد رشيد في تفسير قوله تعالى: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} 2: "وهذه النقيصة فاشية بين الأمم والشعوب في هذا العصر؛ فنجد بعضهم يذم بعضًا وينكر فضله كالأفراد، وترى التجار في عواصم أوربا يغالون من الأسعار للغرباء ما يرخصون لأهل البلاد، وترى بعض الغرباء يستحلون من نهب أموال المصريين بضروب الحيل والتلبيس ما لا يستحلون مثله في معاملة أبناء جلدتهم، وأما المصريون وأمثالهم من الشرقيين كما قال الشاعر: لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا ويا ليتهم يعاملون أنفسهم ومَن تجمعهم معهم أقوى المقومات هذه المعاملة؛ بل يكثر منهم مَن يبخسون أبناء قومهم وملتهم أشياءهم، ويهضمون حقوقهم، ويعظمون الأجنبي ويعطونه فوق حقه؛ وإنما استذلهم للأجانب حُكَّامهم، فَهُم في جملتهم مبخوسون لا باخسون، ومظلومون لا ظالمون، وهم على ذلك مذمومون لا محمودون، ومكفورون لا مشكورون"3. ويتحدث الشيخ أحمد مصطفى المراغي في تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} 4 الآية، عن حكمهما، ثم عن مضار كل منهما، وذكر مضار الخمر الصحية بإفساد المعدة، وفقد شهوة الطعام، ومرض الكبد والكُلَى والسل؛ حتى قال أحد الأطباء: اقفلوا لي نصف الحانات أضمن لكم الاستغناء عن نصف المستشفيات، ثم   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص474. 2 سورة الأعراف: من الآية 85. 3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج8 ص526. 4 سورة البقرة: من الآية 219. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 790 يتحدث عن مضارها العقلية ومضارها المالية، ثم عن مضارها في المجتمع، ووقوع النزاع والخصام بين بعض السكارَى، وبينهم وبين مَن يعاشرهم لأدنى بادرة تصدر من واحد منهم، ويتحدث عن مضارها النفسية من إفشاء الأسرار، ولا سيما إذا كان متصلًا بالحكومات وسياسة الدول وشئونها العسكرية، وعليها يعتمد الجواسيس في نجاحهم في مهامهم التي ندبوا إليها، ويتحدث عن مضارها الدينية، وينتقل إلى ذكر مضار الميسر من أنه يُورث العداوة والبغضاء، ويصد عن ذكر الله، ويفسد الأخلاق، ويخرب البيوت بغتة. ويقول: "وإذا استمر انتشار الخمر والزنا في هذه البلاد -ولا سيما الخمور التي تباع للفقراء، فهي مواد سامة محرقة "سبيرتو" يضاف إليها قليل من الماء والسكر- فليس بالبعيد أن تنقرض الأمة بعد جيلين أو أكثر كما انقرض هنود أمريكا، لا يبقى منهم إلا بعض الأجراء والخدم، فالسكر والزنا مقراضان يقرضان الأمم، وقد شاع حديثًا في مصر ما هو أفتك بالأمة من الخمور، وأقتل لها؛ وهو بعض السموم التي تستعمل حقنًا تحت الجلد أو شمًّا بالأنف كالمورفين والكوكايين والهرويين"1. والحديث عن الأخلاق في الإسلام حديث عن الأخلاق في أسمى معانيها، وما ذكرنا إلا أمثلة قليلة لبعض الجوانب الأخلاقية التي تناولوها في تفاسيرهم لإصلاح المجتمع.   1 تفسير المراغي ج2 ص140-144. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 791 الإصلاح الاقتصادي : وحاول رجال هذه المدرسة إصلاح الاقتصاد في البلاد حسبما فهموه من نصوص القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة؛ فكان لهم صولات وجولات على مستوى الدولة بين الساسة والقادة، وعلى مستوى العامة بين الفلاحين والعمال، وفيما أودعوه في كتبهم من بيان لمزايا الشريعة الإسلامية في إدارة الأموال والطريق السليمة لذلك، وقارنوا بين نظرة الإسلام والسياسة المالية عند اليهود والنصارى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 791 والشيوعية والرأسمالية، وبيَّنوا أن منهج الإسلام هو منهج السلام. "والحق أن الإسلام هو الدين الوسط الجامع بين مصالح الرُّوح والجسد للسيادة في الدنيا والسعادة في الآخرة، فهو وسط بين اليهودية المالية الدنيوية والنصرانية الروحية الزهدية، وأن من مقاصده الإصلاحية في الاجتماع البشري هداية الناس إلى العدل والفضل في أمر المال؛ ليكتفي الناس شر طغيان الأغنياء وذلة الفقراء، ونصوص القرآن والسنة في هذا هي الغاية القصوى في الإصلاح، وهي هادمة لمزاعم هؤلاء المفتاتين على الإسلام بالجهل والهوى. غلا عباد المال من اليهود والإفرنج في جمعه واستغلاله واستعباد الألوف وألوف الألوف من العمال الفقراء به بجعله دولة بينهم، وغلا خصومهم من الاشتراكيين في مقاومتهم ومحاولة جعل الناس فيه شرعًا وجعله بينهم حقًّا شائعًا، فانتهى هذا الغلو بالشيوعية الروسية في عصرنا أن استعبدت أكثر من مائة ألف من البشر، تسخرهم في تنفيذ مذهبها كالأنعام والدواب. ولا منقذ للأمم من هذه الفتنة وعواقبها إلا بدين الإسلام -أعني: بالتدين به والعمل بأحكامه المالية وغيرها- ولا يمكن التزامها بالعمل إلا بإذعان الدين، وقد بدأ عقلاء الإفرنج يشعرون بالحاجة إلى دين معقول يصلح بالتزامه فساد هذه المدينة المادية، ولن يجدوا حاجتهم إلا في دين القرآن وسنة خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام، وأخشى ألا يهتدوا إليه إلا بعد البطشة الكبرى والطامة العظمى؛ وهي حرب التدمير المنتظرة من تنازع البلشفية والرأسمالية، وإنني أذكر هنا أهم أصول الإصلاح الإسلامي في المسألة المالية التي تبتدر فكري وتبدهه فأقول ... "1. ثم ذكر السيد رشيد رضا ما يراه من الأصول الإسلامية لإصلاح المسألة المالية، فعد منها إقرار الملكية الشخصية، وتحريم أكل أموال الناس بالباطل، وتحريم الربا والقمار، ومنع جعل المال دولة بين الأغنياء، والحجر على السفهاء في أموالهم حتى لا يضيعوها، وفرض الزكاة، وفرض نفقة الزوجية والقرابة وإيجاب   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج11 ص29-31. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 792 كفاية المضطر من كل جنس ودين، وجعل بذل المال كفارة لبعض الذنوب، وندب صدقات التطوع والترغيب فيها، وذم الإسراف والتبذير والبخل والشح وإباحة الزينة بشرط اجتناب الإسراف، ومدح القصد والاعتدال في النفقة على النفس والعيال، ثم قال بعد هذا: "أرأيت أمة من الأمم تقيم هذه الأركان ويوجد فيها فقر مدقع أو غرم موجع أو شقاء مفظع؟ "1. وقال في موضع آخر: "فماذا جرى لنا -نحن المسلمين- بعد هذه الوصايا والحكم حتى صرنا أشد الأمم إسرافًا وتبذيرًا، وإضاعة للأموال وجهلًا لطرق الاقتصاد فيها وتثميرها، وإقامة مصالح الأمة بها في هذا الزمن الذي لم يسبق له نظير في أزمنة التاريخ؛ من حيث توقف قيام مصالح الأمم ومرافقها وعظمة شأنها على المال؛ حتى إن الأمم الجاهلة بطرق الاقتصاد التي ليس في أيديها مال كثير قد صارت مستذلة ومستعبدة للأمم الغنية بالبراعة في الكسب والإحسان في الاقتصاد"2. ثم يُرجع السبب في ذلك إلى أولئك "الذين لبَّسوا علينا بلباس الصالحين؛ فنفثوا في الأمة سموم المبالغة في التزهيد، والحث على إنفاق جمع ما تصل إليه اليد؛ وإنما كان يريد أكثرهم إنفاق كسب الكاسبين عليهم، وهم كسالَى لا يكسبون لزعمهم أنهم بحب الله مشغولون"2. وجهود رجال المدرسة العقلية الاجتماعية في إصلاح أحوال البلاد الإسلامية الاقتصادية لا تُنكر، إلا أنه مع هذا وقع منهم ما نرفضه ولا نقره منهم؛ فكان لهم رأي في الربا المحرم، وأن المراد به ما كان أضعافًا مضاعفة، وقد بيَّنا -فيما سبق- ما ذهب إليه الأستاذ الإمام محمد عبده في ذلك، ودعوته إلى إباحة الربا للضرورة الاقتصادية، وزعمه أن تحريم الربا كان السبب في انتقال أموال المسلمين إلى الأجانب بأرباح فاحشة3.   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج11 ص29-31. 2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج4 ص382، 383. 3 تاريخ الأستاذ الإمام: محمد رشيد رضا ج1 ص944، وانظر آخر الأساس الرابع من هذا البحث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 793 قضية المرأة : أحسب أن المرأة مركز الدائرة في المجتمع؛ ذلكم أنها الأم وهي البنت وهي الأخت وهي الزوجة وهي المربية والمعلمة. وأحسب أنها في كل قاعدة تقف عليها لا تخلو من جواذب تجذب إليها جذبًا الرجل والشاب والطفل، فلا عجب إذًا أن يكون لها تأثير قوي في المجتمع، إن صلحت أصلحت، وإن فسدت أفسدت؛ ولذا حث الإسلام على الظفر بذات الدين، وأنها خير متاع الدنيا. ولهذا أيضًا جنَّد الاستعمار جنودَه لإفساد المرأة فيما يُسمى بتحريرها، وتبنَّى وأربابه هذه القضية، وانخدعت بدعوته طائفة، وتبنت فكرته أخرى، وحاربتها البقية الباقية وقليل ما هم. وعاصر رجال المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة فترة طويلة هذه المرحلة، وعاشوا بين متقابلين؛ أولهما: واقع المرأة عامة في تلك الفترة التي طغى عليها الجهل والخرافات، وتخلت عن كثير مما أعطاها الإسلام لا رغبة وإنما إما جهلًا وإما مكرهة، وثانيهما: الدعوات المتطرفة التي أعطتها أكثر من حقها، وجرتها إلى متاهات لا تقوى جبلتها على خوضها ولا تدرك أبعادها، تهلك إن سلكتها، وتضيع إن تبعتها. وجاء المصلحون يريدون الإصلاح والتوفيق، منهم من ثبت لم تهزه الأعاصير ولم يجرفه الطوفان، ومنهم من لم يخلُ بين حين وآخر من رأي غير سديد، وقول غير حكيم، ومدخل غير سوي، أولجه إياه حرصه على أن يقبض بكلتا يديه كلا الفريقين؛ فلم يستطع دركًا، ولم يستطيع ثباتًا. تناول رجال المدرسة الاجتماعية آيات من القرآن الكريم، حاولوا أن يصلحوا على ضوئها، وأن يبثوا من خلال تفسيرها ما يرون فيه إصلاحًا لأوضاع المرأة. قال السيد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 794 مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِين} 1: "أقول: وفي الآية ما ترى من الحكم بمشاركة النساء للرجال في الاجتماع للمباراة القومية والمناضلة الدينية، وهو مبني على اعتبار المرأة كالرجل حتى في الأمور العامة، إلا ما استثني منها؛ ككونها لا تباشر الحرب بنفسها؛ بل يكون حظها من الجهاد خدمة المحاربين كمداوة الجرحى"2. ثم يقول: "فأين هذا من حال نسائنا اليوم ومن اعتقاد جمهورنا فيما ينبغي أن يكن عليه؟ لا علم لهن بحقائق الدين، ولا بما بيننا وبين غيرنا من الخلاف والوفاق، ولا مشاركة للرجال في عمل من الأعمال الدينية ولا الاجتماعية، فهل فرض الإسلام على نساء الأغنياء -لا سيما في المدن- ألا يعرفن غير التطرس والتطرز والتورن3، وعلى نساء الفقراء -لا سيما القرى والبوادي- أن يكن كالأُتُن الحاملة والبقر العاملة؟ وهل حرم على هؤلاء وأولئك علم الدنيا والدين، والاشتراك في شيء من شئون العالمين؟ كلا، بل فسق الرجال عن أمر ربهم؛ فوضعوا النساء في هذا الموضع بحكم قوتهم؛ فصغرت نفوسهن، وهزلت آدابهن، وضعفت ديانتهن، ونحفت إنسانيتهن، وصرن كالدواجن في البيوت أو السوائم في الصحراء. لبث المسلمون على هذا الجهل الفاضح أحقابًا حتى قام فيهم اليوم مَن يعيرهم باحتقار النساء واستعبادهن، ويطالبونهم بتحريرهن ومشاركتهن في العلم والآدب وشئون الحياة، منهم مَن يطالب بهذا اتباعًا لهدى الإسلام وما جاء به من الإصلاح، ومنهم مَن يطالب به تقليدًا لمدينة أوربا، وقد استحسنت الدعوة الأولى بالقول دون العمل، وأجيبت الدعوة الأخرى بالعمل على ذم الأكثرين لها بالقول، فأنشأ المسلمون يعلِّمون بناتهم القراءة والكتابة، وبعض اللغات الأوربية والعزف بآلات اللهو، وبعض أعمال اليد كالخياطة والتطريز؛ ولكن هذا التعليم لا يصحبه شيء من التربية الدينية   1 سورة آل عمران: الآية 61. 2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص323. 3 التطرس: التنوق في الطعام والشراب؛ أي: تحري الأطيب منهما، والتطرز في اللباس: توخي الفاخر النفيس منه، والتورن: المبالغة في التطيب والتنعم، تعليق: السيد رشيد رضا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 795 ولا من إصلاح الأخلاق والعادات؛ بل هو من عوامل الانقلاب الاجتماعي الذي تجهل عاقبته"1. وفي قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} 2 قال الشيخ أحمد مصطفى المراغي: "إن هذا التشريع قد أصلح معاملة الرجل للمرأة، واعترف لها بالكرامة، وأنكر تلك المعاملة القاسية التي كانت تعاملها بها بعض الأمم؛ فقد كان بعضها يعدها كالبهيمة المسخرة لمصلحة الرجل، وبعضها يعدها غير أهل للتكاليف الدينية؛ إذ زعموا أنه ليس لها رُوح خالد، فما زعمه الإفرنج من أنهم السباقون إلى الاعتراف بكرامة المرأة ومساواتها للرجل ليس مبنيًّا على أساس صحيح، فالإسلام هو الذي سبق كل الشرائع في هذا، ولا تزال شرائعهم الدينية والمدنية تميز الرجل عن المرأة. نعم، إن المسلمين قصروا في تعليم النساء وتربيتهن؛ ولكن هذا لا يصلح حجة على الدين نفسه"3. وقال الأستاذ محمد فريد وجدي: "ومما اختص به الإسلام الذهاب في احترام الحقوق الطبيعية للمرأة إلى حدود لم تدر في خيال مشرع مدني إلى اليوم، فالإسلام لم يكلف المرأة وهي زوجة بأي حق تؤديه للرجل غير حفظ عِرْضِه وطاعته في المعروف، باعتبار أنه الرئيس الطبيعي للأسرة. والمرأة المسلمة لا تفقد بزواجها شيئًا من استقلالها المالي؛ فتظل على حريتها في التصرف بمالها وأملاكها. هذا الحق لم تنله المراة الغربية إلى اليوم، فإنها بزواجها تقع -من ناحية تصرفاتها الاقتصادية- تحت وصاية زوجها4. ويرد الشيخ محمود شلتوت على خصوم الإسلام الذين اتخذوا التفاوت بين نصيبي الذكر والأنثى هكذا مطعنا على الإسلام من جهة أن فيه إهدارًا لحق   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص323، 324. 2 سورة آل عمران: من الآية 195. 3 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج4 ص166. 4 الإسلام دين الهداية والإصلاح: محمد فريد وجدي ص175. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 796 بنوة الأنثى المساوية تمامًا في نسبتها إلى المورث لبنوة الذكر، وقالوا: إن هذا من فروع هضم الإسلام حق المرأة، وهي إنسان كالرجل، وفاتهم أن الذكر تتعدد مطالبه، وتكثر تبعاته في الحياة، فهو ينفق على نفسه وعلى زوجه وعلى أبنائه، ومن أصول الشريعة أنه يدفع المهر لمن يريد أن يتزوجها، أما الأنثى فإنها لا تدفع مهرًا، ويلزم زوجها بنفقتها في مأكلها ومشربها ومسكنها وخدمها، وذلك فوق تبعاته العائلية التي لا يلحق الأنثى مثلها، وهذا باب يتضح منه أن نصيب الأنثى في الوضع الإسلامي أعظم وأكثر من نصيب الذكر1. وفي تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} 2 يقول الشيخ محمود شلتوت: "ومن هنا أخذ الفقهاء أن الشريفة مقدَّمة في الزواج على غير الشريفة، وأن حسنة السمعة مقدمة على سيئتها، وفي هذا إيحاء قوي للنساء بأن يعملن جُهْدهن على تحسين سمعتهن، وتحليهن بالأخلاق الفاضلة التي ترغب فيهن الأزواج، ولقد كان لما اتخذته الفتاة لنفسها أو مكنها ولي أمرها من حرية واسعة في هذه الأيام نصيب كبير فيما نرى من أزمة الزواج وإعراض الشباب عنه لما يعلمون عن الفتاة من أخلاق جعلت الزواج في نظرهم بابًا من أبواب الشقاء، فعلى الفتاة وعلى ولي أمرها أن يتدبرا الأمر، فإن عليهما وحدهما تقع تبعة هذه المشلكة، وعليهما أن يعملا على حلها إن أرادا الخير والسعادة"3. فإن كنت قد أطلت -وما أظني إلا وقد فعلت- فإنه يشفع لي أن الموضوع هنا بحر واسع، يزخر بالعديد من الأبحاث التي لا يكاد الباحث يفاضل بينها فيقدم أحدها أو يؤخر غيره. ومع هذا، فإني أعترف بأني قد اختصرت المقال هنا اختصارًا أرجو ألا يكون مخلًّا بالبحث.   1 تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت ص172. 2 سورة النساء: من الآية 25. 3 تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت ص172. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 797 ذلكم أن من القضايا التي ألمحنا إليها ما يحتاج بنفسه لمن أراد التفصيل فيه إلى بحث مستقل. خذ مثلًا المرأة وقضيتها، من أي النواحي أتيتها وجدت الأبحاث حبلى بما دار حولها، إن شئت فمن ناحية المساواة بينها وبين الرجل، وإن شئت فمن ناحية حقوقها في الإسلام، وإن شئت فمن ناحية تعدد الزوجات، وإن شئت فمن الطلاق، وإن شئت فمن جهة عملها ومجالاته، وإن شئت فمن ناحية التعليم، وإن شئت فمن ناحية الحجاب والسفور والاختلاط، وإن شئت .... وإن شئت ... إذًا، فلا عتب إذا ما أطلت الحديث عن هذا لأساس لدى رجال المدرسة العقلية الاجتماعية، ولا عتب إذ ما اختصرت فيه أبحاثه حتى نذكر أنواعًا من الإصلاح الاجتماعي. لكن الذي أجزم به كل الجزم أن المدرسة العقلية الاجتماعية قد تناولت كثيرًا من القضايا الاجتماعية، وبذلت وسعها في نشر ما تعتقد فيه صلاح المجتمع. وقد أصابت الحق في جوانب وأخطأته في أخرى، ونحن هنا نعرض المنهج عرضًا ولا ننقده نقدًا، وإذًا لو فعلنا لاحتاج هذا الأساس وحده لرسالة مستقلة، ولعل لنا في ذلك عذرًا أو بعض عذر. وبعد: هذه أبرز الأسس التي يقوم عليها منهج المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة في التفسير. ولعلنا بعد هذا نعرض أهم مؤلفات رجال المدرسة في التفسير، ثم نختار بعضها كنموذج لتفاسيرهم بعد أن عرضنا منهجهم جميعًا فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 798 أهم مؤلفات المدرسة العقلية الاجتماعية في التفسير مدخل ... أهم مؤلفات المدرسة العقلية الاجتماعية في التفسير: وقد خلَّف رجال المدرسة عددًا لا بأس به من المؤلفات في التفسير. ويدرك المتأمل في مؤلفاتهم في التفسير بروز ظواهر في تأليفها؛ أولها: أن بعضهم -كالأستاذ محمد عبده ومحمد مصطفى المراغي وابن باديس- لم يقصدوا التأليف قصدًا، ويكفي أن الأستاذ محمد رشيد رضا قد كابد حتى وافق شيخُه محمد عبده على تفسير القرآن، ونشر تلميذه محمد رشيد رضا له. أما الشيخ محمد مصطفى المراغي، فقد كان تفسيره دروسًا دينية يلقيها في شهر رمضان أمام الملك فاروق الأول في المسجد. وأما الشيخ عبد الحميد بن باديس، فإن تفسيره هو تلك الافتتاحيات التي كان ينشرها الشيخ في مجلة الشهاب في الجزائر، جمعها من بعده بعض تلاميذه. والظاهرة الثانية: أنه لم يكمل التفسير من رجال المدرسة إلا الشيخ أحمد مصطفى المراغي في 10 مجلدات، والأستاذ محمد فريد وجدي في مجلد واحد. وثالثة الظواهر: أن غالبهم لم يقصد تأليف تفسير شامل للقرآن، فقد كانوا يختارون آيات معينة، أو سورًا محدودة، أو جزءًا خاصًّا للتفسير، فلم يبدأ أحد منهم القرآن من أوله إلا الشيخ محمد عبده ولم يتمه، وأحمد مصطفى المراغي ومحمد فريد وجدي وأتماه، ومحمود شلتوت ولم يتمه. ومع بدو هذه الظواهر في تلكم المؤلفات إلا أنها لاقت صدى واسعًا بين المسلمين، وبغض النظر عمَّا لهذه التفاسير وما عليها إلا أنها لاقت منزلة عند أرباب الثقافة في العصر الحديث. وسنذكر هنا أهم مؤلفاتهم إجمالًا، ثم نفرد بعضها بدراسة خاصة أوسع كنموذج لمؤلفاتهم في التفسير بعد أن تناولنا منهجهم فيه. 1- تفسير القرآن الحكيم، المعروف بـ"تفسير المنار". تأليف: السيد محمد رشيد رضا، وسنفرد الحديث عنه إن شاء الله. 2- تفسير جزء عم. للأستاذ الإمام محمد عبده، عدد صفحاته 185، وقد طُبع عدة طبعات؛ أولها في القاهرة سنة 1322. 3 تفسير سورة العصر. للأستاذ الإمام محمد عبده، عدد صفحاته 92 القطع الصغير، أما تفسير السورة فيخصه 54 صفحة، وأما باقيه فدرس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 799 عام في العلم الإسلامي والتعليم، وقد طُبع أيضًا هذا التفسير عدة طبعات؛ أولها سنة 1321. وهذا التفسير وليد اقتراح بعض العلماء في الجزائر على الأستاذ الإمام أيام كان عندهم أن يقرأ لهم درسًا عامًّا، يستفيدون منه ويتحقق به تلقيهم عنه؛ ففسر لهم سورة العصر، ثم نشرته مجلة المنار، ثم طبع مستقلًّا. 4- فاتحة الكتاب. للأستاذ الإمام محمد عبده، وعدد صفحاته 47 القطع الكبير، وطبع بالقاهرة سنة 1319، ثم طبع الطبعة الثانية سنة 1382 بالقاهرة، وهي مفردة من تفسير المنار. 5- تفسير الفاتحة وست سور من خواتيم القرآن "العصر، الكوثر، الكافرون، الإخلاص، المعوذتين". تأليف: السيد محمد رشيد رضا، وعدد صفحاته 237، أما تفسير الفاتحة فمن تفسير المنار، وأما تفسير سورة العصر فهو للأستاذ محمد عبده الذي أشرنا إليه، وطُبع ضمن هذا التفسير خمس آثارات للأستاذ الإمام في التوسل والتوحيد ومشكلات التفسير، محاضرة في العلم والتعليم، وصدرت الطبعة الثانية من دار المنار سنة 1367. 6- الدروس الدينية لسنة 1357. للأستاذ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر، وعدد صفحاته 31، ويحتوي على درسين ألقاهما الشيخ المراغي أمام الملك فاروق الأول: أولهما: في المسجد الزينبي وهو تفسير لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} الآيات، إلى قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} الآية. وثانيهما: في مسجد البوصيري بالإسكندرية أمام الملك أيضًا، وفي تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} إلى آخر الآية 29 من سورة الأنفال، وقد طبع هذا التفسير بمطبعة الأزهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 800 7- الدروس الدينية لسنة 1361. له أيضًا، وعدد صفحاته 28، ويحتوي على ثلاثة دروس: الدرس الأول: تفسير قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} إلخ سورة الأنعام. الدرس الثاني: في تفسير قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ، إلى قوله تعالى: {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون} [الآيات 199-203، الأعراف] . الدرس الثالث: تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُون} ، إلى قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [الآيات 30-36، فصلت] . وطبع أيضًا بمطبعة الأزهر. 8- تفسير سورة الحجرات. له أيضًا، وذلك في ثلاثة دروس ألقاها الشيخ محمد المراغي شيخ الجامع الأزهر في شهر رمضان سنة 1358 أمام الملك فاروق الأول، وطبع بمطبعة الأزهر، ويقع في 30 صفحة. 9- الدروس الدينية لسنة 1356. له أيضًا، ويحتوي على أربعة دروس: أولها: قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [الآية 177، البقرة] . ثانيها: قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الآيتان 13، 14، الشورى] . رابعها: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُم} [الآيات 151-153، الأنعام] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 801 10- تفسير جزء تبارك. الأستاذ عبد القادر المغربي. وطبع في المطبعة الأميرية سنة 1366، وقام بالتعليق عليها بتكليف من وزارة التربية والتعليم بالقاهرة الأستاذ علي محمد حسب الله، وراجع التفسير الشيخ عطية صقر من علماء المراقبة العامة للثقافة بالأزهر، ويقع هذا التفسير في حوالي 136 صفحة من القطع الكبير، وسيأتي إن شاء الله الحديث عنه. 11- تفسير القرآن الكريم "الأجزاء العشرة الأولى". تأليف: الشيخ محمود شلتوت، وطبع عدة مرات بين يدي الطبعة السادسة سنة 1394، الناشر دار الشروق، ويقع في 659 صفحة. 12- المصحف المفسر. للأستاذ محمد فريد وجدي، وهو تفسير مختصر كامل للقرآن الكريم في مجلد واحد كبير الحجم تبلغ صفحاته 827 صفحة، وجاء التفسير مكتوبًا على هامش القرآن الكريم. 13- تفسير المراغي. تأليف: الشيخ أحمد مصطفى المراغي، وهو تفسير كامل للقرآن الكريم، ويقع في عشرة مجلدات، وطبع أيضًا عدة طبعات، وبين يدي الطبعة الثالثة سنة 1394. 14- تفسير جزء عم. تأليف: محمد المبارك عبد الله، مطبعة: محمد علي صبيح، عدد صفحاته 222 من الحجم الكبير. 15- تفسير ابن باديس "مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير". وهو دروس في التفسير، ألقاها الإمام عبد الحميد بن باديس في مجلد واحد، عدد صفحاته 724، بين يدي الطبعة الثانية، دار الفكر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 802 أولا: تفسير القرآن الكريم المشهور "بتفسير المنار" أولا: المؤلف ... أولًا: تفسير القرآن الحكيم المشهور بـ"تفسير المنار" أولًا: المؤلف هو محمد رشيد بن علي بن رضا بن محمد شمس الدين بن السيد بهاء الدين، ولد يوم الأربعاء 27 جمادى الأولى 1282 في قرية قلمون جنوب طرابلس الشام، والتحق بالمدرسة الوطنية الإسلامية فيها، وبعد إغلاقها لم تنقطع صلته بمنشئها أستاذه حسين الجسر، والتحق بالمدارس الدينية حتى نال الشهادة العالمية. وقد تأثر الأستاذ محمد رشيد رضا بكتاب إحياء علوم الدين للغزالي، وبمجلة العروة الوثقى التي كان يصدرها من باريس جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. وقد اتصل السيد رشيد بشيخه محمد عبده حينما كان الأخير منفيًّا عن مصر؛ فالتقى به مرتين في طرابلس كان نتيجتها إعجاب السيد رشيد بالإمام محمد عبده ورغبته في الاتصال به. وقد كان ذلك الاتصال بعد وصول محمد رشيد رضا إلى القاهرة يوم السبت 23 رجب 1315؛ حيث زاره غداة وصوله في ضحوة الأحد، فكان أول حديث بينهما عن إصلاح الأزهر، وكان أول اقتراح له عليه أن يكتب تفسيرًا للقرآن ينفخ فيه من روحه التي وجد روحها ونورها في مقالات العروة الوثقى، فلم يوافق الإمام على الكتابة؛ فاقترح عليه رشيد أن يقرأ درسًا في التفسير، وأكثر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 803 عليه القول حتى وافق وبدأ الدرس في غرة المحرم سنة 1317، وانتهى منه في منتصف المحرم سنة 1323 عند تفسير قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} [الآية 125، النساء] . فواصل التفسير من بعده تلميذه محمد رشيد رضا حتى الآية 101 من سورة يوسف؛ حيث أتم تفسير سورة يوسف من بعده الأستاذ بهجت البيطار. وكان من أغراض السيد رشيد التي دفعته إلى الانتقال من الشام إلى مصر رغبته في إنشاء صحيفة؛ فصدر العدد الأول من مجلة المنار في 22 شوال سنة 1315، واستمرت في الصدور حتى الجزء الثاني من المجلد الخامس والثلاثين في 29 ربيع الثاني 1354. وقد جعل السيد رشيد رضا مجلته منبرًا للإصلاح؛ فكتب بها، واستكتب علماء العصر وأدباءه، وحذَّر من البدع والخرافات، ودعا إلى إصلاح التعليم، ودعا الناس إلى إنشاء المدارس بأنفسهم؛ لأن المدارس الحكومية في عهده خاضعة للاستعمار مع انتشار المدارس التنصيرية. وكان ينشر في مجلته تفسير أستاذه الإمام محمد عبده قبل أن يطبعه في كتاب خاص. وكان له نشاط في الدعوة؛ حيث أنشأ مدرسة لتخريج الدعاة وإرسالهم إلى أطراف العالم الإسلامي، وكانت تعطي الطالب شهادة مرشد بعد ثلاث سنوات تؤهله للدعوة بين المسلمين، وإذا ما واصل ثلاث سنوات أخرى أصبح داعيًا لغير المسلمين للدخول في الإسلام، وكان لهذه المدرسة أثر كبير في إعداد الدعاة. أما السياسة، فكان أستاذه محمد عبده ينهاه عن الخوض فيها ويحذره، ولما تُوفي الأستاذ دخل السيد رشيد ميدان السياسة جهارًا؛ فنقد الدولة العثمانية، وأنشأ مع العثمانيين المقيمين في القاهرة "جمعية الشورى العثمانية" وتولى رئاستها، وبدأت ترسل منشوراتها السرية إلى سائر أرجاء البلاد العثمانية؛ فأقلق مضاجع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 804 السلطة، إلى أن وقع الانقلاب العثماني، وكان رشيد من الساعين إلى هذا الانقلاب بالخفاء1. أما التأليف، فقد كان فيه من المكثرين، فإضافة إلى نشاطه الكبير في الصحافة فقد كان مهتمًّا بالتأليف، ومن أشهر مؤلفاته: 1- تاريخ الأستاذ الإمام، في ثلاثة مجلدات، وهو أوسع ترجمة للإمام محمد عبده؛ بل أوسع ترجمة لرجل واحد في العصر الحديث فيما أعلم. 2- نداء للجنس اللطيف. 3- الوحي المحمدي. 4- المنار والأزهر. 5- الوَحْدَة الإسلامية. 6- ذكرى المولد النبوي. 7- الخلافة. 8- الوهابيون والحجاز. 9- السنة والشيعة أو الوهابية والرافضة. 10- مناسك الحج. 11- تفسير المنار، وهو موضوع حديثنا هنا. 12- الربا والمعاملات في الإسلام. 13- شبهات النصارى وحجج الإسلام. 14- تفسير الفاتحة وستة سور من خواتيم القرآن. 15- إنجيل برنابا. 16- المسلمون والقبط. 17- فتاوى السيد رشيد رضا. 18- ترجمة القرآن.   1 مجلة المنار: مجلد 4 ص43. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 805 هذه أهم مؤلفات السيد رشيد رضا، وله غيرها من المؤلفات كثير، زد على هذا المقالات والرسائل التي لا تقل عن هذه المؤلفات قيمة وحجمًا. وقد اشتهر السيد محمد رشيد رضا -خاصة بعد وفاة الأستاذ محمد عبده- بميله إلى التفسير بالمأثور، والاهتمام بكتب السلف وطبعها في مطبعة المنار؛ حتى أثار عليه ذلك الخصوم، وحتى سموه بـ"الوهابي"، وقد بذل جُهْدًا كبيرًا في الدفاع عن عقيدة السلف المتمثلة في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكتب مقالات عديدة في الدفاع عنها؛ بل تجاوز ذلك إلى التأليف؛ فأفردها بما سبق ذكره من المؤلفات عن الوهابيين كما يسميهم خصومهم. وفاته: تُوفي السيد رشيد رضا يوم الخميس 23 جمادى الأولى سنة 1354، وتُوفي وهو يقرأ القرآن في السيارة قبل وصوله إلى مصر الجديدة عائدًا من السويس مودعًا الأمير سعود بن عبد العزيز، ودُفن في قرافة المجاورين بجوار أستاذه محمد عبده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 806 ثانيًا: التفسير تفسير القرآن الحكيم "تفسير المنار". قلنا: إن السيد محمد رشيد رضا قد استطاع أن يقنع أستاذه محمد عبده بأن يُلقي دروسًا في تفسير القرآن الكريم، وأنه قد ابتدأ هذه الدروس في غرة المحرم سنة 1317، وكان رشيد رضا يبادر بكتابة تفسير أستاذه ثم نشره في مجلة المنار التي يصدرها محمد رشيد رضا نفسه؛ ولهذا فقد عُرف هذا التفسير بتفسير المنار. ثم بدا له أن ينشره بطبعة مستقلة؛ فبدأ بطبع الجزء الثاني منه، وعلل ذلك بأن الجزء الأول منه كان مختصرًا ولم يلتزم فيه ما التزمه فيما بعده من تفسير جميع عبارات الآيات وذكر نصوصها ممزوجة فيها؛ فاقترح على أستاذه أي يعيد النظر فيه، ويزيد ما يسنح له من زيادة أو إيضاح ففعل، وزاد هو أيضًا زيادات أخرى1.   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص16. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 806 وقد صدر هذا التفسير في اثني عشر مجلدًا متوسطة الحجم، وقد وصل فيه التفسير إلى نهاية الآية 52 من سورة يوسف، وكان السيد رشيد رضا قد تُوفي عند تفسير الآية 101 من السورة نفسها. وجاء من بعده الأستاذ محمد بهجت البيطار، فضم تفسير السورة بعضه إلى بعض وأكمل تفسيرها، وأصدر ذلك كله في كتيب واحد باسم السيد محمد رشيد رضا وعنوانه: "تفسير سورة يوسف عليه السلام"، وصدرت طبعته الأولى سنة 1355، وتبلغ صفحاته 157 صفحة. نماذج من التفسير: وأيها نذكر؟ وأيها ندع؟ والتفسير مليء بالأمثلة في موضوعات شتى، منها ما هو محمود، ومنها ما هو سواه، ونحن حين نورد ما نورد من أمثلة لا نقصد الأخير قصدًا، ولا ما قبله عمدًا؛ فليس حمد تفسيرهم ولا ذمه مرادنا؛ وإنما هو العرض، فإن كان غالبه من هذا أو ذاك فما قصدناه؛ وإنما اخترنا مواضيع حرصنا على تنوعها، وأوردنا فيها أمثلة حرصنا على بيانها ... فمن ذلك: أولًا: الخوارق والمعجزات: وأمر الخوارق قديم، وما يزال الحديث عنها بين مثبت ومنكر، وبين مثبت لحجيتها ومنكر لها. ولا شك أن المعجزات حجة للرجل، لا ينكر هذا إلا خاضع لهوى أو جاهل؛ ولذلك توعَّد الله سبحانه مَن يكفر بعدها بالعذاب الشديد، فحين طلب الحواريون من عيسى -عليه السلام- أن ينزل الله عليهم مائدة من السماء أحس -عليه السلام- بعاقبتها فقال: {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، وحين أصروا قال الله: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} 1. ولأنها حجة وصفها موسى -عليه السلام- بأنها {شَيْءٍ مُبِين} حين أراد   1 انظر: سورة المائدة: الآية 112-115. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 807 أن يظهر حجته عند فرعون وقومه، فقال لفرعون: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ، قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} 1. ولكن المعجزة تلك أمر خارق للعادة، وأمر كهذا يصيب العقل بالدهشة، ويوقفه عند حد لا يستطيع معه اكتناه سرها ومعرفة حقائقها ودقائقها؛ مما يوقف صاحبها عند حد مفترق طرق، إما أن يعرف قصور العقل عن دركها، وأن هذا أمر خارج عن قدرة البشر؛ فيبحث عن منشئه حتى يصل إلى الإيمان بالله تعالى، وإما أن يبقى مصرًّا على أن العقل خُلق ليعرف، وأنه قادر على أن يعرف، لا يعجزه شيء، وما عجز عنه فليس لقصور فيه؛ بل فيما عجز عن دركه؛ إما لعدم ثبوته أو بتأويله بما لا يكون به خارقًا للعادة؛ وبالتبع ليس مدهشًا للعقل. قالت طائفة بذاك، وقالت طائفة بذا، والتمست كل ما ترى لها به متعلقًا لتأويل أو إنكار أو تقليل من شأنها. بل عَدَّ السيد رشيد رضا -عفا الله عنه- مجرد ذكر القرآن الكريم لمعجزات الأنبياء السابقين سببًا لإعراض العلماء والعقلاء "!! " عن الدين الإسلامي والدخول فيه "!! " ولولا رواية القرآن لذلك لكان إقبال أحرار الإفرنج عليه أكثر، واهتداؤهم به أعم وأوسع؛ حيث يقول: "ولولا حكاية القرآن لآيات الله التي أيد بها موسى وعيسى -عليهما السلام- لكان إقبال أحرار الإفرنج عليه أكثر، واهتداؤهم به أعم وأسرع؛ لأن أساسه قد بُنِيَ على العقل والعلم، وموافقة الفطرة البشرية، وتزكية أنفس الأفراد، وترقية مصالح الاجتماع"2. ثم وصف هذه المعجزات وغيرها بقوله: "وأما تلك العجائب الكونية، فهي مثار شبهات وتأويلات كثيرة في روايتها وفي صحتها وفي دلالتها، وأمثال هذه   1 سورة الشعراء: 30-33. 2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج11 ص155، والوحي المحمدي له ص62. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 808 الأمور تقع من أناس كثيرين في كل زمان، والمنقول منها عن صوفية الهنود المسلمين أكثر من المنقول عن العهدين العتيق والجديد وعن مناقب القديسين، وهي من منفرات العلماء عن الدين في هذا العصر"1. ثم انظر حتى يتضح لك مذهبه إلى قوله: "وقد كان أكثر مَن آمن بتلك الآيات إنما خضعت أعناقهم واستخذت أنفسهم لما لا يعقلون له سببًا "!! " وقد انطوت الفطرة على أن كل ما لا يُعرف له سبب فالآتي به مظهر للخالق سبحانه، إن لم يكن هو الخالق نفسه، وكان أضعاف أضعافهم يخضع مثل هذا الخضوع نفسه للسحرة والمشعوذين والدجالين، ولا يزالون كذلك"2. وخذ عبارة أوضح في زعمه أن العقل لا يخضع للمعجزات، قال: "وإن الله تعالى جعل نبوة محمد ورسالته قائمة على قواعد العلم والعقل في ثبوتها وفي موضوعها؛ لأن البشر قد بدءوا يدخلون في سن الرشد والاستقلال النوعي الذي لا يخضع عقل صاحبه فيه لاتباع مَن تصدر عنهم أمور عجيبة مخالفة للنظام المألوف في سنن الكون؛ بل لا يكمل ارتقاؤهم واستعداداهم بذلك؛ بل هو من موانعه"3. وحتى نجلو حقيقة رأيه، فهو يجيز وقوع المعجزة عقلًا، ويجب الإيمان بها على ظاهرها4؛ ولكنها خاصة بما قبل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، أما في عصره عليه الصلاة والسلام "فانتهى بذلك زمن المعجزات، ودخل الإنسان بدين الإسلام في سن الرشد؛ فلم تعد مدهشات الخوارق هي الجاذبة له إلى الإيمان، وتقويم ما يعرض للفطرة من الميل عن الاعتدال في الفكر والأخلاق والأعمال، كما كان في سن الطفولية "النوعية"؛ بل أرشده الله تعالى بالوحي الأخير "القرآن" إلى استعمال عقله في تحصيل الإيمان بالله وبالوحي"4.   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج11 ص155، والوحي المحمدي له ص62. 2 المرجع السابق: ج11 ص160؛ والوحي المحمدي له ص71. 3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج11 ص159، والوحي المحمدي له ص69. 4 المرجع السابق: ج1 ص314، 315. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 809 هذا مجمل رأيه في المعجزات، وآن الأوان لذكر بعضها آحادًا وموقفه منها. معجزات محمد صلى الله عليه وسلم: أما معجزاته عليه الصلاة والسلام فقد أجمل الأستاذ رشيد رضا رأيه فيها، وأراحنا من تتبع أقواله عند كل واحدة منها؛ وذلك حين دافع عن كتاب "حياة محمد" للأستاذ حسين هيكل، وجاء في دفاعه عنه: "أهم ما ينكره الأزهريون والطرقيون على هيكل أو أكثره مسألة المعجزات أو خوارق العادات، وقد حررتها في كتابي الوحي المحمدي من جميع مناحيها ومطاويها في الفصل الثاني وفي المقصد الثاني من الفصل الخامس، بما أثبت به أن القرآن وحده هو حجة الله القطعية على ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالذات، ونبوة غيره من الأنبياء وآياتهم بشهادته لا يمكن في عصرنا إثبات آية إلا بها، وأن الخوارق الكونية شبهة عند علمائه لا حجة؛ لأنها موجودة في زماننا ككل زمان مضى "!! " وأن المفتونين بها هم الخرافيون من جميع الملل، وبينت سبب هذا الافتتان، والفروق بين ما يدخل منها في عموم السنن الكونية والروحية وغيره"1. إحياء الموتى: ومع أنه يعترف بجواز وقوع المعجزة عقلًا، ويخص ذلك بما قبل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، إلا أنه مع هذا كثيرًا ما يؤول المعجزات للأنبياء السابقين بما لا تكون به معجزة، أو بما لا تكون به أمرًا خارقًا؛ ومن ذلكم قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} إلى قوله سبحانه: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ، فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} 2. وخلاصة قصة هذه الآيات أنه كان في بني إسرائيل رجل غني، وليس له ولد، وكان له قريب وارث فقتله ليرثه، ثم ألقاه في الطريق، وطالب قومه بإخراج   1 مجلة المنار: مجلد 34 ج10 ص793 في 3 مايو 1935م. 2 سورة البقرة: الآيات 67-73. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 810 قاتله، فاحتكموا إلى موسى -عليه السلام- فأمرهم أن يذبحوا بقرة -كما ورد في القرآن- ثم ذبحوها، وأمرهم موسى أن يضربوه ببعضها فضربوا فقام وأخبر بقاتله ثم مات؛ فكانت حياته آية لموسى -عليه السلام- وحجة على المعاد. لكن الشيخ رشيد رضا حمل القصة -تبعًا لأستاذه الإمام محمد عبده- على أنها نوع من التشريع الذي كان موجودًا في زمن بني إسرائيل؛ لأجل الوصول إلى معرفة القاتل المجهول في هذه الحادثة وأمثالها، لا على أنها وردت في حادث معين فيه معجزة لموسى -عليه السلام- ودليلهم في هذا ما ورد في التوراة؛ حيث قال الأستاذ الإمام: "على أن هذا الحكم منصوص في التوراة، وهو أنه إذا قتل قتيل لم يُعرف قاتله فالواجب أن تذبح بقرة غير ذلول في واد دائم السيلان، ويغسل جميع شيوخ المدينة القريبة من المقتل أيديهم على العجلة التي كسر عنقها في الوادي، ثم يقولون: إن أيدينا لم تسفك هذا الدم، اغفر لشعبك إسرائيل، ويتمون دعوات يبرأ بها مَن يدخل في هذا العمل من دم القتيل، ومن لم يفعل يتبين أنه القاتل، ويراد بذلك حقن الدماء، فيحتمل أن يكون هذا الحكم هو من بقايا تلك القصة، أو كانت هي السبب فيه، وما هذه بالقصة الوحيدة التي صححها القرآن، ولا هذا الحكم بالحكم الأول الذي حرفوه أو أضاعوه، وأظهره الله تعالى"1. وأيده بهذا الرأي السيد محمد رشيد رضا بقوله: "وأقول: إن ما أشار إليه الأستاذ من حكم التوراة المتعلق بقتل البقرة هو في أول الفصل الحادي والعشرين من سِفْر تثنية الاشتراع"2، ثم ساق السيد رشيد نصه وقال بعده: "والظاهر مما قدمنا أن ذلك العمل كان وسيلة عندهم للفصل في الدماء عند التنازع في القاتل إذا وُجد القتيل قرب بلد ولم يُعرف قاتله ليعرف الجاني من غيره، فمن غسل يده وفعل ما رسم لذلك في الشريعة برئ من الدم ومن لم يفعل ثبتت عليه الجناية"3.   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص347، 348. 2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص347، 348. 3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص351. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 811 وكدت أجد تأويلًا لهذه النصوص بأنهما لا ينكران الحادثة؛ وإنما أثبتا أنه الحكم الشرعي عند بني إسرائيل، ولعله من بقايا تلك القصة أو الحادثة. كدت ألتمس لهما هذا لولا أن الأستاذ رشيد طبق الحكم المزعوم على الآية نفسها، فأخرجها من كونها السبب في الحكم إلى كونها الحكم نفسه؛ حيث قال: "ومعنى إحياء الموتى على هذا حفظ الدماء التي كانت عرضة لأن تسفك؛ بسبب الخلاف في قتل تلك النفس؛ أي يحييها بمثل هذه الأحكام" إلى أن قال: " {وَيُرِيكُمْ آيَاتِه} بما يفصل بها في الخصومات، ويزيل من أسباب الفتن والعداوات، فهو كقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} 1، وأكثر ما يستعمل مثل هذا التعبير في آيات الله في خَلْقه الدالة على صدق رسله"2. ومن هذا يظهر أنهما يقولان بأن الآيات مسوقة لبيان حكم شرعي، لا لبيان حادث تاريخي؛ هو معجزة لموسى -عليه السلام- وقد رد عليهما ردًّا حميدًا في هذا المقام الشيخ محمود شلتوت -رحمه الله تعالى- حيث قال: "إن كلمة {اضْرِبُوه} واضحة في أن يُضرب المقتول ببعض البقرة المذبوحة، وليس في الكلام إشارة تتعلق بالقاتل الخفي، ولا إشارة إلى غسل أيدي أهل الحي من دماء البقرة، وقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} يدل على أن الإحياء المشبه به -وهو الإحياء في هذا المقام- إحياء حقيقي بعد موت تسلب فيه الروح، وليس إحياءً حكميًّا يحصل بمعرفة القاتل والاقتصاص منه حتى يكون بمثابة {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} كما يريد الشيخان، ولو كان الأمر كما يقرران لما صح تقرير إحياء الموتى للبعث والجزاء بهذا النوع من الإحياء الحكمي المجازي، ولو أن قائلًا قال: إن الله يحيي النفوس الجاهلة بالعلم، وكذلك يحيي الموتى من قبورهم؛ لَمَا كان مثل هذا التشبه والقياس سائغًا، وإن قوله تعالى: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِه} لواضح في الإراءة البصرية للآيات الكونية، لا في الإراءة العقلية للأحكام الشريعة؛ حتى   1 سورة النساء: من الآية 105. 2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص351. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 812 يكون من قبيل {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} ، وإن قوله بعد ذلك: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} ليدل على أنهم رأوا حالة مادية من شأنها أن تؤثر في النفوس، ومن شأن القلوب أن ترق لها، وأن تتجرد من القسوة والعناد عندها، ومع ذلك لقد قسوا واشتدت قسوتهم، وكانت قلوبهم كالحجارة أو أشد، وكل هذا لا يتفق، وما يريده الشيخان من حمل الآية على المعنى التشريعي فهذا الحمل تأويل منهما؛ لكنه تأويل لا تساعد عليه اللغة، وما هو المعهود من كلام العرب"1. وقد التمس الشيخ شلتوت لهما عذرًا -وما هو بعذر- حيث قال: "والذي حمل الأستاذ الإمام على هذا -فيما نظن- هو رغبته في التخلص من الاعتراض الذي ذكره بعض المستشرقين، مع وجود النص التشريعي الذي أشار إليه الشيخ بمعناه، ونقله الشيخ رشيد بنصه"2. قلت: ولا أحسب هذا بعذر لهما -عفا الله عنهما- وليتعظ الأحياء من بعدهما. من معجزات عيسى عليه السلام: قال الله سبحانه وتعالى مثبتًا معجزة لعيسى -عليه السلام- أظهرها سبحانه على يديه: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ، وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} 3، وقال سبحانه مثبتًا وقوع هذه المعجزة منه -عليه السلام- بعد إمكانها: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي} 4 الآية.   1 تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت ص44، 45. 2 تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت ص43، 44. 3 سورة آل عمران: الآيتين 48، 49. 4 سورة المائدة: من الآية 110. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 813 فثبت بنص القرآن الكريم وقوع هذه المعجزة لعيسى -عليه السلام- وحصولها منه، ويرى الشيخ محمد عبده وتلميذه السيد رشيد في تفسير آية آل عمران أن هذا يدل على إمكان وقوعها لعيسى -عليه السلام- ولا يدل على وقوعها من غير رجوع إلى آية المائدة، وهما -أيضًا- لا يستندان في نفيهما الوقوع إلى نص من الكتاب أو السنة؛ وإنما إلى عدم تناقل النصارى لهذا "!! " خاصة في الأناجيل القانونية عندهم، أما الأناجيل غير القانونية التي ورد فيها الأخبار بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم، وكون عيسى -عليه السلام- يخلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، ونحو ذلك، فلا قيمة لهذه الأناجيل!! وإنما المستند إلى تلك التي لم يرد فيها شيء من ذلك. ولندع الشيخ عبده يوضح لنا ذلك؛ حيث يقول في تفسير آية آل عمران: "وغاية ما يُفهم منها أن الله تعالى جعل فيه هذا السر؛ ولكن لم يقل: إنه خلق بالفعل، ولم يرد عن المعصوم أن شيئًا من ذلك وقع1. ثم يقول: "فإن قصارى ما تدل عليه العبارة أنه خص بذلك، وأمر بأن يحتج به، والحكمة في إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إقامة الحجة على منكري نبوته كما تقدم، وأما وقوع ذلك كله أو بعضه بالفعل فهو يتوقف على نقل يحتج به في مثل ذلك"1. ويوضح لنا تلميذه النقل الذي يحتج به في مثل ذلك فيقول: "هذا ما قاله الأستاذ الإمام، ومن الغريب أن ابن جرير يروي عن ابن إسحاق "أن عيسى -صلوات الله عليه- جلس يومًا مع غلمان من الكتاب، فأخذ طينًا، ثم قال: أجعل لكم من هذا الطين طائرًا؟ قالوا: وتستطيع ذلك؟ قال: نعم بإذن ربي، ثم هيأه حتى إذا جعله في هيئة الطير فنفخ فيه، ثم قال: كن طائرًا بإذن الله؛ فخرج يطير بين كفيه"، فكأنه اتخذ آية الله على رسالته ألعوبة للصبيان، والحاصل: أنه ليس عندنا نقل صحيح بوقوع خلق الطير؛ بل ولا عند النصارى الذي يتناقلون وقوع سائر الآيات المذكورة في الآية، إلا ما في إنجيل الصبا أو الطفولة من نحو ما قال ابن إسحاق، وهو من الأناجيل غير القانونية عندهم، ولعل آية سورة   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص211. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 814 المائدة أدنى إلى الدلالة على الوقوع من هذه الآية؛ وهي {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ..... } 1 الآية، فإن جعل ذلك كله متعلق النعمة يؤذن بوقوعه إلا أن يقال: إن جعل هذه الآيات مما يجري على يديه عند طلبه، والحاجة إلى تحديه به من أجل النعم وأعظمها؛ ولكن هذا خلاف الظاهر"2. الحمل بعيسى عليه السلام: ووردت النصوص القرآنية التي تحدثت عن الحمل بعيسى -عليه السلام- في سورتي آل عمران ومريم وغيرهما؛ ففي الأولى قال تعالى على لسان مريم- عليها السلام- حين بشرها الله بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُون} 3، وقال تعالى في سورة مريم: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا، قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} 4. ولا شك أن حمل المرأة من غير أن يمسها بشر أمر خارق للعادة، آمن المسلمون به من غير تفصيل لكيفية نشوء الحمل؛ لأنه من الأمور الغيبية التي لا تثبت إلا بالوحي، ولم ينص الوحي على كيفيته؛ فتوقف السلف في ذلك، وأسندوا علمه إلى الله سبحانه وتعالى. وقد حاول السيد رشيد رضا تقريب حمل مريم بعيسى -عليهما السلام- إلى الأذهان بما تكون به هذه الواقعة أمرًا عاديًّا لا إعجاز فيه، وليس فيه آية للناس، وهذا تفسير باطل نرفضه، فكيف إذا كان تأويله بما هو بعيد عن الحقائق متأثرًا بنظريات علمية ثبت بطلانها وزيفها؛ حيث يقول: "وأقول: اعلم أن الكافرين   1 سورة المائدة: الآية 110. 2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص211، 212. 3 سورة آل عمران: الآية 47. 4 سورة مريم: الآيتين 20، 21. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 815 بآيات الله ينكرون الحمل بعيسى من غير أب جمودًا على العادات، وذهولًا عن كيفية ابتداء خَلْق جميع المخلوقات، ولو كان لهم دليل عقلي على استحالة ذلك لكانوا معذورين؛ ولكن لا دليل لهم إلا أن هذا غير معتاد، وهم في كل يوم يرون من شئون الكون ما لم يكن معتادًا من قبل؛ فمنه ما يعرفون له سببًا ويعبرون عنه بالاكتشاف والاختراع، ومنه ما لا يعرفون له سببًا ويعبرون عنه بفلتات الطبيعة. ونحن -معاشر المؤمنين- نقول: إن تلك الأشياء المعبَّر عنها بالفلتات إما أن يكون لها سبب خفي؛ وحينئذ يجب أن تهدي هؤلاء الجامدين إلى أن بعض الأشياء يجوز أن يأتي من غير طريق الأسباب المعروفة، فلا ينكروا كل ما يخالفها لاحتمال أن يكون له سبب خفي لم يقفوا عليه، ولا ينزل أمر عيسى في الحمل به من غير واسطة أب عن ذلك، وإما أن تكون قد وُجدت في الواقع ونفس الأمر خارقة لنظام الأسباب؛ وحينئذ يجب بأن يعترفوا بأن الأسباب الظاهرة المعروفة ليست واجبة وجوبًا عقليًّا مطردًا، وإذا كان الأمر كذلك امتنع على العاقل أن ينكر شيئًا ما ويعده مستحيلًا؛ لأنه لا يعرف له سببًا. ولعل أبناء العصور السابقة كانوا أقرب إلى أن يعذروا بإنكار غير المألوف من أبناء هذا العصر الذي ظهر فيه من أعمال الناس، ما لو حدث به عقلاء الغابرين لعدوه من خرافات الدجالين، ونحن نرى علماء الغرب وفلاسفته متفقين على إمكان التولد الذاتي؛ أي: تولد الحيوان من غير حيوان أو من الجماد، وهم يبحثون ويحاولون أن يصلوا إلى ذلك بتجاربهم، وإذا كان تولد الحيوان من الجماد جائزًا فتولد الحيوان من حيوان واحد أولى بالجواز وأقرب إلى الحصول، نعم، إنه خلاف الأصل، وإن كونه جائزًا لا يقتضي وقوعه بالفعل، ونحن نستدل بوقوعه بالفعل بخبر الوحي الذي قام الدليل على صدقه1. إلا أن تعدي السيد رشيد رضا حدود التفسير وتجاوزه لمنهج السلف يظهر في محاولته تقريب هذه الواقعة إلى السنن المعروفة في نظام الكائنات؛ وذلك بصرفها عن أن تكون خارقة وآية للناس إلى أن تكون غير ذلك؛ حيث يقول: "ويمكن تقريب هذه الآية الإلهية من السنن المعروفة في نظام الكائنات بوجهين:   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص308، 309. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 816 "أحدهما": أن الاعتقاد القوي الذي يستولي على القلب، ويستحوذ على المجموع العصبي، يُحدث في عالم المادة من الآثار ما يكون على خلاف المعتاد، فكم من سليم اعتقد أنه مصاب بمرض كذا، وليس في بدنه شيء من جراثيم هذا المرض، فولد له اعتقاده تلك الجراثيم الحية وصار مريضًا، وكم من امرئ سقي الماء القراح أو نحوه فشربه معتقدًا أنه سُم ناقع فمات مسمومًا به، والحوادث في هذا الباب كثيرة أثبتتها التجارب، وإذا اعتبرنا بها في أمر ولادة المسيح نقول: إن مريم لما بُشرت بأن الله تعالى سيهب لها ولدًا بمحض قدرته وهي على ما هي عليه من صحة الإيمان وقوة اليقين انفعل مزاجها بهذا الاعتقاد انفعالًا فعل في الرحم فعل التلقيح، كما يفعل الاعتقاد القوي في مزاج السليم فيمرض أو يموت، وفي مزاج المريض فيبرأ، وكان نفخ الروح الذي ورد في سورة أخرى متممًا لهذا التأثير. "الوجه الثاني": وهو أقرب إلى الحق وإن كان أخفى وأدق، وبيانه يتوقف على مقدمة وجيزة في تأثير الأرواح في الأشباح؛ وهي أن المخلوقات قسمان: أجسام كثيفة وأرواح لطيفة، وأن اللطيف هو الذي يحدث في الكثيف الحي ما نراه فيه من النمو والحركة والتوالد الذي يكون فيه من النمو أو يكون النمو منه، فلولا الهواء لما عاشت هذه الأحياء، والهواء روح؛ ولذلك كان من أسمائه إذا تحرك الريح، وأصلها رِوح -بكسر الراء- ولأجل الكسر قلبت الواو ياء لتناسبه، والماء الذي منه كل شيء حي مركب من روحين لطيفين، وهو يكاد يكون في حال التركيب وسطًا بين الكثيف واللطيف؛ ولكنه أقرب إلى الثاني، والكهربائية من الأرواح، وناهيك بفعلها في الأشباح. فهذه الموجودات اللطيفة التي سميناها أرواحًا هي التي تحدث معظم التغيُّر الذي نشاهده في الكون؛ حتى إننا قد رأينا في هذا العصر من أسرارها ما لم يكن يخطر على بال أحد من قدماء فلاسفتنا، ويعتقد علماؤنا اليوم أن ما سيظهر منها في المستقبل أَجَلُّ وأعظم، فإذا كان الأمر كذلك في الأرواح التي لا دليل عندنا على أنها تدرك وتريد، فلم لا يجوز أن يكون تأثير الأرواح العاقلة المريدة أعظم". ثم قال: "إذا تمهد هذا فنقول: إن الله المسخر للأرواح المنبثة في الكائنات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 817 قد أرسل روحًا من عنده إلى مريم، فتمثل لها بشرًا ونفخ فيها؛ فأحدثت نفخته التلقيح في رحمها؛ فحملت بعيسى -عليه السلام- وهل حملت إليها تلك النفخة مادة أم لا؟ الله أعلم"1. ولا شك أن التأويل الأول بأن مريم -عليها السلام- اعتقدت اعتقادًا قويًّا فَعَلَ في رحمها فِعْلَ التلقيح، وأن تأثير الاعتقاد القوي أثبتته التجارب الكثيرة تأويل باطل؛ بل هو مفتاح لطريق سهل للبغايا الفاسدات، وليزعمن إذا وقع منهن الحمل أنهن لم يرتكبن جريمة الزنا؛ وإنما وقع منهن هذا الاعتقاد! وما الذي بأيدينا حتى نثبت كذبهن إذا جعلنا هذا الاعتقاد سبيلًا للحمل؟! بل وأي فضل اختصت به مريم وابنها -عليها السلام- بهذا الحمل؟! وأي أمر عجب جعله الله آية للناس إذا كانت التجارب في هذا كثيرة؟! ألا فليُعلم بطلان هذا التأويل وانحرافه. نقول هذا مع أن الشيخ رشيد رضا وصف الوجه الثاني بأنه أقرب إلى الحق؛ ولكنه لم يكتفِ به؛ فكان حقًّا علينا بيانه. رَفْعُ عيسى -عليه السلام- إلى الله سبحانه وتعالى: قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} 2. وجاء نفي قتله -عليه السلام- والإخبار برفعه إلى الله سبحانه وتعالى في قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} 3. لذا فإن المسلمين -خلافًا للنصارى- يعتقدون بأن عيسى -عليه السلام- لم يُقتل ولم يُصلب؛ بل رفعه الله إليه.   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص309، 310. 2 سورة آل عمران: الآية 55. 3 سورة النساء: الآيتين 157، 158. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 818 فقد نفى الله سبحانه وتعالى في الآية الثانية قَتْلَ عيسى -عليه السلام- وأثبت في الآية الأولى وفاته. فهل يعني هذا إثبات الوفاة بدون قتل ولا صلب، أو أن المراد بالوفاة في الآية الأولى معنى آخر؟ ثم ما المراد بالرفع في الآيتين؟ هل المراد به رفع جسمه -عليه السلام- أو رفع مكانته وتشريفه؟ وهل يُفهم هذا الأخير من الآيتين؟ وما الذي أوجب صرف الوفاة عن معناها المتبادر إلى معنى آخر؟ وما الذي أوجب صرف الرفع عند الفريق الآخر عن معناه الحسي إلى معناه المعنوي؟ كل هذا ما يرد في هاتين الآيتين من التساؤل، وكله يرجع إلى الخلاف في المراد بكلمتي الوفاة والرفع، فلنذكر المراد بهما ومعناهما عند السلف. قال الإمام الطبري -رحمه الله تعالى- في تفسيره: "ثم اختلف أهل التأويل في معنى "الوفاة" التي ذكرها الله عز وجل في هذه الآية؛ فقال بعضهم: هي وفاة نوم، وكان معنى الكلام على مذهبهم: إني منيمك ورافعك في نومك". ثم قال: "وقال آخرون: معنى ذلك: إني قابضك من الأرض، فرافعك إلي، قالوا: ومعنى "الوفاة" القبض، كما يقال: توقيت من فلان ما لي عليه؛ بمعنى: قبضته واستوفيته، قالوا: فمعنى قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ} أي: قابضك من الأرض حيًّا إلى جواري، وآخذك إليَّ ما عندي بغير موت، ورافعك من بين المشركين وأهل الكفر بك". ثم قال: "وقال آخرون: معنى ذلك: إني متوفيك وفاة موت". وقال: "وقال آخرون: معنى ذلك: إذ قال الله يا عيسى إني رافعك إليَّ، ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد إنزالي إياك إلى الدنيا". وقال: "هذا من المقدم الذي معناه التأخير، والمؤخر الذي معناه التقديم". قال أبو جعفر1: وأَوْلَى هذه الأقوال بالصحة عندنا قول مَن قال: معنى ذلك: إني قابضك من الأرض ورافعك إليَّ؛ لتواتر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الدجال، ثم يمكث في الأرض   1 يعني: الطبري نفسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 819 مدة ذكرها -اختلفت الرواية في مبلغها- ثم يموت، فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه" 1. ومعنى هذا أن الطبري يقول بأن عيسى -عليه السلام- لم يمت ولم يُقتل ولم يُصلب؛ وإنما قبضه الله إليه حيًّا، ورفعه إليه كذلك، وقد تواترت الأخبار بنزوله بعد هذا إلى الأرض ... إلخ. فهو يستند في تفسيره -رحمه الله تعالى- لهذه الآية إلى القرآن الكريم، وإلى السنة المتواترة، وإلى دلالة اللغة العربية ومفهومها، ولا يميل في تفسيره إلى هوى في نفسه أو مداهنة لغيره، وقال بهذا التفسير علماء السلف كلهم واتفقوا عليه، واستدلوا بالأدلة والحجج القوية والبراهين الساطعة، ولم يقل أحد منهم: إن عيسى رفع ميتًا، حتى الذين فسروا الوفاة بالموت فإنهم ذكروا أنه مات ثلاث ساعات -وقيل في رواية أخرى: سبع ساعات- ثم أحياه الله، وفي مثل هذا القول ضعف2. واستند السلف في تفسيرهم هذا إلى ما يدل عليه القرآن الكريم والسنة المتواترة. فمن القرآن قوله تعالى عن بني إسرائيل: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} 3. فأخبر الله سبحانه وتعالى أنهم ما قتلوه وما صلبوه، وأخبر بأنه سبحانه رَفَعَ عيسى -عليه السلام- إليه. ومما لا شك فيه أن هدف بني إسرائيل هو "وفاة" عيسى -عليه السلام- وهذا متحقق بقتلهم وصلبهم له أو موته، ولا فائدة في نفي القتل والصلب وحصول الموت؛ فتعين انتفاء الثلاثة: القتل والصلب والموت، وإثبات رفعه عليه الصلاة والسلام إلى الله سبحانه وتعالى.   1 تفسير الطبري ج6 ص455-458. 2 فتح القدير للشوكاني ج1 ص345. 3 سورة النساء: الآيتين 157، 158. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 820 وتأويل التوفي في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} 1 بما لا يدل على الموت؛ بل يدل على معنى آخر تبقى معه الحياة، وتدل عليه اللغة العربية؛ كالنوم الذي يسمى بالوفاة في اللغة، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} 2، أو القبض، أو الاستيفاء، ونحو ذلك مما ذكرنا آنفًا. وإنما احتاج المفسرون إلى تأويل الوفاة بما ذكر؛ لأن الصحيح أن الله رفعه إلى السماء من غير وفاة؛ لما صح في الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم من نزول عيسى -عليه السلام- وقتله الدجال3. فقد تواتر في السنة النبوية الشريفة نزول عيسى -عليه السلام- آخر الزمان، وممن حكى التواتر هذا ابن جرير الطبري4 -كما نقلنا عنه آنفًا- والشوكاني في تفسيره5، وابن كثير6، وابن حجر العسقلاني7، وابن عطية الغرناطي الأندلسي في تفسيره8. وأبو الوليد بن رشد9، والسفاريني10، والكتاني11، والشيخ محمد شفيع12   1 سورة آل عمران: الآية 55. 2 سورة الأنعام: من الآية 60. 3 فتح القدير ج1 ص344. 4 تفسير الطبري ج6 ص458. 5 فتح القدير ج1 ص353. 6 تفسير ابن كثير ج1 ص615-621، ج4 ص143. 7 فتح الباري: ابن حجر العسقلاني ج6 ص493، 494. 8 البحر المحيط: لأبي حيان الأندلسي الغرناطي ج2 ص473. 9 إكمال إكمال المعلم "شرح صحيح مسلم" لأبي عبد الله محمد بن خليفة الوشتاني الأبي ج1 ص265. 10 لوامع الأنواع البهية: محمد بن أحمد السفاريني ج2 ص94، 95. 11 نظم المتناثر من الحديث المتواتر: لأبي عبد الله محمد الكتاني ص147. 12 مقدمة التصريح بما تواتر في نزول المسيح: كتبها الشيخ محمد شفيع ص56. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 821 والشيح مصطفى صبري1، وأبو حيان الأندلسي في تفسيره2، والكوثري 3، 4. وقد مهد السيد رشيد رضا لإنكار رفع عيسى -عليه السلام- بالتشكيك في الأحاديث، ليس في صحتها؛ ولكن بأسلوب آخر هو أخطر وأكثر انحرافًا عن جادة الحق والصواب، فحينما التمس شيخنه محمد عبده مخرجًا من هذه الأحاديث بقوله: "ولصاحب هذه الطريقة في حديث الرفع والنزول في آخر الزمان تخريجان: أحدهما: أنه حديث آحاد متعلق بأمر اعتقادي؛ لأنه من أمور الغيب، والأمور الاعتقادية لا يُؤخذ فيها إلا بالقطعي؛ لأن المطلوب فيها هو اليقين، وليس في الباب حديث متواتر. وثانيهما: تأويل نزوله وحكمه في الأرض بغلبة روحه وسر رسالته على الناس"5. حينما قال هذا عقب عليه تلميذه السيد رشيد بقوله: "هذا ما قاله الأستاذ الإمام في الدرس مع بسط وإيضاح؛ ولكن ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك تأباه، ولأهل هذه اتلأويل أن يقولوا: إن هذه الأحاديث قد نُقلت بالمعنى كأكثر الأحاديث، والناقل للمعنى ينقل ما فهمه"5؟! وإنما قلت: إن هذا التأويل من السيد رشيد رضا أخطر وأكثر انحرافًا ممن ينكر التواتر؛ لأن مَن أنكر التواتر إذا صح عنده التواتر عمل به واعتقد، أما مَن زعم أن هذه الأحاديث نُقلت بالمعنى فالتأويل الباطل هو مصيرها في كل ما خالف معتقده ورأيه، سواء كان الدليل متواترًا أو دونه، وحجته أنها رُويت بالمعنى. وإذا ما جئنا إلى تفسير آية آل عمران السابقة وجدنا السيد رشيد رضا يقول في تفسيرها: "والتوفي في اللغة: أخذ الشيء وافيًا تامًّا، ومن ثم استتعمل بمعنى   1 موقف العقل والعلم والعالم: مصطفى صبري ج4 ص247. 2 النهر الماد من البحر: لأبي حيان الأندلسي ج2 ص473، بهامش تفسير البحر المحيط. 3 نظرة عابرة في مزاعم مَن ينكر نزول عيسى عليه السلام: محمد زاهد الكوثري ص36. 4 استفدت في نقل هذه الإشارات لحكاية التواتر من تحقيق شيخنا عبد الفتاح أبو غدة لكتاب التصريح بما تواتر في نزول المسيح ص62-65. 5 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص317. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 822 الإماتة، قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} 1، وقال: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} 2، فالمتبادر3 في الآية: إني مميتك وجاعلك بعد الموت في مكان رفيع عندي، كما قال في إدريس عليه السلام: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} 4، 5. ثم قال: "هذا ما يفهمه القارئ الخالي الذهن من الروايات6 والأقوال؛ لأنه هو المتبادر من العبارة، وقد أيدناه بالشواهد من الآيات؛ ولكن المفسرين7 قد حوَّلوا الكلام عن ظاهره؛ لينطبق على ما أعطتهم الروايات من كون عيسى رفع إلى السماء بجسده، وهاك ما قاله الأستاذ الإمام في ذلك". ثم نقل تأويل الشيخ عبده لهذه الآية بقوله: "يقول بعض المفسرين: {إِنِّي مُتَوَفِّيك} أي: منومك، وبعضهم: إني قابضك من الأرض بروحك وجسدك، {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} بيان لهذا التوفي، وبعضهم: إني أنجيك من هؤلاء المعتدين؛ فلا يتمكنون من قتلك، وأميتك حتف أنفك، ثم أرفعك إليَّ. ونسب هذا القول إلى الجمهور، وقال: للعلماء ههنا طريقتان؛ أحدهما: وهي المشهورة أنه رفع حيًّا بجسمه وروحه، وأنه سينزل في آخر الزمان فيحكم بين الناس بشريعتنا، ثم يتوفاه الله تعالى، ولهم في حياته الثانية على الأرض كلام طويل معروف، وأجاب هؤلاء عما يرد عليهم من مخالفته القرآن في تقديم الرفع على التوفي بأن الواو لا تفيد ترتيبًا، أقول: وفاتهم أن مخالفة الترتيب في الذكر للترتيب في الوجود لا يأتي في الكلام البليغ إلا لنكتة، ولا نكتة هنا لتقديم التوفي على الرفع؛ إذ الرفع هو الأهم لما فيه من البشارة بالنجاة ورفعة المكان "قال"والطريقة الثانية: أن الآية على ظاهرها   1 سورة الزمر: من الآية 42. 2 سورة السجدة: الآية 11. 3 أهمل السيد رشيد المعاني الأخرى للوفاة الواردة في القرآن؛ فقد وردت بمعناها الأصلي الذي أشار إليه وهو أخذ الشيء وافيًا تامًّا {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} [النحل: 111] ووردت بمعنى النوم {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام: 60] ولم يذكر السيد إلا معنى الموت، ثم قال: المتبادر ... إلخ. 4 سورة مريم: الآية 57. 5 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص316. 6 مما يشترط في مفسر القرآن ألا يكون ذهنه خاليًا من الروايات، فكيف بالمتواتر؟! 7 لم يستثنِ أحدًا منهم، وهو اعتراف منه بإحداثهم لما ذهبوا إليه، وشذوذهم فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 823 وأن التوفي على معناه الظاهر المتبادر وهو الإماتة العادية، وأن الرفع يكون بعده وهو رفع الروح، ولا بدع في إطلاق الخطاب على شخص وإرادة روحه؛ فإن الروح هي حقيقة الإنسان، والجسد كالثوب المستعار، فإنه يزيد وينقص ويتغير، والإنسان إنسان لأن روحه هي هي "قال" ولصاحب هذه الطريقة في حديث الرفع والنزول في آخر الزمان تخريجان: أحدهما: أنه حديث آحاد متعلق بأمر اعتقادي؛ لأنه من أمور الغيب، والأمور الاعتقادية لا يُؤخذ فيها إلا بالقطعي؛ لأن المطلوب فيها هو اليقين، وليس في الباب حديث متواتر. وثانيهما: تأويل نزوله وحكمه في الأرض بغلبة روحه وسر رسالته على الناس، وهو ما غلب في تعليمه من الأمر بالرحمة والمحبة والسلم، والأخذ بمقاصد الشريعة دون الوقوف عند ظواهرها، والتمسك بقشورها دون لبابها، وهو حكمتها وما شُرعت لأجله، فالمسيح -عليه السلام- لم يأتِ لليهود بشريعة جديدة؛ ولكنه جاءهم بما يزحزحهم عن الجمود على ظواهر ألفاظ شريعة موسى -عليه السلام- ويوقفهم على فقهها والمراد منها، ويأمرهم بمراعاته وبما يجذيهم إلى عالم الأرواح بتحري كمال الآداب، ولما كان أصحاب الشريعة الأخيرة قد جمدوا على ظواهر ألفاظها؛ بل وألفاظ من كتب فيها معبرًا عن رأيه وفهمه، وكان ذلك مزهقًا لروحها ذاهبًا بحكمتها كان لَا بُدَّ لهم من إصلاح عيسوي يبين لهم أسرار الشريعة ورُوح الدين وأدبه الحقيقي، وكل ذلك مطوي في القرآن الذي حجبوا عنه بالتقليد الذي هو آفة الحق، وعدو الدين في كل زمان، فزمان عيسى -على هذا التأويل- هو الزمان الذي يأخذ الناس فيه بروح الدين والشريعة الإسلامية لإصلاح السرائر من غير تقيد بالرسوم والظواهر"1. والسيد رشيد استند في صرف لفظ الرفع عن معناه الحقيقي إلى معناه المجازي إلى ما حسبه من النصوص مساويًا لقوله تعالى: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 2، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 3؛ فاستدل بقوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} 4، ونحو ذلك.   1 تفسير المنار ج3 ص317. 2 سورة آل عمران: من الآية 55. 3 سورة النساء: من الآية 58. 4 سورة مريم: من الآية 57. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 824 وهذا خطأ ولا شك؛ ذلكم أن رَفْعَ عيسى -عليه السلام- اقترن به الجار والمجرور "إليَّ" و"إليه"، ومرجع الضمير فيهما إلى الله سبحانه وتعالى، فالآيتان صريحتان في رفع عيسى -عليه السلام- إلى الله سبحانه وتعالى، ولم يرد فيما ذكروه من آيات الرفع الأخرى وما لم يذكروه اقتران الرفع بالجار والمجرور "إليه". ونستعيد تلك الآيات للتأكد: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} 1، {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} 2، {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} 3، {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} 4، {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} 5، {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} 6، {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} 7، {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} 8، {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} 9، وغير ذلك من الآيات. ولم يقترن أي منها بـ"إلي" أو "إليه"، وحينما يقترن منها شيء بهذا فإن المعنى -ولا شك- يختلف، وإلا لكانت الزيادة عبثًا يتنزه القرآن عنه، ولم يكن اقترانها خاصًّا برفع عيسى؛ فقد وردت في آية أخرى، قال سبحانه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 10، وهذا -ولا شك- يعطي الرفع قوة خاصة، ومزية خاصة؛ بأن الرفع إليه سبحانه وتعالى لا إلى سواه وهو في السماء. فوجب حمل الرَّفْعِ لعيسى -عليه السلام- على أنه رُفِعَ إلى الله سبحانه   1 سورة مريم: من الآية 57. 2 سورة الشرح: الآية 4. 3 سورة المجادلة: من الآية 11. 4 سورة النور: من الآية 36. 5 سورة الأنعام: من الآية 83، وسورة يوسف: من الآية 76. 6 سورة البقرة: الآية 253. 7 سورة الأعراف: الآية 176. 8 سورة الأنعام: الآية 165. 9 سورة الزخرف: الآية 33. 10 سورة فاطر: من الآية 10. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 825 وتعالى في السماء، وكيف وقد اقترن بهذا الرفع ما يؤيده مما تواتر في سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، وهي المفسرة للقرآن التي لا يصح تناوله بالتفسير مجردًا منها. ثم لو كان المراد من قوله تعالى: {مُتَوَفِّيك} مميتك، ومن قوله: {رَافِعُك} رافع روحك -كما زعموا- "كان القول الثاني مستغنى عنه؛ لأن رفع روح عيسى -عليه السلام- بعد موته إلى ربه -وهو نبي جليل من أنبياء الله- معلوم لا حاجة إلى ذكره1؛ فكان الإخبار برفع رُوحه بعد الإخبار بموته زيادة ينتزه عنها القرآن الكريم. هذه بعض الأمثلة على موقف السيد رشيد رضا في تفسيره -تفسير المنار- من المعجزات والخوارق التي أخبر الله بها عن أنبيائه السابقين في القرآن الكريم. وهو في موقفه هذا يشارك رجال المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة موقفهم من المعجزات، وهو أمر خطير زَلَّ فيه رجال المدرسة، نسأل الله لنا ولهم السلاة من مواقع الزلل. مسألة الخلود في النار: وإضافة إلى موقف السيد رشيد السابق من المعجزات، فله موقف آخر في مسألة خلود مرتكب الكبيرة. برز ذلك عنه تفسيره لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 2: "وقد أَوَّلَ الخلودَ المفسرون لتتفق الآية مع المقرر في العقائد والفقه من كون المعاصي لا تُوجب الخلود في النار، فقال أكثرهم: إن المراد: ومن عاد إلى تحليل الربا   1 موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين، مصطفى صبري ج4 ص178. 2 سورة البقرة: من الآية 275. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 826 واستباحته اعتقادًا، ورده بعضهم بأن الكلام في أكل الربا، وما ذكر عنهم من جمعه كالبيع هو بيان لرأيهم فيه قبل التحريم؛ فهو ليس بمعنى استباحة المحرم، فإذا كان الوعيد قاصرًا على الاعتقاد بحله لا يكون هناك وعيد على أكله بالفعل، والحق أن القرآن فوق ما كتب المتكلمون والفقهاء، يجب إرجاع كل قول في الدين إليه، ولا يجوز تأويل شيء منه ليوافق كلام الناس، وما الوعيد بالخلود هنا إلا كالوعيد بالخلود في آية قَتْلِ العمد، وليس هناك شبهة في اللفظ على إرادة الاستحلال. ومن العجيب أن يجعل الرازي الآية هنا حجة على القائلين بخلود مرتكب الكبيرة في النار؛ انتصارًا لأصحابه الأشاعرة، وخير من هذا التأويل تأويل بعضهم للخلود بطول المكث، أما نحن فنقول: ما كل ما يُسمى إيمانًا يعصم صاحبه من الخلود في النار، الإيمان إيمانان: إيمان لا يعدو التسليم الإجمالي بالدين الذي نشأ فيه المرء أو نسب إليه ومجاراة أهله، ولو بعدم معارضتهم فيما هم عليه، وإيمان هو عبارة عن معرفة صحيحة بالدين عن يقين بالإيمان، متمكنة في العقل بالبرهان، مؤثرة في النفس بمقتضى الإذعان، حاكمة على الإرادة المصرفة للجوارح في الأعمال؛ بحيث يكون صاحبها خاضعًا لسلطانها في كل حال، إلا ما لا يخلو عنه الإنسان من غلبة جهالة أو نسيان، وليس الربا من المعاصي التي تُنسى، أو تغلب النفس عليها خفة الجهالة والطيش كالحدة وثورة الشهوة، أو يقع صاحبها منها في غمرة النسيان كالغيبة والنظرة، فهذا هو الإيمان الذي يعصم صاحبه -بإذن الله- من الخلود في سخط الله؛ ولكنه لا يجتمع مع الإقدام على كبائر الإثم والفواحش عمدًا إيثارًا لحب المال واللذة على دين الله وما فيه من الحكم والمصالح. وأما الإيمان الأول فهو صوري فقط، فلا قيمة له عند الله تعالى؛ لأنه تعالى لا ينظر إلى الصور والأقوال؛ ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال كما ورد في الحديث، والشواهد على هذا الذي قررناه في كتاب الله تعالى كثيرة جدًّا، وهو مذهب السلف الصالح وإن جهله كثير ممن يدعون اتباع السنة؛ حتى جرَّءوا الناس على هدم الدين؛ بناء على أن مدار السعادة على الاعتراف بالدين وإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 827 لم يعمل به؛ حتى صار الناس يتبجحون بارتكاب الموبقات مع الاعتراف بأنها من كبائر ما حرم، كما بلغنا عن بعض كبرائنا أنه قال: إنني لا أنكر أنني آكل الربا؛ ولكنني مسلم أعترف بأنه حرام، وقد فاته أنه يلزمه بهذا القول الاعتراف بأنه من أهل هذا الوعيد، وبأنه يرضى أن يكون محاربًا لله ولرسوله، وظالمًا لنفسه وللناس، كما سيأتي في آية أخرى، فهل يعترف بالملزوم، أم ينكر الوعيد المنصوص، فيؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض؟ نعوذ بالله من الخذلان"1. ولا شك أيضًا أنه جَانَبَ الصواب في هذا؛ لأن النصوص الكثيرة دلت على أن أصحاب الكبائر لا يخلدون في النار؛ وإنما يخلد المشركون دونهم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 2، وقال سبحانه {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 3. وقد وردت أحاديث كثيرة في السنة في بيان عدم خلود أصحاب الكبائر في النار ما داموا غير مشركين، وأنهم يخرجون منها؛ قال الإمام الشوكاني: "والمصير إلى هذا التأويل واجب للأحاديث المتواترة"4، وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: "وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه يخرج مَن النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان" "5. ولهذا أَوَّلَ السلف الخلود في الآية السالفة بأحد تأويلين: أولهما: أن المعنى: ومَن عاد إلى القول بأن البيع مثل الربا فقد استحل ما حرم الله فيكفر فيستحق الخلود. وثانيهما: تأويل الخلود بطول المكث.   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص98، 99. 2 سورة النساء: الآية 48، وأيضًا الآية 116. 3 سورة الزمر: الآية 53. 4 فتح القدير: الشوكاني ج1 ص296. 5 تفسير ابن كثير ج1 ص572. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 828 وليس هذا مقام تقرير ذلك؛ وإنما بيان مخالفته لرأي السلف وموافقته للمدرسة العقلية القديمة المعتزلة في خلود أصحاب الكبائر، والله الهادي. أصل الإنسان: لا شك أن أصل الإنسان من الأمور الغيبية التي لا سبيل إلى معرفتها والقطع بها إلا عن طريق الوحي. والوحي عندنا -نحن المسلمين- لا يخرج عن آية شريفة أو سُنة صحيحة، وما سواهما فضَرْبٌ من خيال. والآيات على خلق الإنسان من طين متعددة بأساليب شتى؛ نذكر هنا بعضها: قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ، وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} 1. وقال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُون} 2. وقال سبحانه: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} 3.   1 سورة الحجر: الآيات 26-31. 2 سورة المؤمنون: الآيات 12-16. 3 سورة السجدة: الآيتين 7-8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 829 وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} 1، وقال سبحانه: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2. وهذه الآيات وغيرها تنص نصًّا على خَلْق آدم أبي البشر من تراب، ثم تناسل ذريته من بعد من ماء مهين؛ ذلكم مجمل معتقد السلف. ثم ظهرت على مسرح النظريات العلمية نظرية اعترف أصحابها أنها نظرية وأَبَى آخرون إلا أن يعدوها حقيقة علمية؛ تلكم ما يعرف بـ"نظرية داروين"، فذهبوا للاستدلال لها كل مذهب، ووقف آخرون حائرون بين الدين الذي يعتقدون والنظرية التي يستمعون. أحسب أنه عَزَّ عليهم أن يقع تصادم بين الدين والعلم؛ بل ما حسبوه علمًا ثابتًا؛ فأخطئوا الطريق، وظنوا أن سبيل التوفيق تأويل الآيات القرآنية تأويلًا يوافق هذه النظرية؛ فلا يكون تصادم ولا يكون تناقض. اخطئوا الطريق مرتين، مرة حين حسبوها حقيقة علمية مع أن صاحبها "داروين" نفسه لم يجزم بها؛ حيث قال: "اسمح لي أن أضيف إلى هذا بأني لست من قلة العقل بحيث أتصور بأن نجاحي يتعدى رسم دوائر واسعة لبيان أصل الأنواع"3. ومرة حين عمدوا إلى الآيات الصريحة يؤولونها ويصرفونها عن معانيها لا لشيء إلا لأنها لم توافق تلكم النظرية. والشيخ محمد عبده وتلميذه السيد رشيد رضا لم يرفضا هذه النظرية، والحق أيضًا أنهما لم يعلنا قبولها؛ لكنهما فسرا الآيات القرآنية بما يفتح الباب على مصراعيه لمن يريد أن يقول بها، وأنكرا مصادمة القرآن لها. خذ مثلًا تفسير الشيخ محمد عبده لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ   1 سورة النساء: من الآية الأولى. 2 سور آل عمران: الآية 59. 3 على أطلال المذهب المادي: محمد فريد وجدي ج1 ص102. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 830 الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} 1: "ليس المراد بالنفس الواحدة آدم بالنص ولا بالظاهر، فمن المفسرين مَن يقول: إن كل نداء مثل هذا يُراد به أهل مكة أو قريش، فإذا صح هنا جاز أن يفهم منه بنو قريش أن النفس الواحدة هي قريش أو عدنان، وإذا كان الخطاب للعرب عامة جاز أن يفهموا منه أن المراد بالنفس الواحدة يعرب أو قحطان، وإذا قلنا: إن الخطاب لجميع أهل الدعوة إلى الإسلام -أي: لجميع الأمم- فلا شك أن كل أمة تفهم منه ما تعتقده، فالذين يعتقدون أن جميع البشر من سلالة آدم يفهمون أن المراد بالنفس الواحدة آدم، والذين يعتقدون أن لكل صنف من البشر أبًا يحملون النفس على ما يعتقدون ... والقرينة على أنه ليس المراد هنا بالنفس الواحدة آدم قوله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} بالتنكير، وكان المناسب على هذا الوجه أن يقول: وبث منهما جميع الرجال والنساء، وكيف ينص على نفس معهودة والخطاب عام لجميع الشعوب، وهذا العهد ليس معروفًا عند جميعهم؟! فمن الناس مَن لا يعرفون آدم ولا حواء ولم يسمعوا بهما، وهذا النسب المشهور عند ذرية نوح مثلًا، وهو مأخوذ عن العبرانيين، فإنهم هم الذين جعلوا للبشر تاريخًا متصلًا بآدم وحددوا له زمنًا قريبًا، وأهل الصين ينسبون البشر إلى أب آخر، ويذهبون بتاريخه إلى زمن أبعد من الزمن الذي ذهب إليه العبرانيون، والعلم والبحث في آثار البشر مما يطعن في تاريخ العبارنيين، ونحن المسلمين لا نكلف تصديق تاريخ اليهود وإن عزوه إلى موسى عليه السلام؛ فإنه لا ثقة عندنابأنه من التوراة، وأنه بقي كما جاء به موسى"2. وبهذا أكد الشيخ أن آدم ليس أبًا البشر كلهم؛ وإنما قلت: "أكد"؛ لأنه: 1- استدل بأن الآية لا تدل "بالنص ولا بالظاهر" على ذلك. 2- وأنه لو كان آدم أبًا البشر كلهم لما قال: {رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} ؛ بل قال: جميع الرجال والنساء.   1 سورة النساء: من الآية الأولى. 2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج4 ص323، 324. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 831 3- وأن مِن الناس مَن لا يعرفون آدم ولا حواء ولم يسمعوا بهما. 4- أن العلم والبحث في آثار البشر مما يطعن في تاريخ العبرانيين باعتقادهم أن آدم أبو البشر. وبهذا أضاء الشيخ عبده النور الأخضر لمن يريد أن يقول بنظرية داروين بأن يجعل تطبيقها على آباء البشر الآخرين عدا آدم عليه السلام. فإن ذهبت تعترض على هذا القول وتقول: ورد في القرآن الكريم الخطاب: {يَا بَنِي آدَمَ} 1، وورد في قوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم بنو آدم، وآدم خُلق من تراب" 2، وما رواه أحمد في مسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر؛ إلا بالتقوى" 3. إذا ما قلت هذا أجابك الشيخ محمد عبده: "وما ورد في آيات أخرى من مخاطبة الناس بقوله: {يَا بَنِي آدَمَ} لا ينافي هذا، ولا يعد نصًّا قاطعًا في كون جميع البشر من أبنائه؛ إذ يكفي في صحة الخطاب أن يكون من وجه إليهم في زمن التنزيل من أولاد آدم. وقد تقدم في تفسير قصة آدم في أوائل سورة البقرة أنه كان في الأرض قبله نوع من هذا الجنس فسدوا فيها وسفكوا الدماء، وأقول زيادة في الإيضاح: إذا كان جماهير المفسرين فسروا النفس الواحدة هنا بآدم، فهم لم يأخذوا ذلك من نص الآية ولا من ظاهرها؛ بل من المسألة المسلمة عندهم "!! " وهي أن آدم أبو البشر"4. وأيَّد هذا الرأي السيد رشيد رضا بروايات واهية لو لم تكن حجة له لشنع   1 انظر مثلًا: الآيات 26، 27، 31، 35، 172 من سورة آل عمران، و70 من الإسراء، و60 من يس. 2 رواه البزار عن حذيفة بن اليمان. 3 رواه أحمد في مسنده ج5 ص411. 4 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج4 ص324، 325. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 832 على قائليها ورواتها؛ حيث قال: "وقد نُقل عن الإمامية والصوفية أنه كان قبل آدم -المشهور عند أهل الكتاب وعندنا- آدمون كثيرون. قال في روح المعاني: ذكر صاحب جامع الأخبار من الإمامية في الفصل الخامس عشر خبرًا طويلًا نقل فيه: أن الله تعالى خلق قبل أبينا آدم ثلاثين آدم، بين كل آدم وآدم ألف سنة، وأن الدنيا بقيت خرابًا بعدهم خمسين ألف سنة، ثم عمرت خمسين ألف سنة، ثم خلق أبونا آدم عليه السلام، وروى ابن بابويه في كتاب التوحيد عن الصادق في حديث طويل أيضًا: أنه قال: لعلك ترى أن الله لم يخلق بشرًا غيركم؛ بل والله لقد خلق ألف ألف آدم، أنتم في آخر أولئك الآدميين"، ثم قال: "ثم نقل عن زين العرب القول بكفر مَن يقول بتعدد آدم، وهذا من جرأته وجرأة أمثاله الذين يتهجمون على تكفير المسلمين لِأَوْهَى الشبهات"1. وأظهر السيد رشيد رضا الدافع له لسلوك هذا التفسير بقوله: "وليت شعري ماذا يقول الذين يذهبون إلى أن المسألة قطعية بنص القرآن فيمن يوقن بدلائل قامت عنده بأن البشر من عدة أصول؟ هل يقولون إن أراد أن يكون مسلمًا وتعذر عليه ترك يقينه في المسألة: إنه لا يصح إيمانه ولا يقبل إسلامه، وإن أيقن بأن القرآن كلام الله وأنه لا نص فيه يعارض يقينه"2. ولهذا فسر الشيخ رشيد رضا المراد بالنفس بقوله: "هذا، وإن المتبادر من لفظ النفس بصرف النظر عن الروايات والتقاليد المسلمات أنها هي الماهية أو الحقيقة التي كان بها الإنسان هو هذا الكائن الممتاز على غيره من الكائنات؛ أي: خلقكم من جنس واحد وحقيقة واحدة، ولا فرق في هذا بين أن تكون هذه الحقيقة بُدئت بآدم -كما دل عليه أهل الكتاب وجمهور المسلمين- أو بدئت بغيره وانقرضوا -كما قاله بعض الشيعة والصوفية- أو بدئت بعدة أصول انبث منها عدة أصناف -كما عليه بعض الباحثين- ولا بين أن تكون هذه الأصول أو الأصل مما ارتقى عن بعض الحيوانات، أو خلق مستقلًّا على ما عليه الخلاف بين الناس في   1 المرجع السابق: ج4 ص325، 326. 2 المرجع السابق: ج4 ص327. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 833 هذا العصر"1. ثم قال: "على كل حال، وكل قول يصح أن جميع الناس هم من نفس واحدة هي الإنسانية التي كانوا بها ناسًا، وهي التي يتفق الذين يدعون إلى خير الناس وبرهم ودفع الأذى عنهم على كونها هي الحقيقة الجامعة لهم، فتراهم على اختلافهم في أصل الإنسان يقولون عن جميع الأجناس والأصناف: إنهم إخواننا في الإنسانية، فيعدون الإنسانية مناط الوَحْدَة وداعية الألفة والتعاطف بين البشر، سواء اعتقدوا أن أباهم آدم -عليه السلام- أو القرد أو غير ذلك"1. وبهذا يكون الشيخ محمد عبده وتلميذه السيد رشيد رضا فَتَحَا الباب على مصراعيه لمن اراد أن يقول بنظرية داروين، ولعل هذا يفسر تلك العبارات الكثيرة للشيخ محمد عبده وتلميذه السيد رشيد التي تتحدث عن تطور الإنسان، وأنه نشأ أول ما نشأ ساذجًا سذاجة لا يبلغ بها تناول الشئون الرفيعة والمعاني العالية والمعارف السامية، وأن العناية الإلهية صارت بالإنسان كما سارت به في أفراده، فكما ينشأ الفرد قاصرًا في جميع قواه، ضعيفًا في جميع أعضائه، كذلك نشأت الجمعية البشرية على ضرب من السذاجة2 السالفة الذكر، ونحو ذلك من العبارات والتأويلات، وللقارئ أن يجعل ذلك في ذهنه حتى يجس به مسار تفسيرهم على ضوء هذه النظرية، والله الهادي. الملائكة: الإيمان بالملائكة من أركان الإيمان، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} 3، وقال سبحانه: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} 4، وقال   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج4 ص327. 2 انظر تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص291، 292، ورسالة التوحيد: للأستاذ محمد عبده ص166-169، وتفسير المنار أيضًا ج1 ص315. 3 سورة البقرة: من الآية 285. 4 سورة البقرة: من الآية 177. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 834 سبحانه: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا} 1. والسلف يؤمنون بهذا، ويصفون الملائكة بما وصفهم الله به في كتابه وسنة رسوله، لا يزيدون على ذلك؛ لأنه من أمور الغيب. فيصفونهم بأنهم عباد مكرمون2، وأنهم يسبحون بحمد ربهم3، وأنهم بأمره يعملون4، وأن لهم أجنحة مثنى وثلاث ورباع5، وأنهم قادرون على التشكُّل والظهور بمظهر البشر6، وأن منهم مَن هو موكل بالوحي7، وموكل بالصُّور8، وموكل بالموت9، وموكل بحفظ العبد10، وموكل بكتابة أعماله11، ومنهم خزنة جهنم12، ومنهم خزنة الجنة13، ومنهم المبشِّرون للمؤمنين عند موتهم14، ومنهم حملة العرش15، ذلكم مجمل اعتقاد السلف في الملائكة، لا يثبتون شيئًا إلا من طريق الوحي، ويفوضون علم ما سواه إلى الله سبحانه وتعالى. وقد ذكر الشيخ محمد عبده في تفسير المنار قولين للعلماء، قال عن أولهما:   1 سورة النساء: من الآية 136. 2 سورة الأنبياء: الآية 26. 3 سورة الشورى: الآية 5. 4 سورة الأنبياء: الآية 26. 5 سورة فاطر: الآية الأولى. 6 سورة الذاريات: الآية 25، ومريم: الآية 17. 7 سورة الشعراء: الآيات 193-195، والنحل: 102. 8 سورة الزمر: الآية 68. 9 سورة السجدة: الآية 11. 10 سورة الرعد: الآية 11، وسورة الأنعام: الآية 6. 11 سورة الإنفطار: الآيات 10، 11، 12. 12 سورة الزخرف: الآية 77. 13 سورة الزمر: الآية 73. 14 سورة فصلت: الآية 30، والأنبياء: الآية 103. 15 سورة غافر: الآية 7، وسورة الحاقة: الآية 17. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 835 "أما الملائكة فيقول السلف فيهم أنهم خلق أخبرنا الله تعالى بوجودهم وببعض عملهم، فيجب علينا الإيمان بهم، ولا يتوقف ذلك على معرفة حقيقتهم فنفوض علمها إلى الله تعالى، فإذا ورد أن لهم أجنحة نؤمن بذلك؛ ولكننا نقول: إنها ليست أجنحة من الريش ونحوه كأجنحة الطيور؛ إذ لو كانت كذلك لرأيناها، وإذا ورد أنهم موكلون بالعوالِم الجسمانية كالنبات والبحار، فإننا نستدل بذلك على أن الكون عالَمًا آخر ألطف من هذا العالم المحسوس، وأن له علاقة بنظامه وأحكامه، والعقل لا يحكم باستحالة هذا؛ بل يحكم بإمكانه لذاته، ويحكم بصدق الوحي الذي أخبر به". أما الرأي الثاني في الملائكة فقد ذكره الأستاذ الإمام محمد عبده ناقلًا في أول الأمر وحاكيًا؛ لكنه لم يلبث أن أيده وحبذه ودافع عنه؛ بل زعم أنه لا فرق بينه وبين رأي السلف؛ حيث قال عن هذا الرأي: "وذهب بعض المفسرين مذهبًا آخر في فَهْم معنى الملائكة؛ وهو أن مجموع ما ورد في الملائكة من كونهم موكلين بالأعمال؛ من إنماء نبات، وخلقة حيوان، وحفظ إنسان، وغير ذلك وغير ذلك، فيه إيماء إلى الخاصة بما هو أدق من ظاهر العبارة؛ وهي أن هذا النمو في النبات لم يكن إلا بروح خاص نفخه الله في البذرة؛ فكانت به هذه الحياة النباتية المخصوصة، وكذلك يقال في الحيوان والإنسان، فكل أمر كلي قائم بنظام الخصوص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده، فإنما قوامه بروح إلهي، سمي في لسان الشرع ملَكًا، ومن لم يبال في التسمية بالتوقيف يسمي هذه المعاني القوة الطبيعية، إذا كان لا يعرف من عالم الإمكان إلا ما هو طبيعة أو قوة يظهر أثرها في الطبيعة. والأمر الثابت الذي لا نزاع فيه هو أن في باطن الخلقة أمرًا هو مناطها، وبه قوامها ونظامها، لا يمكن لعاقل أن ينكره، وإن أنكر غير المؤمن بالوحي تسميته ملَكًا، وزعم أنه لا دليل على وجود الملائكة، أو أنكر بعض المؤمنين بالوحي تسميته قوة طبعيية أو ناموسًا طبيعيًّا؛ لأن هذه الأسماء لم ترد في الشرع، فالحقيقة واحدة، والعاقل مَن لا تحجبه الأسماء عن المسميات"1.   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص267، 268. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 836 ثم انجلى موقفه ورأيه أكثر عندما لم يستبعد أن تكون الملائكة هي تلك النوازع التي نحس بها عندما نتردد بين فعل شيء أو تركه، وهذا لعمري جُرأة على علم الغيب، قال: "يشعر كل من فكر في نفسه، ووازن بين خواطره، عندما يهم بأمر فيه وجه للحق أو للخير، ووجه للباطل أو للشر، بأن في نفسه تنازعًا؛ كأن الأمر قد عرض فيها على مجلس شورى، فهذا يورد وذاك يدفع، واحد يقول: افعل، وآخر يقول: لا تفعل؛ حتى ينتصر أحد الطرفين، ويترجح أحد الخاطرين، فهذا الشيء الذي أودع في أنفسنا ونسميه قوة وفكرًا -وهو في الحقيقة معنى لا يدرك كُنهه، وروح لا تكنته حقيقتها- لا يبعد أن يسميه الله تعالى ملَكًا "أو يسمي أسبابه ملائكة" أو ما شاء من الأسماء، فإن التسمية لا حجر فيها على الناس، فكيف يحجر فيها على صاحب الإرادة المطلقة والسلطان النافذ والعلم الواسع"1. ثم بعد أن قرر هذا التأويل المنحرف للملائكة انتقل إلى تطبيق هذا في آيات القرآن، ولم يستبعد في تفسيره لها ما ذكره آنفًا؛ حيث قال في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} 2، قال: "فإذا صح الجري على هذا التفسير فلا يستبعد أن تكون الإشارة في الآية إلى أن الله تعالى لما خلق الأرض، ودبرها بما شاء من القوى الروحانية التي بها قوامها ونظامها، وجعل كل صنف من القوى مخصوصًا بنوع من أنواع المخلوقات، لا يتعداه، ولا يتعدى ما حدد له من الأثر الذي خص به، خلق بعد ذلك الإنسان وأعطاه قوة يكون بها مستعدًا للتصرف بجميع هذه القوى وتسخيرها في عمارة الأرض، وعبر عن تسخير هذه القوى له بالسجود الذي يفيد معنى الخضوع والتسخير، وجعله بهذا الاستعداد الذي لا حد له، والتصرف الذي لم يعطَ لغيره خليفة الله في الأرض؛ لأنه أكمل الموجودات في هذه الأرض، واستثنى من هذه القوى قوة واحدة عبر عنها بإبليس، وهي القوة التي تعارض في   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص268. 2 سورة البقرة: الآية 34. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 837 إتباع الحق، وتصد عن عمل الخير، وتنازع الإنسان في صرف قواه إلى المنافع والمصالح التي تتم بها خلافته؛ فيصل إلى مراتب الكمال الوجودي التي خُلق مستعدًّا للوصول إليها"1. وقد التمس السيد رشيد عذرًا لشيخه الأستاذ محمد عبده بـ"أن غرض الأستاذ من هذا التأويل -الذي عبر عنه بالإيماء وبالإشارة- إقناع منكري الملائكة بوجودهم بتعبير مألوف عندهم تقبله عقولهم، وقد اهتدى به كثيرون، وضل به آخرون؛ فأنكروا عليه، وزعموا أنه جعل الملائكة قوى لا تعقل"2. والحق أن الشيخ محمد عبده قد أقنع -فعلًا- منكري الملائكة بتعبير مألوف عندهم؛ لكن ليس بوجودهم؛ وإنما بوجود قوى لم يكونوا ينكرونها من قبل، وليست هي مثار الجدل، وما زالت القضية جارية؛ فصار كمن أراد أن يقنع منكر وجود زيد في الدار فلج به في الجدل حتى أقنعه بوجود عمرو -الذي لم ينكره من قبل- وسماه زيدًا! وما هو بزيد المراد. وكان الشيخ في غنى عن كل هذا لو فَوَّض حقيقتها إلى الله سبحانه، واكتفى بالنصوص الواردة في ذلك وقال: آمنا به كل من عند ربنا؛ لكنه لا يرتضي هذا الموقف؛ بل يعده قصورًا عند قائله؛ حيث يقول: "فإن لم تجد في نفسك استعدادًا لقبول أشعة هذه الحقائق، وكنت ممن يؤمن بالغيب، ويفوض في إدراك الحقيقة ويقول: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فلا ترمِ طلاب العرفان بالريب ما داموا يصدقون بالكتاب الذي آمنت به، ويؤمنون بالرسول الذي صدقت برسالته، وهم في إيمانهم أعلى منك كعبًا، وأرضى منك بربهم نفسًا"3. وليس لنا أن نقول إلا أن آمنا به كل من عند ربنا، وأمرهم إلى الله، وهو حسبنا ونعم الوكيل. الجن: وشأن الجن كشأن الملائكة؛ من حيث الاعتقاد بوجودهم وصفاتهم، كلاهما   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص269. 2 المرجع السابق: ج1 ص270. 3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص273. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 838 أمر غيبي، وقد دل القرآن الكريم على وجود الجن {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1. وذكر من صفاتهم أنهم خلقوا من نار2، وأن الله أرسل إليهم رسلًا3، وأن منهم مؤمن ومنهم كافر4، وأن منهم شياطين5، وأن الله يعاقب العصاة منهم بالنار6، وأن الله أعطاهم قوة لا توجد في الإنس7، وأن قدرتهم ناقصة8، وأنهم لا يعلمون الغيب9، وأنهم يتزوجون10 ويتناسلون11، وأنهم يروننا من حيث لا نراهم12. ذلكم مجمل عقيدة السلف في أمر الجن، لا يصفونهم بأكثر مما وصفهم به القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ لأنهم من أمور الغيب التي لا يصح القول فيه إلا بالوحي. وقد أثبت الشيخ رشيد رضا وآمن بوجود الجن؛ لكنه تأول وجودهم بأمر آخر لم يقل به أحد من السلف، وليس له من دليل إلا الاحتمال، وما هو بدليل. فقال السيد رشيد رضا: "وقد كان غير المسلمين يعدون من هذا القبيل   1 سورة الذاريات: الآية 56. 2 سورة الحجر: الآية 27، والرحمن: 15. 3 سورة الأنعام: الآية 130. 4 سورة الجن: الآيتين 12، 15. 5 سورة الناس. 6 سورة هود: الآية 119. 7 سورة النمل: الآيتين 38، 39. 8 سورة الرحمن: الآية 33. 9 سورة الجن: الآية 7، 10. 10 سورة الرحمن: الآية 74. 11 سورة الكهف: الآية 50. 12 سورة الأعراف: الآية 27. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 839 -أي: من قبيل الخرافات- حديث أبي موسى: "الطاعون وخز أعدائكم من الجن، وهو لكم شهادة" رواه الحاكم وصححه، ثم صاروا بعد اكتشاف باشلس الطاعون يتعجبون منه بصدق كلمة "الجن" على ميكروب الطاعون كغيره، وقد ورد أن الجن أنواع؛ منها ما هو من الحشرات، وحشائش الأرض"1. وشبه فعل جنة الشياطين في النفوس البشرية بفعل الجنة في الأجساد فقال: "وفعل جنة الشياطين في أنفس الشر كفعل هذه الجنة التي يسميها الأطباء الميكروبات في أجسادهم وفي غيرها من أجسام الأحياء، وتؤثر فيها من حيث لا ترى فتتقى"2. وبعبارة أصرح مما ذكرنا صرح في موضع آخر: "وقد قلنا في المنار غير مرة: إنه يصح أن يقال: إن الأجسام الحية الخفية التي عرفت في هذا العصر بواسطة النظارات المكبرة -وتسمى بالميكروبات- يصح أن تكون نوعًا من الجن، وقد ثبت أنها علل لأكثر الأمراض، قلنا ذلك في تأويل ما ورد من أن الطاعون من وخز الجن"3. وكان بودنا أن يتوقف الشيخ رشيد رضا -رحمه الله تعالى- عن الخوض في أن الميكروبات نوع من الجن من غير حجة إلا حجة الاحتمال الخالي من الدليل الشرعي الذي يعتمد عليه في مثل هذا، وما نحسبه فعل هذا إلا حرصًا على تقريبها إلى الأذهان، وقد أخطأ الطريق في هذا، فعفا الله عنا وعنه. بعض الأحكام الفقهية: ذكرنا أن من الأسس التي يقوم عليها منهج المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة في التفسير إنكار التقليد وذمه والتحذير منه، وقد كان الأستاذ محمد رشيد رضا من المتمسكين بهذا الأساس؛ بل ومن المتعصبين له، وبادر إلى تطبيقه   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج7 ص319. 2 المرجع السابق: ج8 ص364. 3 المرجع السابق: ج3 ص96. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 840 بنفسه في تفسير القرآن الكريم، وقد أدى به اجتهاده هذا إلى أقوال وآراء جديدة في بابها أو آراء خاطئة، نذكر من ذلك مثالين لا نزيد عليهما خوف الإطالة: أولًا: التيمم: قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} 1. وبالتأمل في الآية تلحظ أنها نصت على أربع حالات وشرط واحد ثم حكم واحد أيضًا، أما الحالات الأربع فهي: إن كنتم: 1- مرضى. 2- أو على سفر. 3- أو جاء أحد منكم من الغائط. 4 أو لامستم النساء. والشرط: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} . والحكم: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} . وقد أجمع المسلمون على جواز التيمم عند فَقْدِ الماء أو الخوف من التلف ونحوه عند استعمال الماء للمريض والمقيم والسليم والمسافر؛ وإنما نص على المرض لأنه مظنة للعجز عن الوصول إلى الماء، وكذلك المسافر عدم الماء في حقه غالب2؛ ولذلك قال مالك رحمه الله تعالى: "ذكر الله المرض والسفر في شرط التيمم اعتبارًا بالأغلب فيمن لم يجد الماء بخلاف الحاضر، فإن الغالب وجوده؛ فلذلك لم ينص الله سبحانه عليه"2. ذلكم مجمل ما اتفقوا عليه، واستدلوا بأدلة كثيرة من السنة ليس هذا موضع إيرادها. ولكن السيد رشيد رضا خالف جميع الفقهاء في هذا، وجاء برأي لم يسبق   1 سورة النساء: الآية 43. 2 فتح القدير: الإمام الشوكاني ج1 ص471. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 841 إليه، وتعجب من غفلة جماهير الفقهاء عن تفسيره هذا، وبدأ أول ما بدأ فجعل الحالات ثلاثًا بدلًا من أربع؛ فعدها إن كنتم: 1- مرضى. 2- أو على سفر. 3- أو لم تجدوا ماء. حيث قال: "أي: ففي هذه الحالات المرض والسفر وفقد الماء عقب الحدث الأصغر الموجب للوضوء والحدث الأكبر الموجب للغسل تيمموا صعيدًا طيبًا"1. وبَنَى على هذا التقسيم أن كل حالة من هذه الحالات الثلاث -المرض والسفر وفقد الماء- هي عذر بحد ذاتها لإباحة التيمم. وهو بهذا يقلد شيخه الأستاذ محمد عبده الذي فسر الآية بقوله: "المعنى: أن حكم المريض والمسافر إذا أراد الصلاة كحكم المحدث حدثًا أصغر أو ملامس النساء ولم يجد الماء؛ فعلى كل هؤلاء التيمم فقط، هذا ما يفهمه القارئ من الآية نفسها إذا لم يكلف نفسه حملها على مذهب من وراء القرآن يجعلها بالتكلف حجة له منطبقة عليه"2. ولا شك أن الذي يفهمه القارئ من الآية ليس ما ذكره الأستاذ الإمام هذا إذا لم يستند إلى بيان السنة لها؛ ذلكم أن الذي يُفهم من ظاهر الآية أن التيمم مشروع للمريض والمسافر ولمن جاء من الغائط ولمن لامس النساء بشرط فقد الماء، وهذا هو ما يدل عليه ظاهر الآية إذا لم نبينه بالسنة؛ ولذلك فلا عجب أن يطالع الشيخ محمد عبده خمسة وعشرين تفسيرًا ولا يجد فيها رأيه هذا!! حيث يقول: "وقد طالعت في تفسيرها خمسة وعشرين تفسيرًا فلم أجد فيها غناء فيها ولا رأيت قولًا فيها يسلم من التكلف، ثم رجعت إلى المصحف وحده3   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج5 ص119. 2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج5 ص119. 3 لا أظنه يجهل أن الرسول صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الأخذ بـ"المصحف وحده". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 842 فوجدت المعنى واضحًا جليًّا، فالقرآن أفصح الكلام وأبلغه وأظهره، وهو لا يحتاج عند مَن يعرف العربية -مفرداتها وأساليبها- إلى تكلفات فنون النحو1 وغيره من فنون اللغة عند حافظي أحكامها من الكتب مع عدم تحصيل مَلَكَةِ البلاغة"2. وقد أراد السيد رشيد رضا أن يؤيد ما ذهب إليه شيخه محمد عبده بأسلوب جديد في التأييد؛ فجعل ما فهمه من الآية أمرًا مسلمًا واضحًا عنده وعند خصومه، وإنما منعهم من القول به مخالفة المذاهب المعروفة لا عدم اقتناعهم بما قاله هو وأستاذه، فقال: "سيقول أدعياء العلم من المقلدين: نعم، إن الاية واضحة المعنى كاملة البلاغة على الوجه الذي قررتم؛ ولكنها تقتضي عليه أن التيمم في السفر جائز ولو مع وجود الماء، وهذا مخالف للمذاهب المعروفة عندنا، فكيف يعقل أن يخفى معناها هذا على أولئك الفقهاء المحققين، ويعقل أن يخالفوها من غير معارض لظاهرها أرجعوها إليه. ولنا أن نقول لمثل هؤلاء -وإن كان المقلد لا يحاج؛ لأنه لا علم له-: وكيف يعقل أن يكون أبلغ الكلام وأسلمه من التكلف والضعف معضلًا مشكلًا؟ وأي الأمرين أَوْلَى بالترجيح: الطعن ببلاغة القرآن وبيانه لحمله على كلام الفقهاء، أم تجويز الخطأ على الفقهاء؛ لأنهم لم يأخذوا بما دل عليه ظاهر الآية من غير تكلف، وهو الموافق الملتئم مع غيره من رخص السفر التي منها قصر الصلاة وجمعها، وإباحة الفطر في رمضان؟ فهل يستنكر مع هذا أن يرخص للمسافر في ترك الغسل والوضوء -وهما دون الصلاة- والصيام في نظر الدين؟ أليس من المجرب أن الوضوء والغسل يشقان على المسافر الواجد للماء في هذا الزمان الذي سهلت فيه أسباب السفر في قطارات السكك الحديدية والبواخر؟ أفلا يتصور المنصف أن المشقة فيها أشد على المسافرين على ظهور الإبل في مفاوز الحجاز وجبالها؟ هل يقول منصف: إن صلاة الظهر أو العصر أربعًا في السفر أسهل من الغسل أو الوضوء فيه؟ 3 السفر   1 ولكنه يحتاج إلى معرفة السنة؛ فهي البيان الصحيح للقرآن الكريم. 2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج5 ص119. 3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج5 ص119. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 843 مظنة المشقة، يشق فيه غالبًا كل ما يؤتى في حضر بسهولة، وأشق ما يشق فيه الغسل والوضوء وإن كان الماء حاضرًا مستغنى عنه. وأضرب لهم مثلًا هذا الجواري المنشآت في البحر كالأعلام، فإن الماء فيها كثير دائمًا، في كل باخرة منها حمامات؛ أي: بيوت مخصوصة للاغتسال بالماء الساخن والماء البارد؛ ولكنها خاصة بالأغنياء الذين يسافرون بالدرجة الأولى والثانية، وهؤلاء الأغنياء منهم مَن يصيبه دوار شديد يتعذر عليه معه الاغتسال، أو خفيف يشق معه الاغتسال ولا يتعذر، فإن كانت هذه السفن التي يوجد فيها من الماء المعد للاستحمام ما لم يكن يوجد مثله في بيت أحد من أهل المدينة زمن التنزيل يشق فيه الاغتسال أو يتعذر، فما قولك في الاغتسال في قطارات سكك الحديد أو قوافل الجمال والبغال؟ "1. ولا شك أن هذه مغالطة من الشيخ محمد رشيد رضا؛ ذلكم أنه جعل السفر هو المبيح للتيمم لمن أصابه الدوار الشديد الذي يتعذر معه الاغتسال، ومصدر المغالطة أنه تجاهل -ولا أظنه يجهل - أن الدوار الشديد مرض أباح لصاحبه التيمم إذا كان استعمال الماء يزيده مشقة أو ضررًا، فالعذر هنا المرض وليس السفر، ومن المجمع عليه عند الفقهاء أن المرض من مبيحات التيمم ولو مع وجود الماء إذا كان يلحقه ضرر باستعماله الماء، أما المسافر الذي يجد الماء ولا يضره استعماله، فليس له أن يتيمم؛ ولهذا فلا يصح له أن يستدل بالمسافر المريض بالدوار الشديد الذي يضره استعمال الماء على إباحة التيمم لمجرد السفر. ومن العجيب أن الشيخ محمد عبده وتلميذه السيد رشيد رضا لم يستندا في تفسيرهما هذا إلى سُنة نبوية؛ وإنما إلى الرأي المجرد من الدليل؛ بل والأسوأ من هذا أن السيد رشيد رضا وصف سائر الروايات المصرحة بالتيمم في السفر لفقد الماء بأنها منقولة بالمعنى "!! " وأنها لا تنهض دليلًا، وأن مفهومها مفهوم مخالفة، وأنه غير معتبر عند الجمهور "!! " مع اعترافه أن الجمهور قالوا بخلاف رأيه. ولذلك فلا عجب أن يغفل "جماهير الفقهاء" عن هذا المفهوم؛ ولكن السيد رشيد رضا يعجب من هذا فيقول:   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج5 ص120، 121. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 844 "ألا إن من أعجب العجب غفلة جماهير الفقهاء عن هذه الرخصة الصريحة في عبارة القرآن، التي هي أظهر وأَوْلَى من قصر الصلاة وترك الصيام، وأظهر في رفع الحرج والعسر الثابت بالنص وعليه مدار الأحكام، واحتمال ربط قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} بعيد؛ بل ممنوع ألبتة -كما تقدم- على أنهم لا يقولون به في المرض؛ لأن اشتراط فقد الماء في حقهم لا فائدة له؛ لأن الأصحاء مثلهم فيه؛ فيكون ذكرهم لغوًا يتنزه عنه القرآن. ونقول: إن ذكر المسافرين كذلك؛ فإن المقيم إذا لم يجد الماء يتيمم بالإجماع، فلولا أن السفر سبب الرخصة كالمرض لم يكن لذكره فائدة؛ ولذلك عللوه بما هو ضعيف متكلف، وما ورد في سبب نزولها من فقد الماء في السفر أو المكث مدة على غير ماء لا ينافي ذلك. رووا "أنها نزلت في بعض أسفار النبي صلى الله عليه وسلم، وقد انقطع فيها عقد لعائشة؛ فأقام النبي صلى الله عليه وسلم على التماسه والناس معه، وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فأغلظ أبو بكر على عائشة وقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء؛ فنزلت الآية، فلما صلوا بالتيمم جاء أسيد بن حضير إلى مضرب عائشة فجعل يقول: ما أكثر بركتكم يا آل أبي بكر" رواه الستة، وفي رواية: "يرحمكِ الله تعالى يا عائشة، ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله تعالى فيه للمسلمين فرجًا". فهذه الرواية -وهي من واقع الأحوال- لا حكم لها في تغيير مدلول الآية، ولا تُنافي جعل الرخصة أوسع من الحال التي كانت سببًا لها، ألا ترى أنها شملت المرض، ولم يذكر في هذه الواقعة أنه كان فيها مرضى شق عليهم استعمال الماء على تقدير وجوده، وليس فيها دليل على أن كل الجيش كان فاقدًا للماء، ولا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل التيمم فيها خاصًّا بفاقدي الماء دون غيرهم، ومثلها سائر الروايات المصرحة بالتيمم في السفر لفقد الماء، التي هي عمدة الفقهاء على أنها منقولة بالمعنى، وهي وقائع أحوال مجملة لا تنهض دليلًا، ومفهومها مفهوم مخالفة، وهو غير معتبر عند الجمهور، ولا سيما في معارضة منطوق الآية"1.   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج5 ص121، 122. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 845 إلا أنه لا يقول به في ربا الفضل؛ بل ينكر على ابن حجر قوله: "إن ما ورد من الوعيد على الربا شامل لجميع أنواعه". ويعد السيد رشيد قول ابن حجر خطأ؛ فإن منها عنده -أي: عند ابن حجر- بيع قطعة من الحلي كسوار بأكثر من وزنها دنانير، أو بيع كيل من التمر الجيد بكيل وحفنة من التمر الرديء، مع تراضي المتبايعين وحاجة كل منهما إلى أخذه، ومثل هذا لا يدخل في نهي القرآن، ولا في وعيده، ولا يصح أن يُقاس عليه، كما لا يصح أن يقال: إن خلوة الرجل بامرأة لا يشتهيها ولا تشتهيه كالزنا في حرمته ووعيده1. بل تجاوز هذا حين قامت البلاد المصرية وقعدت في أيامه لمسألة الربا، واقترح كثيرون إنشاء بنك الإسلامي؛ فكان العلاج الذي قدمه من وجهين: "أما الأول: فيوجه إلى فريق المقلدين، وهم أكثر المسلمين في هذا العصر، فيقال لهم: إن في مذاهبكم التي تتقلدونها مخرجًا من هذه الضرورة التي تدعونها، وذلك بالحيلة "!! " التي أجازها الإمام الشافعي، الذي ينتمي إلى مذهبه أكثر أهل هذا الفطر، والإمام أبو حنيفة، الذي يتحاكمون على مذهبه كافة، ومثلهم في ذلك أهل المملكة العثمانية التي أنشئت فيها مصارف "بنوك" الزراعة بأمر السلطان، وهي تقرض بالربا المعتدل "!! " مع إجراء حيلة المبايعة التي يسمونها المبايعة الشرعية. وأما الثاني: فيوجه إلى أهل البصيرة في الدين، الذين يتبعون الدليل ويتحرون مقاصد الشرع، فلا يبيحون لأنفسهم الخروج عنها بحيلة ولا تأويل، فيقال لهم: إن الإسلام كله مبني على قاعدة اليسر ورفع الحرج والعسر الثابتة بنص قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [2: 185] ، وقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [5: 6] . وإن المحرمات في الإسلام قسمان: الأول: ما حرم لذاته لما فيه من الضرر، وهو لا يباح إلا لضرورة، ومنه   1 انظر تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج4 ص126. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 847 ربا النسيئة المتفق على تحريمه، وهو ما لا تظهر الضرورة إلى أكله؛ أي: إلى أن يقرض الإنسان غيره فيأكل ماله أضعافًا مضاعفة، كما تظهر في أكل الميتة وشرب الخمر احيانًا. والثاني: ما هو محرم لغيره كربا الفضل المحرم؛ لئلا يكون ذريعة وسببًا لربا النسيئة، وهو يباح للضرورة؛ بل وللحاجة"1. والطريف أنك لا تجد فرقًا بين ما حرم لذاته وما حرم لغيره إلا الاختلاف في لفظ الحكم، فهو يقول عن الأول: "لا يباح إلا لضرورة"، وقال عن الثاني: "يباح للضرورة والحاجة"، فأي فرق صار بينهما إذًا؟ وعلى أي أساس ساق هذا التقسيم؟ لا أظنه ساقه إلى هذا المأزق إلا ضعف الحجة في مواجهة الدليل الصحيح. وليس بوسعي أن أذكر الحجج والأدلة الصحيحة في هذا المقام؛ حتى لا يتحول حديثنا إلى بحث فقهي؛ وإنما أكتفي بهذا، ولعل فيه بيانًا أو بعضه لمنهجه، رحمه الله تعالى وتجاوز عنا وعنه في التفسير. وبعد: هذه أمثلة لتفسير المنار حاولت فيها التنوع والشمول، ولم أحاول التعمق والتفصيل، لعله يظهر صورة واضحة لمنهجه الذي سلكه.   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج4 ص129، 130. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 848 ثانيا: التفسير ومع أنه يكتب بقلمه أن الحديث يقول: "ليسوا على ماء وليس معهم ماء" مع هذا فإنه يقول: "وليس فيها دليل على أن كل الجيش كان فاقدًا للماء"، ويصف هذه الرواية بأنها من وقائع الأحوال لا حكم لها في تغيير مدلول الآية؟!! ولا أظن الشيخ رشيد ينكر أن السنة تبين مدلول الآية، وتبقى علامة استفهام معلقة ومعها التعجب في عبارته السالفة، دَعْ عنك بعد هذا عباراته الأخرى التي لا أظنها تخفى أو يخفى جوابها. وبهذا يظهر ما أدى به اجتهاده الذي دعا إليه، وهو بهذا التأويل ونحوه يجعلنا أكثر حرصًا على توفر شروط الاجتهاد والدعوة إلى تطبيقها، عفا الله عنا وعنه وسائر المسلمين. حكم الربا: وحكمه في الإسلام معلوم لا يخفى كالخمر يحرم قليله وكثيرة، وليس هذا المقام مقام بسط الأدلة والبراهين. لكن السيد رشيد رضا يرى أن الربا المحرم هو ما كان فاحشًا؛ ففسر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1 بقوله: "والمراد بالربا فيها ربا الجاهلية المعهود عند المخاطبين عند نزولها لا مطلق المعنى اللغوي الذي هو الزيادة، فما كل ما يسمى زيادة محرم"2. والربا كما هو معلوم ينقسم إلى قسمين: ربا الفضل، وربا النسيئة. ويرى الأستاذ رشيد أن ربا الفضل إنما حرم لأنه ذريعة إلى ربا النسيئة المحرم لذاته، تمامًا كالنظر إلى الأجنبية بشهوة، أو لمس يديها كذلك، أو الخلوة بها ولو مع عدم الشهوة؛ لأن هذه الأشياء ليست محرمة لذاتها؛ بل لسد الذريعة؛ لئلا تكون وسيلة إلى الزنا المحرم لذاته3. ومع أنه يعلم أن النظر إلى الأجنبية ولمسها والخلوة بها محرم، ولا ينكر هذا،   1 سورة آل عمران: الآية 130. 2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج4 ص123. 3 انظر تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج4 ص126. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 746 ثانيًا: تفسير جزء تبارك أولًا: المؤلف هو عبد القادر بن مصطفى المغربي، وُلد في اللاذقية سنة 1284، وانتقل مع والده إلى طرابلس الشام، ولزم الشيخ حسين الجسر -علامة طرابلس- ثم اتصل بالسيد جمال الدين الأفغاني، وذلك عن طريق مجلة العروة الوثقى التي كان يصدرها الأفغاني في باريس. ودفعه الشوق إلى رؤية الأفغاني؛ فسافر إليه في الأستانة سنة 1310، وظل في جواره سنة واحدة؛ حيث استدعاه محمد عبده إلى مصر، فعمل في الصحافة. وكانت أعنف فترة في حياته خلال سنتي 1906-1911م؛ حيث قام بحملة على الحجاب، ودعا إلى سفور المرأة، وقد وصف من أحوال نساء أوربا وأمريكا ومخالطتهن للرجال ما يشعر باستحسانه له، وتمنيه لنسائنا مثله؛ حتى هاج عليه الشيوخ1. وهو يرجو من قاسم أمين أن يتحفنا بكتاب في المرأة يكون ثالث القمرين "يعني بهما: كتابي تحرير المرأة، والمراة الجديدة لقاسم أمين" وشاهدًا لصاحبه بالحسنيين2. وأهم مؤلفاته: 1- كلمتان في السفور والحجاب، طبع سنة 1910، 1911م.   1 محاضرات عن عبد القادر المغربي: محمد أسعد طلس ص52. 2 المرجع السابق: ص53. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 849 2- محاضرات عن محمد صلى الله عليه وسلم والمرأة، طبع سنة 1347. 3- جمال الدين الأفغاني "ذكريات وأحاديث"، نشر في سلسلة أقرأ سنة 1948م. 4- تفسير جزء تبارك، وسيأتي الحديث عنه. 5- على هامش التفسير، طبع سنة 1368. 6- النجم الآفل، وهي ترجمة لرواية "غادة الكاميليا" للإسكندر، وضع فيها الشيخ أشعارًا وأدوارًا غنائية؛ حيث عرضت على الجماهير في المسرح في 3 أكتوبر سنة 1908م، وقد رفض الشيخ طبعها ونشرها؛ لأنه كان لا يحب أن يعرف عنه أنه اهتم بالروايات والمسرحيات؛ لما في ذلك من الغض من سمعته ومكانته الدينية1. وقد تُوفي الشيخ عبد القادر في دمشق سنة 1375 الموافق 1956م.   1 محاضرات عن عبد القادر المغربي: محمد أسعد طلس ص59. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 850 ثانيًا: التفسير تفسير جزء تبارك: ويقع هذا التفسير في 136 صفحة من الحجم الكبير. ويرى المؤلف أن جزأي عم وتبارك جديران بأن يفسر كل منهما تفسيرًا حسن الوضع، صحيح الأسلوب، يقرب من أذهان العامة، ولا يجافي عقول الخاصة، ويقتصر فيه على ما يكشف الغموض عن الآيات من جهة اللغة والإعراب، ثم يشرح فيه المعنى المتبادر شرحًا وسطًا مجردًا عن التنطع بالمشاغبات وإيراد الخلافات والخرافات. وقال: "وقد وضع مولانا الأستاذ الشيخ محمد عبده -رحمه الله- تفسيرًا لجزء عم، توخَّى فيه هذا النمط والأسلوب"2. ثم ذكر أنه رغب في تأليف تفسير لجزء تبارك على مثال تفسير شيخه وطريقته، بيد أنه رأي أن يتوسع قليلًا في التعليق والتفسير والاستشهاد والتنظير   1 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص3. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 850 -لا سيما في المباحث اللغوية- أكثر مما فعله الأستاذ -رحمه الله- في تفسير جزء عم، وعلل ذلك بمراعاة حال قُراء جزء تبارك، ومقدرًا أنهم سيكونون أكبر سنًّا، وأتم استعدادًا، وأشد اهتمامًا بالتحصيل من قُراء جزء عم1. وقد التزم بما قال، إلا أنه ينقل كثيرًا عن الأسفار القديمة ما يراه بيانًا للآيات، ومنها ما يخالف النص القرآني، ويتوسع في باب الآيات، والتي تعرض للأخلاق والآداب الإسلامية السامية في أدب الدعوة وغيرها، وله عناية ببيان أسرار البلاغة القرآنية، وأسلوب التعبير القرآني، وميل إلى التفسير العلمي، إضافة إلى الأسس التي بسطناها في منهج المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة، وسنذكر هنا أمثلة على عجل لهذا التفسير، أحاول فيها الإيجاز والشمول. تفسير القرآن بالقرآن: ومن تفسير المؤلف القرآن بالقرآن تفسيره للمرسلات في قوله تعالى: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} 2، فيقول: "وقلما ذكر القرآن إطلاق الرياح إلا عبر عنه بفعل أرسل؛ ففي سورة فاطر: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} ، وفي الحجر: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} ، وفي الأحزاب: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا} ، وفي الأعراف: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاح} ، وفي الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ} ، وفي آيات أخرى غيرها، فقوله تعالى هنا: {وَالْمُرْسَلاتِ} من هذا القبيل"3. عدم الإطناب فيما أُبهم في القرآن: ومن ذلك تفسيره لقوله تعالى: {زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} 4، فقد توقف الشيخ عبد القادر عن الخوض في دقائق التفصيل فقال: "ونحن -معشر المسلمين- نعتقد بظاهر ما ورد في القرآن الكريم من أن النجوم قد ينفصل عنها رجوم تتبع الشياطين، وإذا لم يفهم العلم الطبيعي   1 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص3. 2 سورة المرسلات: الآية الأولى. 3 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص126. 4 سورة الملك: من الآية 5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 851 هذه القضية فلذلك؛ لأنه لم تتوفر له أسباب الفَهْم اليوم، ويكفينا في صحة الإيمان بها على ظاهرها أن العقل لا يجعلها من المحالات العقلية"1. التفسير العلمي: ويفسر أحيانًا تفسيرًا علميًّا حديثًا، ففي قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا، أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} 2 يقول: "هذا الاكتشاف -يعني: الجاذبية- يفسر لنا معنى ما قرره الكتاب الإلهي من أن الأرض كفات للأحياء مذ يكونون على ظهرها، فإنها تجذبهم إليها وتضمهم إلى صدرها، كما تفعل الأم الحنون، فلا تدعهم يتفلتون، وهم بذلك لا يشعرون"3. وفي قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} 4 يقول: "والسماوات السبع هي طرائق السيارات ومداراتها، ولا ريب أن هذه المدارات طبقات، طبقة أدنى من طبقة، وفلك فوق فلك؛ وإنما اقتصر الوحي من ذكر السماوات على سبع مع أن العلم أثبت أنها أكثر من ذلك؛ لأنه تعالى إنما يخاطب القوم وقت البعثة بما عرفوا من أمر الأفلاك وكواكبها "!! " وليس القصد من ذكرها تقرير حقائق في علم الهيئة، وسكوت الوحي عن ذكر ما زاد على سبع السماوات لا ينفي وجود الزيادة "!! " وأما فلكا "أورانوس" و"نبتون" فلم يكونا اكتشفا بعد في ذلك العهد، فلو أحال الله البشر في قرآنه على ما لم يمكنهم النظر فيه والإحاطة علمًا بأمره من النجوم الثوابت والفلكين المذكورين؛ لكانت إحالته عبثًا وتكليفه محالًا، وقد أَبَى الله سبحانه وتعالى لنا ذلك في منزل وحيه ومحكم شرعه تفضلًا منه ورحمة"5. ولا شك أن تفسيره هذا خاطئ، ليس من ناحية زعمه أن القرآن الكريم   1 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص6. 2 سورة المرسلات: الآيتين 25، 26. 3 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص130. 4 سورة الملك: من الآية 3. 5 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 852 خاطب القوم بما عرفوا فحسب؛ وإنما لأنه جزم أن المراد بالسماوات هي تلك الكواكب السيارة؛ فذهب يلتمس تعليلًا لوصف القرآن الكريم لها بأنها سبع. روايته للإسرائيليات: ومع أنه يحرض في تفسيره لجزء تبارك على الإيجاز، إلا أنه يورد فيه الإسرائيليات من غير موجب. ففي حديثه عن نوح -عليه السلام- يقول: "وجاء في كتب الأوائل أن في زمن "أنوش بن شيث بن آدم" ابتدأت عبادة الأوثان، وجعل الناس يسمون المخلوقات آلهة؛ فكان أنوش يجمع أهل بيته وذويه للصلاة والتسبيح وعبادة الله وحده. وفي زمن إدريس -عليه السلام- وهو "أخنوخ بن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش - كثر النفاق، وانغمس الناس في الآثام؛ فأنزل الله عليه وحيًا في سفر هو صحف إدريس المشهورة، ولم يبقَ من ذلك السفر سوى فقرة يقولون: إنها وجدت في أطواء بعض الكتب المقدسة"1. بل ويذكر الأستاذ المغربي من الإسرائيليات ما يخالف نص القرآن، ولا ينبه إلى ذلك مجرد تنبيه؛ وذلك قوله: "وذكر في الأسفار القديمة أن نوحًا ولد لسنة 182 من عمر أبيه "لامك" ولسنة 1056 لجده الأكبر آدم -عليه السلام- ومعنى نوح: الراحة والتعزية، وكان عمر نوح 500 سنة لما أخذ يلد أولاده سامًا وحامًا ويافث، وكان عمره 600 سنة لما حصل الطوفان"2. وهذا الذي نقله يخالف نص قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} 3. التحذير من البدع والمنكرات: وفي سبيل الإصلاح الاجتماعي يُحذِّر الشيخ عبد القادر المغربي من البدع والمنكرات التي تنتشر في المجتمع إذا ما جاءت مناسبة لذلك، ففي قوله تعالى:   1 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص55. 2 المرجع السابق: ص56. 3 سورة العنكبوت: الآية 14. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 853 {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} تحدث عن نشأة الوثنية ثم قال: "ومن تأمل ما قلناه في مناشئ ظهور الوثنية في البشر فَهِمَ السر في كون الدين الإسلامي يحرم إقامة الصور، ونصب التماثيل، وتشييد القبور وتجصيصها على رمم العظماء، وفي حديث علي رضي الله عنه: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لي: "لا تدع صنمًا إلا طمسته، ولا قبرًا إلا سويته" 1، فإن الوثنيين كانوا يتخذون من مواثل القبور والأصنام ذكرى لرجالهم الصالحين، وليست ذكراهم لهم ذكرى عظة واعتبار؛ وإنما هي ذكرى استمداد أسرار واقتباس أنوار واستغراق واستحضار واسترزاق واستمطار والتماس منافع واستكفاء أضرار، فسَدَّ دين الإسلام الذريعة بتحريم هذه المواثل؛ خشية أن تسترهب ضعفاء العقول وتستهويهم، ومن مزالق الوثنية تقربهم وتدنيهم، فلله الإسلام ما أعدله فيما شرع وحكم! وما أوضح نهجه فما خط لنا من الهداية ورسم! "2. ولولا خشية الإطالة لسقنا أمثلة أكثر من هذا، ولعل فيما ذكرنا السداد إن شاء الله تعالى.   1 رواه الإمام أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، وأبو داود في سننه؛ ولكن بلفظ: "ألا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولاقبرًا مشرفًا إلا سويته". 2 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص62. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 854 رأيي في هذا المنهج : ليس من السهل أن أنقد هنا منهج المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة؛ ذلكم أن مثل هذا لا يكفيه عشرات الصفحات إن أردت الوفاء. ولئن كان لا يسعنا هذا، فإنه لا يسعنا أن نضرب عنه صفحًا ونتركه هملًا؛ فليكن السداد والمقاربة، ولن أسلك في بيان رأيي لهذا منهج النقد المستوفي، فلن أذكر رأي السلف في التفسير العقلي، ولا رأي المعاصرين لرجال المدرسة فيهم -الأنصار والخصوم- ولن أذكر أثر هذه المدرسة في الفكر الإسلامي الحديث، وإذًا لو فعلت لاحتاج الأمر إلى مجلدات، ومما لا ريب فيه -عندي- أن هذه المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة قد أحدثت في العصر الحديث من الأثر ما لم تحدثه أيُّ مدرسة أخرى نعرض لها، حتى مدرسة التفسير العلمي التجريبي. ذلكم أن المدرسة الأخيرة تناولت جانبًا واحدًا من جوانب التفسير؛ بل ومن جوانب الحياة عامة، أما المدرسة موضوع حديثنا هذا فقد توغلت أبحاثها ومازجت جسد الأمة الإسلامية؛ فلا تكاد تجد عضوًا فيه -كدت أقول: ولا خلية- إلا وقد عرضت له، وفيه منها أثر. عرضت فيما عرضت لعقيدة الألوهية والنبوة والوحي والمعجزات والبعث وأمارات الساعة والقضاء والقدر وأصل الإنسان والملائكة والجن. وعرضت للقرآن الكريم في تفسيره ومقاصده وشموله وترجمته وقصصه وإعجازه وجدله وناسخه ومنسوخه والتفسير العلمي والإسرائيليات والتفسير بالمأثور وبالعقل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 855 وعرضت للفقه وأصوله، وحذرت من التقليد، وأنكرت على المقلدين، واجتهدت في كثير من القضايا الفقهية، وجاءت بما هو جديد. وتناولت قضية المرأة، وهي الوتر الحساس في هذا العصر من جوانب شتى؛ في مكانتها ومنزلتها في المجتمع، وعملها، وتعدد الزوجات، والطلاق، وتعلمها، وسائر ما يتعلق بها. وتناولت وباشرت السياسة والحكومة الإسلامية، والعَلاقة مع الاستعمار في سائر البلاد الإسلامية، وأمورًا شتى يطول تَعْدَادها. لا شك أن حركة هذا بعض مجالها سيكون لأثرها رُقعة واسعة في المجتمع الإسلامي، وهكذا كان الأمر؛ ذلكم أن تلاميذ وأتباع هذه المدرسة بما مكن لهم في المجتمع والدولة من مراتب عليا، وما كان لهم من نشاط كبير، والسمعة التي اكتسبوها؛ فقد تهيأت لهم الفرصة -بل الفرص- لبث ما يشاءون في المجتمع، ولا يعني هذا أن البيئة التي استقروا فيها كانت خالية من المعارضة؛ لكنها لم تكن من القدرة؛ بحيث يكون لها من أثر كبير تُجاهها. وعلى كل حال، وكما هي سنن المجتمع ما أن تنجح أو تتجه الأنظار إلى مبدأ من المبادئ أو حركة من الحركات حتى تصبح هدفًا مستهدفًا من طواف شتى وملل ونحل بعضها صادق وبعضها محتال. وهكذا كان الأمر في هذه المدرسة، سلكت منهجها طائفة من الناس مؤمنين مؤيدين مقتنعين، واستغلت طائفة أخرى هذا القبول؛ فبثوا باسمها -وألصقوا أنفسهم بها إلصاقًا- مبادئ منحرفة وآراء زائغة لا لشيء إلا ليكسبوا التأييد ويحظوا بالقبول. وقامت طائفة أخرى تشيد بمبادئ المدرسة ورجالها لا لشيء إلا لمنصب أو كسب جاه أو مكانة. ورفضت طوائف أخرى هذه المدرسة، وهم ملل شتى لا يقلون عن النور الآخر أصنافًا. رفضتهم طائفة غيرة على الإسلام حقًّا، ورأوا أن لهم آراء خاطئة ومفاهيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 856 قاصرة، فأرادوا أن يُحذِّروا المسلمين من هذه الأخطاء، وأن يعرف الناس مكانة هؤلاء وينزلونهم منزلتهم. ورفضتهم طائفة لأنهم رأوا فيهم أعلامًا مسلمين، يسعون لنشر مبادئ الإسلام؛ فغاظهم هذا؛ فذهبوا يشككون بهم، ويذكرون مع الحقيقة ألف كذبة. ورفضتهم طائفة عجزت عن الوصول إلى درجتهم، فرأت أن أقصر سبيل هو النيل منهم. والحق الذي لا مراء فيه أن هذه المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة لها من المحاسن كثير، ولها من المساوئ كثير، فضلًا عن العلاقات الغامضة والحوادث المبهمة والأسرار والألغاز التي تحيط ببعض رجال هذه المدرسة، ولا زالت ولن تزال موضع أخذ وردٍّ بين الأنصار والخصوم والمعتدلين. وعلينا إن أردنا الخير والصلاح وما فيه الفلاح أن نأخذ من حسنات هذا المنهج: 1- الأسلوب الذي سلكوه في بث أفكارهم؛ بالحديث المباشر في المساجد والمجتمعات والمنتديات والمحاضرات، وفي الصحافة، وفي المؤلفات. 2- الأسلوب الذي نهجوه في صياغة الحديث، فليس بالحديث المتكلَّف الذي يرقى عن مدارك العامة، ولا الأسلوب الذي يمجه ويأنفه الخاصة. 3- توجيه الاهتمام للقضايا التي تهم المجتمع، وتجلب انتباه سائر الفئات والأجناس وتشد انتباههم، ثم الولوج من هذا لبث مبادئ الإسلام الصحيحة. 4- الاتصال والتعرف على مختلف الطبقات من الملوك والوزراء والأمراء والعلماء والموظفين والفلاحين، والاتصال بكل الفئات، وتوجيه كل منها حسب فلكها ومدارها إلى الوجهة الإسلامية الصحيحة. 5- للمدرسة جهود لا تُنكر في الإصلاح الاجتماعي في شتى نواحيه، ولها أخطاء وانحرفات، ولنأخذ ما هو مقبول، ولنوسع الحديث فيه، ونُحذِّر من سواه ونبينه للناس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 857 6- تفسير القرآن بالقرآن، والإعراض عن الخوض في المبهمات، والتحذير من الإسرائيليات، والقول بالشمول في القرآن الكريم، وأنه المصدر الأول للتشريع، كلها أسس سليمة في التفسير، فلنقوِّم هذه الأسس ولنلتزمها، ولنحذر من الوقوع في مخالفتها كما وقع بعض رجال المدرسة أنفسهم وهم يدعون إليها، ولا شك أن هذه خطوة جيدة للوصول إلى الأفضل. 7- بسط السيرة النبوية والأخلاق المحمدية بأسلوب ميسر وسيلة ناجحة لنشر المبادئ الإسلامية بين المسلمين بمختلف طبقاتهم. ليست هذه فحسب حسنات هذا المنهج الذي سلكه رجال المدرسة العقلية الاجتماعية؛ وإنما هي مجرد الإشارة. وفي مقابلها جوانب أخرى أحسبها أخطاء يجب تفاديها، والتحذير منها، وعدم الوقوع في براثنها، فإني أعتقدها مهلكة؛ ومنها: 1- ما يحيط بعض رجال هذه المدرسة من غموض وشبهات، وقد اشترط سلفُنا الصالح فيمن يفسر القرآن الكريم بأن يكون معروفًا بالصلاح والاستقامة وحسن السيرة والسلوك، وألا يكون موضع تهمة. 2- أن بعض رجال هذه المدرسة يفتقدون شروطًا هامة في المفسِّر؛ فبعضهم يجهل السنة، ولا يعرف من الأحاديث إلا القليل؛ بل وأحيانًا يرد من الأحاديث ما هو متفق على صحته لا لشيء من أصول معرفة الحديث ودرجته؛ وإنما لمخالفته لفَهْمِه الخاطئ، وبعضهم لا يعرف من اللغة ما يمكنه من تقرير المعنى الصحيح للآية؛ بل ينكر بعضهم اشتراط معرفة اللغة على المفسِّر. 3- أن بعض رجال المدرسة لم يلتزم الأصول التي يدعو إليها في التفسير؛ فيطنب فيما أُبهم في القرآن، ويروي بل ويكثر من رواية الإسرائيليات، ويورد من التفسير العلمي ما لم تثبت حقائقه. 4- من أخطاء رجال المدرسة -أو غالبهم- عدم اعتدادهم بالتفسير بالمأثور وإنزاله منزلة بعد القرآن الكريم، وهو -ولا شك- خطأ لا يُغتفر، تولد منه انحرافات جِسَامٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 858 5- أما التزامهم لما سموه "الحكم العقلي"، فقد أوقعهم في شراك انحرافات كثيرة في الوحي، ومعجزات الأنبياء -عليهم السلام- وغير ذلك كثير. 6- أنهم فسروا كثيرًا من الآيات تفسيرًا تقربوا به إلى رُوح العصر على حساب الفَهْم الصحيح لمدلول الآية؛ كالقول بأصل الإنسان والملائكة والجن، والولادة من غير أب، والحجاة السجيل. 7- أوَّلوا القصص في القرآن -أو بعضهم- تأويلات باطلة، تشبث بها بعضهم، وصارت سلمًا سهلًا له لإنكار الصدق في قصص القرآن الكريم، وقالوا في المرأة أقوالًا كانت مرقاة لدعاة تحريرها المزعوم، وقالوا في تعدد الزوجات أقوالًا كانت مستند مَن دعا إلى منعه قانونًا. وبعد: فلا شك -كما أسلفت- أن لهذه المدرسة -بل لهذا المنهج- مساوئه، وله حسناته، منها ما ذكرناه ومنها ما لا يخفى. وعلينا أن نبين للناس ما لها وما عليها، فما يزال في الناس طائفة -ومنهم علماء!! - إذا ناقشته في قضية أو أمر أجابك بأن هذا قد قاله فلان من رجال المدرسة، يقول هذا بثقة وقوة وكأنه أسنده إلى نبي معصوم، وهو يحسب بهذا أنه قد أقام الحجة عليك، وإذا لم تنقطع في الجدل بعد هذا الاستدلال نظر إليك شَزْرًا، وكأنك قد أتيت بأمر تكاد الجبال أن تكون له هدًّا. وهذا مما يزيد المصلحين عبئًا إلى عبئهم، فلينزعوا هذا المفهوم الضال أولًا، ثم ليبثوا النبت الصالح ثانيًا. وفَّق الله العاملين المصلحين، الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا. انتهى الجزء الثاني ويليه -إن شاء الله تعالى- الجزء الثالث وأوله الباب الرابع الاتجاه الأدبي في التفسير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 859 المجلد الثالث الباب الرابع: الإتجاه الأدبي في التفسير تمهيد ... الباب الرابع: الإتجاه الأدبي في التفسير تمهيد: لا أخفي أبدًا أني قد كنت ممن التبست عليهم معالم هذا الاتجاه في التفسير واختلطت عندهم خطوطه وحدوده. وحتى بعد أن قرأت فيه كثيرا من الكتب، بل زادته بعض هذه المؤلفات لبسا إلى لبسه وغموضًا إلى غموضه. وليس أدل على ذلك من أن بعض المؤلفين ينكرون كل تأليف قديم فيه ويزعمون اتجاهًا جديدًا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى؟! وزعم آخرون أنه قديم قدم التفسير، زد على هذا اختلافهم في مدلوله وتعريفه و ... و ... وما زالت أقرأ وأتأمل حتى ظهر لي ما أحسبه الحقيقة وقد ظهرت لغيري من قبل. وحين تظهر الحقيقة فإنها توجب على صاحبها إظهارها وإلا كانت حقيقة مكتومة يبوء صاحبها بإثم كتمانها. كنت أعتقد أن الاتجاه الأدبي في التفسير يشمل مناهج ثلاثة: أولا: النهج البياني. ثانيهما: المنهج الموضوعي. ثالثها: منهج التذوق الأدبي. كنت أحسبه كذلك فإذا به غير ما ظننت، وقع الخلط بين أولها وثانيها ما حدود المنهج البياني وما حدود المنهج الموضوعي وهل بينهما من صلة أو هما اسمان لمسمى واحد؟! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 861 وإذا بالحقيقة غير ذلك كله، فليست الموضوعية في التفسير منهجا؟! حتى وإن وصفها كثيرون بذلك؛ إذ هي ليست إلا أسلوبا من أساليب التفسير ووسيلة من وسائله ومركبا من مراكبه. وأساليبه محدودة ومعلومة قسمها العلماء إلى: 1- التفسير التحليلي. 2- التفسير الإجمالي. 3- التفسير المقارن. 4- التفسير الموضوعي. أما التفسير التحليلي فهو أن يلتزم المفسر تسلسل النظم القرآني والسير معه سورةً سورةً وآيةً آيةً. وهو النمط الذي سلكه سائر المفسرين القدامى إلا القليل النادر. وأما التفسير الإجمالي فهو أن يلتزم المفسر تسلسل النظم القرآني أيضا سورةً سورةً، إلا أنه يقسم السورة إلى مجموعات من الآيات يتناول كل مجموعة بتفسير معانيها إجمالا، مبرزا مقاصدها موضحا معانيا مظهرا مراميها، ويجعل بعض "ألفاظ" الآيات رابطا بين النص وبين تفسيره، فيورد بين الفينة والأخرى لفظا من ألفاظ النص القرآني لإشعار القارئ أو السامع بأنه لم يبعد في تفسيره عن سياق النص القرآني ولم يجانب ألفاظه وعباراته ومشعرًا بما انتهى إليه في تفسيره من النص. وأما التفسير المقارن فهو أن يعمد المفسر إلى جملة من الآيات في موضع واحد في سورة واحدة يورد أقوال المفسرين السابقين لا ويوازن بينهما ويقارن، وينقد الضعيف ويؤيد الصحيح. وأما التفسير الموضوعي فهو أن يلتزم المفسر موضوعا قرآنيا واحدا يجمع الآيات الواردة فيه؛ ليتناولها بالتفسير مجتمعة ليصل بعد ذلك -حسب جهده- إلى حكم القرآن النهائي في موضوعه الذي يتناوله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 862 وإذا كانت هذه هي أساليب التفسير في القرآن الكريم وليست مناهجه، بدليل أنه يصح أن يتناول بكل أسلوب منها كل مناهج التفسير فليس الأسلوب إلا مطية، وليس المنهج إلا طريقا للهدف. فيصح أن يسلك بالتفسير التحليلي منهج أهل السنة والجماعة ويصح أن يسلك به منهج الشيعة، بل يصح أن يسلك به الاتجاه العلمي بمناهجه والعقلي وحتى الإلحادي. وكل هذه الاتجاهات موجودة في تفاسير العلماء السابقين، هي من هذا الأسلوب في التفسير وكذا التفسير الإجمالي والمقارن. ويصح أن يسلك بالتفسير الموضوعي الاتجاه العقدي فيكتب عن "آيات الإيمان بالله" وعن "آيات الإيمان بالآخرة"، وعن "آيات الحجة على المشركين بالله"1، وعن "قضايا العقيدة في ضوء سورة ق"2، وعن "سورة الواقعة ومنهجها في العقائد"3، وعن "تصور الألوهية كما تعرضه سورة الأنعام"4، وعن "صراع المذهب والعقيدة في القرآن"5، وعن "المصطلحات الأربعة في القرآن: الإله، الرب، العبادة، الدين"6، وعن "مع الإيمان في رحاب القرآن"7، وعن "الأنبياء في القرآن"8، وعن "النبوة والأنبياء في ضوء القرآن الكريم"9، وعن "رسول الله في القرآن الكريم"10، وعن "نبوة محمد   1 وكلها مؤلفات للأساذ عبد المنعم أحمد تعيلب. 2 للأستاذ كمال محمد عيسى. 3 للأستاذ محمود محمد غريب. 4 للأستاذ إبراهيم الكيلاني. 5 للأستاذ عبد الكريم غلاب. 6 للأستاذ أبي الأعلى المودودي. 7 للأساذ محمد محمد خليفة. 8 للاستاذ سعد صادق محمد. 9 للأستاذ أبي الحسن الندوي. 10 للأستاذ حسن الملطاوي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 863 صلى الله عليه وسلم في القرآن"1، وعن "اليهود في القرآن الكريم"2، وعن "المسيح في القرآن"3، وعن "بنو إسرائيل في القرآن"4، وعن "رحلة الآخرة في القرآن الكريم"5، وعن "القرآن والشيطان"6، وعن "أفعال العباد في القرآن الكريم"7. وكل هذا تفسير موضوعي، وكله من المنهج العقدي في التفسير. ويصح أن يسلك بالتفسير الموضوعي الاتجاه العلمي بمنهجه الفقهي، والعلمي التجريبي، أما الفقهي فكله لا أستثني منه شيئا من التفسير الموضوعي، ذلكم أن صاحبه يتجه إلى آيات الأحكام في القرآن الكريم، فيفردها بالحديث ويقتصر عليها بالتفسير والبيان وهذا أُسُّ التفسير الموضوعي. وقد يقتصر على موضوع واحد فقهي. فيفسر الآيات التي تناولته فيكتب مثلا عن "آيات الجهاد في القرآن الكريم"8، وعن "المال في القرآن"9، وعن "أحكام الحجاب في القرآن"10، وعن "تفسير آيات الربا"11 وكلها تفسير موضوعي من المنهج الفقهي. ويصح أن يسلك بالتفسير الموضوعي الاتجاه العلمي بمنهجه العلمي التجريبي فيتناول بالتفسير الآيات العلمية عامة أو طائفة معينة ذات موضوع واحد منها فيكتب في علم الفلك مثلا: "ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة   1 للأستاذ حسن ضياء الدين عتر. 2 للأستاذ محمد حزة دروزة. 3 للأستاذ عبد الكريم الخطيب. 4 للأستاذ السيد رزق الطويل. 5 للأستاذ عبد العزيز خطاب. 6 للأستاذ فارس محمد ثابت. 7 للأستاذ محمد المجذوب. 8 للأستاذ كامل سلامة الدقس. 9 للأستاذ محمود غريب. 10 للأستاذ أمين أحسن الإصلاحي. 11 للأستاذ سيد قطب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 864 الجديدة"1، أو "التفسير العلمي للآيات الكونية في القرآن"2، أو "تفسير الآيات الكونية"3. وفي علم الطب مثلا: "القرآن والطب"4، أو "مع الطب في القرآن الكريم"5، وغير ذلك من العلوم التجريبية، وكل هذا تفسير موضوعي من المنهج العلمي التجريبي. ويصح أن يسلك بالتفسير الموضوعي الاتجاه الاجتماعي فيكتب عن "دستور الأخلاق في القرآن"6، وعن "المجتمع الإسلامي كما تنظمه سورة النساء"7، وعن "الفلسفة التربوية في القرآن"8، وعن "التربية في كتاب الله"9، وعن "الأمة الإسلامية كما يريدها القرآن"10، وعن "القرآن والمبادئ الإنسانية"11، وعن "وصايا لقمان في القرآن الكريم"12، وعن "فقه الكلمة ومسئوليتها في القرآن والسنة"13، وعن "منزلة الأم في القرآن الكريم14، وعن "الأم في القرآن الكريم"15، وعن "المرأة من خلال الآيات القرآنية"16، وعن   1 للأستاذ محمود شكري الألوسي. 2 للأستاذ حنفي أحمد. 3 للأستاذ عبد الله شحاتة. 4 للأستاذ محمد وصفي. 5 للأستاذين عبد الحميد دياب وأحمد قرقوز. 6 للأستاذ محمد عبد الله دراز. 7 للأستاذ محمد محمد المدني. 8 للأستاذ محمد فاضل الجمالي. 9 للأستاذ محمود عبد الوهاب. 10 للأستاذ محمد الصادق عرجون. 11 للأستاذ محمد عبد الله السمان. 12 للأستاذ محمد محمود مصطفى عمير. 13 للأستاذ محمد عبد الرحمن عوض. 14 للأستاذ عبد المعز خطاب. 15 للأستاذ أحمد عبد الهادي. 16 للأستاذ عصمة الدين كركر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 865 "القرآن والمرأة"1، وعن "القرآن والمجتمع"2، وعن "منهج القرآن في تطوير المجتمع"2، وكل هذا تفسير موضوعي من منهج الإصلاح الاجتماعي. فهل يصح أن تسلك هذه المؤلفات كلها على مختلف مواضيعها واتجاهاتها في منهج واحد من مناهج التفسير؟! لا أحسب هذا يقبله ذو علم. فلا شك إذًا أن التفسير الموضوعي ليس منهجا مستقلا عما سواه من المناهج، بل لا يصح أن يوصف بالمنهجية وشأنه كذلك. فهو ليس إلا وسيلة من وسائل التفسير يتناول بواسطته كل المناهج التفسيرية. ولذا فلا يصح أن يعد منهجا وإنما هو أسلوب من أساليب التفسير، وحين ينحصر هذا الجزء من المناهج الثلاثة التي حسبتها تكون الاتجاه الأدبي في التفسير ويبقى المنهجان: 1- المنهج البياني. 2- منهج التذوق الأدبي. يزول اللبس وتظهر المعالم وتنجلي الحقيقة. ولست أزعم لنفسي كشفها، ولست ممن يضع في إحدى أذنيه قطنا وفي الأخرى عجينا -كما يقولون- فلا يسمع رأيا ولا يقبل قولا وقد يكشف له حقائق كانت عن بصره مستورة أو يجلو غشاوة في بصره كانت تعميه، وما زلت أطلب الحقيقة فهي ضالتي وأحسبني والحمد لله قد وصلت إليها. وعلى هذا فسأقتصر في حديثي عن هذا الاتجاه على المنهجين السابقين: 1- المنهج البياني. 2- منهج التذوق الأدبي.   1 للأستاذ محمود شلتوت. 2 للأستاذ محمد البهي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 866 الفصل الأول: المنهج البياني في التفسير مدخل ... الفصل الأول: المنهج البياني في التفسير في أمة كانت تقيم للشعر أسواقا وللخطابة ندوات وتعد الشعر ديوانا وسجلًّا للمفاخر نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين. كانت أمة تمسك بزمام البلاغة والفصاحة لا تجاري عرفت بحسن الأداء وجمال المنطق وسلاسة التعبير وما يزال الناس بعد أربعة عشر قرنا من الزمان يرددون قصائدهم ويحفظون خطبهم وهم يعدونها مثالا للبلاغة والفصاحة، فقد نزل عليهم القرآن الكريم وهم في ذروة من البلاغة وقمة من الفصاحة فكانوا ملوكها وأساطينها. وأشد ما تكون المعجزة إعجازا إذا نزلت في قوم برعوا في موضوعها وقد كانت معجزة القرآن الكريم كذلك. وعلى قدر قوة هذه المعجزة كانت الصدمة للقوم بعد عجزهم قوية، فمنهم من بادر من فوره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مذعنا مسلما، ومنهم من عاند واستكبر ولم يعِ ما يقول، قال وقالوا شعرا، وقال وقالوا سحرا، وقال وقالوا كهانة وهو وهم يعرفون أنه ليس بهذا ولا بذاك ولا بذلك. وكما طوعت لهم أنفسهم أن يقولون بهذا يخدعون أنفسهم طوعت لهم أن يقولوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَر} 1 ولم يكونوا صادقين وإنما كانوا يلتمسون   1 سورة النحل: الآية 103. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 867 لأنفسهم عذرا بعجزهم عن مجاراته ويدرؤون عن أنفسهم معرة الإفحام فأخطأوا السبيل وهم لا يعُونَ لهول الصدمة لم يجعلوا هذا البشر المزعوم منهم فهم يعرفون قصورهم عن درك هذا القول، فنسبوه إلى رجل هل تدرون من هو؟! إذًا ستسخرون!! لرجل كان حدادًا منهمكًا في مطرقته وسندانه عامي الفؤاد لا يعلم الكتاب إلا أماني أعجمي اللسان لا تعدو قراءته أن تكون رطانة لا يعرفها محمد صلى الله عليه وسلم ولا أحد من قومه. ولكن ذلك كله لم يكن ليحول بينه وبين لقب "الأستاذية" الذي منحوه إياه على رغم أنف الحاسدين! هكذا ضاقت بهم دائرة الجدر فما وسعهم إلا فضاء الهزل وهكذا مضوا في هزلهم حتى خرجوا عن وقار العقل، فكان مثلهم كمثل من يقول: إن العلم يستقي من الجهل وإن الإنسان يتعلم كلامه من الببغاء! وكفى بهذا هزيمة وفضيحة لقائله: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 1، 2. ومع هذا فإنا نسمع حينا في دياجير الظلام أصواتا لم تستطع أن تخرق طبقات الحق إلى ظلمة الباطل فلا تجد إلا الاعتراف والإذعان فتقول: "والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر وما يقول هذا بشر" لكنها لا تلبث وقد طغى عليها العناد إلا أن تعود إلا ضلالها، فتزعم الباطل كره أخرى. والاعترافات عديدة والعناد كثير لذا فلم يكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن "يهدي من أحب" ومن لم يحب أيضا إلى الإيمان، وإنما كلف بأن يسمع المشركين كلام الله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} 3 لم يكلف بما بعد الإسماع؛ لأن المانع بعده ليس "الإقناع"، فقد حملته الآيات وإنما هو العناد، والعناد لا تنفع معه الحجة والبرهان، وإذا لم يكن ثم عناد فقد حدثنا القرآن عن قوم:   1 سورة النحل: الآية 103. 2 النبأ العظيم: د. محمد عبد الله دراز ص64. 3 سورة التوبة: الآية 6. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 868 {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا} 1. وهذا عمر رضي الله عنه وهو من هو يقع في أسر البيان القرآني في وقت كان الشرر يتطاير من عينيه حين علم بإسلام أخته فذهب ليفتك بها، فإذا به يقع في أسر بيان آيات من سورة طه لا يملك معها إلا الإذعان والإيمان، حيث لا عناد. وهذا جبير بن مطعم رضي الله عنه يقع في أسر البيان القرآني حين سمع من في الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} 2 حتى اعترف "كاد قلبي أن يطير" وآمن: "وذلك أول ما وقر الإسلام في قلبي"3؛ لأنه لم يكن ثم عناد. ومما يؤكد تأصل العناد في قلوب المشركين ضربهم الحصار حول القرآن الكريم حتى لا يسمعه سماعًا القادمون في موسم الحج ومع هذا فقد فتح مصعب بن عمير رضي الله عنه يثرب بآيات من القرآن مكث فيها يقرأ القرآن على أهلها، فآمنوا ودعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة إليهم حتى قيل: "فتحت الأمصار بالسيوف وفتحت المدينة بالقرآن"4، وهل هناك من سلاح أقوى من سلاح البيان القرآن؟!. ليس الجديد في القرآن لغته لكن من الجديد فيه أنه أمة وحده في البلاغة العربية: "وأنه في كل شأن يتناوله يختار له أشرف المواد وأمسَّها رحمًا بالمعنى المراد وأجمعها للشوارد وأقبلها للامتزاج ويضع كل مثقال ذرة في موضعها الذي هو أحق بها وهي أحق به بحيث لا يجد المعنى في لفظة إلا مرآته الناصعة وصورته الكاملة ولا يجد اللفظ في معناه إلا وطنه الأمين وقراره المكين. لا يوما أو بعض يوم، بل على أن تذهب العصور وتجيء العصور فلا المكان يريد بساكنه   1 سورة مريم: الآية 58. 2 سورة الطور: الآية 35. 3 الإتقان في علوم القرآن: السيوطي ج2 ص123. 4 بيان إعجاز القرآن: لأبي سليمان الخطابي ص65. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 869 بدلا. ولا الساكن يبغي عن منزله حولا وعلى الجملة يجيئك من هذا الأسلوب بما هو المثل الأعلى في صناعة البيان"1. خلاصة الأمر أن هذا البيان القرآني يجمع أمورا جملتها النظم الفريد العجيب الحسن المخالف لأساليب العرب، والصور البيانية التي تؤلف أبدع تأليف بين أفصح الألفاظ الجزلة وأصح المعاني الحسنة"2. هذه الأمور هي التي اتجهت إليها همة طائفة من المفسرين وأولوها اهتماما واتسعت الدراسات حولها وكثرت، ولئن كان للعصر الحديث منها نصيب كبير فإن جذورها تمتد إلى عصر نزول القرآن الكريم. وقد حسب بعض المؤرخين للمنهج البياني في التفسير خلو صدر الإسلام منه وتجاوزه إلى ما بعده حين ظهرت المصطلحات البلاغية في صدر العصر العباسي هم يحسبون أن معرفة البيان القرآني فرع عن معرفة "المصطلحات البلاغية" وفاتهم أن قوم الفطرة قد درسوا القرآن دراسة من يعرف مناحي البيان وإن فاتهم معرفة مصطلحاته التي ظهرت من بعدهم فهم يعرفون مناحي الإيجاز والإطناب ومواضع الحقيقة والمجاز وقد كفانا الجاحظ مؤنة الرد على من أنكر ذلك فقال: "فإذا زعم زاعم أنه لم يكن في كلامهم تفاضل ولا بينهم في ذلك تفاوت فلم ذكروا العي والبكئ والحصر والمفحم، والخطل، المسهب والمتشدق والمتفقه والهماز والثرثار والمكثار والمهماز؟ ولم ذكروا الهجر والهذر والهذيان والتخليط؟ وقالوا: رجل تلفاعة وتلهاعة وفلان يتلهيع في خطبته. وقالوا: فلان يخطئ في جوابه، ويحيل في كلامه، ويناقض في خبره ولولا أن هذه الأمور قد كانت تكون في بعضهم دون بعض لما سمي ذلك البعض والبعض الآخر بهذه الأسماء"3. ولا شك أن هذه الأوصاف والمسميات التي ذكرها الجاحظ ترسم الجو   1 النبأ العظيم: الدكتور محمد عبد الله دراز ص92. 2 بيان إعجاز القرآن: لأبي سليمان الخطابي ص65. 3 البيان والتبيين: الجاحظ ج1 ص90-91. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 870 البلاغي الذي تنفست فيه المعاني البيانية قبل أن ترسمها المصطلحات البلاغية المحدثة وفي ذلك ما يدفعنا إلى تلمس الأصول الأولى للتفسير البياني للقرآن الكريم لدى الأوائل من سامعيه1. وإذا ما فعلنا ذلك فإنا سنجد في تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم جملة من ذلك نذكر لها مثالا: بيانه عليه الصلاة والسلام للخيط الأبيض والخيط الأسود في قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ، ببياض النهار وسواد الليل2 منتقلا بالمعنى من الحقيقة إلى المجاز. وفي تفسير الصحابة رضوان الله عليهم نجد جذور وبذور التفسير البياني للقرآن الكريم وأشهر من عرف عنه هذا اللون من التفسير حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما. ولذا فقد جرى بعض المؤرخين للتفسير على اعتبار ابن عباس رضي الله عنهما صاحب الرأي الخاص بتفسير القرآن تفسيرًا لغويا يرجع فيه إلى شعر العرب لمعرفة ما قد يغمض من الألفاظ والتراكيب3. وتاريخ التفسير يحدثنا مرارا عن لقاء نافع بن الأزرق بابن عباس -رضي الله عنهما- فيقول: "بينا عبد الله بن عباس جالس بفناء الكعبة قد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن، فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر: قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به، فقاما إليه فقالا: إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله فتفسرها لنا وتأتينا بمصادقة من كلام العرب فإن الله تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فقال ابن عباس: سلاني عما بدا لكما"4، فسأله نافع عن أكثر من مئة وثمانٍ وثمانين مسألة أوردها السيوطي   1 انظر خطوات التفسير البياني للقرآن الكريم: د/ محمد رجب البيومي ص12. 2 صحيح البخاري: كتاب التفسير ج5 ص156. 3 خطوات التفسير البياني: محمد رجب البيومي ص14. 4 الإتقان في علوم القرآن: السيوطي ج1 ص120. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 871 رحمه الله تعالى في الإتقان"1. وليس ابن عباس رضي الله عنه بالوحيد2 بينهم رضي الله عنهم، فقد شاركه في هذا جملة من الصحابة رضي الله عنهم لكنه من أولهم وأشهرهم فذكرناه واقتصرنا عليه. وقد ورث عن ابن عباس رضي الله عنهما تفسيره طائفة من تلاميذه بما فيه من جذور التفسير البياني، فجاء تفسير مجاهد متأثِّرًا بهذا اللون من التفسير وقد ذكر الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله تعالى جملة من هذا وذاك في كتابه "معجم غريب القرآن". كل هذا كان قبل عصر التدوين. ولعل هذه الخاصة فيه هي التي جعلت كثيرا من المؤرخين يتجاوزون هذه المرحلة ويعرضون عنها مبتدئين تاريخهم للتفسير البياني ببداية عصر التدوين.   1 انظر الإتقان: ص120 إلى 133 ج1. 2 هذا لا يعني صحة نسبة هذه الأسئلة من نافع لابن عباس رضي الله عنهم كلها؛ فلا شك أنه يصعب الاقتناع بأن مثل نافع يسأل مثل هذه الأسئلة فلو جاز له أن يسأل مثلاً عن "رئيا" "تتبيب" "حميم آن" وغيرها؛ فإنه لا يصح أن يسأل وهو من هو في معرفة اللغة عن "عذاب أليم" "أطعموا البائس" "اضربوا كل بنان" وغيرها، فإن هذا ونحوه لا يعوص فهمه على مثل نافع، زد على هذا أن الرواية تحكي استشهاد ابن عباس بشعر ابن أبي ربيعة، والحارث والمخزومي وغيرهما ممن جاء بعد انتشار ألفاظ القرآن فلا يعقل أن يقتنع نافع بشعرهم ونحو هذا استدلاله بشعر حسان رضي الله عنه، وأمية بن أبي الصلت، وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وهم لا شك درسوا القرآن وتأثروا بأسلوبه وعباراته فاقتبسوا منه في أشعارهم فلا يستدل بنحو ذلك، وإنما الحجة في نحو هذا لشعراء العربية قبل انتشار آيات القرآن وتداولها بين الناس لكن هذا كله احتياط لا يمنعنا من التسليم بجوهر المسألة أعني رجوع ابن عباس إلى الشعر العربي في التفسير ولا يمنع أن يكون نافع سأل عن بعض هذه الأسئلة وزاد عليها من بعده الرواة ما زادوا ويبقى ما بقي وهو كثير حجة على ما أردنا إثباته من ثبوت جذور التفسير البياني لدى ابن عباس رضي الله عنهما، وقد اقتبست هذا الاحتياط العلمي من الدكتور محمد رجب البيومي في كتابه خطوات التفسير البياني، ص18-19. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 872 وأول ما يصادفنا في هذا العصر -عصر التدوين- كتاب "مجاز القرآن" لأبي عبيدة معمر بن المثنى رحمه الله تعالى المتوفى سنة 210، وينبغي أن أذكر هنا ما ذكره ابن تيمية رحمه الله تعالى عن المراد بالمجاز هنا حيث قال: "أول من عرف أنه تكلم بلفظ المجاز أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه ولكن لم يُعنَ بالمجاز ما هو قسيم الحقيقة وإنما عنى بمجاز الآية ما يعبر به عن الآية"1، وذلك أنه حين يتعرض للنصوص القرآنية يشير إلى ما تدل عليه من حقيقة أو مثل أو تشبيه أو كناية وما يتضمن من ذكر أو حذف أو تقديم أو تأخير فوضع بذلك اللبنة الأولى في صرح الدراسات البلاغية للقرآن الكريم، وقد يكون في ذلك بعض التجوز في التحديد ولكنه منهج مبدئي وله بذلك موضعه من التقدير2. وجاء من بعده سيل من المؤلفين في هذا المضمار فألف الفراء كتابه "معاني القرآن" ومع أن الفراء هذا يقول: "لو حمل إلي أبو عبيدة لضربته عشرين في كتاب المجاز"3 فإن كتابه المعاني جاء على نفس طريقة أبي عبيدة وإن غلب النحو على نهجه ودراسة الكتابين توحي باتحاد المنحى لدى الرجلين في البدء بتفسير الآيات حسب ترتيبها في المصحف واتَّبعه في إيراد المسائل البيانية من كناية وتشبيه ومثل واستعارة ومجاز4، واتبعه كظله في تذييل تفسيره بذكر الحديث والأمثلة الشعرية والنثرية لبيان المعنى وتوضيحه ولا يفوته أحيانا أن يورد بعض المأثور عن الصحابة والتابعين5. وجاء من بعدهم الجاحظ "ت225" فألف كتابه "نظم القرآن" وهو كتاب مفقود لكن كتب الجاحظ نفسه والدارسين من بعده لا تخلو من الإشارة إليه وبيان غرضه.   1 مجموع الفتاوى: ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم ج7 ص88؛ وانظر ج12 ص277. 2 خطوات النهج البياني: د/ محمد رجب البيومي، ص46. 3 معجم الأدباء: ياقوت الحموي ج19 ص159. 4 خطوات التفسير البياني: د/ محمد رجب البيومي، ص59. 5 إعجاز القرآن البياني بين النظرية والتطبيق: د. حفني شرف، ص20. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 873 وابن قتيبة "276" ألف كتابه تأويل مشكل القرآن رد فيه على الطاعنين في بلاغته، والجاحظ خطيب المعتزلة وابن قتيبة خطيب أهل السنة كما يقولون1. ودخل القرن الرابع الهجري الذي اختار أصحابه لهذا اللون من التفسير عنوان "إعجاز القرآن" 2 فألف فيه من أهله أبو الحسن علي بن عيسى الرماني "ت386" كتابه "النكت في إعجاز القرآن" وألف أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي "ت388": "بيان إعجاز القرآن". وفي هذا القرن أيضا ألف قاضي المعتزلة أبو الحسن عبد الجبار الهمداني "ت315" كتابه "المغني في أبواب التوحيد والعدل" خص إعجاز القرآن بجزء منه مستقل. ومن أهل هذا القرن أيضا أبو بكر الباقلاني "403" وقد ألف كتاب "إعجاز القرآن". وجاء القرن الخامس وأظهر ما فيه وأشهر كتاب عبد القاهر الجرجاني "ت471": "دلائل الإعجاز" ورسالته التي سماها "الرسالة الشافية في إعجاز القرآن الكريم". وجاء القرن السادس وما أدراك ما القرن السادس؛ ألف فيه أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري "ت538" كتابه "تفسير الكشاف" وحسبك به في هذا اللون من التفسير. وفي أواخر هذا القرن ألف فخر الدين الرازي "ت606" رسالته "نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز". وفي القرن السابع وضع أبو الأصبع المصري "ت654" كتابه "بديع القرآن" وكتابه "الخواطر السوانح في أسرار الفواتح".   1 خطوات التفسير البياني: د/ محمد رجب البيومي، ص92. 2 الإعجاز البياني للقرآن: د/ عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ"، ص18. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 874 وفي القرن الثامن وضع الإمام يحيى بن حمزة العلوي "ت749" كتابه "الطراز" أملاه على أصحابه بعد أن قرأوا تفسير الكشاف فطلبوا منه أن يملي عليهم في إعجاز القرآن كتابًا، فأملاه عليهم. وفي القرن التاسع ألف برهان الدين بن عمر البقاعي "ت885" كتابه "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور". وفي أواخر هذا القرن وأوائل القرن العاشر جاء الإمام جلال الدين السيوطي "ت911" صاحب المؤلفات والمصنفات في هذا الموضوع وغيره ومنها كتابه "تناسق الدرر في تناسب السور" وغيره كثير. ولا أعرف كتابا أو تفسيرا من هذا اللون في القرنين الحادي عشر والثاني عشر أما القرن الثالث عشر فقد ألف فيه شهاب الدين السيد محمود الألوسي "ت1217" تفسيره "روح المعاني" حتى عده بعض المعاصرين "امتداد لتفسير الكشاف للزمخشري في الاهتمام بالمسائل البلاغية والنحوية"1. هذه إشارة سريعة لم أقصد بها استيفاءً ولا شمولًا ولا استقصاءً وإنما قصدت الإشارة إلى وجود الدراسات البيانية للقرآن الكريم عند الأقدمين وتسلسلها عبر القرون واتصالها بعضها ببعض من عصر نزول القرآن الكريم إلى القرن الرابع عشر الهجري. ولم أضرب الأمثلة؛ إذ أن ضرب المثال في مثل هذا المقام يوجب استيفاء جوانبه الفكرية ولو فعلت هذا وذاك لكان في كتاب ضخم وقد كفاني مؤونة ذلك أستاذان فاضلان تتبعا خطوات التفسير البياني حتى العصر الحديث هما الدكتور محمد رجب البيومي في خطوات التفسير البياني للقرآن الكريم، والدكتور حفني محمد شرف في كتابه "إعجاز القرآن البياني بين النظرية والتطبيق". ولعلِّي بعد هذا أجد مبررا للولوج إلى ميدان القرن الرابع عشر الهجري حيث أسمع جلبة، لعلي آتيكم منها بخبر.   1 إعجاز القرآن البياني: د/ حفني محمد شرف، ص303. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 875 تطور التفسير البياني : أشرقت شمس القرن الرابع عشر الهجري وطوقت بإشعتها الذهبية منارات الأزهر الشريف وفي ظلها وتحت فيئها يجلس عالم يلبس عمامة الأزهر وجلبابه وحوله عدد من تلاميذه جثيًّا على الركب يطلبون العلم والمعرفة. ذلكم الشيخ محمد عبده يقرر لتلاميذه في بداية درسه القرآن الكريم الأمور التي يجب أن يلتزمها المفسر، فتسارق النظر إلى أوراق تلميذه السيد رشيد رضا تستدرك ما فاتك من الدرس فتقرأ فيها: "للتفسير مراتب: أدناها: أن يبين بالإجمال ما يشرب القلب عظمة الله وتنزيهه، ويصرف النفس عن الشر ويجذبها إلى الخير وهذه هي التي قلنا: إنها متيسرة لكل أحد {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} 1. وأما المرتبة العليا: فهي لا تتم إلا بأمور: "أحدها": فهم حقائق الألفاظ المفردة التي أودعها القرآن -بحيث يحقق المفسر ذلك من استعمالات أهل اللغة، غير مكتفٍ بقول فلان وفهم فلان، فإن كثيرا من الألفاظ كانت تسعمل في زمن التنزيل لمعانٍ ثم غلبت على غيرها بعد ذلك بزمن قريب أو بعيد إلى أن قال: يجب على من يريد الفهم الصحيح أن يتتبع الاصطلاحات التي حدثت في الملة، ليفرق بينها وبين ما ورد في الكتاب فكثيرا ما يفسر المفسرون كلمات القرآن بالاصطلاحات التي حدثت في الملة بعد القرون الثلاثة الأولى، فعلى المدقق أن يفسر القرآن بحسب المعاني التي كانت مستعملة في عصر نزوله، والأحسن أن يفهم اللفظ من القرآن نفسه بأن يجمع ما تكرر في مواضع منه، وينظر فيه، فربما استعمل بمعانٍ مختلفة كلفظ الهداية. ويحقق كيف يتفق معناه مع جملة معنى الآية فيعرف المعنى المطلوب من بين معانيه، وقد قالوا: إن القرآن يفسر بعضه ببعض، وإن أفضل قرينة تقوم على حقيقة معنى اللفظ: موافقته لما سبق له من القول واتفاقه مع جملة المعنى وائتلافه مع القصد الذي جاء له الكتاب بجملته.   1 سورة القمر: الآية 17. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 876 ثانيها: الأساليب فينبغي أن يكون عنده من علمها ما يفهم به هذه الأساليب الرفيعة. وذلك يحصل بممارسة الكلام البليغ ومزاولته مع التفطن لنكته ومحاسنه والعناية بالوقوف على مراد المتكلم منه؛ نعم إننا لا نتسامى إلى فهم مراد الله تعالى كله على وجه الكمال والتمام، ولكن يمكننا فهم ما نهتدي به بقدر الطاقة ويحتاج في هذا إلى الإعراب وعلم الأساليب "المعاني والبياني"، ولكن مجرد العلم بهذه الفنون وفهم مسائلها وحفظ أحكامها لا يفيد المطلوب. ثالثها: علم أحوال البشر. رابعها: العلم بوجه هداية البشر كلهم بالقرآن. فجيب على المفسر القائم بهذا الفرض الكفائي: أن يعلم ما كان عليه الناس في عصر النبوة من العرب وغيرهم؛ لأن القرآن ينادي بأن الناس كلهم كانوا في شقاء وضلال، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث به لهدايتهم وإسعادهم وكيف يفهم المفسر ما قبحته الآيات من عوائدهم على وجه الحقيقة أو ما يقرب منها إذا لم يكن عارفا بأحوالهم وما كانوا عليه؟ خامسها: العلم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وما كانوا عليه من علم وعمل وتصرف في الشئون دنيويها وأخرويها"1. ونجد أيضا تلميذه السيد رشيد رضا ينقل عن أستاذه في موضع آخر قوله: "لا يتَّعِظُ الإنسان بالقرآن فتطمئن نفسه بوعده وتخشع لوعيده إلا إذا عرف معانيه وذاق حلاوة أساليبه. ولا يأتي هذا إلا بمزاولة الكلام العربي البليغ مع النظر في بعض النحو، كنحو ابن هشام وبعض فنون البلاغة كبلاغة عبد القاهر وبعد ذلك يكون له ذوق في فهم اللغة يؤهله لفهم القرآن"2. وبهذا يتضح سبب تفضيل الأستاذ الإمام محمد عبده تفسير الكشاف حين سأله تلميذه رشيد رضا: "أي التفاسير أنفع لطلبة العلم؟ قال: الكشاف. قلت:   1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص21-24 باختصار. 2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص182. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 877 تحديد المعاني ونكت البلاغة بالعبارة الدقيقة المختصرة"1. هذه بعض النصوص الكثيرة التي جاءت في تفسير المنار أحسبها نواة التفسير البياني للقرآن الكريم والأستاذ الإمام وإن خط لنا أهم قواعد هذا النهج إلا أنه كما يقول الدكتور كامل سعفان. لم يلتزمه فقد غلبه طابع الإصلاح الاجتماعي2. وحين ننفي الالتزام فإنا لا ننكر أنها وضعت بذور هذا الاتجاه في العصر الحديث ولكن جهودهم -كما يقول الدكتور عفت الشرقاوي لم تَعْدُ اللمحات العابرة التي تكشف عن نكتة بلاغية خفية، أو لمحة بيانية ذكية، فهي لم تكن تؤلف في جملتها منهجا أدبيا واضحا يمكن أن ينسب إليها"3. وحتى لا أغمط الرجل حقه وحتى لا أنكر جهده أذكر أمثلة للتفسير البياني عنده تظهر جليا بذور هذ المنهج. خذ مثلا تفسيره لقوله تعالى: {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ} 4 تراه يقول: "كثر خلاف المفسرين والرواة في معنى كل من الفجر وليال عشر إلى آخر ما أقسم به. وقد يفسر الواحد منهم الفجر بمعنى، ثم يأتي في الليالي العشر بما لا يلائمه وغالب ذلك يجري على لا ما عودنا الله في نسق كتابه الكريم. وقد جرت سنة الكتاب بأنه إذا أريد تعيين يوم أو وقت ذكره بعينه. كيوم القيامة في لا اقسم بيوم القيامة وكاليوم الموعود في سورة والسماء ذات البروج. وكَلَيْلَةِ القدر في سورتها فإذا أطلق الزمن ولم يقيد كان المراد ما يعمه معنى الاسم، كما سبق في   1 تاريخ الأستاذ الإمام: محمد رشيد رضا ج1 ص390. 2 المنهج البياني في تفسير القرآن الكريم: د/ كامل علي سعفان، ص43. 3 الفكر الديني في مواجهة العصر: د/ عفت محمد الشرقاوي، ص302. 4 سورة الفجر: الآيتين 1، 2. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 878 قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} 1 فالفجر على هذا هو جنس ذلك الوقت المعروف الذي يظهر فيه بياض النهار في جلد الليل الأسود. وينبعث الضياء لمطاردة الظلام، وهو وقت تنفُّس الصبح، وهو معهود في كل يوم فصح أن يعرف بالألف واللام، والمراد والله أعلم من ليالٍ عشر يتشابه حالها مع حال الفجر، وهي ما يكون ضوء القمر فيها مطاردًا لظلام الليل إلى أن تغلبه الظلمة، فكأنه وضع التناسب على شيء من التقابل، فضوء الصبح يهزم ظلمة الليل ثم يسطع النهار ولا يزال الضوء إلى الليل وضوء الأهلة في عشر ليال من أول كل شهر يشق الظلام ثم لا يزال الظلام يغالبه إلى أن يغلبه فيسدل على الكون حجبه"2. ومثلًا آخر في تفسيره لقوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} 3 يقول: "ال" في العسر للاستغراق ولكنه استغراق المعهود عند المخاطبين من أفراده أو أنواعه. فهو العسر الذي يعرض من الفقر والضعف وجهل الصديق وقوة العدو وقلة الوسائل إلى المطلوب ونحو ذلك مما هو معهود ومعروف، فهذه الأنواع من العسر مهما اشتدت وكانت النفس حريصة على الخروج منها طالبة لكشف شدتها، واستعملت من وسائل الفكر والنظر والعمل ما من شأنه أن يعد لذلك في معروف العقل، واعتصمت بعد ذلك بالتوكل على الله حتى لا تضعفها الخيبة لأول مرة ولا يفسخ عزيمتها من تلاقيه عند الصدمة الأولى، فلا ريب أن النفس تخرج منها ظافره إلى أن قال: "وتنكير اليسر؛ لأن الذي يأتي بعد العسر أي نوع من أنواعه لا يختص بيسر معين، والتعبير بالمعية لتوثيق الأمل بأنه لا بد منه كأنه معه"4. ومثلا ثالثا لكنه لتلميذه محمد رشيد رضا في تفسير كلمة {وَمَا يَشْعُرُونَ} .   1 سورة التكوير: الآيتين 17، 18. 2 تفسير جزء عم: الشيخ محمد عبده، ص76-77. 3 سورة الشرح: الآيتين 5-6. 4 تفسير جزء عم: الشيخ محمد عبده، ص114-116. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 879 من قوله تعالى في وصف المنافقين {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} 1 قال: "أقول: قال الراغب بعد الذكر: الشعر "بفتح الشين وسكون العين وفتحها" من مفرداته. وشعرت أصبت الشعر، ومنه استعير: شعرت كذا أي علمت علما هو في الدقة كإصابة الشعر، ومنه يسمى الشاعر شاعرًا لفطنته ودقة معرفته، فالشعر في الأصل اسم للعلم الدقيق في قولهم: ليت شعري. وصار في التعارف اسما للموزون المقفى من الكلام. ا. هـ. أقول ويناسب هذا الشعار "بالكسر" للكساء الباطن الذي يمس شعر الإنسان، والمعروف في كتب اللغة أن شعر به -كنصر وكرم- يشعر شعرا "بالكسر والفتح" وشعورا معناه علم به وفطن له وأدركه، والفطنة تتعلق بالأمور الدقيقة وأطلق بعض المفسرين أن الشعور إدراك المشاعر أي الحواس الخمس، والتحقيق أنه إدراك ما دق من حسي وعقلي، فلا تقول: شعرت بحلاوة العسل وبصوت الصاعقة وبألم كية النار، وإنما تقول: أشعر بحرارة ما في بدني، وبملوحة أو مرارة في هذا الماء، إذا كانت قليلة وبهينمة وراء الجدار، وما ورد في القرآن من هذا الحرف يدل على هذا المعنى، أي إدراك ما فيه دقة وخفاء. فمعنى نفي الشعور عن المنافقين في مخادعتهم الله تعالى أنهم يجرون في كذبهم وتلبيسهم وريائهم على ما ألفوا وتعودوا، فلا يحاسبون أنفسهم عليه ولا يراقبون الله فيه، وما كلهم يؤمنون بوجود الله وإحاطة علمه، ومن يؤمن بوجوده لم يترب "كذا" على خشيته ومراقبته، ولا يفكر فيما يرضيه وفيما يغضبه، فهو يعمل عم ل المخادع له وما يشعر بذلك وأما مخادعتهم للمؤمنين فظاهرة؛ لأنهم اتخذوهم أعداء وهم عاجزون عن إظهار عداوتهم، فأعمالهم التي يقصدون بها إرضاء المؤمنين كلها خداع ورياء"2. تلكم أمثلة ثلاثة قلنا إنها مع أمثالها في تفسير محمد عبده وتلميذه السيد رشيد رضا تعد -كما أسلفت القول- لمحات عابرة تكشف عن نكتة بلاغية   1 سورة البقرة: الآية 9. 2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص151-152. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 880 خفية أو لمحة بيانية ذكية ولم تكن تؤلف في جملتها منهجا أدبيا متكاملا يمكن نسبته إليها وتميزا به. ولئن كان لا يسعنا هنا أن نذكر الفوارق بين منهج الأستاذ الإمام والمنهج الأدبي الذي استوى على سوقه من بعده حتى نستوفي عناصر هذا الأخير فإنه لا يمنعنا أن نذكر فارقا واحدا به يتضح مدى البون بين الطرفين. ذلكم أن الإمام نص في مقدمة تفسير المنار على الهدف الذي يرمي إليه من تفسيره فقال: "والتفسير الذي نطلبه هو فهم الكتاب من حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا، وحياتهم الآخرة فإن هذا هو المقصد الأعلى منه، وما وراء هذا من المباحث تابع له أو وسيلة لتحصيله"1. بينا يرى الأستاذ أمين الخولي أن "المقصد الأول للتفسير اليوم أدبي محض صرف، غير متأثر بأي اعتبار وراء ذلك وعليه يتوقف تحقق كل غرض آخر يقصد إليه؛ هذه هي نظرتنا إلى التفسير اليوم وهذا غرضنا منه وعلى هذا الأساس نتقدم لبيان طريقة تناوله ومنهج درسه"2. وشتان بين منهج يتناول القرآن كقطعة أدبية كقصيدة شاعر أو خطبة خطيب أو نثر كاتب وبين منهج يتناوله طالبا الهداية والرشد أولا وما سواها ثانيا، ولست بحاجة إلى مزيد بيان للبون بينهما ولعلي بعد هذا ألقي عن كاهلي عبء دمج المنهجين في منهج واحد، وأتحدث بعد هذا عن المنهج الأدبي المحض! الصرف.   1 تفسير فاتحة الكتاب: الشيخ محمد عبده، ص5؛ وتفسير المنار: محمد رشيد رضا، ص17. 2 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي، ص35. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 881 قصة تأصيل هذا المنهج : حين أذكر وأكرر أن المنهج البياني في التفسير خاص بالقرن الرابع عشر الهجري فإني لا أعني أبدا نفي الدراسات البيانية في القرون الماضية كيف وقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 881 ذكرت سلسلة منها فيما سلف من هذه الورقات؟! وإنما أعني أن الدراسات السابقة لم تصل في مقصدها إلى ما وصلت إليه في القرن الرابع عشر الهجري. كان هدف الدراسات السابقة هو الهدف الذي ذكرته في تفسير محمد عبده آنفا وأزيد على هذا ما لاحظه الدكتور حفني محمد شرف بعد أن درس "إعجاز القرآن البياني بين النظرية والتطبيق" وانتهى به المطاف إلى ملاحظة هامة دونها في خاتمة رسالته حين قال: "والذي لاحظته أثناء هذا التطواف، وتلك المقابلات أن أكثر علماء الإعجاز درسوا البلاغة العربية وأرخوا لها وطوروا دراستها؛ لأنهم كانوا مؤمنين بأن دراسة البلاغة وسيلة لغاية أسمى، وهي إعجاز القرآن البياني، ويمكن التأكد من هذا بالرجوع إلى مقدمات مؤلفاتهم في البلاغة التي كثيرا ما يصرحون فيها بهذه الملاحظة التي أشرت إليها"1. بمعنى آخر: إن الدراسات السابقة كانت وسيلة وليست غاية أما الدراسات هذه في الفترة التي نريد جلاءها فهي غاية تدرس النص القرآني "وقصدها الأول أدبي محض صرف غير متأثر بأي اعتبار وراء ذلك، وعليه يتوقف تحقق كل غرض آخر يقصد إليه"2، ولذا فلا فرق بين أن يقوم بهذه الدراسة مسلم أو غير مسلم كما يقولون هم بأنفسهم. إذًا فالدراسات الحديثة أصل الدراسة البيانية للقرآن الكريم واستميحكم هنا عذرا بتقديم الدكتورة عائشة عبد الرحمن تلميذة المؤصل -إن صحت التسمية- لهذا المنهج الأستاذ أمين الخولي أقدمها لتوضح لنا بداية هذا التأصيل وإن شئت فسمها قصة هذا التأصيل. تقول بنت الشاطئ: "لكل لغة روائع من آدابها، تعتبرها النماذج العالية لذوقها الأصيل، والمثل الرفيعة لفنها القولي وقد غبرت الأجيال منا تجه إلى نصوص مختارة من شعر العربية ونثرها تضعها بين أيدي القراء أو تقدمها إلى التلاميذ والطلاب وشغلنا نحن أصحاب الدرس الأدبي، أو شغلت الجمهرة   1 إعجاز القرآن البياني بين النظرية والتطبيق: د/ حفني محمد شرف ص375. 2 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي ص35. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 882 منا بالمعلقات والنقائض والمفضليات، ومشهور الخمريات والحماسيات والمراثي والمدائح والغزليات ومأثور الرسائل والأمالي والمقامات، شغلنا بهذا ومثله عن الاتجاه إلى القرآن الكريم الذي لا جدال في أنه كتاب العربية الأكبر ومعجزتها البيانية الخالدة، ومثلها العالي الذي يجب أن يتصل به كل ذي عروبة أراد أن يكسب ذوقها ويدرك حسها ومزاجها ويستشف أسرارها في التعبير والأداء، مسلمًا كان أو غير مسلم. ونحن في الجامعة نترك هذا الكنز الغالي لدرس التفسير، وقلَّّ فينا من حاول أن ينقله إلى مجال الدراسة الأدبية الخالصة التي قصرناها على دواوين الشعر ونثر مشهوري الكتاب، وكان المنهج المتَّبع في درس التفسير -إلى نحو ربع قرن من الزمان-1 تقليديًّا أثريًّا، لا يتجاوز فهم النص القرآني على نحو ما كان يفعل المفسرون من قديم حتى جاء شيخنا الإمام "الأستاذ أمين الخولي"، فخرج به عن ذلك النمط التقليدي وتناوله نصًّا أدبيًّا على منهج أصله، وتلقاه عنه تلامذته وأنا منهم"2. ولئن قرأنا ما كتبته التلميذة فمن الأولى أن نقرأ ما كتبه الأستاذ بنفسه ولئن كان في نصه طول ففيه استيفاء وشمول لبيان المراد. قال مبينا المقصد الحقيقي للتفسير عند الإمام محمد عبده ومعقِّبا عليه: فالمقصد الحقيقي عنده هو: الاهتداء بالقرآن وهو مقصد جليل ولا شك يحتاج المسلمون إلى تحقيقه. لكن ليس بدعا من الرأي أن ننظر في هذا المقصد لنقول: إنه ليس الغرض الأول من التفسير وليس أول ما يعنى به ويقصد إليه. بل إن قبل ذلك كله مقصدا أسبق وغرضا أبعد. تنشعب عنه الأغراض المختلفة، وتقوم عليه المقاصد المتعددة ولا بد من الوفاء به قبل تحقيق أي مقصد آخر، سواء أكان ذلك المقصد الآخر، علميًّا أم عمليًّا، دينيًّا أم دنيويًّا، وذلك المقصد الأسبق والغرض الأبعد هو النظر في القرآن من حيث هو كتاب العربية الأكبر وأثرها الأدبي الأعظم، فهو الكتاب الذي أخلد العربية وحمى كيانها وخلد معها   1 كتبت بنت الشاطئ هذا في شعبان سنة 1381هـ. 2 التفسير البياني للقرآن الكريم: د/ عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ" ص13 ج1. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 883 فصار فخرها، وزينة تراثها، وتلك صفة للقرآن يعرفها العربي مهما يختلف به الدين أو يفترق به الهوى ما دام شاعرا بعربيته مدركًا أن العروبة أصله في الناس وجنسه بين الأجناس، وسواء بعد ذلك أكان العربي مسيحيًّا أو وثنيًّا أم كان طبيعيًّا دهريًّا، لا دينيًّا، أم كان المسلم المتحنف، فإنه سيعرف بعروبته منزلة هذا الكتاب في العربية، ومكانته في اللغة، دون أن يقوم ذلك على شيء من الإيمان بصفة دينية للكتاب أو تصديق خاص بعقيدة فيه وليس هذا شأن العرب فحسب، بل إن الشعوب التي ليست عربية الدم أصلا، ولكن وصلها التاريخ وسير الحياة بهذه العروبة فارتضت الإسلام دينا، أو خالطت العرب فساطت دماءها بدمائهم، ثم اتخذت العربية أصلا من أصول حياتها الأدبية حتى ربطتها العربية هذه الأواصر الوثقى، إلى أن صارت العربية عنصرا أساسيًّا وجانبا جوهريًّا من شخصيتها اللغوية الفنية، قد صار لكِتاب العربية الأعظم وقرآنها الأكرم مكانة بين ما تعنى به، من دراسة أدبية وآثار فنية قولية، فألزمها كل أولئك تناول هذا الكتاب بدراسة أدبية، تتفهم بها أصول ما ورثت من تلك العروبة إن كانت عربية النجار، أو كانت قد اتصلت بتلك العروبة اتصالا حيويًّا قويًّا دفع شخصيتها وسير وجودها ووجه حياتها فالعربي القح، أو من ربطته بالعربية تلك الروابط يقرأ هذا الكتاب الجليل ويدرسه درسا أدبيًّا كما تدرس الأمم المختلفة عيون آداب اللغات المختلفة، وتلك الدراسة الأدبية لأثر عظيم كهذا القرآن هي ما يجب أن يقوم به الدارسون أولا وفاءا بحق هذا الكتاب ولو لم يقصدوا الاهتداء به أو الانتفاع بما حوى وشمل "!! " بل هي ما يجب أن يقوم به الدارسون أولا، ولو لم تنطوِ صدورهم على عقيدة ما فيه، أو انطوت على نقيض ما يردده المسلمون الذين يعدونه كتابهم المقدس، فالقرآن كتاب الفن العربي الأقدس سواء أنظر إليه الناظر على أنه كذلك في الدين أم لا. وهذا الدرس الأدبي للقرآن في ذلك المستوى الفني، دون نظر إلى أي اعتبار ديني هو ما نعتده وتعتده معنا الأمم العربية أصلا والعربية اختلاطا، مقصدا أول وغرضا أبعد يجب أن يسبق كل غرض ويتقدم كل مقصد ثم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 884 لكل ذي غرض أو صاحب مقصد بعد الوفاء بهذا الدرس الأدبي أن يعمد إلى ذلك الكتاب، فيأخذ منه ما يشاء ويقتبس منه ما يريد ويرجع إليه فيما أحب من تشريع أو اعتقاد أو أخلاق أو إصلاح اجتماعي أو غير ذلك. وليس شيء من هذه الأغراض الثانية يتحقق على وجهه إلا حين يعتمد على تلك الدراسة الأدبية لكِتاب العربية الأوحد دراسة صحيحة كاملة مفهمة له، وهذه الدراسة هي ما نسميه اليوم تفسيرا؛ لأنه لا يمكن بيان غرض القرآن ولا فهم معناه إلا بها. فجملة القول: أن التفسير فيما أفهمه هو الدراسة الأدبية الصحيحة المنهج، الكاملة المناحي، المتسقة التوزيع، والمقصد الأول للتفسير اليوم أدبي محض صرف، غير متأثر بأي اعتبار، وراء ذلك.. وعليه يتوقف تحقق كل غرض آخر يقصد إليه هذه هي نظرتنا إلى التفسير اليوم وهذا غرضنا منه"1. وإنما نقلت هذا النص بطوله لما فيه من بيان نظرة الأستاذ أمين الخولي إلى التفسير ولما فيه من بيان غرضه، وكفى بهما من مطلب بسطه لنا صاحب المنهج ومؤصله. وسأرجئ إبداء رأيي في نظرته إلى التفسير وغرضه منه إلى آخر هذا الفصل حيث سأبين رأيي الخاص في المنهج كله أجمعه هناك حتى لا يتفرق.   1 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي ص33-35 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 885 مراحله ومعالمه : وحين نتحدث عن مراحله ومعالمه تلك، فإنا لا نقصد بها المراحل التي مر بها التفسير البياني عبر تاريخ التفسير فهذا قد سبقت الإشارة إليه. ولكني أقصد ذكر المراحل التي يمر بها المفسر الواحد في العصر الحديث لتطبيق المنهج البياني في التفسير كما بسطها صاحبه. ولئن كان الأستاذ أمين الخولي لم يوردها مسلسلة مرتبة فإني بعد نظر تأمل قد حصرتها بأربع أو خمس مراحل هذا بيانها: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 885 المرحلة الأولى: التفسير الموضوعي وهي المرحلة التي أشار إليها أمين على أنها النظر بين يدي الخطة حيث قال: "والقرآن كما هو المعروف لم يرتب على الموضوعات والمسائل فيفرد كل شيء منها بباب أو فصل، يجمع ما ورد فيه عن هذا الموضوع أو تلك المسألة فليس على ترتيب كتب العقائد مع ما فيه من أصول العقيدة وليس على ترتيب كتب التشريع مع ما فيه من أصول التشريع. ولا هو كذلك على نسق كتب الأخلاق أو التاريخ ولا القصص ولا غير ذلك، بل ليس على ترتيب بعض كتب الدين حين أفردت أحداث الحياة بأسفار عنونت كل سفر منها بحادث، أو حين جرت على تسلسل حياة فرد خصت كل حين منها بقسم. كما لم يرتب على شيء من تاريخ ظهور آياته إنما جرى القرآن على غير هذا كله. فعرض لكثير من الموضوعات ولم يجمع منها واحدا بعينه، فيلتقي أوله بآخره ويعثر به في مكان معين وإنما نثر ذلك كله نثرا وفرقه تفريقا؛ فالحكم التشريعي في أكثر من موضع والأصل الاعتقادي قد عرض له غير مرة والقصة قد وزعت مناظرها ومشاهدها في جملة أماكن، وهكذا تقرأ في السورة الواحدة فنونا من القول وتمر بألوان من الأغراض المختلفة تعرض لها سورة أخرى فيتكامل العرضان، وتتم الفكرة بتتبعها في مواطن متعددة وذلك لحكمة ومرمى"1. ويؤكد الأستاذ أمين أن لهذا الواقع في موضوعات القرآن الكريم أثره في طريقة تناول القرآن بالتفسير وأن طريقة السلف في تفسيره مرتَّبًا لا تمكن من الفهم الدقيق والإدراك الصحيح لمعانيه وأغراضه ولا أظن الأستاذ أمين الخولي إلا مخطئا في نظته تلك إلى تفسير السلف ذلك أنهم حين يتناولون بالتفسير حكما تشريعيًّا لا ينظرون إلى آياته التي حملته نظرة منفصلة عن الآيات الأخرى بل ولا عن ما هو خارج عن الآيات أعني السنة وغيرها فلا تعد نظرتهم تلك نظرة قاصرة وخذ القصة مثلا حين يتناولها السلفي يستكمل مناظرها ومشاهدها من نصوص آيات أخرى في مواضع متفرقة وكذا آيات العقائد لا ينظر إلى آحادها   1 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي ص35-36. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 886 نظرة مستقلة، عن سواها كل هذا يدل على كمال النظرة السلفية في تفسير الآية القرآنية وأن لا أثر لسلوكهم التفسير المرتب على الفهم الدقيق أو الإدراك الصحيح كما فهم الأستاذ أمين. عودة إلى الأستاذ أمين الخولي لنجمل رأيه في المرحلة الأولى في التفسير البياني أن التفسير لا يكون إلا بأسلوب التفسير الموضوعي الذي يجمع الآيات ذات الموضوع الواحد من أماكنها المتفرقة وينظر إليها نظرة واحدة وبهذا يكون الفهم الصحيح: "فالناظر في سورة البقرة مثلا يجد من الحديث عن المؤمنين وحالهم ما أحسب أنه يفهم الفهم الصحيح إذا ما قورن بما في سورة "المؤمنون" من الجزء الثامن عشر ثم هو واجد في سورة البقرة عن المنافقين وحالهم ما لا يفهم وجهه إلا مع سورة "المنافقون" في الجزء الثامن والعشرين وقصة آدم في البقرة إنما تفسر مع ما ورد عنها في سورة الأعراف والحجر والكهف وغيرها"1. هذه هي الخطوة الأولى التي يجب أن يخطوها المفسر تفسيرا بيانيا كما يراها الأستاذ أمين الخولي. المرحلة الثانية: الترتيب الزمني للآيا ذات الموضوع الواحد: وهي ذات صلة وعلاقة قوية بالمرحلة السابقة حتى وكأنها خطوة أو مرحلة واحدة. تلكم المرحلة هي مراعاة الترتيب الزمني للآيات ذات الموضوع الواحد ويقصد بها أن المفسر بعد أن يجمع آيات موضوع بعينه يجب أن يخطو الخطوة الثانية فيرتب هذه الآية حسب ترتيب نزولها وأكد هذا الأستاذ أمين الخولي حين قال: "وترتيب القرآن لم يرع شيئا من تقدم الزمن وتأخره فمكيه يتخلل مدنيه ويحيط به ومدنيه يتخلل مكيه ويحيط به. وهكذا ترى من النظر في ترتيب القرآن على سوره -أي ترتيب كان في المصاحف المختلفة- ما لا يساير حاجات مفسره المتفهم لهن بل يقضي ما كان من أمر الترتيب: بالنظر الجديد والترتيب الخاص لآي الموضوع بحيث يكشف هذا الترتيب لنا عن تلك النواحي التي عرفت أن   1 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي ص36 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 887 المفسر المتفهم مضطر إلى مراعاتها وتقديرها توصلا إلى الفهم الصحيح والمعنى الدقيق"1. إذًا فهو يرى وجوب ترتيب آي الموضوع الواحد ترتيبا خاصا بحيث يكشف هذا الترتيب عن النواحي التي يحتاجها المفسر للوصول إلى الفهم الصحيح. ثم أجمل الأستاذ أمين القول في المرحلتين السابقتين بقوله: "فجملة القول أن ترتيب القرآن في المصحف قد ترك وحدة الموضوع لم يلتزمها مطلقا، وقد ترك الترتيب الزمني لظهور الآيات لم يحتفظ به أبدا، وقد فرق الحديث عن الشيء الواحد والموضوع الواحد في سياقات متعددة، ومقامات مختلفة ظهرت في ظروف مختلفة وذلك كله يقضي في وضوح: بأن يفسر القرآن موضوعا موضوعا وأن تجمع آيه الخاصة بالموضوع الواحد جمعا إحصائيا مستقصى. ويعرف ترتيبها الزمني ومناسباتها وملابساتها الحافة بها ثم ينظر فيها بعد ذلك لتفسر وتفهم فيكون ذلك التفسير أهدى إلى المعنى وأوثق في تحديده"2. بقي أن أقول: إن هذه الدعوة من الأستاذ أمين إلى الترتيب التاريخي لآيات الموضوع الواحد كانت دعوة مثالية بعيدة عن التطبيق الكامل بل إن الأستاذ أمين نفسه وتلاميذه من بعده لم يضع أحد منهم خطة لهذا الترتيب ولم يحل أحد منهم إلى ترتيب بعينه يراه الأفضل بالرغم من أنهم يعتبرون هذه الخطوة لا بد منها قبل القيام بالتفسير3. المرحلة الثالثة: الدراسة وتعتبر المرحلتان السابقتان تمهيدا وتوطئة للمرحلة الثالثة؛ إذ إن هذه الأخيرة هي جسد التفسير البياني وإن المرحلتين السابقتين هما القاعدة لهذا الجسد.   1 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي ص36-37. 2 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي ص37. 3 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: دكتور محمد إبراهيم شريف ص503. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 888 تقسيم الأستاذ أمين الخولي : ويقسم الأستاذ أمين الخولي هذه الدراسة إلى صنفين هما: 1- دراسة حول القرآن. 2- دراسة في القرآن. أولا- دراسة ما حول القرآن: فقسمها أيضا إلى قسمين؛ دراسة خاصة ودراسة عامة قال عن أولهما: "والدراسة الخاصة هي ما لا بد لمعرفته، مما حول كتاب جليل كهذا الكتاب: ظهر في نحو عشرين عامًا أو كذا وعشرين عامًا، ثم ظل مفرقا سنين حتى جمع في أدوار مختلفة وأحوال مختلفة وكان جمعه وكتابته عملا ساير الزمن طويلا، وناله من ذلك ما ناله. ثم هناك قراءته ومسايرة هذه القراءة للتطور اللغوي الذي تعرضت له اللغة العربية بفعل النهضة الجادة التي أثارتها الدعوة الإسلامية والدولة الإسلامية. فقد كانت هذه القراءات عملا ذا أثر واضح في حياة الكتاب وفهمه. وتلك الأبحاث من نزول، وجمع، وقراءة، وما إليها؛ هي التي عرفت اصطلاحيا منذ حوالي القرن السادس الهجري باسم علوم القرآن1 بعد ما تناولها المفسرون المختلفون قبل ذلك بالبحث المجمل، والبيان المتفاوت في الاستيفاء حسب عناية المفسر واهتمامه، ومثل تلك الأبحاث جد لازمة في نظر دارسي الآثار الأدبية ولابد منها لفهم النصوص المدروسة والاتصال بها اتصالا مجديا"2، إلى أن قال: "وهي دراسات ضرورية لتناول التفسير. حتى ما ينبغي مطلقا أن يتقدم لدرس التفسير من لم ينل حظه من تلك الدراسة القريبة الخاصة حول القرآن؛ ليستطيع فهمه فهما أدبيًّا صحيحًا مسترشدًا بتلك الملابسات الهامة في فهم القرآن"2.   1 الصحيح أن هذا الاصطلاح عرف في وقت أبكر من هذا، فقد ألف محمد بن خلف بن المرزبان "ت309" كتابه "الحاوي في علوم القرآن" وألف محمد بن القاسم الأنباري "ت328" كتاب "عجائب علوم القرآن"؛ وألف محمد بن علي الأدفوي "ت388" كتاب "الاستغناء في علوم القرآن". 2 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي ص38-39. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 889 وخلاصة الأمر أن الأستاذ أمين الخولي يشترط للتفسير الأدبي دراسة خاصة حول القرآن الكريم نحو دراسة تاريخه ونزوله وجمعه وترتيبه وناسخه ومنسوخه، وبعبارة أخرى يشترط على المفسر أن يكون عالما بأصول العلوم المتصلة بالقرآن والمعروفة بعلوم القرآن، ولسنا بحاجة إلى أن نؤكد أن المفسرين السابقين أيضا لم يهملوا هذا الأمر وأولوه عنايتهم والأستاذ أمين نفسه يعترف بهذا وينقل قول السيوطي في مقدمة كتابه "الإتقان في علوم القرآن" أنه جعل هذا الكتاب مقدمة لتفسيره وأن أكثر المفسرين يُلمُّون في مقدمة تفاسيرهم بشيء من القول في النزول والجمع والقراءات والعلم بأصول الدين بما في القرآن من الآية الدالة بظاهرها على ما لا يجوز على الله تعالى واشترط العلم بالناسخ والمنسوخ والعلم بأسباب النزول والقصص، وغير ذلك1. وإذًا فالأستاذ أمين مسبوق بهذا الشرط وبهذه الدراسة الخاصة. وأما الدراسة العامة لما حول القرآن الكريم فقال عنه الأستاذ أمين: "وأما ما حول القرآن من دراسة عامة فهو ما يتصل بالبيئة المادية والمعنوية التي ظهر فيها القرآن وعاش، وفيها جمع وكتب وقرئ وحفظ وخاطب أهلها أول من خاطب، وإليهم ألقى رسالته؛ لينهضوا بأدائها، وإبلاغها شعوب الدنيا. فروح القرآن عربية، ومزاجه عربي "!! " وأسلوبه عربي: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} 2، والنفاذ إلى مقاصده إنما يقوم على التمثل الكامل والاستشفاف التام لهذه الروح العربية وذلك المزاج العربي، والذوق العربي، ومن هنا لزمت المعرفة الكاملة لهذه البيئة العربية المادية أرضها بجبالها وحرارها وصحاريها وقيعانها وسمائها بسحبها ونجومها وأنوائها وجوها بحره وبرده وعواصفه وأنسامه وطبيعتها بجدبها وخصبها وقحولها أو نمائها ونباتها وشجرها ... إلخ، فكل ما يتصل بتلك الحياة المادية العربية وسائل ضرورية لفهم هذا القرآن العربي المبين.   1 انظر الاتقان في علوم القرآن: للسيوطي ج2 ص181. 2 سورة الزمر: من الآية 28. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 890 مع هذا ما يتصل بالبيئة المعنوية بكل ما تتسع له هذه الكلمة من ماضٍ سحيق، وتاريخ معروف ونظام أسرة أو قبيلة، وحكومة في أي درجة كانت وعقيدة بأي لون تلونت، وفنون مهما تتنوع، وأعمال مهما تختلف وتتشعب، فكل ما تقوم به الحياة الإنسانية لهذه العروبة. وسائل ضرورية كذلك لفهم هذا القرآن العربي المبين. وإذا جهدت الدراسة الأدبية في أن تعرف عن تلك العربية والعروبة أكثر وأعمق وأدق ما يعرف تبتغي بذلك درس أدبها درسا أدبيا صادقا يفي بحاجة المتعرض لتفسيره إلا بعد أن تستكمل كل وسائط تلك المعرفة للبيئة العربية أدبية ومعنوية. أمَّا ما دمنا نقرأ التشبيه العربي القرآني، أو التمثيل العربي القرآني فإذا مادته الأضواء العربية، والظواهر الجوية العربية والحي أو الجماد المشهود في بلاد العرب لا نعرف عنه شيئا وليس عندنا عنه صورة خاصة. فما يحق لنا -مع هذا- أن نقول: إننا نفسر هذا القرآن أو نمهد لفهمه فهما أدبيا، يهيء للانتفاع به في نواحٍ أخرى. وما دمنا نذكر الحجر، والأحقاف، والأيكة، ومدين، ومواطن ثمود ومنازل عاد، ونحن لا نعرف عن هذه الأماكن إلا تلك الإشارات الشاردة، فما ينبغي أن نقول: إننا فهمنا وصف القرآن لها ولأهلها أو أننا أدركنا مراد القرآن من الحديث عنها وعنهم، ثم لن تكون العبرة بهذا الحديث جلية ولا الحكمة ولا الهداية المرجوة مفيدة مؤثرة"1. خلاصة الأمر أن الأستاذ أمين يشترط أن يدرس المفسر دراسة عامة لما يتصل بالبيئة التي نزل بها القرآن سواء أكانت هذه البيئة مادية كالظواهر الجوية والأرض بجبالها وأوديتها وحرارها والسماء ونجومها وأفلاكها أو كانت البيئة معنوية كتاريخ هذه الأمة في ماضيها ونظمها وأعرافها وعاداتها وتقاليدها.   1 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي 39-41. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 891 وقد سبقه إلى نحو هذا الأستاذ الإمام محمد عبده حيث اشترط على المفسر علم أحوال البشر في أطوارهم وأدوارهم واشترط العلم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وما كانوا عليه من علم وعمل وتصرف في الشئون دنيويِّها وأخرويِّها1. وحين أقول إن الأستاذ أمين سبق إلى موضوع كذا فلست أعني بحال من الأحوال سلب المنهجية الخاصة به. وإنما أعني إبراز وجوه الشبه بين منهجه والمناهج الأخرى، وقد تتفق مناهج عدة في خطوة أو خطوات ثم تختلف ولا يعني هذا اتحادهما حين تشابها أو انفصامهما حين اختلفا بقدر ما يعني من وجوه التشابه ووجوه الاختلاف وهي صفة مشتركة بين كل المناهج بل والاتجاهات في التفسير. وأحسب أن الدراسة لما حول القرآن الكريم بشقيها العامة والخاصة ما هما إلا تمهيد وتوطئة لدراسة النص نفسه وهما: دراسة ما حول القرآن، ودراسة النص وإن كانا يشكلان مرحلة واحدة هي المرحلة الثالثة إلا أن أولهما تمهيد اشترط الأستاذ أمين استيفاءه للتقدم إلى دراسة النص نفسه حيث قال بعد أن استعرض الدراسة لما حول القرآن بشقيها: "تلك إلمامه بما حول القرآن من دراسة وهي في جملتها ترجع إما إلى تحقيق النص وضبطه وبيان تاريخ حياته وإما إلى التعريف بالبيئة التي فيها ظهر وعنها تحدث وبين مغانيها ومعانيها تقلب. وبعد استيفاء ذلك يكون التقدم إلى دراسة القرآن نفسه"2. ذلكم أن الشق الثاني من المرحلة الثالثة هو روح الدراسة البيانية وأُسها، وهذا أمين نفسه يبسط لنا مرة أخرى الحديث عن هذه الخطوة الجديدة.   1 تفسر المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص22-24. 2 التفسير معالم حياته منهجه اليوم أمين الخولي، ص41. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 892 دراسة القرآن نفسه : وحتى تظهر معالم الطريق في هذه المرحلة أحب أن أجمل الخطوات في هذه الدراسة لننطلق منها إلى التفاصيل. فدراسة النص نفسه تنقسم كما يريد الأستاذ أمين إلى قسمين: 1- دراسة في المفردات، من ناحيتين: أ- من ناحية معناها اللغوي. ب- من ناحية معناها القرآني. 2- دراسة في المركبات. قال الأستاذ أمين الخولي في بسط النظر في المفردات: "وهي تبدأ بالنظر في المفردات. والمتأدب يجب أن يقدر عند ذلك تدرج دلالة الألفاظ، وتأثرها في هذا التدرج يتفاوت ما بين الأجيال وبفعل الظواهر النفسية والاجتماعية، وعوامل حضارة الأمة وما إلى ذلك مما تعرضت له ألفاظ العربية في تلك الحركة الجياشة المتوثبة التي نمت بها الدولة الإسلامية، والنهضة الدينية والسياسية والثقافية التي خلفت هذا الميراث الكبير من الحضارة وقد تداولت هذه اللغة العربية في تلك النهضات أفواه أمم مختلفة الألوان والدماء والماضي والحاضر، فتهيأت من كل ذلك خطوات تدريجية فسيحة متباعدة في حياة ألفاظ اللغة العربية حتى أصبح من الخطأ البيِّن أن يعمد متأدب إلى فهم ألفاظ هذا النص القرآني الأدبي الجليل فهمًا لا يقوم على تقدير تام لهذا التدرج والتغيير الذي مس حياة الألفاظ ودلالتها، وعلى التنبه إلى أنه إنما يريد ليفهم هذه الألفاظ في الوقت الذي ظهرت فيه وتليت أول ما تليت على من حول تاليها الأول عليه السلام" إلى أن قال: "إذا كان هذا هو الأصل الأول في فهم دلالة ألفاظ القرآن فمن لنا به مع أن معاجمنا لا تسعف عليه ولا تعين؟ "1. ثم تحول الأستاذ أمين لنقد معاجم اللغة وبيان أنها لا تفي بهذا الغرض   1 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي، ص41-42. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 893 الذي يدعو إليه فلسان العرب مثلا تجاورت فيه نصوص تباعدت عصور أصحابها، وتمازجت فيه اللغويات بالدينيات كما يقول. أما القاموس المحيط فهو عنده عصارات غير ممتزجةٍ لثقافات متغايرة متباينة من فلسفية عقلية إلى طبية عملية فأدبية لغوية. فدينية اعتقادية أو غيرها. ثم عقب الأستاذ أمين على هذا بقوله: "معاجمنا لا تسعف على شيء من تحقيق هذا الأصل الثابت في تدرج الألفاظ. فليس أمام مفسر القرآن حين يبتغي المعنى الأول لألفاظه إلا أن يقوم بعمل في ذلك مهما يكن مؤقتا وقاصرا فإنه هو كل ما يمكن اليوم وإلى أن نملك قاموسا اشتقاقيًّا تتدرج فيه دلالات الألفاظ وتتمايز فيه المعاني اللغوية على ترتيبها عن المعاني الاصطلاحية على ظهورها"1. إذًا فالأستاذ الخولي يرى أن الخطوة الأولى في دراسة النص نفسه هي النظر في المفردات وذلك بوضع ترتيب زمني لتدرج دلالات الألفاظ ليعرف معنى اللفظة الواحدة وقت نزول القرآن الكريم ومعناها بعد أن تداولتها أفواه مختلفة الألوان والدماء ليتم التمييز بين المعنى اللغوي والمعنى القرآني. وهو أيضا يرى أنه لا يوجد معجم يفي بهذا الغرض حتى الآن ورتب على هذا أن يقوم المفسر الأدبي بتحمل عبء متابعة تدرج اللفظ ومن ثم اختيار ما يراه مناسبا للفظة القرآنية وقت نزول القرآن الكريم من معانٍ أخرى. ورتب الأستاذ الخولي على هذا أيضا أن ينظر المفسر الأدبي في الألفاظ القرآنية من ناحيتين: 1- النظر في المادة اللغوية للفظ الذي يريد تفسيره؛ لينحي فيها المعاني اللغوية عن غيرها، ثم ينظر في تدرج المعاني اللغوية للمادة نظرة ترتبها على الظن الغالب لتقدم الأسبق الأقدم منها على السبق حتى يطمئن ما استطاع إلى شيء في ذلك ينتهي منه إلى ترجيح معنى لغوي للكلمة كان هو المعروف حين سمعتها العرب في آي الكتاب. والمفسر في هذا التمييز   1 المرجع السابق، ص42-43. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 894 والنظر ملم ما أمكن بمحدث الدراسة في أنسب اللغات وصلة ما بينها؛ ليطمئن كذلك إلى أن الكلمة عربية أصيلة، أو هي دخيلة، وإن كانت فما بيئتها؟ وما معناها الأول؟ ثم هو محاذر كذلك من اندفاع معاجمنا في رد الكلمات إلى أصل عربي يشابهها في اللفظ، مع التكلف في الاشتقاق والربط. 2- وإذا ما فرغ من البحث في معنى اللفظة اللغوي انتقل بعده إلى معناها الاستعمالي في القرآن يتتبع ورودها فيه كله؛ لينظر في ذلك فيخرج منه برأي عن استعمالها، هل كانت له وحدة أطردت في عصور القرآن المختلفة ومناسباته المتغيرة؟ وإن لم يكن الأمر كذلك فما معانيها المتعددة التي استعملها فيها القرآن؟ وبذا يهتدي بمعناها أو معانيها اللغوية إلى معناها أو معانيها الاستعمالية في القرآن، وهو بما ينتهي إليه من كل أولئك يفسرها مطمئنا في موضعها من الآية التي جاءت فيها"1. وكما بيَّن الأستاذ الخولي خلوّ الساحة من معجم للترتيب الزمني لتداول الألفاظ العربية أكد أيضا خلوها من معجم يعنى بمفردات القرآن ويتتبع الألفاظ فيه إلا ما وصفه بمحاولة الراغب الأصفهاني منذ قرابة ألف عام أن يعطينا مفردات القرآن في قاموس خاص بها ووصفه بأنه "عانى فيها شبيها بما وصفنا أو بشيء من أصل فكرته ولكنه لم يتم التعقب اللغوي ولم يستوفِ التتبع القرآني، وفاته مع ذلك كله فرق ما بين عصره وعصرنا في دراسة اللغات وصلاتها إلا أنه في كل حال نواة تُخجِل مَن بعده وبخاصة أهل هذا العصر الطموح فيؤلمهم ألا يملكوا إلا هذا القاموس القرآني الناقص بل البدائي وبالتزام هذا المنهج الأدبي يرجى كمال هذا القاموس وقواميس أخرى تتطلبها حياة القرآن كتاب العربية الأعظم"1. وهذا ولا شك عبء آخر على المفسير الأدبي للقرآن الكريم يتطلب منه   1 المرجع السابق، ص43-44. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 895 جهدا إلى جهده السابق على أن من الحق الواجب قوله هنا إن الأستاذ أمين لم يكن قد أشار إلى خطة لتصنيف القرآن موضوعيًّا، وساق حديثه عن هذا مجرد نظرية وإذا كان قد سكت أيضا عن طريقة ترتيب الآيات في الموضوع الواحد ولم يرشد إلى ترتيب معين وجاء حديثه أيضا هنا مجرد نظرية فقد كان موقفه في دراسة المفردات غير ذلك حيث عالج تطبيقيًّا بعض الأحرف الهجائية على الطريقة التي أشار إليها في معجم ألفاظ القرآن الكريم وهو وإن لم يتمه إلا أنه مثل عملي لما يمكن أن يقوم به المفسر الأدبي بجهده الذاتي في غيبة المعجم المطلوب، ولا شك أيضا أنه مهد الطريق الوعر في هذا المقام لمن أراد أن يسلك سبيل المعجم التاريخي لألفاظ القرآن الكريم1. من هاتين الناحيتين الناحية اللغوية وناحية الاستعمال القرآني أوجب الأستاذ الخولي النظر في مفردات القرآن؛ لينتقل المفسر الأدبي بعد هذه النظرة إلى النظر في المركبات. 2- دراسة في المركبات: والخطوة التالية للنظر في المفردات هي النظر في المركبات وقد وضح الأستاذ الخولي أصول هذه النظرة وما تحتاج إليه بقوله: "ثم بعد المفردات يكون نظر المفسر الأدبي في المركبات وهو في ذلك ولا مرية مستعين بالعلوم الأدبية من نحو وبلاغة ... إلخ، ولكن لا على أن الصنعة النحوية عمل مقصود لذاته، ولا لون يلون التفسير كما كان الحال قديما بل على أنها أداة من أدوات بيان المعنى وتحديده، والنظر في اتفاق معاني القراءات المختلفة للآيات الواحدة والتقاء الاستعمالات المتماثلة في القرآن كله ثم على أن النظرة البلاغية في هذه المركبات ليست هي تلك النظرة الوصفية التي تعنى بتطبيق اصطلاح بلاغي بعينه، وترجيح أن ما في الآية منه هو كذا لا كذا،   1 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم شريف، ص506-507. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 896 أو إدراج الآية في قسم من الأقسام البلاغية دون قسم آخر!! كلا بل على أن النظرة البلاغية هي النظرة الأدبية الفنية التي تتمثل الجمال القولي في الأسلوب القرآني وتستبين معارف -هذا الجمال وتستجلي قسماته في ذوق بارع قد استشف خصائص التركيب العربي منضما إلى ذلك التأملات العميقة في التراكيب والأساليب القرآنية لمعرفة مزاياها الخاصة بها بين آثار العربية، بل لمعرفة فنون القول القرآني وموضوعاته فنًّا فنًّا، وموضوعًا موضوعًا، معرفة تبين خصائص القرآن في كل فن ومزاياه التي تجلو جماله"1. ولا شك أن هذا المنهج في التفسير بأصوله التي وضعها صاحبه منهجٌ إن كان ممكنا فبمشقة وجهد ودراية قلَّ أن توجد عند أحد بل إن الأستاذ أمين نفسه شعر بهذا العبء حين قال: ولئن كان مثل هذا مما يطلب أو يوصف في قليل من الجمل أو الأسطر فإن تحقيقه ليس بهذه السهولة والقرب، وإنما يقوم على إصلاح أدبي بلاغي أحسب أن الحياة الأدبية اليوم تحاوله وهي بالغة منه إن شاء الله مبلغا حسنا، ومستفيدة به في التفسير الأدبي للقرآن كما تستفيد هذه المحاولة الإصلاحية نفسها بمزاولتها للتفسير القرآني"2 وإذا كان الخولي يقول هذا فإنه تجب الإشارة إلى أن المنهج -كما يقول الدكتور محمد إبراهيم شريف- بهذه الصورة من القيود والمتطلبات لم ير النور في محاولة ما من محاولات أتباعه، وإنما وقعت محاولاتهم موقعًا بعيدًا عن الأمل الطموح بصورة أو بأخرى3. زد على هذا أن الأستاذ أمين يوجب مراعاة أمر هام في التفسير الأدبي ينبغي على المفسر الاهتمام به هو:   1 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي، ص44. 2 المرجع السابق: ص44. 3 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم شريف، ص508. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 897 التفسير النفسي : قال: "لأن ما استقر من تقدير صلة البلاغ بعلم النفس قد مهد السبيل إلى القول بالإعجاز النفسي للقرآن، كما كشف عن وجه الحاجة إلى تفسير نفساني للقرآن يقوم على الإحاطة المستطاعة بما عرف العلم من أسرار حركات النفس البشرية في الميادين التي تناولتها دعاوة القرآن الدينية، وجلده الاعتقادي، ورياضته للوجدانات والقلوب واستلالها لقديم ما اطمأنت إليه، وتوارثته عن الأسلاف والأجيال وتزيينها بما دعا إليه من إيمان، ينقض مبرم هذا القديم ويهدم أصوله وكيف تلطف القرآن لذلك كله، وماذا استخدم من حقائق نفسية في هذه المطالب الوجدانية والمرامي القلبية، وماذا أجدت رعاية ذلك كله في إنجاح الدعوة وإعلاء الكلمة. فالتفسير النفسي يقوم على أساس وطيد من صلة الفن القولي بالنفس الإنسانية، وأن الفنون على اختلافها ومن بينها الأدب ليست إلا ترجمة لما تجده النفس"1. وأكد الأستاذ الخولي على أهمية التفسير النفسي حين قال: إن اللمحة النفسية في المعنى القرآني ربما تكون أحسم لخلاف بعيد الغور كثير الشعب بين المفسرين"1. إلى أن قال: "فالملاحظة النفسية حين تعلل نسج الآية وصياغتها وتعرف بجو الآية وعالمها، ترفع المعنى الذي يفهم منها إلى أفق باهر السناء، وبدون هذه الملاحظة يرتدُّ المعنى ضئيلا ساذجا لا تكاد النفس تطمئن إليه، ولا هو خليق بأن يكون من مقاصد القرآن"1. تلكم هي الخطوط الرئيسية التي رسمها الأستاذ أمين الخولي للتفسير الأدبي للقرآن الكريم وإن أردنا أن نذكرها إجمالا فهي: أولا: جمع الآيات ذات الموضوع الواحد بعضا إلى بعض وتدبرها جميعا وتفسيرها كذلك.   1 التفسير معالم حياته منهجه اليوم أمين الخولي، ص45. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 898 ثانيا: ترتيب آيات الموضوع الواحد ترتيبا زمنيا حسب تاريخ نزولها. ثالثا: دراسة خاصة حول النص تقوم على تاريخه ونزوله وجمعه وكتابته وقراءته ونحو ذلك من علوم القرآن. رابعا: دراسة عامة للبيئة التي نزل بها هذا النص، البيئة المادية في الأرض والسماء والجبال والسهول والأودية وبيئة معنوية في تاريخ هذه الأمة ونظمها وأعرافها وعاداتها وتقاليدها. خامسا: دراسة النص القرآني في مفرداته وذلك بدراسة: استعمالات هذه المفردة لغويا. ودراسة استعمالها في القرآن الكريم في مواضع مختلفة ومدلولها في كل موضع. سادسا: دراسة النص القرآني في معانيه المركبة وذلك بالاستعانة بالعلوم الأدبية من نحو وبلاغة على أن النحو أداة من أدوات بيان المعنى وتحديده، وعلى أن البلاغة هي النظرة الأدبية الفنية التي تتمثل الجمال القولي في الأسلوب القرآني، مع التأملات العميقة في التراكيب والأساليب القرآنية لمعرفة مزايا كل منها ولمعرفة فنون القول القرآني وموضوعاته. تلكم هي أبرز الخطوط التي رسمها الأستاذ أمين الخولي لمنهجه في التفسير حرصت كل الحرص على أن أسوقها بنصوصها التي خطها صاحبها ودونها به، حتى ولو أطلت الحديث وحتى لو أكثرت النقل حتى أحاذر وأتحاشى اختصارا مخلا أو فهما خاطئا أقع فيه أو فيهما، وأعرف سلفا أن خير من يتحدث عن منهج الخولي هو الخولي نفسه وكيف أعبر عنه وأتحدث عن منهجه وقلمه لما يجف بعد؟. فمعذرة إن كان فيما سقت من نصوصه إطالة فما اردت إلى الوفاء وما أردت إلى الإصابة. على أنا وقد وصلنا إلى هذه المرحلة يجب أن نذكر أن الأستاذ الخولي نفسه وهو الذي وضع هذه الخطوط لم يخرج لنا دراسة تطبيقية كاملة لهذا المنهج وإن كان قد حاول ذلك مرارًا ويعلن في خاتمة بيانه لمنهجه هذا أنه لن يكون من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 899 العاجزين مع اعترافه سلفا بالقصور عن الكفاية الكاملة والقدرة الموفورة حيث يقول: "مهما يكن لهذه المطالب من أثر يثقل خطانا ويؤخر أثمار دراستنا ويشعرنا بالنقص ويعود علينا باللائمة فإن هذه هي الحقيقة، وهذا هو الواجب، وأولى لنا أن نؤثر تقرير هذه الحقيقة على أن نكذب على أنفسنا وعلى الأجيال، فنزعم الكفاية الكاملة والقدرة الموفورة، ولئن لم يكن لنا من الكمال إلا الشعور بالنقص فذلك أجمل بنا من التزيد الزائف وليس الذي نبغيه من هذا المنهج مستحيلا ولا بعيد التحقق، فقد شعر أسلافنا بجملته، وفاموا ببعضه للقرآن، ثم قام المحدثون به كله لكتبهم الأدبية والدينية، ولن نكون نحن بين هؤلاء وأولئك الضائعين العاجزين!! "1. ولئن كان الأستاذ الخولي قد صرح مرارا أن الدافع له لتأصيل هذا المنهج والدعوة إليه هو إشارة القدماء حين قسموا العلوم الإسلامية إلى ثلاثة أقسام عدُّوا منها علما لا نضج ولا احترق وهو علم البيان والتفسير -إن كان الخولي عد هذا منطلقا لقيامه بخدمة علم البيان وعلم التفسير في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول2، فلقد انتهى به الأمر بالتفسير في نهاية نظريته إلى أن أصبح علما لم يبدأ بعد كما يقول د/ محمد شريف، ولكن من الممكن له أن يبدأ بل أن ينمو وينضج إذا ما سار على ذلك الدرب الشاق3 الذي شقه الأستاذ أمين وسار فيه خطوات.   1 التفسير معالم حياته منهجه اليوم، ص46-47. 2 المرجع السابق، ص33. 3 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم شريف، ص510. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 900 الدراسات التطبيقية أمين الخولي ... الدراسات التطبيقية: كثير من الدراسات التي سعت إلى تطبيق هذا المنهج والأخذ بأصوله وقواعده، وليس بوسعنا أن نذكرها كلها ولا أن نذكر أكثرها وإنما بوسعنا أن ندرس أهمها وأشهرها. وبهذا المقياس فليس في هذا المنهج أهم من المحاولات التطبيقية التي قدمها أستاذ هذه المدرسة ويليه فيها تلميذان من أنجب تلاميذه هما الدكتورة عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ" والدكتور "محمد خلف الله" ولعل في تقديمي لهؤلاء الثلاثة الكفاية في ضرب المثل لهذه الدراسات في هذا المنهج، وبالأستاذ نبتدئ: أمين الخولي: ترجمته: ولد سنة 1895م بشوشاي مركز أشمون بمحافظة المنوفية وتخرج في القسم العالي بمدرسة القضاء الشرعي سنة 1920م واختير مدرسًا بها. وترأس تحرير مجلتها في سنتيها الأولى والثانية. وفي سنة 1923م عين إماما للمفوضية المصرية بروما ثم في برلين ولهذا ألَمَّ باللغتين الإيطالية والألمانية واطلع على بحوث المستشرقين في الإسلاميات بهاتين اللغتين. وعاد إلى مصر سنة 1927م ليدرس بقسم التخصص في مدرسة القضاء الشرعي وفي العام التالي نقل إلى كلية الآداب بالجامعة المصرية "جامعة القاهرة الآن" مدرسا فأستاذا مساعدا فأستاذا فرئيسا لقسم اللغة العربية واللغات الشرقية ثم أستاذا للأدب المصري ثم وكيلا لكلية الآداب وظل فيها حتى سنة 1953م حيث نقل مستشارا فنيا لدار الكتب المصرية ثم عين مديرا لإدارة الثقافة في وزارة التربية والتعليم حتى بلغ سن التقاعد سنة 1956م. وأنشأ الأستاذ أمين هو وتلاميذه سنة 1943م مدرسةأدبية هي "الأمناء" نسبة إليه، رسالتها الفن والحياة. وهدفها تحقيق أهداف فنية نظرية وعملية. وأصدرت في سبيل تحقيق ذلك "مجلة الآداب" سنة 1956م حيث رأس الأستاذ أمين تحريرها. وعين سنة 1961م عضوا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة. وكلف بعد تقاعده بأعمال عديدة، فانتدب مثلا لتدريس الأخلاق والفلسفة وتاريخ الملل والنحل في الأزهر في قسم التخصص شعبة الأخلاق والتاريخ. وشعبة الوعظ وكذلك في كلية أصول الدين ورأس قسم اللغة العربية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 901 في معهد الدراسات العليا للمدرسين، وحاضر في معهد الدراسات العربية العالية سنة 1957-1958م، وفي معهد الدراسات الإسلامية، وحضر عددا من المؤتمرات1، وتوفي سنة 1966م. وله مقالات وبحوث في اللغة والأدب والبلاغة والنحو والتفسير نشرت في مجلات علمية وأدبية، وله تعليقات على كثير من مواد دائرة المعارف الإسلامية في الأدب والفقه، ومن أهمها ما كتبه في مواد التفسير وأصول الفقه والبلاغة، وجمع أكثرها في كتاب اسمه "مناهج تجديد في النحو والبلاغة والأدب والتفسير" وطبع تعليقه على مادة "تفسير" مستقلا مرة بعنوان "التفسير معالم حياته منهجه اليوم" طبعته جماعة الكتاب سنة 1944م ومرة بعنوان "التفسير نشأته تدرجه وتطوره" تحت سلسلة "كتب دائرة المعارف الإسلامية" وصدرت طبعته الأولى سنة 1982م في بيروت. وله كتاب "من هدي القرآن" ويحتوي على ثلاثة من مؤلفاته "القادة والرسل" و"في رمضان" و"في أموالهم" وله أيضا كتاب عن مالك بن أنس رحمه الله تعالى، وهو العدد "11" من سلسلة أعلام العرب. والذي يهمنا هنا من مؤلفاته ما كتبه من الدراسات القرآنية تحت عنوان "من هدى القرآن". تفسيره: أسلفنا القول أنك لا تكاد تجد فيما قدمه الأستاذ أمين الخولي دراسة تطبيقية شاملة كاملة للمنهج الذي أصله بل ظل الفارق بعيدا بين الواقع الذي سلكه والمثال الذي دعا إليه. لكن مع هذا، فإنك واجد في تفسيره تدرُّجا يكاد يظهر واضحا في تقلص وانكماش الفاصل بين الواقع والمثال.   1 لخصت ما سبق من ترجمته الواردة في مقدمة كتابه "التفسير نشأته تدرجه وتطوره" بقلم إبراهيم خورشيد رئيس تحرير النسخة العربية من دائرة المعارف الإسلامية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 902 يظهر هذا في دراسات أربع ندرسها هنا دراسة موجزة نبدأ بأبعدها عن المثال وننتهي بأقربها إليه وبها تظهر المراحل التي مر بها الأستاذ الخولي في دراسته التطبيقية. وقدم الأستاذ أمين الخولي هذه الدراسات تحت عنوان "من هدي القرآن" واشتملت على مجموعات متعددة من الأبحاث ذات الموضوع الواحد كالسلام والإسلام، والطغيان في العلم والمال والحكم، وحكومة القرآن، والحكم بما أنزل الله، والفن والبيان في القرآن، والقرآن والحياة، والقسم القرآني، والجندية والسلم، والقادة الرسل، وفي أموالهم، وشخصية محمد، وفي رمضان ... وغير ذلك من الدراسات. وإذا نظرنا إلى هذه الدراسات وغيرها مجتمعة وجدناها تحتفظ من المنهج بالخصائص التالية: 1- أنها تدرس القرآن الكريم حسب الموضوعات وليس حسب تسلسل السور في القرآن الكريم. 2- إنها تهدف إلى التدبير النفسي والاجتماعي في القرآن للحياة الإنسانية، وترى أن هذا هو المجال الخاص للقرآن وهو السبيل المفردة لتحقيق أهداف الرسالة الإسلامية. 3- إنها تعمد إلى معاني الآيات التي تؤديها ألفاظ العربية كما كان يفهمها أهل العربية في عهد نزول القرآن ولا تتجاوزه إلا لاتماس ما للفظ والنظم من إيحاءات أدبية وفنية1. أما المراحل التي مر بها تفسيره كما أشرت إليه آنفا، فهي أربع، نقدم مثالا من هذه الدراسات لكل مرحلة. المرحلة الأولى: الجندية والسلم.. واقع ومثال وكان أول حديث له عن السلام في يوليه سنة 1937 ثم تتابعت   1 من هدى القرآن: أمين الخولي، ص10-11. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 903 الأحاديث وأكتفى هنا بالصورة التي قدمها الدكتور كامل علي سعفان لهذه الأحاديث علما أن هذه الصورة ليست إلا خطوطا رئيسة لأفكارها وحسبي وحسبه أنها تشير إلى طريقة الأستاذ في التفسير أو مرحلة مر بها وهي خلاصة لهذا البحث، قال: "إن في الإنسان غريزة فطرية إذا ما واتتها التربية الصحيحة كانت تلك الغريزة مصدر خير ونفع للإنسان، ومبعث آمال تقية الخطر وتجنبه الضرر وتحمي وجوده وحضارته، وإذا ما لاقت تربية سيئة لا تسلم معها الروح كانت مصدر شقاء وضرر، ومبعث نقائص تخزي الإنسان، وتعرض وجوده للدمار، وتكتب عليه الهزيمة والخذلان"، "تلك الغريزة فيما يقول قوم من النفسيين غريزة الخوف"، "هذا الخوف الغريزي النافع باعتداله هو ما يعنيه الناس حين يقولون: من خاف سلم، وهذا الخوف الأدبي المصلح هو ما يريده القرآن في مثل قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} 1. لكن هذه الفائدة المادية والأدبية، وهذا الخير في الجسم والروح ينقلب شرا ذريعا إذا ما جاوزت الغريزة اعتدالها فآلت إلى ذعر وهرب". ومع غريزة الخوف غريزة السيطرة التي يعليها القرآن حين "يردف القوة بالعزة في مثل قوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} 2، {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيز} 3 إلى كثير مما ورد في ذلك. فالإله في وصف القرآن: قوي عزيز غالب، له الغلبة ولرسله وله من السماء ما يناسب ذلك فهو القهار، الجبار، والمعز، والمذل، والخافض، والرافع، وما ماثل هذا. والعبد الرباني هو الذي يتحلى بمعاني صفات الله وأسمائه ويسعى   1 سورة النازعات: الآيتان 40-41. 2 سورة المجادلة: الآية 21. 3 سورة هود: الآية 66. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 904 لاكتساب الممكن من ذلك" لكنه لم يترك الغريزة دون كبح قوي وتنسيق فعال. إنه يروض هذه الغريزة، حيث يتحدث عن القوة والعزة، فيضع معها في وصف الإله معاني السمو والخير وحسن التدبير: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} 1، كذلك يضع إلى جانب العزة العلم وهو الذي على وفقه تجري الأشياء صحيحة سالمة، طبق قوانينها، ومضبوط نظمها: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم} 2. بل يضع إلى جانب العزة المغفرة، وعدم المؤاخذة على الإساءة والذنب: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُور} 3. وطالما يقرن العزة بالرحمة وفيض التلطف والترفق: {يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} 4 كما يقرن القوة بالأمانة: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} 5؛ القوي بأبعد معاني القوة نفسا وعقلا وجسما، والأمين بأخطر معاني الأمانة وأكمل استعداد للمسؤولية -هو القوي الأمين الذي يشير إليه القرآن ورجل القرآن الذي يحقق القوة الجامعة، ويمثل العزة التي يجمل مثلها لله ولرسوله، هو الرجل الذي يبني منه القرآن أمة هي: خير ما أخرج للناس؛ أمة تحقق السلام القائم على العدل، السلام الذي أصبح شعار هذه الأمة، يلقى الناس به إخوانهم في الغدو والرواح، السلام الذي "يأسوا جراح الإنسانية ويسعفها في صراع الغرائز، وقتال الشهوات". السلام الذي سمى الله به نفسه وجعل الجنة "دار السلام" وأهل الجنة: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلام} 6، 7   1 سورة آل عمران: الآية 62. 2 سورة الأنعام: الآية 96. 3 سورة الملك: الآية 2. 4 سورة الروم: الآية 5. 5 سورة القصص: الآية 26. 6 سورة يونس: الآية 10. 7 المنهج البياني في تفسير القرآن الكريم: د/ كامل علي سعفان، ص164-166. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 905 تلكم هي الصورة التفسيرية التي قدمها في "الجندية والسلم" وهي مرحلة لا نكاد نستبين بينها وبين المنهج الذي دعا إليه من صلة. المرحلة الثانية: القادة الرسل وهي مجموعة أحاديث أذاعها بين عامي 1941-1942م وجاءت أحاديثه عنهم عليهم السلام في عدة حلقات تحدث عن "رسل ورسالات" وعن "القادة الرسل" وعن "عزمات القادة" وعن "شمائل القادة" وعن "تبعات القادة" وعن "قادة لا جبابرة". نختار منها مثالا أولها: "رسل ورسالات" وقد ألقاه إذاعة في حلقتين، قال في الأولى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} 1 لقد جاءكم من هدي القرآن ما يمس مشكلات كثارا من عقد الحياة العاملة، ورأيتموه يتولى التنسيق الاجتماعي ماضيا إلى أغوار المصاعب ماسًّا أصولها البعيدة، وفي القرآن من ذلك كما سلف كثير وكثير والآن يلتمس هدى القرآن في تقدير قيم الأشخاص والأشياء والأعمال، ووزن البواعث والغايات التي ينبعث الناس بها في حياتهم ويصدرون عنها في تصرفهم، ويرمون إليها في سلوكهم ويجعلونها هدفهم في سعيهم، فقد اضطربت في ذلك الأهواء، ولاذ الناس في تقديرهم وتأثرهم بأحكام ومذاهب أبت إلا أن تقيس كل ما في الوجود بالعروض والنقود ورأت ألا تقدر كل أجر إلا بالرطل والمتر ولم يرضها وراء ذلك جزاء، ولا قبلت دونه ثمنا، واطمأن من حولنا وفيهم كثير من الخاصة إلى متع من الحياة يشركهم فيها الحيوان الأعجم وقد يغلبهم عليها الإنسان الأول2 ساكن الغابة والمجهل، فأفاضوا بذلك على دنياهم، ودنيا غيرهم، قسوة وقتاما، وزادوها برودا وظلاما؛ إذ حالوا بين أنفسهم وبين متع من الروح والنعيم، ومباهج من السنا والنور،   1 سورة النساء: الآية 165. 2 وهل كان الإنسان الأول كذلك؟! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 906 ولذائذ من الرضا والحبور، وحينما أنكروا ذلك وحقروه لم يحرموا أنفسهم منه فحسب، بل شوشروه1 على من يبتغيه، وشوهوه على من يؤثره ففسدوا وأفسدوا، وتأذوا وآذوا، وعُذبوا وعذبوا معهم غيرهم والله المستعان" إلى أن قال: فيأتيها القلوب المؤمنة كيف تناول القرآن أصول التقدير وما هديه في بيان الغايات الكريمة، وأي اللذائذ الراقية قد تخير لكرام الناس في حياتنا المشهودة؟ التمسوا الجواب عن ذلك فيما علمه لرسله وهداهم إلى أن يقولوه لقومهم، وأن يعلنوا أنه الغاية من أدائهم لرسالاتهم مع أنهم أولئك البشر الذين قرر القرآن بشريتهم ولم يثبت لهم وراءها شيئا فستجدون في ذلك ما تريدون من هدي القرآن في هذه المشكلات الدقيقة ستجدون حقيقة ثابتة مطردة في الأديان كلها وستعرفون المطلب الذي ابتغاه الرسل جميعا من أدائهم رسالاتهم جميعا، ستستمعون نوحا صلى الله عليه وسلم منذ الدهر الأول يقول لقومه: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} 2، {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3 {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 4 إلى أن قال الأستاذ أمين: "واسمعوا كذلك في الرسالات الأولى هودا يقول لقومه: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ} 5 {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِين} 3 وهكذا قال صالح لقومه، تلك المقالة، وقالها لوط، كما قالها شعيب عليهم السلام جميعا، فتقرأ في سورة الشعراء من قصص هؤلاء الأنبياء تلك النغمة السماوية   1 بحثت في القواميس عن "ششر" أصل هذه الكلمة فلم أجد لها ذكرا، ولعلها صوابها "شوشوه" والتشويش: التخليط، وتشوش عليه الأمر اختلط والتبس. 2 سورة هود: الآية 29. 3 سورة الشعراء: الآية: 109. 4 سورة يونس: الآية 72. 5 سورة هود: الآية 51. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 907 المرددة: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1 تردد بضع مرات في سورة واحدة1 وأن يقلها سالفوا الأنبياء مرة ومرة فقد قالها رسول القرآن صلى الله عليه وسلم مرارا في صورة متفننة متعددة فحينا ينفي ابتغاء الأجر بأن يهبهم ما يطلبه في مثل قوله: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 2، وحينا ينفي الأجر بأن يطلب منهم ما هو خير لهم هم لا له هو في مثل: {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} 3، {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} 4 أي بِرَّهُمْ قرابتَهم بهن وصلتهم ما بينه وبينهم من رحم، وآنا يؤمر أن يجهر بنفي ابتغاء الأجر في مثل قوله: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} 5، {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} 6، {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} 7 وطورا ينفي هذا الطلب في صورة الاستفهام المبعد له مثل قوله في غير موضع: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} 8 وهكذا يصف القرآن الرسل بهذا العزوف عن الأجر فيقول: {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُون} 9. أيتها القلوب المؤمنة تلك الرسالة التي أداها الأنبياء طوال حياتهم، ولقوا فيها من العنت والإيذاء ما لقوا، واحتملوا بسببها ما احتملوا، وهي بعد   1 سورة الشعراء: الآيات 109، 127، 145، 164، 180. 2 سورة سبأ: الآية 47. 3 سورة الفرقان: الآية57، وأولها: {قل} . 4 سورة الشورى: الآية 23. 5 سورة يوسف: 104. 6 سورة الأنعام: الآية 90. 7 سورة ص: الآيات 86-88. 8 سورة الطور: الآية 40. 9 سورة يس: الآية 21. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 908 ذلك عمل لا مال فيه ولا أجر من حطام الدنيا عليه، ثم هم آخر الأمر كما قال خاتمهم عليه السلام: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث؛ ما تركناه صدقة"1 وكذلك ترقى النفس البشرية، فترقى لذتها ويهون عندها ما حببت إلى النفس من زينة الدنيا، وهكذا بسط القرآن هديه". إلى أن قال: "وإن ما أحدث عنه من اللذات الراقية والتي اكتفى بها رسل الله الكرام فيما أدوا من رسالات تلك اللذات الراقية ليست من بعيد الفلسفة ولا عسير الآمال وممنع المطالب بل هي منزلة قد ارتقى إليها الكرام جميعا وبلغها في الأمم السعيدة، رجال العلم ورواد الكشف وأهل الجهاد، ولولاها ما أقدم رجل العلم على تجاريب يجربها حتى في نفسه، ولما جازف رجل الكشف يقتحم المجاهيل والمخاطر ولما حمل المجاهد يجالد المنايا ويعانق الفواتك المدمرة وما خطت الإنسانية خطوة واحدة في سبيل رقيها إلا على يد أولئك الذين استهوتهم اللذائذ الراقية فنسوا أنفسهم، وسعدوا بخير من حولهم، أولئك رسل الحضارة وتلك رسالاتهم"2. وواصل الأستاذ أمين حديثه هذا في الحلقة الثانية حيث قال: "وإذا ما عرفنا كيف نختار غايتنا الكريمة في هذه الحياة فقد بقي أن نعرف هدي القرآن في السير إلى تحقيق تلك الغاية المرجوة والوصول إلى المقصد الجليل كيف يخوض الناس الصعاب إلى أهدافهم؟ كيف يواجهون ما يعترضهم من عقبات، ماذا يعدون لتذليلها والتغلب عليها؟ تجد هدي القرآن عن هذا في حديث الرسل الكرام وما لقوا في سبيل تحقيق رسالاتهم وكيف واجهوا ذلك واحتملوه وماذا علمهم الله أن يفعلوا في هذا السبيل فتقرأ في غير موضع أخبار تكذيبهم وسبهم في إقذاع جريء من مثل قول قومهم لواحد منهم: {إِنَّا لَنَرَاكَ   1 رواه البخاري ومسلم بلفظ: "لا نورث ما تركناه صدقة" انظر ما نقلنا عن الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى في الباب الثاني، الفصل الأول، عن دراستنا لفقه أهل السنة والجماعة. 2 من هدي القرآن: القادة الرسل، أمين الخولي، ص14-19 باختصار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 909 فِي ضَلالٍ مُبِين} 1، {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَة} 2، {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِين} 3، {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُون} 4 إلخ. بل نراهم يكيدون لهم بالقوة الباطشة الطائشة: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} 5، {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوك} أي يعجزوك عن الحركة {أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} 6، كان ذلك وما يشبهه من عنف أهوج نصيب الرسل ممن يدعون، فإذا القرآن يعالجه بتهوين وقعه على الرسل وإصلاح نفسيتهم وإرشادهم إلى ما يحفظ طمأنينتهم من مثل قوله: {فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 7، {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} 8 واسمعه إذ يأمر الرسول بالصبر على ما يقال فيعينه على الصبر بأن يكره بالقدوة الصالحة من أسلافه الأقوياء فيقول: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} 9 والأيد القوة والاضطلاع بالأعباء والمشاق، ويقول: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} 10، واستمع إذ يغريه بتسبيح الله؛ ليعتز بعزته ويستمد القوة من قوته ويحتفظ بالمقاومة والاحتمال في قوله: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ   1 سورة الأعراف: الآية 60. 2 سورة الأعراف: الآية 66. 3 سورة الذاريات: الآية 52. 4 سورة إبراهيم: الآية 13. 5 سورة الأنفال: الآية 30. 6 سورة هود: الآية 36. 7 سورة آل عمران: الآية 176. 8 سورة ص: الآية 17. 9 سورة الأحقاف: الآية 35. 10 سورة ق: الآيتان 39-40. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 910 وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} 1. والشعر بقسمات الحسن الفني في نظم القرآن والمدرك لإشارته النفسية يقف عند خاتمة الآية الخيرة يترجى الرضا، وقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك} .... {لَعَلَّكَ تَرْضَى} يقف وقفة يتمثل فيها ذلك المعنى النفسي الذي أدرنا عليه هذا الحديث من تقبل الألم والشعور في ذلك باللذة؛ إذ لا يكون هذا إلا حين يكون الرضا النفسي ويظهر به الإنسان فتكون العظمة الروحية والمقاومة النبيلة وجلال الترفع ولأصحاب هذه النفوس يكون الأمر بالصبر"2. وهذه الخلاصة لحديث الأستاذ الخولي عن "رسل ورسالات" من سلسلة أحاديثه عن "القادة الرسل" تلمح فيها أنها أقرب من سابقتها "المرحلة الأولى" إلى تمثل منهجه والتزامه، فنرى فيها هنا شيئا من الموضوعية في التفسير التي يدعو إليها هذ المنهج ونرى فيها أيضا إبراز الجانب النفسي في التفسير، وإن كان هذا وذاك لم ينالا حظا كبيرا كما يتطلب المنهج، لكنهما وردا على كل حال. وما زالت هذه المرحلة بعيدة عن التزام خط المنهج. المرحلة الثالثة: في رمضان وهي مجموعة أحاديث أذاعها في شهر رمضان خلال ثمانية عشر عاما امتدت من سنة 1360 إلى سنة 1378هـ، وسأختار من هذه الأحاديث موضوعين أما أولهما فعنونه صاحبه بـ "في رمضان" وثانيهما في حلقتين عنوانهما "عن فلسفة الجوع" ولعل فيما اخترت دلالة على ما أردت. تحدث الخولي في الأولى عن "معنى حي -كما وصفه- لنزول القرآن في رمضان"، بين فيه المراد بإنزال القرآن في شهر رمضان الوارد في قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} 3، وذكر أن المفسرين منذ أولهم إلى اليوم يدورون حول أقوال بعينها   1 سورة طه: الآية 130. 2 من هدى القرآن: القادة الرسل، أمين الخولي، ص22-24 باختصار. 3 سورة البقرة: الآية 185. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 911 التماسا لبيان كيف أن القرآن أنزل في شهر رمضان مع أنه إنما نزل مفرقا في عشرين سنة أو أكثر عند المناسبات وليس في شهر رمضان فقط، وذكر أن هؤلاء المفسرين تارة يقولون: إن القرآن نزل جملة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، فجعل في بيت العزة وكان ذلك في رمضان، ورد الأستاذ الخولي هذا القول بأنه: "ما كان القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان"، بنزوله من سماء إلى سماء حتى يفسر بذلك نزوله في رمضان"1، وذكر أنهم تارة أخرى يقولون أن القرآن نزل في سائر الشهور لكن جبريل كان يعارض الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن في رمضان ويقابله معه فيه، ورد هذا القول أيضا بقوله: "لكن هل المقابلة هي النزول أو هي بعد النزول؟ وهل يسهل تفسير النزول بالمقابلة أو المعارضة أو المدارسة؟ ما أظن"1 وقال: أنهم حينا يرون أن المراد أنزل بشأن رمضان قرآن أي جاءت عنه في القرآن آية الصيام، ورد على هذا الرأي بأن هذا ليس مما يمتاز به رمضان، كما أن آية الصيام لا يظهر وصفها خاصة بما ورد بعد من هدى وبينات من الهدى والفرقان بل هو وصف للقرآن كله وذكر أنه يفسرون المراد بالإنزال بابتداء النزول، ورد هذا القول أيضا بما فيه ضعف حيث شكك في معرفة البدء بالنزول حيث قال: "وهل هذا البدء معين محدد فيشبه بمبادئ الدول والملل في انضباطها؟ وأين كان هذا التاريخ بذلك البدء"1، وفات على الأستاذ الخولي أن الذي حدد البدء ليس بشرا وإنما هو الله الذي أنزل القرآن فهو أعلم ببدء نزوله وبتاريخ نزوله. وزاد الأستاذ الخولي ردًّا آخر حيث قال: "ثم قبل هذا وذاك لم عبر بالنزول عن بدء النزول وبأي شيء صرفوه إلى ذلك؟ وهم يرون أن فائدة وصف الشهر "بإنزال القرآن فيه" هي التنبيه على علة تخصيصه بالصوم فيه"1. وبعد هذا العرض للأقوال في المراد بالنزول والردود عليها قال: "وهكذا لا تجد من هذه الأقوال التي دار حولها المفسرون جميعا في فهم آية رمضان هذه رأيا ترتاح إليه"، ثم ساق رايه في المراد بالنزول:   1 من هدي القرآن في رمضان: أمين الخولي ص126-127. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 912 "أيها الشاعرون بروعة القرآن: لقد قصروا النزول على المعنى المادي في الانتقال، والهبوط، والانحدار، ونحوه، وليس هذا كل معنى الكلمة، وليس هذا كل ما استعمل فيه القرآن هذه الكلمة لقد استعملها القرآن في حسيات ليس فيها انتقال، ولا هبوط. فهو يقول: {أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيد} 1. وليس هابطا من السماء، وهو يقول: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} 2، وليس يعني انحدار هذا من الأعلى إلى الأرض. بل يلاحظ أنه حين يقصد هذا الانتقال المادي يذكر مبداه ويصرح به فيقول: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاء} 3، {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} 4، {أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاء} 5، ولم يذكر هذا المبدأ في آية رمضان ونزول القرآن فيه!! ومن المفروغ منه أن الألفاظ لا تقتصر على معناها الحسي أبدا، بل تنتقل عنه انتقالات كثيرة إلى إطلاقات معنوية وهم أنفسهم قالوا: الإنزال تقريب الشيء والهداية إليه، وإنزال الله نعمه، ونعمه على الخلق إعطاؤهم إياها ففيم إذنْ هذا الوقوف عند معنى النزول المادي من سماء إلى سماء أو الوصول إلى الأرض والإبلاغ إلى شخص". وكأن الأستاذ أحس بأن هناك اعتراضا يقول: إذا كان المراد بالنزول: التقريب والهداية فلم خصه الله بشهر رمضان مع أن هداية القرآن غير مخصوصة به؟! فذهب الأستاذ الخولي يلتمس ما حسبه مستمسكا وما هو بمستمسك قال: "القرآن نعمة وهداية، تعطى للناس، وتقرب إليهم، وتيسر لهم ظروف ومناسبات مع رياضة خاصة، أو عبادة خاصة فإنزال القرآن في رمضان يمكن أن   1 سورة الحديد: الآية 25. 2 سورة الأعراف: الآية 26. 3 سورة الحج: الآية 63. 4 سورة النبأ: الآية 14. 5 سورة المائدة: الآية 114. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 913 يكون بتقريبه إلى الناس، وأنسهم به في شهر رمضان عندما يرتاضون بالصوم ويدركون من الصوم ما رأينا من غاية تتسق مع الفكرة الجامعة في فهم الدين وفهم الحياة، ففي كل رمضان إذ الناس يشعرون من الصوم بما يشعرون به، يقرب القرآن إلى نفوسهم، ويستبينون منه الهدى والبينات من الهدى في تفسير الحياة وتدبير الحياة والقرآن في ذلك فرقان واضح، يتميز به تاريخ الإنسانية عصر عن أعصر قبله، وهذا معنى الفرق والتميز في كلمة الفرقان الذي فيه منه بينات. على هذا الوجه يفهم أن نزول القرآن في رمضان هو تقريبه والإيناس به فيزيد الاستشفاف لهداه، وبيناته"1. ولا أحسب أن هذا التعليل الذي جاء به الأستاذ الخولي مقنعا؛ إذ إن الهداية بالقرآن الكريم وتقريبه إلى الناس وأنسهم به ليس خاصا بشهر رمضان حتى يقصر عليه. زد على هذا أن النصوص كثية من الكتاب والسنة في نزول القرآن الكريم في شهر رمضان، ولا يلزم اقتران النزول المادي بذكر المبدأ خذ مثلا: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَة} 2، {قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلائِكَة} 3، {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} 4، {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ} 5، {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} 6، {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} 7، والآيات الدالة على هذا كثير. وفي حديثين آخرين تناول الأستاذ الخولي معنى الجوع وصلته بالصيام   1 من هدي القرآن: في رمضان: أمين الخولي ص127-128. 2 سورة المؤمنون: الآية 24. 3 سورة فصلت: الآية 14. 4 سورة الأنعام: الآية 8. 5 سورة الأعراف: الآية 57. 6 سورة الحج: الآية 5. 7 سورة فصلت: الآية 39. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 914 وذلك تحت عنوان "عن فلسفة الجوع" ذكر فيه أن الجوع ليس طابع الصوم، وقال في الحلقة الثانية: "حدثتكم قبل عن الفقهاء وتعريفهم الصوم بالجوع وترك الأكل والشرب ... إلخ، وإدارتهم الشاهد العقلي لفرضية الصوم على فعل الجوع بالنفس وردهم حكمة الصوم إلى أثر الجوع أيضا، كما رأينا الصوفية يفلسفون هذا الجوع، فيسببون به كل خير كما ينسبون إلى شهوة الطعام كل شر، ويروون في فضل الجوع ما يرووون مما يعدونه حديثًا، ويذكرون مآثر العابدين في الصوم ومدته ونريد هنا أن نعرض هذه الآراء على هدي القرآن لنرى إلى أي مدى يؤيدها أو يرفضها فاستمع إليه حين يقول لقريش: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} 1، فيعد نعمتي الإطعام والإيمان اللتين خلص بهما قريشا من نقمتي الجوع والخوف. وهو بمثل هذا يعد نعم الجنة. دارالنعيم المقيم والسعادة الكبرى فيقول لآدم: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى، وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} 2، فالجوع والعري والظمأ والضحو -بالتعرض للشمس وحرها- كلها آلام يأمن منها من يكون في الجنة وإذا نعم أهل الجنة بألا يجوعوا فقد شقى أهل الجحيم في وصف القرآن بألا يجدوا إلا ما لا يشبع فقال عنهم: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} 3. وعلى هذا ندرك أن الجوع والحرمان من الطعام لون من العذاب القاسي في تعبير القرآن الأدبي، وحسه الفني، الذي نفرغ إليه كما اتفقنا لمعرفة نظرة القرآن إلى الجوع. ولعلنا نستطيع أن نقول؛ بعد الذي أنسنا إليه من هدي القرآن: إن ما اتجه إليه القوم من تلمس الآثار في فضل الجوع وفلسفتهم لذلك الجوع على ما سمعناها منهم ليس مما يرحب به هدي القرآن كثيرا وليس بكثير أن   1 سورة قريش: الآية 3-4. 2 سورة طه: الآية 118-119. 3 سورة الغاشية: الآية 6-7. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 915 نقول: إن نظرية القوم في الجوع ليس ذات أساس سليم وهي غريبة عن الروح الإسلامية؛ بل إنها ليست في شيء من روح القرآن في مثل قوله: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} 1، أيها المهتدون بهدي القرآن: أحسبكم تقدرون ما قصد إليه هذان الحديثان عن فلسفة الجوع في عمل الفقهاء ورياضة الصوفية، وأن هذا الجوع ليس أفضل العبادة ولا مخ الطاعة بل نقول في طمأنينة: إن هذا الجوع ليس مخ الصوم نفسه، وليس من الصواب أن يكون الجوع طابع الصوم الظاهر عند المتكلمين في الحكمة وفضل الصوم وحبذا الصوم إمساكا عن جميع الأهواء والأخطاء والعوائد الواهمة والفاسدة؛ ليكون الصوم رياضة مُصلِحة للنفوس، مجدية على الفرد والجماعة مروضة على ما لا يسهل الارتياض عليه في سائر الأوقات؛ لضعف أو إهمال أو عدم رقابة، فيكون رمضان وسيلة إلى التقوى التي رجاها القرآن وختم بها آية هذا الفرض: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَْ} 2، 3. وها أنت ترى الأستاذ يقترب أكثر من قبل إلى أسس منهجه، وإن كان الفاصل لا يزال بعيدا. تراه في هذه المرحلة الثالثة يولي المفردات عناية خاصة، فينظر لكلمة النزول ويقارن بين ورودها في الآية التي يتناولها وبين ورودها في آيات أخرى ثم يستنبط المعنى الذي هداه إليه عمله ويظهره وإن خالف فيه كل من سبقه. وفي الجوع نظر نظرة موضوعية وصل بها إلى أن الجوع ليس طابعا وليس هدفا بل هو لون من العذاب القاسي في تعبير القرآن الأدبي وحسه الفني، ويصل من هذا إلى أن الصوم إمساك عن جميع الأهواء والأخطاء والعوائد الواهمة والفاسدة؛ ليكون الصوم رياضة مُصلِحة للنفوس مجدية على الفرد والجماعة ... إلخ.   1 سورة هود: الآية 52. 2 سورة البقرة: الآية 18. 3 من هدي القرآن في رمضان: أمين الخولي ص136-142 باختصار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 916 المرحلة الرابعة: في أموالهم.. مثالية لا مذهبية وهي أحاديث إذاعية تباعدت سنوها -كما يقول الخولي- من سنة 1944م، إلى سنة 1952م. ولا يسعني بحال من الأحوال أن أستوفي عناصر المنهج من دراسة جاءت في حوالي 130 صفحة في عرض سريع كهذا؛ أقول هذا؛ عذرا لقصور مؤكد فإن قبل هذا مني عذرا فإني أقول: إن الأستاذ الخولي قدم لأحاديثه هذه التي وصفها بأن في ثناياها إشارات متعددة للمعالم الكبرى لهذا المنهج الأدبي في تفسير القرآن -قدم لها بذكر طائفة من الآيات في موضوع المال من نحو قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} 1، و {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} 2، {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} 3، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 4، وغير ذلك من الآيات، لكنه لم يرتبها حسب نزولها كما هو الأصل في المنهج الذي يدعو إليه. ثم- وبعد ذلك نظر نظرة عامة عنوانها: "لمحات عامة" وهي التزام منه للأساس الذي دعا إليه وهو الدراسة العامة لكن هذه اللمحات العامة لم تأتِ من الزوايا التي دعا إلى النظر منها تمامًا بين ما يريده في هذه اللمحات فقال: "نريد لنتذكر ما يشف به الحس القرآني الكريم في ذكر القرض الحسنن إذ يسمى هذا الإعطاء والنضال في سبيل الخير العام قرضًا حسنًا وقرضا لله تعالى فلا يسميه منحا ولا تفضلا أو ما يشبه هذا"5.   1 سورة النور: الآية 33. 2 سورة الحديد: الآية 7. 3 سورة آل عمران: 92. 4 سورة البقرة: الآية 254. 5 من هدي القرآن، في أموالهم: ص205. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 917 ثم عرض لبيان نظرة القرآن إلى هذا المال في أيدي الواجدين وصفته التي يعطونها به للفاقدين وأنهم إنما يعطونه حين يقرضونه إعطاء التارك المتجاوز غير المحدد لأجل للرد ولا الدائن بما يقرض. ثم عرض الأستاذ الخولي لبيان غريزة حب التملك في الإنسان منذ الطفولة إلى الشيخوخة وآثارها الحسنة وآثارها السيئة، ثم بين هدي القرآن في حل تلك المشكلة الكبرى؟ وبين كيف عالجها القرآن وأن علاجه لم يكن دخولا في مشكلاته الاقتصادية أو مذهبيات اجتماعية يزيد بها الآراء رأيا والمذاهب مذهبا ويدعنا في حيرة لا نعرف الأصوب والأصلح؟ ووصف العلاج القرآني لهذه الفطرة نفساني دقيق يمسها مساسًا خبيرًا رشيدًا، فيجعل التدين والتأليه والمسئولية الآخرة عوامل فعالة في إحياء المضير وتقوية الإحساس بالكرامة وبالخير وتأسيس الشعور بالمسئولية على المراقبة الداخلية والرضا النفسي. تلكم هي أبرز ملامح اللمحات العامة التي قدمها الأستاذ الخولي أمام دراسته تلك. لكنه عاد في الحلقة التالية إلى "حب المال" وتحدث فيها عن نظرة القرآن إليه، وأن القرآن لم يعمد من ذلك إلى تجاهل أو كبت يصادم الواقع من قوة هذه الرغبة في البشر فهو يقول: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} 1. ثم بيَّن أن أصحاب القرآن يدركون أن هذا الهدى الخالد قد عرف للبشرية حبها للتملك، فأرضها لونا من الإرضاء يوفر ثقتها بما يوجهها إليه في تعلية هذه الغريزة ولا تحس معه بشك فيما يلقى إليها؛ لأنها قد عرفته مقدرا للواقع خبيرا به لطيفا في تناوله، فلتصغ إلى ما سيلقي إليها من حديث عن هذه الرغبة2 ... إلخ.   1 سورة الفجر: الآيتين 19-20. 2 من هدي القرآن، في أموالهم: أمين الخولي ص214. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 918 وتحت عنوان "بين القصد والجور" أورد المؤلف قوله تعالى: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِر} 1. تحدث فيه أيضا عن هذه الفطرة "حب التملك" وعما تحتاجه من مراقبة وملاحظة؛ لأنها حين تجنح إلى ما لا خير فيه تكون وبالًا على الفرد والأمة ومضيعة لما هي وسيلة إليه وسبب من العزة والغلبة والكرة والدولة فهي إذن بحاجة ماسة إلى التوجيه السديد وهذه المراقبة ليست يسيرة المؤونة ولا سهلة الممارسة. وقد التفت القرآن التفاتا قويًّا لهذه الغريزة وهو يحد من شرها عند هذا الجموح في مثل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 2، كما يسوق للعبرة حال من أفسد أمره ماله وولده في قوله عن نوح عليه السلام: {رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} 3، وفي مثل قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ، أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} 4، بمثل هذه الحالة من فساد الحال بجموح نزعة التملك والتمول ينفي القرآن أن يكون المال والولد وسيلة إلى القربى والزلفى عند الله، فيقول: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} 5. وبهذا القصد والاعتدال ينهى القرآن عن الإعجاب والاغترار بالأموال والأولاد: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} 6,   1 سورة الرعد: الآية 26. 2 سورة المنافقون: الآية 9. 3 سورة نوح: الآية 21. 4 سورة القلم: الآيتين 10-13. 5 سورة سبأ: الآية 37. 6 سورة التوبة: الآية 55. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 919 ففي هذه الآيات وما إليها لفت واضح إلى حال هذه النزعة البشرية للتملك والاقتناء إذا جنحت إلى الشر، ثم جعل الأستاذ أمين هذا الأساس ميزانا يزن به أقوال المفسرين. ثم بين أن القرآن لفت إلى الرشاد والصواب في السلوك الذي يريده من أصحاب الأموال: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1 الآية، {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 2، ولن يكون الإنفاق بالليل والنهار، وفي السر وفي العلن إلا من مال كثير يجدُّ في سبيل جمعه أولئك المنفقون. بهذه الآيات وأمثالها لفت القرآن أقوى لفت إلى خيرية غريزة التملك المهذبة الموفقة، فالقرآن بعد مسلكه النفسي في تقرير هذه الحقيقة عن الفطرة يشير إلى أنها في حاجة إلى رقابة مرشدة وتوجيه سديد. ووضَّح في "تحويل نفسي" أن القرآن حين يقصد إلى تعلية غريزة التملك وتوجيهها لم يعمد قط إلى هذا القمع الكابت فلم يجعل المال لعنة، ولا الغنى خطيئة ولا طد الغني من ملكوت الله ولا وجه إلى الزهد المنقطع عن الحياة"؛ بل "فتح مسالك ومنافذ للتحويل النفسي ببعض ما سمعنا من توجبه لا يضمن ويبخل ولا يبدد ويسرف ولا يغتر ويستكبر ولا ينكر القيم ويجحد اليقين ولا يحسب المال هو الدنيا والآخرة جميعا ولا ينسى ما هو خير ثوابا وخير أملا3. ثم تكلم الخولي عن "تعديل البيئة" فإذا كان أصحاب النفسيات يقدرون في تهذيب الغريزة تأثير التحويل النفسي، والتبديل النفسي، والاستعانة بغريزة على غريزة فإنهم يقدرون كذلك فعل المؤثرات الخارجية في هذا التهذيب،   1 سورة التوبة: الآية 88. 2 سورة البقرة: الآية 274. 3 من هدي القرآن، في أموالهم: أمين الخولي ص224، 226. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 920 ويقررون أن الإنسان يتأثر بما حوله من نُظُم وأوضاع يخضع لها، وفي الحق أن القرآن قد قدر الأثر النفسي للبيئة حينما قدر الوحدة الاجتماعية والصلة الوثيقة بين الفرد والجماعة، وفي الحق أيضا أن القول عن عمل القرآن في "تعديل البيئة" التعديل الخاص بتهذيب غريزة التملك قول تتسع آفاقه وينبسط مداه حتى ليقضينا النظر في أصول النظام المالي. والقرآن حين يهذب غريزة التملك في أصحاب القرآن يجمع بين الواقعية والمثالية. فهو حين يحمي الملكية الفردية واقعي لا يفجأ الناس بتجريدهم من أموالهم تجريدًا يفتر همتهم وينثي عزائمهم، ويقعدهم فلا يبتكرون، ولا يجدون ولا يذودون عن حماهم. ثم هو حين يهز أسس هذه الملكية الخاصة يكون مثاليا يكف من غلواء الأغنياء، ويزلزل صلتهم بأموالهم ويجعلها للناس جميعا هم عليها أمناء مستخلفون وهي مال الله لا مالُهم. بهذا التعديل الدينيّ الأساس، السماويّ الصبغة، الإلهيّ الروح يوقِّيهم أخطار الجموح في التملك والوصول إليه بأي وسيلة وإهدار الخلق والفضيلة"1. و"استمع إليه حين يحدث كثيرا عن أداء هؤلاء الواجدين لما عليهم من واجبات الزكاة فيستعمل في ذلك كله كلمة من "الإيتاء" لا يغيرها في بضع وعشرين مرة استعمل فيها مادة واحدة هي: {آتَى} لم يغيرها على كثرة ما قال عن الزكاة فتراها في صورة متعددة: {أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاة} 2، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 3، {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} 4، {وَالْمُقِيمِينَ   1 المرجع السابق، ص227-231 باختصار. 2 سورة الحج: الآية 41. 3 سورة البقرة: الآية 43. 4 سورة الأنبياء: الآية 73. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 921 الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} 1. وتقرأ هذا، فتسأل هل للكلمة حس فني خاص يجعل استعمالها موحيا بشعور نفسي يجده من ينصت لهذا القرآن المعجز؟ وإذا الجواب عن هذا السؤال: نعم إن المادة ترجع في أصل معناها جملة إلى الاستقامة في السير والسرعة في العطاء كما أن منها المجيء بسهولة ومن هنا تحس إيحاء التعبير القرآني حينما يخصها بالتعبير عن أداء الواجدين لزكاة أموالهم حين يؤدونها لأصحاب الحق فيها. ويؤدونها من مال الله الذي آتاهم وينفقون مما جعلهم مستخلفين فيه فما أقوى أن يشعر التالي المتأمل من قريب وفي قوة أن الحرص على استعمال هذه المادة في أداء الزكاة إنما هو التعبير عن إعطاء في سرعة واتجاه إلى الإعطاء يتم في سهولة"2. وفي قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 3. قال الخولي: "نشعر في مادة الأخذ بأنها التناول الجاد الحازم القوي تحسه واضحا في مثل قوله: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُم} 4 {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ} 4 {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} 5، فنستشف هذا الجد المتناول6 وبهذا يخرج الصدقة عن مفهوم الامتنان والتفضل، بل إن الإحسان في عامة استعماله هو ضد الإساءة: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} 7، {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} 8، وبذلك ينفر الحس القرآني الدقيق دائما من أن يستعمل في ذكر المال المصلح لحياة الجماعة هذا الإحسان بمعنى الإعطاء المتفضل، والبذل المنعم والأداء المترفع   1 سورة النساء: الآية 162. 2 من هدي القرآن، في أموالهم: أمين الخولي، ص240-241. 3 سورة التوبة: الآية 103. 4 سورة النساء: الآية 102. 5 سورة الرحمن: الآية 41. 6 من هدى القرآن: في أموالهم، أمين الخولي، ص247, 7 سورة الإسراء: الآية 7. 8 سورة البقرة: الآية 83. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 922 المستعلي الذي يحز في القلوب ويهيج النفوس ويفسد ما بين المؤمنين وإنما المؤمنون إخوة"1. وبين الخولي عناية القرآن بـ "الوسط" أي "الاتزان" في المال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} 2، {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} 3. وهذا الاتزان هو الأساس الأول والفكرة العامة في حل مشكلة المال حلًّا يوقِّي الحياة وَيْلَاتِ الآراء الخاطئة4. ذلكم عرض سريع وسريع لما جاء به الأستاذ أمين الخولي مما سماه التفسير الأدبي للقرآن الكريم وجعل موضوعه "في أموالهم" وعددناه المرحلة الرابعة من خطوات التفسير التي خطاها الأستاذ الخولي في سبيل تطبيق المنهج الذي دعا إليه. وسبق القول مني أن الأستاذ الخولي قدم لموضوعه هذا بآيات في موضوع المال، وأنه لم يرتبها حسب النزول وهذه مخالفة للمنهج الذي يدعو إليه. ثم قدم دراسة عامة لهذه الآيات لكنها كما قلنا دراسة غير شاملة وغير وافية بما أوجبه الأستاذ للدراسة الأدبية. ثم نظر في هذه الآيات وغيرها نظرة شاملة. وقلَّ نظره في مفرداتها -وهو تجاوز آخر لعناصر منهجه ثم نظر في معانيها المركبة لا ينظر إليها آية آية بل نظر إليها جميعا مفردا كل نظرة بحديث. ولست أوافق الدكتور كامل علي سعفان في التماسه العذر للأستاذ أمين الخولي في مخالفاته هذه وقصوره عن تطبيق منهجه في أحاديثه تلك بأنها طبيعة أحاديث الإذاعة5 باعتبار أن الأستاذ الخولي كان يبثها عبر الإذاعة عند كتابتها.   1 من هدي القرآن، في أموالهم: أمين الخولي ص252. 2 سورة الفرقان: الآية 67. 3 سورة الإسراء: الآية 29. 4 من هدى القرآن، في أموالهم: أمين الخولي ص257-259 باختصار. 5 المنهج البياني في تفسير القرآني الكريم: كامل سعفان، ص176. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 923 لا أوافقه لأني أرى أن عناصر المنهج كلها ملائمة للإذاعة لا تنبو عنها ولا تثقل بها؛ خاصة أنه أحيانا يتحدث عن المفردات -مثلا- في موضع لكنه في مواضع أخرى يهملها. ولا أعرف سببا لذلك. والله أعلم.. ومن الأستاذ إلى تلميذته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 924 عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ" : تلقت علوم الإسلام والعربية على مناهج الأزهر الشريف على والدها وزملائه الشيوخ بالمعهد الديني الأزهري بدمياط وتقدمت من المنزل لامتحان كفاءة المعلمات سنة 1929م ثم الشهادة العامة الابتدائية سنة 1931م والكفاءة والثانوية سنة 1932م والبكالوريا أدبي سنة 1934م دون أن تلتحق بأية مدرسة لهذه المراحل. ثم تابعت الدراسة الجامعية في قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة حتى نالت: الليسانس الممتازة في اللغة العربية سنة 1939م. الماجستير في الآداب سنة 1941م. الدكتوراه في الآداب، تخصص نصوص سنة 1950م. وتدرجت في المناصب الجامعية من معيدة بقسم اللغة العربية بآداب القاهرة سنة 1939م ومدرس مساعد بالقسم سنة 1942-1944م إلى مدرس أ. بجامعة عين شمس سنة 1952م وأستاذ مساعد سنة 1957م ثم أستاذ كرسي اللغة العربية وآدابها سنة 1962م حتى استقرت أستاذا للتفسير والدراسات العليا بكلية الشريعة جامعة القرويين سنة 1970 إلى اليوم. مؤلفاتها: قدمت المؤلفة إلى المكتبة العربية نحو أربعين كتابا؛ منها: في الدراسات القرآنية والإسلامية: 1- التفسير البياني للقرآني الكريم: في جزءين "طبع خمس طبعات". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 924 2- الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق "طبعتان". 3- مقال في الإنسان "دراسة قرآنية". 4- القرآن والتفسير العصري، سلسلة اقرأ "335". 5- القرآن وقضايا الإنسان: "ست طبعات". 6- الشخصية الإسلامية "دراسة قرآنية" "خمس طبعات". 7- مع المصطفى عليه الصلاة والسلام "أربع طبعات". 8- تراجم سيدات بيت النبوة في "خمسة أجزاء" "خمس عشرة طبعة". 9- الإسرائيليات في الغزو الفكري. 10- مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث "نص محقق". 11- محاسن الإصطلاح للسراج البلقيني "نص محقق". في الدراسات اللغوية والأدبية والتاريخية لها عدد من المؤلفات أذكر منها: 1- لغتنا والحياة. 2- تراثنا بين ماضٍ وحاضر. 3- الخنساء. 4- أبو العلاء المعري. 5- الحياة الإنسانية عند أبي العلاء. 6- مع أبي العلاء في رحلة حياته. 7- قراءة جديدة في رسالة الغفران. 8- الغفران دراسة نقدية. 9- رسالة الغفران لأبي العلاء "تحقيق". 10- أرض المعجزات. ولها غير ذلك من المؤلفات والبحوث وأشرفت على عدد كبير من الرسائل العلمية في مختلف البلدان العربية وشاركت في عدد من المؤتمرات1.   1 أخذت هذه الترجمة من "بيان وتقرير عن الأستاذة الدكتورة عائشة عبد الرحمن المرشحة من جامعة عين شمس لجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام سنة 1403" ولم تظفر بها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 925 تفسيرها: تصف بنت الشاطئ الأصل في المنهج الذي تلقته عن أستاذها بقولها: "والأصل في منهج التفسير الأدبي كما تلقيته عن أستاذي هو التناول الموضوعي الذي يفرغ لدراسة الموضوع الواحد فيه، فيجمع كل ما في القرآن عنه ويهتدي بمألوف استعماله للألفاظ والأساليب بعد تحديد الدلالة اللغوية لكل ذاك، وهو منهج يختلف تماما عن الطريقة المعروفة، في تفسير القرآن سورة سورة، يؤخذ اللفظ أو الآية فيه مقتطعا من سياقه العام في القرآن كله مما لا سبيل معه إلى الاهتداء إلى الدلالة القرآنية لألفاظه أو استجلاء ظواهره الأسلوبية وخصائصه البيانية"1. وإذا ما أردنا أن نستقرئ تفسير الدكتورة عائشة منهجًا فيه فإنا سنجد له معالم واضحة، أهمها أن الأستاذ الخولي جعل "المقصد الأول للتفسير أدبيا محضا صرفا" كما نقلناه عنه وجاءت تلميذته لتؤكد هذا بقولها: "إن الذين يعنون بدراسة نواحٍ أخرى فيه -أي في القرآن- والتماس مقاصد بعينها منه لا يستطيعون أن يبلغوا من تلك المقاصد شيئا دون أن يفقهوا أسلوبه الفذ ويهتدوا إلى أسراره البيانية كي لا يغيب عنه شيء من دلالاته فسواء أكان الدارس يريد أن يستخرج من القرآن أحكامه الفقهية أو يستبين موقفه من القضايا الاجتماعية أو اللغوية أو البلاغية أم كان يريد أن يفسر آيات الذكر الحكيم تفسيرا عاما على النحو الذي ألفناه في كتب التفسير فهو مطالب بأن يتهيأ أولا لما يريد ويعد لمقصده عدته من فهم مفردات القرآن وأساليبه فَهْمًا يقوم على الدرس المنهجي الاستقرائي ولمح أسراره في التعبير"2. وتأتي بعد ذلك قواعد منهجها في التفسير، وأهمها3:   1 التفسير البياني للقرآن الكريم: د/ عائشة عبد الرحمن، ج1 ص18. 2 المرجع السابق، ج1 ص15. 3 استفدنا جمع هذه القواعد مما كتبه الدكتور كامل سعفان في كتابه "المنهج البياني في تفسير القرآن الكريم"، ص115-119. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 926 أولا- العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب: وقررت هذا في مقدمة تفسيرها ورتبت عليه نظرتها إلى أسباب النزول حيث قالت: "إن المرويات في أسباب النزول موضع اعتبار في فهم الظروف التي لابست نزول الآية مع تقدير أن الصحابة الذين عاصروا نزولها ورويت عنهم أقوال فيها ربطها كل منهم بما وهم أو فهم أنه السبب في نزولها وهذا هو معنى قول علماء القرآن: إن المرويات في أسباب النزول يكثر فيها الوهم، ونقدر معه أن السببية فيها ليست بمعنى العلية التي لولاها لما نزلت الآية وأن العبرة في كل حال بعموم اللفظ المفهوم من صريح نصها لا بخصوص السبب الذي نزلت فيه"1. أما المرحلة التطبيقية عندها فهي تورد سبب النزول ثم تعقب عليه بقاعدة الأصوليين هذه وتعلق عليه، وخذ مثلا لذلك ما قالته في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} 2، قالت: "وللمفسرين في الإنسان قولان: أنه لعموم الجنس أو أن "أل" للعهد مرادا بالإنسان جماعة من المشركين: الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب ولا نقف عند ما اختلفوا فيه فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي نزلت فيه الآية، والسياق ظاهره لا يخص الإنسان بفلان أو بآخر والتعميم فيه مستفاد صراحة من الإطلاق ثم استثناء {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} 3. فهي كما ترى لا تكتفي بإيراد القاعدة الأصولية بل تحرر سبب رفضها، ولكنها أحيانا تكتفي بإيراد القاعدة خذ مثلا لذلك ما قالته في ما ورد من سبب نزول قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّين} 4، قالت: "وقالوا في أسباب   1 التفسير البياني للقرآن الكريم: د/ عائشة عبد الرحمن، ج2، ص9. 2 سورة العصر: الآية 2. 3 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن، ج2 ص81. 4 سورة الماعون: الآية الأولى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 927 النزول أنها نزلت في: أبي سفيان أو العاص بن وائل السهمي أو الوليد بن المغيرة، أو أبي جهل وقال ابن عباس: "نزلت في منافق جمع بين البخل والمراءاة" والعبرة على كل حال بعموم اللفظ"1. وهذا الأخير هو أكثر عملها في أسباب النزول تكتفي بإيراد القاعدة. ثانيًا- استقراء اللفظ القرآني في كل مواضع وُرُودِه: وقد بسطت هذا الأصل في مقدمة تفسيرها حيث قالت عنه: "والمنهج المتبع هنا هو الذي خضعت له فيما قدمت من قبل، بضوابطه الصارمة التي تأخذنا باستقراء اللفظ القرآني في كل مواضع وروده للوصول إلى دلالته، وإذ نضع معاجم العربية وكتب التفسير في خدمة هذا المنهج، فإننا نحاول أن ندرك حس العربية للألفاظ التي نتدربها من النص القرآني عن طريق لمح الدلالة المشتركة في شتى وجوه استعمالها لكل لفظ وواضح أنه لا سبيل إلى دراسة أي نص في لغة ما دون فقه لألفاظه في لغته، ثم يكون للنص بعد ذلك أن يحدد لكل لفظ دلالته الخاصة من شتى الدلالات المعجمية أو يضيف إليها ملحظا ينفرد به"2. ثم توضح بعد ذلك أن القول بدلالة خاصة للكلمة القرآنية لا يعني تخطئة سائر الدلالات المعجمية وإنما يعني أن لهذا القرآن معجمه الخاص وبيانه المعجز فلا يعترض معترض بأن العربية تعرف صيغا ودلالات أخرى للكلمة. وقد اعتنت الدكتورة عائشة عبد الرحمن بهذا الأصل عناية كبيرة فجاء تفسيرها محتويا على معجم لألفاظ السور التي تناولتها بالتفسير، بل إن عنايتها تلك جاءت فيما أعتقد على حساب فكرة الموضوع التي طال ما دعت إليها كما سيأتي بيانه. إن شاء الله. وهي حين تدرس كلمة قرآنية تبذل وسعها في استقراء معانيها في القرآن ومدلولاتها حتى تصل حسب فهمها إلى ما ترى أنه الصواب ولا شك أنها قد تصيب وقد تخطئ.   1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن، ج2 ص185. 2 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن، ج2 ص7-8. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 928 تقول الدكتور عائشة في معنى الساعة من قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} 1: "ولفظ ساعة في العربية يعني الجزء من الوقت، وأضيف إليه حديثا استعمالها في جزء محدد منه بستين دقيقة. ويستعمل معرفا بـ "أل" للعهد في الوقت الحاضر فيقال: أزورك الساعة أي الآن، ثم غلب على الساعة استعمالها في الآلة الضابطة للوقت، بعد اختراعها. لكن للقرآن استعماله الخاص للساعة، فهو لا يستعملها نكرة إلا في برهة من الوقت قصيرة دون تحديد لها بالدقائق والثواني: {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَة} . [الروم: 55] . {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61] ، و [الأعراف: 34] ، و [سبأ: 30] ، و [يونس: 49] . {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ} [يونس: 45] . {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف: 35] . أما حين يستعمل القرآن الساعة معرفة بـ "أل" فتلك دائما هي ساعة الآخرة، ولم يتخلف هذا في أي موضع من المواضع الأربعين التي: جاءت الساعة فيها في القرآن الكريم. والملحظ البياني في هذا الاستعمال المطرد أن هذه الساعة تنفرد دون ساعات الزمان كله بأنها الحاسمة الفاصلة التي يتغير فيها نظام الزمن وسير الكون، لما يحدث فيها من حدث هائل خطير وهو معنى يقوى ويتضح بإسناد القيام والإتيان والمجيء إلى هذه الساعة المتميزة الحاسمة دلالة على بروزها وشخوصها وفاعليتها. {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} [الأنعام: 31] . {أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَة} [الأنعام: 40] .   1 سورة النازعات: الآية 42. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 929 {أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} [يوسف: 107] ، ومعها: [الحج: 55] ، و [الزخرف: 66] ، و [محمد: 18] . {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة} [الروم: 12، 14، 55] ، ومعها [المؤمنون: 46] ، و [الجاثية: 27] . {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3] . {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] . {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف: 36] . {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} 1 [فصلت: 50] . وبمثل استقرائها للفظ "ساعة" و"الساعة" في القرآن الكريم كان استقراؤها لألفاظ أخرى كثيرة، منها "يتيما" في قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} 2 لكنها هنا زادت عن ذاك بإيراد أقوال المفسرين في المراد باليتيم قالت: "ففي اليتم والإيواء قال "الرازي": إنه من قولهم درة يتيمة، والمعنى: ألم يجدك واحدا في قريش عديم النظير، فآواك أي جعل لك من تأوي إليه وهو أبو طالب، وقرئ: "فَأَوَى" بالتخفيف؛ أي رحم. ويقول الزمخشري، محقًّا: "إن تفسير يتيم هنا بالدرة اليتيمة من بدع التفاسير" وإنما اليتم عنده فقدان الأب، ومثله أبو حيان في البحر، والشيخ محمد عبده. وقال "الراغب" في المفردات: اليتم في آية الضحى انقطاع الصبي من أبيه قبل بلوغه.   1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن، ج1 ص144-145. 2 سورة الضحى: الآية 6. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 930 وهذا هو الأصل في اليتم لغة، ثم قيل لكل منفرد: "يتيم ومنه الدرة اليتيمة أي المنفردة". ثم بعد أن ساقت الدكتورة هذه الأقوال للمفسرين قالت: "ونحتكم إلى القرآن، فنراه استعمل اليتيم، مفردًا ومثنى وجمعًا ثلاثا وعشرين مرة كلها بمعنى اليتم الذي هو فقدان الأب ويلحظ فيه اقتران اليتم بالمسكنة في عشرة مواضع: البقرة: 93، 176، 215، والنساء: 7، 35، والأنفال: 41، والحشر: 7، والدهر: 8، والفجر: 17، والبلد: 15. كما ذكر فيه من آثار اليتم: الجور، وأكل المال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] ، ومعها الأنعام: 152، والإسراء: 34، والنساء: 2، 6. وعدم الإكرام: {كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الفجر: 17، 18] . والدع: الذي هو الدفع العنيف مع جفوة: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون: 1-3] . والقهر، في آية الضحى: 9. ثم قالت الدكتورة عائشة بعد هذا: "وأمام هذا التتبع لا نملك إلا أن نستبعد تفسير اليتم بغير ذاك الذي في القرآن وقد ولد محمد يتيما، ثم تضاعف يتمه بموت أمه وجده، لكنه تعالى نجاه من آثار اليتم التي هي: بشواهد من آيات الكتاب الكريم: الدع، والقهر، والانكسار، والجور، مما كان مظنة أن يكسر نفسه، فلا يتطلع إلى بعيد الآفاق، فذلك هو قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} ، ترشيحا بهذا الإيواء الإلهي -غير المقيد بمتعلق- إلى ما بعده من نعمة الهداية بعد حيرة، وتهيئة لحمل الرسالة الكبرى"1.   1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص43-44. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 931 وبهذا ترفض الدكتورة عائشة ما أوردته من تفسير الرازي لليتم، وتقصره على فقدان الأب. ومثلا ثالثا نظهر به مدى عناية الدكتورة باستقراء ألفاظ القرآن ومدى انتشاره في تفسيرها فهي تفعل ذلك حتى ولو لم يرد اللفظ في القرآن إلا مرة واحدة كيف؟! خذ مثلا كلمة "المقابر" من قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} 1 قالت: "وفي المقابر سر بياني آخر لفتني إليه أن المقابر لم يأتِ قط في غير آية التكاثر، على حين جاءت "القبور" خمس مرات، كما جاء "القبر" مفردا في المخلفين الذين قعدوا عن الخروج للجهاد مع الرسول: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84] . وقد تجد الصنعة البلاغية في استعمال المقابر هنا مجرد ملاءمة صوتية للتكاثر، وقد يحس أهل هذه الصنعة ونحس معهم فيها نسق الإيقاع وانسجام النغم لكن أهذا كل ما في الاستعمال القرآني للفظ المقابر في آية التكاثر؟ الذي أراه أن وراء هذا الملحظ البلاغي اللفظي، ملحظا بيانيا يتصل بالمعنى: فالمقابر جمع مقبرة وهي مجتمع القبور واستعمالها هنا ملائم معنوي لهذا التكاثر، دالٌّ على مصير ما يتكالب عليه المتكاثرون من متاع دنيوي فان ... هناك حيث مجتمع القبور ومحتشد الرمم ومساكن الموتى على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم ودرجاتهم وأزمنتهم. وهذه الدلالة من السعة والعموم والشمول لا يمكن أن يقوم بها لفظ "القبور" بما هي جمع لقبر. فبقدر ما بين قبر ومقبرة من تفاوت يتجلى إيثار البيان القرآني "المقابر" على "القبور" حين يتحدث عن غاية ما يتكاثر به المتكاثرون وحين يلفت إلى مصير هذه الحشود من ناس يلهيهم تكاثرهم عن الاعتبار بتلكم المقابر التي هي مجتمع الموتى ومساكن الراحلين الفانين.   1 التكاثر: 1-2. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 932 فتأويل المفسرين -فيما قرأت- المقابر بالقبور ليس إلا أثرا لمنهجهم في تناول مفردات القرآن تناولًا لفظيًّا معجميًّا مجردًا عن إيحاء سياقه وسره البياني، معزولا عن الاستعمال القرآني الذي لم يجئ بالمقابر هنا لمجرد المشاكلة اللفظية والرنين الصوتي، وإنما هي الملاءمة المعنوية أيضا بين التكاثر والمقابر بما فيهما من سعة وشمول وعموم وهو هو الإعجاز البياني لا يقوم فيه لفظ القبور مقام المقابر بما تلفت إليه من مصير للحشد والتكاثر، وبما تضع أمام المتكاثرين من عبرة رادعة زاجرة حين تصدمهم بذكر المقابر إثر {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} 1. وكون الدكتورة عائشة تستنبط هذا مع أن اللفظة هذه لم ترد في القرآن إلا مرة واحدة يدل على مدى حرصها على جلاء معاني المفردات جلاءا لا ينظر صاحبه إلى اللفظة المفردة مجردة من مثيلاتها أو حتى من جملتها. ومثلا أخيرا من عنايتها بالمفردات نذكره لتأكيد اهتمامها في ذلك، ذلكم تفسيرها لـ "السعي" في قوله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} 2، أوردت المعنى اللغوي أولًا: "والسعي في اللغة المشي، لحظ فيه أن الساعي يبتغي عملا أو يتجه إلى مقصد يدأب له، فكان السعي بمعنى العمل مع القصد والدأب". ثم أوردت الاستعمال القرآني فقالت: "وفي الاستعمال القرآني للمادة نجد الدلالة الأولى للسعي بمعنى: المشي والحركة على الحقيقة أو التخييل والمجاز، في آيتي "طه" عن عصا موسى ألقاها: {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} 3، وحبال السحرة وعصيهم ألقوها: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} 4، وفي آيتي التحريم والحديد، في نور المؤمنين: {يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِم} يوم القيامة، كما نجد دلالة السعي على العمل مع الدأب في آيات: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء: 94] ،   1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص207-208. 2 سورة الليل: 4. 3 سورة طه: 20. 4 سورة طه: 66. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 933 {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19] ، {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] . ودلالة القصد أوضح في آيات: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة: 114] . {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33، 64] . وواضح أن السعي في آية الليل هو من العمل الكسبي مع القصد والدأب ومثله السعي في آيات "الإنسان: 22، النجم: 40، الغاشية: 9"1. ولا أظن الدكتورة عائشة مصيبة في تصنيفها آية البقرة السالفة "114"، وآيتي المائدة "33، 64" على أن السعي فيهما بمعنى القصد، ذلكم أن الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعوا في خرابها، لم يقفوا عند درجة القصد وإنما جاوزوها إلى العمل وزادوا عليه الدأب. وقل مثل ذلك في الذين يسعون في الأرض فسادا؛ فإنهم جاوزوا القصد إلى العمل والدأب عليه فلا يصح أن يجعل هذا معنى للسعي هنا. ولعل حماسها الشديد لتقرير هذا الأساس في التفسير أوقعها من حيث لا تدري في أنواع ثلاثة من الأخطاء: أولها- القصور في الاستقراء: وذلك بأن تنظر في بعض الآيات المشتركة في لفظ واحد وتقرر المعنى على ضوئها ويفوتها أن تنظر في آيات أخرى مشتملة على اللفظ ذاته، ولو أدركت ذلك ونظرت فيه لاختلف الحكم الذي وصلت إليه أولا. ومن الأمثلة على ذلك أنها في تفسيرها لقوله تعالى: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا   1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج2 ص104. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 934 سَجَى} 1: "ترددت في تأويله بـ "أقسم بالضحى وأقسم بالليل إذا سجى"، قالت: "لأن القرآن الكريم لا يستعمل القسم مسندًا إلى الله سبحانه إلا مع لا النافية، باستقراء كل آيات القسم في القرآن، فكان لي من هذا الاستقراء ما يؤذن بأنه سبحانه في غير حاجة إلى القسم"2. وإذا نظرنا في آيات القسم هذه التي تقول الدكتورة عائشة أنها لم تجد القسم فيها مسندا إلى الله إلا مع لا النافية وجدنا الأمر غير ذلك فهناك مواضع أقسم الله بها بنفسه من غير أن ينفيها بـ "لا"، فمن ذلك قوله سبحانه: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} 3، وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} 4، وقوله: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} 5. فهذه كلها أقسام مسندة إلى الرب وهو الله سبحانه وتعالى وغير منفية بـ "لا"، وعلى هذا يظهر قصورها في الاستقراء. ونذكر مثلا آخر على ذلك عندها أنها ممن يرفض القول بالترادف اللغوي وترفض تفسير القسم بالحلف وتقول: "وفي القاموس: حلف: أي أقسم لكن التتبع للاستعمال القرآني يمنع هذا الترادف: فلقد جاءت مادة "حلف" في القرآن الكريم في ثلاثة عشر موضعا كلها بغير استثناء في مقام الحنث باليمين وأكثرها مسند إلى المنافقين"6، ثم ساقت المؤلفة الآيات تلك وقالت: "أما القسم فيغلب مجيئه في الأيمان الصادقة"6.   1 سورة الضحى: 1، 2. 2 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص25. 3 سورة مريم: 68. 4 سورة الحجر: 92. 5 سورة الذاريات: 23. 6 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن: 1 ص173-174. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 935 ولنا معها وقفة عند آيات من القرآن الكريم جاء فيها القسم في مقام الحنث باليمين وهو خلاف ما توصلت إليه، نذكر من هذه الآيات: قوله تعالى: {أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} 1. وقال سبحانه: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوت} 2. وقال سبحانه: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَة} 3. وقال سبحانه: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا} 4. وقال سبحانه: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} 5. وقال سبحانه: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} 6. وقال سبحانه: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} 7. هذه بعض الآيات في القسم التي جاءت في مقام الحنث، صحيح أن الدكتورة عائشة عدت هذا النوع وقالت: "وحين يسند القسم في القرآن إلى المجرمين فإنهم في ظنهم غير حانثين"8.   1 سورة المائدة: 53. 2 سورة النحل: 38. 3 سورة الروم: 55. 5 سورة الأنعام: 109. 6 سورة الأعراف: 49. 7 سورة إبراهيم: 44. 8 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص174. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 936 لكن هل يصح القول أنهم يظنون أنهم كذلك في آية المائدة السالفة: {أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} ، لا شك أنهم وهم يقسمون يعلمون أنهم حانثون؛ لأن ما أقسموا عليه ليس في درجة الظن، بل حقيقته بينة في قلوبهم. وهل يصح ذلك أيضا في آية سورة إبراهيم: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} ، فهل كانوا يعتقدون حقيقة الخلود؟! أم أنهم كانوا يقسمون وهم يعلمون كذبهم وحنثهم، عنادا واستكبارا. وبهذا الذي قلناه وغيره يظهر لنا أن الحلف والقسم على معنى سواء من ناحية الحنث وعدمه، ولا تصح هذه التفرقة التي توصلت إليها الدكتورة عائشة. وتخطئ الدكتورة عائشة -وكلنا يخطئ ويصيب- أحيانا بعد أن تستقرئ آيات القرآن في لفظة واحدة لكنها والحماس يدفعها لا تصيب البيان الصحيح لبعض الآيات وذلك كالمثال السابق مباشرة، حيث ظنت أن المجرمين في ظنهم غير حانثين بالقسم، فبنت على ذلك ما بنت. ومنه المثال الذي ذكرته قبل صفحات في استقرائها لدلالة "السعي" في القرآن الكريم. ومنه أيضا ما قالته في معنى "مثقال" في قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} 1، فقد ذكرت أن "مثقال" وردت في القرآن الكريم ثماني مرات في اثنتين منها أضيف مثقال إلى حبة من خردل. ثم رجحت أن المقصود بمثقال حبة من خردل هنا ليس خفة الوزن وإنما ضآلة الحجم. وفي المرات الست الباقية أضيف "مثقال" إلى ذرة رجحت في اثنتين منها "ضآلة الحجم"، ثم قالت: "على حين تتعين دلالة "مثقال ذرة" على خفة الوزن في الآيات الأربع2 الباقية.   1 سورة الزلزلة: 7. 2 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص100-101. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 937 وحين ننظر في استقرائها هذا فإنا نجدها جعلت المراد بـ "مثقال" في قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} 1، ضآلة الحجم وليس خفة الوزن، ولا أدري ما الذي جعلها تحمله على ذلك مع أن الآية تتحدث عن وضع الموازين لوزن الأعمال، فكان هذا قرينة على أن المراد بالحبة من خردل الوزن، وليس الحجم. وفي مقابل هذا جزمت الدكتورة عائشة بأن المراد بـ "مثقال" في قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} 2، جزمت بغير قرينة بأن المراد خفة الوزن مع أنه قابل لضآلة الحجم أيضا. والأمثلة على أخطائها في الاستقراء كثيرة نكتفي بما ذكرنا منها. ثانيها- تحديد المعنى قبل الاستقراء اللغوي: وقد سبقني بإدراك هذا الدكتور كامل سعفان، حيث قال: "إن الدكتورة عائشة تمضي في الاستقراء اللغوي بعد تحديد المعنى فيبدو عملا لا مبرر له"3. والأمثلة أيضا على هذا كثيرة. في تفسير قوله تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} 4، حددت معنى الطغيان أوَّلًا، ثم اتجهت إلى الاستقراء ثانيا، فقالت: "والطغيان تجاوز الحد، ويستعمل لغة في الماء يتجاوز الحد إلى الخطر، ومنه في القرآن: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} 5، وفسروا الطاغية كذلك بالطوفان في قوله تعالى:   1 سورة الأنبياء: 47. 2 سورة سبأ: 22. 3 المنهج البياني في تفسير القرآن الكريم: د/ كامل علي سعفان ص121. 4 سورة النازعات: 17. 5 سورة الحاقة: 11. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 938 {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَة} 1. على أن أكثر استعماله القرآني: في تجاوز الحد في العصيان والكفر وهو المعنى القريب في آيات ذكرت المؤلفة عددًا منها، ثم قالت: كما جاء بمعنى تجاوز الحد في التجبر والعتو والظلم في آيات"2. وهي كما ترى حددت المعنى أولًا، ثم استقرأت الآيات ثانيا ووصلت بها إلى أن أكثر استعماله القرآني في تجاوز الحد وهو ما ذكرته أولًا فبدا عملها لا مبرر له. ومثلا آخر تفسير الشَّدّ حيث قالت في: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيد} 3: "الأصل في الشد قوة العقد والوثاق والإحكام ماديا كما في آية محمد: 4، ومعنويا في مثل آيات: يونس: 88، الدهر: 28، طه: 31، القصص: 35، ص: 20 كما يعبر القرآن عن بلوغ الرشد والقوة بصيغة بلغ، أو يبلغ أشده في مثل آيات: الأنعام: 152، الإسراء: 34، يوسف: 22، القصص: 14، غافر: 67، الأحقاف: 15، الكهف: 82، الحج: 5. أما صيغة شديد فجاءت في القرآن في نحو أربعين موضعا4. وهي هنا أيضا -كما ترى- قدمت تحديد المعنى على الاستقراء وهو خلاف الأصل في هذا المنهج، لكنها والحق يقال كثيرا ما تلتزم الأصل في ذلك. ثالثها- اعتدادها الشديد باستقرائها: وظهر هذا بصور متعددة وأنماط مختلفة منها: 1- أنها تتيه بما توصلت إليه من معنى لكلمة قرآنية على المفسرين وأنها لم تقرأ لأحد منهم مثل هذا، وكثيرا ما تفعل هي ذلك.   1 سورة الحاقة: 5. 2 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص128. 3 سورة العاديات: 8. 4 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص162-163. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 939 2- تقلل وتستصغر بصيغ متعددة متنوعة من شأن المفسرين السابقين وما توصلوا إليه من آراء. 3- جزمها بصحة ما وصلت إليه وأنه هو المتعين وتخطئتها كل قول سواه. 4- أنها تضع نفسها في مقابل المفسرين، فتذكر إجماعهم على معنى أو تسوق القول منسوبا إليهم بصيغة الجمع. ثم تذكر مقابل ذلك رأيها المخالف لما جاءوا به. هذه أهم صور اعتدادها برأيها أذكرها هنا إجمالا وللتفصيل موضعه عند بيان رأيي في تفسيرها إجمالا وإنما ذكرته هنا؛ لأن جهودها في استقراء ألفاظ القرآن هي مبعث ذلك وسببه، بل إنا نجده في هذه المواضع التي تستقرئ بها كلمة أو كلمات قرآنية. هذه -فيما أرى- أهم الأمور التي أوقعها فيها حماسها الشديد لتقرير أساس "الاستقراء لألفاظ القرآن الكريم عند التفسير". ولئن أطلت الحديث عن هذا الأساس فلأنه جوهر منهجها وأصله؛ بل عموده الذي يقوم عليه. ولعلي بعد هذا أذكر الأساس الثالث الذي يقوم عليه تفسيرها. ثالثا- الاهتمام بدلالة السياق: وهي سمة قصرتها المؤلفة على منهجها الموضوعي وقطعت السبيل على المناهج الأخرى للاهتداء إلى تفسير القرآن إن لم تسلك منهجها وأنهم لم يبلغوا مبلغا لذلك. قالت: "والأصل في منهج التفسير الأدبي كما تلقيته عن أستاذي هو التناول الموضوعي الذي يفرغ لدراسة الموضوع الواحد فيه، فيجمع كل ما في القرآن عنه ويهتدي بمألوف استعماله للألفاظ والأساليب بعد تحديد الدلالة اللغوية لكل ذاك، وهو منهج يختلف تماما عن الطريقة المعروفة في تفسير القرآن سورة سورة، يؤخذ اللفظ أو الآية فيه مقتطعًا من سياقه العام في القرآن كله مما لا سبيل معه إلى الاهتداء إلى الدلالة القرآنية لألفاظه، أو استجلاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 940 ظواهره الأسلوبية وخصائصه البيانية ويلتزم في دقة بالغة قولة السلف الصالح: "القرآن يفسر بعضه بعضا" -وقد قالها المفسرون ثم لم يبلغوا منها مبلغا- ويحرر مفهومه من كل العناصر الدخيلة والشوائب المقحمة على أصالته البيانية"1. وإذا نظرنا إلى الجانب التطبيقي عندها وجدنا مجموعة من الأمثلة منها: "العقبة" في قوله تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَة} 2 قالت: "لكن ما العقبة التي يتحدث عنها القرآن هنا؟ أتعب المفسرون أنفسهم في تأويلها: ففي الطبري عن الحسن: عقبة والله شديدة، مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوه الشيطان، وقريب منه ما قاله الزمخشري ونقله الشيخ محمد عبده، وقيل: العقبة جهنم أو جبل فيها إلى أن قالت الدكتورة: والواقع أننا في غير حاجة إلى شيء من هذا ومثله، فالقرآن نفسه قد تولى بيان "العقبة" حين أتبعها بالسؤال اللافت: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ، ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} فهذا بيان مفصل للعقبة التي يجب أن يقتحمها الإنسان بما تهيأ له من وسائل المكابدة والنضال والإدراك والتمييز وهو كذلك بيان لأوضاع ظالمة نشأت عن غرور القادرين وطغيان أصحاب المال في "هذا البلد" فليس ما كان المجتمع المكي يعانيه من مآسي الرق ومن التصدع الطبقي ومن البغي والاستبداد إلى حد انتهاك حرمة الرسول في البلد الحرام وليس هذا كله إلا أثرا لطغيان هذا الإنسان الذي غرته قوته فاستعبد مخلوقين مثله وملك رقابهم بأغلال الاسترقاق المهين، كما زين له جاه الثراء أن يباهي بأنه أهلك مالا لبدا، وعلى مقربة منه يتيم محتاج أو مسكين لاصق بالتراب؛ أوضاع مريضة استقرت على مر الأجيال وتوارثها "هذا البلد" ولدًا عن والد وطبقة في إثر طبقة، وكان الإنسان جديرا بأن يقاوم طغيان المال وغرور القوة، وأن يحتمل أعباء البذل والإيثار من أجل خير   1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص18. 2 سورة البلد: الآية 11. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 941 الجماعة على ما في ذلك من مشقة وعناء"1. ومثلا آخر "الكبد" في قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَد} 2 فهي تذكر أن المفسرين لم يختلفوا في أن معناها في آية البلد هو: الشدة لكن أقوالهم شتى في تحديد هذه الشدة، ثم ساقت المؤلفة عددا من الأقوال وعقبت عليها بقولها: "ما نظن المكابدة هنا تنصرف إلى ما ذكروه من مشاق الحمل والنمو والعيش والموت والحساب كما نأبى أن يكون "الكبد" في الآية هو مرض القلب وفساد الباطن كما قال الزمخشري". ثم أبدت الدكتورة رأيها: "وإنما الكبد فيما نرجح هو ما هُيِءَ له الإنسان بفطرته من احتمال المسئولية ومشقة الاختيار بين الخير والشر". وعللت ذلك بـ "ووجه ارتباطه بالقسم قبله، بحال أهل مكة وما اختاروا لأنفسهم من استحلال أذى الرسول وهو مقيم بالبلد الحرام واضح ظاهر وهو أوضح ارتباطا بالآيات بعده من ضلال الغرور بهذا الإنسان الذي وهبه الله وسائل الإدراك والتمييز وبيَّن له معالم الطريقين: الخير والشر"3. وفي تفسير النازعات لم تطمئن الدكتورة إلى ما اطمأن إليه أكثر المفسرين كما تقول من أنها الملائكة تنزع الأرواح واختارت أنها الخيل وما نطمئن إليه من تفسير النازعات بالخيل يوجه الآيات بعدها في يسر وبلا تكلف فهي تنزع في عدوها وتغرق فيه وهو الملحظ نفسه في السبح الذي يجمع له السابح قوته وبهذا النزع السابح تسبق إلى الغاية فتدبر من الأمر ما أجمعت له في معاناة"4. رابعًا- القرآن هو القاعدة: ففي التفسير تقول: "نحتكم إلى سياق النص في الكتاب المحكم ملتزمين   1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص192-193. 2 سورة البلد: الآية 4. 3 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص185. 4 المرجع السابق: ج1 ص109. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 942 ما يحتمله نصا وروحا ونعرض عليه أقوال المفسرين فنقبل منها ما يقبله النص، ونتحاشى ما أقحم على كتب التفسير من مدسوس الإسرائيليات والتأويلات المذهبية"1. وليس الأمر كذلك في التفسير بل في كل قاعدة لغوية أو بلاغية حيث تقول: "يكفي أن يأتي التعبير في القرآن معجزة البيان؛ ليكون هو الشاهد والحجة والأصل الذي تعرض عليه كل قاعدة لغوية أو بلاغية لا أن نحكم فيه قواعد من صنع النحاة والبلاغيين وأكثرهم طارئون على العربية لم يكسبوها ذوقا وسليقة وإن أجادوها علما وصنعة"2. ولهذا فهي ترفض كثيرا من تأويلات المفسرين؛ لتوافق قواعد النحو ولا يسعنا إلا أن نأتي ولو بمثال واحد لهذا. ففي تفسير قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} 3 قالت: "وفي الصنعة الإعرابية: أثار بعض المفسرين هنا مشكلات ما أغنى البيان القرآني عنها: القاعدة النحوية عندهم أن اللام في "سوف" إن كانت للقسم لا تدخل على المضارع إلا مع نون التوكيد، وإن كانت اللام للابتداء فإنها لا تدخل إلا على الجملة من المبتدأ والخبر". لا بد إذن من تكلف واحتيال؛ لتسوية الصنعة! وقد رأى الزمخشري أنه: "لا بد من تقدير مبتدأ محذوف وأن يكون أصل العبارة: ولأنت سوف يعطيك ربك فترضى وكذلك قال أبو حيان: "إن اللام هنا لام ابتداء أكدت مضمون الجملة على إضمار مبتدأ؛ أي: ولأنت سوف يعطيك. وندرك جور الصنعة الإعرابية على هذا البيان العالي إذا احتكمنا إلى حس   1 المرجع السابق: ج1 ص10. 2 المرجع السابق: ج1 ص42، وانظر ج1 ص10-11. 3 سورة الضحى: الآية 5. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 943 العربية، ووازنَّا بين وقع التعبير القرآني: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} ، ووقع ذلك التعبير الآخر المقدر: ولأنت سوف يعطيك الذي قال عنه "الزمخشري" إنه الأصل!! وأنَّى لبشر يعجزه أن يأتي بسورة من مثل هذا القرآن أن يقول في آية منه ما يقول "الزمخشري" في آية الضحى لا بد من تقدير كذا؛ لأن أصل التعبير كذا!! 1. وكما قلت: الأمثلة على هذا كثيرة والغرض البيان لا الاستقصاء ولعله فيما ذكرنا إن شاء الله. خامسا- ترك الإطناب عما أُبهم في القرآن الكريم: وكثيرا ما تَذُمُّ أولئك الذين يطنبون في بيان أمر أغفله النص القرآني، إذ لو كان في ذكره فائدة أو ترتب عليه معنى لذكره القرآن. ففي النعيم في قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم} 2 تقول: "وقد اختلف المفسرون في هذا السؤال عن النعيم، ممن يكون؟ ولمن يكون؟ وأين يكون؟ فمنهم من قال: إن السؤال يكون من الملائكة ومنهم من قال أن السؤال من الله. واعجبا! آثر القرآن أن يسكت عن ذكر السائل، تركيزا للاهتمام في السؤال نفسه، ويأبى المفسرون إلا أن يختلفوا فيمن يكون السائل، مع أن صنيع القرآن صريح في الصرف عمدا عن مثل هذا"3. وفي قوله تعالى: {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} 4، قالت: "ونؤثر ألا نحدد الآية هنا ما دام القرآن نفسه لم ير تعيينها في هذا الموضع، مكتفيًا بوصفها بالكبرى   1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص41-42. 2 سورة التكاثر: الآية8. 3 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص218. 4 سورة النازعات: الآية 20. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 944 وهي صيغة تشهد بمبلغ دلالة الآية على صدق موسى وعلى قدرة ربه، رب فرعون والناس جميعا"1. وفي قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} 2 قالت: "ولا نرى أن نقف هنا عند ما ورد في بعض كتب التفسير من تحديد سبب الإبطاء في الوحي بتأويلات دخيلة وما نراها وأشباهها مما يتعلق به النظم القرآني، وإلا لما سكت عنها كذلك لا نرى وجهًا للوقوف عندما ذكر مفسرون في تحديد مدة الإبطاء؛ إذ يغنينا عن مثل هذا سكوت القرآن نفسه عن تحديد فترة الوحي باليوم أو بالشهر، ولو كان البيان القرآني يرى حاجة إلى هذا التحديد؛ ليزيد في اليقين النفسي أو يبلغ غايته من البيان لما أمسك عن ذلك؛ لأن مقتضى البيان أن يستوفي كل ما يدعو إليه المقام مما يتصل بغايته، فإذا أمسك هنا عن ذكر سبب الإبطاء وتحديد مدته فلأن الذي يعنيه من الموقف هو جوهر الموقف لا تفصيلاته الجزئية فالمهم هنا هو جوهر الموقف ولا شيء من جزئياته بذي جدوى على المعنى وإلا لكان إهماله والسكوت عنه قصورا في حساب البلاغة باعتراف أصحابها أنفسهم ومعاذ البيان المعجز أن يظن به أي وجه من القصور"3. لكن ما نأخذه عليها في هذا أنها وهي تعيب على هؤلاء المفسرين خوضهم فيما أبهمه القرآن نراها أحيانا تورد أقوالهم وتوازن بينها وتنقل نصوص أصحابها من مصادرها الأصلية ثم بعد هذا كله تقول: "والأليق بجلال الموقف أن يكتفى فيه بالرضى على ما أراد له البيان القرآني فوق كل تحديد ووراء كل وصف"، وتدعو إلى عدم الخوض في مثل هذا وكان الأولى أن لا تورد هذه القوال التي عابتها عليهم وتكتفي بالإشارة إليها وانظر مثلا لذلك ما أوردته لهم في بيان ما أعطاه الله لنبيه في قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} 4، 5.   1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص130. 2 سورة الضحى: الآية 3. 3 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص36-37. 4 سورة الضحى: الآية 5. 5 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص39-41. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 945 سادسا- رفض التفسير العلمي التجريبي: لا أعرف أحدًا في العصر الحديث فيما قرأت رفض التفسير العلمي بقدر رفض الدكتورة عائشة له فهي تبدي حماسا شديدا للرفض، فلها في ذلك كتاب مستقل وفصول في كتاب ومقالات في مجلات. ويبدو أن موقفها هذا متأثر بموقف أستاذها أمين الخولي الذي علمها هذا المنهج في التفسير في ضميرها وقلبها وعقلها كما تقول في إهداء غالب مؤلفاتها. ولا يخفى أن رفض التفسير العلمي من أول ما يرد بناءا على أصول منهجهم وهم يرفضونه لثلاثة أسباب: الأول: الناحية اللغوية في حياة الألفاظ وتدرج دلالتها لو ملكنا منها -ما لا بد أن نملكه- في تحديد هذا التدرج وتأريخ ظهور المعاني المختلفة للكلمة الواحدة، وعهد استعمالها فيها لوجدنا من ذلك ما يحول بيننا وبين هذا التوسع العجيب في فهم ألفاظ القرآن وجعلها تدل على معانٍ وإطلاقات لم تعرف لها ولم تستعمل فيها. الثاني: الناحية الأدبية أو البلاغية، والبلاغة فيما يقال مطابقة الكلام لمقتضى الحال فهل كان القرآن على هذا النحو المتوسع في التفسير العلمي كلاما يوجه إلى من خوطب به من الناس في ذلك العهد مرادا به تلك المعاني المذكورة مع أنها معانٍ من العلم لم تعرفها الدنيا إلا بعد ما جازت آمادا فسيحة. الثالث: الناحية الدينية أو الاعتقادية: وهي التي تبين مهمة كتاب الدين وهل هو كتاب يتحدث إلى عقول الناس وقواهم العالمة عن مشكلات الكون وحقائق الوجود العلمية؟ والحق البين أن كتاب الدين لا يعني بهذا من حياة الناس ولا يتولاه بالبيان ولا يكفيهم مؤنته حتى يلتسموه عنده ويعدوه مصدرا فيه"1. ولئن كان هذا قول الأستاذ فلقد وصفت التلميذة التفسير العلمي بأنه   1 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي، 25-26. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 946 "خطر على عقلية الجماهير أن نخايلها بهذه الألفاظ المضخمة من بدع التأويلات العصرية العلمية، تمسخ عقليتهم ويختل بها منطقهم وتخدر وعيهم بغرور السبق إلى علوم العصر"1. وانظر ما قالته الدكتورة في تفسير قوله تعالى: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَق} 2 فقد أوردت تفسير الزمخشري: "إن في الآية تفخيما لخلق الإنسان ودلالة على عجيب فطرته" قالت: "وقد نقله الرازي ثم أضاف إليه في تأويل {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} كون الإنسان من علقة وهي أخس الأشياء ثم صيرورته عالما والعلم أشرف المراتب ثم أوردت الدكتورة عائشة قول أبي حيان وعقبت على هذه الأقوال بقوله: "وكل هذا مما يمكن أن يقال، وليس هو على أي حال بأبعد مما ابتدعه محدثون اتجهوا بهذه الآية إلى مجال البحث في علم الأجنة والتمسوا المراجع الأجنبية لعلماء الفسيولوجيا والبيولوجيا لفهم آية نزلت على النبي الأمي في قوم أميين لم يسمعوا قط ولا سمع عصرهم بعلم الأجنة، وغير متصور أن يكون القرآن الكريم قدم لهم من آيات ربوبية الخالق وقدرته ما لا سبيل لأحد منهم إلى تصوره فضلا عن فهمه وإدراكه. وإنما فهموا من العلق ما تعرفه لغتهم وبيئتهم وعصرهم، والعربية قد استعملت العلق ماديًّا في كل ما يعلق وينشب: كالدم، والمحور الذي تعلق عليه البكرة، وعلقت المرأة: حملت، ومعنويا في العلاقة تنشب بين إثنين حبًّا أو بغضًا وفي الصلة تربط بينهما. ولم يكونوا في حاجة إلى درس في علم الأجنة أو مراجعة كتاب في المكتبة الأميركية التي ظهرت بعدهم بقرون؛ ليفهموا آية خلق هذا الإنسان من علق في أرحام الأمهات وهم الذين ألفوا استعمال: علقت المرأة، بمعنى حملت. واستعمال العلق هنا، جمع علقة، إيذان بما ذهبنا إليه من إطلاق في عموم لفظ الإنسان.   1 القرآن وقضايا الإنسان: د/ عائشة عبد الرحمن، ص428. 2 سورة العلق: الآية 2. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 947 ولا يشير السياق إلى أن القصد من: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} توجيه المصطفى ومن يؤمنون برسالته إلى النظر في علم الأجنة، وإنما هي آية الله في هذا الإنسان؛ خلقه من علق وخصه بالعلم، واحتمل أمانة التكليف، فازدهاه الغرور وأطغاه الشعور بوهم الاستغناء عن خالقه، فنسي أن إليه سبحانه الرجعى والمصير"1. وتصف الدكتورة عائشة التفسير العلمي بأنه "بدعة" عند تناولها بالتفسير لقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} 2 حيث تقول: "وجاء محدثون ببدعة التفسير العلمي فذهبوا إلى أنها الذرة التي اكتشف العلم سرها في القرن العشرين!! ثم علقت على هذا قائلة: "والواقع أن مثل هذا التحديد ليس مراد، القرآن ولا هو من مألوف بيانه. والعربية قد عرفت الذر في كل ما يمثل الضآلة والصغر وخفة الوزن؛ تقول: ذررت الملح والدقيق والفتات: نثرته بأطراف الأصابع والذر الهباء يُرى في شعاع الشمس وبولغ في وصف تناثر النمل الصغير المنبث فقيل: ذر، وفي لسان العرب نص صريح على أن "الذرة ليس لها وزن"؛ لفرط صغرها وخفتها. ونؤثر أن نفهمها في ضوء هذا الحس اللغوي وعلى هدى البيان القرآني دون تكلف لتقدير الأوزان والأحجام والألوان وما فهم العرب الذين بعث فيهم رسول منهم من قوله تعالى: {مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} إلا أنه التناهي في الضآلة والخفة والصغر، حتى ليكون من الهباء الذي لا وزن له. وهو ما يتلاءم ماديًّا وفنيًّا مع جو الموقف ونسق السياق من الزلزلة والانفجار والتفتيت والتشتيت فهم يخرجون أثقالا ويصدرون أشتاتا ويرون أعمالهم مثقال ذرة من خير أو شر"3.   1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج2 ص18-19. 2 سورة الزلزلة: الآية 7. 3 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص102. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 948 ولعل فيما ذكرناه ما يظهر حقيقة موقفها من التفسير العلمي ترفضه كل الرفض وتذمه كل الذم؛ لأنه يخالف قواعد وأصول منهجها الأدبي ولا شك أنها وفَّقَها الله قد تطرفت في الرفض دفعها إلى ذلك فيما أحسب تطرف خصومها في التفسير العلمي والحق وسط بينها وبينهم، وقد أفردناه بدراسة خاصة في حديثنا عن المنهج العلمي التجريبي ولا نرى موجبا لإعادته هنا، فلينظر هناك. سابعًا- التفسير الموضوعي: لا شك أن الأسس -أي أسس- ليست على درجة واحدة دائما فقد يكون بينها تباين في القيمة، وإن استوت في النوع، وإذا نظرنا إلى أسس منهج التفسير البياني فإنا ولا شك نرى أن أهم هذه الأسس اثنان: 1- الاستقراء للمفردات. 2- التفسير الموضوعي. وللتناول الموضوعي عند الدكتورة عائشة منزلته أيضا بل عدته في مقدمة تفسيرها الأصل الذي يقوم عليه المنهج في التفسير قالت: "والأصل في منهج التفسر الأدبي -كما تلقيته عن أستاذي- هو التناول الموضوعي الذي يفرغ لدراسة الموضوع الواحد فيه فيجمع كل ما في القرآن عنه، ويهتدي بمألوف استعماله لألفاظ والأساليب بعد تحديد الدلالة اللغوية لكل ذاك واتجه بمحاولتي اليوم إلى تطبيق المنهج في تفسير بعض سور قصار ملحوظ فيها وحدة الموضوع فضلا عن كونها من السور المكية حيث العناية بالأصول الكبرى للدعوة الإسلامية"1. لكن هل التزمت الدكتورة عائشة هذا الأصل الذي دعت إليه؟ سجل مخالفتها لهذا الدكتور عفت الشرقاوي ومن بعده الدكتور محمد إبراهيم شريف فقال الأول ونقل عنه الثاني: "ولقد نلاحظ أن المؤلفة قد خالفت أستاذها   1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص18. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 949 فلم ترتبط بفكرة الموضوع التي طال دعوته إليها، ولو فعلت لكان أمامها فسحة من الدراسات المنتجة الخصبة ذلك أن التحديد الموضوعي يسعف على تنبُّه دقيق إلى الدلالات المستخدمة في الموضوع، وعلى كل حال فإن المؤلفة فسرت هذه السور القصار، فلم تبعد كثيرا عن التفسير الموضوعي؛ لأن الوحدة الموضوعية ملحوظة في كل سورة على حدة إلى حد ما، وفوق ذلك فإن تفسير السور يفتح مجالات أخرى أمام المفسر، قد تختلف عن الدراسة الموضوعية، ومن ذلك مثلا مسألة المناسبة بين الآيات وملاحظة السياق في السورة الواحدة"1. وكان من ذلك ما قدمته الدكتورة عائشة في تفسير سورة العاديات حيث قالت: وتبدأ بعرض صورة مثيرة لغارة عنيفة مفاجئة، تباغت القوم صبحا فلا ينتبهون إليها إلا وقد توسطت جمعهم فبعثرتهم وسط عاصفة من النقع المثار. وتقع هذه الصورة العنيفة بعد واو القسم لافتة إلى ما عهد القوم من مثل تلك الغارات المفاجئة المصبحة، وما تحدث من بعثرة وحيرة وارتباك ثم تأتي بعدها صورة أخرى لغيب غير مشهود، ولكنه واقع حتما ذلك هو البعث يفجأ على غير موعد فإذا هم في حيرة وبعثرة وارتباك، وقد لفظتهم القبور لليوم الآخر كالفراش المبثوث، وإذا كل ما في صدورهم قد حصل لم تفلت منه خافية مضمرة، مطوية في أعماق الصدور ومستكن الضمير. وفي كل لفظ من الصورة2 بل في كل حرف منها سره البياني الرائع فيما قصد إليه القرآن من إحضار مشهد ليوم البعث شاخصا مجسما، وتأكيد وقوعه، والإنذار بما ينتظر الإنسان فيه من حساب دقيق عسير"3. هذا مثل من الأمثلة القليلة لتطبيق التناول الموضوعي في التفسير عند الدكتورة عائشة.   1 اتجاهات التفسير في مصر في العصر الحديث: د/ عفت محمد الشرقاوي، ص317 "واتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر": د/ محمد إبراهيم شريف، ص597. 2 كذا وردت، ولعلها تريد: "السورة". 3 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص151. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 950 رأيي في تفسيرها: ذكرت أثناء عرض أسس منهجها بعض المخالفات للمنهج أو الأخطاء التي أحسب أن الدكتورة عائشة قد وقعت فيها، ولعلي أذكر هنا الملاحظات العامة. فمنها ما سبق أيضا أن أشرت إليه وإلى صوره إجمالا ووعدت بضرب الأمثلة فيما بعد وهذا أوان إنفاذ الوعد. قلت هناك إن من عيوبها -وجلَّ من لا عيب فيه- اعتدادها الشديد بآرائها وذكرت له أربع صور: أولها: إنها تتيه بما وصلت إليه من معنى لكلمة قرآنية على المفسرين. والأمثلة على هذا كثيرة منها قولها: "هذا ما نطمئن إليه في التفسير البياني للقسم بالضحى والليل إذا سجى، ولا أعرف -فيما قرأت- أحدا من المفسرين التفت إلى هذا الملحظ التفاتا واضحا متميزا، وإن يكن بعضهم قد استشرف له من بعيد، لكن وسط حشد من تأويلات شتى، لا تخلو من تكلف وإغراب"1. وفي موضع آخر تقول: "ولا أعرف أحدا من المفسرين أو البلاغيين التفت إلى إطراد هذه الظاهرة الأسلوبية في القرآن مع وضوحها إلى درجة العمد والإصرار"2 قالت هذا في طبعة تفسيرها الأولى ولما أعادت طبعه عدلت العبارة إلى: "وقد شغل أكثر المفسرين والبلاغيين بتأويل الفاعل عن الالتفات إلى اطِّراد هذه الظاهرة الأسلوبية في هذا الموقف مع وضوحها إلى درجة العمد والإصرار، وسرها البياني دقيق جليل"3. وثانيها: أنها تقلل بصيغ شتى من شأن المفسرين السابقين وتفسيرهم   1 التفسر الباني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص26-27. 2 المرجع السابق الطبعة الأولى ج1 ص70 والطبعة الثالثة ج1 ص85. 3 المرجع السابق الطبعة الأولى ج1 ص70 والطبعة الثالثة ج1 ص85. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 951 وتسوق عباراتها عنهم أحيانا بما يشبه السخرية؛ بل لم أجد كلمة "المفسرين" في كتابها إلا وسياقها كذلك وهو أمر خطير خطير. ولست بالأول ولا بالوحيد الذي أدرك ذلك منها، فهذا الدكتور محمد إبراهيم شريف يقول: "ما كان هناك من مبرر لحملتها السافرة على قدامى المفسرين واعتدادها الشديد بما تحقق من نتائج، ووصفها المفسرين بالدأب على إفساد البيان القرآني"1 ومن قبله الدكتور عفت الشرقاوي قال: "ولكن ما يلفت النظر في منهج المؤلفة حملتها السافرة على قدامى المفسرين واعتدادها الشديد بما تحقق من نتائج"2. وتصف كثيرا نتاج المفسرين بصيغة الجمع بصفات تستغرب من ذلك قولها: "وأكثر المفسرين على أن "يصدر الناس" هنا بمعنى يخرجون من القبور. وتفسير يصدر بـ "يخرج أو ينصرف بعيد عن حس العربية ... "3 وقالت: "ولكن كثيرا من المفسرين ذكروا في "أشتات" أقوالا بعيدة لا يعين عليها الحس اللغوي للمادة"4 وتقول: "ولشد ما تكلف المفسرون في تأويل الساهرة"5 وقالت: "وأيان: للبعد ولا أدري لم فات جمهرة المفسرين أن يلحظوا موقعها هنا على كثرة تعلقهم بما له اتصال بالصنعة النحوية"6 وقالت: "وتدبر هذه الآيات يرينا ما في قول المفسرين من جور على المعنى القوي المثير"7 وقالت: "لكن ما العقبة التي يتحدث عنها القرآن هنا؟ أتعب المفسرون أنفسهم في تأويلها. والواقع أننا في غير حاجة إلى شيء من هذا ومثله"8، وقالت: "وليس بعجيب أن يفوت هذا السر البياني جمهرة المفسرين الذين كان جهدهم أن يجمعوا كل   1 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم شريف، ص607. 2 اتجاهات التفسير في مصر في العصر الحديث: د/ عفت محمد الشرقاوي، ص317. 3 إلى "6" انظر التفسير البياني: عائشة عبد الرحمن الصفحات حسب الترتيب ج1 ص97، 99، 125، 145. 7 إلى 8 انظر التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن الصفحات حسب الترتيب ج1 ص165، 192. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 952 ما يمكن أن يحتمله المدلول المعجمي للفظة، وكل ما قيل في تأويله دون أن يلتفتوا إلى الإيحاء الباهر للفظ "زرتم"1 وقالت: "فتأويل المفسرين -فيما قرأت- المقابر بالقبور ليس إلا أثرا لمنهجهم في تناول مفردات القرآن تناولا لفظيًّا معجميًّا مجردًا عن إيحاء سياقه وسره البياني معزولا عن الاستعمال القرآني"2، وقالت: وليس النص القرآني في وضوح بيانه بمسئول عن هذا الخلاف؛ وإنما يسأل عنه منهجهم في التفسير وهو منهج لا يرى بأسا في تفسير الآية الواحدة بالنقيضين؛ كيلا تفوته الإحاطة بما قيل في الآية"3، وتقول بلهجة ساخرة: "ثم يجيء المفسرون غفر الله لهم؛ فيقولون ... وفاتهم النذير العالي الصادع ... واعجبا؛ آثر القرآن أن يسكت عن ذكر السائل ويأبى المفسرون إلا أن يختلفوا فيمن يكون السائل لكن كيف يمكن إدخال المؤمنين مع الكفار في سؤال واحد؟ الجواب عند المفسرين حاضر"4. معذرة إن أطلت فما ذكرت إلا القليل من عباراتها بل لم أجدها في أي موضع -فيما قرأت- تذكر المفسرين أو قولا لهم موضع الثناء والقبول اللهم إلا مرة واحدة قالتها في المقدمة؛ قالت هناك: "وما يجرؤ منصف على أن يجحد فضل أحد من هؤلاء جميعا، وهم الذين بذلوا في خدمة القرآن جهودا جليلة وتركوا آثارهم من بعدهم شاهدة بمقدار ما عانوا"5. ولكن هل تشفع لها هذه الكلمة في المقدمة أن تقف هذه الوقفات الكثيرة في تفسيرها منهم وهل يشفع لها هذا أن تذكر أقوالهم دائما بصيغة الرفض والإنكار و ... و ... على كل حال -غفر الله لنا ولها- ولعلها تعيد النظر فيما قالت ما دام في العمر بقية وفي الأجل فسحة. ثالثها: جزمها بصحة ما توصلت إليه وتعين القول به ورفض ما سواه. حتى وإن كان لم يورده أحد من المفسرين من قبل وعلى هذا فكل من سبقها   1، 2، 3 انظر التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن الصفحات حسب الترتيب ج1 ص206، 208، 209. 4 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص218-219. 5 المرجع السابق: ج1 ص17. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 953 وسبق عصرها لم يصل إلى الحق حتى قالته واقرأ معي قولها: "ولكن هذا المعنى المتعين، هو الوحيد الذي لم يذكره المفسرون -فيما قرأت- وهم يعدون كل ما يمكن أن يقال في تفسير "النعيم" ويذكرون فيه ذلك الحشد المختلط إلا نعيم الآخرة الذي يصر القرآن على تخصيص لفظ النعيم به، والذي يجب أن يحتكم وحده في توجيه آية التكاثر"1. والحق أن المفسر القديم كان أكثر حيطة منها حين وضع في اعتباره أن التفسير قول على الله وخشي دائما القطع بقول لا يعلم أنه مراد الله من قوله، فلم يكن يجرؤ على الجزم بتأويل واحد -يكون ما عداه خطأ- ما لم يرد في ذلك نص صريح وإنما فهم أن النص الذي يقبل التأويل هو طائفة من الإمكانات وقد يرجح بعضها مستعينا في ذلك بالسياق العام للنص، ولكنه لم يجزم بمعنى واحد يخطئ ما سواه كما فعلت الباحثة"2، ولا يمكن -كما يقول الدكتور عفت الشرقاوي- أن يبلغ اعتزاز المفسر المنصف برأيه حدًّا يجعله يخطِّئ بصرامة وَحِدَّةٍ آراءَ الآخرين أمام هذا النص، إلا إذا كان صاحب نحلة أو هوى خاص"3. رابعها: اعتدادها بنفسها إلى درجة أنها تذكر أقوالهم مقابل قولها فتقول مثلا: لا نستطيع أن نطمئن إلى تفسير "النازعات" بما اطمأن إليه أكثر المفسرين ... "4 وكان الأولى أن تذكر رأيها بغير هذه الصيغة، وتقول في موضع آخر: "ونتفق مع المفسرين في ... "5 وقالت: "ولا حاجة بنا بعد هذا إلى الوقوف عندما قاله بعض المفسرين في ... "6. وقالت: "لكن المفسرين أجمعوا على ... إلى أن تقول: وعندي ...   1 المرجع السابق: ج1 ص223. 2 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم شريف، ص607. 3 اتجاهات التفسير في مصر في العصر الحديث: د/ عفت الشرقاوي، ص318. 4، 5، 6 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن وهي حسب الترتيب ج1 ص108، 113، 147. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 954 وتقول: وحين نلوذ بكتاب العربية الأكبر ومعجزاته البيانية الخالدة نهتدي إلى هذا الملحظ الذي غاب عمن قيدهم جمود المصطلح النحوي، فطبقوه صنعة شكلية بعيدا عن ذوق العربية"1 وتقول أخيرا: "واختلفوا كذلك في ... وأمام هذا الاختلاف نلوذ بالقرآن الكريم هذا المعنى المتعين هو الوحيد الذي لم يذكره المفسرون"2. هذه صور أربع لاعتدادها بتفسيرها وما توصلت إليه من آراء حبذا لو تخلصت منها الدكتورة عائشة حتى تظهر صورة تفسيرها أكثر جلاء وأكثر قبولًا وما أجملها من صورة. وإذا ما أردنا أن نقوم هذا التفسير في هذا المنهج فإن هذا يذكرنا بملاحظة سبق ذكرها إلا وهي تخلف النتائج عن المقدمات أعني قصور المحاولات التطبيقية عن الأسس الموضوعة والقواعد المرسومة لهذا المنهج؛ ذلكم أن هذا المنهج حتى ساعتنا هذه -فيما قرأت- لم يشهد تطبيقًا كاملًا في إحدى محاولات التفسير ذلكم أن بعضها يأخذ بشق ويأخذ بعضها بالآخر. "فعلى حين يركز بعضها على الموضوع ويختار كثيرا من آياتها نجده يتعثر في المعجم والاستعمال وتفتر جهوده في هذه المجالات، وعلى حين تنجح بعض المحاولات في الدراسة المعجمية والاستعمال القرآني والسياق تتعثر في الموضوع فلا تلتفت إليه أو تستغني عنه أصلا وهذا ما وقع فعلا من بنت الشاطئ، فلم ترتبط بفكرة الموضوع الذي طالت دعوة أستاذها إليها وتحمست هي كثيرا في الترويج لها"3. لكنها والحق يقال جاءت بمنحىً آخر في هذا، فعندما لم تلتزم موضوعا بعينه اختارت سورا قصارا لاحظت فيها وحدة الموضوع إلى حد ما.   1، 2 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن وهي حسب الترتيب ج1 ص214، 216، 220-223. 3 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد ابراهيم شريف، ص597-598. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 955 فهي بذلك لم تخرج عن التفسير التقليدي بالتزامها للسورة إطارا لتفسيرها، وهي أيضا لم تبعد كثيرا عن التفسير الموضوعي؛ لمراعاتها وحدة الموضوع في كل سورة تناولتها بالتفسير. وبهذا يمكن أن نقول: إنها قد جمعت في محاولتها بين "التحديد" الموضوعي1 وبين التناول الأدبي التقليدي للسور التي فسرتها2. ولا يفوتني في ختام حديثي عن هذا التفسير أن أبدي إعجابي بما بذلته الدكتورة عائشة، وبكثير مما توصلت إليه من آراء قيلت من قبل، فجاءت بما يدعمها أو كشفت وجها آخر في التفسير له أصالته وذلك عن طريق تتبع الأسلوب القرآني ومفردات القرآن حيث يجد القارئ حقا أن للقرآن الكريم قواعده، وأن له استعمالات ينبغي أن لا تغيب عن ذهن مفسر القرآن الكريم. وكم أتمنى أن تعاود الدكتورة عائشة النظر فيما قيل في تفسيرها من مآخذ وسقطات وتواصل من بعد هذا التفسير، سدد الله الخطى وعفا عنا الزلل. إنه سميع مجيب. وقد كنت وعدت أن أتبع هذه الدراسة بدراسة أخرى لكتاب آخر في هذا المنهج ذا لون آخر وهذا أوان الوفاء.   1 نعني به الموضوعية الجزئية؛ ذلكم أن المواضيع في السور التي تناولتها الدكتورة لها ما يماثلها ويكملها في سور أخرى لكن الدكتورة اكتفت بما في سورة عما في السور الأخرى وليس هذا بالموضوعية الشاملة. 2 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم شريف ص597-598. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 956 الدكتور محمد أحمد خلف الله الكتاب: الفن القصصي في القرآن أولا- المؤلف: هو الدكتور محمد أحمد خلف الله، أما حياته الشخصية فلا أعرف عنها شيئا ولم أجد لها ذكرا، أما فكره ونتاج قلمه فله عدد من المؤلفات والمقالات. وهو من الذين أرادوا الشهرة في فترة كان الإلحاد أقصر طريق إليها، فأصدر عددا من المؤلفات حشاها به حشوا. كان أولها -كما سيأتي- كتاب الفن القصصي في القرآن الكريم؛ زعم فيه أن قصص القرآن أساطير، وأنها لا تلتزم الحقائق وغير واقعة وغير ذلك. ومنها القرآن ومشكلات حياتنا المعاصرة، وكتاب القرآن والدولة، وكتاب هكذا يبنى الإسلام وشارك في كتاب "محمد والقوى المضادة" وغير ذلك من كتب الدراسات الأدبية واللغوية والتراجم. ولا أريد أن أسترسل في الحديث عن الرجل فليس هذا مقام محاكمته أو كشف زيف فكره وإنما هو مقام التعريف الموجز والإشارة السريعة. وكم وقفت مبتسما -ابتسامة أسى وأسف- وأنا أقرأ مقالة سطرها دكتور فاضل نقد فيها الكتاب الأخير للدكتور محمد أحمد خلف الله: "الأسس القرآنية للتقدم" ويبدو أن الدكتور الفاضل لا يعرف كثيرا الدكتور محمد أو أنه يحسن الظن أكثر من حد القبول؛ ذلكم أنه يقف أمام عبارة من عبارات الدكتور خلف الله المألوفة منه ويعتقد أنها من أخطاء المطبعة!! العبارة تلك تقول: "وهنا سؤال يطرح نفسه: ألا يزال العقل البشري مقيدا بسلطان الله الواحد الأحد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 957 الذي يدعو الإسلام إلى عبادته واتقاء غضبه"؟ وينقل القارئ إلى إجابة من تفسر المنار ولكنه قبل أن ينقله إلى هذه الإجابة يقول: "وأنا حين أنقل عن هذا الكتاب إنما أرجو أن يطمئن القارئ إلى الأساس الذي بني عليه التوحيد، وكيف كان تحريرا للعقل البشري من سلطة الآلهة بما فيهم الله"1؟!!. أرأيتم إلحاد كهذا؟! لو نسب هذه الفكرة لنفسه لعد هذا إلحادا وأي إلحاد فكيف وهو يزعم أن هذا هو الأساس الذي يبنى عليه التوحيد في الدين الإسلامي؟!! قلت أني ابتسمت أسىً وأسفًا عند وصف الدكتور الفاضل كاتب النقد لهذا بأن المطبعة وحدها قد تكون مسئولة عن هذا الارتباك الفكري والأسلوبي الذي يجسد اتجاها غير إسلامي بالتأكيد1، ولو قرأ بقية مؤلفاته لوجد فيها نحو هذا وأشد منه. قصدت من هذا الذي أوردته أن المؤلف لا يزال حتى آخر ما صدر من مؤلفاته يبث الإلحاد، وما زال بعض المخدوعين يعده مفكرًا إسلاميًّا؟! نسأل الله له الهداية وأن يفتح قلبه للحق وأن يجعله سيفًا على الباطل فيما بقي من عمره. ثانيا- الكتاب: عانت مصر وعانى علماؤها في القرن الرابع عشر الهجري معاناة شديدة من فئة جعلت سبيل الإلحاد وسيلة لاشتهارها وباعت دينها بدنياها. عانت دعوة قاسم أمين حين أصدر كتابيه "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة" وكانت ضجة ثم سكون كسكون المقابر!!   1 مجلة الأمة القطرية العدد الخمسون صفر 1405 ص15 مقال، "الأسس القرآنية للتقدم وحوار حول بعض مقولاته" للدكتور محمد أحمد العزب والنص المنقول عن كتاب "الأسس القرآنية للتقدم"، ص36. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 958 وكانت دعوى طه حسين "في الشعر الجاهلي" مزمارًا من مزامير المستشرقين وجاء من بعده علي عبد الرازق وأظهر كتابه "الإسلام وأصول الحكم" ثم المدعو محمود أبو رية وأضواءه بل ظلماته على السنة المحمدية وفي عام 1947 كتب محمد أحمد خلف الله كتابه "الفن القصصي في القرآن الكريم" وبعده بسنتين اثنتين أصدر محمد أبو زيد تفسيره "الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن". بتنظيم عجيب وترتيب دقيق كأنه مرسوم توالت هذه المؤلفات وتتابعت ما إن يسترد العلماء الصالحون أنفاسهم في الرد على ملحد حتى يكون الآخر قد نشر ونثر ما في جعبته، فيبدأ أولئك المعركة من جديد وهكذا دواليك. وبين ملحد وآخر يخرج من لا يقل عنهم خبثا بما يشغل المجاهدين ويفت من عضدهم وهم كثير وكثير منهم المسلم نسبا ومنهم النصراني عقيدة، ومنهم من تاب من بعد ومنهم من ينتظر. وهذا الكتاب إذًا له قصة نحكيها قبل أن ندرسه. قصة الكتاب: في سنة 1947م قدم محمد أحمد خلف الله، الطالب في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول رسالة للحصول على الدكتوراه عنوانها: "الفن القصصي في القرآن الكريم". قرر فيها أن القرآن أساطير وأن ورود الخبر في القرآن الكريم لا يقتضي وقوعه، ويخشى على القرآن من مقارنة أخباره بحقائق التاريخ ويقول: إن التاريخ ليس من مقاصد القرآن، إن التمسك به خطر أي خطر على النبي -عليه السلام- وعلى القرآن. بل هو جدير بأن يدفع الناس إلى الكفر بالقرآن كما كفروا من قبل بالتوراة، وإن المعاني التاريخية ليست مما بلغ على أنه دين يتبع وليست من مقاصد القرآن في شيء ومن هنا أهمل القرآن مقومات التاريخ من زمان ومكان وترتيب للأحداث1، ويقول: إنا لا نتحرج من القول بأن القرآن   1 الفن القصصي في القرآن الكريم: د/ محمد أحمد خلف الله، ص42، 44. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 959 أساطير؛ لأنا في ذلك لا نقول قولا يعارض نصا من نصوص القرآن1، وقال ... وقال ... وقامت الاحتجاجات وكتبت الردود ورفعت البرقيات للمسئولين ورفضت الرسالة وطالب أولئك بتطبيق أحكام الردة على خلف الله ولكن ... وكان ما كان؛ يقوم الفينة بعد الفينة من سولت له نفسه بالخروج على الإسلام في ناحية من نواحيه الاعتقادية، فيثور احتجاجا عليه فئة من الغيورين على دينهم ويحميه منهم رجال من الوزراء، وفي مستقبل قريب ينال الرجل مكافأة خروجه أضعاف ما كان له من المراكز والمناصب، ويكون هذا المصير غبطة لآخرين، فتتكرر المهزلة في أيام أخرى على مسائل أخرى مماثلة2. أما مصير الكتاب فقد طبع طبعته الأولى سنة 1953 ثم توالت طبعاته بعد ذلك سنة 1957، سنة 1972. وإنا لله وإنا إلي راجعون. منهجه: نحمد الله أن المؤلف بيَّن بنفسه سبب سلوكه الدراسة الأدبية ومنهجه فيها. أما الأول فقال عنه: "أما الأسباب التي جعلتني أعنى بالدراسة الأدبية، وأجعل من القرآن ميدان ابحاثي، فترجع قبل كل شيء إلى نوع من الاستهواء عمل على إذاعته في نفسي درس أستاذنا الخولي عن المنهج الأدبي في فهم القرآن وتفسيره، فقد كانت تلك اللفتات تستقر في نفسي استقرارا يجعلني أتخيل تمثل هذا المنهج والسير عليه في تفسير كتاب الله"3. أما صلة أمين الخولي بالرسالة بعد ذلك وحين قامت الاعتراضات عليها   1 المرجع السابق: ص179-180. 2 موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين: مصطفى صبري ج1 ص318. 3 الفن القصصي في القرآن الكريم: د/ محمد أحمد خلف الله، ص1. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 960 فقد أعلنها بنفسه حين قال: "فلو لم يبقَ في مصر والشرق أحد يقول إنه حق لقلت وحدي وأنا أقذف في النار: إنه حق حق"1. أما صلته بالرسالة وصاحبها قبل ذلك، فقد بينها الأستاذ محمد سيد كيلاني حين تحدث عن الأستاذ أمين الخولي وقال: "بأنه كان يدرس مادتي التفسير والبلاغة وظل أمره مستورا إلى سنة 1947، لا يدري أحد في خارج الكلية ما يلقنه أمين لتلاميذه من أنواع الكفر والضلال"2. وأما الثاني -أعني منهجه في التفسير- فقد عدد خطواته حيث قال: أولا- جمع النصوص: إذا كانت معرفة نص ما تستلزم حتما وجوده كانت3 أولى الخطوات، من غير شك، هي الوقوف على النصوص وجمعها، وإني لأعترف بأني لم أجد موضوعي4 هذا من حيث هذه الناحية عناء يذكر ذلك؛ لأن القصص القرآني موجود في القرآن، ومن هنا لم يكن عملي في هذه المرحلة إلا الرجوع إلى المصحف. ثانيا- الترتيب التاريخي للنصوص: وهذا الترتيب يدل الباحثين على التطور في الفنون والآداب، ويستوي في ذلك عندهم التطور الداخلي، والتطور الخارجي. ونقصد بالأول أن يدلنا هذا الترتيب على تطور ذوق الكاتب وأفكاره أو ميادينه الفنية ونشاطه النفسي. ونقصد بالثاني: دلالة النص على التطور العام لتاريخ الآداب والفنون من حيث صلته بالسابق واللاحق والدور الذي لعبه النص في الحياة الأدبية ومجراها العام. وإني لأعترف هنا أيضا بأن هذه الخطوة -وإن تكن أشق من الأولى   1 المرجع السابق: ص: ح. 2 ذيل الملل والنحل: محمد سيد كيلاني ص86-87. 3 لعل العبارة: "فقد كانت" أو: "فإن أولى". 4 لعل العبارة في "موضوعي". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 961 وأعسر- إلا أني لم أبذل فيها جهدا يذكر؛ ذلك لأني اعتمدت في هذا الترتيب التاريخي للقصص القرآني على المصحف الملكي1، وإن كنت أعلم أنه ليس بالترتيب التاريخي الدقيق. لكن ليس في الإمكان أبدع مما كان. وعلى كل، فقد أفادني هذا الترتيب التاريخي فيما يخص القصص القرآني بدراسة التطور الداخلي لهذا القصص2. أما التطور الخارجي فقد حالت بيني وبينه عقبات منها أن الوقوف على النصوص السابقة للقصص القرآني من أقاصيص الجاهليين لا سبيل إليها ومنها أن صلة القصص القرآني باللاحق يتوقف أولا على صلته بالمعاصر من أحاديث "الرسول صلى الله عليه وسلم"، وهذه من الأمور التي سأفرغ لها بعد بحثي هذا إن شاء الله. وقفت من هذه الخطوة إذًا عند الفائدة التي نجنيها من التطور الداخل، وحسبي هذا في هذا الموضع. ثالثًا- فهم النصوص: وهنا لا بد من التفرقة بين نوعين من الفهم: الأول- الحرفي: وهو الذي يقوم على دراسة معنى الألفاظ والتراكيب والجمل، كما يقوم على توضيح العلاقات الغامضة والإشارات التاريخية وكل تلك أمور تتوقف إلى حد كبير على ثقافة الدارس، تلك الثقافة التي شرطها بالنسبة لموضوعنا هذا المفسرون في المفسر والتي حدد ميادينها الأصوليون في مقدمات كتبهم. وإني لأعترف هنا بأني قد وقفت على الكثير من هذه الأمور من كتب التفسير المختلفة، وكان الجهد الذي أبذله يقوم على المقارنة والترجيح والوقوف عند بعض اللمسات التي تفتح آفاقا واسعة أو تصحيح أخطاء بعض الأقدمين.   1 هو مصحف طبع في عهد الملك فاروق وأطلقت عليه هذه النسبة. 2 سبق أن ذكر المؤلف أنه يعني بالتطور الداخلي: تطور ذوق الكاتب وأفكاره أو ميادينه الفنية ونشاطه الحسي النفسي"، فهل يطلب هذا في كلام الله عز شأنه؟! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 962 الثاني- الفهم الأدبي: وهو ذلك الفهم الذي يقوم على تحديد ما في النص من قيم عقلية وعاطفية وفنية، فنقف على ما في النص من صور وآراء ونبحث عما خلف هذه الصور وهذه الآراء من أخرى لم يشعر صاحب النص بالحاجة إلى التعبير عنها. إما لأنه كان يفهمها في نفسه، وإما لأن المعاصرين له كانوا يفهمونها عنه، وأعتقد أن هذا الصنيع في الفهم الأدبي كان جديدا بالنسبة لموضوعي هذان اللهم إلا في القليل النادر. رابعا- التقسيم والتبويب: ثم قال المؤلف: "عندما يصل الباحث إلى هذا الحد من الفهم الأدبي يكون قد أقام من العلاقات ما تسمح له بأن يقسم بحثه أبوابا وفصولا يقيم كل واحد منها على نوع من العلاقات التي يرجى بها المنهج أو القصد من الدراسة. فقد تجمع النصوص لما بينها من علاقات في الموضوع، وقد تجمع لما بينها من علاقات في الصياغة، وقد تجمع لما يتسلط عليها من مقاصد وأغراض. خامسا- الأصالة والتقليد: وهذه مسألة من أهم المسائل عند الدراسين لحياة العلوم والفنون وعند من يريدون الفهم الدقيق العميق للمسائل العلمية والأدبية؛ ذلك لأنها هي التي ستدلنا على المواد التي تكون منها النص وعلى كيفية تكوينه وعلى أي منها من عند الأديب وأيها سبق إليه.. لقد درست هذه المسائل وكانت لها نتائج قيمة. بعضها يخص إثبات التجديد في الحياة المكية الأدبية -وذلك كمسألة القصة الأسطورية ووجودها في القرآن الكريم، وبعضها الآخر يخص القوة القادرة على تحويل المواد من تاريخية إلى أدبية أو إلى قصصية حتى لتصبح سحرًا من السحر أو أشد تلك هي الخطوات المنهجية التي سرت عليها والتي انتهت بي إلى البحث"1. ولا شك أن هذه الخطوات التي قدمها المؤلف بنفسه هي قواعد التفسير   1 الفن القصصي في القرآن الكريم: د/ محمد أحمد خلف الله ص13-17 باختصار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 963 البياني في القرآن الكريم كما وضعها أستاذه أمين الخولي. إذًا؛ فلم يأتِ الدكتور خلف الله بما هو جديد في التأصيل وإن جاء بما هو جديد في الإنتاج. وما دام الأمر كذلك فلا أظن الأمر يحتاج إلى أن أضرب أمثلة من تفسيره أستخرج لها منهجه، بل يحتاج إلى التمثيل فحسب. أمثلة من تفسيره: ليس من السهل على باحث مثلي أن يتجه إلى دراسة موضوعية "ذات موضوع واحد"، ثم يقتطف منها أمثلة "وافية" في سطور قليلة كيف يفعل هذا وصاحب الدراسة لا يقرر الفكرة الواحدة إلا في فصل كامل، لا ريب علي بعد هذا إذا ما جاء ضرب الأمثلة هنا مختصرا "كما وكيفما"، فلم أوجه العناية لهذا الكتاب استيفاء دراسة ولا استيفاء نقد، وإن كنت أبذل وسعي في أن آتي بشيء من هذا وذاك. وإذا كان الأمر كذلك فإني أرى لزاما علي أن أبين مدلول كلمتين قبل أن ألج في ظلمات هذا الكتاب وصاحبه؛ أما أولاهما فهي "الحرية"، وأما الثانية فكلمة حملها زورا عنوان الكتاب "الفن". أذكر بيانهما هنا، وإن كان مكان ذلك آخر الدراسة كما جرت عادتي بذلك؛ لأن الأمر هنا يختلف؛ هنا ظلمة بل ظلمات، وهنا عدو متربص يتحين غفلة، فكان حمل السلاح واجبا وتأخيره تقصيرًا. أما الحرية -كما أرى- فكلمة ذات جانبين؛ جانب أصيل وجانب زائف، ونحن في عصرنا هذا نعاني من جانبها الزائف. لا أريد بالجانب الزائف جانب استعمالها المشلول فحسب، فحين تمسّ بعض المجلات والجرائد الذات الإلهية يقال: حرية، وحين تمس من بعيد بعض الذوات تقوم الدنيا ولا تقعد. لا أريد هذا الجانب فحسب، بل أريد جانبا زائفا آخر هو الأصل فيها ذلك الفهم السيء لمدلول الحرية، فكم من جريمة ارتكبت باسم الحرية وكم من ظلم ارتكب باسم الحرية وكم من رق ارتكب باسم الحرية؛ يا لها من حرية؟! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 964 مدلول الحرية الصحيح لا يعني شيوعية امتلاكها وحوزها إلا لمن أقام شروطها وإلا فلا حرية. الحرية الأصيلة تحمل معها مبرراتها وحججها القوية التي تخوض بها في عباب البحار لا تخاف دركا ولا تخشى غرقا. أما الحرية الزائفة فهي التي لا تقوم على سند ولا على برهان إلا سند الهوى وانحراف الفكر عن جادة الصواب. وعلى درجات هذه الحرية يتربع هذا الكتاب "الفن القصصي في القرآن الكريم"؛ لأنه لا يحمل من الأدلة الصحيحة والبراهين القوية ما يؤهله للتحدث باسم الحرية الأصيلة. لست -والحمد لله- ممن يلقي التهمة جزافا ولكني رأيت شخصا ينظر في كتاب الله القرآن الكريم، ثم بغير حجة ولا برهان يجعله متهما ويحاكمه بغير حجة ولا برهان إلى كتب محرفة وتاريخ محرف ثم يحكم بغير حجة ولا برهان للثاني على الأول. دعوا -جدلا- ثبوت سلامة القرآن وتحريف التوراة والإنجيل، وسلموا كذلك أنها على درجة واحدة -وحاشا- فكيف تأتَّى له أن يحكم لهذا على ذاك أو لذاك على هذا إن لم يكن صاحب هوى أو انحراف فكر؟! كان عليه قبل أن يحاكم بينها أن يأتي بالدلالة على صحة وثبوت أحدهما وتحريف الآخر، ثم بعد ذلك يجعل من الصحيح حكما ومن المحرف متهما. أما إذا ارتد إليه طرفه وهو حسير ولم يستطع إثبات هذا ولا ذاك، فليحذر استعمال الحرية، فإنها ستكون حينئذ حدًّا في ظهره. أما الكلمة الثانية والتي استعملها بغير حق فكلمة "الفن" في عنوان كتابه. وقد بين هذا من قبلي من نرجو له الشهادة سيد قطب رحمه الله تعالى، حيث قال: "ويزيغ أناس فيزعمون أن هنالك خلقا للحوادث أو تصرفا فيها يقصد به إلى مجرد الفن، بمعنى التزويق الذي لا يتقيد بواقع"، ثم جلا رحمه الله تعالى الصواب، فقال: "والقرآن كتاب دعوة، ودستور نظام، ومنهج حياة، لا كتاب رواية ولا تسلية ولا تاريخ، وفي سياق الدعوة يجيء القصص الجزء: 3 ¦ الصفحة: 965 المختار بالقدر وبالطريقة التي تناسب الجو والسياق، وتحقق الجمال الفني الصادق الذي لا يعتمد على الخلق والتزويق، ولكن يعتمد على إبداع العرض وقوة الحق، وجمال الأداء"1. إذًا؛ فالفن عند سيد رحمه الله تعالى هو إبداع العرض وقوة الحق وجمال الأداء ومعناه عند ذاك التزويق الذي لا يتقيد بواقع. وفي الحقيقة إنا لا نجد في قواميس اللغة إلا أن "الفن: واحد الفنون وهي الأنواع، والأفانين: الأساليب وهي أجناس الكلام وطرقه"2. ولا نجزم أن اللغة مع هذا أو مع ذاك لكنا نجزم أن قدسية القرآن الكريم تشكل أقوى سياج عند المؤمنين يمنع وصف الفن فيه بالتزويق الذي لا يتقيد بالواقع. لكن هذا المفهوم للفن هو الذي قصده الدكتور محمد أحمد خلف الله، بل ولم يجد كلمة تماثل الكذب والاختلاق والأسطورة ومخالفة الواقع إلخ، إلا كلمة الفن فاختارها؛ ليزيف بها كتابه ويدلس بها. أقول هذا أولا حتى يدرك القارئ مدى شرعية "الحرية" العلمية التي يزعم امتلاكها خلف الله وأمثاله، ويدرك أيضا مفهوم الفن عنده، وليس عليه بعد هذا أن يخوض وإياي في لغو هذا الكتاب وباطله، فإلى ذاك. الحرية الفنية: ويقصد بها مسألة الخلق الفني أي أن للقاص أن يختار بعض الأحداث التاريخية دون بعض وأن يهمل مقومات التاريخ من زمان ومكان وترتيب للأحداث والقرب أو البعد من الواقع التاريخي وبعبارة أخرى تحري الصدق والصحة أو المجاوزة عن هذا التحري3، يعني اختراع أو اختلاق الأحداث!!   1 في ظلال القرآن: سيد قطب ج1 ص55. 2 الصحاح: الجوهري ج6 ص2177. 3 الفن القصصي في القرآن الكريم: د/ محمد أحمد خلف الله ص47. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 966 وزعم أنه قام -حسب المنهج الأدبي في التفسير- باستقراء قصص القرآن لمعرفة وجود هذه الظاهرة "الحرية الفنية" فيه أم لا، وتوصل إلى أنها موجودة قال: "يدلنا الاستقراء على أن ظواهر كثيرة من ظاهرات الحرية الفنية توجد في القرآن الكريم"1. ويعدد الدكتور خلف الله ما يحسبه أدلة لذلك ومنها: "إهمال القرآن حين يقص لمقومات التاريخ من زمان ومكان1. ونحن لا ننكر أن القرآن كثيرا ما يهمل في قصصه الزمان والمكان لكنا نرفض كل الرفض أن يكون إهمال ذلك؛ لاختلاق القصة، فليس بين هذا وذاك هذا التلازم إلا عند من عدم الحجة. وقل مثل ذلك فيما زعمه من أدلة أخرى عد منها: "اختيار القرآن لبعض الأحداث دون بعض، فلم يعنَ القرآن بتصوير الأحداث الدائرة حول شخص أو الحاصلة في أمة تصويرا تاما كاملا"2. والغريب في هذا أن الدكتور خلف الله نفسه يعترف بأن القرآن كان يكتفي باختيار ما يساعده على الوصول إلى أغراضه، أي ما يلفت الذهن إلى مكان العظة وموطن الهداية"2. وما دام المؤلف يعرف أن هذا غرض القرآن من القصة، فكيف يرتب على إهمال القرآن لا حاجة إلى الغرض به. إن هذا من الحرية الفنية التي تدل على اختراع القصة أو الحدث؟! ومما عده كذلك إهمال القرآن الترتيب الزمني أو الطبيعي في إيراد الأحداث وتصويرها"2، وما قلنا هناك نقوله هنا. وعد منها إسناد القرآن بعض الأحداث لأناس بأعينهم في موطن، ثم إسناده نفس الأحداث لغير الأشخاص في موطن آخر. وضرب مثلا: "ومن ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف: {قَالَ الْمَلَأُ مِن   1 المرجع السابق: ص51. 2 المرجع السابق: ص51. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 967 قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيم} 1، إذ نراه في سورة الشعراء مقولا على لسان فرعون نفسه: {قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} 2، وكذلك نجد في قصة إبراهيم من سورة هود أن البشرى بالغلام كانت لامرأته بينما نجد البشرى لإبراهيم في سورة الحجر وفي سورة الذاريات"3. وما رأيت من يجادل في عقيم مثله!! فما المانع في القصة أن يكون فرعون وقومه قد تبادلوا هذا القول في مجلسهم وقالوا به جميعا وهم في هرجهم ومرجهم. وما المانع في أن يكون فرعون قال ذلك وردده ملؤه من بعده وهل نسبة قول إلى شخص أو طائفة تدل على اختصاصهم به دون سواهم. خذ مثلا أوسع: حدثنا القرآن عن مواقف الأمم من أنبيائها: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} 4، فإذا كانت الأمم تتفق على قول واحد ألا يتفق ملأ وملكهم على قول واحد يردده كل واحد منهم، أي اختلاف أو أي اختلاف في هذا. كبرت كلمة تخرج من أفواههم. ولا مانع أيضا أن تكون الملائكة قد بشرت إبراهيم وامرأته معا بإسحاق، أو أن تكون بشرت أحدهم أولا، ثم الآخر ثانيا، ثم جاء القرآن يخبر ببشراهم لإبراهيم في سورة ولامرأته في سورة أخرى، وهل يعد هذا دليلا على الاختلاق؟! واستدل أيضا لدعواه الزائفة بإنطاق القرآن في قصصه الشخص الواحد في الموقف الواحد بعبارات مختلفة حين يكرر القصة تصويره للموقف الواحد بعبارات مختلفة. وضرب مثلا للأول تصوير القرآن لموقف الإله من موسى حين رؤيته النار، فقد نودي في سورة النمل: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} 5،   1 سورة الأعراف: 109. 2 سورة الشعراء: 43 "والمؤسف أن المؤلف أخطأ في الآيتين فكتب "لساحر عظيم"!!. 3 الفن القصصي في القرآن الكريم: د/ محمد أحمد خلف الله ص52. 4 سورة الذاريات: 52-53. 5 سورة النمل: 8. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 968 وفي سورة القصص: {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1، وفي سورة طه: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} 2، 3. يقول هذا وهو الذي لم يجف مداد قلمه، حيث قال قبل سطور: "إن القرآن لم يعن بتصوير الأحداث الدائرة حول شخص أو الحاصلة في أمة تصويرا كاملا"4. إذا كان قال هذا قبل أسطر فكيف يستغرب أن يذكر في سورة النمل بعض نداء الله سبحانه وتعالى لنبيه موسى عليه السلام. وفي طه بعضه الآخر، وفي القصص بعضه الآخر أيضا لم لا يكون هذا وأكثر منه هو حديث الله سبحانه لموسى عليه السلام في ذلك الموقف ذكر في كل سورة بعضه!! وضرب مثلا للثاني بقول الله تعالى لموسى، عليه السلام: {خُذْهَا وَلا تَخَف} 5، ومرة أخرى: {يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} 6. ولا شك أن القول في هذا كالقول فيما سبقه، لو كان يفقه؟! وضرب مثلا آخر بتعبير القرآن بالرجفة مرة وبالصيحة أخرى، وبالطاغية في غيرهما وتعبيره في انشقاق الحجر عن الماء في قصة موسى فانفجرت مرة وانبجست أخرى7. والغريب أن هذا الذي يعده هذا الدكتور تناقضا واختلافا؟! يعده العلماء حقًّا وجهًا من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم هو التكرار في القصص القرآني، حيث تتكرر القصة الواحدة بألفاظ وأساليب متعددة تحقق في كل مقام أسلوبا يتسق مع أسلوب القصة ونظمها من غير تنافٍ ولا تجافٍ، بل إن بينها من   1 سورة القصص: 30. 2 سورة طه: 12. 3 الفن القصصي: د/ محمد أحمد خلف الله ص52-53. 4 المرجع السابق: ص51. 5 سورة طه: 21. 6 سورة النمل: 10. 7 الفن القصصي: د/ محمد أحمد خلف الله ص53. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 969 التناسق والترابط ما دعا علماء البلاغة إلى التحلق جثوا على الركب للتزود من هذه الأساليب الباهرة والتسلح بها في ميادينهم. والحديث عن هذه الشبهات والترهات التي قذفها الدكتور خلف الله طويل لا تخرج كلها عن دائرة قصور الفهم إن أحسنَّا به الظن. كل هذه الشبهات التي جاء بها أراد بها تقرير الحرية الفنية في القرآن الكريم وفهم أن وجود الحرية الفنية يعني الاختلاق للأحداث والوقائع. والذي يدعوه -في رأيي- لكل هذا الحرص على إثبات الحرية الفنية في القرآن بهذا المفهوم الخاص عنده أن كل ما ألصقه بالقرآن من شبهات واتهامات باطلة لا يثبت إلا بهذا وإلا لما أصبح له من مستمسك. حيث رتب على الحرية الفنية في القرآن أمورا عديدة لا يسعنا أن نذكرها مفصلة وهي إجمالا: 1- أن القرآن أساطير. تماما كما قال المشركون: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} 1. 2- أن القرآن يجاري عقائد أهل الكتاب؟! فمن ذلك التردد في بيان عدد أهل الكهف؛ لأن القرآن لم يرد ذكر الحقيقة وإنما أراد مجاراة اليهود؛ لأن اليهود اختلفوا في أمر العدد، فنزل القرآن بهذه الأقوال حتى يكون التصديق من المشركين بأن محمدا عليه السلام نبي، ومثله عدد السنين التي لبثوها في الكهف، وغير ذلك من الأحداث3.   1 سورة الفرقان: 5. 2 الفن القصصي: د/ محمد أحمد خلف الله ص57. 3 المرجع السابق: ص54-55. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 970 4- أن أخبار القرآن قابلة للنسخ1. 5- أن في القرآن أخطاء تاريخية2. 6- إنكار الوحدة القصصية في القرآن الكريم. ولأن القصص عنده متضاربة مختلفة، فإنه لا ينظر للقصة المتكررة في القرآن على أنها قصة واحدة، بل: "على أنها أقاصيص مستقلة وليست من قبيل الأجزاء فهي عرض أدبي للحادث تختلف ألوانه باختلاف أغراضه3. خلاصة الأمر أن المؤلف أراد أن يرد على شبهات المستشرقين والملاحدة، فسلم لهم كل ما قالوا وزاد عليه وزعم أن هذا كله لا يمس من قيمة القرآن ولا من مكانته؛ لأن القرآن كتاب هداية وإرشاد لا كتاب تاريخ، وعلى هذا فله أن يسلك الحرية الفنية، فيخترع من الأحداث ما يخترع وكأن القرآن كلام بشر عجز عن الإقناع والحجة بالواقع، فجنح إلى الخيال وعجزت مداركه عن الحق فمالت إلى الاختلاق. سبحانك هذا بهتان عظيم. ولا شك أن هذا أمر خطير يكشف ضعف عقيدة صاحبها وأنه أراد أن يعرف، فجاء بما لا يعرف وباع دينه بدنياه، أدعو الله سبحانه أن يهديه ويمن عليه بالتوبة والعودة إلى الإسلام. وكما قلت، فلست أقصد من هذا الحديث عن هذا الكتاب الدراسة المستوعبة له، ولكني قصدت بيان نوع من التفاسير الأدبية التي سلك صاحبها الاستقراء لنوع من آيات القرآن الكريم هي آيات القصص، فأخطأ الطريق وضل السبيل.   1 المرجع السابق: ص60. 2 المرجع السابق: ص61. 3 المرجع السابق: ص201. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 971 رأيي في هذا المنهج : كأي منهج في التفسير لا شك أن لهذا اللون من التفسير محاسنه وله عيوبه. ولئن ذكرنا في بعض أسسه وقواعده ما قد نحسبه خللا، فإنه بحسابنا يغني عن إعادته كرة أخرى في هذا الموضع. ومع هذا فإني مورد هنا ما لم أورده هناك وسأرتبها هنا حسب ترتيبها المنهجي فمن ذلك مثلا: أولا- التفسير الموضوعي: ولنا في دعوة الأستاذ أمين إلى التفسير الموضوعي أكثر من وقفة؛ أولها: أن التفسير الأدبي وهو يدعو إلى سلوك سبيل التفسير الموضوعي لا يقدم خطة مثالية لسلوكه وإنما يكتفي بإبراز محاسن التفسير الموضوعي دون أن يخطو إلى رسم خطوات السير فيه. وإذا نظرنا إلى الدراسات الأدبية التطبيقية لهذا المنهج وجدناها تسلك التفسير الموضوعي حقيقة أو اعتقادا، ووجدناها أيضا لا تلتزم موضوعا واحدا بعينه، فيكتب أحدهم مثلا عن قصص القرآن وآخر عن جدله وآخر عن أمثاله أو اقسامه وآخر عن الأموال وعن القادة الرسل أو عن السلام في الإسلام أو عن الدولة ونظام الحكم في الإسلام وغير ذلك من الموضوعات. ولا شك أن هذا التفاوت والتباين والتعدد في الموضوعات يخدم المفسر الفرد في اختيار ما يلائم رغبته، فيختار من هذا البحر من الموضوعات ما يناسب رغبته، لكن وهنا المحك؛ كيف ستختار أو تكتب هيئة أو منظمة أو لجنة تسعى لتفسير القرآن الكريم كله -أكرر كله- تفسيرا موضوعيا. الملاءمة الشخصية والمناسبة للرغبة الفردية مفقودة فيها وهي مجموعة أفرادا؟! ولا يبقى من سبيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 972 إلا سبيل واحد هو حصر الموضوعات التي تناولها القرآن الكريم وجاء بالحلول الصحيحة لها هنا يتسع الباب ولا أظن أن في درة إنسان أو لجنة أو هيئة أن تحصر كل هذه الموضوعات والقضايا التي عالجها القرآن الكريم لأن من الآيات وهي محدودة معدودة ما يعالج قضايا وموضعات شتى فتبقى كالدواء الواحد الذي يعالج به ألف مرض ومرض أو تبقى كالميزان الذي يوزن به ألف موزون وموزون فهل يستطيع هؤلاء أن يحصروا تلك الموضوعات التي عالجتها تلك الآيات المحدودة وإذا ما تجاوزوا هل سيفعلون في آيات أخرى ثم أخرى ثم أخرى. لست أقول هذا؛ تعجيزا ولا تثبيطا عن سلوك التفسير الموضوعي، لكني أردت أن أبين أن لا ننتظر تفسيرًا موضوعيًّا كاملا للقرآن الكريم؛ لأنه -في اعتقادي- ليس في قدرة أحد حصر كل الموضوعات التي عالجها القرآن في هذه الحياة. وأردت أيضا أن أبين أن دعاة المنهج الأدبي في التفسير لم يرسموا خطوطا عريضة ولا دقيقة لحصر هذه الموضوعات ولو من ناحية أبوابها العامة الواسعة الشاملة وهذا ولا شك يعد قصورا في تأسيس المنهج أحببت الإشارة إليه؛ لتلافيه ما أمكن. هذا من ناحية المنهجية في التفسير الموضوعي وموقف دعاة التفسير الأدبي منها وإذا ما نظرنا نظرة أخرى هي أعمق من الأولى، وتساءلنا عن الدافع لدعاة التفسير الأدبي إلى التزام التفسير الموضوعي وجدنا أنهم يفعلون ذلك لأمور عددت منها ثلاثة: أولها: اعتقادهم أن طريقة السلف في تفسيره مرتبا لا تمكن من الفهم الدقيق والإدراك الصحيح لمعانيه وأغراضه. وسبق لي إيراد هذا الاعتقاد عندهم ورددت عليه هناك بإيجاز. ثانيها: أن دعاة التفسير الأدبي أرادوا أن يتلافوا بالتفسير الموضوعي التلون المذهبي في التفسير أو الانجراف به من تفسير إلى مباحث في الفقه أو الإسرائيليات أو النحو أو العلوم التجريبية أو غير ذلك مما انتشر في التفاسير القديمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 973 وثالثها: أراد دعاة المنهج الأدبي من الدعوة إلى التفسير الموضوعي والتحذير من التناول المتفرق للموضوع الواحد مما يشتت الذهن فيه ولا يؤدي إلى الفهم الكامل لعلاج القرآن الكريم واستحضاره كاملا. هذه في اعتقادي أهم ثلاثة أمور أرادوا بدعوتهم للتفسير الموضوعي أن لا يقع فيها المفسر فهل أصابوا الحق في ذلك؟! أما أولها: فسبق بيان الرد عليهم فيما وصفوا فيه تفاسير السلف فقد بينت هناك أن السلف وإن لم يتناولوا التفسير الموضوعي تطبيقا فإنهم قد استفادوا منه نظريا، فلا يفسر أحدهم آية إلا ويستحضر إنْ في ذهنه أو في مقاله الآيات الأخرى المشابهة ويزيدون أيضا أنهم يستحضرون معها ما هو خارج عن كلماتها؛ أعني بذلك السنة النبوية وهذا هو مضمون التفسير الموضوعي. أما ثانيها: فإني أعتقد أن التفسير الموضوعي والالتزام به ليس هو الذي يمنع من التلون المذهبي والانحراف في التفسير عن الحق إلى الضلال والذي يمنع من ذلك إنما هو شيء بعيد عن القواعد المنهجية والأطر المحبوكة وإنما يكمن في سويداء القلب. والواقع كما يقول الدكتور الفاضل محمد إبراهيم شريف أن التفسير القرآني حديثا لم يشهد ما خرج به عن حده وطبيعته إلا من أشهر محاولات الاتجاه الأدبي؛ تمسكًا والتزامًا وعصمة بالموضوعية ولم يشهد تاريخ التفسير على طوله ما يزلزل يقين الاطمئنان إلى معطيات النص القرآني التاريخية مثلما شهد من هذه المحاولة"1. ونحمد الله أن هذه المحاولة لم يجفَّ مداد قلمي بعد من الحديث عنها تلكم هي "الفن القصصي في القرآن الكريم" للدكتور محمد أحمد خلف الله. أما ثالثها: فلقد وقع دعاة التفسير الأدبي فيما فروا منه ووقعوا في نفس الحفرة التي حذروا منها.   1 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم شريف ص517. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 974 فإذا كان دعاة المنهج الأدبي قد حذروا من التفسير المرتب؛ لأنه يؤدي إلى التناول المفرق للموضوع الواحد حسب وروده في السور مما يشتت الذهن، فإنهم قد تناولوا بالتفسير موضوعات ذات شعب شتَّتَ تناولهم لتلك الشعب الذهن أكثر مما شتته أولئك. وتفصيل ذلك وبيانه يطول ولعل في ضرب المثال ما يغني عن كثير من المقال، وإذا كان الأمر كذلك فإنا نضرب المثل بالدراسة الموضوعية لـ "الظلم في القرآن الكريم"، قد يبدو ظاهرا أنه موضوع منفصل بذاته لكنه كغيره من الموضوعات بينه وبينها تداخل وترابط لا تصل إلى الحق فيه إلا عبر مسالك وممرات الموضوعات الأخرى. فدراسة الظلم توجب بيان الشرك وهو في أبواب العقائد؛ لأن الشرك ظلم عظيم ولنفسك عليك حق ولجسدك عليك حق وإرهاقهما بالتكاليف ظلم فدخلت من هنا العبادات ولزوجك ولولدك ولجارك عليك حق والتقصير فيها ظلم فدخلت من ذلك المعاملات كما لا تنفصل عنها معانٍ أخرى؛ كعمل السوء، والافتراء، وتعدي حدود الله، والانحراف عن الصراط المستقيم. ومنع مساجد الله من أن يذكر فيها اسمه، وكتم الشهادة، والكذب على الله، والتكذيب بآياته، والإعراض عنها، واتباع الهوى، وأكل الربا، وأخذ مال الآخرين بغير حق، وأكل أموال اليتامى، وترك الحكم بما أنزل الله، وتولى الكفار، وخيانة الأمانة، واتهام البريء و ... و ... وغير ذلك كثير. كل هذه معانٍ تدخل تحت الظلم ولا تتم دراسته إلا ببيانها وبهذا يظهر جليًّا أن موضوع الظلم ليس مستقلا بذاته وليس منفصلا عن الموضوعات الأخرى وإنما هو موضوع متصل مترابط معها تحدث في داخله كل هذه الموضوعات وإن كانت صبغته الخارجية ذات موضوع واحد. ومن هنا فإن المفسر الموضوعي يخطئ حين يتصور أنه بدراسة الظلم في القرآن الكريم إنما يتناول موضوعا واحدا حقيقة بل الحق أنه يتناول موضوعات عدة ومن هنا أيضا يخطئ صاحب المنهج الأدبي إن اعتقد أنه بالدعوة إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 975 التفسير الموضوعي قد تحاشى تشتيت الذهن المزعوم هناك بل وقع فيما حذر منه. وبهذا نعتقد بأن الدعوة إلى هذا اللون من التفسير لهذا الهدف قد أصبحت غير ذات جدوى. ثانيا- الترتيب الزمني: يرى دعاة المنهج الأدبي في التفسير أن ترتيب آيات القرآن الكريم حسب تاريخ نزولها أمر ضروري للتفسير وخطوة لا بد منها قبل الإقدام عليه. ولي في هذا ملاحظتان أذكرهما هنا: الأولى: أن لا أحد ينكر ما لمعرفة ترتيب النزول من منزلة كبيرة ودرجة عالية في التفسير؛ إذ يترتب على ذلك أمور قد تقلب الحكم رأسا على عقب كيف لا والناسخ والمنسوخ إنما يعرف بهذا وسواه كذلك. لكن وما أصعب لكن هذه هل اتفق السلف أو الخلف على ترتيب معين لنزول آيات القرآن الكريم؟ قد نعرف تقدم آيات وتأخر أخرى لكنا لا نعرف يقينا ترتيبا كاملا لها. وإذا كنا نجزم بذلك جزما، فإن بناء المنهج الأدبي على أساس عُلِمَ يقينا فَقْدُه أمر يحتاج إلى إعادة نظر. الثانية: أن أحدًا من دعاة المنهج البياني أو الأدبي في التفسير لم يحل إلى ترتيب معين لا في القديم ولا في الحديث، ولم أر أحدا منهم قدم محاولة لهذا الترتيب، ولئن كان إهمالهم للخطة في التفسير الموضوعي قد يلتمس له عذر بأن النص موجود لكنه يحتاج إلى جهود وجهود، فإن الأمر هنا يختلف؛ إذ إن الجهود فيه مهما توافرت فإنها تفتقد السند والأدلة التي تأخذ بيدها إلى الصواب وإلا كانت كجهود من ينفخ في رماد. ثالثا- النظر في المفردات وتدرج دلالة الألفاظ: يَعتبر دعاة المنهج البياني في التفسير تتبع تدرج دلالة الألفاظ الأصل الأول في فهم دلالة ألفاظ القرآن وهم يقصدون من هذا الوصول إلى معناها في الوقت الذي تليت فيه أول ما تليت وتفسيرها به، ولنا في هذا وقفات: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 976 الأولى: أن العربي لا يفهم بعربيته كل ألفاظ القرآن الكريم؛ ذلكم أن القرآن الكريم خالق لمعناه في كثير من الأحايين وليس انعكاسا للعقل العربي أو الظروف التاريخية المحدودة1، فمن الألفاظ القرآنية ما يطابق كل المطابقة مدلولها في وقت نزولها، ومنها ما لا يطابقه كذلك فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقف -وهو العربي القح- حائرا في مدلول كلمة "أَبَّا" وهذا رجل عربي آخر يفهم الخيط الأبيض والخيط الأسود أنهما خيطان يلمسهما بيده ويضعهما تحت وسادته وعلى مستوى الجماعة أولئك الصحابة رضي الله عنهم لم يفهموا مدلول الظلم في إحدى الآيات حتى بينه المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس الذي تعنون" 2، ومن هذا وأمثلة أخرى كثيرة ندرك أن القرآن وإن كان نزل بلسان عربي مبين وإن كان العرب الخلص يفهمون ويدركون مراميه بمقتضى سليقتهم العربية إلا أن ألفاظه الكريمة ليست صماء خالصة؛ بل إن فيها من المعاني الجديدة ما يضفي على اللغة إشراقة أخرى من المدلول الصحيح بحيث لا تنكرها اللغة ولا يعافها الذوق، وهذه قد يقصر عنها أحيانا معناها وقت نزولها فلا يكفي وحده لجلاء معناها الصحيح، فيحتاج مع ذلك إلى النظر في المركبات واستِكْنَاه معنى هذه المفردة على ضوئها. خلاصة الأمر أن الاستعمال القرآني للمفردة قد يحمل معه معاني متجددة ليست مطابقة كل المطابقة لمدلولها الوضعي في وقت نزول القرآن الكريم. الثانية: إن تتابع العلماء في تفسير القرآن الكريم يشهد أنهم لم يقفوا في ألفاظ اللغة على معنى واحد لا يتجدد، ولو فعلوا لانقطع مسار التفسير ولما تسلسل إلى عصرنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ولما أوردوا في الكلمة الواحدة معانٍ متعددة، ولما حرص كل واحد منهم أن يسوق مع رأيه آراء العلماء الآخرين.   1 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د. محمد إبراهيم شريف ص528. 2 رواه الإمام أحمد في مسنده رقم 3589 عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح؛ مسند الإمام أحمد ج5 ص207، وبمعناه رواه البخاري وغيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 977 وهذا اعتراف منطوق حينا ومفهوم أن معاني الكلمات القرآنية غنية ومتجددة يضفي كل مفسر منهم ما يراه مناسبا ويروض ثقافته وتصوره للمعنى في حرية حتى يستخرج ما قد يستنبطه من معانٍ جديدة وإلا فلا فائدة فيما جاء به إلا التكرار والترديد. وإذا كان الأمر كذلك فإن التزام المنهج البياني لمدلول الكلمة ومعناها وقت نزول القرآن الكريم تعطيل لها عن معانٍ أخرى لم تظهر بعد تحمل معها مطابقة القرآن الكريم لمقتضى حال كل عصر من العصور معلنة إعجازا مستمرا متجددا لا ينقطع وداعية إلى زيادة التأمل والتدبر في آيات الله. وليس هناك ما يمنع أن تحتمل ألفاظ القرآن الكريم وهي كلام الله سبحانه وتعالى الذي لا يشابهه كلام بشر معاني لم تظهر بعد ادخرها الله سبحانه وتعالى لأهل العصور التالية؛ ليكون ما فيها من مفاهيم وحقائق إعجازا لهم وأي إعجاز"1. الثالثة: إن الدعوة إلى معرفة مدلول الألفاظ وقت نزول القرآن لا شك تعين على معرفة رأي صائب لكن هل الوصول إلى هذا من السهولة بمكان؟ لست أنكر أن تفسير الصحابة رضي الله عنهم، والشعر الجاهلي مما يساعد على الوصول إلى شيء من هذا، لكنه حتما لن يفسر الكثير منها. لست أقول هذا تعجيزا ولا تثبيطا للهمم فالأستاذ أمين الخولي يعترف بهذا حين يقول: "وإذا كان هذا هو الأصل الأول في فهم دلالة الفاظ القرآن فمن لنا به مع أن معاجمنا لا تسعف عليه ولا تعين.. فليس أمام مفسر القرآن حين يبتغي المعنى الأول لألفاظه إلا أن يقوم بعمل في ذلك مهما يكن مؤقتا وقاصرا فإنه هو كل ما يمكن اليوم"2.   1 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم شريف ص536. 2 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي ص42-43. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 978 لكن الحق الذي أراه في هذا أن لا يجعل الوصول إلى هذا المعنى هو الأصل الأول في فهم الألفاظ القرآنية وإنما يعتبر معنيا للوصول إلى رأي صائب لا يمنع من معانٍ أخرى صائبة يحملها كلام حكيم خبير أنزل كتابه للأمة في عصر الرسول ولها في سائر العصور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولئن كانت مطابقة النص القرآني لمقتضى الحال وقت نزول القرآن أمرا مطلوبا فإن مطابقتها لمقتضى أحوال الأمم والعصور التالية وهي مخاطبة به على حد سواء مع العصر الأول أمر أيضا مطلوب ومن الخير أن نسعى لبيان الأخير سعينا لبيان الأول. رابعا- قبول التفسير النفسي ورفض العلمي التجريبي: والحديث عن مطابقة الكلام لمقتضى الحال حديث عن البلاغة في القرآن الكريم، ومن هنا انطلق الأستاذ الخولي؛ ليقرر أمرا آخر على هذا سقنا نصه في حديثنا عن أسس المنهج ومنه قوله: "إن ما استقر من تقدير صلة البلاغة بعلم النفس قد مهد السبيل إلى القول بإعجاز القرآن النفسي للقرآن.. إلخ"1. ولأن أرباب المنهج البياني ينظرون إلى مفردات القرآن من زاوية معانيها وقت نزوله فإنهم يرفضون كل ما تفسر به من نظريات أو حقائق علمية حديثة؛ لأنها لم تكن من مدلول المفردة حينذاك. ومن هنا نرى ثغرة في منهجهم أو سمها إن شئت اضطرابا في المنهج كان الموقف الحق أن يرفضوا النظريات الحديثة لعلم النفس والنظريات العلمية الحديثة جميعا أو أن يقبلوها جميعا. إذ كيف يسوغون تفسير النص القرآني الكريم بنظريات علم النفس الحديثة التي لم تكن من مدلول المفردة وقت نزول القرآن الكريم في نفس الوقت الذي يرفضون تفسيرها تفسيرا علميًّا كذلك.   1 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي ص45. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 979 خامسًا- بين النظرية والتطبيق: أبرز أسس المنهج البياني في التفسير هي النظر في المفردات ثم الدراسة الموضوعية. وإذا نظرنا إلى نتائج اتباع هذا المنهج وأصحابه وجدا بعضها يهتم بالموضوع وقد يجيد التطبيق لكنه يتعثر في أول درجات النظر في المفردات فلا يكاد يخطو فيها خطوة. وفي الجانب الآخر نجد دراسات نجحت في النظر في المفردات لكنها إذا حاولت -إن حاولت- التفسير الموضوعي تعثرت فيه ولم تكد تخطو خطوة واحدة!!. وبهذا يكون المنهج البياني في التفسير حتى ساعتنا هذه مجرد نظرية لم تطبق بعد تطبيقا كاملا وآتي على هذا بشاهدين: الأول الدكتور عفت محمد الشرقاوي حيث قال: "لكن الذي لا نفهمه أن آثار الشيخ أمين الخولي نفسه في التفسير لا تحتكم إلى هذا المنهج طويلا في استخراج الدلالة وهكذا ظل الفارق بعيدا بين الواقع والمثال في آثارهم جميعا"1. الثاني الدكتور محمد إبراهيم شريف الذي قال: "تجدر الإشارة إلى أن المنهج بهذه الصورة من القيود والمتطلبات لم يرَ النور في محاولة ما من محاولات أتباعه وإنما وقعت محاولاتهم موقعا بعيدا عن الأمل الطموح بصورة أو بأخرى"2. وقال أيضا بـ "تخلف النتائج عن المقدمات العريضة في دعوة المنهج الأدبي الموضوعي وقصور محاولاته ووقوعها في منزلة أدنى بكثير من طموح أصحابها، فلم تشهد الدعوة تطبيقا كاملا في إحدى محاولات التفسير"3.   1 اتجاهات التفسير في مصر في العصر الحديث د/ عفت محمد الشرقاوي ص310. 2، 3 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم شريف الصفحات على التوالي 508، 597. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 980 بل قال ما هو أشد: "وفي تصورنا الآن أن أمين الخولي إذا كان قد بدأ نظريته التفسيرية ليجدد منهج التفسير القرآني فلقد انتهى الأمر بالتفسير في نهاية نظريته إلى أن أصبح علما لم يبدأ بعد ولكن من الممكن له أن يبدأ بل أن ينمو وينضج إذا ما سار على ذلك الدرب الشاق بكل صعوباته ومسئولياته"1. بقي أمر ينبغي أن لا أغفله وإن كان حقه أن أذكره في أول حديثي عن المنهج.. كان حقه كذلك لو أن الأستاذ أمين الخولي صرح به، لكنه؛ لأمر لا أدريه كَتَمَه وأحسب هذا يخولني ذكره في الملاحظات على المنهج. ذلكم الأمر هو جانب التأثر ومصدره عند أمين الخولي في تقرير هذا المنهج حقيقة أن الأستاذ أمين الخولي تأثر -فيما أرى- بثلاثة أشخاص؛ الأول والثاني منهما كان جانب التأثر بهما غير كبير جدًّا، ولعله لهذا أشار أو لمح إليهما وهما: 1- الراغب الأصفهاني في كتابه "مفردات القرآن". 2- الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسير "المنار". لكنه لم يذكر الثالث ولم يشر إليه من قريب ولا من بعيد مع أنَّا كما يقول الدكتور السيد أحمد خليل -لا نكاد نظفر بجديد عنده يختلف عما دعا إليه "شلاير ماشر"2. ويقول الدكتور في موضع آخر عن القواعد التي أصلها شلاير ماشر الألماني لتفسير أي نص: "وقد كان لهذه القواعد والأصول مكانها البارز في حركة مجددة   1 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم شريف، ص510. 2 دراسات في القرآن: الدكتور السيد أحمد خليل ص145-146. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 981 قام بها الأستاذ أمين الخولي في الجامعة دون أن يشير رحمه الله تعالى إلى تأثره بهذه القواعد واستفادته منها"1. ومن المعلوم كما أشرنا في ترجمته أن الأستاذ أمين الخولي عمل في المفوضية المصرية في برلين وأنه ألمَّ باللغة الألمانية. ويبقى السؤال حائرا يبحث عن إجابة: لِمَ لَمْ يذكر الأستاذ أمين الخولي تأثره بقواعد التفسير عند شلاير ماشر الألماني الجنسية؟. ومع هذه الملاحظات على هذا المنهج فإنه يبقى له وجه آخر مشرق حيث خط سبيلا بينا إلى الحقيقة القرآنية وأرشد إلى أسلوب أدبي صحيح في تذوق أساليب القرآن. وأهم من هذا كله أنه كشف عن آفاق جديدة للإعجاز في القرآن الكريم وجدد في الأدباء المعارضين الحس الفني حيث الإبداع في العرض وقوة الحق وجمال الأداء وهو حس كادت أن تنطفئ ناره في مجتمع ألهته تيارات المادة في العصر الحديث. وفوق هذا كله قدم بعض أرباب المنهج البياني نماذج أصيلة لتفسير المفردات حيث التتبع للفظة في القرآن الكريم واستخراج معناها من وحي السياق. وإذا ما ابتعد أصحاب هذا اللون في التفسير عن تلك المزالق والمتاهات التي أشرنا إلى بعضها فإنه يؤمل لهذا المنهج أن يحتل في العصر الحديث مكانة سامية. سدد الله الخطى وأصلح النوايا. إنه سميع مجيب.   1 المرجع السابق: ص13. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 982 الفصل الثاني: منهج التذوق الأدبي في التفسير المراد به : لا أقصد بالتذوق الأدبي إطلاق العنان لكل قارئ لإعمال ذهنه الذاتي لاستخراج معاني النص؛ لأن هذا سيؤدي بنا حتما وعلى أحسن الأحوال إلى أن نجد في تفسير الآية الواحدة ما يساوي عدد القراء بل أكثر منهم. ولكن أقصد به الموازنة بين الذات والموضوع، فللذات حقها في جانب الاستغراق في النص والشعور به بحيث لا يصل إلى الاستغراق الصوفي التام الذي يطغى على النص وعلى جانب الجمال الاجتماعي فيه. وللموضوع حقه في التزام مدلوله اللغوي وحدوده الشرعية والتنبيه الدقيق إلى المعنى الصحيح السليم والتزام أبعاد معانيه ومدلولاته بحيث لا يتجاوزها فيشطح. إن الموازنة بين الذات والموضوع -في رأيي- هي التي تستقر بصاحبها في ميدان التذوق الأدبي وبقدر الموازنة يكون الاستقرار فيه، فإن طغت الذات على الموضوع خرج عن نطاقه إلى نطاق التفسير الصوفي الذي يعتمد على الأوهام أكثر مما يعتمد على الحقائق، وجنح بصاحبه إلى الخيال الجارف الذي لا يعتمد على قواعد ثابتة ولا أصول راسخة بل يموج ويضطرب كما تضطرب الريشة في الهواء، ومن هنا نفذ الباطنيون إلى الإلحاد في تفسير القرآن الكريم حيث لا ارتباط بالنص ولا بمدلوله بل انسلاخ منه!!. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 983 وإن طغى الموضوع على الذات خرج عن نطاق التفسير العلمي البحت وضاقت جوانب جذبات النفس وارتباطها بالنص وأصبح المفسر والنص كتلتين منفصلتين لا تمازج بينهما ولا تجاذب، وحينئذ يكاد المفسر أن يكون مجرد آلة لا تفاعل بينها وبين معمولها. إذًا فالتذوق الأدبي -عندي- يقوم على الموازنة بين الذات والموضوع.. هو وسط بينهما. والتذوق للقرآن الكريم حركة نفسية وانطباع ذاتي لا يملك الإنسان له ردا ولا يستطيع له منعا، بل لا بد أن يظهر أثره في خلجات سامعه وسكناته شاء ذلك أم أبى وقد أدرك المشركون ذلك ولذلك سعوا إلى حسم سماعه أوَّلًا: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} 1؛ وإنما فعلوا ذلك لإدراكهم أنهم لا يملكون دفعا للتأثر بل قد يأخذ منهم بالألباب ويؤدي بهم إلى ما لا يريدون وكل ما يملكونه أن يتداعوا إلى عدم سماعه واللغو فيه عند تلاوته حتى لا يصل إلى شغاف قلوبهم، فإن وصل فإنهم لا يملكون إلا أن يقولوا -حقيقة- إن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق ... إلخ، وقد يكابرون ويعاندون ويزعمون أنه سحر. حتى الجن كانت النزعة الانطباعية عندهم عند سماعهم له أن قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} 2. والنصارى عند سماعهم له تفيض أعينهم من الدمع: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} 3. والذين يخشون ربهم تقشعر جلودهم عند سماعه ثم تلين وتلين قلوبهم   1 سورة فصلت: الآية 26. 2 سورة الجن: الآية الأولى. 3 سورة المائدة: الآية 83. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 984 معها: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} 1. هذه وتلك بعض مظاهر التأثر بالقرآن الكريم وتذوق نصوصه، ظهرت بين الناس على اختلاف أنواعهم بل والجن أيضا، واختلفت بين فيض الدمع وقشعريرة الجلد ولين القلوب وإظهار علامات الدهش والعجب. ولكن هذه المظاهر لم تتجاوز التأثر الذاتي فلم يترجمها أحد أحرفًا على الورق يفيض بها ذوقه السامي، ويسطرها قلمه الطاهر معالم يهتدي بها من قصر باعه وقلت بضاعته فلم يتذوق النص أو لم يستطع التعبير عنه. وحين تظهر عبارة صادقة معبرة عن مظاهر تذوقه، فإن الألسن حينئذ تتداولها وإن الرواة يتناقلونها كما يتناقل الصاغة الجوهرة الثمينة، حتى وإن كانت العبارة قصيرة حتى وإن كانت مجملة. وخذ مثلا عبارة قالها الوليد بن المغيرة حين استمع إلى آيات من القرآن وهو الكافر ما ملك من أمره إلا أن قال: "والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه ومغدق أسفله وإنه ليعلو وما يعلى وإنه ليحطم ما تحته"2. تداول الرواة هذه العبارة لما فيها من تعبير صادق عن التذوق للنص القرآني وقدرة التعبير عنه، هذا والعبارة موجزة ومعناها مجمل. كيف الأمر إذا وفق الله عز شأنه رجلا يخرج تفسيرا شاملا للقرآن الكريم يحمل مثل هذه المعاني السامية ويترجم دقائق جذور التأثر من أصولها أحرفا نيرة على الورق تحكى قمة من قمم التذوق الأدبي للنص القرآني الكريم. لا أنكر بادئ ذي بدء أني وقففت طويلا وقفة شحيح ضاع في الترب   1 سورة الزمر: الآية 23. 2 انظر فتح القدير: الشوكاني ج5 ص329. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 985 خاتمه، وقفت أدقق النظر وأرجع البصر ملتمسا أثرا يبصر أو لا يكاد يبصر لمعالم هذا المنهج وآثار السائرين فيه. لم أكد أجد في الجادة إلا أثرا لقدمين هما لرجل واحد تمشيان فيه بعزيمة وثبات وكأنهما تسيران على خط شق لهما من قبل بل كأنهما تسيران على نور البصيرة والبصر. وعدت أسائل نفسي ايعد طريق يبس إلا من قدمين اثنتين! من مناهج التفسير؟ وكان جوابها -وأحسبه حقا- أن المناهج كلها تبدأ كذلك ثم يكثر سالكوها، وهي من أول أمرها تعد منهجا. إذًا فلا تثريب علي إن اعتبرت تفسير سيد قطب رحمه الله تعالى منهجا في تفسير القرآن الكريم وحده. ولعل لمعترض أن يقول: كيف تقدم النتيجة على المقدمة؟ زعمك أن انفراد سيد قطب رحمه الله تعالى في المنهج لا يمنع من اعتباره منهجا، زعمك هذا نتيجة لمقدمة تثبت انفراده رحمه الله تعالى، فهل حقًّا انفرد سيد قطب رحمه الله تعالى في هذا المنهج؟ وجواب هذا المعترض ليس بإيراد التفاسير كلها وعرضها حتى أثبت به ما أقول، فهذا أمر يطول ويشق ولكنه بالشهود وهم كثير. فهذا الدكتور محمد إبراهيم شريف يصف تفسير سيد قطب رحمه الله تعالى "في ظلال القرآن" بأنه "يمثل تيارا برأسه يجمع فيه بين الذاتية والذوقية، والفنية الجمالية"1. ويصفه في موضع آخر بالندرة من اعتبارات كثيرة2.   1 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم شريف، ص583. 2 المرجع السابق: ص593. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 986 ويصف الدكتورعدنان زرزور منحى سيد قطب رحمه الله تعالى بأنه "منحى خاص"1. أما الدكتور محمد المبارك، فيعترف لسيد بأن له "فضل كبير في السبق إلى الكتابة والنشر في هذه الموضوعات على أسلوب حديث"2. بل إن الدكتور عفت الشرقاوي الذي تحاشى الحديث عن سيد قطب، وهو يكتب عن "اتجاهات التفسير في مصر في العصر الحديث" لم يجد بديلا لسيد قطب وحين اضطر لذلك وصفه بـ "أحد الدارسين"3 وكتب دراسة لكتابه "التصوير الفني في القرآن الكريم" في عشر صفحات4 ومع هذا تحاشى ذكره أيضا في المصادر والمراجع فلم يذكر اسم كتابه حتى لا يضطر لذكر اسمه. وهو مع هذا يذكر في نهاية حديثه عنه قوله: "لا يعثر الباحث على نماذج كثيرة في جهود المفسرين المحدثين تتخذ التذوق وحده رائدا في التفسير كما رأينا في المحاولة السابقة"5، ولا نظنه وجد نماذج ولو قليلة ولو كان قد وجد لما ذكر سيد قطب مثلا وإنما وجد دراسة وصفها بأنها مماثلة إلى حد ماء"5. ما قصدت من هذا أن أذكر موقف الدكتور عفت6 ولكني قصدت مكانة سيد -رحمه الله- حيث لم يجد من حاول أن يتحاشى ذكره بدًّا من الإشارة إليه إذ ليس في الساحة سواه. وأصرح من هذا كله وأوضح ما كتبه الدكتور صلاح دحبور في رسالته   1 علوم القرآن: الدكتور عدنان زرزور، ص416. 2 دراسة أدبية لنصوص من القرآن: محمد المبارك ص8. 3 اتجاهات التفسير في مصر في العصر الحديث: د/ عفت حمد الشرقاوي الطبعة الأولى سنة 1972م، ص338. 4 المرجع السابق، انظر ص338 إلى 348. 5 المرجع السابق، ص348. 6 ولعل السبب في ذلك أن الشرقاوي ألف كتابه سنة 1963، وكان سيد قطب رحمه الله وقتها في سجن عبد الناصر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 987 التي قدمها لنيل درجة الدكتوراه عن "في ظلال القرآن" حيث وضع عنوانا "سيد قطب يؤسس مدرسة جديدة في التفسير" قال فيه: "يعتبر الظلال لونا جديدا خاصا فريدا من التفسير، ويعتبر نقلة جديدة بعيدة في التفسير. وإن الظلال يعتبر مدرسة خاصة في التفسير. يمكن أن نعتبر سيد قطب مفسرا موهوبا ومؤسسا لمدرسة متميزة فريدة في التفسير. لقد كان سيد قطب مجددا في الظلال حيث سار على منهج خاص"1. ونحن نقول مثل قولهم إن سيد قطب رحمه الله تعالى صاحب مدرسة خاصة ومنهج خاص. ولهذا فلا تثريب علي إذ لم أقدم كعادتي في كل منهج دراسة عامة للمنهج وأهم المؤلفات فيه ثم اختيار تفسير أو تفسيرين كنموذج للمنهج أقف عندهما وقفة أطول. لا تثريب علي إذا كتبت عن "في ظلال القرآن" لسيد قطب رحمه الله تعالى مباشرة؛ لأنه يقف في الساحة وحده فهو والمنهج حتى الآن وجهان لعملة واحدة. فإذا برع من بعده أحد في المنهج شاركه فيه وتفرد سيد بالأقدمية أما الآن فلسيد الأقدمية والانفراد.   1 في ظلال القرآن دراسة وتحقيق: د/ صلاح عبد الفتاح دحبور، ص212-213. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 988 في ظلال القرآن : أولا- المؤلف: ما زالت يدي تمسك بالقلم حينا وتتركه حينا ذلكم أني ترددت كثيرا ووقفت طويلا. ووقفت حائرا بين داعٍ يدعوني لكتابة ترجمة لسيد قطب رحمه الله تعالى كما ترجمت لغيره عند تناول تفاسيرهم. وبين داعٍ يدعوني أن لا أكتب شيئا عنه، وكيف أكتب في صفحة أو صفحتين عن رجل كتب عنه العلماء في أكثر من عشرة كتب بعضها في مجلدات ضخمة، دع عنك التراجم والدراسات التي لا يكاد يخلو منها مؤلف في العصر الحديث عن الدراسات الإسلامية والقرآنية. هل من اللائق لمثلي أن يكتب هذه الترجمة أمام هذه المؤلفات والدراسات الأصيلة عنه. وما الجديد فيما يقول شخص لم ولن يخرج عما قيل في هذه المؤلفات عنه رحمه الله تعالى. ما زلت بين هذا وذاك حتى قر قراري على وجوب الترجمة ولو كانت موجزة وحتى لو لم تأتِ بجديد وحتى لو كانت أقل درجة؛ لأن ما سأذكره يكاد أن يكون القاسم المشترك بين هذه المؤلفات كلها وما يضير أن أشترك معهم في مقام كهذا ولذا فقد اخترت أن أكتب هذه الترجمة الموجزة التي أحسبها سهما -مجرد سهم- يشير إلى المؤلفات الضخمة عنه وحتى هذه المؤلفات لا أحسبها إلا سهما -أيضا- لكنها سهم ضخم يرشد إلى رجل لا كالرجال. اسمه ونشأته: سيد بن الحاج قطب بن إبراهيم: ولد في قرية من قرى الصعيد تتبع محافظة أسيوط اسمها "موشة" التي قدم إليها جده الخامس من الهند. وكانت ولادته سنة 1906م حيث نشأ في أسرة ليست عظيمة الثراء وإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 989 كانت أقرب إليه، وكان والده مضيافا ولذا كان له مكانة مرموقة بين أهل القرية. انتهى سيد قطب من الدراسة في مدرسة القرية عام 1918م حيث انتقل للدراسة إلى القاهرة عام 1921 وإنما تأخر إلى هذا العام بسبب ثورة 1919م ضد الاحتلال البريطاني. فاستقر سيد قطب في بيت خاله في القاهرة وفي عام 1925م التحق بمدرسة المعلمين الأولية ثم التحق عام 1928م في "تجهيزية دار العلوم" وهي مدرسة خاصة بكلية دار العلوم وتؤهل الطالب فيها للدخول في الكلية، ثم التحق بكلية دار العلوم عام 1930م وتخرج منها عام 1933م وله من العمر 27 سنة وحصل على شهادة الليسانس في الآداب. مع دبلوم في التربية. بعد تخرجه زاول مهنة التدريس مدة ست سنوات انتقل بعدها إلى وزارة المعارف موظفا من سنة 1940 إلى 1948م حيث أوفدته الوزارة إلى أميركا. وكانت رحلته تلك إلى أميركا نقطة تحول لحياته الفكرية حيث لم يكن إرساله إليها للدراسة للحصول على شهادة عالية كما يحسب بعض من كتب عنه وإنما كانت رحلة عملية ميدانية يقوم فيها بزيارة الجامعات والمعاهد العلمية في أميركا ويطلع على مناهجها التعليمية؛ ليعود فيطبقها على مناهج التعليم في بلاده. ولذا كانت رحلته تلك ذات مدة مفتوحة وكان أمر إنهائها بيده وتنتهي بانتهاء دراساته الميدانية. والأهم من هذا كله أن رحلته تلك ليست -حقا- للاطلاع على تلك المناهج وإنما للتخلص من سيد قطب وآرائه التي كان يطالب بها ويلح عليها، ولهذا فإن سيدا لم يوفق على الرحلة إلا بعد أن منع من الكتابة في الصحف، وأغلقت مجلة "الفكر الجديد" فلم يجد بدًّا من السفر. وعاد وقد وجد ذاته هناك ووجد الإجابة على استفساراته وعن غاية الحياة وهدفها السامي النبيل: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 990 لَهَا} 1، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} 2. عاد وقد خبر الحياة الأميركية بل قل الحياة المادية وسجل ملاحظاته تلك في "أميركا التي رأيت" إلا أن مسودات هذا البحث كانت من ضحايا محنة الإخوان المسلمين عام 1954م حيث أحرقت ولم ينج منها إلا حلقات ثلاث مختصرة نشرت في أعداد مجلة الرسالة "957، 959، 961". كانت طريقته في أميركا تختلف عن طريقة الآخرين عكسها تماما كانوا يتخذون موقف الدفاع والتبرير عن الإسلام أما هو فكان يتخذ موقف المهاجم للجاهلية الغربية لا يدع لهم مجالا للاستعلاء ولا يترك لهم فرصة لإشغاله عن الانطلاق كان يهاجم فيشغلهم بالرد ويتفرغ للدعوة ولا ينتظر منهم شبهة تشغله بالرد عنها. حتى هذه اللحظة لم يكن له كبير اتصال مع جماعة الإخوان المسلمين إلى أن تم اغتيال حسن البنا رحمه الله تعالى سنة 1949م، وكان سيد وقتها في إحدى مستشفيات أمريكا حيث شاهد مظاهر الفرح والابتهاج بل والشماتة في كل شيء من حوله في الصحافة وفي جميع أجهزة الإعلام وفي كافة المنتديات كلها تهلل وتهنئ بعضها بعضا بالتخلص من أخطر رجل في الشرق، ولم يبق له عذر عند الله -كما يقول- إن لم أتبعها؛ فهذه أمريكا ترقص على جمجمة حسن البنا وهذه بريطانيا أيضا تسخر أجهزة مخابراتها حتى داخل أميركا لمحاربة الإخوان، فصمم في قرارة نفسه أن ينضم إلى الإخوان المسلمين. وعاد سيد قطب وهو يعتقد أن تاريخ ميلاده هو تاريخ انضمامه إلى الإخوان المسلمين وكان يردد دائما: "لقد ولدت عام 1951م وهو تاريخ انضمامه إليهم".   1 سورة فاطر: الآية 2. 2 سورة الأنفال: الآية 30. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 991 عاد وهو أخطر على من أرسلوه من قبلُ، فصار يكتب المقالات التي أقضَّت مضاجعهم، وجرت عليه الكثير من المضايقات، ولم يحسب لها حسابا، فراح يعدُّ البحوث ويلقي المحاضرات ويعقد الندوات ويدير الجلسات وصار بيته موئلا للشباب ومهوى للقلوب. وقرن القول بالعمل، فدعا إلى قيام الكتلة الإسلامية كتلة ثالثة لا شرقية ولا غربية، وكان لسيد أثر كبير في قيام ثورة 23 يوليو، وكان موضع احترام رجالها وهو المدني الوحيد الذي كان يحضر أحيانا جلسات مجلس قيادة الثورة". وحين طلبوا منه أن يلقي محاضرة في نادي الضباط في القاهرة غص النادي بالحضور من مختلف الفئات، وحرص على حضورها رئيس مجلس الثورة اللواء محمد نجيب بنفسه إلا أن عذرا طارئا منعه من ذلك، فحضرها نيابة عنه جمال عبد الناصر ولم يكتفِ بهذا بل أرسل رسالة مع أنور السادات يعتذر فيها عن الحضور، وقد تليت هذه الرسالة على الحضور وقد وصف سيد قطب فيها بأنه رائد الثورة ومعلمها وراعيها وقائد قادتها ورئيس رؤسائها1. وليس بغريب أن يقول هذا محمد نجيب وهو الذي يعترف في مذكراته التي أصدرها مؤخرًا بعنوان "كنت رئيسا لمصر": "إنني أعرف أن الإخوان كانوا أول من ساعدوا عبد الناصر في تنظيم الضباط الأحرار" في فترة لم أكن فيها قد عرفت عبد الناصر ولا التنظيم"2. ولم يكن سيد رحمه الله تعالى في محاضرته تلك متملقا ولا متشدقا للثورة. ولكنه أعلنها أن الثورة قد بدأت حقا وليس لنا أن نثني عليها؛ لأنها لم تعمل بعدُ شيئا يستحق أن يذكر، فخروج الملك ليس غاية الثورة، بل الغاية منها العودة بالبلاد إلى الإسلام، وأعلن أنه يخشى من الثورة أكثر من   1 سيد قطب الشهيد الحي: د/ صلاح عبد الفتاح الخالدي، ص141 عن مجلة "كلمة الحق" السنة الأولى، العدد الثاني 1387، ص37. 2 كنت رئيسا لمصر: محمد نجيب، ص167. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 992 ذي قبل: "لقد كنت في عهد الملكية مهيئا نفسي للسجن في كل لحظة وما آمن على نفسي في هذا العهد أيضا، فأنا في هذا العهد مهيئ نفسي للسجن ولغير السجن أكثر من ذي قبل"1!! وكان جمال عبد الناصر -كما قلنا- حاضرا فوقف وقال بصوته الجهوري: "أخي الكبير سيد؛ والله لن يصلوا إليك إلا على أجسادنا جثثا هامدة ونعاهدك باسم الله بل نجدد عهدنا لك أن نكون فداءك حتى الموت"، وكان من بين الحاضرين الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار الذي كتب وصفا كاملا لهذا الحفل1. وعرضت عليه الثورة مناصب عديدة رفضها كلها إلا منصب السكرتير العام لهيئة التحرير وما رضي به إلا ليسعى للتخطيط للسياسة العليا وكان يستحثهم الإسراع بتطبيق الشريعة الإسلامية وكانوا يراوغون ويماطلون فاستقال بعد شهور وخلفه في منصبه جمال عبد الناصر نفسه1. وعندما وقع الصدام بين الإخوان مع قادة الثورة سنة 1954م كان سيد قطب رحمه الله تعالى في مقدمة المعتقلين وحكم عليه بالسجن خمسة عشر عاما وتفرغ سيد رحمه الله تعالى في سجنه للدعوة؛ دعا بلسانه بين السجناء والجنود فكان يخطب فيهم العيدين والجمعة رغم مخالفة ذلك للتعليمات ودعا بقلمه فسطر أروع كتبه وأفضلها وأشهرها: في ظلال القرآن. ويشاء الله أن يكون هذا التفسير من أسباب خروجه من السجن فقد كتب له القبول بين المسلمين وحين زار الرئيس العراقي عبد السلام عارف مصر؛ وكان قد قرأ الظلال توسط عند الرئيس جمال عبد الناصر؛ لإخراجه من السجن بطلب من علماء العراق وصدر الأمر بالإفراج عنه أواخر عام 1964م، وعرض عليه عبد السلام عارف أن يسافر معه إلى العراق ووعده بمنصب كبير لكنه رحمه الله آثر البقاء في مصر.   1 سيد قطب الشهيد الحي: ص42 عن مجلة كلمة الحق التي نشر فيها الأستاذ العطار هذا الوصف "السنة الأولى العدد الثاني 1387 ص37-39". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 993 وخرج؛ ليواصل الدعوة ولكنهم في هذه المرة لم يمهلوه، فأعلنها جمال من عاصمة من عواصم الإلحاد، ونحمد الله أنها لم تعلن من عاصمة من عواصم الإسلام؛ أعلنها من موسكو. إن الإخوان المسلمين قد دبروا مؤامرة للاستيلاء على الحكم بالقوة؟! كان ذلك عام 1965م، فنشطت أجهزته في إلقاء القبض على الإخوان المسلمين وأصدقائهم ومعارفهم وأقاربهم ونسائهم وأطفالهم. وأقيمت المذابح ونصبت المشانق ولم يترددوا في الإعدام والحرق والتعذيب في أبشع ألوانه وأشكاله تحت آلات أعدت له دونها محاكم التفيش في أوربا. وشرف الله آل قطب، فسجن سيد وأخوه محمد، وأخواتهما الثلاث نفيسة -ولم يمنعهم سنها من ذلك فهي الشقيقة الكبرى لسيد- وأمينة، وحميدة وسجنوا أبناء أخته نفيسة حيث لقي أحدهما حتفه تحت التعذيب وسجنوا أيضا أولاد أخواله ولاقى هؤلاء جميعا من الأهوال ما لا يوصف ولا أدري لم ترد على خاطري كلما قرأت عن هذه الأسرة كلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لآل ياسر: "صبرا آل ياسر؛ موعدكم الجنة"1. كان سيد رحمه الله تعالى يحس هذه المرة إحساسا آخر كان يقول: "لقد عرفت أن الحكومة تريد رأسي هذه المرة"2، وصدق رحمه الله تعالى، فقد صدر الحكم بإعدامه مع اثنين من الإخوان المسلمين هما محمد يوسف هواش وعبد الفتاح إسماعيل. وقامت الاحتجاجات والمظاهرات في مختلف أرجاء العالم الإسلامي، وتوسطت كثير من الشخصيات، لكن الأمر في هذه المرة لا يقبل مثل هذا؛ ولذا فلم يقبل وساطة عبد الرحمن عارف كما قبل وساطة أخيه من قبل3. ولو لم يترك لنا التاريخ إلا تلك الكلمات التي قالها سيد باستعلاء المؤمن   1 السيرة النبوية: ابن هشام ج1 ص342. 2 الشهيد سيد قطب: جماعة أصدقاء الشهيد سيد قطب عن مجلة الأخبار الإسلامية الدولية. الباكستان عدد شهر اكتوبر 1966 ص56. 3 الشهيد سيد قطب: جماعة أصداء الشهيد سيد قطب ص104. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 994 وعزة المؤمن لكفى بها، كلمات تخط ليس بالذ هب كما يقولون وإنما بالنور نور الإيمان الذي لا ينطفئ ولا يحجب. قال حين طلب منه أن يقدم التماسا إلى جمال عبد الناصر بالعفو عنه ووعد بالإجابة سلفا إن فعل: "لماذا أسترحم؟ إن سجنت بحق، فأنا أرضى حكم الحق، وإن سجنت بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل"1. وقال: " ... إن أصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ليرفض أن يكتب حرفا يقر به حكم طاغية". وقال حين طلب منه الاعتذار، فيصدر العفو عنه: لن أعتذر عن العمل مع الله1؟!! وحين سئل عن صراحته في الإجابة على أسئلة المحكمة قال: "لأن التورية لا تجوز في العقيدة، وأنه ليس للقائد أن يأخذ بالرخص"1. وأمام هذا كله صدر الحكم بإعدامه؛ أتدرون ما قال عند سماعه للحكم قال: الحمد لله لقد عملت خمسة عشر عاما من أجل الحصول على هذه الشهادة. أتدرون ماذا يعني بالخمسة عشر عاما؟! تلكم فترة انضمامه إلى جماعة الإخوان المسلمين فهو منذ أن انضم إليهم وهو يجعل الشهادة نصب عينيه وأحسبه إن شاء الله قد نالها، فهنيئا له. فقد نفذ فيه حكمهم قبل بزوغ فجر يوم الاثنين 29/ 8/ 1966م الموافق 13 جمادى الأولى 1386هـ.   1 سيد قطب الشهيد الحي: صلاح الخالدي ص154. والحق أن التورية تجوز بل التصريح لمن أكره وقلبه مطئن، ولعل سيد قطب رحمه الله فسر في آخر كلمته ما أراد في أولها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 995 مؤلفاته: مؤلفاته كثيرة بارك الله فيها ونفع بها الإسلام والمسلمين وهي أيضا مشهورة ومعروفة ولا أظن ذكري لها هنا يزيد القارئ معلومة أو معرفة توازي قيمة الإطالة في الحديث، لكني مع هذا أذكر ما يتعلق منها بالقرآن الكريم، وهي ثلاثة: 1- التصوير الفني في القرآن. 2- مشاهد القيام في القرآن. 3- في ظلال القرآن. وأخيرا: أعتذر عن الإطالة في الترجمة، فما علمت أني قد أطلت إلا بعد أن رفعت القلم، ولو يعلم القارئ من نفسي ما أعلم لعرف أن كابدت في اختصارها إلى درجة لا تقبل بعدها اختصارًا، ولو علم أيضا تلك المؤلفات المطولة التي سطرها أصحابها عن حياة سيد قطب رحمه الله تعالى لعلم أني قد قصرت1 غفر   1 صدر عن سيد قطب رحمه الله تعالى عدد من المؤلفات منها: 1- العالم الرباني الشهيد سيد قطب: للأستاذ العشماوي أحمد سليمان. 2- سيد قطب: للأستاذ محمد توفيق بركات. 3- مع سيد قطب فكره السياسي والديني: للدكتور مهدي فضل الله. 4- سيد قطب وتراثه الأدبي الفكري: للأستاذ إبراهيم بن عبد الرحمن البليهي. 5- سيد قطب أو ثورة الفكر الإسلامي: للأستاذ محمد علي قطب. 6- الشهيد سيد قطب: مجموعة مقالات نشرت في الصحف جمعها بعض أصدقاء الشهيد سيد قطب. 7- سيد قطب الشهيد الحي: للأستاذ صلاح عبد الفتاح الخالدي وعلى هذا الكتاب اعتمدت في هذه الترجمة إلا ما أشرت إلى مرجعه. 8- رائد الفكر الإسلامي المعاصر الشهيد سيد قطب: للأستاذ يوسف العظم، وهناك رسائل عليا منها ما هو للدكتوراه مثل: في ظلال القرآن دراسة وتقويم للاستاذ صلاح عبد الفتاح جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ومثل: سيد قطب ناقدا للأستاذ أحمد البدوي جامعة الخرطوم، وسيد قطب والتصوير الفني في القرآن: صلاح عبد الفتاح "ماجيستير"، وسيد قطب الأديب الناقد: للأستاذ عبد الله الخباص "ماجيستير" الجامعة الأردنية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 996 الله لي ولكم ولسيد قطب وآله وإخوانه المسلمين وجمعنا في مستقر رحمته. إنه سميع مجيب. ثانيا- في ظلال القرآن: لهذا التفسير مزايا داخلية ومزايا خارجية؟ تسألون عن الخارجية فأقول: إنها مزايا شيقة أيضا وأعني بها تلك الأطوار التي مر بها هذا التفسير منذ أن سطرته أصابع صاحبه إلى أن طبع طبعاته الشرعية الأخيرة. وليس هذا مقام الكتابة عنه مفصلا حتى أتناول تلك المزايا، وقد كفانا مؤنة ذلك الأستاذ صلاح الخالدي في كتابه سيد قطب الشهيد الحي، ويكفي أن أقول هنا: إن هذا التفسير أول ما أشرقت شمسه وبرقت جواهره كان في كتاب آخر سماه "التصوير الفني في القرآن"، ثم بدا لصاحبه أن يعرض القرآن كله على ضوء ذلك. ثم ترجم هذه الأمنية ليس في كتاب بل في مجلة كان يصدرها سعيد رمضان واسمها "المسلمون" فكتب مقالات شهرية تحت عنوان "في ظلال القرآن" ونشر في المجلة سبع حلقات تولدت عنده بعدها عزيمة أخرى أن يقوم بتأليف تفسير كامل على هذا النهج ويصدره في كتاب مستقل في ثلاثين جزءا يظهر كل جزء خلال شهرين، ووفى رحمه الله بوعده بل كان أحيانا يصدر الجزء في أقل من شهرين وكفى أنه صدر ما بين أكتوبر 1952م وبين يناير 1954م "أي في سنة وأربعة أشهر" ستة عشر جزءا بمعدل جزء في كل شهر واحد. ودخل السجن وأصدر منه جزءين: السابع عشر والثامن عشر ثم خرج من السجن وعاد إليه أخرى فأصدر بقية الأجزاء ولم يكتفِ بذلك بل عاد ينقح الأجزاء الأولى ويطبعها منقحة فتضاعف حجمها إذ كان حجم الجزء منها يزيد على ضعف حجمه في الطبعة الأولى ووصل في التنقيح إلى الجزء العاشر. وأخرج من السجن، فواصل العمل وقام بتنقيح الأجزاء 11، 12، 13، ودخل السجن ثالثة، ولكن الطغاة هذه المرة لم يمهلوه بل أعدموه رحمه الله رحمةً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 997 واسعة، وطبع الكتاب بعد ذلك عدة طبعات من أهمها الطبعة اللبنانية في ثمانية مجلدات ضخمة ثم تولت طباعته بعد ذلك دار الشروق في ستة مجلدات وما زال يطبع كذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 998 منهجه في التفسير مدخل ... منهجه في التفسير: لا شك أن الحديث عن سيد قطب رحمه الله تعالى حديث تنصت له القلوب قبل الآذان؛ لا لأنه سيد قطب ولكن لأنه مثال الداعية الذي أبى أن يخضع لجبروت الطاغية، فباع حياته ثمنا للدفاع عن عقيدته، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا. أما الحديث عن تفسيره فلا تمله القلوب بل تميل إليه ولا تمله الأفئدة بل تهفو إليه، ليس من ناحية واحدة فيه بل من شتى نواحيه وحين تتحدث عن ناحية واحدة منها فإنك تجد من لسانك إطنابا ومن قلمك سيلا ومن تلك الناحية عطاءا ومددا لا تكلُّفَ فيه ولا زيادة. لست أقول هذا وقد جعلت حاجز المحبة بيني وبين الواقع ولكني أقوله بلسان هذا الواقع فقد صدر عن هذا التفسير كثير من الدراسات والأبحاث وما زال نبعها فيضا وما زال عطاؤها متجددا. وما دام الأمر كذلك فلا تطمعن مني في هذا المقام أن أصب لك البحر في كأس. ولا أكتمك حديثا أني وقفت حائرا على شاطئ هذا التفسير؛ أيَّ جواهره التقط وأيها أدع. عن أي درره أتحدث وعن أيها لا يسعني الحديث؟ هل أتحدث عن الأهداف الأساسية أو الأغراض الرئيسة فيه أو أتحدث عن معالم الجمال فيه؟ أو أقصر حديثي عن التفسير الفكري أو أبسطه في الحديث عن التفسير الحركي العملي عنده؟ أو أتكلم عن سماته أو عن مميزاته أو عن واقعيته، أو عن عرضه البياني المشرق أو عن طريقته الخاصة في التفسير أو موضوعيته. هذا قليل من المداخل الواسعة لدراسة تفسير "في ظلال القرآن" فهل ترون من حقي أن أكتب عن كل هذه المعالم؟ إذًا فالأمر يحتاج لا أقول لبحث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 998 مستقل بل لأبحاث وما دام الأمر كذلك فلا بد من قصر الحديث على الجانب الذي يواجه دراستنا هذه منها أعني الحديث عن أسس منهجه في التفسير دون سواه، وعذركم أيها الأحبة أن دخلت فيها مباشرة فقد قدمت العذر1.   1 للأستاذ صلاح دحبور دراسة واسعة قيمة قدمها لنيل درجة الدكتوراة عن "في ظلال القرآن" دراسة وتقويم، وقد استفدنا منها كثيرا في رسم معالم هذه الدراسة لهذا المنهج، وقد كنت أود أن أكتفي بدراسته هذه، لولا رغبتي بوفاء هذا الكتاب باتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر، كما ذكرت ذلك في منهج المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 999 الأساس الأول: الأسلوب الأدبي آتى الله سبحانه وتعالى سيد قطب رحمه الله تعالى موهبة أدبية رائعة وأسلوبا أدبيًّا ساميًا. لا يشك في ذلك اثنان وفي أنه استخدم هذه الموهبة في تفسيره خير استخدام، ولعل هذا من أسباب القبول الذي لقيه الكتاب بين المسلمين في عصرنا هذا. وقد انفرد سيد رحمه الله تعالى بهذا الأسلوب من بين كثير من المفسرين في القديم وفي الحديث، فلا تكاد مهما بلغ جهدك أن تجد أحدا يجاريه في أسلوبه الأدبي المميز، وإنك لتشعر إن كنت ممن يتذوقون الأساليب أن فيما يكتب سيد إشراقا وعذوبة وروحا، قلما تبدو فيما يكتبه الآخرون. ونحن نظلم تفسيره ونبخسه حقه إن اخترنا مثالا لذلك موهمين أن ما اخترنا هو المثل فكل تفسيره بلغ الرتبة، وكلها كانت له تلك المنزلة وحين نختار مثلا فليس لمزيد فضل فيه وإنما للتوضيح والبيان وضرب المثل فحسب. وإذا كان الأمر كذلك فهذا تفسيره لسورة الضحى أقتطف لك منه ما يوقفك على ما ذكرت. قال رحمه الله تعالى: "هذه السورة بموضوعها وتعبيرها ومشاهدها وظلالها، وإيقاعها، لمسة من حنان، ونسمة من رحمة، وطائف من ود، ويد حانية تمسح على الآلام والمواجع، وتنسم بالروح والرضى والأمل، وتسكب البرد والطمأنينية واليقين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 999 إنها كلها خالصة للنبي صلى الله عليه وسلم، كلها نجاء له من ربه، وتسرية وتسلية وترويح وتطمين كلها أنسام من الرحمة وأنداء من الود، وألطاف من القربى، وهدهدة للروح المتعب، والخاطر المقلق، والقلب الموجوع. ورد في روايات كثيرة أن الوحي فَتَرَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبطا عليه جبريل عليه السلام، فقال المشركون: وَدَّعَ محمدًا ربُّهُ! فأنزل الله تعالى هذه السورة. والوحي ولقاء جبريل والاتصال بالله، كانت هي زاد الرسول صلى الله عليه وسلم في مشقة الطريق وسقياه في هجير الجحود. وروحه في لأواء التكذيب، وكان صلى الله عليه وسلم يحيا بها في هذه الهاجرة المحرقة التي يعانيها في النفوس النافرة الشاردة العصية العنيدة، ويعانيها في المكر والكيد والأذى المصبوب على الدعوة، وعلى الإيمان، وعلى الهدى من طغاة المشركين. فلما فتر الوحي انقطع عنه الزاد، وانحبس عنه الينبوع، واستوحش قلبه من الحبيب. وبقي للهاجرة وحده بلا زاد وبلا ري وبغير ما اعتاد من رائحة الحبيب الودود، وهو أمر أشد من الاحتمال من جميع الوجوه. عندئذ نزلت هذه السورة، نزل هذا الفيض من الود والحب والرحمة والإيناس والقربى والأمل والرضى والطمأنينية واليقين. {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى، وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} . ما تركك ربك من قبل أبدا، وما قلاك من قبل قط، وما أخلاك من رحمته ورعايته وإيوائه. {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} . ألا تجد مصداق هذا في حياتك؟ ألا تحس مس هذا في قلبك؟ ألا ترى أثر هذا في واقعك؟ لا. لا. {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} وما انقطع عنك بره وما ينقطع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1000 أبدا {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} وهناك ما هو أكثر وأوفى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} . ومع هذه الأنسام اللطيفة من حقيقة الأمر وروحه.. الأنسام اللطيفة في العبارة والإيقاع وفي الإطار الكوني الذي وضعت فيه هذه الحقيقة: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} . "لقد أطلق التعبير جوا من الحنان اللطيف، والرحمة الوديعة والرضى الشامل، والشجى الشفيف: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى، وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى، أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} . ذلك الحنان وتلك الرحمة وذاك الرضى وهذا الشجى: تنسرب كلها من خلال النظم اللطيف العبارة، الرقيق اللفظ، ومن هذه الموسيقى السارية في التعبير الموسيقي الرتيبة الحركات، الوئيدة الخطوات، الرقيقة الأصداء، الشجية الإيقاع، فلما أراد إطارًا لهذا الحنان اللطيف، ولهذه الرحمة الوديعة، ولهذا الرضى الشامل، ولهذا الشجى الشفيف، جعل الإطار من الضحى الرائق، ومن الليل الساجي. أصفى آنين من آونة الليل والنهار. وأشف آنين تسري فيهما التأملات وتتصل الروح بالوجود وخالق الوجود وتحس بعبادة الكون كله لمبدعه، وتوجهه لبارئه بالتسبيح والفرح والصفاء، وصورهما في اللفظ المناسب فالليل هو: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} ، لا الليل على إطلاقه بوحشته وظلامه.. الليل الساجي الذي يرق ويسكن ويصفو، وتغشاه سحابة رقيقة من الشجى الشفيف والتأمل الوديع. كجو اليتم والعيلة. ثم ينكشف ويجلى مع الحى الرائق الصافي فتلتئم ألوان الصورة مع ألوان الإطار ويتم التناسق والاتساق". إن هذا الإبداع في كمال الجمال ليدل على الصنعة؛ صنعة الله التي لا تماثلها صنعة، ولا يتلبس بها تقليد! 1.   1 في ظلال القرآن: ج6 ص3925-3926. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1001 ومثل هذا الأسلوب تراه واضحا جليا عند تفسيره رحمه الله لقوله سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1، قال: إن هذا النص ليشير إشارة سريعة إلى حالة تعجز الكلمات عن تصويرها، كما يعجز الإدراك عن تصويرها بكل حقيقتها؛ ذلك حين يعد الموعودين السعداء بحالة من السعادة لا تشبهها حالة. حتى لتتضاءل إلى جوارها الجنة بكل ما فيها من ألوان النعيم!. هذه الوجوه الناضرة، نضَّرَهَا أنها إلى ربها ناظرة. إلى ربها؟! فأي مستوى من الرفعة هذا؟ أي مستوى من السعادة؟ إن روح الإنسان لتستمتع أحيانا بلمحة من جمال الإبداع الإلهي في الكون أو النفس، تراها في الليلة القمراء، أو الليل الساجي أو الفجر الوليد، أو الظل المديد، أو البحر العباب، أو الصحراء المنسابة، أو الروض البهيج، أو الطلعة البهية، أو القلب النبيل، أو الإيمان الواثق، أو الصبر الجميل إلى آخر مطالع الجمال في هذا الوجود، فتغمرها النشوة، وتفيض بالسعادة، وترف بأجنحة من نور عوالم مجنحة طليقة، وتتوارى عنها أشواك الحياة، وما فيها من ألم وقبح، وثقلة طين وعرامة لحم ودم، وصراع شهوات وأهواء. فكيف؟ كيف بها وهي تنظر؛ لا إلى جمال صنع الله، ولكن إلى جمال ذات الله؟ ألا إنه مقام يحتاج أولا إلى مد من الله. ويحتاج ثانيا إلى تثبيت من الله. ليملك الإنسان نفسه، فيثبت، ويستمتع بالسعادة التي لا يحيط بها وصف، ولا يتصور حقيقتها إدراك! {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . وما لها لا تتنضر وهي إلى جمال ربها تنظر؟   1 سورة القيامة: الآية 22-23. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1002 إن الإنسان لينظر إلى شيء من صنع الله في الأرض؛ من طلعة بهية، أو زهرة ندية، أو جناح رفاف، أو روح نبيل، أو فعل جميل. فإذا السعادة تفيض من قلبه على ملامحه، فيبدو فيها الوضاءة والنضارة. فكيف بها حين تنظر إلى جمال الكمال مطلقا من كل ما في الوجود من شواغل عن السعادة بالجمال؟ فما تبلغ الكينونة الإنسانية ذلك المقام، إلا وقد خلصت من كل شائبة تصدرها عن بلوغ ذلك المرتقى الذي يعز على الخيال! كل شائبة لا فيما حولها فقط، ولكن فيها هي ذاتها من دواعي النقص والحاجة إلى شيء ما سوى النظر إلى الله. فأما كيف تنظر؟ وبأي جارحة تنظر؟ وبأي وسيلة تنظر؟ فذلك حديث لا يخطر على قلب يمسه طائف من الفرح الذي يطلقه النص القرآني في القلب المؤمن، والسعادة التي يفيضها على الروح، والتشوف والتطلع والانطلاق! فما بال أناس يحرمون أرواحهم أن تعانق هذا النور الفائض بالفرح والسعادة؟ ويشغلونها بالجدل حول مطلق لا تدركه العقول المقيدة بمألوفات العقل ومقرراته؟! إن ارتقاء الكينونة الإنسانية وانطلاقها من قيود هذه الكينونة الأرضية المحدودة، هو فقط مَحَطُّ الرجاء في التقائها بالحقيقة الطليقة يومذاك. وقبل هذا الانطلاق سيعز عليها أن تتصور -مجرد تصور- كيف يكون ذلك اللقاء1. وإن شئت أن تحلق مع سيد قطب رحمه الله تعالى في سماء الإبداع الأدبي وفضاء الألفاظ العذبة فاستمع أو اقرأ تفسير لقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} 2، حيث يقول: ومشهد النجوم في السماء جميل ما في هذا شك جميل جمالا يأخذ بالقلوب وهو جمال متجدد تتعدد ألوانه بتعدد أوقاته، ويختلف من صباح إلى   1 في ظلال القرآن: ج6 ص3770-3771. 2 سورة الملك: الآية 5. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1003 مساء، ومن شروق إلى غروب، ومن الليلة القمراء إلى الليلة الظلماء. ومن مشهد الصفاء إلى مشهد الضباب والسحاب. بل إنه ليختلف من ساعة لساعة ومن مرصد لمرصد ومن زاوية لزاوية، وكله جمال، وكله يأخذ بالألباب. هذه النجمة الفريدة التي توصوص هنا، وكأنها عين جميلة، تلتمع بالمحبة والنداء!. وهاتان النجمتان المنفردتان هناك، وقد خلصتا من الزحام تتناجيان!. وهذه المجموعات المتضامة المتناثرة هنا وهناك، وكأنها في حلقة سمر في مهرجان السماء وهي تجتمع وتفترق كأنها رفاق ليلة في مهرجان!. وهذا القمر الحالم الساهي ليلة والزاهي المزهو ليلة، والمنكسر الخفيض ليلة. والوليد المتفتح للحياة ليلة، والفاني الذي يدلف للفناء ليلة!. وهذا الفضاء الوسيع الذي لا يمل البصر امتداده، ولا يبلغ البصر آماده. إنه الجمال، الجمال الذي يملك الإنسان أن يعيشه ويتملاه، ولكن لا يجد له وصفا فيما يملك من الألفاظ والعبارات"1. واقرأ إن شئت تفسيره لقوله تعالى: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} 2، حيث يقول: "تبصرة تكشف الحجب، وتنير البصيرة وتفتح القلوب وتصل الأرواح بهذا الكون العجيب وما وراءه من إبداع وحكمة وترتيب، تبصرة ينتفع بها كل عبد منيب، يرجع إلى ربه من قريب. وهذه هي الوصلة بين القلب البشري وإيقاعات هذا الكون الهائل الجميل، هذه هي الوصلة التي تجعل للنظر في كتاب الكون والتعرف إليه أثر في القلب البشري، وقيمة في الحياة البشرية"3 ... إلخ.   1 في ظلال القرآن: ج6 ص3633-3634. 2 سورة ق: 8. 3 في ظلال القرآن: ج6 ص3359. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1004 بهذا الأسلوب الذي يأخذ بالألباب كان سيد يعرض معاني الآيات القرآنية، وبهذه الألفاظ الأدبية والمعاني البليغة كان يفسرها حتى كان بحق التفسير الأدبي المميز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1005 الأساس الثاني: تذوق النص القرآني ونقصد بهذا معنى دقيقا يشعر به كل من يواجه النصوص القرآنية ابتداء، وينسكب في حسه بمجرد الاستماع لهذا القرآن وقد يستطيع أن يترجمه إلى كلمات وقد لا يستطيع، فيبدو على قسمات وجهه عجبا ودهشة لروعة القرآن يسمى هذا تذوقا للنص ويسميه آخرون انطباعًا ذاتيًّا. واسمع إلى سيد قطب رحمه الله تعالى يقول: "إن في هذا القرآن سرًّا خاصًّا يشعر به كل من يواجه نصوصه ابتداء. قبل أن يبحث عن مواضع الإعجاز فيها إنه يشعر بسلطان خاص في عبارات هذا القرآن. يشعر أن هنالك شيئا ما وراء المعاني التي يدركها العقل من التعبير. وأن هنالك عنصرا ما ينسكب في الحس بمجرد الاستماع لهذا القرآن، يدركه بعض الناس واضحا ويدركه بعض الناس غامضا، ولكنه على كل حال موجود هذا العنصر الذي ينسكب في الحس يصعب تحديد مصدره: أهو العبارة ذاتها؟ أهو المعنى الكامن فيها؟ أهو الصور والظلال التي تشعها؟ أهو الإيقاع القرآني الخاص المتميز من إيقاع سائر القول المصوغ من اللغة؟ أهي هذه العناصر كلها مجتمعة؟ أم أنها هي وشيء آخر وراءها غير محدود؟! ذلك سر مودع في كل نص قرآني يشعر به كل من يواجه نصوص هذا القرآن ابتداء، ثم تأتي وراءه الأسرار المدركة بالتدبر والنظر والتفكير في بناء القرآن كله"1. ولعلك تدرك مكانة هذا السر عند سيد إذا علمت أن الأسرار المدركة بالتدبر والنظر ... إلخ، تأتي وراءه.   1 في ظلال القرآن: ج6 ص3399. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1005 ولقد اعترف رحمه الله تعالى في موضع آخر أنه من المحال عليه أن يترجم إيقاع القرآن الكريم في حسه بالألفاظ والتعبيرات فيقول: "إن إيقاع هذا القرآن المباشر في حسي محال أن أترجمه في ألفاظي وتعبيراتي ومن ثم أحس دائما بالفجوة الهائلة بين ما أستشعره منه وما أترجمه للناس في هذه الظلال1!. وهذا هو ما يطلق عليه الأدباء: الصلة بين القيم الشعورية والقيم التعبيرية في العمل الأدبي؛ أما كيف يعبر الأديب بالألفاظ للدلالة على تجاربه الشعورية الكامنة فيرى سيد قطب رحمه الله تعالى: "أن الانفعال بالتجربة الشعورية يسبق التعبير عنها وفي بعض الحالات يكون هذا الانفعال من التوهج والحرارة والإشراق بحيث يغمر إحساس الأديب ويجعله في شبه نشوة أو في نصف غيبوبة. وأغلب ما تصيب هذه الحالة الشعراء، وقد يُتِمُّ الشاعر عمله في هذه الحالة الفذة، ثم يراجعه فيعجب لنفسه كيف واتته القدرة على صوغ هذه العبارات. وقد يقف أمام بعضها معجبا متعجبا كما لو كان يشهدها أول مرة؛ لأنه لم يتنبه لها كل التنبه في أول مرة وقد عانيت بنفسي حالات من هذا النوع كثيرة وأنا أكتب "التصوير الفني في القرآن" وكذلك وأنا أكتب "في ظلال القرآن" في بعض الأحيان"2. ولكنه أحيانا ينفعل مع النص ويحس به يملأ مشاعره ومع هذا لا يستطيع أن يعبر عنها تعبيرا كافيا. خذ مثلا لذلك ما قاله في تفسير قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض} 3 الآيات، قال: إنهم جماعة خاصة ذات طبيعة خاصة، وإن كانوا بشرا من البشر فمن هم؟ وما الرسالة؟ ما طبيعتها؟ كيف تتم؟ لماذا كان هؤلاء وحدهم رسلا؟ وبماذا؟ أسئلة طالما أشفقت أن أبحث لها عن جواب! إن حسي ليفعم بمشاعر ومعانٍ لا أجد لها كفاء من العبارات ولكن لا بد من تقريب المشاعر والمعاني بالعبارات"4.   1 في ظلال القرآن ج4 ص2038. 2 النقد الأدبي: سيد قطب ص42-43 باختصار. 3 سورة البقرة: 253. 4 في ظلال القرآن: ج1 ص278. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1006 كان رحمه الله تعالى يتفاعل مع النص القرآني تفاعلا يجلو له كثيرا من المعاني ويوضح له حقيقة بعض الأحداث والوقائع. خذ مثلا لذلك ما قاله في تفسير قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} 1، فقد سأل عن سبب سجود المشركين عند سماعها وأجاب على ذلك. "لقد بقيت فترة أبحث عن السبب الممكن لهذا السجود. ويخطر لي احتمال أنه لم يقع، وإنما هي رواية ذكرت لتعليل عودة المهاجرين من الحبشة بعد نحو شهرين أو ثلاثة وهو أمر يحتاج إلى التعليل. وبينما أنا كذلك وقعت لي تلك التجربة الشعورية الخاصة التي أشرت إليها من قبل. كنت بين رفقة نسمر حينما طرق أسماعنا صوت قارئ للقرآن من قريب، يتلو سورة النجم. فانقطع بيننا الحديث لنستمع وننصت للقرآن الكريم وكان صوت القارئ مؤثرا وهو يرتل القرآن ترتيلا حسنا. وشيئا فشيئا عشت معه فيما يتلوه. عشت مع قلب محمد صلى الله عليه وسلم في رحلته إلى الملأ الأعلى. عشت معه وهو يشهد جبريل عليه السلام في صورته الملائكية التي خلقه الله عليها. ذلك الحادث العجيب المدهش حين يتدبره الإنسان ويحاول تخيله! وعشت معه وهو في رحلته العلوية الطليقة. عند سدرة المنتهى، وجنة المأوى. عشت معه بقدر ما يسعفني خيالي وتحلق بي رؤاي، وبقدر ما تطيق مشاعري وأحاسيسي. وتابعته في الإحساس بتهافت أساطير المشركين حول الملائكة وعبادتها وبنوتها وأنوثتها إلى آخر هذه الأوهام الخَرِفَة المضحكة، التي تتهاوى عند اللمسة الأولى. ووقفت أمام الكائن البشري ينشأ من الأرض، وأمام الأجنة في بطون الأمهات. وعلم الله يتابعها ويحيط بها.   1 سورة النجم: 62. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1007 وارتجف كياني تحت وقع اللمسات المتتابعة في المقطع الأخير من السورة: الغيب المحجوب لا يراه إلا الله والعمل المكتوب لا يند ولا يغيب عن الحساب والجزاء والمنتهى إلى الله في نهاية كل طريق يسلكه العبيد والحشود الضاحكة والحشود الباكية وحشود الموتى وحشود الأحياء، والنطفة تهتدي في الظلمات إلى طريقها، وتخطو خطواتها وتبرز أسرارها فإذا هي ذَكر أو أنثى. والنشأة الأخرى ومصارع الغابرين والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى! واستمعت إلى صوت النذير الأخير قبل الكارثة الداهمة: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى، أَزِفَتِ الْآزِفَةُ، لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} . ثم جاءت الصيحة الأخيرة واهتز كياني كله أمام التبكيت الرعيب: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ، وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ، وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} ؟ فلما سمعت: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} كانت الرجفة قد سرت من قلبي حقا إلى أوصالي واستحالت رجفة عضلية مادية ذات مظهر مادي. لم أملك مقاومته فظل جسمي كله يختلج، ولا أتمالك أن أثبته، ولا أن أكفكف دموعا هاتنة، لا أملك احتباسها مع الجهد والمحاولة! وأدركت في هذه اللحظة أن حادث السجود صحيح، وأن تعليله قريب. إنه كامن في ذلك السلطان العجيب لهذا القرآن ولهذه الإيقاعات المزلزلة في سياق هذه السورة ولم تكن هذه أول مرة أقرأ فيها سورة النجم أو أسمعها، ولكنها في هذه المرة كان لها هذا الوقع، وكانت مني هذه الاستجابة وذلك سر القرآن، فهناك لحظات خاصة موعودة غير مرقوبة تمس الآية أو السورة فيها موضع الاستجابة، وتقع اللمسة التي تصل القلب بمصدر القوة فيها والتأثير؛ فيكون منها ما يكون! لحظة كهذه مست قلوب الحاضرين يومها جميعا ومحمد صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه السورة، يقرؤها بكيانه كله ويعيش في صورها التي عاشها من قبل بشخصه وتنصب كل هذه القوة الكامنة في السورة من خلال صوت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1008 محمد صلى الله عليه وسلم في أعصاب السامعين فيرتجفون ويسمعون: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} ، ويسجد محمد والمسلمون فيسجدون1. وقد يقرأ سيد رحمه الله تعالى النص ويكرر قراءته مرات عديدة لكنه في كل هذه المرات لا يفهم النص كما يفهمه إذا تذوقه وإذا تفاعل معه، واقرأ تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} 2. قال: "هذا النص الذي تلوته من قبل وسمعته ما لا أستطيع عده من المرات. وفي أثناء حفظي للقرآن وفي أثناء تلاوته، وفي أثناء دراسته بعد ذلك في أكثر من ربع قرن من الزمان هذا النص، حين واجهته في "الظلال" أحست أني أدرك منه ما لم أدركه من قبل في المرات التي لا أملك عدها على مدى ذلك الزمان"3، ثم ذهب رحمه الله تعالى يجلو هذه المفاهيم التي لم يكن ليصل إليها لو لم يتفاعل مع النص ويتذوقه التذوق الحق. وتذوق النص والتفاعل معه لا يكون نتاجه الفهم الدقيق للمعاني، بل يظهر أثره على الجسد، فقد يبكي ويسجد كما فعل في آخر سورة النجم وقد يقشعر جسده حين يقرأ قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} 4. قال رحمه الله تعالى: "ما قرأت هذه الآية والآية الأخرى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} 5، ما قرأت هذه الآية أو تلك إلا وشعرت بقشعريرة من تصور الهول الذي يبلغ بالرسول هذا المبلغ. ومن تصور الهول الكامن في هذه الهواجس والكرب المزلزل الذي يرج   1 في ظلال القرآن: ج6 ص3420-3421. 2 سورة التوبة: 111. 3 في ظلال القرآن: ج3 ص1716. 4 سورة يوسف: 110. 5 سورة البقرة: 214. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1009 نفس الرسول هذه الرجة وحالته النفسية في مثل هذه اللحظات، وما يحس به من ألم لا يطاق"1. وأخيرا اقرأ ما جاء في مقدمته لتفسير سورة الأنعام قال رحمه الله تعالى: "وهذه السورة -مع ذلك- تعالج موضوعها الأساسي بصورة فريدة، إنها في كل لمحة منها وفي كل موقف وفي كل مشهد تمثل الروعة الباهرة، الروعة التي تبده النفس، وتشده الحس، وتبهر النفس أيضا وهو يلاحق مشاهدها وإيقاعها وموحياتها مبهورا! نعم هذه حقيقة! حقيقة أجدها في نفسي وحسي وأنا أتابع سياق السورة ومشاهدها وإيقاعاتها"، إلى أن قال: "والحياة في جو القرآن لا تعني مدارسة القرآن وقراءته والاطلاع على علومه. إن هذا ليس "جو القرآن" الذي نعنيه؛ إن الذي نعنيه بالحياة في جو القرآن أن يعيش الإنسان في جو وفي ظروف وفي حركة وفي معاناة وفي صراع وفي اهتمامات كالتي كان ينزل فيها هذا القرآن، هذا هو الجو القرآني الذي يمكن أن يعيش فيه الإنسان فيتذوق هذا القرآن، فهو في مثل هذا الجو نزل، وفي مثل هذا الخضم عمل والذين لا يعيشون في مثل هذا الجو معزولون عن القرآن مهما استغرقوا في مدارسته وقراءته والاطلاع على علومه والمحاولة التي نبذلها لإقامة القنطرة بين المخلصين من هؤلاء وبين القرآن ليست بالغة شيئا إلا بعد أن يجتاز هؤلاء القنطرة ويصلوا إلى المنطقة الأخرى، ويحاولوا أن يعيشوا في جو القرآن حقا بالعمل والحركة، وعندئذ فقط سيتذوقون هذا القرآن ويتمتعون بهذه النعمة التي ينعم الله بها على من يشاء"2. عفوا أيها الأحبة هل ينكر أحد بعد ذلك أثر التذوق القرآني في التفسير؟ وهذا سيد قطب رحمه الله تعالى يعلن مرارا أنه قرأ كثيرا من الآيات لكنه لم يدرك في كل قراءاته السابقة ما أدركه بعد ما عاش في الجو القرآن وتذوق القرآن.   1 في ظلال القرآن: ج4 ص2036. 2 في ظلال القرآن: ج ص1015-1017 باختصار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1010 كان يتضح لسيد بعد ذلك كثير من المعاني وكثير من الأحداث التي استعصى عليه فهمها من قبل، وبهذا تميز تفسيره رحمه الله تعالى عن كثير من التفاسير المعاصرة والقديمة التي كانت تعني بالنص، بالنص وحده، من غير أن تعيش في جوه، ومن غير أن تتفاعل معه فيتولد العطاء. حقا إن هذا الأساس ميزة من مزايا تفسيره لا يعرف أثره ولا يدرك ما يفتح من المعاني إلا من قرأ في ظلال القرآن فليقرأه من لم يفعل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1011 الأساس الثالث: الحركية ... الأساس الثالث: الواقعية الحركية يتميز "في ظلال القرآن" أن صاحبه لم يكتبه مرة واحدة، بل كتبه مرة تحت ظلال المنبر ومرة تحت ظلال السيوف كتبه مرة بمداد قلمه وأخرى بدماء قلبه!! قلت فيما سبق أن سيدا رحمه الله تعالى أصدر من الظلال ستة عشر جزءا ومن السجن أصدر باقية من أول أجزائه إلى الجزء السابع والعشرين منها، ثم وفقه الله إلى إدراك سمة من سمات هذا الدين وخصيصة من خصائصه واكتشف المنهج الحركي للقرآن الكريم، فالتزمه في الجزاء الأربعة الأخيرة ورأى أنه لا بد من إعادة النظر فيما كتب، وأن ينطلق في ذلك من إدراكه الجديد وقد كان له ذلك من الجزء الأول إلى نهاية الجزء الثالث عشر وأوائل الرابع عشر، ثم عاجله الطغاة. وما ظنكم أيها الأحبة في قاعدة دعته إلى أن يعيد كتابة تفسيره من أوله وأن يكتبه من جديد. إنها وربي لقاعدة هامة ولأساس متين، بل وكيف نسمح لأنفسنا باستكشاف منزلتها وسيد نفسه قد بين ذلك، حيث يقول: "ونحن نؤكد على هذه السمة في هذا القرآن سمة الواقعية الحركية؛ لأنها في نظرنا مفتاح التعامل مع هذا الكتاب وفهمه وفقهه وإدراك مراميه وأهدافه. إنه لا بد من استصحاب الأحوال والملابسات والظروف والحاجات والمقتضيات الواقعية العملية التي صاحبت نزول النص القرآني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1011 لا بد من هذا لإدراك وجهة النص وأبعاد مدلولاته، ولرؤية حيويته وهو يعمل في وسط حي، ويواجه حالة واقعة، كما يواجه أحياء يتحركون معه أو ضده وهذه الرؤية ضرورية لفقه أحكامه وتذوقها، كما هي ضرورية للانتفاع بتوجيهاته كلما تكررت تلك الظروف والملابسات في فترة تاريخية تالية، وعلى الأخص فيما يواجهنا اليوم، ونحن نستأنف الدعوة الإسلامية. نقول هذه المقالة ونحن على يقين أنه لن يرى هذه الرؤية اليوم إلا الذين يتحركون فعلا بهذا الدين في مواجهة الجاهلية الحاضرة، ومن ثم يواجهون أحوالا وملابسات وظروفا وأحداثا كالتي كان يواجهها صاحب الدعوة الأولى صلوات الله وسلامه عليه، والعصبة المسلمة معه من الإعراض والتولي عن هذا الدين في حقيقته الكبيرة الشاملة، التي لا تتحقق إلا بالدينونة الكاملة لله وحده في كل شأن من شئون الحياة الاعتقادية والأخلاقية والتعبدية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وما يلقونه كذلك من الإيذاء والمطاردة والتعذيب والتقتيل كالذي كانت تلك العصبة المختارة الأولى تُبتلى في سبيل الله به. إن هؤلاء الذين يتحركون بهذا الدين في مواجهة الجاهلية ويواجهون به مما كانت تواجهه الجماعة المسلمة الأولى هم وحدهم الذين يرون تلك الرؤية وهم وحدهم الذين يفقهون هذا القرآن، ويدركون الأبعاد الحقيقية لمدلولات نصوصه على النحو الذي أسلفنا، وهم وحدهم الذين يملكون استنباط فقه الحركة الذي لا يغني عنه فقه الأوراق في مواجهة الحياة المتحركة التي لا تكف عن الحركة"1. وكثيرا ما يؤكد رحمه الله تعالى على هذا المنهج في التعامل مع النص القرآني يقول: "ومرة أخرى نجد أن هذا القرآن لا يكشف عن أسراره إلا للذين يخوضون به المعركة ويجاهدون به جهادا كبيرا، إن هؤلاء وحدهم هم الذين يعيشون في مثل الجو الذي تنزل فيه القرآن، ومن ثم يتذوقونه ويدركونه؛ لأنهم   1 في ظلال القرآن: ج4 ص2122. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1012 يجدون أنفسهم مخاطبين خطابا مباشرا به ما خوطبت به الجماعة المسلمة الأولى، فتذوقته وأدركته وتحركت به"1. ويؤكد رحمه الله تعالى أن القرآن كان دائما في المعركة؛ سواء أكان ميدانها القلوب بين تصورات الجاهلية وتصورات الإسلام أو كان الجو الخارجي بين الجماعة المسلمة وأعدائها، ويؤكد أن تلك المعركة ما تزال قائمة؛ فالنفس البشرية هي النفس البشرية وأعداء الأمة المسلمة هم أعداؤها والقرآن حاضر وبيَّن أنه لا نجاة للنفس البشرية ولا للأمة المسلمة إلا بإدخال هذا القرآن في المعركة؛ ليخوضها حية كاملة كما خاضها أول مرة وأنه لا فلاح ولا نجاح ما لم يستيقن المسلمون بهذه الحقيقة2. ويصف القرآن بأنه كائن حي متحرك يعمل ويتحرك في وسط الجماعة المسلمة ويواجه حالات واقعة، فيدفع هذه ويقر هذه ويدفع الجماعة المسلمة ويوجهها فهو في عمل دائب وفي حركة دائرة إنه في ميدان المعركة وفي ميدان الحياة وهو العنصر الدافع المحرك الموجه في الميدان3. وكما أن تذوق النص القرآني وتعاطف القلب معه له أثره في فهمه فإن الظروف والأحداث الواقعة تطلق الطاقة المكنونة في النص وهذا سيد رحمه الله تعالى يقرر هذا بقوله: "إن القرآن ليس كتابا للتلاوة ولا للثقافة. وكفى إنما هو رصيد من الحيوية الدافعةن وإيحاء متجدد في المواقف والحوادث! ونصوصه مهيأة للعمل في كل لحظة، متى وجد القلب الذي يتعاطف معه ويتجاوب، ووجد الظرف الذي يطلق الطاقة المكنونة في تلك النصوص ذات السر العجيب"4. وما قاله رحمه الله تعالى في التذوق وأثره وأنه يقرأ النص عدة مرات   1 في ظلال القرآن: ج4 ص1894. 2 في ظلال القرآن: ج1 ص180. 3 في ظلال القرآن: ج1 ص304-305. 4 في ظلال القرآن: ج5 ص2836. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1013 فلا يعرف منه ما يعرف إلا إذا تفاعل مع النص وتذوقه فإنه يقول هنا أيضا: "وإن الإنسان ليقرأ النص القرآني مئات المرات ثم يقف الموقف، أو يواجه الحادث، فإذا النص القرآني جديد، يوحي إليه بما لم يوح من قبل قط ويجيب على السؤال الحائر، ويفتي في المشكلة المعقدة، ويكشف الطريق الخافي، ويرسم الاتجاه القاصد، ويفيء بالقلب إلى اليقين الجازم في الأمر الذي يواجهه وإلى الاطمئنان العميق وليس ذلك لغير القرآن في قديم ولا حديث"1. وإذا كانت الواقعية الحركية سمة من سمات هذا القرآن لها الأثر الكبير في تفسيره وجلاء معانيه فإنها سمة من سمات الدين كله، وهذا سيد قطب -رحمه الله تعالى- يجلو لنا ذلك بقوله: "والسمة الثانية في منهج هذا الدين هي الواقعية الحركية فهو حركة ذات مراحل. كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتا الواقعية وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها. فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة. كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة والذين يسوقون النصوص القرآنية للاستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد ولا يراعون هذه السمة فيه، ولا يدر كون طبيعة المراحل التي مر بها هذا المنهج، وعلاقة النصوص المختلفة بكل مرحلة منها، الذين يصنعون هذا يخلطون خلطا شديدا ويلبسون منهج هذا الدين لبسا مضللا ويحملون النصوص ما لا تحتمله من المبادئ والقواعد النهائية؛ ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لو كان نصا نهائيا يمثل القواعد النهائية في هذا الدين ويقولون -وهم مهزومون روحيا وعقليا تحت ضغط الواقع اليائع لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان: إن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع! ويحسبون أنهم يُسْدون إلى هذا الدين جميلا بتخليه عن منهجه وهو إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعا، وتعبيد الناس لله وحده وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد! لا بقهرهم على اعتناق عقيدته ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة بعد تحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة، أو قهرها حتى تدفع   1 المرجع السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1014 الجزية وتعلن استسلامها والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة تعتنقها أو لا تعنقها بكامل حريتها"1. ويبقى سؤال أو سؤالان عن الواقعية واقعية من؟ والحركية في مواجهة من؟ ويجيب سيد رحمه الله تعالى على هذا بقوله: "وإذا كان "البيان" يواجه العقائد والتصورات، فإن "الحركة" تواجه العقبات المادية الأخرى -وفي مقدمتها السلطان السياسي القائم على العوامل الاعتقادية التصورية، والعنصرية والطبقية والاجتماعية والاقتصادية المعقدة المتشابكة. وهما معا -البيان والحركة- يواجهان "الواقع البشري" بجملتهن بوسائل مكافئة لكل مكوناته وهما معا لا بد منهما لانطلاق حركة التحرير للإنسان في الأرض "الإنسان" كله في "الأرض" كلها، وهذه نقطة هامة لا بد من تقريرها مرة أخرى2. ثم وجه سيد رحمه الله تعالى دعوة أشعر من حيث لا أدري بأنه يعتصرها من سويداء قلبه دعانا فيها نحن معشر المسلمين المعاصرين إلى إزالة الفجوة العميقة بيننا وبين القرآن وإلى إزالة الحاجب السميك بيننا وبين القرآن، وسيظل هذا وذاك طالما نحن نتلوه أو نسمعه كأنه مجرد تراتيل تعبدية مهومة لا علاقة لها بواقعيات الحياة البشرية اليومية التي تواجه الإنسان، والتي تواجه هذه الأمة بينما هذه الآيات نزلت لتواجه نفوسا ووقائع وأحداثا حية، ذات كينونة واقعية حية ووجهت بالفعل تلك النفوس والوقائع والأحداث توجيها واقعيًّا حيًّا، نشأ عنه وجود ذو خصائص في حياة الإنسان، بصفة عامة وفي حياة الأمة المسلمة بوجه خاص. ومن هنا فإن سيدا رحمه الله دعا هذه الأمة أن تتعامل مع القرآن كما تعاملت معه الأمة التي خاض بها معركة كبرى حولت تاريخها وتاريخ البشرية   1 في ظلال القرآن: ج3 ص1432-1433. 2 في ظلال القرآن: ج3 ص1434. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1015 كلها معها، وإن القرآن يملك أن يوجه الحياة الحاضرة وكأنما هو يتنزل اللحظة لمواجهتها في شئونها الجارية وفي صراعها الراهن مع الجاهلية من حولها بنفس الحيوية ونفس الواقعية التي كانت له هناك يومذاك1. وأنظر إلى الجباه فأكاد أقرأ في قسماتها سؤالا وأنظر إلى الشفاه، فأكاد أسمعه عن الواقعية والحركية هذه.. أقرأ هناك وأسمع هنا نقدا مختفيا في سؤال.. قرأنا ما كتبت عنهما في الصفحات السابقة لكنا نراك مرة تنقل نصًّا لسيد رحمه الله تعالى يجعل الواقعية والحركية سمة من سمات الدين ونراك أنت تجعلها سمة من سمات تفسيره فهل هذا تناقض منك؟ أو هل بينهما من صلة؟ وأقول جوابا: نعم إن بينهما صلة؛ صلة الفرع بالأصل فالواقعية والحركية في الدين ولَّدتا عند سيد قطب رحمه الله تعالى التزامهما في تفسيره، فجاء تفسيره التزاما لمنهج الدين فيهما. وإن شئت بعد هذا أن تلمسهما في تفسيره فاعلم أنهما أكثر ما يكونان فيه بل إن الواقعية عنده قد تولد عنهما قواعد أخرى برزت وعظمت حتى انفصلت. ومن أغراض القرآن الأساسية ومنهجه الحركي انطلق سيد قطب -رحمه الله تعالى- لبناء منهجه الحركي التربوي وصارت الحركية والعمل والتفاعل مع النص المحوَّر الذي يدور عليه تفسيره، فلا ثمرة لترديد ألفاظ القرآن أو ترتيله تراتيل مهومة ما لم يتحول ذلك إلى قوة دافعة وإلى طاقة محركة تقود الإنسان وينقاد لها. ونظرة عجلى لتفسير سيد قطب رحمه الله تعالى تظهر بلا شك أن وقفات سيد ونظراته وأفكاره ومناقشاته وعرضه وبيانه كلها تتحقق فيها الواقعية الجدية.   1 في ظلال القرآن: ج1 ص348 بتصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1016 وتبرز معالم هذه الحقيقة في صور شتى ومواضع عديدة فلم يتناول إلا الأمور الجادة النافعة، ورتب عليها آثارا عملية نتاجها الفوائد الجمة، أما تلك الأمور التي لا يترتب عليها حكم أو فائدة فإنه يعرض عن الخوض فيها. ولهذه القاعدة في التفسير عند سيد رحمه الله تعالى جاء تفسيره تحسبه -وقد استمده من القرآن- علاجا مفصلا دقيقا لقضايا العصر وكأنه إنما أنزل لهذا العصر ولعلاج أمراضه المختلفة. ولعل مصدر الواقعية الجدية قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ} 1 وقد اهتم سيد رحمه الله تعالى بهذه الواقعية الجدية في هذه الآية فأورد ست روايات في سبب نزولها، وأحاديث ثلاثة في النهي عن كثرة الأسئلة وأربعة أقوال عن السلف في النهي عن ذلك ومنهج السلف الواقعي الجدي في السؤال والاستفتاء والفتوى الذي لا يجيب إلا على ما وقع من الأمور وترك ما لم يقع2 ولذلك وصفه رحمه الله تعالى "بأنه منهج واقعي جادٌّ. يواجه وقائع الحياة بالأحكام المشتقة لها من أصول شريعة الله مواجهة عملية واقعية"3. وخذ مثلا لتطبيقات سيد رحمه الله تعالى لهذا الأساس ففي تفسير قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} 4 لم يتناول رحمه الله تعالى إلا الآثار الدعوية والعملية لهذا النص وإيحاءاته الاعتقادية والدلالات الحركية له، وأعرض عن الخوض في تفصيل كيفية اشتراك الملائكة في المعركة وعن حصر قتلاها من المشركين، ولا كيف قتلتهم الملائكة، وهو ما خاض به بعض المفسرين ولم يخرجوا بنتيجة واقعية جادة ويصف   1 سورة المائدة: الآية 101. 2 في ظلال القرآن: ج2 ص986-988. 3 في ظلال القرآن: ج2 ص987. 4 سورة الأنفال: الآية 12. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1017 سيد رحمه الله تعالى البحث في كيفية الأفعال كلها بأنه ليس من الجد الذي هو طابع هذه العقيدة وطابع الحركة الواقعية بهذه العقيدة، ولكن هذه المباحث صارت من مباحث الفرق الإسلامية ومباحث علم الكلام في العصور المتأخرة، عندما فرغ الناس من الاهتمامات الإيجابية في هذا الدين، وتسلط الترف العقلي على الناس والعقول، وإن وقفة أمام الدلالة الهائلة لمعية الله سبحانه للملائكة في المعركة، واشتراك الملائكة فيها مع العصبة المسلمة لهي أنفع وأجدى"1. وفي تفسير قوله تعالى: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} 2 بين رحمه الله تعالى المراد بالتبصرة بأنها تبصرة تكشف الحجب وتنير البصيرة وتفتح القلوب، وتصل الأرواح بهذا الكون العجيب، وما وراءه من إبداع وحكمة وترتيب تبصرة ينتفع بها كل عبد منيب، يرجع إلى ربه من قريب" ولم يقف رحمه الله تعالى عند هذا البيان بل بين قيمة هذه التبصرة ومكانتها وكيف أهملتها مناهج البحث التي تسمى "علمية" حيث يقول: "وهذه هي الوصلة بين القلب البشري وإيقاعات هذا الكون الهائل الجميل هذه هي الوصلة التي تجعل للنظر في كتاب الكون والتعرف إليه أثرا في القلب البشري، وقيمة في الحياة البشرية هذه هي الوصلة التي يقيمها القرآن بين المعرفة والعلم وبين الإنسان الذي يعرف ويعلم. وهي التي تهملها مناهج البحث التي يسمونها "علمية" في هذا الزمان فتقطع ما وصل الله من وشيجة بين الناس والكون الذي يعيشون فيه وكل معرفة أو علم أو بحث يقف دون هذه الغاية الحية الموجهة المؤثرة في حياة البشر هي معرفة ناقصة، أو علم زائف، أو بحث عقيم"3. ولهذا المنهج أثره في ترك سيد رحمه الله تعالى تفسير بعض الأحكام التي لا وجود لها في واقع عصرنا الحاضر بغض النظر عن وجودها قبله أو حدوثها بعده فهو ينطلق من الواقع الجاد، فلم يدخل في التفصيلات الفقهية الخاصة بالغنائم والأنفال وأخذ الجزية من الذميين من أهل الكتاب.   1 في ظلال القرآن: ج3 ص1486. 2 سورة ق: الآية 8. 3 في ظلال القرآن: ج6 ص3359-3360. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1018 وانطلاقا من هذا الأساس أيضا تَرَكَ الأطناب في كثير مما لا طائل تحته وليس له ثمرة، ولم يجهد نفسه في الكشف عما أبهمه القرآن. ولم يتوسع في التفسير العلمي بحيث يتجاوز واقع النص ومدلوله، وأعرض عن الخوض في الإسرائيليات، ولم يتناول الاختلافات الفقهية الدقيقة، ولم يتعمق في المفردات واشتقاقاتها وأصولها، ولم يعتنِ بإثارة المسائل اللغوية وكان وقافا عند حدود علم الغيب فلم يسمح لنفسه أن يخوض فيه وتلقى نصوصه بالقبول دون تأويل أو تحريف، كل هذا نراه أثرا من التزامه للواقعية الجدية مما لا أثر كبير له في بناء المجتمع المسلم فكان أن أعرض عنها وتناول ما له أثر جاد في واقع المسلمين. وقد برزت هذه الأمور التي أشرت إليها في تفسيره حتى أصبحت أسسا من أسس منهجه في التفسير وهي أثر من آثار هذا الأساس، ولذا سنعرض لكل منها إن شاء الله بحديث موجز استكمالا للإشارة إليها هنا. أما من ناحية الحركية وتطبيقاتها في تفسيره للقرآن الكريم فكثيرة منبثة في أغلب صفحاته وسطوره لا يترك الدعوة إليها ما وجد إلى ذلك سبيلا ولذلك أصبحت هذه سمة من سمات الظلال وأساس من أسس منهجه في التفسير. لم يكد يمر بآية إلا وجعلها منطلقا للدعوة إلى الله سبحانه وإلى التحرك بالقرآن في موجهة الأعداء وإلى بيان طبيعة المنهج الحركي للدعوة الإسلامية المتجددة في كل زمان ومكان فهو يرسم بوحي من القرآن منهج الدعوة ومعالم الطريق وصفات القيادة يرسم الخطط ويوضح السبيل. ويبدي اهتماما شديدا بذلك فلا يكاد يمر بآية أمرا كانت أو نهيا، خبرا أو قصة أو غير ذلك إلا وجعلها نبراسا في طريق الداعية ومَعلما من معالم الطريق. وقف وقفاته تلك أمام قصة بني إسرائيل مع موسى عليه السلام وأول ما استوقفه فيها ورودها مفصلة أوسع تفصيل ومكررة في مواضع عديدة. فذهب رحمه الله تعالى يستخرج بعض هذه المعالم ويرسم الخطط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1019 إن بني إسرائيل هم أول من واجه الدعوة الإسلامية بالعداء والكيد والحرب في المدينة وفي الجزيرة العربية كلها فلم يكن بد من كشفهم للجماعة المسلمة؛ لتعرف من هم أعداؤها؛ ما طبيعتهم؟ وما تاريخهم؟ وما وسائلهم؟ وما حقيقة المعركة التي تخوض معهم؟ وقد علم الله أنهم سيكونون أعداء هذه الأمة في تاريخها كله كما كانوا أعداء هدى الله في ماضيهم كله، فعرض لهذه الأمة أمرهم كله مكشوفا ووسائلهم كلها مكشوفة. وأنهم أصحاب آخر دين قبل دين الله الأخير، ووقع منهم الانحراف في العقيدة والنقض المتكرر لميثاق الله معهم، ووقع في حياتهم آثار هذا النقض وهذا الانحراف كما وقع في أخلاقهم وتقاليدهم فاقتضى هذا أن تلم الأمة المسلمة -وهي وارثة الرسالات كلها وحاضنة العقيدة الربانية بجملتها- بتاريخ القوم وتقلبات هذا التاريخ وتعرف مزالق الطريق وعواقبها ممثلة في حياة بني إسرائيل وأخلاقهم؛ لتضم هذه التجربة في حقل العقيدة والحياة إلى حصيلة تجاربها وتنتفع بهذا الرصيد وتنفع على مدار القرون. وإن الأمة المسلمة التي سيمتد تاريخها حتى تقوم الساعة ستصادفها فترات تمثل فيها فترات من حياة بني إسرائيل، فجعل أمام أئمة هذه الأمة وقادتها ومجددي الدعوة في أجيالها الكثيرة نماذج من العقابيل التي تلم بالأمم يعرفون منها كيف يعالجون الداء بعد معرفة طبيعته. وهناك جوانب شتى لحكمة الله تعالى في تفصيل قصة بني إسرائيل لا يملك معها -كما يقول- المضي أكثر من هذه الإشارات السريعة. ثم بين رحمه الله تعالى بعض الجوانب التي قد يلاقيها الداعية وضرب أمثلة منها مما لاقاه موسى عليه السلام مع قومه.. جربهم وقد أخرجهم من أرض مصر وحررهم من الذل والهوان، باسم الله وبسلطان الله الذي فرق لهم البحر، وأغرق لهم فرعون وجنده. فإذا هم يمرون على قوم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1020 يعكفون على أصنام لهم، فيقولون: {يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} 1 وما يكاد يغيب عنهم في ميقاته مع ربه حتى يتخذ السامري من الحلي عجلا ذهبا له خوار، وجربهم وقد فجر لهم من الصخر ينابيع في جوف الصحراء وأنزل عليهم المن والسلوى طعاما سائغا فإذا هم يشتهون ما اعتادوا من أطعمة مصر -أرض الذل بالنسبة لهم- فيطلبون بقلها وقثاءها وفومها وعدسها وبصلها ولا يصبرون عما ألفوا من طعام وحياة في سبيل العزة والخلاص والهدف الأسمى الذي يسوقهم موسى إليه وهم يتسكعون! وجربهم في قصة البقرة التي أُمرو بذبحها فتلكأوا وتسكعوا في الطاعة والتنفيذ: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} 2، وجربهم وقد عاد من ميقات ربه ومعه الألواح وفيها ميثاق الله عليهم وعهده، فأبوا أن يعطوا الميثاق وأن يمضوا العهد مع ربهم. حتى وجدوا الجبل منتوقا فوق رءوسهم {وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِم} 3. واستمر سيد قطب رحمه الله تعالى في هذا العرض إلى أن وصل إلى قوله تعالى: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 4 قال رحمه الله تعالى: "هنا تبرز قيمة الإيمان بالله والخوف منه، فهذا رجلان من الذين يخافون الله، ينشئ لهما الخوف من الله استهانة بالجبارين! ويرزقهما شجاعة في وجه الخطر الموهوم! وهذا هما يشهدان بقولتهما هذه بقيمة الإيمان في ساعة الشدة، وقيمة الخوف من الله في مواطن الخوف من الناس، فالله سبحانه لا يجمع في قلب واحد بين مخافتين مخافته جل جلاله ومخافة الناس، والذي يخاف الله لا يخاف أحدا بعده، ولا يخاف شيئا سواه {دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} قاعدة في علم القلوب وفي علم الحروب. أقدموا واقتحموا فمتى دخلتم على القوم في عقر دارهم انكسرت قلوبهم بقدر ما تقوى قلوبكم،   1 سورة الأعراف: 138. 2 سورة البقرة: 71. 3 سورة الأعراف: 171. 4 سورة المائدة: 23. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1021 وشعروا بالهزيمة في أرواحهم وكتب لكم الغلب عليهم ... "1. أرأيتم كيف ينظر سيد إلى القصة، ينظر إليها من زاوية الداعية، فيبرز سمات الداعية ويضرب الأمثال لبعض العقبات التي تواجه الدعوة وأثر الإيمان والخوف من الله في النصر ويعتصر من الآيات رحيقا يحقنه في شرايين القلوب فلا يملك صاحبها إلا أن يجد في نفسه عزيمة على الحركة وإصرارا على الثبات. ولو أردت أن أُسَوِّد الصفحات بذكر الأمثلة لخشيت أن آتي على آخرها ولم أبلغ منه مبلغا، فمن أراد ذلك فليحمل أجزاء تفسير "في ظلال القرآن" الستة بين يده وليقرأها كلها فإنه واجد في كل ورقة منها مبتغاه، وإذا كان الأمر كذلك فلا أحسبني قد أطلت ولو فعلت فهل تعذرون؟   1 في ظلال القرآن: ج2 ص868-870 باختصار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1022 الأساس الرابع: التفسير الجمالي الفني استغرقت الاهتمامات الأدبية فترة طويلة من حياة سيد قطب رحمه الله تعالى، ولم يحصرها في نطاقها الضيق بل حاول تطبيقها في رحاب نصوص القرآن الكريم، وكانت أول مؤلفاته في ذلك "التصوير الفني في القرآن" ثم "مشاهد القيامة في القرآن". وحين شرع في تفسيره "في ظلال القرآن" بعد ذلك لم تغب عن باله تلك الصور الجمالية في القرآن الكريم، ووجد فيها وفي صحبتها المفتاح الذي أطلع به على كنوز من القرآن واهتدى به إلى قواعد وسمات وآفاق وموضوعات الجمال الفني في القرآن الكريم. الفني؟! ما الفن؟ يرى سيد رحمه الله تعالى أن هناك إيضاحا واجبا ينبغي أن يقال بعد ما بدأت كلمة الفن يُساء استخدامها أو يساء فهمها، أو يساء تأويلها في مجال القرآن ويعترف بأنه حين اتخذها عنوانا لكتابه "التصوير الفني في القرآن" لم يكن لها في نفسه إلا مدلول واحد هو جمال العرض، وتنسيق الأداء وبراعة الإخراج، ولم يجل في خاطره قط أن "الفني" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1022 بالقياس إلى القرآن معناه الملفق أو المخترع أو القائم على مجرد الخيال1. وأكد هذا المفهوم في تفسير في ظلال القرآن حين وصف الجمال الفني الصادق بأنه "الذي لا يعتمد على الخلق والتزويق ولكن يعتمد على إبداع العرض وقوة الحق وجمال الأداء"2. وكأني بسائل يقول في شبه اعتراض: أو ليس هذا الأساس هو الأساس الأول الذي تحدثت عنه في منهج سيد قطب رحمه الله تعالى؟ وأقول لهذا السائل: كَلَّا إجمالا أما إن شئت البيان فإن المراد بالجمال الفني هو تلك الصورة الرائعة التي ترسمها نصوص القرآن الكريم حتى لتحسب كل كلمة منه خطًّا من خطوط الصورة أو ذلك المعنى السامي الذي تسوقه تلك النصوص؛ أما الأساس الأول فهو حسن البيان والوصف لهذه الصورة القرآنية وحسن التعبير والبيان عن هذه المعاني السامية؛ أما أن بينهما تداخلا فنعم، وأما أنهم معنى واحد فلا. وقد يكتشف مفسر الصورة الجمالية الفنية في القرآن الكريم ويبرز أطرافها ويوضح خطوطها ومعالمها وظلالها وإشراقها لكنه قد يسوق ذلك كله بأسلوب أدبي يزيد الصورة جمالا إلى جمالها وقد لا يستطيع فتبقى الصورة جميلة زاهية وحدها. وقد تميز تفسير سيد قطب رحمه الله تعالى بالجمع بين هذا وذاك. وإذ وضح الأمر فإن منزلة الجمال في القرآن تالية لمنزلة الكمال "فالجمال في تصميم هذا الكون مقصود كالكمال. بل إنهما اعتباران لحقيقة واحدة. فالكمال يبلغ درجة الجمال. ومن ثم يوجه القرآن النظر إلى جمال السماوات بعد أن وجه النظر إلى كمالها"3 {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ   1 التصوير الفني في القرآن: سيد قطب، ص204-205. 2 في ظلال القرآن: ج1 ص55. 3 في ظلال القرآن: ج6 ص3633. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1023 الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ، وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} 1. وقد عني سيد قطب بالعرض الجمالي الفني في القرآن الكريم فتوقف عند الجمال الفني في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} 2 حيث قال رحمه الله تعالى: "إنها لفتة كونية عجيبة من اللفتات الدالة على مصدر هذا الكتاب. لفتة تطوف في الأرض كلها تتبع فيها الألوان والأصباغ في كل عوالمها. في الثمرات، وفي الجبال، وفي الناس وفي الدواب والأنعام. لفتة تجمع في كلمات قلائل بين الأحياء وغير الأحياء في هذه الأرض جميعا، وتدع القلب مأخوذا بذلك المعرض الإلهي الجميل الرائع الكبير الذي يشمل الأرض جميعا. وتبدأ بإنزال الماء من السماء، وإخراج الثمرات المختلفات الألوان، ولأن المعرض معرض أصباغ وشيات فإنه لا يذكر هنا من الثمرات إلا ألوانها: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} وألوان الثمار معرض بديع للألوان يعجز عن إبداع جانب منه جميعُ الرسَّامين في جميع الأجيال فما من نوع من الثمار يماثل لونه لون نوع آخر. بل ما من ثمرة واحدة يماثل لونها لون أخواتها من النوع الواحد، فعند التدقيق في أي ثمرتين أختين يبدو شيء من اختلاف اللون! وينتقل من ألوان الثمار إلى ألوان الجبال نقلة عجيبة في ظاهرها، ولكنها من ناحية دراسة الألوان تبدو طبيعية. ففي ألوان الصخور شبه عجيب بألوان الثمار وتنوعها وتعددها، بل إن فيها أحيانا ما يكون على شكل بعض الثمار وحجمها كذلك حتى ما تكاد تفرق من الثمار صغيرها وكبيرها!   1 سورة الملك 3-5. 2 سورة فاطر: 37-38. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1024 {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} . والجدد الطرائق والشعاب. وهنا لفتة في النص صادقة؛ فالجدد البيض مختلف ألوانها فيما بينها. والجدد الحمر مختلف ألوانها فيما بينها. مختلف في درجة اللون والتظليل والألوان الأخرى المتداخلة فيه، وهناك جدد غرابيب سود، حالكة، شديدة السواد. واللفتة إلى ألوان الصخور وتعددها وتنوعها داخل اللون الواحد، بعد ذكرها إلى جانب ألوان الثمار، تهز القلب هزا، وتوقظ فيه حاسة الذوق الجمالي العالي، التي تنظر إلى الجمال نظرة تجريدية، فتراه في الصخرة كما تراه في الثمرة، على بعد ما بين طبيعة الصخرة وطبيعة الثمرة، وعلى بعد ما بين وظيفتيهما في تقدير الإنسان. ولكن النظرة الجمالية المجردة ترى الجمال وحده عنصرا مشتركا بين هذه وتلك يستحق النظر والالتفاف. ثم ألوان الناس وهي لا تقف عند الألوان المتميزة العامة لأجناس البشر. فكل فرد بعد ذلك متميز اللون بين بني جنسه. بل متميز من توأمه الذي شاركه حملًا واحدًا في بطن واحدة! وكذلك ألوان الدواب والأنعام. والدواب أشمل والأنعام أخص فالدابة كل حيوان. والأنعام هي الإبل والبقر والغنم والماعز، خصصها من الدواب؛ لقربها من الإنسان والألوان والأصباغ فيها معرض كذلك جميل معرض الثمار ومعرض الصخور سواء. هذا الكتاب الكوني الجميل الصفحات العجيب التكوين والتلوين يفتحه القرآن ويقلب صفحاته ويقول إن العلماء الذين يتلونه ويدركونه ويتدبرونه هم الذين يخشون الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} إلى أن قال رحمه الله تعالى: "إن عنصر الجمال يبدو مقصودا قصدا في تصميم هذا الكون وتنسيقه ومن كمال هذا الجمال أن وظائف الأشياء تؤدى عن طريق جمالها هذه الألوان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1025 العجيبة في الأزهار تجذب النحل والفراش مع الرائحة الخاصة التي تفوح. ووظيفة النحل والفراش بالقياس إلى الزهرة هي القيام بنقل اللقاح؛ لتنشأ الثمار. وهكذا تؤدي الزهرة وظيفتها عن طريق جمالها! والجمال في الجنس هو الوسيلة لجذب الجنس الآخر إليه؛ لأداء الوظيفة التي يقوم بها الجنسان. وهكذا تتم الوظيفة عن طريق الجمال. الجمال عنصر مقصود قصدا في تصميم هذا الكون وتنسيقه ومن ثم هذه اللفتات في كتاب الله المنزل إلى الجمال في كتاب الله المعروض"1. وقد يكون الجمال الفني في استخدام التصوير وتشخيص المعاني كوسيلة لبيانها ولا شك أن لهذا التصوير الفني أثره البين في جلاء المعنى الكلي المجرد فـ "المعنى الكلي المجرد يظل حائرا في التصور البشري ومائعا حتى يتمثل في صور محسوسة، ومهما أوتي العقل البشري من القدرة على التجريد فإنه يظل في حاجة إلى تمثل المعنى المجرد في صورة وأشكال وخصائص ونماذج ذلك شأنه مع المعاني المجردة التي تمثل المحدود فكيف بغير المحدود؟ لذلك يضرب القرآن الأمثال للناس ويقرب إلى حسهم معانيه الكبرى بوضعها في صور ومشاهد ومحسوسات ذات مقومات وخصائص وأشكال"2. وإن شئت مثلا لذلك فالأمثلة كثيرة أفردها رحمه الله تعالى بكتابه "التصوير الفني في القرآن" ثم سار عليها في الظلال وزادها صورا أخرى ومشاهدة أخرى نذكر منها تصويرا لمشهد من مشاهد يوم القيامة. فمن ذلك تفسيره لقوله تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ، يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} 3 حيث قال رحمه الله   1 في ظلال القرآن: ج5 ص2942-2943. 2 في ظلال القرآن: ج4 ص2296-2297. 3 سورة إبراهيم: 15-18. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1026 تعالى: "والمشهد هنا عجيب أنه مشهد الخيبة لكل جبار عنيد مشهد الخيبة في الأرض. ولكنه يقف هذا الموقف ومن ورائه تخايل جهنم وصورته فيها وهو يسقى من الصديد السائل من الجسوم يسقاه بعنف فيتجرعه غصبا وكرها ولا يكاد يسيغه لقزازته ومرارته والتقذر والتكره بأديان نكاد نلمحهما من خلال الكلمات ويأتيه الموت بأسبابه المحيطة به من كل مكان، ولكنه لا يموت؛ ليستكمل عذابه ومن ورائه عذاب غليظ. إنه مشهد عجيب، يرسم الجبال الخائب المهزوم ووراءه مصيره يخايل له على هذا النحو المروع الفظيع وتشترك كلمة "غليظ" في تقطيع المشهد، تنسيقا له مع القوة الغاشمة التي كانوا يهددون بها دعاة الحق والخير والصلاح واليقين" إلى أن قال في الآية التالية: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} 1. ومشهد الرماد تشتد به الريح في يوم عاصف مشهود معهود يجسم به السياق معنى ضياع الأعمال سدى لا يقدر أصحابها على الإمساك بشيء منها ولا الانتفاع به أصلا يجسمه في هذا المشهد العاصف المتحرك فيبلغ في تحريك المشاعر له ما لا يبلغه التعبير الذهني المجرد عن ضياع الأعمال وذهابها بددا. هذا المشهد ينطوي على حقيقة ذاتية في أعمال الكفار فالأعمال التي لا تقوم على قاعدة من الإيمان ولا تمسكها العروة الوثقى التي تصل العمل بالباعث، وتصل الباعث بالله مفككة كالهباء والرماد لا قوام لها ولا نظام. فليس المعول عليه هو العمل، ولكن باعث العمل. فالعمل حركة آلية لا يفترق فيها الإنسان عن الآلة إلا بالباعث والقصد والغاية. وهكذا يلتقي المشهد المصور مع الحقيقة العميقة، وهو يؤدي المعنى في   1 سورة إبراهيم: 15-18. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1027 أسلوب مشوق موحٍ مؤثر"1 وقد يكون المشهد تصويرًا لمعاني عقلية مجردة كالمنِّ والأذى والرياء في الصدقات. فمن ذلك تفسيره لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ، وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 2؛ حيث قال: "هذا هو المشهد الأول، مشهد كامل من منظرين متقابلين وشكلا ووضعا وثمرة. وفي كل منظر جزئيات يتسق بعضها مع بعض من ناحية فن الرسم وفن العرض، ويتسق كذلك مع ما يماثله من المشاعر والمعاني التي رسم المنظر كله لتمثيلها وتشخيصها وإحيائها. نحن في المنظر الأول أمام قلب صلد: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} . فهو لا يستشعر نداوة الإيمان وبشاشته. ولكنه يغطي هذه الصلادة بغشاء من الرياء. هذا القلب الصلد المغشى بالرياء يمثله "صفوان عليه تراب" حجر لا خصب فيه ولا ليونة، يغطيه تراب خفيف يحجب صلادته عن العين، كما أن الرياء يحجب صلادة القلب الخالي من الإيمان {فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا} . وذهب المطر الغزير بالتراب القليل! فانكشف الحجر بجدبه وقساوته،   1 في ظلال القرآن: ج4 ص2093-2094. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1028 ولم ينبت زرعة، ولم يثمر ثمرة كذلك القلب الذي أنفق ماله رئاء الناس، فلم يثمر خيرا ولم يعقب مثوبة! ". أما المنظر الثاني المقابل له في المشهد فقلب عامر بالإيمان، نديٌّ ببشاشته. ينفق ماله {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّه} وينفقه عن ثقة ثابتة في الخير، نابعة من الإيمان، عميقة الجذور في الضمير، وإذا كان القلب الصلد وعليه ستار من الرياء يمثله صفوان صلد عليه غشاء من التراب، فالقلب المؤمن تمثله جنة خصبة عميقة التربة في مقابل حفنة التراب على الصفوان؛ جنة تقوم على ربوة في مقابل الحجر الذي تقوم عليه حفنة التراب! ليكون المنظر متناسق الأشكال! فإذا جاء الوابل لم يذهب بالتربة الخصبة هنا كما ذهب بغشاء التراب هناك. بل أحياها وأخصبها ونماها. {أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} أحياها كما تحيي الصدقة قلب المؤمن، فيزكو ويزداد صلة بالله، ويزكو ماله كذلك ويضاعف له الله ما يشاء وكما تزكو حياة الجماعة المسلمة بالإنفاق وتصلح وتنمو. {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ} غزير فـ {طَلٌّ} من الرذاذ يكفي في التربة الخصبة ويكفي منه القليل! إنه المشهد الكامل، المتقابل المناظر، المنسق الجزئيات، المعروض بطريقة معجزة التناسق والأداء، الممثل بمناظره الشاخصة لكل خالجة في القلب وكل خاطرة، المصور للمشاعر والجدانات بما يقابلها من الحالات والمحسوسات، الموحى للقلب باختيار الطريق في يسر عجيب. ولما كان المشهد مجالا للبصر وللبصيرة من جانب، ومرد الأمر فيه كذلك إلى رؤية الله ومعرفته بما وراء الظواهر، جاء التعقيب لمسة للقلوب: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} . فأما المشهد الثاني فتمثيل لنهاية المن والأذى، كيف يمحق آثار الصدقة محقا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1029 في وقت لا يملك صاحبها قوة ولا عونا ولا يستطيع لذلك المحق ردًّا تمثيل لهذه النهاية البائسة في صورة موحية عنيفة الإيحاء. كل ما فيها عاصف بعد أمن ورخاء. {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} 1. هذه الصدقة في أصلها وفي آثارها تمثل في عالم المحسوسات. {جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} . إنها ظليلة وارفة مخصبة مثمرة. وكذلك الصدقة في طبيعتها وفي آثارها. كذلك هي في حياة المعطي وفي حياة الآخذ وفي حياة الجماعة الإنسانية. كذلك هي ذات روح وظل وذات خير وبركة، وذات غذاء وري وذات زكاة ونماء! فمن ذا الذي يود أن تكون له هذه الجنة -أو هذه الحسنة- ثم يرسل عليها المن والأذى يمحقها محقا، كما يمحق الجنة الإعصار فيه نار؟ ومتى؟ في أشد ساعاته عجزا عن إنقاذها، وحاجة إلى ظلها وعمائها! {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} . "من ذا الذي يود هذا؟ ومن ذا الذي يفكر في ذلك المصير ثم لا يتقيه؟ {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} . وهكذا يقوم المشهد الحي الشاخص، بما فيه أول الأمر من رضى ورفه ومتعة، وما فيه من نضارة وروح وجمال ثم بما يعصف به عصفا من إعصار فيه   1 سورة البقرة: الآية 266. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1030 نار. يقوم هذا المشهد العجيب بالإيحاء الشعوري الرعيب الذي لا يدع مجالا للتردد في الاختيار، قبل أن تذهب فرصة الاختيار وقبل أن يصيب الجنة الوارفة الظليلة المثمرة إعصار فيه نار! وبعد؛ فإن التناسق الدقيق الجميل الملحوظ في تركيب كل مشهد على حدة، وفي طريقة عرضه وتنسيقه هذا التناسق لا يقف عند المشاهد فرادى. بل إنه ليمد رواقه فيشمل المشاهد متجمعة من بدئها في هذا الدرس إلى منتهاها إنها جميعا تعرض في محيط متجانس محيط زراعي؛ حبة أنبتت سبع سنابل، صفوان عليه تراب فأصابه وابل، جنة بربوة فآتت أكلها ضعفين، جنة من نخيل وأعناب حتى الوابل والطل والإعصار التي تكمل محيط الزراعة لم يخل منها محيط العرض الفني المثير. وهي الحقيقة الكبيرة وراء العرض الفني المثير حقيقة الصلة بين النفس البشرية والتربة الأرضية. حقيقة الأصل الواحد وحقيقة الطبيعة الواحدة، وحقيقة الحياة الثابتة في النفس وفي التربة على السواء وحقيقة المحق الذي يصيب هذه الحياة في النفس وفي التربة على السواء. إنه القرآن كلمة الحق الجميلة من لدن حكيم خبير"1. ومنها ما هو تصوير لمشاهد كونية للمتأمل فيها آية وأي آية فمن ذلك تفسيره لقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} 2، قال: "فلفظ عسعس مؤلف من مقطعين: عس عس. وهو يوحي بجرسه بحياة في هذا الليل، وهو يعس في الظلام بيده أو برجله لا يرى! وهو إيحاء عجيب واختيار للتعبير رائع. ومثله: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} بل هو أظهر حيوية وأشد إيحاء والصبح حي يتنفس. أنفاسه النور والحياة والحركة التي تدب في كل حي وأكاد أجزم أن اللغة العربية بكل مأثوراتها التعبيرية لا تحتوي نظيرا لهذا التعبير الصبح. ورؤية الفجر تكاد تشعر القلب المتفتح أنه بالفعل يتنفس! ثم يجيء   1 في ظلال القرآن: ج1 ص308-310. 2 سورة التكوير: الآيتين 17-18. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1031 هذا التعبير فيصور هذه الحقيقة التي يشعر بها القلب المتفتح. وكل متذوق لجمال التعبير والتصوير يدرك أن قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ، وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} 1. ثروة شعورية وتعبيرية فوق ما يشير إليه من حقائق كونية، ثروة جميلة بديعة رشيقة، تضاف إلى رصيد البشرية من المشاعر، وهي تستقبل هذه الظواهر الكونية بالحس الشاعر"2. ولنقف مع سيد قطب رحمه الله تعالى عند مشهد من مشاهد تجسيم أحوال النفوس كأنها مشهد محسوس ضربه الله مثلا للمنافقين: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ، يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 3. قال، رحمه الله تعالى: "إنه مشهد عجيب، حافل بالحركة مشوب بالاضطراب فيه تيه وضلال، وفيه هول ورعب، وفيه فزع وحيرة، وفيه أضواء وأصداء. إن الحركة التي تغمر المشهد كله: من الصيب الهاطل إلى الظلمات والرعد والبرق إلى الحائرين المفزعين فيه، إلى الخطوات المروعة الوجلة التي تقف عندما يختم الظلام، إن هذه الحركة في المشهد لترسم عن طريق التأثر الإيحائي حركة التيه والاضطراب والقلق والأرجحة التي يعيش فيها أولئك المنافقون. بين لقائهم للمؤمنين، وعودتهم للشياطين، بين ما يقولونه لحظة ثم ينكسون عنه فجأة. بين ما يطلبونه من هدى ونور وما يفيئون إليه من ضلال وظلام فهو مشهد حسي يرمز لحالة نفسية ويجسم صورة شعورية وهو طرف من طريقة القرآن العجيبة في تجسيم أحوال النفوس كأنها مشهد محسوس"4.   1 سورة التكوير: الآيتين 17-18. 2 في ظلال القرآن: ج6 ص3841-3842. 3 سورة البقرة: 19-20. 4 في ظلال القرآن: ج1 ص46. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1032 قلت لكم: إن هذه المشاهد كثيرة، وإن عرض سيد رحمه الله تعالى كثير أيضا وما ذكرت ليس أوضحها وليس أجملها ولكنه منها على كل حال. تلكم مشاهد مركبة من صور، وصور متعددة، وقد يكون الجمال التعبيري والجمال الفني في مفردة خذ مثلا كلمة "أفضى" من قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا، وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} 1 وقف رحمه الله تعالى وقفة عند كلمة أفضى استلهم منها كل الصور والظلال والإيحاءات التي تحتويها ولا يدركها إلا القليل قال: "ويدع الفعل "أفضى" بلا مفعول محدد. يدع اللفظ مطلقا يشع كل معانيه، ويلقي كل ظلاله، ويسكب كل إيحاءاته. ولا يقف عند حدود الجسد وإفضاءاته. بل يشمل العواطف والمشاعر والوجدانات والتصورات والأسرار والهموم، والتجاوب في كل صورة من صور التجاوب. يدع اللفظ يرسم عشرات الصور لتلك الحياة المشتركة آناء الليل وأطراف النهار، وعشرات الذكريات لتلك المؤسسة التي ضمتها فترة من الزمان وفي كل اختلاجة حب إفضاء، وفي كل نظرة ود إفضاء، وفي كل لمسة جسم إفضاء، وفي كل اشتراك في ألم أو أمل إفضاء، وفي كل تفكر في حاضر أو مستقبل إفضاء، وفي كل شوق إلى خلف إفضاء، وفي كل التقاء وفي وليد إفضاء كل هذا الحشد من التصورات والظلال والأنداء والمشاعر والعواطف يرسمه ذلك التعبير الموحي العجيب: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} فيتضاءل إلى جواره ذلك المعنى المادي الصغير ويخجل الرجل أن يطلب بعض ما دفع، وهو يستعرض في خياله وفي وجدانه ذلك الحشد من صور الماضي، وذكريات العشرة في لحظة الفراق الأسيف"2. أفلا يحق لنا معشر الأحبة وقد تغنى الأدباء ببلاغة بشار بن برد حين قال وهو الأعمى يصف معركة:   1 سورة النساء: الآيتين 20-21. 2 في ظلال القرآن: ج1 ص606-607. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1033 كأن مثار النقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه أن نتغنى بإدراك سيد لهذه المشاعر والصور بين الرجل وزوجته وهو الرجل الذي لم يتزوج؟! إن كثيرًا من المتزوجين لا يدركون بعضها، فكيف أدركها كلها؛ إنه توفيق الله وفضله. ومن ذلك تفسيره لكلمة "كبكبوا" من قوله تعالى عن أصحاب الجحيم: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} 1 قال، رحمه الله تعالى: "كبكبوا؛ وإننا لنكاد نسمع من جرس اللفظ صوت تدفعهم وتكفئهم وتساقطهم بلا عناية ولا نظام، وصوت الكركبة الناشئ من الكبكبة، كما ينهار الجرف فتتبعه الجروف. فهو لفظ مصور بجرسه لمعناه"2. ومنه تفسيره لكلمة: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} من قوله تعالى على لسان نوح عليه السلام مخاطبا قومه: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} 3، قال، رحمه الله تعالى: "فتحس أن كلمة "أنلزمكموها" تصور جو الإكراه بإدماج كل هذه الضمائر في النطق وشد بعضها إلى بعض كما يدمج الكارهون مع ما يكرهون ويشدون إليه وهم نافرون! وهكذا يبدو لون من التناسق أعلى من البلاغة الظاهرية وأرفع من الفصاحة اللفظية"4. والجمال الفني في القرآن ليس في تجسيم الأحداث وتشخيصها بصورة مركبة أو مفردة فحسب، ولكنه أيضا في انتقاء المشهد والتقاطه من الزاوية الجمالية فيه. خذ مثلا لذلك تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} 5 وما بعدها.   1 سورة الشعراء: الآية 94. 2 في ظلال القرآن: ج5 ص2605 3 سورة هود: الآية 28. 4 في ظلال القرآن: ج4 ص1873 "الهامش". 5 سورة الأنعام: الآية 95. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1034 قال رحمه الله تعالى: "والجمال هو السمة البارزة هنا.. الجمال الذي يبلغ حد الروعة الباهرة المشاهد منتقاة وملتقطة من الزاوية الجمالية والعبارات كذلك في بنائها اللفظي الإيقاعي، وفي دلالتها والمدلولات أيضا -على كل ما ما تزخر به الحقيقة الأصيلة في هذه العقيدة- تتناول هذه الحقيقة من الزاوية الجمالية، فتبدو الحقيقة ذاتها وكأنما تتلألأ في بهاء! "1. مشاهد وقوالب الجمال الفني صاغها سيد قطب رحمه الله تعالى، فجاءت شاهدة وأي شاهدة على سمو المعاني وبلاغة التعبير ومهارة التصوير ودقة الألفاظ رحمه الله رحمة واسعة ونفع بعلمه.   1 في ظلال القرآن: ج2 ص1152. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1035 الأساس الخامس: استيحاء النص دون مقررات سابقة ولا يقصد -ولا نقصد- بالمقررات السابقة السنة النبوية أو علوم القرآن الكريم أو اللغة ونحو ذلك مما لا بد من توفره عند المفسر قبل مزاولته التفسير، وإنما يقصد بها رواسب الثقافات التي لا تستقي من القرآن ذاته وقد وضح رحمه الله تعالى ذلك بما لا يحتاج إلى بيان حيث قال: "ومنهجنا في استلهام القرآن الكريم ألا نواجهه بمقررات سابقة إطلاقا. لا مقررات عقلية ولا مقررات شعورية ومن رواسب الثقافات التي لم نستقها من القرآن ذاته نحاكم إليها نصوصه أو نستلهم معاني هذه النصوص وفق تلك المقررات السابقة، لقد جاء النص القرآني ابتداء؛ لينشئ المقررات الصحيحة التي يريد الله أن تقوم عليها تصورات البشر، وأن تقوم عليها حياتهم وأقل ما يستحقه هذا التفضل من العلي الكبير وهذه الرعاية من الله ذي الجلال وهو الغني عن العالمين أن يتلقوها وقد فرغوا لها قلوبهم وعقولهم من كل غبش دخيل؛ ليقوم تصورهم الجديد نظيفا من كل رواسب الجاهليات قديمها وحديثها على السواء مستمدًّا من تعليم الله وحده لا من ظنون البشر، التي لا تغني من الحق شيئا. ليس هناك إذن مقرات سابقة نحاكم إليها كتاب الله تعالى إنما نحن نستمد مقرراتنا من هذا الكتاب ابتداء. ونقيم على هذه المقررات تصوراتنا ومقرراتنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1035 وهذا وحده هو المنهج الصحيح في مواجهة القرآن الكريم وفي استلهماه خصائص التصور الإسلامي ومقوماته"1. ولذلك فإنه رحمه الله تعالى ينكر على أولئك الذين يحسبون أن بعض أخبار القرآن وقصصه تمثيل وتخييل؛ وعزا هذا إلى أنهم يجيئون إلى القرآن بتصورات مقررة سابقة في أذهانهم أخذوها من مصادر أخرى غير القرآن، ثم يحاولون أن يفسروا القرآن وفق تلك التصورات السابقة المقررة في أذهانهم من قبل ومن ثم يرون الملائكة تمثيلا لقوة الخير والطاعة والشياطين؛ تمثيلا لقوة الشر والمعصية والرجوم؛ تمثيلا للحفظ والصيانة ... إلخ. لأن في مقرراتهم السابقة قبل أن يواجهوا القرآن أن هذه المسميات: الملائكة والشياطين أو الجن لا يمكن أن يكون لها وجود مجسم على هذا النحو أن تكون لها هذه التحركات الحسية والتأثيرات الواقعية من أين جاءوا بهذا؟ من أين جاءوا بهذه المقررات التي يحاكمون إليها نصوص القرآن والحديث؟ "2. ثم بين رحمه الله تعالى الطريق الأمثل لفهم القرآن وتفسيره فقال: "إن الطريق الأمثل في فهم القرآن وتفسيره وفي التصور الإسلامي وتكوينه أن ينفض الإنسان من ذهنه كل تصور سابق، وأن يواجه القرآن بغير مقررات تصورية أو عقلية أو شعورية سابقة وأن يبني مقرراته كلها حسب ما يصور القرآن والحديث حقائق هذا الوجود ومن ثم لا يحاكم القرآن والحديث لغير القرآن ولا ينفي شيئا يثبته القرآن ولا يؤوله! ولا يثبت شيئا ينفيه القرآن أو يبطله وما عدا المثبت والمنفي في القرآن فله أن يقول فيه ما يهديه إليه عقله وتجربته"3. وقد اعترف رحمه الله تعالى بأنه قد وقع في هذا الذي يحذر الآن منه فيقول: "وما أبرئ نفسي أنني فيما سبق من مؤلفاتي وفي الأجزاء الأولى من هذه الظلال قد انسقت إلى شيء من هذا وأرجو أن أتداركه في الطبعة التالية إذا وفق الله وما أقرره هنا هو ما أعتقده الحق بهداية من الله"3.   1 خصائص التصور الإسلامي ومقوماته: سيد قطب ص14-15. 2 في ظلال القرآن: ج6 ص3730. 3 في ظلال القرآن: ج6 ص3731. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1036 وأكد رحمه الله تعالى على هذا الأساس حين جعله قاعدة مأمونة في مواجهة النصوص القرآنية حيث يقول: "إن هنالك قاعدة مأمونة في مواجهة النصوص القرآنية؛ أنه لا يجوز لنا أن نواجه النصوص القرآنية بمقررات عقلية سابقة. لا مقررات عامة ولا مقررات في الموضوع الذي تعالجه النصوص. بل ينبغي أن نواجه هذه النصوص؛ لنتلقى منها مقرراتنا. فمنها نتلقى مقرراتنا الإيمانية ومنها نكوِّن قواعد منطقنا وتصوراتنا جميعا فإذا قررت لنا أمرًا فهو المقرر كما قررته! ذلك أن ما نسميه "العقل" ونريد أن نحاكم إليه مقررات القرآن عن الأحداث الكونية والتاريخية والإنسانية والغيبة هو إفراز واقعنا البشري المحدود وتجاربنا البشرية المحدودة"1. وتصوروا معي أيها الأحبة رجلا كسيد قطب، قضى ردحا من حياته في طلب العلم والتحصيل حتى جمع حصيلة علمية وفكرية هائلة ممزوجة بالتجربة وحين دلف إلى النص القرآني ألقى على عتبة بابه كل هذا الخضم من العلوم والمعارف مستسلما لمقررات القرآن الكريم، وبمتدئا بمعارفه لذا فإن القرآن الكريم أعطى هذا الرجل ومن يعمل عمله أكثر مما أعطوا وأصدق مما تركوا. ولا أريد أن أكثر من الأمثلة ولعل مثالا واحدا يغني عن كثير منها؛ لأن فيه وفاء بالمعنى والتزاما للمنهج وتشبث به بل عض عليه بالنواجذ، ولم يقف رحمه الله تعالى في هذا المثال الذي سنذكره بشيء من التفصيل عند حدود بيان مقررات القرآن بل تجاوز ذلك إلى الرد على الذين انزلقوا إلى بعض النظريات التي تصادم ما قرره القرآن. وقد تحدث رحمه الله تعالى عن حقيقة التوحيد ورد على الذين يزعمون أن التوحيد مرحلة تالية للتعدد في العقيدة فيزعمون تطورها في تاريخ الإنسان من التعدد إلى دور التمييز ثم دور التوحيد. تناول ذلك فيحديثه عن قصة نوح عليه السلام مع قومه والتي   1 في ظلال القرآن: ج6 ص3979. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1037 ساقتها سورة هود1، وبين رحمه الله تعالى أن آدم عليه السلام هبط إلى الأرض مسلما لله متبعا هداه وأن الإسلام هو أول عقيدة عرفتها البشرية على الأرض حيث لم تكن معها عقيدة أخرى وبين أن هذه الحقيقة تقودنا إلى رفض كل ما يخبط فيه من يسمونهم "علماء الأديان المقارنة" وغيرهم من التطور بين الذين يتحدثون عن التوحيد بوصفه طورا متأخرا من أطوار العقيدة. سبقته أطوار شتى من التعدد والتثنية للآلهة. ومن تأليه القوى الطبيعي وتأليه الأرواح وتاليه الشموس والكواكب إلى آخر ما تخبط فيه هذه "البحوث" التي تقوم ابتداء على منهج موجه بعوامل تاريخية ونفسية وسياسية معينة، يهدف إلى تحطيم قاعدة الأديان السماوية والوحي الإلهي والرسالات من عند الله وإثبات أن الأديان من صنع البشر، وأنها من ثم تطورت بتطور الفكر البشري على مدار الزمان!. وينزلق بعض من يكتبون عن الإسلام مدافعين، فيتابعون تلك النظريات التي يقررها الباحثون في تاريخ الأديان وفق ذلك المنهج الموجه من حيث لا يشعرون! وبينما هم يدافعون عن الإسلام متحمسين يحطمون أصل الاعتقاد الإسلامي الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح حاسم. حين يقرر أن آدم عليه السلام هبط إلى الأرض بعقيدة الإسلام وأن نوحا عليه السلام واجه ذراري آدم الذين اجتالهم الشيطان عن الإسلام إلى الجاهلية الوثنية بذلك الإسلام نفسه القائم على التوحيد المطلق وأن الدورة تجددت بعد نوح فخرج الناس من الإسلام إلى الجاهلية، وأن الرسل جميعا أرسلوا بعد ذلك بالإسلام. القائم على التوحيد المطلق وإنه لم يكن قط تطور في العقيدة السماوية في أصل الاعتقاد إنما كن الترقي والتركيب والتوسع في الشرائع المصاحبة للعقيدة الواحدة وأن ملاحظة ذلك التطور في العقائد الجاهلية لا يدل على أن الناس صاروا إلى التوحيد بناء على تطور عفي أصل العقيدة إنما يدل على أن عقيدة التوحيد على يد كل رسول كانت تترك رواسب في الأجيال   1 انظر سورة هود: الآيات 25-49. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1038 التالية -حتى بعد انحراف الأجيال عنها- ترقي عقائدهم الجاهلية ذاتها، حتى تصير أقرب إلى أصل التوحيد الرباني أما عقيدة التوحيد في أصلها فهي أقدم في تاريخ البشرية من العقائد الوثنية جميعا! وقد وجدت هكذا كاملة منذا وجدت؛ لأنها ليست نابعة من أفكار البشر ومعلوماتهم المترقية، إنما هي آتية لهم من عند الله سبحانه وتعالى فهي حق منذ اللحظة الولى، وهي كاملة منذ اللحظة الأولى. هذا ما يقرره القرآن الكريم، ويقوم عليه التصور الإسلامي. فلا مجال إذن لباحث مسلم -وبخاصة إذا كان يدافع عن الإسلام- أن يعدل عن هذا الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح حاسم، إلى شيء مما تخبط فيه نظريات علم الأديان المقارنة تلك النظريات النابغة من منهج موجه كما أسلفنا1. ولأنه رحمه الله تعالى يسير على ما يقرره القرآن وما يوحي به النص إليه فإنه يجهر به ويعلنه؛ لأنه ما من إنسان يعرف شيئا من الأدب يملك أن يقول إنه يرى خيرا مما يرى الله ويعلن رحمه الله تعالى منهجه إنما أن أسير مع نص القرآن وروحه فأجنح إلى ذلك الرأي بإيحاء النص واتجاهه2 وكفى به منهجا سليما ومعينا نقيا.   1 في ظلال القرآن: ج4 ص1882-1883. 2 علوم القرآن: الدكتور عدنان زرزور، ص431. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1039 الأساس السادس: الوحدة الموضوعية جرى سيد قطب رحمه الله تعالى على أن يقسم السورة الواحدة إلى مجموعات من الآيات يتناول كل مجموعة منها بدرس مستقل، ولم ينقص هذا من منزلة الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم بل اهتم بها اهتماما واضحا في شتى جوانبها وأشكالها حتى عده الدكتور عدنان زرزور "أول مفسر في تاريخ القرآن الكريم أبرز الوحدة الموضوعية في السورة القرآنية المفردة طالت أم قصرت! أبرزه بشكل عملي مكتوب أو طبقه أروع تطبيق وأعمقه في كتابه العظيم رحمه الله، والذين سبقوا سيدًا من المفسرين منهم من لم يلاحظها ولم يسلم بوجودها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1039 ومنهم من ذهب إلى القول بها ولكنه عز عن ملاحظتها وتقديمها فيما كتبه للناس من تفسير لكتاب الله تعالى ثم جاء سيد ليؤكده على هذه الوحدة المحورية في السورة الواحدة وليضع أيدينا بعد ذلك برفق وسهولة ولين على وجه الانتقال من موضوع إلى موضوع"1. ونستطيع أن نستخلص الأقسام التالية للوحدة الموضوعية كما عرضها سيد قطب رحمه الله تعالى2: 1- التناسب بين السورة والسورة التالية لها. 2- التناسب بين دروس السورة الواحدة حسب تقسيماته، رحمه الله تعالى. 3- التناسب بين مقاطع الدرس الواحد من السورة. 4- التناسب بين آيات المقطع الواحد. 5- التناسب بين كلمات الآية الواحدة والجمل فيها. تلك الأقسام ما هي إلا معالم لوجود الوحدة الموضوعية في تفسير سيد قطب رحمه الله تعالى. ويظهر هذا في الطريقة التي سلكها رحمه الله تعالى في التفسير فقد قدم لكل سورة بمقدمة يدرس فيها آيات السورة كلها دراسة عامة يظهر فها المحور الموضوعي الذي تدور عليه الآيات، والهدف الذي تسعى لتقريره وملامح السورة وصورها وظلالها ومنهجها، حتى يوقفك على سورة ذات شخصية متميزة ووحدة موضوعية متناسقة فكل سورة -كما يقول- من سور القرآن ذات شخصية متفردة وذات ملامح متميزة وذات منهج خاص وذات أسلوب معين وذات مجال متخصص في علاج هذا الموضوع الواحد. وهذه القضية الكبيرة إنها كلها تتجمع على الموضوع والغاية ثم تأخذ بعد ذلك سماتها المستقلة، وطرائقها المتميزة ومجالها المتخصص في علاج هذا الموضوع وتحقيق هذه الغاية. إن الشأن   1 علوم القرآن الدكتور عدنان زرزور، ص431. 2 انظر في ظلال القرآن دراسة وتقويم صلاح عبد الفتاح، ص396. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1040 في سور القرآن من هذه الوجهة كالشأن في نماذج البشر التي جعلها الله متميزة؛ كلهم إنسان، وكلهم له خصائص الإنسانية، وكلهم له التكوين العضوي والوظيفي الإنساني، ولكنهم بعد ذلك نماذج متنوعة أشد التنويع.. نماذج فيها الأشباه القريبة الملامح، وفيها الأغيار التي لا تجمعها إلا الخصائص الإنسانية العامة! "1. خذ مثلا للوحدة الموضوعية في السورة القرآنية الوحدة في سورة البقرة فهذه السورة تضم عدة موضوعات، ولكن المحور الذي يجمعها كلها محور واحد مزدوج يترابط الخطان الرئيسيان فيه ترابطا شديدا فهي من ناحية تدور حول موقف بني إسرائيل من الدعوة الإسلامية في المدينة، وهي من الناحية الأخرى تدور حول موقف الجماعة المسلمة في أول نشأتها2 ثم بين رحمه الله تعالى مدى الارتباط بين محور السورة وموضوعاتها من جهة، وبين خط سير الدعوة أو العهد بالمدينة، وحياة الجماعة المسلمة وملابساتها من جهة أخرى بإلقاء الضوء على مجمل هذه الملابسات التي ظلت الدعوة الإسلامية وأصحابها يواجهونها مع اختلاف يسير على مر العصور وكر الدهور من أعدائها وأوليائها على السواء، وقال في ختام هذا البيان: ومن ثم يتناسق البدء والختام وتتجمع موضوعات السورة بين صفتين من صفات المؤمنين وخصائص الإيمان"3. وأحيانا يوضح رحمه الله تعالى الوحدة الموضوعية في جزء كامل من القرآن، فيقول مثلا عن جزء عم: "هذا الجزء كله ذو طابع غالب؛ سوره مكية فيما عدا سورتي "البينة" و"النصر"، وكلها من قصار السور على تفاوت في القصر، والأهم من هذا هو طابعها الخاص الذي يجعلها وحدة على وجه التقريب في موضوعها واتجاهها، وإيقاعها، وصورها وظلالها وأسلوبها العام   1 في ظلال القرآن: ج3 ص1243. 2 في ظلال القرآن: ج1 ص28. 3 انظر في ظلال القرآن: ج1 ص28-35. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1041 إلى أن قال: "وفي الجزء كله تركيز على النشأة الأولى للإنسان والأحياء الأخرى في هذه الأرض من نبات وحيوان. وعلى مشاهدة هذا الكون وآياته في كتابه المفتوح وعلى مشاهدة القيامة العنيفة الطامة الصاخة القارعة الغاشية ومشاهد الحساب والجزاء من نعم وعذاب في صور تقرع وتذهل وتزلزل كمشاهد القيامة الكونية في ضخامتها وهولها واتخاذها جميعا دلائل على الخلق والتدبير والنشأة الأخرى وموازينها الحاسمة، مع التقريع بها والتخويف والتحذير وأحيانا تصاحبها صور من مصارع الغابرين من المكذبين والأمثلة على هذا هي الجزء كله"1. وأحيانا يوضح رحمه الله تعالى الوحدة الموضوعية بين دروس من السورة مرة وبينها وبين السورة كلها مرة أخرى. فقد تحدث عن ثلاثة دروس في سورة البقرة يحوي أولها الآيات من 253 إلى 257 والثاني من 258 إلى 260 والثالث من 261 إلى 274 ثم قال عن هذه الدروس الثلاثة: "كانت الدروس الثالثة الماضية في هذا الجزء تدور في جملتها حول إنشاء بعض قواعد التصور الإيماني وإيضاح هذا التصور، وتعميق جذوره في نواحٍ شتى. وكان هذا محطًّا في خط السورة الطويلة التي تعالج كما أسلفنا أعداد الجماعة المسلمة للنهوض بتكاليف دورها في قيادة البشرية. وربط الآيات من 65 إلى 92 بسورتها آل عمران فقال: "هذا الشوط من السورة ما يزال يجري مع الخط الأول الأساسي العريض فيها خط المعركة بين أهل الكتاب والجماعة المسلمة معركة العقيدة"2. وقسم سورة الرعد إلى شطرين ينتهي الأول منهما بالآية 18 ثم ربط بين الشطرين بقوله: "بعد المشاهد الهائلة في آلاف الكون وفي أعماق الغيب وفي أغوار النفس التي استعرضها شطر السورة الأول، يأخذ الشطر الثاني في لمسات وجدانية وعقلية وتصويرية دقيقة رفيقة حول قضية الوحي والرسالة، وقضية   1 في ظلال القرآن: ج6 ص3800-3801. 2 في ظلال القرآن: ج1 ص304. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1042 التوحيد والشركاء ومسألة طلب الآيات واستعجال تأويل الوعيد وهي جولة جديدة حول تلك القضايا في السورة"1. وسيد قطب رحمه الله تعالى حريص على بيان الوحدة الموضوعية والربط بين الآيات والسور في كل موضع، ولهذا ترى هذا اللون في تفسيره كثيرا كثيرا، حتى تلك المواقف التي لا يتضح لذهنه موضع وحدتها ومصدر ربطها لا يتغافل عنه أو يدعي علما به، فينمق العبارات التي يحاول أن يستر بها عجزه بل يعترف رحمه الله تعالى بعجزه عن إدراكه ويطلب من القراء أن يرشدوه إلى ما عجز عنه وأن يعلموه ما جهل. فقد وقف رحمه الله تعالى طويلا عند بيان مناسبة قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} 2 لما قبلها من الآيات التي تحدثت عن بعض أحكام الأسرة في الإسلام كالزواج والمعاشرة والإيلاء والطلاق والخلع والعدة والنفقة والمتعة والرضاعة والحضانة لم يدرك المناسبة حين كتب التفسير لأول مرة وفي الطبعة الأولى ولما وفقه الله إلى ذلك في الطبعات التالية كان يذكر عجزه ذاك ويحمد الله أن هداه لهذا فيقول معلقا: "كنت قد عييت فترة عن إدراك سر هذا السياق القرآني العجيب قلت في الطبعة الأولى لهذا الجزء وفي الطبعة المكملة للأولى: أشهد أنني وقفت أمام هذه النقلة طويلا لا يفتح علي في سرها ولا أريد أن أتمحل لها، ولا أقنع كل القناعة بما جاء في بعض التفاسير عنها وقلت: "ولكنني كما قلت مخلصا لا أستريح الراحة الكافية لما اهتديت إليه. فإذا هديت إلى شيء آخر فسأبينه في الطبعة التالية وإذا هدى الله أحدا من القراء فليتفضل مشكورا بما هداه الله فالآن أطمئن إلى هذا الفتح وأجد فيه الطريق والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله"3.   1 في ظلال القرآن: ج4 ص2056. 2 سورة البقرة: 238. 3 في ظلال القرآن: ج1 ص238. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1043 إنه بهذا مثال العالم المسلم الذي لا يقول فيما لا يعلم، ويسأل إذا جهل، ويحمد الله إذا علم. وإذا عجز عن بيان ذلك في موضع حتى ولو لم يكن في الظلال غيره فإنه يصرح بقوله: "وأنا؛ اللحظة لا أجد في هذا القول ما يريح أيضا ولكنه لم يفتح علي بشيء آخر" ولا ينسى وهو المؤمن الاستعانة بالله في مثل هذا الموضع فيقول: "والله المستعان"1. نعم يصرح بـ: لم يفتح علي بشيء، وقد صرح بها من قبله مالك رحمه الله تعالى فقال: لا أدري، فما زادته إلا سُمُوًّا في القلوب وما نقصته إلا عُلُوًّا في العلم!! وذهبت تلك الكلمة مشعل نور في دياجير الزمن تحكي الورع الصادق عند علماء المسلمين. وإذا كانت تلكم هي المرة الوحيدة التي لم يستطع فيها سيد قطب رحمه الله تعالى بيان الماسبة بينها وبين الآيات التي قبلها فإن هذا يدل على توفيق الله تعالى له ببيان المناسبة في كل المواضع الأخحرى ويدل أيضا على عنايته رحمه الله تعالى بالوحدة الموضوعية في القرآن الكريم.   1 في ظلال القرآن: ج2 ص979. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1044 الأساس السابع: ترك الأطناب عما أبهم في القرآن الكريم وما الذي يتصوره غير ذلك من رجل يدخل التفسير دون مقررات سابقة إلا ما قرره الكتاب والسنة. فإذا كان القرآن نفسه أوجز الحديث عن أمره فمن أين يؤتى بدقائق تفصيله من غير سنة الرسول صلى الله وسلم. لهذا فقد أعرض سيد رحمه الله تعالى عن الخوض فيما أبهمه القرآن الكريم، ولم يرد بيانه في السنة، وكان هذا من منهجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1044 فقال في تفسيره لقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} 1: "وقد جرينا في هذه الظلال على قاعدة ألا نتزيد بشيء في أمر الغيبيات التي يقص الله علينا طرف من خبرها، وأن نقف عند حدود النص القرآني لا نتعداه.. هو كافٍ بذاته لإثبات ما يعرض له من أمور فنحن نؤمن أن هناك خلقا اسمهم الشياطين، وردت بعض صفاتهم في القرآن، وسبقت الإشارة إليها في هذه الظلال، ولا نزيد عليها شيئا ونحن نؤمن أن الله جعل من هذه المصابيح التي تزين السماء الدنيا رجوما للشياطين في صورة شهب كما جاء في سور أخرى {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} 2، {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} 3 كيف؟ من أي حجم؟ في أي صورة؟ كل ذلك لم يقل لنا الله عنه شيئا، وليس لنا مصدر آخر يجوز استفتاؤه في مثل هذا الشأن فلنعلم هذا وحده ولنؤمن بوقوعه، وهذا هو المقصود ولو علم الله أن هناك خير في الزيادة أو الإيضاح أو التفصيل لفَصَّل سبحانه فما لنا نحن نحاول ما لم يعلم الله فيه خيرا؟ في مثل هذا الأمر أمر رجم الشياطين؟! "4. وفي قوله تعالى؛ حكاية لقول الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} 5 قال: "أما أين يقف ذلك الحرس؟ ومن هو؟ وكيف يرجم الشياطين بالشهب؟ فهذا كله مما لم يقل لنا عنه القرآن ولا الأثر شيئا، وليس لنا مصدر سواهما نستقي منه عن هذا الغيب شيئا، ولو علم الله أن في تفصيله خيرا لنا لفعل، وإذ لم يفعل فمحاولتنا نحن في هذا الاتجاه عبث ولا يضيف إلى حياتنا ولا إلى معرفتنا المثمرة شيئا! "6.   1 سورة تبارك: 5. 2 سورة الصافات: 7. 3 سورة الصافات: 10. 4 في ظلال القرآن: ج6 ص3634. 5 سورةالجن: 8. 6 في ظلال القرآن: ج6 ص3730. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1045 وليس من الخير أيضا أن نطنب في بيان موقفه هذا وقد أتينا فيه بما يوقفنا على رأيه رحمه الله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1046 الأساس الثامن: التحذير من الإسرائيليات ومثل موقفه ذاك كان موقفه من الإسرائيليات؛ فقد كان رحمه الله تعالى يرفض إيرادها في التفسير ويحذر منها ويعدها أساطير لا سند لها صحيح. قال رحمه الله تعالى في قوله سبحانه: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} 1: "وتتفرق الأقوال حول فوران التنور، ويذهب الخيال ببعضها بعيدا وتبدو رائحة الإسرائيليات فيها وفي قصة الطوفان كلها واضحة. أما نحن فلا نضرب في متاهة بغير دليل في هذا الغيب الذي لا نعلم منه إلا ما يقدمه لنا النص، وفي حدود مدلوله بلا زيادة"2. وبيَّن رحمه الله تعالى موقفه منها في موضع آخر وهو يتحدث عن الطوفان أيضا، حيث قال: وبعدُ أكان الطوفان عاما في الأرض؟ أم أنه كان في تخوم الأرض التي بعث فيها نوح، وأين كانت هذه الأرض وأين تخومها في العالم القديم وفي العالم الحديث؟ أسئلة لا جواب عليها إلا الظن الذي لا يغني من الحق شيئا، وإلا الإسرائيليات التي لا تستند إلى دليل صحيح وليس لها بعد ذلك قيمة في تحقيق أهداف القصص القرآني في كثير ولا قليل". إلى أن قال: "وأساطير بني إسرائيل المدونة فيما يسمونه "العهد القديم" تحوي كذلك ذكرى طوفان نوح، ولكن هذا كله شيء لا ينبغي أن يذكر في معرض الحديث القرآني عن الطوفان ولا ينبغي أن يخلط الخبر الصادق الوثيق بمثل هذه الروايات الغامضة وهذه الأساطير المجهولة المصدر والأسانيد، وإن كان لوجود هذه الأخبار الغامضة عن الطوفان عند شعوب شتى دلالته في أن الطوفان قد كان في أرض هذه الأقوام، أو على الأقل قد رحلت ذكرياته مع ذراري الناجين حين تفرقوا في الأرض بعد ذلك وعمروا الأرض من جديد.   1 سورة هود: 40. 2 في ظلال القرآن: ج4 ص1877. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1046 وينبغي أن نذكر أن ما يسمى "بالكتاب المقدس" سواء في ذلك العهد القديم المحتوي على كتب اليهود أو "العهد الجديد" المحتوي على أناجيل النصارى ليس هو الذي نزل من عند الله. فالتوراة التي أنزلها الله على موسى قد حرقت نسخها الأصلية على يد البابليين عند سبي اليهود. ولم تُعَدْ كتابتها إلا بعد قرون عديدية قبيل ميلاد المسيح بنحو خمسة قرون وقد كتبها عزرا -وقد يكن هو عزير- وجمع فيها بقايا من التوراة؛ أما سائرها فهو مجرد تأليف، وكذلك الأناجيل؛ فهي جميعا لا تحوي إلا ما حظفته ذاكرة تلامذة المسيح وتلامذتهم بعد نحو قرن من وفاة المسيح1 عليه السلام، ثم خلطت به حكايات كثيرة وأساطير! ومن ثم لا يجوز أن يطلب عند تلك الكتب جميعها يقين في أمر من الأمور! "2. وقال في موضع آخر: "ولو قد سلمت التوراة من التحريف والزيادات لكانت مرجعا يعتمد عليه في شيء من تلك الأحداث ولكن التوارة أحيطت بالأساطير التي لا شك في كونها أساطير. وشحنت كذلك بالروايات التي لا شك في أنها مزيدة على الأصل الموحى به من الله، فلم تعد التوراة مصدرا مستيقنا لما ورد فيها من القصص التاريخي، وإذن فلم يبق إلا القرآن الذي حفظ من التحريف والتبديل هو المصدر الوحيد لما ورد فيه من القصص التاريخي"3. ولهذا فإنك لا تكاد تجد في تفسيره رحمه الله تعالى رواية إسرائيلية يوليها اهتمامه أو يتلقاها بالقبول؛ بل كان يعيب على كثير من المفسرين السابقين عنايتهم بها.   1 لا يقصد سيد رحمه الله تعالى بوفاة المسيح عليه السلام موته فقد توقف عن بيان كيفية وفاته وكيفية رفعه؛ لأنه من علم الغيب كما يقول، انظر ما قاله عن ذلك ج1 ص403، وج2 ص801-803. 2 في ظلال القرآن: ج4 ص1881. 3 في ظلال القرآن: ج4 ص2290. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1047 الأساس التاسع: ترك الاختلافات الفقهية فلم يقلب رحمه الله تعالى كتابه إلى كتاب في الفقه بل كان يحيل في المسائل الفرعية إلى كتب الفقه وأنه لا مجال لإيرادها في الظلال. فقال عن آيات المواريث في سورة النساء مثلا: "هذه الآيات الثلاث تتضمن أصول علم الفرائض أي علم الميراث أما التفريعات فقد جاءت السنة ببعضها نصا، واجتهد الفقهاء في بقيتها على هذه الأصول. وليس هنا مجال الدخول في هذه التفريعات والتطبيقات، فمكانها كتب الفقه، فنكتفي في ظلال القرآن بتفسير هذه النصوص والتعقيب على ما تتضمنه من أصول المنهج الإسلامي"1. وفي قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} 2 أجمل الحديث عن أحكامها ولم يتوسع في بيانه ثم قال: "والتفصيل يطلب في كتب الفقه المختصة"3. وفي قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّام} 4 قال: "وكون هذه الأيام الثلاثة متتابعة أو غير متتابعة فيه كذلك خلاف فقهي؛ بسبب عدم النص هنا على تتابعها. والخلافات الفقهية في هذه الفرعيات ليست من منهجنا في هذه الظلال فمن أرادها، فليطلبها في مواضعها في كتب الفقه"5. ولعل في إشارته الصريحة بأن هذا ليس من منهجه في الظلال يغني عن الإطالة في البيان. والذي ينبغي أن أذكره أن سيدا رحمه الله تعالى لم يهمل الأحكام القرآنية بيانها ولكنه لم يتوسع فيها توسع كتب الفقه أو توسع بعض المفسرين   1 في ظلال القرآن: ج1 ص590. 2 سورة المائدة: 3. 3 في ظلال القرآن: ج2 ص840. 4 سورة المائدة: 89. 5 في ظلال القرآن: ج2 ص971. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1048 وإنما كان يشير إلى المسائل الفقهية بعبارة موجزة، ثم يحيل على كتب الفقه لمن أراد الاستقصاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1049 الأساس العاشر: اجتناب الإغراق في المسائل اللغوية عندما أصدر سيد قطب رحمه الله تعالى كتابه "مشاهد القيامة في القرآن" قال في مقدمته عن القرآن الكريم: "والقرآن: هذا الكتاب المعجز الجميل هو أنفس ما تحويه المكتبة العربية على الإطلاق فلا أقل من أن يعاد عرضه، وأن ترد إليه جدته، وأن يستنقذ من ركام التفسيرات اللغوية والنحوية والفقهية والتاريخية والأسطورية أيضا"1. وحين ألف "في ظلال القرآن" لم ينس هذا، فنص في مقدمته على محاولته لذلك فقال: "كل ما حاولته ألا أغرق نفسي في بحوث لغوية أو كلامية أو فقهية تحجب القرآن عن روحي وتحجب روحي عن القرآن، وما أستطرد إلى غير ما يوحيه النص القرآني ذاته من خاطرة روحية أو اجتماعية أو إنسانية. وما أحفل القرآن بهذه الإيحاءات"2. ولا يعني هذا بحال من الأحوال أن سيدًا أغفل الحديث عن مسائل اللغة والنحو والبلاغة فقد عرض فيه لهذا في عدة مواضع لكنه يعرض لها إن عرض؛ للاستدلال على معاني الآيات وما تحويه من إشارات ولم يعرض لها كهدف وغاية؛ بدليل أنه يورد عند وقفاته النحوية أو اللغوية أو البلاغية سر ورود الآية بهذا التركيب البلاغي أو الصيغة النحوية. وخذ مثلا لذلك تفسيره لقوله تعالى عن ابنَيْ آدم عليه السلام: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} 3 فقد وقف رحمه الله   1 مشاهد القياة في القرآن: سيد قطبن ص9. 2 في ظلال القرآن: ج1 ص6 الطبعة الأولى. 3 سورة المائدة: 27. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1049 تعالى عند كلمة "فتقبل" فقال: "والفعل مبني للمجهول؛ ليشير بناؤه هكذا أن أمر القبول أو عدمه موكول إلى قوة غيبية وإلى كيفية غيبية، وهذه الصياغة تفيدنا أمرين: الأول ألا نبحث عن كيفية هذا التقبل ولا نخوض فيه كما خاضت كتب التفسير في روايات نرجح أنها مأخوذة عن أساطير "العهد القديم"، والثاني: الإيحاء بأن الذي قُبِلَ قربانُه لا جريرة له توجب الحفيظة عليه وتبييت قتله، فالأمر لم يكن له يد فيه، وإنما تولته قوة غيبية بكيفية غيبية، تعلو على إدراك كليهما وعلى مشيئته فما كان هناك مبرر ليحنق الأخ على أخيه، وليجيش خاطر القتل في نفسه"1. بهذا الأسلوب كان يعرض سيد رحمه الله تعالى للمسائل اللغوية يجعلها وسيلة لا غاية، ولا يقف عندها إلا بمقدار دلالتها على ما في الآية لا ما فيها مما هو خارج عن استعمال الآية.   1 في ظلال القرآن: ج2 ص875. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1050 الأساس الحادي عشر: رفض التفسير العلمي وعمدا أخَّرت هذا الأساس في منهجه؛ لعل القارئ يستخرجه بنفسه من استقراء الأسس السابقة. ما الذي تتوقعه من رجل يستوحي النص دون مقررات سابقة ويقف حيث يقف النص ويعرض عن الأطناب فيما أبهمه القرآن ويحذر من الإسرائيليات ويترك الخوض في الاختلافات الفقهية ويجتنب الإغراق في المسائل اللغوية يفعل كل هذا محافظة على الوقوف عند مدلول النص وعند ما يقرره النص. من يستقرئ هذه الأسس عند سيد قطب رحمه الله تعالى يظهر له أن سيدا سيرفض التفسير العلمي. ولهذا فقد اعتبرته من الرافضين للتفسير العلمي، وأوردت نصوصا مطولة من تفسيره رحمه الله تعالى في الفصل الثالث من الباب الثاني من هذه الدراسة. وبينت هناك أيضا لم اعتبرته من الرافضين إضافة إلى هذا السبب الذي ذكرته هنا، ولا أرى ثمرة لإعادة ما قلته هناك فانظر إليه في محله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1050 هذه -فيما أرى- أهم الأسس التي يقوم عليها منهج سيد قطب رحمه الله تعالى في تفسيره "في ظلال القرآن" ولا أنكر أن هناك من الأسس ما يعد وجهًا آخر أو مماثلا لما ذكرت من الأسس، ولكني رأيت أن أدمج ما تماثل منها وحسبت أني لو أفردت كل واحد منها مستقلا عن الآخر لعدَّ هذا علي أطنابا مملا وتفريقا مخلا رأيت أن الأفضل تحاشيه والبعد عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1051 ملاحظات على هذا التفسير : جلَّ من لا عيب فيه وعلا، ما كتب أحد من البشر كتابا إلا وبدا فيه موضع نقص وموضع عيب، ولو أعاد بنفسه النظر فيما كتب لوجد من ذلك شيئا منها ما يعرف عذره فيه، ومنها ما لا يرى فيه عذرا. كتب سيد قطب رحمه الله تعالى تفسيره وطبعه الطبعة الأولى ولما أعاد النظر فيه كادت التعديلات أن تكون تفسيرا جديدا وجاءت بأكثر من ضعف حجم الكتاب أولا. ولا شك أنَّا لا ندعي عصمة لسيد قطب رحمه الله تعالى ولا لتفسيره ولكن هذا لا يبرر لنا أن ننفخ بأفواهنا في هفواته الصغيرة حتى تبدو كبيرة، فليست هذه من شيم المؤمنين وليست من أخلاقهم. والله سبحانه وتعالى جعل للميزان كفتين كفة للحسنات وكفة للسيئات ويخطئ منا نحن البشر من لا يجعل للناس إلا كفة واحدة يزن بها أعمالهم؛ فإنه حينئذ لن يصل إلى الوزن الحق، ويخطئ من ينظر إلى كفة الحسنات وقد ثقلت وينظر إلى كفة السيئات وقد خفت فيذم بالثانية ولا يحمد بالأولى؛ أوَليست الحسنات يذهبن السيئات إذا فما باله كذلك. ولقد أشرت إلى بعض محاسن تفسير سيد قطب رحمه الله تعالى وأبرزت وجهها الناصع وما لم أذكر أكثر مما ذكرت. ومن الحق أن أشير إشارة سريعة إلى بعض المآخذ التي أخذت على سيد قطب رحمه الله تعالى في تفسيره وكان حقها أن تهمل ولا تذكر تطمسها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1051 محاسن تفسيره ومزاياه الكبرى كالشمس تطلع فتخفي النجم، ولكننا ننظر بعين من يقول هذا ويقول ذاك؛ التماسا للحق. ففي التفسير بالمأثور نرى سيد قطب رحمه الله تعالى يوليه اهتماما ويورد كثيرا من الأحاديث في تفسيره لكنه أحيانا يورد تفسيره خاليا من أحاديث صريحة صحيحة وأحيانا يورد بعض الأحاديث الضعيفة من غير بيان درجتها وينسبها أحيانا لغير كتب الرواية. ولتعلقه رحمه الله تعالى بالأسلوب الأدبي فقد كان غفر الله لنا وله يقع أحيانا في أساليب أدبية بحتة لم تهذبها العقيدة الصحيحة، ولعل مرد ذلك أن ثقافة سيد رحمه الله تعالى كانت في أولها ثقافة أدبية تحول بعدها إلى الدراسة الشرعية وراح يستدرك بالأخيرة ما أوقعته فيه الأولى وفات عليه في استدراكه هذا عبارات ومنها قوله عن توكل المؤمن على ربه واطمئنانه إلى موقفه وطريقه "إنها كلمة المطمئن إلى موقفه وطريقه. المالئ يديه من وليه وناصره"1 ومنها وصفه للبشرية بأنها: "لن تجد السعادة إلا حين ترد الفطرة البشرية إلى صانعها الكبير كما ترد الجهاز الزهيد إلى صانعه الصغير"2 ومنها وصفه للصلة بين العبد وربه: "حين يرفع الله عباده الذين يؤثرونه ويحبونه إلى مرتبة يتحرج القلم من وصفها لولا أن فضل الله يجود بها مرتبة الصداقة.. الصداقة بين الرب والعبد"3!! ونحو ذلك من العبارات التي لا نرتضيها، ولا نظنه رحمه الله تعالى وغفر لنا وله إلا وقد كتبها أثناء تأثره بالثقافة الأدبية وقبل أن تصقل فكره الدراسة الشرعية وفات عليه استدراكها بعد ذلك. ومن الملاحظات أيضا تحديده وقت الإمساك للصائم في قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} 4 بأنه قبل طلوع الشمس بقليل وإننا نمسك الآن وفق المواعيد المعروفة في قطرنا   1 في ظلال القرآن: ج4 ص2091. 2 في ظلال القرآن: ج1 ص15. 3 في ظلال القرآن: ج6 ص3875. 4 سورة البقرة: 187. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1052 هذا قبل أوان الإمساك الشرعي ببعض الوقت ربما زيادة في الاحتياط1 وهذا القول لم يقل به أحد من قبله. ومن الملاحظات أيضا أن التزامه لمنهج الواقعية في التفسير -كما أشرت إليه- قد أوقعه في موقف من الفقه غير سليم، ففي تفسيره مثلا لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} 2 قال رحمه الله تعالى: "إن موضوع الغنائم بجملته ليس واقعا إسلاميا يواجهنا اليوم أصلا، فنحن اليوم لسنا أمام قضية واقعة، لسنا أمام دولة مسلمة وإمامة مسلمة وأمة مسلمة تجاهد في سبيل الله ثم تقع لها غنائم تحتاج إلى التصرف فيها.. ليس هناك قضية غنائم؛ لأنه ليس هناك قضية جهاد.. والمنهج الإسلامي منهج واقعي، لا يشتغل بقضايا ليست قائمة بالفعل، ومن ثم لا يشتغل أصلا بأحكام تتعلق بهذه القضايا التي لا وجود لها من ناحية الواقع! إنه منهج أكثر جدية وواقعية من أن يشتغل بالأحكام! هذا ليس منهج هذا الدين، هذا منهج الفارغين الذين ينفقون أوقات الفراغ في البحوث النظرية وفي الأحكام الفقهية، حيث لا مقابل لها من الواقع أصلا بدلا من أن ينفقوا هذه الجهود في إعادة إنشاء المجتمع المسلم من أجل هذا الإدراك لجدية المنهج الحي الواقعي الحركي لهذا الدين لا ندخل هنا في تلك التفصيلات الفقهية الخاصة بالأنفال والغنائم حتى يحين وقتها عندما يشاء الله وينشأ المجتمع الإسلامي، ويواجه حالة جهاد فعلي، تنشأ عنه غنائم تحتاج إلى أحكام"3. وينبغي أن أبين أنه لا يريد بالفقه هنا كل الفقه بدليل أنه عرض لكثير من مسائله -وإن كان في إيجاز- وإنما يريد به المسائل الفقهية التي لا وجود لها في واقع المسلمين المعاصر. ثم إن هذه المسائل التي عاب الخوض فيها لم يطلب إلغاءها وإنما تأجيل الحديث عنها إلى أن توجد الحاجة لها في أرض الواقع.   1 في ظلال القرآن: ج1 ص175. 2 سورة الأنفال: 41. 3 في ظلال القرآن: ج3 ص1518-1519 باختصار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1053 وقد ظنه بعض الناس -لأجل هذا- ومنهم مغرض ينطوي على كيد ومكر ومنهم غيور على الحق لم يستوعب الأمر من أطرافه. ظن هؤلاء أن سيد رحمه الله تعالى يسعى للقضاء على الفقه، وإلى إهدار الجهود الكبيرة التي بذلها الفقهاء على مدار القرون. وعلى كل حال نحن لا نبرئ سيد قطب رحمه الله تعالى، ولكنا لا نؤيد أولئك الذين نفخوا في زلته حتى بدت كالجبال. ونلتمس له عذرا بأن كلامه هذا صدر عن انفعال وحماس وتأثر وأنه نفسه مصدور وزفرة مكلوم1 اطلع على واقع العالم الإسلامي من زاوية لم ينظر منها أولئك فقال ما قال، وكان الأولى أن لا تصدر عنه مثل هذه العبارات أما وقد صدرت فإنا ندعو لنا وله بالرحمة والمغرفة ونلتمس له عذرًا ما دام لم يقل كفرًا. ومن ناحية منهجية فإنا نلاحظ على سيد قطب رحمه الله تعالى الاستطراد في أبحاث لا رابطة قوية لها بالآية التي يفسرها وكأنه رحمه الله تعالى يلتمس منفذا ينفذ منه إلى تشخيص داء العالم الإسلامي المعاصر وإظهار علاجه وكأنه يخشى أن يهرب منه المريض قبل أن يسمع منه علاجه، فلا يترك سانحة إلا ويشحنها بكل ما في نفسه من علاج حتى وإن كان إيرادها في غير موضعها تماما وحتى إن كان استدرادا وترتب على هذا أيضا أمر آخر هو التكرار وإعادة الحديث مرارا ونحسب سببها واحدا. ولعل سبب هذه الأخطاء جملة من سيد قطب رحمه الله تعالى ما أشرت إليه آنفا أن الرجل كان أدبي الثقافة واتجه إلى تفسير القرآن الكريم من هذا المنطلق ومن هذا الواقع، فكان تفسيره ما كان ومر حينٌ اتجه رحمه الله تعالى إلى استدراك ما فاته، فسعى للدراسات الشرعية وانطلق من واقعها إلى تنقيح ما كتب وتقويم ما اعوج، فكان له ذلك في أكثره وبقي أقله وهو القليل لا يزال بحاجة إلى هذا التنقيح، لكنه لقلته لا يكاد يذكر بجانب محاسنه. وغفر الله لنا وله. إنه سميع مجيب.   1 في ظلال القرآن "دراسة وتقويم" صلاح عبد الفتاح دحبور ج2 ص1037. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1054 الباب الخامس: الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن الكريم تمهيد : أعاذنا الله وإياكم منه. الإلحاد في اللغة: الميل عن القصد، وألحد في الدين أي حاد عنه1. ويخطئ بعض الناس فلا يكاد يذكر عنده الإلحاد إلا ويتبادر إلى ذهنه الكفر، والحق فيما يظهر لي أن بين الكفر والإلحاد خصوص وعموم؛ فالإلحاد أعم من الكفر؛ إذ كل كفر إلحاد وليس كل إلحاد كفرًا. فالتفسير المخطئ لآية من آيات القرآنالكريم بحيث لا يخالف معلوما من الدين بالضرورة، ولا يهدم جانبا من جوانبه ينطبق عليه وصف الميل والانحراف فيسمى لغةً إلحادا؛ لإلحاده وميله وانحرافه عن الصواب والحق في التفسير. أما التفسير الذي يؤدي إلى إنكار أصل من أصول الدين وصرفه إلى معانٍ لا تدل عليها لغة ولا دين بل الدين ينكرها ويرفضها، فإن هذا يسمى مع الإلحاد كفرًا؛ لأنه ليس إلحادا عن الصواب فحسب بل هو انحراف عن الدين أيضا. ومن هنا فإنه يجب التفريق بين التفسير الملحد والتفسير الكافر. وتاريخ الإلحاد والملحدين -أعاذنا الله وإياكم منه ومنهم- تاريخ طويل   1 انظر لسان العرب مادة لحد ج3 ص388-389. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1057 ليس من شأني تتبعه ولا الحديث عنه إلا بقدر ما له من علاقة بموضع حديثنا هنا. وقد اطلعت على مقال كتبه الأستاذ محمد فريد وجدي عن الإلحاد في العصر الحديث وقد جاء هذا في مقال عنونه بـ "مذهب القرآن في المتشابهات" أوجز فيه تاريخ الإلحاد المعاصر، وحديثه هذا حديث العارف المطلع. ولذا أقتصر عليه هنا، قال وهو يتحدث عن النهضة العلمية الحديثة: "في تلك الأثناء ولد العلم الحديث وما زال يجاهد القوى التي كانت تساوره حتى تغلب عليها، فدالت الدولة إليه في الأرض فنظر نظرة في الأديان وسرى عليها أسلوبه1. فقذف بها جملة إلى عالم الميثولوجيا2 ثم أخذ يبحث في اشتقاق أصولها بعضها من بعض واتصال أساطيرها بعضها ببعض، فجعل من ذلك مجموعة تقرأ لا لتقدس تقديسا، ولكن ليعرف الباحثون منها الصور الذهنية التي كان يستعبد الإنسان لها نفسه ويقف على صيانتها جهوده غير مدخر في سبيلها روحه وماله. وقد اتصل الشرق الإسلامي بالغرب منذ أكثر من مائة سنة، فأخذ يرتشف من مناهله العلمية ويقتبس من مدينته المادية، وقف فيما وقف عليه على هذه الميثولوجيا ووجد دينه ماثلا فيها، فلم ينبس بكلمة؛ لأنه يرى الأمر أكبر من أن يحاوله، ولكنه استبطن الإلحاد وتمسك به متيقنا أنه مصير إخوانه كافة متى وصلوا إلى درجته العلمية. وقد نبغ في البلاد الإسلامية كتاب وشعراء وقفوا على هذه البحوث العلمية فسحرتهم، فأخذوا يهيئون الأذهان لقبولها دسا في مقالاتهم وقصائدهم غير مصارحين بها غير أمثالهم تفاديا من أن يقاطعوا أو ينفوا من الأرض"3. ذلكم ما صرح به الأستاذ محمد فريد وجدي وهو اعتراف خطير يلقي على   1 أي التجربة. 2 أي علم الأساطير. 3 جريدة الأهرام المصرية 30/ 8/ 1933م، ص3 مقال "مذهب القرآن في المتشابهات" للأستاذ محمد فريد وجدي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1058 عاتق العلماء المسلمين خاصة والمثقفين عامة وجوب تمحيص مقالات وقصائد كتاب وشعراء تلك الفترة، والحذر كل الحذر من الانخداع ببريق شهرة أو انتشار صيت أو كثرة أتباع. ولا يخفى أن كل كلمة -كدت أقول كل حرف- من كلمات الأستاذ وجدي المنقولة آنفا بحاجة إلى تعليق وتعليق واستجلاء لمدلولاتها وكشف لمعانيها ولكن هذا ليس من شأني هنا وحسبي منه أنه يعطي صورة صادقة لنشأة الإلحاد في العصر الحديث، خاصة أنه من شخص مجرب خبير. وقد عانى العالم الإسلامي في تلك الفترة وما زال يعاني من مستبطني الإلحاد الذين ينشرون إلحادهم على الملأ باسم البحث العلمي والحرية العلمية. وظاهرة هي التي تحز في نفس المسلم أكثر من سابقها تلكم أنه ما اعتدى أحد من المنتسبين إلى الإسلام على الإسلام إلا وتبوأ بعد فترة قصيرة منصبا كبيرا في الدولة، وكأنه مكافأة له على إلحاده مهما علت الصيحات ضده والانتقادات والاعتراضات ضد أفكاره وآرائه، لكن هذه الصيحات لا تلبث أن تهدأ وتسكن، يعقبها تولي هذا الملحد ذلكم المنصب، وكأني ألمح هناك يدًا تدفعه إلى الإلحاد ويدًا أخرى تدفع له الثمن وأيد أخرى تدافع عنه وتقاتل. لست أزعم أني الوحيد الذي أدرك هذه الظاهرة ولكني الأخير فقد صرح بها كثير وتعدد مدركوها، فقد كتب توفيق الحكيم مرة عن حادثة لأحد هؤلاء الملحدين فقال: "وليست هذه الحركة هي الأولى من نوعها في مصر فقد سبق أن ألف الأستاذ علي عبد الرازق وزير الأوقاف الحالي كتابا عن الإسلام وأصول الحكم، فقامت قيامة الأزهر واحتجت هيئة كبار العلماء وفصلته واستقال الوزراء الأحرار الدستوريون من وزارة زيور باشا؛ احتجاجا على الفصل وأقيل وزير العدل عن منصبه وكان عبد العزيز فهمي باشا بهذا السبب. وحدث مرة أخرى أن ألف الدكتور طه حسين كتابا عن الشعر الجاهلي شك في بعض المعتقدات فقامت قيامة البرلمان وأراد مجلس النواب إخراجه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1059 من منصبه، فهدد عدلي باشا رئيس مجلس الوزراء بالاستقالة حماية للبحث العلمي"1. وصرح الشيخ مصطفى صبري بعبارة أوضح فقال: "يقوم الفينة بعد الفينة من سولت له نفسه بالخروج عن الإسلام في ناحية من نواحيه الاعتقادية، فيثور احتجاجا عليه فئة من الغيورين على دينهم ويحميه منهم رجال من الوزراء المستبطنين ما أظهره الخارج، وإن لم يحمه حامٍ عاجلًا ففي المستقبل القريب أو البعيد ينال الرجل مكافأة خروجه بأضعاف ما كان له من المراكز والمناصب يوم خرج وثار عليه المستنكرون. ويكون هذا المصير غبطة لآخرين، فتتكرر المهزلة في أيام أخرى على مسائل أخرى مماثلة"2. بل إن الأستاذ أمين الخولي يدعو أصحاب تلك الأفكار بالخروج بها ونشرها بين الناس ويعدهم ويمنيهم بأن لهم النصر المؤكد حيث يقول: "وأحسبني لا أجد في هذا المقام أصوب وأجدى من الحديث في هذه المقدمة عن ذلك الناموس الاجتماعي المطرد على الأجيال منذ قديم عهد الدنيا بالحياة ليربط صدق هذا القانون على قلوب الذين يكتب الله عليهم اليوم وفي الغد القريب، أو البعيد، والأبعد أن يكونوا حملة فكرة تطورية ودعوة تجديدية في أي ميدان من ميادين النشاط الإنساني فلا يَهِنُون حين تجتمع الدنيا بكثرتها على محاربتهم ولا يشكون لحظة في النصر مهما تتربص قوى الجهل بهم وليعلموا أن هذا النصر المؤكد لا ينال إلا بثمنه الباهظ الفادح من الصدق والصبر اللذين يلذ معهما الألم ويهون الصعب ويتراءى النور من القلوب في أشد حلكة الظلام!!   1 عن موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين: مصطفى صبري ج1 ص307-308 عن جريدة أخبار اليوم العدد 155. 2 موقف العقل والعلم من رب العالمين وعباده المرسلين: مصطفى صبري ج1 ص318. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1060 ويقوى الإيمان حين يستيئس الناس!! "1. وعلى كل حال فقد كثر ولا حول ولا قوة إلا بالله الإلحاد والملحدون في جوانب عديدة بدءا من العقيدة في الله ومرورا بالعقيدة في الأنبياء واليوم الآخر والقدر وفي أخبار القرآن وقصصه وتأويل آياته وفي السنة وحجيتها وفي الأحكام الشرعية الثابتة وفي السياسة والاجتماع وشتى النواحي وإلى ما لا نهاية. ويقف المتأمل حائرا متسائلا عن الدوافع التي جرفتهم إلى تيار الإلحاد، وتتنازعه الأسباب كلٌّ يجره إليه فيستقر قراره على أن أهمها ولا شك: 1- أولئك القوم الذين يدفعونه إلى الجهر بالفكرة وتبنيها ويَعِدُونه بالدفاع عنه ويمنونه بالمناصب الكبيرة أو غيرها ونحن وإن كنا لا نستطيع أن نعدد أسماءهم في كل حركة، فإن معرفة أهم عناصرهم تحملها تلك الدراسات عن كل حركة. فمثلا عندما فصل علي عبد الرازق من وظيفته استقال الوزراء "الأحرار" من وزارة زيور باشا وأقيل وزير العدل وعين بدلا منه عبد العزيز فهمي باشا، ثم ما لبث بعد فترة من هذا إلا ويعين علي عبد الرازق هذا وزيرا للأوقاف؟! وكذا طه حسين لما أصدر كتابه في الشعر الجاهلي وأراد مجلس النواب فصله من منصبه هدد عدلي باشا رئيس مجلس الوزراء بالاستقالة "حماية للبحث العلمي" وما لبث طه حسين إلا وقد تم تعيينه وزيرا للتعليم؟! وغيرهما كثير مما لا يدع مجالا للشك أن الأمر لم يأتِ صدفة من غير أن يقف أحد خلفه يخطط له ويرسم الأهداف. 2- ومن هذه الأسباب أيضا حب الشهرة وضعف الإيمان الذي يجعل الأول يطغى على الثاني فيجرفه فإذا ما تحققت هذه الشهرة له عاد إلى الإيمان   1 مقدمة أمين الخولي لكتاب "الفن القصصي في القرآن الكريم" لمحمد أحمد خلف الله، ص "ل". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1061 وأعلن توبته، فتكون عودته هذه أيضا زيادة في شهرته فيبقى مشهورا في خروجه وفي عودته. معاذ الله أن أتَّهِم أولئك الذين عادوا إلى الإيمان بسوء فالله أعلم بالسرائر. لكني أذكر واقعا وأحكي حقيقة نراها بأم أعيننا ولله وحده ما تكن القلوب وما تخفي الصدور. ومن هؤلاء الذين أعلنوا عودتهم محمد أبو زيد، وخالد محمد خالد، وكامل كيلاني، وإسماعيل مظهر، ومصطفى محمود، وغيرهم. لكن اللافت للنظر أن بعض هؤلاء وإن أعلن عودته بالكتابة الإسلامية المستقيمة لكنه لم يتبرأ من إلحاده السابق ولم يكتب ما ينقضه به. 3- ومن الأسباب أن يكون الكاتب نفسه غير مسلم أصلا ولكنه يكتب لتشكيك المسلمين وزعزعة عقيدتهم بوحي من عقيدته الباطلة أو اتجاهه الإلحادي الذي ينكر كل دين. وبعض هؤلاء وهو يعيش في دولة مسلمة غالب شعبها مسلم وهو في أقلية يرى من صالحه وقد صعب عليه الدخول في الإسلام وشق، أن خير وسيلة لتحقيق مآربه أن تنقلب الدولة إلى دولة علمانية وهؤلاء ينظرون إلى دولة تركيا مثالا لدولتهم وإلى أتاتورك قدوة لهم، وهم كثير. 4- ومنهم من يكون عن اقتناع في الفكرة وضعف في البصيرة ابتلاه الله به. وقليل ما هم. وهناك أسباب أخرى أقل من هذه شأنا. وما علينا أن نستقصي الأسباب أو أن نذكر لها عددا وشأننا معها هنا التماس حقيقة أولئك الذين يلحدون في آيات القرآن الكريم هل عرفوا التفسير الصحيح فأبوا إلا التعامي عنه وألقوه وراء ظهورهم لأمر في نفوسهم أم غاب عنهم، فقالوا ما يحسبونه حقا من غير معرفة بأصول التفسير وشروطه واستنادا إلى أدلة حسبوها مقبولة أم خبطوا خبط عشواء من غير علم شرعي ولا غيره، فكان تفسيرهم هذيان مخرف لا نستطيع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1062 الحكم على أحد بأحد النوعين الأولين لكنا نستطيع أن نفرق بين هذه الأمور الثلاثة في ذاتها. أما أصحاب المنهج الأول فهم طائفة درسوا علوم الشريعة وتخرجوا من كلياتها فهم على علم ومعرفة -ولا شك- بشروط التفسير والمفسرين وعلى معرفة بعلوم الشريعة، وحين عمدوا إلى التفسير جاءت مخالفتهم للحق مجردة من التماس العذر لهم بالجهل. وكان منهجهم هذا المنهج الإلحادي في التفسير. أما أصحاب المنهج الثاني فطائفة لم يطلبوا العلوم الشرعية ولم يدرسوها في مدارسها بل تقاذفتهم المدارس في نواحٍ أخرى ليس منها علوم الشريعة ولما اشتد عودهم عز عليهم أن يطلبوا علوم الشريعة وهم الأساتذة وحسبوا -جهلا- أن علومها في متناول أيديهم، وأنها لا تحتاج إلى أكثر من تقليب الفكر في نصوص الكتاب والسنة والتعبير عنها من زواياها الضيقة من غير أن يكون في محيط علمهم لزوم توسيع دائرة النظر في النص الشرعي ليشمل كافة آيات القرآن والأحاديث الصحيحة وأنه لا يصح أن نأخذ ببعضه ونترك بعضه وبوحي هذا الاعتقاد الخاطئ انطلقوا يفسرون آيات القرآن الكريم، فوقعوا في الإلحاد من حيث لا يشعرون والمؤمن منهم من نبه إلى الحق فرجع إليه واستغفر من ذنبه، وأحسب أن هؤلاء لا يصح أن يقرنوا مع النوع الأول وقد رأيت أن خير وصف لمثل هؤلاء أن يسمى "منهج القاصرين"؛ لأنهم قصروا في تحصيل شروط المفسر وعجزوا عنها وتناولوا التفسير من غير بابه، فكانوا في قصورهم عن هذه الشروط كالقاصر في عدم اكتمال رشده ولست بهذا أُبرئهم من الخطأ أو ألتمس لهم عذرا أو أبرر لهم معصية. وإنما أمرهم إلى الله وهو أعلم بنا وبهم. أما الصنف الثالث فلا منهج، وأنى يكون لهم ذلك وهم يخبطون خبط عشواء، وأنى يكون لمجنون منهج يسلكه وهو الذي يسير بوحي ساعته بل دقيقته التي يعيشها لا صلة لها بماضٍ ولا مستقبل وإن كان لها من صلة فعلى غير وجه الحق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1063 وكأني بطائفة من القراء تقرأ ما أقول أو تسمعه، فيرتسم السؤال عما أقصده بكلامي هذا وما أرمي إليه. هو لا شك أمر محير وقفت عنده حينا من الزمن أقلب النظر فيه والبصر. طائفة من الناس ليست من علماء الشريعة وليست من المنتسبين إلى العلم كافة في شتى صنوفه، اتجهت إلى تفسير القرآن لم تسلك سبيل هؤلاء ولم تسر في درب هؤلاء ولا التزمت ما التزمه العقلاء الذين ليسوا من هؤلاء ولا من هؤلاء، فزجوا بأنفسهم في تفسير القرآن الكريم، فجاءوا بتفاسير لا تقوم على أسس شرعية ولا علمية وليس لها سند لا في القديم ولا في الحديث ولا صلة بين معاني ألفاظها ومعاني ألفاظ القرآن ولا مطابقة لغوية ولا معنوية ولا شكلية، فجاءوا بهذيان كهذيان المحموم تسأله عن حاله فيجيبك بذكر اسم صديق له أو قريب أو بكلام غير مفهوم. ولهذا فإني لن أصف طريقة هؤلاء بالمنهجية إذ لا منهج، فأطلقت عليهم طريق اللامنهجية وقد هممت أن أسميه تفسير المجانين!! وعلى هذا فسأتناول المنهجين الأول والثاني والصنف الثالث كُلًّا على حدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1064 الفصل الأول: المنهج الإلحادي في تفسير القرآن الكريم مدخل ... الفصل الأول: المنهج الإلحادي في تفسير القرآن الكريم ويتميز هذا اللون من التفسير -والحمد لله- بقلة بل ندرة المؤلفات الكاملة فيه إذا اقتصر أصحابه على تفسير آيات من هنا وهناك حسب الموضوع الذي يتطرقون إليه فيستشهدون بآيات من القرآن -ملحدين- بتأويلها. ولئن كان بوسعنا الكتابة عن كل التأويلات الباطلة لآيات منفردة من آيات القرآن الكريم على هذا النحو، فإنه لا بد من ذكر أمثلة متنوعة لهذه التأويلات المنحرفة. صدرت عن طائفة من المنتسبين للعلم والعلماء. ومن أكثر أصحاب التأويلات الباطلة والآراء الجديدة العجيبة التي يقف المسلم فيها حائرا يعض بنان الأسف والندم وهو يعلم علما يكاد يتيقنه أن صاحب هذه الآراء غير مقتنع، ولكنه لأمر في نفسه امتطى صهوة هذه التأويلات، وهي كثيرة متعددة يهمنا أن نذكر له تأويلا واحدا. ذلكم الشيخ أحمد حسن الباقوري قد أوَّل قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 1 بأن الآية لا تتناول إلا من أنكر بقلبه وجحد بلسانه أما من عرف بقلبه أن هذا الحكم حكم الله وأقر بلسانه أنه حكم الله ثم أتى بما يضاده فإنه على ذلك حاكم بما أنزل الله، وإن كان تاركا له فلا يلزمه دخوله تحت هذه الآية واعتباره كافرا، ثم وصف هذا التفسير للآية بأنه ينفي عن الأمة حرجا لا قبل لها به ولا خيرة لها فيه؛ إذ يستطيع القائلون به أن يتعلقوا بقضية العموم في الآية، فيرموا بالكفر حكام أمتنا الذين يستمدون   1 سورة المائدة: من الآية 44. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1065 القوانين واللوائح والاشتراعات من قوانين عالمية لا صلة لها بالإسلام1. وقال أيضا: "إن حكام البلاد الإسلامية اليوم هم في حالة الضرورة التي تبيح بعض المحظور، على أن يرتقبوا الوقت المناسب حين تكون للأمة قوة تحمي بها تقاليدها وشرائعها ومدنيتها، والإسلام نفسه سلك هذا المسلك فعمل أولا على تكوين العقيدة في الأمة ثم على تكوين شريعتها، والقرآن مكيه ومدنيه يؤيد ذلك"2!! وبالمناسبة فإنه قال هذا الباطل وهو يتولى منصب وزير الأوقاف ولعله أراد به أن يدق مسمارا يثبت به في منصبه. ولذلك فإن مجلة الدعوة المصرية ردت عليه حينذاك سنة 1373هـ بقولها: "كان الشيخ الباقوري في إجابته سياسيا ودبلوماسيا. أكثر منه عالما وفقيها" وقد رد عليه أيضا ردًّا مفحما الأستاذ أحمد محمد جمال في كتابه على مائدة القرآن3 فاقرأه إن شئت. تعدد الزوجات: وهي من أشهر القضايا والأحكام الشرعية التي كانت ولا تزال ميدان حوار طويل ونقاش وجدل لا ينتهي، ولم يزل المسلمون منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمنون بتعدد الزوجات، ويجعلون من أنفسهم مثالا لتطبيقه؛ 1- إعفافا للنفس. 2- زيادة في النسل. 3- عدلا بين الزوجات والأولاد. 4- إعفافا لنساء المؤمنين. لم يزل هذا معتقد المسلمين حتى نبتت فيهم طائفة تأثرت بطريق مباشر   1 مجلة العربي: العدد 169 ص92 مقال: لن يشاد الدين أحد إلا غلبه: للشيخ أحمد حسن الباقوري. 2 على مائدة القرآن: أحمد محمد جمال، ص183. 3 انظر على مائدة القرآن: أحمد محمد جمال، ص181-198. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1066 أو غير مباشر بالغرب، ووجدوا من بين ما وجدوا من فروق مسألة تعدد الزوجات، فطأطأ بعضهم رأسه خجلا كأن في الأمر عيبا خارقا ثم انعطف على النصوص يلتمس فيها مخرجا، ولم تبلغ به درجة الخجل أن ينكر ما هو معلوم من دلالة النص الصريحة ولكنه ذهب يلتمس تأويلا يقيد به تعدد الزوجات فوجدوا في الآية نفسها قيد العدل في إباحة تعدد الزوجات فرأوه سلما سهل المرتقى للتشدد في تطبيقه ومن ثم الدعوة إلى تقييد تعدد الزوجات بشروط ما أنزل الله بها من سلطان. وعلى هذا فقد شكلت في مصر سنة 1926م لجنة اقترحت تقييد تعدد الزوجات وقدمت المقترحات لمجلس النواب وبعد مناقشات أعيدت لوزارة العدل لدراستها ثم صدر القانون رقم 25 لسنة 1929م منظما لبعض شئون الأسرة خاليا من مقترحات تقييد تعدد الزوجات. إلى أن أصدرت وزارة الشئون الاجتماعية في مصر سنة 1945م مشروعا بقانون لعرضه على البرلمان يقضي بتقييد تعدد الزوجات باشتراط إذن القاضي الشرعي الذي في دائرة اختصاصه مكان الزواج، واشتراط أن لا يأذن القاضي إلا بعد الفحص والتحقق من أن سلوكه وأحوال معيشته يؤمن معها القيام بحسن العشرة والإنفاق على أكثر من في عصمته ومن تجب نفقته عليهم من أصوله وفروعه ولم يكتب -والحمد لله- لهذا المشروع النجاح. والذي يهمنا هنا أن مجلة "المجتمع الجديد" طرحت المشروع هذا على شيخ القضاة "عبد العزيز فهمي باشا" وسألته رأيه والذي يهمنا منه أيضا، أنه جاء بتفسير جديد فهو لم يلتمس مخرجا ينفذ منه إلى تبرير هذا المشروع ولكنه جاء بالعجب العجاب وزعم أن الآية: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} 1 تدل على تحريم تعدد الزوجات واقرأ إن شئت قوله: "إن من يتأمل نصوص القرآن الكريم من قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} 1 ثم من قوله في   1 سورة النساء: من الآية 3. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1067 موطن آخر: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} 1. يجد أن القرآن الكريم يحرم تعدد الزوجات، وكل ما في الأمر أن صيغة هذا التحريم وردت على عادة القرآن في عبارات هي أقصى ما يمكن من الاستدراج والتلطيف. فإن الآية الأولى، واضح لكل متذوق أنها هزء وسخرية ممن يريد تعدد الزوجات وأن فيها إيكال الأمر لمن يعلم الله أنه لا يستطيع القيام بالأمر، فمخاطبة غير المستطيع بما هو من شأن المستطيع تلك كلها سخرية بالمخاطب: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} . إلى أن زعم: "ثم في ذلك الموطن الآخر عبر هذه الفكرة تعبيرا هو من أشد ما يكون بيانا للواقع الذي يعلمه هو فقال: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} و"لن" كما يقرر النحاة هي أشد أدوات النفي للمستقبل إذ تنفيه نفيا باتا. فالقرآن يسجل بصريح العبارة أن الاستطاعة مستحيلة، أي أن العلة المتوهمة للتصريح بالتعدد لن تتحقق أبدا والمقرر عند الفقهاء من عقليين وحرفيين أنه متى زالت العلة زال المعلول". ثم صرح برأيه فقال: "إذن فرأيي الذي ألي الله عليه هو أني مأمور ديانة بأن أكون من معتنقي مذهب الاقتصار على زوجة واحدة". وصرح بموقفه من المشروع ذاك وذهب إلى أبعد مما ذهب إليه المشروع فقال: "ومن أجل هذا لا أوافق البتة على طريقة المشروع تلك الطريقة التي يراد بها عدم تعدد الزوجات ولكن بسبل ملتوية يراد لها قطع أسباب الاعتراض ممن يظنون أن لهم على خلاف نصوص القرآن الصريحة حق الاعتراض. ومن أجل هذا أرجو ألا تسير الحكومة في مثل هذا المشروع بل تأتي للأمر فتعالجه من   1 سورة النساء: من الآية 129. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1068 جذوره بأن تستصدر قانونا ينص دفعة واحدة على تحريم تعدد الزوجات"1. وإني لمتيقن أن انحراف هذا التفسير وإلحاده لا يخفى على ذي أدنى معرفة وأدنى لبٍّ، وأن صاحبه لن ينال من قراءه إلا الهزء والسخرية حتى أولئك الذين يؤيدون فكرته لا أظنهم إلا ويقطعون بفساد تأويله. وأمر تعدد الزوجات وإباحته أمر معلوم من الشريعة كدت أقول بالضرورة فلا حاجة بنا إلى تقرير ذلك وإن كان لنا من حاجة فهي أن نكشف مغالطة الرجل في استدلاله بالآية فهو كاستدلال من يستدل بقوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاة} ويدع {وَأَنْتُمْ سُكَارَى} ولو أحسن الاستدلال وأحسن القصد وطلب الحقيقة لأكمل عبد العزيز فهمي -هذا- الآية التي استدل بها فأوردها كاملة هكذا: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} 2. فقوله سبحانه: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} وقوله: {وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا} وقوله: {غَفُورًا رَحِيمًا} كلها تبين المراد بالعدل والواجب منه بيانا لا يريده أو لا يريد أن يفهمه كذلك الأستاذ عبد العزيز فهمي باشا، ولهذا بتر الآية. أما زعمه أن النحاة قد قرروا أن النفي بلن يفيد التأبيد فهو افتراء على النحاة وليس بمستغرب ممن يفترى على القرآن أن يفتري على النحاة، فلم يقل النحاة أن النفي بـ "لن" نفيٌ باتٌّ إلا الزمخشري قال ذلك ليؤبد النفي في قوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} 3 حتى يستدل بها على إنكار رؤية الله تعالى التي لا يؤمن بها المعتزلة، وأما النحاة سواه فهم على ضد ذلك فقد قال ابن مالك: ومن رأى النفي بلن مؤبدا ... فقوله أرددْ وسواه فاعضدا4   1 عن: على مائدة القرآن: أحمد محمد جمال، ص208 ومجلة الكويت العدد 8 رجب 1401هـ، ص110 عن مجلة المجتمع الجديد. 2 سورة النساء: الآية 129. 3 سورة الأعراف: من الآية 143. 4 الكافية الشافية: لابن مالك ج3 ص1515. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1069 هذا ما نرى لزوم ذكره ردا على التأويل الباطل للشيخ عبد العزيز فهمي باشا، وفيما ذكرته الكفاية إن شاء الله أو بعضها. وهذا الشيخ عبد العزيز بن خلف آل خلف، فسر سورة الزلزلة بتفسير لم يقل به أحد من قبله فقال مثلا في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} 1: "اتفق المفسرون على أن الأرض تتحدث بما عمل عليها يوم القيامة، فتشهد على كل أحد بعمله الذي عمله على ظهرها من خير وشر؛ أما في الدنيا فقد تحدثت أيضا بما يعمله أهلها على ظهرها من خير أو شر في كل بقعة على وجه الأرض، ونحن نسمع هذا في كل ساعة ولحظة، فهذه أخبار أمريكا، لندن، مكة، كذا كذا. فتلك حالة مصغرة من تحدثها يوم القيامة إنها لمعجزة من المعجزات الباهرة وقعت ملموسة مطابقة لمحسوس لفظا ومعنى وهو الراديو ومحطاته البرقية وما في معنى ذلك من التليفون وأمثاله كما قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِه} 2 فذلك يصدق على واقع ملموس من إذاعات العالم وهذه الجملة تعتبر معجزة مستقلة. فالآية الكريمة -يقصد آية الزلزلة- والخبر الكريم يصدقان على حدوث هذا في الدنيا كما يصدقان على حدوثه في الآخرة؛ لأن الآية والخبر لم يحددا بلفظ صريح أنه في الدنيا فقط ولا أنه في الآخرة فقط، والجملة الأخيرة من كلام الله يعني: {وَإِذَا جَاءَهُمْ} الآية تنص على أن ذلك في الدنيا فقط فنحن الآن قد ظهرت لنا معجزة في الدنيا لا تتنافى مع وقوع ذلك في الآخرة وحدثت لأرضنا التي لم تتبدل ليوم القيامة كما قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} 3. فأرض الدنيا قد تحدثت فكيف بأرض الآخرة ونعلم علم اليقين بتحدثها في الآخرة ونلمس عين اليقين بتحدثها في الدنيا، فلا منافاة ولا تناقض أنطقها في الدنيا الذي أنطق كل شيء، وأذاع القوم إذاعة صحيحة صريحة مع أن الراديو   1 سورة الزلزلة: الآيتين 4، 5. 2 سورة النساء: من الآية 83. 3 سورة إبراهيم: من الآية 48. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1070 يدخل تحت عموم قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} 1؛ لأنها فتنة معنوية بلا إشكال وقد حصلت به البلوى للسواد الأعظم ولم يكن خاصا بل كان عاما ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه". إلى أن قال في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} التي تتحدث عن عرض الأعمال يوم القيامة فقال المؤلف عنها: "فقوله تعالى: {يَصْدُرُ النَّاسُ} يعني يذهب الناس أشتاتا إلى أعمالهم بجد واجتهاد ونشاط يطلبون فيه مقاصد ومشارب متباينة من الأعمال الدنيوية التي لا حد لها، وهذا يعتبر في أرض العرب بلا إشكال أنه من حوادث آخر الزمان حيث كانت أرض العرب مسرحا للبادية الرحل والمواشي من جميع الأصناف حياتهم بحياة البهائم غالبا وموتهم جوعا بموت البهائم وأن هذا الانقلاب الذي وعد الله به لكبير وعظيم وقعه ونتائجه، فبعد ما ذكر الله الزلزلة، وإخراج الأرض كنوزها، وتحدث الأرض من أطرافها، فإن الناس في ذلك الوقت يصدرون أشتاتا في كل صباح ومساء لأعمالهم وأرزاقهم كما تصدر المواشي لأرزاقها فيما ترون في وقت نزول القرآن، ليُرَوْا "بالضم" يريهم أهل الأعمال أعمالهم "وبالفتح" ليَرَوه بأعينهم أي ليروا عملهم ونتائجه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في نفسه وماله وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له عن الله شر. انتهى، فهذا من التأويل الديني ولكنه أيضا هو في الدنيا ولا منافاة بين الجميع ولا مانع والحالة هذه من الاستنباط من كنوز القرآن والسنة وعدم التقيد بتفسير واحد أو تأويل واحد أو تقيده بأمور الدنيا أو أمور الآخرة ما لم يقيده نص صادق ثابت. وهنا استنباط يمكن أن يقال له حق في ذلك وهو قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ   1 سورة الأنفال: الآية 25. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1071 يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} هو ما حدث من التلفزيون فإن عمل العامل فيه يرى في كل بقعة توصل إليها التلفزيون وكذلك السينما؛ فإنها تعرض على الإنسان عمله، وهذه معجزة من معجزات القرآن واستنباط واقعي ملموس؛ فإن السينما تعرض المرء بعمله على الناس وعلى نفسه بحركاته وسكناته ونطقه وغير ذلك، فأي عمل عمله الإنسان ولو مثقال ذرة من خير أو شر يراه ويراه غيره كاملا غير منقوص. والله تعالى أعلم وأحكم"1. ويظهر لي أن الذي دفع الشيخ عبد العزيز إلى هذا التأويل حرصه على جذب الناس إلى الإيمان وتقريب الأخبار إلى الأذهان ولكن أخطأ السبيل وضل في التأويل غفر الله لنا وله. ومن ذلك أيضا سلسلة من التفسير نشرها حسين صالح مسيبلي في جريدة المدينة المنورة بعنوان: "القرآن والعلم" حشاها حشوا بالتفاسير المنحرفة فمن ذلك تفسيره لقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَب} 2. حيث قال: "الغاسق: إنه حبل المطاط الذي في أحشائه السلك الكهربائي الذي يحمل موجات من النار كالبحر المرتطم بالصخور نيرانا حمراء تشبه شفق الغسق المدلج الذي خلَّفته الشمس وراءها والمتستر بالليل المكسورة أسلاكه والتي هي أشعة الشمس بسواد الليل، وهذا الحبل المطاط المسمى "غاسق" في باطنه تلك القوى الكهربائية ذات التيارات النارية والنورية العظمى"3. أما العاديات في قوله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} ش4 ففسرها مسيبلي بقوله: "قسم غيبي يدعو الناس لينظروا تلك العاديات في الطرق الشاسعة وهم على ظهورها المريحة الهادئة مطمئني النفوس رغم سرعة سيرها في طريقها النقعي   1 دليل المستفيد على كل مستحدث جديد ج1 ص168-172. 2 سورة الفلق: الآية 3. 3 مقال: القرآن والعلم للأستاذ حسين صالح مسيبلي جريدة المدينة المنورة، العدد 4491 يوم الثلاثاء 18 صفر 1399هـ. 4 سورة العاديات: الآية الأولى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1072 وقد ملأت الجو ضجيجا ضابحا بأصوات محركاتها الصاخبة المصمة للآذان والمرجفة للأفئدة، فالعاديات هي السيارات المنطلقة بعامل الوقود المشتعل في أحشائها، والتي توري به قدحا مضيئا في طريقها: {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} . أما: {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} 1 فزعم: "ذلك القدح المضيء إشراقا جعلن به الصبح مغيرا، فطلع كئيبًا كسيفًا؛ لأن العاديات الموريات القدح قد استغنين عنه وعن إشراقه نوره فهن مواصلات سيرهن سواء ظهر أم لم يظهر ولهذا داخلته الغيرة لوجود منافس أرضي خطير2. وفي تفسيره كثير من نحو هذا التفسير، نسأل الله لنا وله الهداية. ومن هذا ما كتبه رجل دفعه حب التجديد المزيف إلى أن يساير روح الإلحاد كما قال الشيخ محمد حسين الذهبي رحمه الله تعالى3، فراح يتأول آيات الحدود بما يوافق هواه وهوى أصحابه، فاتجه أول ما اتجه إلى حدي السرقة والزنا معرضا بوجهه عن إجماع المسلمين عليهما فقال: "فهل لنا أن نجتهد في الأمر الوارد في حد السرقة وهو قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا} والأمر الوارد في حد الزنا وهو قوله تعالى: {فَاجْلِدُوا} فنجعل كلا منهما للإباحة لا للوجوب ويكون الأمر فيهما مثل الأمر في قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} 4 فلا يكن قطع يد السارق حدا مفروضا لا يجوز العدول عنه في جميع حالات السرقة بل يكون القطع في السرقة هو أقصى عقوبة فيها، ويجوز العدول عنه في بعض الحالات إلى عقوبة أخرى رادعة ويكون شأنه في ذلك شأن كل المباحات التي تخضع لتصرفات ولي الأمر وتقبل التأثر بظروف كل زمان ومكان، وهكذا الأمر في حد الزنى سواء   1 سورة العاديات: الآية الثالثة. 2 مقال القرآن والعلم: حسين مسيبلي جريدة المدينة المنورة، العدد 4501 يوم الجمعة 28 صفر1399هت. 3 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص193-194. 4 سورة الأعراف: الآية 31. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1073 أكان رجما أم جلدا"1، 2. ولا أحسب أن مثل هذا الزعم بحاجة إلى الرد عند من أوتي مسحة من علم، فكيف عند أهل العلم ومع هذا فقد كفانا مؤنة الرد عليه شيخان فاضلان أولهما الشيخ محمد الخضر حسين1، وثانيهما الشيخ محمد حسين الذهبي2 فجزاهما الله خيرا، ولا نرى موجبا لنقل ردودهما الطويلة فالحق أحسبه هنا بين واضح. ومن أصحاب هذا اللون المنحرف في التفسير المدعو الطاهر الحداد في كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" الذي نشره في تونس وأحدث ضجة كالضجة التي أحدثها كتاب قاسم أمين "المرأة الجديدة" وكتابه "تحرير المرأة" في مصر. والكتاب مليء بالتحريفات والتأويلات الباطلة وأنكر فيه ما هو معلوم من الدين بالضرورة وكاد الكتاب هذا أن يزهق لولا أن أخرجه للناس من جديد طائفة يسعون لنشر أفكاره وسيزهق إن شاء الله ويزهقون. ومن تأويلاته الباطلة تأويله لقوله تعالى أمرا للمؤمنات: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} الآية3 فقال: "ولله هذا القرآن العظيم في إبهامه ما ظهر من الزينة دون أن يعين مواقعه من ذات المرأة اعتبارا منه لأعراف الناس في ذلك بتطور الحياة. من هذا يظهر أن الحجاب الذي نقرره على المرأة كركن من أركان الإسلام؛ سواء في مكثها بالمنزل أو وضع النقاب على وجهها ليس من المسائل التي يسهل إثباتها في الإسلام بل ظاهر الآية يرشد إلى نفيه لما في ذلك من الحرج المضني"4.   1 انظر بلاغة القرآن: الإمام محمد الخضر حسين، ص106-110. 2 التفسير والمفسرون: الشيخ محمد حسين الذهبي ج3 ص193-197. 3 سورة النور: من الآية 31. 4 امرأتنا في الشريعة والمجتمع: الطاهر الحداد، ص34. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1074 وتحدث عن آيات الميراث وميراث المرأة على الخصوص ثم عقب قائلا: "وقد علل الفقهاء نقص ميراثها عن الرجل بكفالته لها، ولا شيء يجعلنا نعتقد خلود هذه الحالة دون تغيير"1 وقال: "وفيما أرى أن الإسلام في جوهره لا يمانع في تقرير هذه المساواة من كامل وجوهها متى انتهت أسباب التفوق وتوفرت الوسائل الموجبة"2. أما تعدد الزوجات فقال عنه: "ليس لي أن أقول بتعدد الزوجات في الإسلام؛ لأنني لم أر للإسلام أثرا فيه وإنما هو سيئة من سيئات الجاهلية الأولى"3. وقد كفانا مؤنة الرد على هذه التأويلات الباطلة فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله تعالى الذي رد على هذا الكتاب ردا مفحما جعل عنوانه: "كتاب يلحد في آيات الله"4. وهناك آخرون وآخرون باعوا دينهم بدنياهم فألحدوا في آياتٍ ابتغاء عرض يصيبونه أو منصب يتولونه، فخسروا الدنيا والآخرة. ولا ننكر أن منهم من دفعه الحرص على التجديد فانجرف وانحرف وأخطأ الطريق وضل السبيل، وأمرهم لله الذي يعاملهم بنياتهم ولكل امرئ ما نوى. ولعلي بعد هذا أذكر نموذجا موسعا لأحد التفاسير الكاملة للقرآن الكريم والتي امتلأت بالإلحاد والضلال.   1 المرجع السابق، ص41. 2 المرجع السابق: ص42. 3 المرجع السابق: ص65. 4 بلاغة القرآن: محمد الخضر حسين ص132-141. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1075 الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن : أولا- المؤلف: هو: محمد أبو زيد. أحمد الله أني لم أجد له ترجمة ولا ذكرا بعد بحث وتنقيب شديدين حتى اسمه كان يقع فيه اختلاف لولا أن كتابه بين يدي وعليه اسمه. وكل ما عرفت عنه ما ذكره الأستاذ جمال البنا عنه، حيث قال: إنه التحق مدة بالأزهر ومدة أخرى بدار الدعوة والإرشاد التي كان قد أسسها بالقاهرة الشيخ رشيد رضا وأصدر عددا من الأبحاث اتسمت بالجرأة سواء كانت هذه الجرأة طلبا للشهرة أو انعكاسا لفكره واجتهاده، فأصدر كتيبا باسم "الزواج المدني" أنكر فيه التسري وملك اليمين. وأخيرا في الفترة ما بين 1347-1349هـ "1930-1931م" أصدر كتابه "الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن، والكتاب ليس لدينا؛ لأنه صودر وأعدم في حينه"1. هذا ما قاله الأستاذ جمال البنا، أما اسم صاحب هذا التفسير كما جاء على كتابه فهو "محمد أبو زيد" ومع الأسف أن صاحبه يذكر أنه ألفه بعد بلوغه الأربعين من عمره!! فإذا كان قد صدر سنة 1349 تكون ولادته سنة 1309 تقريبا. ثانيا- الكتاب: واسمه كما جاء على غلافه "الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن". ويقع في مجلد واحد ضمنه القرآن الكريم كاملا وجعل تفسيره في هوامشه. وهو تفسير مختصر جدا كثيرا ما يكتفي صاحبه بالإحالة لتفسير آية على آية أو آيات أخرى يذكر أرقامها.   1 الأصلان العظيمان الكتاب والسنة: جمال البنا ص91. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1076 وقد أحدث هذا التفسير عند صدوره ضجة كبرى وإنكارا شديدا من شيوخ الأزهر فألفت لجنة من العلماء؛ لتنظر في هذا الكتاب وتحكم عليه ورفعت اللجنة تقريرها إلى شيخ الأزهر ووصفوا المؤلف بأنه: "أفاك خراص، اشتهى أن يعرف فلم ير وسيلة أهون عليه وأوفى بغرضه من الإلحاد في الدين بتحريف كلام الله عن مواضعه؛ ليستفز الكثير من الناس إلى الحديث في شأنه وترديد سيرته"1. وصدر الحكم بمصادرة الكتاب كما رفعت دعوى على الرجل أمام إحدى المحاكم فحكمت ابتدائيا بكفره وارتداده وتغير الحكم النهائي بعد أن أعلن توبته وإنابته2. وقد أصدرت جمعية حياة الإسلام بدمنهور في شهر ذي الحجة سنة 1349 -أي بعد صدور الكتاب بخمسة أشهر تقريبا- كتابا بعنوان "تنوير الأذهان وتبصرة أهل الإيمان في الرد على كتاب أبي زيد المسمى الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن". والكتاب كما ذكر كل من كتب عنه مصادر والحمد لله، وغالب من كتب عنه بعد ذلك، إنما اعتمد على التقارير التي كتبت عنه مطالبة بمصادرته وقد تمكنت والحمد لله -الذي لا يحمد على مكروه سواه- من الحصول على نسخة من هذا التفسير. منهجه في التفسير: بدأ المؤلف تفسيره باتهام المفسرين بالدس والحشو فقال: "وقد بلغ الدس والحشو في التفاسير أنك لا تجد أصلا من أصول القرآن إلا وتجد بجانبه رواية موضوعة لهدمه وتبديله والمفسرون قد وضعوا هذا في كتبهم من حيث   1 انظر التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص198، وقد نشر قرار اللجنة الأزهرية التي ألفت للرد على الكتاب في العدد الثالث والرابع من المجلد الثاني من مجلة نور الإسلام "الأزهر سنة 1350". 2 الأصلان العظيمان الكتاب والسنة: جمال البنا ص91. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1077 لا يشعرون، وقد جعلوا الاصطلاحات والمذاهب الفقهية والكلامية أصولا حكموها في القرآن وأنزلوه عليها حتى صار ميدانا للجدل وأصبح غير صالح للحياة بما حملوه من الأثقال وبما وضعوا فيه من الجهود والعراقيل ووسائل التفريق والشقاق، فهدايته فقدت بالمجادلات في الألفاظ والمذاهب، ومعانيه ومقاصده ضاعت بالروايات الناسخة والتفسيرات المتحجرة العقيمة ولم يخلُ تفسير من هذا؛ لأن المفسرين يقلد بعضهم بعضا"1. ثم وضح طريقته في التفسير فقال: "فهذا كله دعاني إلى تفسيري وأن تكون طريقتي فيه كشف معنى الآية وألفاظها بما ورد في موضوعاتها من الآيات والسور، فيكون من ذلك العلم بكل مواضيع القرآن، ويكون القرآن هو الذي يفسر نفسه كما أخبر الله، ولا يحتاج إلى شيء من الخارج غير الواقع الذي ينطبق عليه ويؤيده من سنن الله في الكون ونظامه في الاجتماع. وقد اخترت أن يكون على عدد الآيات في المصحف لتبقى الهداية بالترتيب الذي اختاره الله، وليمكن للباحث عن معنى الآية أن يلاحظ سياقها، فيقرأ ما سبقها وما لحقها من الآيات؛ ليكون على علم تام وهداية واعظة"2. ثم زعم أن هذه الطريقة في التفسير هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وطريقته، فقال: "فهذه كانت سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، أي طريقته في القرآن وهي الحكمة المذكورة في قول الله: {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة} ، راجع [البقرة: 151] . فالكتاب هو القانون الجامع لمواد الأحكام وإن شئت فقل إن الكتاب دستور فيه كل شيء من أصول القوانين وهو المرجع لأهل التشريع في كل عصر فيما يتجدد من الحوادث"3.   1 الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن: محمد أبو زيد ص "ب-ج". 2 الهداية والعرفانك محمد أبو زيد ص "ج-د". 3 المرجع السابق: ص "د". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1078 وقد أدرك أن كتابه هذا سيجابه بالرفض والطعن، فقال في مقدمة تفسيره هذا: "ومن الغريب أن يكون لنا في القرآن هذه المزايا ونعرض عنه ولا نتمسك به، ثم الأغرب أننا نتفرق فيه فإذا رأى بعضنا رأيا أو فهم فهمًا انقض عليه المخالفون باللعن والطعن ولقد كان هذا التفرق من أعظم الأسباب التي خذلت المسلمين وجعلتهم مملوكين لغيرهم"1. ثم أظهر هدفه السييء الذي يربأ المسلمون بالقرآن الكريم أن ينزلوه هذه المنزلة التي يريدها هذا الملحد الذي قال: "والواجب أن يفهم المسلمون أن القرآن شائع مشترك بين الناس وأن من آياته الدالة على أنه من عند الله اتساعه للأفهام وتحمله لاختلاف الآراء، والأنظار في كل زمن وهذا معنى أنه متشابه أي أنه من تعدد المعنى يتشابه ويختلف على الناظرين"1. ولا شك أن إباحة تناول تفسير القرآن الكريم لكل من هب ودب ممن أوتي علما وممن لم يؤت علما ومن الصالح والفاسد هوالذي أدخل في تفسير القرآن الكريم ما ليس منه وما هذا التفسير الذي ألفه هذا الدعي للعلم وأهله إلا نتيجة لتجرؤ من ليسوا أهلا لتفسير القرآن على تفسيره فهل يريد إلحادا أكثر من إلحاده. وقد نظرت في تفسيره بل في إلحاده، فوجدت أنه يقوم على قواعد التزمها في إلحاده استطعت أن أضبط منها: أولا: إنكار التفسير بالسنة عنوان هذا التفسير الهداية والعرفان في تفسير القرآن يشعر إذا أضيفت إليه قرائن أخرى أن صاحبه لا يعتد بالتفسير بالسنة، بله أقوال الصحابة والتابعين. يشعر بهذا قول المؤلف في مقدمة تفسيره -ما نقلناه آنفا- ومنه قوله: "ويكون القرآن هو الذي يفسر نفسه كما أخبر الله ولا يحتاج إلى شيء من الخارج   1 المرجع السابق: ص "ز". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1079 غير الواقع الذي ينطبق عليه ويؤيده من سنن الله في الكون ونظامه في الاجتماع"1. فإذا ما احتججت عليه بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2. ألحد في تأويلها وزعم أن المراد بقوله تعالى: {مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} من الكتب السابقة، فالقرآن جامع لها وداعٍ إليها"3. فإن استشهدت بقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 4 أجابك هذا الملحد بتأويله لهذه الآية، حيث يقول: {عَنْ أَمْرِهِ} يفيدك أن المخالفة المحذورة هي التي تكون للإعراض عن أمره. وأما التي تكون للرأي والمصلحة فلا مانع منها، بل هي من حكمة الشورى"5. ومثل هذا لا يجهد الإنسان نفسه في جداله ما دام منطقه المغالطة واللغو الذي لا يستند إلى كتاب أو سنة. لهذا فلا عجب أن يعرض عن تفسير القرآن بما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم بيان المغضوب عليهم والضالين في سورة الفاتحة بأنهم اليهود والنصارى، لكن المؤلف هنا يقول: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} المعاندين الذين يكرهون الحق {الضَّالِينَ} التائهين عن الحق"6. وكذا الصلاة الوسطى في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} 7، فقد روى أحمد ومسلم وأبو داود مرفوعا: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر"، لكنه يقول في تفسيرها: "الوسطى خيرها وأقومها مؤنث الأوسط"8.   1 المرجع السابق: ص "ج". 2 سورة النحل: الآية 44. 3 الهداية والعرفان: محمد أبو زيد ص211. 4 سورة النور: من الآية 63. 5 الهداية والعرفان: ص281. 6 المرجع السابق: ص2. 7 سورة البقرة: من الآية 238. 8 الهداية والعرفان: ص32. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1080 وكلمة التقوى في قوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} 1. ورد تفسيرها في السنة بأنها: "لا إله إلا الله"2. وأعرض محمد أبو زيد عن هذا التفسير وقال: كلمة "التقوى"، أي الكلمة التي تقيهم الوقوع في الشر والضرر والغرض أنهم كانوا حكماء فيما عملوا في مقابلة حرارة الخصوم حميتهم الجاهلية"3؟!. وكثيرة الأمثلة التي تثبت إعراضه عن التفسير بالمأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم، ولا شك أن القرآن نفسه -لو كان هذا يفقه- يعلن أن محمد صلى الله عليه وسلم هو المبين له: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 4، وقوله سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 5. ثانيا: إنكار المعجزات وهذا هو البحر المتلاطم الأمواج في هذا التفسير؛ إذ إنه يبدو للمتأمل أن صاحب هذا التفسير قد بذل جهده في إنكار المعجزات كلها وتأويلها تأويلا باطلا حتى لكأنه إنما ألفه لهذا الهدف دون سواه. والنصوص في إنكار المعجزات في هذا التفسير كثيرة نذكر منها على سبيل المثال قوله: "وبعد هذا تعلم أن الله ينادي الناس بأنهم لا ينبغي أن ينتظروا من الرسول آية على صدقه في دعوته غير ما في سيرته ورسالته"6. وقال في موضع آخر: "واعلم أن آيات الله في نصر أنبيائه لا تناقض سنته في خلقه وكونه"7.   1 سورة الفتح: من الآية 26. 2 مسند الإمام أحمد ج5 ص138؛ والترمذي ج5 ص386 كتاب التفسير، سورة الفتح. 3 الهداية والعرفان: ص407. 4 سورة النحل: من الآية 64. 5 سورة النحل: من الآية 44. 6 الهداية والعرفان: ص161. 7 الهداية والعرفان: ص290. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1081 وقال أيضا: "إن كل الرسل رميت آياتهم بأنها سحر وقد كانت كل آياتهم حججا وبراهين من سيرتهم ورسالتهم فلا يمكن أن يأتوا بدليل على صدقهم من غير الدعوة نفسها"1. وقال أيضا: "وإن آيتهم على صدق دعوتهم لا تخرج عن حسن سيرتهم وصلاح رسالتهم وإنهم لا يأتون بغير المعقول ولا بما يبدل سنة الله ونظامه في الكون"2. هذه بعض أقواله في إنكار معجزات الأنبياء إجمالا، ثم أنكرها بعد ذلك آحادا وأولها تأويلا لا يقوم على دليل، من الكتاب أو من السنة أو من اللغة. معجزات إبراهيم عليه السلام: فمن ذلك مثلا أن قوم إبراهيم عليه السلام أوقدوا له نارا وألقوه فيها {وَقَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} فجاءت المعجزة الإلهية: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} 3، ومعنى الآية ظاهر واضح لكن محمد أبو زيد هذا ألحد في تفسير الآية وباقي القصة أن الله نجاه بالهجرة وخيب تدبيرهم"4. وعلى هذا فعنده أن ابراهيم عليه السلام لم يلق في النار ولم تكن بردا وسلاما على إبراهيم، ولا أظنه يجهل أن من أنواع الإيجاز إيجاز الحذف وهو حذف ما يستغنى عنه بذكر ما يستلزمه ولا يستقر معناه في ذهن السامع إلا بتقديره، والبلاغيون يضربون لذلك مثلا بقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَة} 5، أي واسأل أهل القرية، المحذوف في الآية موضع البحث هنا هي كلمة "فَأَلْقَوْهُ" لأن السياق يستلزمها. قال تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ   1 المرجع السابق: ص297. 2 المرجع السابق: ص306. 3 سورة الأنبياء: من الآية 69. 4 الهداية والعرفان: ص256. 5 سورة يوسف: من الآية 82. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1082 فَاعِلِينَ، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} 1، والتقدير فألقوه، فـ: {قُلْنَا يَا نَارُ} ... الآية، ولا أظنه يجهل هذا؛ إذ لو كان الأمر كذلك لاستقام تفسيره في غيرها من المعجزات ولكنه ذهب يؤولها بما ينكرها به كلها. معجزة داود عليه السلام: وقد سخر الله لداود عليه السلام الجبال يسبحن معه والطير، فقال عز شأنه: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} 2، وقد أنكر محمد أبو زيد المعنى المتبادر من {يُسَبِّحْنَ} وصرفه إلى معنى آخر لغير قرينة، فقال: "يسبحن: يعبر عما تظهره الجبال من المعادن التي كان يسخرها داود في صناعته الحربية"3 ولا أدري لم كان هذا مزية لداود عليه السلام مع أن الناس في القديم والحديث يستخرجون المعادن من الجبال؛ فأي مزية لداود عليه السلام في هذا؟ فإن أراد أن الجبال هي التي تظهره من غير كسب ابن آدم وجهده فهي معجزة لا تقل عن الأولى لكنه لا يريد هذا ولا ذاك. معجزات سليمان عليه السلام: وما دام حديثنا هنا في سورة الأنبياء عليهم السلام، فلننظر إنكاره العجيب للمعجزة التي أوتيها سليمان عليه السلام، فقد جاء في هذه السورة قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ} 4، قال تفسيرا عجيبا: "تجري بأمره: الآن تجري بأمر الدول الأوروبية وإشارتها في التلغرافات والتليفونات الهوائية"5، ولا تعليق على هذا التفسير؛ لأن المغايرة بين التفسير والمفسر لا تخفى، إلا التعليق بأنه أراد أن ينكر هذه المعجزة بأية وسيلة. وكذا تعليم الله سبحانه وتعالى لسليمان عليه السلام منطق الطير   1 سورة الأنبياء: الآيتين 68-69. 2 سورة الأنبياء: الآية 79. 3 الهداية والعرفان: ص257. 4 سورة الأنبياء: الآية 81. 5 الهداية والعرفان: ص257. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1083 وتحدث سليمان عليه السلام بهذه النعمة وشكر الله عليها: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} 1. ولكن محمد أبو زيد ينكر أن يكون هذا فضلا لسليمان عليه السلام، فيزعم أن: "كل من يربي الطير ويؤلفه يمكنهم أن يتعلموا منطقه، وماذا يريد، ويمكنهم أن يستعملوه في الرسائل وغيرها"2، وتنزلا مع منطق هذا المنكر نقول: إن من تعلم لغة طير واحد أو استعمل نوعا من الطير في الرسائل لجهات معينة محدودة لا يصح أن يوصف بأنه تعلم منطق الطير على الإطلاق، فيبقى هذا خاصا بسليمان عليه السلام، لكن محمد أبو زيد يرفض هذا ولأجله صرف كل معنى يدل عليه. فالنملة التي تحدثت مع سليمان عليه السلام مع أنها ليست طيرا، إلا أن محمد أبو زيد يقول: "نملة: قبيلة، من النمل: قبائل الوادي"3، وصرف لفظة النمل عن معناها الصحيح إلى أنها اسم قبيلة حتى لا يكون في الأمر عجبا ويكون أمرا مألوفا لا يبعد عن ذهنه القاصر، وكذا صرف حديث الهدهد مع سليمان عن حقيقته أو الهدهد نفسه عن أن يكون طائرا، فقال: "الهدهد: اسم طائر، فهل يكون من ذوي الجناحين ويكون كلامه كناية عما يحمل من الرسائل، أم من الخيالة: السواري، أو: الطيارين الآخرين"4؟! ولا ندري ماذا يقصد بالطيارين الآخرين والمهم في كل هذه التأويلات التي أوردها أنه أراد أن يصرفها عن أن تكون معجزة لسليمان عليه السلام. ولم يترك هذا الرجل لسليمان عليه السلام أي أمر خارق للعادة حتى إحضار عرش ملكة سبأ إليه صرفه عن معناه الحقيق إلى معنى آخر، ففي قوله تعالى: {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، قَالَ   1 سورة النمل: الآية 16. 2، 3، 4 الهداية والعرفان: ص297. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1084 قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ، قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} 1. فقال في تفسيرها: "بعرشها: بملكها، يريد أن يضع خطط الحرب ونظام الدخول في البلاد فطلب الخريطة التي فيها مملكة سبأ؛ ليهاجمها ويريها أنه جاد غير هازل، {عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ} أحد القواد ويظهر أنه لم يفهم أن المسألة علمية جغرافية تحتاج إلى الذي عنده علم، {مِنَ الْكِتَابِ} من الكتابة والرسم والخطيط، {قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} الغرض أنه يأتي به حالا، وقد أتى به، ويحتمل أنه رسمه في الحال أو كان عنده مرسوما. ولو كان عهد الفتوغرافيا قديما لصح أن يكون ذلك الرسم بها، وترى أن سليمان يشكر الله على ما في مملكته من العلماء العاملين في كل فن"2. ومن هذا ترى أن المؤلف صرف لفظ العرش عن مدلوله الحقيقي إلى معنى آخر وهو خارطة مملكة سبأ، لكنه لم يشر من قريب أو من بعيد إلى معنى قول سليمان، عليه السلام: {نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} الآية 3 هل أراد أن ينكر الخارطة!! وما الفائدة من تنكير الخارطة الذي إن دل على شيء فإنما يدل على قصور في معرفة بلاد العدو، وذلك صفة ضعف لا صفة قوة مع أنه لا صلة بين العرش والخارطة إلا عند ذوي المآرب، ومآربه لا تخفى لكنه سلك طريقا مهلكا مكشوفا للأنظار. معجزات موسى عليه السلام: ومعجزات موسى عليه السلام أوَّلَها كما أول غيرها من المعجزات بما يبطلها، فقال مثلا عن قوله تعالى عن موسى عليه السلام: {فَأَلْقَى عَصَاهُ   1 سورة النمل: الآيات 38-40. 2 الهداية والعرفان: ص298-299. 3 سورة النمل: من الآية 41. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1085 فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِين} 1 "مثال من قوة حجته وظهور برهانه"2 وهو يريد بهذا إنكار هاتين المعجزتين كما أنكر معجزاته الأخرى كضرب الحجر بعصاه وخروج عيون الماء وذلك في قوله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} 5 حيث قال: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} اطرقه واذهب إليه {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} هذا بيان لحالة البحر، يصوره لك بأنه مناطق بينها طرق ناشفة يابسة، راجع [الأعراف: 160] ثم راجع [طه: 77، 78] لتعرف كيف اهتدى إلى طريق يبس مر منه6" ولا ندري كيف يعلل مرور موسى عليه السلام ومن معه وغرق فرعون ومن معه كيف كان هذا الطريق يبسا عند مرور موسى عليه السلام ثم انقلب بحرا متلاطم الأمواج يغرق فيه فرعون ومن معه إن هذه وحدها لمعجزة إلهية في حفظ الله تعالى لنبي من أنبيائه حسبك بانفراج البحر عن طريق يبس بعد أن ضربه موسى عليه السلام امتثالا لأمر ربه. معجزات عيسى عليه السلام: وأول أمره عليه السلام أنه كلم الناس في المهد قال تعالى عن   1 سورة الأعراف: الآيتين 107-108. 2 الهداية والعرفان: ص126. 3 سورة الأعراف: الآية 160. 4 الهداية والعرفان: ص131. 5 سورة الشعراء: الآية 63. 6 الهداية والعرفان: ص290. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1086 عيسى عليه السلام: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} 1 لكن محمد أبو زيد يحرف التفسير فيقول: {فِي الْمَهْدِ} : في دور التمهيد للحياة وهو دور الصبا -علامة على الجرأة وقوة الاستعداد في الصغر " {وَكَهْلًا} علامة على أنه لا يقل عزمه بالشيخوخة والكبر -ويصح أن يكون المعنى: يكلم الناس الصغير منهم والكبير علامة على تواضعه ومباشرة دعوته بنفسه"2. فإذا ما قلت له -لو كان يفقه- أن قوله تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} 3 يدل على أنه تحدث وهو صبي في المهد تحمله أمه إذا قلت هذا أجابك جهلا وسفاهة: "كان في المهد صبيا أي كان ذاك النهار ولدا صغيرا فكيف يأمرنا وينهانا ونحن كبار القوم، فهذا ابن حرام"4! وانحرف في تفسير حمل أمه له حتى يلائم تفسيره هذا فقال في: {تَحْمِلُهُ} على ما يحمل عليه المسافر ومنه تفهم أنها كانت في سياحة طويلة"5. فجعل حمل مريم لعيسى عليهما السلام وإتيانها به قومها كذلك حملا على ما يحمل عليه المسافر؟! وهو صرف للألفاظ عن مدلولها لا تعين عليه اللغة وسياق الكلام ولكنه الهوى. وقد تَعْجَب إذا قلت لك أنه ينكر أن يكون عيسى عليه السلام قد ولد من غير أب، لكنه يفعل هذا بطريق غير مباشر وإنما بطريق التلميح الذي قد يبعد عند بعض الأذهان كما أنها إشارة ملموزة عند آخرين حيث قال في تفسير قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} الآية 6: أم موسى فيها ملحوظة ظريفة هي أن موسى لم يذكر له أب ولكن قومه لم ينكروا أباه، أو يقولوا فيه كما قالت النصارى في المسيح ابن الله، بناء على أن المسيح نسب إلى أمه   1 سورة آل عمران: الآية 46. 2 الهداية والعرفان: ص44. 3 سورة مريم: الآية 29. 4 الهداية والعرفان: ص239. 5 الهداية والعرفان: ص239. 6 سورة القصص: الآية 7. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1087 ولم يذكر له أب. راجع مريم لتفهم المناسبة بينها وبين أم موسى في أن كل واحدة منهما جاءت بمولود عظيم، وكان لها الفضل في حسن تربيته والجهاد في المحافظة عليه"1 فهذه المقارنة بين قوم موسى وقوم عيسى ترمز إلى أن عيسى كموسى عليهما السلام له أب ويتأكد هذا إذا نظرت تفسيره لقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} 2 قال: {فَتَمَثَّلَ} يفهمك أنها رؤيا تمثيلية وبشارة روحية"، وفي قوله تعالى عن مريم عليها السلام: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} 3 قال: "استنكرت لما طرأ على فكرها أن الولد يأتيها من غير السبب المعروف" وقال في قوله تعالى: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} 4 وما بعدها "اختصار في التعبير لا يعوق دور الحمل الطبيعي والمقصود أن مريم لما أصابها ما يصيب النساء لجأت عند الوضع إلى جذع النخلة لتستند عليه وتمنت لو ماتت قبل أن تذوق آلام الولادة، فلم يكن عيسى ابن الله، ولم تخرج أمه ولا هو عن دائرة البشرية"5 إذا أضفت التفسير السابق لآية القصص مع هذا التفسير لآيات مريم تبين لك ما يرمز إليه رجل ينكر المعجزات. وعرفت أنه لا يعترف كما لا يعترف اليهود بأن عيسى عليه السلام خلق من غير أب6. أما معجزات عيسى عليه السلام بعد ذلك التي تحدث عنها القرآن حكاية عن عيسى عليه السلام: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 7، فإن هذا الرجل قد تخبط في تفسيرها   1 الهداية والعرفان: ص303. 2 سورة مريم: الآية 17. 3 سورة مريم: الآية 20. 4 سورة مريم: الآية 22. 5 الهداية والعرفان: ص239. 6 بلاغة القرآن: محمد الخضر حسين، ص120. 7 سورة آل عمران: الآية 49. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1088 فراح يضرب القول جزافا فقال: {كَهَيْئَةِ} يفيدك التمثيل لإخراج الناس من ثقل الجهل وظلمائه إلى خفة العلم ونوره، ومعنى الأكمة من ليس عنده نظر، والأبرص: المتلون بما يشوه الفطرة فهل عيسى يبرئ هذا بمعنى أنه يكمل التكوين الجسماني بالأعمال الطيبة أم بمعنى أنه يكمل التكوين الروحي والفكري بالهداية الدينية. {فِي بُيُوتِكُمْ} يعلمهم التدبير المنزلي"1؟! وأكد هذا عند تفسيره لهذا في آخر سورة المائدة عند قوله تعالى "مخاطبا عيسى عليه السلام: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} 2. فقال في تفسيرها: {الْمَوْتَى} : معناهم مشترك بين موتى الأجساد وموتى القلوب والنفوس، وموتى الجهل والاستعباد، وموتى الاتهام والحكم بالإعدام. من هذا تعرف أن عيسى نبي أرسله الله إلى بني إسرائيل؛ ليشفي مرض نفوسهم ويحيي موت قلوبهم فآيته في دعوته، وسيرته وهدايته، عاش ومات كغيره من الأنبياء في بشريته فلم يكن خارقا لله في سننه، ولا ممتازا بما يدعو إلى ألوهيته وعبادته"3. وأحسب أن أمر إلحاده في تأويل هذه المعجزات بين بحيث لا يحتاج مع بيانه إلى بيان، فحسبه الله، وكفى. معجزات محمد صلى الله عليه وسلم: ويكفي أن تعرف معجزة الإسراء به صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المسجد الأقصى ثم عودته إلى مكة في نفس الليلة كما اتفقت النصوص الكثيرة.   1 الهداية والعرفان: ص45. 2 سورة المائدة: الآية 110. 3 الهداية والعرفان: ص97. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1089 على ذلك. وقد جاء محمد أبو زيد برأي جديد لم يقل به أحد قبله -فيما أعلم- فقد زعم أن "الإسراء يستعمل في هجرة الأنبياء" "المسجد الحرام الذي له حرمة يحترم بها عند جميع الناس" "المسجد الأقصى" الأبعد -مسجد المدينة- وقد بارك حوله، فكان للنبي صلى الله عليه وسلم هناك ثمرة وقوة وكان بالإسراء الفتح والنصر فكان كل ذلك من آيات الله"1. إذًا فالمراد بالإسراء عنده الهجرة -من مكة إلى المدينة ولا أدري كيف يفسر المسجد الأقصى بالأبعد ثم يزعم أنه مسجد المدينة مع أنه لا مسجد هناك حينذاك، زد على هذا أن في القدس مسجدا هو أبعد من مسجد المدينة ومع أن هذه الآية مكية باتفاق العلماء أي قبل الهجرة لكن المؤلف لا يدرك فوائد معرفة ما نزل بمكة وما نزل بالمدينة وأثر ذلك في التفسير، وزد على هذا أيضا أن الإسراء من مكة إلى بيت المقدس قد ورد في السنة ورواه جمع عظيم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم وجاءت هذه الروايات في الصحاح، ولكنه لا يفسر القرآن بالسنة ولو فعل لما ضل وتاه وألحد في تفسيره. تلكم بعض الأمثلة على مواقفه الملحدة من المعجزات التي أظهرها الله على يد أنبيائه علامة على صدقهم أمام أقوامهم، فآمن بها طوائف منهم وأنزل الله العقاب الشديد على من لم يؤمن بعد نزولها دليلا على حجيتهان واحسب هذا دليلا كافيا على قوة الارتباط بين النبوة والمعجزة قال شيخ الأزهر محمد الخضر حسين عن منكري المعجزات "إنما ينكرها طائفة ممن أنكروا بعثة الرسل إذ قالوا إن الرسالة تتوقف على المعجزة والمعجزة خرق للعادة وخرق العادة محال"2. ولهذا فإن شيخ الأزهر محمد الخضر حسين رحمه الله تعالى كثيرا ما يربط وهو يرد على محمد أبو زيد بينه وبين داعية البهائية المسمى أبا الفضل في كتابه المسمى "الدرر" فيورد إلحاد هذا ثم يورد إلحاد البهائي فلا تكاد تجد فرقا بينهما إلا في الألفاظ، ويزداد ظنك سوءا إذا علمت أن صدور الكتاب   1 الهداية والعرفان: ص219. 2 بلاغة القرآن: محمد الخضر حسين، ص114. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1090 البهائي قبل صدور تفسير محمد أبو زيد بوقت قصير نسبيا، وبعد فلعل فيما ذكرنا من موقفه من المعجزات بيان لحقيقته. ثالثا- إنكار الغيبيات: ونكتفي من الحديث عن الغيبيات بثلاثة من معالمه التي ضل بها كثير من الناس "فنذكر تعريفه للملائكة والجن والشياطين". الملائكة: أما الملائكة فهم عنده رسل النظام وعالم السنن وسجودهم للإنسان معناه أن الكون مسخر له1 أما حملهم للتابوت في قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2 فقد فسر الحمل بقوله: {تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ} إشارة إلى أنه يأتي إليهم بسنن الله ونظامه أي بتغلبهم على العدو بقوة الحرب ونظامه والملائكة كما قلنا في 34 رسل النظام والسنن في الكون"3. الشياطين: قال تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ} 4 فقال محمد أبو زيد في تفسير الشياطين: "الشياطين تطلق على الحيات والثعابين تستهوي من يتبعها؛ ليقتلها فيهوى معها وتضله بتعرجها"5؟!. وفي قوله تعالى عن سليمان، عليه السلام: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي   1 الهداية والعرفان: ص7. 2 سورة البقرة: الآية 248. 3 الهداية والعرفان: ص33. 4 سورة الأنعام: الآية 71. 5 الهداية والعرفان: ص105 وانظر ص37 حيث قال: الشيطان يطلق على الثعبان كالجان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1091 بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ، وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} 1. فقال هذا في تفسيرها: "الشياطين يطلقون على الصناع الماهرين والأشقياء المجرمين"2. أما وصف الشيطان وقبيله بأنهم يروننا من حيث لا نراهم وذلك في قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُم} 3 فقال في تفسيرها: {مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُم} أي من الجهة التي لا ترونهم فيها شياطين، فيخدعونكم بأنهم من الأولياء الصالحين"4 فصرف هذا الرؤية عن أن تكون إلى الأعيان والأبدان إلى أن تكون نفيا للرؤية المعنوية وهي رؤية حقيقتهم ومآربهم. أما إبليس فعنده أنه: "اسم لكل مستكبر على الحق ويتبعه لفظ الشيطان والجان وهو النوع المستعصي على الإنسان تسخيره"5. الجن: قال تعالى في أول سورة الجن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} 6. وزعم محمد أبو زيد أنه "يطلق الجِن والجِنة على الزعماء والمستكبرين من السادة المتبوعين، ويعبر عن الأنس بسائر المقلدين والتابعين المستضعفين"7 ولا أدري ماذا يسمى الإنس المتبوعين والسادة. لكنه جاء بتعريف آخر للجن في تفسير قوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} 8 فقال: "الجن يطلق على   1 سورة ص: الآية 36-37. 2 الهداية والعرفان: ج ص359. 3 سورة الأعراف: الآية 27. 4 الهداية والعرفان: ص118. 5 الهداية والعرفان: ص7. 6 سورة الجن: الآية الأولى. 7 الهداية والعرفان: ص458. 8 سورةالنمل: الآية 17. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1092 العالم الخفي والظاهر القوي وجن كل شيء أوله ومقدمته وجن الجيش قواده ورؤساؤه"1. وقال في تفسير قوله تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُوم} 2، "والجان: النوع المتشرد صاحب الطبع الناري الذي إذا قاربته يؤذيك ويغويك ولا تستطيع أن تمسكه وتعدله، والنوعان موجودا في كل أمة"3. وتأمل قوله والنوعان: "يقصد الإنسان والجان" موجودان في كل أمة فقد وصف الإنسان بأنه النوع الهادي، والجان بأنه النوع المتشرد، ثم وصفهما بأنهما موجودان في كل أمة. وإذا أضفت هذه النصوص إلى بعضها، وعرفت موقف صاحبها من الملائكة والشياطين أدركت أنه يجعل الجن نوعًا من أنواع البشر، ويقابله النوع الثاني من أنواع البشر وهم الإنس. وهذان النوعان الجن والإنس موجودان في كل أمة من البشر، وهذا يعني خلاف الحق الذي اتفقت عليه الأمة من أن الجن نوع مستتر بخلاف الإنس وأن فيهم الصالح وفيهم الفاجر فيهم المؤمن وفيهم الكافر. رابعا: إنكار بعض التشريعات المعلومة من الدين بالضرورة وإنما وصفته بأنه ينكر ولم أصفه بالاجتهاد لأن الاجتهاد له شروطه التي لا تتوفر فيه أولا ولأن الاجتهاد ليس فيما أجمع عليه المسلمون وما هو معلوم من الدين بالضرورة؛ فلا يصح أن يجتهد إنسان في حكم الصلاة المفروضة مثلا لأن أمره لا يحتاج إلى ذلك الجهد واستقصاء الذهن في معرفته؛ إذ هو معلوم من الدين بالضرورة، كذلك المر في حكم السرقة والزنا وتعدد الزوجات والربا، ونحو ذلك؛ وإنما يسمى من أنكر شيئا من ذلك منكرا لتشريعه لا مجتهدا في حكمه، وعلى هذا فقد أنكر محمد أبو زيد عددا من الأحكام الشرعية المعلومة من الدين بالضرورة ومنها:   1 الهداية والعرفان: ص297. 2 سورة الحجر: الآية 27. 3 الهداية والعرفان: ص204. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1093 حد السرقة: قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} الآية1، ولم يذكر القرآن ولا السنة، ولم يرد عن أحد من الصحابة أو من التابعين اشتراط أن تتكرر السرقة من السارق حتى يقام عليه الحد؛ لكن محمد أبو زيد يشترط هذا افتياتا على الشريعة فيقول: "واعلم أن لفظ {السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} تعطي معنى التعود أي أن السرقة صفة من صفاتهم الملامة لهم، ويظهر لك من هذا المعنى أن من يسرق مرة أو مرتين ولا يستمر في السرقة ولم يتعود اللصوصية لا يعاقب بقطع يده؛ لأن قطعها فيه تعجيز له ولا يكن ذلك إلا بعد اليأس من علاجه"2. حد الزنا: ونحو تفسيره هذا قال في تفسير قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} الآية3؛ فزعم: "يطلق هذا الوصف على المرأة والرجل إذا كانا معروفين بالزنا وكان من عادتهما وخلقهما فهما بذلك يستحقان الجلد"4. وهذا الزعم الباطل في تأويل هذه الآية جاء من بعده في تفاسير كثير من المنهزمين الذين تأثروا بكلام أعداء الحق حين زعموا أن قطع يد السارق وجلد الزاني -فضلا عن رجمه- فيه قسوة وعنف، وفيه تعطيل للفرد وتعجيز له، وفيه تشويه لأفراد البشر وهم بها ينظرون إلى المجتمع من زاويته الضيقة زاوية الفرد، ولو علم هؤلاء أن في قطع يد سارق حفظا لأرواح بله أيدي آخرين هم أكثر عددا، وأن في قطع يد سارق حفظا لأمن أمة، وأن في تشويه يد سارق جمالا لأمة، وأن القسوة ليست في الجزاء والقصاص؛ وإنما هي في الجريمة الأولى التي استحق صاحبها العقاب عليها؛ ولكنهم لا يفقهون أو يفقهون ويمكرون. أما إن أرادوا الفقه الحق في تفسير الآية، فقد رد الشيخ محمد الخضر   1 سورة المائدة: من الآية 38. 2 الهداية والعرفان: ص88. 3 سورة النور: الآية 2. 4 الهداية والعرفان: ص274. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1094 حسين على هذا وأمثاله بقوله: "وهذا الذي قاله في اسم الفاعل من أنه يدل على التكرار والتعود من بهتانه الذي لا يقف عند حد؟ فاسم الفاعل نحو السارق أو الزاني إنما يدل على ذات قامت بها السرقة أو الزنا، ولا دلالة له على تجدد قيام الوصف بالذات، ولا على تعودها عليه؛ هذا ما يقوله علماء العربية في القديم والحديث. قال ابن مالك في كتاب التسهيل معرفا اسم الفاعل: "اسم الفاعل هو الصفة الدالة على فاعل، جارية في التذكير والتأنيث على المضارع من أفعالها لمعناه أو معنى الماضي"؛ فقوله لمعناه أو معنى الماضي تنبيه على أنه لا يدل على أزيد مما يدل عليه الفعل، وهذا وجه الفرق بينه وبين صيغ المبالغة كفعال ومفعال ومفعول؛ فإن هذه الصيغ تدل على معنى زائد على حدوث الصفة لمن قامت به، وهو قوتها فيه أو كثرة دورها منه"، إلى أن قال رحمه الله تعالى: "فعلماء العربية من كوفيين وبصريين مجمعون على أن اسم الفاعل لا يدل على أكثر مما يدل عليه الفعل، وإذا كان علماء العربية الذين قضوا أعمارهم الطويلة في تقصي اللغة والتفقه في كلام العرب قد تظاهروا على أن اسم الفاعل لا يدل على مقدار من الوصف أكثر مما يدل عليه أصل المضارع والماضي؛ أفيستطيع المؤول أن ينقض بناءهم بكلمة لا تمت إلى البحث بسبب؛ وإنما هي وليدة الهوى والانهماك في مخالفة أهل العلم"1. وإنما رددت على هذا التأويل لهذا الرجل؛ لأن هناك من انخدع بهذا التأويل فأخذ يردده ويكرره عن جهل حينا وعن فسق أحيانا؛ وإلا فالحق فيه كما هو الحق في كثير من التأويلات الأخرى بين واضح لا يحتاج إلى شرح وبيان كما لا يحتاج إلحاده فيه إلى إبطال ونقد. الربا: وحكم الربا أيضا معلوم من الدين بالضرورة ولئن قامت في المسلمين طائفة تبحث عن تأويل تبرر به واقع المسلمين اليوم فتلتمس الضرورة الاقتصادية سببا لإباحة الربا أو تخص المراد بالربا المحرم بأنه الربا   1 بلاغة القرآن: الشيخ محمد الخضر حسين ص126-127. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1095 الفاحش، فإن هذه الترتيبات الباطلة لا تغني من الحق شيئا بعد أن اتفق المسلمون على تحريم الربا قليلة وكثيرة؛ أما محمد أبو زيد فقد زعم أن الربا المحرم هو الربا الفاحش ولم يحدد المقدار الذي يكون به الربا فاحشا؛ وإنما ترك هذا لتقدره كل أمة بعرفها؟! وبهذا يكون الربا محرما في مكان ومباحا في آخر؟! فقال في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1: "أي الربا الفاحش، وبمعنى آخر: الربح الزائد عن حده في رأس المال وتقدره كل أمة بعرفها"2. وعلى زعمه هذا إن قدرته أمة بما زاد على 20% وقدرته أخرى بما زاد عن 15%، فإن ربا 16% إلى 20% حرام عند طائفة من المسلمين مباح عند أخرى، ثم أين موقع السنة التي حرمت الربا قليله وكثيره من هذا التفسير؟! إنك لن تجد لها أثرا كما لم تجدها في سائر تفسيره وحسبك بهذا انحرافا في التفسير. تعدد الزوجات: وأما تعدد الزوجات؛ فقد جاء محمد أبو زيد في شرط إباحته بما هو أعجب من كل ما سلف؛ حيث اشترط شرطا لم يقل به أحد من قبله ولا من بعده حتى ساعتنا هذه فيما أعلم؛ حيث اشترط في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} 3. اشترط في "النساء" أن يكن من نساء اليتامى؛ فلا يجوز عنده التعدد من غير النساء اليتامى؟! قال: "من النساء: نساء اليتامى الذين فيهم الكلام لأن الزواج منهن يمنع الحرج في أموالهن، ومن هذا تفهم أن تعدد الزوجات لا يجوز إلا للضرورة التي يكون فيها التعدد مع العدل أقل ضررا   1 سورة آل عمران: الآية 130. 2 الهداية والعرفان: ص53. 3 سورة النساء: من الآية 3. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1096 على المجتمع من تركه، ولتعلم أن التعدد لم يشرع إلا في هذه الآية بذلك الشرط السابق واللاحق"1. ولنا مع هذا التفسير وقفات قصيرة فلا سند له أولا في اشتراط أن تكون النساء من اليتامى يكذب هذا إطلاق العبارة في الآية، وتكذبه السنة النبوية وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه؛ فقد عدد وعددوا من غير يتامى النساء، ولم يدر بخلد أحدهم هذا الشرط ولم يقل به أحد مهم ولا من سائر علماء المسلمين من بعدهم. ووقفة أخرى مع هذا التفسير من أين جاء بقيد: "إنه لا يجوز إلا للضرورة" وليس في الآية مثل هذا القيد. ووقفة ثالثة ماذا يقصد بقوله أن التعدد لم يشرع إلا في هذه الآية؟! أليست الآية الواحدة كافية في التشريع أم لا بد من تكراره حتى يكون مشروعا؟! أم يريد التقليل من شأن التعدد؟! وحسبنا قدوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأصحابه من بعده. التسري: والآية السابقة تنص على أن من خاف ألا يعدل فليتزوج واحدة أو يتسرى بما ملكت يمينه. قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} 2. لكن محمد أبو زيد ينكر التسري فيقول في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} الآية3، وبدلا من أن يستدل بها على إباحة التزوج مما ملكت الأيمان عكس المعنى؛ فقال: "وفي هذه الآية رد على الذين يتخذون ملك   1 الهداية والعرفان: ص61. 2 سورة النساء: الآية 3. 3 سورة النساء: من الآية 25. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1097 اليمين من الخادمات والوصيفات للتمتع بهن كالزوجات بحجة أنهن مشتراة بالمال أو أسيرات بالحرب؛ فليس في الإسلام عرض امرأة يستباح بغير الزواج مملوكة كانت او مالكة"1. وإذا قرأت قوله تعالى في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} 2، قال في تفسيرها: "أو ما ملكت أيمانهم من الخدم؛ فإن لهم ما ليس لغيرهم؛ فقد يكون في الإنسان فروج، أي نقائص وعيوب يسيئه أن يراها الناس فيه ولكن لا يسيئه أن يراها خدامة". ومن البلاغة في التعبير أن لفظ "أو" أفاد التنويع بين ما يباح للأزواج وما يباح لملك اليمين إذ يوجد من العيوب ما لا ينبغي كشفه على الخدم ويكفيك فاصلا: الذوق والعرف الجاري مع الفطرة"3. وهو هنا صرف الآية عن أن تكون للحث على حفظ الفروج حقيقة من الوقوع في الحرام إلى أن يكون المراد بالفروج النقائص والعيوب وأن المراد بحفظها منع كشفها لغير الأزواج والخدم؟! وقد ضحكت وشر البلية ما يضحك لقوله "إن"، "أو" بلاغة في التعبير وتساءلت هل يعرف هذا التعبير فضلا عن بليغه؟! ثم لا ندري كيف يستدل بأو العاطفة "ما ملكت أيمانهم" على "أزواجهم" على التنويع بين ما يباح كشفه للأزوج وما يباح كشفه لملك اليمين مع أنه لم يذكر في الآية ما يباح للصنفين فيما زعم. وخلاصة الأمر أنه يحرم التسري، بل وملك اليمين أصلا ويفسر الفروج بالعيوب وهو أمر لا تعين عليه اللغة ولا يدل عليه الشرع.   1 الهداية والعرفان: ص64. 2 المؤمنون: الآيتين 5، 6؛ والمعارج: الآيتين 29-30. 3 الهداية والعرفان: 455. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1098 الطلاق: وكما اشترط في التعدد شرطا جديدا لم يقل به أحد من قبله، فإنه جاء أيضا هنا بشرط عجيب لا أعلم أحد قال به من قبله أيضا، وهو أن الطلاق لا يقع من الزوج لزوجته إلا إذا جاءت بما يخل بنظام العشرة الزوجية. وعبارة لا يقع تدل على أنه فيما لو نطق بالطلاق من غير هذا السبب فإن زوجته لا تطلق، وهاك نص عبارته: "إن الطلاق وإن كان في يد الرجل لا يخل بنظام العشرة الزوجية"1. وفي تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} 2. قال: "تسهيل على الرجل فإنه يصعب عليه أن يعاشر امرأته وهو يعتقد عدم عفتها، وتفهم من هذا أن ليس له أن يطلقها إلا بسبب يخل بالعشرة الزوجية؛ وإلا ما احتاج إلى هذا الإشهاد"3، وهو يجهل أن هذه الشهادة من الزوج ليست لإيقاع الطلاق؛ وإنما لإيقاع العقاب عليها، ولذلك قال تعالى بعد هاتين الآيتين مباشرة: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ} الآية4؛ ولكنه لا يفقه هذا وألحد في تفسير الآية. مصارف الزكاة: وقد ذكر الله سبحانه وتعالى مصارف الزكاة في قوله عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 5،   1 الهداية والعرفان: ص445. 2 سورة النور: الآيتين 6-7. 3 الهداية والعرفان: ص274. 4 سورة النور: الآية 8. 5 سورة التوبة: الآية 60. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1099 ومحمد أبو زيد يفسر بعض هذه المصارف -كعادته- تفسيرا جديدا فيقول: {وَفِي الرِّقَابِ} : في خلاصها من الاستعباد، وفي هذا الزمان تجد أكثر المسلمين رقابهم مملوكة للأجانب؛ فيجب أن يتعاونوا على فك رقابهم، وفي الصدقات حق لهذا التعاون والغارمين ما يصيبهم، وكل من يغرم للمصلحة العامة؛ فهو من الغارمين، {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} منه نشر الدعوة باللسان والقلم لحرية العقيدة والوطن والقتال للدفاع عن الحرية والاستقلال والتربية والتعليم الباعثان على تكوين أمة معمرة في الكون، ويتبع ذلك المستشفيات والملاجئ للمرضى والمحتاجين والمعامل والمصانع للعمال والعاطلين "وابن السبيل" السائح المكتشف؟! واللقيط الذي يوجد في الطريق ولا يعرف له عائل"1. وهو في تأويله هذا خلط حقا بباطل. وكلاهما معلوم لا يخفى أظنه لا يحتاج إلى بيان. زكاة الزروع: ذكرنا رأيه في الربا وأنه يقول بإباحة الربا غير الفاحش، وأن مقدار الفاحش متروك للأمة تقدره بحسب حالها، ورأيه هنا في زكاة الزروع لا يبعد عن هذا؛ حيث يقول في تفسير قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 2، قال: "زمن تحصيله وكما أمر المالكين بإيتاء هذا الحق أمر الحاكم العام بأخذه والعمل على جبابته لبيت المال، وقد ترك التقدير للأمة بحسب الحالة"3 وكل من أوتي حظا من الفقه يعلم أن السنة لم تترك هذا، بل قدر زكاتها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن محمد أبو زيد هذا لا يعترف بالتفسير بالسنة. خامسا: إهمال المدلول اللغوي: ولأنه يأتي بما لم يقل به أحد من قبله، فإن اللغة لا تطاوعه في كثير من أقواله فلا يبالي بذلك ولا يلقي له حسابا، بل صرح في مقدمة تفسيره بهذا،   1 الهداية والعرفان: ص150. 2 سورة الأنعام: من الآية 141. 3 الهداية والعرفان: ص113. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1100 حيث قال: "وقد تغيرت معاني القرآن أيضا، وتبدلت مقاصده باعتمال المفسرين على بعض كتب اللغة التي تفسر الألفاظ بلازمها، وتقصرها على بعض معانيها، وقد سرى التقليد واستعمال الاصطلاحات في قواميس اللغة كما سرى في غيرها؛ حتى أنك لتجد كثيرا من ألفاظ القرآن في تلك القواميس مفسرة بما فسرت به في كتب فقه الأحكام فتكون بذلك بعيدة عن فقه اللغة فيتغير معناها المراد في القرآن"1. ولا عجب بعد أن يتحرر من يزعم نفسه مفسرا من السنة الصحيحة واللغة أن يفسر الآيات بما يشاء؛ فأي ضابط للتفسير بعدهما فليقل ما يشاء وليقل غيره ما يشاء فلا ميزان توزن به الأقوال ولا ملاذ تلجأ إليه الآراء وهذا ما يريده الملحدون وأعداء هذا الدين ويأبى الله إلا أن يتم نوره. ولقد ذكرنا -فيما سلف- أمثلة يظهر فيها عدم التزامه المدلول اللغوي الصحيح للألفاظ في تفسيره المزعوم، ومن ذلك مثلا معنى كلمة الفروج في مثل: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} 3. السوءة وغلب عليها4، والسياق في الكلام يحدد المعنى المراد الأصلي أم الكناية؛ ففي الآية الأولى هنا المراد بها "العورة"، وفي الآية الثاني على المعنى الأصلي. وإذا ما نظرت بعد هذا في تفسير محمد أبو زيد وجدته لا يفرق بين هذا وذاك فيذكر لهما معنى واحدا وزيادة على هذا؛ فالمعنى الذي يذكره ليس هو المعنى الأصلي ولا الكناية به؛ فقال في تفسير الأولى: "فروج أي نقائض   1 المرجع السابق: ص "ج". 2 سورة المعارج: الآية29. 3 سورة ق: الآية6. 4 انظر المعجم الوسيط ج2 ص685. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1101 وعيوب"1؟!. وقال في تفسير الآية الثانية: " {فُرُوجٍ} : عيوب ونقائص"2 وهو دليل على جهله في اللغة؛ بل وعلى عدم اعتداده بها في التفسير. وخذ مثلا آخر اسم "الطير" لا يخفى معناه والمراد به في قوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} 3 لكنه يقول في معناه: "والطير يطلق على ذي الجناح وكل سريع السير من الخيل والقطارات البخارية والطيارات الهوائية"4. سادسا: تفسير القرآن بالقرآن وقد ألصق المؤلف نفسه بهذا النوع من التفسير إلصاقا، مكرا وخبثا فهو يعلم قيمة هذا النوع من التفسير لدى المسلمين فسمى تفسيره "الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن". وقد جعلت الحديث عن هذا الأساس المزعوم هو الأخير لأنه آخر ما تجده في هذا التفسير، وكيف يصح أن يسمى تفسيره تفسيرا بالقرآن وهو يعصي القرآن نفسه في أمره بالأخذ بالسنة في تفسيره؟! هذا فيما لو صح ما يسميه تفسيرا للقرآن بالقرآن. وإن شئتم أمثلة على ذلك سقت لكم منه كثيرا كثيرا؛ ولكن لا تطمعوا بفائدة منه في هذا فإشارته إلى ما يفسر به ليس لآية أو آيات إنما يشير لسورة أو سور كثيرة أي أنها إشارات مجملة وأذكر أمثلة يتضح بها المراد. في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 5. قال في   1 الهداية والعرفان ص455. 2 الهداية والعرفان: ص410. 3 سورة الأنبياء: الآية 79. 4 الهداية والعرفان: ص257. 5 سورة الأنفال: الآية 29. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1102 تفسيره: "اقرأ الطلاق"1، أي اقرأ سورة الطلاق؟! وفي تفسير قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} 2 الآية، يقول: "اقرأ الأحقاف ولقمان"3. وفي تفسير قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} 4، قال: {جَاثِمِينَ} : باركين اقرأ هود والحجر والشعراء"5. وفي تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} 6، قال: "13-54 اقرأ الأعراف والحاقة والواقعة والنمل"7. وفي تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} الآيات: 8، قال: "6-10 اقرأ الصافات وتدبرها آية آية، ثم الأعراف إلى 38، 39 وما بعدها إلى آخرها، ثم سبأ وغافر وإبراهيم والأنعام ويس والشعراء، ثم الإسراء والكهف والحجر والرحمن والنمل وفصلت والذاريات وأواخر الأحزاب، ثم هود والسجدة والناس، ثم الفاتحة، ثم146، 165-167 في البقرة. بعد هذا تفهم أنه يطلق الجن والجنة على الزعماء والمستكبرين من السادة المتبوعين ويعبر عن الإنس بسائر الناس المقلدين والتابعين المستضعفين"9. وإذا عرفت أن تفسيره مكتوب على هامش القرآن وأن هوامش كثيرة من الصفحات تكاد تكون بيضاء إلا من إحالة إلى قراءة سورة أو سور لمعرفة معنى   1 الهداية والعرفان ص138. 2 سورة العنكبوت: الآية 8. 3 الهداية والعرفان ص312. 4 سورة العنكبوت: الآية 37. 5 الهداية والعرفان ص314. 6 سورة فصلت: الآية 13. 7 الهداية والعرفان: ص376. 8 سورة الجن: الآية 6-10. 9 الهداية والعرفان: ص458. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1103 كلمة أو آية عرفت صغر حجم هذا التفسير ومع هذا فلو مليء بهذه الانحرافات، ولهذا فإنه يخيل إلي أن صاحب هذا التفسير قد وزع أفكاره الإلحادية على آيات القرآن الكريم أولا، ثم للغش والتدليس نمق بعض الصفحات بمثل هذه الإحالات التي توهم تفسير القرآن بالقرآن؟! وماهو بتفسير ولكنه ابتلاء وامتحان للمؤمنين قيض الله له طائفة من العلماء كشفوا عواره وأظهروا إلحاده، فحكم على صاحبه بالردة، ولم يصدر الحكم النهائي من المحكمة لإعلانه رجوعه وتوبته، ويبقى الحكم دائما وأبدا لله سبحانه وتعالى؛ فهو الذي يعلم ظاهره وباطنة وما تخفي الصدور. ومما يؤسف له ويحز في النفس أن كثير من آراء هذا الرجل في تفسيره قد انتشرت بين بعض من أصابهم داء ضعف الإيمان أو فقده وهم حين يقولون بها لا يشيرون إليه ولا يؤمنون، وما لنا ولإشارتهم أو عدمها وآراؤهم متماثلة ينكرون مثله المعجزات ويؤولونها بما يبطلها ويجهرون جهرا باشتراط تكرار السرقة والزنا حتى يقام على السارق والزاني الحد وإلا فلا حد؟! وينكرون الملائكة والجن والشياطين وينكرون سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ويقولون بملء أفواههم الإسلام هو القرآن وحده، ويريدون منه بصريح عباراتهم عدم الاحتجاج بالسنة وإنكارها، وهم حين يقولون هذا وذاك يعيشون بيننا ولا يمنع ذلك كثيرا منا من أن يكون أكيله وجليسه؛ بل وصديقه الملحد وأي مؤمن يصادق ملحدا؟! ولكنها الجاهلية التي غشت على كثير من الأبصار غشاوة أعمتها عن التماس السبيل فذهبت تلتمسه يمنة ويسرة فتعثر هنا وتعثر هناك، وقد تهلك إن لم يدركها الله بنور من عنده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1104 الفصل الثاني: منهج القاصرين في تفسير القرآن الكريم تمهيد : قلنا في أول هذا الباب: إنا نقصد بالقاصرين طائفة لم يطلبوا العلم الشرعي ولم يدرسوه في مدارسه بل تقاذفتهم المدارس في نواح شتى ليس منها علوم الشريعة، ثم برز هؤلاء في تخصصهم أو في كتابة المقالات الصحفية والبحاث الأدبية ونحو ذلك، وكان لهم نصيب من الشهرة في ذلك لا بأس به؛ فأرادوا أن يتجهو إلى رقعة أوسع منها فرأوا أن الأنظار من مختلف المستويات ومختلف الاتجاهات تتجه إلى رقعة الأبحاث الشرعية، والدراسات القرآنية خاصة فتسللوا إلى هذه الرقعة وبدؤوا ينشرون تفاسيرهم لآيات قرآنية وهم يحسبون أن علوم الشريعة لا تحتاج إلى أكثر من تقليب النظر في العبارات، ثم إبداء الرأي من غير أن يكون لصاحبها الدراية في شروط التفسير ومن غير أن يدركوا شروط المفسر؛ فأصبحوا ينظرون إلى آيات القرآن الكريم كما ينظرون إلى مقالة أدبية سطرها أحدهم فراح الآخر ينقدها فوقعوا في انحرافات في التفسير مصدرها جهلهم بالقرآن نفسه في آياته الأخرى التي قد تفسر ما يكتبون عنه أو تبينه، وجهلهلم بالسنة الشريفة التي قد يرد فيها تفسير لهذه الآية التي يتناولونها وجهلهم باللغة، وأنها لا تحتمل ما قالوه وجهلهم بالعقيدة وأصولها وغير ذلك من الأصول والقواعد التي لا يصح لقاصر عن تحصيلها أن يفسر القرآن الكريم، ولكنهم لم يتلزموا فانحرف تفسيرهم. ودواعي هؤلاء لسلوك هذا المنهج في التفسير كثيرة لا تقل عما ذكرته في أول هذا الباب من أسباب منهم من تحقق له ما أراد ومنهم من فشل في ذلك فخسر الدارين. وكما هيأ الله للملحدين في التفسير من رد عليهم في تفاسيرهم وكشف حقيقتهم للناس فإن الله عز وجل هيأ أيضا لهؤلاء من رد عليهم وكشف زيف آرائهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1105 نماذج من هذا اللون في التفسير : ويمتاز هذا اللون عن سابقه بكثرة الذين كتبوا فيه مقالات ودراسات ومؤلفات، وأكثر ما يدخل تحته التفسير العلمي، وقد سبق أن أفردنا هذا بمنهج خاص لكن هذا المنهج قد تطرف فيه بعض من تناولوا التفسير وخرجوا عن حدود التفسير المقبول إلى منطقة التفسير المردود؛ فأصبح تفسيرهم باللون الإلحادي ألصق وإن كانت صبغته علمية. ثم يليه في الكثرة آيات الأحكام التي ولج إليها طائفة أرادوا أن يعدلوا في الأحكام الرعية حسب ما يرونه ملائما للعصر حتى وإن لم تطاوعهم الآية؛ فإنهم يلوونها ليلا، وكأنهم قد قرروا الحكم الذي يريدون قبل أن ينظروا في الآية، ثم أرادوا أن يطبقوا الآية بعد ذلك على الحكم الذي قرروه قبل، ولا شك أن هذا إلحاد بالآية إلى غير مدلولها. خذ مثلا عباس محمود العقاد -عفا الله عنا وعنه- يقول في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1: "من هو السارق؟ هل هو من يسرق مرة واحدة أو من تعود السرقة؟ فإن كلمة الكاتب مثلا لا تطلق على كل من يكتب، ويقرأ وإنما تطلق على من تعود الكتابة وأكثر منها والإشارة إلى النكال وإلى عزة الله في الآية الكريمة قد تفيد معنى الاستشراء والاستفحال الذي يقضي بالنكال وأيا كان المقصود   1 سورة المائدة: من الآية 38. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1106 بالسارق في الآية الكريمة فالتوبة والاستصلاح تفيان من إقامة الحد، ويوكل الأمر فيهما إلى الإمام في رأي جملة الفقهاء"1. ولئن سبق في بحثنا هذا إيراد مثل هذا التفسير والرد عليه؛ فإني أحبذ أن أقف مع العقاد هنا وقفة في ثلاثة مواضع من حديثه. أما زعمه أن السارق تطلق على من تعود السرقة كالكاتب تطلق على من تعود الكتابة؛ فإن هذا غير مسلم وسبق بيان ذلك ويكفي هنا أن أضرب له مثلا واحدا، له من الرواج ما يفهم غير ذوي المعروفة باللغة وخصائصها لو طرق عليك الباب طارق فإنك تهتف "من الطارق"، حتى ولو لم يطرق الباب إلا مرة واحدة. أما أن الإشارة إلى عزة الله وإلى النكال؛ فإنه لا يدل على ما زعمه بل الذي أحسبه أنه عكس ما ذكر والله أعلم. بقي أمر توبة السارق والاستصلاح؛ فقد ذكر أنهما تعفيان من إقامة الحد ولكنه لم يفرق بين ما إذا رفع الأمر إلى الإمام أو قبل أن يرفع والذي لا يخفى أنه إذا رفع أمر السارق إلى الإمام؛ فلا يسقط الحد حتى ولو أعلن توبته؛ وإلا أصبح الأمر عبثا فأي سارق لن يعلن توبته ولو كذبا إذا كان هذا يدرؤ قطع يده، ثم يصبح الأمر عنده بردا وسلاما يسرق ثم يتوب ولا أظن ذا لب يقبل هذا؟! وفي آية أخرى يفسرها الأستاذ العقاد تفسيرا منحرفا تلكم قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ، عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ، مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ، بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ، لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ} 2 الآيات. حيث ذهب مذهب الفلاسفة في القول بأن الجزاء الأخروي نعيما وجحيما روحاني لا جسماني.   1 الفلسفة القرآنية: عباس محمود العقاد، ص101. 2 سورة الواقعة: الآيات 10-19. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1107 ويعلل ورود هذا النعيم في هذه الآيات وأمثالها بصيغ لا تقبل إلا أن يكون العقاب والثواب جسماني لا رواحاني بقوله: "فالحقيقة الاعتقادية لا بد أن تمتزج بتصور المؤمنين بها لأن الخطاب فيها موجه إلا ملايين من البشر منهم العارف والجاهل، ومنهم الذكي والغبي ومنهم كبير النفس وصغيرها ورفيع الحس ووضيعه ومنهم من يطلب الكمال، ومن لا يعرف كمالا يطمح إليه؛ فلا بد من توضيح الحقيقة الاعتقادية بالمحسوسات في كثير من الأحوال وعلى هذا ينبغي أن يروض فكره كل من ينظر إلى عقيدة الحياة الأخرى في القرآن الكريم. فالقرآن الكريم يفرض على المؤمنين عقيدة البعث والحساب ويدعوهم إلى الإيمان بالنعيم والعذاب والجنة هي مقر النعيم والنار هي مقر العذاب وفي القرآن أوصاف محسوسة للجنة كما وصفت في سورة الواقعة وفي القرآن أوصاف محسوسة للنار كما وصفت في سورة الفرقان؛ ولكن في المتفق عليه بنص القرآن ونص الحديث النبوي الشريف أن هذه الموصوفات غير ما يرى ويعهد في هذه الحياة والواقع أن المسلمين يفهمون من هذه الصفات معنى التنعيم ومعنى العذاب ولا يخل فهمهم لهذا أو لذاك بالغرض المقصود من وعد الله ووعيده بالمثوبة والعقاب"1، ثم ذهب يستدل لهذا الذي قرره بدليلين أحدهما: فلسفي والثاني صوفي، أما الأول فقال؛ فالإمام فخر الدين الرازي مثلا يقول في تفسير الاتكاء على السرر المرفوعة: "معناه أن كل أحد يقابل كل أحد في زمان واحد، ولا يفهم هذا إلا فيما لا يكون فيه اختلاف جهات، وعلى هذا فيكون معنى الكلام أنهم أرواح ليس لهم أدبار وظهور؛ فيكون المراد من السابقين هم الذين أجسامهم أرواح نورانية: جميع جهاتهم وجه، كالنور الذي يقابل كل شيء"، وهذا فهم فيلسوف باحث في الجواهر والأعراض، وفي مطالب الأرواح والأجسام". وأما الثاني وهو الفهم الصوفي فقال عنه: "ويفهم المتصوفة أن نعيم الحياة الباقية كله هو الوصول إلى الله ولا يتطلعون إلى جزاء غير هذا الجزاء سمعت   1 الفلسفة القرآنية: عباس العقاد ص183-184 باختصار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1108 رابعة العدوية قارئا يتلو قوله تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ، وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} 1 فقالت: نحن إذن صغار حتى نفرح بالفاكهة والطير"، وسمع الشبلي قوله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} 2؛ فصاح صيحة عظيمة، وقال: "فأين الذين يريدون الله تعالى؟ ". إلى أن قال -العقاد- فوصف الحقائق بالمحسوسات -كما رأينا- تعبير يفهمه الخواص الذين يرتفعون بالفهم وبمطالب النفس الباقية عن مطالب الجهلاء؛ ولكن هل التعبير بالمعاني المجردة والحقائق المثالية مفهوم عند هؤلاء الجهلاء؟ "3. ثم ذكر أن الجهلاء هم أحوج الناس إلى الإيمان بالحساب ووصفهم بأنهم لا يعتقدون إلا بما يحسون ويفقهون، وأنه لا معدي إذن من إحدى صورتين للعقائد، أما أن تساق بأسلوب يحقق الحكمة من العقيدة عند جميع الناس خاصة وعامة، ولا بد فيه من العبير عن المعاني بالمحسوسات، وأما أسلوب يترك الخاصة لأنفسهم وينفي العامة عن حظيرة الاعتقاد وهو لا يحقق الحكمة من العقيدة بحال. ثم قال: "في ذلك الأسلوب لا خسارة على أحد من الخاصة أو العامة، وفي هذا الأسلوب لا فائدة للخاصة ولا للعامة لأن الخاصة متروكون لأنفسهم يفهمون ما يفهمون بمعزل عن الوحي والرسالة، ولأن العامة محجوبون عن الوحي والرسالة بكل حجاب"4. تلكم خلاصة ما قاله الأستاذ عباس محمود العقاد ولنا معه أيضا وقفات: الأولى: أنه استدل برأي الفلاسفة ومفاهيم الصوفية، ومن المعلوم أن العقائد لا تؤخذ من هؤلاء ولا من هؤلاء وإنما من الكتاب والسنة.   1 سورة الواقعة: الآيتين 20-21. 2 سورة آل عمران: من الآية 152. 3 الفلسفة القرآنية: عباس العقاد ص185. 4 الفلسفة القرآنية: عباس محمود العقاد، ص185-186. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1109 الثانية: إن ما ذكره ونسبه للرازي إنما هو أحد قولين أوردهما الرازي إيرادا، ورجح الثاني الذي لم يذكره العقاد وهو أن التقابل يعني أنهم متساوون في المكانة والرتبة لا يرى أحدهم نفسه دون الآخر. الثالثة: إن ما ذكره عن رابعة والشبلي -إن صح عنهما- فلا يدل على فهمه هذا؛ ذلكم أن الصوفية حين يقولون مثل هذه المواجد ويلهجون بالنعيم الروحي وهو الوصول إلى الله تعالى لا ينكرون أهناك مع هذا نعيما محسوسا وعقابا كذلك؛ وإنما يتحدثون عن أمانيهم وليس عن الواقع وحده. والوقفة الرابعة وهي الأخطر زعمه "أن الخاصة متروكون لأنفسهم يفهمون ما يفهمون بمعزل عن الوحي والرسالة"، وهو كلام خطير لا أظن الأستاذ العقاد يقصد ممعناه بكل أبعاده؛ وإلا لأدى إلى إنكار الدين من أصله وترك -الخاصة- يقررون لأنفسهم من العقائد ما شاؤوا بعيدا عن الوحي والرسالة وحينذاك يكون الهلاك. ولعل في هذه الوقفات القصيرة ما يظهر الحقيقة التي غابت عنه فيما ادعاه من النص الذي سقناه له وحرصنا على استيفاء معانيه فجاء طويلا. وغير العقاد كثيرون أولوا الآيات على غير مدلولها الصحيح من ذلك -كما أشرنا- التفسير العلمي خاض فيه كثير من هؤلاء فجاؤوا بتفاسير منها ما هو مقبول، ومنها ما هو مردود ومنها ما هو إلحاد أو انحراف، ومنها ما هو كفر وضلال. لن أذكر أمثلة للمقبول والمردود؛ فقد إفرداه بدراسة خاصة ومنهج خاص هو المنهج العلمي في التفسير وإنا أشير إلى ما فيه انحراف أو كفر بل أشير إلى بعضه. فمن ذلك الأستاذ عبد الرزاق نوفل -رحمه الله- وغفر له وعفا عنا وعنه أكثر من التفسير العلمي أحسبه بدافع الحرص على هداية الناس وجذبهم إلى الإسلام، وما علينا ونيته فأمرها إلى الله؛ وإنما علينا أن نذكر مواضع انحرافه فمن ذلك تفسيره للنفس الواحدة في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1110 وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} 1؛ ففسر النفس الواحدة بالبروتون وزوجها الإلكترون واقرأ تفسيره قال: وقد اعتبر اكتشاف الإلكترون أكبر نصر علمي أمكن العقل البشري أن يصل إليه حتى أنهم يطلقون على هذا العصر الذي نعيش فيه الآن العصر الإلكتروني؛ إذ يعتبر أن هذا أروع وأهم اكتشاف تميز به عصر من العصور؛ إذ أمكن الوصول إلى الجوهر الفرد وحدة الخلق التي منها خلق كل شيء في الوجود: الإنسان والحيوان والماء والهواء الحي والجماد والأرض والسماء؛ فوجد أنها وحده تناهت في الصغر إلى درجة لا يقبل الفكر أن يتمثلها، وهذه الحقيقة العلمية التي يتيه بها العصر الحديث قد جاء بالقرآن الكريم منذ 1400 سنة في صراحة ووضوح؛ إذ تقرر الآية 189 من سورة الأعراف أن كل ما خلق الله إنما خلقه من نفس واحدة وجعل منها زوجها: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} 1 أليست هذه هي البروتونات والإلكترونات الكهارب الواحدة موجبة وسالبة أي النفس الواحدة.. الزوجية الجنس بين موجب وسالب"2. فهل يقبل ذو لب أن يوصف هذا التفسير بأن الآية تدل عليه بصراحة ووضوح ومع هذا يخفى على علماء المسلمين حتى القرن الرابع عشر الهجري؟! أين الصراحة والوضوح، وكان يكفي الأستاذ نوفل -عفى الله عنه- أن يكمل الآية ليعرف مدلولها الصريح والواضح {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 3. وهذا الشاب أحمد شعبان محمد شاب مغمور لعله أراد أن يصبح مشهورا فكتب ما زعمه "إعجاز علمي في سورة النور" تناول فيه قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ   1 سورة الأعراف: من الآية 189. 2 القرآن والعلم الحديث: عبد الرزاق نوفل، ص156. 3 سورة الأعراف: الآيتين 189-190. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1111 السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 1 زعم أن في هذه الآية بيانا لـ "نوع من أشعة "الليزر" يسير الجبال ويقطع الأرض ويكلم به الموتى"؟! وقد بلغت هذه الدراسة 31 صفحة قدمها صاحبها إلى إدارة البحوث والنشر في مجمع البحوث الإسلامية وأحيلت إلى فضيلة الشيخ مصطفى محمد الحديدي الطير فكتب تقريرا في 22 صفحة ختمه بأن هذا البحث لا يصلح للطبع والنشر. ولا أخفي أني غبطت الشيخ مصطفى الطير على سعة صدره وطول نفسه في قراءة هذه الرسالة كلها وكتابته نقدا شاملا لها مع أن كل صفحة فيها مليئة بما يبرر منعها من الطبع والنشر، ومع هذا فإن الشيخ مصطفى قدر قرأها كاملة، وكتب نقدا شاملا وزودني جزاه الله خيرا بنسخة من الرسالة وصوره من التقرير الذي كتبه وجاء فيه قوله: "يشتمل هذا الكتاب على إحدى وثلاثين صفحة من القطع الكبير وقد حاول فيه أن يستخرج أشعة الليزر من الآية الخامسة والثلاثين من سورة النور"2. قال المؤلف عن الآية 35 المذكورة من سورة النور: "أحسست بوجود تطابق بين هذه الآية الكريمة وبين أجهزة الليزر عموما. كما لو كانت الآية تصميم "كذا" لجهاز من تلك الأجهزة"3. أما تفسير الآية فقال ما خلاصته: {مِشْكَاةٌ} هو "كذا" الكوة التي ليست بنافذة وهي عبارة عن جسم مفرغ من الداخل وليس له إلا فتحة واحدة كشباك أي أن هذه الفتحة لها سدادة أقل سمكا من باقي الجسم ويعتمد تصميم   1 سورة النور: الآية 35. 2 الصفحة الأولى من التقرير الذي أعده الشيخ مصطفى محمد الحديدي الطير عن هذه الرسالة. 3 دراسة حول النور من كتاب الله: أحمد شعبان محمد، ص2. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1112 المشكاة على درجة الحرارة داخلها وعلى مسارات الأشعة وانكساراتها، ويجب كذلك أن تكون على درجة عالية من الصقل بالنسبة للسطح الداخلي؛ وذلك لاتخاذ الأشعة مساراتها المحددة حسب النظريات المعروفة، {فِيهَا} : بمعنى آخر هذه المشكاة، {مِصْبَاحٌ} : إشارة إلى كلمة المصباح السابقة، وعلى حسب التصورات العلمية المتاحة لنا يتحدد تصميم المصباح؛ فيكون هذا المصباح مماثلا لدائرة مصابيح الزئبق؛ بحيث ترفع طاقة الزيت من خلال تيار كهربي ويكون الزيت بمعزل عن أي مواد أخرى مثل الهواء لكي لا يحترق الزيت؛ فيكون في أنبوبة زجاجية مفرغة فعند رفع طاقة الزيت يتحول من الحالة السائلة إلى الحالة الغازية، ويتسبب ذلك في وجود ضغط داخل الأنبوبة، ونستمر في رفع طاقة بخار الزيت الذي يكون في هذه الحالة متأنيا "كذا" حتى نصل به إلى درجة الاشتعال؛ فيصدر ضوءا دون أن يحترق لعدم وجود أكسجين داخل الأنبوبة، {فِي زُجَاجَةٍ} : أي أن هذا المصباح بداخل الزجاجة، ويجب عمل تفريغ بين المصباح والزجاجة لتكون بمثابة عازل يمنع أجزاء المصباح وهي الدائرة الكهربة "كذا" الخارجة عن أنبوبة الزيت من التأكسد، وبالتالي التلف وكذلك لتعمل كعازل لعزل الجسيمات الموجودة في الضوء الخارج من الزيت وعدم السماح إلا بمرور الموجبات فقط من خلال الزجاجة"1، إلى أن قال: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَة} والبركة معناها الوفرة والكثرة أي الشيء المحدود يتكاثر بغير حدود، ومن الممكن أن نصل إلى أدنى هذه الحدود وذلك بالمقارنة عن طريق الآيات الآتية: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان: 3] . {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] . ففي الآيتين السابقتين وردت كلمة مباركة في الآية الأولى مرادفة لكلمة القدر في الآية الثانية وبتعريف قيمة القدر {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 2] فليلة القدر خير من ألف شهر أي أنها خير من   1 المرجع السابق: ص16-20 باختصار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1113 نظيرها بـ 60.000 على اعتبار الليلة نصف يوم فنصف اليوم خير من 1000×30×2= 60.000 نظيرها، وبالمثل فإن كلمة مباركة تعني الخير لأكثر من 60.000 نظير، وهذا يعني أن الاستفادة من هذه الشجرة خير من 60.000 شجرة في مكان آخر وشعاع النور الذي يخرج من هذه الشجرة خير من 60.000 شعاع يخرج من شجرة أخرى؛ لأن هذه الأشعة مركزة في نقطة واحدة وليست مشتتة بعيدا عن بعضها". ثم وصف هذه الأشعة المركزة في نقطة واحدة بأنها {نُورٌ عَلَى نُورٍ} وعندما تسير موجات نور على نور في خطوات منتظمة؛ فإنها تستطيع أن تحقق آثارا مذهلة والسبب هو أن طاقتها لا تتشتت كما لا تنتشر الحزمة نحو الخارج وهو يدعو إلى تكثيف تركيزا لطاقة عند نقطة محددة تماما وتوسع أيضا بدرجة عظيمة مدى مصدر الضوء، ثم ذكر بعض الإنجازات المثيرة لأشعة {نُورٌ عَلَى نُورٍ} ، ومنها أنه يمكن لهذا الشعاع أن يحدث ثقوبا في لوح من الصلب سمكة 3/8 بوصة على بعد عدة أقدام وقال: "ويستخدم هذا الشعاع "نور على نور لضبط المدى حيث تستخدم في سلاح المدفعية لتوجيه المدافع، وكذلك الصواريخ وكذلك المساحون في الفضاء الخارجي وستحل الأجهزة التي تصدر هذا الشعاع محل أجهزة الرادار التقليدية واللاسلكي لملاحة سفن الفضاء والاتصالات، ويستطيع هذا الشعاع أن يقطع المعادن والمواد الأخرى ويستخدم حاليا في أحكام ميكنة المعادن والمواد الهشة مثل التي بالماس وكذلك نستطيع أن نلح المعادن ونستخدم كذلك في صناعة دوائر ميكروإلكترونية ومن ثم فإن الأجهزة الضخمة التي تخرج هذا الشعاع التي تركب فوق قمم الجبال العالية يصفها على أنها وسيلة للدفاع ضد الرؤوس النووية للقذائف الموجهة الحربية من عابرات القارات" إلخ1. هذه خلاصة سريعة لهذا البحث عن "الليزر" الذي زعمه صاحبه تفسيرا للآية 35 من سورة النور وهل مثل هذا يحتاج إلى نقد؟! لا أحسبه كذلك فأمر بطلانه ظاهر لا يخفى.   1 المرجع السابق، ص29-30 باختصار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1114 ولا يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل، ومن المؤسف أن تنشر مثل هذه الخرافات جريدة "النور" المصرية في عددها 42 بعنوان: "إعجاز علمي في سورة النور نوع أشعة الليزر يسير الجبال ويقطع الأرض ويكلم به الموتى! وهذا المقال خلاصة لهذا البحث قدمها الكاتب نفسه". بقي أمر طريف أحببت الإشارة إليه لطرافته وأترك بيان العلاقة بينه وبين البحث لعلماء النفس ذلكم أن عنوان الباحث كما هو أمامي شارع طنطاوي الجوهري؟! وهل لاسم الشارع أثر على اتجاه أهله أم لا. وكما أن الإلحاد يكون في التطرف -إيجابا- في ربط الحقائق والنظريات العلمية بآيات القرآن الكريم؛ فإن الإلحاد أيضا يكون في التطرف -سلبا- في زعم مخالفة الآية لحقائق علمية؛ فهذا الأستاذ إسماعيل مظهر يكتب في العدد الأسبوعي لمجلة العصور الصادر في 24 فبراير سنة 1930م تحت عنوان "استفتاء" وجاء في مقاله: "جاء في القرآن الكريم: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيح} 1، وقد دل العلم الصحيح على أن السماء غير مزينة بمصابيح بل هي فضاء غير متناه، تناثرت فيه كرات عظيمة هائلة الأبعاد، ومها ما يستمد ضوءه من غيرهن، ومنها ما هو ملتهب كشمسنا؛ فهل الاعتقاد بأنها ليست مصابيح مخالف للدين؟ "2. وقلنا لهذا، بل هو مخالف للحواس أيضا وليس للدين فحسب، وأينا لم ينظر إلى السماء في ليلة مظلمة وقد انتثرت فيها النجوم وأطل من بينها وجه القمر فلم تأخذ بلبه، وكم تغنى في هذا المنظر الشعراء وأبدع فيه الأدباء وكم اهتدى بهذا المنظر رجل تأمل وتفكر في هذا الخلق البديع؛ فلم يجد بدا من الإذعان والاعتراف بأن هذا لا يكون إلا من الخلاق العليم. وليعلم هذا أن القرآن وهو يصف السماء والمصابيح؛ فإنما يخاطب أناسا ينظرون إليهما من الأرض فتبدوا مطابقة كل المطابقة لهذا الوصف ولا أظنه يجهل أن اللوحات الجميلة والمناظر البديعة لا يحسن النظر إليهما إلا من بعد وإلا   1 سورة الملك: الآية 5. 2 ذيل الملل والنحل: محمد سيد كيلاني ص101. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1115 فلو قرب حدقة عينه حتى تكون داخل اللوحة أو قريبة منها؛ فإنه لن يرى إلا نتوءات وحفرا، بل ويرى الألوان مشوهة فهل له وهو في هذه الحالة أن يصف هذه اللوحة بما هي منه بريئة وليجرب هذا الرجل وأمثاله أن يقرب عينه من أرض حديقة جميلة أو يضع حدقة عينه في قلب وردة زاهية الألوان، وليصف ما يرى وليسمع رأي الناس في وصفه إنهم لن يصفوه بأكثر من أحد وصفين إما الجنون أوالمكابرة وحسبك بهما وصفا لما زعمه في الآية. وإلحاد آخر في قوله تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} 1، قال فيه: "وقد أثبت العلم أن السماء لا أبواب لها، وأن الماء إنما يتساقط على الأرض بعد أن يتكاثف سحابا وبعد أن يعلو متبخرا من مياه الأرض فهل هذا الاعتقاد تجديف؟ وهل يجب أن نعتقد أن للسماء أبوابا من فوقها بحار، إذا فتحت انهمر المطر، وإذا أقلت أمسك عن الانهمار؟ "2. والرجل في إلحاده هذا يجهل اللغة والبلاغة. أما اللغة فاعتقاده أن المراد بالسماء السماء حقيقة؛ وإنما المراد بها العلو والارتفاع وهو الجو هنا وهو مقر السحاب. أما جهله البلاغة فإن في الآية استعارة تمثيلية بتشبيه تدفق المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت لها أبواب السماء وشق لها أديم الخضراء3 ولو علم اللغة والبلاغة لما قال ما قال. بقي أن أقول هنا أن إسماعيل مظهر هذا قد رجع إلى حظيرة الإسلام مرة أخرى والحمد لله4، إذا هو قد خرج عنه في أمور كثيرة منها ما هو صريح لا يشك في أمره فيها. والحمد لله أولا وآخرا. ولعلي أكتفي بهذا في سياق الأمثلة على التفاسير المنحرفة في منهج القاصرين في تفسير القرآن الكريم واذكر بعد هذا مثالا للؤلفات في هذا المنهج.   1 سورة القمر: من الآية11. 2 ذيل الملل والنحل: محمد سيد الكيلاني ص101. 3 انظر تفسير القاسمي: ج15 ص5598. 4 ذيل الملل والنحل: محمد سيد كيلاني ص108. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1116 القرآن محاولة لفهم عصري : أولا: المؤلف أما اسم الشهرة فمصطفى محمود، أما اسمه الكامل: فمصطفى كمال بن محمود حسين. ولد في 27/12/1921 في قرية شبين الكوم، بالمنوفية في مصر؛ ولكنه نشأ في طنطا، حيث انتقل إليها مع أبويه وبدأ دراسته في الكتاب فيها بضعة أشهر، ثم دخل المدرسة الابتدائية، وقد أهلته درجاته العالية في الثانوية للالتحاق بكلية الطب بالقاهرة حتى أحرز شهادة الكلية عام 1952م وواصل دراسته حتى أتم مرحلة التخصص في الأمراض الصدرية. مرحلة الرفض: ووجد في القاهرة الجو المساعد لتنمية هواياته التي جمعت بين الفن والعلم، وقد كان ولعه بالقراءة في سن مبكرة حين شارف على الثالثة عشر؛ حيث قرأ مؤلفات شبلي شميل وإسماعيل مظهر وسلامة موسى الذين كونوا في ذهنه مرحلة الرفض ويحدد نطاق شكه فيقول: إنه مقصور على موضوع النبوات والرسالات فقط. أما ما يتعلق بوجود الخالق تبارك اسمه فقد ظل في قلبه وعقله فوق كل ريب. ويعلل بواعث تلك الشكوك بأنها رد فعل لما يراه من المظاهر الشاذة عند ضريح البدوي وغيره في طنطا. مؤلفاته: وأول مؤلفاته هي مجموعته القصصية "أكل عيش" وصدرت سنة 1954م. لكن لكتابه الثاني "الله والإنسان" الأثر الأكبر في التأليف، حيث قفز به من معالجة الواقع الإنساني على صعيد الأحداث القصصية إلى محاولة التشكيك في كبرى اليقنيات وحشد في هذا الكتاب كل المشكلات التي خاضها فألقت به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1117 في صراع كاد يمزقه، وقد أثار عليه هذا الكتاب بعض ذوي الغيرة الإسلامية فحاربوه حتى قام الزهر بواجبه؛ فصودرت نسخ الكتاب وقدم المؤلف إلى محكمة أمن الدولة ودافع محامي المؤلف عنه؛ فأعلن أن هذا الكتاب يسجل بداية متصوف لا تهجمات ملحد - ولسبب مجهول كان أعضاء المحكمة من أهل التصوف - فحكموا بمصادرة الكتاب والكف عن ملاحقة مؤلفه. وبعد سكون الزوبعة رجع المؤلف إلى نفسه يحاكمها ويحاكم كتابه وانتهى إلى أنه عمل متهور لا يرضى عنه قلبه ولا عقله، وكانت هذه المحاكمة بداية لمرحلة جادة في طلب الحقيقة واستحكمت صلته بالقرآن وشرع بالاتصال بأئمة المفسرين، وكان أعمقهم تأثيرا سيد قطب في ظلال القرآن وابن كثير في تفسيره. وأعلن الدكتور رفضه لكتابين من كتبه أولهما "الله والإنسان" الذي صودر، ولن يطبع ثانية، وثانيهما "إبليس"؛ إذ أعلن أنه لا يسمح بإعادة طبعه، وكل طبعة له ظهرت بعد الأولى فمن غارات السارقين في بيروت. وخص كتابه "لغز الموت" بالذكر واعتبره مدخله إلى الإيمان، وقد كتبه في عام 1958-1959، ثم المستحيل الذي صدر سنة 1960م1. وله عدد من المؤلفات يذكرها عادة مع تواريخ صدورها في آخر كل كتاب له، ومن هذه المؤلفات غير ما ذكرنا: 1- لغز الحياة "دراسة كتبت سنة 1967م". 2- آينشتين والنسبية "دراسة كتبت عام 1961م". 3- رحلتي من الشك إلى الإيمان "دراسة كتبت عام 1970م". 4- الطريق إلى الكعبة "رحلة حج كتبت عام 1971". 5- الله "دراسة كتبت عام 1972م".   1 لخصت هذه الترجمة من كتاب الأستاذ/ محمد المجذوب علماء ومفكرون عرفتهم ص391 إلى ص424. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1118 6- التوراة: دراسة كتبت عام 1972". 7- رأيت الله: دراسة كتبت عام 1973". 8- الروح والجسد: دراسة كتبت عام 1973". 9- حوار مع صديقي الملحد: دراسة كتبت عام 1974". 10- الماركسية والإسلامية: دراسة كتبت عام 1975". 11- محمد: دراسة كتبت عام 1975". 12- السر الأعظم: دراسة كتبت عام 1975". 13- من أسرار القرآن: دراسة كتبت عام 1976". 14- الوجود والعدم: دراسة كتبت عام 1976". 15- لماذا رفضت الماركسية: دراسة كتبت عام 1976". 16- القرآن محاولة لفهم عصري: وهوموضوع بحثنا هنا". هذه أهم مؤلفاته فيما نرى ولم نذكر منها أسماء رواياته ومسرحياته ورحلاته وقصصه التي صدرت في مجموعات أربع في بيروت سنة 1972م. يكفي أن أقول إن عدد مؤلفاته كما يذكرها في آخر كتابه من أسرار القرآن 45 مؤلفا فضلا عن المجموعات الكاملة التي أشرت إليها آنفا، وسأتحدث بعد هذا عن تفسيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1119 ثانيا: الكتاب "القرآن محاولة لفهم عصري" وتقع طبعة دار المعارف بمصر سنة 1976م لهذا الكتاب في حوالي 280 صفحة من الحجم المتوسط وطبع قبلها وبعدها عدة مرات. والمهم في الأمر أن الكتاب قد لاقى لا القبول عند كثير من المثقفين وقراء مصطفى محمود كما لاقى الرفض عند كثير من المختصين بعلوم القرآن، وقد توسط بعض العلماء فقبلوا بعضه وأنكروا بعضه وردوه، وأفرده بعضهم بمؤلفات مستقلة. ومن الذين نقدوه بدراسة مستقلة: 1- الأستاذ عبد المتعال محمد الجبري في كتابه "شطحات مصطفى محمود في تفسيراته العصرية للقرآن الكريم" ويقع في حوالي 250 صفحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1119 2- الأستاذ مصطفى إسماعيل الرج في كتابه "رد على محاولة الفهم عصري للقرآن"، ويقع في 127 صفحة. 3- "الملحد" محمود محمد طه في كتابه "القرآن ومصطفى محمود والفهم العصري" والعجيب أن المؤلف من أشهر الملحدين في هذا العصر ومن الذين ادعوا الرسالة، ويقع كتابه في 213 صفحة. ومن الذين نقدوه نقدرا موسعا: 1- الدكتورة عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ" في كتابيها: "أ" القرآن والتفسير العصري. "ب" القرآن وقضايا الإنسان. 2- الشيخ مصطفى محمد الحديدي الطير في كتابه "اتجاه التفسير في العصر الحديث منذ عهد الإمام محمد عبده إلى مشروع التفسير الوسيط". 3- الأستاذ أحمد محمد جمال في كتابه "على مائدة القرآن مع المفسرين والكتاب". 4- الأستاذ توفيق علي وهبه في كتابه "شبهات وانحرافات في التفكير الإسلامي المعاصر". وغير هؤلاء كثير نقدوه في كتبهم أو في مقالات نشرت في الجرائد والمجلات. والكتاب في أصله مجموعة مقالات نشرت في مجلة "صباح الخير" في ديسمبر 1969م وأوائل 1970م بعنوان تفسير عصري للقرآن؛ فلما قامت الاعتراضات على تفسيره هذا جمعها في كتاب وزاد كلمة حسبها تبرر عمله هذا وسماه محاولة لفهم عصري للقرآن. واستنكرت طائفة كتابة هذا التفسير في مجلة صباح الخير لجلال الموضوع وهبوط المجلة فلا تناسب بينهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1120 واستبشرت طائفة أخرى ليس لما أصاب فيه المؤلف؛ وإنما لما أخطأ فيه وانحرف فهي تصفق إعجابا لكل تأويل باطل أو شرح منحرف لقضية من القضايا الإسلامية، وكأنما أسند إليها القيام بتحريف الإسلام فهي تدافع عن كل ملحد وتشجع كل منحرف وتبرر كل خطيئة. وطائفة رفضت هذا التفسير لعدم تخصص المؤلف وعدم توفر شروط المفسر فيه؛ فإذا قيل هم إن الإسلام ليس حكرا على أحد ألقموه حجرا، وقالوا: حقا الإسلام ليس حكرا على أحد؛ ولكن تفسير نصوصه ليس مباحا لكل أحد كالدواء تماما، العلاج به ليس حكرا على أحد كن وصفه وتركيبه ليس مباحا لكل أحد. وسأذكر بعد هذا أمثلة من الانحرافات والشطحات التي ارتكبها الدكتور مصطفى محمود في محاولته هذه. نماذج من تفسيره: يحتوي كتابه هذا على أربعة عشر بحثا جعل لكل منها عنوانا وختم هذه الأبحاث بمناقشات، أما هذه البحاث إجمالا فهي: 1- المعمار القرآني. 2- مخير أم مسير. 3- قصة الخلق. 4- الجنة والجحيم. 5- الحلال والحرام. 6- العلم والعمل. 7- أسماء الله. 8- رب واحد ودين واحد. 9- الغيب. 10- الساعة. 11- البعث. 12- لا كهنوت. 13- لا إله إلا الله. 14- لماذا إعجاز القرآن؟ ولا يحتاج القول إن المؤلف لم يفسر القرآن على الطريقة المألوفة في تفسيره آية آية وسورة سورة؛ بل جاء تفسيره عصريا يختار الموضوع سلفا، ثم يضع فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1121 من الآيات ما يختار ويتناولها فيه تفسيرا وشرحا وحتى عناوين البحاث تبدو فيها العصرية. بقي أن أقول إن الكتاب مليء بالأمثلة على الانحراف في التفسير؛ فما الذي أذكر وما الذي أدع. أأذكرها كلها وإذا لو فعلت لجاء في كتاب كامل، وقد كفيت هذان أو أذكر بعضها ففيه مرادي هنا من ضرب المثل للتفسير المنحرف للمفسر القاصر. وعلى هذا الخير أكتب فعذرا إذا لم أستوف وأستوعب. خلق الإنسان: من أهم القضايا التي خاض فيا الدكتور مصطفى في كتابه مسألة خلق الإنسان؛ بل خلق آدم وحواء -عليهما السلام- وهو أمر لا شك أنه غيبي لا سبيل إلى إدراكه ومعرفته إلا عن طريق الوحي. وقد بسط القرآن الكريم الحديث عن ذلك في آيات شتى. علينا أن نؤمن بها ولا نصرفها بما لا تحتمله ألفاظها حتى توافق نظرية علمية ما زالت تتأرجح يمنة ويسرة إن لم تكن قد سقطت. وقد أفاض الدكتور الحديث عن هذه المسألة وأطال وأصاب فيه وأخطأ ورجع في طبعات الكتاب الأخيرة "دار المعارف" عن أقوال سجلها في طبعاته الأولى "طبعة القاهرة" وهو أمر نشكره عليه وندعو الله أن يزيده إيمانا ورجوعا إلى الحق. وبدأ الدكتور حديثه بذكر قصة داروين وطوافه حول العالم وجمعه العينات من البر والبحر وملاحظاته وتأملاته، ثم ذكر بعضا من ملاحظات داروين أعقبها بتساؤل: "هل الحكاية أن الحيوانات أصلها واحد ثم تطور هذا الأصل وتباين واختلف إلى هذه الفصائل المتباينة بسبب تباين الظروف والبيئات والحيوانات التي دبت على الأرض طورت لنفسها أرجلا. والتي نزلت إلى البحر تحورت فيها الأرجل إلى زعانف، والتي طارت في الجو تحورت فيها الأطراف إلى أجنحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1122 إذا كان هذا الاستنتاج صحيحا فلا بد أن يكشف لنا تشابها في بنية الجميع وهذا هو ما قاله المشرط الفعل"1. ثم ذكر أمثلة لما كشفه المشرط عند داروين؛ ففي الثعبان يكشف عن أرجل ضامرة وفي الطيور يكشف أن أنحتها هي الوجه الثاني من الأطراف. وفي الأسماك يكشف أن زعانفها الأربع هي أطرافها الأربع، وهكذا إلى أن قال: لم يبق إلا أن يكتب داروين نظريته في أصل الأنواع؛ بل إن النظرية لتكتب نفسها فتقول إن الأنواع انحدرت كلها في أصل واحد تباين واختلف إلى شجرة من الفصائل والأنواع نتيجة تباين الظروف والبيئات"2. ثم نفى أن يكون داروين قال: إن الإنسان انحدر من القرد وإنما هي نكتة روجتا الصحف، ووصف هذه النظرية بأنها في أصلها المكتوب لا تقول بأن أيا من الأجناس الموجودة خرج من الآخر؛ وإنما كل جنس هو بذاته نهاية فرع مستقل من الشجرة لم يخرج فرع من فرع. وقامت الزوبعة على داروين ومضت سنون وسنون من التمحيص وإعادة النظر. وعاش من نظرية داروين بعضها ومات بعضها. ثم بين الدكتور مصطفى ما عاش منها وما مات فقال: "حكاية أن الأنواع انحدرت من أصل واحد، وأنها تباينت غلى شجرة من الفصائل والأنواع نتيجة تباين الظروف والبيئات كانت احتمالا مرجحا أقرب إلى الصحة تقوم عليه الشواهد فالوشيجة العائلية تربط كل الخلائق بالفعل". والتشريح يقول: إنها ترتبط بعضها ببعض بصلة رحم وقربي. أما حكاية أن الترقي حدث بالحوافز الحياتية وبدون يد هادية؛ فلم تعد مقنعة، وسقطت من غربال الفكر المدقق المحقق"3.   1 القرآن محاولة لفهم عصري: مصطفى محمود ص49. 2 المرجع السابق: ص52. 3 المرجع السابق: ص52. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1123 خلاصة الأمر أن الدكتور مصطفى يخالف هذه النظرية في جزئية شكلية -وأنا أقول شكلية ليس في ناحية العقيدة وإنما من ناحية النظرية نفسها -شكلية لأن داورين- حسب قول الدكتور مصطفى زعم أن عوامل التطور هي عوامل داخلية، وقال الدكتور أنها بيد هادية ترشدها1 وما عدا هذه الجزئية فلا اعتراض على هذه النظرية. وبعد هذا العرض الطويل الذي أوردت خلاصته وصل الدكتور مصطفى إلى مرحلة إلصاق هذه النظرية بالقرآن الكريم، وهو يدرك أن العبارات والنصوص لا تطاوعه على ما أراد فمهد للأمر بأن قال: القرآن له أسلوبه المختلف عن كل الأساليب. وهو حينما يشير إلى مسألة علمية لا يعرضها كما يعرضها أينشتين بالمعادلات ولا كما يعرضها بيولوجي برواية التفاصيل التشريحية؛ وإنما يقدمها بالإشارة والرمز والمجاز والاستعارة واللمحة الخاطفة والعبارة التي تومض في العقل كبرق خاطف. إنه يلقي بكلمة قد يفوت فهمها وتفسيرها على معاصريها؛ ولكنه يعلم أن التاريخ والمستقبل سوف يشرح هذه الكلمة ويثبتها تفصيلا"2. ولا شك أن مثل هذا يوحي بأن الدكتور قد عجز عن أن يجد كلمة صريحة أو عبارة واضحة أو دلالة بينة على ما ذهب إليه؛ فلم يجد بدا من أن يحمل ما فهمه على الإشارة والرمز والمجاز والاستعارة واللمحة الخاطفة وأي مانع لمن أراد أن يقول في القرآن ما يريد أن يقول أنه فهمه بهذه المصطلحات. إن مثل هذه القضية في أهميتها لا تكفي مثل هذه الإشارات والرموز لإقامتها؛ هذا إن سلم له أن في الآيات رمزا وإشارة. ولنر بعد هذا ما حسبه رموزا وإشارات، فقد قال في تفسير قوله تعالى:   1 المرجع السابق: ص54. 2 المرجع السابق: ص55. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1124 {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} 1 قال: "وفي هذه الآية يحدد أن خلق الإنسان تم على مراحل زمنية " {خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} والزمن بالمعنى الإلهي طويل جدا {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} 2؛ فإذا قال الله: {خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} ، ثم اكتملت الصورة بتخليق آدم فقلنا للملائكة اسجدوا لآدم؛ معنى هذا أن آدم جاء عبر مراحل من التخليق والتصوير والتسوية استغرقت ملايين السنين بزماننا وأياما بزمن الله الأبدي. {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} 3، ومعناها أنه كانت هناك قبل آدم صور وصنوف من الخلائق جاء هو ذروه لها. {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} 4 إشارة إلى مرحلة بائدة من الدهر لم يكن الإنسان يساوي فيها شيا يذكر. ويقول القرآن عن الله أنه هو: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} 5 أي أنه هدى مسيرة التطور حتى بلغت ذروتها في آدم {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِين} 6، وهي إشارة صريحة بأن الإنسان لم يخلق من الطين ابتداء؛ وإنما خلق من سلالات جاءت من الطين هناك مرحلة متوسطة بين الإنسان والطين هي سلالات عديدة متلاحقة كانت تمهيدا لظهور نوع الإنسان المتفوق، ثم يحدثنا القرآن عن تخلق الجنين فيحكى لنا أن خلق العظام سابق على خلق العضلات {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ   1 سورة الأعراف: الآية 11. 2 سورة الحج: الآية 47. 3 سورة نوح: الآية 14. 4 سورة الإنسان: الآية الأولى. 5 سورة طه: الآية 50. 6 سورة المؤمنون: الآية 12. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1125 لَحْمًا} 1 ومعلوم في علم الأجنة أن نشأة العمود الفقري سابقة على نشأة العضلات"2. تلكم خلاصة ما قاله الدكتور في خلق الإنسان، وظاهر أن المؤلف يخلط بين الآيات التي تتحدث عن خلق آدم -عليه السلام- وبين الآيات التي تتحدث عن خلق الإنسان كل إنسان فالآية التي استدل بها {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} ؛ إنما هي من قول نوح -عليه السلام- يخاطب قومه ويحدثهم عن خلقهم لا عن خلق آدم -عليه السلام- ويعجب كيف لا يرجون لله وقارا وهو الذي خلقهم أطوارا، وكان مقتضى خلقه لهم كذلك أن يوقروه عز وجل؛ فلما لم يفعلوا عاتبهم وهذا هو الذي يدل عليه السياق، ولا دلالة في الآية على أن المراد بالأطوار صنوفا وصورا من الخلائق جاء آدم ذروه لها بل لم يرد ذكر آدم -عليه السلام- في هذه الآيات فكيف يرجع الضمير إليه. ونحو هذا تفسيره لقوله تعالى على لسان موسى، عليه السلام: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} 3؛ حيث فسرها الدكتور مصطفى بقوله، أي أنه هدى مسيرة التطور حتى بلغت ذروتها في آدم وهو تفسير غريب فلا علاقة لهذه الآية بحكاية التطور في خلق آدم؛ وإنما وردت لبيان قدرة الله سبحانه وتعالى وحكمته خلقا وتقديرا أو خلقا وهداية، ولهذه الآية قرائن أخرى كقوله عز وجل: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} 4 وقوله سبحانه: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} 5 وقوله سبحانه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} 6 ومع هذا فلا يصح أن يستدل بهذه الآيات على تطور خلق آدم. حتى ولا على سبيل الرمز والإشارة كما يفعل الدكتور.   1 سورة المؤمنون: في الآية 14. 2 القرآن محاولة لفهم عصري: مصطفى محمود، ص58-59 باختصار. 3 سورة طه: 50. 4 سورةالأعلى: الآيات 1-3. 5 سورة البلد: الآيات 8-10. 6 سورة الإنسان: الآية 3. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1126 أما زعمه أن قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِين} 1 إشارة صريحة بأن الإنسان لم يخل من الطين ابتداء فغير صحيح بل هو مخالف لصريح القرآن الكريم، قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} 2. هذه هي الدلالة الصريحة في أن خلق الإنسان بدأ من الطين، إذًا فلا يصح للدكتور مصطفى ولا لغيره أن يزعم أن الإنسان لم يخلق من الطين ابتداء، ثم يخطئ مرة أخرى حين يقول: "وإنما خلق من سلالات" إلخ. والآية تنص على: {مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} فكيف يعدد ما أفرده القرآن. وعلى كل حال فالدكتور مصطفى قد أخطأ مرات فيما ذكرنا وفيما لم نذكر من أقواله في خلق الإنسان ولعله يعود مرة أخرى فيستغفر الله ويتوب إليه. هبوط آدم: ومما يتعلق بخلق آدم -عليه السلام- ويرد عند الحديث عن خلقه وسجود الملائكة له هبوطه من السماء إلى الأرض جزاء معصيته. وقد استدل بهذا بعض منكري نظرية التطور المزعومة حين فرقوا بين خلق آدم وسائر المخلوقات؛ فقالوا أن آدم خلق في السماء، ثم عصى فأنزل إلى الأرض وكان على من يقول بنظرية التطور أن ينكر خلق آدم في السماء وهبوطه وكان هذا هو ما فعله الدكتور مصطفى حيث أنكر الهبوط فقال: "والذين لا يوافقونا على القول بالتطور يسألون. ماذا يكون معنى الإهباط من الجنة في النظرة التفسيرية الجديدة ومعنى مشهد إسجاد الملائكة. بأن الإهباط ورد في القرآن بمعنى الانتقال من كان إلى مكان دون مغادرة الأرض في مخاطبة الله لقوم إسرائيل {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُم} 3   1 سورة المؤمنون: الآية 12. 2 سورة السجدة: الآيتين 7-8. 3 سورة البقرة: من الآية 61. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1127 وكذلك وردت الجنة بمعنى البستان والحديقة على الأرض: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} 1، {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ} 2 ويكون المعنى المقصود من الإهباط إذن هو الإهباط المعنوي من مقام الرضا إلى مقام المعصية، وأنه قد تحقق بانتقال آدم عن حياة سهلة في بساتين يانعة وافرة الخصب والرزق إلى مكان جديب وهو على الأرض ما يزال ودونما إهباط من سماوات. أما مشهد إسجاد الملائكة فقد حدث هو الآخر على الأرض من قبيل التسخير كما سخر الله الجن لسليمان على الأرض. أو من قبيل الكشف والاطلاع على الملكوت كما اطلع نبيه محمدا على الملكوت والمعراج وهي معجزات يختص بها الله أنبياءه وكلها دلالات كاشفة على مقام آدم العالي عند ربه. وقد كشف له هذه الأمور كشفا وهو على الأرض لم يزايلها إنها الأرض لم يبرحها آدم منذ اختاره الله من أزكى فرع في شجرة الحياة التي أنبتها نباتا من طين الأرض وهداها في انتقالها من سلالة إلى سلالة إلى أن بلغ الذروة المختارة. وتؤيدنا في ذلك آيات كثيرة عن الأرض: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} 3، {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} 4 {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} 5. إنها الأرض لم نبرحها والإهباط هو إهباط من الأرض إلى الأرض"6. وهذه المزاعم الثلاث التي زعمها الدكتور مصطفى: 1- إن الجنة في الأرض.   1 سورة سبأ: من الآية 15. 2 سورة الرعد: من الاية 4. 3 سورة الأعراف: الآية 25. 4 سورة نوح: الآيتين 17-18. 5 سورة طه: الآية 55. 6 القرآن محاولة لفهم عصري: د/ مصطفى محمود، ص68-69. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1128 2- إن الإهباط هو الإهباط من الأرض إلى الأرض. 3- سجود الملائكة حدث على الأرض وهو من قبيل التسخير. أمور خطيرة فيها من الجرأة على النصوص الشرعية ما يخشى على صالحه ولهذا ولعظم هذا القول وعظم الحكم عليه أسوق كلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- حيث قال: "والجنة التي أسكنها آدم وزوجته عند سلف الأمة، وأهل السنة والجماعة هي جنة الخلد، ومن قال أنها جنة في الأرض بأرض الهند أو بأرض جدة أو غير ذلك؛ فهو من المتفلسفة والملحدين أو من إخوانهم المتكلمين المبتدعين فإن هذا يقوله من يقوله من المتلفسفة والمعتزلة. والكتاب والسنة يرد هذا القول وسلف الأمة وأئمتها متفقون على بطلان هذا القول. قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} إلى قوله: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} . وهذا يبين أنهم لم يكونوا في الأرض؛ وإنما أهبطوا إلى الأرض فإنهم لو كانوا في الأرض وانتقلوا إلى أرض أخرى كانتقال قوم موسى من أرض إلى أرض لكان مستقرهم ومتاعهم إلى حين في الأرض قبل الهبوط وبعده، وكذا قال في الأعراف لما قال إبليس: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} . فقوله: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} يبين اختصاص السماء بالجنة بهذا الحكم فإن الضمير في قوله: {مِنْهَا} عاد إلى معلوم غير مذكور في اللفظ -هذا بخلاف قوله: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} فإنه لم يذكر هناك ما أهبطوا فيه وقال هنا: "اهبطوا" لأن الهبوط يكون من علو إلى أسفل، وعند أرض السراة حيث كان بنو إسرائيل حيال السراة المشرفة على المصر الذي يهبطون إليه. ومن هبط من جبل إلى واد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1129 قيل له: هبط" إلى أن قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى- "وقوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} قال: اهبطوا الآيتين فقوله هنا بعد قوله: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} يبين أنهم هبطوا إلى الرض من غيرها وقال: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُون} ؛ دليل على أنهم لم يكونوا قبل ذلك بمكان فيه يحيون وفيه يموتون ومنه يخرجون؛ وإنما صاروا إليه لما أهبطوا من الجنة والنصوص في ذلك كثيرة وكذلك كلام السلف والأئمة"1. هذا جواب ابن تيمية -رحمه الله تعالى- لمنكر الهبوط ولمنكر أن تكن جنة آدم هي جنة الخلد أما جوابه لمن أول سجود الملائكة بغير معناه المتبادر فقال: "فمن قال إنه لم يسجد له جميع الملائكة بل ملائكة الأرض؛ فقد رد القرآن بالكذب والبهتان وهذا القول ونحوه ليس من أقوال المسلمين واليهود والنصارى وإنما هو من أقوال الملاحدة المتفلسفة الذين يجعلون "الملائكة" قوى النفس الصالحة"، والشياطين قوى النفس الخبيثة للعقل ونحو ذلك من المقالات التي يقولها أصحاب "رسائل إخوان الصفا"، وأمثالهم من القرامطة والباطنية ومن سلك سبيلهم من ضلال المتكلمة والمتعبدة وقد يوجد نحو هذه الأقوال في أقوال المفسرين التي لا إسناد لها يعتمد عليه"2. وبعد هذاما قاله الدكتور مصطفى وهذا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وحسبك به. حد السارق: وللدكتور مصطفى في حد السارق ثلاثة مواقف، أما أحدها فنشره في إحدى المجلات بعد صدور الطبعة الأخيرة من كتابه؛ وكأنها إضافة جديدة، وأما ثانيها فحذفه من الطبعة التي بين يدي وأما ثالثها فلا يزال، لم يرجع عنه.   1 مجموع فاوي ابن تيمية: جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد ج4 ص347-349 باختصار. 2 مجموع فتاوي ابن تيمية: عبد الرحمن بن قاسم ج4 ص345-346. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1130 وللبيان فإن أولها زعم اشتهر عن الدكتور مصطفى، وإن كان قاله قبله كثير من الملحدين والمنحرفين والجاهلين ذلكم هو الزعم بأن اليد لا تقطع لمن يسرق مرة واحدة فلا بد أن تتكرر منه السرقة حتى يوصف بأنه "السارق"؛ فيصح حينئذ قطع يده1 وهذا أمر سبق عرضه والرد عليه فلا داعي لإعادته. أما ثانيها فما ذكره من أنه إذا تاب السارق، وقال صادقا تبت ولن أسرق بعد الآن يعطي لولي الأمر مجالا لرفع الحد عنه؛ لكن الدكتور مصطفى حذف هذا في الطبعة التي بين يدي لعله بعد أن قرأ ردود أهل العلم عليه. وثالثها زعمه أن "من سرق للجوع أو للحاجة لا يصح شرعا إقامة الحد عليه حتى لو كان يسرق عن إصرار وعمد"2، وهو حين يقول هذا لا يفرق بين مجاعة تعم المسلمين ومجاعة يزعمها كل سارق فيسقط عنه الحد ويكون التشريع به باطلا؟! سبحانك هذا بهتان عظيم. الجنة والجحيم: وهذا الموضوع في كتابه كغيره من المواضيع مليء بالانحرافات في التفسير والتأويلات البعيدة والمتناقضة والسطحية؛ بل عد الدكتور من أسباب انصرافه عن القرآن في شبابه ما قرأ عن أنهار العسل وأنهار الخمر في الجنة وهو لا يحب العسل ولا يحب الخمر وعد هذا سذاجة! وانسحب حكمه على القرآن، ثم على الدين كله والساذج في واقع الأمر لم يكن إلا هو، كذا قال3. وقد ظن خاطئا أن تأويل ما في الجنة وما في النار بأنه ضرب مثل ولون من التقريب وألوان من الرمز ثم تخبط فمرة يقول أن النعيم والعذاب معنويان لا حسيان ومرة عكس هذا ومرة عنويان وحسيان ولا تدري أيها عقيدته.   1 انظر مجلة صاح الخير العدد 1093 في 16 ديسمبر 1976م مقال: قطع اليد في القرآن مصطفى محمود. 2 القرآن محاولة لفهم عصري: د/ مصطفى محمود، ص212. 3 المرجع السابق: ص81. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1131 قال: "فماذا يقول القرآن في الجنة؟ {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} 1. والاية تبدأ بأنها ضرب مثل {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} وليست إيرادا لأوصاف حرفية؛ فهذا أمر مستحيل لأن الجنة والجحيم أمور غيبية بالنسبة لنا لا يمكن تصويرها في كلمات من قاموسنا فكل الغاية هي تقريب تلك المعاني المستحيلة بقدر الإمكان وكل ما جاء عن الجنة والجحيم ما هو إلا ألوان من ضرب المثال وألوان من التقريب وألوان من الرمز"2. ويقول أيضا: "الله لا يعذب للعذاب وإنما يأتي العذاب واحتراق الصدر من إحساس من هم في أسافل الدرجات بالغيرة والحسد والهوان والخسران الأبدي الذي لا مخرج منه، وسوف يحرق هذا الإحساس الصدور كما تحرقها النار وأكثر، وسوف يكون هو النكال والتنكيل ينكل الواحد منا بنفسه بالدرجة التي وضع نفسه فيها والتي انحدر إليها بأعماله في الدنيا"3. وفي قوله تعالى عن المعذبين في النار: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} 4 قال الدكتور مصطفى: "إنه حوار ومكالمة في النار يجري بين المعذبين، وفي مثل نارنا لا يمكن أن يجري حوار بين اثنين يحترقان، والمعنى الثاني العميق في الآية و {لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} أن أمامنا اثنين "كذا" يتعذب الواحد منها ضعف الآخر مع أنهما في المكان نفسه: ومعنى هذا أن العذاب يكون في الشخص وليس في المكان ذاته وهذا لا ينفي أن العذاب المذكور حسيا بل أنه من الممكن أن يكون   1 سورة محمد: الآية 15. 2 القرآن محاولة لفهم عصري: د/ مصطفى محمود، ص81-82. 3 المرجع السابق: ص87-88. 4 سورة الأعراف: من الآية 38. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1132 معنويا وحسيا في نفس الوقت"1. لكنه يرجع إلى القول بأن العذاب معنوي حين يفسر قوله تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} 2 فيقول: "والحساب هنا يبدو أنه حساب النفس للنفس وتنكيل النفس بالنفس ومواجهة النفس للنفس، لقد لزم كل واحد عمله كظله ولإخلاص وحق القول ونفذ العدل الأزلي"3. ولعل الذي حمله على العتقاد بأن العذاب معنوي اعتقاده الآخر في بعث الأجساد يوم القيامة حيث يقول: "وبالمثل ما يروي القرآن عن النار فهي نار لا كما نعرف من نار، نار تنبت فيها شجرة لها ثمر، {شَجَرَةَ الزَّقُّومِ} وفيها ماء حميم يشربه أهلا والمعذبون فيها يتكلمون ويتحاورون؛ فأجسادهم لا يمكن أن تكون لها نفس كيمياء الأجساد كما نعلمها وإلا لتبخرت دخانا في لحظات، ولما استطاعوا أن يتبادلوا كلمة". ومعنى هذا أننا سوف نبعث أجسادا؛ ولكن لا كالأجساد ربما كيانات لها ذات الهيئة والصورة؛ ولكن من مادة مختلفة هي بالنسبة لنا غيب إنها لن تكون الأجساد الترابية التي نتكون منها الآن في حياتنا الآضية ولهذا يمكن أن تتضاعف المتع حسيا ومعنويا بطريقة نجهلها كما تتضاعف درجات العذاب حسيا ومعنويا عما نعلم"4. ويؤكد هذا رده على حجة لمن ينكر رؤية الله يوم القيامة فيقول: "وهي حجة واهية وتصور مادي دنيوي فهم يتصورون أن الروح سوف تبصر بعين مادية في الآخرة وستكون لها حدقة وأجفان وستظل ملابسة للزمان والمكان المعروف في الدنيا. وهو أمر ينكره القرآن!، فيقول عن النشأة الأخرى:   1 القرآن محاولة لفهم عصري: د/ مصطفى محمود، ص88. 2 سورة الإسراء: الآية 14. 3 القرآن محاولة لفهم عصري: ص96. 4 المرجع المسابق: ص89. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1133 {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} 1، أي إنه سوف ينشئنا نشأة مختلفة تماما عن كل ما نعلم ولا غرابة في أن يكون للروح بصر شامل يدرك اللامحدود وأن ترى الله في الآخرة"2. والحقيقة إنك لا تكاد تجد لهذا الرجل قاعدة ينطلق منها الحوا؛ فبينما تراه في أقصى الشرق لا تلبث أن تراه في أقصى الغرب تراه أمامك مسلما في أمر، فإذا بك ترى قفاه رافضا، ثم يلتفت إليك مترددا حائرا يستدل أحيانا بالآيات في غير مدلولها ويبتر حينا الآية بترا عن سياقها. ودعونا نأخذ من حديثه السالف الطويل آخره. استدل بقوله تعالى: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} على أن البعث يكون في نشأة مختلفة عن أجسادنا في الدنيا. ولنقرأ الآية الكاملة: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ، نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} 1. فهذه الآيات رد على منكري البعث بأنه قدر عليهم الموت وأنه قادر على أن يأتي بآخرين من جنسهم بعد مهلكهم، وأن يخلقهم هم في صور أخرى غير الصور التي كذبوا بالبعث وهم عليها صورا وأشكالا أخرى. قال الأستاذ أحمد محمد جمال: "أي ينشئهم خلقا آخر قردة مثلا، أو خنازير أو أي صنف من أصناف مخلوقاته فهو -تبارك وتعالى- يهدد المنكرين للبعث بأنه قادر على تبديل خلقتهم الإنسانية وإنشائهم في خلقة أخرى ويذكرهم بالخلقة الأولى ... خلقتهم الطين أو خلقتهم من ماء مهين والذي بدأ الخلق يعيده من غير شك"3.   1 سورة الواقعة: الآيات 57-62. 2 محاولة لفهم عصري للقرآن: ج/ مصطفى محمود ص137. 3 على مائدة القرآن مع المفسرين والكتاب: أحمد محمد جمال ص471. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1134 وقال القاسمي: "قال الشهاب: والظاهر أن قوله {وَنُنْشِئَكُمْ} المراد به إذا بدلناكم بغيركم، لا في الدار الآخرة كما توهم وهذا كقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِين} 1، 2. تفسيره الباطني: ومع أن الدكتور مصطفى يحذر من التفسير الباطني ويذمه ويذكر أمثلة من تفسير ميرزا حسين على الذي لقب نفسه بـ "بهاء الله"3 إلا أنه مع هذا يفسر القرآن أحيانا تفسيرا باطنيا. فقال مثلا في تفسير قوله تعالى مخاطبا نبيه موسى، عليه السلام: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} 4، قال الدكتور: "ويقول الله لموسى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} ، فلا يمكن الوقوف في حضرة الله إلا بخلع النفس والجسد وخلع شواغل النفس وشواغل الجسد كشرط للوصول"؟! 5. وهو حين يقول هذا لا يجهل أنه تفسير باطني لبعض الصوفية؛ حيث كرر هذا التفسير في موضع آخر ودافع عنه فقال: "وفي هذا يفسر بعض المتصوفة كلام الله لموسى في القرآن: "فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى" إن المقصود بالنعلين هما النفس والجسد هوى النفس وملذات الجسد فلا لقاء بالله إلا بعد أن يخلع الإنسان النعلين: نفسه وجسده بالموت أو بالزهد والله يصورهما كنعلين لأنهما القدمان اللتان تخوض بهما الروح في عالم المادة وعن طريقهما نزلت من سماواتها إلى الأرض. وقد يعترض معترض قائلا: وما الضرورة لصرف اللفظين عن معناهما   1 سورة النساء: الآية 133. 2 محاسن التأويل: تفسير القاسمي ج16 ص5655. 3 القرآن محاولة لفهم عصري: ص154-156. 4 سورة طه: الآية 12. 5 القرآن محاولة لفهم عصري: ص108. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1135 الظاهر والواقع أن هناك ضرورة؛ فالحضرة الربانية لا يكفي لدخولها خلع نعلين؛ وإنما التجرد الكامل هو شرطها دائما وهو أقل ما يليق بالحضرة الجلالية، ولا يتم التجرد إلا بخلع شواغل النفس والجسد. فالمعنى هنا وارد والتأويل له ضرورة، وهو لا يناقض المدلول الظاهر للألفاظ؛ ولهذا يبادر المتصوف بأن يخلع النعلين ليخطو أول خطوة في الوادي المقدس"1. ونحمد الله أن الدكتور لم يستند فيما قال إلى كتاب ولا إلى سنة ولا إلى لغة ولا إلى قول سلف وإنما إلى قول المتصوفة وفعل المتصوفة، فأراحنا من عناء الرد عليه. ومن تفسيره الباطني أيضا تفسيره للشجرة التي أكل منها آدم -عليه السلام- في الجنة بأنها التلاقح الجنسي، وأنها رمز للجنس والموت، حيث قال: "وأنا أرى أنها رمز للجنس والموت الذين تلازما في قصة البيولوجيا حينما أخذت الكائنات الحية بطريقة التلاقح الجنسي لتتكاثر فكتبت على نفسها طارئ الموت، ولم تكن الكائنات قبل ذلك تموت، بل تتجدد وتعود إلى الشباب بالانقسام الذاتي. كان التلاقح الجنسي هو الشجرة المحرمة التي أكلت منها الحياة فهوت من الخلود إلى العدم"2. ومعلوم أن هذا التفسير صرف للفظ عن ظاهره من غير دليل فهو تفسير باطني. ومن تفسيره الباطني تفسيره لهبوط آدم وحواء -عليهما السلام- إلى الأرض بعد أن ذاقا الشجرة بأن: "المقصود من الإهباط أنه هو الإهباط المعنوي من مقام الرضا إلى مقام المعصية"3. هذه أمثلة من تفسيره الباطني الذي أنكره ووقع فيه في مواطن كثيرة من كتابه هذا.   1 المرجع السابق: ص135-136. 2 المرجع السابق: ص66. 3 المرجع السابق: ص68. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1136 صفات الله: والمؤلف يقع كثيرا في أسر الرغبة في التعبير المتحرر الذي لا يلتزم صاحبه العقيدة الصحيحة في جنب الله، ولم تهذب عبارته مجالي الدراسات الإسلامية، ولا يعرف الالتزام الذي يقتضيه مقام الحديث عن الله عز شأنه، فيورد عبارات وأوصافا بقدر ما تبتعد عن العقيدة معنى تلتصق بالعصرية لفظا، فقد غلب عليه الحرص على التجديد في العبارات والصفات غلبة أبعدته عن المنهج الحق. لن أسترسل في هذا من غير أن أعلق بحديثي مثالا يجلو غامضه؛ بل أمثلة أولها قول الدكتور عن الله عز شأنه: "والله هو العقل الكلي المحيط"1، ولا يخفى على أحد أن هذا وصف لم يصف الله به نفسه ولم يصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فمن أين جاء به أيا كان مصدره من سواهما فمردود؛ لأن عقيدة السلف أن لا يصفوا الله سبحانه وتعالى إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من الغيب وهما مصدر المؤمنين في معرفة الغيب وجلائه. ومثالا آخر يشبه إدراك النملة لسليمان -عليه السلام- بإدراك سليمان -عليه السلام- لله سبحانه وتعالى فيقول: "وإدراك نملة لسليمان أمر ممكن مثل إدراك سليمان الله"2. ومثالا ثالثا يقول: "ومن التسابيح السنسكريتية أن يتلو اليوجي في خشوع كلمة "رهيم رهام" آلاف المرات "!! " وهي كلمات تقابل: رحيم.. رحمن، عندنا، وهي من أسماء الله بالسنسكريتية"3؟! ومثالا رابعا وهو يرد على ميرزا حسين علي الذي ادعى النبوة من غير معجزة فيقول: "إنها اختلافات النبي الذي أراد أن يدخل منتدى الأنبياء بلا مؤهلات، ويتسلل إلى مائدة الخالدين دون أن يمتحن فأنكر المعجزة   1 المرجع السابق: ص110. 2 المرجع السابق: ص166. 3 المرجع السابق: ص134. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1137 والغيب حتى لا يطالبه أحد بأوراق اعتماده في السفارة الإلهية التي ادعاها"1، وهو بهذه العبارة أيا كان قصده جاء بما هو ممجوج. وبمناسبة الحديث عن الممجوج من حديثه الذي حشا به كتابه سخريته من الذي يدعو ربه أن يرزقه مائة جنيه ويرشده إلى الطريقة التي يحل بها مشكلته فقال: "أما الذي يقول: يا رب ارزقني مائة جنيه فهو رجل يمزح مزاحا سخيفا؛ فهذه أمور يمكن أن يسعى إليها بأسبابها الدنيوية المعروفة وليس طريقها التصوف؟! وكشك سجاير على ناصية عماد الدين يحل المشكلة"2. وملاحظة هامة أنه في تفسيره يذكر الله عز وجل ويذكر أنبيائه عليهم الصلاة والسلام فلا يسبح الله ولا يصلي على أنبيائه وليس هكذا أدبنا الإسلام. تصوفه: وقد أخذ الدكتور من خرافات الصوفية نصيبا وافرا؛ فمن اعتقادات بعض الصوفية أن التوجيه إلى الله بالدعاء هو مشاركة لله في إرادته، وأنه طلب لما لم يرد الله أن يفعله ويشيد الدكتور في كتابه هذا ويثني كثيرا على هؤلاء الصوفية؛ فيصف عملهم هذا بالتجرد وبالأدب؟! فيقول: "والمتصوف متجرد وهو قد نفي المطلب الدنيوي من باله لأنه يريد مطلبا أعظم والمتصوف متأدب وهو يمرض؛ فلا يسأل الله الشفاء حياء وأدبا ويقول: كيف أجعل لنفسي إرادة إلى جانب إرادة الله فأسأله ما لم يفعل وأنا الذي لا أعلم ما ينفعني مما يضرني كيف يعترض الذي لا يعلم على الذي يعلم ومن يدريني أن مرضي وآلامي ليست الوسيلة إلى خلاصي، وهذه مبالغة غير مطلوبة من المسلم؛ فالله يحب منا أن نسأله؛ ولكن الصوفي من باب الخوف والأدب لا يطلب من الله إلا ما يطلبه الله منه فيقول كما قال النبي إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ} 3،   1 المرجع السابق: ص155. 2 المرجع السابق: ص138. 3 سورة ابراهيم: من الآية 40. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1138 فهو يجعل من إرادة الله إرادته ومسعاه. حبا واحتراما لخالقه والحب هدف المتصوف الأسمى. ليس لي في الجنان والنار حظ ... أنا لا ابتغي بحبي بديلا والتناقض ظاهر في حديث الدكتور؛ فمع أنه يصفه بأنه "مبالغه غير مطلوبة من المسلم" إلا أنه يثني على الصوفية ويمجد طريقهم هذا؛ فكيف يثني على ما هو "غير مطلوب من المسلم"؟. وتناقض آخر، حيث يعترف أن "الله يحب منا أن نسأله"، فكيف يكون الأدب والحياء في ترك ما يحب الله أن نفعله؛ بل إذا كان الله يحب أن نسأله فهو يريد أن نسأله لأنه سبحانه لا يحب ما لا يريد فإذا كانت إرادة الله أن نسأله فكيف يكون الأدب في إرادة غير إرادة الله؟! هذا إذا أردنا الجواب حسب منطقه، أما إذا أردنا الدليل الحق فكتاب الله وسنته مليئة بالأمر بالدعاء وأنه مخ العبادة؟! فهل يتأدبون مع الله. وكثيرا ما يشيد ويثني على الصوفية؛ فيصفهم بأنهم أهل الحضرة وأن علمهم لدني، من لدن الله وليسوا كالفقهاء علمهم علي نقلي من الكتب، وأنهم أهل السر والقرب والشهود وأنهم الأولياء الصالحون حقا وأنهم الأتقياء الأخفياء2، وأثنى عليهم في فصل "أسماء الله" ثناء كبيرا وعد الوصول إلى أرقى درجاتهم أشق من الصعود إلى القمر. ورد عليه في هذا الأستاذ أحمد محمد جمال بقوله: "إنهم هم السخفاء حقا؛ لأنهم يزعمون لأنفسهم أنهم أنبياء يتلقون علمهم اللدني من الله مباشرة، وأنهم لا يحتاجون إلى القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم اللذين فيهما علم العقيدة وعلم الشريعة ألا إنهم هم الجهلاء والسفهاء. ولكن لا يشعرون"3.   1 القرآن محاولة الفهم عصري: د/ مصطفى محمود ص138. 2 انظر مثلا الصفحات 1389-141 3 على مائدة القرآن مع المفسرين والكتاب: أحمد محمد جمال ص475. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1139 والذي يظهر لي أن الدكتور مصطفى وهو في طريق أوبته وتوبته لا يزال متأرجحا يمنة ويسرة يبحث عن المكان الذي يستقر فيه؛ ولذا برزت طاهرة في تفسيره أكدها كل من كتب عنه فيما قرأت ظاهرة التناقض ولو عدت لما كتبت عنه في الصفحات السابقة لوجدت بعضا منها، وإن دل هذا على شيء، فإنه يدل على أن فكره لا يزال يبحث عن الحقيقة التي فقدها فيحسبها حينا هناك فيقررها ويحسبها حينا هناك فيقررها، وقد يكون مخطئا في الحالتين؛ فعليه إن أراد كتابة جادة أن يعيد النظر فيما كتب ويستقر على رأي فيما تناقض فيه، ولا ينسى ما قرره في موضع عند خوضه غمار قضية أخرى. وبعد: ليس ما ذكرت هو كل مواضع انحرافه، وليس ما ذكرت هو أهمها؛ ففيما لم أذكر أكثر وأخطر مما ذكرت؛ وإنما صرفني عن بيانه أني قد كفيت ذلك، فإن كان عند الدكتور رغبة في الحق فقد بينه غيري ممن هو أرفع مني درجة وأعلى مقاما ولا أظنه إلا كذلك إن شاء الله يؤيد هذا رجوعه عن كثير من آرائه في الطبعات الأولى. وهو في غير تخصصه رجل مثقف1 بمدلولها الحديث وهو الرجل الذي أخذ من كل علم بطرف؛ لكن هل هذا بهذه الصفة يصلح لتفسير القرآن الكريم؟! لندع أمر التفسير، رجل كمثله تخصص في الأمراض الصدرية هل يحق له أن يعالج أمراض العين والسنان والعظام و.. و.. إلخ؟ فضلا عن أن يكون مهندسا للطرق أو الإنشاءات أو خبيرا زراعيا أو عالما في طبقات الأرض أو طيارا إلخ؟ إن مثل هذا لو فعل ذلك سيجني في عمله جناية كبيرة سيفسد العين والأسنان ويتلف الزرع والثمار، وسيعتبر دخيلا في مهنته وسيلومه الناس صغيرهم وكبيرهم عالمهم وجاهلهم إن لم توضع في كفيه القيود ويدخل السجون.   1 قال ابن منظور في لسان العرب ج9 ص19: رجل ثقف وثقف وثقف: حاذق فهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1140 وليعلم هذا وغيره أن أمر تفسير القرآن الكريم أخطر من كل هذه الأمور على صاحبه وعلى المجتمع، أما أولئك الذين يزعمون أن تفسير القرآن الكريم والحديث عن الدين أمر مشاع للمسلمين كافة فهم مخطئون أو جاهلون. ونحن نقول: إن الدين ليس حكرا على أحد، وإن تفسيره ليس مباحا لكل أحد، ليس الدين حكرا على أحد؛ فلا يجوز أن نمنع أحدا من الدخول فيه، بل يلزمنا الاعتراف بإسلامه متى أعلن ذلك ما لم يأت بأمر مخرج من الدين، أما الذين لهم حق تفسير القرآن فهم الذين توفرت فيهم شروط المفسر وآدابه؛ فإذا ما توفرت فيهم هذه جاز لهم تفسير القرآن الكريم. أما قبل ذلك فلا وكان حقا أن يعاملوا كأدعياء الطب. إلخ؛ بل أشد. ونحن لا ننكر أن الدكتور مصطفى حريص على صوغ المفاهيم الإسلامية في عبارات ومعان حديثه تقرب إلى الأذهان لكن هذا الهدف لا يبرر له خوض غمار التفسير من غير سلاح، تماما كالشخص الجاهل في الطب الذي ترتعد جوانبه إشفاقا وعطفا على المريض فيصف له دواءا هو أجهل الناس به؛ فليست شفقته ونصحه بمبرر كاف لوصف الدواء والعلاج. أما أسلوب العصر والعصرية الحديثة فقد جنت على الأمة الإسلامية جناية كبيرة؛ فقد اتخذها دثارا كل من أراد أن يغير في الدين ويخل فيه ما ليس منه!! فقطع يد السارق وتعدد الزوجات والربا ورجم الزاني المحصن وجلد شارب الخمر.. و.. و ... إلخ، كلها أمور لا تناسب العصر الحديث؛ فلتغير ولتبدل فلا تقطع يد السارق حتى تتعدد سرقاته ويقيد تعدد الزوجات بشروط ثقيلة لا يستطيعها أحد، بل ليختصر الأمر فيمنع التعدد، أما الربا فالمراد به الربا الفاحش؟! أما رجم الزاني المحصن فلم يرد في الكتاب؟! كلها أمور بزعمهم تتنافى مع العصر الحديث. وبهذا يكون هذا الأسلوب مطية يركبها الناصح الجاهل والملحد الخبيث، وهو أمر ما زالت الأمة الإسلامية تعاني منه، وقد صرحت بهذا المستشرقة الأمريكية مريم جميلة؛ حيث قالت: "إن البلاد الإسلامية قد وقعت فريسة مصطلحات خاطئة ومنها مصطلح العصرية وقد جنى هذا المصطلح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1141 على الإسلام جناية كبرى"1. أولئك الذين يبدون تعاطفهم مع الدكتور مصطفى محمود ويمسون عباراته مسا خفيفا، وهم يعتقدون أن توبة مصطفى من الإلحاد إلى الإيمان كافية لالتماس كل عذر له في انحرافاته وتأويلاته الباطلة، وما هكذا تورد الإبل يا سعد. أما توبته فليس تفضلا منه علينا فهي له في الدنيا والآخرة، وله علينا حق الدعوة الصالحة وحق الأخوة الإسلامية بأن يثبتنا وإياه على الصراط المستقيم حتى نلقاه. وأما أن تكون توبته هذه مبررا للتجاوز عن انحرافاته فأمر مرفوض مرفوض؛ مرفوض لأن صاحبه ما زال لم تتروض عباراته في ميدان الفكر الإسلامي ولم تنصهر ألفاظه في بوتقة العقيدة الإسلامية ولم تنجل عقائدة في مجال الإسلام، فلا زال يستعمل عبارات وألفاظ يحسب المسلم لها ألف حساب قبل أن يتفوه بها. ولئن كنا ندعو الله أن يغفر له فإن هذا لا يعفيه من الخطأ ولا يعفينا من التنبيه. ومرفوض لأن صاحبه لا يزال يجهل كثيرا من أحكام الإسلام وعقائده التي تدور لتقريرها آيات القرآن الكريم فيبعد فهمه حينا. ومرفوض لأن صاحبه يجهل العلوم الواجب توفرها في المفسر فلا يعرف أسباب النزول ولا أول ما نزل وآخره ولا الناسخ والمنسوخ ولا المحكم والمتشابه ولا ما ورد تفسيره بالسنة ولا.. ولا.. ومرفوض لأن صاحبه لا يعرف قواعد اللغة العربية ولا مدلولات ألفاظها اللهم إلا ما يعرفه العامة فياللغة من المدلولات السائرة في أحاديثهم ومنتدياتهم. أما خصائص الأساليب التي يدرك بها الفرق بين عبارة وأخرى وغير ذلك من خصائص الغة فلا يعرفها. وبالجملة مرفوض لأن صاحبه حتى الآن لا تتوفر فيه شروط المفسر   1 شطحات مصطفى محمود في تفسيراته العصرية للقرآن الكريم: عبد المتعال الجبري ص1. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1142 ولا آدابه فإذا ما التزمها فإن الحق له كل الحق في أن يفسر القرآن ما دام تفسيره يقوم على الأسس والقواعد، أما والحالة هذه فلا وألف لا. وإني أوجه له ولأمثاله النصح من قلب خالص صادق أن يدع تفسير القرآن الكريم لأهله، وأن يتناول إذا أراد المشاركة ما قرره أولئك الإعلام في التفسير بالشرح والبسط وبأسلوبه الخاص في مخاطبة الطبقة العامة، وأن لا يبتدئه ابتداء لا يدانيه شرف الشهرة ولا شرف المادة إن كان فيهما من شرف. وأهمس في أذنه وأذن غيره ممن يتناولون آيات القرآن الكريم بالتفسير بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار" 1، وكفى به وعيدا لمن ألقى السمع وهو شهيد والله أعلم. هذا ما أردت قوله عن منهج القاصرين في التفسير وهم وإن كان فيهم المغرض؛ فإن فيهم ذا النية الصالحة الصادقة لكنه أخطأ الطريق، فليعد هؤلاء إلى الحق وليعلموا أن من قال في القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ ونسأل الله لنا ولهم السلامة.   1 رواه الإمام أحمد في مسنده ج1 ص233؛ ورواه الترمذي في سننه ج5 ص199 كتاب تفسير القرآن، وقال: "حديث حسن صحيح". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1143 الفصل الثالث: اللون اللامنهجي في التفسير تمهيد : نحمد الله بادئ ذي بدء أن أصحاب هذا اللون من التفسير أقل من القلة، وما كنت لأعرض لهؤلاء لولا أني حرصت على استقصاء اتجاهات التفسير وألوانه في العصر الحديث. والذي لا أدريه حقا وما زال يحيرني ويلح في طلب الجواب هل هؤلاء أصحاب هذا اللون من التفسير مجانين حقا؟! أم أنهم عقلاء كتبوا كما يكتب أولئك، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا فعلوا هذا؟ وهل يعتقد أحد منهم -حقا- أن تفسيره هذا سيلاقي القبول ولو من شخص واحد وإذا كان الجواب بالنفي فلماذا كتب؟! هذه الأسئلة وغيرها تترى على ذهني من غير أن أجد لها جوابا. أحب هنا أن أذكر مثالا واحدا لا أزيد عليه من تفاسيرهم ولا أود -أيضا- أن أذكر أكثر من مثال واحد لمؤلفاتهم. أما المثال من التفسير فتفسير حديث لسورة الإخلاص نشر في جريدة السياسة الكويتية، رد عليه مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته السادسة، ووصف هذا التفسير بأنه لا يدل على شيء سوى الاختلاط العقلي، ويرى أنه من المختلين عقليا وأنه هذيان لا يبلغه هذيان المحمومين وأنه عبث بآيات الله في كتابه. وما علي أن أستطرد وقرار المجمع بين يدي فيه عرض للتفسير والجواب الكافي فلأنقله بحذافيره ففيه الغناء: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1145 "الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته السادسة المنعقدة بمقر الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في الفترة ما بين 9-16/ 4/ 1403هـ الموافق 23- 30/ 1/ 1983م قد أطلع في جلسته الثانية صباح يوم الاثنين 10/ 4/ 1403 على ما نشرته جريدته السياسية الكويتية في عددها ذي الرقم "4776" الصادر يوم الخميس 17 ذي الحجة 1401 الموافق 15/ 10/ 1981م من كلام غريب مستنكر تحت عنوان بارز خداع جاء فيه "معنى التوحيد: تفسير منطوق لسورة الإخلاص وترجمته الانجليزية" موقع باسم شخص سمي: "محمد أحمد الشمالي" يجترئ فيه على التلاعب بمعاني القرآن العظيم، ويأتي فيه بلون عجيب من الخلط والأوهام والجهل والتصورات الخيالية المتفككة والملتبكة لا تدل على شيء سوى الاختلاط العقلي. ويعلن على المسلمين أنه تفسير لسورة الإخلاص. وقد استهل هذا المفسر الجديد تفسيره هذا لسورة الإخلاص بقوله: "قل: خبر مقدم بمعنى فرد لا أحد له فيقال مثلا: رجل، قل: "هو ضمير مبتدأ مؤخر خبره "قل" وهو أيضا في مقام مفعول به للجملة الفعلية التي تليه، الله أحد: أي أن الله أحده بمعنى جعله واحدا أو بمعنى جعله حدا، أو بمعنى جعله حادا. وهكذا يسير هذا الرجل المختلط في تفسير بقية آيات سورة الإخلاص إلى أن يقول: ولم يكن له كفوا أحد، "ما كان لهذا الشخص أكفاء في الماضي؛ ولكن هذا لا يمنع ظهور أكفاء له فيما بعد؛ وإلا لتعذر عليه ذاته الظهور ثانية على وجه الأرض بعد المرة الأولى، وانقطعت رسله". هذا ويرى المجمع الفقهي أنه ليس مستغربا أن يوجد في المختلين عقليا من يتصور نفسه عالما محققا متعمقا، أو فيلسوفا مدققا؛ فهذا مرض من الأمراض، ولكن الغريب كل الغريب أن تنشر صحيفة عربية مشهورة في بلد عربي إسلامي مثل هذا الهذيان الذي لا يبلغه هذيان المحمومين تحت عنوان بارز بأن هذا هو معنى التوحيد المستفاد من سورة الإخلاص تلك السورة القصيرة العظيمة التي عبرت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1146 عن حقيقة التوحيد بكلمات قليلة محكمة كانت وستبقى على مدى الحياة أعظم من الجبال الشامخات بلاغة ورسوخا وتحديا لعواطف الأفكار الزائغة والتيارات الزائفة والشرك والإلحاد اللذين هما ضلال وانحطاط في بعض العقول البشرية بعوامل مختلفة. فإذا كان ذلك الهذيان تفسيرا منطوقا لسورة الإخلاص العظيمة فماذا ترك صاحبه للفرق الباطنية الهدامة التي تتلاعب بآيات الله في كتابه العربي المبين كما تشاء لها غاياتها الخبيثة ضلالا وتضليلا؟ فمثل هذا العمل هو إجرام وعبث بآيات الله، ورده عن الإسلام؛ فكيف يسوغ لصحيفة عربية صاحبها ينتسب للإسلام في بلد إسلامي أن تجعل من صفحاتها منبرا لأمثال ذلك؟ وكيف تنجو هي والكاتب المستهزئ بآيات القرآن العظيم من المسئولية التي تقتضيها نصوص الدساتير وقوانين العقوبات والمطبوعات في بلدها وسائر البلاد العربية؟ ولذلك ولخطورة هذه السلوك غير المسؤل في الصحافة والنشر فيما يجترأ به على العقائد والمقدسات الإسلامية. قرر مجلس المجمع الفقهي لفت أنظار المسئولين الذين تقع على عاتق سلطاتهم حماية جميع تلك المقدسات من العبث بها وإحالة هذا القرار إلى الأمانة العامة لرابطة العالم إسلامي لتقوم بإرساله إلى المسئولين في دولة الكويت وسواها ليقوموا بواجبهم فيما يوجبه عليهم دينهم وحقوق شعوبهم عليهم نحو كتاب ربهم وسنة رسولهم صلى الله عليه وسلم من صيانة حرماته وحمايتها من أن تكون ألعوبة في يد من يشاء تضليل الأفكار وتزييغ الناشئة بسوء استعمال حرية النشر، والله ولي التوفيق وصلى الله على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم"1. أما مثال مؤلفاتهم في التفسير فنضرب له مثلا برسالة سماها صاحبها "رسالة الفتح" وهذا أوان الحديث عنها:   1 جريدة المدينة المنورة العدد 6088 في 23 صفر 1404. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1147 رسالة الفتح : أولا: المؤلف يدعى صاحب هذه الرسالة عبد الرحمن فراج. ولم أجد له والحمد لله في ذكر فيما قرأت؛ بل إن الرسالة نفسها لم يكتب عنها إلا الشيخ الفاضل مصطفى محمد الحديدي الطير في كتابه "اتجاه التفسير في العصر الحديث منذ عهد الإمام محمد عبده إلى مشروع التفسير الوسيط"، ولم يذكر له اسما وعرض له في بحث عنوانه "الأزهر وعنايته بقدسية القرآن وتيسير تفسيره"، ألقاه في المؤتمر التاسع لمجمع البحوث الإسلامية ونشر في مجلة الأزهر في الجزء العاشر السنة الخامسة والخمسون ولم يذكر فيه أيضا اسم المؤلف. وقد زودني جزاه الله خيرا بصورة من تقرير أعضاء لجنة فحص الكتاب من مجمع البحوث الإسلامية ومنه أخذت اسم المؤلف. وإنما ذكرت اسمه لأن ذكره لن يزيده شهرة، ولن يرفع من مقامه بل سيظهر للناس مكانه ومكان تفسيره. ثانيا: الكتاب "رسالة الفتح" وتقع هذه الرسالة في 416 صفحة وطبعت بمطبعة "سعدي وشندي" بسوق شريف عابدين وتناول المؤلف فيها تفسير نحو 300 آية من القرآن الكريم وطبعت سنة 1969 تقريبا. والذي يلفت النظر أن صاحبها يوزعها مجانا كأن هناك من يقف خلفه ويدفعه في هذا الطريق. ولم أستطع بعد جهد الحصول على نسخة من هذه الرسالة؛ وإنما حصلت على صورة من تقرير أعضاء لجنة فحص هذه الرسالة والتي شكلها رئيس لجنة القرآن والحديث في مجمع البحوث الإسلامية ومن أعضائها الشيخ الفاضل مصطفى محمد الحديدي الطير، الذي كتب عنها أيضا في كتابه وفي مجلة الأزهر كما أشرت آنفا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1148 وحتما سيكون اعتمادي بعد الله على هذه المصادر الثلاثة وهي في الحقيقة تكاد تكون مصدرا واحدا لوحدة كاتبها جميعا وهو الشيخ مصطفى الطير جزاه الله خيرا. أمثلة من التفسير في هذه الرسالة: وهي ملأى بالتفاسير الغربية والآراء العجيبة التي لم يسبق إليها ولم تخطر ببال أحد من قبله، وإنكاره لما هو معلوم بالضرورة من الدين والتاريخ واللغة. وقد مهد لما جاء به بزعم يبطل به كل الأسس التي سلكها من قبله حتى يصبح له الجو خاليا فيقول ما يريد أن يقول زعم: "أن عصابة الماسونية التي ظهرت بعد الجيل الثالث من صدر الإسلام تعاهدوا في الخفاء على تحريف معاني القرآن التي أرادوا تحريفها، بعد فشلهم في تحريف ألفاظه، واتخذوا لها معنى يخرجها عن مواضعها، ثم فسروا القرآن بالتفسيرات التي ظهرت بعد الجيل الثالث "عصر التدوين والتأليف" أيام خلافة العباسين، كما حرفوا ألفاظ شعر الحضر، ودونوا أحاديث مكذوبة، وقاموا بخلق مصنفات ملفقة في اللغة نسبت إلى أصحابها زورا، كالصحاح والقاموس واللسان واستقام لسان العرب على هذا التحريف الذي حل في الخفاء ولم يشعروا به"1. ومعذرة إن لم أرد عليه فلست أكتب هذه الدراسة لمن يحتاج إلى معرفة الحق في هذه الأمور من فاقدي العقل والفكر، ومن عداهم ممن أوتي أدنى حظ منهما لا يغيب عنه الحق في هذا. ولذا فإني سأورد النصوص مجردة من التعليق. تأويل رؤيا الملك سبع بقرات سمان: قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} 2.   1 اتجاه التفسير في العصر الحديث: مصطفى محمد الحديدي الطبر، ص122 وتقرير اللجنة، ص1 عن رسالة الفتح، ص58، 59، 105. 2 سورة يوسف: من الآية 43. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1149 فقال هذا في تفسيرها: "معنى بقرة - طائر وفي موضع آخر يقول: "بقرة: واضحة" وقال: "فقد رأى العزيز في المنام سبع طيور سمان يأكلهن سبع عجاف والتي سماها المحرفون بقرة، واستقام لسان العرب على المعنى المحرف بعد الجيل الثالث الإسلامي تلك الماشية اسمها "المها" والمها لا تأكل المها أما الطير فبعضه يأكل الطير"، ثم قال: "إن لسان العرب تداول المعاني المحرفة حتى نسبت إلى لغة العرب ودونت في كتب فقه اللغة مثل كتاب الصحاح لمن سموه بالجوهري ومثل كتاب لسان العرب لمن سموه بابن منظور"1. وفي موضع آخر فسر البقرة بالدجاجة، ولا تضحكوا مما تقرؤون فإن مجال التفسير غير مجال أحاديث السمر فشأنه إن أصاب صاحبه قبل وإلا سئل لصاحبه السلامة والهداية، قال في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} الآية2: "بقرة: أي دجاجة {لا فَارِضٌ} لم ينقطع منها البيض {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} وسط بين الصغيرة والمسنة تبيض البيض "صفراء فاقع لونها تسر الناظرين" صفراء اسم الطائر المسمى بالأوز والبط ومعنى {صَفْرَاءُ} تحدث مكاء: صفيرا ذا صوت {فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِين} أبيض ناصع ينشغل خاطر من ينظر إليها لصفاء لونها، {لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} تلك صفة الغراب؛ فالغراب {بَقَرَةٌ} ليست بذلول "مُسَلَّمَة" يحجل إذا سار"، ثم قال: "واصطاد كل إسرائيلي غرابا وقام بذبحه وقالوا لموسى عندما سمعوا أمر المولى بذبح الغراب: "الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ"3. والفجر وليال عشر: وقال في تفسير سورة الفجر "الواو في {وَالْفَجْرِ} واو العطف والمعطوف عليه قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة} من سورة الحشر، والمولى لا يحلف لمخلوقاته التي خلقها، والحلف لا يصدر إلا من ضعيف لقوي ومحال   1 اتجاه التفسير، ص124، وتقرير اللجنة، ص3، عن رسالة الفتح، ص10. 2 سورة البقرة: من الآية 67. 3 اتجاه التفسير، ص128-129، وتقرير اللجنة، ص5 عن رسالة الفتح، ص12. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1150 أن يحلف المولى وهو القوي العزيز ولا معنى للحلف بالفجر وكان القارئ للقرآن في أجيال صدر الإسلام يقرأ قوله تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة} ، ثم يتلو الآيات التي تسبقها الواو التي بدأت بها السور القصار" ثم قال: "والفجر" فجر الدم من الشرايين، والأشعة بتفجير الذرة، {وَلَيَالٍ عَشْر} : أولى ليالي التحنيط، {وَالشَّفْعِ} : شفع اليالي العشر عشرون ليلة، {وَالْوَتْر} : مثل الليالي العشر -عشر ليال، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْر} : الدنيا هي الليل بمعنى الحجاب وظلمة النفس، {إِذَا يَسْر} : إذا انقضت الدنيا وأشرق النور يوم البعث، {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} : القسم هو الحظ والنصيب والعهد، {لِذِي حِجْر} : لذي تحجر وذي صمغ"، ثم قال: "وفي كل مدة من مدد التحنيط الذي يتم عند الفراعنة في أربعين ليلة يوضع الحجر ومعناه الصمغ"1. العجل الحنيذ: في تفسير قوله تعالى: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} الآية2 قال: "العجل الحنيذ" هو إسحاق فهو الظل الذي جاء بعد أن كبر أبواه وانقطع رجاؤهما في الذرية"3. إنكار الإسراء: في تفسير قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} 4 قال: {أَسْرَى} : أوفى وأنهى، {الْمَسْجِدِ} : القرآن، {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} : إلى سدرة المنتهى، ومعنى {الْأَقْصَى} : المنتهى، {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} : الحول هو خاتم أرواح القدس السبعة القرآن ثامن أرواح القدس {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} آيات الله التي رآها هم   1 اتجاه التفسير، ص130-131، وتقرير اللجنة، ص5-6 عن رسالة الفتح، ص23-24. 2 سورة هود: من الآية69. 3 اتجاه التفسيرن ص135، وتقرير اللجنة، ص8 عن رسالة الفتح، ص37. 4 سورة الإسراء: من الآية الأولى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1151 أرواح القدس السبعة وهم: جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، ومناة واللات والعزة رآهم في سدرة المنتهى ليلة أن أسري به"، وقال: "أذن المولى فوجد الرسول نفسه في سدرة المنتهى مع أرواح القدس السبعة، وقضى ليلة معهم، ثم عاد إلى مكة ولم يقابله ملائكة ولا مخلوق من مخلوقات الله التي تلي روح القدس". ولم ينطق بكلمة واحدة عن الإسراء. ولم يذهب الرسول إلى فلسطين ليلة الإسراء ولم يقابل الأنبياء؛ فلا خيال ولا خرافة في الإسلام وهذا الجامع الذي أقيم في فلسطين كان قلعة للجنود الرومان ليلة أن أسري بالرسول. ولما تم الفتح اتخذها المسلمون جامعه وصلى فيها عمر الذي تم الفتح في عهده والمضلون بعد الجيل الثالث الإسلامي سخروا من المسلمين فجعلوهم يذكرون أورشليم بالقدس، ذو الجامع الذي أقيم فيها ببيت المقدس وسموه المسجد الأقصى ليعظموا شعائرهم وليسخروا من المؤمنين الذين لم يكشفوا سوء مكرهم"1. وأورد هنا تعليقا على هذه الترهات والأباطيل ليس كشفا لبطلانها؛ فهو أمر ظاهر كما أشرنا أولا؛ وإنما كشف لحقيقة صاحبها ألمح إليه الشيخ مصطفى الطير حيث قال: "فهل لنا أن نعتقد أنه مأجور من اليهود ليصرف المسلمين عن حقوقهم في بيت المقدس وفلسطين"2. إنكار الرق: وفي تفسير قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 3 قال: "ما كان لشخص نبأ أي ارتفع وعلا بدرجة مال أو جاه أو قوة أن يملك نفوس البشر فرق ابن آدم فاحشة كبرى قصاصها القتل"4.   1 اتجاه التفسير، ص137-138، وتقرير اللجنة، ص8-9 عن رسالة الفتح، ص41-43. 2 اتجاه التفسير في العصر الحديث: مصطفى الطير، ص141. 3 سورة الأنفال: من الآية 67. 4 اتجاه التفسير، ص142، وتقرير اللجنة، ص10 عن رسالة الفتح، ص65. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1152 إنكار حادثة الإفك: وقال عن حادثة الإفك التي جاءت في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} الآية1 فقال: {الْأِفْكِ} البهتان بتفسير القرآن بقول لغو {عُصْبَةٌ} عدة فرقة الذين جاؤوا بالإفك عصبة من أهل الكتاب وهم اليهود و {الْأِفْكِ} مصنفات الإفك {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} ، الشهداء الأربعة هم أجيال صدر الإسلام الثلاثة الأجيال الأولى وجيل الشهر الحرام هذا الجيل الذي تسيرون في فلكه" وقال: "الإفك هو تحريف اليهود وتفسيرهم القرآن بقول لغو، فتفاسير القرآن الموجودة هي مصنفات الإفك؛ هلا جاؤوا بشهداء أربعة من الأجيال الثلاثة الأولى تشهد بصحتها"2. بعض ما أنكره المؤلف: وما أنكره المؤلف من الأمور المعلومة الثابتة كثير وكثير نذكره إجمالا حتى لا نثقل بطوله فمنها: أولا: أنكر وقوع غزوة فتح مكة وحرف معاني الآيات الواردة في سورة الفتح ص356. ثانيا: أنكر أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم عم اسمه أبو لهب ص"123-216". ثالثا: أنكر أن إدريس -عليه السلام- كان نبيا "ص235". رابعا: أنكر تشريع تعدد الزوجات، وقال أن دين الإسلام لا يحل الزواج إلا بواحدة "ص265". خامسا: أنكر زواج النبي صلى الله عليه وسلم بغير عائشة -رضي الله عنها- فقال "وظلت عائشة زوجة له دون شريكة حتى الختام"، وقال عن زينب   1 سورة النور: في الآية 11. 2 تقرير اللجنة، ص14 عن رسالة الفتح، ص145. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1153 بنت جحش، رضي الله عنها: "زينب بنت جحش هي رسالة روح القدس للقرآن"، وقال عن زيد رضي الله عنه: "والذي سموه زيدا هو المنافق والمشرك من بني إسرائيل" "ص274". سادسا: أنكر حق تطليق الرجل زوجته بلسانه، وجعل ذلك محرما في الإسلام؛ فقال: "وما أحل الله لمؤمن برسالة محمد أن يطلق زوجته بلسانه" "ص312". سابعا: أنكر حروب الردة وأن أحدا ادعى النبوة. ثامنا: أنكر وجود أبي هريرة وأبي ذر الغفاري -رضي الله عنهما- "ص97"1. هذه مع ما سبق بعض ما أنكره المؤلف مما هو معلوم بالضرورة وثابت يقينا، والذي لا ريب فيه أن أمر هذا التفسير واضح لا يصنف في غير اللون اللامنهجي؛ وإن شئت فسمه منهج المجانين. ولا يعترف صاحبه بأصول التفسير فلا يفسر القرآن بالقرآن ولا بالسنة ولا بأقوال الصحابة. ولا يعترف صاحبه بالتاريخ فينكر ما تواتر وروده واشتهر ثبوته، وأصبح جزءا من التاريخ. ورجل مثل هذا في آرائه، ومثله في تفسيره لا يشك أحد أدنى شك في أن يكون أحد رجلين. أما رجل خبيث ذو هدف باطني يريد إيقاع البلبلة والاضطراب والتشكيك والدس وتعويد الأذهان على الاضطراب في التفكير حتى يقبل بعد هذا تشكيك من له شبهة أو شبه دليل.   1 تقرير لجنة الرسالة: ص15-16. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1154 وأما رجل مجنون حقا مخرف حقا وليس بشرط أن يكون الجنون بالعته والخفة والطيش أو البلاهة والبلادة؛ بل منه ما يسمى بجنون العظمة أو الغرور فيصل بنفسه درجة يجعلها معيارا للعلوم؛ فالحق ما توصل إليه وكل الناس عالة على علمه، وأحسب هذا شر أنواع الجنون. ولست أزعم لنفسي معرفة علم النفس وخصائصه؛ ولكن والحالة هذه التي أمامنا لا أرى أن يقدم مجنون -بمعناه عندنا المشاهد في المستشفيات النفسية- على مثل هذا العمل لا زهدا فيه؛ ولكن عجزا عن التفكير فيه أو إدراكه فضلا عن دافع الإيمان حتى وهم في هذه الحالة. وعلى كل حال فقد كان ما كان وخرج هذا التفسير ولا يقبل ذو لب أن يقول مثل قوله ولا يقبله ذو دين؛ فكان حقا اللنون اللامنهجي وإن شئت فسمه منهج المجانين، حفظ الله عقولنا وعقولكم وثبتها على المنهج القويم. ونحمد الله سبحانه على ندرة هذا اللون من التفسير ومعذر إن أخذت وقتا وجهدا في هذا اللون؛ فلا يصح لي عذر أن اتركه وهدفي في حصر اتجاهات التفسير. وبعد: هذه أهم الاتجاهات الإلحادية في التفسير في القرن الرابع عشر الهجري. وما كان لهذه التفاسير وما كان لأصحابها جرأة على نشرها أو التلفظ بها لو كان الإسلام هو الحاكم في بلاد المسلمين. وإذًا لحسب العلماء ألف حساب وحساب قبل أن يبيعوا دينهم بدنياهم فيقولوا في القرآن الكريم ما لا يصح قوله. وإذا لحسب المثقفون ألف حساب وحساب وكذلك قبل أن يجترئ أحد منهم على تناول آيات القرآن بالتفسير من غير أن يكون من أهل التفسير. وإذا -مرة ثالثة- لحسبت المطابع ألف ألف حساب قبل أن تطب كتابا مليئا بالإلحاد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1155 ولو كان الإيمان قد ملأ الصدور ما جرأ العالم ولا المثقف ولا الطابع على مثل هذه الأمور؛ بل أصبح قوة رادعة لهذا التهور. نشكو إلى الله أمر حال المسلمين وندعوه -عز شأنه- أن يحفظ كتابه بعودة المسلمين إلى إسلامهم وتثبيت القلوب بالإيمان وإقامة راية الإسلام في كل مكان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1156 الخاتمة : وبعد: هذه أهم الاتجاهات لفسير القرآن الكريم في القرن الرابع عشر الهجري، وتلكم هي أسسها التي قامت عليها. لها ما لها وعليها ما عليها. ولا أجد حاجة لتكرار ممل -حتى ولو كان مختصرا- للأبحاث التي تناولتها فدون من أراد ذلك المقدمة فقد أجملت فيها ما تناولته من أبحاث ودونه الكتاب كله ففيه التفصيل ودونه الفهارس ففيها الدلالة؛ وإنما يهمني ويهم غيري فيما أرى أن أخص الخاتمة بالحديث عن النتائج التي توصلت إليها بعد هذه الدراسة وفيها أمور ما كنت أتصور حدوثها ووقوفي عليها. وعلى كل حال فسأقدم النتائج بقدر من الاختصار الذي يعطي الثمرة ولا يؤدي إلى الملل. فمن النتائج: أولا: في العصر الإسلامي ألول لم يكن ثم إلا فرقة إسلامية واحدة؛ وإلا أمة إسلامية واحدة هي خير القرون وهي قدوة المسلمين ولم يكن بينهم شقاق في العقيدة أو خلاف، وكلما ظهرت شرارة من هنا أو هناك هيأ الله لها من أمة المسلمين من يطفئها أو من يضرب صاحبها بدرته ضربة يعيد بها صاحبها إلى رشده، ولم يكن لهذه الحالات الشاذة أثر يذكر في التفسير سلبا أو إيجابا؛ فلم يحوج الأمر المفسرين إلى الرد عليهم أو على شبهاتهم إلا النادر الذي لا يشكل منهجا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1157 ومضى حين من الدهر نشأت فيه مذاهب وفرق أخرى هيأ الله -سبحانه وتعالى- لهم من يرد عليهم في مؤلفات مستقلة أو عند تفسير القرآن الكريم. ونظرة سريعة إلى التفاسير في تلك الفترة يظهر فيها حجم المعركة. فرق تؤلف تفاسيرها على قواعد أصولها التي أنشأتها من قبل، وتبث شكوكها وشبهها. وفرقة أخرى تكابد بين أمرين أمر تقرير عقيدتها واستخراجها من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وأمر الرد على شبهات الخصوم وأوهامهم. قامت فرق المعتزلة والشيعة الإثني عشرية والباطنية والزيدية والخوارج والأباضية والصوفية والفلاسفة وأمثالهم يفسرون القرآن الكريم وفق أصولهم. وقام أهل السنة والجماعة يقررون عقائدهم ويردون على خصومهم؛ فلم يهملوا آية فيها تقرير لعقيدتهم إلا وبينوه ولا آية فيها رد على خصومهم إلا وأظهروه. فعلوا ذلك إظهارا للحق، وتبرئة لذممهم، وذودًا عن عقيدتهم، وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر؛ فما زالوا ظاهرين. وقد كان الاتجاه العقائدي في التفسير في القرن الرابع عشر أول أبحاث هذه الدراسة -وإن أنس لا أنس- صدمة تلقيتها وأنا أكتب عن تفاسير أهل السنة والجماعة. فقد عانيت كثيرا في الحصول على نصوص تقرر عقيدة أهل السنة والجماعة بكل تصريح وضوح بل تسوقها بإشارة عاجلة؛ وكأنها مقررة عند قارئ التفسير ومعلومة. وليتهم حين يفعلون هذا يتجاوزونه إلى الرد على شبهات الأعداء وكيدا لخصومهم والتأويلات الباطلة، ليتهم يبرزون الرد على الشيوعية والرأسمالية والاشتراكية أو القومية الترابية أو اللسانية ليتهم يردون على البابية أو البهائية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1158 أو القاديانية أو يردون على عصابات الانحلال الفكري أو شبهات المستشرقين أو انحرافات المنحرفين، أو حتى ليتهم يردون على الفرق المعاصرة كالشيعة التي جعلت همها -كل همها- في العصر الحديث مواجهة أهل السنة والجماعة ومصادمتهم ليس في داخل بلاد المسلمين فحسب؛ بل حتى في الدولة الأوروبية والأمريكية وكم سمعت من الدعاة إلى الإسلام في تلك الأنحاء من نشاط أولئك ضدهم، وكأن هؤلاء يدعون إلى الشيوعية والإلحاد لا إلى الدين الإسلامي. ليت أصحابنا ردوا على الشيعة هؤلاء أو ردوا على الإباضية وبينوا لهم الحق، أو ردوا على الصوفية التي عششت على أنحاء كثيرة في العالم الإسلامي وقاد العوام فيها والجهال بعض العلماء كما تقاد الشياة يذودون عن أفكارهم ويدافعون عن أفعالهم ويبررون منكراتهم وهم يعلمون أنهم يقولون غير الحق؟ ليت أصحابنا ردوا على النصرانية وما تقوم به من نشاط كبير لتنصير المسلمين في أرجاء العالم مستغلة أوضاع العالم الإسلامي الاقتصادية والسياسية. ليتهم ردوا على اليهودية ومنظماتها الصهيونية والماسونية وأندية الروتاري وغيرها من وسائلهم الماكرة للاستيلاء على قيادة العالم كله وتوجيهه أو جعله تحت سيطرتهم إن استطاعوا ولن يستطيعوا بإذن الله. بحثت عن هذا كله أو عن بعضه في تفاسير أهل السنة والجماعة في العصر الحديث؛ فلم أجد فيها بغيتي ولا بعضها. وكل ما وجدته نصوصا من هنا أو هناك الصريح الواضح منها قليل وما سواه التمس منه ما أردت التماسا. يمرون -غفر الله لهم ولمن سبقنا بالإيمان- على الآية، وقد زعمها طائفة قديمة أو حديثة دليلا على مذهب ضال أو فكرة خبيثة فلا يعرض أولئك للرد عليها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1159 يمرون -غفر الله لهم- على الآية تستدل بها فرقة على ما يزعمونه حكما شرعيا خالفوا فيه الفهم الصحيح للنص وما يؤيده من السنة والإجماع؛ فلا يكلف أحدهم نفسه بيان ذلك وكأنه يكتب لمن لا يخفى عليه الحق في ذلك. ولعلي ألتمس لهم عذرا أنهم يقررون التفسير الحق ويقدمونه ميزانا أصيلا يوزن به كل قول سواه وكل شبهة وكل بدعة. لكني مع هذا لا أرى الحق في هذا؛ فالقضية أكبر من أن نجمل الحديث عنها أو نوجزه، والقضية أكبر من أن نجعل الحق في أيدي الناس ويزنون به. فما زال في الناس كثير من لا يحسن استعمال الميزان، وما زال في الناس من يعجز عن استعماله، وما زال في الناس من يطلب الطعام، وأن يوضع له على المائدة، وإن لم نفعل نحن -أهل السنة والجماعة- فسيجد من يقدم له هذا الطعام بكل سرور ولعلي قد بلغت. ثانيا: وحين اتسعت العلوم الإسلامية عامة، واتسعت العلوم القرآنية خاصة وأفرد من العلماء السابقين آيات الأحكام بتفاسير مستقلة لم يكن أحدهم يكتب التفسير لهذه الآيات بمعزل عن مجتمعه وقضاياه؛ بل كان يعطي صورة كادت أن تكون كاملة عن بيئته حتى المذهب الفقهي الذي ينتحله كان له أثره في تفسيره. ففسر كثير منهم آيات القرآن حسب مذاهبهم الفقهية؛ فكان تفسيرًا للمذهب الحنفي وتفسير للمذهب المالكي وهكذا. وإذا عطفنا النظر إلى القرن الرابع عشر الهجري وجدنا الأمر جد مختلف؛ فقد تخلى عن كثير من صفات التفاسير القديمة بحسناتها وعيوبها. كان على من أراد أن ينهج منهج تفسير آيات الأحكام أن ينظر إلى ناحيتين: ناحية عطاء النص، وناحية حاجة المجتمع وواقعه، ويوازن بينهما. لا لست أريد أن يهمل نصا لأنه غير واقع في المجتمع ولا أريد أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1160 يؤجل البحث فيه إلى أن يقع لا أريده أن يفعل ذلك ما دام النص القرآني عليه صريح؛ لكني أيضا لا أريد منه أن يسترسل في بحث قد أشبعه العلماء من قبله، ولم يتركوا له فيه من عراش لا أريد منه أن يترك لهذا مباحث جدت من بعد في عصرنا هذا من غير أن يعطيها حقها من البحث. يخطئ أولئك الذين ينظرون إلى آيات في القرآن الكريم وهم يحسبون أن الفقه ليس إلا معرفة أحكام الطهارة والإرث والوقف والهبة، وينسون أنه هو نتاج دين شامل كامل أيضا. إن الفقه يشمل ما أسلفت ويشمل غيرها، ويشمل أيضا كل المناهج والأنظمة في مجالات الحياة وما يجد فيها. يشمل النظام الاقتصادي الإسلامي بأوسع معانيه وإيجاد الحلول لمشاكل العالم المعاصر الاقتصادية ويشمل النظام الاجتماعي والنظام الجنائي والنظام الدولي والنظام المدني والنظام العسكري في أوسع مجالاته نظام العلاقات الدولية والسفارات وأخلاقيات الدولة الإسلامية يشمل كل أشكال المعاملات المالية في نظام البنوك المعاصر يبين حلالها وحرامها وحقها من باطلها. وحين يقصر مفسر أو فقيه في جانب منها؛ فإن القصور من جهده وليس من النصوص؛ فليعتبر أولئك الذين يصرفون جهودهم إلى ما نضج واحترق من المسائل الفقهية ويتركون عجزا أو تهاونا أو كسلا عن الأبحاث الأخرى التي ما تزال بحاجة إلى أن يخرجها العلماء للناس، ويقولون لهم بأعلى صوت هذا نظام دينكم فخذوا به. نظرت في كتب تفسير آيات الأحكام في العصر الحديث، وهالني ما رأيت؛ رأيتها تكرر ما قاله الجصاص وابن العربي والشافعي والقرطبي، وأنعم بهم من رجال، وأنعم بها من كتب؛ لكنهم كتبوا لأبناء عصرهم وعالجوا قضايا قضاياه، وأشبعوا الموضوع درسا وبحثا حتى كادت كتب بعضهم أن تكون كتب فقه لا تفسير. ومع هذا كله فإن كتبهم موجودة لم تفقد حتى أصولها، ومنتشرة في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1161 الأسواق أكثر من كتب من نقل عنها فأي فائدة نرجوها من جديد لم يأت بجديد؟! وليت أصحابنا -غفر الله لنا ولهم- وهم يكتبون في التفسير الفقهي ولا يعالجون قضايا مجتمعهم المعاصر؛ ليتهم عالجوا بعض الاختلافات الفقهية بين أهل السنة والجماعة وبين الفرق الأخرى، ليتهم نقضوا ما يستدل به الشيعة في تفسيرهم لإباحة نكاح المتعة ليتهم أظهروا مواطن الخطأ في الاستدلال عند هؤلا؛ ليتهم ردوا على الذين يزعمون إباحة الربا غير المضاعف ويبثون الرجلين في الوضوء المسح، أو ردوا على تفسيرهم للخمس وتوزيعه، أو ردوا على الذين يعطلون الجمعة أو الجماعة بمزاعم باطلة؛ ليتهم وليتهم. هل ألتمس لهم في هذا ما التمسته آنفا لمفسري أهل السنة والجماعة في العقيدة من عذر، وهل ينفع العذر إذا رأيت فيه ما رأيته في ذاك. ونظرت أخرى في كتب التفسير الفقهي؛ فوجدت أصحابها -أو هكذا خيل إلي- يكتبون لتلاميذهم ولا يكتبون لزملائهم وإخوانهم العلماء وظهر أثر ذلك فيما يكتبون. أما أنهم يكتبون لتلاميذهم فكل ما اطلعت عليه من كتب التفسير الفقهي إلا القليل منها ألفه أصحابه لتلاميذهم في المعاهد والجامعات؛ فكانوا لذلك يسيرون وفق منهج خاص لا يتجاوزونه يسيرون معه، وليس مع النصوص ومدى دلالتها يسيرون مع النص وينظرون إلى الخلف إلى المنهج المقرر؛ خشية أن يكونوا قد ابتعدوا عن حدوده ومنطقته فيعودون يعودون فجأة، وتكاد تحس بأن الموضوع مبتور، وتكاد تحس بقوة النقلة تهزك، وكانوا لذلك يقتصرون على سور معينة هي تلك السور التي حددها المنهج وعلى آيات معينة من السورة هي كذلك. لا شك أن مثل هذا الالتزام سيؤثر على عطاء المؤلف وعلى نتاجه؛ ولذلك نرى صغر حجم المؤلفات في التفسير الفقهي في العصر الحديث عنها في القديم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1162 ليس لأنهم اكتفوا بما قاله السابقون وليس لأنهم اقتصروا على ما جد في الحديث ولكن لهذا الالتزام فحسب. كلامي هذا -أيها الأحبة- يشير بأصابعه العشرة إلى بعض المؤلفات في العصر الحديث، وببعض أصابعه إلى بعضها لكني لا أجد تفسيرا فقهيا معاصرا إلا ويشير إليه أصبع منها. نحن أيها الأحبة بحاجة إلى تفسير فقهي معاصر يعنى بالشمولية والاستيعاب، فيجمع آيات الأحكام الفقهية كلها لا يتقيد بمنهج دراسي، ثم يتناول هذه الآيات كلها بالتوضيح والبيان، لا يقتصر في بيانها على الوجه الذي أشبع بحثا ولكنه مع هذا يلتمس من مدلولاتها علاج المجتمعات الإسلامية المعاصرة بشتى أشكالها وألوانها ويظهر فيما يظهر العلاج الإسلامي لكثير من قضايا العصر الشائكة، لا يلتزم مذهبا بعينه يلوي النصوص لتوافقه، ولا يدخل النص بذهن مشبع بالقواعد يلتمس لها أدنى مبرر في النصوص؟! ينظر في النص فيستخرج منه دلالته الصريحة الواضحة مستندا إلى الكتاب والسنة ثم ينظر بعد ذلك في الأفكار والمذاهب الأخرى يرد عليها ويبطلها. منطلقا من النص القرآني الكريم -ما أحوج الأمة في عصرنا هذا إلى هذا الدستور القرآني ... ولعلي بلغت. ثالثا: ولا شك أن أفضل طرق التفسير تفسير القرآن بالقرآن فإن لم تجد فعليك بالسنة فإنها شارحة له مفسرة، وهذا ما اصطلح عليه بالتفسير بالمأثور. وهذا النوع من التفسير كان هو السائد في صدر الإسلام؛ لأنه أصح أنواعه. ثم نشأ التفسير بالرأي المحمود وانبثق التفسير بالرأي المذموم ودخل في التفسير علوم شتى فتعددت مذاهبه وتعددت طرقه ومناهجه، فقلَّت العناية والاهتمام بالتفسير بالمأثور وكاد أن يندرس في كثير من التفاسير القديمة والحديثة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1163 وعجبت ثالثة وأنا أنظر في كتب التفسير في العصر الحديث أبحث فيها عن تفسير أولي بالمأثور اهتماما كبيرا أو اختص به فما وجدت ووجدت فيما وجدت تفاسير تتعامل مع التفسير المأثور كما تتعامل مع علوم أخرى حينا تورده وحينا تهمله أو تنساه أو تجهله وهل يجهل المفسر السنة؟!! هذا ما حدث!!. ووجدت فيما وجدت تفاسير تأتي بما يخالفه ووجدت فيما وجدت تفاسير تفسر بمعناه من غير أن ترويه ووجدت ووجدت أشكالا وألوانا من التعامل مع التفسير بالمأثور؛ لكن لم أجد من يوليه حقه من الاهتمام ويلتزمه في كل موضع من مواضعه التي ورد فيها. حتى تلك التفاسير التي تحمل عناوين التفسير بالمأثور لا نراها تلتزمه حتى وإن سميت بـ "التفسير القرآني" للقرآن بل جاوز هذا أحدهم فبث إلحاده في تفسير سماه -كيدا ومكرا- "الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن" وتعلق بهذه التسمية بعض أرباب المذاهب والفرق الضالة ليموهوا على الناس الحق فسموا تفسيرهم "الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة" وما حشاه صاحبه إلا بالآراء المبتدعة والروايات الموضوعة!!. وأكثر من رأيته يهتم بهذا المنهج في التفسير الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسيره "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" فقد أولاه عناية واهتماما كبيرين وفاق بهما أقرانه ويليه بفارق كبير الأستاذ محمد رشدي حمادي في تفسيره "الموجز في تفسير القرآن الكريم المصفى: الجامع بين صحيح المأثور وصريح المعقول" كما وصفه صاحبه في عنوانه. والأمة الإسلامية في العصر الحديث بحاجة إلى تفسير يعنى بالتفسير بالمأثور بالقرآن وبالسنة يورد الآية القرآنية ويورد بعدها ما يفسرها من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وينطلق بعدهما لبسط ما تدل عليه من معانٍ وما ترسمه من حقائق. الأمة الإسلامية بحاجة إلى هذا النوع من التفسير يورد فيه ما صح من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1164 الأحاديث ويبين درجته، ويرد ما ضعف منها، أو ما هو موضوع ويحذر من القول به، فقد انتشرت في كتب التفسير أحاديث يرددها الناس ويحسبونها صحيحة ويقفون عندها لا يتجاوزونها وإذا جئت بتفسير آخر أصح منه نظر إليك من طرف أو صوب عليك بصره وكأنك أتيت بالجرم الكبير الذي لا يغتفر. نحن -أمة الإسلام- بحاجة إلى تفسير ينشر التفسير الحق ويظهره. ويورد التفسير الضعيف أو الموضوع ويرده ويبطله حتى لا تقوم قائمة غلا لحق وحتى ينمحي الباطل. اللهم هل بلغت. رابعا: قلت -فيما قلت- في النتيجة السابقة أن التفسير قد اتسع بعد صدر الإسلام، فدخلت فيه علوم شتى. وأقول: إن من بين هذه العلوم، العلوم التجريبية كالطب والفلك وعلم طبقات الأرض وعلم الحيوان وعلم النبات و ... و ... إلخ من تلك العلوم، فاهتم بعض العلماء آنذاك بهذه العلوم فأدخلها بعضهم في التفسير وأكثر منها فيه حتى قيل عنه: فيه كل شيء إلا التفسير. كان هذا في وقت لم تكن فيه تلك العلوم إلا وليدة تحبو على يديها وقدميها ومرت قرون وترعرعت فيه وشبت فقامت تثب على قدميها وتعدو حتى حسبها بعضهم قد نضجت واكتملت وانتهت إلى أوج نشاطها وعز قوتها فأرادوا التقرب إليها والتزلف إلى بلاطها بتفسير نصوص القرآن حسب مدلولاتها وما عرفوا أنها ما زالت تنمو وأنها ما زالت تتغير وتتبدل. وبلغ من عناية أبناء القرن الرابع عشر الهجري بهذه العلوم واهتمامهم به أن كان أول تفسير كامل للقرآن الكريم يتم في هذا القرن هو ذلكم التفسير الذي حشاه صاحبه بكل النظريات والحقائق العلمية صغيرها وكبيرها فلا يكاد يمر بكلمة فيها ذكر لآلة أو نبات أو حيوان أو خلق إنسان أو ريح أو مطر أو سحاب أو سماء أو أرض ونحو ذلك إلا وأحال تفسيره إلى بحث علمي بحت أو سحاب أو سماء أو أرض ونحو ذلك إلا وأحال تفسيره إلى بحث علمي بحت خاص بما عرضت الإشارة إليه في الآية وملأه بالصور الموضحة والتجارب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1165 العلمية والشواهد من كلام أهله وخبرائه وعلمائه الجديد منها والقديم حتى تشك وأنت تقرأ فيه فيما بين يديك فتطويه وتنظر إلى غلافه فإذا هو فعلا كتاب الجواهر في تفسير القرآن الكريم، ويأخذك العجب والدهش بين مسماه وما تقرأ فيه، فتسأل أهل الذكر فيشيرون بالصمت؛ بالصمت لتسمع كلمة جاءت من عمق القرون السالفة تجلجل: فيه كل شيء إلا التفسير، فما زالت تلك الكلمة منذ قيلت تشق مسارها في التاريخ راسمة أحرفا على كل من سلك هذا المسلك المتطرف في التفسير حتى وإن كان فيه تفسير؛ لأن هذا طغى عليه فأفسده فلم يعد تفسيرا. وكم أشفق على تلك الكلمة: "فيه كل شيء إلا التفسير"، فقد مكثت سنوات منذ قيلت معطلة لم تجد لها عملا لكن العمل المرهق جاءها جملة في هذا القرن، حيث نشأت تفاسير كثيرة فيها كل شيء إلا التفسير، فذهبت ترسم نفسها على الأغلفة لا يراها إلا أصحاب البصيرة وأهل العلم والذكر. لست من أعداء التفسير العلمي كما تحسبون ولست من أنصاره ومؤيديه كما تظنون. أنا -أيها الأحبة- إن سألتم عن موقفي وسط بينهما لست من أولئك الذين يرفضون التفسير العلمي حتى حقائقه ولست من الذين يتحمسون له حتى نظرياته وتصوراته. كما شكوت من أولئك الذين يقحمون التفسير العلمي التجريبي، فإني أتضايق من أولئك الذين يرفضونه كل الرفض. ليته ينفر منا طائفة من شتى أصحاب العلوم والمعارف يستفيد من خبراتهم نفر من أهل العلم الشرعي يسألونهم عن حقائقه فيستشهد بها هؤلاء في التفسير ولا يفسرون بها النص. ويسألونهم عن نظرياته فلا يوردونها لا تفسيرا ولا استشهادا؛ لأنها ما زالت متأرجحة لا تستقر ومن يستمسك بمتأرجح فإنه لا بد متأرجح معه وإن سقط سقط معه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1166 أعرف أن هناك من سيرفض قولي وأعرف أن هناك من سيعد له ويقوِّم ما يراه معوجا، ولعل فيهم من يقبله ويراه حقا وهذا رأيي والله أعلم. خامسا: أنزل الله سبحانه وتعالى هذا القرآن الكريم لحكم عظيمة غايتها تصحيح العقائد وتقويم السلوك. وعلى المفسر أن يجعل هذا الأمر في ذهنه عند تفسيره ثم عليه وهو طبيب عقول أن يكون كطبيب الأجساد ينظر في مريضه ويشخص داءه ثم يصف له الدواء، وعلى المفسر أن ينظر إلى مجتمعه فيحدد أمراضه ويظهر مواطن ضعفه وتفككه وانحلاله ثم يصف له الدواء القرآني سواء كانت علله في العقيدة أو في السلوك. كم يسرني ذلكم المفسر الذي أراه يفسر الآية القرآنية ثم أراه يضرب الأمثلة من مجتمعه -في غير تشهير- ويلتمس لها العلاج القرآني وكم يسرني ذلكم المفسر الذي يرى عادة ذميمة في مجتمعه أو تحللا أو إهمالا لواجب أو انتشارا لبدعة فلا يمر بآية هي علاج لهذا أو ذاك إلا ويربط بينهما ويشير إلا علاجها ويأمر به. يهمل كثير من العلماء مسألة الربط أو التشخيص الدقيق وهم يحسبون أن لدى مستمعيهم -كلهم- القدرة على الاستنتاج والتطبيق. تجد المفسر مثلا يتحدث عن الربا وتحريمه ويشرح آياته مفردة مفردة ومواطن البلاغة ومحاسن التعبير ويبيلغ في ذلك شأوا، ثم ينتقل إلى آية أخرى بعدها وهو يحسب أنه قد أشبع الموضوع حقه، وما درى ذلك الرجل أنه أخذ جانبا وترك الآخر كان عليه -مثلا- أن يضرب أمثلة للربا من مجتمعه فيشير نصا إلى البنوك الربوية ومعاملاتها ومواطن الخطأ فيها ومواضع الربا وآثار ذلك في الاقتصاد.. كان عليه أن يعطي المثال المستقيم فيذكر البنوك الإسلامية وما يجب أن تتعامل به ولا ضير أن يذكر أسماءها وأنواع معاملاتها. ستقولون -أيها الصحاب- أنه خرج عن التفسير، فأقول على فرض أنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1167 خرج أليس خروجه هذا أفضل من خروجه عنه إلى الأساليب البلاغية والمسائل اللغوية والتغني بحسن التعبير والوقوف عند معالم الجمال إن صح تسمية كل ذلك خروجا!! ثم إني لا أعتبر هذا ولا ذاك خروجا عن التفسير إذا ناسب المقام، فإذا ان المقام مقام حديث مع العلماء والأدباء فليكن كذلك، وإذا كان حديثا موجها للعامة أو للإصلاح الاجتماعي فليكن بأسلوب آخر وبأهداف وطرق أخرى، ليوجه همه إلى تلكم القضايا الاجتماعية ويبسطها للناس فلا يجعل التفسير بمعزل عمق أنزل القرآن لإصلاحهم وإصلاح عقائدهم. حين نزل القرآن الكريم أصلح كثيرا من البدع والمنكرات التي تحدث في مجتمع الجاهلية وخصها بالذكر فحرم وأد البنات والربا وشرب الخمر وعبادة الأوثان وما زال القرآن يقوِّم الأخلاق حتى النداء من وراء الحجرات. فما بال أقوام منا يهملون جانب الإصلاح الاجتماعي في تفسير القرآن الكريم ويظنونه -مخطئين- خروجا بالتفسير عن حده. إن الأمر هناك يختلف عن المناهج الأخرى، الأمر هنايتطلب تفاسير عدة لا تفسيرا واحدا، حيث يقوم من كل بلد من بلاد العالم الإسلامي عالم عارف بأمراض مجتمعة يفسر القرآن فيعرض لها ويحذر من خبيثها ويحمد حسنها. أقول هذا؛ لأن العالم الإسلامي مترامي الأطراف مختلف العادات، وقد ينتشر في مجتمع من المنكرات ما لا وجود له في مجتمع آخر فقد يوجد الربا في بيئة ويستفحل ولا يكاد يوجد في أخرى، وقد تنتشر حانات الخمور ودور الرذيلة والملاهي وأندية القمار في بيئة ولا يعرفها آخرون، وقد ينتشر الاختلاط والتبرج والتعري والفسق والفجور في مجتمع ولا يعرفه آخر، وقد تنتشر بدعة التصوف وطقوسها في بيئة دون بيئات، وقد تشتهر بعض المحرمات وتصبح عادة مألوفة في مجتمع تحتاج إلى أن ينص العلماء عليها ويحذرون منها كالشغار والنجش وبعض أنواع الربا والإسراف والتبذير و ... و ... إلخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1168 وهذا يوجب أن يقوم من كل مجتمع عالم يكتب علاجًا قرآنيا لأمراض مجتمعة فما زالت المنكرات منتشرة وما زالت البدع سائدة، نسأل الله سبحانه الإصلاح والتوفيق. سادسا: قام في القرن الرابع عشر الهجري رجال علماء بذلوا وسعهم حسب مفهومهم وحسب قدراتهم للإصلاح سياسيا واجتماعيا وكان لهؤلاء جوانب مشرقة وكان لهم أخرى ونال هؤلاء الرجال منزلة كبيرة في مجتمعاتهم بين العلماء والعامة. ونفذ بعض المغرضين وذوي النحل الباطلة من هذه "الأخرى" فأمسوا يبثون شكوكهم وأوهامهم وبدعهم ومنكراتهم فإذا قام معترض عليهم قال لهم: إنكم تردون اليوم ما كان يقرره فلان منذ 42 عاما1؟. فيطرق القوم وكأنه قال لهم قول معصوم. تقولون وما دخل هذا في التفسير؟! فأقول: إن بعض هؤلاء كان لهم نشاط في التفسير منه ما أبدعوا فيه ومنه ما جانب الصواب وأخشى -وقد حدث فعلا- أن يستدل رجل بالجانب الذي وقع فيه الخطأ فيحسبه آخرون قد أتى بالحجة القاطعة. علينا إذًا أن نقيم رجال التفسير فنظهر ما لهم ونظهر ما عليهم.. أين كتب الرجال في القرن الرابع عشر؟ أين كتب طبقات المفسرين في القرن الرابع عشر؟ حقًّا إن كثيرا منهم ما زال حيا يرزق وحقا إن بعضهم قد انتشر صيته؟ ولكن أقولها عن تجربة إذا ما أردت ترجمة قصيرة عن حياة أحدهم فضلا عن الجرح والتعديل فإني لا أجد له رائحة. حبذا لو قام أحدنا بالكتابة عن مفسري القرن الرابع عشر وليس عن اتجاهات التفسير فحسب. يكتب تراجم لحياتهم العلمية ومؤهلاتهم للتفسير ومن تتوفر فيه شروط   1 قال هذا أمين الخولي دفاعا عن رسالة ملحدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1169 المفسر منهم ومن لا تتوفر فيه، ثم يكتب ما له في التفسير وما عليه، ويرد أو يناقش بعض أخطائه الظاهرة في التفسير. وبذلك ننقي ساحة التفسير وساحة المفسرين من زغلها وزيغها ونكشف للناس حقيقتها فلا يجرؤ مجترئ بعد ذلك أن يستدل بهفوة، ولا يطأطئ أحدنا رأسه مسلما باحتجاج زائف. علما أن الأمر لا يقتصر على ذوي الهفوات من المفسرين، بل سلك بعضهم طريقا خاصا ونهجا إلحاديا علانية يسعى لأن يرد عليه فيشتهر ويرى -لضعف إيمانه أو عدمه- إن الإلحاد هو أقصر طريق إلى الشهرة. فعلينا أن نقف لتلك الزمرة بالمرصاد دفاعا عن كتاب الله عز شأنه، نقف لهم فلا نحقق مأربهم ولا ننشر كتبهم بشتى الوسائل ونسعى أن يكون موقفنا منهم درسا رادعا لمن يقف خلفهم أو ينتظر فرصة ليفعل فعلهم. اللهم هل بلغت. سابعا: اختلاف أساليب التعبير عبر القرون ظاهرة واضحة لا شك فيها وكم من قصيدة سمعناها فأدركنا من مفرداتها ونغمها وجرسها أنها شعر جاهلي أو شعر إسلامي أو شعر حديث أو حتى شعر أندلسي ونحو ذلك؛ وقع هذا لأن لكل مجتمع ما يناسبه من الألفاظ والعبارات. وهذا يوجب على المفسر أن يتحدث بأسلوب عصره فلا يأتي -وهو يفسر- بغريب الألفاظ ولا يتكلف الحديث ولا يمعن في عويص المعاني ولا يتشدق في التعبير. لا يعلو حديثه عن درك العامة ولا يهبط إلى وضيع القول عند العلماء فليحاول جهده في التعبير بحيث إذا سمعه غير المتخصص أدرك أبعاده وشده أسلوبه وإذا سمعه العالم شدهه حسن التعبير وطلاوة الأسلوب والموازنة هذه يهبها الله لمن يشاء من عباده. أما التبسيط العميق للتفسير، فإنه يحيل التفسير إلى كتاب مدرسي يوضع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1170 للناشئة إن لم يكن وضع لهم أصلا، مثل هذا يبعد كل البعد عن الإتيان بجديد في الفكر أو في التدبر أو في التأمل. ولهذا لم يكن لهذه المؤلفات أثر في دراستنا هذه عن مناهج التفسير الجادة. والإغراق في العبارات أيضا يقصر الفائدة منه على المختصين والعلماء ويحرم سواهم من الانتفاع به، والقرآن الكريم لم ينزل لهؤلاء وحدهم ولا لهؤلاء دون سواهم، بل نزل للجميع فليكن التفسير للجميع أيضا. لا أريد من هذا أن أمنع التفاسير الموسعة العميقة الأبحاث لكني أريد تبسيط أسلوبها حتى إذا ما أراد أن يسلكها غير العلماء سلكها وكانت له كالمعلم يخاطبه ويوجهه ويساله ويجيبه بأسلوب لا يهبط إلى ذلك ولا يعلو عن مداركهم. اللهم هل بلغت. وبعد: ليست هذه خلاصة البحث وليست كل ما أريد قوله، فقد بثثت فيه وبين مناهجه ملاحظاتي في مواضعها ولكني أشرت إلى ما اشرت إليه للتأكيد ليس إلا. أما الأساس السليم والمنهج القويم في التفسير الذي يجب أن نسلكه فيه فقد بينت أسسه وقواعده في حديثي عن منهج أهل السنة والجماعة ولا أظن أني في حاجة إلى تكرار القول أني قد وضعت منهجهم أول المناهج؛ ليكون ميزانا بيد القارئ يزن به كل ما يصادفه في طريقه فبه يأخذ وبه يرد. ولهذا فلا أرى موجبا لإعادة هذه الأسس مرة أخرى فهي أيضا الأسس الفضلى وهو أيضا المنهج الحق. لكن هذا لا يمنع من التجديد؛ التجديد في الأسلوب الملائم لأبناء العصر والذي أشرت إليه آنفا والتجديد في التحذير من العقائد الضالة والفرق المنحرفة المعاصرة والقديمة وبيان مواضع ضلالهم وانحرافهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1171 والتجديد في تفسير آيات الأحكام ببيان ما جد من الأحكام الشرعية والمعاملات المالية والاقتصادية والعسكرية ... إلخ. والتجديد في علاج القضايا الاجتماعية، فقد جد في هذا العصر من المشكلات الاجتماعية ما يحتاج إلا علاج وبيان. والتجديد في التحذير من التفاسير المنحرفة والضالة ومجاهدة أصحابها وبيان ضلالهم وكشف زيفهم للناس. كل هذا وسواه أكثر من معالم التجديد في التفسير الذي يطلبها أبناء القرن الجديد في التفسير، وهذا يحمِّل علماءه أمانة القيام به؛ فهم يوم القيامة مسئولون، وعلى أعمالهم محاسبون ومجزيون. وأوصي أخيرا أولي الأمر وذوي العلم والجامعات الإسلامية وفيهم نفر من العلماء الصالحين أن يسعوا للقيام بتفسير يشترك فيه نخبة مختارة من العلماء البارزين في مختلف التخصصات الشرعية في العقيدة والفقه والتفسير. والأدب والإصلاح الاجتماعي والعلوم التجريبية ... إلخ. يجتمع هؤلاء يتلون آيات الله فيما بينهم ويتناولونها بالتفسير والبيان، ثم تصاغ كلها بأسلوب ملائم يجمع فيه كل ما يحتاجه عصرنا من إصلاح عقائدي وفقهي واجتماعي وعلمي وأدبي يعنى فيه بما أسلفنا الإشارة إليه تفصيلا. والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات. {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} 1.   1 سورة البقرة: 285-286. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1172 الفهارس دليل الآيات القرآنية ... دليل الآيات القرآنية "*": 1- سورة الفاتحة: 1/ 527، 4/ 527، 536، 541، 7/ 221، 312، 313، 319، 331، 529، 536، 753، 771. 2- سورة البقرة: 2/ 212، 3/ 212، 223، 335، 340، 351، 526، 8/ 771، 9/ 880، 18/ 321، 916، 19/ 1032، 20/ 310، 321، 324، 1032، 21/ 320، 24/ 325، 25/ 310، 324، 339، 352، 26/ 322، 29/ 327، 331، 664، 667، 30/ 136، 154، 313، 31-34/ 154، 837، 36/ 314، 316، 352، 37/ 309، 312، 325، 525، 43/ 921، 44/ 105، 729، 48/ 144، 179، 301، 343، 55/ 168، 216، 230، 334، 335، 58/ 751، 755، 60/ 317، 61/ 325، 1128، 65/ 31، 736، 66/ 653، 67/ 136، 318، 653، 728، 760، 810، 1150، 68-72/ 653، 728، 760، 810، 74/ 528، 635، 75/ 708، 81/ 155، 177، 342، 343، 83/ 922، 90، 536، 98/ 507، 106/ 92، 144، 335، 720، 123/ 344، 124، 124/ 171، 202، 240، 292، 390، 140/ 129، 320، 143، 314، 145/ 784، 149/ 397، 150/ 117، 152/ 398، 154/ 404، 155/ 400، 401، 156/ 401، 159-160/ 712، 164/ 248، 318، 641، 166/ 740، 167/ 243، 169/ 89، 170، 348، 712/ 171، 707، 173/ 328، 177/ 405، 834، 178/ 60، 80، 338   * ما قبل الشرطة المائلة هو رقم الآية، وما بعدها هو رقم الصفحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1175 179/ 710، 183/ 746، 184/ 328، 185/ 328، 345، 747، 911، 186/ 404، 187/ 329، 402، 406، 517، 1052، 189/ 402، 593، 692، 192/ 403، 193/ 780، 195/ 57، 196/ 135، 327، 397، 203/ 403، 213/ 536، 214/ 1009، 215/ 442، 219/ 398، 526، 790، 221/ 443، 467، 505، 506، 515، 222/ 399، 532، 617، 223/ 532، 224/ 540، 225/ 541، 228/ 529، 541، 229/ 434، 233/ 409، 238/ 313، 397، 748، 887/، 1043، 1080، 242/ 728، 245/ 400، 246/ 789، 248، 763، 253، 825، 1006، 254/ 917، 256/ 780، 260/ 643، 264/ 618، 1028، 265/ 1028، 266/ 542، 1030، 267/ 542، 274/ 920، 275/ 155، 178، 343، 540، 826، 284/ 63، 341، 285/ 834، 1173، 286/ 1173. 3- سورة آل عمران: 7/ 92، 135، 249، 722، 10/ 722، 12/ 722، 18/ 712، 26/ 732، 27/ 832، 28/ 83، 116، 218، 242، 31/ 832، 35/ 832، 36/ 540، 699، 37/ 726، 46/ 1078، 47/ 815، 48/ 813، 49/ 813، 1088، 55/ 57، 538، 818، 821، 824، 59/ 830، 61/ 795، 62/ 905، 64/ 739، 65/ 728، 73/ 110، 83/ 213، 85/ 258، 92/ 917، 96-97/ 479، 101/ 746، 104/ 711، 105/ 347، 112/ 312، 118/ 728، 130/ 742، 846، 1096، 132/ 774، 152/ 1109، 159/ 781، 172/ 832، 175/ 117، 176/ 577، 910، 179/ 538، 191/ 556، 195/ 796. 4- سورة النساء: 1- 267 ، 830، 831، 2/ 391، 3/ 198، 532، 1086، 1096، 1097، 4/ 433، 5-6/ 479، 12/ 533، 20/ 1033، 21/ 434، 1033، 24/ 234، 246، 433، 442، 453، 466، 498، 25/ 434، 797، 1097، 36/ 219، 787، 38/ 538، 43/ 741، 841، 48/ 828، 58/ 824، 59/ 299، 69/ 145، 75/ 391، 393، 78/ 407، 87/ 67، 88/ 230، 92/ 479، 93/ 57، 155، 480، 101/ 480، 102/ 922، 103/ 265، 105/ 86، 812، 116/ 828، 127/ 533، 129/ 1068، 1069، 133/ 1135، 135/ 658، 136/ 835، 138-139/ 156، 141/ 533 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1176 147/ 270، 157-158، 818، 820، 162/ 922، 164/ 58، 154، 170، 165، 906، 174/ 776. 5- سورة المائدة: 1/ 57، 539، 3/ 258، 408، 1048، 5/ 434، 444، 468، 504، 506، 507، 515، 6/ 244، 421، 439، 464، 487، 515، 13/ 528، 23/ 1021، 27/ 1049، 38/ 131، 444، 458، 468، 511، 44/ 258، 1065، 51/ 109، 139، 53/ 936، 54/ 139، 225، 55/ 109، 157، 56/ 157، 60/ 312، 64/ 69، 102، 67/ 134، 77/ 312، 536، 78-79/ 711، 80-81/ 140، 83/ 984، 88/ 384، 89/ 1048، 90/ 712، 93/ 270، 386، 101/ 1017، 110/ 813/ 815، 1089، 112-115، 807، 116/ 249، 117/ 763. 6- سورة الأنعام: 3- 733 ، 6/ 711، 835، 8/ 914، 11/ 710، 19/ 91، 27/ 105، 172، 173، 28/ 64، 105، 32/ 728، 38/ 558، 561، 568، 578، 587، 674، 680، 59/ 63، 95، 96، 60/ 821، 71/ 1091، 72/ 74/ 249، 82/ 271، 338، 541، 748، 83/ 825، 90/ 146، 908، 95/ 1034، 96/ 905، 102/ 102، 103/ 97، 334، 105/ 539، 107/ 334، 109/ 936، 123/ 228، 125/ 229، 627، 130/ 839، 141/ 1100، 143/ 98، 148-149/ 119، 141، 142، 158، 174، 155/ 58، 158/ 752، 159/ 344، 165، 825. 7- سورة الأعراف: 3/ 299، 8/ 106، 138، 172، 288، 9/ 138، 11/ 1125، 19/ 938، 20-21/ 268، 23/ 309، 312، 525، 25/ 1129، 26/ 913، 27/ 839، 1092، 31/ 1073، 33/ 243، 38/ 740، 1132، 39/ 740، 49، 936، 53/ 137، 54/ 68، 101، 153، 332، 556، 752، 57/ 723، 914، 60/ 910، 66/ 910، 58/ 790، 107-108، 1086، 129/ 152، 168، 1069، 158/ 90، 769، 160/ 1086، 162/ 751، 169/ 433 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1177 171/ 1021، 175/ 289، 176/ 825، 178/ 229، 189/ 632، 1111، 190/ 1111. 8- سورة الأنفال: 9/ 735، 12/ 1017، 23/ 64، 25/ 711، 1071، 27/ 772، 29/ 1103، 30/، 273، 910، 991، 39-40/ 472، 41/ 427، 440، 465، 474، 483، 494، /، 1053، 60/ 747، 67/ 1152. 9- سورة التوبة: 6/ 868، 9/ 785، 11/ 110، 23/ 110، 156، 30/ 444، 31/ 516، 33/ 647، 40/ 57، 46/ 57، 55/ 919، 60/ 1099، 73/ 139، 88/ 920، 96/ 137، 100/ 140، 103، 922، 111/ 1009، 123/ 139. 10- سورة يونس: 3/ 68، 5/ 554، 10/ 905، 25/ 220، 26/ 65، 66، 130، 152، 168، 72/ 907. 11- سورة هود: 13/ 710، 21/ 212، 28/ 1034، 29/ 907، 36، 910، 40/ 1046، 44/ 131، 47/ 699، 51/ 907، 52/ 916، 66/ 904، 69/ 1151، 80/ 212، 88/ 105، 101/ 786، 112/ 348، 116/ 783، 119/ 839. 12- سورة يوسف: 35/ 63، 43/ 1150، 76/ 825، 82/ 1082، 104/ 90، 769، 908، 110/ 1009. 13- سورة الرعد: 2/ 643، 4/ 1128، 8-9/ 95، 11/ 835، 13/ 682، 26/ 919، 39/ 205. 14- سورة إبراهيم: 1/ 776، 13/ 910، 15-18/ 1026، 1027، 40/ 1139، 44/ 138، 936، 48/ 1070. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1178 15- سورة الحجر: 9/ 70، 103، 134، 153، 171، 198، 22/ 723، 27/ 839، 1093، 26-28/ 829، 29/ 555، 829، 30-31/ 829، 44/ 215، 92/ 935؟ 16- سورة النحل: 8/ 438، 12/ 828، 35/ 142، 158، 38/ 936، 43/ 587، 44/ 26، 87، 89، 250، 1080، 52/ 529، 64/ 87، 250، 1081، 72/ 633، 74/ 128، 79/ 761، 89/ 558، 101/ 143، 720، 102/ 835، 103/ 767، 868، 106/ 84، 116، 118، 338، 112/ 531، 125، 228. 17- سورة الإسراء: 1/ 1151، 7/ 922، 9/ 776، 14/ 1312، 29/ 923، 36/ 89، 712، 38/ 92، 44/ 667، 70/ 832، 78/ 696، 85/ 92، 713. 18- سورة الكهف: 39/ 57، 45/ 711، 50/ 839، 101، 224. 19- سورة مريم: 4-5/ 246 ، 5-6/ 431، 510، 17/ 835، 1088، 18/ 699، 20/ 815، 1088، 21/ 815، 22/ 1088، 29/ 1087، 58/ 869، 68/ 935، 71-72/ 107. 20- سورة طه: 5/ 57، 68، 100، 6/ 668، 12/ 969، 1135، 20/ 933، 21/ 969، 39/ 283، 46/ 57، 50/ 1125، 1126، 55/ 1128، 66/ 933، 94، 146، 111/ 271، 118-119/ 915، 121-122/ 104، 130/ 911. 21- سورة الأنبياء: 2/ 285، 26/ 835، 28/ 137، 144، 30/ 598، 662 47/ 78، 106، 138/ 938، 67/ 728، 68-69/ 1082، 1083، 73/ 921، 78/ 475، 79/ 1083، 1102، 81/ 1083، 90/ 105، 103/ 835، 104/ 261. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1179 22- سورة الحج: 1-2/ 754 ، 5/ 914، 29/ 524، 30/ 219، 41-44/ 727، 921، 46/ 709، 47/ 692، 1125، 49-51/ 727، 52/ 722، 727، 61/ 554، 63/ 913، 65/ 635، 70/ 85. 23- سورة المؤمنون: 5/ 443، 1098، 6/ 435، 443، 454، 467، 1098، 12/ 597، 829، 1125، 1127، 13-16/ 829، 14/ 1126، 17/ 667، 24/ 914، 28/ 131، 86/ 668، 99-100/ 78، 154. 24- سورة المؤمنون: 2/ 1094، 6-7/ 1099، 8/ 1099، 11/ 1153، 30/ 455، 530، 31/ 455، 474، 508، 509، 530، 1074، 33/ 917، 35/ 1112، 36/ 825، 55/ 345، 63/ 1080. 25- سورة الفرقان: 2/ 285، 597، 5/ 970، 25/ 528، 53/ 629، 57/ 908، 61/ 392، 67/ 923. 26- سورة الشعراء: 23-24/ 527 ، 30-33، 808، 43/ 968، 59/ 89، 526، 63/ 1086، 80/ 454، 94/ 1034، 100/ 137، 179، 101/ 179، 109/ 907، 127/ 907، 145/ 907، 164/ 907، 180/ 907، 193-195/ 835، 214/ 82. 27- سورة النمل: 8/ 968، 10/ 969، 12/ 468، 16/ 245، 431، 1084، 17/ 1092، 25/ 570، 30/ 57، 38-39/ 839، 1085، 40/ 1085، 41/ 1085، 65/ 95. 28- سورة القصص: 5/ 525، 6/ 213، 525، 7/ 1087، 26/ 905، 30/ 969. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1180 29- سورة العنكبوت: 8/ 1103، 14/ 762، 853، 37/ 1103، 41/ 631، 46/ 780. 30- سورة الروم: 5/ 905، 8/ 710، 21/ 516، 46/ 723. 31- سورة لقمان: 13/ 541، 748. 32- سورة السجدة: 5/ 92، 7-8/ 829، 1127، 11/ 823، 835، 12/ 78، 137، 13/ 137، 525. 33- سورة الأحزاب: 9/ 723، 33/ 112، 113، 141، 44/ 65، 48/ 618، 59/ 508. 34- سورة سبأ: 14/ 681، 15/ 1128، 22/ 938، 28/ 90/ 37/ 919، 47/ 908. 35- سورة فاطر: 1/ 835، 2/ 919، 9/ 723، 10/ 825/ 32/ 80، 433، 33/ 80، 37/ 137، 42/ 936. 36- سورة يس: 21/ 908، 23/ 220، 38/ 554، 598، 60/ 832، 71/ 69. 37- سورة الصافات: 7/ 1045، 10/ 1045، 83/ 183، 113/ 172. 38- سورة ص: 17/ 910، 29/ 710، 36-37، 1092، 75، 69، 102، 132، 86-88/ 908. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1181 39- سورة الزمر: 3/ 365، 7/ 137، 142، 144، 23/ 985، 28/ 890، 42/ 823، 47/ 63، 53/ 341، 828، 62/ 345، 67/ 101، 68/ 774، 835، 71/ 525، 73/ 835. 40- سورة غافر: 7/ 835، 11/ 138، 57/ 556، 60/ 336. 41- سورة فصلت: 12/ 668، 13/ 1103، 14/ 914، 26/ 984، 30/ 835، 39/ 915، 40/ 226، 41-42/ 70، 103، 134، 153، 171، 53/ 596. 42- سورة الشورى: 5/ 835، 11/ 56، 128، 131، 167، 284، 14/ 433، 21/ 783، 23/ 111، 141، 178، 908، 44/ 155، 45/ 138. 43- سورة الزخرف: 13/ 131، 20/ 141، 33/ 825، 77، 835، 84/ 264. 44- سورة الجاثية: 5/ 33/ 63. 45- سورة الأحقاف: 35/ 910. 46- سورة محمد: 15/ 1132، 24/ 134، 407، 38/ 272. 47- سورة الفتح: 26/ 749، 1081، 29/ 139. 48- سورة الحجرات: 4/ 728، 9/ 80، 338، 10/ 80، 14، 259، 287، 338. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1182 49- سورة ق: 6/ 556، 560، 1101، 7/ 688، 8/ 1004، 1018، 35/ 65، 130، 39-40/ 910. 50- سورة الذاريات: 23/ 935، 25/ 835/ 52، 910، 967، 53/ 968، 56/ 839، 58/ 56. 51- سورة الطور: 34/ 710، 35/ 869، 40/ 908، 48/ 57. 52- سورة النجم: 1/ 244، 3-4/ 129، 45-46/ 694، 62/ 1007. 53- سورة القمر: 11/ 1116، 17/ 877. 54- سورة الرحمن: 5/ 554، 15/ 839، 19-20، 222، 628، 629، 21-22، 629، 27/ 57، 222، 33/ 839، 37/ 528، 41/ 922، 74/ 839. 55- سورة الواقعة: 10-19/ 1107 ، 20-21، 1109/ 57-62، 1134. 56- سورة الحديد: 3/ 56، 4/ 100، 7/ 917، 16/ 528، 22/ 63، 85، 25/ 136، 693، 913. 57- سورة المجادلة: 11/ 825، 21/ 904، 22/ 139، 178، 516. 58- سورة الحشر: 6-7 ، 427، 499، 8/ 111، 157، 9-10/ 61، 82، 110، 111، 157، 14/ 728. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1183 59- سورة الممتحنة: 4/ 139، 9/ 516، 10/ 505، 507، 13/ 140. 60- سورة الصف: 8/ 460، 9/ 214. 61- سورة الجمعة: 9/ 425، 490. 62- سورة المنافقون: 9/ 919. 63- سورة التغابن: 8/ 226. 64- سورة الطلاق: 1/ 529، 12/ 668. 65- سورة التحريم: 3/ 56، 57. 66- سورة الملك: 2/ 905، 3/ 668، 710، 852، 1024، 4/ 710، 1024، 5/ 851، 1003، 1024، 1045، 1115، 7/ 774، 10/ 729، 13/ 771، 16/ 733. 67- سورة القلم: 10-13/ 919 ، 48/ 733. 68- سورة الحاقة: 5/ 938، 11/ 939، 16/ 528، 17/ 835. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1184 69- سورة المعارج: 4/ 92، 29/ 1098، 1101، 30/ 435، 454، 1098. 70- سورة نوح: 1/ 761، 14/ 1125، 15/ 668، 17-18، 1128، 21/ 919، 23/ 785. 71- سورة الجن: 1/ 984، 1092، 6/ 1103، 7/ 839، 1045، 1103، 9-10/ 839، 1103، 12-15/ 839. 72- سورة المدثر: 25-26/ 70 ، 31/ 763، 48/ 137، 179. 73- سورة القيامة: 1/ 721، 3/ 626، 4/ 584، 626، 8-9/ 554، 16-19/ 134، 22-23/ 58، 64، 65، 96، 99، 152، 167، 230، 232، 243، 1002، 24-25/ 232. 74- سورة الإنسان: 1/ 1125، 3/ 1126، 30/ 119، 142. 75- سورة المرسلات: 1/ 851، 25-26/ 851، 48/ 749. 76- سورة النبأ: 12/ 668، 14/ 913. 77- سورة النازعات: 17/ 938، 20/ 944، 40-41/ 904، 42/ 929. 78- سورة عبس: 24/ 645، 27/ 713، 28، 695، 713، 29-30/ 713، 31/ 29، 92، 713، 773. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1185 79- سورة التكوير: 15/ 212، 17-18/ 722، 879، 1031، 1032، 28-29/ 60، 86، 159. 80- سورة الانفطار: 6-8/ 554 ، 10-11/ 773، 835، 12/ 835، 17-19/ 527. 81- سورة المطففين: 15/ 65، 97، 99، 130، 22-23، 99. 82- سورة الانشقاق: 1/ 528، 7-8/ 748. 83- سورة البروج: 14/ 57. 84- سورة الطارق: 15-16/ 57 . 85- سورة الأعلى: 1-3/ 1126 ، 4-5/ 635، 6-7/ 144. 86- سورة الغاشية: 6-7/ 915 . 87- سورة الفجر: 1-2/ 214 ، 721، 878، 3/ 225، 10/ 734، 19-20/ 918، 21-22/ 57. 88- سورة البلد: 4/ 942، 8-10/ 1126، 11/ 781، 941، 12-13/ 781. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1186 89- سورة الليل: 4/ 933، 14-17/ 771. 90- سورة الضحى: 1-2/ 935، 3/ 945، 5/ 943، 945، 6/ 930. 91- سورة الانشراح: 4/ 825، 5-6، 879. 92- سورة العلق: 2/ 947. 93- سورة البينة: 1/ 516، 8/ 57. 94- سورة الزلزلة: 4-5/ 1070 ، 7/ 106، 948، 8/ 106. 95- سورة العاديات: 6-7/ 527 ، 8/ 527، 939. 96- سورة القارعة: 6/ 775، 7/ 775. 97- سورة التكاثر: 1-2/ 932 ، 3-4/ 217، 5-6/ 623، 8/ 944. 98- سورة العصر: 2/ 927، 3/ 789. 99- سورة قريش: 3-4/ 398 ، 915. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1187 100- سورة الماعون: 1/ 927. 101- سورة الكوثر: 1/ 753. 102- سورة النصر: 1/ 28. 103- سورة المسد: 4/ 409. 104- سورة الإخلاص: 4/ 128. 105- سورة الفلق: 3/ 1072. 106- سورة الناس: 6/ 839. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1188 دليل الأحاديث النبوية : أتدرون أي يوم ذلك؟ 754 إذا حلفت على يمين فرأيت 540 إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار جيء بالموت 286 إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى منادٍ 66-168-169 أذكركم الله في أهل بيتي 61-82-112 ارجع فأحسن وضوءك 440 أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار 423 استمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم 498-499 اسكن أحد 347 أفتان أنت يا معاذ 747 اقرأوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه 307 أكرمهم عند الله أتقاهم 747 إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة 179 ألا إن القوة الرمي 747 ألا إني أوتيت القرآن ومثله مع 87 ألا تعجبون من دقة ساقيه 106 اللهم اشدد وطأتك على مضر 531 اللهم حاسبني حسابا يسيرا 748 اللهم لا مانع لما أعطيت 530 أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله 472 أنزل القرآن على سبعة أحرف 73، 74 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1189 إن الله افترض عليكم الجمعة 492 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي الكلام أفضل 313 إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد 452 أن المغضوب عليهم هم اليهود وأن الضالين هم النصارى 313 أن المقسطين عند الله على منابر من نور الحديث 333 إن منكم منفرين 747 أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الفضل بن العباس 457، 476 أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام ثم نهى عنها 233 أن النبي لا يورث 432 إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر 59، 97، 315 إنكم سترون ربكم عيانا 66 إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا 130 أن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا 551 إنه ليس الذي تعنون 271، 748، 977 أول ما خلق الله القلم 85 إياكم والجلوس بالطرقات 530 أيما رجل وامرأة توافقا فعشرة ما بينهما ثلاث ليالٍ 498 أين الله 58-59 تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما تمسكتم بهما 746 الحج عرفة 747 حجي واشترطي 328-329 الحدود والجمعات والفيء والصدقات إلى الأئمة 292 خبيثة من الخبائث 768 خذوا من الأعمال ما تطيقون 747 خلق الله عز وجل التربة يوم السبت 752 الدين هو العقل ولا دين لمن لا عقل له 732 الذهب بالذهب والفضة بالفضة 540 رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع 783 سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة 457، 458 سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المغضوب عليهم 313 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1190 ستكون فتن"، قيل: وما المخرج منها 558 سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة 625 شغلونا عن الصلاة الوسطى 314، 748، 1080 صبرا آل ياسر موعدكم الجنة 994 الطاعون وخز أعدائكم من الجن 840 عجبا لأمر المؤمن 401 العلماء ورثة الأنبياء 433 عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي 54 عليكم بلباس الصوف 315 فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا 529 قد أذن الله لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا 498 قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض 63 قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجدا 751، 757 كانت اليهود تقول: إذا جامعها من 532 كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم 476 كلا يديه يمين 102 كلكم بنو آدم، وآدم خلق من تراب 832 الكوثر نهر وعدنيه ربي عز وجل في الجنة 751 لا تدع صنما إلا طمسته ولا 785، 854 لا تزال جهنم يلقى فيها 58 لا تسبوا أصحابي 432 لا تقتسم ورثتي دينارا 432 لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها 752 لا خير في دين ليس فيه ركوع 749 لا نورث؛ ما تركنا صدقة 431، 432، 909 لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى 747 لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال 713 لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن 287، 341 لقد أنزلت علي الليلة آية 641 لكل آية ظهر وبطن ولكل حرف حد 369، 407 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1191 للقرآن باطن وللباطن باطن 73 لله أشد فرحا بتوبة عبده 58 لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء 749 لما نزل تحريم الخمر قالوا: يا رسول الله فكيف بأصحابنا 270 ليس هو كما تظنون 541 ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفارة 324 ما بال أقوام يحرمون على أنفسهم الطيبات 384، 401 ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة 625 ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم 346 ما من مسلم يشاك شوكة 324 ما من مولود يولد إلا 540 ملعون من أتى امرأة في دبرها 619 ملعون من أتى امرأة وهي حائض 619 ملعون من عمل عمل قوم لوط 619 من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله 747 من أصبح جنبا أصبح مفطرا 274 من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ 90 من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده في النار 90، 1143 من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر 783 من يحفر بئر رومة فله الجنة 346 نهى عن كل ذي ناب من السباع وكل 768 نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر 768 نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة 442 وأسألك لذة النظر إلى وجهك 97 واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء 530 وألزمهم كلمة التقوى قال: لا إله إلا الله 749 والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها 777 وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج 755 وفي بضع أحدكم صدقة 401 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1192 ويل للأعقاب من النار 422، 440 ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار 424 هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به 424، 440 هل تضارون في رؤية القمر 66 هل نرى ربنا يوم القيامة 108 يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض 456 يا أيها الناس اعقلوا من ربكم وتواصوا بالعقل 732 يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم 832 يا أيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع في النساء وإن الله قد حرم ذلك 435، 443،467 يا علي لا تتبع النظرة النظرة 457 يا معشر قريش اشتروا أنفسكم 82-83 يجيء النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الرجل والنبي معه الرجلان 314 يخرج قوم من أمتي يقرؤون القرآن 347، 350، 351 يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير 107، 108 يخرج منه -وأهوى بيده إلى العراق- قوم يقرؤون القرآن 351 يضحك الله إلى رجلين 58 يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه 101 يقول الله تعالى: يا آدم. فيقول: لبيك وسعديك 58 ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة 58 ينزل عيسى بن مريم فيقتل الدجال ثم 819 يؤتى بالرجل العظيم السمين يوم القيامة 106 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1193 دليل الأعلام : "حرف الألف": آدم: 267، 268، 268، 269، 308، 309، 310، 316-317، 318، 336، 381، 382، 383، 632، 633، 726، 754، 761، 632، 633، 726، 754، 761، 830، إلى 833، 834، 1038، 1039، 1122، 1125، 1126، إلى 1130، 1136. آصف بن أصغر علي فيضي: 14، 255 إبراهيم عليه السلام: 94، 113، 190، 202، 203، 240، 241، 289، 292، 320، 390، 398، 554، 643، 653، 654، 656، 719، 968، 1082، 1139 إبراهيم أطفيش: 40، 41 إبراهيم بن عبد الرحمن البليهي: 996 إبراهيم بن محمد بن هلال: 38 إبراهيم الهجري: 73 أبي بن كعب: 30، 32، 168، 247، 434، 442، 748، 749 أحمد بن إبراهيم بن الزبير القمي: 562 أحمد أمين: 715 أحمد البدوي: 996، 1118 أحمد البيلي: 272 أحمد حسن الباقوري: 18، 19، 1065، 1066 أحمد الحلواني: 161 أحمد بن حنبل: 29، 31، 36، 54، 55، 63، 66، 80، 87، 106، 165، 166، 168، 169، 271، 296، 307، 313، 314، 328، 333، 424، 428، 432، 433، 434، 455، 457، 474، 476، 499، 530، 541، 619، 747، 748، 749، 750، 752، 754، 768، 783، 786، 832، 854، 977، 1080، 1081، 1143 السيد أحمد خليل: 407، 408، 410، 981 أحمد سعد العقاد: 376، 395، 397، 399، إلى 402، 404، إلى 407 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1195 أحمد شاكر: 977 أحمد شعبان: 1112، 1113 أحمد عبد السلام الكرداني: 606، 611 أحمد عبد الغفور عطار: 993 أحمد بن عبد الله بن موسى الكندي: 229 أحمد قرقوز: 605، 694، إلى 696 أحمد الكومي: 95، 96، 97، 98 أحمد محمد جمال: 590، 1066، 1069، 1120، 1134، 1139 أحمد محمد شاكر: 42، 73، 74، 87، 271 أحمد محمود سليمان: 614، 615، 617، 618، 619 أحمد محمود صبحي: 186 أحمد مصطفى المراغي: 495، 746، 748، 749، 753، 754، 759، 761، 763، 768، 771، 772، 784، 790، 796، 799، 802 أحمد بن المنير: 120. أبو الأحوص: 73 الأخفش: 422 إدريس عليه السلام: 761، 823، 853، 1153 أربد بن ربيعة: 682 إسحاق عليه السلام: 113، 968، 115 إسحاق بن راهويه: 36 أبو إسحاق السبيعي: 184 أسماء بنت أبي بكر الصديق: 456 إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام: 190 أبو إسماعيل الأنصاري: 169 إسماعيل بن جعفر: 187، 253، 254 إسماعيل بن عبد الرحمن السدي: 32، 247، 313، 434، 627 إسماعيل مظهر: 1062، 1115، 1116، 1117 الأسود بن عبد المطلب: 927 الأسود بن يزيد: 30 أسيد بن حضير: 845 الأسيوطي الفلكي: 611، 636، 637 الأشعث بن قيس: 296 أبو الإصبع المصري: 874 الأصفهاني "أبو مسلم محمد بن بحر": 36 أبو الأعلى المودودي: 112، 113، 114 الأعمش: 439 ابن الأقضم: 39 إلكيا الهراس: 42، 417 أبو أمامة الباهلي: 315، 424 امرؤ القيس: 423 أمين الخولي: 17، 547، 548، 550، 552، 553، 580، 582، 583، 584، 587، 881، 883، 885، إلى 903، 907، 909، 911، إلى 914، 916، إلى 918، 920، 922، إلى 923، 926، 945، 946، 960، 961،، 972، 978، 979، 980، 981، 982، 1060، 1061، 1170 الأمين داود محمد: 274 أمينة قطب: 994 أمية بن خلف: 770 أمية بن أبي الصلت: 872 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1196 أنس بن مالك: 107، 222، 489، 714، 750 أنطون سعادة: 204 أنور الجندي: 730 أنور السادات: 992 الأوزاعي: 166، 417، 444، 506 أوس بن الصامت: 91 إياس بن سلمة: 233 إياس بن معاوية: 634 "حرف الباء": ابن بابويه القمي: 197، 210، 211، 223، 224، 833 باقر شريف القرشي: 222 الباقلاني: 874 البخاري: 28، 31، 58، 59، 61، 66، 82، 83، 101، 106، 107، 108، 118، 169، 179، 185، 287، 300، 313، 346، 347، 351، 369، 370، 401، 422، 423، 432، 433، 434، 443، 452، 457، 498، 499، 501، 529، إلى 533، 540، 625، 747، 748، 749، 751، 752، 755، 757، 759، 767، 768، 871، 909، 977 أبو بردة رضي الله عنه: 307 برهان الدين البقاعي: 165، 410، 875 البستي: 39 بشار بن برد: 1033 البغوي: 102 أبو بكر الصديق: 28، 61، 75، 76، 90، 136، 145، 184، 185، 186، 215، 257، 275، 276، 294، 345، 431، 432، 498، 500، 534، 748، 770، 845 ابو بكر بن العربي: 42، 417، 439، 440، 478، 485، 535، 718، 1161 بكري العطار: 161 بلال بن رباح رضي الله عنه: 384، 386 البلخي "أبو القاسم عبد الله بن أحمد": 36 البيضاوي: 182، 305، 341، 350، 568 البيهقي: 63، 89، 90، 120، 166، 233، 315، 417، 423، 454، 558 "حرف التاء": الترمذي: 54، 63، 66، 90، 271، 313، 432، 433، 454، 457، 530، 532، 533، 558، 747، 748، 749، 754، 759، 1081، 1143 التفتازاني "سعد الدين": 370، 371، 373، 410 توفيق الحكيم: 1059 توفيق علي وهبة: 1120 ابن تيمية: 29، 30، 35، 36، 54، 55، 56، 62، 63، 67، 68، 69، 73، 74، 75، 77، 79، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1197 80، 81، 82، 84، 86، 88، 90، 91، 94، 114، 124، 136، 165، 166، 169، 170، 174، 175، 179، 185، 186، 235، 275، 474، 552، 558، 600، 709، 713، 755، 873، 1130 "حرف الثاء": أبو ثعلبة الخشني: 768 الثعلبي: 34، 501 الثلاثي "يوسف بن أحمد": 39 أبو ثور: 428 "حرف الجيم" جابر بن زيد: 282 جابر بن عبد الله: 424، 498، 499، 532، 714 جابر بن يزيد: 194، 227، الجاحظ: 870، 873، 874 "الجبائي" أبو علي: 36 جبير بن مطعم: 869 جرير بن مطعم: 869 جرير بن عبد الله البجلي: 66، 457 الجصاص: 34، 42، 417، 478، 1161 جعفر الخلدي: 360 أبو جعفر الدوانيقي: 215 جعفر بن محمد الصادق: 75، 189، 191، 194، 207، 209، 210، 213، 214، 218، 221، 223، 224، 225، 234، 251، 253، 254، 307، 454، 494، 505، 508، 833 أبو جعفر المدني: 127، 523 جمال البنا: 1076، 1077 جمال الدين الأفغاني: 717، 803، 849، 850 جمال الدين الأفغاني: 122، 161، 163، 165، 166، 169، 175، 179، 226، 409، 426، 427، 429، 430، 568، 708، 1135 جمال عبد الناصر: 987، 992، 993، 994، 995 الجنيد: 360 ابن الجوزي: 53، 165، 315، 418، 759 جون لوك: 231 الجوهري: 322، 966، 1150 الجويني: 311، 332 أبو جهل: 928 "حرف الحاء" ابن أبي حاتم: 168، 369، 753 الحازمي: 454 حافظ رمضان: 290 الحافظ القندوزي: 213 الحاكم: 106، 120، 271، 423، 619، 746، 754، 783، 840 ابن حبان: 313، 759 ابن حجر العسقلاني: 53، 714، 758، 759، 722، 847 الحجلي: 196 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1198 حذيفة بن اليمان: 468، 748، 832 الحر العاملي: 227، 234 ابن حزم: 71، 78، 165، 184، 185 حسان بن ثابت: 872 أبو الحسن الأشعري: 65، 169، 275، 277، 278 الحسن البصري: 30، 31، 32، 73، 117، 118، 233، 247، 313، 328، 422، 439، 442، 552، 634 حسن البنا: 204، 576، 592، 991 الحسن بن صالح بن حي: 275 الحسن العسكري: 38، 189، 195، 209، 215 الحسن بن علي: 77، 115، 187، 188، 207، 209، 214، 222، 225، 233، 234، 276، 312 الحسن بن محمد بو جمعة البعقيلي: 376 الحسن النحوي: 39 حسنين مخلوف: 98، 99، 100، 104، 107، 116، 117 حسين بن أحمد النجري: 39، 43 حسين الجسر: 803، 849 الحسين بن روح النوبختي: 210 حسين زكي: 269، 270، 272، 274 حسين صالح مسيبلي: 1072، 1073 الحسين بن علي: 77، 115، 186، 187، 189، 191، 207، 209، 222، 225، 234، 251، 276، 506 الحسين بن منصور الحلاج: 38 حسين النوري الطبرسي: 197، 198، 201 حسين هيكل: 810 حفص: 421 حفني شرف: 873، 875، 882 حمزة الزيات: 422، 438 حمزة سالم الصيرفي: 613 حميدة قطب: 994 حنفي أحمد: 571، 610 أبو حنيفة: 55، 165، 278، 327، 328، 329، 337، 335، 428، 441، 442، 452، 455، 474، 484، 515، 847 حواء: 267، 268، 269، 309، 316، 317، 381، 633، 831، 1122، 1136 الحويزي "عبده علي بن جمعة": 39 أبو حيان: 34، 320، 344، 495، 561، 562، 821، 822، 930، 947 "حرف الخاء": الخازن: 7018، 1071 خالد محمد خالد: 1062 الخرقي: 43 الخطابي: 454، 869، 870، 874 الخطيب البغدادي: 29 الخلال: 166 خلف بن هشام: 127، 523 ابن خلكان: 32 خليفة عبد السميع خليفة: 612 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1199 ابن خليفة عليوي: 603 الخميني: 192، 211، 212، 213، 218، 219، 492، 493 "حرف الدال": الدارقطني: 233 الدارمي: 54، 307، 457، 476 داروين: 830، 832، 834، 1122، 1123 داود عليه السلام: 475، 1083 أبو داود: 54، 85، 433، 542، 619، 748، 749، 752، 759، 768، 785، 854، 1080 أبو داود الظاهري: 417، 439 شمس الدين محمد "الداودي": 36، 37، 38، 440 الدجال: 77 أبو الدرداء: 369، 433، 552 "حرف الذال": أبو ذر: 313، 1154 ذو الرمة: 423 "حرف الراء": رابعة العدوية: 1109، 1110 الراغب الأصبهاني: 165، 707، 880، 895، 930، 981 الربيع بن حبيب: 299، 300 الربيع بن سبرة الجهني: 467 ربيعة بن عبد الرحمن: 68 ابن رجب: 53 رشاد خليفة: 613 ابن رشد: 499، 500، 502، 560، 821 "حرف الزاي": الزبير بن العوام رضي الله عنه: 297، 355، 431 الزجاج: 112، 422، 442 الزركشي: 89، 370، 557، 558، 718 الزركلي: 40، 163، 304، 305، 608، 609، 639 زكريا عليه السلام: 431، 510 الزمخشري "أبو القاسم محمود بن عمر": 37، 165، 174، 305، 729، 874، 875، 930، 941، 942، 943، 944، 947، 1070 زهير بن أبي سلمة: 423 زياد بن أبي زياد: 276 زيان بن العلاء "أبو عمرو": 422، 439 زيد بن أسلم: 30، 32 زيد بن ثابت: 1154 زيد بن علي بن الحسين: 39، 220، 275، 276 زينب بنت جحش: 1154، 115 زين الدين العراقي: 552، 732 زيور باشا: 1059، 1061 "حرف السين": سالم بن حمود بن شامس: 282، 289، 291، 293، 295، 296 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1200 الشافعي عبد الرحمن السيد: 436، 478، 479 الشبلي: 1109، 1110 شبلي شميل: 1117 الشحات السيد زغلول: 21 الشريف المرتضى: 37، 195، 197 شريك بن عبد الله: 185 الشعراني: 349 الشعبي: 489 شعيب عليه السلام: 105، 224 شلاير ماشر: 981، 982 شمس الدين الذهبي: 32، 169، 184، 185، 271، 759 شوقي ضيف: 588، 589 شهر آشوب: 220، 223 الشهرساني: 275، 277، 278 ابن أبي شيبة: 467، 768 شير محمد: 654 "حرف الصاد": صادق الحسيني الشيرازي: 212، 224، 225 صالح باجية: 282، 283، 290 صبحي الصالح: 589، 603 صبيغ بن عسل: 714 صدقي البيك: 613، 699 صفوان بن المعطل: 476 ابن الصلاح: 370، 373، 736، 925 صلاح عبد الفتاح دحبور: 987، 988، 992، 996، 997، 999، 1040، 1054 صهيب: 66، 168 "حرف الضاد": الضحاك: 345، 370، 455 "حرف الطاء": أبو طالب: 145 طالوت: 654 طاوس بن كيسان: 29 الطاهر الحداد: 1074، 1075 الطبراني: 73، 619 الطبرسي "الفضل بن الحسن الطبرسي": 39، 174، 195، 197، 237 الطبري "ابن جرير": 31، 32، 36، 42، 73، 74، 87، 102، 165، 168، 333، 408، 409، 417، 439، 495، 500، 539، 618، 621، 627، 744، 749، 760، 783، 814، 820، 821 الطحاوي: 56، 70، 81 طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه: 297، 355، 468 طنطاوي جوهري: 564، 565، 566، 589، 605، 607، 638، 642، 643، 648، 652، 653، 657، 658، 659، 661، 664، 667، 670، 672، 673، 675، 676، 698، 1115 الطوسي: 39، 197، 210 طه حسين: 959، 1060، 1061 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1202 "حرف العين": عائشة: 71، 215، 297، 323، 423، 432، 456، 476، 515، 532، 533، 748، 845، 1153 عائشة عبد الرحمن: 586، 587، 874، 882، 883، 901، 824، 926، 928، 930، 939، 941، 956، 1120 عاصم بن عدي: 91 عاصم بن أبي النجود: 421، 928 العاص بن وائل: 927، 928 أبو العالية الرياحي: 30، 32، 71، 441، 474، 484 عامر الشعبي: 30 عامر بن الطفيل: 682 عباس بن عبد المطلب: 83، 431 عباس محمود العقاد: 584، 585، 1106، 1110 عبد بن حميد: 36، 754 ابن عبد البر: 54، 169، 355، 440 عبد الجبار بن أحمد الهمداني: 36، 37، 874 عبد الحسين شرف الدين الموسوي: 221 عبد الحليم محمود: 358، 359، 361، 362، 363، 365، 396، 397 عبد الحميد بن باديس: 569، 570، 799، 802 عبد الحميد دياب: 605، 694، 696 عبد الرحمن تاج: 463 عبد الرحمن الدوسري: 94، 95 عبد الرحمن بن رستم: 40 عبد الرحمن بن زيد الزنيدي: 708 عبد الرحمن السعدي: 122، 148، 151، 152، 153، 155، 156، 157، 158، 160، 206، 424، 425، 429، 431 أبو عبد الرحمن السلمي: 41، 75، 370، 375 عبد الرحمن عارف: 994 عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ: 125، 150 عبد الرحمن بن عوف: 431 عبد الرحمن فراج: 1148 عبد الرحمن بن قاسم: 29، 77، 235، 755، 873، 1130 عبد الرحمن الكواكبي: 566 عبد الرحمن بن كيسان الأصم: 36 عبد الرحمن بنمجاهد:" 40 عبد الرحمن بن ملجم: 297 عبد الرحمن بن المهدي: 71 عبد الرزاق الصنعاني: 36، 233 عبد الرزاق البيطار: 162 عبد الرازق عفيفي: 470 عبد الرزاق نوفل: 572، 605، 612، 633، 634، 697، 701، 1110، 1111 عبد السلام عارف: 993 عبد السلام بن محمد القزويني: 37 عبد العزيز آل سعود: 124، 673 عبد العزيز إسماعيل باشا: 566، 567، 571، 572، 609، 620، 622 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1203 عبد العزيز جاويش: 725، 731، 740، 756 عبد العزيز بن خلف آل خلف: 574، 575، 1070، 1072 عبد العزيز بن عبد الله بن باز: 149 عبد العزيز فهمي باشا: 1061، 1067، 1069، 1070 عبد العظيم الزرقاني: 372، 373، 374، 386، 546، 602، 604 عبد الفتاح إسماعيل: 994 عبد الفتاح أبوغدة: 822 عبد القادر بن أحمد الدومي "ابن بدران": 714 عبد القادر الجيلاني: 169 عبد القادر عطا: 106 عبد القادر المغربي: 723، 733، 734، 749، 753، 761، 762، 771، 773، 775، 786، 802، 849، 854 عبد القادر ملا حويش آل غازي العاني: 100، 104، 105، 108 عبد القاهر البغدادي: 71، 76، 276، 277، 784 عبد القاهر الجرجاني: 874، 877 عبد الكريم الخطيب: 13، 521 عبد الكريم عثمان: 612 عبد الله بن اباض: 282، 284، 294 عبد الله بن أبي أوفى: 714 عبد الله الأهدل: 549، 550 عبد الله بن حارث بن جزء: 423 عبد الله بن حميد بن سلوم الأباضي: 283، 284، 286، 288، 299، 300 عبد الله الخباص: 996 عبد الله بن رواحة: 872 عبد الله بن الزبير: 504 عبد الله بن زيد بن عاصم: 424 عبد الله بن سبأ: 258 عبد الله بن سلام: 330 عبد الله شحاتة: 614 عبد الله بن عباس: 28، 29، 88، 90، 92، 93، 112، 113، 117، 118، 120، 179، 220، 222، 226، 247، 270، 309، 312، 313، 327، 332، 369، 407، 408، 424، 434، 439، 442، 443، 444، 454، 457، 466، 500، 504، 506، 416، 533، 539، 541، 542، 619، 627، 634، 714، 735، 736، 748، 757، 758، 759، 761، 871، 872، 928 عبد الله بن عمر: 111، 424، 504، 506، 529، 714، 768، 769 عبد الله بن عمر بن العاص: 29، 423 عبد الله بن فياض: 186 عبد الله كنون: 99، 100 عبد الله بن المبارك: 627 عبد الله بن محمد رضا العلوي: 39 عبد الله بن مسعود: 30، 71، 73، 88، 106، 247، 313، 327، 369، 458، 504، 531، 532، 541، 552، 558، 748، 783، 977 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1204 عبد الله بن مسكان: 206 عبد الله مصطفى المراغي: 741 عبد الله بن منيع: 362 عبد الله بن ميمون: 254 عبد الله بن وهب الراسبي: 291، 296 عبد اللطيف الكازراني: 38 عبد المتعال الجبري: 1119، 1142 عبد المتعال سيف النصر: 470 عبد المتعال الصعيدي: 741 عبد المجيد الزنراني: 629، 631 عبد المجيد عبد السلام المحتسب: 13، 550، 590، 591، 592 عبد الملك بن مروان: 215، 282، 294 عبد الملك بن جريج: 428، 627، 752، 758 عبد الواحد يحيى: 358 ابن أبي عبلة: 321، 324 عبيد بن عمير: 324 عبيد الله المهدي: 254 أبو عبيدة بن الجراح: 473 أبو عبيدة معمر بن المثنى: 873 أبو عبيدة معمر بن المثنى: 873 أبو عثمان الحداد: 71 عثمان بن عفان: 61، 75، 76، 184، 186، 215، 275، 276، 292، 294، 296، 297، 306، 345، 346، 347، 355، 424، 432، 452 عثمان بن عمر العمري الأسدي: 210 عثمان بن مظعون: 384، 386 عثمان بن محمد شطا البكري: 376 أبو عثمان النهدي: 714 عدلي باشا: 1060، 1061 عدنان زرزور: 987، 1039، 1040 عدي بن حاتم: 313، 529 ابن عرفة: 169 عروة بن الزبير: 113 العز بن عبد السلام: 165، 409، 725 ابن عساكر الدمشقي: 714 عسكر بن هوسر: 215 العشماوي أحمد سليمان: 996 ابن عطاء الله السكندري: 373 عطاء الخراساني: 627 عطاء بن أبي رباح: 29، 455، 515 عطية صقر: 802 عطية الغرناطي: 822 عطية محمد سالم: 123، 124، 125، 126، 234، 426 عطية النجراني: 39 عفت محمد الشرقاوي: 12، 563، 603، 878، 949، 950، 950، 952، 954، 981، 987، 988 عقبة بن عامر الجهني: 714، 747 عكرمة مولى ابن عباس: 29، 112، 113، 312، 627 علاء الدولة السمناني: 41 أبو العلاء المعري: 925 علقمة بن قيس: 30 علي بن إبراهيم القمي: 38، 206، 496 علي بن جعفر: 509 علي بن الحسين "زين العابدين": 189، 191، 208، 209، 223، 251، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1205 428، 441، 495 علي رفاعي محمد: 96، 97، 100، 111 علي بن زيد: 120 علي السيد صبح المدني: 426 علي شلبي: 470 علي بن أبي طالب: 61، 75، 76، 77، 82، 106، 109، 113، 115، 183، 184، 185، 187، 188، 191، 194، 198، 207، 208، 209، 214، 216، 218، 220، 222، 224، 225، 230، 233، 251، 275، 276، 277، 281، 291، 292، 295، 296، 297، 337، 345، 347، 350، 352، 355، 378، 379، 384، 385، 394، 424، 431، 442، 454، 457، 459، 467، 469، 495، 499، 500، 502، 504، 533، 551، 552، 561، 706، 748، 785، 854 علي عبد الرازق: 959، 1059، 1061 علي بن عبد الله بن عباس: 220 علي بن أبي العز: 56، 64، 79، 81، 715 علي بن عيسى "الرماني": 36، 874 علي فكري: 560، 607، 609 علي محمد حسب الله: 802 علي بن محمد السمري: 210 علي بن محمد "الهادي": 189، 209 علي بن موسى "الرضا": 189، 209، 224، 244 عمار بن ياسر: 242 عمران بن حصين: 754 عمران بن حطان: 191، 251 عمر بن الخطاب: 28، 61، 75، 76، 92، 136، 184، 185، 186، 215، 233، 247، 275، 276، 291، 292، 294، 345، 369، 407، 408، 431، 459، 467، 468، 469، 499، 500، 501، 502، 503، 504، 713، 714، 748، 773، 781، 869، 977، 1152 عمر الدسوقي: 254 عمر بن أبي ربيعة: 872 عمر بن عبد العزيز: 31، 356 عمر كحالة: 40، 163، 305 عمرو بن شعيب: 424 عمرو بن العاص: 191، 251، 290، 714 عمرو بن عبيد: 32 العياشي: 38، 194، 196، 215، 224، 227، 243 عياض: 70، 71، 440 عيسى بن مريم عليه السلام: 77، 261، 262، 264، 719، 807، 808، 814، 826، 1047، 1087، 1089 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1206 "حرف الغين": الغزالي: 165، 166، 226، 227، 371، 372، 373، 374، 410، 411، 456، 550، 553، 555، 557، 558، 647، 664، 732، 803 الغزالي خليل عيد: 115، 116، 430، 431 غيلان الدمشقي: 714 "حرف الفاء": الملك فاروق: 463، 799، 800، 801 فاطمة بنت محمد: 83، 113، 115، 214، 222، 225، 432، 777 أبو الفتوح الرازي الحسين: 38 الفخر الرازي: 34، 43، 104، 109، 165، 171، 229، 230، 485، 495، 501، 508، 555، 557، 560، 561، 623، 827، 874، 930، 932، 947، 1108، 1110 الفراء: 170، 873 فرعون: 113، 212، 213، 372، 734، 808، 968 الفريابي: 368، 407 الفضل بن العباس: 457، 476 أبو الفضل المرسي: 558 فؤاد سزكين: 40 فهد بن عبد الله بن محمد: 24 الفيروز بن عبد العزيز: 148 فيصل بن عبد العزيز المبارك: 101، 102، 103 "حرف القاف" ابن القاسم: 71 قاسم أمين: 849، 958، 1066 القاسم بن محمد: 443 أبو القاسم الموسوي الخوئي: 190، 196، 199، 200، 201، 206، 208، 209، 237، 504، 505، 506 قتادة بن دعامة السدوسي: 30، 32، 88، 233، 247، 427، 428، 634، 758 ابن قتيبة: 36، 874 ابن قدامة: 71، 355، 356، 425، 712، 738 القرطبي: 34، 42، 84، 165، 417، 425، 440، 441، 449، 478، 485، 536، 1161 القشيري: 357 ابن القيم: 124، 155، 165، 166، 175 ابن قيم الجوزية: 77، 588 "حرف الكاف" كامل علي سعفان: 878، 904، 905، 923، 926، 938 كامل كيلاني: 1062 الكتاني: 360، 821 ابن كثير "إسماعيل بن عمر": 36، 42، 93، 101، 103، 107، 109، 120، 139، 165، 172، 179، 182، 316، 425، 615، 627، 628، 631، 632، 634، 635 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1207 708، 744، 821، 1118 ابن كثير البصري: 325، 422، 439 كثير النوي: 275 ابن كرامة: 39 الكسائي: 422، 635 كعب الأحبا: 736، 744، 751، 752، 753، 755، 757، 758، 759، 760، 761، 762 كعب بن زهير: 525 كعب بن عجرة: 168 الكلبي: 36 كمال جودة أبو المعاطي: 436، 482، 483، 485 الكتاني أبو الحسن علي بن محمد بن عراق الكتاني: 169، 315 ابن كيسان: 332 "حرف اللام": لبيد بن ربيعة: 682 لوط عليه السلام 212 الليث: 417 لينين: 204 "حرف الميم": ابن ماجه: 54، 66، 287، 424، 425، 434، 467، 493، 517، 747، 752، 783 ماركس: 204 المازري: 440 مالك: 55، 68، 71، 80، 89، 100، 101، 133، 165، 327، 328، 329، 355، 441، 442، 444، 455، 467، 474، 484، 746، 841، 902، 1044 ابن مالك: 123، 423، 424، 1069 المأمون: 254 ماوتسي تونغ: 204، 205 المتنبي: 525 مجاهد بن جبر: 29، 31، 84، 88، 89، 112، 117، 247، 312، 313، 428، 442، 634، 872 المجلسي: 209، 215 محجوب بن ميلاد: 829 محسن الأمين: 200 المحسن الكاشي: 196 محمد إبراهيم شريف: 12، 675، 888، 896، 897، 900، 949، 950، 952، 954، 955، 975، 977، 978، 980، 981، 986 محمد بن إبراهيم الشيرازي: 231 محمد بن إبراهيم الوزير اليماني: 277 محمد بن أحمد الإسكندراني: 566، 605، 679، 681، 685، 688، 690 محمد أحمد خلف الله: 901، 956، 959، 960، 963، 966، 970، 974 محمد بن أحمد السفاريني: 821 محمد أحمد الشمالي: 1146 محمد أحمد العزب: 958 محمد أحمد الغمراوي: 570، 571، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1208 605، 611 محمد أحمد أبو فراخ: 698 محمد أسعد طلس: 849 محمد بن إسماعيل: 187 محمد إسماعيل إبراهيم: 547، 612، 626، 627 محمد أمان بن علي الجامي: 274 محمد الأمين الشنقيطي: 21، 122، 123، 127، 128، 129، 130، 131، 132، 134، 135، 136، 138، 139، 140، 146، 246، 421، 422، 424، 425، 428، 429، 431، 433، 434، 436، 490، 511، 512، 413، 520، 535، 543، 909، 1164 محمد جواد البلاغي: 238 محمد بهجت البيطار: 807 محمد البهي: 470 محمد توفيق بركات: 996 محد جواد مغنيه: 201، 203، 204، 209، 210، 218، 228، 229، 230، 231، 235، 236، 489، 490، 491، 494، 495، 511 محمد بن حسن الصيادي "أبو الهدى": 376 محمد بن الحسن العسكري "المهدي": 76، 189، 190، 191، 209، 210، 212، 213، 214، 215، 217، 223، 225، 791 محمد حسين الذهبي: 11، 32، 37، 38، 39، 40، 41، 78، 195، 227، 228، 235، 238، 265، 278، 279، 373، 463، 548، 549، 550، 552، 554، 582، 583، 602، 767، 1073، 1074، 1077 محمد بن الحسين السحري: 77 محمد حسين الطباطبائي: 193، 194، 195، 202، 203، 204، 206، 216، 218، 219، 220، 222، 223، 224، 226، 227، 236، 247، 250، 487، 489، 490، 495، 496، 497، 504، 506، 508، 509، 510، 511، 512 محمد بن الحسين ابن الغراء: 78 محمد بن الحسين بن القاسم: 40، 43 محمد الحسين آل كاشف الغطاء: 186، 188، 189، 191، 193، 200، 222، 234، 251 محمد حمد الحارثي: 281، 282 محمد حمزة: 95 محمد الخضر حسين: 1074، 1075، 1088، 1090، 1095 محمد الخضري: 296 محمد بن الخطيب: 376، 411، 412 محمد بن خلف بن المرزبان: 889 أبو عبد الله "محمد بن خليفة الوشتاني الأبي": 821 محمد دراز: 463، 575، 576، 868، 870 محمد رجب البيومي: 871، 872، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1209 873، 874، 875 محمد بن رسول الحسيني: 77 محمد رشاد سالم: 185 محمد رشدي حمادي: 102، 103، 110، 117، 120، 521، 535، 536، 537، 538، 542، 544، 1164 محمد رشيد رضا: 384، 567، 568، 717، 718، 720، 721، 723، 724، 727، 734، 735، 736، 737، 738، 745، 747، 748، 750، 751، 752، 753، 756، 757، 758، 760، 762، 766، 768، 769، 770، 771، 780، 781، 782، 883، 784، 786، 787، 888، 789، 790، 792، 796، 799، 800، 803، 806، 807، 808، 810، 811، 812، 813، 816، 818، 822، 824، 826، 828، 830، 834، 836، 837، 848، 876، 878، 879، 981، 892، 1076 محمد رضا المظفر: 188، 190، 191، 199، 204، 207، 208، 216، 218 محمد رضا النجفي: 227 محمد زاهد الكوثري: 759، 822 محمد أبو زهرة: 186، 277، 463 محمد أبو زيد: 521، 959، 1062، 1076، 1078، 1080، 1081، 1082، 1084، 1087، 1090، 1091، 1094، 1096، 1097، 1100، 1101 محمد زيدان: 470 محمد بن سحنون: 71 محمد بن سعد الدبل: 574 محمد سعدي المقدم: 611 محمد سيد كيلاني: 961، 1115، 1117 محمد بن سيرين: 55، 328 محمد شفيع: 821 محمد بن شهاب الدين الفتوحي: 707 أبو محمد الشيرازي: 41 محمد الصادقي: 214، 215، 217، 218، 222، 225، 232، 237، 492، 493، 521 محمد الصباغ: 548، 550 محمد صديق حسن القنوجي: 436، 437، 438، 440، 442، 444 محمد طنطاوي: 95، 96، 97، 98، 109، 110، 425 محمد عاشور: 106 محمد عبد الجواد: 639 محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان: 469 محمد بن عبد العزيز السديس: 446، 470 محمد عبد الغني البيطار: 376 محمد عبد الله الجزار: 97، 118، 119 محمد عبد المنعم خفاجى: 98، 116، 117 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1210 محمد بن عبد الوهاب: 124، 361، 610، 806 محمد عبده: 17، 375، 383، 588، 718، 720، 721، 723، 725، 728، 730، 731، 734، 738، 739، 741، 742، 744، 746، 748، 750، 751، 755، 764، 765، 767، 769، 770، 773، 774، 775، 780، 781، 784، 787، 788، 789، 793، 799، 800، 803، 804، 805، 806، 811، 813، 814، 822، 823، 830، 832، 836، 838، 842، 843، 844، 849، 850، 876، 878، 883، 892، 930، 941، 981 محمد بن عثمان بن عمر العمري الأسدي: 210 محمد العثمان القاضي: 96، 101، 103، 104، 106، 107، 108، 110، 111، 112 محمد عزة دروزة: 584 محمد بن علي الإدفوي: 889 محمد بن علي "الباقر" "أبو جعفر": 188، 191، 194، 196، 208، 209، 211، 224، 227، 235، 251، 275 محمد بن علي "الجواد": 189، 209 محمد علي السايس: 436، 462، 465، 469 محمد بن علي الشوكاني: 39، 278، 425، 443، 615، 618، 621، 622، 623، 626، 632، 635، 708، 748، 820، 821، 828، 841، 985 محمد علي الصابوني: 105، 106، 107، 436، 446، 448، 449، 453، 454، 457، 458، 461، 510 محمد علي قطب: 996 محمد عفيفي الشيخ: 613، 628 محمد بن عمر الواقدي: 38 محمد فريد وجدي: 567، 568، 732، 733، 781، 796، 799، 802، 830، 1058، 1059 محمد فؤاد عبد الباقي: 164، 872 محمد فهر شقفه: 360 محمد بن القاسم الأنباري: 889 محمد قطب: 994 محمد كامل حسين: 254، 564، 588 محمد بن كعب القرظي: 30، 309، 1071 محمد ماضي أبو العزائم: 376، 395 محمد المبارك عبد الله: 802 محمد متولي الشعراوي: 572، 603 محمد مجتهد اللكنوي: 198 محمد المجذوب: 125، 470، 1119 محمد محمد حسين: 658 محمد محمود حجازي: 725 محمد مرتضى الحسيني: 38 محمد مرتضى الزبيدي: 83، 183 محمد مصطفى المراغي: 566، 567، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1211 610، 717، 741، 745، 747، 772، 774، 799، 800، 801 محمد المكتوم: 253، 254 محمد نجيب: 922 محمد نووي الجاوي: 376 محمد المبارك: 987 محمد ناصر الدين الألباني: 63، 163، 732 الحاج محمد وصفي: 614، 620، 621 محمد بن يعقوب الكليني: 84، 208، 210 محمد بن يوسف أطفيش: 291، 293، 302، 303، 305، 306، 308، 335، 340، 341، 343، 344، 345، 347، 348، 350، 351، 352، 354، 514، 517 محمد يوسف موسى: 470 محمد يوسف هواش: 994 محمود أحمد مهدي: 574، 612، 635 محمود أبو رية: 959 محمود الرفاعي: 376 محمود شكري الألوسي: 169، 569، 610، 735، 754، 875، 1135 محمود شلتوت: 92، 463، 578، 580، 590، 720، 746، 756، 766، 773، 774، 796، 797، 799، 802، 812، 813 محمود أبو الفيض المنوفي: 573، 609 محمود القاسم: 624، 625 محمود محمد شاكر: 42، 88، 495 محمود محمد طه: 257، 262، 263، 266، 267، 269، 274، 1120 محمود مهدي الإستانبولي: 612 محيي الدين بن عربي: 41، 366، 367، 373، 375 المختار بن عوف "أبو حمزة": 297 المرادي: 39 ابن المرتضى اليماني: 166 ابن مردويه: 111، 222، 313 مروان بن الحكم: 191، 251 مريم عليها السلام: 815، 817، 818، 1087، 1088 مريم جميلة: 1411 مسروق: 30 مسلم: 55، 58، 59، 63، 66، 82، 106، 169، 184، 185، 233، 287، 300، 307، 313، 314، 323، 333، 351، 401، 422، 423، 431، 432، 435، 440، 443، 457، 476، 498، 499، 500، 529، 530، 532، 540، 625، 713، 748، 750، 751، 752، 755، 759، 768، 785، 854، 1080 مسلم بن خالد: 428 مسيلمة بن خالد: 118 مصطفى إسماعيل الرج: 1120 مصطفى زيد: 114، 115 مصطفى صادق الرافعي: 563، 569 مصطفى صبري: 822، 826، 961، 1060 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1212 مصطفى غالب: 187 مصطفى محمد الحديدي الطير: 12، 657، 658، 1112، 1120، 1148، 1149، 1152 مصطفى محمود: 585، 1062، 1117، 1121، 1124، 1126، 1129، 1130، 1137، 1139، 1140، 1142 مصطفى مسلم محمد: 5، 23، 604 مصعب بن عمير: 869 مطعم بن جبير: 452 ابن المطهر الحلي: 114، 211 معاذ بن جبل: 84، 116، 117، 747، 766 معاوية بن أبي سفيان: 186، 215، 281، 290، 295، 296، 297، 424 معاوية بن قرة: 106 معبد بن خالد الجهني: 714 المعتمد: 209 معيقيب: 424 المغيرة بن شعبة: 295 المفيد: 183، 184، 276 مقاتل بن بكير: 36 مقاتل بن سليمان: 39، 43 المقداد بن معد يكرب: 424الملا فتح الله كاشاني: 234 ملا محسن الكاشي: 38 مناع القطان: 5، 436، 470، 472، 477 ابن المنذر: 355، 425، 440 منصور حسب النبي: 605، 691، 693 ابن منظور: 1140، 1150 منيع عبد الحليم محمود: 396 موسى عليه السلام: 65، 94، 113، 146، 168، 170، 317، 318، 333، 334، 335، 336، 386، 468، 656، 719، 734، 757، 763، 764، 807، 808، 811، 812، 824، 831، 969، 1019، 1020، 1021، 1047، 1085، 1086، 1087، 1088، 1126، 1135 أبو موسى الأشعري: 168، 290، 714، 840 موسى بن جعفر "الكاظم": 187، 189، 209، 253، 509 موسى شاهين لاشين: 548 المهدي: 77، 78 مهدي فضل الله: 996 ميرزا حسن علي: 1135، 1138 ميرزا سلطان أحمد الدهلوي: 198 ميمون القداح: 254 "حرف النون": النابغة: 423 ناصر القفاري: 185 نافع بن عبد الرحمن "أبو رويم": 421، 439 نافع بن الأزرق: 871، 872، 925 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1213 نجدة بن عويمر: 871 نجم داية: 41 ابن النديم: 37، 38، 40 النسائي: 90، 333، 428، 476، 540، 542، 732، 752، 754، 759 النسفي: 182، 370 نصر بن إبراهيم المقدسي: 502، 504 النعمان بن حيون: 255 نعمان خير الدين الألوسي: 610 نعمة الله الجزائري: 197، 200 نعمت صدقي: 612 نفيسة قطب: 994 النوبختي: 208 نوح عليه السلام: 761، 762، 763، 853، 907، 919، 1034، 1038، 1046، 1126 النيسابوري: 375 "حرف الواو": الواحدي: 34، 370 واصل بن عطاء: 276 وكيع: 36 الوليد بن المغيرة: 927، 928، 985 ولي الدين الملوي: 718، 724 ولي الله الدهلوي: 169 وهب بن منبه: 751، 757، 758، 760 "حرف الهاء": هارون عليه السلام: 146، 386 هاشم البحراني: 38، 196 هامان: 312، 313 أبو هريرة: 31، 65، 82، 101، 108، 191، 251، 423، 432، 468، 540، 552، 625، 732، 751، 752، 757، 758، 759، 768، 1154 ابن هشام: 304، 319، 877، 994 هلال بن أمية: 91 همام بن منبه: 31، 851 هود بن محكم الهواري: 40، 301 الهيثمي: 106 "حرف الياء": ياقوت الحموي: 873 يحيى بن حمزة العلوي: 875 ابن يزيد: 39 يعقوب البصري: 127، 421، 523 يعقوب يوسف: 613، 628، 631 أبو يعلى الطبراني: 106 يوسف بن إبراهيم الورجلاني: 40 يوسف بن أحمد الزيدي: 278 يوسف العش: 29 يوسف العظم: 996 يوسف القرضاوي: 463 يوسف مروة: 611، 631، 632 يوسف النبهاني: 376، 610 يونس عليه السلام: 733 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1214 دليل المصادر والمراجع 1: 1- الأباضية بالجريد: صالح باجية، الطبعة الولى 1396، دار بوسلامة تونس. 2- الإبانة عن أصول الديانة: أبي الحسن الأشعري، تحقيق د/ فوقية حسين محمود، دار الأنصار، الطبعة الأولى 1397هـ، القاهرة. 3- أبو الهول قال لي: حافظ رمضان. 4- اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: دكتور محمد إبراهيم الشريف، الطبعة الأولى 1402، دار التراث، القاهرة. 5- اتجاهات التفسير في العصر الراهن: دكتور/ عبد المجيد المحتسب، الطبعة الثانية 1400، مكتبة النهضة الإسلامية عمان، الأردن. 6- اتجاهات التفسير في مصر في العصر الحديث: دكتور عفت الشرقاوي: جامعة عين شمس 1972م. 7- الاتجاهات الفكرية في التفسير: د/ الشحات زغلول، الطبعة الثانية 1397، الهيئة المصرية العامة للكتاب. 8- اتجاه التفسير في العصر الحديث منذ عهد الإمام محمد عبده إلى مشروع التفسير الوسيط: مصطفى محمد الحديدي الطير، العدد 80، سلسلة البحوث الإسلامية 1395، مجمع البحوث الإسلامية. 9- الإتقان في علوم القرآن: جلال الدين السيوطي، الطبعة الثالثة 1370، مصطفى الحلبي بمصر. 10- إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء: محمد الخضري بك، الطبعة التاسعة 1383، المكتبة التجارية الكبرى بمصر. 11- إحياء علوم الدين: أبي حامد محمد بن محمد الغزالي: مصطفى الحلبي بمصر 1358.   1 لم أذكر منها إلا ما نقلت منه نصا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1215 12- إخوان الصفاء: عمر الدسوقي: دار نهضة مصر، القاهرة الطبعة الثالثة. 13- الأدب العربي المعاصر في سوريا: سامي الكيالي، 15 سلسلة، مكتبة الدراسات الأدبية، دار المعارف بمصر 1968. 14- الإسلام دين الفطرة والحرية: عبد العزيز جاويش، دار المعارف بمصر 1968م. 15- الإسلام دين الهداية والإصلاح: محمد فريد وجدي، مكتبة الكليات الأزهرية 1389هـ. 16- الإسلام رسالة خاتمة لا رسالتان: إعداد وزارة الشئون الدينية والأوقاف في السودان 1398. 17- الإسلام عقيدة وشريعة: محمود شلتوت، دار الشروق، القاهرة، بيروت. 18- الإسلام في عصر العلم: محمد أحمد الغمراوي، دار الكتب الحديثة 1978م. 19- الإسلام والطب الحديث: عبد العزيز إسماعيل، الطبعة الثانية 1959م، الشركة العربية للطباعة والنشر، القاهرة. 20- الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية: الشيخ محمد عبده، الطبعة السابعة، دار المنار 1367. 21- الأصلان العظيمان؛ الكتاب والسنة: جمال البنا، 1982م، مطبعة حسان القاهرة. 22- أصل الشيعة وأصولها: محمد حسين آل كاشف الغطاء، مؤسسة الأعلمي بيروت، الطبعة الثالثة 1397. 23- الأصول من الكافي: محمد بن يعقوب الكليني، دار الكتب الإسلامية، طهران 1388. 24- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي 1378، دار الأصفهاني، جدة. 25- أطواق الذهب في المواعظ والخطب: جار الله الزمخشري، مطبعة جمعية الفنون، بيروت 1293. 26- الإعجاز البياني للقرآن: الدكتورة عائشة عبد الرحمن، دار المعارف بمصر، 1971. 27- الإعجاز الطبي في القرآن: الدكتور السيد الجميلي، دار التراث العربي 1400، القاهرة. 28- الإعجاز العددي للقرآن الكريم: عبد الرزاق نوفل، الطبعة الثالثة 1975، مطبوعات الشعب. 29- إعجاز القرآن والبلاغة النبوية: مصطفى صادق الرافعي، الطبعة الثامنة 1389، المكتبة التجارية الكبرى بمصر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1216 30- إعجاز القرآن البياني بين النظرية والتطبيق: الدكتور حفني محمد شرف، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر 1390، الكتاب الرابع. 31- الأعلام: خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت الطبعة الرابعة 1979م. 32- الإكليل في استنباط التنزيل: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي دهلي المطبع الفاروقي 1296 على هامش تفسير "جامع البيان في تفسير القرآن" للأيجي الصفوي. 33- إكمال الدين وإتمام النعمة في إثبات الرجعة: محمد بن علي بن بابويه القمي، المطبعة الجلدية، النجف 1389. 34- إكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم: أبي عبد الله محمد بن خلفة الوشتاني الأبي، الطبعة الأولى 1327، مطبعة السعادة بمصر. 35- الإمام زيد: محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، بيروت. 36- الإنتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء: أبو عمر يوسف بن عبد البر، دار الكتب العلمية بيروت. 37- الأنوار النعمانية: نعمة الله الموسوي الجزائري، طبعة إيران. 38- أوائل المقالات في المذاهب المختارات: أبي عبد الله محمد بن النعمان العكبري الملقب بـ "المفيد" الطبعة الثالثة 1393، المطبعة الحيدرية، النجف. 39- بحار الأنوار: محمد باقر المجلسي، دار الكتب الإسلامية، طهران 1387. 40- البحر المحيط: أبي حيان الأندلسي، دار الفكر بيروت، الطبعة الثانية 1398. 41- براهين: محمود القاسم، دار الهجرة بيروت، دمشق، الطبعة الأولى 1397. 42- البرهان في تفسير القرآن: هاشم سليمان البحراني، طهران 1375 43- البرهان في علوم القرآن: الإمام بدر الدين محمد بنعبد الله الزركشي، الطبعة الثالثة 1400، دار الفكر بيروت. 44- البرهان من القرآن: محمود أحمد مهدي، منشورات حمد، بيروت. 45- بشائر الرضوان في تفسير القرآن: علي رفاعي محمد، مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده. 46- بلاغة القرآن: محمد الخضر حسين، 1391 الناشر علي الرضا التونسي دمشق. 47- بيان إعجاز القرآن: لأبي سليمان الخطابي، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، دار المعارف بمصر. 48- بيان السعادة في مقامات العبادة: سلطان محمد بن حيدر محمد بن سلطان محمد الجنابذي الخراساني، 1314 طهران. 49- البيان في تفسير القرآن: أبو القاسم الخوئي، دار الزهراء، بيروت الطبعة الرابعة 1395. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1217 50- بيان المعاني: السيد عبد القادر ملا حويش آل غازي العاني، 1382، مطبعة الترقي. 51- البيان والتبيين: الجاحظ، تحقيق فوزي عطوي، مكتبة الطلاب شركة الكتاب اللبناني، بيروت 1968م. 52- بين الدين والعلم: عبد الرزاق نوفل، القاهرة، مكتبة وهبة، الطبعة الأولى. 53- تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده: محمد رشيد رضا، الطبعة الأولى مطبعة المنار بمصر 1350. 54- تاريخ الإمامية وأسلافهم من الشيعة: عبد الله فياض، مؤسسة الأعلمي، بيروت الطبعة الثانية 1395. 55- تاريخ التراث العربي: فؤاد سزكين، ترجمة محمود فهمي حجازي، جامعة الإمام محمد بنسعود الإسلامية 1403 56- تاريخ المذاهب الإسلامية: محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي. 57- تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري: ابن عساكر الدمشقي. 58- تحرير الوسيلة: الخميني. 59- تذكرة الحفاظ: أبو عبد الله شمس الدين الذهبي، مجلس إدارة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن الهند 1375، الطبعة الثالثة. 60- التصوف بين الحق والخلق: محمد فهر شقفة، 1965م مكتبة دار الدعوة حمادة - سوريا. 62- التصوير الفني في القرآن: سيد قطب، دار الشروق، بيروت القاهرة. 63- تطوير شريعة الأحوال اللشخصية: محمود محمد طه، الطبعة الثاثلة 1399. 64- تفسير آيات الأحكام: طبعة بدون ذكر اسم المؤلف، في مطبعة حجازي بالقاهرة، سنة 1356 وطبعة محمد علي صبيح وأولاده، بمصر سنة 1373، أشرف على تنقيحها وتصحيها الشيخ محمد علي السايس. 65- تفسير آيات الأحكام: الشيخ مناع القطان، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى 1384، دمشق، بيروت. 66- تفسير أسرار القرآن: عبد العزيز جاويش، مطبعة الهداية بالأستانة سنة 1331. 67- تفسير ابن باديس في مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير: عبد الحميد بن باديس، دار الفكر، الطبعة الثانية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1218 68- التفسير البياني للقرآن الكريم: الدكتورة عائشة عبد الرحمن، دار المعارف، بمصر، الطبعة الثالثة 1968 والجزء الثاني الطبعة الثانية 1973. 69- تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي، دار ومطابع الشعب مصورة من طبعة المطبعة الأميرية سنة 1366. 70- تفسير جزء عم: الشيخ محمد عبده، مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح 1387. 71- التفسير الحديث: محمد عزة دروزة، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة 1381. 72- تفسير الخازن "لباب التأويل في معاني التنزيل": علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي المعروف بالخازن، دار الفكر، بيروت. 73- تفسير أبي السعود "إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم": أبي السعود محمد بن محمد العمادي، دار المصحف، القاهرة. 74- تفسير سورة الأحزاب: أبو الأعلى المودودي تعريب أحمد إدريس المختار الإسلامي، القاهرة الطبعة الأولى 1400. 75- تفسر سورة الأحزاب: الغزالي خليل عيد، مؤسسة المد الله للطباعة، والنشر والتوزيع. الرياض 1402. 76- تفسير سورة الأنعام: الدكتور أحمد الكومي والدكتور محمد طنطاوي 1396، مطبعة السعادة. 78- تفسير سورة الأنفال: الغزالي خليل عيد، مكتبة المعارف، الرياض سنة 1401. 79- تفسير سورة التوبة: الدكتور محمد طنطاوي 1399، مطبعة السعادة. 80- تفسير سورة العصر: محمد عبده، مطبعة المنار بمصر سنة 1345. 81- تفسير سورة المائدة: الدكتور محمد طنطاوي، 1399، مطبعة السعادة بمصر. 82- تفسير سور المفصل من القرآن الكريم: عبد الله كنون، دار الثقافة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1401. 83- التفسير العلمي للآيات الكونية في القرآن: تأليف حنفي أحمد، دار المعارف بمصر، الطبعة الثالثة 1980. 84- التفسير العلمي للقرآن الكريم: دراسة وتقويم بحث لنيل درجة الماجستير أعده الشيخ عبد الله بن عبد الله الأهدل، إشراف الدكتور محمد أحمد أبو فراخ، 1402. 85- تفسير العياشي: محمد بن مسعود العياشي، تحقيق هاشم المحلاتي، المطبعة العلمية، قم، إيران. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1219 86- تفسير الفاتحة وست سور من خواتيم القرآن: رشيد رضا، الطبعة الثانية، دار المنار بمصر 1367. 87- تفسير القرآن الحكيم: محمد عبد المنعم خفاجى، الطبعة الأولى 1959م، القاهرة. 88- التفسير الكاشف: محمد جواد مغنية، دار العلم للملايين، بيروت الطبعة الثانية 1978م. 89- التفسير الكبير: الفخر الرازي، الطبعة الأولى، الناشر عبد الرحمن محمد. القاهرة. 90- تفسير ابن كثير: مكتبة النهضة الحديثة بمصر، الطبعة الأولى 1384. 91- التفسير المبين: محمد جواد مغنية، دار التعارف للمطبوعات، بيروت 1398. 92- تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي، الطبعة الثالثة 1394، مكتبة مصطفى الحلبي بمصر. 93- التفسير معالم حياته -منهجه اليوم: أمين الخولي. جماعة الكتاب 1944م، وطبعة دار الكتاب اللبناني الأولى 1982م. 94- تفسير المنار: محمد رشيد رضا، الطبعة الرابعة، دار المنار مصر سنة 1373. 95- تفسير منهج صادقين "فارسي": الملا فتح الله الكاشاني، إيران. 96- التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي، دار الكتب الحديثة الطبعة الأولى 1381. 97- تقويم دار العلوم، "العدد الماسي": محمد عبد الجواد، دار المعارف بمصر. 98- تقييد العلم: الخطيب البغدادي، الطبعة الثانية، تحقيق يوسف العش، دار إحياء السنة النبوية، بيروت 1395. 99- تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة: أبي الحسن علي بن محمد بن عراق الكناني، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف وعبد الله محمد الصديق، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1399. 100- توفيق الرحمن في دروس القرآن: الشيخ فيصل بن عبد العزيز المبارك، الطبعة الأولى، المكتبة الأهلية، الرياض. 101- تهذيب تاريخ ابن عساكر: عبد القادر بن أحمد الدومي المعروف بـ "ابن بدران"، المكتبة العربية بدمشق، الطبعة الأولى. 102- تهذيب التهذيب: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني: دار الفكر، بيروت مصورة عن الطبعة الأولى بمطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية بالهند 1325. 103- تيسير التفسير للقرآن الكريم: محمد بن يوسف أطفيش، وزارة التراث القومي والثقافة، سلطنة عمان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1220 104- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: عبد الرحمن بن ناصر السعدي، المؤسسة السعيدية، الرياض. 105- جامع البيان عن تأويل آي القرآن: لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق وتخريج محمود وأحمد شاكر، دار المعارف بمصر. 106- الجامع الصحيح: لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 107- الجامع الصحيح: مسند الربيع بن حبيب، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة. 108- الجواهر في تفسير القرآن الكريم: طنطاوي جوهري، انتشارات آفتاب تهران. 109- جواهر القرآن: أبي حامد الغزالي، مكتب الجندي، مصر. 110- جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام: عبد الله بن حميد بن سلوم السالمي، طبع في مصر الطبعة الثانية 1971م. 111- الحب: لابن الخطيب، المطبعة المصرية ومكتبتها. 112- الحركات الباطنية في الإسلام: مصطفى غالب "إسماعيلي معاصر" دار الكاتب العربي. 113- الحقيقة والمجاز في تاريخ الأباضية باليمن والحجاز: سالم بن حمود بن شامس السيابي. وزارة التراث القومي والثقافة. سلطنة عمان 1400. 114- الحكومة الإسلامية: تأليف من سمى نفسه السيد روح الله الخميني، الطبعة الرابعة. 115- حوار مع المالكي في رد منكراته وضلالاته: عبد الله بن منيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإتاء والدعوة والإرشاد، الرياض 1403. 116- حياة الإمام الحسن بن علي: باقر شريف القرشي، مطبعة الآداب، النجف. الطبعة الثانية 1390. 117- خصائص التصور الإسلامي ومقوماته: سيد قطب، دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الثانية 1965. 118- خطوات التفسير البياني للقرآن الكريم: الدكتور محمد رجب البيومي، مجمع البحوث الإسلامية، الكتاب الثاني والأربعون، شوال 1391. 119- دراسات الأحكام والنسخ في القرآن الكريم: محمد حمزة، دار قتيبة، الطبعة الأولى. 120- دراسات في تفسير بعض آيات الأحكام: كمال جودة أبو المعاطي، جامعة الأزهر، كلية الشريعة والقانون 1400. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1221 121- دراسات في القرآن: السيد أحمد خليل، دار المعارف بمصر 1972، وطبعة دار النهضة العربية بمصر 1969. 122- الدراسات القرآنية المعاصرة، بحث قدم لنيل الشهادة العالية من كلية الشريعة بالرياض إعداد الطالب: محمد بن عبد العزيز السديس إشراف الشيخ مناع القطان. 123- دراسة أدبية النصوص من القرآن: محمد المبارك، دار الفكر، الطبعة الرابعة 1392 بيروت. 124- دراسة حول النور من كتاب الله: أحمد شعبان محمد ومعه التقرير الذي كتبه الشيخ مصطفى محمد الحديدي الطير؛ ردًّا على هذه الدراسة وبناء عليه منع من النشر، والدراسة مسحوبة بالاستنسل. 125- الدر المنثور في التفسير بالمأثور: جلال الدين السيوطي، الناشر محمد أمين دمج، بيروت مؤسسة الرسالة. 126- الدروس الدينية عام 1356: محمد مصطفى المراغي مطبعة الأزهر. 127- الدروس الدينية لسنة 1357: محمد مصطفى المراغي، مطبعة الأزهر 1939م. 128- دعائم الإسلام: النعمان بن حيون التميمي المغربي، تحقيق آصف بن علي أصغر فيضي، الطبعة الثالثة. دار المعارف بمصر 1389. 129- دليل المستفيد على كل مستحدث جديد: الشيخ عبد العزيز بن خلف بن عبد الله الخلف. المطبعة العصرية. دمشق 1383. 130- الدين والتنمية الاجتماعية: محمود محمد طه، دار الطابع العربي الخرطوم، الطبعة الأولى 1394. 131- الذخيرة في تفسير أجزاء قرآنية: الشيخ محمد عبد الله الجزار، مطبعة أحمد مخيمر، القاهرة. 132- الذكر الحكيم: محمد كامل حسين، النهضة المصرية، القاهرة 1971م. 133- ذيل الملل والنحل: محمد سيد كيلاني ضمن كتاب الملل والنحل، للشهرستاني، الناشر مصطفى الحلبي، بمصر 1387. 134- رسالة تحريم نكاح المتعة: لأبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي، دار طيبة للنشر والتوزيع. الرياض. 135- رسالة التوحيد: الشيخ محمد عبده، تصحيح محمد رشيد رضا، الطبعة الحادية عشرة 1365 دار المنار بمصر، وأيضا الطبعة الأولى بالمطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر المحمية 1315. 136- رسالة الصلاة: محمود طه، الطبعة السابعة 1399. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1222 137- رسالة في العقل والروح: ضمن مجموعة الرسائل المنيرية الناشر، محمد أمين دمج، بيروت سنة 1970م. 138- الرسالة القشيرية: لأبي القاسم عبد الكريم القشيري، تحقيق د/ عبد الحليم محمود، ومحمود بن الشريف دار الكتب الحديثة، القاهرة. 139- روائع البيان تفسير آيات الأحكام: محمد علي الصابوني، مكتبة الغزالي دمشق، الطبعة الثانية 1397. 140- روح المعاني في تفسر القرآن العظيم والسبع المثاني: لأبي الفضل شهاب الدين محمود الألوسي، دار الفكر بيروت 1398، وطبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت عن طبعة إدارة الطباعة المنيرية، القاهرة. 141- الروحية الحديثة دعوة هدامة: الدكتور محمد محمد حسين، دار الإرشاد بيروت الطبعة الثانية 1388. 142- الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم: محمد بن الوزير اليماني إدارة الطباعة المنيرية. 143- روضة الناظر وجنة المناظر: ابن قدامة المقدسي 1389، مطابع الجزيرة، الرياض. 144- سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة: تخريج محمد ناصر الدين الألباني المكتب الإسلامي بيروت دمشق الطبعة الرابعة 1398. 145- سنن الدارمي: دار الفكر، القاهرة 1398. 146- سنن أبي داود: تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار إحياء السنة النبوية. 147- السنن الكبرى: أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، مجلس دائرة المعارف النظامية في الهند، الطبعة الأولى 1344. 148- سنن ابن ماجه: الطبعة الثانية، دار الفكر، بيروت. 149- سنن النسائي بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي وحاشية الإمام السندي: دار الفكر، بيروت 1398. 150- سورة الأحزاب: عرض وتفسير الدكتور مصطفى زيد، الطبعة الأولى 1389، دار الفكر العربي، القاهرة. 151- سورة الرحمن وسور قصار: الدكتور شوقي ضيف، دار المعارف بمصر 1971م. 152- سيد قطب الشهيد الحي: صلاح الخالدي، مكتبة القصى، عمان الأردن الطبعة الأولى 1401. 153- السيرة النبوية: ابن هشام تحقيق السقا، الأبياري، شلبي مطبعة مصطفى الحلبي بمصر 1355. 154- شرح العقائد النسفية: سعد الدين التفتازاني، مطبعة مصطفى الحلبي، القاهرة 1321. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1223 155- شرح العقيدة الطحاوية: صدر الدين علي بن علي بن محمد بن أبي العز، تحقيق أحمد محمد شاكر، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض وطبعة المكتب الإسلامي، بيروت الطبعة الرابعة 1391 بتحقيق جماعة من العلماء. 156- شرح الكافية الشافية: جمال الدين أبي عبد الله محمد بن مالك، تحقيق الدكتور عبد المنعم هريدي، الناشر مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، جامعة أم القرى مكة المكرمة، الطبعة الأولى 1402. 157- شرح الكوكب المنير: أبي البقاء محمد شهاب الدين الفتوحي، تحقيق محمد حامد الفقي، طبع لأول مرة 1372، مطبعة السنة المحمدية القاهرة. 158- شطحات مصطفى محمود في تفسيراته العصرية: عبد المتعال الجبري، دار الاعتصام 1976م. 159- الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم: القاضي عياض بن موسى اليحصبي. الطبعة الأخيرة 1369، مصطفى البابي الحلبي بمصر. 160- الشهيد سيد قطب: جماعة أصداق الشهيد سيد قطب. 161- الشيعة بين الحقائق والأوهام: السيد محسن الأمين، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت الطبعة الثالثة 1397. 162- الشيعة في الميزان: محمد جواد مغنية. دار الشروق، بيروت القاهرة. 163- الشيعة والرجعة: محمد رضا النجفي، مطبعة الآداب، النجف 1385. 164- الصافي في تفسير القرآن: الفيض الكاشاني، منشورات المكتبة الإسلامية طهران 1393، تصحيح أبو الحسن الشعراني. 165- الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية: إسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، الطبعة الثانية 1402. 166- صحيح البخاري: المكتبة الإسلامية. استانبول، تركيا 1979م. 167- صحيح مسلم: تحقيق وتصحيح وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي راسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الرياض 1400. 168- صفوة الآثار والمفاهيم من تفسير القرآن العظيم: الشيخ عبد الرحمن الدوسري، الطبعة الأولى 1401، مكتبة دار الأرقم، الكويت. 169- صفوة البيان لمعاني القرآن: الشيخ حسنين محمد مخلوف، دار الفكر. 170- صفوة التفاسير: محمد علي الصابوني، دار القرآن الكريم، بيروت الطبعة الأولى 1400. 171- الصلة بين التصوف والتشيع: مصطفى كامل الشيبي، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية 1969م. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1224 172- ضحى الإسلام: أحمد أمين، الطبعة العاشرة، دار الكتاب العربي، بيروت. 173- ضياء الأكوان في تفسير القرآن: أحمد سعد العقاد، الطبعة الأولى 1391. 174- طائفة الإسماعيلية: محمد كامل حسين. مطبعة لجنة التأليف، القاهرة الطبعة الأولى 1959م. 175- طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد: عبد الرحمن الكواكبي، المطبعة العصرية، حلب. 176- الطبقات الكبرى: أبو عبد الله محمد بن سعد. مطبعة بريل 1332 ليدن، وطبعة دار صادر بيروت 1388. 177- طبقات المفسرين: شمس الدين محمد بن علي الداودي، تحقيق علي محمد عمر، مكتبة وهبة الطبعة الأولى. 178- طبقات المفسرين: جلال الدين السيوطي، تحقيق علي محمد عمر، مكتبة وهبة، القاهرة الطبعة الأولى 1396. 179- طريق الدعوة إلى الإسلام: محمد أمان بن علي الجامي المكتب الإسلامي، بيروت دمشق الطبعة الثانية 1399. 180- طلقات المعهد الرياضي في حلقات المذهب الأباضي: سالم بن حمود بن شامس السيابي، وزارة التراث القومي والثقافة، سلطنة عمان 1400. 181- عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر، دار الغدير، بيروت 1393. 182- العقل مجالاته وآثاره في ضوء الإسلام: رسالة لنيل درجة الماجستير أعدها الشيخ عبد الرحمن بن زيد الزنيدي إشراف الدكتور محمد السيد الوكيل 1403 كلية الشريعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، مسحوبة بالاستنسل. 183- علماء ومفكرون عرفْتُهم: محمد المجذوب، دار النفائس، بيروت الطبعة الأولى 1397، الجزء الأول. 184- علوم الحديث: لابن الصلاح، تحقيق نور الدين عتر، المكتبة العلمية المدينة المنورة 1386. 185- العلوم الطبيعية في القرآن: يوسف مروة، ومكتبة الهلال بيروت، الطبعة الأولى 1387. 186- علوم القرآن: الدكتور عدنان زرزور، المكتب الإسلامي بيروت، دمشق الطبعة الأولى 1401. 187- على أطلال المذهب المادي: محمد فريد وجدي، الطبعة الثانية مطبعة دائرة معارف القرن العشرين بمصر 1931م. 188- على مائدة القرآن مع المفسرين والكتاب: أحمد محمد جمال، الطبعة الثانية 1394، دار الفكر بيروت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1225 189- الغيبة: أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي مطبعة النعمان، النجف، الطبعة الثانية 1385. 190- فاتحة الكتاب: الشيخ محمد عبده، الطبعة الثانية، القاهرة 1382، "1" كتاب التحرير. 191- فتاوي ابن الصلاح. 192- فتح الباري بشرح صحيح البخاري: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تصحيح عبد العزيز بن باز ترقيم محمد عبد الباقي، دار الفكر، تصوير عن الطبعة السلفية. 193- فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير: محمد بن علي الشوكاني، مصطفى البابي الحلبي بمصر، الطبعة الثانية 1383. 194- الفتح المبين في طبقات الأصوليين: عبد الله مصطفى المراغي، الناشر محمد أمين دمج، بيروت الطبعة الثانية 1394. 195- الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة: الدكتور محمد الصادقي، دار التراث الإسلامي بيروت 1395. 196- الفرق بين الفرق: عبد القاهر البغدادي، دار الآفاق الجديدة، بيروت الطبعة الثانية 1977م. 197- فرق الشيعة: الحسن بن موسى النوبختي تصحيح هـ. ريتر، مطبعة الدولة، استانبول 1931م. 198- فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب: حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي، مخطوطة المجمع العراقي. 199- الفصل في الملل والأهواء والنحل: أبي محمد علي بن أحمد بن حزم، الطبعة الثانية 1395، دار المعرفة بيروت. 200- الفصول المهمة في أحوال الأئمة: محمد بن الحسن الحر العاملي، ط. إيران 1304. 201- الفكر الإسلامي بين الأمس واليوم: محجوب بن ميلاد، الشركة القومية للنشر والتوزيع، تونس. 202- فكرة التقريب بين أهل السنة والشيعة: رسالة قدمت لنيل درجة الماجستير من كلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية أعدها: الشيخ ناصر بن عبد الله القفاري، إشراف فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان 1401. 203- الفكر الديني في مواجهة العصر: عفت الشرقاوي، مكتبة الشباب بمصر. 204- الفلسفة القرآنية: عباس محمود العقاد، دار الكتاب العربي، بيروت الطبعة الثانية 1969م. 205- الفن القصصي في القرآن الكريم: الدكتور محمد أحمد خلف الله، الطبعة الرابعة 1972م، مكتبة الأنجلو المصرية القاهرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1226 206- الفهرست: ابن النديم دار الباز، مكة المكرمة. 207- في ظلال القرآن: سيد قطب، الطبعة العاشرة 1402 دار الشروق بيروت القاهرة. 208- في ظلال القرآن دراسة وتحقيق: رسالة لنيل درجة الدكتوراه، "بالاستنسل": أعدها: صلاح عبد الفتاح دحبور، إشراف د/ أحمد فرحات 1404. 209- القاموس المحيط: مجد الدين محمد الفيروز آبادي، مؤسسة الحلبي وشركاه، القاهرة. 210- قبس من التفسير الفقهي: د/ الشافعي عبد الرحمن السيد، الطبعة الأولى 1401، دار الطباعة المحمدية. 211- القرآن في الإسلام: السيد محمد حسين الطباطبائي، ترجمة أحمد الحسيني، دار الزهراء، بيروت الطبعة الأولى 1393. 212- القرآن الكريم وعلوم الغلاف الجوي: محمد عفيفي الشيخ، مجلة الدعوة، المركز الإسلامي للدراسات والبحوث 1981م. 213- القرآن محاولة لفهم عصري: مصطفى محمود، دار المعارف بمصر 1976م. 214- القرآن وإعجازه العلمي: محمد إسماعيل إبراهيم، دار الفكر العربي القاهرة 1977. 215- القرآن والطب: أحمد محمود سليمان، دار العودة بيروت، دار الكتاب العربي، طرابلس. 216- القرآن والطب: الدكتور الحاج محمد وصفي، دار الكتب الحديثة، القاهرة، ومكتبة المثنى ببغداد الطبعة الأولى 1380. 217- القرآن والعلم الحديث: عبد الرزاق نوفل، دار الكتاب العربي، بيروت 1393. 218- القرآن والعلوم الحديثة: محمود أبو الفيض المنوفي، الناشر عيسى الحلبي وشركاه 1971م. 219- القرآن وقضايا الإنسان: الدكتورة عائشة عبد الرحمن، دار العلم للملايين، بيروت الطبعة الثانية 1975م. 220- القرآن ومصطفى محمود والفهم العصري: محمود محمد طه، السودان 1390. 221- القرآن ونهاية العالم: الأسيوطي الفلكي، دار الكتب الشرقية، القاهرة. 222- القرآن ينبوع العلوم والعرفان: علي فكري، الطبعة الأولى، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة 1365. 223- قضية التصوف: الدكتور عبد الحليم محمود، دار المعارف بمصر 1981. 224- قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث: محمد جمال الدين القاسمي، تحقيق: محمد بهجة البيطار، الطبعة الثانية 1380، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1227 225- القول الفصل في الرد على محمود محمد طه: حسين محمد زكي. 226- كشف الأسرار النورانية: أحمد الإسكندراني، الطبعة الأولى 1297، المطبعة الوهبية. 227- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: حاجي خليفة، دار العلوم الحديثة، بيروت. 228- كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة: عبد الرحمن بن رجب، المطبعة المحمودية بمصر. 229- كنت رئيسًا لمصر: مذكرات محمد نجيب، المكتب المصري الحديث، القاهرة الطبعة الرابعة 1984م. 230- الكون والإعجاز العلمي للقرآن: منصور حسب النبي شركة مكتبات عكاظ، السعودية الطبعة الأولى 1402. 231- اللآلئ الحسان في علوم القرآن: الدكتور موسى لاشين، مطبعة الفجر الجديد، القاهرة. 232- اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، المكتبة التجارية الكبرى بمصر. 233- لسان العرب: ابن منظور، دار صادر بيروت. 234- لفتات علمية من القرآن: يعقوب يوسف، الدار السعودية للنشر والتوزيع، جدة الطبعة الثانية 1390. 235- لمحات في علوم القرآن: محمد الصباغ، المكتب الإسلامي بيروت 1394. 236- لمعة الاعتقاد: عبد الله بن أحمد بن قدامة، المطبعة السلفية القاهرة 1370. 237- لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية: محمد بن أحمد السفاريني، طبع على نفقة علي آل ثاني حاكم قطر. 238- ما دل عليه القرآن: محمود شكري الآلوسي، المكتب الإسلامي بيروت، الطبعة الثانية 1391. 239- المجددون في الإسلام: عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب، ومطبعتها بالجماميز الطبعة الثانية 1382. 240- مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية: جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، مطابع الرياض، الطبعة الأولى 1381. 241- محاسن التأويل "تفسير القاسمي": محمد جمال الدين القاسمي، صححه ورقمه وخرجه محمود فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة الطبعة الأولى 1376. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1228 242- محاضرات عن عبد القادر المغربي: محمد أسعد طلس، جامعة الدول العربية، معهد الدراسات العربية العالية 1958م. 242- مختصر تاريخ الأباضية: أبي الربيع الباروني، مكتبة الاستقامة، تونس الطبعة الثانية. 244- مدخل إلى القرآن الكريم: الدكتور محمد عبد الله دراز، دار القلم، الكويت ترجمة محمد عبد العظيم علي، الطبعة الثانية 1399. 245- المدنية والإسلام: محمد فريد وجدي المكتبة التجارية الكبرى بمصر 1353. 246- المراجعات: عبد الحسين شرف الدين الموسوي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت. 247- المستدرك على الصحيحين: محمد بن عبد الله الحاكم، مكتبة النصر الرياض. 248- مسند الإمام أحمد: المكتب الإسلامي، دار صادر بيروت، مصورة عن طبعة المطبعة الميمنية 1313، وطبعة دار المعارف بمصر سنة 1370 تحقيق أحمد شاكر وطبعة الاعتصام، تحقيق عبد القادر عطا والدكتور محمد أحمد عاشور. 249- مشاهير علماء نجد وغيرهم: عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ، الطبعة الأولى 1392. 250- المصحف المفسر: محمد فريد وجدي، كتاب الشعب. 251- مصرع التصوف: برهان الدين البقاعي، تحقيق عبد الرحمن الوكيل 1372. 252- المصنف: أبو بكر أحمد بن عبد الله بن موسى الكندي، تحقيق عبد المنعم عامر والدكتور جاد الله أحمد، وزارة التراث القومي والثقافة سلطنة عمان 1979م. 253- المصنف: عبد الرزاق الصنعاني، تحقيق: الأعظمي حبيب الرحمن، المجلس العلمي كراتشي، دار القلم بيروت 1392. 254- مصنف ابن أبي شيبة: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، تحقيق وتصحيح عامر العمري الأعظمي، الدار السلفية، الهند، الطبعة الأولى 1400. 255- معالم الشريعة الإسلامية: الدكتور/ صبحي الصالح، دارالعلم للملايين، بيروت الطبعة الأولى 1975م. 256- معالم في الطريق: سيد قطب، الطبعة الثالثة 1386. 257- معجزة القرآن: محمد متولي الشعراوي المختار الإسلامي، القاهرة الطبعة الأولى 1398. 258- معجزة القرآن العددية: صدقي البيك، مؤسسة علوم القرآن دمشق، بيروت الطبعة الأولى 1401. 259- معجم الأدباء: ياقوت الحموي دار إحياء التراث العربي، بيروت الطبعة الأخيرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1229 260- معجم المفسرين: عادل نويهض، الطبعة الأولى 1403 مؤسسة نويهض الثقافية. 261- معجم المؤلفين: عمر رضا كحالة، مكتبة المثنى، بيروت دار إحياء التراث العربي بيروت. 262- معجم المؤلفين العراقيين: كوركيس عواد، مطبعة الإرشاد، بغداد 1969م. 263- مع الطب في القرآن الكريم: عبد الحميد دياب وأحمد قرقوز، مؤسسة علوم القرآن دمشق الطبعة الأولى 1400. 264- المغني: أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة تصحيح محمد سالم محيسن والشيخ شعبان إسماعيل، مكتبة الجمهورية مصر ومكتبة الرياض الحديثة بالرياض. 265- المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الأحياء من الخبار: زين الدين أبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي ضمن إحياء علوم الدين للغزالي، مكتبة مصطفى البابي الحلبي بمصر 1358. 266- مفتاح السعادة ومصباح السيادة: أحمد بن مصطفى الشهير بطاش كبرى زادة، مراجعة وتحقيق كامل بكري وعبد الوهاب أبو النور دار الكتب الحديثة، القاهرة. 267- المفردات في غريب القرآن: الراغب الأصفهاني، المطبعة الميمنية بمصر سنة 1324. 268- مقالات الإسلاميين: أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، الطبعة الثانية 1389. 269- مقالات الكوثري: محمد زاهد الكوثري، مطبعة الأنوار، القاهرة. 270- المقالات والفرق: سعد بن عبد الله القمي، تحقيق وتعليق د/ محمد جواد مشكور، مطبعة حيدري طهران 1341. 271- مقدمة في التفسير: حسن البنا دار الشهاب 1978. 272- الملل والنحل: محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، تحقيق محمد سيد كيلاني مكتبة مصطفى الحلبي وأولاده بمصر 1378. 273- منار السبيل في الأضواء على التنزيل: الشيخ محمد العثمان القاضي، الطبعة الأولى 1393. 274- مناهج المفسرين: الدكتور منيع عبد الحليم محمود، دار الكتاب المصر، القاهرة، دار الكتاب اللبناني بيروت الطبعة الأولى 1978. 275- مناهل العرفان في علوم القرآن: محمد عبد العظيم الزرقاني، دار إحياء الكتب العربية القاهرة. 276- المنتقى من منهاج الاعتدال: أبو عبد الله محمد بن عثمان الذهبي تحقيق محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية. 277- منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية: أبي العباس تقي الدين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1230 أحمد بن تيمية، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، مصورة عن طبعة المطبعة الأميرية 1322، وطبعة مطبعة المدني بتحقيق محمد رشاد سالم القاهرة 1382. 278- منهاج الكرامة: الحسن بن المطهر الحلي المطبوع مع منهاج السنة النبوية لابن تيمية، بتحقيق محمد رشاد سالم. 279- المنهج البياني في تفسير القرآن الكريم: دكتور كامل علي سعفان، الطبعة الأولى 1981، مكتبة الأنجلو المصرية. 280- منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات: الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، من مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. 281- من هدي القرآن: أمين الخولي، "1" الأعمال الكاملة الهيئة المصرية العامة للكتاب 1978م. 282- الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي، دار إحياء الكتب العربية القاهرة 1973. 283- موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين: مصطفى صبري المكتبة الإسلامية لصاحبها الحاج رياض الشيخ 1369. 284- المهدي في القرآن: صادق الحسيني الشيرازي، دار الصادق بيروت، الطبعة الأولى 1389. 285- ميزان الاعتدال في نقد الرجال: أبي عبد الله محمد بن أحمد الذهبي، تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى 1382. 286- الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت الطبعة الثانية 1394. 287- النبأ العظيم: الدكتور محمد عبد الله دراز، دار القلم، الكويت الطبعة الرابعة 1397. 288- نظرة عابرة في مزاعم من ينكر نزول عيسى عليه السلام: محمد زاهد الكوثري سنة 1362. 289- نظرية الإمامة لدى الشيعة الاثني عشرية: أحمد محمود صبحي، دار المعارف بمصر 1969م. 290- النظم القرآني في سورة الرعد: محمد بن سعد الدبل، عالم الكتب 1981م. 291- نظم المتناثر من الحديث المتواتر: أبي عبد الله محمد الكتاني، المطبعة المولوية بفاس العليا سنة 1328. 292- نقد العلم والعلماء أو تلبيس إبليس: للإمام أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي خرجه، محمود مهدي الاستانبولي 1396. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1231 292- نكاح المتعة عبر التاريخ: عطية محمد سالم، المؤسسة السعودية، القاهرة 1396. 293- النهر الماد من البحر: أبي حيان الأندلسي على هامش البحر المحيط، دار الفكر بيروت، الطبعة الثانية 1398. 294- نيل المرام من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن، تحقيق علي السيد صبح المدني، مكتبة المدني، جدة 1399. 295- الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم: الدكتور محمد محمود حجازي، دار الكتب الحديثة القاهرة سنة 1390. 296- الوحي المحمدي: محمد رشيد رضا، الطبعة الثالثة 1354، مطبعة المنار بمصر. 297- وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة: محمد بن الحسن الحر العاملي، دار إحياء التراث العربي بيروت، تحقيق عبد الرحيم الشيرازي الطبعة الرابعة 1391. 298- الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن: محمد أبو زيد، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر 1349. 300- هميان الزاد إلى دار المعاد: محمد بن يوسف أطفيش الطبعة الأولى بالمطبعة السلطانية في زنجبار 1314، وطبعة وزارة التراث القومي والثقافة في سلطنة عمان 1401. 301- اليقظة الإسلامية في مواجهة الاستعمار: أنور الجندي الطبعة الأولى دار الاعتصام القاهرة 1398. الصحف والمجلات: 1- جريدة الأهرام المصرية. 2- جريدة الأيام السودانية. 3- جريد الرأي العام الكويتية. 4- جريدة الرياض السعودية. 5- جريدة الصحافة السودانية. 6- جريدة المدينة المنورة السعودية. 7- مجلة الأمة القطرية. 8- مجلة صباح الخير المصرية. 9- مجلة العربي الكويتية. 10- مجلة كلية أصول الدين -جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض. 11- مجلة الكويت الكويتية. 12- مجلة المنار المصرية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1232 دليل المحتويات : الموضوع الصفحة المقدمة 7 التمهيد 25 الباب الأول: الاتجاه العقائدي في التفسير 49 تمهيد 51 الفصل الأول: منهج أهل السنة والجماعة 53 التعريف بهم 53 نشأتهم 54 مجمل عقيدة أهل السنة والجماعة 56 بيان بعض عقائهم 62 أسس تفسير أهل السنة والجماعة 86 نماذج من تفسير أهل السنة والجماعة في العصر الحديث 94 نماذج من المؤلفات فيه 122 1- تفسير أضواء البيان 123 2- تيسير الكريم الرحمن 148 3- محاسن التأويل 161 رأيي في هذا المنهج 181 الفصل الثاني: منهج الشيعة في تفسير القرآن الكريم 183 التعريف بهم 183 بداية ظهور التشيع 185 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1233 الموضوع الصفحة فرق الشيعة 187 الإمامية الاثني عشرية 189 أصولهم 189 منهجهم في التفسير 192 نماذج من تفسيرهم 202 أهم كتب التفسير المعاصرة عندهم 236 الميزان في تفسير القرآن 239 رأيي في هذا التفسير 249 رايي في هذا المنهج 250 الإسماعيلية 253 الجمهوريون 257 نماذج من تفسيرهم 262 الزيدية 275 منهجهم في التفسير 278 الفصل الثالث: منهج الأباضية في التفسير 281 التعريف بهم 281 عقائدهم 283 التفسير الأباضي 301 هميان الزاد إلى دار المعاد وتيسير التفسير 303 منهجه في التفسير 306 رأيي في هذا التفسير 353 الفصل الرابع: منهج الصوفية في التفسير 357 التعريف بهم 375 المراد بالتصوف 358 نشأة التصوف وتطوره 360 عقائد التصوف 362 من شروط التصوف 364 طبيعة التصوف 365 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1234 الموضوع الصفحة أقسام التصوف 366 التفسير الصوفي النظري 366 التفسير الفيضي الإشاري 367 موقف العلماء من هذا اللون في التفسير 368 شروط قبول التفسير الإشاري 374 أهم المؤلفات في التفسير الإشاري 375 أولا: بيان السعادة في مقامات العبادة 377 ثانيا: ضياء الكوان في تفسير القرآن 395 رأيي في التفسير الصوفي الحديث 407 فهارس الجزء الثاني: الباب الثاني: الاتجاهات العلمية في التفسير 413 الفصل الأول: المنهج الفقهي في التفسير 415 أولا: فقه أهل السنة والجماعة 421 ثانيا: روائع البيان 446 ثالثا: تفسير آيات الأحكام 462 رابعا: تفسير آيات الأحكام 470 خامسا: قبس من التفسير الفقهي 478 سادسا: دراسات في تفسير بعض آيات الأحكام 482 ثانيا: فقه الشيعة الإمامية "الاثني عشرية" 487 ثالثا: فقه الأباضية 514 الفصل الثاني: المنهج الأثري في التفسير 519 المراد به 519 المؤلفات فيه 520 تفسير: أضواء البيان 522 تفسير: الموجز في تفسير القرآن الكريم 535 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1235 الموضوع الصفحة الفصل الثالث: المنهج العلمي التجريبي في التفسير 545 المراد به 545 تعريفه 547 موقف العلماء السابقين منه 550 رأي المؤيدين 551 رأي المعارضين 559 موقف العلماء المعاصرين من التفسير العلمي التجريبي 563 أقوال المؤيدين 564 أقوال المعارضين 578 الرأي المختار 600 أهم المؤلفات فيه 604 نماذج للتفسير العلمي التجريبي في القرن الرابع عشر 615 أمثلة من المؤلفات في التفسي العلمي التجريبي في القرن الرابع عشر 638 أولا: الجواهر في تفسير القرآن الكريم 638 رأيي في هذا التفسير 677 ثانيا: كشف الأسرار النورانية 679 رأيي في هذا التفسير 688 ثالثا: الكون والإعجاز العلمي 691 رابعا: مع الطب في القرآن الكريم 694 خامسا: الإعجاز العددي في القرآن الكريم 697 رأيي في هذه المؤلفات 702 الباب الثالث: منهج المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة في التفسير: 703 تمهيد 705 المراد به 706 العقل في القرآن 707 مكانة العقل في الإسلام 709 نشأة المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة 715 منهج المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة في التفسير 718 أهم مؤلفات المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة في التفسير 798 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1236 الموضوع الصفحة أولا: تفسير القرآن الحكيم 803 ثانيا: تفسير جزء تبارك 849 رأيي ف يهذا المنهج 855 فهارس الجزء الثالث: الباب الرابع: الاتجاه الأدبي في التفسير: تمهيد 861 الفصل الأول: المنهج البياني في التفسير 876 تطور التفسير البياني 876 قصة تأصيل هذا المنهج 881 مراحله ومعالمه 885 الدراسات التطبيقية 900 أمين الخولي 901 عائشة عبد الرحمن 924 محمد أحمد خلف الله 957 رأيي في هذا المنهج 972 الفصل الثاني: منهج التذوق الأدبي في التفسير 983 المراد به 983 في ظلال القرآن سيد قطب 989 المؤلف 989 منهجه في التفسير 998 ملاحظات على هذا التفسير 1051 الباب الخامس: الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن الكريم 1055 تمهيد 1057 الفصل الأول: المنهج الإلحادي في تفسير القرآن الكريم 1065 الهداية والعرفان في تفسير القرآن 1076 الفصل الثاني: منهج القاصرين في تفسير القرآن الكريم 1105 تمهيد 1105 نماذج من هذا اللون في التفسير 1106 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1237 الموضوع الصفحة القرآن محاولة لفهم عصري 1117 الفصل الثالث: اللون اللامنهجي في تفسير القرآن الكريم 1145 تمهيد 1145 رسالة الفتح 1148 الخاتمة 1157 الفهارس: دليل الآيات القرآنية 1157 دليل الأحاديث النبوية 1189 دليل الأعلام 1195 المراجع والمصادر 1215 دليل المحتويات 1233 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1238