الكتاب: السياسة الشرعية في الشئون الدستورية والخارجية والمالية المؤلف: عبد الوهاب خلاف (المتوفى: 1375هـ) الناشر: دار القلم الطبعة: 1408 هـ- 1988م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- السياسة الشرعية في الشئون الدستورية والخارجية والمالية عبد الوهاب خلاف الكتاب: السياسة الشرعية في الشئون الدستورية والخارجية والمالية المؤلف: عبد الوهاب خلاف (المتوفى: 1375هـ) الناشر: دار القلم الطبعة: 1408 هـ- 1988م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة : الحمد لله رب العالمين وصلى على سيد المرسلين، سيدنا محمد الصادق الأمين وعلى آله وصحبه وسلم: في شهر جمادى الأولى سنة 1342 للهجرة "ديسمبر سنة 1923 للميلاد" ابتدأت الدراسة في قسم التخصص بالقضاء الشرعي للعلماء المختارين من خريجي مدرسة القضاء والأزهر المعمور. وكان من حسن حظي عهد إلي بدراسة مادة من المواد التي قررت دراستها في هذا القسم وهي السياسة الشرعية. بدأنا في دراسة هذا العلم الناشئ الذي لم يدرس من قبل فيما نعلم وليس بين أيدينا سوى منهج دروسه الذي ينتظم عدة بحوث في مختلف الشئون لا تظهر بينها وحدة جامعة ولا صلات ترتبها ترتيب مسائل العلم الواحد. لهذا عنينا أول دراستنا بنظرة عامة نستكشف بها الوحدة التي ألفت بين هذه البحوث والصلة التي نظمتها بعنوان واحد لنتعرف الرسم الذي يحد علم السياسة الشرعية ونميز موضوع البحث فيه ونقف على الغاية التي يوصل إليها. وقد استبان لنا أن كلمة "السياسة الشرعية" اختلف المراد بها في عبارات علماء المسلمين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 فالفقهاء أرادوا بها التوسعة على ولاة الأمر في أن يعلموا ما تقتضي به المصلحة مما لا يخالف أصول الدين وإن لم يقم عليه دليل خاص. قال صاحب البحر في باب حد الزنا: "وظاهر كلامهم ههنا أن السياسة: هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها وإن لن يرد بذلك الفعل دليل جزئي". فالسياسة الشرعية على هذا هي العمل بالمصالح المرسلة لأن المصلحة المرسلة هي التي لم يقم من الشارع دليل على اعتبارها أو إلغائها. وغير الفقهاء أرادوا بها معنى أعم من هذا يتبادر من اللفظ ويتصل باستعماله اللغوي وهو تدبير مصالح العباد على وفق الشرع. قال المقريزي في خططه: "ويقال ساس الأمر سياسة بمعنى قام به وهو سائس من قوم ساسة وسوس. وسوسه القوم جعلوه يسوسهم ... "فهذا أصل وضع السياسة في اللغة. ثم رسمت بأنها القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال. والسياسة نوعان سياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر فهي من الأحكام الشرعية علمها من عملها وجهلها من جهلها. وقد صنف الناس في السياسة الشرعية كتبًا متعددة. والنوع الآخر سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها". ولما كان هذان المعنيان غير متباينين وبينهما صلة وثيقة من ناحية أن تدبير المصالح على الوجه الأكمل لا يتم إلا إذا كان ولاة الأمر في سعة من العمل بالمصالح المرسلة، وكذلك البحوث المقررة هي شعب من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 المعنيين فليس ما منع أن يراد بالسياسة الشرعية معنى يعم المعنيين وينتظم جميع البحوث المقررة. وعلى هذا فعلم السياسة الشرعية علم يبحث فيما عما تدبر به شئون الدولة الإسلامية من القوانين والنظم التي تتفق وأصول الإسلام، وإن لم يقم على كل تدبير دليل خاص. وموضوعه: النظم والقوانين التي تتطلبها شئون الدولة من حيث مطابقتها لأصول الدين وتحقيقها مصالح الناس وحاجاتهم. وغايته: الوصول إلى تدبير شئون الدولة الإسلامية بنظم من دينها. والإبانة عن كفاية الإسلام بالسياسة العادلة وتقبله رعاية مصالح الناس في مختلف العصور والبلدان. على ضوء هذه الغاية أخذنا في دراسة تلك البحوث بعد أن قسمنا شئون الدولة إلى عدة أقسام: من دستورية، وخارجية، ومالية وغيرها، وجمعنا بين مباحث كل شأن من هذه الشئون. وراعينا في بحث أكثر الشئون المقارنة والمقابلة بين ما شرعه الإسلام وما وضع من النظم الحديثة تدبيرًا لها. وقد تم لنا البحث في ثلاثة من تلك الشئون وهي الشئون الدستورية والخارجية والمالية. وها هي نقدمها للباحثين لا ندعي أننا بلغنا في بحثها حد الكمال أو قاربناه ولكنا والحمد لله على توفيقه مهدنا السبيل وخطونا أولى الخطوات. وأسأل الله أن يهيئ لهذا العلم من يقدره حتى تسنح الفرصة لإعادة دراسته في معهد من معاهد التعليم العالي وتأخذ بحوثه حظها من السعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 والتمحيص ويتجلى للمسلمين أن دينهم القويم لا يقصر عن مصلحة ولا يضيق بحاجة وأنه كفيل بالسياسة العادلة جامع لخيري الأولى والآخرة. عبد الوهاب خلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 محتويات الكتاب : 5 المقدمة 11 تمهيد 13 التشريع الإسلامي والاجتهاد 24 الإسلام كفيل بالسياسة العادلة 29 السياسة الشرعية الدستورية 31 شكل الحكومة الإسلامية والدعائم التي تقوم عليها 37 حقوق الأفراد 49 السلطات ومصدرها ومن يتولاها 59 الخلافة، وجوبها وشروطها 69 السياسة الشرعية الخارجية 73 العلاقة بالدول غير الإسلامية 91 أحكام الإسلام الحربية مقارنة بالقانون الدولي 97 أحكام الإسلام السلمية 107 السياسة الشرعية المالية 119 شروط عدلها 111 أسس الموارد الإسلامية 121 الموارد المالية الإسلامية 134 المصارف المالية الإسلامية 144 جباية الإيراد وصرفه في مصارفه 148 نبذة من تاريخ بيت مال المسلمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 تمهيد التشريع الإسلامى والاجتهاد ... التشريع الإسلامي والاجتهاد: كان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في حياته مرجع المسلمين في تدبير شئونهم العامة: من تشريع، وقضاء، وتنفيذ. وكان قانونه في هذا التدبير ما ينزل عليه من ربه، وما يهديه إليه اجتهاده ونظره في المصالح، وما يشير به أولو الرأي من صحابته فيما ليس فيه تنزيل. وكان التدبير بهذه المصادر يتسع لحاجات الأمة ويكفل تحقيق مصالحها. وقد ترك الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- في أمته هاديين لا يضل من اهتدى بما في تدبير شئونهما وهما: كتاب الله، وسنته. وأقام منارًا ثالثًا يستضاء به -فيما ليس فيه نص من كتاب أو سنة- وهو: الاجتهاد الذي مهد طريقه، ودعا إليه بقوله، وعمله، وإقراره. ذلك لأنه -صلّى الله عليه وسلّم- كثيرًا ما كان يبلغ الأحكام مقرونة بعللها والمصالح التي تقتضيها، وفي هذا إيذان بارتباط الأحكام بالمصالح، ولفت إلى أن الغاية إنما هي: جلب المنافع، ودرء المفاسد. فمن أمثلة هذا قوله في النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها: "إنكم إن فعلتك ذلك قطعتم أرحامكم". وقوله في النهي عن ادخار لحوم الأضاحي ثم إباحتها: "إنما نهيتكم من أجل الدافة". وقوله في الهرة وطهارة سؤرها: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات". فهذا ونظائره في الكتاب والسنة مما فيه نص على علة الحكم أو إشارة إليها كان تمهيدًا للسبيل إلى الاجتهاد لأنه بهذه العلل يتوصل إلى إلحاق الأشباه بالأشباه، وتعرف الحكم في كل موضع لا نص فيه. وقد أقر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الرسول -صلى الله عليه وسلم- اجتهاد من اجتهد في حضرته من صحابته. ويقال للمجتهد: إن أصبت أجران، وإن اخطأت فلك أجر. وكان ينهى عن الشيء لمصلحة تقضي بتحريمه ثم يبيحه إذا تبدلت الحال وصارت المصلحة في إباحته، كما في حديث "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها". ولما خرج صحابيان في سفر وحضرتهما الصلاة وليس معهما ماء وصليا ثم وجدا الماء في الوقت وأعاد أحدهما ولم يعد الآخر صوبهما النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال للذي لم يعد: "أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك"، وقال للآخر "لك الأجر مرتين". هذا كله وكثير من مثله بث في نفوس المسلمين أن غاية الشرع إنما هي المصلحة، وحيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله. وأنار لهم أن السبيل إلى تحقيق المصالح حيث لا نص إنما هو اجتهاد الرأي. وقد ظهرت هذه الروح فيما سلكه الراشدون بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تدبير العامة للدولة فكانوا يهتدون في نظمهم وسائر تصرفاتهم بما شرع الله في كتابه، وعلى لسان رسوله. وإن حدث لهم ما ليس له حكم في كتاب ولا سنة اجتهدوا رأيهم واتبعوا ما أدى إليه اجتهادهم مما رأوا فيه مصلحة الأمة ولا يخالف روح الدين. وكثيرًا ما كان اجتهاد أحدهم يخالف اجتهاد صاحبه بل قد يخالف ما يفهم من ظاهر النص. وما أتهم مجتهد منهم أنه على غير الحق أو تنكب طريقه، ما دامت الغاية: المصلحة وعدل الله، والوسيلة: اجتهاد الرأي وإنعام النظر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 اجتهد أبو بكر فاستخلف على المسلمين عمر. واجتهد عمر فلم يستخلف واحدًا، وترك الأمر شورى بين ستة. فاجتهاد أحدهما غير اجتهاد صاحبه، واجتهادهما معًا غير ما فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأنه لم يستخلف واحدًا كما فعل أبو بكر ولم يترك الشورى لستة كما فعل عمر وما رمي واحدًا منهما بأنه خالف شرع الله لأنه توخى المصلحة، واجتهد ما استطاع. اجتهد عمر وأمضى الطلاق الثالث على من طلق زوجه ثلاثًا بكلمة واحدة، ولم يكن ليخفى عليه قول الله في كتابه: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] وإن الثلاث في زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر وصدر من خلافته نفسه كانت تعتبر واحدة، وإن رجلًا على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- طلق امرأته ثلاثًا فبلغ الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذلك فقال: "أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم" لم يكن ليخفى عليه من ذلك شيء ولكنه رأى الناس أكثروا من هذا اللعب فألزمهم بنتائجه، ردعًا لهم أو تقليلًا لألاعيبهم. وهذا هو الذي عناه بقوله -رضي الله عنه: "إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة فلو أنا أمضيناه عليهم" فأمضاه عليهم. ولهذا قال ابن تيمية: "إن سياسة عمر قضت بأن ألزم المطلق ثلاثًا بكلمة واحدة بالثلاث، وسد عليهم باب التحليل ليزدجروا ويرتدعوا، ولو علم أن الناس يتتابعون في التحليل لرأي أن إقرارهم على ما كان عليه الأمر زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وصدرًا من خلافته أولى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 اجتهد عثمان وجدد أذانًا ثانيًا لفريضة الجمعة لم يكن على عهد الرسول لأنه قضت به المصلحة في إعلام الناس بالصلاة بعدما تزايد عددهم وتباعدت دورهم: وجمع الناس على قراءة القرآن بحرف واحد هو ما دون في المصحف الإمام ولم يكن ليخفى عليه أن القرآن أنزل على سبعة أحرف. وأن الرسول قال لقارئين بحرفين متغايرين: "هكذا أنزل، وهكذا أنزل". ولكنه خشي فتنة الخلف بعد تباعد أطراف الدولة وتفرق الحفاظ في الأمصار واستشهادهم في الجهاد فمنع ما كان مباحًا. اجتهد علي وحرق الرافضة وما كان خفيًّا عليه حكم الله في قتل الكافر ولكنه رأى المصلحة في الزجر عن الجرم الشنيع بالعقاب الشنيع وهو التحريق. وكذلك كان الشأن في القضاء وطرق الحكم، فكانوا يعتمدون على كل دليل يطمئن إليه القلب ويهدي إلى العدل والحق لا يقفون عند أدلة خاصة ظاهرة من بينة أو إقرار أن نكول. فقد قضى عمر برجم الجارية التي ظهرت حاملًا ولا زوج لها ولا سيدًا اكتفاء بهذه الأمارة. وحكموا بحد السرقة على من وجد المسروق في يده اعتمادًا على هذه القرينة. وقد وفى ابن القيم هذا المقام بما لا مزيد عليه في كتابه "الطرق الحكمية في السياسة الشرعية". وكانوا كذلك بنظرون في التنفيذ إلى ما تقتضي به المصلحة وحال الناس، فقد عطل عمر تنفيذ حد السارق في عام المجاعة وأسقط سهم المؤلفة قلوبهم لما أعز الله الإسلام. وهذه السبيل التي سلكها المسلمون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 أول أمرهم في التشريع والقضاء والتنفيذ كانت السبيل القويم في تدبير شئون الدولة. وكانت لا تضيق بحادث أو حاجة. ولا تقصر عن تحقيق أية مصلحة. ولا عن مسايرة الزمن في تطوراته، ومراعاة ما تقتضيه تغيرات الأزمان والأحوال. ويسلكونها ما شعر واحد بقصور الشريعة الإسلامية عن مصالح الناس ولا رميت بحاجتها إلى غيرها، وما عرف إذ ذاك حكم شرعي وآخر سياسي وإنما كانت الأحكام كلها شرعية مصدرها ما شرعه الله في كتابه وعلى لسان رسوله وما اهتدى إليه أولو الرأي باجتهادهم الذي تحروا به المصلحة، وبذلوا أقصى الجهد لتحقيقها، والله ما شرع الشرائع إلا لمصلحة عباده. جاء بعد هذا عصر التزم فيه مجتهدو الفقهاء طرقًا خاصة في الاجتهاد ووضعوا شروطًا ورسومًا للمصالح الواجب اعتبارها. وسواء أكان الباعث لهم على هذا زيادة حرصهم على أن لا يتعدوا شرع الله أم اتهامهم عقولهم بالقصور على السابقين أم غير ذلك فإن هذا الالتزام قيد من حرية المجتهد وضيق دائرة الاجتهاد، وقضى بإغفال مراعاة كثير من المصالح المرسلة: وهي التي لم يرد في الشرع دليل بشأنها ولم يشهد الشارع باعتبارها ولا بإلغائها وبعد أن كان مجتهدو الصحابة يعملون لمطلق المصلحة لا لقيام شاهد بالاعتبار، وهاديهم في هذا فطرة سليمة ونظر صحح، صار الاعتبار لمصالح خاصة والمرجع إلى قواعد موضوعة. وبهذا بدأت تضيق دائرة التشريع وتلتزم في القضاء طرق خاصة للوصول إلى الحق وتغل اليد عن تنفيذ ما قد يكون فيه بعض الإصلاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وكان هؤلاء المجتهدون في بعض الأحوال بحرج هذه القيود وضيق قواعدهم بمصالح العباد فكانوا يخرجون من هذا الضيق بما يدعونه الاستحسان. ومن أمثلة هذا عقد المزارعة فهو على قواعد اجتهادهم باطل لكنهم لما رأوه ضروريًا لمصالح الناس أجازوه بطريق الاستحسان، وما هذا الاستحسان إلا بقية من روح الاجتهاد الفطري الذي كان سبيل السلف الأول. وبإغفال المصالح المرسلة في التشريع وإلغاء اعتبار القرائن والأمارات في القضاء والتزام طرائق خاصة للوصول إلى الحق وتنفيذه ظهر الفقه الإسلامي بمظهر القاصر عن تدبير شئون الدولة الذي لا يتسع لمصالح الناس ولا يساير الزمن وتطوراته وأخذ الولاة السياسيون ورجال السلطة التنفيذية في الدولة ينظرون إلى مصالح الناس المطلقة ويدبرونها بما يكفلها من النظم والقوانين غير ملتزمين ما التزمه أولئك المجتهدون. وأكثر ما عنوا بسعته الطرق الحكمية وقوانين العقوبات لأن أكبر همهم توطيد الأمن والضرب على أيدي المجرمين. ولا بد لهذا من الأخذ بالقرائن والاكتفاء بالأمارات والخروج عن قيود الفقهاء. ومن ذلك الحين بدأ المسلمون يرون بينهم نوعين من النظم والأحكام: أحدهما: ما استنبطه الفقهاء المجتهدون على وفق أصولهم وقيودهم. ثانيهما: ما لجأ إليه الولاة السياسيون لتحقيق المصالح المطلقة ومسايرة الزمن، وكان هذا النوع الثاني يتبع حال واضعيه؛ فتارة يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 في حدود الاعتدال مراعى فيه تحقيق المصالح غير متجاوز به حدود الدين وأصوله الكلية، وتارة يكون مراعى فيه الأغراض والمصالح الجزئية. ثم زاد قصور الفقه الإسلامي عن مصالح الناس بإغلاق باب الاجتهاد واقتصار الفقهاء على حمل الناس أن يتبعوا ما استنبطه أئمتهم في عصورهم السالفة دون نظر إلى ما بين الأزمان والأحوال من تفاوت. فاتسعت مسافة الخلف بين الفقه ومصالح الناس في كثير من الشئون، واتجه ولاة الأمر في الدولة الإسلامية إلى مسايرة الزمن ومراعاة المصالح بتشريع ما يحققها مما يتفق وأصول الدين وإن لم يوافق أقوال الفقهاء المتبوعين. وعلى هذا النهج سارت وزارة الحقانية في مصر فيما عدلته من بعض أحكام الأحوال الشخصية: في الطلاق ودعوى النسب ونفقة المعتدة وسن الحضانة وموت المفقود. وأبانت في المذكرة الإيضاحية لهذا التعديل أن الوجهة هي جلب المصلحة أو رفع الضرر العام. وجاء في تلك المذكرة ما نصه: "من الواجب حماية الشريعة المطهرة وحماية الناس من الخروج عليها وقد تكلفت بسعادة الناس دينًا وأخرى وأنها بأصولها تسع الأمم في جميع الأزمنة والأمكنة متى فهمت على حقيقتها وطبقت على بصيرة وهدى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 ومن السياسة أن الشرعية أن يفتح للجمهور باب الرحمة من الشريعة نفسها وأن يرجع إلى آراء لتعالج الأمراض الاجتماعية كلما استعصى مرض منها حتى يشعر الناس بأن في الشريعة مخرجًا من الضيق وفرجًا من الشدة". وعلى هذا الأساس ومراعة للمصلحة العامة منع من مباشرة عقد الزواج أو المصادقة عليه ما لم تكن سن الزوجة ست عشرة سنة وسن الزوج ثماني عشرة سنة وقت العقد ومنع من سماع الشهود على بعض الوقائع والتزام لإثباتها أوراق تدل على صحتها. وهذا التعديل في الأحكام والطرق الحكمية مما قصد به درء المفاسد وجلب المصالح وروعي فيه موافقة أصول الدين وإن لم يتفق وأقوال الأئمة الأربعة المجتهدين. وهذه الخطة في تدبير الشئون هي السياسة الشرعية. فالسياسة الشرعية: هي تدبير الشئون العامة للدولة الإسلامية بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار مما لا يتعدى حدود الشريعة أو أصولها الكلية وإن لم يتفق وأقوال الأئمة المجتهدين. وبعبارة أخرى هي متابعة السلف الأول في مراعاة المصالح ومسايرة الحوادث. والمراد بالشئون العامة للدولة كل ما تتطلبه حياتها من نظم، سواء أكانت دستورية أم مالية أم تشريعية أم قضائية أم تنفيذية، وسواء أكانت من شئونها الداخلية أم علاقاتها الخارجية. فتدبير هذه الشئون والنظر في أسسها ووضع قواعدها بما يتفق وأصول الشرع هو السياسة الشرعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وليس يوجد مانع شرعي من الأخذ بكل ما يدرأ المفاسد ويحقق المصالح في أي شأن من شئون الدولة ما دام لا يتعدى حدود الشريعة ولا يخرج عن قوانينها العامة. وهذه أقوال بعض العلماء التي توضح هذه الوجهة: فقد نقل علاء الدين في كتابه معين الحكام عن الإمام القرافي قال: "واعلم أن التوسعة على الحكام في الأحكام السياسية ليس مخالفًا للشرع، بل تشهد له القواعد الشرعية من وجوه: أحدها: أن الفساد قد كثر وانتشر بخلاف العصر الأول ومقتضى ذلك اختلاف الأحكام بحيث لا تخرج عن الشرع بالكلية لقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" وترك هذه القوانين يؤدي إلى الضرر.. ويؤكد ذلك جميع النصوص الواردة بنفي الحرج. وثانيها: أن المصلحة المرسلة قال بها جمع من العلماء وهي المصلحة التي لم يشهد الشارع باعتبارها ولا بإلغائها. ويؤكد العمل بالمصالح المرسلة أن الصحابة -رضوان الله عليهم- عملوا أمورًا لمطلق المصلحة لا لتقدم شاهد بالاعتبار، نحو كتابة المصحف، وولاية العهد من أبي بكر لعمر، وتدوين الدواوين، وعمل السكة، واتخاذ السجن، وغير ذلك من كثير لم يتقدم فيه أمر أو نظير وإنما فعل لمطلق المصلحة. وثالثها: أن الشرع شدد في الشهادة أكثر من الرواية واشترط في الشهادة العدد والحرية لتوهم العداوة، ووسع في كثير من العقود كالعارية والمساقاة للضرورة، ولم يقبل في الشهادة بالزنا إلا أربعة وقبل في القتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 اثنين لأن القصد الستر وإن كان الدم أعظم. وهذه المباينات والاختلافات كثيرة في الشرع لاختلاف الأحوال، فلذلك ينبغي أن يراعى اختلاف الأحوال في الأزمان فتكون المناسبة الواقعة في هذه القوانين السياسية مما شهدت لها القواعد بالاعتبار". ونقل ابن القيم في كتابه الطرق الحكمية عن ابن عقيل قال: "السياسة ما كان فعلًَا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي. ومن قال: لا سياسة إلا بما نطق به الشرع فقد غلط وغلط الصحابة. فقد جرى من الخلفاء الراشدين ما لا يجحده عالم بالسنن وكفى تحريق علي الزنادقة وتحريق عثمان المصاحف ونفي عمر نصر بن الحجاج". قال ابن القيم في الطرق الحكمية: "وهذا موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك ومعترك صعب فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود وضيعوا الحقوق وجرءوا أهل الفجور على الفساد وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقًا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له وعطلوها مع علمهم وعلم غيرهم قطعًا أنه حق مطابق للواقع ظنًا منهم منافاتها لقواعد الشرع. ولعمر الله إنها لم تناف ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإن نافت ما فهموه من شريعته باجتهادهم. والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة وتقصير في معرفة الواقع وتنزيل أحدهما على الآخر، فلما رأى ولاة الأمور ذلك وأن الناس لا يستقيم لهم أمرهم إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا من أوضاع سياستهم شرًا طويلًا وفسادًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 عريضًا فتفاقم الأمر وتعذر استدراكه وعز على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك واستنفاذها من تلك المهالك. وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله وكلا الطائفتين أتيت من قبل تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله وأنزل به كتبه، فإن الله -سبحانه- أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه والله -سبحانه- أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة فلا يجعله منها ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها بل قد بين -سبحانه وتعالى- بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين وليست مخالفة له، فلا يقال إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع بل موافقة لما جاء به بل هي جزء من أجزائه ونحن نسميها سياسة تبعًا لمصطلحكم، وإنما هي عدل الله ورسوله ظهر بهذه الأمارات والعلامات". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الإسلام كفيل بالسياسة العادلة : السياسة العادلة لأية أمة هي تدبير شئونها الداخلية والخارجية بالنظم والقوانين التي تكفل الأمن لأفرادها وجماعاتها والعدل بينهم، وتضمن تحقيق مصالحهم وتمهيد السبيل لرقيهم وتنظيم علاقتهم بغيرهم. والإسلام كفيل بهذه السياسة تصلح أصوله أن تكون أسسًا للنظم العادلة وتتسع لتحقيق مصالح الناس في كل زمان وفي أي مكان. وبرهان ذلك أمران: أحدهما: أن الأصل الأول والمصدر العام للإسلام وهو كتاب الله تعالى لم يتعرض فيه لتفصيل الجزئيات بل نص فيه على الأسس الثابتة والقواعد الكلية التي يبنى عليها تنظيم الشئون العامة للدولة. وهذه الأسس والقواعد قلما تختلف فيها أمة من أمة أو زمان من زمان. أما التفصيلات التي تختلف فيها الأمم باختلاف أحوالها وأزمانها فقد سكت عنها لتكون كل أمة في سعة من أن تراعى فيها مصالحها الخاصة وما تقتضيه حالها. ففي نظام الحكم لم يفصل القرآن الكريم نظامًا لشكل الحكومة، ولا لتنظيم سلطانها ولا لاختيار أولى الحل والعقد فيها. وإنما اكتفى بالنص على الدعائم الثابتة التي ينبغي أن تعتمد عليها نظم كل حكومة عادلة ولا تختلف فيها أمة عن أمة فقرر العدل في قوله سبحانه: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} 1، والشورى في قوله عز شأنه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} 2، والمساواة في قوله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 3. أما ما عدا هذه الأسس من النظم التفصيلية فقد سكت   1 النساء: 58. 2 آل عمران: 159. 3 الحجرات: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 عنها ليتسع لأولي الأمر أن يضعوا نظمهم ويشكلوا حكومتهم ويكونوا مجالسهم بما يلائم حالهم ويتفق ومصالحهم، غير متجاوزين حدود العدل والشورى. وفي القانون الجنائي لم يحدد عقوبات مقدرة إلا لخمس فئات من المجرمين، الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا, والذين يقتلون النفس بغير حق. والذين يرمون المحصنات الغافلات. والزانية والزاني. والسارق والسارقة. أما سائر الجرائم -من جنايات وجنح ومخالفات- فلم يحدد لها عقوبات وإنما ترك لأولي الأمر أن يقدروا عقوباتها بما يرونه كفيلًا بصيانة الأمن وردع المجرم واعتبار غيره، لأن هذه التقديرات مما تختلف باختلاف البيئات والأمم والأزمان فمهد السبيل لولاة كل أمة أن يقرروا العقوبات بما يلائم حال الأمة ويوصل إلى الغرض من العقوبة. وأرشد الله -سبحانه- إلى أصل عام لا تختلف فيه الأمم وهو أن تكون العقوبة على قدر الجريمة، فقال عز من قائل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} 1، وقال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} 2. وفي قانون المعاملات اكتفى بالنص على إباحة ما يقتضيه تبادل الحاجات ودفع الضرورات فأحل البيع والإجارة والرهن وغيرها من عقود المعاملات وأشار إلى الأساس الذي ينبغي أن تبنى عليه تلك المبادلات وهو التراضي فقال عز شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ   1 النحل: 126. 2 البقرة: 194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} 1. أما الأحكام التفصيلية لجزئيات هذه المعاملات فلولاة الأمر في كل أمة أن يفصلوها حسب أحوالها على أساس التراضي. وكذلك اكتفى بالنص على منع المعاملات التي تفضي إلى النزاع وتوقع في العدواة والبغضاء فحرم الربا والميسر على أساس دفع الضرر وقطع أسباب الشحناء وسكت عن تفصيل الأحكام الجزئية لهذه المعاملات ليتسنى أن يكون تفصيلها في كل أمة على وفق حالها. وفي النظام المالي فرض في أموال ذوي المال وعلى رءوس بعض الأنفس ضرائب وجهها في مصارف ثمانية مرجعها إلى سد نفقات المنافع العامة ومعونة المعوزين وترك تفصيل الترتيب لهذه الموارد وتصريفها في مصارفها لكل أمة تتبع فيه ما يلائمها. وفي السياسة الخارجية أجمل علاقة المسلمين بغيرهم في قوله سبحانه: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 2. فالقرآن الكريم لم ينص في الشئون العامة على تفصيل الجزئيات، وما كان هذا لنقص فيه أو قصور وإنما هو الحكمة بالغة حتى يتسير لكل أمة أن تفصل نظمها على وفق حالها وما تقتضيه مصالحها على ألا تتجاوز في تفصيلها حدود الدعائم التي ثبتها، فهذا الذي يظن أنه نقص هو غاية الكمال في نظام التقنين الذي يتقبل مصالح الناس كافة ولا يحول دون أي إصلاح.   1 النساء: 29. 2 الممتحنة: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 والثاني أن الإسلام أبان بكثير من أحكامه وحكمه وآياته أن غايته هي تحقيق مصالح الناس ورفع الضرر عنهم، ومقصوده إقامة العدل بينهم ومنع عدوان بعضهم على بعض. يتبين هذا من حكم التشريع التي نص عليها مع الأحكام في مثل قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} 1، وقوله سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} 2، وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في منع بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه: "أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه". بل إن العبادات نفسها قرن التكليف بها بما يدل على أن المقصود منها إصلاح حال الناس، كما قال تعالى في حكمة الصلاة: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} 3، وفي الصيام: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 4، وفي الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 5، وفي الحج: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} 6. وينطق بهذا قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 7، وقوله عز شأنه: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"، وقوله -صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالحنيفية السمحة". وإذا كان الإسلام غايته ومقصده إصلاح حال الناس وإقامة العدل فيهم وخطته وطريقته اليسر بهم ورفع الحرج عنهم فهو بلا ريب كفيل   1 البقرة: 179. 2 المائدة: 91. 3 العنكبوت: 45. 4 البقرة: 183. 5 التوبة: 103. 6 الحج: 28. 7 البقرة: 185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 بكل سياسة عادلة ويجد كل مصلح في أصوله وكلياته لكل ما يريد من إصلاح ولا يقصر عن تدبير شأن من شئون الدولة. ورب قائل: إذا كان الإسلام كفيلًا بالسياسة العادلة يتقبل كل نظام تقتضيه مصالح أية أمة، ولا يقصر عن تدبير شأن من شئونها، فلماذا اضطرت بعض الدول الإسلامية إلا الأخذ بقوانين غيرها، ولم يكن الإسلام مصدرها في سن نظمها وتشريع قوانينها، وبعبارة أخص لماذا نرى دولة إسلامية مثل مصر تأخذ من غيرها قوانين المعاملات والعقوبات وتحقيق الجنايات وطرق المرافعات ونظم الإجراءات؟ والجواب: إن هذا ليس منشؤه قصور الإسلام ولكن تقصير المسلمين، وذلك أن الإسلام بما نص عليه من الأحكام وبما وضعه من الأصول للاستنباط، وبما أرشد إليه من اعتبار المصالح، فيه غناء لكل دولة إسلامية لو أن المسلمين وفقوا وكان لهم في كل عصر جمعية تشريعية مؤلفة من خيرة أهل العلم بأصول الدين والبصر بأمور الدنيا وعهد إليهم أن يسايروا تطورات الناس والأزمان ويستنبطوا للوقائع المختلفة الأحكام التي تتفق ومصالح الناس، ولا تخالف أصول الدين ولكنهم فرطوا في هذا فتصدى للاستنباط من هو غير أهل له وعمت فوضى الاجتهاد الفردي واضطروا لمعالجة هذه الفوضى بسد باب الاجتهاد والاقتصار على فهم وتطبيق ما استنبط الأئمة المجتهدون السابقون، وكان من نتائج هذا الوقوف تركهم وما وقفوا عنده ومسايرة الزمن بالقوانين والنظم التي تقتضيها المصلحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 السياسة الشرعية الدستورية أولا: شكل الحكومة الإسلامية ودعائمها ... أولًا: شكل الحكومة الإسلامية ودعائمها اتفقت كلمة علماء القانون على أنه لا بد من تحديد علاقة القوة الحاكمة بالأمة المحكومة حتى يمكن التوفيق بين سلطان الحاكم وحرية المحكوم، ومن اختلاف هذه العلاقات اختلفت أشكال الحكومات وتنوعت إلى دستورية واستبدادية، وتعددت أشكال كل واحدة من النوعين. والناظر في آيات الكتاب الكريم وصحاح السنة يتبين أن الحكومة الإسلامية دستورية وأن الأمر فيها ليس خاصًا بفرد وإنما هو للأمة ممثلة في أولى الحل والعقد لأن الله -سبحانه- جعل أمر المسلمين شورى بينهم وساق وصفهم بهذا مساق الأوصاف الثابتة والسجايا اللازمة كأنه شأن الإسلام ومن مقتضايته، فقال عز من قائل في سورة الشورى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} 1، وأمر الرسول المعصوم أن يشاور في الأمر فقال سبحانه: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} 2، وجعل الطاعة لأولي الأمر والمرجع إليهم فقال عز شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} 3، وقال: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} 4. ووردت في السنة عدة أحاديث تدوعو إلى الشورى، وكان عمله -صلى الله عليه وسلم- وسنن الراشدين من بعده على التشاور وعدم الاستقلال بالأمور.   1 الشورى: 38. 2 آل عمران: 159. 3 النساء: 59. 4 النساء: 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وكذلك تضافرت الأدلة على أن الرياسة في الحكومة الإسلامية ليست حقًا لقريش ولا لغير قريش لم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة الصحيحة ما يدل على أن أمر المسلمين بعد رسول الله يكون في أسرة خاصة ولأفراد معينيين ومقتضى ترك هذا التعيين أن يكون أمر الرياسة العليا موكلًا إلى الأمة تختار له من تشاء. ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يستخلف على الناس أحدًا ولو كان الأمر وراثيًا لعهد به إلى صاحبه. والمسلمون لما اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة على أثر وفاة الرسول واختلفوا فيمن يلي الأمر بعده كانت حجج الفريقين المختلفين ناطقة بأنهم لا يعرفون الأمر حقًا لمعين حتى إن بعض الأنصار دعا إلى بيعة سعد بن عبادة، وبعضهم قال للمهاجرين: منا أمير ومنكم أمير وأبو بكر لما حجهم بأن الأئمة من قريش لم يحجهم به على أنه نص من الدين ولكن على أنه نظر صحيح لما لقريش إذ ذاك من العصبية والمنعة. وقد بين أبو بكر نفسه وجهة هذا النظر إذ قال: "إن هذا الأمر إن تولته الأوس نفسته عليهم الخزرج وإن تولته الخزرج نفسته عليهم الأوس ولا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش" ولو كان نصًا من الدين ما خفي على جميع من كان في السقيفة من الأنصار والمهاجرين ما عدا أبا بكر وما احتاج أبو بكر إلى حديث المنافسة بين الأوس والخزرج وما ساغ لعمر أن يقول وهو يفكر زمن خلافته فيمن يستخلفه: "لو كان سالم مولى حذيفة حيًا لوليته" إذ كيف يولي مولى بعدما سمع في السقيفة أن الأئمة من قريش. ويؤيد هذا النصوص الواردة بالاعتماد على الأعمال لا على الأنساب وبالتبرؤ من عصبيته الجاهلية وبأن أكرم الناس عند الله أتقاهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وكذلك قرر الإسلام مسئولية رجال الحكومة أمام الأمة وهذا واضح من النصوص التي يطلب بها من الأمة نصح ولاة الأمر والأخذ على أيدي ظالميهم كقوله -صلى الله عليه وسلم: "إن الله يرضى لكم ثلاثًا ويسخط لكم ثلاثًا يرضى لكم أن تعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئًا وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم" وقوله: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده". وهذه المسئولية من نتائج الشورى إذ لولا أن للأمة حق الرقابة على الحاكم ما أمر أن يستشيرها. والخلفاء الراشدون كانوا يقرون هذه المسئولية فأبو بكر أول ما ولي الخلافة قال: إني وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فاعينوني وإن صدقت فقوموني. وعمر لما ولي الخلافة قال: من رأى منكم في اعوجاجًا فليقومه. قال له أعرابي: والله لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا. وكثير من الأحاديث والآثار متضافرة على تقرير هذه المسئولية. وقد استنتج الأستاذ الإمام -رحمه الله- من إيجاب المشاورة على الحكام وإيجاب النصح على المحكومين أن النظام النيابي واجب في الإسلام قائلًا: "إن النصح والشورى لا يتمان إلا بقيام فئة خاصة من الناس تشاور وتناصح إذ ليس في وسع جمهور الأمة القيام بهما. وإذا كان ذلك الواجب المفروض على الحكام والمحكومين لا يتم إلا بوجود هذه الفئة كان تخصيص فريق من الأمة لهذا العمل واجبًا عملًا بالأصل المتفق عليه: "ما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ومن هذا يتبين أن دعائم الحكومة في الإسلام هي الشورى ومسئولية أولي الأمر واستمداد الرئاسة العليا من البيعة العامة. وهذه دعائم تعتمد عليها كل حكومة عادلة لأن مرجعها كلها أن يكون أمر الأمة بيدها وأن تكون هي مصدر السلطات. وقد قضت الحكمة ان تقرر هذه الدعائم غير مفصلة لأن تفصيلها مما يختلف باختلاف الأزمان والبيئات. فالله أمر بالشورى وسكت عن تفصيلها ليكون ولاة الأمر في كل أمة في سعة من وضع نظمها بما يلائم حالها، فهم الذين يقرون نظام انتخاب رجالها والشرائط اللازمة فيمن ينتخب وكيفية قيامهم بواجبهم وغير ذلك مما تتحقق به الشورى ويتوصل به إلى الاشتراك في الأمر اشتراكًا يحقق أمر المسلمين شورى بينهم. وكذلك نظام المسئولية وكيف يؤدي رجال الشورى واجب النصح وتقديم ما يمكن أن يطرأ، ترك تفصيله لتراعى فيه المصلحة ومقتضيات الزمن. ومثله البيعة ومن يتولاها وشرائطها وكل ما يتعلق بها مما يحقق الغرض منها، وإذًا لا يمكن القول بأن في الإسلام قصورًا عن مسايرة الزمن في شكل الحكومة الملائمة لأن الإسلام أقر أسسًا عادلة لا تختلف فيها أمة عن أمة، وأفسح للناس في أن يقرروا على هذه الأسس ما يرونه -من التفصيلات- كفيلًا بمصالحهم وملائمًا لأحوالهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وإذا كان المسلمون أهملوا تنظيم هذه الشورى حتى ذهبت روحها وجرؤ بعضهم أن يقول إنها مندوبة لا محتومة، وأغفلوا المسئولية حتى استقل بأمرهم ولاتهم وخرست الألسنة عن النصيحة وصمت الآذان عن سماعها. وأضاعوا البيعة ومسخوها حتى جعلوها أمرًا صوريًا لا يحقق الغرض منها ولا يشعر بإرادة الأمة. إذا كانوا قد فعلوا هذا حتى ظهرت حكوماتهم في كثير من الأزمان على أشكال بعيدة عن شكل الحكومات الدستورية فليس هذا من الإسلام ولكنه من إهمال المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ثانيا: حقوق الأفراد مدخل ... ثانيًا: حقوق الأفراد من الأسس التي تبنى عليها النظم الدستورية كفالة حقوق الأفراد والمساواة بينهم في التمتع بها، ولا يخلو قانون أساسي لحكومة دستورية من تقرير الحرية والمساواة وتشريع الأحكام الكفيلة بتحقيقها وصونها. وجميع الحقوق على تعددها ترجع إلى أمرين عامين: الأول: الحرية الشخصية . الثاني: المساواة بين الأفراد في الحقوق المدنية والسياسية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الحرية الشخصية : المراد من الحرية الشخصية أن يكون الشخص قادرًا على التصرف في شئون نفسه وفي كل كل ما يتعلق بذاته، آمنًا من الاعتداء عليه في نفس أو عرض أو مال أو مأوى أو أي حق من حقوقه، على أن لا يكون في تصرفه عدوان على غيره. ومن هذا التعريف يتبين أن الحرية الشخصية تتحقق بتحقيق أمور؛ وأنها معنى مكون من حريات عدة وهي: حرية الذات، وحرية المأوى، وحرية الملك، وحرية الاعتقاد، وحرية الرأي، وحرية التعليم. ففي تأمين الفرد على هذه الحريات كفالة لحريته الشخصية، وهذا ما قرره الإسلام في شأن هذه الحريات. الحرية الفردية أو حرية الذات: في أحكام الإسلام ما يقرر هذه الحرية ويؤمن الفرد على ذاته من أي اعتداء: وذلك أن الإسلام حد حدودًا بأوامره ونواهيه، وشرع لمجاوزة هذه الحدود عقوبات، بعضها مقدرة وهي الحدود، وبعضها موكول تقديره إلى ولاة الأمر وهي التعازير. فلا جريمة إلا في تعدي حدود الله، ولا عقوبة إلا على وفق ما شرع الله. واتفقت كلمة علماء الإسلام على أن العقوبات مما لا تثبت بالرأي والقياس وأنها لا تثبت إلا بالنص، وجاء في القرآن الكريم قوله عز شأنه: {فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} 1، وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} 2 ففي النهي عن العدوان إلا وعلى ظالم وفي الأمر بأن يكون الاعتداء على الظالم مماثلًا لاعتدائه لا يزيد، وفي قصر الجريمة على مخالفة حدود الله، ومنع تشريع العقوبات بالرأي والقياس كفالة للحرية الفردية وتأمين من الاعتداء على الذات. وجميع ما في كتاب الله وسنة رسوله، من النهي عن الظلم والإيذاء للمسلم والذمي، يؤيد حرية الذات وأمان الإنسان من أذى غيره.   1 البقرة: 193. 2 البقرة: 194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 حرية المأوى: في أحكام الإسلام ما يكفل هذه الحرية فإن النفي والإبعاد عقوبة لم يذكرها القرآن الكريم إلا جزاء للذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا. قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1. وفي القرآن الكريم والسنة تقرير حرمة المسكن قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} 2. وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع". حرية الملكية: الإسلام أقر هذه الحرية وكفلها بأحكام عدة: منه أن كل ما شرعه الله من التصرفات التي تفيد نقل ملكية العين أو منفعتها، من بيع وإجارة وقرض وغيره، جعل أساس صحته ونفاذه حرية المتصرف ورضاه واختياره. فالركن الأول لصحة المبادلات المالية التراضي والأصل في هذا قوله عز شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} 3.   1 المائدة: 33. 2 النور: 27، 28. 3 النساء: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ومنها النهي في مواضع عدة القرآن والسنة عن التعدي على مال الغير وأخذه من مالكه بغير حق، قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1، وقال عز شأنه: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} 2. وليس تقرير عقوبة السارق وتضمين الغاصب إلا ضمانًا لحرية الملكية. قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 3، وقال عليه السلام: "لا يحل لأحد أن يأخذ متاع أخيه لاعبًا ولا جادًا، فإن أخذه فليردده عليه" وقال: "على اليد ما أخذت حتى ترد". ومما يؤيد حق الملكية في أحكام الإسلام قوله -صلى الله عليه وسلم- لمن كان يغبن في المبادلات: "إذا بايعت فقل: لا خلابة، ولي الخيار ثلاثة أيام" ونهيه عن بيع الغرر، فإن في تجويز شرط الخيار والنهي عن بيع الغرر ضمانة لتحقق أو خداع له. بل إن تقرير حق الشفعة إذا نظر إليه من ناحية أنه لدفع الضرر عن الجار أو الشريك يؤيد احترام الملكية وإحاطة المالك بما يدفع عنه الضرر ويحول بينه وبين الانتفاع بمكه. حرية الاعتقاد 4: الإسلام أقر هذه الحرية، وترك لكل فرد الحرية التامة في أن يكون   1 البقرة: 188. 2 النساء: 10. 3 المائدة: 38. 4 يجب توضيح وتقييد هذا المعنى بأن قصد المؤلف أنه لا يجوز إجبار أحد على الدخول في الإسلام، ولكن بالنسبة للذين أسلموا أي المسلمين بالفعل فإنه لا يجوز للمسلم أن يبدل دينه ويرتد عن الإسلام فهو ملتزم به أمام الله والشريعة، وحكم الشرع الحنيف أن جزاء المرتد عن الإسلام هو القتل إذا أصر على الردة بعد أن يستتاب، لأن الردة تعتبر خيانة كبرى للدين والمجتمع، فكلام المؤلف إذن ينبغي أن يفهم منه أنه خاص بغير المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 عقيدته بناء على ما يصل إليه عقله ونظره الصحيح، وذلك أن الإسلام جعل أساس التوحيد والإيمان البحث والنظر، لا القهر والإلجاء، ولا المحاكاة والتقليد. ففي كثير من آي الكتاب الكريم لفت الناس إلى النظر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء، ليهتدوا هم بهذا النظر إلى الإيمان الصحيح والدين الحق، كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} 1، وقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2، وفي كثير من الآي الكريمة نعى على من آمن بطريق التقليد لا بطريق البحث والنظر، كقوله تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 3، وفي كثير من الآي نفي للإيمان بطريق الإكراه والقسر كقوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} 4، وكقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} 5، وكقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} 6.   1 الأعراف: 185. 2 البقرة: 164. 3 الزخرف: 22. 4 البقرة: 256. 5 يونس: 99. 6 الكافرون: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 فإذا كان أساس الاعتقاد في الإسلام النظر العقلي والبحث والتفكير في آيات الله ولا محاكاة، ولا تقليد، ولا إلجاء، ولا إكراه، فليس أضمن لحرية الاعتقاد من هذا. ويؤيده ما جاء في الكتاب الكريم من أنه لا سلطان للداعي غير سلطان التذكير والموعظة الحسنة، قال تعالى لرسوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} 1. هذا ما يؤيد حرية الاعتقاد في الإسلام وأما ما يقرره حماية إقامة الشعائر، فإن الإسلام جعل لغير المسلمين الحرية التامة في أن يقيموا شعائر دينهم في كنائسهم ومعابدهم وجعل لهم أن يتبعوا أحكام دينهم في معاملاتهم وأحوالهم الشخصية. والأصل في هذا قوله -صلى الله عليه وسلم- في شأن الذميين: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" وجميع العهود التي كانت تعطى للمعاهدين كان يقرون فيها بالتأمين على الأنفس والأموال التأمين على العقائد وإقامة الشعائر، وفي عهد عمر لأهل إيليا ما نصه "أعطاهم الأمان لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسائر ملتهم، لا تسكن كنائسهم ولا ينقص منها ولا من خيرها ولا من صلبهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم". فالإسلام في تكوين العقيدة أطلق للعقل عنان النظر، وفسح له في مجال البحث والتفكير في الآيات والدلائل وفي حماية عقائد المسلمين أحاطها بما يكفلها ويحفظها وترك أرباب كل دين وما يدينون به.   1 الغاشية: 21-22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 حرية الرأي 1: الإسلام في شأن هذا الحق نظر إلى موضوع الرأي: إما أن يكون أمرًا دينيًا، أو غير ديني. فإن كان الأمر غير ديني، فلكل فرد أن يبدي رأيه فيه حسبما يراه، ويعرب عنه بالوسيلة الميسورة له، وقد حدث في صدر الإسلام وبعده عدة حوادث تدل على حرية الرأي وإقراره في هذه المواضع: من ذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشار على المسلمين في بعض الغزوات أن ينزلوا موضعًا معينًا، فسأله أحد الصحابة: أهذا منزل أنزلكه الله؟ أو هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة".. قال الصحابي للرسول: ليس هذا بمنزل ... وأشار بإنزال المسلمين منزلا آخر، وتحولوا. واختلاف أبي بكر وعمر في حكم الأسرى على مسمع من الرسول خبره مستفيض. وكذلك اختلاف كبار الصحابة في شأن الخلافة وكثير من الشئون. وأما في الأمور الدينية فلكل واحد أن يجتهد فيها، ويرى الرأي الذي يوصله إليه اجتهاده، ما دام اجتهاده في غير موضع النص، ورأيه في حدود أصول الدين الكلية ونصوصه الصحيحة: وذلك أن الإسلام جعل القياس أحد أصوله، ومصدرًا من مصادر التشريع فيه، والقياس هو إلحاق الأشباه بالأشباه، والنظائر بالنظائر، لاستنباط الأحكام التي لم ينص عليها، ... وفي هذا الإلحاق والاستنباط مجال فسيح للرأي،   1 يجب أن يقيد هذا الكلام أيضًا بأن قصد المؤلف أن حرية الرأي مكفولة بشرط عدم الخروج على المبادئ الأساسية في الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ومتسع عظيم النظر، وفي جعله مصدرًا تشريعيًا اعتبار للرأي وتقرير لحقه. وكذلك جاء في السنة، أن كل مجتهد مأجور: إن أخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران. فالمثوبة على الاجتهاد -سواء أدى إلى خطأ أو صواب- دليل على تقدير الإسلام للرأي، وإقراره هذا الحق. ويؤيد هذا ما ورد في كثير من النصوص من ذم التقليد والنعي على المقلدين الذين يهملون عقولهم ولا يحررونها من أسر التقليد، وما جاء على ألسنة كثير من المجتهدين من التصريح بأنهم ما اجتهدوا ليقلدوا وإن آرائهم لأنفسهم وخطأهم عليها. فليس في أصول الإسلام ونصوصه ما ينافي حرية الرأي بالمعنى الذي بيناه، بل فيها ما يؤيده ويقرره. وأما ما ورد عن ابن عباس من قول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار"، وما ورد عن أبي بكر من قوله: "أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن قلت في كتاب الله برأيي؟ " ... فهو محمول على الرأي الذي يستند إلى مجرد الهوى ولا يعتمد على مصلحة عامة ولا أصل ديني كلي. وأما ما حدث في الإسلام من سد باب الاجتهاد وإيجاب التقليد لأئمة معينين، فإن هذا ليس مقتضى أصول الدين أو نصوصه وإنما هو علاج لجأ إليه المتأخرون سدًا لباب الفوضى، فهو من قبيل ارتكاب أخف الضررين وأهون الشرين، ولو وفق المسلمون إلى علاج تلك الفوضى ما كان في الإسلام مانع من الاجتهاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 حرية التعليم: الإسلام نص على أن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ونفى أن يستوي الذين لا يعلمون، ولم ينص على أنواع معينة من العلوم وحظر ما عداها، فكل علم يوصل إلى مصلحة دنيوية أو دينية فهو مطلوب وهو حق مشاع بين أفراد الناس ذكورهم وإناثهم. وليس في أصول الإسلام ما يدل على أنه يضيق بعلم أو يقف في سبيل تعليم بل إن في حوادث التاريخ دليلًا على أن المسلمين وسعت صدورهم وبلادهم مختلف العلوم وطبقات العلماء الذين ما وجدوا في غير الإسلام متسعًا لعلومهم ونظرياتهم. وإن ما نقل إلى العربية من علوم الفرس على يد ابن المقفع وأضرابه، وما عرب من علوم اليونان في عهد المنصور والرشيد والمأمون، وما كانت عليه حال العلم والتعليم في معاهد بغداد وقرطبة وسمرقند، دليل على تقدير الإسلام لحرية العلم وتأييده للتعليم. وكيف لا يتفق الإسلام وحرية التعليم، وأول أسس الإسلام أن يكون الإيمان عماده البرهان والحجة والنظر في ملكوت السماوات والأرض! وهذا النظر يحتاج إلى مختلف العلوم وتعرف كثير من النظريات! ... وكيف يكلف المسلمون بقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} إذ كان في الإسلام ما يقيد حريتهم في إعداد القوة بحظر البحث في أنواع من العلوم أو الفنون التي تتطلبها حاجات الإعداد في مختلف العصور. فالحقيقة الثابتة أن الإسلام يقرر حرية العلم، بل يجعل طلبه فريضة محكمة على كل مسلم ومسلمة، وما يرمي به المسلمون من اضطهاد أنواع من العلوم في بعض العصور، فليس سببه أمرًا في طبيعة الإسلام. وفيما كتبه الأستاذ الإمام في كتابه "الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية" مقنع لمن في نفسه ريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 المساواة بين الأفراد في الحقوق المدنية والسياسية ... المساواة بين الأفراد في الحقوق المدنية والدستورية: المساواة شعار من أظهر شعائر الإسلام، ونصوصه وأحكامه ناطقة بتقريرها على أكمل وجوهها: وذلك أن الإسلام لا يفرق بين واحد وآخر في الخضوع لسلطان قانونه، وليس فيه فرد فوق القانون مهما علت منزلته، وأمير المؤمنين والوالي وكل واحد من الأفراد متساوون في أحوالهم المدنية والجنائية، لا يمتاز واحد بحكم خاص ولا بطرق محاكمة خاصة بل جميعهم أمام القانون سواء. وكذلك لا يميز الإسلام واحدًا في التمتع بالحقوق: فلم يجعل منزلة أو ميزة حقًا لأفراد أسرة معينة، لا يستمتع بها سواه، بل ناط الأمر بالعمل له، ومهد السبيل لكل عامل، فكل مناصب الدولة إمارة المؤمنين إلى أصغر منصب فيها حق مشاع بين أفراد الأمة، لا يحول بينه وبينها نسب أو عصبية وينطق بهذا قوله -صلى الله عليه وسلم: "لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى" وقوله -صلى الله عليه وسلم- لبني هاشم: "يا بني هاشم. لا يجئني الناس بالأعمال وتجيئوني بالأنساب. إن أكرمكم عند الله أتقاكم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وفي كثير من النصوص تقرير المساواة وجعلها من شعائر الإيمان، كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وقوله -صلى الله عليه وسلم: "إخوانكم خدمكم" وقوله -عليه السلام: "الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأحمر على أسود ولا لعربي على عجمي". وفي كثير من الأحكام تحقيق هذه المساواة: ففي الحج كلهم بلباس واحد عراة الرءوس لا يلبسون مخيطًا، وفي الصلاة كلهم في صفوف متساوية، وفي التناصح للوضيع على الرفيع ما للرفيع على الوضيع وفي الجنايات النفس بالنفس والعين بالعين والجروح قصاص، ... وهكذا في سائر الأحكام الإسلامية الناس سواسية. وقد كانت هذه المساواة في صدر الإسلام شعار المسلمين في حربهم وسلمهم، وكان الذميون والمعاهدون يستمتعون في بلادهم بنعمة هذه المساواة عملًا بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" وقوله -صلى الله عليه وسلم: "من آذى ذميًا فأنا خصمه يوم القيامة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ثالثا: السلطات في الإسلام مصدرها ومن يتولاها السلطة التشريعية ... ثالثًا: السلطات في الإسلام مصدرها ومن يتولاها ا- السلطة التشريعة: يتولى السلطة التشريعية في الحكومات الدستورية الحاضرة أعضاء المجالس النيابية، فهم الذين يقومون بسن القوانين وتشريع الأحكام التي تقتضيها حاجات الزمن ومصالح الناس ويشرفون على تنفيذها. وأما في الدولة الإسلامية فالذي يتولى السلطة التشريعية هم المجتهدون وأهل الفتيا، وسلطتهم لا تعدو أمرين: أما بالنسبة إلى ما لا نص فيه فعلمهم قياسه على ما فيه نص واستنباط حكمه بواسطة الاجتهاد وتخريج العلة وتحقيقها، وذلك أن الدولة الإسلامية لها قانون أساسي إلهي شرعه الله في كتابه وعلى لسان رسوله فحيث يوجد نص في هذا القانون يجب اتباعه ولا يكون تطبيق النص صحيحًا. وإذا لم يوجد نص في هذا القانون كان لرجال التشريع الإسلامي مجال نصوص القانون الأساسي فيشرعون الأحكام فيما لا نص فيه بواسطة القياس على ما فيه نص. وكل دولة إسلامية في أي عصر من العصور لا تستغني عن وجود جماعة من أهل الاجتهاد الذين استكملوا شرائطه وتوفرت لهم القدرة التامة. يرجع إليهم في فهم نصوص القانون الأساسي الإلهي وتطبيقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وفي تشريع الأحكام لما يحدث في الأقضية والحوادث وما يطرأ من المصالح والحاجات. وقد انقضى القرن الأول الهجري ولم يكن للدولة الإسلامية قانون مدون سوى القرآن الكريم الذي جمع في عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق وكان التشريع في ذلك القرن على عهد الخلفاء الراشدين وصدر الدولة الأموية بالرجوع إلى القرآن وإلى حفاظ السنة، فإن وجد أهل الفتيا -من الصحابة والتابعين وتابيعهم- نصًا اتبعوه وإلا اجتهدوا رأيهم، وما كانت تدون هذه الآراء الاجتهادية ولا تعتبر قانونًا ولا شرعًا إلا باعتبار أن مستندها ومرجعها إلى القرآن والسنة. لكن ما اتسعت دائرة الفتح وانتشر الإسلام في الممالك القاصية وتفرق حفاظ الشريعة ورواتها في مختلف الأنحاء مع زيادة وسائل الحضارة والعمران وتجدد الأقضية والحوادث بتشعب المعاملات والأحوال خيف من تشتت أحكام الشريعة ودخول الفوضى في التشريع فكان هذا باعثًا على أمرين: الأول: تدوين الحديث للرجوع إلى ما فيه من الأحكام. الثاني: تدوين المجتهدين اجتهاداتهم وأصولهم التي استندوا إليها في التفريع والاستنباط. وأول من قام بالأمر الأول الإمام الزهري بأمر من الخليفة عمر بن عبد العزيز فقد دون ما وصل إليه من السنة في صحف وعني الخليفة بتوزيعه على الأمصار في أواخر القرن الأول الهجري، وقام بالأمر الثاني الأئمة المجتهدون: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وداود وزيد بن علي وجعفر الصادق وغيرهم، ومن هذا الحين صار رجال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 التشريع يرجعون إلى الكتاب والسنة واجتهادات الأئمة، وما كان في هذا من بأس لأن الرجوع إلى مجتهدات الأئمة ما كان إلا للاهتداء إلى فهم نصوص الكتاب والسنة والاستعانة على الاستنباط لا لأنها أصل في الدين وقانون أساسي. وهذه هو الغرض الذي قصد إليه المجتهدون، فهم إنما أرادوا أن يضيئوا السبيل لمن يريد الاستنباط من أهله وأن لا يدعوا السبيل ليتهجم على الكتاب والسنة من ليس أهلًا للاستنباط، وبعبارة أخرى أرادوا أن يسنوا طريق التشريع لرجال التشريع الذين يأتون بعدهم ويمكنوا من ليس له وسائل الاجتهاد من تعرف الأحكام. وما خطر لإمام منهم -رضي الله عنهم- أن تلتزم الأمة آراءهم ولا أن يكون تدوين مجتهداتهم حائلًا بين أولي العلم وبين الرجوع إلى نصوص القانون الأساسي ليفهموا كما فهموا ويستنبطوا كما استنبطوا ولكن من جاء بعدهم أساء فهم غرضهم وحمل المسلمين على اتباع آرائهم وحرم الاجتهاد بالرجوع إلى أصل القانون الأساسي فكان من ذلك الحرج قصور التشريع الإسلامي عن مسايرة الزمن وتحقيق مصالح الناس والتجاء بعض الحكومات الإسلامية إلى العمل بقوانين أمم إسلامية. والحق أن السلطة التشريعة في الإسلام لو أنها مع اعتمادها على القانون الأساسي الإلهي وضع لها نظام لانتخاب رجالها من بين من تتوفر فيهم شرائط الاجتهاد وحدد عددهم واختصاصهم والتزمت الدولة بآرائهم قضاء وتنفيذًا لكانت كأفضل سلطة تشريعية في حكومة دستوية ولكفلت حاجات المسلمين في مختلف العصور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ولكن ترك أمر التشريع فوضى فادعى الاجتهاد من ليس أهلًا له وتعذر تعيين من له السلطة التشريعية واستحال اجتماعهم وتبادلهم الآراء، وكان من هذا تشعب الآراء واختلاف الأحكام اختلافًا لم يتيسر للحكومات الإسلامات معه أن ترجع إلى آرائهم أو تلتزمها. ولما وجد العلماء أن هذه الفوضى التشريعية لا تقف عند حد اضطروا إلى تدبير علاج لها، وكانت الحكمة في أن يعالجوها بوضع نظام لرجال السلطة التشريعية يحول بين التشريع وبين هذه الفوضى، ولكنهم عالجوها بسد باب الاجتهاد ووقف حركة التشريع فوقعوا في شر مما اتقوه ونبا التشريع الإسلامي عن مصالح الناس وحاجاتهم لأن المصالح في تغير والحاجات في تجدد والتشريع الإسلامي واقف عندما وصل إليه الأئمة في القرن الثاني الذين راعوا في استنباطهم حال عصرهم ومصالح الناس في زمنهم وبلادهم. ومن هذا يتبين أن فتح باب الاجتهاد الفرد شر على التشريع الإسلامي لأنه يمهد السبيل للأدعياء ويكثر الخلف ويشعب الآراء. وشر منه سد باب الاجتهاد لأنه يوقف حركة التشريع ويجعل القانون الإسلامي قاصرًا عن مصالح الناس والخير كله هو اجتهاد الجماعة وتشريعهم، وهذا هو سبيل الصحابة ومن تبعهم بإحسان فقد كان أبو بكر إذا أعياه أن يجد في الأمر نصًا في كتاب الله أو سنة رسوله جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم فإن أجمع رأيهم على أمر قضى به. وكذلك كان يفعل عمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وفي الدولة الأموية بالأندلس أنشئت دار في قرطبة لشورى القضاء أعضاؤها من جلة العلماء يرجع إليهم في تقرير الأحكام وكثيرًا ما يذكر في تراجم علماء الأندلس أن فلانًا كان مشاورًا. وطلب فلان إلى الشورى فأبى وذكر القرطبي هذه الشورى بقوله إن الشورى خالفت الإمام مالكًا في عدة أحكام أخذت الدولة العثمانية في وضع أساس لعلاج وقوف حركة التشريع الإسلامي فكونت من علماء الأمة وفقهائها جماعة سمتهم "جمعية المجلة" وانتخبوا من كتب مذهب أبي حنيفة "مجلة الأحكام العدلية" وقد كان مبدأ عملها قاصرًا على الترتيب وتهذيب الوضع والاختيار من كتب المذهب، ولو طال زمنها لتطور عملها إلى التشريع ومسايرة الزمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ب- السلطة القضائية : الذي يتولى هذه السلطة في الإسلام هم رجال القضاء. وقد روعي في الحكومات الدستورية الحاضرة أن يكون رجال القضاء غير رجال التشريع تطبيقًا لمبدأ الفصل بين السلطات ولكن في صدر الإسلام كانت السلطة التشريعية والقضائية تجتمع في يد واحدة لأن الخليفة كان يتولاها فإن وجد نصًا قضى به وإن لم يجد يستشير الفقهاء والمفتين من الصحابة بالقضاء: فكان رجال القضاء من المجتهدين الذين لهم السلطة التشريعية وكان قانونهم هو كتاب الله والسنة الصحيحة وما يستقر عليه رأي جماعة التشريع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 أخرج البغوي عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال: أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع عليه النفر كلهم يذكر عن رسول الله فيه قضاء فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا. فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن رسول الله جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم فإن أجمع رأيهم على أمر قضى به. وكان عمر يفعل ذلك فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان فيه لأبي بكر قضاء فإن وجد أبا بكر قضى فيه بقضاء قضى به وإلا دعا رءوس المسلمين فإذا اجتمعوا على أمر قضى به. وأول خليفة ولى السلطة القضائية نفرًا هو عمر بن الخطاب. فقد ولى أبا الدرداء قضاء المدينة وولى شريحًا قضاء البصرة وولى أبا موسى الأشعري قضاء الكوفة وكان هؤلاء جميعًا يولون القضاء والتشريع مما يدل على ذلك ما ورد في كتب تعيين القضاة فقد جاء في رسالة عمر لأبي موسى الأشعري ... "الفهم الفهم فيما ورد عليك مما ليس فيه نص في كتاب ولا سنة". ولما دون الأئمة المجتهدون اجتهاداتهم واتخذها رجال القضاء مرجعًا لهم كان عمل القضاة لا يخرج عن تطبيق ما رآه غيرهم وكانوا يقلدون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 المجتهدين والمفتين حتى وصل الأمر إلى أن قال علماء الحنفية: إن تقليد الجاهل القضاء صحيح عندنا ويحكم بفتوى غيره. ومن هذا أن القضاء في الحكومات الإسلامية كان له طوران: الأول: كان مرجع القضاة فيه إلى القانون الأساسي وكانت لهم مع السلطة القضائية سلطة التشريع. والثاني: كان مرجع القضاة فيه إلى اجتهاد الأئمة وما كان لهم إلا التطبيق بالتقليد. وتعيين القضاء من حق الخليفة فتارة يتولى حقه بنفسه ويعين رجال القضاء وتارة يكل هذا التعيين إلى ولاة الأمصار. يدل على هذا ما جاء في عهد علي بن أبي طالب إلى الأشتر النخعي حين ولاه مصر إذ يقول له: "ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا يمحكه الخصوم ... إلى آخر ما جاء فيه. وليس تعيين القضاة مانعًا الخليفة أن ينظر بنفسه في فصل بعض الخصومات لأنه هو صاحب السلطة القضائية وهؤلاء إنما يعملون بالنيابة عنه وهذه الإنابة لا تسلبه حقه. وقد حالت فوضى التشريع دون أن يكون للقضاة في الحكومة الإسلامية قانون مفصل يرجعون إليه في أحكامهم بل كان المرجع إلى اجتهادهم في الدور الأول من القضاء الذي كان يرجع فيه إلى الأصول وإلى اجتهاد سائر المجتهدين والمفتين في الدور الثاني الذي كان فيه القضاة مقلدين يرجعون إلى مجتهدات غيرهم. ولذا كانت تضطرب الأحكام ولا يتقيد القضاة بقانون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 والأحكام يخالف بعضها في الولاية الواحدة والولايات المختلفة. وأظهر فرق بين رجال السلطة القضائية في الحكومات الحاضرة ورجالها في الحكومة الإسلامية، أن القضاة في الحكومة الإسلامية لم يحد اختصاصهم بحد يمنع غيرهم من أرباب السلطة التنفيذية أن يعتدى على اختصاصهم ويتصرف فيما هو من حقهم. ولذلك سلب منهم النظر في المظالم والجرائم وإقامة الحدود. وكذلك لم يوضع نظام يبين علاقتهم برجال السلطة التنفيذية، بل ترك الأمر بين ضعفاء وأقوياء بدون قانون، فكان تنفيذ الأحكام إلى الولاة إن رضوا نفذوا وإن لم يرضوا عطلوا. ولا كذلك الحال في الحكومات الحاضرة فإن اختصاص القضاء مبين بالقانون وما يدخل من السلطة القضائية في اختصاص غير القضاء مبين بالقانون ولا سبيل إلى الاعتداء. وكذلك علاقة القضاء برجال السلطة التنفيذية التي يناط بها تنفيذ الحكم القضائي أن تنفذوه ولو بالقوة بحيث إذا وجدت هوادة في التنفيذ تكون مسئولية الجهة التنفيذية كبيرة بحكم القانون وليس في الإسلام ما يمنع وضع نظام للسلطة القضائية يحد اختصاصها ويكفل تنفيذ أحكامها ويضمن برجالها حريتهم في إقامة العدل بين الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ج- السلطة التنفيذية : أما رجال السلطة التنفيذية فهم ولاة الأمصار وقواد الجيوش وجباة الضرائب ورجال الشرطة وسائر عمال الحكومة. وكانت الأعمال التنفيذية في الحكومات الإسلامية مقسمة بين هؤلاء العمال على غير نظام معروف فقد جمع ليحيى بن أكثم بين القضاء وقيادة الجهاد في بعض الغزوات وجمع لآخر بين الحسبة والشرطة وبين ولاية الحرب والنظر في المظالم، وكان عموم الولاية وخصوصها لا يستند إلى نظام ولا يعتمد على قانون. وقد أدى هذا إلى تشعيب مسالك الولاة وجعل ديدنهم تناهب السلطة يسعى كل منهم في بسط نفوذه وإضعاف نفوذ غيره لأنه لم يكن لكل ولاية حد معروف. وليس أضيع لحقوق الأفراد وأدعى إلى سلب حريتهم من عدم تحديد وظيفة كل من القابضين على مقاليد السلطة العامة. وكان أشد الولايات تأثرًا بهذه الفوضى السلطة القضائية لحاجتها إلى معاونة السلطة التنفيذية في تنفيذ أحكامها فكانت كرامة القضاء موقوفة على شخصية القاضي فإذا كان مؤيدًا من الوالي نفذت أحكامه وأحلت مكانتها من الاحترام وإذا لم يكن مؤيدًا منه لم يكن له حق تكليف السلطة التنفيذية بأن تنفذ أحكامه. وهذا ما دعا الناس إلى طرق أبواب رجال السلطة التنفيذية للمطالبة بحقوقهم لأنه ليس للقضاء سلطان في نظرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 رابعا: الخلافة، وجوبها وشروطها مدخل ... رابعا: الخلافة وجوبها وشروطها الإمامة الكبرى والخلافة وإمارة المؤمنين ألفاظ مترادفة على معنى واحد رسمه العلماء بأنه رياسة عامة في الدين والدنيا قوامها النظر في المصالح وتدبير شئون الأمة وحراسة الدين وسياسة الدنيا. والبحث في هذا الموضوع ذو شعب متفرقة والباحثون أفاضوا القول فيه من جميع نواحيه. والموضوعات التي سنخصها بالبحث ثلاثة: ما الذي أوجب نصب الخليفة؟ وما الشروط المعتبرة فيمن يولى الخلافة؟ وما مكانة الخلافة من الحكومة الإسلامية؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 أ- وجوب نصب الخليفة : جمهور المسلمين على أن نصب الخليفة أي توليته على الأمة واجب بالشرع، ومستندهم في هذا الإيجاب أمور: أولًا: إجماع الصحابة على تولية خليفة حتى قدموا أمر البيعة على دفن الرسول. وثانيًا: أن ما هو واجب من إقامة الحدود وسد الثغور لا يتم إلا به، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وثالثًا: أن فيه جلب المنافع ودفع المضار، وهذا واجب بالإجماع. وفريق من المسلمين ذهبوا إلى أنه واجب بالعقل محتجين بأن كل أمة لا تستغنى عن قوة تحمي قوانينها وتدير شئون أفرادها وبأن وجود الحاكم الوازع ضروري من ضروريات الاجتماع البشري. والنظر الصحيح ينتج أن هذين الرأيين يمكن التوفيق بينهما لأنه لا مانع أن تكون تولية الخليفة مما يقضي به العقل لحياطة القوانين وحماية الأفراد وقرره الشرع تأييدًا لمقتضى العقل فيكون العقل والشرع متوافقين على إيجاب تولية الخليفة غير أن العقل قاض بوجود الوازع المطلق والشرع داع إلى مثل أعلى ووازع يستمد سلطانه من بيعة الأمة لا من القهر فمقتضى الشرع أكمل فرد من أفراد ما يقتضيه العقل. قال ابن خلدون في المقدمة "وقد شذ بعض الناس فقال بعدم وجوب نصب الخليفة رأسًا لا بالعقل ولا بالشرع، منهم الأصم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 المعتزلة وبعض الخوارج وغيرهم. والواجب عند هؤلاء إنما هو إمضاء أحكام الشرع فإذا تواطأت الأمة على العدل وتنفيذ أحكام الله تعالى لم تحتج إلى إمام ولا يجب نصبه. وهؤلاء محجوجون بالإجماع والذي حملهم على هذا المذهب إنما هو الفرار من الملك ومذاهبه من الاستطالة والتغلب" والنتيجة أن عامة العلماء متفقون على أن من الواجب أن يكون للمسلمين إمام أكبر أو رياسة عليا تجتمع حولها كلمة الأمة وتكون شعار وحدتها والمنفذة لإرادتها. والخلف في منشأ هذا الوجوب لا يتوقف عليه عمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 ب - الشروط المعتبرة فيمن يولى الخلافة: قال أبو الحسن المارودي في الأحكام السلطانية "وأما أهل الإمامة فالشروط المعتبرة فيهم سبعة: الأول: العدالة على شروطها الجامعة. الثاني: العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام. الثالث: سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان ليصح معها مباشرة ما يدرك بها. الرابع: سلامة الأعضاء من نقص يمنع من استيفاء الحركة وسرعة النهوض. الخامس: الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح. السادس: الشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو. السابع: النسب وهو أن يكون من قريش لورود النص فيه وانعقاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الإجماع عليه ولا اعتبار بضرار حين شذ فجوزها في جميع الناس لأن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- احتج يوم السقيفة على الأنصار في دفعهم عن الخلافة لما بايعوا سعد بن عبادة عليها بقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش". فأقلعوا عن التفرد بها ورجعوا عن المشاركة فيها حين قالوا: منا أمير ومنكم أمير تسليمًا لروايته وتصديقًا لخبره ورضوا بقوله: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "قدموا قريشًا ولا تتقدموها" وليس مع هذا النص المسلم شبهة لمنازع فيه ولا قول لمخالف له". فأما الشروط الستة الأولى: من العدالة، والعلم، وسلامة الحواس وسلامة الأعضاء، والرأي، والشجاعة فظاهر اشتراطها وكلها ترجع إلى العدلة والكفاية والقدرة على حمل المسلمين أن يتبعوا قانونهم ومنع غيرهم أن يعتدي عليهم. وكلها لا بد منها ليقوم الإمام بواجبه من حراسة الدين وسياسة الدنيا. وكلها متفق عليها. وأما الشرط السابع فمختلف فيه ومنشأ الخلاف عدم القطع بصحة النص الوارد فيه، ومعارضته للنصوص الكثيرة التي وردت بإلغاء اعتبار الأنساب والاعتماد على الأعمال والنعي على من دعا إلى عصبية وفقد الرابطة بينه وبين الغاية التي من أجلها يولى الإمام، لأن شرط الشيء لا بد أن يكون ذا صلة في الوصول إلى المقصود به. والنسب القرشي إن كان مشروطًا لذاته فليست الغاية تقتضيه لأن حراسة الدين وسياسة الدنيا تكون من الكفء القادر أيا كان نسبه، وإن كان مشروطًا لما كان لقريش من المنعة والقوة التي يستعين بها الخليفة على أداء واجبه وجمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 الكلمة حوله فهو شرط زمني مآله اشتراط أن يكون الخليفة من قوم أولي عصبية غالبة ولا طراد لاشتراط القرشية. قال ابن خلدون بعد بحث مستفيض: "فإذا ثبت أن اشتراط القرشية إنما هو لدفع التنازع بما كان لهم من العصبية والغلب، وعلمنا أن الشارع لا يخص الأحكام بجيل ولا عصر ولا أمة، علمنا أن ذلك إنما هو من الكفاية فرددناه إليها وطردنا العلة المشتملة على المقصود من القرشية وهي وجود العصبية. فاشترطنا في القائم بأمر المسلمين أن يكون من قوم أولي عصبية غالبة ليستتبعوا من سواهم، وتجتمع الكلمة على حسن الحماية ولا يعلم ذلك في الأقطار والآفاق كما كان في القرشية إذ الدعوة الإسلامية التي كانت لهم كانت عامة وعصبية العرب كانت وافية بها فغلبوا سائر الأمم، وإنما يخص لهذا العهد كل قطر بمن تكون له فيه العصبية الغالبة. وإذا نظرت سر الله في الخلافة لم تعد هذا. لأنه سبحانه إنما جعل الخليفة نائبًا عنه في القيام بأمور عبادة ليحملهم على مصالحهم ويردهم عن مضارهم وهو مخاطب بذلك ولا يخاطب بالأمر إلا من له قدرة عليه". ومن استجمع الشروط المتفق عليها لا يصير إمامًا له على الناس حق الطاعة إلا إذا بايعه أهل الحل والعقد الذين تختارهم الأمة من أهل العدالة والعلم والرأي وتتبعهم في أمورها العامة وأهمها اختيار الخليفة ومبايعته. وقد ذكر العلماء أن الإمام كما يصير إمامًا بالبيعة يصير إمامًا بالاستخلاف وبولاية العهد. وهذا القول ظاهره ليس صوابًا لأن الاستخلاف والعهد إن لم يقره أهل الحل والعقد لا يكون المستخلف به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 إمامًا ولا يجب له حق الطاعة. فالعمدة على بيعة أهل الحل والعقد، لا على الاستخلاف والعهد. ولو أن المسلمين رأوا بعد وفاة أبي بكر خيرًا من عمر وبايعوه ما عارضهم معارض ولا كان عهد أبي بكر حجة عليهم، وكذلك لو بايع المسلمون واحدًا غير الستة الذين جعل عمر الشورى فيهم، فالعهد أو الاستخلاف لا يعدو أن يكون ترشيحًا من السلف للخلف. والأمة بعد ذلك صاحبة القول الفصل فيمن تختاره إمامًا، كما أن لها الحق في الإشراف على سياسته في عهد إمامته ولها الحق في عزله إذا لم يقم بما عاهدهم عليه في بيعته. فالرأي في تولية الخليفة لأولي الحل والعقد لا للفرد أيا كان ولذلك عد عمر مبادرته ببيعة أبي بكر فلته وقي الله المسلمين شرها لأنه بايعه قبل التشاور بين أولي الحل والعقد. وأبو بكر لم يرشح عمر حتى أطال التشاور مع كبار الصحابة ولم يعبه أحد إلا بشدته، ولما أخرج عبد الرحمن بن عوف نفسه من رجال الشورى الستة وجعلوا له الاختيار بقي ثلاثًا لا تنكحل عينه بكثير نوم وهو يشاور كبراء المهاجرين والأنصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 ج- مكانة الخلافة من الحكومة الإسلامية : قدمنا أن أمر المسلمين يجب أن يكون شورى بينهم لا يستقل به واحد منهم وأن تكون الرياسة العليا لمن يبايعه أولو الحل والعقد أيا كانت أسرته وأيا كان منبته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وهذه الرياسة العليا مكانتها من الحكومة الإسلامية مكانة الرياسة العليا من أية حكومة دستورية، لأن الخليفة إنما يستمد سلطانه من الأمة الممثلة في أولي الحل والعقد ويعتمد في بقاء هذا السلطان على ثقتهم به ونظره في مصالحهم، ولهذا قرر علماء المسلمين أن للأمة خلع الخليفة لسبب يوجبه، وإن أدى إلى الفتنة احتمل أولى المضرتين وعللوا هذا بأن من ملك المسئولية ليستقيم الأمر يملك العزل عند اعوجاجه، وأبو بكر الصديق أول من ولي الخلافة قال في فاتحة خطبته: "أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم. فإن أحسنت فأعينوني، وإن صدقت فقوموني" وقال في خاتمتها: "أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم". وروي مثل هذا عن عمر وعثمان مما يؤيد إيمانهم بسلطة الأمة عليهم وشعورهم بالمسئولية أمامها. وإنما تختلف الخلافة عن سائر الرياسات العليا في الحكومات الدستورية في أن الخلافة رياسة عامة في أمور الدين والدنيا وكما أن الخليفة تشمل ولايته التشريع والقضاء والتنفيذ وغير هذا مما تقتضي به سياسة الملك ونظام الشئون الدنيوية فإن له أيضًا إمامة الصلاة وإمارة الحج والإذن بإقامة الشعائر في المساجد والخطبة في الجمع والأعياد، وغير هذا من الشئون الدينية. ومنشأ الجمع بين الولايتين له أن الغاية من إقامته ومبايعته أن يقوم بحراسة الدين وسياسة الدنيا به، وذلك قاض بأن يكون له النظر في الشئون الدينية والدنيوية معًا، وكذلك جميع الشئون هي وسائل لإصلاح الرعية واستقامة أمورها، وهذا الإصلاح هو الغاية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 المرجوة من نصب الخليفة ومبايعته، ولا تجد في الإسلام شأنًا دينيًا لا صلة بينه وبين سعادة الإنسان في دنياه. وليس عموم ولاية الخليفة وشمولها للشئون الدينية بجاعل الخليفة ذا صلة إلهية أو مستمدًا سلطانه من قوة غيبية، وما هو إلا فرد من المسلمين وثقوا بكفايته لحراسة الدين وسياسة الدنيا فبايعوه على أن يقوم برعاية مصالحهم، وله عليهم حق السمع والطاعة، وسلطانه مكتسب من بيعتهم له وثقتهم به. ومن هذا يتبين أن الصفة الآلهية التي ألصقها بالرياسة العليا في الحكومة الإسلامية بعض الجهال من عباد السلطة تفخيمًا لشأن الخلفاء وتقديسًا لهم ليست من أصل الدين في شيء وقد قيل لأبي بكر: يا خليفة الله فقال: لست بخليفة الله ولكني خليفة رسول الله. وجمهور العلماء على أنه لا يجوز تلقيب الخلفاء بهذا اللقب ونسبوا قائله إلى الفجور وقالوا: يستخلف من يغيب أو يموت، والله لا يغيب ولا يموت. وكثير من آيات الكتاب الكريم تنفي أن يكون للرسول سلطة دينية على أحد، وأولى أن لا تكون هذه السلطة لواحد من خلفائه. قال تعالى لرسوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} 1، وقال: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} 2، وقال: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 3. وفي كثير من آي الكتاب وسنة الرسول وخلفائه الراشدين ما يؤيد الاهتداء برأي الجماعة ورجوع الخليفة عن رأيه إذا بان الصواب في رأي غيره. في كتاب الإسلام والنصرانية "الخليفة عن المسلمين ليس بالمعصوم ولا هو مهبط   1 الغاشية: 21. 2 ق: 45. 3 البقرة: 272. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 الوحي ولا من حقه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة وهو لا يخصه الدين في فهم الكتاب والعلم بالأحكام بمزية ولا يرتفع به إلى منزلة بل هو وسائر طلاب الفهم سواء إنما يتفاضلون بصفاء العقل، وكثرة صاحبة الحق في السيطرة عليه وهي التي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها فهو حاكم مدني من جميع الوجوه، وليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير عن الشر وهي سلطة خولها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم كما خولها لأعلاهم يتناول بها من هو أدناهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 السياسة الشرعية الخارجية مدخل ... السياسة الشرعية الخارجية: السياسة الخارجية للدولة تدبير علاقاتها بغيرها من الدول. والأمم قديمًا كانت حالها لا تساعد على وجود صلات بين إحداها والأخرى لأن القوية كانت تطمع في استبعاد الضعيفة والضعيفة كانت في خوف من تغلب القوية، وما كانت إذ ذاك ضمانات تقف بالمطامع أو تنفي المخاوف، فلهذا كانت كل أمة في عزلة عن الأخرى، وما كانت لواحدة منها سياسة خارجية إلا تدبير الحروب والإغارات. ولكن الأمم حديثًا لما اشتدت حاجة كل واحدة منها إلى الأخرى وأصبحت كالأفراد مدينة بطبعها لا غنى لأمة عن غيرها، مست هذه الحاجات المتبادلة إلى تدبير العلاقات الخارجية بوضع الأسس التي تبنى عليها، والقوانين التي تتبع فيها، والقوى الكفيلة بتنفيذها. ولهذا وضع علم القانون الدولي لتقرير القواعد التي تستبين بها حقوق كل دولة وواجباتها قبل غيرها من الدول في حالي السلم والحرب. وأول ما قرره العلماء من قواعده أن تكون علاقات الدول أساسها السلم حتى يتيسر لها تبادل المنافع والتعاون على بلوغ النوع الإنساني درجة كماله وقرروا أنه لا يسوغ قطع هذه الصلة السلمية إلا عند الضرورة القصوى التي تلجئ إلى الحرب وبعد أن تفشل جميع الوسائل السلمية في حسم الخلاف. وسنوا لحال السلم أحكامًا تكفل لكل دولة حقوقها وواجباتها قبل غيرها حتى تقطع أسباب الخلاف بالقدر الممكن وسنوا لحال الحرب -إذا اضطر الخلاف إلى وقوعها- أحكامًا تخفف ويلاتها وتهون من شرورها بالقدر الممكن كذلك. فمن الأحكام السليمة وجوب اعتراف الدول بوجود الدولة التي استكملت شرائط الدولية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 ووجوب تمتع كل دولة بحريتها التامة في سياستها الداخلية واحترام حدودها ومعاملة رعايها بالحسنى وإزالة العقبات من طريق تجارتها وإكرام وفادة سفرائها وقناصلها وغير هذا من الأحكام التي يقصد بها تجنب وقوع الخلاف. ومن الأحكام الحربية وجوب إعلان الحرب بطريق يمنع الغدر والأخذ غيله، وتحريم استعمال أنواع من القنابل والقذائف والأسلحة التي تزيد في تعذيب الإنسان، وإحسان المعاملة للجرحى والأسرى وغير هذا من الأحكام التي يراد بها تخفيف ويل الحرب، ورحمة الإنسان بالإنسان. وهذا بيان ما قرره الإسلام أساسًا لعلاقة الدولة الإسلامية بغيرها وما شرعه لتدبير هذه العلاقة في حالي السلم والحرب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 علاقة الدولة الإسلامية بالدول غير الإسلامية : اتفقت كلمة علماء المسلمين على أن الدولة الإسلامية إنما تعتمد في تكونها على الوحدة الدينية وأن جميع من جمعتهم هذه الوحدة هم أمة واحدة وإن اختلفوا في اللغة أو الجنس أو الحكومات أو الملوك أو سائر المميزات القومية، لأن وحدة الدين غلبت كل هذه الفروق. واختلفوا في أساس العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها، فقال فريق منهم: إن الإسلام يأمر بدعوة مخالفيه إلى أن يدينوا به وهذه الدعوة دعوتان دعوة باللسان ودعوة بالبنان. فمن دعوا باللسان وبلغوا هذا الدين على وجه صحيح يتبين به الحق ولم يجيبوا الدعوة وجب على المسلمين دعوتهم بالسيف وقتالهم. وإن كانوا من مشركي العرب لا يحل الكف عن قتالهم حتى يسلموا. وإن كانوا من أهل الكتاب أو من مشركي غير العرب لا يحل الكف عن قتالهم حتى يسلموا. وإن كانوا من أهل الكتاب أو من مشركي غير العرب لا يحل الكف عن قتالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. وقبل الوصول إلى هذه الغاية لا تجوز مسالمتهم ولا يحل الكف عن قتالهم إلا للضرورة بأن كان بالمسلمين ضعف وبمخالفيهم قوة فحينئذ تجوز المسالمة المؤقتة للضرورة ويجب أن تقدر هذه الضرورة بقدرها. واحتج هؤلاء على رأيهم بعدة براهين: الأول: أن الله سبحانه أمر المسلمين في كتابه الكريم بأن يقاتلوا غير المسلمين حتى يسلموا أو يعطوا الجزية أمرًا مطلقًا غير مقيد بأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 يكون القتال رفعًا لعدوان أو في مقابلة قتال فدل هذا الإطلاق على أنه أمر بالقتال على أنه دعوة إلى الإسلام وحمل للمخالفين على نبذ دينهم واعتناق الإسلام. وإذا كان القتال دعوة إلى الدين فلا يحل تركه مع القدرة عليه بحال. فمن هذه الآيات قوله تعالى في سورة البقرة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} 1، وقوله في سورة النساء: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} 2، وقوله في سورة الأنفال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَال} 3، وقوله في سورة التوبة: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 4، وقوله فيها {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 5 وقوله فيها: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} 6. والثاني: ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله" وهذا   1 البقرة: 216. 2 النساء: 74. 3 الأنفال: 65. 4 التوبة: 5. 5 التوبة: 29. 6 التوبة: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 نص على أن الأمر بقتال الناس هو للدخول في الإسلام أي أنه طريق الدعوة إليه. والثالث: أن الله سبحانه في كثير من آي الكتاب الكريم نهى عن اتخاذ الكافرين أولياء وعن الإلقاء إليهم بالمودة. وفي هذا دلالة على أن لا تكون للمسلمين بغيرهم محالفة أو موالاة. فمن هذه الآيات قول الله تعالى في سورة آل عمران: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} 1، وقوله تعالى في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} 2، وقوله تعالى في سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} 3. والرابع: أن من دعوا إلى الإسلام على وجه صحيح لا عذر لهم في البقاء على غيره، لأن الله سبحانه أبلى معاذيرهم بدلائله التي أقامها على وحدانيته وصدق بها رسوله، وإذا لم يجيبوا الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ولا معذرة لهم في الإباء فلا مندوحة أن نسوقهم إلى خيرهم وهداهم بوسائل قسرية، حتى إذا لم تفلح وسائل القهر بعد أن لم تفلح سبل الحكمة لم يكن بد من قتلهم وقطع دابر شرهم وقاية للمجتمع من ضلالهم كالعضو المصاب إذا تعذر علاجه تكون مصلحة الجسم في بتره.   1 آل عمران: 28. 2 المائدة: 51. 3 الممتحنة: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وأصحاب هذا الرأي أسسوا السياسة الخارجية للدولة الإسلامية على القواعد الآتية: 1- الجهاد فرض ولا يحل تركه بأمان أو موادعة إلا أن يكون الترك سبيلًا إليه بأن كان الغرض منه الاستعداد حين يكون بالمسلمين ضعف وبمخالفيهم في الدين قوة. وإذا بدئ المسلمون، بالقتال فهو فرض عين على كل مسلم أهل للجهاد وإذا لم يبدءوا به فهو فرض على الكفاية إذا قام به فريق من الأمة سقط عن الباقين وإذا لم يقم به فريق من الأمة كانت كلها آثمة. 2- أساس العلاقة بين المسلمين ومخالفيهم في الدين الحرب ما لم يطرأ ما يوجب السلم من إيمان أو أمان. والأمان نوعان: أمان مؤقت، وأمان مؤبد. والمؤقت نوعان: خاص، وعام. أما الأمان المؤقت الخاص: فهو ما يبذله المسلم من المقاتلة لواحد أو جمع محصورين. وقد منح كل مسلم من المقاتلة حق هذا التأمين الخاص لأن الضرورة قد تقضي به وتكون فيه المصلحة للمسلمين ويمكن لكل مقاتل أن يقدر هذه المصلحة الجزئية ويعمل لتحقيقها بدون حاجة إلى الرجوع إلى الإمام أو نائبه، فإذا قال مقاتل من المسلمين لواحد أو جمع معين من المحاربين أمنتكم أو أنتم آمنون كانت هذه الكلمة ذمة في عنق المسلمين جميعهم وصار بها هذا الواحد أو الجمع المعين آمنا لا يحل قتاله ولا التعرض له.. وأصل هذا قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "المسلمون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم" وفي رواية "ويجبر عليهم أدناهم". وأما الأمان المؤقت العام: فهو ما يبذل لكافة المسلمين ولا يخص واحدًا أو جمعًا معينًا، وهذا حق لا يملكه إلا الإمام أو نائبه لأن المصلحة العامة من شئونه هو النظر فيها وهو الذي يرجع إليه في تقدير الضرورة القاضية بالتكاف عن القتال في مدة معينة. وفي حكم هذا الأمان المؤقت العام المهادنة وهي المعاقدة بين المسلمين ومخالفيهم في الدين على نبذ الحرب والتكاف عن القتال مدة معينة تقدر في العقد. وأصل هذه المهادنة التي تعاقد عليها المسلمون مع مشركي قريش في صلح الحديبية فإنه كان من مواد معاهدة ذلك الصلح التكاف عن القتال عشر سنين وقد أمضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك لما كان يقدره من المصلحة العامة في هذا التكاف عن القتال وذلك لأن المسلمين أمنوا من الاعتداء عليهم واختطلوا بمخالفيهم في الدين وأسمعوهم آيات الله وبثوا بينهم الدعوة إليه فدخل المشركون في دين الله أفواجًا ونال المسلمون بهذه الهدنة من النصر أكثر مما نالوه بالقتال حتى قال بعض العلماء: إن الفتح المبين المراد من قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِينا} 1 هو صلح الحديبية لا فتح مكة.   1 الفتح: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 والأمان المؤقت بنوعيه والمهادنة إنما تجوز إذا كان فيها خير المسلمين ودعت إليها حالهم حتى لو رأى الإمام أن الخير والمصالحة في نقضه واستئناف القتال كان له ذلك. وإذا نقضه فلا بد من النبذ إلى المؤمنين أو المهادنين قبل القتال تحرزًا عن الغدر والأخذ على غرة. وأصل هذا قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- "في العهود وفاء لا غدر" ولا بد من اعتبار مدة يبلغ فيها خبر النبذ إلى جميعهم ويكتفي في ذلك بمضي مدة يتمكن فيها ملكهم بعد علمه بالنبذ من إنفاذ الخبر إلى أطراف مملكته لأن ذلك أنفى للغدر. وأما إذا كان النقض من قبلهم هم فإنهم يقاتلون من غير أن ينبذ إليهم لأنهم هم الذين نقضوا العهد وآذنوا بالحرب وفي هذه الحال إذا كانت في يد المسلمين رهائن لا يحل قتلهم لأن الوفاء بالغدر خير من الغدر بالغدر ولقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- "لا تخن من خانك". وأما الأمان المؤبد فهو ما يكتسب بعد الذمة، وإنما يتولى هذا العقد من قبل المسلمين الإمام أو نائبه وهو إنما يصح مع أهل الكتاب ومشركي غير العرب، ولا يصح مع مشركي العرب والمرتدين ولا يصح إلا أن يكون مؤبدًا. وإذا عقد فهو لازم في حق المسلمين فلا يملكن نقضه بحال. وأما في حق الذميين فيقبل النقض بأحد ثلاثة أمور بإسلام من يسلم منهم. أو بلحوقة بدار الحرب. أو بثورته على المسلمين وتغلبه على بعض أماكنهم. وأما امتناعه عن إعطاء الجزية أو جنايته على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 مسلم أو ارتكابه أية جناية فردية فلا تستوجب نقض العقد. والأصل في هذا أن كل ما صدر من ذمي واحتمل أن يؤول لغير النقض لا ينقض به عقد الذمة. 3- دار الإسلام: هي الدار التي تجرى عليها أحكام الإسلام ويأمن من فيها بأمان المسلمين سواء أكانوا مسلمين أم ذميين. ودار الحرب: هي الدار التي لا تجرى عليها أحكام الإسلام ولا يأمن من فيها بأمان المسلمين. وإنما أسس أصحاب هذا الرأي رأيهم وقواعدهم على أساس أن غير المسلمين إذا دعوا إلى الإسلام وأقيمت لهم دلائله الحقة وأبليت معاذيرهم برفع الشبهات وإيضاح الآيات كان إصرارهم على خلافهم وإعراضهم عن الإسلام وآياته ورفضهم إجابة دعاته بمثابة إيذان المسلمين بالحرب، فيجب على المسلمين أن يسوقهم إلى الحق قسرًا ما داموا لم يذعنوا له بالحكمة والموعظة الحسنة. وقال فريق آخر من العلماء: إن أساس علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول لا تغاير ما قرره علماء القانون الدولي أساسًا لعلاقات الدول الحاضرة. وإن الإسلام يجنح للسلم لا للحرب. وأنه لا يجيز قتل النفس لمجرد أنها تدين بغير الإسلام، ولا يبيح للمسلمين قتال مخالفيهم لمخالفتهم في الدين وإنما يأذن في قتالهم ويوجبه إذا اعتدوا على المسلمين، أو وقفوا عقبة في سبيل الدعوة الإسلامية ليحولوا دون بثها فحينئذ يجب القتال دفعًا للعدوان وحماية للدعوة حتى إذا لم يكن من المخالف في الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 عدوان لا على المسلمين ولا على دعوتهم فلا يحل قتاله، ولا تحرم معاملته ومبادلته المنافع. فلم يؤذن في القتال لأنه طريق الدعوة إلى الدين وإنما أذن فيه لحماية الدعوة من اعتداء المعتدين. واحتجوا على هذا ببراهين: أولًا: أن آيات القتال في القرآن الكريم جاءت في كثير من السور المكية والمدنية مبينة السبب الذي من أجله أذن في القتال وهو يرجع إلى الكفار على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- سواء أكانوا من المشركين أم من أهل الكتاب أمعنوا في إيذاء المسلمين بألوان العذاب فتنة لهم وابتلاء حتى يرجعوا من أسلم عن دينه ويثبطوا من عزيمة من يريد الدخول في الإسلام، وغايتهم من هذه الفتن والمحن أن يخمدوا الدعوة ويسدوا الطريق في وجه الدعاة، فالله سبحانه أوجب على المسلمين أن يقاتلوا هؤلاء المعتدين دفعًا لاعتدائهم وإزالة لعقابتهم حتى لا تكون فتنة ولا محنة، ولا يحول حائل بين المدعوين وإجابة الدعوة وإذ ذاك يكون الدين كله لله. قال تعالى في سورة البقرة المدنية: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين َ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} 1، وقال تعالى في سورة النساء المدنية: {مَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ   1 البقرة: 190-193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} 1، وقال تعالى في سورة الأنفال المدنية: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 2. وقال سبحانه في سورة الحج المكية: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} 3. ثانيًا: احتجوا باتفاق جمهور المسلمين على أنه لا يحل قتل النساء والصبيان والرهبان والشيخ الكبير والأعمى والزمن ونحوهم لأنهم ليسوا من المقاتلة، ولو أن القتال كان للحمل على إجابة الدعوة وطريقًا من طرقها حتى لا يوجد مخالف في الدين ما ساغ استثناء هؤلاء فاستثناؤهم برهان على أن القتال إنما هو لمن يقاتل دفعًا لعدوانه. ولو قيل إنهم استثنوا لأنهم لغيرهم تبع فهذا إن سلم في الصبيان والنساء لا يسلم في البواقي وخاصة في الرهبان. وثالثًا: وسائل القهر والإكراه ليست من طرق الدعوة إلى الدين لأن الدين أساسه الإيمان القلبي والاعتقاد وهذا أساس تكونه الحجة لا السيف، ولهذا يقول الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} 4، ويقول سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} 5.   1 النساء: 75. 2 الأنفال: 39. 3 الحج: 39-40. 4 البقرة: 256. 5 يونس: 99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وأصحاب هذا الرأي أسسوا السياسة الخارجية للدولة الإسلامية على القواعد الآتية: 1- دعوة غير المسلمين إلى الإسلام فرض كفاية على الأمة الإسلامية إذا قام به فريق منها سقط عن الباقين، وإذا لم يقم به فريق منها كانت كلها آثمة وذلك لأن رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- عامة، فهو مرسل من الله إلى الناس كافة لا فرق بين أمة وأمة، ولا بين من كانوا في عصره ومن وجدوا بعده. والله أمره أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه إلى كل من أرسل إليهم، وقد قام في حياته بتبليغ كل من استطاع أن يبلغهم بلسانه وكتبه ورسله. وفي خطبته يوم حجة الوداع أشهد ربه على البلاغ وأمر أن يبلغ الشاهد الغائب، فمن هذا وجب على المسلمين في عصورهم المتتابعة أن لا ينقطعوا عن هذه الدعوة وأن يبلغوا ما أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى كل من لم يبلغه. وأن يكون أول شئونهم الخارجية تنظيم الدعوة إلى الإسلام وإعداد الدعاة وبثهم بين الأمم التي لا تدين بالإسلام في مختلف البلدان مع مدهم بجميع الوسائل التي تقدرهم على القيام بواجبهم. 2- أساس العلاقة بين المسلمين ومخالفيهم في الدين السلم، ما لم يطرأ ما يوجب الحرب من اعتداء على المسلمين أو مقاومة لدعوتهم بمنع الدعاة من بثها ووضع العقبات في سبيلها وفتنة من اهتدى إلى إجابتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 3- دار الإسلام هي الدار التي تسود فيها أحكامه ويأمن فيها المسلمون على الإطلاق ودار الحرب هي الدار التي تبدلت علاقتها السلمية بدار الإسلام بسبب اعتداء أهلها على المسلمين أو على بلادهم أو على دعوتهم أو دعاتهم. وعلى هذا إنما يتحقق اختلاف الدارين بين بلاد الدولة الإسلامية وبلاد غير المسلمين الذين بدءوا المسلمين بالعدوان أو حالوا بينهم وبين بث دعوتهم وقام المسلمون بما يجب عليهم من دفع العدوان عنهم وحماية دعوتهم وقطعوا بتلك البلاد علاقتهم وانقطعت العصمة بينهم بحيث يصبح أهل البلدين لا يأمن واحد منهم في بلاد الآخر. أما الأمة غير الإسلامية التي لم تبدأ المسلمين بعدوان، ولم تعترض لدعاة الإسلام وتركتهم أحرارًا يعرضون دينهم على من يشاءون، ويقيمون براهينهم بما يريدون، لا تقاوم داعيًا ولا تفنن مدعوا، ولم ترسل إليها بعثة من الدعاة؛ فهذه لا يحل قتالها ولا قطع علاقتها السلمية، والأمان بينها وبين المسلمين ثابت، لا ببذل أو عقد، وإنما هو ثابت على أساس أن الأصل السلم ولم يطرأ ما يهدم هذا الأساس من عدوان على المسلمين أو على دعوتهم. وخلاصة الفروق بين الرأيين أنه على الرأي الأول: الجهاد مشروع على أنه طريق من طرق الدعوة إلى الإسلام، على معنى أن غير المسلمين لا بد أن يدينوا بالإسلام: طوعًا بالحكمة والموعظة الحسنة، أو كرهًا بالغزو والجهاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وعلى الرأي الثاني: الجهاد مشروع لحماية الدعوة الإسلامية ودفع العدوان على المسلمين فمن لم يجب الدعوة ولم يقاومها ولم يبدأ المسلمين باعتداء لا يحل قتاله ولا تبديل أمنه خوفًا. وكذلك على الرأي الأول لا يكون بين المسلمين وغيرهم أمان إلا بسبب طارئ من تأمين خاص أو عام أو موادعة أو عقد ذمة وعلى الرأي الثاني لا يكون بين المسلمين وغيرهم حرب إلا بسبب طارئ من اعتداء أو مقاومة للدعوة أو إيذاء الدعاة أو المدعوين وعلى الرأي الأول يتحقق اختلاف الدارين بانقطاع العصمة. وليس مناط الاختلاف الإسلام وعدمه وإنما مناطه الأمن والفزع. والنظر الصحيح يؤيد أنصار السلم القائلين بأن الإسلام أسس علاقات المسلمين بغيرهم على المسالمة والأمان لا على الحرب والقتال إلا إذا أريدوا بسوء لفتنتهم عن دينهم أو صدهم عن دعوتهم فحينئذ يفرض عليهم الجهاد دفعًا للشر وحماية للدعوة وهذا بين في قوله تعالى في سورة الممتحنة المدنية: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 1، وقوله تعالى في سورة النساء المدنية: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} 2، وقوله في سورة الأنفال المدنية: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} 3. وفي   1 الممتحنة: 8-9. 2 النساء: 90. 3 الأنفال: 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 كثير من آي الكتاب وأصول الدين ما يعزز هذه الروح السلمية ويبعد أن يكون الإسلام أسس علاقات المسلمين بغيرهم على الحرب الدائمة وأن يكون فرض الجهاد وشرع القتال على أنه طريق الدعوة إلى الدين لأن الله نفى أن يكون إكراه على الدين وأنكر أن يكره الناس حتى يكونوا مؤمنين. وكيف يتكون الإيمان بالإكراه ويصل السيف إلى القلوب. إن طريق الدعوة إلى التوحيد والإخلاص لله وحده هي الحجة لا السيف ولو أن غير المسلمين كفوا عن فتنتهم وتركوهم أحرارًا في دعوتهم ما شهر المسلمون سيفًا ولا أقاموا حربًا. وما احتج به الفريق الأول من آيات القتال التي جاءت مطلقة ليس برهانًا قاطعًا على ما يقولون لأنه لم يوفق بين هذه الآيات المطلقة والآيات المقيدة بحمل المطلق على المقيد على معنى أن الله سبحانه أذن في القتال لقطع الفتنة وحماية الدعوة وتارة ذكره مقرونًا بسببه وتارة ذكره مطلقًأ اكتفاء بعلم السبب في آيات أخرى. ولو كان بين الآيات تعارض كانت المتأخرة ناسخة للمتقدمة فلم يذكر السبب الذي من أجله أذن في القتال آخرًا كما ذكر السبب في الأذن به أولًا، وكيف تكون الآيات المقيدة منسوخة مع أن وجوب القتال لدفع العدوان مجمع عليه ولم يقل بنسخ هذا الوجوب أحد. فلا موجب لتقرير تعارض الآيات والقول بنسخ المطلق للمقيد لأن هذا تمزيق للآيات ويترتب عليه نسخ كثير منها، حتى قال بعض المفسرين: إن المنسوخ بآية السيف نحو مائة وعشرين آية ومن هذه الآيات كل ما يدل على أخذ بالعفو أو دعوة بالحكمة أو جدال بالحسنى أو نفي للإكراه على الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وما احتجوا به ثانيًا من حديث "أمرت أن أقاتل الناس" فهو لا يثبت مدعاهم؛ لأن جميع المسلمين متفقون على أن المراد من الناس في هذا الحديث مشركو العرب خاصة لأن غيرهم من أهل الكتاب ومشركي غير العرب حكمهم يخالف ما جاء في الحديث لأنهم يقاتلون حتى يسلموا أو يعطوا الجزية وإذا كان المراد من الناس مشركي العرب خاصة وهؤلاء حالهم من العدوان على المسلمين والدعوة غير مجهولة فالله أمر رسوله أن يقاتلهم حتى يدفع شرهم، ولجمودهم على ما وجدوا عليه آباءهم ولشدة طغيانهم لم يكن سبيل إلى دفع شرهم إلا بأن يسلموا أو يستأصلوا، ولو كان يرجى منهم خير لأبيح معهم عقد الذمة وقبول الجزية كما شرع لغيرهم، فالحديث في طائفة خاصة والقتال فيه لدفع الشر لا للدعوة ولو كان للدعوة لكانوا هم وغيرهم سواسية. وما احتجوا به ثالثًا من النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء فهذا ليس بدليل لأن مورد النهي موالاتهم ومخالفتهم ونصرتهم على المسلمين وهذا لا خلاف في حظره، وأما موالاتهم بمعنى المسالمة والمعاملة بالحسنة وتبادل المنافع فهذا غير محظور وكيف يكون محظورًا وقد أباح الله للمسلم أن يتزوج بالكافرة الكتابية. وليس بعد علاقة الزوجية موالاة. ونفى الله سبحانه النهي عن برهم والقسط إليهم ما داموا لم يقاتلوا المسلمين ولم يعتدوا عليهم وقد قال الفخر في تفسيره "الموالاة تحتمل درجات ثلاثًا": 1- أن تكون موالاته توجب الرضا بكفره وذلك حرام لأن الرضا بالكفر كفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 2- المعاشرة الجميلة في الدنيا وذلك غير ممنوع منه. 3- وهي كالوسط بين الدرجتين الأوليين وهي بمعنى الركون إليهم والمظاهرة والنصرة مع اعتقاد أن دينه باطل فهذا منهي عنه لأن الموالاة بهذا المعنى قد تجر إلى استحسان طريقه والرضا بدينه وذلك يخرج عن الإسلام. ومن أقوال العلماء التي تؤيد الروح السلمية قول الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَي} إنه تعالى لما بين دلائل التوحيد بيانًا شافيًا قاطعًا للمعذرة قال بعد ذلك إنه لم يبق بعد إيضاح هذه الدلائل عذر للكافر في الإقامة على كفره إلا أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه وذلك مما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار الابتلاء؛ إذ إن في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء والامتحان، ونظير هذا قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} 1. ويؤكد هذا التأويل قوله سبحانه بعد نفي الإكراه في الدين: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيْ} 2 يعني وهو أعلم قد ظهرت الدلائل ووضحت البينات ولم يبق بعدها إلا طريق القسر والإلجاء والإكراه، وذلك غير جائز لأنه ينافي التكليف والابتلاء. وقال ابن تيمية في كتابه "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية": وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد ومقصوده هو أن   1 يونس: 99. 2 البقرة: 256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا فمن منع هذا قوتل بتفاق المسلمين وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والزمن ونحوهم فلا يقتل عند جمهور العلماء إلا أن يقاتل بقوله أو فعله، وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر إلا النساء والصبيان لكونهم مالا للمسلمين. والأول هو الصواب لأن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 1. وفي السنن عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه مر على امرأة مقتولة في بعض مغازيه قد وقف عليها الناس فقال: "ما كانت هذه لتقاتل". وقال لأحدهم الحق خالدًا فقل له لا تقتلوا ذرية ولا عسيفًا. وفيها أيضًا عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول: "لا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا طفلا صغيرًا ولا امرأة" وذلك أن الله تعالى أباح من قتل النفوس ما يحتاج إليه في صلاح الخلق كما قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْل} أي أن القتل وإن كان فيه شر وفساد ففي فتنة الكفار من الشر والفساد ما هو أشد فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه". وقال الأستاذ الإمام في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} 2. الآيات: مجمل تفسير الآيات ينطبق على ما ورد من سبب نزولها وهو إباحة القتال للمسلمين في الإحرام بالبلد الحرام والشهر الحرام إذا بدأهم المشركون بذلك وأن لا يبغوا عليهم إذا نكثوا عهدهم واعتدوا في هذه المدة وحكمها بأن لا   1 البقرة: 190. 2 البقرة: 190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 ناسخ فيه ولا منسوخ فالكلام فيها متصل بعضه ببعض في واقعة واحدة فلا حاجة لتمزيقه ولا لإدخال آية براءة فيه. وقد نقل عن ابن عباس أنه لا نسخ فيها ومن حمل الأمر بالقتال فيها على عمومه ولو مع انتفاء الشرط فقد أخرجها عن أسلوبها وحملها ما لا تحتمل، وآية سورة آل عمران نزلت في غزوة أحد وكان المشركون هم المعتدين، وآيات الأنفال نزلت في غزوة بدر الكبرى وكان المشركون هم المعتدين أيضًا، وكذلك آيات سورة براءة نزلت في ناكثي العهد من المشركين ولذا قال: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُم} 1، وقال بعد ذكر نكثهم {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} 2. الآيات. كان المشركون يبدءون المسلمين بالقتال لأجل إرجاعهم عن دينهم ولو لم يبدءوا في كل واقعة لكان اعتداؤهم بإخراج الرسول من بلده وفتنة المؤمنين وإيذائهم ومنع الدعوة كل ذلك كان كافيًا في اعتبارهم معتدين فقتال النبي -صلى الله عليه وسلم- كله كان مدافعة عن الحق وأهله وحماية لدعوة الحق، ولذلك كان تقديم الدعوة شرطًا لجواز القتال وإنما تكون الدعوة بالحجة والبرهان لا بالسيف والسنان، فإذا منعنا من الدعوة بالقوة بأن هدد الداعي أو قتل فعلينا أن نقاتل لحماية الدعوة ونشر الدعوة لا للإكراه على الدين فالله تعالى يقول: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} 3، ويقول: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} 4. وإذا لم يوجد من يمنع الدعوة ويؤذي الدعاة أو يقتلهم أو يهدد الأمن   1 التوبة: 7. 2 التوبة: 13. 3 البقرة: 256. 4 يونس: 99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ويعتدي على المؤمنين فالله تعالى لا يفرض علينا القتال لأجل سفك الدماء وإزهاق الأرواح ولا لأجل الطمع في الكسب، ولقد كانت حروب الصحابة في الصدر الأول لأجل حماية الدعوة ومنع المسلمين تغلب الظالمين لا لأجل العدوان، فالروم كانوا يعتدون على حدود البلاد العربية التي دخلت في حوزة الإسلام ويؤذونهم وأولياءهم من العرب المتنصرة ومن يظفرون به من المسلمين. وكان الفرس أشد إيذاء للمؤمنين منهم فقد فرقوا كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ورفضوا دعوته وهددوا رسوله وكذلك كانوا يفعلون. وما كان بعد ذلك من الفتوحات اقتضته طبيعة الملك ولم يكن كله موافقًا لأحكام الدين فإن طبيعة الكون أن يبسط القوي يده على جاره الضعيف. ولم تعرف أمة قوية أرحم في فتوحاتها بالضعفاء من الأمة العربية شهد لها علماء الإفرنج بذلك. وجملة القول في القتال أنه شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها فعلى من يدعي من الملوك والأمراء أنه يحارب للدين أن يحمي الدعوة الإسلامية ويعد لها عدتها من العلم والحجة بحسب حال العصر وعلومه ويقرن ذلك بالاستعداد التام لحمايتها من العدوان ومن عرف حال الدعاة إلى الدين عند الأمم الحية وطرق الاستعداد لحمايتهم يعرف ما يحب على المسلمين في ذلك وما ينبغي في هذا العصر. وبما قررناه بطل ما يهذي به أعداء الإسلام حتى من المنتمين إليه من زعمهم أن الإسلام قام بالسيف، وقول الجاهلين والمتعصبين أنه ليس دينًا إلهًيا لأن الإله الرحيم لا يأمر بسفك الدماء وأن العقائد الإسلامية خطر على المدنية فكل ذلك باطل، والإسلام هو الرحمة العامة للعالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 أحكام الإسلام الحربية مقارنة بالقانون الدولي : سواء أكانت الحرب أساس العلاقة بين المسلمين وغيرهم أم كانت تدبيرًا استثنائيًّا لا يلجأ إليه إلا لضرورة دفع العدوان وقطع الفتنة، فإن الأحكام التي أوجب الإسلام مراعاتها لتخفيف ويلات القتال من خير ما عرف من قوانين الرحمة بالإنسان. وهذه الأحكام وإن كانت تتفق مع أحكام القانون الدولي في كثير من المواضع إلا أنها تخالفها من جهة أنها أحكام دينية شرعها الدين ويقوم بتنفيذها إيمان المسلمين وقوة يقينهم مثل سائر الأحكام الدينية. وأما أحكام القانون الدولي فإنها ليس لها قوة تنفيذية تكفل إمضاءها حتى إن بعض الباحثين يرى في تسمية الأحكام الدولية قانونًا ضربًا من التسامح لأن القانون لا يكسب هذا الوصف إلا إذا كان من ورائه قوة لحمايته وتنفيذ أحكامه ولا توجد قوة ما لإخضاع الدول لأحكام القانون الدولي فالأحكام الإسلامية الحربية مع أنها ترمي إلى العدل والرحمة لها من إيمان المسلم قوة تنفيذية تكفل إمضاءها. والأصل في هذا الباب ما رواه الجماعة إلا البخاري من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى وبمن معه من المسلمين خيرًا ثم قال: "اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 بالله. اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا. وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خصال ثلاث فأيتهن ما أجابوك إليها فأقبل منهم وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن أبوا فاسألهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فإنكم إن تخفروا ذمتكم وذمة أصحابكم خير من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم فإنك لا تدري أصبت حكم الله فيهم أم لا، ثم اقضوا فيهم بعد ما شئتم". وعلى هذا الأساس شرعت الأحكام الحربية في الإسلام كما يأتي: 1- قرر القانون الدولي أن الدولة التي تضطر إلى إعلان الحرب على دولة أخرى يجب عليها قبل البدء أن تعلن الدولة الأخرى بميعاد الحرب وتعلن رعايها وتخطر الدول الأخرى لتلزم حيادها، والغرض من هذا الإعلان توقي الغدر والأخذ على غرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وجاء في الشرع الإسلامي أنه يجب على المسلمين قبل البدء بقتال الكافرين أن يدعوا من لم تبلغه الدعوة منهم، ويندب أن يجددوا دعوة من بلغته. فقد قال أبو يوسف: "لم يقاتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قومًا قط فيما بلغنا حتى يدعوهم إلى الله ورسوله" وقال صاحب الأحكام السلطانية: "ومن لم تبلغهم دعوة الإسلام يحرم علينا الإقدام على قتالهم غرة وبيانًا بالقتل والتحريق ويحرم أن نبدأهم بالقتال قبل إظهار دعوة الإسلام لهم وإعلامهم من معجزات النبوة ومن ساطع الحجة بما يقودهم إلى الإجابة. فإن بدأ بقتالهم إلى الإسلام وإنذارهم بالحجة وقتلهم غرة وبياتًا ضمن ديات نفوسهم". وفي هذا من إعلان الحرب والإنذار به قبل ابتدائه وتوقي الغدر والخيانة ما يحبب في الإسلام حتى إن الإمام إذا عقد صلحًا مع الأعداء لمصلحة رآها فقد أجازوا له نقض الصلح إذا تبدلت الحال وصارت المصلحة في استئناف القتال، لكن حرموا عليه استئناف القتال في هذه الحال إلا إذا مضى زمان يتمكن فيه ملك الأعداء من إنفاذ خبر النقض إلى أطراف مملكته توقيًا عن الغدر وحذرًا من الأخذ على غرة. 2- قرر القانون الدولي أن الرعايا غير المنتظمين في الجيش لا يعدون أعداء ولا يجوز إلحاق الأذى بهم، وأن وصف المحاربين خاص بكل جند أو جيش محارب، ونصت الشريعة الإسلامية على أنه لا يجوز قتل النساء والصبيان والقسس في كنائسهم والرهبان في صوامعهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 والشيوخ الكبار والزمنى والمرضى ومن اعتزل القتال أو حالت عاهته دون أن يكون من المقاتلة إلا إذا اشترك واحد من هؤلاء في الحرب بقول أو فعل أو رأي. 3- أوجب القانون الدولي العناية بالمرضى والجرحى، وقرر حياد المستشفيات، وصيانة الأطباء والممرضين، والجنود النقالة. ونهت الشريعة الإسلامية عن قتل الوصفاء، والعسفاء والوصفاء هم المملكون والعسفاء هم المستخدمون ويدخل في هؤلاء الممرضون والنقالة وكل من يستخدمون لإسعاف الجرحى والمرضى والقيام بحاجتهم وتخفيف آلامهم. 4- حرم القانون الدولي الإجهاز على الجرحى وتعذيب العدو والفتك به غيلة واستعمال القنابل والقذائف والأسلحة التي تزيد في التعذيب وحرم تسميم الآبار والأنهار والأطعمة. وقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الغدر وعن المثلة وقال: "لا تعذبوا عباد الله". وجاء في الشريعة الإسلامية النهي عن قتل الأعزل وعن الإحراق بالنار لميت أو حي وعن إفساد الثمار والزروع وإحراق الدور والأمتعة وعن كل إتلاف وإفساد تكون منه مندوحة. 5- جوز القانون الدولي التضييق على المحصورين وتعجيزهم حتى يضطروا إلى التسليم. وجوزت الشريعة الإسلامية -في حصار العدو- نصب العرادات والمنجنيقات، وعمل كل ما يستضيفهم للظفر بهم، على أن لا يقطع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 نخيلهم، ولا تسمم مياههم. ومن هذا يتبين أن الإسلام في بدء القتال قرر من الأحكام ما يقضي به توقي الغدر والأخذ غرة. وفي أثناء القتال قرر من الأحكام ما يستوجبه تخفيف ويلات الحرب: من تجنب المثلة والتعذيب وإتلاف ما لا تدعو الحاجة إلى إتلافه حتى إن أعداء المسلمين إذا مثلوا بهم فالأفضل عدم مجاراتهم في هذا التمثيل. يدل على هذا ما روي من أنه لما مثل المشركون في غزوة أحد بحمزة بن عبد المطلب وغيره من الشهداء قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بضعفي ما مثلوا بنا"، فأنزل الله عليه قوله سبحانه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ، وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} 1 فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "بل نصبر" وقال عمران بن حصين: ما خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطبة إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة. وأساس هذه الأحكام أن الإسلام ما قصد من تشريع القتال إزهاق الأرواح وتعذيب عباد الله وإنما أراد دفع الشر وحماية المسلمين ودعوتهم من العدوان، فهو وسيلة لا يلجأ إليها إلا للضرورة ولا يتجاوز فيها أدنى حدودها والله سبحانه لما بعث رسوله وأمره بدعوة الخلق إلى دينه لم يأذن له في قتل ولا قتال حتى بدأ المدعوون بظلم الداعين وإخراجهم من ديارهم وأموالهم بغير حق فأذن الله للمسلمين بقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} 2.   1 النحل: 126-127. 2 الحج: 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 أحكام الإسلام السلمية : مما قدمنا من أحكام الإسلام الحربية تبين أن الإسلام شرع من الأحكام في حال القتال ما يكفل تجنب الغدر والاغتيال والتعذيب والمثلة والإتلاف، وما يدل على أنه إنما أراد هداية الناس وحسم شرهم لا إبادتهم وسحقهم. ونحن نبين ما شرعه الإسلام من الأحكام تدبيرًا لعلاقة المسلمين بغيرهم في حال السلم، ومنها يتبين أن الإسلام أسس هذه العلاقة على قواعد العدل واحترام حقوق الأفراد وكفالة الحرية لهم وتبادل المعاملات معهم. والأصل في هذا قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 1، وقوله -صلى الله عليه وسلم: "ألا من ظلم معاهدًا أو كلفه فوق طاقته أو انتقصه أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة". والأحكام التي قررها الإسلام في هذا الباب يعامل بها غير المسلمين الذين لم يقاتلوا المسلمين في الدين ولم يعتدوا عليهم أي عدوان سواء كانوا مقيمين مع المسلمين في دار الإسلام أم في دارهم وهذا على الرأي   1 الممتحنة: 8-9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الراجح من أن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم السلم وأن الأمان ثابت بينهم لأنه أساس العلاقة ولم يطرأ ما ينقضه لا لأنه مكتسب ببذل أو عقد ذمة. وأما على الرأي الآخر فانما يعامل بهذه الأحكام من اكتسبوا حق الأمان بتأمين إمام المسلمين ودخولهم في ذمتهم. قرر الإسلام المساواة بين الذميين والمسلمين فلهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وكفل لهم حريتهم فأمر المسلمين أن يتركوهم وما دينون ولا يتعرضوا لهم فيما يتعقتدون. وعلى أساس هذه المساواة لهم أن يتعاملوا مع المسلمين جميع المعاملات المباحة. قال صاحب البدائع: "ويسكنون في أمصار المسلمين يبيعون ويشترون لأن عقد الذمة شرع ليكون وسيلة إلى إسلامهم. وتمكينهم من المقام في أمصار المسلمين أبلغ في هذا المقصود، وفيه أيضًا منفعة للمسلمين بالبيع والشراء". وما يحرم على المسلم التعامل به ولا يحرم على الذمي مثل الخمر أو الخنزير فإنه يباح للذميين الإتجار بها حيث شاءوا. ولكن ليس لهم أن يجاهروا بالإتجار بها في أمصار المسلمين لأن المصر الإسلامي إنما يجهر فيه بما لا يأباه شعار الإسلام. وعلى أساس هذه المساواة لم يفرق الإسلام على أرجح الأقوال بين المسلم والذمي في العقوبات ففي القصاص {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} . وفي أحكام الديات والضمان والتعازير يجري على الذميين ما يجري على المسلمين. وفي الأحوال الشخصية أبيح لهم كل زواج يتفق ودينهم ولو خالف شرائط الزواج عند المسلمين. واعتبر كل طلاق صدر من أحدهم ولو لم يتفق وأحكام الطلاق عند المسلمين. ولا يتعرض لهم في شيء من ذلك إلا إذا ترافعوا إلى المسلمين وطلبوا إجراء حكم الإسلام بينهم. وكما حرم الزواج بالمحصنات من المؤمنات حرم الزواج بالمحصنات من الكتابيات كما قال تعالى في عد المحرمات: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء} 1، هكذا بإطلاق من النساء حتى لا يتوهم أن المحرمات المحصنات من المسلمات خاصة فدفعًا لهذا التوهم قال سبحانه: {مِنَ النِّسَاء} ، احترامًا لحق الزوج من غير المسلمين. وفي الميراث سوى في الحرمان بين الذمي والمسلم، فلا يرث الذمي قريبه المسلم ولا يرث المسلم قريبه الذمي. وفي المعاملة وحسن العشرة شرع الإسلام من الأحكام ما شرح له صدور مخالفيه وحببه إليهم، وكفى أن الله سبحانه نفى النهي عن برهم والإقساط إليهم وأباح للمسلمين طعامهم، وأحل لهم ذبائحهم وأباح   1 المائدة: 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 مصاهرتهم والتزوج منهم كما قال تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 1. وللزوجة غير المسلمة من الحقوق على زوجها ما للزوجة المسلمة. ونهى الله عن مجادلتهم إلا بالتي هي أحسن. ونص علماء المسلمين على أن للمسلم أن يضيفهم ويذهب إلى ضيافتهم ويتبادل معهم التهادي والتصافح. وفي العبادات والاعتقادات أطلقت لهم الحرية ومنع التعرض لهم فيما يعبدون وما يعتقدون، فلهم إقامة شعائر دينهم في كنائسهم وبيعهم، ولهم في القرى إعادة ما تهدم من الكنائس والبيع وإنشاء ما يريدون إحداثه منها. وأما في الأمصار الإسلامية فلهم إعادة المهدوم فحسب، ولهم دق النواقيس في جوف كنائسهم، ولهم أن يفعلوا كل ما لا يثير العداء ولا يعارض شعار الإسلام. وفي ظل هذه الأحكام السمحة والعدالة والمساواة عاش غير المسلمين معهم في بلاد الإسلام طوال السنين لا يشكون ضيمًا ولا يبخسون حقًا. ومن نظر إلى العهود التي كان يقطعها المسلمون على أنفسهم لغير المسلمين أيام قوة الإسلام وسطوة أهليه تتجلى له الروح السمحة التي عامل بها الإسلام غير المسلمين لأنه لا يعقل أن تكون تلك العهود مما   1 المائدة: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 يأباها الدين ثم يلتزمها الخلفاء الراشدون وقواد المسلمين بمحضر من كبار الصحابة وأولي العلم بالدين، فلولا أنهم مؤمنون بسماحة الإسلام وتقبله لهذ المعاملات ما أقروا تلك الشروط. ولولا أن هذه السماحة من طبيعة الإسلام ما كانت لتتفق وروح العهود التي تلتزم لغير المسلمين من مختلف القواد في مختلف البلدان. وهذا عهد خالد بن الوليد لأهل الحيرة في عهد أبي بكر الصديق وعهد أبي عبيدة بن الجراح لأهل الشام في عهد عمر بن الخطاب قد كان لهما أثرهما في أنحاء الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية الرومانية لما تضمنه كل منهما من الوفاء وحسن المعاملة حتى وجد غير المسلمين من المسلمين ما لم يروه ممن كانوا يدينون بدينهم. روى الإمام أبو يوسف في كتاب الخراج أن خالد بن الوليد صالح أهل الحيرة على أن لا يهدم لهم بيعة ولا كنيسة ولا قصرًا من قصورهم التي كانوا يتحصنون فيها إذا نزل بهم عدو لهم ولا يمنعون من ضرب النواقيس ولا من إخراج الصلبان في يوم عيدهم وعلى أن لا يشتملوا على نغبة وعلى أن يضيفوا من مر بهم من المسلمين مما يحل لهم من طعامهم وشرابهم وكتب بينهم هذا الكتاب. بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من خالد بن الوليد لأهل الحيرة: إن خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر الصديق رضي الله عنه أمرني أن أسير بعد منصرفي من أهل اليمامة إلى أهل العراق من العرب والعجم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 بأن أدعوهم إلى الله جل ثناؤه وإلى رسوله عليه السلام، وأبشرهم بالجنة وأنذرهم من النار. فإن أجبوا فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين. وأني انتهيت إلى الحيرة فخرج إلى إياس بن قبيصة الطائي في أناس من أهل الحيرة من رؤسائهم وأني دعوتهم إلى الله وإلى رسوله فأبوا أن يجيبوا فعرضت عليهم الجزية أو الحرب فقالوا: لا حاجة لنا بحربك ولكن صالحنا على ما صالحت عليه غيرنا من أهل الكتاب في إعطاء الجزية. وأني نظرت في عدتهم فوجدت عدتهم سبعة آلاف رجل: ثم ميزتهم فوجدت من كانت به زمانة ألف رجل فأخرجتهم من العدة فصار من وقعت عليه الجزية ستة آلاف فصالحوني على ستين ألفًا. وشرطت عليهم أن عليهم عهد الله وميثاقه الذي أخذ عن أهل التوراة والإنجيل أن لا يخالفوا ولا يعينوا كافرًا على مسلم من العرب ولا من العجم ولا يدلوهم على عورات المسلمين. عليهم بذلك عهد الله وميثاقه الذي أخذه أشد ما أخذه على نبي من عهد أو ميثاق أو ذمة. فإن هم خالفوا فلا ذمة لهم ولا أمان. وإن هم حفظوا ذلك ورعوه وأدوه إلى المسلمين فلهم ما للمعاهد وعلينا المنع لهم. فإن فتح الله علينا فهم على ذمتهم لهم بذلك عهد الله وميثاقه أشد ما أخذ على نبي من عهد أو ميثاق، وعليهم مثل ذلك أن لا يخالفوا. فإن غلبوا فهم في سعة يسعهم ما وسع أهل الذمة ولا يحل فيما أمروا به أن يخالفوا. وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنيا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته وعيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 من بيت مال المسلمين وعياله ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام، فإن خرجوا إلى غير دار الهجرة ودار الإسلام فليس على المسلمين النفقة على عيالهم. وأيما عبد من عبيدهم أسلم أقيم في أسواق المسلمين فبيع بأعلى ما يقدر عليهم في غير الوكس ولا تعجيل ودفع ثمنه إلى صاحبه ولهم كل ما لبسوا من الزي إلا زي الحرب من غير أن يتشبهوا بالمسلمين في لباسهم وأيما رجل منهم وجد عليه شيء من زي الحرب سئل عن لبسه ذلك فإن جاء منه بمخرج وإلا عوقب بقدر ما عليه من زي الحرب. وشرطت عليهم جباية ما صالحتهم عليه حتى يؤدوه إلى بيت مال المسلمين. عما لهم منهم. فإن طلبوا عونًا من المسلمين أعينوا به. ومؤنة العون من بيت مال المسلمين. وروى الإمام أبو يوسف قال: حدثني بعض أهل العلم عن مكحول الشامي أن أبا عبيدة بن الجراح صالحهم بالشام واشتراط عليهم حين دخلها على أن تترك كنائسهم وبيعهم على أن لا يحدثوا بناء بيعة ولا كنيسة. وعلى أن عليهم إرشاد الضال، وبناء القناطر على الأنهار من أموالهم، وأن يضيفوا من مر بهم من المسلمين ثلاثة أيام. وعلى أن لا يشتموا مسلمًا ولا يضربوه، ولا يرفعوا في نادي أهل الإسلام صليبًا، ولا يخرجوا خنزيرًا من منازلهم إلى أفنية المسلمين وأن يوقدوا النار للغزاة في سبيل الله ولا يدلوا للمسلمين على عورة، ولا يضربوا نواقيسهم قبل أذان المسلمين ولا في أوقات أذانهم ولا يخرجوا الرايات في أيام عيدهم ولا يلبسوا السلاح يوم عيدهم ولا يتخذوه في بيوتهم فإن فعلوا من ذلك شيئًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 عوقبوا وأخذ منهم. فكان الصلح على هذا الشرط. فقالوا لأبي عبيدة اجعل لنا يومًا في السنة نخرج فيه صلباننا بلا رايات وهو يوم عيدنا الأكبر ففعل ذلك لهم وأجابهم إليه. فلما رأى أهل الذمة وفاء المسلمين لهم وحسن السيرة فيهم صاروا أشداء على عدو المسلمين وعونا للمسلمين على أعدائهم فبعث أهل كل مدينة ممن جرى الصلح بينهم وبين المسلمين رجالًا من قبلهم يتجسسون الأخبار عن الروم وعن ملكهم وما يريدون أن يصنعوا فأتى أهل كل مدينة رسلهم يخبرونهم بأن الروم قد جمعوا جمعًا لم ير مثله. ولما تتابعت الأخبار على أبي عبيدة اشتد ذلك عليه وعلى المسلمين فكتب أبو عبيدة إلى كل والٍ ممن خلفه في المدن التي صالح أهلها بأمرهم أن يردوا عليهم ما جبي منهم من الجزية والخراج وكتب إليهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع وأنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم وإنا لا نقدر على ذلك. وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم. فلما قالوا ذلك لهم وردوا عليهم الأموال التي جبوها منهم قالوا: ردكم الله علينا ونصركم عليهم فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئًا وأخذوا كل شيء بقي لنا حتى لا يدعوا لنا شيئًا. وكان أن غلبت الروم ونصر الله المسلمين وكتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب بما أفاء الله على المسلمين وما أعطى أهل الذمة من الصلح فكتب إليه عمر رضي الله عنه كتابًا مما جاء فيه قوله: "وامنع المسلمين من ظلمهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 والإضرار بهم وأكل أموالهم إلا بحقها. ووف لهم بشرطهم الذي شرط لهم في جميع ما أعطيتهم". ومما تقدم من الأحكام السلمية التي شرعها الإسلام لمعاملة غير المسلمين، ومن نصوص العهود التي التزمها القواد في صلحهم يتبين أن الإسلام لا يأبى مسالمة من لا يدينون به ما داموا غير عادين. وأنه لا مانع يمنع أية دولة إسلامية من أن تتبادل مع دولة غير إسلامية علاقات تجارية وسفراء لنظر المصالح ومعاهدات لضمان حقوق أفراد كل من الدولتين وإجراء العدل بينهم كما أنه لا يأبى حسن معاشرة المسلمين لغير المسلمين والمساواة بينهم في الحقوق والحريات وتبادل الحاجات والبر والإقساط ويؤخذ من قول خالد بن الوليد في عهده: "ولهم كل ما لبسوا من الزي إلا زي الحرب من غير أن يتشبهوا بالمسلمين في لباسهم" ومن قول أبي عبيدة في عهده "ولا يلبسوا السلاح يوم عيدهم" إن المسلمين لم يحرموا على غير المسلمين أي لباس إلا زي الحرب لأنه يثير الشحناء ولا يتفق والمسالمة. ولم يحرموا عليهم التشبه بالمسلمين في زيهم ازدراء لهم لأنهم قد يلبسون ما هو أغلى وأقوم وإنما أراد المسلمون أن تكون لكل طائفة قومية مميزة بمميزاتها من دين ولغة ولباس وسائر المميزات، ولهذا يوجد في السنة كثير من الأحاديث ترمي إلى الاحتفاظ بالقومية وعدم فناء الأمة في غيرها، مثل "خالفوا سنة المجوس"، ومثل النهي عن التشبه بغير المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 السياسة الشرعية المالية : شروط عدلها : السياسة المالية للدولة هي تدبير مواردها ومصارفها بما يكفل سد النفقات التي تقتضيها المصالح العامة من غير إرهاق للأفراد ولا إضاعة لمصالحهم الخاصة. وهي إنما تكون عادلة إذا تحقق فيها أمران: الأول: أن يراعى في الحصول على الإيراد العدل والمساواة بحيث لا يطالب فرد بغير ما يفرضه القانون ولا يفرض على فرد أكثر مما تحتمله طاقته وتستدعيه الضرورة. الثاني: أن يراعى في تقسيم الإيراد جميع مصالح الدولة على قدر أهميتها بحيث لا تراعى مصلحة دون أخرى ولا يكون نصيب المهم أوفر من نصيب الأهم. والموارد الإسلامية التي رتبت لسد نفقات المصالح العامة هي ما يأتي: 1- الزكاة في الأموال، وعروض التجارة، والسوائم، والزروع والثمار. 2- ضريبة الأرض الزراعية من الخراج والعشر ونصف العشر. 3- ضريبة الأشخاص التي تؤخذ من أهل الكتاب وهي الجزية. 4- العشور: وهي الرسوم التي تؤخذ على الواردات إلى البلاد الإسلامية والصادرات منها. 5- خمس الغنائم. وخمس ما يعثر عليه من الركاز والمعادن. 6- تركة من لا وارث له أصلا أو لا وارث له غير أحد الزوجين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 ومال اللقطة، وكل مال لم يعرف له مالك، وكل مال صولح عليه المسلمون. هذه أبواب الإيراد المالي للدولة الإسلامية وبعضها ثابت أصله في الكتاب والسنة، وبعضها ثبت باجتهاد الصحابة في صدر الإسلام ولكل باب منها أحكام تفصيلية مبسوطة في مواضعها. وسنقتصر في كل باب على الكلم الجامعة التي تتبين منها أسس الموارد الإسلامية والشرائط التي أحيطت بها، ثم نبحث في المصارف التي قسمت بينهم هذه الأموال لتتضح من جملة هذا السياسة الشرعية المالية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 أسس الموارد الإسلامية مدخل ... أسس الموارد الإسلامية: للباحثين في أساس فرض الضرائب رأيان: فالقائلون بنظرية العقد الاجتماعي يرون أن أساس فرض الضرائب تراضي الأفراد على أن يؤدي كل واحد منهم للحكومة جزءًا من ماله في مقابل قيامها بحماية الأجزاء الباقية وتمتعه بماله وحقوقه في ظل هذه الحماية كما تراضى الأفراد على أن يخرج كل واحد منهم عن عزلته ويعقد مع بني جنسه عقدًا اجتماعيًا يتنازل به عن مطلق حريته في مقابل كفالتهم لأمنه وسلامته. فالضريبة في رأي هؤلاء معاوضة أساسها التراضي. وغير القائلين بنظرية العقد الاجتماعي يرون أن أساس فرض الضرائب ما للحكومة بمقتضى وظيفتها من الولاية العامة التي تخولها إلزام الأفراد بدفع جزء من مالهم لتقوم بمصالحهم من توطيد الأمن وتأمين البلاد من العدوان وإصلاح طرق مواصلاتها وري أرضها وكل ما تقتضيه مرافق الحياة فيها. فالضريبة في رأي هؤلاء فرض إلزامي تفرضه الحكومة على الأفراد بما لها من السلطان الذي كسبته بالتزامها تدبير المصالح العامة. ولا خلاف بين اصحاب هذين الرأيين في أن الأفراد ملزمون بالضرائب وإنما الخلف في منشأ الإلزام. فعلى الرأي الأول منشأ الإلزام التزام الأفراد أنفسهم بأدائها في نظير قيام الحكومة بمصالحهم وحماية أموالهم. وعلى الرأي الثاني منشأ الإلزام ما للحكومة من السلطان باعتبارها مسئولة عن تأمين الأفراد وتدبير مصالحهم وليس لهذا الخلف أثر عملي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 أما أساس الموارد الإسلامية فالذي يؤخذ مما ورد في شأنها أن هذه الموارد واجبات ألزم بها الأفراد في مقابل تمتعهم بالحقوق. فالزكاة وسائر أنواع الصدقات أوجبت على ذوي الأموال في مقابل تمتعهم بحقين: أحدهما أمانهم على أنفسهم وأموالهم من أضغان المعوزين وأطماعهم، لأن المحاويج إذا لم يكن لهم من مال ذوي المال نصيب كان خطرًا عليهم وعلى أموالهم. وثانيها تمتعهم باستغلال مرافق الدولة في سبيل تزكية هذه الأموال وتنميتها والمحافظة عليها. وإلى هذه الإشارة بقول الله سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 1، وقوله عز شأنه في وصف المتقين: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} 2، وقوله في زكاة الزروع: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِه} 3. والجزية أوجبت على غير المسلمين كما أوجبت الزكاة على المسلمين في مقابل تمتعهم بحقوقهم، وأمانهم على أنفسهم وأموالهم لأن أهل الكتاب ينتفعون بمرافق الدولة العامة كما ينتفع المسلمون وهم لا تجب عليهم الزكاة وأنواع الصدقات الواجبة على المسلمين لأنهم غير مخاطبين بفروع الشريعة فأوجبت عليهم الجزية بدلا من الزكاة التي أوجبت على المسلمين، ولهذا إذا أسلم واحد منهم سقطت عنه الجزية وأوجبت عليه أداء الزكاة في ماله إن كان ذا مال فهي كسائر الموارد الإسلامية واجب في نظير حقوق، يدل على ذلك أن أبا عبيدة بعدما صالح أهل الشام وجبى منهم الجزية والخراج ثم بلغه أن الروم قد جمعوا له واشتد الأمر عليه   1 التوبة: 103. 2 المعارج: 24-25. 3 الأنعام: 141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وعلى المسلمين كتب إلى الولاة الذين خلفهم في المدن أن يردوا إلى أهلها ما جبي منهم وكتب إليهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع وأنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم وأنا لا نقدر على ذلك وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونحن على الشرط وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم. والخراج ضرب على الأرض التي في يد غير المسلمين مؤنة لها كما ضرب العشر ونصف العشر على الأرض التي في يد المسلمين. قال القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج "لما قدم على عمر بن الخطاب جيش العراق من قبل سعد بن أبي وقاص شاور أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- في قسمة الأرضين التي أفاء الله على المسلمين من أرض العراق والشام، فتكلم قوم فيها وأرادوا أن يقسم لهم حقوقهم وما فتحوا، فقال عمر: فكيف بمن يأتي من المسلمين فيجدون الأرض بعلوجها قد اقتسمت وورثت على الآباء وحيزت. ما هذا برأي. فقال له عبد الرحمن بن عوف: فما الرأي؟، ما الأرض والعلوج إلا مما أفاء الله عليهم. فقال عمر: ما هو إلا ما تقول ولست أرى ذلك والله لا يفتح بعدي بلد فيكون فيه كبير نيل بل عسى أن يكون كلا على المسلمين، فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها وأرض الشام بعلوجها فما يسد به الثغور؟ وما يكون للذرية والأرامل بهذا البلد وبغيره من أهل الشام والعراق؟ فأكثروا على عمر وقالوا: نقف ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا ولأبناء القوم ولأبناء أبنائهم ولم يحضروا؟ فكان عمر لا يزيد على أن يقول هذا رأي. قالوا: فاستشر. قال: فاستشار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 المهاجرين الأولين فاختلفوا. فأما عبد الرحمن بن عوف فكان رأيه أن تقسم لهم حقوقهم. ورأى عثمان وعلي وطلحة وابن عمر رأي عمر. فأرسل إلى عشرة من الأنصار خمسة من الأوس وخمسة من الخزرج من كبرائهم وأشرافهم، فلما اجتمعوا حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: إني لم أزعجكم إلا لأن تشركوا في أمانتي وفيما حملت من أموركم فإني واحد كأحدكم وأنتم اليوم تقرون بالحق خالفني من خالفني ووافقني من وافقني، ولست أريد أن تتبعوا هذا الذي هواي، معكم من الله كتاب ينطق بالحق، فوالله لئن كنت نطقت بأمر أريده ما أريد به إلا الحق. قالوا: قل نسمع يا أمير المؤمنين. قال: قد سمعتم كلام هؤلاء القوم الذين زعموا أني أظلمهم حقوقهم، وأني أعوذ بالله أن أركب ظلمًا، لئن كنت ظلمتهم شيئًا هو لهم وأعطيته غيرهم لقد شقيت، ولكن رأيت أنه لم يبق شيء يفتح بعد أرض كسرى، وقد غنمنا الله أموالهم وأرضهم وعلوجهم فقسمت ما غنموا من أموال بين أهله وأخرجت الخمس فوجهته على وجهه وأنا في توجيهه، وقد رأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها وأضع عليهم فيها الخراج، وفي رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئًا للمسلمين المقاتلة والذرية ولمن يأتي بعدهم، أرأيتم هذه الثغور لا بد لها من رجال يلزمونها، أرأيتم هذه المدن العظام -كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر- لا بد لها من أن تشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم فمن أين يعطى هؤلاء إذا قسمت الأرضون والعلوج فقالوا جميعًا: الرأي رأيك فنعم ما قلت وما رأيت. إن لم تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال وتجرى عليهم ما يتقوون به رجع أهل الكفر إلى مدتهم. فقال: قد بان لي الأمر، فمن رجل له جزالة وعقل يضع الأرض مواضعها ويضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 على العلوج ما يحتملون؟ فاجتمعوا له على عثمان بن حنيف وقالوا: تبعثه إلى أهم ذلك فإن له بصرًا وعقلًا وتجربة، فأسرع إليه عمر وولاه مساحة أرض السواد". وعلى هذا الأساس حبس عمر الأرضين عن قسمتها بين الفاتحين وتركها في يد أهليها يؤدون عنها الخراج للمسلمين وفعل بالشام ما فعل بالعراق. قال القاضي أبو يوسف: والذي رأى عمر رضي الله عنه من الامتناع من قسمة الأرضين بين من افتتحها عندما عرفه الله ما كان في كتابه من بيان ذلك توفيقًا من الله كان له فيما صنع، وفيه كانت الخيرة لجميع المسلمين. وفيما رآه من جمع خراج ذلك وقسمته بين المسلمين عموم النفع لجماعتهم لأن هذا لو لم يكن وقوفًا على الناس في الأعطيات والأرزاق لم تشحن الثغور ولم تقوَ الجيوش على السير في الجهاد ولما أمن من رجوع أهل الكفر إلى مدنهم إذا خلت من المقاتلة والمرتزقة. والله أعلم بالخير حيث كان. والعشور التي تؤخذ في البلاد الإسلامية على عروض التجارة الواردة إليها والصادرة منها أساسها تبادل المعاملة المتماثلة بينها وبين غيرها من البلدان والمساواة بين التجار وأموالهم في المعاملة بالبلاد الإسلامية وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وما يؤخذ غنيمة بالقتال فرض فيه خمسة لمصلحة عامة بينها الله سبحانه في قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} 1. وفي تخصيص هذا الخمس لمن سمى الله رعاية للمصلحة العامة وتزكية الأربعة الأخماس للفاتحين حتى لا يحقد عليهم اليتامى والمساكين وأبناء السبيل وما يوجد من الركاز في موات أو طريق سابل يؤخذ منه خمسه لصرفه في مصارف الزكاة الثمانية التي مرجعها إلى المصلحة العامة وسد حاجات المعوزين. ويكون للواحد أربعة أخماسه. وأما أخذ كل مال لا وارث له ومال اللقطة وما لم يعرف له مالك فأساسه أن الغرم بالغتم وأن كل مال لا يستحقه مالك خاص فالمصلحة العامة أحق به، كما أن من لا يجد نفقة ولا منفقًا فنفقته في بيت مال المسلمين. وجملة القول أن النصوص الواردة في شأن الموارد المالية الإسلامية ووجهة النظر التي أبانها كبار الصحابة في اجتهادهم وشوراهم يؤخذ منها أن الأساس الذي بنيت عليه هذه الموارد هو توفير ما تتطلبه المصالح العامة من النفقات وتأمين أرباب الأموال على أنفسهم وأموالهم، وتحقيق ما تقضي به الوحدة الاجتماعية من التضامن والتعاون؛ وهذه أسس تتقبل رعاية كل المصالح وتتفق وقواعد العدل.   1 الأنفال: 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 شرائط الضريبة العادلة : جباية الضرائب من الأفراد فيها استيلاء على جزء من مالهم وحرمان لهم من التمتع به. وهذا الحرمان إنما رخص فيه لأن الضرورة قضت به إذ لا يمكن القيام بالمصالح العامة بدونه. وبما أن الضرورات تقدر بقدرها فيجب أن لا يتجاوز بالضريبة القدر الضروري وأن يراعى في تقديرها وطرائق تحصيلها ما يخفف وقعها، ولهذا ذكر علماء الاقتصاد أنه لا بد أن يتوفر في كل ضريبة شرائط أربعة: الأول: العدل والمساواة بحيث تفرض الضرائب على جميع الأفراد بطريق واحدة تناسب مقدرتهم المالية. الثاني: الاقتصاد بحيث لا يفرض إلا القدر الضروري. الثالث: النظام المبين الذي يعلم به كل فرد ما يجب عليه أداؤه وموعده وطريقة أدائه. الرابع: مراعاة مصلحة الأفراد في تعيين مواعيد الأداء وطرائقه. وذكروا كذلك أنه لا يجوز فرض الضريبة إلا في مال نام متجدد حتى تكون الضريبة من ثمرة المال ولا تكون من عوامل نقص أصله حتى قال بعضهم: "ما يؤخذ من الثمرة ضريبة وما يؤخذ من الأصل نهب وسلب". ولا يجوز أن تستنفذ الضريبة كل الثمرة حتى لا يشعر الفرد بأنه إنما يعمل لغيره فيذهب نشاطه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 والناظر في الضرائب الإسلامية يتبين أنها مشروطة بعدة شرائط اقتصادية مراعي فيها العدل والتوفيق بين مصالح الأفراد والمصالح العامة: فنماء المال الواجبة فيه الضريبة شرط مراعى في كل الموارد الإسلامية، ففي الزكاة لا تجب إلا في مال نام حال عليه الحول الذي هو مظنة إنتاجه وإثماره ومظنة لأن يكون أداء الزكاة من ثمرته لا من أصله. وفي الخراج لا يجبي إلا من أرض أمكن زرعها بل قال مالك بن أنس: لا يجبى إلا من أرض مزروعة وإنما شرط زرعها أو إمكان زرعها لتكون الضريبة من ثمرتها ونمائها. وفي العشر أو نصف العشر الواجب من نفس الثمرة ووجوبه مشروط بأن يكون الزرع قد بدا صلاحه. والمقصود من هذه الشرائط أن لا يرهق ذو المال وأن تكون الضريبة من ثمرة ماله لا من أصله. وأما تناسب الضريبة الواجبة مع الحال المالية لمن تجب عليه فهو مراعى في الموارد الإسلامية كذلك ففي الزكاة والعشر ونصف العشر والعشور الواجب مقدار نسبي لا يفترق فيه مال عن مال ولا فرد عن فرد فما دون النصاب عفو. وما بلغ النصاب يؤخذ منه الواجب بنسبة معينة. وفي الجزية لا تؤخذ إلا من الغني القادر ولا يؤخذ من أحد إلا ما يناسب ماليته ودرجة يساره. وفي الخراج يجب أن يراعى ما تخرجه الأرض وما يطيقه أهلوها: روى القاضي أبو يوسف عن عمر بن ميمون قال: بعث عمر رضي الله عنه حذيفة بن اليمان على ما وراء دجلة وبعث عثمان بن حنيف على ما دونه، فأتياه فسألهما: كيف وضعتما على الأرض؟ لعلكما كلفتما أهل عملكما ما لا يطيقون. قال حذيفة: لقد تركت فضلا. وقال عثمان: لقد تركت الضعف ولو شئت لأخذته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 فقال عمر عند ذلك: أما والله لئن بقيت لأرامل أهل العراق لأدعنهم لا يفترقون إلى أمير بعدي. وأما مقدار الواجب وموعد أدائه وطريقته فقد روعي فيها أيضا الاقتصاد والرفق بذوي الأموال من غير تفويت حق المصلحة العامة فجعل موعد أداء الواجب حين يحول الحول على المال وجعل الأداء موكولا إلى رب المال في الأموال الباطنة كالنقود لأن في عدها على صاحبها واستقصائها حرجا وإضرارا به فوكل إليه أداؤها بوازع من دينه وسائر الأموال جعل لولاة الأمور تحصيلها لصرفها في مصارفها على أن يراعوا في هذا التحصيل ما يقضي به الرفق والعدل. قال القاضي أبو يوسف في خطابه إلى أمير المؤمنين الرشيد في كتاب الخراج وتقدم إلى من وليت أن لا يكون عسوفا لأهل عمله. ولا محتقرا لهم. ولا مستخفا بهم. ولكن يلبس لهم جلبابا من اللين يشوبه بطرف من الشدة والاستقصاء من غير أن يظلموا أو يحملوا ما لا يجب عليهم. وقد كان العدل في الضرائب الإسلامية وإحاطتها بالشرائط الاقتصادية من أقوى الأسباب التي ساعدت المسلمين على فتح البلدان وثبتت أقدامهم فيما فتحوه؛ لأن الفرس والرومان كانوا قد أرهقوا الناس بالضرائب الفادحة وحملوهم فوق ما يطيقون ولم ينصفوا مالكا ولا زارعا. وفيما دار بين أبي عبيدة وأهل الشام لما أمر أن يرد عليهم ما جبي منهم دليل على ما كانت تكنه صدورهم وما كانت ترهقهم به الإمبراطورية الرومانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 الموارد المالية الإسلامية مدخل ... الموراد المالية الإسلامية: تنقسم الموارد المالية التي يتكون منها إيراد بيت مال المسلمين إلى قسمين: موارد دورية يجبى منها الإيراد في مواعيد معينة من السنة، وموارد غير دورية. ف الموارد الدورية هي: الزكاة، والخراج، والجزية، والعشور. والموارد غير الدورية هي: خمس الغنائم، وخمس المعادن، والركاز، وتركة من لا وارث له، ومال اللقطة، وكل مال لم يعرف له مستحق معين من الأفراد. وسنبين ما شرعه الإسلام في كل مورد من هذه الموارد من الأحكام الكلية، وما راعاه من الشرائط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 الموارد الدورية : 1- الزكاة: فرضت على المسلمين بعدة نصوص في الكتاب الكريم منها قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 1، وقوله سبحانه: {وَآتَوُا الزَّكَاةَ} 2، وقوله عز شأنه: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} 3.   1 التوبة: 103. 2 البقرة: 110. 3 التوبة: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 ووردت في السنة عدة أحاديث قررت فرضيتها، وفسرت المجمل من آياتها. وأبانت حكمتها والسر في تشريعها. ففي حديث قواعد الإسلام عد إيتاء الزكاة من الدعائم الخمس التي بني عليها الإسلام. وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أتى رجل من تميم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله: إني ذو مال كثير وذو أهل ومال وحاضرة فأخبرني كيف أصنع وكيف أنفق فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تخرج الزكاة من مالك فإنها طهرة تطهرك وتصل أقرباءك، وتعرف حق المسكين، والجار والسائل". وفي كثير من أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكتبه إلى ولاة الصدقات بيان أنصباء الأموال المزكاة، ومقدار الواجب أداؤه من كل نصاب ومن أشهر ما ورد في هذا كتابه صلى الله عليه وسلم إلى عمر بن حزم. ومن المقرر في الإسلام أنه ليس في مال المسلم حق مفروض سوى الزكاة. والأموال التي تفرض فيها الزكاة أربعة: النقود من الذهب والفضة، وما في حكمها من عروض التجارة، والسوائم من الإبل والبقر والغنم، وما تخرج الأرض العشرية من زروع، وما تثمر الأشجار والكروم من ثمار. ولا تفرض الزكاة في مال من هذه الأموال إلا إذا بلغ مقداره النصاب المعين الذي اعتبره الشارع مناطا للغني واليسار واعتبر ما دونه قليلا لا تؤخذ منه زكاة. ونصاب النقود من الذهب عشرون دينارا، ومن الفضة مائتا درهم. وبهذا يقدر النصاب في قيم العروض التجارية، ونصاب السوائل من الإبل خمس ومن البقر ثلاثون ومن الغنم أربعون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 ونصاب الزرع والثمار خمس أوسق. وقد شرط لاستحقاق الزكاة من كل نصاب من هذه الأموال عدة شرائط كلها ترجع إلى توفير نمائه حتى تكون الزكاة من ثمرته وليست من عوامل نقص أصله. فشرط في المال المزكى الذي بلغ مقداره نصابا أن يكون ناميا، وليس الشرط نموه فعلا وإنما الشرط كونه قابلا للنماء ومعدا له سواء أكان معدا له بأصل خلقه كالنقود أم معدا له بإعداد مالكه كعروض التجارة. وشرط أن يحول عليه الحول لأنه لا بد لنماء المال من مدة تكون مظنة له، وأقل مدة لهذا عادة هي الحول، ولذا جاء في الحديث "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول". وشرط أن يكون فاضلا عن حاجة المالك الأصلية لأن المال المعد للحاجة الأصلية لا يتحقق به يسار ولا يكون له نماء وفي الأخذ منه مخبئة لنفس صاحبه، وفي الحديث "وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم". وشرط في الماشية أن تكون سائمة ترعى الكلأ في أكثر السنة لأنها بالسوم تقل مؤنتها ويتوفر درها ونسلها فيكون أداء الزكاة من نمائها ولا كذلك إن كانت عاملة أو معلوفة. وشرط في الزروع أن تبلغ حد قوتها واشتدادها وفي الثمار أن يبدو صلاحها ويستطاب أكلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 والمقدار المفروض أداؤه زكاة لهذه الأموال منه مقرر ومنه نسبي. فالمقرر هو زكاة السوائم ففي خمس من الإبل شاة إلى تسع فإذا بلغت عشرا ففيها شاتان إلى أربع عشرة، فإذا بلغت خمس عشرة ففيها ثلاث شياه، إلى آخر الترتيب المنصوص عليه. وفي ثلاثين من البقر تبيع أتم ستة أشهر، فإذا بلغت أربعين ففيها مسنة أتمت سنة، إلى آخر المنصوص عليه. وفي أربعين شاه شاه غلى مائة وعشرين، فإذا بلغت مائة وإحدى وعشرين ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت عن مائتين ففيها ثلاث شياه، إلى آخر المنصوص عليه. والنسبي هو زكاة سائر الأموال المستحق فيها الزكاة ففي النصاب من الذهب والفضة ربع العشر، وفي النصاب من أوثق الزروع والثمار نصف العشر إذا احتمل المالك مئونة سقيها بأن سقيت بالآلات والعشر إذا لم يحتمل المالك مئونة سقيها بأن سقيت سيحا أو بالأمطار. ومن هنا يتبين أن الشارع راعى في الزكاة وشرائط استحقاقها ومقدار المستحق ما يتفق وقواعد الاقتصاد وما يوفق بين مصلحة المالك والمصالح العامة. 2- الخراج: الأرض الزراعية من حيث الضريبة الواجبة فيها نوعان: أرض يجب فيها عشر ما يخرج منها أو نصف عشره وتسمى الأرض العشرية. وأرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 يجب فيها مقدار يعين عليها باعتبار مساحتها أو الخارج منها يسمى الخراج وتسمى الأرض الخراجية. ومرجع هذا التقسيم إلى صفة اليد الموضوعة على الأرض ابتداء وقت فرض ضريبتها، فإن كانت يدا إسلامية كانت الأرض عشرية وإن كانت غير إسلامية كانت الأرض خراجية. فكل أرض استأنف المسلم إحياءها من أرض الموات، أو أسلم أهلها عليها طوعا وكانوا أحق بها، أو غنمها المسلمون وقسموها بين الفاتحين فهي أرض عشرية يجبى منها عشر الخارج أو نصفه على ما فصلناه في الزكاة. وكل أرض ظهر عليها المسلمون عنوة وتركوها في يد أهليها، أو صولح أهلها عليها بخراج يؤدى عنها فهي أرض خراجية يجبى منها ما يعين عليها. وكل من الخراج والعشر ونصف العشر هو ضريبة الأرض الزراعية. ولكن منشأ هذا التفصيل أن الأرض الزراعية إذا كانت اليد عليها في مبدأ فرض ضريبتها يد مسلم يكون ذو اليد مخاطبا بقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 1. وهذا الحق المجمل بينته السنة في حديث "ما سقته السماء ففيه العشر وما سقي بغرب أو دالية ففيه نصف العشر".   1 الأنعام: 141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 فيكون المفروض عليه في أرضه الزراعية مقدارا نسبيا معينا بالنصوص ولا يتدخل في تقديره أحد ويكون من أنواع الزكاة ومصرفه مصارفها. أما إذا كانت اليد التي على الأرض في مبدأ فرض ضريبتها يد غير مسلم فلا يخاطب ذو اليد عليها بالآية الكريمة لأن غير المسلمين لا يخاطبون بفروع الشريعة فلا يفرض عليها ما قضت به النصوص. ولا يسوغ تركها بدون فرض ضريبة عليها ما قضت به النصوص. ولا يسوغ تركها بدون فرض ضريبة عليها؛ لأنه لا بد للأرض من مئونة يكون بها بقاؤها واستثمارها وصلاحها ولهذا جعل للإمام أن يفرض عليها خراجا حسبما يقدره فالخراج من الأرض الخراجية هو في مقابلة العشر من الأرض العشرية غير أنه للفارق الذي بيناه عد العشر أو نصفه من الزكاة وصرف في مصارفها وعد الخراج من الفيء وصرف في مصارفه، ولهذا لا يوضع الخراج ابتداء على أرض في يد مسلم ولا يوضع العشر أو نصفه ابتداء على أرض في يد غير مسلم. أما بعد حال الابتداء فقد تنتقل الأرض الخراجية إلى يد المسلم وتبقى خراجية، وتنتقل العشرية إلى يد غير المسلم وتبقى عشرية. وقد يضرب الخراج قدرا معينا على كل مساحة من الأرض كأن يضرب على كل فدان قدر معين وهذا يسمى خراج وظيفة. وقد يضرب حصة شائعة فيما يخرج من الأرض وهذا يسمى خراج مقاسمة، ولا حد لأقل ما يضرب ولا لأكثره. وأول إمام اجتهد في فرض الخراج عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ضربه على أرض السواد لما حبسها أهلها على خراج يؤدونه بعد أن استشار كبار المهاجرين والأنصار وكان عمله سنة متبعة في كل أرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 يظهر عليها المسلمون ويقرون أهلها عليها. والسياسة التي وضعت لضرب الخراج سياسة عادلة قد نص الفقهاء على أن الأرض تختلف من وجوه ثلاثة لكل منها أثر في زيادة الخراج ونقصانه. أحدها: ما يختص بالأرض من جودة يزكو بها زرعها أو رداءة يقل بها ريعها. والثاني: ما تختص بالزرع مما يكثر ثمنه وما يقل. والثالث: ما يختص بالسقي لأن ما احتمل المئونة في سقيه بالآلات لا يسوى بما سقي بالسيوح والأمطار. وقالوا: لا بد لواضع الخراج من اعتبار هذه الأوجه الثلاثة واعتبار كل ما تتفاوت به الأرضون ليعلم قدر ما تحتمله الأرض من خراجها فيقصد العدل فيها من غير زيادة تجحف بأهل الخراج ولا نقصان يضر بالمصارف وكما أوجبوا أن يراعى في كل أرض ما تحتمله، أوجبوا أن لا يستقصى غاية المحتمل، وأن يترك لأرباب الأرض ما يجبرون به النوائب والجوانح. وقد قرر علماء أصول الفقه ان العشر مئونة فيها معنى العبادة، والخراج مئونة فيها معنى العقوبة. أما كون كل منهما مئونة الأرض فوجهه واضح لأن مئونة الشيء ما به بقاؤه وقوامه وبقاء الأرض بأيدي أهليها وصلاحها واستثمارها إنما هو بما يؤدي عنها مما يستعان به على دفع العدوان عليها وتمهيد ريها وطرق استثمارها من العشر أو الخراج. وأما كون العشر فيه معنى العبادة فكذلك وجهه واضح لأنه من أنواع الزكاة وفي أدائه امتثال لما نص عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 في الكتاب وما بينته السنة. وأما كون الخراج فيه معنى العقوبة فليس له وجه ظاهر؛ لأن أحاديث عمر مع الصحابة في بدء وضعه والآراء التي تبودلت في تلك الشورى صريحة في أنه إنما وضع ليستعان به على حماية التعذر وإدرار العطاء على الجند وسائر ما تقتضيه المصالح العامة وليس فيه ذكر العقوبة. ومن هذا يتبين أن الخراج هو ما يضرب ابتداء على الأرض الزراعية التي يقر عليها غير المسلمين وأن أساسه هو اجتهاد عمر بن الخطاب وكبار الصحابة. وقد يطلق الخراج على كل ما يرد للدولة من الموارد الدورية وغير الدورية إطلاقا على سبيل التغليب. ومن هذا كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة كتبه إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد مبينا له موارد الدولة وكيف يجبى المال منها وفيم يصرف؛ وهو كتاب قيم جمع شتيت هذه الموضوعات بأبلغ الأساليب وأفصح العبارات، وضمنه من العظات والنصائح ما يهتدي به إلى أقوم الطرق في تدبير الشئون المالية. وكذلك كتاب الخراج للإمام يحيى بن آدم المتوفى سنة 203هـ وهو لا يبلغ مرتبة الأول. 3- الجزية: هي ضريبة تفرض على رءوس من دخل في ذمة المسلمين من أهل الكتاب، وهي من غير المسلمين قائمة مقام الزكاة من المسلمين وذلك أن كل فرد من أفراد الدولة قادر على أن يؤدي قسطا مما يصرف في المصالح العامة يجب أن يفرض عليه هذا النصيب ليكون له في مقابل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 في الواجب التمتع بالحقوق. غير أن هذا الفرد إن كان من المسلمين فالواجب عليه معين في أمواله وهو الزكاة، وإن كان من غير المسلمين فالواجب عليه معين على رأسه وهو بمنزلة الزكاة من المسلم ولذا لا تجب على الذمي زكاة في أمواله ولا في سوائمه. وإذا أسلم سقطت عنه الجزية ووجبت عليه الزكاة في ماله، وهذا لأنه لا يجمع بين واجبين. والأصل في فرض الجزية قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 1. وجميع أحكامها وشرائطها مراعى فيها العدل والرحمة، ففيمن تجب عليه؟ روعى أن لا تجب إلا على كل رجل حر عاقل قادر على أدائها لأن الله عز شأنه قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} 2، أي عن قدرة وغنى. وفي موعد وجوبهما روعى أنها لا تجب إلا مرة واحدة في السنة بعد انقضائها بشهور هلالية. وفي تعيين قدرها اختلف الفقهاء فذهب أبو حنيفة إلى تصنيف من تجب عليهم ثلاثة أصناف: أغنياء يؤخذ منهم ثمانية وأربعون درهما، وأوساط يؤخذ منهم أربعة وعشرون درهما، والباقون يؤخذ منهم اثنا عشر درهما فجعلها مقدرة الأقل والأكثر وذهب الشافعي إلا أنها مقدرة الأقل فقط وهو دينار، وأما الأكثر فغير مقدر وهو موكول إلى اجتهاد الولاة.   1 التوبة: 29. 2 التوبة: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وأرجح الأقوال وهو قول مالك بن أنس إنه لا حد لأقلها ولا لأكثرها والأمر فيها موكول إلى اجتهاد ولاة الأمر ليقدروا على كل شخص ما يناب حاله ولا يكلفوا أحدا فوق طاقته. وقد وردت عدة أحاديث بالنهي عن الإرهاق في تقدير الجزية أو القسوة في تحصيلها وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بقوله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} وهم راضون بجريان أحكام الإسلام عليهم. وروى نافع عن ابن عمر قال: كان آخر ما تكلم به النبي -صلى الله عليه وسلم- أن قال: "احفظوني في ذمتي". وجاء في الحديث: "من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه" وروى عن ابن عباس "ليس في أموال أهل الذمة إلا العفو". 4- العشور: قال القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج: حدثنا عاصم بن سليمان عن الحسن قال: كتب أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب أن تجارا من قبلنا من المسلمين يأتون أرض الحرب فيأخون منهم العشر فكتب إليه عمر: خذ أنت منهم كما يأخذون من تجار المسلمين. وخذ من أهل الذمة نصف العشر. ومن المسلمين من كل أربعين درهما درهما. وليس فيما دون المائتين شيء فإذا كانت مائتين فيها خمسة دراهم وما زاد فبحسابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وعلى هذا درجت الحكومات الإسلامية من عهد عمر فأقيم العاشر عند ممر التجار بأموال التجارة الصادرة من البلاد الإسلامية أو الواردة إليها فإن كان التاجر مسلما أخذ منه ربع العشر على قدر الواجب في الزكاة، وإن كان ذميا أخذ منه نصف العشر وإن كان حربيا عومل كما يعامل قومه تجار المسلمين فإن كانوا يأخذون منه العشر أخذ منه أو نصف العشر أخذ منه أو ربع العشر كذلك وإن لم يعلم ما يأخذونه أخذ منهم العشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 الموارد المالية غير الدورية : فمنها خمس الغنائم، وذلك أن كل ما يغنمه المسلمون من أعدائهم بالقتال يؤخذ خمسة لبيت مال المسلمين لصرفه في المصارف التي بينها الله سبحانه في قوله في سورة الأنفال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1. ويقسم أربعة أخماسه بين القائمين على ما جاء في الأحاديث والآثار وإنما أخذ الخمس لمن سمى الله في كتابه العزيز لتكون قلوب هؤلاء مع المقاتلين ولأجل أن لا يكون من وراء الجند من يحقد عليهم، ولذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم". ومنها خمس المعادن والركاز، وهي ما يوجد دفينا في الأرض سواء أكان جزءا من باطن الأرض خلقه الله فيها يوم خلقها وهو المسمى بالمعدن أم   1 الأنفال: 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 كان مدفونا في باطنها بفعل الإنسان وهو المسمى بالكنز، فإذا وجد شيء من ذلك في غير ملك أحد يؤخذ خمسة لبيت مال المسلمين لصرفه في مصارف خمس الغنائم ويترك أربعة أخماسه للواجد. قال القاضي أبو يوسف في كتابه "الخراج": "في كل ما أصيب من المعادن من قليل أو كثير الخمس، ولو أن رجلا أصاب في معدن أقل من وزن مائتي درهم فضة، أو أقل من وزن عشرين مثقالا ذهبا فإن فيه الخمس، ليس هذا على موضع الزكاة إنما هو على موضع الغنائم، وليس في تراب ذلك شيء، إنما الخمس في الذهب الخالص وفي الفضة الخالصة والحديد والنحاس والرصاص، ولا يحسب لمن استخرج ذلك من نفقته عليه شيء، قد تكون النفقة تستغرق ذلك كله فلا يجب إذن فيه خمس عليه، وفيه الخمس حين يفرغ من تصفيته قليلا كان أو كثيرا ولا يحسب عليه من نفقته شيء، وما استخرج من المعادن سوى ذلك من الحجارة -مثل الياقوت والفيروزج والكحل والزئبق والكبريت والمغرة- فلا خمس في شيء من ذلك إنما ذلك كله بمنزلة الطين والتراب" قال: "وأما الركاز فهو الذهب والفضة الذي خلقه الله عز وجل في الأرض يوم خلقت، فيه أيضا الخمس، فمن أصاب كنز عاديا في غير ملك أحد فيه ذهب أو فضة أو جوهر أو ثياب فإن في ذلك الخمس وأربعة أخماسه للذي أصابه وهو بمنزلة الغنيمة يغنمها القوم فتخمس وما بقي لهم". ومنها تركة من لا وراث له من أصحاب الفروض أو العصبة أو ذوي الأرحام أو لا يرثه إلا أحد الزوجين، ففي الحال الأولى يستحق التركة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 كلها بيت مال المسلمين تصرف في مصارف الدولة العامة، وفي الحال الثانية يستحق الباقي بعد نصيب أحد الزوجين بيت مال المسلمين كذلك، وإنما فرق بين أحد الزوجين وبين غيرهم من أصحاب الفروض لأن كل واحد من الزوجين لا يستحق إلا بالفرض ولا يرد عليه بعد فرضه شيء فيكون الباقي بعد فرضه لا مستحق له فيستحقه بيت المال، وأما غيرهما من أصحاب الفروض فإنه يستحق فرضه ويستحق أن يرد عليه ما بقي وما دام للمال الموروث مستحق فهو أحق من بيت المال لأن بيت المال إنما يوضع فيه ما لا مستحق له على قاعدة أن المصالح العامة هي مصرف كل ما ليس له مستحق خال، وعلى هذه القاعدة نفسها توضع أموال اللقطة والودائع والعواري التي لم يعرف مالكها وهذا باب من أبواب الإيراد لبيت مال المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 المصارف المالية الإسلامية : من القواعد المقررة أن كل ما يرد من موارد الدولة المالية فهو حق للأمة لا يصرف إلا في مصالحها العامة. وعلى هذا الأساس رتبت المصارف التي ينفق فيها إيراد الدولة الإسلامية، وقد قدمنا أن أبواب الإيراد في الإسلام هي: الزكاة بأنواعها، والخراج، والجزية، والعشور، وخمس الغنائم، وخمس المعادن، وتركة من لا وارث له، ومال اللقطة، وكل مال لم يعرف له مستحق. وقد بين الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم مصارف بابين من تلك الأبواب وهما الزكاة وخمس الغنائم وسكت عن بيان مصارف باقي الأبواب ليكون ولاة الأمور في سعة من صرفها في سائر مصالح الدولة العامة حسبما يلائم حالهم، وليس ما سماه جل شأنه من المصارف لإيراد هذين البابين خارجا عن حدود المصلحة العامة للأمة، وإنما هي من المصالح العامة التي خصها جلت حكمته بالنص عليها تنبيها على رعايتها وعدم التفريط فيها: فالزكاة بسائر أنواعها بين الله مصارفها بقوله عز شأنه في سورة التوبة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 1.   1 التوبة: 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وروي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن رجلا سأله من الصدقة، فأجابه بقوله: "إن الله لم يرض في الصدقة بقسم نبي ولا غيره ولكن جزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك". فسهم من هذه الصدقات للفقراء والمساكين وسواء كان الفقير أسوأ حالا من المسكين أم كان المسكين أسوأ حالا من الفقير فإنهما يجمعهما معنى الحاجة إلى الكفاية فيكون من هذا السهم سد حاجاتهم رفقا بهم ووقاية للأمة من أضغانهم. وسهم منها للعاملين عليها الذين يقومون بشئونها من إحصاء وتدوين وجباية وحفظ وكل ما تتطلبه من عمل ليعطلوا منه جزءا عملهم على قدر كفايتهم من غير سرف ولا تقتير حتى لا يقصروا في واجبهم ولا يطمعوا في غير حقهم مما بأيديهم. وسهم منها للمؤلفة قلوبهم الذي يرى من مصلحة الإسلام تألفهم رجاء تأييدهم أو اتقاء كيدهم فينفق من هذا السهم على وسائل الترغيب في الإسلام ومقاومة الدعاية ضده. وسهم في الرقاب أي في سبيل فكها وتخليصها من قيد الرق فمن هذا السهم يعان الأرقاء على رفع نير الرق عنهم وإعادة نعمة الحرية إليهم، فمنه تفتدى الأسرى، ومنه يؤدى بدل الكتابة للمكاتبين، ومنه تشتري العبيد لتعتق. وسهم للغارمين الذين لزمتهم ديون من طرق المعاملات المشروعة وعجزوا عن الوفاء بها فمن هذا السهم يقضى الدين عن المدين العاجز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 عن أدائه حتى لا تضيع الثقة بين المتداينين ويبقى التعاون بين الأفراد. وسهم في سبيل الله يعطى منه المجاهدون على قدر كفايتهم وإعداد عدتهم ويعاون منه الحجاج الذين يطرأ عليهم ما يعجزهم عن إتمام فريضتهم. وسهم لابن السبيل الذي انقطع به الطريق فمن هذا السهم يحمل ويعان على الوصول. هذه هي المصارف التي وجه الله فيها أموال الزكاة، ومنها يتبين أنها من المصالح العامة لأن مرجعها إلى أمور ثلاثة: سد حاجة ذوي الحاجات من الفقراء والمساكين والأرقاء والغارمين وأبناء السبيل وتأييد الدين وإعزازه بالجهاد في سبيله وتأليف القلوب إليه، ومجازاة العامل بجزء من عمله صونا لما في يده من أطماع نفسه، وهذه الثلاثة من أحق المصالح العامة بالرعاية لأن ذوي الحاجات إذا لم تدبر شئونهم وتركوا تحت عبء حاجاتهم خسرتهم الأمة وكانوا خطرا على أمنها، وفي بعض الدول الآن يترتب في الميزانية أموال لصرفها مساعدة للعمال العاطلين سدا لحاجتهم واتقاء لأخطارهم، وكذلك تأييد دين الدولة وإعزازه من أهم مصالحها العامة، ومكافأة العاملين على ما عملوا فيها تحقيق مصالح الأعمال والعمال. وقد ألحق بأموال الزكاة عشور الأرض العشرية وما يؤخذ من تجار المسلمين على صادراتهم ووارداتهم فمصرفها الوجوه الثمانية التي تصرف فيها أموال الزكاة لأن هذه كلها أموال تجبى من المسلمين وفيها معنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 القربة فتصرف في مصرف الصدقة، قال القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج: "فإذا جمعت الصدقات جمع إليها ما يؤخذ من المسلمين من العشور وعشور الأموال وما يمر به على العاشر من متاع وغيره ولأن موضع ذلك كله موضع الصدقة فيقسم ذلك أجمع لمن سمى الله تبارك وتعالى في كتابه قال الله تعالى في كتابه فيما أنزل على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} . وأما خمس الغنائم فقد بين الله سبحانه مصرفه بقوله في سورة الأنفال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1. فسهم الله تعالى مرود على من سماهم وسهم الرسول وذوي القربى سقط بوفاته -صلى الله عليه وسلم- وآل الخمس كله إلى اليتامى والمساكين وأبناء السبيل، وبهذا يكون مصرف خمس الغنائم بعض مصارف الصدقات، وبعبارة أخرى يكون بعض ذوي الحاجات ينفق عليهم من أموال الصدقات وما ألحق بها ومن خمس الغنائم، فمصرفه إذًا مصلحة عامة. قال القاضي أبو يوسف: "وأما الخمس الذي يخرج من الغنيمة فإن محمد بن السائب الكلبي حدثني عن أبي صالح عن عبد الله بن عباس أن الخمس كان في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على خمسة أسهم: لله   1 الأنفال: 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وللرسول سهم، ولذي القربى سهم ولليتامى، والمساكين، وابن السبيل ثلاثة أسهم، ثم قسمه أبو بكر وعمر وعثمان -ضي الله عنهم-على ثلاثة أسهم وسقط سهم الرسول وسهم ذوي القربى وقسم على الثلاثة الباقي ثم قسمه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه على ما قسمه عليه أبو بكر وعثمان -ضي الله عنهم-. وقد ألحق بخمس الغنائم خمس المعادن والركاز، فمصرفهما واحد، وهو ما بينه الله في آية سورة الأنفال. قال القاضي أبو يوسف: في كل ما أصيب من المعادن من قليل أو كثير الخمس، ليس هذا على موضع الزكاة إنما هو على موضع الغنائم، وقال: وأما الركاز فهو الذهب والفضة الذي خلقه الله عز وجل في الأرض يوم خلقت، فيه أيضا الخمس، فمن أصاب كنز عاديا في غير ملك أحد فيه ذهب أو فضة أو جوهر أو ثياب فإن في ذلك الخمس وأربعة أخماسه للذي أصابه وهو بمنزلة الغنيمة يغنمها القوم فتخمس وما بقي فلهم. وأما سائر أبواب الإيراد من الخراج والجزية وما يؤخذ من تجار غير المسلمين على صادراتهم ووارداتهم فكل ما يرد منها يسمى الفيء، ومصرفه سائر المصالح العامة للدولة، ويلحق به تركة من لا وارث له، ومال اللقطة، وكل مال لم يعلم مستحقه فيصرف ذلك في المصالح العامة، وذلك لأن عمر رضي الله عنه لما رأى وضع الخراج على أرض السواد بيّن مصرفه بقوله: "وقد رأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها وأضع عليهم فيها الخراج وفي رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئا للمسلمين المقاتلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 والذرية ولمن يأتي بعدهم، أرأيتم هذه الثغور لا بد لها من رجال يلزمونها، أرأيتم هذه المدن العظام -كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر- لا بد لها أن تشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم". إني وجدت حجة في كتاب الله وتلا آيات الفيء في سورة الحشر. وألحق بالخراج الجزية وكل إيراد لم يسم له مصرف معين فيكون مصرفه مصالح الدولة العامة. قال القاضي أبو يوسف في الجزية: "ويحملها ولاة الخراج مع الخراج إلى بيت المال لأنه فيء للمسلمين، وكل ما أخذ من أهل الذمة من أموالهم التي يختلفون بها في التجارات، وممن دخل إلينا بأمان، وما أخذ من أهل الذمة من أرض العشر التي صارت في أيديهم فإن سبيل ذلك أجمع كسبيل الخراج يقسم فيه الخراج، وليس هذا كموضع الصدقة ولا كمواضع الخمس، قد حكم الله عز وجل في الصدقة حكما قسمها عليه فهي على ذلك وقسم الخمس قسما بقي عليه فليس للناس أن يتعدوا ذلك ولا يخالفوه". وجملة ما فصلناه أن موارد الدولة الإسلامية من حيث ما يصرفه فيه إيرادها ثلاثة أقسام: قسم يضرب إيراده في مصارف الصدقات الثمانية المبينة في آية سورة التوبة وهو: الزكاة وعشور الأرض العشرية التي تؤخذ من المسلمين وما يؤخذ من تجار المسلمين إذا مروا بالعاشر وقسم يصرف إيراده في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 مصارف خمس الغنيمة المبينة في آية سورة الأنفال وهو خمس الغنائم وخمس المعادن والركاز. وقسم يصرف في سائر مصالح الدولة العامة وهو إيراد سائر مواردها المالية. وقد ترتب على هذا التقسيم وتخصيص كل نوع من الإيراد بوجوه معينة من المصارف أنهم منعوا أن يوجه إيراد نوع إلى غير مصرفه ومنعوا أن يجمع بين إيراد نوع وإيراد نوع آخر، بل منعوا أن يولى عمال الخراج العمل في الصدقات وكأنهم اعتبروا ميزانية الدولة العامة مجموع ميزانيات ثلاث لكل واحدة أبواب إيراد وأبواب صرف. قال لقاضي أبو يوسف في كتاب الخراج: "ومر يا أمير المؤمنين باختيار رجل أمين، ثقة، عفيف، ناصح، مأمون عليك وعلى رعيتك فوله جميع الصدقات في البلدان، ومره فليوجه فيها أقواما يرتضيهم ويسأل عن مذاهبهم وطرائفهم وأماناتهم يجمعون إليه صدقات البلدان فإذا جمعت إليه أمرته فيها بما أمر الله جل ثناؤه به فانفذه، ولا تولها عمال الخراج فإن مال الصدقة لا ينبغي أن يدخل في مال الخراج، وقد بلغني أن عمال الخراج يبعثون رجالا من قبلهم في الصدقات فيظلمون ويعسفون ويأتون ما لا يحل ولا يسع، وإنما ينبغي أن يتخير للصدقة أهل العفاف والصلاح فإذا وليها رجلا ووجه من قبله من يوثق بدينه وأمانته أجريت عليهم من الرزق بقدر ما ترى ولا تجر عليهم ما يستغرق أكثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 الصدقة، ولا ينبغي أن يجمع مال الخراج إلى مال الصدقات والعشور لأن الخراج فيء لجميع المسلمين والصدقات لمن سمى الله عز وجل في كتابه. وعلى هذا الأساس قال صاحب البدائع: "أما ما يوضع في بيت المال من الأموال فأربعة أنواع: أحدها: زكاة السوائم والعشور، وما أخذه العشار من تجار المسلمين إذا مروا عليهم. والثاني: خمس الغنائم والمعادن والركاز. والثالث: خراج الأرض، وجزية الرءوس، وما صولح عليه بنو نجران من الحلل، وبنو تغلب من الصدقة المضاعفة، وما أخذه العشار من تجار أهل الذمة والمستأمنين من أهل الحرب. والرابع: ما أخذ من تركة الميت الذي مات ولم يترك وارثا أصلا أو ترك زوجا أو زوجة. فأما مصرف النوع الأول: فقد ذكرناه وهو الذي بينه الله تعالى في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} 1 الآية. وأما النوع الثاني: وهو خمس الغنائم والمعادن فنذكر مصرفه في كتاب السير وهو الذي بينه الله تعالى في قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} 2 الآية.   1 التوبة: 60. 2 الأنفال: 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وأما مصرف النوع الثالث من الخراج وأخواته: فعمارة الدين وإصلاح مصالح المسلمين من رزق الولاة والقضاة وأهل الفتوى من العلماء والمقاتلة ورصد الطرق وعمارة المساجد والرباطات والقناطر والجسور وسد الثغور وإصلاح الأنهار التي لا ملك لأحد فيها. وأما النوع الرابع: فيصرف إلى دواء الفقراء والمرضى وعلاجهم وإلى أكفان الموتى الذين لا مال لهم، وإلى نفقة اللقيط وعقل جنايته، وإلى نفقة من هو عاجز عن الكسب وليس له من تجب عليه ونحو ذلك، وعلى الإمام صرف هذه الحقوق إلى مستحقيها. هذا ما قرره العلماء في تقسيم المصارف وتوجيه الإيراد فيها ولنا فيما قرروه بحث جدير بالنظر. وذلك أن الله سبحانه لما بين مصارف الصدقات في آية التوبة ذكر فيها {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} ولما بين مصارف خمس الغنائم في سورة الأنفال بدأها بقوله {فَإِنَّ لِلَّهِ} ولما بين مصارف الفيء في سورة الحشر قال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ} 1، فالمواضع الثلاثة التي ذكرت فيها وجوه الصرف في القرآن ذكر فيها {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، {فَإِنَّ لِلَّهِ} ، {فَلِلَّهِ} فالذي يؤخذ من هذا الصدقات وخمس الغنائم والفيء تشترك في أنها يصرف منها في سبيل الله، ولله، والمراد من الصرف لله وفي سبيل الله الصرف للمصلحة العامة التي لعدم اختصاص فرد بها نسبت إلى الله فتكون جميع الموارد مشتركة في أن يصرف منها للمصلحة العامة، غير أن كل آية من آيات المصارف لما نصت على المصلحة العامة خصت بالذكر بعض أفراد هذه المصالح لفتا للنظر إليها وتنبيها على رعايتها.   1 الحشر: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وعلى هذا لا أرى تباينا بين المصارف المالية التي ذكرت في القرآن للصدقات وخمس الغنائم والفيء، ولا أرى في النصوص ما يمنع الجمع بين إيراد هذه الموارد وتوجيهه في مصالح الدولة العامة مع مراعاة البدء بالأهم منها وعدم التفريط في نوع مما خصه الله سبحانه بالنص عليها في الآيات، ولا أرى موجبا لأن نقصر المراد من سبيل الله على خصوص الجهاد أو ما يشمل الجهاد والحج فإن كل ما يصرف في المنافع العامة وفيما تقتضيه حاجات الأمة هو في سبيل الله، ألا يرى أن علماء الأصول لما قسموا الحدود الشرعية إلى ما هو حق الله والعبد قالوا: إن المراد بما هو حق الله ما كان حقا للمصلحة العامة ولمنفعة المجتمع مثل حد الزنا وحد السرقة، ولذلك ما أجازوا للمجني عليه فيها العفو ولا أباحوا الشفاعة فيها وجعلوا حق إقامتها للإمام أو نائبه، فحق الله يرادف حق المجتمع، وكذلك {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يرادف في سبيل المجتمع والمصلحة العامة، فمن هذا الوجه تشترك الموارد المالية في المصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 جباية الإيراد وصرفه في مصارفه : جباية الإيراد واستيفاؤه من أربابه وتوجيهه في مصارفه من شئون ولاة الأمر في الدولة الإسلامية لأن هذه الإيرادات فرضت للمصالح العامة، وفي توجيهها إلى مصارفها تحقيق هذه المصالح، فيكون النظر فيها لمن له ولاية الشئون العامة، ولهذا أمر الله سبحانه رسوله أن يتولى أخذ الصدقات فقال عز من قائل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} 1، وجعل من مصارف الصدقات العاملين عليها وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبعث المصدقين إلى أحياء العرب والبلدان والآفاق لأخذ الصدقات من الأنعام، وعلى سنته سار الخلفاء الراشدون من بعده، وقد كان السبب الباعث على حروب الردة في أول عهد أبي بكر بالخلافة امتناع قبائل من العرب عن أداء الزكاة فحاربهم أبو بكر قائلا: "والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحاربتهم عليه" وورد أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أخذ زكاة الأموال من النقود وعروض التجارة وكذلك فعل أبو بكر وعمر، ولكن في عهد عثمان رُئي أن الأموال كثرت وأن في إحصاء النقود وعرض التجارة حرجا وفي إظهار مقاديرها وإعلان أمرها أضرارا بأرباب الأموال، ولهذا جعل لأرباب هذه الأموال من النقود وعروض التجارة أن يتولوا هم بأنفسهم إخراج الزكاة الواجبة فيها وصرفها في مصارفها. ومن ذلك قسم إيراد الدولة من حيث جبايته إلى قسمين: قسم جعل لأربابه إخراجه وصرفه في مصارفه دفعا للحرج ومنعا لتتبع أسرار   1 التوبة: 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 الناس وهو زكاة المال غير الظاهر من النقود وعروض التجارة ولكن إذا قدم أرباب هذه الأموال زكاتها من تلقاء أنفسهم إلى العاملين عليها تقبلوه وصرفوه في مصارفه، وقسم جعل ولاية أخذه وصرفه في مصارفه لولاة الأمر وأوجب على أرباب الأموال أداء الواجب فيها إليهم، وعلى أرجح الأقوال ليس لهم الانفراد بإخراجه وصرفه في مصارفه وإن فعلوا لا يجزأهم وهو ما عدا زكاة النقود والعروض التجارية من زكاة السوائم والخراج والجزية والعشور وسائر أبواب الإيراد الظاهر الذي ليس في تعيينه ولا في تقدير الواجب فيه حرج ولا ضرر. وهذا السنن في الجباية سنن عادل مراعى فيه المصلحة العامة ومصلحة المالك فقد فوض إليه أداء الزكاة من ماله الخفي الذي يناله الضرر من إظهاره والإعلان عن مقداره دفعا للحرج عنه والإضرار به، ولا ضرر في هذا على المصلحة العامة لأن من مصارف هذه الصدقات ذوي الحاجات وهم بين يدي كل غني ولا يعوزه أن يوصل الصدقة إليهم فليست المصارف للزكاة مجهولة؛ لأنها مبينة في الكتاب الكريم ولا الصرف فيها متعذر لأن ذوي الحاجات في كل مكان، وفي أداء هذه الزكاة معنى العبادة فيكون على المالك حسيب من دينه وضميره أما سائر أبواب الإيراد فليس على الملاك في أخذ الواجب منهم ضرر فسارت على الأساس العام وجعل أخذها من حق الحكومة وليس للأفراد أن يوجهوها في مصارفها، ولهذا كان يعين لجباية الإيراد عمال مستقلون، وكان يعين لكل باب من أبواب الإيراد عمال لجباية إيراده، وقليلا ما كان يعهد إلى الوالي بالجباية والمرجع في هذا إلى ما تقتضيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 المصلحة التي تختلف باختلاف ما يجبي قلة وكثرة واختلاف كفاءات الولاة قوة وضعفا. وخلاصة القول في السياسة الشرعية المالية أن الإسلام وضع الموارد المالية على أسس من العدل والرحمة والتوفيق بين المصلحة العامة ومصلحة أرباب الأموال وشرط في الأموال التي يجب الأداء منها وفي الأشخاص الذين يجب الأداء عليهم وفي مقدار الواجب ووقت أدائه شروطا تتفق وقواعد العدل والاقتصاد، ورتب المصارف بحيث لا تهمل مصلحة من مصالح الدولة العامة وبحيث يجد ولاة الأمور سعة لتحقيق هذه المصالح وخاصة سد حاجة ذوي الحاجات حتى لا يكونوا خطرا على نظام المجتمع، وراعى في جباية الإيراد وصرفه في مصارفه دفع الحرج عن أباب الأموال من غير تفريط في المصالح العامة وشرع أحكاما لمعاملة الجباة أرباب المال ومراقبة ولاة الأمر لهؤلاء الجباة على أساس أنه لا يحل لعامل أن يأخذ غير الواجب كما لا يحل لمالك أن يمنع أي واجب، وهذه نظم تكون قانونا ماليا عادلا على خير أساس ينشده علماء الاقتصاد وتتقبل كل إصلاح تقتضيه حال الأمم والعصور. وإذا كان تاريخ بعض الدول الإسلامية ينطبق بسوء سياستها المالية وبالإفراد في جباية الإيراد والتفريط في رعاية المصالح العامة، فليس منشأ هذا ما شرعه الإسلام في السياسة المالية وإنما منشؤه إهمال ما قرره الإسلام والسير وراء الشهوات والأغراض، والناظر إلى الدول الإسلامية في مرآة التاريخ يتبين له أنه كلما استقام أمر الدولة وسارت على نهج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الدين اعتدل ميزانها المالي ولم يشعر أفرادها بعسف ولا إرهاق ولم تهمل مصلحة من مصالحها وكلما عوج أمر الأمة وحادت عن سبيل الدين اختل فيها التوازن المالي وزادت أعباء الأفراد وضاعت المصالح العامة، فميزانية الدولة مرآة عدلها وجورها ونظامها وفوضاها، وبرهانا على هذا نجمل كلمة تاريخية عن مالية بعض الدول الإسلامية، ومنها يتبين بدء تكوين بيت مال المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 نبذة من تاريخ بيت مال المسلمين : كان إيراد الدولة الإسلامية في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- قاصرا على الغنائم والصدقات والجزية التي صولح عليها أهل الكتاب وكان كل ما يرد من هذه الموارد يصرف في مصرفه ساعة يرد: فالغنائم تقسم أربعة أخماسها بين الغانمين وخمسها يقسم على ما بين الله في كتابه والصدقات توجه في مصارفها التي بينها الله في كتابه والجزية تنفق في حاجات الغزو والجهاد وسائر المصالح العامة وما كان ذاك فضل للإيراد على المصروف، وما مست الحاجة إلى حفظ مال في بيت مال وما أهملت مصلحة عامة، ولا أخذ من فرد غير ما يجب، وكذلك كانت الحال المالية في عهد أبي بكر ليس في الدولة مال مدخر، وكل ما يرد يوجهه في مصارفه، حتى إنه لما توفي رضي الله عنه لم يجدوا عنده من مال الدولة إلا دينارا واحدا سقط من غرارة! ولما اتسعت الدولة الإسلامية في عهد عمر وفتح الله للمسلمين أرض الشام ومصر وفارس زاد إيراد الدولة، وبلغ إيراد ما يجبى من الخراج والعشور وسائر الموارد الشرعية مبلغا لفت المسلمين إلى وجوب ضبطه، وحصر أرباب المرتبات، وتقدير الحقوق والأعطيات وسائر أبواب المصالح العامة، اتخذ عمر رضي الله عنه ديوانا ضبط فيه الدخل والخرج وأحصى أرباب الاستحقاق ومقادير ما يستحقون وأوقات الصرف لهم، واتخذ بين مال للمسلمين يحفظ فيه ما زاد من إيراد الدولة على مصروفاتها للإنفاق منه على ما يطرأ من الحاجات وما يجد من المصالح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 فهو أول من فعل هذا وما اتخذ قبله في الدولة الإسلامية ديوان ولا بيت مال لأنه لم تكن إليها حاجة. قال ابن خلدون: "أول من وضع الديوان في الدولة الإسلامية عمر -ضي الله عنه-يقال لسبب مال أتى به أبو هريرة من البحرين فاستكثروه وتعبوا في قسمه، فسعوا إلى إحصاء الأموال وضبط العطاء والحقوق فأشار خالد بن الوليد بالديوان، وقال رأيت ملوك الشام يدونون، فقبل منه عمر، وقيل: بل أشار عليه به الهرمزان لما رآه يبعث البعوث بغير ديوان، فقيل له: ومن يعلم بغيبة من يغيب منهم؟ فإن من تخلف أخل بمكانه، وإنما يضبط ذلك الكتاب، فأثبت لهم ديوانا وسأل عمر عن اسم الديوان فعبر له، ولما اجتمع ذلك أمر عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم، وكانوا من كتاب قريش، فكتبوا ديوان العساكر الإسلامية على ترتيب الأنساب، تبدأ من قرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأقرب فالأقرب وهكذا كان ابتداء ديوان الجيش في المحرم سنة عشرين من الهجرة على ما روى الزهري عن ابن المسيب، وأما ديوان الخراج والجبايات فقد كان في حاضرة الدولة باللغة العربية كديوان الجيش، وأما في الولايات فبقي بعد الفتح الإسلامي على ما كان عليه قبله ديوان العراق بالفارسية ديوان الشام بالرومية وديوان مصر بالقبطية وكتاب الدواوين من المعاهدين من هذه الأمم، ولما جاء عبد الملك بن مروان ظهر في العرب ومواليهم مهرة في الكتاب والحساب، أمر والي الأردن لعهده سليمان بن سعد أن ينقل ديوان الشام إلى العربية فأكمله لسنة من يوم ابتدائه ووقف عليه سرجون كاتب عبد الملك، فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 للكتاب الروم: اطلبوا العيش في غير هذه الصناعة فقد قطعها الله عنكم! وأمر الحجاج كاتبه صالح بن عبد الرحمن، وكان يكتب العربية والفارسية، أن ينقل ديوان العراق من الفارسية إلى العربية، ففعل وفي عهد الوليد بن عبد الملك نقل ديوان مصر من القبطية إلى العربية على يد ابن يربوع الفزاري. وليس من الميسور أن نعين بالضبط كم كان إيراد الدولة في عهد عمر أو فيما بعد عهده لأن المؤرخين الذين عنوا بالتقدير تارة يذكرون مقدار الخراج مريدين به خراج الأرض الخراجية خاصة، وتارة يذكرونه مريدين به ما يشمل الخراج والجزية العشور فلا يتيسر مع هذا معرفة الإيراد جملة ولا تفصيلا، والدواوين التي كان يضبط فيها الدخل والخرج أتت عليها يد التدمير ونار الحروب والثورات، وإنما الثابت أن مالية المسلمين في دولة الخلفاء الراشدين كانت على حال مرضية لأن الإيراد، كان كثيرا، فقد بلغ الخراج من سواد الكوفة وحدها في آخر عهد عمر مائة ألف وألف درهم ولأن المصروفات كانت تصرف باقتصاد وحساب فكانت رواتب العمال والولاة على قدر ضرورتهم في ذلك العهد والجند كانوا لا يزالون على حال البدو يكفيهم القليل، والخلفاء أنفسهم كانوا متعففين عن مال المسلمين، وكان ولاتهم على دينهم يحذرون الإسراف في مال الدولة ويخشون غضب الخلفاء إن هم ضيعوا مال الجباية في غير مصلحة عامة، وقد كان عمر إذا كسب أحد عماله مالا غير عطائه قاسمه فيه، ولا يرى في ذلك غبنا كما فعل بسعد بن أبي وقاص عامله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 على الكوفة وعمرو بن العاص عامله على مصر وأبي هريرة عامله على البحرين وغيرهم. وبهذا القصد في المصروفات، والعناية والأمانة في الجباية، حسنت حال الدولة المالية وما مست حاجة إلى إرهاق الناس بالضرائب الفادحة أو الخروج عن سنن الموارد الشرعية وساعدهم على هذا فتوح البلدان ودخول الناس في الإسلام. وأما فيما بعد دولة الراشدين، فقد تغيرت الحال بالانتقال من البداوة إلى الحضارة ومن الخلافة إلى الملك، فزادت مصروفات الخلفاء وتبعهم الولاة وسائر عمال الدولة، وكثرت الحروب الداخلية بين أحزاب الأمويين والهاشميين والخوارج، ولم يوجد غناء في الإيراد، فاضطروا إلى الخروج عن سنن الموارد الشرعية، وانطلقت الأيدي بالجور والعسف في جباية الأموال بالوسائل غير المشروعة وبإرهاق الناس بالضرائب الفادحة فزادوا في الخراج والجزية على حين كانت الزيادة تناقض العهد وفرضوا الضرائب على الأرض الخراب، وفرضوا هدايا على الذميين في عيد النيروز، ووضعوا ضرائب على مرور السفن بالماء ووضع مروان بن محمد في ولايته على أمينية ضرائب الأسماك، ومع هذا التفنن في ضرب الضرائب استخدموا القسوة في تحصيلها وكل هذا لم يجد نفعا في حفط التوازن المالي، وأدى إلى نفور الناس منهم واستخدمه الدعاة لإسقاط دولتهم، لأن المصالح العامة أهملت وأرباب الأموال ناءوا بأعباء من الضرائب ثقيلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 ولما آل الأمر إلى بني العباس، وكان من أول همهم جمع القلوب حولهم والقضاء على مظالم الأمويين وإزالة أسباب الشكاية من سياستهم وجهوا عنايتهم إلى المالية وشددوا الرقابة على جباة الأموال حتى لا يجوروا، وأخذت الحال المالية تتحسن، حتى كان عهد الرشيد، فسأل قاضيه أبا يوسف أن يضع له نظاما شرعيا عادلا يتبع في جباية الخراج والعشور والصدقات، لا جور فيه على الملاك ولا إهمال للمصالح العامة، فوضع -ضي الله عنه-كتابه المسمى بالخراج، وهو كما قدمنا خير أساس لنظام مالي عادل، وقد سار عليه الرشيد وكان من سيره عليه أن زادت ثروة البلاد في ذلك العهد للدولة والأفراد حتى إن بعض أخبار الثراء في ذلك العهد لا تكاد تصدق! ولما دب دبيب الضعف وثارت الحروب الداخلية في هذه الدولة، أصاب ماليتها ما أصابها من قبل في عهد الأمويين فاختلت، ولم يراع في جبايتها ولا في فرضها نظام ولا مصلحة! ولما انقسمت الدولة الإسلامية إلى عدة دول، لم يكن النظام المالي لواحدة منها على السنن الشرعي {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} 1.   1 هود: 117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 " لمحة عن حياة المؤلف ": - ولد في شهر مارس سنة 1888 ببلدة كفر الزيات. - التحق بالأزهر الشريف سنة 1900 بعد أن حفظ القرآن الكريم في أحد "كتاتيب" البلدة. - انتظم في سلك طلبة مدرسة القضاء الشرعي إثر افتتاحها وتخرج منها عام 1915 وكان أول دفعته فعين مدرسا بها في نفس السنة. - اشترك في ثورة سنة 1919 فبرزت خلالها مواهبه الخطايبة والكتابية، ترك المدرسة أو أجبر على تركها فانتقل إلى القضاء الشرعي. - عين قاضيا بالمحاكم الشرعية سنة 1920 ثم نقل مديرا للمساجد بوزارة الأوقاف سنة 1924 وبقي بها حتى عين مفتشا بالمحاكم الشرعية في منتصف سنة 1931. - انتدبته كلية الحقوق جامعة فؤاد مدرسا بها في أوائل سنة 1934 ثم نقل وبقي أستاذا لكرسي الشريعة الإسلامية حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 أحالته إلى المعاش سنة 1948 وقد ظلت تمد خدمته حتى عام 55/ 1956 الذي أقعده المرض خلالها عن إلقاء المحاضرات. - زار كثيرا من دول الوطن العربي للاطلاع على المخطوطات النادرة وإلقاء المحاضرات فكان سفيرا ناجحا لمصر. - انتخب عضوا بمجمع اللغة العربية فأشرف على وضع معجم القرآن. - ترك للشريعة الإسلامية ثروة من المؤلفات امتازت بوضوح العبارة وجلاء الأحكام: أصول الفقه، تاريخ التشريع الإسلامي، أحكام الأحوال الشخصية، مصادر التشريع فيما لا نص فيه وشرح وافٍ لقانوني "الوقف والموارث" وكتاب فريد "السياسة الشرعية أو السلطات الثلاث في الإسلام" وفي التفسير نور من الإسلام، نور على نور. هذا عدا ما كان ينشره من بحوث ومقالات في جريدتي الأهرام والمصري ومجلة القضاء الشرعي، مجلة الأحكام، لواء الإسلام، الرسالة والثقافة. مجموعة من الأحاديث أذاعها من منبر الإذاعة المصرية في مختلف الموضوعات الدينية والاجتماعية وأخصها "من قصص القرآن". مجموعة ضخمة من المحاضرات التي ألقيت في المناسبات الدينية والاجتماعية وما ألقاه في تفسير القرآن الكريم بدار الحكمة لعدة سنوات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 - وأخيرا طواه الموت في الساعة الثالثة بعد ظهر الخميس 19/ 1/ 1956 وشيع جثمانه الطاهر إلى مقره الأخير صباح الجمعة 20/ 1/ 1956. - كرمته الدولة في شهر مايو سنة 1980 بمناسبة مرور مائة عام على إنشاء كلية الحقوق فمنحت اسمه وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى. - منحته إذاعة جمهورية مصر العربية سنة 1984 في احتفالها بعيدها الذهبي شهادة تقدير لخدماته الجليلة في مجال الإعلام والكلمة المسموعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155