الكتاب: الرياض النضرة في مناقب العشرة المؤلف: أبو العباس، أحمد بن عبد الله بن محمد، محب الدين الطبري (المتوفى: 694هـ) الناشر: دار الكتب العلمية الطبعة: الثانية عدد الأجزاء: 4   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- الرياض النضرة في مناقب العشرة الطبري، محب الدين الكتاب: الرياض النضرة في مناقب العشرة المؤلف: أبو العباس، أحمد بن عبد الله بن محمد، محب الدين الطبري (المتوفى: 694هـ) الناشر: دار الكتب العلمية الطبعة: الثانية عدد الأجزاء: 4   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] المجلد الأول مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة: وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. الحمد لله يختص من يشاء برحمته وملبس من سبقت له منه الحسنى أثواب عنايته ومفضل بعض الخلق بما منهم به من طرائف نعمه ولطائف منته ومصرف الأحكام في العبيد فمن شقي وسعيد ومقرب وطريد لا يسأل عما يفعل ولا راد لمقتضى إرادته وصلوات الله وسلامه على سيد أنبيائه وأولى أوليائه وصفي صفوته محمد المنتخل من خلاصة المجد الأثيل ونبيه المنتخب من أعلى سنام الفخر الأصيل وذروته وعلى شريف ذريته الطاهرة وأفنان فنون دوحته الفاخرة وجميع أهل بيته المعظم وعترته أما بعد فإن الله -وعز وجل- قد أختار لرسوله أصحاباً فجعلهم خير الأنام واصطفى من أصحابه جملة العشرة الكرام فرضيهم لعشرته وموالاته وفضلهم بالانضمام إليه مدة حياته وأنعم عليهم بما أولاهم من أصناف موجبات كرمه وأسعدهم بما سلف في سابق قدم وأشقى قوماً بارتكاب في الخوض في أمرهم فيما لا يعنيهم واجترائهم على الآحاد على التنقص بهم ووصفهم بما ليس فيهم حتى لقد فسقوا بظنهم على من علم تعديله وغضوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 بجهلهم على من -رضي الله عنهم- ورسوله فجعلوهم غرضاً لبهتانهم العظيم وذموهم وقد مدحتهم آيات القرآن الكريم قال الله الملك الجليل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم} 1 إلى ذلك {مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيل} 2 أتراهم خرجوا من هذا الوصف أو خرج عنهم أو اختص به النائي دون القريب والجليس منهم أم هل يمكن منهم أن يدعى أن العشرة لم يشتدوا على الكفار وينصروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو يقال إن واحداً منهم لم يكن معه فغير مسلم إن أريد معية الإسلام والإيمان فهم إليها من أول مجيب أو معية الالتفات والاحتفاف فلهم منها أوفر نصيب أو يقال بأنهم زايلوا ذلك الوصف بعد وفاته وارتكبوا ما حكم لهم بخلافه من مخالفاته فالنص يدفع ذلك ويرده ويمنع ذا الدين من اعتقاده ويصده قال الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} 3 أترى خفي عن علمه ما يزعمونه من فسقهم أو ردتهم وقال: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار} إلى قوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} أتراه أعدها لهم مع علمه بما يوجب منعهم منها وأي فائدة الإعلام بها مع ثبوت صرفهم عنها معاذ الله أن يكون الأمر كذلك وحاشا لله أن يختار لرسوله صحبة أولئك وما نقموا منهم مما يوهم ظاهره لو لم يرد ما يعارضه لوجب اعتقاد أحسن الوجوه وحملها عليه فكيف والأدلة الظاهرة تؤكد ذلك وتقضي بالمصير إليه توفيقا بين مقطوع الكتاب ومظنون السنة وتصديقاً لشهادته -صلى الله عليه وسلم- لهم بالجنة كيف وقد علم -صلى الله عليه وسلم- جملة ما وقع منهم ونبه على كثير مما جرى بينهم وصدر عنهم حتى صرح بالنهي عن سبهم وحرص على ترك الخوض فيهم وأمر بحبهم فما للجاهل الغبي ولهم، وقد   1 سورة الفتح الآية: 29. 2 سورة الفتح الآية: 29. 3 سورة الفتح الآية: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه سيغفر لهم وما للمتعامي وتأويل ما ورد في شأنهم وتحريفه بعد قوله -صلى الله عليه وسلم-1 "لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" فالحمد لله أن عصمنا من هذه الورطة العظيمة ووفقنا بحب جملتهم إلى سلوك الطريقة المستقيمة ثم الحمد لله أن ألهم جمع هذا المؤلف في مناقبهم والإعلام بما وجب من التعريف بشرف قدرهم وعلو مراتبهم وتدوين ما روي عن عظيم مآثرهم وإيراد طرف مما ذكر من عميم مفاخرهم من كتب ذوات عدد على وجه الاختصار وحذف السند ليسهل على الناظر تناوله ويقرب على الطالب فيه ما يحاوله عازياً كل حديث إلى الكتاب المخرج منه منبهاً على مؤلفه أو من أخذ عنه تقصياً عن عهدة الارتياب في النقل واعتماداً على أولي السابقة من أهل العلم والفضل مبتدئاً بذكر ما شملهم على طريقة التضمن ثم بما اختص بهم على وجه المطابقة والتعين ثم بما ورد فيما دون العشرة وإن أنضم إليهم من ليس منهم ثم بما اختص بالأربعة الخلفاء ولم يخرج عنهم ثم بما زاد عن الأربعة على واحد ثم بما ورد من فضل كل واحد واحد وأدرجت جملة ذلك في قسمين الأول في مناقب الأعداد الثاني في مناقب الآحاد وكل قسم مبوب على ما اقتضاه من التبويب مرتب على ما وجبت مراعاته من الترتيب. والله أسأل أن يجعل وسيلة إلى غفرانه وذريعة إلى إدراك رضوانه ويخلص المقصد فيه لوجهه الكريم ويجعله قائداً إلى جنات النعيم بمنه وكرمه وها أنا مثبت أسماء الأصول المخرج منها والمأخوذ عنها من مؤلف كبير أو جزء صغير وأكثرها مروي لنا بل كلها إلا ما تركت الخط بالحمرة عليه وإنما لم نسندها للمعنى الذي أشرنا إليه وهي مسند الإمام أحمد بن حنبل والسنن الكبرى للنسائي مما نقله عنه الحافظ أبو القاسم الدمشقي في الموافقات ورزين في تجريده الصحاح ومسند البزار مما نقله عبد الحق في أحكامه والبخاري ومسلم والموطأ والترمذي ومسند الشافعي.   رواه البخاري ومسلم: في صحيحيهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وسننه. ومسند القاسم بن سلام البغدادي المشتمل على الغريب وسنن أبي داود وسنن الدارقطني وسنن سعيد بن منصور وسنن ابن ماجه مما نقله عنه الحافظ الدمشقي في الموافقات والتقاسيم والأنواع لأبن حبان وكتاب الموافقات للحافظ أبي القاسم علي بن عساكر الدمشقي وتجريد الصحاح لرزين والجمع بين الصحيحين لحميدي والمستدرك عليهما للحاكم والمستدرك عليهما لأبي الهروي وكتاب المصابيح للبغوي وشرف النبوة لأبي سعيد عبد الملك بن عثمان الواعظ وفوائد تمام الرازي ونزهة الأبصار لأبي عبد الله محمد بن محمد الفضائلي الرازي ولطائف الأنوار للقلعي وكتاب مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لأحمد بن حنبل وكتاب مناقب خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبي بكر الصديق لأبي عبد الله محمد بن مسدي وكتاب مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وكتاب الآحاد والمثاني في فضائل الصحابة لأبي بكر أحمد بن أبى عاصم الضحاك ابن مخلد وكتاب الشمائل للترمذي وكتاب فضائل الصحابة لخيثمة بن سليمان الأطرابلسي وكتاب منهاج أهل الإصابة في محبة الصحابة لابن الجوزي وكتاب الموافقة بين أهل البيت والصحابة وما رواه كل فريق في الآخر للحافظ أبي سعيد إسماعيل بن علي بن الحسن السمان ومعجم الصحابة لأبي القاسم عبد الله محمد بن محمد بن عبد العزيز البغوي ومعجم أبي القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني ومعجم الحافظ أبي بكر إسماعيل الإسماعيلي ومعجم الحافظ أبي القاسم الدمشقي ومعجم النسوان ومعجم البلدان كلاهما له ومعجم الحافظ أبي يعلى أحمد بن المثني الواعظ ومعجم الحافظ أبي الخير محمد ابن أحمد الغساني وسيرة ابن إسحاق وكتاب المعارف لابن قتيبة وكتاب الأحداث لأبي عبيد القاسم بن سلام وكتاب الردة والفتوح لأبي الحسن علي بن محمد القرشي والاستيعاب لأبي عمر بن عبد البر وصفة الصفوة لأبي الفرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ابن الجوزي وتاريخ الخطيب مما خرجه عنه ابن رستم في كتابه الآتي ذكره وفتوح الشام لأبي حذيفة إسحاق بن بشر القرشي وسيره الملا عمر بن محمد بن الخضر وكتاب المنتقى من كتاب المقامات لأبي شجاع شيروية بن شهردار بنت شيروية الديلمي الهمداني ونزهة الناظر لأبي شجاع زاهر بن رستم الأصفهاني ومن كتب التفسير الوسيطالحسن علي بن محمد القرشي والاستيعاب لأبي عمر بن عبد البر وصفة الصفوة لأبي الفرج بن الجوزي وتاريخ الخطيب مما خرجه عنه ابن رستم في كتابه الآتي ذكره وفتوح الشام لأبي حذيفة إسحاق بن بشر القرشي وسيره الملا عمر بن محمد بن الخضر وكتاب المنتقى من كتاب المقامات لأبي شجاع شيروية بن شهردار بنت شيروية الديلمي الهمداني ونزهة الناظر لأبي شجاع زاهر بن رستم الأصفهاني ومن كتب التفسير الوسيط للواحدي وأسباب النزول له ونكت المساوري وأسباب النزول لأبي الفرج بن الجوهري ومن كتب الشروح شرح المشكل في الصحيحين لأبي الفرج بن الموردي وغريب النهاية ونهاية الغريب للمحدث ابن الأثير الموصلي وصحاح الجوهري. "ذكر الأجزاء" الخلعيات لأبي الحسن علي بن الحسن بن الحسين الخلعي والثقفيات للحافظ أبي عبد الله القاسم بن الفضل بن أحمد الثقفي الأصفهاني والأجزاء المعروفة بالغيلانيات من حديث أبي بكر عبد الله بن محمد ابن إبراهيم الشافعي رواية أبي طالب محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان وأجزاء من الجعديات لأبي الحسن علي بن الجعد والسلفيات للحافظ أبي طاهر أحمد بن سلفة السلفي من انتخابه من أصول بن المشرف الإنماطي ومن أصول ابن الطيوري وغيرهما ومشيخة البغدادية وغيرها وجملتها تزيد على مائة جزء وأجزاء من حديث أبي الحسن الدراقطني وكثير من المحامليات للحافظ أبي عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي وأجزاء تتضمن مشيخة محمد بن أحمد الرازي تخريج الحافظ السلفي وأجزاء من حديث الحافظ أبي القاسم إسماعيل بن أحمد السمرقندي وأجزاء من حديث أبي الحسن علي بن عمر بن الحسن الحربي السكري وأجزاء من حديث أبي عمرو وعثمان بن السماك وأجزاء من المخلصيات من حديث أبي طاهر محمد بن عبد الرحمن بن العباس المخلص الذهبي وأجزاء من أمالي الحافظ أبي الفضل محمد بن ناصر السلامي وأجزاء من حديث أبي الحسن علي بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 حرب الطائي. وجزآن من أمالي نظام الملك أبي علي الحسين بن علي بن إسحاق وأجزاء من أمالي الحافظ أبي عثمان إسماعيل بن محمد بن أحمد بن جعفر بن ملة الأصفهاني وأجزاء من أمالي الحافظ أبي القاسم علي بن عساكر الدمشقي وأجزاء من حديث أبي الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن بشران المعدل وأجزاء من أمالي أبي القاسم عبيد الله بن محمد بن إسحاق بن سليمان بن حبابة البزار وأجزاء من أمالي القاضي أبي عبد الله الحسين بن هارون الضبي وأجزاء من فوائد أبي أحمد حمزة بن محمد بن العباس بن الفضل بن الحارث وأجزاء من حديث الحافظ الخطيب أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي. "الأربعينات" والأربعون الطوال للحافظ أبي القاسم بن عساكر الدمشقي والأربعون البلدانية له والأربعون في فضائل العباس للحافظ أبي القاسم حمزة بن يوسف السهمي وأربعون في فضائل عثمان وأربعون في فضائل علي بن أبي طالب كلاهما للإمام رضي الدين أبي الخير أحمد بن إسماعيل بن يوسف القزويني الحاكمي والأربعون المترجمة بالماء المعين لإبراهيم بن عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الخجندي الأربعون للحافظ أبي عبد الله الثقفي الأصفهاني. "أجزاء مفردة" جزء مترجم بكتاب السنة تأليف أبي الحسين محمد بن حامد بن السري وجزء مترجم بكتاب العلل لأبي زرعة عبد الرحمن بن عمرو الضبي جزء مترجم بكتاب التحفة لأبي عقيل محمد بن علي بن محمد الصابوني المحمودي محاسبة النفس مجاني الدعاء وكتاب اليقين ومن عاش بعد الموت الأربعة لأبي بكر بن أبى الدنيا جزء من مسند الإمام علي بن موسى الرضى في فضل أهل البيت والذرية الطاهرة للدواليبي وفضائل الصحابة للبغوي جزء الحسن بن عرفة العبدي جزء من حديث أبي بكر عبد الله بن داود السجستاني جزء من حديث محمد بن إبراهيم السراج يعرف بجزء ابن بوش جزء من كتاب جامع عبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 الرزاق بن همام الصنعاني وجزء أبي معاوية الضرير جزء الأنصاري أبو محمد عبد الباقي جزء أبي عبد الله محمد بن مخلد العطار مشيخة أبي مسهر ويحيى بن صالح الوحاطي تخريج أبي بكر عبد الرحمن بن القاسم الهاشمي. جزء من حديث أبي عبد الله بن الحسن الصوفي عن يحيى بن معين جزء ابن الغطريف من حديث القاضي أبي بكر الطبري جزء من حديث أسيد بن عاصم جزء من حديث أبي روق أحمد بن محمد بن أبي بكر الهزاني جزء من حديث سعدان بن نصر بن منصور جزء من حديث أبي جعفر محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي جزء من حديث أبي الفضل محمد بن الحسن بن خيرون جزء من حديث أبي عبد الله الحسين بن يحيى بن عباس القطان جزء من حديث إسماعيل بن أحمد بن يوسف السلمي جزء من حديث الحافظ أبي سعيد محمد بن علي بن عمر بن مهدي النقاش جزء من حديث بكار بن قتيبة بن عبد الله البكراوي جزء من حديث أبي جعفر عمر بن عثمان بن شاهين الواعظ جزء من حديث أبي الحسن علي بن محمد بن عبيد رواية المحاملي عنه من حديث صاحب التحفة المتقدم ذكره جزء ثماني الحديث للحافظ رشيد الدين أبي الحسن يحيى بن علي القرشي العطار جزء من حديث أبي القاسم الحريري جزء من حديث أبي الحسن أحمد بن عمير بن جوصا جزء من حديث إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري جزء من حديث أبي مسلم إبراهيم بن عبد الله البصري عن أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن المثنى بن أنس بن مالك الأنصاري جزء من حديث أبي القاسم البغوي جزء مستخرج من مسند عبد بن حميد الكشي جزء من حديث مالك بن أنس الأصبحي تخريج أبي الحسن محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الأزدي جزء من حديث منصور بن عمار تخريج أبي بكر محمد بن عبد الرحمن الحافظ المزكي جزء من حديث أبي بكر محمد بن عمر بن بكير النجار. جزء من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 إملاء أبي بكر محمد مبارك بن الطباخ جزء فيه مشيخة أبي المظفر عبد الخالق بن فيروز بن عبيد الجوهري جزء من حديث أبي إسحق إبراهيم بن عبد الصمد بن موسى الهاشمي جزء من إملاء أبي محمد المبارك بن الصباح جزء من مشيخة أبي المظفر عبد الخالق ابن فيروز بن عبيد الجوهري جزء من حديث أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد بن موسى الهاشمي جزء من إملاء أبي بكر محمد بن عبد الباقي البزار جزء من حديث يعلي أحمد بن علي بن المثنى التميمي جزء من حديث أبي الحسن أحمد بن محمد العتقي جزء من حديث أبي عمر بن حازم ابن أبي عزرة الغفاري جزء من حديث أبي بكر يوسف بن يعقوب بن البهلول جزء من فضائل أبي بكر وعمر لأبي الحسن علي بن أحمد بن نعيم البصري رواية أبي محمد الحسن بن محمد الخلال عنه جزء في فضائل الأربعة عن ابن عباس رواية أبي الفتح يوسف بن عمر جزء من حديث أبي الجهم العلاء بن موسى الباهلي جزء من أمالي أبي جعفر محمد بن البختري جزء من حديث أبي طاهر الحسن بن أحمد بن إبراهيم الأسدي البالسي جزء من حديث أبي بكر محمد بن القاسم الإنباري جزء من حديث أبي عمر بن محمد بن عبد الواحد اللغوي جزء من حديث أبي حامد أحمد بن محمد السرخي جزء من حديث أبي عبد الله الحسين بن يحيى المتوثي جزء من حديث أبي الفضل أحمد بن محمد بن أبي الفرات جزء من حديث أبي عمر عثمان بن محمد بن أحمد بن محمد وركان جزء من حديث أبي بكر محمد بن يحيى الصوفي جزء من حديث أبي الحسن علي بن يحيى بن جعفر بن عبد كوته جزء من حديث الوزير أبي القاسم عيسى بن الجراح جزء من حديث يحيى بن معين جزء من حديث عبد الملك بن محمد بن نزار البغدادي جزء من حديث أبي الحسن علي بن محمد الحلبي جزء من حديث أبي الحسن محمد بن الحسن الجوهري جزء من حديث الإمام أبي الحسن علي بن المفضل المقدسي جزء من حديث أبي بكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان البزار جزء من حديث أبي عبد الرحمن السلمي جزء من حديث إبراهيم بن عبد الصمد بن موسى الهاشمي جزء من حديث سفيان بن عيينة الهلالي. جزء من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 حديث ابن مسعود أحمد بن أبي الفرات بن خالد الضبي جزء من حديث أبي سلمة حماد بن سلمة بن دينار مولى ربيعة بن مالك بن حنظلة جزء من حديث أبي محمد يحيى بن علي بن الطراح جزء من حديث أبي الفتح نصر بن عبد الرحمن النحوي جزء من حديث أبي بكر محمد بن الحسن النقاش في وصل التواريخ جزء من حديث الأنباء من الآباء من ولد العباس لأبي عبد الله محمد بن علي الجلاد جزء في مقتل الحسين لأبي القاسم البغوي جزء من حديث أبي محمد عبد الله بن محمد بن عثمان المعروف بالحافظ ابن السقا من أمالي القاضي أبى بكر يوسف بن القاسم بن يوسف بن فارس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 القسم الأول: في مناقب الاعداد الباب الأول: فيما جاء متضنًا ذكر العشرة وغيرهم مدخل ... القسم الأول: في مناقب الاعداد وفيه أبواب الباب الأول: فيما جاء متضمناً ذكر العشرة وغيرهم ذكر ما جاء متضمناً فضل جملة الصحابة والدعاء لهم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصفيه" 1 وأخرجه أبو بكر البرقاني على شرطهما وفيه "لا تسبوا أصحابي دعوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق كل يوم مثل أحد ذهباً لم يبلغ مد أحدهم". شرح: -أحد: جبل معروف بالمدينة -والنصيف- والنصف بمعنى كالعشير والعشر وعن ابن عمر قال "لا تسبوا أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره" أخرجه علي بن حرب الطائي وخيثمة بن سليمان وعن عبد الرحمن بن سالم بن عبد الله بن عويمر بن ساعدة عن أبيه عن جده قال قال -صلى الله عليه وسلم- "إن الله اختارني واختار لي أصحاباً فجعل لي منهم وزراء وأصهاراً وأنصاراً فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً" أخرجه المخلص الذهبي وعن بريدة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "من مات من أصحابي بأرض كان نورهم وقائدهم   1 أي البخاري ومسلم وهذا هو المراد بلفظ أخرجاه: كلما ذكر هنا في هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 يوم القيامة". وعن الحسن قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "أصحابي في الناس كمثل الملح في الطعام لا يصلح الطعام إلا بالملح" قال ثم يقول الحسن هيهات ذهب ملح القوم وعن ابن عباس في قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} 1 قال أصحاب محمد اصطفاهم لله لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- خرجهن خيثمة بن سليمان وعن أبي صالح في قوله عز وجل: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ} 2 قال محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه خرجه ابن السرى وعن مسروق قال: قال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا فإنك لو قدمت رفعت فوقنا فلم نرك قال فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} 3 وعن سعيد بن المسيب عن عمر قال: قال رسو الله -صلى الله عليه وسلم- "سألت ربي عز وجل فيما أختلف فيه أصحابي من بعدي فأوحى الله إلي يا محمد إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم بعضها أضوا من بعض فمن أخذ بشيء فيما هم عليه من اختلافهم فهو عندي على عهدي" خرجه نظام الملك في أماليه وفيه دلالة على أن لكل مجته نصيبًا وعن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ال تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصاحبني؛ والله لا تزالون بخير ما دام فيكمن من رأى من رأى من رآاني وصاحبني" خرجه الحافظ السلفي في السداسيات وعن أبي برزة الأسلمي أنه دخل على زيادة فقال إن من شر الرعاء الحطمة قال فه أسكت فإنك من نخالة أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا للمسلمين وهل كان لأصحاب محمد نخلة بل كانوا لبابا كلهم والله لا أدخل عليك ما كان في روح خرجه أبو الحسن علي   1 سورة النمل الآية: 59. 2 سورة الحج الآية: 41. 3 سورة النساء الآية: 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 بن الجعد. شرح: الحطمة التي تأتي على كل شيء ومنه سميت النار الحطمة ومعنى شر الرعاء الحطمة أي الذي يكون عنيفاً برعية المال يحطمها يلقي بعضها على بعض ومنه قول الشاعر: "قد لفها الليل بسواق حطم" وقد يستعار لأولي الأمر وهو المراد ههنا والنخالة حثالة الدقيق واللباب خالصه وعن سعد بن أبي وقاص حديث مرضه وعيادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له وفيه "اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم" أخرجاه وعن عبد الرحمن بن سالم عن أبيه عن جده قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إن الله اختارني واختار لي أصحابا فجعل لي منهم وزراء وأنصاراً وأصهاراً فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً" أخرجه ابن المهتدي في مشيخته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 ذكر ما جاء في فضل أهل بدر والحديبية : عن علي بن أبي طالب قال بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والزبير وطلحة والمقداد فقال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن فيها ظعينة ومعها كتاب فخذوه منها" فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتيننا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا لها أخرجي الكتاب فقالت ما معي من كتاب فقلنا لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا فيه من حاطب ابن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "يا حاطب ما هذا" فقال يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرأ ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسهم وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون قرابتهم وأهليهم ولم يكن لي قرابة أحمي بها أهلي فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب أن أتخذ عندهم يداً يحمون قرابتي وأهلي والله يا رسول الله ما فعلت ذلك ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد السلام فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إنه قد صدقكم"   1 لا شك أن الإسلام دين السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق, فقال: "إنه شهد بدرا, وما يدريك لعل الله قد اطلع على من شهد بدرا, فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" هذا تمام, وعن سهل بن مالك عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس, إن الله قد غفر لأهل بدر والحديبية" أخرجه الخلعي والحافظ الدمشقي في معجمه, وعن أم مبشر قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت حفصة: "لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها" قالت: بلى يا رسول الله, فانتهرها, قالت حفصة: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "إنه قال الله: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} 1 " أخرجه مسلم, وعن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لعمر في قصة حاطب بن أبي بلتعة: "وما يدريك لعل الله اطلع على هذه العصابة من أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم, فقد غفر لكم" تفرد مسلم بإخراجه وسيأتي في مناقب عمر, وعن جابر أن عبدا لحاطب جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشكو حاطبا فقال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: ليدخلن حاطب النار فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "كذبت لا يدخلها؛ فقد شهد بدرا والحديبية" وعن ابن عباس قال: أتى جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد من أفضل أصحابك عندكم؟ فقال: "الذين شهدوا بدرًا" قال: كذلك الملائكة الذين في السموات, أفضلهم عندنا الذين شهدوا بدرًا, أخرجه ابن بشران, وعن رفاعة بن رافع قال: جاء جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: "من أفضل المسلمين" أو كلمة نحوها قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة, أخرجه الملاء في سيرته, وعن جابر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة" أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح وأخرجه الملاء في سيرته وزاد يعني بالحديبية: "ولا تمس النار أحدًا ممن رآني أو رأى من رآني   1 سورة مريم الآية: 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 ممن آمن بي" وجملة العشرة داخلون في حكم البدريين من حضر ومن لم يحضر, فإن من لم يحضر أعطي حكم الحاضر في الأجر والسهم على ما سنقرره في أبوابه, وكذلك من غاب عن بيعة الشجرة وهو عثمان بايع عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فضرب بإحدى يديه على الأخرى وقال: "هذه لعثمان". ذكر ما جاء في الحث على حبهم, والإحسان إليهم بالاستغفار لهم, والكف عما شجر1 بينهم: عن عبد الله بن مسعود قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله كيف ترى في رجل أحب قوما ولما لحق بهم؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب" أخرجاه, وعن أنس بن مالك قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: "وما أعددت لها؟ " قال: حب الله ورسوله قال: "فإنك مع من أحببت" قال: فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "فإنك مع من أحببت" قال أنس: فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر, وأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم, أخرجه مسلم. وعن أنس بن مالك أن رجلا من الأعراب أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "وما أعددت لها؟ " قال: ما أعددت لها من كثير أحمد عليه نفسي, إلا أني أحب الله ورسوله فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فإنك مع من أحببت" أخرجه مسلم. وعن جابر بن سمرة قال: جاءنا عمر بالجابية فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام في مثل مقامي هذا فقال: "أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم" أخرجه المخلص الذهبي وأخرجه الحافظ ابن ناصر السلامي وقال: حديث صحيح رجاله ثقات مخرج عنهم في الصحيحين. وهذه توصية من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه والإحسان إليهم بحبهم والاستغفار لهم والترحم عليهم والكف عما شجر بينهم, وعن عبد الله بن الزبير أن عمر بن الخطاب   1 اختلف بينهم واختلط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 خطبهم بالجابية وقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أكرموا أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" أخرجه أبو عمر بن السماك, وإكرامهم بما تقدم من الإحسان إليهم. وعن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من أحسن القول في أصحابي فقد برئ من النفاق, ومن أساء القول في أصحابي كان مخالفا لسنتي ومأواه النار وبئس المصير" أخرجه في شرف النبوة أبو سعد وفي رواية: "من أحسن القول في أصحابي, فهو مؤمن" رواها ابن غيلان, وعن عائشة قالت: أُمروا أن يستغفروا لأصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- فسبوهم, أخرجه مسلم وأبو معاوية وهذا يؤيد ما تقدم في تأويل إكرامهم والإحسان إليهم, وعن سهل بن مالك عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس احفظوني في أختاني وأصهاري وأصحابي لا يطالبنكم الله بمظلمة أحد منهم, فإنها ليست مما يوهب, يا أيها الناس ارفعوا ألسنتكم عن المسلمين, وإذا مات الرجل فلا تقفوا فيه إلا خيرا" أخرجه الخلعي والحافظ الدمشقي في معجمه, وعن عبد الرحيم بن زيد العمي قال: أخبرني أبي قال: أدركت أربعين شيخا من التابعين كلهم حدثونا عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أحب جميع أصحابي وتولاهم واستغفر لهم, جعله الله يوم القيامة معهم في الجنة" أخرجه ابن عرفة العبدي, وعن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من أحب أصحابي وأزواجي وأهل بيتي ولم يطعن في أحد منهم وخرج من الدنيا على محبتهم, كان معي في درجتي يوم القيامة" أخرجه الملاء في سيرته, وعن عبد الله بن معقل قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الله الله في أصحابي, لا تتخذوهم غرضا من بعدي, من أحبهم فقد أحبني ومن أبغضهم فقد أبغضني, ومن آذاهم فقد آذاني, ومن آذاني فقد آذى الله, ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه" أخرجه المخلص الذهبي وأخرجه الحافظ أبو القاسم الدمشقي في معجمه وقال: "من أحبهم فبحبي أحبهم, ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم" وذكر ما قبله وما بعده بمثل لفظه, وهو من حديث نبيط بن شريط الأشجعي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نحو رواية ابن معقل من رواية الحافظ الدمشقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 ذكر ما جاء في التحزير من الخوض فيما شجر بينهم والنهي عن سبهم ... "ذكر ما جاء في التحذير من الخوض فيما شجر بينهم, والنهي عن سبهم": قد تقدم في الفصل الأول طرف من النهي عن سبهم وفي الثالث طرف في النهي عن الخوض فيهم؛ عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تكون لأصحابي من بعدي زلة يغفرها الله -عز وجل- لهم بسابقتهم معي, يعمل بها قوم من بعدهم يكبهم الله -عز وجل- في النار على مناخرهم" أخرجه تمام الرازي في فوائده, قوله: "يعمل بها قوم من بعدهم" يجوز أن يريد: يعملون بمثلها في الصورة, فيخرجون عن الإمام بأدنى خيال يتصورونه ويعتمدون في ذلك مثل ما وقع بين الصحابة أولا وآخرا, فأبطل صلى الله عليه وسلم هذا القياس وبين الفرق بينهم وبين من بعدهم وحذر من ذلك ليكون العامل به على بصيرة من أمره؛ لئلا يعتقد الحجة بذلك, ويجوز أن يريد: يعملون بمقتضاها فيما جرت به عوائدهم من الوقوع فيمن يعتقدون خطأه والأخذ في عرضه, فبين -صلى الله عليه وسلم- أن الله قد غفر لهم وتجاوز عنهم, ومن كان كذلك لم يبق له ما يوجب الوقوع فيه, فويل لمن ضل سبيل الرشد بالوقوع فيهم بما يوجب له ما يشهد به لسان النبوة, فله الحمد أن أعاذنا من ذلك ونسأله دوام نعمته وإتمامها. وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إذا ذُكر القَدَر فأمسكوا, وإذا ذُكر أصحابي فأمسكوا" وعن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من سبّ أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين, لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا" وعنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من سب أصحابي وآذاهم فقد آذاني" وعن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من سب أحدا من أصحابي فاجلدوه" أخرجهن خيثمة بن سليمان وأخرج الثالث ابن السماك في الموافقة. وعن علي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من سب نبيا من الأنبياء فاقتلوه, ومن سب أحدا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 أصحابي فاجلدوه" أخرجه تمام في فوائده. وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا يبلغني أحد عن أصحابي شيئًا, فإني أحب أن أخرج إليهم وأنا سليم الصدر" قال عبد الله: وأنى إليّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بمال فقسمه النبي -صلى الله عليه وسلم- فانتهيت إلى رجلين جالسين وهما يقولان: ما أراد محمد بقسمته التي قسمها وجه الله ولا الدار الآخرة, فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته فاحمرّ وجهه وقال: "دعني عنك, فقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر" أخرجه الترمذي أيضا, وذكر أحاديث تتضمن جملتها مؤاخاته -صلى الله عليه وسلم- بين العشرة وغيرهم من المهاجرين والأنصار وذكر اسمه على بعضهم, عن زيد بن أبي أوفى قال: دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسجده فقال: "أين فلان ابن فلان؟ " فجعل ينظر في وجوه أصحابه ويتفقدهم ويبعث إليهم حتى إذا توافوا عنده حمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إني محدثكم حديثا فاحفظوه وعوه, وحدثوا به من بعدكم: إن الله -عز وجل- اصطفى من خلقه خلقا ثم تلا: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} 1 خلقا يدخلهم الجنة, وإني أصطفي منكم من أحب أن أصطفيه ومؤاخ بينكم كما آخى الله -عز وجل- بين ملائكته, فقم يا أبا بكر فاجث بين يدي فإن لك عندي يدا الله يجزيك بها, فلو كنت متخذا خليلا لاتخذتك خليلا, فأنت مني بمنزلة قميصي من جسدي" ثم تنحى أبو بكر ثم قال: "ادن يا عمر" فدنا منه فقال: "لقد كنت شديد الشغب علينا أبا حفص, فدعوت الله أن يعز الإسلام بك أو بأبي جهل بن هشام, ففعل الله ذلك بك وكنت أحبهما إلى الله, فأنت معي في الجنة ثالث ثلاثة من هذه الأمة" ثم تنحى عمر ثم آخى بينه وبين أبي بكر ثم دعا عثمان فقال: "ادن يا أبا عمرو, ادن يا أبا عمرو" فلم يزل يدنو منه حتى ألصق ركبتيه بركبتيه, فنظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى السماء قال: "سبحان الله العظيم" ثلاث مرات ثم نظر إلى عثمان وكانت أزراره محلولة, فزررها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده ثم قال: "اجمع عطفي ردائك على نحرك" ثم قال: "إن لك لسانا في أهل السماء   1 سورة الحج الآية: 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 أنت ممن يرد على حوضي وأوداجك تشخب دما, فأقول لك: من فعل بك هذا؟ فتقول: فلان وفلان" وذلك كلام جبريل إذا هاتف يهتف من السماء فقال: ألا إن عثمان أمير على كل مخذول ثم تنحى عثمان ثم دعا عبد الرحمن بن عوف فقال: "ادن يا أمين الله, أنت أمين الله وتسمى في السماء الأمين, يسلطك الله على مالك بالحق, أما إن لك عندي دعوة وعدتكها وقد أخرتها" قال: خر لي يا رسول الله قال: "حملتني يا عبد الرحمن أمانة" ثم قال: "إن لك شأنا يا عبد الرحمن, أما إنه أكثر الله مالك" وجعل يقول بيده هكذا وهكذا ووصفه لنا حسين بن محمد جعل يحثو بيده, ثم تنحى عبد الرحمن ثم آخى بينه وبين عثمان ثم دعا طلحة والزبير ثم قال لهما: "ادنوا مني" فدنوا منه فقال لهما: "أنتما حواري كحواري عيسى ابن مريم" ثم آخى بينهما, ثم دعا عمار بن ياسر وسعدا وقال: "يا عمار تقتلك الفئة الباغية" ثم دعا عويمر بن زين أبا الدرداء وسلمان الفارسي وقال: "يا سلمان أنت منا أهل البيت, وقد آتاك الله العلم الأول والآخر والكتاب الأول والكتاب الآخر" ثم قال: "ألا أرشدك يا أبا الدرداء؟ " قال: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال: "إن تفتقدتهم يفتقدوك وإن تركتهم لا يتركوك وإن تهرب منهم يدركوك, فأقرضهم عرضك ليوم فقرك, واعلم أن الجزاء أمامك" ثم آخى بينه وبين سلمان, ثم نظر في وجوه أصحابه فقال: "أبشروا وقروا عينا, أنتم أول من يرد علي الحوض, وأنتم في أعلى الغرف" ثم نظر إلى عبد الله بن عمر فقال: "الحمد لله, يهدي من الضلالة من يحب" فقال علي: لقد ذهبت روحي وانقطع ظهري حين رأيتك فعلت بأصحابك ما فعلت بغيري, فإن كان هذا من سخط علي فلك العتبى1 والكرامة فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "والذي بعثني بالحق ما أخرتك إلا لنفسي, وأنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي وأنت أخي ووارثي" قال: وما أرث منك يا نبي الله؟ قال: "ما ورثت الأنبياء من قبلي" قال: وما ورثت   1 الرضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الأنبياء من قبلك؟ قال: "كتاب ربهم وسنة نبيهم, وأنت معي في قصري في الجنة مع فاطمة ابنتي" ثم تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم: " {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} 1 المتحابون في الله ينظر بعضهم إلى بعض" أخرجه الحافظ أبو القاسم الدمشقي في الأربعين الطوال. وخرج الإمام أحمد بن حنبل في كتاب مناقب علي بن أبي طالب معنى حديث المؤاخاة مختصرا وقال: لما آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه قال علي كذا وكذا إلى آخره, وأخرجه أبو سعد في شرف النبوة أوعب من هذا عن عقبة بن عامر الجهني بتغيير بعض لفظه ولم يذكر قصة علي ولفظه, قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر وعمر أمرت أن أؤاخي بينكما, أنتما أخوان في الدنيا والآخرة, فليسلم كل منكما على الآخر وليصافحه" فأخذ أبو بكر بيد عمر, ثم قال: "يا زبير ويا طلحة, تعاليا أؤاخي بينكما, أنتما أخوان في الدنيا والآخرة فليسلم كل منكما على صاحبه وليصافحه" ففعلا ثم قال: "يا عبد الرحمن ويا عثمان, تعاليا أمرت أن أؤاخي بينكما فأنتما أخوان في الدنيا والآخرة, فليسلم كل واحد منكما على صاحبه وليصافحه" ففعلا ثم قال لأبي بن كعب وابن مسعود مثل ذلك ففعلا, ثم قال لأبي عبيدة بن الجراح وسالم مولي أبي حذيفة مثل ذلك ففعلا, ثم قال لأبي الدرداء وسلمان مثل ذلك ففعلا, ثم قال لسعد بن أبي وقاص وصهيب مثل ذلك ففعلا, ثم قال لأبي أيوب الأنصاري ولبلال مثل ذلك ففعلا, ثم آخى بين أسامة بن زيد وبين أبي هند الحجام فقال لهما مثل ذلك ففعلا, ثم قال: "أمرت أن أؤاخي بين فاطمة وأم سليم هنيئًا لأم سليم, وأمرت أن أؤاخي بين عائشة وامرأة أبي أيوب, ألا جزى الله آل أبي طلحة وآل أبي أيوب عن رسول الله خيرًا". وخرج ابن إسحاق ذكر المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار فقال: قال   1 سورة الحجر الآية: 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "فيما بلغنا: "تآخوا في الله أخوين أخوين" ثم أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيد علي فقال: "هذا أخي" فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلي أخوين, وكان حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخوين, وجعفر بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أخو بني سلمة أخوين, وأبو بكر وخارجة بن زيد أخو بني الحارث بن الخزرج أخوين, وعمر بن الخطاب وعتبان بن مالك أخو بني سالم بن عوف أخوين, وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل أخوين, وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخو بني الحارث بن الخزرج أخوين, والزبير بن العوام وسلمة بن سلامة بن وقش أخو بني عبد الأشهل أخوين". ويقال: بل الزبير وعبد الله بن مسعود حليف بني زهرة أخوين, وعثمان بن عفان وأويس بن ثابت بن المنذر أخو بني النجار أخوين, وطلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك أخو بني سلمة أخوين, وسعيد بن زيد وأبي بن كعب أخو بني النجار أخوين, ومصعب بن عمير وأبو أيوب خالد بن زيد أخو بني النجار أخوين, وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وعباد بن بشر بن وقش أخو بني عبد الأشهل أخوين, وعمار بن ياسر حليف بني مخزوم وحذيفة بن اليمان أخو بني عبس حليف بني عبد الأشهل أخوين. ويقال: بل عمار وثابت بن قيس بن شماس أخو بني الحارث بن الخزرج خطيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخوين, وأبو ذر وهو برين بن جنادة الغفاري والمنذر بن عمرو أخو بني ساعدة بن كعب بن الخزرج أخوين. قال ابن هشام: وسمعت غير واحد من العلماء يقول: أبو ذر جندب بن جنادة, قال ابن إسحاق: وكان حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى وعريم بن ساعدة أخو بني عمرو بن عوف أخوين, وسلمان الفارسي وأبو الدرداء عويمر بن ثعلبة أخو بني الحارث بن الخزرج وبلال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 مؤذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو رويحة عبد الله بن عبد الرحمن الخثعمي ثم أحد الفرع أخوين. قال ابن إسحاق: فهؤلاء من سمي لنا ممن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آخى بينهم من أصحابه, وحديث ابن إسحاق تضمن العشرة إلا سعدًا وهي المؤاخاة التي كانت بين المهاجرين والأنصار ليذهب عن المهاجرين وحشة الغربة ويؤنسهم بهم ليشد بعضهم أزر بعض, وحديث عقبة بن عامر قبله تضمن العشرة إلا سعيد بن زيد فحصلت المؤاخاة للعشرة, وهذه المؤاخاة التي كانت بين المهاجرين تأنيسا وشد أزر بعض لبعض. وخرج ابن إسحاق مؤاخاة المهاجرين مختصرة فقال: آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أبي بكر وعمر, وبين عثمان وعبد الرحمن, وبين طلحة والزبير, وبين أبي ذر والمقداد, وبين معاوية بن أبي سفيان والحتات المجاشعي, واختلاف هذا السياق يدل على تكرر المرات والله أعلم. وعن علي قال: آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أبي بكر وعمر, وبين حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة, وبين عبد الله بن مسعود وبين الزبير بن العوام, وبين عبد الرحمن بن عوف وبين سعد بن مالك, وبيني وبين نفسه, أخرجه الخلعي. قال أبو عمر بن عبد البر: آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين, ثم آخى بين المهاجرين والأنصار وقال في كل واحدة منهما لعلي: "أنت أخي في الدنيا والآخرة" وآخى بينه وبين نفسه. وأخرج الطبراني في معجمه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- آخى بين علي وعثمان, ولعل ذلك بعد إخائه -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين نفسه في إحدى المرتين أو في وقت آخر, واختلاف الروايات في المؤاخاة يدل على تكررها حتى يكون الواحد أخًا لاثنين وثلاثة. شرح: قوله في الحديث الأول: "شديد الشغب" هو بتسكين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الغين المعجمة: تهيج الشر وهو شغب الجند، ولا يقال: شغب بالتحريك, تقول: شغبت عليهم وبهم وشغبتهم بمعنًى, والأوداج جمع ودج بالتحريك وهو عرق في العنق, وهما ودجان فأطلق لفظ الجمع عليهما وذلك سائغ في الكلام, يشخب دما استعارة من: شخب الضرع اللبن, تقول منه: شخب يشخب ويشخب شخبا, والاسم الشخب بالضم والله أعلم1.   1 بل لا علم إلا منه تعالى, وفي القرآن الكريم حكاية لقول الملائكة: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الباب الثاني: ذكر العشرة وذكر الشجرة فيما جاء متضمنًا ذكر العشرة وذكر الشجرة في أنساب العشرة, وفيه بيان فضيلة اجتماعهم في نسب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على هذا المثال, نظم هذه الشجرة الشريفة وبين خضرة فروعها المطري محمد بن أحمد بن خلف -رحمه الله- فقال: صلاة ربي دائما والطيبين البررهْ ... على النبي المصطفى وآله والعشرهْ فآله من فاطم ومن أخيه حيدرهْ1 ... وشيبة2 الحمد لهم أصل أطاب الثمره وبعدهم عثمان من عبد مناف الخيره ... ومن قصيّ لحق الزبير مردي الكفره سعد المفدى من كلاب وابن عوف آزرهْ ... صديقنا وطلحة من مرة ما أشهره فاروقنا من كعبهم سعيد يقفو أثره ... وعامر الأمين من فهر كمال العشره "رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين بمحمد وآله"   1 هو سيدنا علي رضي الله عنه، وكرم الله وجهه. 2 هو: عبد المطلب وجد النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان مجده، ومروءته، ونحوهما من المكارم، أمورا مشهورة في العرب، وما أصدقه إذ كان يقول: لنا نفوس لنيل المجد عاشقة ... وإن تسلت أسلناها على الأسل لا ينزل المجد إلا في منازلنا ... كالنوم ليس له مأوى سوى المقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31   1 هو الذي اسمه حكيم: في رواية أخرى تنبيه: نسب كل واحد من العشرة، المذكور في هذه الشجرة -موضح في ترجمته المذكورة في هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 إلى هنا متفق عليه, وقد رُوي أن الله تعالى جمع بين أرواح العشرة قبل خلقهم وخلق من أنوارها طائرا واحدا وهو في الجنة, أخرجه الملاء وغيره فجمع الله بينهم أرواحا قبل خلقهم أشباحا, ثم جمع بينهم أشباحا وأرواحا في النسب والصحبة والإخاء والتوادد والتراحم, ثم في صحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم في الجنة على ما سنذكره. فالسعيد من تولى جملتهم ولم يفرق بين أحد منهم واهتدى بهديهم وتمسك بحبلهم, والشقي من تعرض للخوض فيما شجر بينهم واقتحم خطر التفريق بينهم وأتبع نفسه هواها في سب أحد منهم, فلله الحمد والمنة أن أعاذنا من ذلك ونسأله دوام نعمته وتمامها, آمين آمين. "ذكر ما جاء في إثبات صحبته -صلى الله عليه وسلم- لكل واحد منهم, وإن تفاوتت مراتبهم في المحبة": عن ابن مسعود قال: "قلت: يا رسول الله, أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة" قلت: من الرجال؟ قال: "أبو بكر" قلت: ثم من؟ قال: "عمر" قلت: ثم من؟ قال: "عثمان" قلت: ثم من؟ قال: "ثم علي" فأمسكت". فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "سل يا عبد الله عما شئت" فقلت: يا رسول الله أي الناس أحب إليك بعد علي؟ فقال: "طلحة ثم الزبير ثم سعد ثم سعيد ثم عبد الرحمن بن عوف ثم أبو عبيدة بن الجراح" أخرجه الملاء في سيرته وهو غريب. والصحيح حديث عمرو بن العاص: "قلت: يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة" قلت: من الرجال؟ فقال: "أبوها" قلت: ثم من؟ قال: "عمر بن الخطاب" فعد رجالا" أخرجه أحمد ومسلم وأبو حاتم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وفي رواية: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جيش ذات السلاسل, وفي القوم أبو بكر وعمر, فحدثتني نفسي أنه لم يبعثني على أبي بكر وعمر إلا لمنزلة لي عنده فأتيت حتى قعدت بين يديه فقلت: يا رسول الله من أحب الناس إليك؟ فقال الحديث. وأخرجه أبو حاتم أيضا في فضل عائشة عن أنس, ويمكن حمل المجمل على المبين, ويكون المراد بالرجال هؤلاء على الترتيب إلا أن الترمذي قد خرج عن عائشة أنها سئلت: أي أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أحب إليه؟ قالت: أبو بكر قيل: ثم من؟ قالت: عمر قيل: ثم من؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح, وسيأتي في الباب بعده إن شاء الله تعالى إلا أنه لا يعارض هذا إن صح فإنه -صلى الله عليه وسلم- أخبر عن نفسه وعائشة أخبرت عما ظهر لها بقرائن الأحوال. "ذكر ما جاء في التحذير عن بغضهم": عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "معاشر المسلمين, لو عبدتم الله حتى تكونوا كالحنايا وصمتم حتى تكونوا كالأوتاد وصليتم حتى قف الركب منكم ثم أبغضتم واحدا من أصحابي العشرة, لأكبكم الله في النار على مناخركم" أخرجه أبو سعد في شرف النبوة. "ذكر ما جاء في شهادته -صلى الله عليه وسلم- للعشرة بالجنة": عن عبد الرحمن بن عوف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أبو بكر في الجنة, وعمر في الجنة, وعثمان في الجنة, وعلي في الجنة, وطلحة في الجنة, والزبير في الجنة, وعبد الرحمن بن عوف في الجنة, وسعد بن أبي وقاص في الجنة, وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل في الجنة, وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة" أخرجه أحمد والترمذي والبغوي في المصابيح في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الحسان, وأخرجه أبو حاتم وفيه تقديم وتأخير وقال: ليس ذكر أبي عبيدة أنه في الجنة مضموما إلى العشرة إلا في هذا الحديث. قلت: وفيما سنذكره بعد من حديث سعيد من رواية الترمذي والدارقطني ما يرده, قال: أعني أبا حاتم وهو هذا. وعن سعيد بن زيد أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "عشرة في الجنة: أبو بكر في الجنة, وعمر في الجنة, وعثمان وعلي والزبير وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص" فعد هؤلاء التسعة وسكت عن العاشر فقال القوم: ننشدك الله يا أبا الأعور من العاشر؟ قال: نشدتموني بالله, أبو الأعور في الجنة, أخرجه الترمذي وقال: قال عبد الله يعني البخاري: هو أصح من الحديث الأول يعني: حديث عبد الرحمن, وعنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "عشرة من قريش في الجنة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن مالك وأبو عبيدة بن الجراح" قال سعيد بن المسيب: ورجل آخر لم يسمه كانوا يرون أنه عنى نفسه, أخرجه الدارقطني وأخرجه من طريق آخر وأخرجه الطبراني في معجمه عن ابن عمر قال: وسعيد بن زيد. وعن أبي ذر قال: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منزل عائشة فقال: "يا عائشة ألا أبشرك؟ " قالت: بلى يا رسول الله, قال: "أبوك في الجنة ورفيقه إبراهيم, وعمر في الجنة ورفيقه نوح, وعثمان في الجنة ورفيقه أنا, وعلي في الجنة ورفيقه يحيى بن زكريا, وطلحة في الجنة ورفيقه داود, والزبير في الجنة ورفيقه إسماعيل, وسعد بن أبي وقاص في الجنة ورفيقه سليمان بن داود, وسعيد بن زيد في الجنة ورفيقه موسى بن عمران, وعبد الرحمن بن عوف في الجنة ورفيقه عيسى ابن مريم, وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة ورفيقه إدريس عليه السلام" ثم قال: "يا عائشة أنا سيد المرسلين, وأبوك أفضل الصديقين, وأنت أم المؤمنين" أخرجه الملاء في سيرته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الفصل الرابع: "في وصف كل واحد من العشرة بصفة حميدة" عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر, وأقواهم في دين الله عمر, وأشدهم حياءً عثمان, وأقضاهم علي بن أبي طالب, ولكل نبي حواري وحواريي طلحة والزبير وحيثما كان سعد بن أبي وقاص كان الحق معه, وسعيد بن زيد من أحباء الرحمن, وعبد الرحمن بن زيد من تجار الرحمن, وأبو عبيدة بن الجراح أمين الله وأمين رسوله, ولكل نبي صاحب سر وصاحب سري معاوية بن أبي سفيان, فمن أحبهم فقد نجا ومن أبغضهم فقد هلك" أخرجه الملاء في سيرته. "ذكر أنهم من {الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} ": عن علي -رضي الله عنه- أنه لما قرأ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} قال: أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان إلى تمام العشرة, ذكره أبو الفرج في أسباب النزول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الباب الثالث: في ذكر ما دون العشرة من العشرة وإن انضم إليهم غيرهم فغير مختص بالأربعة الخلفاء أو بعضهم. "ذكر ما جاء في إثبات الصديقية لبعضهم والشهادة لبعضهم": عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة بن الزبير فتحركت الصخرة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اسكن حرا, فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد" وفي رواية: وسعد بن أبي وقاص ولم يذكر عليا, أخرجهما مسلم وانفرد بإخراجه, وأخرجه الترمذي في مناقب عثمان ولم يذكر سعدا وقال: "اهدأ" مكان "اسكن" وقال: حديث صحيح وأخرجه الترمذي أيضا عن سعيد بن زيد وذكر أنه كان عليه العشرة إلا أبا عبيدة وقال: "اثبت حرا" الحديث وأخرجه الخلعي عنه, ولفظه أنه قال: "تأمروني بسب إخواني بل صلى الله عليهم" أو قال: "غفر الله لهم" ثم ذكر أنه كان على حراء فتحرك فقال -صلى الله عليه وسلم: "اسكن حرا" وذكر معناه, وذكر أنه كان عليه العشرة إلا أبا عبيدة وأخرجه الحربي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ولفظه: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حراء فتزلزل الجبل فقال -صلى الله عليه وسلم: "اثبت حرا, فما عليك إلا نبي وصديق وشهيد" وعليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وذكر العشرة إلا أبا عبيدة" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وأخرجه الحافظ إسحاق بن إبراهيم البغدادي فيما رواه الكبار عن الصغار والآباء عن الأبناء عن أبي هريرة -رضي الله عنه- ولفظه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف والزبير وطلحة وسعدا وسعيدا كانوا -يعني على حراء- فتحرك الجبل فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اسكن حرا, فما عليك إلا نبي وصديق وشهيد" فسكن حراء. وسيأتي في مناقب الثلاثة نحو هذا الفصل فيهم في أجبل مختلفة, واختلاف الروايات محمول على قضايا متكررة والله أعلم, ألا ترى إلى اختلاف عدد الكائنين على الجبل في كل رواية وإثبات الصديقية لأبي بكر ظاهرة وبها اشتهر, وإثبات الشهادة للخمسة الذين تضمنهم الحديث الأول ظاهرة فإنهم قتلوا شهداء, والثلاثة الأخر الذين تضمنتهم باقي الأحاديث لم يقتلوا فلعلهم داخلون في الصديقية أو شهداء بمعنى آخر غير القتل والله أعلم. "ذكر ما جاء في دخوله -صلى الله عليه وسلم- الجنة ورؤيته أهلها ووزنه بأمته ووزن بعض العشرة واستبطائه عبد الرحمن بن عوف": عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أدخلت الجنة, فسمعت فيها خسفة بين يدي فقلت: ما هذا؟ قال بلال: فمضيت فإذا أكثر أهل الجنة فقراء المهاجرين وذراري المسلمين ولم أر أحدا من الأغنياء والنساء قيل لي: أما الأغنياء فهم ههنا بالباب يحاسبون وأما النساء فألهاهن الأحمران الذهب والحرير ثم خرجنا من أحد أبوابها الثمانية, فلما كنت عند الباب أتيت بكفة فوضعت فيها ووضعت أمتي في كفة فرجحت بها, ثم أتي بأبي بكر فوضع في كفة وجيء بجميع أمتي فوضعت في كفة فرجح أبو بكر, ثم أتي بعمر فوضع في كفة وجيء بجميع أمتي فوضعت في كفة فرجح عمر, ثم عرضت علي أمتي رجلا رجلا فجعلوا يمرون فاستبطأت عبد الرحمن بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 عوف ثم جاء بعد اليأس فقال: بأبي وأمي يا رسول الله, والذي بعثك بالحق ما خلصت إليك حتى ظننت أني لا أنظر إليك إلا بعد المشيبات فقال: وما ذاك؟ قال: من كثرة مالي أحاسب" أخرجه أحمد, الخسفة: الحس والحركة. "ذكر ما جاء في وصف جماعة منهم, ومن غيرهم بأنهم الرفقاء النجباء": عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن كل نبي أُعطي سبعة نجباء رفقاء أو قال: رقباء, وأعطيت أنا أربعة عشر" قلنا: من هم؟ قال: "أنا وابناي وجعفر وحمزة وأبو بكر وعمر ومصعب بن عمير وبلال وسلمان وعمار وعبد الله بن مسعود" أخرجه الترمذي, وأخرجه تمام في فوائده ولفظه: عن علي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إنه لم يكن قبلي نبي إلا أُعطي سبعة نجباء وزراء ورفقاء, وإني أعطيت أربعة عشر: حمزة وجعفر وأبو بكر وعمر وعلي والحسن والحسين سبعة من قريش, وابن مسعود وعمار وحذيفة وأبو ذر والمقداد وبلال" اتفق الحديثان على أعداد قريش وزاد الترمذي: مصعب بن عمير واختلفا فيما سواهم فذكر الترمذي خمسة لم يذكر فيهم حذيفة ولا أبا ذر ولا المقداد, وذكر علقمة هؤلاء الثلاثة وابن مسعود وعمارا وبلالا ولم يذكر مصعبا ولا سلمان. فيجتمع من الخبرين خمسة عشر وكل واحد منهما لم يستكمل الأربعة عشر التي تضمنها أول الحديث بل ذكر الترمذي اثني عشر وتمام ثلاثة عشر, وقد خرج أحمد في المناقب الحديث عن علي أيضا واستوعب في التفصيل ما ذكره في الجملة ولفظه: قيل له: من هم؟ قال: "أنا وابناي الحسن والحسين وحمزة وجعفر وعقيل وأبو بكر وعمر وعثمان والمقداد وسلمان وعمار وطلحة والزبير" فذكر أحد عشر من قريش وثلاثة من غيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وأخرجه ابن السمان في الموافقة عنه أيضا مستوعبًا في التفصيل عدد الجملة, لكنه مغاير لحديث أحمد ولفظه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي إلا أعطي سبعة نجباء رفقاء وأعطيت أربعة عشر, سبعة من قريش: علي والحسن والحسين وحمزة وجعفر وأبو بكر وعمر, وسبعة من المهاجرين: عبد الله بن مسعود وسلمان وأبو ذر والمقداد وحذيفة وعمار وبلال" وفي رواية أربعة عشر: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وفاطمة والحسن والحسين وحمزة وجعفر وابن مسعود وبلال وعمار وأبو ذر وسلمان, وساغ دخول فاطمة في لفظ الذكور تغليبًا للتذكير فإنها مغمورة بهم وذلك سائغ في الكلام, ومنه {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ} وأمثاله وفيهم النساء واللفظ للمذكر خاصة, فذكر في قريش أربعة لم يتضمنهم الحديثان: عثمان وطلحة والزبير وعقيل فيجتمع من مجموع الأحاديث الأربعة عشر: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وفاطمة والحسن والحسين وجعفر وعقيل وحمزة وطلحة والزبير ومصعب بن عمير ثلاثة عشر من قريش, وابن مسعود وعمار وسلمان وأبو ذر والمقداد وبلال وحذيفة. "ذكر ما جاء في تخصيص أبي بكر" بأنه لم يسؤه قط, وإثبات رضاه -صلى الله عليه وسلم- بجمع منهم ومن غيرهم: عن سهل بن مالك عن أبيه عن جده قال: "لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حجة الوداع صعد المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: "يا أيها الناس, إن أبا بكر لم يسؤني قط فاعرفوا له ذلك, يا أيها الناس إني راضٍ عن عمر وعثمان وعلي وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن مالك وعبد الرحمن بن عوف والمهاجرين الأولين فاعرفوا لهم ذلك" أخرجه الخلعي والحافظ الدمشقي في معجمه. "ذكر ما جاء في وصف جَمَعَ كلًّا بصفة حميدة": عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أرحم أمتي بأمتي أبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 بكر, وأشدهم في دين الله عمر, وأصدقهم حياءً عثمان, وأقرأهم لكتاب الله أبي بن كعب, وأفرضهم زيد بن ثابت, وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل, ألا وإن لكل أمة أمينًا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح". أخرجه أبو حاتم والترمذي وقال: غريب, وأخرجه الطبراني وقال: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر, وأرفق أمتي لأمتي عمر, وأقضى أمتي علي بن أبي طالب" ثم ذكر معنى ما بقي. "ذكر ما جاء في إخباره -صلى الله عليه وسلم- عن العدد بأن كل واحد منهم نعم الرجل": عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "نعم الرجل أبو بكر, نعم الرجل عمر, نعم الرجل معاذ بن عمرو بن الجموح, نعم الرجل معاذ بن جبل, نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح" أخرجه أبو حاتم وأخرجه الترمذي وزاد: "نعم الرجل أسيد بن حضير, نعم الرجل ثابت بن قيس بن شماس" وقدم بعضا وأخر بعضا وقال: حديث حسن. "شرح" نعم وبئس: فعلان ماضيان لا يتصرفان تصرف الأفعال؛ لأنهما استعملا للحال بمعنى الماضي, فنعم مدح وبئس ذم وفيهما أربع لغات فتح أولهما وكسر الثاني وكسرهما على الإتباع وتسكين الثاني مع كسر الأول وفتحه. "ذكر ما جاء في إخباره -صلى الله عليه وسلم- عن جمع أنه يحب الله ورسوله وصلاته عليهم": عن أبي يخامر السكسكي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم صل على أبي بكر فإنه يحبك ويحب رسولك, اللهم صل على عمر فإنه يحبك ويحب رسولك, اللهم صل على عثمان فإنه يحبك ويحب رسولك, اللهم صل على أبي عبيدة بن الجراح فإنه يحبك ويحب رسولك, اللهم صل على عمرو بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 العاص فإنه يحبك ويحب رسولك" أخرجه الخلعي. ذكر ما جاء في أحبية بعضهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم: عن شقيق قال: قلت لعائشة -رضي الله عنها: أي أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قالت: أبو بكر قلت: ثم من؟ قالت: عمر قلت: ثم من؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح قلت: ثم من؟ فسكتت. أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح. ذكر ما جاء في دعائه -صلى الله عليه وسلم- لجمع منهم, كل واحد بدعاء يخصه ويليق بحاله: عن الزبير بن العوام قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنك باركت لأمتي في صحابتي, فلا تسلبهم البركة واجمعهم على أبي بكر ولا تنشر أمره, فإنه لم يزل يؤثر أمرك على أمره, اللهم وأعز عمر بن الخطاب وصبر عثمان ووفق عليا, واغفر لطلحة وثبت الزبير وسلم سعدا ووقر عبد الرحمن وألحق بي السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان" أخرجه الحافظ الثقفي وأخرجه الواحدي مسندا, وزاد بعد قوله فلا تسلبهم البركة: وباركت لأصحابي في أبي بكر فلا تسلبهم البركة واجمعهم عليه. ذكر ما جاء في سؤاله -صلى الله عليه وسلم- الجنة لجمع منهم, ومن غيرهم: عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "سألت ربي -عز وجل- لأصحابي الجنة فأعطانيها البتة" أخرجه أبو الخير الحاكمي القزويني, قال أبو عمر في الاستيعاب: وقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "سألت ربي -عز وجل- أن لا يدخل النار أحدا صاهرني, أو صاهرت إليه" وقد دخل في هذه الفضيلة جمع من قريش, وأرجو أن تكون ثابتة إلى يوم القيامة فيمن صاهره في أحد من ذريته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ذكر ما جاء في بيان مراتب جمع منهم في الجنة: عن ابن أبي أوفى قال: "خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا أصحاب محمد لقد أراني الله -عز وجل- منازلكم الليلة وقرب منازلكم من منزلي" ثم التفت إلى علي وقال: "يا علي أما ترضى أن يكون منزلك بحذاء منزلي كما يتواجه منزل الأخوين؟ " قال: بلى يا رسول الله, ثم بكى ثم أقبل على أبي بكر فقال: "إني لأعرف اسم رجل واسم أبيه واسم أمه إذا دخل الجنة لم يبق غرفة من غرفها ولا شربة من شرابها إلا قالت: مرحبا مرحبا" فقال سلمان: يا رسول الله إن هذا لغير خائب قال: "ذاك أبو بكر بن أبي قحافة" ثم أقبل على عمر فقال: "يا أبا حفص لقد رأيت قصرا في الجنة من جوهرة بيضاء شرفها لؤلؤ أبيض قلت لرضوان: لمن هذا؟ قال: لفتى من قريش فظننت أنه لي, فقال: هو لعمر بن الخطاب فما منعني أن أدخله إلا معرفتي بغيرتك يا أبا حفص" فبكى عمر وقال: بأبي أنت وأمي, أعليك أغار يا رسول الله؟ ثم التفت على عثمان وقال: "يا عثمان إن لكل نبي رفيقا وأنت رفيقي في الجنة" ثم التفت إلى عبد الرحمن1 فقال: "يا أبا عبد الله, ما بطأ بك عني من بين أصحابي, فما حبسك؟ " فقال: يا رسول الله ما زلت أسأل عن مالي من أين أصبته وفي أي شيء أنفقته حين ظننت أني لا أراك, قال عبد الرحمن: مائة راحلة جاءت من مصر عليها تجارة أشهدك أنها بين2 أرامل أهل المدينة وأيتامها, لعل الله -عز وجل- أن يخفف عني, ثم التفت إلى طلحة والزبير فقال: "إن لكل نبي حواريا وحواريي أنتما" أخرجه القاضي أبو بكر يوسف بن فارس. ذكر إثبات فضل لبعضهم في الثبوت معه يوم الجمعة حين انفضّ القوم: عن حابر قال: "بينا النبي -صلى الله عليه وسلم- قائم يوم الجمعة إذ قدمت إلى المدينة   1 هو ابن عوف رضي الله عنه. 2 أشهدك أن هذه البضاعة التي كانت للتجارة صدقة بين هؤلاء الأرامل, وهؤلاء الأيتام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 قافلة فابتدرها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا, منهم أبو بكر وعمر" أخرجه مسلم وانفرد به. ذكر ما جاء دليلا على تأهل بعضهم للخلافة: عن عائشة وقد سئلت: من كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مستخلفا لو استخلف؟ قالت: أبو بكر فقيل لها: ثم من؟ قالت: عمر فقيل لها: ثم من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح ثم انتهت إلى هذا, أخرجه مسلم. ذكر ما جاء من آي نزلت في جمع منهم, ومن غيرهم: عن عائشة في قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} 1 قالت: نزلت في سبعين رجلا منهم أبو بكر والزبير, انتدبوا حين ندب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه يوم أحد لاتباعهم, ذكره الواحدي وأبو الفرج وغيرهما, وعن عطاء في قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا} الآية قال: نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة وجعفر وعثمان بن مظعون وأبي عبيدة ومصعب بن عمير وسالم وأبي سلمة والأرقم بن أبي الأرقم وعمار وبلال, أخرجه أبو الفرج في أسباب النزول. وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} 2 الآية: نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد وعبد الله بن مسعود, أخرجه خيثمة بن سليمان. وعن أبي صالح نحوه, وعن أبي جعفر قال: نزلت في أبي بكر وعمر وعلي قيل له: فأي غل هو؟ قال: غل الجاهلية, كان بين بني هاشم وبني تيم وبني عدي في الجاهلية, فلما أسلم هؤلاء تحابوا, وعن الحسن بن علي: نزلت في أهل بدر.   1 سورة آل عمران الآية: 172. 2 سورة الأعراف الآية: 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وعن ابن عباس في قوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} 1 قال: لما أسلم أبو بكر جاءه عبد الرحمن بن عوف وعثمان وطلحة والزبير وسعيد بن زيد وسعد بن أبي وقاص وسألوه فأخبرهم بإيمانه, فآمنوا فنزلت: {فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} قول أبي بكر: {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} . وعن الضحاك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} 2 الآية قال: هم ثمانية: أبو بكر وعلي وزيد وطلحة والزبير وسعد وحمزة وعمر, تاسعهم ألحقه الله تعالى بهم لما عرف من صدق نيته, وقال مجاهد: كل من آمن بالله فهو صديق وتلا الآية, وقال المقاتلان: هم الذين لم يشكوا في الرسل حين أخبروهم ولم يكذبوهم ساعة, ذكر ذلك كله الواحدي وأبو الفرج في أسباب النزول. وعن جعفر بن محمد عن آبائه في قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} 3 أبو بكر {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} 4 عمر {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 5 عثمان {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} 6 علي بن أبي طالب {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} 7 طلحة والزبير {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} 8 سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف, أخرجه ابن السمان في الموافقة.   1 سورة الزمر الآية: 17. 2 سورة الحديد الآية: 19. 3 سورة الفتح الآية: 29. 4 سورة الفتح الآية: 29. 5 سورة الفتح الآية: 29. 6 سورة الفتح الآية: 29. 7 سورة الفتح الآية: 29. 8 سورة الفتح الآية: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وعن ابن مسعود في قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 1 الآية: نزلت في أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز فقال: يا رسول الله دعني أكون في أول الرعيل فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "متعنا بنفسك يا أبا بكر, أما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري" وفي عمر قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر وفي علي وحمزة قتلا شيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر, وفي أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد, ومصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد, وذلك قوله: {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} 2 أخرجه الواحدي وأبو الفرج. "شرح" الرعيل: جماعة الخيل, وكذلك الرعلة.   1 سورة المجادلة الآية: 22. 2 سورة المجادلة الآية: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الباب الرابع: فيما جاء مختصًّا بالأربعة الخلفاء ذكر اختصاصهم باختيار الله تعالى إياهم لصحبة نبيه -صلى الله عليه وسلم: عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين, واختار لي من أصحابي أربعة: أبا بكر وعمر وعثمان وعليا, فجعلهم خير أصحابي, وفي أصحابي كلهم خير, واختار أمتي على الأمم, واختار من أمتي أربعة قرون: الأول والثاني والثالث والرابع" أخرجه البزار في مسنده حكاه عنه عبد الحق في الأحكام وأخرجه ابن السمان في كتاب الموافقة مختصرًا وقال: "اختار أصحابي على جميع العالمين الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين". ذكر أمر الله -جل وعلا- نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يتخذ كلًّا منهم لمعنى, ووصف محبهم بالإيمان ومبغضهم بالفجور, والتنبيه على خلافتهم: عن علي بن أبي طالب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: "يا علي إن الله أمرني أن أتخذ أبا بكر وزيرًا وعمر مشيرًا وعثمان سندًا وإياك ظهيرًا أنتم أربعة, فقد أخذ الله ميثاقكم في أم الكتاب, لا يحبكم إلا مؤمن ولا يبغضكم إلا فاجر, أنتم خلائف نبوتي وعقدة ذمتي وحجتي على أمتي، لا تقاطعوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ولا تدابروا ولا تعاقوا" أخرجه ابن السمان في الموافقة، وأخرجه أيضًا من طريق آخر عن حذيفة. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمع حب هؤلاء الأربعة إلا في قلب مؤمن: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي" أخرجه ابن السمان وابن الناصر السلامي. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يحبهم -يعني الأربعة- أولياء الله, ويبغضهم أعداء الله" أخرجه الملاء. ذكر وصفه -صلى الله عليه وسلم- لكل واحد منهم وثنائه عليه ودعائه له, والحث على محبته ولعن مبغضه: عن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أبو بكر وزيري والقائم في أمتي بعدي, وعمر حبيبي وينطق على لساني, وعثمان مني, وعلي أخي وصاحب لوائي" أخرجه ابن السمان في الموافقة. وعن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "رحم الله أبا بكر, زوجني ابنته وحملني إلى دار الهجرة وصحبني في الغار وأعتق بلالًا من ماله, رحم الله عمر يقول الحق وإن كان مرًّا تركه الحق وما له صديق, رحم الله عثمان تستحي منه الملائكة, رحم الله عليا اللهم أدر الحق معه حيث دار" أخرجه الترمذي والخلعي وابن السمان. وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: صعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: "ما لي أراكم تختلفون في أصحابي؟! أما علمتم أن حبي وحب آل بيتي وحب أصحابي فرضه الله تعالى على أمتي إلى يوم القيامة؟! " ثم قال: "أين أبو بكر؟ " قال: ها أنا ذا يا رسول الله قال: "ادن مني" فضمه إلى صدره وقبل بين عينيه, ورأينا دموع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تجري على خده ثم أخذ بيده وقال بأعلى صوته: "معاشر المسلمين هذا أبو بكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 الصديق، هذا شيخ المهاجرين والأنصار, هذا صاحبي صدقني حين كذبني الناس وآواني حين طردوني, واشترى لي بلالًا من ماله, فعلى مبغضه لعنة الله ولعنة اللاعنين والله منه بريء, فمن أحب أن يبرأ من الله ومني فليتبرأ من أبي بكر الصديق, وليبلغ الشاهد منكم الغائب" ثم قال له: "اجلس يا أبا بكر, فقد عرف الله ذلك لك". ثم قال -صلى الله عليه وسلم: "أين عمر بن الخطاب؟ " فوثب إليه عمر فقال: ها أنا ذا يا رسول الله فقال: "ادن مني" فدنا منه فضمه إلى صدره وقبل بين عينيه, ورأينا دموع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تجري على خده ثم أخذ بيده وقال بأعلى صوته: "معاشر المسلمين, هذا عمر بن الخطاب, هذا شيخ المهاجرين والأنصار, هذا الذي أمرني الله أن أتخذه ظهيرًا ومشيرًا, هذا الذي أنزل الله الحق على قلبه ولسانه ويده, هذا الذي تركه الحق وما له من صديق, هذا الذي يقول الحق وإن كان مرا, هذا الذي لا يخاف في الله لومة لائم, هذا الذي يفرق الشيطان من شخصه هو سراج أهل الجنة, فعلى مبغضه لعنة الله ولعنة اللاعنين, والله منه بريء وأنا منه بريء". ثم قال: "أين عثمان بن عفان؟ " فوثب عثمان وقال: ها أنا ذا يا رسول الله فقال: "ادن مني" فدنا منه فضمه إلى صدره وقبل بين عينيه, ورأينا دموعه تجري على خده ثم أخذ بيده وقال: "يا معاشر المسلمين, هذا شيخ المهاجرين والأنصار, هذا الذي أمرني الله أن أتخذه سندًا وختنًا على ابنتي, ولو كان عندي ثالثة لزوجتها إياه, هذا الذي استحيت منه ملائكة السماء, فعلى مبغضه لعنة الله ولعنة اللاعنين". ثم قال: "أين علي بن أبي طالب؟ " فوثب إليه وقال: ها أنا ذا يا رسول الله قال: "ادن مني" فدنا منه فضمه إلى صدره وقبل بين عينيه, ودموعه تجري على خده وقال بأعلى صوته: "معاشر المسلمين, هذا شيخ المهاجرين والأنصار, هذا أخي وابن عمي وختني, هذا لحمي ودمي وشعري، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 هذا أبو السبطين الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة, هذا مفرج الكرب عني, هذا أسد الله وسيفه في أرضه على أعدائه, فعلى مبغضه لعنة الله ولعنة اللاعنين والله منه بريء وأنا منه بريء, فمن أحب أن يبرأ من الله فليبرأ من علي بن أبي طالب, وليبلغ الشاهد منكم الغائب" ثم قال: "اجلس يا أبا الحسن, فقد عرف الله لك ذلك" أخرجه أبو سعد في شرف النبوة. ذكر افتراض محبتهم: عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن الله افترض عليكم حب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي كما افترض الصلاة والزكاة والصوم والحج, فمن أنكر فضلهم فلا تقبل منه الصلاة ولا الزكاة ولا الصوم ولا الحج" أخرجه الملاء في سيرته. وعن محمد بن وزير قال: "رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام, فدنوت منه فقلت: السلام عليك يا رسول الله فقال لي: "وعليك السلام يا محمد بن وزير, لك حاجة؟ " فقلت: نعم يا رسول الله, أنا رجل خفيف البضاعة كثير العيال, أريد أن تعلمني دعوات أدعو بها في سفري وفي حضري وأستعين بها على أموري, فقال لي: "اقعد هو ذا, عليك ثلاث دعوات فادع بها في كل وقت شدة, وفي دبر كل صلاة" قال: فقال لي: "قل: يا قديم الإحسان, ويا من إحسانه فوق كل إحسان, ويا مالك الدنيا والآخرة" ثم التفت فقال: "اجتهد أن تموت على الإسلام والسنة, وعلى حب هؤلاء هذا أبو بكر وهذا عمر وهذا عثمان وهذا علي, فإنه لا تمسك النار" أخرجه الصابوني. ذكر التنظير بين كل واحد وبين نبي من الأنبياء -عليهم السلام: عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي إلا وله نظير من أمتي, فأبو بكر نظير إبراهيم, وعمر نظير موسى, وعثمان نظير هارون, وعلي بن أبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 طالب نظيري" أخرجه الخلعي والملاء في سيرته. ذكر أن أبا بكر وعمر خلقا من طينة واحدة, وأن عثمان وعليًّا كذلك: عن أبي ذر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "خلق أبو بكر وعمر من طين واحد, وخلق عثمان وعلي من طين واحد" أخرجه في فضائل عمر. ذكر أنهم ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلقوا من عصارة تفاحة من الجنة: عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أخبرني جبريل أن الله تعالى لما خلق آدم وأدخل الروح في جسده, أمرني أن آخذ تفاحة من الجنة فأعصرها في حلقه فعصرتها في فمه فخلقك الله من النقطة الأولى أنت يا محمد, ومن الثانية أبا بكر, ومن الثالثة عمر, ومن الرابعة عثمان, ومن الخامسة عليا, فقال آدم: من هؤلاء الذين أكرمتهم؟ فقال الله تعالى: هؤلاء خمسة أشباح من ذريتك وقال: هؤلاء أكرم عندي من جميع خلقي, قال: فلما عصى آدم ربه قال: رب بحرمة أولئك الأشباح الخمسة الذين فضلتهم إلا تبت علي, فتاب الله عليه". ذكر أنهم والنبي -صلى الله عليه وسلم- كانوا أنوارًا قبل خلق آدم, ووصف كل منهم بصفة, والتحذير عن سبهم: عن محمد بن إدريس الشافعي بسنده إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كنت أنا وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أنوارًا على يمين العرش قبل أن يخلق آدم بألف عام, فلما خلق أسكنا ظهره ولم نزل ننتقل في الأصلاب الطاهرة إلى أن نقلني الله إلى صلب عبد الله, ونقل أبا بكر إلى أبي قحافة, ونقل عمر إلى صلب الخطاب, ونقل عثمان إلى صلب عفان, ونقل عليا إلى صلب أبي طالب, ثم اختارهم لي أصحابًا فجعل أبا بكر صديقًا وعمر فاروقًا وعثمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ذا النورين, وعليا وصيا, فمن سب أصحابي فقد سبني, ومن سبني فقد سب الله, ومن سب الله أكبه في النار على منخره" أخرجه الملاء في سيرته. ذكر أنهم أول من تنشقّ عنه الأرض بعد النبي -صلى الله عليه وسلم: عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من تنشقّ عنه الأرض, ثم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي, ثم آتي أهل البقيع, ثم أنتظر أهل مكة فتنشقّ عنهم, ثم يقوم الخلائق" أخرجه الملاء. ذكر مراتبهم في الحساب يوم القيامة: عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: "سمعت أبا بكر الصديق يقول للنبي -صلى الله عليه وسلم: من أول من يحاسب؟ قال: "أنت يا أبا بكر" قال: ثم من؟ قال: "عمر" قال: ثم من؟ قال: "علي" قال: ثم من؟ قال: "فعثمان" قال: "سألت ربي أن يهب لي حسابه فلا يحاسبه فوهب لي" أخرجه الخجندي. وقال: قال أبو بكر الحافظ البغدادي وفي رواية أخرى: قضي لي حاجة سرا, فسألت الله أن يجعل حسابه سرا قلت: ولا تصادر بين الروايتين بل تحمل الأولى على أنه سأله أن لا يحاسبه جهرًا بين الناس فوهب له ذلك وجمعا بين هذا وبين ما ورد في حق أبي بكر من بعض الطرق أنه لا يحاسب وسيأتي في خصائصه, ويكون بمعنى أول من يحاسب, أول من يبعث للحساب؛ لأنه أول من تنشق عنه الأرض كما تقدم ثم لا يحاسب. ذكر تبشيره -صلى الله عليه وسلم- الأربعة: عن أبي حذيفة قال: "طلبت النبي -صلى الله عليه وسلم- فوجدته في حائط من حوائط المدينة نائمًاتحت شجرة أو نخلة, فكرهت أن أوقظه فوجدت عسيبًا فكسرته, فاستيقظ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لي "أبشر بالجنة والثاني والثالث والرابع" قال: فجاء أبو بكر فاستأذن من وراء الحائط فرد السلام وبشره بالجنة, ثم جاء عمر ففعل مثل ذلك وبشره بالجنة, ثم جاء عثمان ففعل مثل ذلك وبشره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 بالجنة، ثم جاء علي ففعل مثل ذلك" أخرجه أبو بكر الإسماعيلي في معجمه. "شرح" العسيب: واحد العسب وهي سعف النخل, وأهل العراق يسمونه الجريد. وعن كعب بن عجرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم برجالكم من أهل الجنة؟ " قلنا: بلى يا رسول الله, قال: "النبي في الجنة, والصديق في الجنة, والشهيد في الجنة, والذي يزور أخاه في الله في الجنة" أخرجه خيثمة بن سليمان, وقد ثبتت الصديقية لأبي بكر والشهادة للثلاثة. ذكر كيفية دخولهم الجنة مع النبي -صلى الله عليه وسلم: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج من باب المدينة متكئًا على أبي بكر وشماله على عمر وعثمان آخذ بطرف ثوبه وعلي بين يديه فقال: "هكذا ندخل الجنة, فمن فرق فعليه لعنة الله". ذكر أن كل واحد منهم بركن من أركان الحوض يوم القيامة: عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لحوضي أربعة أركان: الركن الأول في يدي أبي بكر الصديق والثاني في يدي عمر الفاروق والثالث في يدي عثمان ذي النورين والرابع في يدي علي بن أبي طالب, فمن كان محبا لأبي بكر مبغضا لعمر لا يسقيه أبو بكر, ومن كان محبا لعلي مبغضا لعثمان ذي النورين لا يسقيه علي, ومن أحب أبا بكر فقد أقام الدين, ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل, ومن أحب عثمان فقد استبان بنور الله, ومن أحب عليا فقد استمسك بالعروة الوثقى" أخرجه أبو سعد في شرف النبوة ورواه الغيلاني وقال: في يد مكان "يدي" وقال: ومن أحسن القول مكان "أحب" في الأربعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ذكر اختصاص كل منهم يوم القيامة بخصوصية شريفة: عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ينادي منادٍ يوم القيامة من تحت العرش: أين أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم؟ فيؤتى بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي فيقال لأبي بكر: قف على باب الجنة فأدخل من شئت برحمة الله ودع من شئت بعلم الله, ويقال لعمر بن الخطاب: قف عند الميزان فثقل من شئت برحمة الله وخفف من شئت بعلم الله, ويكسى عثمان حلتين ويقال له: البسهما, فإني خلقتهما أو ادخرتهما 1 من حين أنشأت خلق السموات والأرض, ويعطى علي بن أبي طالب عصا عوسج من الشجرة التي غرسها الله تعالى بيده في الجنة فيقال: ذد الناس عن الحوض" فقال بعض أهل العلم: لقد ساوى الله تعالى بينهم في الفضل والكرامة, رواه ابن غيلان. ذكر إثبات أسمائهم على العرش: عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بما على العرش مكتوب" قلنا: بلى يا رسول الله قال: "على العرش مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله, أبو بكر الصديق عمر الفاروق عثمان الشهيد علي الرضا" أخرجه أبو سعد في شرف النبوة. ذكر إثبات أسمائهم في لواء الحمد: عن ابن عباس قال: "سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن لواء الحمد فقال: "له ثلاث شقاق, كل شقة منها ما بين السماء والأرض, على الشقة الأولى مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم وفاتحة الكتاب, وعلى الثانية لا إله إلا الله محمد رسول الله, وعلى الثالثة أبو بكر الصديق, عمر الفاروق, عثمان ذو النورين, علي المرتضى" أخرجه الملاء.   1 لك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 ذكر ما جاء متضمنًا الدلالة على خلافة الأربعة: قد تقدم في الذكر الثاني طرف ذا الباب طرف من ذلك, وعن سفينة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الخلافة من بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكًا -قال: أمسك- خلافة أبي بكر سنتين وخلافة عمر عشر سنين وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة وخلافة علي ستا" قال علي بن الجعد: قلت لحماد: سفينة القائل أمسك؟ قال: نعم أخرجه أبو حاتم, وهذا مغاير لما ذكره أهل التاريخ في خلافة علي وأنها أربع سنين وثمانية أشهر, والصحيح في مدة ولاية الأربعة أنها تسع وعشرون سنة وثلاثة أيام: سنتان وثلاثة أشهر وعشرة أيام خلافة أبي بكر, وعشر سنين وستة أشهر وخمسة أيام خلافة عمر, واثنتا عشرة سنة إلا اثني عشر يومًا خلافة عثمان, وأربع سنين وثمانية أشهر خلافة علي, فإما أن يكون أطلق على ذلك ثلاثين لقربه منها أو يكون مدة ولاية الحسن محسوبة منها وهي تكملتها. وعن سهل بن أبي خيثمة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن الخلفاء بعدي أربعة, والخلافة بعدي ثلاثون سنة نبوة ورحمة, ثم خلافة ثم ملك ثم جبرية وطواغيت ثم عدل وقسط, ألا إن خير هذه الأمة أولها وآخرها" أخرجه أبو الخير القزويني الحاكمي. وعن علي بن أبي طالب قال: إن الله فتح هذه الخلافة على يدي أبي بكر وثناه عمر وثلثه عثمان وختمها بي بخاتمة نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم. وعنه قال: "ما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الدنيا حتى عهد إليّ أن أبا بكر يلي الأمر بعده ثم عمر ثم عثمان ثم إلي, فلا يجتمع علي". وعنه "لم يمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أسر إلي أن أبا بكر سيتولى بعده, ثم ذكر معنى ما تقدم ولم يقل: فلا يجتمع علي" قلت: وهذا الحديث تبعد صحته لتخلف علي عن بيعة أبي بكر ستة أشهر ونسبته إلى نسيان الحديث في مثل هذه المدة بعيد, ثم توقفه في أمر عثمان على التحكيم مما يؤيد ذلك، ولو كان عهد إليه رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 -صلى الله عليه وسلم- بذلك لبادر ولم يتوقف, وعن أبي بكر الهذلي عمن أخبره عن الأشياخ "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي بكر: "كيف أنت يا أبا بكر إن وليت الأمر بعدي؟ " قال: قبل ذلك أموت يا رسول الله, قال: "فأنت يا عمر؟ " قال عمر: هلكت إذًا قال: "فأنت يا عثمان؟ " قال: آكل فأطعم, وأقسم فلا أظلم, قال: $"فأنت يا علي؟ " قال: آكل القوت وأخفض الصوت وأقسم الثمرة وأحمي الجمرة, قال: "كلكم سيلي وسيرى الله عملكم" خرج الأربعة ابن السمان في كتاب الموافقة. وعن سمرة بن جندب أن رجلًا قال: "يا رسول الله, إني رأيت كأن دلوًا دلي من السماء فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها فشرب شربًا ضعيفًا, ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع, ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فانتشطت وانتضح منها عليه شيء فشرب حتى تضلع, ثم جاء علي فأخذ بعراقيها فانتشطت". أخرجه الخجندي. "شرح" العراقي: أعواد يخالف بينها ثم تشتدّ في عرى الدلو واحدتها: عرقوة, وقوله: تضلع أي: استوفى من الشرب حتى امتلأت أضلاعه ريا, وانتشاط الدلو: اضطرابها حتى ينتضح ماؤها, وقوله: شربًا ضعيفًا إشارة إلى قصر مدته, وهي سنتان وعمر عشر سنين, وذلك معنى تضلعه, والانتشاط إشارة إلى اضطراب الأمر والاختلاف عليه. ذكر آي نزلت فيهم: عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} 1 الزرع: محمد -صلى الله عليه وسلم- وشطؤه أبو بكر فآزره عمر, فاستغلظ بعثمان فاستوى بعلي -رضي الله عنهم أجمعين- أخرجه الجوهري وابن عبد الله في أماليه.   1 سورة الفتح الآية: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وعن أبي بن كعب قال: "قرأت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سورة "العصر" فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أفديك, ما تفسيرها؟ قال: " {وَالْعَصْرِ} قسم من الله تعالى بآخر النهار, {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} أبو جهل بن هشام, {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} أبو بكر الصديق, {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} عمر بن الخطاب, {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} عثمان بن عفان, {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} علي بن أبي طالب" أخرجه الواحدي. ذكر أفضلية الأربعة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم: عن ابن عمر قال: "كنا وفينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفضل أبا بكر وعمر وعثمان وعليا" خرجه أبو الحسن الحزي. وعن الأصبغ بن نباتة قال: قلت لعلي: يا أمير المؤمنين, من خير الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر قلت: ثم من؟ قال: ثم عثمان قلت: ثم من؟ قال: أنا, خرجه أبو القاسم في كتابه. وعن علي أنه خطب خطبة طويلة وقال في آخرها: واعلموا أن خير الناس بعد نبيهم -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر الصديق ثم عثمان ذو النورين ثم أنا وقد رميت بها في رقابكم ووراء ظهوركم فلا حجة لكم علي, خرجه ابن السمان في الموافقة. وعن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "رحم الله خلفائي" قالوا: ومن خلفاؤك يا رسول الله؟ قال: "الذين يأتون من بعدي يروون أحاديثي وسنتي, ويعلمونها الناس" خرجه نظام الملك واللفظ له, وإن كان عاما لكن تخصه قرينة التعليم, وعلى الجملة فحمله عليهم أقرب من تعميمه والله أعلم. ذكر ثناء ابن عباس على الأربعة: عن ابن عباس وقد سئل عن أبي بكر فقال: كان -رحمه الله- للقرآن تاليًا وللشر قاليًا وعن المنكر ناهيًا وبالمعروف آمرًا ولله صابرًا وعن الميل إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الفحشاء ساهيًا وبالليل قائمًا وبالنهار صائمًا وبدين الله عارفًا ومن الله خائفًا وعن المحارم جانفًا وعن الموبقات صارفًا, فاق أصحابه ورعًا وقناعة, وزاد برا وأمانة فأعقب الله من طعن عليه الشقاق إلى يوم التلاق, قيل: وما كان نقش خاتمه حين ولي الأمر؟ قال: نقش عليه: عبد ذليل لرب جليل, قيل له: فما تقول في عمر؟ قال: رحمة الله على أبي حفص, كان والله حليف الإسلام ومأوى الأيتام ومحل الإيمان ومنتهى الإحسان ونادي1 الضعفاء ومعقل الخلفاء, كان للحق حصنًا وللناس عونًا, بحق الله صابرًا محتسبًا حتى أظهر الدين وفتح الديار وذكر الله -عز وجل- على التلال والبقاع, وقورًا لله في الرخاء والشدة, شكورًا له في كل وقت فأعقب الله من يبغضه الندامة إلى يوم القيامة, قيل: فما نقش خاتمه حين ولي الأمر؟ قال: نقش عليه: الله المعين لمن صبر. قيل: فما تقول في عثمان؟ قال: رحمة الله على أبي عمرو, كان والله أفضل البررة وأكرم الحفدة, كثير الاستغفار هجادًا بالأسحار, سريع الدموع عند ذكر النار دائم الفكر فيما يعيه بالليل والنهار, مبادرًا إلى كل مكرمة وساعيًا إلى كل منجية, فرارًا من كل مهلكة وفيا نقيا حفيا مجهز جيش العسرة, وصاحب بئر رومة وختن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فأعقب الله من قتله البعاد إلى يوم التناد, قيل: فما نقش خاتمه حين ولي الأمر؟ قال: نقش عليه: اللهم أحيني سعيدًا وأمتني شهيدًا, فوالله لقد عاش سعيدًا ومات شهيدًا, قيل: فما تقول في علي؟ قال: رحمة الله على أبي الحسن, كان والله علم الهدى وكهف التقى وطود النهى, ومحل الحجا وعين الندا, ومنتهى العلم للورى ونورًا أسفر في ظلم الدجى وداعيًا إلى المحجة العظمى, مستمسكًا بالعروة الوثقى, أتقى من تقمص وارتدى وأكرم من شهد النجوى بعد محمد المصطفى وصاحب القبلتين, وأبا السبطين وزوجاته خير النساء فما يفوقه أحد, لم تر عيناي مثله ولم أسمع بمثله في الحرب ختالًا وللأقران قتالًا   1 صاحب مجلسهم الذي يأوون إليه، ويستريحون فيه لحل مشاكلهم، ونحوه مما يشفي الصدور ويرضي الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وللأبطال شغالًا, فعلى من يبغضه لعنة الله ولعنة العباد إلى يوم التناد, قيل: فما نقش خاتمه حين ولي الأمر؟ قال: نقش عليه: الله الملك, خرجه بكماله الأصفهاني وأبو الفتح القواس. "شرح" الموبقات: المهلكات تقول منه: وبق يبق ووبق يوبق ولغة ثالثة وهي: وبق يبِق بالكسر الجوهري, إذا هلك يريد أنه يصرف نفسه عما يوجب الهلاك من المعصية, النادي والندى والمنتدى: المجلس ومنه: {وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} , والمعقل: الملجأ, وقورًا أي: معظمًا والوقار: العظمة, ومنه: {لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} والوقار أيضًا: الرزانة والحلم تقول فيه: وقر يقر وقارًا ووقرًا فهو وقور, الحفدة: الأعوان يقال لكل من عمل عملًا أطاع فيه: حافد ومنه وإليك نسعى ونحفد. أبو عبيد: أصل الحفد العمل والخدمة, والحفدة أيضًا: أولاد الأولاد, والحفدة: الأختان وهي هنا إما بمعنى الأعوان أو الأختان, هجادًا بالأسحار أي: ساهرًا, قال الجوهري: هجد وتهجد من الأضداد يقال ذلك إذا سهر وإذا نام وقال غيره: الهجود النوم والتهجد السهر وإلقاء النوم, حفيا: برا وصولا معتنيا, طود: جبل عظيم استعير منه للتعظيم, والنهى: العقول, والحجا العقل أيضًا, والنجوى: المسارة والمشاورة مع اختفاء, ختن المصطفى أي: زوج ابنته. قال الجوهري: الختن بالتحريك عند العرب كل ما كان من قبل المرأة مثل الأب والأخ والأختان هكذا عند العرب, أما عند العامة فختن الرجل زوج ابنته. ذكر ثناء جعفر الصادق على الخلفاء الأربعة: عن المفضل بن عمرو عن أبيه عن جده قال: سئل جعفر الصادق عن الصحابة فقال: إن أبا بكر الصديق ملئ قلبه بمشاهدة الربوبية وكان لا يشهد مع الله غيره, فمن أجل ذلك كان أكثر كلامه: لا إله إلا الله, وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 عمر يرى كل ما دون الله صغيرًا حقيرًا في جنب عظمة الله, وكان لا يرى التعظيم لغير الله, فمن أجل ذلك كان أكثر كلامه: الله أكبر, وعثمان كان يرى ما دون الله معلولًا إذا كان مرجعه إلى الفناء, وكان لا يرى التنزيه إلا لله, فمن أجل ذلك كان أكثر كلامه: سبحان الله, وعلي بن أبي طالب كان يرى ظهور الكون من الله وقيام الكون بالله ورجوع الكون إلى الله, فمن أجل ذلك كان أكثر كلامه: الحمد لله, خرجه الخجندي في الأربعين. ذكر موافقة الأربعة نبي الله -صلى الله عليه وسلم- في حب كل واحد منهم ثلاثًا من الدنيا: روي أنه لما قال -صلى الله عليه وسلم: "حبب إلي من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وجعل قرة عيني الصلاة" قال أبو بكر: وأنا يا رسول الله, حبب إلي من الدنيا ثلاث: النظر إلى وجهك وجمع المال للإنفاق عليك والتوسل بقرابتك إليك, وقال عمر: وأنا يا رسول الله, حبب إلي من الدنيا ثلاث: إطعام الجائع وإرواء الظمآن وكسوة العاري, وقال علي بن أبي طالب: وأنا يا رسول الله, حبب إلي من الدنيا ثلاث: الصوم في الصيف وإقراء الضيف والضرب بين يديك بالسيف. خرجه الخجندي أيضًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الباب الخامس: فيما اء مختصًا بأبي بكر وعمر وعثمان ... الباب الخامس: فيما جاء مختصًّا بأبي بكر وعمر وعثمان ذكر الموازنة بينهم, ورجحان بعضهم ببعض: تقدم في الذكر الثالث من الباب الثالث طرف من ذلك, عن أبي بكر أن رجلًا قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: "رأيت كأن ميزانًا نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت, ووزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر, ووزن عمر وعثمان فرجح عمر, ثم رفع الميزان فاستاء لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم" يعني: فساءه ذلك, فقال: "خلافة نبوة, ثم يؤتي الله الملك من يشاء" أبو داود والبغوي في المصابيح في الحسان1، والحافظ الدمشقي في الموافقات، وخرجه خيثمة بن سليمان بزيادة ولفظه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أصبح يقول: "هل أحد منكم رأى رؤيا؟ " فقال رجل: أنا رأيت يا رسول الله كأن ميزانًا نزل من السماء, فوضعت في كفة وأبو بكر في كفة فرجحت فرفعت, ووضع عمر في كفة فرجح أبو بكر ثم رفع أبو بكر, ووضع عثمان في كفة فرجح عمر, وقوله: فاستاء لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قيل: إنه يحتمل أن يكون كره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حصر درجات الفضل ورجا أن يكون في أكثر   1 فمصابيح السنة للبغوي يضم الأحاديث الصحاح، والأحاديث الحسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 من ذلك, فأعلمه الله تعالى أن التفضيل انتهى إلى المذكور فيه, فساءه ذلك. ذكر رجحان كل واحد منهم بجميع الأمة: عن ابن عمر قال: "خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات غداة بعد طلوع الشمس قال: "رأيت قبل الفجر كأني أعطيت المقاليد والموازين, فأما المقاليد فهي المفاتيح وأما الموازين فهذه التي يوزن بها, فوضعت في كفة ووضعت أمتي في كفة فوزنت بهم فرجحت, ثم جيء بأبي بكر فوزن بهم فرجح, ثم جيء بعمر فوزن بهم فرجح, ثم جيء بعثمان فوزن بهم فرجح, ثم رفعت". خرجه أحمد في مسنده, وفي رواية: فوزنهم مكان فرجح بهم خرجها أبو الخير القزويني الحاكمي في الأربعين قلت: في راجحية كل واحد منهم بجميع الأمة تنبيه على اتفاق جميع الأمة على خلافته, فكأنه قعد بهم وناء بحملهم, وفي رفع الميزان إشارة إلى الاختلاف. ولا تضاد بين هذا وبين ما سيأتي فيما يستدل به على خلافة عثمان في باب مناقبه, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "رأيت الليلة في المنام كأن ثلاثة من أصحابي وزنوا, فوزن أبو بكر فوزن, ثم وزن عمر فوزن, ثم وزن عثمان فنقص صاحبنا وهو صالح" أخرجه أحمد, بل نحملهما على معنيين متغايرين جمعًا بين الحديثين بقدر الإمكان وذلك أولى من إلقاء أحدهما, فيحمل قوله: "فرجح" على المعنى المذكور آنفًا, ويحمل قوله: "فوزن" على موافقة آرائهم لرأيه, وأن رأيه وازن رأيهم فجاء موزونًا معتدلًا معه لم يخالفوه في رأي رأه, وإن اتفق خلاف ذلك في بادي النظر رجعوا إليه في ثانية مستصوبين رأيه معترفين بأن الحق كان معه كما في قتال أهل الردة ونحو ذلك, وهذا المعنى فقد في عثمان -رضي الله عنه- فإنهم خالفوا رأيه في كثير من وقائعه ولم يرجعوا إليه, بل أصروا على إنكارهم عليه حتى قتل وكان مع ذلك على الحق على ما شهدت به أحاديث تأتي في خصائصه, وكان مع ذلك رجلًا صالحًا على ما شهد به هذا الحديث, فالنقص إنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 كان عما ثبت للشيخين1 قبله من الموازنة بما ذكرناه من الاعتبار, لا أنه نقص في رأيه يخرجه2 عن أن يكون على الحق وكيف يخرج عن الحق ويكون رجلًا صالحًا؟! فكان -رضي الله عنه- كاملًا في أحواله لم يخرج في شيء منها عن الحق, والشيخان أكمل منه بملابسة مزيد فضل في زهد وورع ونحو ذلك مع الاشتراك في أصل ذلك فنقصه عن الأكملية لا غير, فيكون كل واحد من الشيخين رجح بالأمة ووزنهم بالاعتبارين المذكورين وعثمان -رضي الله عنه- رجح بهم ولم يزنهم بالاعتبار المذكور. ولا يمكن حمله على الموازنة بينهم كما في رؤيا الرجل المتقدمة لوجهين: الأول أنه -صلى الله عليه وسلم- أخبر أنه رأى موازنتهم بالأمة فكان حمل هذا المطلق على ذلك المقيد أولى من اعتقاد موازنة أخرى موافقة لرؤيا الرجل التي لم يخبر عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن نفسه. الثاني: أن سياق اللفظ ينبو عن حملها عليه, فإنه قال: "وزن أبو بكر فوزن" فيكون معناه على هذا التقدير: وزن بعمر فرجح به كما في تلك الرؤيا, ثم قال: "وزن عمر فوزن" أي: بعثمان ثم قال: "وزن عثمان" فيقتضي أن يكون بغير عمر؛ لأن وزنه بعمر قد تقدم في الجملة الأولى وليس في تلك الرؤيا لغيره ذكر, فكان المصير إلى ما ذكرناه أولى. ذكر كتب أسمائهم على العرش: عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ليلة أسري بي, رأيت على العرش مكتوبًا: لا إله إلا الله محمد رسول الله, أبو بكر الصديق عمر الفاروق عثمان ذو النورين يقتل ظلمًا" خرجه في الديباج, وخرجه أبو سعد في شرف النبوة وفيه ذكر علي, وقد تقدم في الباب قبله.   1 يعني أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما. 2 أي: النقص في الرأي, يخرجه أي: يخرج عثمان -رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ذكر كتب أسمائهم على كل ورقة في الجنة: عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ليس في الجنة شجرة إلا وعلى كل ورقة مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله, أبو بكر الصديق, عمر الفاروق, عثمان ذو النورين". خرجه صاحب الديباج, والإمام أبو الخير القزويني الحاكمي. ذكر تسبيح الحصا في كفهم: عن سويد بن يزيد السالمي قال: دخلت المسجد فرأيت أبا ذر جالسًا فيه وحده, فاغتنمت ذلك وجلست إليه وكأنه قال, فذكر بعض القوم عثمان فقال: لا أقول لعثمان أبدًا إلا خيرًا بعد شيء رأيته عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "كنت أتبع خلوات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتعلم منه, فخرج ذات يوم حتى انتهى إلى موضع كذا وكذا فجلس فانتهيت إليه, فسلمت عليه وجلست إليه فقال: "يا أبا ذر ما جاء بك؟ " قلت: الله ورسوله, فبينا نحن كذلك إذ جاء أبو بكر فسلم وجلس عن يمين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا أبا بكر ما جاء بك؟ " فقال: الله ورسوله, ثم جاء عمر فسلم وجلس عن يمين أبي بكر فقال: "يا عمر ما جاء بك؟ " قال: الله ورسوله, ثم جاء عثمان فسلم وجلس عن يمين عمر فقال: "يا عثمان ما جاء بك؟ " قال: الله ورسوله, قال: فتناول النبي -صلى الله عليه وسلم- سبع حصيات أو تسع حصيات فوضعهن في كفه فسبحن حتى سمعت لهن حنينًا كحنين النحل, ثم وضعهن فخرسن فتناولهن النبي -صلى الله عليه وسلم- فوضعهن في يد أبي بكر فسبحن حتى سمعت لهن حنينًا كحنين النحل, ثم وضعهن فخرسن فتناولهن النبي -صلى الله عليه وسلم- فوضعهن في يد عمر فسبحن حتى سمعت لهن حنينًا كحنين النحل, ثم وضعهن فخرسن فتناولهن النبي -صلى الله عليه وسلم- فوضعهن في يد عثمان فسبحن حتى سمعت لهن حنينًا كحنين النحل, ثم وضعهن فخرسن". وعن أنس بن مالك قال: "تناول النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأرض سبع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 حصيات فسبحن في يده, ثم ناولهن أبا بكر فسبحن في يده, ثم ناولهن النبي -صلى الله عليه وسلم- عمر فسبحن في يده كما سبحن في يد أبي بكر, ثم ناولهن عثمان فسبحن في يده كما سبحن في يد عمر" خرجهما خيثمة بن سليمان وعلي بن نعيم البصري. ذكر إثبات الصديقية لأبي بكر, والشهادة لهما 1: عن أنس بن مالك "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صعد أحدًا فتبعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم, فضربه النبي -صلى الله عليه وسلم- برجله وقال: "اثبت أحد, فما عليك إلا نبي وصديق وشهيدان". خرجه أحمد والبخاري والترمذي وأبو حاتم. وعن بريدة "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان جالسًا على حرا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فتحرك الجبل فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اثبت حرا, فإنه ليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد" خرجه أحمد, وقد سبق في الباب الثالث من حديث مسلم وغيره عن أبي هريرة وفيه زيادة: علي وطلحة والزبير وسعد. وعن ثمامة عن عثمان بن عفان "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان على ثبير مكة ومعه أبو بكر وعمر وأنا, فتحرك الجبل حتى تساقطت حجارته بالحضيض, فركضه برجله وقال: "اسكن ثبير, فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان" خرجه الترمذي والنسائي. "شرح" أحد: جبل معروف بالمدينة وهو الذي قال فيه -صلى الله عليه وسلم: "أحد جبل يحبنا ونحبه" وحرا وثبير: جبلان متقابلان معروفان بمكة, واختلاف الروايات تحمله على أنها قضايا تكررت فيهن والله أعلم, الحضيض: القرار من الأرض عند منقطع الجبل, وركضه برجله أي: ضربه بها والركض: تحريك الرجل, وإنما أسندنا الصديقية إلى أبي بكر حملًا لمطلق هذا   1 لعمر وعثمان -رضي الله عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الحديث على مقيد غيره. ذكر تبشيرهم بالجنة: عن أبي موسى الأشعري "أنه خرج إلى المسجد فسأل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: توجه ههنا, فخرجت في أثره حتى دخل1 بئر أريس فجلست عند الباب وبابها من جريد حتى قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاجته, فتوضأ فقمت إليه فإذا هو جالس على بئر أريس وقد توسط قفها, فجلست عند الباب وقلت: لأكونن بوابًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- اليوم فجاء أبو بكر فدفع الباب فقلت: من هذا؟ فقال: أبو بكر فقلت: على رسلك, ثم ذهبت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: هذا أبو بكر يستأذن فقال: "ائذن له وبشره بالجنة" فأقبلت حتى قلت لأبي بكر: ادخل فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبشرك بالجنة, فدخل أبو بكر فجلس عن يمين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معه في القف ودلى رجليه في البئر كما صنع صلى الله عليه وسلم وكشف عن ساقيه, ثم رجعت فجلست وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني فقلت: إن يرد الله بفلان خيرًا -يريد أخاه- يأت به, فإذا بإنسان يحرك الباب فقلت: من هذا؟ فقال: عمر بن الخطاب فقلت: على رسلك, ثم جئت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: هذا عمر بن الخطاب يستأذنك فقال: "ائذن له وبشره بالجنة" فجئت فقلت: ادخل ويبشرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجنة, فجلس مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في القف عن يساره ودلى رجليه في البئر, فرجعت فجلست وقلت: إن يرد الله بفلان خيرًا يأت به". "ذكر ما روي" عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أنه كان يقول: يا أهل العراق أحبونا بحب الإسلام, فوالله ما زال حبكم بنا2 حتى صار سبًّا: فيه تعريض بالإنكار على مزج حبهم بما ينسب إليهم من بغض أبي بكر وعمر وسبهما.   1 أي: مكانها الواقعة فيه البئر. 2 مستقرا بنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ذكر ما روي عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: عن ابن أبي حفصة قال: سألت محمد بن علي وجعفر بن محمد عن أبي بكر وعمر فقال1: إماما عدل تولهما وتبرأ من عدوهما, ثم التفت إلى جعفر بن محمد فقال: يا سالم ألست الرجل جده أبو بكر الصديق لا نالتني شفاعة جدي محمد إن لم أكن أتولاهما وأتبرأ من عدوهما. وعن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال: من جهل فضل أبي بكر وعمر جهل السنة. وعنه وقد قيل له: ما ترى في أبي بكر وعمر؟ فقال: إني أتولاهما وأستغفر لهما وما رأيت أحدًا من أهل بيتي إلا وهو يتولاهما. وعنه وقد سئل عن قوم يسبون أبا بكر وعمر فقال: أولئك المراق2. وعنه قال: من شك فيهما كمن شك في السنة, وبغض أبي بكر وعمر نفاق وبغض الأنصار نفاق, إنه كان بين بني هاشم وبين بني عدي وبني تيم شحناء في الجاهلية فلما أسلموا تحابوا ونزع الله ذلك من قلوبهم حتى إن أبا بكر اشتكى خاصرته, فكان علي يسخن يده بالنار ويضمد بها خاصرة أبي بكر, ونزلت فيهم هذه الآية: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِين} 3. وعن جابر الجعفي عن محمد بن علي قال: يا جابر, بلغني أن أقوامًا بالعراق يزعمون أنهم يحبوننا ويتناولون أبا بكر وعمر, ويزعمون أني أمرتهم بذلك فأبلغهم أني إلى الله منهم بريء, والذي نفس محمد بيده لو وليت لتقربت إلى الله بدمائهم, لا نالتني شفاعة محمد إن لم أكن أستغفر لهما وأترحم عليهما. وعنه قال: قال محمد بن علي: أخبر أهل الكوفة عني أني بريء ممن تبرأ   1 أي: كل منهما أو محمد بن علي. 2 أي: المارقون من الدين. 3 سورة الحجر الآية: 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 من أبي بكر وعمر. وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: كان آل أبي بكر يدعون على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي رواية يسمون: آل محمد. وعنه لما فتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيبر قسم تمرها وزبيبها بين المهاجرين والأنصار وقسم الحقل بين بني هاشم وهو الحنطة والشعير, وقسم لآل أبي بكر معهم -لم يدخل فيهم أحدا غيرهم- مائة أو مائتي وسق وكان نصيب العباس مائتي وسق, وذكر ما روي عن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن زيد بن علي قال: البراءة من أبي بكر وعمر براءة من علي, فمن شاء فليتقدم ومن شاء فليتأخر. وعنه وقد قيل له: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ قال: أتولاهما قيل: فكيف تقول فيمن تبرأ منهما؟ قال: أنا بريء منه حتى أموت. وعن ابن أبي الجارود حسين بن المغيرة الواسطي أن رهطًا اجتمعوا إلى زيد بن علي فقالوا: يابن رسول الله إذا خرجت تظهر البراءة من أبي بكر وعمر فقال: لا قالوا: فإنا نبرأ من دمك ولا نخرج معك إلا أن تتبرأ من أبي بكر وعمر فيضرب معك منا بالسيف ستون ألفًا قال: فلما قاموا ليخرجوا وتبين منهم قال: ارجعوا لأحدثكم حديثًا فرجعوا قال: حدثني أبي عن جدي عن علي بن أبي طالب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا علي أبشر أنت وشيعتك في الجنة, إلا أن ممن يحبك قومًا يظهرون الإسلام ويلفظونه, يمرقون من الحنيفية كمروق السهم من الرمية, لهم نبز يدعون به يقال لهم: الرافضة, فإن أدركتهم يا علي فقاتلهم فإنهم مشركون" قال زيد: هم أنتم, اللهم إن هؤلاء حربي في الدنيا والآخرة ثم دعا عليهم. وعنه وقد سئل عن أمر فدك فقال: إن فاطمة ذكرت لأبي بكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطاها فدكًا فقال: ائتيني على ما تقولين ببينة, فجاءت برجل وامرأة فقال أبو بكر: رجل مع الرجل أو امرأة مع امرأة فأعيت فقال زيد: وايم الله لو رجع القضاء إلي لقضيت بما قضى به أبو بكر. وعنه أنه قال: من سب أبا بكر وعمر فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 ذكر ما روي عن جعفر بن محمد: عن جعفر وقد سئل عن أبي بكر وعمر فقال: أتبرأ ممن تبرأ منهما, فقيل له: لعلك تقول هذا تقية فقال: إذن أنا بريء من الإسلام ولا نالتني شفاعة محمد -صلى الله عليه وسلم. وعنه قال: ما أرجو من شفاعة علي إلا وأنا أرجو من شفاعة أبي بكر مثله. وعنه قال: الله بريء ممن برئ من أبي بكر وعمر. وعنه وقد قيل له: إن فلانًا يزعم أنك تبرأ من أبي بكر وعمر فقال جعفر: الله بريء منه, فإني لأرجو أن ينفعني الله بقرابتي من أبي بكر, ولقد اشتكيت شكاة فأوصيت إلى خالي عبد الرحمن بن القاسم. وعنه أنه كان يقول: ما أدري لأي جدي أنا أرجى لشفاعة أبي بكر أو علي بن أبي طالب ومن لم يسمه الصديق فلا صدق الله حديثه, وقد دخل عليه وهو مريض فقال: اللهم إني أحب أبا بكر وعمر فإن كان في نفسي غيره فلا تنلني شفاعة محمد -صلى الله عليه وسلم. وعنه وقد سئل عنهما فقال: أتسأل عن رجلين قد أكلا من ثمار الجنة. ذكر ما روي عن موسى بن جعفر عن أبيه جعفر: وقد سئل عنهما فقال: أبو بكر جدي وعمر ختني, أفتراني أبغض جدي وختني؟ ذكر ما روي عن أولاد الحسن بن علي بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب: عن عبد الله, وقد سئل عن أبي بكر وعمر فقال: أفضلهما وأستغفر لهما فقيل له: لعل هذا تقية وفي نفسك خلافة؟ فقال: لا نالتني شفاعة محمد -صلى الله عليه وسلم- إن كنت أقول خلاف ما في نفسي. وعنه وقد سئل عنهما فقال: صلى الله عليهما ولا صلى على من لم يصل عليهما. وعنه أنه قال لرجل من الرافضة: والله إن قتلك لقربة لولا حق الجوار. وعن أبي محمد بن صالح أخي الحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 ابن صالح عن عبد الله بن الحسن أنه قال له: يابن صالح ورب هذه البنية "يعني الكعبة" إن ما يقولون في الإمامة لباطل. ذكر ما روي عن الحسن بن الحسن أخي عبد الله: عن الحسن أنه قال لرجل ممن يغلو فيهم: ويحكم أحبونا بالله, فإن أطعنا الله فأحبونا وإن عصينا الله فابغضونا, فقال له رجل: إنكم ذوو قرابة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأهل بيته فقال: ويحكم لو كان الله نافعًا بقرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بغير عمل بطاعته لنفع بذلك من هو أقرب إليه منا أباه وأمه, والله إني أخاف أن يضاعف الله للعاصي منا العذاب ضعفين, والله إني لا أرجو أن يؤتى المحسن منا أجره مرتين, قال ثم قال: لقد أساء بنا آباؤنا وأمهاتنا إن كان ما يقولون من دين الله ثم لم يخبرونا به ولم يطلعونا عليه ولم يرغبونا فيه ونحن كنا أقرب منهم قرابة منكم وأوجب عليهم, وأحق أن يرغبونا فيه منكم ولو كان الأمر كما تقولون: إن الله جل وعلا ورسوله -صلى الله عليه وسلم- اختار عليا لهذا الأمر وللقيام على الناس بعده, فإن عليا أعظم الناس خطيئة وجرمًا؛ إذ ترك أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقوم فيه كما أمره ويعذر إلى الناس فقال له الرافضي: ألم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم- لعلي: "من كنت مولاه فعلي مولاه"؟ فقال: أما والله لو يعني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك الأمر والسلطان والقيام على الناس, لأفصح به كما أفصح بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولقال: أيها الناس إن هذا لولي بعدي فاسمعوا وأطيعوا. خرج جميع الأذكار من أهل البيت الحافظ أبو سعد إسماعيل بن علي بن الحسن السمان الرازي في كتاب الموافقة بين أهل البيت والصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين. فصل يتضمن ذكر أبي بكر وعلي: عن علي قال: قيل لعلي وأبي بكر يوم بدر: "مع أحدكما جبريل ومع الآخر ميكائيل وإسرافيل ملك عظيم يشهد القتال أو قال: يشهد الصف". خرجه أحمد والحاكم في المستدرك على الصحيحين, وتمام في فوائده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 القسم الثاني: في مناقب الأفراد الباب الأول: في مناقب خليفة رسول الله أبي بكر الصديق الفصل الأول: في ذكر نسبه وإسلام أبويه ... القسم الثاني: في مناقب الأفراد وفيه عشرة أبواب الباب الأول: في مناقب خليفة رسول الله أبي بكر الصديق-رضي الله عنه- وفيه خمسة عشر فصلًا "الفصل الأول" في نسبه, "الثاني" في اسمه "الثالث" في صفته, "الرابع" في إسلامه "الخامس" فيمن أسلم علي يديه "السادس" فيما كان بينه وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- من الود في الجاهلية "السابع" فيما لقي بسبب دعائه إلى الله تعالى ودفعه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم "الثامن" في هجرته "التاسع" في خصائصه "العاشر" في أفضليته "الحادي عشر" في الشهادة له بالجنة "الثاني عشر" في فضائله "الثالث عشر" في خلافته "الرابع عشر" في وفاته "الخامس عشر" في ولده. الفصل الأول: في ذكر نسبه وإسلام أبويه وقد تقدم ذكر آبائه في الشجرة في أنساب العشرة, وينسب إلى تيم بن مرة فيقال: التيمي وهو في العدد إلى مرة مثل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأن بين كل واحد منهما وبين مرة ستة آباء, فهذه موافقة اتفقت بينهما في النسب كما اتفقت في العمر على أصح الأقوال كما سيأتي إن شاء الله. "أمه" أم الخير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 لفظًا ومعنًى, سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بنت عم أبيه, هكذا ذكره جمهور أهل النسب ومن شذ فقال: بنت صخر بن عامر بن عمر بن كعب, فجعلها ابنة عمه فليس بصحيح. ذكر إسلام أبي قحافة: عثمان بن عامر بن عمر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة, أبو أبي بكر الصديق أسلم يوم الفتح وبايع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعاش مدة حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومدة خلافة ولده, وتوفي في خلافة عمر -رضي الله عنهم أجمعين. عن أسماء بنت أبي بكر قالت: "لما وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذي طوى قال أبو قحافة لابنة له من أصغر ولده: أي بنية اظهري بي على أبي قبيس قالت: وقد كف بصره قالت: فأشرفت به عليه فقال: يا بنية ماذا ترين؟ قالت: أرى سوادًا مجتمعًا قال: تلك الخيل قالت: وأرى رجلًا يسعى بين ذلك السواد مقبلًا ومدبرًا قال: يا بنية ذلك الوازع الذي يأمر الخيل ويتقدم إليها ثم قالت: قد والله انتشر السواد فقال: قد والله دفعت الخيل فأسرعي بي إلى بيتي, فانحطت به وتلقاه الخيل قبل أن يصل إلى بيته وفي عنق الجارية طوق لها من ورق فتلقاها رجل فاقتلعه من عنقها قالت: فلما دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة ودخل المسجد أتاه أبو بكر بأبيه يقوده, فلما رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه" قال أبو بكر: يا رسول الله هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه". وفي رواية: "لو أقررت الشيخ في بيته لأتيناه مكرمة لأبي بكر" قال: فأجلسه بين يديه ثم مسح صدره ثم قال له: "أسلم" فأسلم وكان رأسه كالثغامة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "غيروا هذا من شعره" ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته فقال: أنشد الله والإسلام وطوق أختي فلم يجبه أحد فقال: "يا أخية احتسبي طوقك, فوالله إن الأمانة في الناس اليوم لقليل" خرجه أحمد وأبو حاتم وابن إسحاق وفي رواية بعد قوله: "ألا تركت الشيخ حتى نأتيه؟ " قال: أردت يا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 رسول الله أن يأخذه الله -عز وجل- أما والذي بعثك بالحق لأنا كنت أشد فرحًا بإسلام أبي طالب مني بإسلام أبي, ألتمس بذلك قرة عينك قال: "صدقت" خرجه في فضائل أبي بكر وقال: حديث حسن. "شرح" الوازع: الذي يتقدم الصف فيصلحه ويقدم يؤخر, ومنه قول الحسن: لا بد للناس من وازع أي: سلطان يكف بعضهم عن بعض, والثغامة: واحدة الثغام, وهو نبت يبيضّ إذا يبس ويشبه به الشيب, ذكره الجوهري اللغوي. ذكر إسلام أمه أم الخير: سلمى بنت صخر أسلمت قديمًا في دار الأرقم بن أبي الأرقم, وبايعت النبي -صلى الله عليه وسلم- وماتت مسلمة, ذكره الحافظ الدمشقي وصاحب الصفوة وغيرهما عن عائشة قالت: "لما اجتمع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانوا تسعة وثلاثين رجلًا, ألح أبو بكر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الظهور فقال: "يا أبا بكر إنا قليل" فلم يزل يلح على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى ظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتفرق المسلمون في نواحي المسجد وقام أبو بكر في الناس خطيبًا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس, وكان أول خطيب دعا إلى الله -عز وجل- وإلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين فضربوهم في نواحي المسجد ضربًا شديدًا, ووطئ أبو بكر وضرب ضربًا شديدًا, ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفين ويحرفهما لوجهه وأثر ذلك حتى ما يعرف أنفه من وجهه, وجاءت بنو تيم تتعادى فأجلوا المشركين عن أبي بكر وحملوا أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه بيته ولا يشكون في موته, ورجع بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة ورجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجابهم فتكلم آخر النهار: ما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فنالوه بألسنتهم وعذلوه ثم قاموا وقالوا لأم الخير بنت صخر: انظري أن تطعميه شيئًا أو تسقيه إياه. فلما خلت به وألحت جعل يقول: ما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قالت: والله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 ما أعلم بصاحبك قال: فاذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه, فخرجت حتى جاءت إلى أم جميل فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله قالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله, وإن تحبي أن أمضي معك إلى ابنك فعلت؟ قالت: نعم فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعًا دنفًا فدنت منه أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت: إن قومًا نالوا منك هذا لأهل فسق, وإني لأرجو أن ينتقم الله لك قال: ما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هذه أمك تسمع قال: فلا عين عليك منها قالت: سالم صالح, قال: فأين هو؟ قالت: في دار الأرقم قال: فإن لله علي ألية أن لا أذوق طعامًا ولا شرابًا أو آتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمهلناه حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس خرجتا به يتكئ عليهما حتى دخلتا على النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: فانكب عليه فقبله وانكب عليه المسلمون ورق له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رقة شديدة فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي ليس بي إلا ما نال الفاسق من وجهي, هذه أمي برة بوالديها, وأنت مبارك فادعها إلى الله وادع الله -عز وجل- لها عسى أن يستنقذها بك من النار, فدعاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسلمت فأقاموا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهرًا وهم تسعة وثلاثون رجلًا, وكان إسلام حمزة يوم ضرب أبي بكر". خرجه الحافظ الدمشقي في الأربعين الطوال, وخرجه ابن ناصر السلامي من حديث عبد الله بن محمد الطلحي عن القاسم بن محمد عن عائشة. "شرح" الألية: اليمين على وزن فعلية الجمع: الألايا, قال الشاعر: قليل الألايا حافظ يمينه ... وإن سبقت منه الألية برت وكذلك الألوة بضم الهمزة وفتحها وكسرها وإسكان اللام, وأما الألوة بالتشديد وضم الهمزة وفتحها فالعود الذي يتبخر به, هدأت الرجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 بالهمز: سكنت والهدأة والهدوء: السكون. وعن علي بن أبي طالب قال في أبي بكر: أسلم أبواه جميعًا ولم يجتمع لأحد من الصحابة المهاجرين أبواه غيره, أخرجه الواحدي. وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} 1 نزلت في أبي بكر, وكان حمله وفصاله كذلك قال: وقد علم أن كل أحد لا يلهم هذا القول, فعلم أنه رجل بعينه "وكان أبا بكر" ومعنى بلوغ أشده ثلاث عشرة سنة, وذلك أنه صحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن ثماني عشرة سنة في تجارة إلى الشام وكان لا يفارقه في أسفاره وحضره, فرأى من الآيات ما سبق بها اليقين في قلبه, فلما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- آمن به وصدقه وقال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} بالهداية إلى الإيمان {وَعَلَى وَالِدَيَّ} كذلك {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} فأجابه الله تعالى وأعتق سبعة مؤمنين {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} فأجابه الله تعالى أيضًا ولم يبق له ولد ولا ولد ولد إلا آمن وصدق. خرجه الواحدي وأسلمت أيضًا أخته لأبيه أم فروة بنت أبي قحافة وتزوجت الأشعث بن قيس فولدت له محمدًا, ذكره الدارقطني.   1 سورة الأحقاف الآية: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الفصل الثاني: في ذكر اسمه وكان اسمه -رضي الله عنه- عبد الله وقيل: عبد الكعبة, فلما أسلم سماه النبي -صلى الله عليه وسلم- عبد الله قاله جمهور أهل النسب, وأكثر المحدثين ذكر اسمه عتيقًا, واختلفوا في ذلك فقيل: إنه لقب به في الإسلام وهو أول لقب لقب به في الإسلام, قاله محمد بن حمدويه النيسابوري, وقال ابن إسحاق في جماعة: بل هو اسم سماه به أبوه ويروى ذلك عن عائشة -رضي الله عنها. وروي عن موسى بن طلحة أنه سمته به أمه واختلفوا لم سمي عتيقًا؟ فقال الليث بن سعد في جماعة: سمي بذلك لعتاقة وجهه وجماله والعتق الجمال وقيل: إن الذي لقبه به لجمال وجهه رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ذكره ابن قتيبة في المعارف. وعن موسى بن طلحة بن عبيد الله قال: كانت أمه لا يعيش لها ولد فلما ولدته استقبلت به البيت ثم قالت: اللهم إن هذا عتيقك من الموت, فهبه لي, فعاش فسمته عتيقًا وكان يعرف به. رواه الخجندي في الأربعين وغيره وقيل: كان له أخوان: عتق وعتيق فسمي باسم أحدهما, ذكره البغوي في معجمه وقال مصعب وطائفة من أهل النسب: إنما سمي عتيقًا؛ لأنه لم يكن في نسبه شيء يعاب به. وقال أبو نعيم الفضل بن دكين: سمي بذلك؛ لأنه قديم في الخير والعتيق: القديم تقول منه: عتق بضم التاء عتقًا وعتاقة وقال آخرون: سمي بذلك لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من سره أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى هذا" فسمي عتيقًا لذلك, روته عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت: وإن اسمه الذي سماه به أهله لعبد الله, ذكره أبو عمر وغيره وعليه أكثر المحدثين. وعن عبد الله بن الزبير قال: كان اسم أبي بكر عبد الله بن عثمان فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "أنت عتيق الله من النار" فسمي عتيقًا لذلك. خرجه الترمذي وأبو حاتم ولا تضاد بين هذه الأقوال كلها؛ إذ يجوز أن يكون أحد الأبوين لقبه بذلك لمعنى ثم تابعه الآخر عليه له أو لمعنى آخر, ثم استعملته قريش وأقرته عليه, ثم أقر عليه بعد الإسلام. وما يروى عن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا أبا بكر, أنت عتيق الله من النار" فمن يومئذ سمي عتيقًا فمعناه والله أعلم, فمن ذلك اليوم اشتهر به حتى لا يعرف له اسم سواه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 "ذكر اسمه الصديق": واختلف في ذلك لأي معنى فقيل: كان هذا اللقب قد غلب عليه في الجاهلية؛ لأنه كان في الجاهلية وجيهًا رئيسًا من رؤساء قريش, وكانت إليه الأشناق وهي الديات كان إذا تحمل شنقًا قالت قريش: صدقوه, وأمضوا حمالته وحملها من قام معه, وإذا تحملها غيره خذلوه ولم يصدقوه. قال الجوهري: الشنق ما دون الدية, وقيل: سمي صديقًا؛ لتصديقه النبي -صلى الله عليه وسلم- في خبر الإسراء. عن عائشة قالت: لما أسري بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد الأقصى أصبح يحدث الناس بذلك, فارتد ناس كانوا آمنوا به, وسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس؟ قال: وقد قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن قال ذلك لقد صدق قالوا: تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ فقال: نعم إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك في خبر السماء في غدوة وروحة؛ فلذلك سمي الصديق. خرجه الحاكم في المستدرك وابن إسحاق وقال مكان غدوة وروحة: في ساعة من ليل أو نهار, وزاد: فهذا أبعد مما تعجبون منه. ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا نبي الله, حدث هؤلاء أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال: "نعم" قال: يا نبي الله فصفه لي فإني قد جئته, قال الحسن فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "رفع لي حتى نظرت إليه" فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصفه لأبي بكر فيقول أبو بكر: صدقت أشهد أنك رسول الله, كلما وصف له منه شيئًا قال: صدقت أشهد أنك رسول الله قال حتى إذا انتهى قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر: "وكنت يا أبا بكر الصديق" فسماه يومئذ الصديق. قال الحسن: وإن الله -عز وجل- أنزل فيمن ارتد عن إسلامه لذلك: {وَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} 1 وقول أبي بكر: صفه لي يحتمل معنيين: أحدهما: إظهار صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- لقومه, فإنهم كانوا يثقون بقول أبي بكر فإذا طابق خبره -صلى الله عليه وسلم- ما كان يعلم أبو بكر وصدقه به كان حجة عليهم ظاهرة. الثاني: طمأنينة قلبه كقول2 إبراهيم -عليه السلام: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} 3 لا أن أبا بكر كان عنده شك, كلا بدليل تصديقه أول وهلة والله أعلم. وعن جابر بن عبد الله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الله تعالى رفع لي بيت المقدس وأنا عند الكعبة, فجعلت أنظر إليه وإلى ما فيه, ولقد رأيت جهنم وأهلها فيها وأهل الجنة في الجنة قبل أن يدخلوها كما أنظر إليك, فخبرت بذلك قومي فكذبوني غير أبي بكر الصديق". وعن مولى أبي هريرة قال أبو بكر بن أبي قحافة: أراه قال عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ليلة أسري به: "قلت لجبريل -عليه السلام: إن قومي لا يصدقونني, قال لي جبريل: يصدقك أبو بكر وهو الصديق". خرجهما في فضائل أبي بكر وخرج الباقي الملا في سيرته وقيل: سمي صديقًا لبداره إلى تصديق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كل ما جاء به عمومًا, ويشهد لراجحية هذا القول أن الصديق في اللغة -فعيل- معناها المبالغة في التصديق أي: يصدق بكل شيء أول وهلة. ويؤيده حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هل أنتم   1 سورة الإسراء الآية: 60. 2 أي: الذي حكاه عنه الله تعالى بقوله: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} . 3 سورة البقرة الآية: 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 تاركون لي صاحبي؟ قلت: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا, فقلتم: كذبت, وقال أبو بكر: صدقت" وسيأتي الحديث مستوعبًا إن شاء الله تعالى. وعن النزال بن سبرة قال: وافقت من علي ذات يوم طيب نفس ومزاحًا فقلنا: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن أصحابك قال: كل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابي فقلنا: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن أصحابك خاصة قال: لم يكن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- صاحب إلا وهو لي صاحب, قلنا: فأخبرنا عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: سلوني قالوا: أخبرنا عن أبي بكر بن أبي قحافة قال: ذاك امرؤ سماه الله الصديق على لسان جبريل -عليه السلام- وعلى لسان محمد -صلى الله عليه وسلم- كان خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رضيه لديننا فرضيناه لدنيانا, خرجه الخلعي وابن السمان في الموافقة. وعن أبي إسحاق السبيعي عن أبي يحيي قال: لا أحصي كم سمعت عليا على المنبر يقول: إن الله -عز وجل- سمى أبا بكر على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم- صديقًا, خرجه في فضائله. وعن علي بن أبي طالب أنه كان يحلف بالله العظيم أن الله -عز وجل- أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق, خرجه السمرقندي وصاحب الصفوة. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "عرج بي إلى السماء فما رأيت شيئًا إلا وجدت اسمي فيه مكتوبًا: محمد رسول الله, وأبو بكر الصديق خليفتي" خرجه ابن عرفة العبدي والثقفي الأصبهاني. وعن الزهري يرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يكون خلفي اثنا عشر خليفة, أبو بكر الصديق لا يلبث إلا قليلًا" خرجه صاحب الصفوة وقد سبق هذا الحديث في مناقب الثلاثة من رواية عمر, وفيه ذكر الثلاثة: أبي بكر وعمر وعثمان, خرجه ابن الضحاك والصوفي عن يحيى بن معين. ولا حجة في هذه الأحاديث لأحد المعنيين بعينه، بل يجوز أن يكون سماه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 الفصل الثالث: في ذكر صفته، رضي الله عنه عن عائشة -رضي الله عنها- وقد قيل لها: صفي أبا بكر قالت: كان أبيض نحيفًا خفيف العارضين, أجنأ لا يستمسك إزاره يسترخي عن حقويه, معروق الوجه غائر العينين, ناتئ الجبهة عاري الأشاجع, خرجه أبو عمر. وعن قيس بن أبي حازم قال: قدمت على أبي بكر مع أبي في مرضه الذي مات فيه, فرأيته رجلًا أسمر خفيف اللحم, خرجه أبو بكر بن مخلد والمشهور ما تقدم من أنه كان أبيض وكان يخضب بالحناء والكتم, خرجه مسلم. "شرح" أجنأ بالجيم والهمزة أي: منحنيًا, تقول منه: جنأ يجنأ جنا بالقصر وجنوا, ومنه سمي الترس مجنا -بضم الميم- لانجنائه وأحنى بالحاء غير مهموز بمعناه, يقال: رجل أحنى الظهر وامرأة حنياء وحنواء أي: منحنية, والحقو: الكشح والحقوان: الكشحان والجمع: أحق وقد يسمى الإزار حقوا للمجاورة؛ لأنه يشد على الحقوين, معروق الوجه أي: قليل اللحم حتى يتبين حجم العظم, الأشاجع: جمع أشجع بزنة أصبع وهي أصول الأصابع التي تتصل بعصب ظاهر الكف, والكتم بالتحريك: نبت, وعن الأصمعي قال: قال أبو عمرو بن العلاء: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أفرع وكان أبو بكر أفرع, وكان عمر أصلع لم يبق من شعره إلا حفاف, وهو أن يبقى منه مثل الطرة حول رأسه يقال: رجل أفرع وامرأة فرعاء, إذا كان الشعر تاما لم يذهب منه شيء. وقال ابن دريد: يقال امرأة فرعاء إذا كانت كثيرة الشعر, ولا يقال للرجل إذا كان عظيم الجمة واللحية: أفرع إنما يقال: رجل أفرع لضد الأصلع, وأما صفاته المعنوية فقد تقدم في ثناء علي في باب أبي بكر وعمر طرف منها, وسيأتي في باب فضائله الكثير منها إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الفصل الرابع: في إسلامه, ذكر بدء إسلامه عن ربيعة بن كعب قال: كان إسلام أبي بكر شبيهًا بالوحي من السماء, وذلك أنه كان تاجرًا بالشام فرأى رؤيا فقصها على بحيرا الراهب فقال له: من أين أنت؟ فقال: من مكة فقال: من أيها؟ قال: من قريش قال: فأي شيء أنت؟ قال: تاجر قال: إن صدق الله رؤياك فإنه يبعث نبي من قومك تكون وزيره في حياته وخليفته من بعد وفاته, فأسرّ ذلك أبو بكر في نفسه، حتى بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- فجاءه فقال: يا محمد ما الدليل على ما تدعي؟ قال: "الرؤيا التي رأيت بالشام" فعانقه وقبل بين عينيه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله, قال أبو بكر: وما بين لابتيها أشد من سرور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإسلامي, خرجه الفضائلي. وعن عائشة قالت: خرج أبو بكر يريد النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان صديقًا له في الجاهلية فلقيه فقال: يا أبا القاسم فقدت من مجالس قومك واتهموك بالعيب لآبائها وأديانها, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إني رسول الله أدعوك إلى الله عز وجل" فلما فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسلم أبو بكر وما بين الأخشبين أكثر منه سرورًا بإسلام أبي بكر, خرجه الحافظ أبو القاسم الدمشقي في الأربعين الطوال والحافظ ابن ناصر السلامي. "شرح" الأخشبان: جبلا مكة, ومنه: "لا تزول مكة حتى يزول أخشابها" والأخشب: الجبل الخشن العظيم. وعن أم سلمة قالت: كان أبو بكر خدنًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- وصفيًّا له, فلما بعث -صلى الله عليه وسلم- انطلق رجال من قريش إلى أبي بكر فقالوا: يا أبا بكر إن صاحبك هذا قد جن, قال أبو بكر: وما شأنه؟ قالوا: هو ذاك يدعو في المسجد إلى توحيد إله واحد ويزعم أنه نبي فقال أبو بكر: وقال ذاك؟ قالوا: نعم هو ذاك في المسجد يقول, فأقبل أبو بكر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فطرق عليه الباب فاستخرجه فلما ظهر له قال له أبو بكر: يا أبا القاسم ما الذي بلغني عنك؟ قال: "وما بلغك عني يا أبا بكر؟ " قال: بلغني أنك تدعو لتوحيد الله وزعمت أنك رسول الله فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "نعم يا أبا بكر, إن ربي -عز وجل- جعلني بشيرًا ونذيرًا, وجعلني دعوة إبراهيم وأرسلني إلى الناس جميعًا" قال له أبو بكر: والله ما جربت عليك كذبًا, وإنك لخليق بالرسالة لعظم أمانتك وصلتك لرحمك وحسن فعالك, مد يدك فأنا أبايعك, فمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده فبايعه أبو بكر وصدقه, وأقر أن ما جاء به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 الحق فوالله ما تلعثم أبو بكر حين دعاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الإسلام, خرجه ابن إسحاق وخرجه صاحب فضائل أبي بكر. قال ابن إسحاق: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما بلغني يقول: "ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت منه كبوة ونظر وتردد, إلا ما كان من أبي بكر بن أبي قحافة, ما عكم عنه حين ذكرته له وما تردد فيه". "شرح" تلعثم الرجل في الأمر: إذا تمكث فيه وتأنى, وعكم أي: انتظر والعكم: الانتظار قاله الجوهري, وقال الخليل: نكل عنه وسيأتي في مبدأ إسلام طلحة طرف من هذا الذكر. قال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم أن عباس بن مرداس لما أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "أنت القائل: فأصبح نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة؟ " فقال أبو بكر: بين عيينة والأقرع, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هما واحد" فقال أبو بكر: أشهد أنك كما قال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} 1. ذكر ما جاء في أول من أسلم: عن علي بن أبي طالب قال: أول من أسلم من الرجال أبو بكر, وأول من صلى إلى القبلة علي بن أبي طالب, خرجه ابن السمان في الموافقة. وعن الشعبي قال: سألت ابن عباس وقد سئل: أي الناس كان أول إسلامًا؟ قال: أما سمعت قول حسان بن ثابت: إذا تذكرت شجوًا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا خير البرية أتقاها وأعدلها ... بعد النبي وأوفاها بما حملا   1 سورة يونس الآية: 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 والثاني التالي المحمود مشهده ... وأول الناس منهم صدق الرسلا ويروى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لحسان: "هل قلت في أبي بكر شيئًا؟ " قال: نعم, فأنشده هذه الأبيات وفيها بيت رابع: وثاني اثنين في الغار المنيف1 وقد ... طاف العدو بهم إذ صعدا الجبلا فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك وقال: "أحسنت يا حسان" خرجه أبو عمر, وروي أنه ضحك حتى بدت نواجذه ثم قال: "صدقت يا حسان, هو كما قلت" خرجه صاحب الصفوة في فضائله, قال أبو عمر: وروي فيها بيت خامس: وكان حب رسول الله قد علموا ... من البرية لم يعدل به رجلا "شرح" الشجو: الهمّ والحزن هذا أصله, ولا أرى له وجهًا هنا إلا أن يريد به ما كابده أبو بكر, فأطلق عليه شجوًا لاقتضائه ذلك, أو أراد حزن أبي بكر بما جرى على النبي -صلى الله عليه وسلم- النواجذ: جمع ناجذ وهو آخر الأضراس, وللإنسان أربعة نواجذ في أقصى الفم بعد الإرحاء ويسمى ضرس الحلم؛ لأنه ينبت بعد البلوغ وكمال العقل, قاله الجوهري. أصعد قال الجوهري: يقال: صعد في السلم وصعد في الجبل وعلى الجبل, وأصعد في الأرض أي: مضى وسار, فاستعاره للجبل وصعد وأصعد في الوادي: انحدر. وعن فرات بن السائب قال: قلت لميمون بن مهران: أبو بكر الصديق أول إيمانًا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- أم علي بن أبي طالب؟ قال: والله لقد آمن أبو بكر بالنبي -صلى الله عليه وسلم- زمن بحيرا الراهب, واختلف فيما بينه2 وبين خديجة حتى   1 غار ثور: في الطريق بين مكة وبين المدينة، الذي أوى وقت الهجرة إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه أبو بكر -رضي الله عنه. 2 بين النبي -صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 أنكحها إياه، وذلك كله قبل أن يولد علي بن أبي طالب, والمراد بهذا الإيمان اليقين بصدقه, وسيأتي ما يشهد له في الحديث بعده. عن أبي سعيد الخدري قال: قال أبو بكر: ألست أحق الناس بهذا الأمر؟ ألست أول من أسلم؟ ألست صاحب كذا؟ خرجه البغوي وأبو حاتم. وعن ابن عباس أن أبا بكر صحب النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن ثماني عشرة سنة وهم يريدون الشام في تجارة حتى نزلوا منزلًا فيه سدرة, فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ظلها ومضى أبو بكر إلى راهب يقال له: بحيرا يسأله عن الدين فقال: من الرجل الذي في ظل السدرة؟ فقال: ذاك محمد بن عبد الله قال: والله هذا نبي الله, ما استظل تحتها أحد بعد عيسى ابن مريم إلا محمدا -صلى الله عليه وسلم- فوقع في قلب أبي بكر اليقين, خرجهما في فضائله. وهذا يفسر قول ميمون بن مهران وهو أنه أراد بإسلام أبي بكر ما وقر في قلبه من اليقين وإلا فالنبي -صلى الله عليه وسلم- تزوج خديجة وسافر إلى الشام قبل مبعثه -صلى الله عليه وسلم. وعن أبي نضرة قال: قال أبو بكر لعلي: أنا أسلمت قبلك -في حديث طويل- فلم ينكر ذلك علي -رضي الله عنه. وعنه عن أبي سعيد أن أبا بكر الصديق قال: ألست أول من أسلم؟ وعن عمار بن ياسر قال: لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر, خرجه الصوفي عن يحيى بن معين. وعن عمرو بن عبسة قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو بعكاظ فقلت: من معك في هذا الأمر؟ فقال: "حر وعبد" وليس معه إلا أبو بكر وبلال, وقال: انطلق حتى يمكن الله لنبيه ثم نجيبه, وفي بعض طرقه أنه أتاه بمكة فوجد النبي -صلى الله عليه وسلم- مستخفيًا وذكر معناه, خرجه مسلم في قصة طويلة من حديث أبي أمامة. "شرح" عكاظ: اسم سوق للعرب بناحية مكة, كانوا يجتمعون فيه كل سنة فيقيمون شهرًا ويتبايعون ويتناشدون الشعر ويتفاخرون, فلما جاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الإسلام هدم ذلك كله, قاله الجوهري. وعن زر عن عبد الله قال: كان أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد, فأما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمنعه الله بعمه أبي طالب, وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه, وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس, فما منهم من أحد إلا وأتاهم على ما أرادوا إلا بلال فإنه هانت عليه نفسه في الله -عز وجل- وهان على قومه, فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد, خرجه أحمد في مسنده وابن السري. "شرح" صهروهم يقال: صهرته فانصهر أي: أذبته فذاب فهو صهير, ومنه: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} فكأنهم أذابوهم بالشمس, والصهار: ما ذاب من الشحم. وعنه أنه قال: أول من أظهر إسلامه بسيفه: النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر, خرجه الواحدي. ذكر أقاويل العلماء في أول من أسلم, وبيان اختلافهم, والجمع بين الأحاديث المختلفة: لا خلاف بين أهل الأثر أن أبا بكر كان رجلًا لما آمن بالنبي -صلى الله عليه وسلم- واختلفوا: هل كان علي مولودًا حين بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- أم لا؟ وممن ذهب إلى أن أبا بكر أول من أسلم: ابن عباس وحسان بن ثابت وأبو أروى الدوسي وأسماء بنت أبي بكر والنخعي وابن الماجشون ومحمد بن المنكدر والأحسني, ذكره صاحب الصفوة وأبو عمر وغيرهما. قال أبو عمر: وممن ذهب إلى أن عليا أول من أسلم من الرجال: سلمان وأبو ذر والمقداد وخباب وجابر وأبو سعيد الخدري وزيد بن الأرقم وهو قول ابن شهاب وعبد الله بن محمد ومحمد بن كعب وقتادة, واتفقوا على أن خديجة أول من أسلم مطلقًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 قال ابن إسحاق: أول ذكر أسلم وصلى وصدق بما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- علي وهو ابن عشر سنين, وقال أيضًا: أول من أسلم علي ثم زيد بن حارثة ثم أبو بكر ثم أسلم رهط من المسلمين منهم: عثمان والزبير وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص, وكذلك ذكره ابن قتيبة في المعارف, وقال غيره من أهل العلم: أول من أسلم من الرجال أبو بكر وأسلم علي وهو ابن ثماني سنين وأول من أسلم من النساء خديجة, خرجه الترمذي والأولى التوفيق بين الروايات كلها وتصديقها فيقال: أول من أسلم مطلقًا خديجة بنت خويلد, وأول ذكر أسلم علي بن أبي طالب وهو صبي لم يبلغ كما تقدم في سنه وكان مستخفيًا بإسلامه, وأول رجل عربي بالغ أسلم وأظهر إسلامه أبو بكر بن أبي قحافة, وأول من أسلم من الموالي زيد بن حارثة, وهذا متفق عليه لا خلاف فيه, وعليه يحمل قول علي وغيره: أول من أسلم من الرجال أبو بكر أي: من الرجال البالغين. ويؤيد ذلك ما روي عن الحسن1 قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال: يا أمير المؤمنين كيف سبق المهاجرون والأنصار إلى بيعة أبي بكر وأنت أسبق منه سابقة, وأروى منه منقبة؟ قال: فقال علي: ويلك إن أبا بكر سبقني إلى أربع لم أوتَهن ولم أعتض منهن بشيء؛ سبقني إلى إفشاء الإسلام, وقدم الهجرة, ومصاحبته في الغار, وأقام الصلاة وأنا يومئذ بالشعب يظهر الإسلام وأخفيه وتستحقرني قريش وتستوفيه, والله لو أن أبا بكر زال عن مزيته ما بلغ الدين العبرين -يعني الجانبين- ولكان الناس كرعة ككرعة طالوت, ويلك! إن الله -عز وجل- ذم الناس ومدح أبا بكر فقال: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} 2 الآية كلها, فرحمة الله على أبي بكر وأبلغ الله روحه مني السلام, خرجه في فضائل أبي بكر، وخرج   1 الحسن البصري من التابعين. 2 سورة التوبة الآية: 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 خيثمة بن سليمان معناه بزيادة, ولفظه عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: أقبل رجل فتخلص الناس حتى وقف على علي بن أبي طالب فقال: يا أمير المؤمنين, ما بال المهاجرين والأنصار قدموا أبا بكر وأنت أورى منه منقبة, وأقدم إسلامًا, وأسبق سابقة؟ قال: إن كنت قرشيا فأحسبك من عائذة قال: نعم قال: لولا أن المؤمن عائذ لله لقتلتك, ويحك إن أبا بكر سبقني لأربع لم أوتهن ولم أعتض منهن: سبقني إلى الإمامة أو تقدم الإمامة وتقدم الهجرة وإلى الغار وإفشاء الإسلام وذكر معنى ما بقي, وخرجه ابن السمان في الموافقة وزاد بعد قوله: من عائذة, وأحسبك من ذؤالة بنسب قال له الرجل: أجل ثم ذكر معنى ما تقدم وزاد في آخره: ثم قال: لا أجد أحدًا يفضلني على أبي بكر إلا جلدته جلد المفتري1. "شرح" أورى من: ورى الزند وورى: خرجت ناره وظهرت أي: أظهر منقبة وأنور, والمنقبة: ضد1 المثلبة, والشعب: الطريق في الجبل وهو بالكسر, وهو شعب معروف بشعب بني هاشم بمكة, وتستوفيه: يريد والله أعلم توفيته حقه من الإعظام الإكرام, والمزية: الفضيلة أي: لو زال عن فضيلته بالتقديم على الناس إمامًا, وكرعة: جمع كارع كركبة وراكب, من كرع بالفتح يكرع: إذا شرب الماء بفيه دون إناء, ولعله والله أعلم أراد أن لولا أبو بكر لخالف الناس الدين كما خالفه كرعة طالوت بالشرب من النهر الذي نهوا عن الشرب منه والله أعلم. وعن محمد3 بن الحنفية وقد سئل: أكان أبو بكر أول القوم إسلامًا؟ قال: لا فقيل له: فبأي شيء علا وسبق حتى لا يذكر غيره؟ قال: فإنه   1 القاذف: والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} . 2 ما يذمّ ويعاب. 3 هو ابن سيدنا علي -رضي الله عنه- وأمه امرأة من بني حنيفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 أسلم يوم أسلم وكان خيرهم إسلامًا, ولم يزل على ذلك حتى توفاه الله تعالى. وفي رواية قال: لأنه كان أفضلهم إيمانًا حتى قبض, خرجهما ابن السمان في الموافقة. وعن محمد بن كعب وقد سئل عن أول من أسلم: علي أو أبو بكر؟ فقال: سبحان الله, علي أولهما إسلامًا وإنما شبه على الناس؛ لأن عليا أعطي السلامة من أبي طالب وأسلم أبو بكر وأظهر إسلامه, ولا شك عندنا أن عليا أولهما إسلامًا, خرجه أبو عمر. وعنه قال أبو بكر: أنا أول من أظهر الإسلام وكان علي يكتم الإسلام فرقًا1 من أبيه, حتى لقيه أبو طالب فقال: أسلمت؟ قال: نعم قال: آزر ابن عمك وانصره, وأسلم علي قبل أبي بكر, خرجه الحاكمي في الأربعين.   1 خوفًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 الفصل الخامس: في ذكر من أسلم على يديه عن عائشة أن أبا بكر لما أسلم راح بعثمان بن عفان وطلحة والزبير وسعد فأسلموا, ثم جاء الغد بعثمان بن مظعون وأبي عبيدة وعبد الرحمن بن عوف وأبي سلمة والأرقم فأسلموا, خرجه ابن ناصر السلامي. قال ابن إسحاق: ولما أسلم أبو بكر أظهر إسلامه ودعا إلى الله ورسوله, وكان رجلًا مؤلفًا لقومه محببًا سهلًا, وكان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بها وبما كان فيها من خير وشر, وكان رجلًا تاجرًا ذا خلق ومعروف, وكان رجال قريش يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر: لعلمه وتجارته وحسن مجالسته, فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه, فأسلم بدعائه فيمن بلغني: عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله, فجاء بهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين استجابوا له فأسلموا قال: فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا بالإسلام وصدقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعني عليا وزيدا وأبا بكر ومن أسلم على يديه. وعن محمد بن عبيد بن عمر بن عثمان بن عفان قال: كان إسلام خالد بن سعيد بن العاص قديمًا, وكان أول إخوته أسلم, وكان بدو إسلامه أنه رأى في النوم أنه واقف على شفير النار فذكر من سعتها ما الله أعلم, ورأى كأن أباه يدفعه فيها, ورأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آخذا بحقويه لا يقع ففزع من نومه وقال: أحلف بالله إن هذه لرؤيا حق, فلقي أبا بكر فذكر ذلك له, فقال أبو بكر: أريد بك خير, هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاتبعه والإسلام يحجزك أن تدخل فيها وأبوك واقع فيها, فلقي النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو بأجياد فقال: يا محمد إلامَ تدعو؟ قال: "أدعو إلى الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله, وتخلع ما أنت عليه" خرجه في فضائل أبي بكر, وكان أبو بكر -رضي الله عنه- قد ابتنى مسجدًا بفناء داره يصلي فيه ويقرأ القرآن, فيجتمع عليه الناس ويستمعون إلى قراءته وينظرون إلى صلاته وبكائه حتى كان ذلك سبب إسلام جماعة, وذلك مشهور من خبره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الفصل السادس: فيماكان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم من الود والخلة في الاهلية ... الفصل السادس: فيما كان بينه وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- من الود والخلة في الجاهلية تقدم في بدء إسلامه طرف من ذلك. عن أبي ميسرة عن عمرو بن شرحبيل قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا برز سمع من يناديه: يا محمد, فإذا سمع الصوت انطلق هاربًا, فأسر ذلك إلى أبي بكر وكان نديمه في الجاهلية. وعنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لخديجة: "إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء، وقد والله خشيت أن يكون هذا أمرًا" فقالت: معاذ الله ما كان الله ليفعل بك, فوالله إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم وتصدق الحديث, فلما دخل أبو بكر وليس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم1, ذكرت خديجة له حديثه وقالت: يا عتيق اذهب مع محمد إلى ورقة, فلما دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ أبو بكر بيده فقال: "انطلق بنا إلى ورقة" فقال: "ومن أخبرك؟ " قال: خديجة, فانطلقا إليه فقصا عليه, وذكر الحديث المشهور أخرجهما بهذا السياق في فضائل أبي بكر, وقول خديجة للنبي -صلى الله عليه وسلم- أخرجه الشيخان وكذلك حديث ورقة وقوله للنبي -صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 الفصل السابع: فيما لقي من أذى المشركين بسب دعائه إلى الله تعالى ودفعه المشركين عن النبي وتوبيخه لهم ... الفصل السابع: فيما لقي من أذى المشركين بسبب دعائه إلى الله تعالى, ودفعه المشركين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وتوبيخه لهم تقدم في ذكر إسلام أمه طرف من ذلك من حديث عائشة, وعن أسماء بنت أبي بكر وقيل لها: ما أشد ما رأيت المشركين بلغوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: كان المشركون قعودًا في المسجد الحرام فتذاكروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما يقول في آلهتهم, فبينما هم كذلك إذ دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسجد فقاموا إليه وكانوا إذا سألوه عن شيء صدقهم فقالوا: ألست تقول في آلهتنا كذا وكذا؟ قال: "بلى" قالت: فتشبثوا به بأجمعهم, فأتى الصريخ أبا بكر فقيل له: أدرك صاحبك, فخرج أبو بكر فوجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والناس مجتمعون عليه فقال: ويلكم! أتقتلون رجلًا أن يقول: ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟! قالت: فلهوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأقبلوا على أبي بكر الصديق يضربونه قالت: فرجع إلينا فجعل لا يمس شيئًا من غدائره إلا جاء معه وهو يقول: "تباركت يا ذا الجلال والإكرام" خرجه أبو عمر وغيره.   1 هنالك موجودا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 "شرح" الغدائر: الذوائب1 واحدتها: غديرة, قاله الجوهري. وعن القاسم بن محمد قال: لقي أبو بكر سفيهًا من سفهاء قريش وهو عامد الكعبة -أي: إلى الكعبة- فحثا على رأسه ترابًا قال: فمر بأبي بكر الوليد بن المغيرة أو العاص بن وائل قال: فقال له أبو بكر: ألا ترى إلى ما صنع هذا السفيه؟ قال: أنت فعلت هذا بنفسك, وهو يقول: أي رب ما أحلمك ... ثلاثًا, خرجه ابن إسحاق. ذكر دفعه المشركين عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم: عن عروة بن الزبير قال: سألت عبد الله بن عمرو بن العاص عن أشد ما صنع المشركون برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي فوضع رداءه في عنقه فخنقه به خنقًا شديدًا, فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه فقال: أتقتلون رجلًا أن يقول: ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟! خرجه البخاري وخرجه أيضًا عن عمرو بن العاص نفسه وقال فيه: يصلي في حجر الكعبة, وفي بعض طرقه قال: أقبل عقبة بن أبي معيط والنبي -صلى الله عليه وسلم- عند الكعبة فلوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقًا شديدًا, وأقبل أبو بكر وأخذ بمنكبيه فدفعه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال الحديث. وعن عمرو بن العاص قال: ما نيل من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما نيل منه ذات يوم طاف بالبيت ضحى, فدخلوا عليه فقطعوا عليه الطواف وأخذوا بمنكبيه وقالوا: أنت الذي تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ قال: "هو ذاك" وأبو بكر ملتزمه من خلفه ويقول: أتقتلون رجلًا أن يقول: ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم, وإن يك كاذبًا فعليه كذبه وإن يك صادقًا يصبكم بعض الذي يعدكم, وعيناه تهملان حتى خلوا سبيله. عمرو بن العاص   1 الضفائر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 كان مشاهدًا هذه القصة وابنه عبد الله أرسله عنه, ولم يكن مشاهدًا. "شرح" تلبيبه: هو ما يجمع من ثوبه عند صدره ونحره في الخصومة ثم يجر به, يقال: لببته تلبيبًا واللبة: المنحر. وعن جابر بن عبد الله قال: ضرب المشركون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرة حتى غشي عليه, فجاء أبو بكر فقال: سبحان الله أتقتلون رجلًا أن يقول: ربي الله؟! فقالوا: من هذا؟ قال: ابن أبي قحافة المجنون, خرجه في فضائله. وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: لما نزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} 1 أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة, وفي يدها فهر وهي تقول: مذمما أبينا ... ودينه قلينا وأمره عصينا والنبي -صلى الله عليه وسلم- جالس في المسجد ومعه أبو بكر, فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله قد أقبلت وإني أخاف أن تراك, قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إنها لن تراني" وقرأ قرآنًا فاعتصم2 به كما قال تعالى: {إِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} 3 فوقفت على أبي بكر ولم تر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا أبا بكر إن صاحبك هجاني قال: لا ورب هذا البيت ما هجاك قال: فولت وهي تقول: قد علمت قريش أني ابنة سيدها, خرجه في فضائل أبي بكر بهذا السياق, ومعناه عند ابن إسحاق وقال بعد قولها بلغني أنه يهجوني: والله لو وجدته لضربته بهذا الفهر. "شرح" الولولة: رفع الصوت, تقول: ولولت المرأة ولولة وولوالا إذا   1 سورة المسد الآية: 1. 2 ومن هنا يتجلى صحة الاعتقاد في أن القرآن الكريم ينفع في الحفظ, والوقاية من الضرّ. 3 سورة الإسراء الآية: 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 أعولت, والفهر: الحجر ملء الكف يذكر ويؤنث والجمع: أفهار, واعتصم: امتنع, قال ابن إسحاق: وكانت قريش تسمي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مذممًا ثم يسبونه, وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ألا تعجبون مما صرف الله عني من أذى قريش, يسبون ويهجون مذممًا وأنا محمد؟! " وعنها1 أن أم جميل دخلت على أبي بكر وعنده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يابن أبي قحافة, ما شأن صاحبك ينشد فيّ الشعر؟ فقال: والله ما صاحبي بشاعر فقالت: أليس قد قال: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} فما يدريه ما في جيدها؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "قل لها: هل ترين عندي أحدًا؟ فإنها لن تراني, جعل الله بيني وبينها حجابًا" فقال لها أبو بكر فقالت: أتهزأ بي يابن أبي قحافة؟ والله ما أرى عندك أحدًا, خرجه في فضائله أيضًا. "شرح" المسد -بالتحريك: الليف, والجيد: العنق. ذكر إخراج المشركين أبا بكر, وجوار ابن الدغنة له: عن عائشة قالت: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طرفي النهار بكرة وعشيا, فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرًا نحو أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي فقال ابن الدغنة: مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يُخرَج, إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق, فارجع فاعبد ربك ببلدك, فارتحل ابن الدغنة ورجع مع أبي بكر فطاف ابن الدغنة في كفار قريش فقال: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج, أتخرجون رجلًا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق؟! فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وأمنوا أبا بكر, وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره, وليصل مهما شاء, وليقرأ ما شاء, ولا يؤذنا، ولا   1 وعن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 يشتغلن بالصلاة والقراءة في غير داره, ففعل. ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدًا في فناء داره فكان يصلي فيه, ويقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم, يعجبون منه وينظرون إليه, وكان أبو بكر رجلًا بكاءً لا يملك دموعه حين يقرأ القرآن, فأفزع ذلك أشراف قريش فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا: إنا أجرنا لك أبا بكر على أن يعبد الله في داره, وإنه جاوز ذلك وابتنى مسجدًا بفناء داره وأعلن بالصلاة, وإنا خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا, فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد الله في داره فعل وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد عليك ذمتك, فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر بالاستعلان, فأتى ابن الدغنة أبا بكر فقال: يا أبا بكر قد علمت الذي قد عقدت لك عليه, فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترد ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في عقد رجل عقدت له, قال أبو بكر: فإني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله ورسوله, ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذ بمكة. أخرجه البخاري وأبو حاتم, وخرجه ابن إسحاق وقال: استأذن أبو بكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة فأذن له, فخرج أبو بكر مهاجرًا حتى إذا سار من مكة يومًا أو يومين لقيه ابن الدغنة, ثم ذكر معناه وقال: والله إنك لزين العشيرة, وذكر معنى ما بقي. "شرح" برك الغماد -بفتح الباء وتكسر وبضم الغين وتكسر- وهو اسم موضع باليمن, وقيل: هو موضع وراء مكة بخمس ليالٍ, ذكره أبو موسى المديني, وابن الدغنة -بفتح الدال وكسر الغين المعجمة وتخفيف النون بعدها- هكذا قيده جمهور الحفاظ ويقال: بضم الدال والغين وتشديد النون بوزن دجنة, وهو الأكثر عن مؤرخي المغازي, ويقال بفتح الدال وسكون الغين وهو تقييد أهل اللغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الفصل الثامن: في هجرته مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وخدمته له فيها , وما جرى لهما في الطريق وما جرى لهما في الغار ومقدمهما المدينة, وذكر خروجهما من مكة طالبين غار ثور وما يتعلق بذلك عن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "قد رأيت دار هجرتكم, أريت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان" فهاجر من هاجر قبل المدينة حتى ذكر ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى الحبشة من المسلمين, وتجهز أبو بكر مهاجرًا فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "على رسلك, فإني أرجو أن يؤذن لي" قال أبو بكر: وترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: "نعم" فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لصحبته وعلف راحلتين كانتا عنده, ورق السمر أربعة أشهر, قالت عائشة: فبينا نحن جلوس يومًا في بيتنا في نحر الظهيرة إذ قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقبل متقنع في ساعة لم يكن يأتينا فيها, قال أبو بكر: فداه أبي وأمي, إن جاء به في هذه الساعة لأمر قالت: فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستأذن فدخل فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر: "أخرج من عندك" فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "قد أذن لي في الخروج" قال أبو بكر: فالصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "نعم" فقال أبو بكر: بأبي أنت يا رسول الله فخذ إحدى راحلتي هاتين, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بالثمن" قالت عائشة: فجهزناهما أحسن الجهاز وصنعنا لهما سفرة في جراب, وقطعت أسماء بنت أبي بكر من نطاقها وأوكت به الجراب؛ ولذلك سميت ذات النطاق, ولحق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بغار في جبل يقال له: ثور, فمكثا فيه ثلاث ليالٍ. خرجه البخاري وأبو حاتم وزاد في بعض طرق البخاري: يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن, فيدلج من عندهما سحرًا فيصبح عند قريش كبائت فلا يسمع أمرًا يكادان به إلا وعاه حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام, ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى لأبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين يذهب ساعة من العشاء, فيبيتان في رسل وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتى ينفق ثمنها عامر بغلس, يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث واستأجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلًا من بني الدئل هاديًا خريتًا, والخريت: الماهر في الهداية, قد غمس حلفًا في آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش, فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما ووعداه غار ثور بعد ثلاث, فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث, وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق الساحل, وفي رواية: قد غمس يده في حلف العاص بن وائل وفيها: فأخذ بهم طريق أذاخر طريق الساحل, وعند أبي حاتم قال أبو بكر: عندي ناقتان قد كنت أعددتهما للخروج قالت: فأعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- إحداهما وهي الجدعاء, فركبا حتى أتيا الغار ثم ذكر ما بعده. "شرح" السبخة: واحدة السباخ وأرض سبخة بكسر الباء: ذات سباخ, على رسلك: مهلك وتؤدتك, نحر الظهيرة, الظهيرة: الهاجرة, ونحر النهار: أوله, فلعله أراد أول الهاجرة وإن كان سياق اللفظ يشعر بأن المراد شدة الظهيرة, النطاق: شدة تلبسها المرأة وتشد وسطها ثم ترسل الأعلى على الأسفل إلى الركبة والأسفل ينجرّ على الأرض وليس لها حجزة ولا نيفق ولا ساقان والجمع: نطق يقال: انتطقت المرأة إذا لبست النطاق, وانتطق الرجل إذا لبس المنطقة وهو كل ما شددت به وسطك قاله الجوهري, ثقف: حاذق خفيف بزنة ضخم من: ثقف ثقافة وثقف كخدر وخدر أو من ثقف ثقفًا كنعب نعبًا لغتان فيه, ولقن: سريع الفهم والتلقين: التفهيم, يدلج أدلج القوم: إذا ساروا أول الليل وادلجوا بالتشديد: ساروا آخره والاسم الدلجة بضم الدال وفتحها فيهما, منحة أصلها العطية ومنيحة اللبن: أن تعطي الناقة أو الشاة أحدًا غيرك يحلبها ثم يردها إليك فيجوز أن يكون لأبي بكر منحة من غيره ويجوز أن يكون سماها بملكها منحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 توسعًا, وقد استعمل ذلك فيما بعد الشرب وإن كان مملوكًا وهو المراد هنا والله أعلم, يريحها: أراح ماشيته إذا ردها إلى المراح وكذلك الترويح ولا يكون إلا بعد الزوال, الرسل بالكسر: اللبن وأرسل القوم: صاروا ذا رسل, والرضيف: اللبن يغلي بالرضف وهي الحجارة المحماة ورضفه: قواه بالرضف, وخريتًا أي: دليلًا حاذقًا كما فسر في الحديث وخرت الأرض: إذا عرف طرقها وقوله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر لما عرض عليه الراحلة: "بالثمن" لم يكن ذلك والله أعلم إلا لأن يخلص ثواب الهجرة له لا يشركه أحد في ثوابها وإلا فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحكم في مال أبي بكر كما يحكم في مال نفسه على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى, وقد ذكر ابن إسحاق أن أبا بكر لما قدم الراحلتين إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدم أفضلهما له وقال: اركب فداك أبي وأمي, فقال صلى الله عليه وسلم: "إني لا أركب بعيرًا ليس لي" قال: فهي لك يا رسول الله قال: "لا, ولكن بالثمن الذي ابتعتها به" قال: كذا وكذا قال: "قد أخذتها بذلك" فقد بين في هذا سبب الامتناع من قبولها مجانًا وهو أنه لا يركب بعيرًا ليس له, وما ذاك والله أعلم إلا للمعنى الذي ذكرناه آنفًا؛ لأنه لا يركب بعيرًا إلا في طاعة وعبادة, ولا تضاد بين هذا وحديث عائشة المتقدم, وأن هذا القول كان منه في بيت أبي بكر لجواز أن الحديث في ذلك تكرر ويشهد لهذا أن الأول لم يكن فيه تبايع وإنما وعد به, والثاني تضمن العقد والتمليك بالثمن والله أعلم. وعنها1 أيضًا أنها قالت: كان لا يخطئ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيت أبي بكر أحد طرفي النهار إما بكرة وإما عشية, حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة أتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالهجيرة ثم ذكرت معنى ما تقدم وقالت بعد قولها: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله؟ فقال: "الصحبة".   1 وعن عائشة -رضي الله عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 قالت: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي1 يومئذ, خرجه ابن إسحاق ولم يعلم أحد فيما بلغني بخروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا علي بن أبي طالب, فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخبره بخروجه وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الودائع2 التي كانت عنده للناس, وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من أمانته وصدقه, فلما أجمع على الخروج أتى أبا بكر فخرج من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته ثم عمد إلى غار بثور, جبل بأسفل مكة, وأمر أبو بكر عبد الله بن أبي بكر أن يستمع لهما ما يقول الناس نهارًا ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون من الخبر, وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحها عليهما إذا أمسى في الغار, وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما, فأقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الغار ثلاثة أيام ومعه أبو بكر وجعلت قريش حين فقدوه مائة ناقة لمن رده عليهم, حتى إذا مضت الثلاثة وسكن عنهما الناس, أتاهما صاحبهما الذي استأجراه ببعيريهما وبعير له, وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بسفرتيهما ونسيت أن تجعل لها عصامًا, فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس فيها عصام فتحل بطاقها فتجعله عصامًا, ثم علقتها به فكان يقال لها: ذات النطاق لذلك. قال ابن هشام: وسمعت غير واحد من أهل العلم يقول ذات النطاقين, وتفسيره أنها شقت نطاقها باثنتين فعلقت السفرة بواحدة وانتطقت بالأخرى. وعن أسماء أنها قالت: صنعت سفرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت أبي   1 كما قال الشاعر: هجم السرور علي حتى إنه ... من فرط ما قد سرني أبكاني يا عين قد سار البكا لك عادة ... تبكين من فرح ومن أحزان 2 وإيداع الودائع عنده -صلى الله عليه وسلم- وردها عند هجرته إلى أهلها، من أقوى الأدلة على أمانته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 بكر حين أراد أن يهاجر إلى المدينة, قالت: فلم تجد لسفرته ولا لسقائه ما نربطهما به قالت: فقلت لأبي بكر: والله ما أجد شيئًا أربط به إلا نطاقي, قالت: قال: شقيه باثنين فاربطي بأحدهما السقاء وبالآخر السفرة؛ فلذلك سميت ذات النطاقين. خرجه البخاري. وفي رواية عند ابن السمان في كتاب الموافقة أن أبا بكر دفع إلى أسماء دراهم وقال: ابتاعي بهذا سفرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابتاعي به خبزًا ولحمًا, فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعجبه اللحم, ثم ذكر انطلاقهم إلى الغار وقال: فدخل أبو بكر الغار فلم يرَ فيه حجرًا إلا أدخل إصبعه فيه حتى أتى على حجر كبير, فأدخل رجله فيه إلى فخذه ثم قال: ادخل يا رسول الله, فقد مهدت لك الموضع تمهيدًا. قال: ثم إن المشركين خرجوا بأجمعهم ينظرون إلى أثر قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان شثن الكفين والقدمين حتى أتوا منزل أبي بكر وأسماء تعالج اللحم, فأخرجت المصباح ليغلب رائحة الإدام فسألوا أسماء فقالت: إني مشغولة في عمل, فانطلقوا وجعلوا فيه مائة ناقة لمن قتله, وأقبلوا إلى باب الغار فعفا الله أثره وأثر أبي بكر, فلم يستبن لهم وقعد رجل منهم يبول فقال أبو بكر: يا رسول الله قد رآنا القوم؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا يا أبا بكر ما رأونا, ولو رأونا ما قعد ذلك يبول بين أيدينا" فتفرقوا وبات أبو بكر بليلة منكرة من الأفعى, فلما أصبح قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما هذا يا أبا بكر؟ " وقد تورم جسده فقال: يا رسول الله, الأفعى فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فهلا أعلمتني" فقال أبو بكر: كرهت أن أفسد عليك قال: فأمرّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده على أبي بكر فاضمحل ما كان بجسده من الألم, وكأنه أنشط من عقال ثم ذكر ما بعده. وعنها قالت: لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر أتانا نفر من قريش وفيهم أبو جهل بن هشام, فوقفوا على باب أبي بكر فخرجت إليهم فقالوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي, قالت: فرفع أبو جهل يده وكان فاحشًا خبيثًا, فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي قالت: ثم انصرفوا فمكثنا ثلاث ليالٍ لا ندري أين وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يتغنى بأبيات من الشعر غناء العرب, وإن الناس ليتبعونه يسمعون صوته وما يرونه, حتى خرج من أعلى مكة يقول: جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلَّا خيمتي أم معبد هما نزلا بالبر ثم تروحا ... فأفلح من أمسى رفيق محمد ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد خرجه ابن إسحاق, وسيأتي قصة أم معبد مستوفاة في الذكر الثالث من هذا الفصل إن شاء الله تعالى. "شرح" القرط: هو الذي يعلق في شحمة الأذن والجمع: قرطة وقراط كرمح ورماح, وإتيان قريش هذا بيت أبي بكر الظاهر أنه غير الأول الذي تضمنه حديثها من رواية ابن السمان, وأن هذا كان بعد اليأس منهم, ألا تراها تقسم بالله أنها لا تعلم أين وجهه؟ وفي ذلك الوقت كانت تعلم أنه بالغار؛ لأنها كانت تأتيهم بالطعام على ما تقدم بيانه, وقولها: أقمنا ثلاثًا لا نعلم أين وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ أي: بعد توجههما للغار والله أعلم. ويجوز أن يكون هو ذلك الأول أو بعده قريبًا منه وهم بالغار ولم تكن علمت حينئذ ثم علمت بعد, إلا أن قولها: فأقمنا ثلاثًا لا نعلم, لا يجوز حملها على الثلاث الأول؛ فإنها مدة مقامهم في الغار وقد كانت عالمة بهم فيكون سؤالهم عنه في تلك وهو الظاهر من حال الباحث عن شيء, ويكون قولها: فأقمنا ثلاثًا أي: بعد علمها بهم أولًا ثم ارتحالهم من الغار, والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 قال ابن إسحاق: لما بايع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأنصار وأمر أصحابه بالهجرة إلى المدينة وقال: "إن الله جعل لكم إخوانًا ودارًا تأمنون بها" فخرجوا أرسالًا وأقام النبي -صلى الله عليه وسلم- ينتظر أن يؤذن له ولم يتخلف معه من أصحابه إلا من حبس أو فتن إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة, وكان أبو بكر كثيرًا ما يستأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة فيقول له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا تعجل, لعل الله أن يجعل لك صاحبًا" فيطمع أبو بكر أن يكون إياه. وعن علي قال: جاء جبريل -عليه السلام- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: "من يهاجر معي؟ " فقال: أبو بكر وهو الصديق, خرجه ابن السمان في الموافقة. ذكر الغار وما جرى لأبي بكر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه وفي طريقه, وتقدم في الذكر قبله طرف منه: وعن أنس أن أبا بكر -رضي الله عنه- حدثهم قال: قلت للنبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن في الغار: لو أراد أحد منهم أن ينظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر, ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ " خرجه أبو حاتم. وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وقد ذكر عنده أبو بكر فبكى وقال: وددت لو أن عملي كله من عمله يومًا واحدًا من أيامه, وليلة من لياليه, أما الليلة فليلة سار مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الغار فلما انتهيا إليه قال: والله لا تدخله حتى أدخل قبلك, فإن كان فيه شيء أصابني دونك فدخله فكسحه فوجد في جوانبه ثقبًا فشق إزاره وسد بها تلك الثقب, وبقي منها اثنان فألقمهما رجله ثم قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: ادخل فدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوضع رأسه في حجره فنام, فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر, ولم يتحرك مخافة أن يستنبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسقطت دموعه على وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فانتبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما لك يا أبا بكر؟ " قال: لدغت فداك أبي وأمي, فتفل عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذهب ما يجده ثم انتفض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 عليه فكان سبب موته, فلما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ارتدت العرب وقالوا: لا نؤدي زكاة, فقال: لو منعوني عقالًا لجاهدتهم عليه, فقلت: يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تألف الناس وارفق بهم فقال: أجبار في الجاهلية, وخوار في الإسلام؟ إنه قد انقطع الوحي وتم الدين, ثم انتفض وأنا حي, خرجه النسائي. وخرج في الصفوة منه قصة الغار عن أنس وقال في آخره: فلما أصبح قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فأين ثوبك يا أبا بكر؟ " فأخبره بالذي صنع, فرفع النبي -صلى الله عليه وسلم- يديه وقال: "اللهم اجعل أبا بكر في درجتي يوم القيامة" فأوحى الله سبحانه إليه: "أن الله قد استجاب لك". وخرجه الحافظ أبو الحسن بن بشران والملاء في سيرته عن ميمون بن مهران عن ضبة بن محصن الغنوي قال: كان علينا أبو موسى أميرًا بالبصرة فكان إذا خطبنا حمد الله -عز وجل- وأثنى عليه وصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم بدأ يدعو لعمر قال: فأغاظني ذلك منه فقمت إليه فقلت له: أين أنت عن صاحبه, تفضله عليه؟! قال: فصنع ذلك ثلاث جمع ثم كتب إلى عمر يشكوني ويقول: إن ضبة بن محصن الغنوي يتعرض لي في خطبتي قال: فكتب إليه عمر أن أشخصه لي قال: فأشخصني إليه، فقدمت على عمر فدققت عليه فخرج إلي فقال: من أنت؟ فقلت: أنا ضبة بن محصن الغنوي قال: فلا مرحبًا ولا أهلًا قال: قلت: أما الرحب فمن الله -عز وجل- وأما الأهل فلا أهل ولا مال, فبِمَ استحللت يا عمر إشخاصي من مصري بلا ذنب أذنبته؟ قال: فما الذي شجر بينك وبين عاملك؟ قال: قلت: الآن أخبرك يا أمير المؤمنين: كان إذا خطبنا فحمد الله -عز وجل- وأثنى عليه وصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- بدأ يدعو لك, فأغاظني ذلك منه قال: فقمت إليه وقلت له: أين أنت عن صاحبه, تفضله عليه؟! فصنع ذلك ثلاث جمع, ثم كتب إليك يشكوني قال: فاندفع عمر باكيًا فجعلت أرثي له, ثم قال: أنت والله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 أوثق عنه وأرشد, فهل أنت غافر لي ذنبي يغفر الله لك ذنبك؟ قال: قلت: غفر الله لك يا أمير المؤمنين, ثم اندفع باكيًا وهو يقول: والله الليلة من أبي بكر خير من عمر, هل لك أن أحدثك بيومه وليلته؟ قال: قلت: نعم يا أمير المؤمنين قال: أما الليلة, فلما خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- هاربًا من أهل مكة خرج ليلًا, فتبعه أبو بكر فجعل يمشي مرة أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن يساره فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما هذا يا أبا بكر؟ ما أعرف هذا من فعلك؟ " قال: يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك, وأذكر الطلب فأكون خلفك, ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك لا آمن عليك, قال: فمشى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلته على أطراف أصابعه حتى حفيت رجلاه, فلما رأى أبو بكر أنها قد حفيت حمله على كاهله وجعل يشتد به حتى أتى به فم الغار فأنزله ثم قال: والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله قبلك, فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك, فدخل فلم ير فيه شيئًا فحمله, وكان في الغار خروق فيها حيات وأفاعٍ فخشي أبو بكر أن يخرج منها شيء يؤذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فألقمها قدمه فجعلن يضربنه ويلسعنه الحيات والأفاعي, وجعلت دموعه تتحادر ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول له: "يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا" فأنزل الله سكينته وهي طمأنينة لأبي بكر, فهذه ليلته. وأما يومه, فلما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكر مثل ما تقدم, وقال في آخره: ثم كتب إلى أبي موسى يلومه. خرجه الملاء في سيرته, وصاحب فضائله, وخرج الخجندي معناه وزاد بعد قوله: أذكر الرصد فأكون أمامك وأذكر الطلب فأكون خلفك إلى آخره: فقال: "يا أبا بكر لو كان شيء أحببت أن يكون بك؟ " قال: نعم والذي بعثك بالحق, ثم ذكر معنى ما بعده ثم قال بعد ذكر سد الجحرة: انزل يا رسول الله فنزل ثم قال عمر: والذي نفسي بيده, لتلك الليلة خير من آل عمر. "شرح" الغار: الكهف في الجبل والجمع: غيران, كسحه: كنسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 والمكسحة: المكنسة, طمأنينة هكذا قيد في الحديث, تقول: اطمأن الرجل اطمئنانًا وطمأنينة من غير همز عند إلحاق الهاء: إذا سكن قاله الجوهري, فتفل التفل: شبيه بالبزق وهو أقل منه, أوله البزق ثم التفل ثم النفث ثم النفخ تقول منه: تفل يتفل بضم الفاء وكسرها قاله الجوهري, الخوار: الضعيف من الخور بالتحريك يقال: رجل خوار وأرض خوارة ورمح خوار والجمع: خور, أشخصه من: شخص من بلد إلى بلد شخوصًا إذا ذهب وأشخصه غيره, مرحبًا من الرحب بالضم: السعة وفلان رحب الصدر أي: واسعه, وقولهم: مرحبًا وأهلًا أي: أتيت سعة وأتيت أهلًا فاستأنس ولا تستوحش, شجر بينك وبين عاملك أي: اختلف, واشتجر القوم وتشاجروا أي: تنازعوا والمشاجرة: المنازعة, الرصد بالتحريك: القوم يرصدون كالحرس, يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث, وربما قالوا في الجميع: أرصاد, وبالإسكان مصدر رصدت الشيء أرصده رصدًا ورصدًا أيضًا: إذا راقبته, حفيت رجله أي: رقت من كثرة المشي ويشبه أن يكون ذلك من خشونة الجبل وكان حافيًا, وإلا فلا يحتمل بعد الإمكان ذلك. ويؤيد ذلك ما روته عائشة قالت: قال لي أبو بكر: لو رأيتني ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ صعدنا الغار فأما قدما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقطرتا دمًا, وأما قدماي فعادتا كأنهما صفوان فقالت عائشة: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يتعود الحفية ولا الرعبة ولا الشقوة. خرجه في فضائله أو لعلهم ضلوا طريق الغار حتى بعدت المسافة, ويدل عليه وقوله: فمشى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلته ولا يحتمل ذلك مشي ليلة إلا بتقدير ذلك أو سلوك غير الطريق تعمية على الطلب, الكاهل: الحارك وهو ما بين الكتفين, قال صلى الله عليه وسلم: "تميم كاهل مضر وعليها المحمل" الأفاعي: جمع أفعى وهي الحية, تقول: هذه أفعًى بالتنوين وكذلك أروى قاله الجوهري, وفي قوله: انزل يا رسول الله دليل على أن باب الغار كان من أعلاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ويؤيده أن في حديث الخجندي أن أبا بكر لما دخل الغار وخرج حتى إذا كان في أعلاه ذكر أنه لم يستبرئ الجحرة فقال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الحجرة, فدخل فاستبرأها ثم قال: انزل يا رسول الله, وقول عمر: خير من آل عمر يعني نفسه, ومنه {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} أي: داود نفسه. وعن ابن عباس قال: لما كانت ليلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الغار قال لصاحبه أبي بكر: "أنائم أنت؟ " قال: لا وقد رأيت صنيعك وتقليك يا رسول الله, فما بالك بأبي أنت وأمي؟ قال: "جحر رأيته قد انهار فخشيت أن تخرج منه هامة تؤذيك أو تؤذيني" فقال أبو بكر: يا رسول الله فأين هو؟ فأخبر فسد الجحر وألقمه عقبه فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "رحمك الله من صديق صدقتني حين كذبني الناس، ونصرتني حين خذلني الناس، وآمنت بي حين كفر بي الناس، وآنستني في وحشتي, فأي منه لأحد عليّ كمثلك" خرجه في فضائله. "شرح" الهامة مخففا: من طير الليل وهو الصدي والجمع: هام قاله الجوهري, فلعله أراد ذلك لأنهم أتوا الغار ليلًا أو أراد دواب الأرض استعارة من ذلك. وعن جابر بن عبد الله أن أبا بكر الصديق لما ذهب مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الغار فدخل أبو بكر ثم قال: كما أنت يا رسول الله, فضرب برجله فأطار اليمام يعني الحمام الطوري وطاف فلم ير شيئًا فقال: ادخل يا رسول الله, فدخل فإذا في الغار جحر فألقمه أبو بكر عقبه مخافة أن يخرج على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيء, وغزل العنكبوت على الغار وذهب الطلب في كل مكان فمروا على الغار فأشفق أبو بكر منهم فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا تحزن إن الله معنا". وعن جندب بن عبد الله بن سفيان العلقي قال: لما انطلق أبو بكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الغار فأصاب يده شيء, فجعل يمسح الدم من أصبعه ويقول: هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت "شرح" في جندب لغتان: ضم الدال وفتحها, وسفيان جده نسب إليه, وجندب هذا نزل الكوفة فيمن نزلها من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم صار إلى البصرة ثم خرج عنها, والعلقي منسوب إلى علق فخذ من بجيلة, خرجه في فضائله. وعن أنس أن أبا بكر حدثه قال: قلت للنبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه؟ فقال: "يا أبا بكر, ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ " أخرجاه وأبو حاتم وغيرهم بطرق كثيرة, وفيه دلالة على ما تقدم من أن باب الغار كان من أعلاه. وعن أبي مصعب المكي قال: أدركت أنس بن مالك وزيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة وسمعتهم يتحدثون عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ليلة الغار, قال: فأمر الله -عز وجل- شجرة فنبتت في وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- فسترته وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار فأقبل فتيان من قريش, من كل بطن رجل, بعصيهم وهراواتهم وسيوفهم حتى إذا كانوا من النبي -صلى الله عليه وسلم- بقدر أربعين ذراعًا فجاء رجل منهم لينظر في الغار, فرأى الحمامتين بفم الغار فرجع إلى أصحابه فقالوا: ما لك لم تنظر في الغار؟ قال: رأيت حمامتين بفم الغار فعلمت أن ليس فيه أحد, فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- ما قال, فعرف أن الله درأ بهما فدعا لهن النبي -صلى الله عليه وسلم- وشمت عليهن وفرض جزاءهن وانحدرن في الحرم, خرجه في فضائله. "شرح" الهراوة: العصا الضخمة والجمع: الهراوَى بفتح الواو بزنة مطايا كما في الإداوة, وهروته بالهراوة وتهريته أي: ضربته بها, شمت عليهن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 أي: برك عليهن, ومنه الحديث: "شمتوا في الطعام" أي: إذا فرغتم فادعوا بالبركة لمن طعمتم عنده, ومنه تشميت العاطس. قال أبو عمر: واختلفوا في مكث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر في الغار؛ فيروى عن مجاهد ما روته عائشة في الحديث المتقدم في الباب قبله, فمكثا فيه ثلاث ليال وعليه جمهور المحدثين. وروي في حديث مرسل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مكثت مع صاحبي في الغار بضعة عشر يومًا ما لنا طعام إلا ثمر البرير -يعني ثمر الأراك" ولا يصح هذا وحمله على غار ثور غلط؛ فإنه كان طعامهم فيه ما تقدم ذكره وإنما كانت هذه القصة والله أعلم أيام كان صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على قبائل العرب يدعوهم إلى الله -عز وجل- ويروى أن ثمر البرير كان طعام النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه في سفر الهجرة. وعن سعد بن هشام قال: لما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى بهم فقام رجل فقال: يا رسول الله أحرق بطوننا التمر فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إني خرجت أنا وصاحبي هذا -يعني أبا بكر- ليس لنا طعام إلا حب البرير, فقدمنا على إخواننا الأنصار فواسونا في طعامهم وكان جل طعامهم التمر, وايم الله لو أجد لكم الخبز لأطعمتكموه". خرجه في فضائله وسعد بن هشام تابعي يروي عن الزهري وأنس وعائشة. وعن ابن عباس قال: كان أبو بكر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في الغار فعطش عطشًا شديدًا فشكا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "اذهب إلى صدر الغار فأشرب" قال أبو بكر: فانطلقت إلى صدر الغار فشربت ماء أحلى من العسل وأبيض من اللبن وأذكى رائحة من المسك, ثم عدت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "شربت؟ " قلت: نعم قال: "ألا أبشرك يا أبا بكر؟ " قلت: بلى يا رسول الله, قال: "إن الله تبارك وتعالى أمر الملك الموكل بأنهار الجنة أن يخرق نهرًا من جنة الفردوس إلى صدر الغار ليشرب أبو بكر" فقلت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 يا رسول الله ولي عند الله هذه المنزلة؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "نعم وأفضل, والذي بعثني بالحق نبيًّا لا يدخل الجنة مبغضك ولو كان له عمل سبعين نبيًّا" خرجه الملاء في سيرته. ذكر توجههما طالبين المدينة, وما جرى لهما في الطريق, ومقدمهما المدينة وما تعلق بذلك: عن البراء بن عازب قال: اشترى أبو بكر من عازب رحلًا بثلاثة عشر درهمًا فقال أبو بكر لعازب: مر البراء فليحمله إلى أهلي فقال عازب: لا حتى تحدثني كيف صنعت أنت ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين خرجتما من مكة والمشركون يطلبونكما؟ فقال: ارتحلنا من مكة فأحيينا ليلتنا حتى إذا أظهرنا وقام قائم الظهيرة رميت ببصري هل أرى ظلا نأوي إليه, فإذا أنا بصخرة فانتهيت إليها فإذا بقية ظلها فسويته ثم فرشت للنبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قلت: اضطجع يا رسول الله, فاضطجع ثم ذهبت أنظر هل أرى من الطلب أحدًا؟ فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة يريد منها مثل الذي نريد -يعني الظل- فسألته فقلت: لمن أنت يا غلام؟ فقال: الغلام لفلان رجل من قريش فعرفته فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم فقلت: هل أنت حالب لي؟ قال: نعم, فأمرته فاعتقل شاة من غنمه وأمرته أن ينفض عنها من الغبار ثم أمرته أن ينفض كفيه فقال هكذا فضرب إحدى يديه على الأخرى فحلب لي كثبة من لبن وقد رويت ومعي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إداوة على فمها خرقة, فصببت على اللبن حتى برد أسفله فانتهيت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوافيته قد استيقظ, فقلت: اشرب يا رسول الله فشرب فقلت: قد آن الرحيل يا رسول الله, فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن جعثم على فرس له فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله فبكيت فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا تحزن إن الله معنا"، فلما دنا منا وكان بيننا وبينه قدر رمحين أو ثلاثة قلت: هذا الطلب يا رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وبكيت فقال: "ما يبكيك؟ " قلت: ما والله على نفسي أبكي, ولكن أبكي عليك, فدعا عليه1 رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم اكفناه بما شئت" قال: فساخت فرسه في الأرض إلى بطنها فوثب عنها ثم قال: يا محمد, قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه, فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب وهذه كنانتي فخذ منها سهمًا, فإنك ستمر على إبلي وغنمي في مكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا حاجة لنا في إبلك" ودعا له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فانطلق راجعًا إلى أصحابه, ومضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أتينا المدينة ليلًا, فتنازعه القوم أيهم ينزل عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إني أنزل الليلة على بني النجار أخوال بني عبد المطلب, أكرمهم بذلك" فخرج الناس حين قدمنا المدينة في الطريق وعلى البيوت من الغلمان والخدم يقولون: جاء محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما أصبح انطلق, فنزل حيث أمر. قال البراء: وكان أول من قدم علينا من المهاجرين مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار بن قصي فقلنا له: ما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو في مكانه وأصحابه على أثري, ثم أتى بعده2 عمر ابن أم مكتوم الأعمى أخو بني فهر فقلنا: ما فعل من وراءك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه؟ قال: هم الآن على أثري, ثم أتى بعده عمار بن ياسر وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وبلال, ثم أتانا عمر بن الخطاب في عشرين راكبًا, ثم أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدهم وأبو بكر معه. قال البراء: فلم يقدم علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى قرأ عشرًا من المفصل, ثم خرجنا تلقاء العير فوجدناهم قد حذروا. أخرجه بتمامه أبو حاتم وأخرج الشيخان وغيرهما من حديث الهجرة إلى بلوغ المدينة.   1 على الطلب. 2 المعروف أنه عبد الله ابن أم مكتوم، وأم مكتوم أم أبيه، وأبوه شريح بن مالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وفي رواية مكان ساخت فرسه فارتطم فرسه إلى بطنه فقال: قد أعلم أنكما قد دعوتما علي فادعوا لي ولكما أن أرد عنكما الناس ولا أضركما قال فدعوا له فخرجت به الفرس فرجع فوفى للنبي -صلى الله عليه وسلم- وجعل يرد الناس. وقد ذكر ابن إسحاق أن أول من هاجر إلى المدينة أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي هاجر إليها قبل بيعة العقبة حين آذته قريش عند مقدمه من الحبشة فبلغه إسلام من أسلم من الأنصار فخرج إليهم مهاجرًا ثم هاجر بعده عامر بن ربيعة حليف بني كعب بن عدي وامرأته ليلى بنت أبي حيثمة ثم عبد الله بن جحش احتمل بأهله وأخيه عبد الرحمن بن جحش وهو أبو أحمد وكان أبو أحمد رجلًا ضرير البصر وكان يطوف مكة أعلاها وأسفها بغير قائد وكان شاعرًا ثم قدم المهاجرون أرسالًا ولا تضاد بينه وبين ما تقدم فيكون أول من قدمها مطلقًا أبو سلمة وأول من هاجر بعد بيعة الأنصار مصعب بن عمير كما تقدم وأما من ذكره ابن إسحاق بعد أبي سلمة فجائز أن يكون أيضًا قبل العقبة كأبي سلمة وجاز أن يكون بعدها بعد مصعب بن عمير ولم يبلغ ابن إسحاق مهاجر مصعب قبله والله أعلم. "شرح" أظهرنا أي دخلنا في الظهيرة وقائم الظهيرة عبارة عن اشتدادها وكذلك حر الظهيرة. وقوله -هل أنت حالب لي- قال نعم هذا محمول على أنه عرف مالكها وعلم أنه يرضى بتصرفه لصداقة بينهما أو على أن قوله هل أنت حالب لي أراد به هل أذن لك في ذلك أو على أن ذلك مستفاض بين العرب لا يرون بأسًا على محتاج يتناول من لبن ماشيتهم ويبيحون ذلك لرعيانهم أو على إباحة ذلك لمضطر لا يجد غير مال الغير وقد يكون الحال كذلك على أن بعض العلماء لم يشترط الضرورة وأباح ذلك للمسافر وإن لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 يكن مضطرًا واستدل بحديث أبي سعيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال إذا مر أحدكم بإبل فأراد أن يشرب فليناد يا راعي الإبل فإن أجابه وإلا فليشرب أو على استباحة أموال المشركين على أنه قد روي ما يضاد هذا الحديث في الظاهر. عن زر عن عبد الله بن مسعود قال كنت غلامًا يافعًا في غنم لعقبة بن أبي معيط أرعاها فأتى علي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر فقال: يا غلام هل معك من لبن قلت نعم ولكني مؤتمن قال فقال: ائتني بشاة لم ينز عليها الفحل فأتيته بعناق فاعتزلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم جعل يمسح الضرع ويدعو حتى أنزلت فأتاه أبو بكر بشيء فاحتلب فيه ثم قال: لأبي بكر اشرب فشرب أبو بكر ثم شرب النبي -صلى الله عليه وسلم- بعده ثم قال: للضرع اقلص فقلص فعاد كما كان قال ثم أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت يا رسول الله علمني من هذا الكلام أو من هذا القرآن فمسح رأسي وقال إنك غلام معلم فلقد أخذت من فيه سبعين سورة ما نازعني فيها بشر: أخرجه أبو حاتم ابن حبان. وفي رواية أرعى غنمًا لعقبة بن أبي معيط بمكة فأتى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وقد فرا من المشركين فقالا: "يا غلام عندك من لبن تسقينا قلت إني مؤتمن ولست بساقيكما فقال: اهل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل بعد؟ قلت نعم وأتيتهما بها فاعتقلها أبو بكر وأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الضرع ودعا فحفل الضرع وأتاه أبو بكر بصخرة منقعرة فحلب فيها ثم شرب هو وأبو بكر ثم سقياني ثم قال: للضرع اقلص فقلص. وفي رواية قال يا غليم مكان يا غلام ثم ذكر معنى ما بعده وقال فأتيته بشاة شطور لم ينز عليها الفحل والشطور الذي ليس لها إلا ضرع واحد فمسح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكان الضرع وما لها ضرع فإذا ضرع حافل مملوء لبنًا فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- بصخرة منقعرة فاحتلب ثم سقى أبا بكر وسقاني ثم قال: للضرع اقلص فرجع كما كان فأنا رأيت هذا من رسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 الله -صلى الله عليه وسلم- قلت يا رسول الله علمني فمسح رأسي وقال: "بارك الله فيك فإنك غلام معلم" فأسلمت فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فبينما نحن عنده على حراء إذا نزلت عليه {وَالْمُرْسَلات} أخرجه الطبراني في معجمه وخرج منه الغساني في معجمه قوله كنت أرعى غنمًا لعقبة بن أبي معيط فمر بي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا غلام هل من لبن" فقلت نعم ولكني مؤتمن. والظاهر أن هذه قضية غير تلك اتفقت لهما في بعض أسفارهما قبل الهجرة ألا ترى إلى اختلاف قول الراعيين واختلاف الحالبين واختلاف ما حلبا فيه؟ ويؤيد ذلك قوله بعد إسلامه وإتيانه إليه فبينما نحن عنده على حراء وأنه نزلت عليه سورة {وَالْمُرْسَلات} هذا فيه أبين البيان بأن ذلك قبل الهجرة فإنه بعد الهجرة لم يأت مكة إتيانًا يتمكن فيه من إتيان حراء وسورة المرسلات مما نزل بمكة قبل الهجرة وقوله في هذا الحديث يافعًا أي مرتفعًا من اليفاع وهو ما ارتفع من الأرض وأيفع الغلام أي ارتفع فهو يافع ولا يقال موفع وهو من النادر قاله الجوهري وذكر الفراء في حدوده أنه يقال يفع الغلام وحكاه ثابت عن أبي عبيدة في خلق الإنسان وقوله فيه لم ينز عليها الفحل أي لم تضرب ولم يواقعها الفحل تقول نزا نزاء بالكسر يقال ذلك في الحافر والظلف والسباع ونزاه غيره ونزاه وأما النزا بالضم فهو داء يأخذ الشاة فتنزوي منه حتى تموت حفل الضرع جمع والتحفيل التصرية صخرة منقعرة أي ذات قعر من التقعير والتعمق ورأيتها في الحديث مقيدة بالنون ولا معنى له هنا فإن المنقعر المنقلع ومنه أعجاز نخل منقعر قلص ارتفع والشطور قد فسرها في الحديث وقوله فمسح -صلى الله عليه وسلم- مكان الضرع وما لها ضرع بعد قوله لها ضرع واحد يريد به والله أعلم مكان الضرع الآخر وما لها فيه ضرع وإلا تضاد أول الحديث وآخره فقد تضمن هذا الحديث أن سورة المرسلات نزلت بحراء وسورة المرسلات مما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 نزلت بمكة قبل الهجرة وقد جاء في المتفق عليه من الصحيحين عن عبد الله قال بينا نحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غار بمنى إذا نزلت عليه والمرسلات وإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه وعن فاه لرطب بها إذ وثبت علينا حية فقال: رسول الله صلى الله عيه وسلم اقتلوها فابتدرناها لنقتلها فسقتنا فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقيت شركم ووقيتم شرها. الحديث وآخره فقد تضمن هذا الحديث أن سورة المرسلات نزلت بحراء وسورة المرسلات مما نزلت بمكة قبل الهجرة وقد جاء في المتفق عليه من الصحيحين عن عبد الله قال بينا نحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غار بمنى إذا نزلت عليه والمرسلات وإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه وعن فاه لرطب بها إذ وثبت علينا حية فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "اقتلوها" فابتدرناها لنقتلها فسقتنا فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "وقيت شركم ووقيتم شرها". وقوله بمنى للبخاري دون مسلم وهذا أصح وأثبت: وقوله في حديث البراء فاعتقل شاة وهو أن يضع رجليها بين فخذه وساقه ليحلبها واعتقل رمحه إذا جعله بين ساقه وركابه وكأنه جعل له ذلك عقالًا وفي أمره بنفض الضرع ونفض اليد وفرشه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتسويته الأرض دليل على التوسعة في مثل هذه الرفاهية ونحوها الكثبة من اللبن قدر حلبة الأداوة المطهرة والجمع أداوى. وقوله فصببت على اللبن حتى برد أسفله يجوز أن يريد أنه صب على ظاهر الإناء فبرد أسفله لاستقرار الماء في أسفله وإلا فكان يبرد كله لو صب فيه نفسه وعلى هذا دل بعض ألفاظ الحديث ويجوز أن يكون صب على اللبن نفسه وإنما خص أسفله بالبرد لأن الماء يغوص في اللبن فيلابس أسفله منه لما لا يلابس أعلاه فيكثر البرد في أسفله ويترجح هذا باقتضاء الحال فإنها حالة جوع وحاجة إلى شربه وصب الماء فيه نفسه أسرع لتسكين حرارته وبرده الطب جمع طالب فساخت أي دخلت فيها تقول ساخ يسوخ ويسيخ وارتطمت بمعناه تقول رطمته فارتطم أي أدخلته في أمر لا مخرج له منه لا عمين أي لألبسن وعمي عليهم الأمر التبس -الكنانة- التي تجمع فيها السهام -العير- بالكسر الإبل تحمل الميرة ويجوز أن يجمع على عيرات فتنازعوا أي قبائل الأنصار بني النجار أخوال عبد المطلب كان هاشم تزوج امرأة من بني النجار فولدت عبد المطلب فلذلك كانوا أخواله واسم المرأة سلمة بنت زيد بن خراش بن أمية بن أسد بن عامر بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 غنم بن عدي بن النجار ويسمى زيد مناة وعن الزهري أنها سلمى بنت عمرو بن زيد وفي هذا الحديث أن ارتحالهم كان من مكة أنهم أحيوا ليلتهم بالسرى ولم يتضمن ذكر الغار كما تقدم. وقد جاء في الصحيح أن أبا بكر قال ارتحلنا من الغار والقوم يطلبوننا فلم يدركنا منهم أحد غير سراقة بن مالك على فرس له وذكر الحديث ولا تضاد بينهما وكان ارتحالهم المتصل بإحياء الليلة من الغار وأطلق عليه ارتحالًا من مكة لأن الغار في ثور كما تقدم وهو جبل في الحرم قريب من مكة فأطلق على الارتحال منه ارتحال من مكة لقربه أو لكونه من الحرم ومنه أن الله حرم مكة والمراد الحرم. وعن حبيش بن خالد صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين خرج من مكة خرج منها مهاجرًا إلى المدينة هو وأبو بكر ومولى لهم عامر بن فهيرة ودليلهما الليث بن عبد الله بن الأريقط مروا على خيمتي أم معبد الخزاعية وكانت برزة جلدة تختبئ بفناء القبة ثم تسقي وتطعم فسألوها تمرًا ولحمًا يشترونه منها فلم يصيبوا عندها من ذلك شيئًا وكان القوم مرملين مسنتين فنظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى شاة في كسر الخيمة فقال: "ما هذه الشاة يا أم معبد" قالت خلفها الجهد عن الغنم قال: "هل بها من لبن؟ " قالت هي أجهد من ذلك قال: "أتأذنين لي أن أحلبها؟ " قالت نعم بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبًا فاحلبها فدعا بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمسح بيده ضرعها وسمى الله ودعا لها في شاتها فتفاجت عليه ودرت ودعا بإناء يربض الرهط فحلب ثجًا حتى علاه إليها ثم سقاها حتى رويت ثم سقى أصحابه حتى رووا ثم شرب آخرهم ثم حلب ثانيًا بعد بدء حتى ملأ الإناء ثم غادره عندها وبايعها وارتحلوا يعني عنها فقل ما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزًا عجافًا تساوكن هزلًا مخهن قليل. فلما رأى أبو معبد اللبن عجب وقال من أين لك هذا يا أم معبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 والشاة عازب حيال ولا حلوب في البيت؟ قالت لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا قال صفيه لي يا أم معبد قالت رجل ظاهر الوضاءة أبلج الوجه حسن الخلق لم تعبه ثجلة ولم تزر به صعلة وسيم قسيم في عينيه دعج وفي أشفاره وطف وفي وصوته صحل وفي عنقه سطع وفي لحيته كثاثة أزج أقرن إن صمت فعليه الوقار وإن تكلم سما وعلاه البهاء أجمل الناس وأبهاه من بعيد وأحسنه وأحلاه من قريب حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن ربعة لا بائن من طول ولا تقتحمه عين من قصر غصن بين غصنين فهو أنضر الثلاثة منظرًا وأحسنهم قدرًا له رفقاء يحفون به إن قال أنصتوا لقوله وإن أمر تبادروا لأمره محفود محشود لا عابس ولا مفند قال أبو معبد فهذا والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن عن وجدت لذلك سبيلًا وأصبح صوت بمكة عال يسمعون الصوت ولا يدرون من صاحبه وهو يقول: جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد هما نزلاها بالهدى فاهتديا به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد فيا قصي ما زوى الله عنكم ... به من فعال أو فجار وسؤدد ليهن بنو كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنك إن تسألوا الشاة تشهد دعاها بشاة حائل فتحلبت ... عليها صريحًا ضرة الشاة مزيد فغادرها رهنًا لديها كحالب ... يرددها في مصدر ثم مورد خرجه الحافظ أبو القاسم في الأربعين الطوال. "شرح" -مرملين- أين نفذت أزوادهم مسنتين أي دخلوا في السنة ويروى مشتين أي دخلوها في الشتاء وكسر الخيمة -جانبها- وتفاجت -فتحت ما بين رجليها- ويربض الرهط أي يرويهم حتى يثقلوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 فيربضوا -والثج- السيلان- والبها بهاء اللبن وهو وبيص رغوته وتساوكن هزلًا أي تمايلن ويروى تشاركون من المشاركة أي تساوين في الهزال وغادره أبقاء والشاة عازب أي بعيد في الرعي والأبلج المشرق الوجه المضيئة والحيال جمع حائل وهي التي لم تحمل والوضاءة الحسن والثجلة عظم البطن والصعلة صغر الرأس ويروى ثجلة بالضم وهي الضمرة والدقة وصقلة الخاصرة يعني أنه غير طويل الخاصرة والوسيم الحسن وكذلك القسيم والدعج السواد في العين والوطف الطول والصحل البحة والسطع الطول والكثاثة كثرة الشعر والأزج الرقيق طرف الحاجبين والأقرن المقرون الحاجبين بخلاف ما في حديث غيره والنزر القليل والهذر الكثير من الكلام فكلامه وسط وتقتحمه تحتقره يعني أنه بين الطويل والقصير والمحفود المخدوم والمحشود الذي عنده حشد وهو الجماعة والعابس من عبوس الوجه والمفند الذي يكثر اللوم وهو التفنيد ويروى معتد من العداء وهو الظلم والصريح الخالص والضرة لحمة الضرع وفي رواية فتحلبت له بصريح وهو الصواب وغادرها أي خلف الشاة عندها مرتهنة بأن تدر والله أعلم. وعن عبد الرحمن بن عويمر بن ساعدة قال حدثني رجال من قومي من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لما سمعنا بمخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة وتوكفنا قدومه كنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظهر حرتنا ننتظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوالله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظل فإذا لم نجد ظلًا دخلنا وذلك في أيام حارة حتى إذا كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جلسنا كما كنا نجلس حتى إذا لم يبق ظل دخلنا بيوتنا فقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين دخلنا البيوت فكان أول من رآه رجل من اليهود وقد رأى ما كنا نصنع وإنا ننتظر قدوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصرخ بأعلى صوته يا بني قيلة هذا جدكم قد جاء فخرجنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في ظل نخلة ومعه أبو بكر وأكثرنا لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 يكن رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل ذلك وركبه الناس وما يعرفونه من أبي بكر حتى إذا زال الظل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقام أبو بكر فأظله بردائه فعرفناه عند ذلك خرجه ابن إسحاق بهذا السياق ومعناه عند الشيخين. "شرح" -قيلة- هذه هي أم الأوس والخزرج وهما جماعة الأنصار أمهما قيلة بنت كامل ابن عذرة بن سعد بن هزيم من قضاعة بها يعرفون جدكم أي حظكم وغناكم من الجد الحظ ركبه الناس أي ازدحموا عليه حتى كادوا يركبونه. عن أنس قال: أقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة وأبو بكر شيخ يعرف والنبي -صلى الله عليه وسلم- شاب لا يعرف فيلقى الرجل أبا بكر فيقول يا أبا بكر من هذا الذي بين يديك فيقول يهديني السبيل فيحسب الحاسب أنه يهديه الطريق وإنما يعني سبيل الخير فالتفت أبو بكر فإذا هو بفارس قد لحق بهم فقال: يا رسول الله هذا فارس قد لحق بنا فالتفت النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "اللهم اصرعه" فصرعه فرسه ثم قامت تحمحم فقال: يا نبي الله مرني بما شئت فقال: "قف مكانك لا تتركن أحدًا يلحق بنا" فقال: فكان أول النهار جاهدًا على نبي الله -صلى الله عليه وسلم- وكان آخر النهار مسلحة له فنزل النبي -صلى الله عليه وسلم- جانب الحرة ثم بعث إلى الأنصار فجاءوا إلى نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فسلموا عليهما وقالوا اركبا آمنين مطاعين فركب نبي الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وحفوا دونهما بالسلاح فقيل بالمدينة جاء نبي الله فأقبل يسير حتى نزل جانب دار أبي أيوب فقال: النبي -صلى الله عليه وسلم- "أي بيوت أهلها" أقرب قال: أبو أيوب يا نبي الله هذه داري وهذا بابي قال: فانطلق فهيأ لنا مقيلًا قال: قومًا على بركة الله خرجه البخاري. "شرح" ظاهر قوله وأبو بكر شيخ يعرف يدل على أنه كان أسن من النبي -صلى الله عليه وسلم- والمعروف عند أهل الخبر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أسن منه بمدة خلافته وسيأتي بيان ذلك إن شاء تعالى أو لعله يريد بشيخ يعرف أي كبير في قومه رئيس معهم معروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وقد جاء في بعض طرق هذا الحديث عن أنس ارتدف النبي -صلى الله عليه وسلم- خلف أبي بكر فكان إذا مر بالملأ من قريش قالوا يا أبا بكر من هذا الرجل معك؟ فيقول هذا رجل يهديني السبيل خرجه الحلواني على شرط الصحيح. وفي بعضها إن أبا بكر كان رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان أعرف بذلك الطريق فيراه الرجل يعرفه فيقول يا أبا بكر من هذا الغلام بين يديك فيقول هذا يهديني السبيل حديث صحيح وأكثر الروايات على أنه كان رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي بعضها قالوا من هذا يا أبا بكر الذي تعظمه هذا الإعظام؟ قال: هذا يهديني الطريق وهو أعرف به مني. وقد جاء أن أبا بكر كان مردفًا عامر بن فهيرة مولاه يخدمهم فكانوا أربعة بالدليل ولا تضاد بينهما إذ قد يكون ارتدف خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- وارتدف النبي -صلى الله عليه وسلم- خلفه في بعض الطريق لعارض اقتضى ذلك والله أعلم. وعن أنس قال: إني لأسعى في الغلمان تقول جاء محمد فأسعى فلا أرى شيئًا حتى جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه أبو بكر الصديق فكمنا في بعض خراب المدينة ثم بعثا رجلًا من أهل البادية ليؤذن الأنصار فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الأنصار حتى انتهوا إليهما فقالت الأنصار انطلقوا آمنين مطاعين فأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه بين أظهرهم فخرج أهل المدينة حتى إن العواتق لفوق البيوت يتراءين يقلن أيهم هو أيهم هو قال: فما رأينا منظرًا شبيهًا بيومئذ. قال: أنس فلقد رأيته يوم دخل علينا ويوم قبض فلم أر يومين شبيهًا بهما أخرجه في فضائله وقال: صحيح. وفي رواية أنهم نزلوا بالحرة وأرسلوا إلى الأنصار فجاءوا فقال: وا قومًا آمنين مطاعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 قال: أنس فوالله ما رأيت يومًا أضوأ ولا أنور ولا أحسن من يوم دخل علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا رأيت يومًا أظلم ولا أقبح من يوم مات فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخرجهما في فضائله. "شرح" -كمنا: أي اختفيا ومنه الكمين في الحرب زهاء خمسمائة أي قدرها وعن بريدة بن الحصيب الأسلمي قال: لما أقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مهاجره لقي ركبًا فقال: "يا أبا بكر سل القوم من هم" فسألهم فقالوا: من بني سهم فقال: "رمى بسهمك يا أبا بكر" حديث حسن. وعن عروة بن الزبير أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما قدم المدينة تلقاه المسلمون بظهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عامر بن عوف وذلك يوم الاثنين في شهر ربيع الأول فقام أبو بكر للناس وجلس النبي -صلى الله عليه وسلم- صامتًا فطفق من جاء من الأنصار من لم ير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجيء أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأقبل أبو بكر حتى ظلل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بردائه فعرف الناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك خرجه البخاري. وعن ابن الفضل ابن الحباب الجمحي قال: سمعت ابن عائشة يقول أراه عن أبيه قال: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة جعل الصبيان والنساء والولائد يقولون: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع خرجه الحلواني على شرط الشيخين. قال: ابن إسحاق: نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يذكرون على كلثوم بن هدم أخي عمرو بن عوف ويقال: بل على سعد بن خيثمة لأنه كان عزبًا لا أهل له ونزل أبو بكر على حبيب بن عساف أخي بني الحارث بن الخزرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 بالسنح ويقال: على خارجة بن زيد أخي بني الحارث بن الخزرج قال: فأقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بني عمرو بن عوف يوم الاثنين والثلاث والأربع والخميس ثم خرج عنهم يوم الجمعة فأدركته الصلاة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي فهي أول جمعة صليت بالمدينة ثم لم يزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمر بأحياء الأنصار حي بعد حي وكلما مر على حي قاموا إليه فقالوا: يا رسول الله أقم عندنا العدد والعدة والمنعة وهو يقول خلوا سبيلها يعني الناقة فإنها مأمورة. حتى إذا أتت بني مالك بن النجار بركت على باب مسجده -صلى الله عليه وسلم- وهو يومئذ مربد1 لغلامين يتيمين من بني النجار ثم من بني مالك. فلما بركت الناقة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم ينزل عنها وثبت وسارت غير بعيد ورسول الله صلى الله ليه وسلم واضع لها زمامها لا يثنيها به ثم التفتت خلفها فرجعت على مبركها أول مرة فبركت فيه ثم تحلحلت ورزمت ووضعت جرانها فنزل عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واحتمل أبو أيوب رحله فوضعه في بيته ثم سأل عن المربد واتخذ المسجد مكانه وكان من أمره ما كان -صلى الله عليه وسلم- وهذا سياق ابن إسحاق ومعناه عند البخاري بتغير بعض اللفظ وتقديم وتأخير. "شرح" -تحلحلت: أي تحركت ورزمت أي صوتت من حلقها من غير أن تفتح فاها من الرزمة بالتحريك وهو الصوت كذلك والحنين أشد منه أو لعل معناه ثبتت من الرزام البعير الثابت على الأرض لا يقوم من الهزال فاستعير لثبوتها بذلك المكان والجران العنق من المذبح إلى المنحر والجمع جرن.   1 جرن: كان يجفف به التمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الفصل التاسع: في خصائصه وقد تقدم منها طرف جيد في أبواب الأعداد خاصة في باب الشيخين، وتقدم منها أنه أول من أسلم على الاختلاف فيه، وأول من أظهر إسلامه وأنه لم يتردد ولم يتلعثم حين عرض عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- تقدمًا في فضل إسلامه واختصاصه بالصديقية، وقد تقدم الكلام فيها في فصل أسمه وأنه أول خطيب دعا إلى الله تعالى في فضل إسلام أمه، وأنه أول من تنشق عنه الأرض بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-. تقدم في باب مناقب الشيخين وأنه لم يجتمع لأحد من المهاجرين إسلامه أبويه غيره، تقدم فيه أيضًا من حديث علي واختصاصه بصحبته في الهدجرة وخدمته له فيها، تقدم في باب هجرته واختصاصه براجحيته بالأمة في باب مادون العشرة، واختصاصه براجحيته بالأمة في باب الثلاثة، وأنه لم يسوء النبي -صلى الله عليه وسلم- قط، تقدم في باب ما دون العشرة. ذكر اخصاصه بأنه لم يكذب النبي -صلى الله عليه وسلم- قط: عن ابن عباس قال: جاء أبو بكر وعلي يزروان النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعد وفاته بستة أيام، فقال علي لأبي بكر: تقدم يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال أبو بكر مال كنت لأتقدم رجلا سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "علي مني كمنزلتي من ربي"، فقال علي: ما كنت لأتدم رجلا سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما منكم من أحد إلا وقد كذبني غير أبي بكر، وما منكم من أحد يصبح إلا على بابه ظلمة إلا بالب أبي بكر"، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوله؟ قال نعم، فأخذ أبو بكر بيد علي، ودخلا جميعًا، خرجه ابن السمان في الموافقة ولعله1 علي باب قلبه والله أعلم وهو المراد.   1 ولعل اللفظ في الحديث السابق: يعني على بابه ظلمه "على باب قلبه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ذكر اختصاصه بمؤانسته له -صلى الله عليه وسلم- في الغار: وبما كان من شفقته عليه فيه وفي طريقه وإيثاره إياه التنزيل: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} وقد تقدمت أحاديث هذا الذكر في ذكر الغار مستوفاة: وعن ربيعة الأسلمي قال: كان بيني وبين أبي بكر كلام فقال: لي أبو بكر كلمة كرهتها وندم فقال: يا ربيعة رد علي مثلها حتى يكون قصاصًا قال: قلت لا أفعل فقال: أبو بكر لتقولن أو لأستعدين عليك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت ما أنا بفاعل قال: فرفض الأرض وانطلق إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وانطلقت تلوه فجاء ناس من أسلم فقالوا: يرحم الله أبا بكر في أي شيء يستعدي عليك وهو الذي قال: لك ما قال: قلت أتدرون ما هذا هذا أبو بكر هذا ثاني اثنين إذ هما في الغار إياكم لا يلتفت فيراكم تنصرونني عليه فيغضب فيأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيغضب لغضبه فيغضب الله -عز وجل- لغضبهما فتهلك ربيعة قالوا ما تأمرنا؟ قال: ارجعوا قال: فانطلق أبو بكر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وتبعته وحدي حتى أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحدثه الحديث كما كان فرفع إلي رأسه فقال: يا ربيعة ما لك وللصديق قلت يا رسول الله كان كذا وكذا قال: لي كلمة كرهتها فقال: لي قل كما قلت حتى يكون قصاصًا فأبيت فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "فلا ترد عليه ولكن قل له غفر الله لك يا أبا بكر" فقلت غفر الله لك يا أبا بكر قال: الحسن فولى أبو بكر وهو يبكي خرجه أحمد. "شرح" -رفض الأرض برجله ضربها بها- تلوه- أي أتلوه وأتبعه. وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وقد قال: في مجلسه رجل ما كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من موطن إلا وعلي معه فيه فقال: القاسم يا أخي لا تحلف قال: هلم قال: بلى ما لا ترده قال: الله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 الْغَارِ} خرجه أبو عمر. "شرح" -هلم- بمعنى هات ما عندك استعارة من هلم بمعنى تعال قال: الجوهري بفتح الميم وقال: الخليل أصله من قولهم لم الله شعثك أي جمعه كأنه أراد لم نفسك إلينا وها للتنبيه وحذفت الألف لكثرة الاستعمال وجعل اسمه واحدًا يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث في لغة أهل الحجاز قال: تعالى: {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} وأهل نجد يصرفونها فيقولون للاثنين هلما وللجمع هلموا وللمرأة هلمي وللنساء هلممن والأول أفصح. ذكر اختصاصه بالسبق بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم: عن ابن عباس قال: قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "اليوم الرهان وغدًا السباق والغاية الجنة والهالك من يدخل النار أنا الأول وأبو بكر المصلي وعمر التالي والناس بعد على السنن الأول فالأول" أخرجه المهتدي بالله في مشيخته وقد تقدم في باب الشيخين. ذكر اختصاصه بإثبات أهلية الخلة له ولولا أنه -صلى الله عليه وسلم- خليل الرحمن لاتخذه خليلًا: عن جندب قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يموت بخمس وهو يقول "إني أبرأ إلى الله -وعز وجل- أن يكون لي منكم خليل فإن الله -وعز وجل- قد اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا" تفرد به مسلم. ذكر أحاديث تدل على ثبوت الخلة له وهي أعظم الخصائص: عن أبي أمامة قال: قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا وإنه لم يكن نبي إلا له في أمته خليل ألا وإن خليلي أبو بكر" أخرجه الواحدي في تفسيره الوسيط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 ذكر تخصيصه بالأخوة والصحبة: عن ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا ولكن أخي وصاحبي وقد اتخذ الله صاحبكم خليلًا" خرجه مسلم وأبو حاتم. وعن ابن عباس قال: قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا ولكن أخي وصاحبي" خرجه البخاري. وفي رواية لو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذته خليلًا ولكن أخوة الإسلام أفضل خرجه البخاري. وسيأتي في ذكر حديث أمن الناس علي أبو بكر طرف منه وأخرجه الحافظ أبو الحسن علي ابن عمر الحرلي السكري من حديث أبي بن كعب بزيادة ولفظه عن أبي بن كعب أنه قال: إن أحدث عهدي بنبيكم -صلى الله عليه وسلم- قبل وفاته بخمس ليال دخلت عليه وهو يقلب يديه وهو يقول إنه لم يكن نبي إلا وقد اتخذ من أمته خليلًا وإن خليلي من أمتي أبو بكر بن أبي قحافة ألا وإن الله قد اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا والأحاديث النافية لاتخاذ الخلة أثبت وأصح وإن صحت هذه الرواية فيكون قد أذن الله له عند تبريه من خلة غير الله مع تشوقه لخلة أبي بكر لولا خلة الله في اتخاذه خليلًا مراعاة لجنوحه إليه وتعظيمًا لشأن أبي بكر ولا يكون ذلك انصرافًا عن خلة الله جل وعلا بل الخلتان ثابتتان كما تضمنه الحديث تشريف للمصطفى -صلى الله عليه وسلم- والأخرى تشريف لأبي بكر. ذكر اختصاصه باستثناء بابه من سد الأبواب الشارعة في المسجد: عن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بسد الشوارع في المسجد إلا باب أبي بكر خرجه الترمذي وأبو حاتم وأخرجه ابن إسحاق وزاد في آخره فإني لا أعلم رجلًا كان أفضل في الصحبة يدًا منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وعن جبير بن نفير أن أبوابًا كانت مفتحة في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمر بها فسدت غير باب أبي بكر فقالوا: سد أبوابنا غير باب خليله وبلغه ذلك فقام فيهم فقال: أتقولون سد أبوابنا وترك باب خليله ولولا كان لي منكم خليل كان هو خليلي ولكن خليلي الله فهلا أنتم تاركون لي صاحبي؟ فقد واساني بنفسه وماله وقال: لي صدق وقلتم كذب خرجه في فضائله وهو مرسل وسيأتي في الذكر بعده طرف منه. ذكر اختصاصه بقوله -صلى الله عليه وسلم- في حقه أنه أمن الناس عليه في صحبته وماله فيه طرف من الذكر قبله: عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا ولكن أخوة الإسلام لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر". أخرجاه وأحمد والترمذي وأبو حاتم. وعن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج في مرضه الذي مات فيه عاصبًا رأسه فجلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إنه ليس من الناس أحد أمن علي بنفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة ولو كنت متخذًا من الناس خليلًا لاتخذت أبا بكر لكن خلة الإسلام سدوا عني كل خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر". خرجه أحمد والبخاري وأبو حاتم واللفظ له وقال: في قوله سدوا عني كل خوخة إلى آخره دليل على حسم أطماع الناس كلهم من الخلافة إلا أبا بكر قلت وهذا القول وحده لا ينهض في الدلالة وإنما بانضمام القرائن الخالية إليه حصلت1 وذلك بارتقائه المنبر في حال المرض ومواجهة الناس بذلك وتعريفهم بحق أبي بكر وبفضله بذكر الخلة وذلك تنبيه على أنه الخليفة من بعده وكان هذا القول كالتوصية لهم به لأنه قرب الموت ولذلك فهمه الصحابة من القال والحال.   1 أي الدلالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 عن أبي سعيد قال: جلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرجعه من حجة الوداع على المنبر فقال: "إن عبدًا خيره الله -وعز وجل- بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وعزها والخلد فيها ثم الجنة وبين ما عنده والجنة فاختار ما عند الله والجنة". فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو المخير ولكن لم يفجعنا وكان أبو بكر أعلمنا بالأمور وقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام". ثم قال: "لا يبقين في المسجد إلا خوخة أبي بكر" فعلمنا أنه مستخلفه خرجه الحافظ أبو القاسم الدمشقي وقال: صحيح المتن غريب الإسناد. وعن أبي المعلي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أمن الناس علي .... " وساق الحديث بنحو حديث أبي سعيد، وقال: بعد قوله لاتخذت أبا بكر خليلًا ولكن ود وإخاء وإيمان مرتين أو ثلاثًا وأن صاحبكم خليل الله خرجه الترمذي والحافظ الدمشقي وقال: صحيح المتن حسن الإسناد واسم أبي المعلي زيد بن لوذان الأنصاري قاله أبو عمر. وعن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إن من أمن الناس علينا في نفسه وذات يده أبا بكر ولو كنت متخذًا خليلًا لاتخذته ولكن أخوة الإسلام سدوا كل خوخة في القبلة إلا خوخة أبي بكر خرجه". في فضائله فيه دليل بمنطوقه على أن الخوخات المسدودة كانت في القبلة وبمفهومه على أن في المسجد خوخات غيرها لم تسد. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أحد أعظم عندي يدًا من أبي بكر واساني بنفسه وماله وأنكحني ابنته خرجه في فضائله. وعن سهل قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- " إن من أمن الناس علي في صحبته وذات يده أبو بكر الصديق فحبه وشكره وحفظه واجب على أمتي". خرجه الخطيب في تاريخه وصاحب الفضائل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 ذكر اختصاصه بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما نفعه من مال ما نفعه مال أبي بكر: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبو بكر" فبكى أبو بكر وقال: ما أنا ومالي إلا لك خرجه أحمد وأبو حاتم وابن ماجه والحافظ الدمشقي في الموافقات. وعن ابن المسيب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما مال رجل من المسلمين أنفع لي من مال أبي بكر". قال: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقضي في مال أبي بكر كما كان يقضي في مال نفسه خرجه عبد الرزاق في جامعه وصاحب الفضائل والحديث مرسل. ذكر شهادة علي بن أبي طالب بذلك وبغيره: عن الشعبي إن أبا بكر نظر إلى علي بن أبي طالب فقال: من سره أن ينظر إلى أقرب الناس قرابة من نبيهم -صلى الله عليه وسلم- وأعظمهم1 عنه غناء وأحفظهم عنده منزلة فلينظر إلى علي بن أبي طالب فقال: علي لئن قال: هذا إنه لأرأف الناس وإنه لصاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الغار وإنه لأعظم الناس غناء2 عن نبيه -صلى الله عليه وسلم- في ذات يده خرجه ابن السمان. ذكر اختصاصه بمكافأة الله تعالى: له عن نبيه -صلى الله عليه وسلم: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه بها خلا أبا بكر فإن له عندنا يدًا يكافيه الله بها يوم القيامة". خرجه الترمذي وقال: حسن غريب.   1 بسبب الأخذ عنه: على باب مدينة علم الرسول -صلى الله عليه وسلم-. 2 نفعا: بسب الأخذ عن نبيه: -صلى الله عليه وسلم-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 ذكر اختصاصه بمواساة النبي -صلى الله عليه وسلم- بنفسه وماله وأنه لا ظلمة على باب قلبه: عن المقدام بن معد يكرب قال: استب عقيل بن أبي طالب وأبو بكر فأعرض أبو بكر عنه لقرابته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكنه شكاه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- في الناس فقال: "ألا تدعون لي صاحبي ما شأنكم وشأنه والله ما منكم رجل إلا على باب قلبه ظلمة إلا قلب أبي بكر فإنه على بابه النور والله لقد قلتم كذب وقال: أبو بكر صدق وأمسكتم الأموال وجاد لي بماله وخذلتموني وواساني بنفسه". خرجه صاحب الفضائل. وهو مروي لنا عن أبي القاسم عبد الرحمن السبط عن جده الحافظ السلفي بسنده وفيه "ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر". وعن أبي الدرداء قال: كنت جالسًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبتيه فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أما صاحبكم فقد غامر فسلم ثم قال: إني كان بيني وبين عمر بن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى علي فأقبلت إليك فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثًا ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فقال: أثم هو قالوا لا فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فجعل وجه النبي يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله أنا كنت أظلم مرتين فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إن الله بعثني إليكم فقلتم كذب وقال: أبو بكر صدقت وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركون لي صاحبي مرتين فما أوذي" بعدها انفرد البخاري بإخراجه. "شرح" -غامر- أي سبق بالخير قاله أبو عبيد وأصله المباطشة في القتال تقول غامرته أي باطشته فقاتلته وتمعر أي تغير جثى على ركبتيه اعتمد عليهما تقول جثا يجثو ويجثي جثوًا وجثيًا. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أبو بكر أخي في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 الدنيا والآخرة، رحم الله أبا بكر وجزاه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيرًا واساني في النفس والمال". خرجه الحافظ السلفي. وعن ابن عمر قال: كنت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- وعنده أبو بكر عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال فنزل جبريل فقال: يا محمد مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال فقال: "يا جبريل أنفق ماله علي قبل الفتح" قال: فإن الله -وعز وجل- يقرأ عليك السلام ويقول لك قل له أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط فقال: النبي -صلى الله عليه وسلم- "يا أبا بكر إن الله يقرأ عليك السلام ويقول لك أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال: أبو بكر أسخط على ربي؟ أنا عن ربي راض أنا عن ربي راض أنا عن ربي راض". خرجه الحافظ بن عبيد وصاحب الصفوة والفضائلي. واحتج بظاهرة من ذهب إلى أن قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْح وَقَاتَلَِ} 1 الآية نزلت في أبي بكر الحديث الأول هو المصرح بالاختصاص وما بعده محمول عليه حمل المطلق على المقيد. ذكر ما جاء في كمية ما أنفق أبو بكر -رضي الله عنه: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت أنفق أبو بكر على النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعين ألفًا خرجه أبو حاتم. وعن عروة قال: أسلم أبو بكر وله أربعون ألفًا أنفقتها كلها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي سبيل الله. وعن أسماء بنت أبي بكر قالت لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخرج أبو بكر معه احتمل أبو بكر ماله كله معه خمسة آلاف درهم أو ستة خرج بها معه. قالت فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره وقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه،   1 سورة الحديد الآية: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 قالت: قلت كلا يا أبت، إنه قد ترك لنا خيرًا كثيرًا قالت فأخذت أحجارًا فوضعتها في كوة البيت الذي كان أبي يضع ماله فيه ثم وضعت عليها ثوبًا ثم أخذت بيده وقلت يا أبت ضع يدك على هذا المال قالت فوضع يده عليه قال: لا بأس إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن وفي هذا بلاغ لكم ولا والله ما ترك لنا شيئًا ولكنني أردت أسكن الشيخ بذلك خرجه ابن إسحاق ولا تضاد بين هذا وبين ما تقدم فإنها لم تقل في هذا أنه جملة ما أنفقه وإنما هو بقية المال الذي أسلم وهو معه وهو الجملة المتقدمة ثم لم يزل ينفق إلى وقت الهجرة وقد بقيت تلك البقية فاحتملها معه وترك عياله لا شيء لهم ولعله كان قد خرج عن جملته فلذلك كان حمل البقية والله أعلم. ذكر من أعتقه أبو بكر ممن كان يعذب في الله -وعز وجل: عن عروة قال: أعتق أبو بكر سبعة كانوا يعذبون في الله منهم بلال وعامر بن فهيرة خرجه أبو عمرو عن هشام بن عروة عن أبيه قال: أعتق أبو بكر ممن كان يعذب في الله تعالى: سبعة بلال وعامر بن فهيرة وزبيرة وأم عبيس والنهدية وابنتها وجارية ابن عمرو بن مؤمل خرجه معاوية الضرير. وعن إسماعيل بن قيس قال: اشترى أبو بكر بلالًا وهو مدقوق بالحجارة بخمس أواق ذهبًا وقالوا لو أبيت إلا أوقية لبعناكه فقال: لو أبيتم إلا مائة أوقية لأخذته خرجه في الصفوة. قال ابن إسحاق: وكان بلال بن رباح واسم أمه حمامة صادق الإسلام طاهر القلب وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صلبه ثم يقول له لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى فيقول وهو في ذلك البلاء أحد أحد قال: وكان ورقة بن نوفل يمر به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وهو يعذب بذلك وهو يقول أحد أحد فيقول ورقة أحد أحد والله يا بلال ثم يقبل على أمية بن خلف ومن يصنع ذلك به من بني جمح فيقول أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لاتخذنه حنانًا حتى مر به أبو بكر بن أبي قحافة وهم يصنعون ذلك به وكانت دار أبي بكر في بني جمح فقال: لأمية بن خلف ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ حتى متى؟ قال: أنت أفسدته فأنقذه مما ترى فقال: أبو بكر أفعل عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى أعطيكه به قال: قد قبلت قال: هو لك فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك وأخذه فأعتقه ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر ست رقاب بلال سابعهم عامر بن فهيرة وأم عبيس وزبيرة فأصيب بصرها حين أعتقها فقال: ت قريش ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى فقال: ت كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزى وما تنفعان فرد الله إليها بصرها والنهدية وابنتها وكانتا لامرأة من بني عبد الدار فمر بهما وقد بعثتها سيدتهما إلى طحين لها وهي تقول والله لا أعتقكما أبدًا فقال: أبو بكر حلا يا أم فلان فقال: ت حلا أنت أفسدتهما فاعتقهما قال: فبكم هما قالت بكذا وكذا قال: قد أخذتهما وهما حرتان أرجعا إليها طحينها قالتا أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده قال: ذلك إن شئتما ومر بجارية بني مؤمل حي من بني عدي وكانت مسلمة وكان عمر بن الخطاب يعذبها لتترك الإسلام وهو يومئذ مشرك فيضربها حتى إذا مل قال: أعتذر إليك إني لم أتركك إلا مللًا فتقول كذا فعل الله بك فابتاعها وأعتقها. "شرح" -حلا- يا أم فلان أي تحللي من يمينك وهو منصوب على المصدر. وعن عمر بن الخطاب قال: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا يعني بلالًا فقال: لأبي بكر إن كنت إنما اشتريتني لنفسك فأمسكني وإن كنت اشتريتني لله -وعز وجل- فدعني وعمل لله أخرجه البخاري وهذان الذكران ليسا على مساق ما تقدمهما من الخصائص وإنما اقتضى ذكرهما ما تقدمهما من الأذكار ومناسبتهما لهن على أنهما من الخصائص إذ لم ينقل أن أحدًا من الصحابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 فعل مثل ذلك الفعل قبل الهجرة والله أعلم. ذكر اختصاصه بأنه أحب الرجال إليه: تقدم في ذلك حديث عمرو بن العاص في باب العشرة خرجه مسلم وأحمد وأبو حاتم وحديث عائشة في باب ما دون العشرة خرجه الترمذي وقال: حسن صحيح. وعن أنس قال: قالوا يا رسول الله أي الناس أحب إليك قال: عائشة قالوا إنما نعني من الرجال قال: أبوها خرجه الترمذي وابن ماجه القزويني في سننه وعن عائشة قالت لما ماتت خديجة جاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله ألا تتزوج؟ فقال: "ومن" قالت إن شئت بكرًا وإن شئت ثيبًا فقال: "ومن البكر ومن الثيب؟ " قالت أما البكر فابنة أحب خلق الله إليك عائشة بنت أبي بكر الصديق وأما الثيب فسودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك ثم ذكرت قصة تزويجها خرجه أبو الجهم الباهلي وصاحب الفضائل وسيأتي في فضائل الأزواج في ذكر التزويج. ذكر اختصاصه بتبسم النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه يوم الفتح: عن الزهري قال: لما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- النساء يلطمن الخيل بالخمر يوم الفتح تبسم إلى أبي بكر خرجه ابن إسحاق. ذكر اختصاصه بأنه أرحم الأمة بالأمة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم: عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر". خرجه عبد الرزاق والبغوي في1 المصابيح الحسان. وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أرحم هذه الأمة بعد نبيها   1 في أحاديث المصابيح الحسان، فإن للإمام البغوي كتابنا: يسمى المصابيح: ليس به إلا الصحاح والحسان من كلامه. -صلى الله عليه وسلم-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 أبو بكر". خرجه في فضائله. وعن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إن الله وعدني أن يدخل الجنة أربعمائة ألف"، فقال: أبو بكر زدنا يا رسول الله فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هكذا وجمع كفيه فقال: عمر حسبك يا أبا بكر فقال: أبو بكر دعني يا عمر وما عليك أن يدخلنا الله الجنة كلنا فقال: عمر إن الله لو شاء أدخل خلقه الجنة بكف واحدة فقال: النبي -صلى الله عليه وسلم- صدق عمر خرجه الطبراني في معجمه وأبو القاسم الدمشقي في معجم البلدان. ذكر اختصاصه بالأفضلية والخيرية: تقدم من أحاديث هذه الخصوصية جملة أحاديث وآثار مما خرجه الشيخان وغيرهما في باب مناقب الأربعة والثلاثة والاثنين. وعن أبي الدرداء قال: رآني النبي -صلى الله عليه وسلم- أمشي أمام أبي بكر فقال: "يا أبا الدرداء أتمشي أمام من هو خير منك في الدنيا والآخرة؟ ما طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر". خرجه المخلص الذهبي وخرجه الدارقطني ولم يقل والمرسلين. وخرجه ابن السمان في الموافقة عن جعفر1 بن محمد وقد سئل عن أبي بكر فقال: ما أقوله فيه لا أقول فيه إلا خيرًا أو قال: إلا الخير بعد حديث حدثنيه أبي محمد قال: حدثني أبي علي قال: حدثني أبي الحسين قال: سمعت أبي علي بن أبي طالب يقول سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول "ما طلعت شمس ولا غربت" الحديث بتمامه ثم قال: لا أنالني الله شفاعة جدي إن كنت كذبت فيما رويت لك وإني لأرجو شفاعته يوم القيامة يعني أبا بكر. وعن جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يطلع عليكم   1 هو جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العبابدين بن الحسين: -رضي الله عنهم- أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 رجل لم يخلق الله بعدي أحدًا خيرًا منه ولا أفضل, وله شفاعة مثل شفاعة النبيين" فما برحنا حتى طلع أبو بكر فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- فقبله والتزمه. خرجه الحافظ الخطيب أبو بكر أحمد بن ثابت البغدادي. وعن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "خير أصحابي أبو بكر" وعن جابر قال: كنا عند باب النبي -صلى الله عليه وسلم- نفرًا من المهاجرين والأنصار نتذاكر الأنصار فارتفعت أصواتنا, فخرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "فيم أنتم؟ " فقلنا: نتذاكر الفضائل قال: "فلا تقدموا على أبي بكر أحدًا؛ فإنه أفضلكم في الدنيا والآخرة" أخرجهما صاحب فضائله. وعنه قال: "إن الله جمع أمركم على خيركم, صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- و {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} وأولى الناس بكم" خرجه البخاري. وعن عمر قال: أبو بكر سيدنا, وخيرنا, وأحبنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم. خرجه الترمذي وقال: حسن صحيح. وعنه وقد قال له رجل: ما رأيت أحدًا خيرًا منك قال: هل رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا, قال: لو قلت: نعم لضربت عنقك, ثم قال: هل رأيت أبا بكر؟ قال: لا قال: لو قلت: نعم لبالغت في عقوبتك خرجه القلعي. وعن الزهري أن رجلًا قال لعمر: ما رأيت أحدًا أو رجلًا أفضل منك قال له عمر: هل رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا قال: فهل رأيت أبا بكر؟ قال: لا قال: لو أخبرتني أنك رأيت واحدًا منهما لأوجعتك. خرجه في الفضائل وقال: حديث حسن إلا أنه مرسل1؛ لأن الزهري لم يدرك عمر. وعن علي وقد قيل له لما أصيب: ألا تستخلف؟ قال: لا أستخلف, ولكني أترككم كما تركنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخلنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلنا: يا رسول الله ألا تستخلف؟ فقال: "إن يعلم الله فيكم خيرًا استعمل عليكم   1 الحديث المرسل: الذي سقط من سنده الصحابي الراوي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكذلك الذي سقط من سنده الراوي عن الصحابي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 خيركم" فعلم الله فينا خيرًا, فاستعمل علينا أبا بكر. خرجه ابن السمان في الموافقة. وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: أترككم, فإن يرد الله بكم خيرًا يجمعكم على خيركم, أخرجه القلعي. وعن موسى بن شداد قال: سمعت عليا -رضي الله عنه- يقول: أفضلنا أبو بكر. ذكر اختصاصه بسيادة كهول العرب: عن إسماعيل بن أبي خالد قال: بلغني أن عائشة نظرت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا سيد العرب فقال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم, وأبوك سيد كهول العرب, وعلي سيد شباب العرب" خرجه أبو نعيم البصري ورواه الغيلاني, وعن عبد الله بن مسعود قال: اجعلوا إمامكم خيركم, فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جعل إمامنا خيرنا بعده. خرجه أبو عمر. وعن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال: ولينا أبو بكر الصديق, فخير خليفة أرحم بنا وأحنى علينا. خرجه ابن السمان في الموافقة. وعن الليث بن سعد قال: ما صحب الأنبياء أحد أفضل من أبي بكر. خرجه صاحب الفضائل. ذكر اختصاصه بأنه أشجع الناس: عن محمد بن عقيل عن علي بن أبي طالب أنه قال يومًا وهو في جماعة من الناس: من أشجع الناس؟ قالوا: أنت يا أمير المؤمنين, قال: أما إني ما بارزت أحدًا إلا انتصفت منه, ولكن أشجع الناس أبو بكر, لما كان يوم بدر جعلنا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- عريشًا وقلنا: من يكون مع النبي -صلى الله عليه وسلم- لئلا يصل إليه أحد من المشركين؟ فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر شاهرًا السيف على رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: واجتمع عليه المشركون بمكة فهذا يجره وهذا يتلتله, وهم يقولون: أنت جعلت الآلهة إلهًا واحدًا, فوالله ما دنا إليه منا أحد إلا أبو بكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 يضرب هذا ويجأ1 هذا ويتلتل هذا, ويقول: ويلكم أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله؟! ثم قال علي: نشدتكم بالله أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ قال: فسكت القوم, فقال: ألا تجيبون؟ والله لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مؤمن آل فرعون؛ مؤمن آل فرعون رجل كتم إيمانه وأبو بكر رجل أعلن إيمانه. خرجه ابن السمان في كتاب الموافقة, وصاحب الفضائل. "شرح" العريش والعرش أيضًا: ما يستظل به, تلتله أي: زعزعه وحركه وأقلقه, يجأ: يضرب يقال: وجأه بالسكين أي: ضربه بها, ونشدتكم بالله أي: سألتكم به كأنه يذكره بالله, وينشد أي: يذكر ومما يناسب ذكره بعد هذا ذكر ما اشتهر عنه من شدة بأسه وثبوته عند الحوادث حتى شهد له علي -رضي الله عنه- بأنه أشجع الناس كما تقدم آنفًا, وأنه مثبت القلب فيما رواه أبو شريحة قال: سمعت عليا على المنبر يقول: إن أبا بكر مثبت القلب. خرجه في الصفوة, وصاحب الفضائل فمن ذلك: ذكر شدة بأسه وثبوته يوم بدر, فيه ما تقدم في الذكر قبله: وعن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال يوم بدر, وهو في قبة له: "اللهم أنشدك عهدك ووعدك, اللهم إن تشأ لا تعبد بعد هذا اليوم" فأخذ أبو بكر بيده وقال: حسبك يا رسول الله, قد ألححت على ربك, فخرج وهو يثب في الدرع وهو يقول2: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ, بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} خرجه البخاري. وعنه قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر نبي الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وسبعة عشر رجلًا قال:   1 ويطعن: ويضرب, كما شرح هذا اللفظ المؤلف، وسيأتي. 2 يذكر تاليا قول الله تعالى المذكور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 فاستقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القبلة ثم مد يديه, فجعل يهتف بربه: "أنجز لي ما وعدتني, اللهم آتني ما وعدتني, اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض أبدًا" فما زال يهتف بربه مادًّا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه, فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه, ثم التزمه من ورائه فقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك, وإنه سينجز لك ما وعدك, فأنزل الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِي} 1 فأمده الله -عز وجل- بالملائكة, أخرجاه. "شرح" هتف أي: صاح والهتف: الصوت يقال: هتف هتافًا أي: صاح, وهتفت الحمامة تهتف هتفًا, والعصابة: الجماعة من الناس والخيل والطير, قاله الجوهري. قال ابن إسحاق: عدل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصفوف يوم بدر ثم رجع إلى العريش, فدخله ومعه فيه غيره ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يناشد ربه ما وعده به من النصر ويقول فيما يقول: "اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد" وأبو بكر يقول: يا نبي الله بعض مناشدتك ربك, فإن الله منجز لك ما وعدك, وخفق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خفقة وهو في العريش ثم انتبه فقال: "أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله, هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع" النقع: الغبار. وعن حكيم بن حزام قال: لما حضر القتال, رفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يديه يسأل الله النصر وما وعده, يقول: "اللهم إن ظهروا على هذه العصابة, ظهر الشرك ولا يقوم لك دين" وأبو بكر يقول: والله لينصرنك الله وليبيضن وجهك, فأنزل الله تعالى ألفًا من الملائكة مردفين عند أكناف العدو, وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أبشر يا أبا بكر, هذا جبريل -عليه السلام- معتجر   1 سورة الأنفال الآية: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 بعمامة صفراء, آخذ بعنان فرسه بين السماء والأرض, فلما نزل إلى الأرض تغيب عني ساعة، ثم طلع يقول: أتاكم نصر الله, أو دعوته". خرجه صاحب الفضائل. "شرح" أكناف العدو: جوانبهم, والاعتجار: لفّ العمامة على الرأس, والمعجر: ما تشده المرأة على رأسها. ذكر ثباته يوم الحديبية: عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم حديث صلح الحديبية وفيه قال عمر: فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله ألست نبي الله حقا؟ قال: "بلى" قلت: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: "بلى" قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: "إني رسول الله ولست أعصيه, وهو ناصري" قلت: أوليس كنت تحدثنا أننا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: "أوأخبرتك أنا نأتيه العام؟ " قلت: لا قال: "فإنك آتيه ومطوف به" قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا؟ قال: بلى قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: أيها الرجل, إنه رسول الله وليس يعصيه وهو ناصره, فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق, قلت: أوليس كان يحدثنا أننا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا قال: فإنك آتيه ومطوف به, قال عمر: فعملت لذلك أعمالًا. خرجه البخاري ومسلم, واللفظ للبخاري. "شرح" الغرز: ركاب الرجل من جلد, فإن كان من خشب أو حديد فهو ركاب. ذكر ثباته يوم توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: عن عائشة قالت: أقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالسنح حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 نزل فدخل المسجد, فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فبصر برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مسجى ببرده, فكشف عن وجهه -صلى الله عليه وسلم- وأكب عليه فقبله, ثم بكى فقال: بأبي أنت وأمي, لا يجمع الله عليك موتتين, أما الموتة التي كتبت عليك فقدمتها. قال أبو سلمة: وأخبرني ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس فقال: اجلس فأبى, فقال: اجلس فأبى, فتشهد أبو بكر فمال الناس إليه وتركوا عمر فقال: أما بعد, فمن كان منكم يعبد محمدًا فإن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قد مات, ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت, قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} 1 إلى2 {الشَّاكِرِينَ} . قالت: فوالله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر, فتلقاها منه الناس فما نسمع بشرًا إلا يتلوها, أخرجه الشيخان. وعنها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مات وأبو بكر بالسنح تعني: العالية, فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقبله وقال: بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا, والذين نفسي بيده لا يذيقك الموتتين أبدًا, ثم خرج فقال: أيها الحالف على3 رسلك, فلما تكلم أبو بكر جلس عمر, فحمد4 الله وأثنى عليه وقال: ألا من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات, ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت, وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} قال: فنشج الناس يبكون, خرجه البخاري.   1 أي: إلى آخر الآية الشريفة، وستذكر بتمامها. 2 سورة آل عمران الآية: 144. 3 على مهلك. 4 فحمد أبو بكر الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 "شرح" نشج الباكي ينشج نشجًا ونشيجًا: إذا غصّ بالبكاء في حلقه, من غير انتحاب. وعن ابن عمر قال: لما قُبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتانا أبو بكر فصعد المنبر, فحمد الله وأثنى عليه وقال: إن كان محمدا إلهكم الذي تعبدونه فإن إلهكم قد مات, وإن كان إلهكم الذي في السماء فإن إلهكم حي لا يموت, ثم تلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} 1 الآية. قال الزهري: فأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قال: والله ما هو إلا أن تلاها أبو بكر يعني قوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} عقرت وأنا قائم, حتى خررت إلى الأرض, وأثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد مات. خرج قول الزهري البخاري ومعنى الأول عنده. "شرح" عقرت بالكسر من العقر, وهو أن يسلم الرجل قوائمه فلا يستطيع أن يقاتل من الخوف, وقيل: هو أن يفجأه الروع فيدهش, ولا يستطيع أن يتقدم ولا أن يتأخر. حكاهما في نهاية الغريب, والأول ذكره الجوهري. وعن سالم بن عبيد الأشجعي قال: لما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أجزع الناس كلهم عمر بن الخطاب, قال: فأخذ بقائم سيفه وقال: لا أسمع أحدًا يقول: مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ضربته بسيفي هذا, قال: فقال الناس: يا سالم اطلب صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فخرجت إلى المسجد, فإذا بأبي بكر فلما رأيته أجهشت بالبكاء, فقال: ما لك يا سالم؟ أمات رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: إن هذا عمر بن الخطاب يقول: لا أسمع أحدًا يقول مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ضربته بسيفي هذا, قال: فأقبل أبو بكر, فلما رآه الناس سعوا له, فدخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مسجى، فوضع   1 سورة آل عمران الآية: 144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 البردة عن وجهه ووضع فاه على فيه, واستنشأ الريح ثم سجاه, والتفت إلينا فقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} ومن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات, قال عمر: فوالله لكأني لم أتل هذه الآيات قط, فقالوا: يا صاحب رسول الله أمات رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم, قالوا: يا صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من يغسله؟ قال: رجال أهل بيته الأدنى فالأدنى, قالوا: يا صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أين يدفن؟ قال: في البقعة التي قبضه الله -عز وجل- فيها, لم يقبضه إلا في أحب البقاع إليه. خرجه الحافظ أبو أحمد حمزة بن محمد بن الحارث بهذا السياق, وكذلك أخرجه في فضائله. وخرج الترمذي معناه بتمامه, وزاد بعد قولهم: مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: نعم, فعلموا أن قد صدق, وقال بعد ذكر الدفن: فإن الله لم يقبض روحه إلا في مكان طيب, بدل إلا في أحب البقاع إليه, وزاد: فعلموا أن قد صدق. وفي رواية: أنهم قالوا: يا صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنصلي عليه؟ قال: نعم قالوا: كيف نصلي عليه؟ قال: يدخل قوم فيكبرون ويصلون ويدعون له ثم يخرجون, ثم يدخل غيرهم حتى يفرغوا, قالوا: يا صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أين يدفن؟ ثم ذكر الحديث. خرجها في فضائله. "شرح" جهش: فزع إلى غيره، وهو مع ذلك يريد البكاء كالصبي يفزع إلى أمه وقد تهيأ للبكاء, يقول: جهش إليه يجهش وأجهش أيضًا, استنشأ الريح أي: شم ريح الموت, قال الهذلي: ونشئتَ ريح الموت من تلقائهم ... وخشيت وقع مهند قرضاب تقول منه: نشئت ريحًا نشوة بالكسر أي: شممت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وعن جعفر بن محمد عن أبيه عمن حدثه قال: قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر غائب بالسنح عند زوجته بنت خارجة, فسل عمر بن الخطاب سيفه وتوعد من يقول: مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان يقول: إنما أرسل إليه كما أرسل إلى موسى -عليه السلام- فلبث عن قومه أربعين ليلة, والله إني لأرجو أن يقطع أيدي رجال وأرجلهم, فأقبل أبو بكر من السنح حين بلغه الخبر إلى بيت عائشة فأذنت له فدخل, فكشف عن وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجثا يقبله ويبكي ويقول: توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والذي نفسي بيده, صلوات الله عليك يا رسول الله, ما أطيبك حيا وميتا, ثم خرج سريعا إلى المسجد حتى جاء المنبر, فقام عليه ونادى الناس: اجلسوا, فجلسوا وأنصتوا, فتشهد شهادة الحق ثم قال: إن الله تعالى نعى نبيكم وهو حي بين أظهركم, ونعى لكم أنفسكم وهو الموت حتى لا يبقى أحد إلا الله, يقول الله -عز وجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} إلى: {الشَّاكِرِينَ} 1 وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 2، وقال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} 3 وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} 4 وقال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والْإِكْرَامِ} 5 ثم قال: إن الله -عز وجل- عمر محمدًا وأبقاه حتى أقام دين الله, وأظهر أمر الله, وبلغ رسالة الله, وجاهد أعداء الله حتى توفاه الله وهو على ذلك, وترككم على الطريقة, فلا يهلك هالك إلا من بعد البينة والشفاء والنور, فمن كان الله ربه فإن الله حي لا يموت فليعبده, ومن كان ربه محمدًا ويراه إلهًا فقد هلك إلهه, فأقبلوا أيها الناس واعتصموا بدينكم, وتوكلوا على ربكم, فإن دين الله قائم وكلمته باقية, وإن الله ناصر دينه ومعز أهله, وإن   1 سورة آل عمران الآية: 144. 2 سورة الزمر الآية: 30. 3 سورة آل عمران الآية: 185. 4 سورة القصص الآية: 88. 5 سورة الرحمن الآية: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 كتاب الله -عز وجل- بين أظهرنا هو النور والشفاء, به هدى الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وفيه حلال الله وحرامه, ولا والله ما نبالي من أجلب علينا من خلق الله إن سيوفنا لمسلولة ما وضعناها بعد, ولنجاهدن من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا ينعين أحد إلا نفسه, ثم انصرف. خرجه صاحب فضائله وقال: غريب. "شرح" النعي: خبر الموت يقال: نعاه نعيًا ونعيانًا بالضم وكذلك النعي على فعيل, يقال: جاء نعي فلان, وأجلب علينا أي: جمع يقال: أجلبوا علينا وتألبوا أي: اجتمعوا, وأجلبه: أعانه. ذكر أن غيبته في منزله بالسنح حين وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم تكن إلا بإذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم: عن عائشة قالت: رأيت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعض الشيء, فعصبت رأسي فدخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: وا رأساه فقال: "بل أنا وا رأساه" قالت: ثم أرسل إلى نسائه فاستأذنهن أن تمرضه عائشة, فأذنَّ له قالت: فمرضته أيامًا فدخل عليه أبو بكر فقال: يا رسول الله إني أراك كأنك اليوم أمثل, أتأذن لي أن آتي أهلي فأذن له نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قالت عائشة: فبينما أنا مسندته إلى صدري, إذ نظر كالرجل يريد من أهله الشيء, قالت: ثم نظر إلي فمال عن صدري فسجيت عليه, وظننت أنه غشي عليه إذ جاء أبو بكر على فرس فاقتحم الفرس في الحجرة, ثم نزل فدخل ثم قال: أي بنية ما شأنه؟ فقلت: والله ما أدري ما به إلا أني كنت مسندته إلى صدري فانخنث, فمال فسجيته, ولا أدري غشي عليه أم قبض؟ خرجه الحافظ حمزة بن الحارث. وعن عائشة أن أبا بكر دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته, فوضع فمه بين عينيه ووضع يديه على صدغيه فقال: وا نبياه, وا خليلاه, وا صفياه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 خرجه ابن عرفة العبدي, ولا تضاد بين هذا على تقدير صحته وبين ما تقدم مما يضمن بيانه بأن يكون قد قال ذلك من غير انزعاج ولا قلق, خافتًا به صوته, ثم التفت إليهم وقال لهم ما قال. ذكر شدة بأسه, وثبات قلبه لما ارتدت العرب بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم: عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستخلف أبو بكر بعده, وكفر من كفر من العرب, قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله, فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه, وحسابه على الله"؟! فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال, والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعها, فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال, فعرفت أنه الحق, أخرجاه. وعنه لما قُبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وارتدت العرب وقالوا: لا نؤدي زكاة, قال أبو بكر: لو منعوني عقالًا لجاهدتهم عليه, فقلت: يا خليفة رسول الله تألف الناس وارفق بهم, فقال لي: أجبار في الجاهلية, وخوار في الإسلام؟ إنه قد انقطع الوحي وتم الدين, أوينقص وأنا حي؟ خرجه النسائي بهذا اللفظ, ومعناه في الصحيحين. وقد تقدم في ذكر قصة الغار وتقدم شرحه أيضًا, وعن يحيى بن عمر عن أبيه عن جده قال: لما امتنع من امتنع من دفع الزكاة إلى أبي بكر, جمع أبو بكر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فشاورهم في أمرهم فاختلفوا عليه, فقال لعلي: ما تقول يا أبا الحسن؟ قال: أقول لك: إن تركت شيئًا مما أخذه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم, فأنت على خلاف سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: أما لئن قلت ذاك لأقاتلنهم, وإن منعوني عقالًا. أخرجه ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 السمان في الموافقة. وعن أبي رجاء العطاردي قال: دخلت المدينة فرأيت الناس مجتمعين, ورأيت رجلًا يقبل رأس رجل وهو يقول: أنا فداؤك ولولا أنت لهلكنا, فقلت: من المقبِّل, ومن المقبَّل؟ قالوا: ذاك عمر يقبِّل رأس أبي بكر في قتاله أهل الردة, إذ منعوا الزكاة حتى أتوا بها صاغرين. خرجه في الصفوة وفي فضائله. وعن ابن مسعود أنه قال: كرهنا ذلك ثم حمدناه في الانتهاء, ورأيناه رشيدًا, ولولا ما فعل أبو بكر لألحد الناس في الزكاة إلى يوم القيامة, خرجه القلعي. "شرح" أصل الإلحاد: الميل, والمراد أنهم كانوا يتركونها جاحدين لوجوبها إلى يوم القيامة, وإذا فعلوا ذلك فقد مالوا عن الحق. وعن عائشة قالت: لما خرج أبي شاهرًا سيفه راكبًا راحلته, يعني يوم الردة, فجاء علي بن أبي طالب فأخذ بزمام راحلته فقال له: إلى أين يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ أقول لك ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد: "شم سيفك, لا تفجعنا بنفسك وارجع إلى المدينة, والله لئن أصبنا بك لا يكون بعدك نظام أبدًا" فرجع. خرجه الخلعي وابن السمان في الموافقة والفضائلي وصاحب الفضائل, وزادوا: مضي الجيش. "شرح" شم سيفك أي: اغمده, ويقال: سله وهو من الأضداد. وعن أبي هريرة أنه قال: والله الذي لا إله إلا هو لولا أن أبا بكر استخلف ما عبد الله, ثم قال الثانية ثم قال الثالثة, فقيل له: مه1 يا أبا هريرة فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجه أسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشام, فلما نزل بذي خشب وقبض النبي -صلى الله عليه وسلم- وارتدت العرب حول المدينة   1 انكفف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 فاجتمع عليه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا أبا بكر رد هؤلاء, يتوجه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب؟ فقال: والله الذي لا إله إلا هو, لو جرت الكلاب بأرجل أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- ما رددت جيشًا جهزه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا حللت لواء عقده رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: والله لو علمت أن السباع تجر برجلي إن لم أرده, ما رددته عن وجه وجهه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمر أسامة أن يمضي لوجهه ذلك. وفي رواية: أن عمر هو القائل: يا خليفة رسول الله, إن العرب قد ارتدت على أعقابها كفارًا كما قد علمت, وأنت تريد أن تنفذ جيش أسامة, وفي جيش أسامة جماعة العرب وأبطال الناس, فلو حبسته عندك لتقويت به على من ارتد من هؤلاء العرب, فقال أبو بكر: لو أني علمت أن السباع تأكلني في هذه المدينة لأنفذن جيش أسامة كما قال صلى الله عليه وسلم: "امضوا جيش أسامة, فلن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا" قال: فوجه أسامة فجعل لا يمر بقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم, ولكنهم ندعهم حتى يلقوا الروم, فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين, فثبتوا على الإسلام. خرجه أبو عبيدة في كتاب الأحداث, وأبو الحسن علي بن محمد القرشي في كتاب الردة والفتوح والفضائلي الرازي والملاء في سيرته. وذكر أبو الحسن علي بن محمد القرشي أن أبا بكر أقبل على أسامة بن زيد وهو معسكر خارج المدينة وقال له: امض رحمك الله لوجهك الذي أمرك به النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا تقصر في أمرك, فإن رأيت أن تأذن لعمر بن الخطاب بالمقام عندي فإني أستأنس به وأستعين برأيه, فقال أسامة: قد فعلت ذلك, وسار أسامة إلى الموضع الذي أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالخروج إليه. وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: كان في بني سليم ردة فبعث إليهم أبو بكر خالد بن الوليد, فجمع رجالًا منهم في الحظائر ثم أحرقها عليهم بالنار, فبلغ ذلك عمر فأتى أبا بكر فقال: تدع رجلًا يعذب بعذاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 الله -عز وجل؟ فقال أبو بكر: والله لا أشيم سيفًا سله الله على عدوه حتى يكون هو الذي يشيمه, ثم أمره فمضى من وجهه ذلك إلى مسيلمة. خرجه أبو معاوية, ومنه1: ذكر ثباته عند الموت: عن عائشة قالت: لما حضرت أبا بكر الوفاة, أردت أن أكلمه في طلحة بن عبيد الله فأتيته, فإذا هو يحشرج فقلت: إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدر, فقال لها: يا بنية أوغير ذلك؟ {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} 2, أجلسيني فأجلسته, فرفع يديه فقال: اللهم إني لم آل3. خرجه أبو حذيفة في فتوح الشام. ذكر اختصاصه بالفهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنه كان أعلمهم بالأمور, وأعلمهم به: عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جلس على المنبر فقال: "إن عبدًا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده, فاختار ما عنده" فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا, فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا به. أخرجاه وأحمد وأبو حاتم وعند البخاري بعد قوله فبكى أبو بكر: فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عبد خير, فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا به. وعند الترمذي من رواية أبي المعلى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطب فقال: "إن رجلًا خيره ربه بين أن يعيش في الدنيا ما شاء ويأكل من الدنيا ما   1 أي: من هذا الباب الذي فيه ذكر شدة بأسه، وثبات قلبه. 2 سورة ق الآية: 19. 3 لم أقصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 شاء أن يأكل, وبين لقاء ربه, فاختار لقاء ربه" قال: فبكى أبو بكر فقال أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم: ألا تعجبون من هذا الشيخ إذ ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلًا صالحًا خيره ربه بين الدنيا ولقاء ربه؟ قال: فكان أبو بكر أعلمهم بما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال أبو بكر: بل نفديك بآبائنا وأموالنا. وخرجه الحافظ الدمشقي عن أبي سعيد ولفظه قال: جلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعني مرجعه من حجته فقال: "إن عبدًا" ثم ذكر معناه وقال: فكان أبو بكر أعلمنا بالأمور, وقد تقدم في ذكر اختصاصه بأنه أمن الناس في صحبته وماله. وخرجه صاحب فضائله عن أبي سعيد ولفظه: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرضه الذي مات فيه وهو معصوب الرأس, فاتبعه حتى قام على المنبر فقال: "إني الساعة قائم على الحوض" ثم قال: "إن عبدًا عرضت عليه الدنيا وزينتها, فاختار الآخرة" فلم يفطن لها أحد من القوم إلا أبو بكر, فقال: بأبي وأمي, بل نفيدك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا, قال: ثم هبط من المنبر فما رئي عليه حتى الساعة, وقال: حديث حسن. وعن عمر قال: كنت أدخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو وأبو بكر يتكلمان في علم1 التوحيد, فأجلس بينهما كأني زنجي لا أعلم ما يقولون. خرجه الملاء في سيرته. ذكر اختصاصه بشربه فضل لبن شربه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رؤيا رآها وأعطى فضله أبا بكر, وتفسير الصحابة ذلك بالعلم, وتصويبه -صلى الله عليه وسلم- ذلك التفسير: عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "رأيت كأني أعطيت عسًا مملوءًا لبنًا فشربت منه حتى امتلأت, فرأيتها تجري في عروقي بين الجلد   1 يدل ذلك على فضل علم التوحيد، وأنه من علوم الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 والعظم ففضلت منها فضلة, فأعطيتها أبا بكر" قالوا: يا رسول الله هذا علم أعطاكه الله حتى إذا امتلأت, فضلت فضلة فأعطيتها أبا بكر؟ قال صلى الله عليه وسلم: "قد أصبتم" خرجه أبو حاتم. "شرح" العس: القدح العظيم والرفد أكبر منه وجمعه عساس, وقد جاء في الصحيح مثل هذا لعمر وسيأتي في خصائصه, ولعل الرؤيا تعددت في ذلك وعلى ذلك يحمل, فإن الحديثين صحيحان وإن كان حديث عمر متفقًا1 عليه. ذكر اختصاصه بشهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأعلميته بالنسب: عن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لحسان: "لا تعجل وأت أبا بكر, فإنه أعلم قريش بأنسابها حتى يمحص لك نسبي" خرجه في الفضائل وقال: حسن صحيح. وعن ابن عباس: قال حدثني علي بن أبي طالب من فيه قال: لما أمر الله -تبارك وتعالى- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكر، فدفعنا إلى مجالس العرب فتقدم أبو بكر وكان مقدمًا في كل خير، وكان رجلًا نسابة فسلم وقال: من القوم؟ قالوا: من ربيعة قال: وأي ربيعة أنتم من هامتها أم من لهازمها؟ فقالوا: من ذهل الأكبر, قال: فيكم عوف الذي يقال: لا حر بوادي عوف؟ قالوا: لا, قال: فمنكم جساس بن مرة حامي الذمار ومانع الجار؟ قالوا: لا، قال: فمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفسها؟ قالوا: لا، قال: فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة؟ قالوا: لا، قال: فمنكم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا. قال: فمنكم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا: لا، قال أبو بكر: فلستم ذهلا الأكبر أنتم ذهل الأصغر، فقام إليه غلام من بني شيبان يقال له: دغفل حين بقل   1 أي: مرويا في الصحيحين، فهو أعلى درجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وجهه, فقال: إن على سائلنا أن نسأله ... والعبء لا تعرفه أو تحمله يا هذا, إنك قد سألتنا فأخبرناك ولم نكتمك شيئًا, فمن الرجل؟ قال: أبو بكر من قريش قال الفتى: بخ بخ أهل الشرف والرياسة, فمن أي القرشيين أنت؟ قال: من ولد تيم بن مرة, قال الفتى: أمكنت والله من سواء الثغرة, أمنكم قصي الذي جمع القبائل من فهر وكان يدعى في قريش مجمعًا؟ قال: لا, قال: فمنكم هاشم الذي قال فيه الشاعر: عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف؟ قال: لا, قال: فمنكم شيبة الحمد عبد المطلب مطعم طير السماء الذي كان وجهه كالقمر يضيء في الليلة الداجية الظلماء؟ قال: لا, قال: فمن أهل الإفاضة بالناس أنت؟ قال: لا قال: فمن أهل الحجابة أنت؟ قال: لا, قال: فمن أهل السقاية أنت؟ قال: لا, قال: فمن أهل الندوة أنت؟ قال: لا قال: فمن أهل الوفادة أنت؟ قال: لا, فاجتذب أبو بكر زمام الناقة راجعًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال الغلام: صادف درء الستر درءًا يرفعه ... يهيضه حينًا وحينًا يرفعه أما والله لو ثبت لأخبرتك من أي قريش أنت؟ فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال علي: فقلت: يا أبا بكر لقد وقعت من الأعرابي على باقعة قال: اجلس أبا الحسن, ما من طامة إلا وفوقها طامة, والبلاء موكل بالمنطق قال: ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار, فتقدم أبو بكر فسلم وقال: ممن القوم؟ قالوا: من شيبان بن ثعلبة, فالتفت أبو بكر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: بأبي وأمي هؤلاء غرر الناس, وفيهم مفروق بن عمرو وهانئ بن قبيصة والمثنى بن حارثة والنعمان بن شريك, وكان مفروق قد غلبهم جمالًا ولسانًا, وكانت له غديرتان تسقطان على تريبته, وكان أدنى القوم مجلسًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 فقال أبو بكر: العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنا نزيد على ألف ولن يغلب ألف من قلة, فقال أبو بكر: وكيف المنعة فيكم؟ فقال مفروق: علينا الجهد ولكل قوم حد فقال أبو بكر: فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ قال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضبًا حين نلقى وأشد ما نكون لقاء حين نغضب, وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد والسلاح على اللقاح, والنصر من عند الله تعالى يديلنا مرة ويديل علينا أخرى, لعلك أخو قريش؟ قال أبو بكر: قد بلغكم أنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألا هو ذا؟ فقال مفروق: بلغنا أنه يذكر ذلك فإلامَ تدعو يا أخا قريش؟ فتقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجلس وقام أبو بكر يظله بثوبه فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله, وإلى أن تؤووني وتنصروني, فإن قريشًا قد ظاهرت على أمر الله وكذبت رسله, واستغنت بالباطل عن الحق, والله هو الغني الحميد" فقال مفروق بن عمرو: وإلام تدعونا يا أخا قريش, فوالله ما سمعت كلامًا أحسن من هذا؟ فتلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} 1 إلى: {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ 2 بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 3 فقال مفروق: وإلام تدعونا يا أخا قريش؟ قال: فتلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} 4 إلى: {تَذَكَّرُونَ} فقال مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال, ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك, وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش, وإني أرى إن تركنا ديننا واتبعناك على دينك بمجلس جلسناه إليك ليس له أول ولا آخر, زللًا في   1 سورة الأنعام الآية: 151. 2 وقد تضمنت هذه الآيات من سورة الأنعام الوصايا العشر في الإسلام. 3 سورة الأنعام الآية: 153. 4 وهذه الآية من سورة النحل أجمع آية لمكارم الأخلاق؛ ولهذا يذكر بها خطباء الجمعة الناس عقب الخطبة الثانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 الرأي وقلة نظر في العاقبة وإنما تكون الزلة مع العجلة, ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدًا, ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر, وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة فقال: وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا, فقال المثنى بن حارثة: وقد سمعت مقالتك يا أخا قريش, والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا ومتابعتك على دينك, وإنما نزلنا بين صريتين: اليمانية والشامية. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما هاتان الصريتان؟ ". فقال: أنهار كسرى ومياه العرب, فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور, وعذره غير مقبول, وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا أن لا نحدث حدثًا ولا نؤوي محدثًا, وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا قريش مما تكره الملوك, فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق, وإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه, أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم, ويفرشكم نساءهم, أتسبحون الله وتقدسونه؟ " فقال النعمان بن شريك: اللهم فلك ذلك, قال: فتلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} 1 ثم نهض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قابضًا على يد أبي بكر وهو يقول: "يا أبا بكر, أية أخلاق في الجاهلية ما أشرفها, بها يدفع الله -عز وجل- بأس بعضهم عن بعض, وبها يتحاجزون فيما بينهم" قال: فدفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج فما نهضنا حتى بايعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فلقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد سُرّ بما كان من أبي بكر, ومعرفته بأنسابهم. "شرح" هامتها: رأسها, واللهازم في الأصل: جمع لهزمة بالكسر   1 سورة الأحزاب الآية: 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 واللهزمتان: عظمتان ناتئتان في اللحيين تحت الأذنين, وتيم الله بن ثعلبة بن عكابة من بني ربيعة يقال لهم: اللهازم قاله الجوهري, ذهل: حي من بكر وهما ذهلان كلاهما من ربيعة, أحدهما: ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة, والآخر: ذهل بن ثعلبة بن عكابة, حامي الذمار أي: إذا ذمر وغضب حمى, وذمر أي: حث يقال: تذامر القوم أي: حث بعضهم بعضًا وذلك في الحرب, وذمر الأسد إذا زأر, والحوفزان بفاء وزاي: هو لقب الحارث بن شريك الشيباني لقب بذلك؛ لأن قيس بن عاصم التميمي حفزه بالرمح حين خاف أن يفوته, ودغفل: هو ابن حنظلة النسابة أحد بني شيبان, والدغفل: ولد الفيل قاله الجوهري, بقل وجهه: خرجت لحيته, والندوة والندي على فعيل بمعنًى وهو مجلس القوم ومتحدثهم, وكذلك النادي والمنتدى فإن تفرقوا فليس بندي, وسميت دار الندوة بمكة التي بناها قصي لأنهم كانوا ينتدون فيها أي: يجتمعون للمشاورة, وإليها الإشارة على حذف المضاف والله أعلم, العبء بالكسر: الحمل وجمعه أعباء, سوا الثغرة أي: وسطها والثغرة: ثغرة النحر التي بين الترقوتين كأنه استعارها لمكان شرف النسب, مسنتون: مجدبون, وأسنت القوم أي: أجدبوا, الدرء: كل ما استترت به, يهيضه: يكسره وهاض العظم: كسره, الباقعة: الداهية وبقع الرجل إذا رمى بكلام قبيح, الطامة يقال لما علا وغلب: طم, غرر الناس: ساداتهم وغرة كل شيء: أوله وأكرمه, غديرتان: ضفيرتان, تريبا واحدة الترائب وهي عظام الصدر ما بين الترقوة والثندوة, المنعة: الامتناع ويقال: جمع مانع نحو كافر وكفرة, الجد بالفتح: الحظ, يديلنا أي: يجعل لنا الدولة تارة وعلينا أخرى, ظاهرة من المظاهرة: المعاونة, الصريتان: تثنية صرية لعله من الصرا بكسر الصاد وفتحها: الماء يطول مكثه واستنقاعه أو من الصراة: نهر بالعراق, التحاجز: التمانع. وربما يتوهم جاهل أن أبا بكر لما رجع عن دغفل كان عن انقطاع وعي ولم يكن رجوعه لذلك, فإن أبا بكر انتسب إلى أرومة ليس منها أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 ممن ذكره دغفل, وإلى بيت ليس فيه شيء من تلك المناصب, ولو ثبت أبو بكر لما أمكن دغفل أن يقول له: لست من تيم بن مرة ولا لست من قريش, ولكان لأبي بكر أن يقول له: يا أخا العرب إن جميع من ذكرته لم يكن إلا من الأرومة التي انتسبت إليها, وما ذكرته من المناصب ليس شيء منه في البيت الذي انتسبت إليه, ولا يقتضي كونهم ليسوا منا, فلا شيء من هذه المناصب, فينافي إخراجي من قريش, فإن قريشًا بطون كثيرة ولم أدع أني من أرومة تشملني ومن ذكرته, أما أنتم فادعيتم أنكم من الهامة من ذهل الأكبر, وذهل الأكبر أرومة من عددته عليكم, فيلزم من كل من كان من ذهل الأكبر أن يكون هؤلاء منهم, فلما أقررتم بانتفاء اللازم وهو أن هؤلاء ليسوا منكم مع الاعتراف بأنهم من ذهل الأكبر, فانتفى الملزوم وهو أن يكون ذهل الأكبر أرومتكم؛ لأنهم متفق عليهم فتعينتم للانتفاء. وإنما كان رجوعه -رضي الله عنه- من باب عظموا أقداركم بالتغافل فإنه رأى إنسانًا قصد التنقص به والغض من أرومته بكون هؤلاء العظماء النبلاء المشهورين بالمناقب ليسوا منكم, والحط من مرتبته بكون هذه المناصب الشريفة ليس شيء منها فيه, وعرف أنه مقتدر على الكلام وترويجه, والتعاريض بما ينقصه به بين ذلك الملأ فكان من النظر السديد ما فعله أبو بكر, وقول دغفل: أما والله لو ثبت لأخبرتك من قريش أي قريش الممتدحة بتلك المناقب والمناصب, وكأنه يقول: فهم قريش على الحقيقة, لا أنه يريد أن تيم بن مرة ليس من قريش فإنه علّامة بالنسب مشهور بذلك بين العرب, فكيف يعزب عنه هذا؟ وقول علي: لقد وقعت من الأعرابي على باقعة صحيح, ولا شك في أنه كذلك, وقول أبي بكر: ما من طامة إلا وفوقها طامة لا يلزم منه أنه أراد أنه أعلم منه بالنسب. وإنما لما كان أبو بكر من أفصح العرب, وأعرفهم بوجوه الكلام ومحاسنه وحقائقه ومجازاته, وأعلمهم بالنسب, لكنه لم يكن يستعمل التمويه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 والمعاريض التي هي شبيه بالباطل, وإن كانت حقا لمكان دينه وورعه, ودغفل وإن كان في الفصاحة والعلم بالنسب كذلك, إلا أنه لا دين له ولا ورع عنده يمنعانه من ذلك كما قد وقع, فإنه أوهم أن أبا بكر ليس من قريش بما عرض به من تعداد أقوام ونفي أبي بكر عنهم وهو محق في القول مبطل في الإيهام, فبذلك طم على أبي بكر والله أعلم. ذكر اختصاصه بالفتوى بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإمضاء النبي -صلى الله عليه وسلم: عن أبي قتادة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلًا له عليه بينة, فله سلبه" وكنت قتلت رجلًا من المشركين فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست فأعادها فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست فأعادها الثالثة فقال رجل: صدق يا رسول الله, سلبه عندي فأرضه عني, فقال أبو بكر: لا ها الله إذًا لا أعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله يعطيك سلبه فقال صلى الله عليه وسلم: "صدق, فأعطه" فبعث الدرع فابتعت به مخرفًا في بني سلمة, فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام, أخرجاه. "شرح" لا ها الله إذًا, هكذا يروونها للتنبيه وفيها لغتان: المد والقصر, وجاءت في هذا الموضع عوضًا عن واو القسم كهمزة الاستفهام في الله, ومد ألفها أحسن ويجوز حذفها لالتقاء الساكنين. وذكر أبو حاتم السجستاني فيما يلحن فيه العامة أنهم يقولون: لا ها الله إذا, والصواب: لا ها الله ذا والمعنى: لا والله هذا ما أقسم به فأدخل اسم الله بين ها وذا, فعلى هذا يكون هذا من الرواة لأنهم كانوا يروون بالمعنى, هذا مذهب الأخفش, وذهب الخليل إلى أن الخبر محذوف أبدًا وأن التقدير: لا والله إلا من ذا, ولا والله لا يكون ذا, فحذف لكثرة الاستعمال. واعلم أن بدار أبي بكر بالزجر والردع والفتوى واليمين على ذلك في حضرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم يصدقه الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما قال, ويحكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 بقوله, خصوصية شرف لم تكن لأحد غيره, وقد كان يفتي في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعة عشر من الصحابة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وعمار بن ياسر وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت وأبو الدرداء وسلمان وأبو موسى الأشعري. ولهذا لما قال ذلك الرجل فسألت رجالًا من أهل العلم, فأخبروني أن على ابني جلد مائة جلدة لم ينكر عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتوى غيره في زمانه؛ لأنها عنه صدرت وعن تعليمه أخذت, وأما الفتوى بحضرته على ما ذكرنا فلم تكن لأحد سوى أبي بكر. وعن محمد بن كعب القرطبي قال: بلغني أنه لما اشتكى أبو طالب شكواه التي قبض فيها قالت له قريش: أرسل إلى ابن أخيك يرسل إليك من هذه الجنة التي ذكرها ما يكون لك شفاء, فخرج الرسول حتى وجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر جالس معه فقال: يا محمد, إن عمك يقول لك: إني كبير ضعيف سقيم, فأرسل إلي من جنتك هذه التي تذكر من طعامها وشرابها شيئًا يكون لي فيه شفاء, فقال أبو بكر: إن الله حرمها على الكافرين, فرجع الرسول إليهم وأخبرهم بمقالة أبي بكر فحملوا عليه بأنفسهم, حتى أرسل رسولًا من عنده فوجد الرسول في مجلسه فقال له مثل ذلك فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرمها على الكافرين" خرجه في فضائل أبي بكر وهو مرسل. ذكر تعبيره الرؤيا بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي حال انفراده عنه, وتقرير النبي -صلى الله عليه وسلم- تعبيره في الحالي, وأنه كان أعلم الناس بالتعبير: عن ابن عباس أن رجلًا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- منصرفه من أحد فقال: يا رسول الله إني رأيت في المنام ظلة تنطف عسلًا وسمنًا، والناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 يتكففون فمنهم المقل ومنهم المستكثر, ثم رأيت سببًا واصلًا من السماء أخذت به فعلوت, ثم أخذ به آخر بعدك فعلا, ثم أخذ به آخر فانقطع, ثم وصل له فعلا قال: فقال أبو بكر: اتركني أعبرها يا رسول الله قال: "عبرها" قال: أما الظلة فالإسلام, وأما السمن والعسل فهو القرآن حلاوته ولينه, والناس يتكففون منه فمنهم المقل ومنهم المكثر, وأما السبب من السماء فهو الحق الذي أنت عليه أخذت به فعلوت ثم أخذ به آخر بعدك فعلا, ثم أخذ به آخر فعلا, ثم أخذ به آخر فانقطع, ثم وصل له فعلا, أصبت يا رسول الله؟ قال: "أصبت بعضًا, وأخطأت بعضًا" قال: أقسمت يا رسول الله لتخبرني قال: "لا تقسم" أخرجاه. "شرح" يتكففون ويستكفون بمعنًى, وهو أن يمد كفه يسأل, والسبب: الحبل في لغة هذيل. وعن عمرو بن شرحبيل قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "رأيت كأني في غنم سود إذ ردفتها غنم بيض, فلم أستبن السود من كثرة البيض" قال أبو بكر: يا رسول الله هذه العرب ولدت فيها, ثم تدخل العجم فلا تستبين العرب من كثرتهم, قال: "كذلك عبرها الملك". خرجه سعيد بن منصور في سننه والحاكم أبو عبد الله بن الربيع واللفظ له, وهو مرسل. وعن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لقي ابن بديل فقال: "ما كنت أرى إلا أنك قد قتلت, أتذكر رؤيا رأيتها فقصصتها على أبي بكر؟ إن صدقت رؤياك قتلت بغير أمر ملتبس" فقتل يوم صفين. خرجه في الفضائل. وعن عطاء قال: جاءت امرأة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إني رأيت كأن جائز بيتي انكسر وزوجها غائب فقال: "يرد عليك غائبك" فرجع زوجها ثم غاب, فجاءت الثانية فقالت: إني رأيت كأن جائز بيتي انكسر فقال لها مثل ذلك, فقدم زوجها ثم جاءت الثالثة فلم تجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 ووجدت أبا بكر وعمر أو أحدهما, فأخبرت بما رأت فقال: يموت زوجك, ثم أتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته فقال لها: "هل سألت أحدًا قبلي؟ " قالت: نعم قال: "فهو كما قال لك". وعن سعيد بن المسيب قال: رأت عائشة كأن وقع في بيتها ثلاثة أقمار فقصتها على أبي بكر, وكان من أعبر1 الناس فقال: إن صدقت رؤياك ليدفن في بيتك خير أهل الأرض ثلاثة, فلما قبض النبي -صلى الله عليه وسلم- قال أبو بكر: يا عائشة هذا خير أقمارك. خرجهما سعيد بن منصور. ذكر اختصاصه بالشورى بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وقبوله -صلى الله عليه وسلم- مشورته: عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم في قصة الحديبية, وأنه لما أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- عينه فقال: إن قريشًا جمعوا لك جموعًا وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك فقال: "أشيروا أيها الناس علي, أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت, فإن فاتونا كان الله قد قطع عينًا من المشركين وإلا تركناهم محرومين؟ " فقال أبو بكر: يا رسول الله خرجت عامدًا لهذا البيت لا تريد قتال أحد ولا حربًا, فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه قال: "امضوا على اسم الله -عز وجل" أخرجاه. ذكر اختصاصه بأمر الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- بمشاورته: عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أتاني جبريل -عليه السلام- فقال: يا محمد, إن الله تعالى أمرك أن تستشير أبا بكر" خرجه تمام في فوائده وأبو سعيد النقاش. ذكر اختصاصه بأنه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يزال عنده يسمر في أمر المسلمين: عن عمر قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يزال يسمر عند أبي بكر الليلة في   1 من أعظمهم تعبيرا للرؤيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الأمر من أمر المسلمين, وإنه سمر عنده ذات ليلة وأنا معه, فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخرجنا معه فإذا رجل قائم يصلي في المسجد, فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستمع قراءته فما كدنا نعرفه, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يقرأ القرآن رطبًا كما أنزل, فليقرأه على قراءة ابن أم عبد". ذكر ما جاء في أن الله تعالى يكره تخطئة أبي بكر: عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن الله يكره في السماء أن يخطأ أبو بكر في الأرض" وعنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بعثه إلى اليمن استشار ناسًا من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وأسيد بن حضير فقال أبو بكر: لولا أنك استشرتنا ما تكلمنا فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "إني فيما لم يوح إلي كأحدكم" فتكلم القوم فتكلم كل إنسان برأيه قال: "ما ترى يا معاذ؟ " قال: أرى ما قال أبو بكر فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يكره من فوق سمائه أن يخطأ أبو بكر" أو قال: "أن يخطئ أبو بكر" خرجه الإسماعيلي في معجمه. ذكر اختصاصه بأنه أول من جمع القرآن: عن عبد خير قال: سمعت عليا يقول: رحم الله أبا بكر: كان من أعظم الناس أجرًا في جمع المصاحف, وهو أول من جمع بين اللوحين. خرجه ابن حرب الطائي وصاحب الصفوة. وعن زيد بن ثابت قال: أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة, فإذا عمر جالس عنده فقال أبو بكر: إن عمر جاءني فقال: إن القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقراء القرآن, وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في كل المواطن؛ فيذهب من القرآن كثير, وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن قال: قلت لعمر: وكيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: هو والله خير, فلم يزل يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 عمر, ورأيت في ذلك الذي رأى عمر قال زيد: فقال لي أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك, قد كنت تكتب الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتتبع القرآن فاجمعه, قال زيد: فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن, قال: قلت: كيف تفعلان شيئًا لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر: هو والله خير, فلم يزل أبو بكر يراجعني وفي أخرى: فلم يزل عمر يراجعني, حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر, قال: فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والعسب واللخاف وصدور الرجال, حتى وجدت آخر سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري, فلم أجدها مع أحد غيره: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} 1 خاتمة براءة, قال: فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله تعالى, ثم عند عمر حتى توفاه الله تعالى, ثم عند حفصة بنت عمر, خرجه البخاري. "شرح" استحر القتل أي: كثر واشتد, والعسب: جمع عسيب وهو سعف النخل, وأهل2 العراق يسمونها الجريد وقد تقدم, واللخاف: حجارة بيض رقاق واحدتها: لخفة. ذكر اختصاصه بأنه أول من أقام بالمسلمين الحج: عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استعمل أبا بكر وهو أول من جمع للناس الحج, ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- حج من قابل. أخرجه الحافظ أبو الحسين علي بن نعيم البصري, وهو حديث حسن. ذكر اختصاصه بأنه أول من تنشقّ عنه الأرض بعد النبي -صلى الله عليه وسلم: عن ابن عمر قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من تنشقّ عنه الأرض ثم أبو بكر ثم عمر, ثم آتي البقيع فيحشرون معي, ثم أنتظر أهل مكة حتى   1 سورة التوبة الآية: 128. 2 وكذلك أهل مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 يحشروا بين الحرمين" أخرجه أبو حاتم في فضائل عمر من قسم الأخبار. ذكر اختصاصه بأنه أول من يدخل الجنة من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم: عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أتاني جبريل -عليه السلام- فطاف بي في أبواب الجنة, فأراني الباب الذي أدخل أنا وأمتي منه" فقال أبو بكر الصديق: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ليتني كنت معك, قال: "أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي" خرجه البغوي في المصابيح الحسان, والملاء في سيرته وصاحب الفضائل وزاد: فضرب على منكبه وقال: "أما إنك أول من يدخل". ذكر اختصاصه بأنه أول من يرد الحوض: عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أول من يرد عليَّ يوم القيامة أبو بكر الصديق" خرجه الملاء في سيرته. ذكر مصاحبته النبي -صلى الله عليه وسلم- على الحوض: عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي بكر: "أنت صاحبي على الحوض, وصاحبي في الغار" خرجه الترمذي وقال: حسن صحيح. ذكر اختصاصه بمرافقته النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة: عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لكل نبي رفيق, ورفيقي في الجنة أبو بكر" أخرجه ابن الغطريف. وعن الزبير أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم إنك جعلت أبا بكر رفيقي في الغار, فاجعله رفيقي في الجنة" خرجه في الفضائل. ذكر اختصاصه بالكون بين الخليل والحبيب يوم القيامة: عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 نصب لإبراهيم -عليه السلام- منبر أمام العرش, ونصب لي منبر أمام العرش, ونصب لأبي بكر كرسي فيجلس عليه وينادي منادٍ: يا لك من صديق بين حبيب وخليل" خرجه الخطيب البغدادي, وخرج الملاء معناه وقال في الثلاثة: كرسي كرسي. ذكر اختصاصه بأنه لا يحاسب يوم القيامة من بين الأمة: عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "قلت لجبريل حين أسري بي إلى السماء: يا جبريل, هل على أمتي حساب؟ قال: كل أمتك عليها حساب ما خلا أبا بكر, فإذا كان يوم القيامة قيل له: يا أبا بكر ادخل الجنة فيقول: ما أدخل حتى يدخل معي من كان يحبني في الدنيا" خرجه أبو الحسن العتيقي وصاحب الديباج وصاحب الفضائل, وقال: غريب. ذكر اختصاصه بتجلي الله تعالى له يوم القيامة خاصة: عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر الصديق: "يا أبا بكر, إن الله -عز وجل- يتجلى للخلائق عامة, ويتجلى لك خاصة" خرجه الملاء في سيرته وصاحب الفضائل وقال: حسن. وعن علي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ينادي منادٍ: أين السابقون الأولون؟ فيقال: من؟ فيقول: أين أبو بكر الصديق؟ فيتجلى الله لأبي بكر خاصة, وللناس عامة" خرجه ابن بشران وصاحب الفضائل وقال: غريب. وعن جابر قال: كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ جاء وفد عبد القيس فتكلم بعض القوم ولغا في كلامه, فالتفت النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر فقال: "يا أبا بكر أسمعت ما قالوا؟ " قال: نعم, قال: "فأجبهم" قال: فأجابهم وأجاد, فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر, أعطاك الله الرضوان الأكبر" فقال له بعض القوم: يا رسول الله, وما الرضوان الأكبر؟ قال: "يتجلى الله -عز وجل- للعباد عامة, ويتجلى لأبي بكر خاصة" خرجه الملاء أيضًا وصاحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 الفضائل وقال: غريب. "شرح" لغا أي: قال باطلًا. وعن أنس قال: لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الغار أخذ أبو بكر بركاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأدبر بزمام الناقة, فقال صلى الله عليه وسلم: "وهب الله لك الرضوان الأكبر" فقيل: وما الرضوان الأكبر؟ فذكر نحو ما تقدم ذكره الملاء. وعن الزبير بن العوام أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما خرج يريد الغار أتاه أبو بكر بناقة فقال: اركبها يا رسول الله, فلما ركبها التفت إلى أبي بكر فقال: "يا أبا بكر أعطاك الله الرضوان الأكبر" قال: يا رسول الله وما الرضوان الأكبر؟ قال: "يتجلى الله -عز وجل- يوم القيامة لعباده عامة, ويتجلى لك خاصة". خرجه صاحب الفضائل, ولا تضاد بين هذا وبين ما تقدم من أنه -صلى الله عليه وسلم- مشى حتى حفيت أقدامه فحمله أبو بكر على كاهله, إذ يجوز أن يكون هذا في السهل فلما ارتقى الجبل حيث لا تسلك الناقة مشى صلى الله عليه وسلم وحفيت أقدامه, وحمله أبو بكر حينئذ. ذكر اختصاصه بأنه لم يسمع واحد وطء جبريل حين ينزل بالوحي غيره: عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: لم يسمع وطء جبريل حين ينزل بالوحي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أبو بكر, خرجه ابن البختري. ذكر اختصاصه بكتب اسمه خلف اسم النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل سماء: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "عرج بي إلى السماء, فما مررت بسماء إلا وجدت فيها اسمي مكتوبًا: محمد رسول الله, وأبو بكر الصديق من خلفي" خرجه ابن عرفة العبدي والحافظ الثقفي, وخرجه في الفضائل عن ابن عمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 ذكر اختصاصه بكتبه اسمه مع اسم النبي -صلى الله عليه وسلم- في فرندة خضراء حول العرش: عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "رأيت ليلة أسري بي مكتوبًا حول العرش في فرندة خضراء بقلم من نور: لا إله إلا الله محمد رسول الله, أبو بكر الصديق". ذكر اختصاصه بكتبه اسمه مع اسم النبي -صلى الله عليه وسلم- في علم من نور: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن لله علمًا من نور مكتوبًا عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله, أبو بكر الصديق" خرجهما في الفضائل, وهذا مغاير لما تقدم فإن أسماء الأربعة تقدم أنها مكتوبة في لواء الحمد, وهذا علم من نور الله تعالى فحمل على أنه غيره, وكذلك ما تقدم في باب الثلاثة, فإنه تقدم أن أسماءهم مكتوبة على العرش ولم يذكر أنه في فرندة خضراء حول العرش كما في هذا, فيجوز أن يكون في موضع آخر غيره, وتقدم أن أسماءهم في كل ورقة في الجنة وهما في كل سماء, والله أعلم. ذكر اختصاصه بتقديم النبي -صلى الله عليه وسلم- إياه أميرًا على الحج في حياته -صلى الله عليه وسلم: عن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين رجع إلى المدينة من عمرة الجعرانة, بعث أبا بكر أمينًا على الحج, خرجه أبو حاتم في حديث طويل سيأتي في خصائص علي -رضي الله عنه. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى: أن لا يحج بعد هذا العام مشرك, ولا يطوف بالبيت عريان, أخرجاه. ذكر اختصاصه بالتقديم إمامًا في الصلاة حين غاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض شئونه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 عن سهل بن سعد قال: كان قتال في بني عمرو بن عوف فبلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- فأتاهم بعد الظهر ليصلح بينهم, فقال: "يا بلال إذا حضرت الصلاة ولم آت, فمر أبا بكر فليصل بالناس" قال: فلما أن حضرت العصر أقام بلال الصلاة ثم أمر أبا بكر فتقدم وصلى بهم, وجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدما دخل أبو بكر في الصلاة, فلما رأوه صفحوا, وجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشق الناس حتى قام خلف أبي بكر, وكان أبو بكر إذا دخل في الصلاة لم يلتفت, فلما رأى التصفيح لا يمسك عنه التفت فرأى النبي -صلى الله عليه وسلم- خلفه فأومأ إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- بيده أن امضه, فقام أبو بكر كهيئته فحمد الله على ذلك, ثم مشى القهقرى قال: فتقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصلى بالناس. فلما قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاته قال: "يا أبا بكر, ما منعك إذ أومأت إليك ألا تكون مضيت؟ " قال: فقال أبو بكر: لم يكن لابن أبي قحافة أن يؤم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال للناس: "إذا رابكم في صلاتكم شيء, فليسبح الرجل ولتصفح النساء" أخرجه أحمد وأبو حاتم في التقاسيم والأنواع, وأبو داود والنسائي. "شرح" التصفيح مثل التصفيق. ذكر اختصاصه -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر بأنه لا ينبغي أن يتقدمه غيره: عن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره" أخرجه الترمذي وقال: غريب, وخرجه السمرقندي ولفظه: قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ليصل أبو بكر للناس" قالوا: يا رسول الله لو أمرت غيره؟ قال: "لا ينبغي لأمتي أن يؤمهم إمام وفيهم أبو بكر" وخرجه في الفضائل ولفظه: قالت: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الأنصار ليصلح بينهم في شأن, فحضرت الصلاة فقال بلال لأبي بكر: قد حضرت الصلاة وليس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شاهدًا, فهل لك أن أؤذن وأقيم وتصلي بالناس؟ فقال: إن شئت, فأذن بلال وأقام فتقدم أبو بكر وصلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 بالناس, فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدما فرغوا, فقال: "أصليتم؟ " قالوا: نعم قال: "من صلى بكم؟ " قالوا: أبو بكر قال: "أحسنتم, لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يصلي بهم غيره" وفي رواية: "أن يؤمهم" وقال: حديث حسن غريب. هاتان والله أعلم قضيتان متغايرتان عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- في إحداهما إلى بلال إذا حضرت الصلاة أن يصلي بهم أبو بكر على ما تضمنه حديث الشيخين في الذكر قبل هذا, وفي الأخرى لم يعهد وعليه دل سياق لفظ هذا الحديث وطرق كثيرة في الصحيحين رويت كذلك ليس فيها عهد, والله أعلم. ذكر اختصاصه بتقديم النبي -صلى الله عليه وسلم- إياه إمامًا في مرض وفاته؛ تنبيهًا على خلافته: عن ابن عمر: لما اشتد برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعه قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" قالت له عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق إذا قام مقامك لا يسمع الناس من البكاء, قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" فعاودته مثل مقالها فقال: "إنكن صواحبات يوسف, مروا أبا بكر فليصل بالناس" أخرجاه وأبو حاتم واللفظ له. وعن عائشة قالت: لما ثقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاء بلال يؤذنه بالصلاة فقال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" قالت: فقلت: يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف, وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس, فلو أمرت عمر؟ فقال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" قالت: فقلت لحفصة: قولي له, فقالت له حفصة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف, وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس, قال: "إنكن صاحبات يوسف, مروا أبا بكر فليصل بالناس" أخرجاه وأبو حاتم. قال أبو حاتم: الصواب صواحب إلا أن السماع صواحبات, وخرجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 الترمذي وزاد في آخره: فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرًا, وقال: حديث حسن صحيح. وفي بعض طرق الصحيحين أنه لما أرسل إلى أبي بكر قال أبو بكر لعمر: يا عمر صل بالناس فقال عمر: أنت أحق بذلك, فصلى أبو بكر تلك الأيام. وعن عبد الله بن زمعة قال: لما استعزّ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا عنده في نفر من المسلمين, دعاه بلال إلى الصلاة فقال: "مروا من يصلي" فخرج عبد الله بن زمعة فإذا عمر في الناس وكان أبو بكر غائبًا, فقلت: يا عمر قم فصل بالناس فتقدم وكبر, فلما سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- صوته قال: "فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون" فبعث إلى أبي بكر بعد أن صلى عمر تلك الصلاة, فصلى بالناس. وفي رواية: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما سمع صوت عمر خرج حتى أطلع رأسه من حجرته, ثم قال: "لا لا لا, ليصل للناس ابن أبي قحافة" يقول ذلك مغضبًا, أخرجهما أبو داود. وخرج أحمد معناه وخرجه ابن إسحاق ولفظه: عن عبد الله بن زمعة قال: لما استعزّ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا عنده في نفر من المسلمين -قال- دعاه بلال إلى الصلاة فقال: "مروا من يصلي بالناس" قال: فخرجت فإذا عمر في الناس وأبو بكر غائب فقلت: قم يا عمر فصل بالناس قال: فقام, فلما كبر سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صوته وكان عمر رجلًا مجهرًا قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون" قال: فبعث إلى أبي بكر, فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة فصلى بالناس, قال عبد الله بن زمعة: قال لي عمر: ويحك ماذا صنعت بي يابن زمعة؟ والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرك بذلك, ولولا ذلك ما صليت بالناس, قال: قلت: والله ما أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشيء ولكني حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة بالناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 "شرح" استعز برسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي: اشتد به المرض وأشرف على الموت, يقال: عز يعز إذا اشتد, واستعز به المرض وغيره إذا اشتد عليه وغلبه, ثم بني الفعل للمفعول الذي هو الجار والمجرور. وفي هذا كله أبين البيان, وأوضح الدلالة على أنه الخليفة بعده. وعن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليصل بالناس أبو بكر" قالت عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل حضر فقال: "ابعثوا إلى عمر" فقال عمر: ما كنت لأتقدم وأبو بكر حي, فتقدم أبو بكر فصلى بالناس, خرجه في الفضائل وقال: حسن. وعن عبد الله بن عمير الليثي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أبا بكر أن يصلي بالناس الصبح وإن أبا بكر كبر, فوجد النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض الخفة فقام يفرج الصفوف قال: وكان أبو بكر لا يلتفت إذا صلى, فلما سمع أبو بكر الحس من ورائه عرف أنه لا يتقدم إلى ذلك المقام إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخنس وراءه إلى الصف, فرده النبي -صلى الله عليه وسلم- مكانه وجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى جنبه, خرجه الشافعي في مسنده وخرجه ابن إسحاق وقال مكان فرده: فدفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى جنبه, فصلى قاعدًا عن يمين أبي بكر. "شرح" خنس أي: انقبض وتأخر. وعن أنس قال: لم يخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلينا ثلاثًا فأقيمت الصلاة, فذهب أبو بكر يتقدم فقام نبي الله -صلى الله عليه وسلم- بالحجاب فرفعه, فلما وضح لنا وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما نظرنا منظرًا قط كان أعجب إلينا من وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين وضح لنا, قال: فأومأ نبي الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر أن يتقدم وأرخى الحجاب, فلم يقدر عليه حتى مات -صلى الله عليه وسلم, أخرجاه. وعنه أن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي توفي فيه حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة كشف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ستر الحجرة فنظرنا إليه وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف, ثم تبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضاحكًا ... الحديث, أخرجه مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 ذكر اختصاصه بصلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- خلفه, بعد أمره له بالتقدم إمامًا: عن أنس قال: آخر صلاة صلاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع القوم, صلى في ثوب واحد متوشحًا خلف أبي بكر. خرجه النسائي والطبراني في معجمه. وعن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى خلف أبي بكر. وعن سهل بن سعيد مثله, وعن عائشة نحوه وقالت: قاعدًا. أخرجه ابن حبان. وعن أسماء قالت: رأيت أبي يصلي في ثوب واحد وثيابه إلى جنبه فقلت له: يا أبت, أتصلي في ثوب واحد وإلى جنبك ثيابك؟ فقال: يا بنية, آخر صلاة صلاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلفي في ثوب واحد. وعن أبي موسى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى خلف أبي بكر, صحيح متفق عليه. ذكر اختصاصه بالحوالة عليه بعد وفاته تنبيهًا على خلافته, وأنه القائم بعده: عن جبير بن مطعم أن امرأة أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- تسأله شيئًا فقال لها: "ارجعي إلي" فقلت له: يا رسول الله فإن رجعت ولم أجدك, تعرض بالموت فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "وإن لم تجديني فأت أبا بكر". أخرجاه والترمذي وأبو حاتم وخرجه صاحب الفضائل عن ابن عباس بزيادة تصريح بها ولفظه قال: جاءت امرأة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فسألته شيئًا فقال: "تعودين" قالت: يا رسول الله إن عدت فلم أجدك, تعرض بالموت قال: "إن جئت فلم تجديني, فأت أبا بكر؛ فإنه الخليفة من بعدي". وقال: غريب, وقال في باب الشيخين حديث اليهودي في هذا المعنى, وفي ذكر عمر بعد أبي بكر, وقد تقدم في باب الثلاثة حديث الأعرابي وحديث ابن المصطلق في هذا المعنى وفيه ذكر عثمان بعد عمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 ذكر اختصاصه بإرادة العهد إليه في الخلافة ثم ترك ذلك إحالة على إباء الله تعالى خلاف ذلك والمؤمنين: عن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرضه: "ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتابًا؛ فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى, ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " أخرجاه. وعنها أنها قالت: وا رأساه فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ذلك لو كان وأنا حي, فأستغفر لك وأدعو لك" فقالت عائشة: وا ثكلاه والله إني لأظنك تحب موتي, ولو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسًا ببعض أزواجك فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بل أنا وا رأساه, لقد عممت أو أردت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون, أو يدفع الله ويأبى المؤمنون" انفرد البخاري بإخراجه. وعنها قالت: لما ثقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لعبد الرحمن بن أبي بكر: ائتني بكتف أو لوح حتى أكتب لأبي بكر كتابًا لا يختلف عليه, فلما ذهب عبد الرحمن ليقوم قال: "أبى الله والمؤمنون أن يختلف على أبي بكر" أخرجه أحمد, وعنها قالت: لما كان وجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي قبض فيه قال: "ادعوا إلي أبا بكر فلنكتب؛ لئلا يطمع في الأمر طامع أو يتمنى متمن" ثم قال: "يأبى الله ذلك والمؤمنون" قالت عائشة: فأبى الله ذلك والمؤمنون إلا أن يكون أبي فكان أبي, خرجه في الفضائل وقال: بإسناد صحيح على شرط الشيخين. وعن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في شكايته التي توفي فيها: "يا عائشة, ادعي إلي عبد الرحمن بن أبي بكر حتى أكتب لأبي بكر كتابًا لا يختلف فيه بعدي, معاذ الله أن يختلف على أبي بكر أحد من المؤمنين" خرجه في الفضائل وقال: غريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 ذكر اختصاصه بالسبق إلى أنواع من البر في اليوم الواحد: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم اليوم صائمًا؟ " قال أبو بكر: أنا قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ " قال أبو بكر: أنا قال: "فمن أطعم اليوم منكم مسكينًا؟ " قال أبو بكر: أنا قال: "فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟ " قال أبو بكر: أنا فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة" أخرجه أحمد ومسلم. وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أيكم أصبح اليوم صائما؟ " قال: فسكت القوم فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله, ثم قال: "أيكم تصدق اليوم على مسكين؟ " قال: فسكت القوم فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله فقال: "أيكم شيع اليوم جنازة؟ " فسكت القوم فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله, وفي أخرى: "أيكم عاد اليوم مريضًا؟ " قال أبو بكر: أنا فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "والذي بعثني بالحق, ما جمعهن رجل في اليوم إلا دخل الجنة" خرجه الملاء في سيرته. وعن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه: "أيكم أصبح صائمًا؟ " قال أبو بكر: أنا قال: "فأيكم عاد مريضًا؟ " قال أبو بكر: أنا قال: "فأيكم تبع جنازة؟ " قال أبو بكر: أنا وخفيت علي الرابعة فقال: "من كملت فيه هذه الأربع, بني له بيت في الجنة" خرجه في فضائله. وعن أبي جراد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه: "هل فيكم من مشى في جنازة؟ " قال أبو بكر: أنا قال: "هل فيكم من تصدق اليوم على مسكين؟ " قال أبو بكر: أنا قال: "هل فيكم من أصبح صائمًا؟ " قال أبو بكر: أنا قال: "سبقت أنت, سبقت إلى الجنة أربعين عامًا". وعن عبد الرحمن بن أبي بكر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى الصبح فلما قضى صلاته قال: "أيكم أصبح اليوم صائمًا؟ " فقال عمر بن الخطاب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 أما أنا يا رسول الله بت لا أحدث نفسي بالصوم وأصبحت مفطرًا, فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله بت الليلة وأنا أحدث نفسي بالصوم فأصبحت صائمًا فقال: "فأيكم عاد اليوم مريضًا؟ " فقال عمر: يا رسول الله إنما صلينا الساعة ولم نبرح فكيف نعود المريض؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله أخبروني بالأمس أن أخي عبد الرحمن بن عوف وجع فجعلت طريقي عليه فسألت به ثم أتيت المسجد, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فأيكم تصدق اليوم بصدقة؟ " فقال عمر: يا رسول الله ما برحنا معك منذ صلينا أو قال: لم نبرح منذ صلينا فكيف نتصدق؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله, لما جئت من عند عبد الرحمن دخلت المسجد فإذا سائل يسأل وابن لعبد الرحمن بن أبي بكر معه كسرة خبز فأخذتها فناولتها السائل, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر: "فأبشر بالجنة" مرتين, فلما سمع عمر بذكر الجنة تنفس فقال: هاه, فنظر إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال كلمة رضّى بها عمر: "رحم الله عمر, إن عمر يقول: ما سابقت أبا بكر إلى خير قط إلا سبقني إليه" خرجه بهذا السياق الخلعي, وخرج أبو داود منه التصدق بالكسرة في المسجد في باب المسألة في المساجد. وقد ورد مثل هذا لعمر وسيأتي في خصائصه, وهو محمول على أن ذلك كان في يومين اختص أبو بكر بيوم اجتمع له فيه تلك المبرات, وعمر بيوم آخر. وعن صلة بن زفر قال: كان أبو بكر إذا ذُكر عند علي قال: السباق, والذي نفسي بيده ما استبقنا إلى خير قط إلا سبقنا إليه أبو بكر, خرجه ابن السمان في الموافقة. ذكر اختصاصه بالصلاة إمامًا على فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وعليها لما ماتت: عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده علي بن الحسين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 قال: ماتت فاطمة بين المغرب والعشاء, فحضرها أبو بكر وعمر وعثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف, فلما وضعت ليصلى عليها قال علي -رضي الله عنه: تقدم يا أبا بكر قال: وأنت شاهد يا أبا الحسن؟ قال: نعم تقدم فوالله لا يصلي عليها غيرك, فصلى عليها أبو بكر -رضي الله عنهم أجمعين- ودفنت ليلًا. خرجه البصري وخرجه ابن السمان في الموافقة. وفي بعض طرقه فكبر عليها أربعًا, وهذا مغاير لما جاء في الصحيح فإنه ورد في الصحيح أن عليا لم يبايع أبا بكر حتى ماتت فاطمة, وطريان هذا مع عدم البيعة يبعد في الظاهر والغالب وإن جاز أن يكونوا لما سمعوا بموتها حضروها, فاتفق ذلك ثم بايع بعده. ذكر أن فاطمة لم تمت إلا راضية عن أبي بكر: عن عامر قال: جاء أبو بكر إلى فاطمة وقد اشتد مرضها فاستأذن عليها فقال لها علي: هذا أبو بكر على الباب يستأذن فإن شئت أن تأذني له؟ قالت: أوذاك أحب إليك؟ قال: نعم, فدخل فاعتذر إليها وكلمها فرضيت عنه. وعن الأوزاعي قال: بلغني أن فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غضبت على أبي بكر, فخرج أبو بكر حتى قام على بابها في يوم حار ثم قال: لا أبرح مكاني حتى ترضى عني بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدخل عليها علي فأقسم عليها لترضى فرضيت, خرجه ابن السمان في الموافقة. ذكر اختصاصه بالدعاء بخليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم: عن ابن أبي مليكة قال: قيل لأبي بكر: يا خليفة الله قال: لست بخليفة الله ولكني خليفة رسول الله وأنا راضٍ بذلك, خرجه أحمد وأبو عمر. وعن ابن عمر أن أبا بكر بعث يزيد بن أبي سفيان إلى الشام فمشى معهم نحوًا من ميلين فقيل له: يا خليفة رسول الله لو انصرفت؟ فقال: لا إني سمعت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من اغبرّت قدماه في سبيل الله -عز وجل- حرمهما الله على النار" خرجه في فضائله. وقد تقدم في ذكر ثبات قلبه وشدة بأسه يوم الردة قول علي -رضي الله عنه- لما خرج إلى قتال أهل الردة: إلى أين يا خليفة رسول الله؟ ولا خلاف بين فرق المسلمين من الموافقين والمخالفين أن أبا بكر كان يدعى بخليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يدع بذلك أحد غيره. ذكر اختصاص بيته بوجود أربعة فيه: بعضهم ولد بعض, كلهم رأوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وآمنوا به وسمعوا كلامه ورووا عنه وهم: أبو بكر وأبوه أبو قحافة وابنته أسماء وابنها عبد الله بن الزبير, وأيضًا وجد فيه أربعة بعضهم ولد بعض لثلاثة منهم رؤية ورواية, وواحد صحت له رؤية دون رواية. عن موسى بن عقبة قال: لا نعلم أربعة أدركوا النبي -صلى الله عليه وسلم- هم وأبناؤهم إلا هؤلاء الأربعة: أبا قحافة وأبا بكر وعبد الرحمن بن أبي بكر وأبا عتيق بن عبد الرحمن بن أبي بكر, واسم أبي عتيق محمد. خرجه القاضي أبو بكر بن مخلد, وهذا أبو عتيق ولد في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم. قال البخاري: وصحت له رضية ولم تصح له رواية, وهذه منقبة ليست في بيت أحد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا على الوصف الأول ولا على الوصف الثاني, إلا في بيت أبي بكر على الوصفين كما ذكرناه, والله أعلم. ذكر اختصاصه بآي من القرآن نزلت فيه أو بسببه: منها قوله تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} 1 الآية. لا خلاف أن المراد بأحد الاثنين أبو بكر وأنه المراد بصاحبه, وقد تقدم ذلك في قصة الغار من   1 سورة التوبة الآية: 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 الصحيحين وغيرهما. وعن الحسن قال: والله لقد عاب الله -عز وجل- أهل الأرض جميعًا بهذه الآية إلا أبا بكر, خرجه في فضائله وعن الشعبي مثله, خرجه الواحدي. وعن عمرو بن الحارث أن أبا بكر قال: أيكم يقرأ سورة التوبة؟ قال رجل: أنا, فقرأ فلما بلغ: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} 1 بكى أبو بكر وقال: أنا والله صاحبه. وقال ابن عباس في قوله تعالى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} 2 يعني: على أبي بكر, فأما النبي -صلى الله عليه وسلم- فكانت السكينة عليه قبل ذلك, ومنها قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} 3 الآية. وعن عائشة في حديث الإفك قصة مسطح بن أثاثة قالت: حلف أبو بكر أن لا ينفق على مسطح أبدًا, فنزل قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} إلى {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} 4 قال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي, فأرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه فقال: لا أنزعها أبدًا أخرجاه, ومنها قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} 5 عن ابن عباس: أنها نزلت في أبي بكر والخطاب لسعد بن أبي وقاص, ذكره الواحدي وقيل: المراد النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكره الماوردي, ومنها {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} 6 عن علي قال: جاء بالصدق محمد -صلى الله عليه وسلم- وصدق به أبو بكر, خرجه ابن السمان في الموافقة وخرجه في فضائله, ومنها {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ   1 سورة التوبة الآية: 40. 2 سورة التوبة الآية: 26. 3 سورة النور الآية: 22. 4 سورة النور الآية: 22. 5 سورة لقمان الآية: 5. 6 سورة الزمر الآية: 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} 1 الآية, عن ابن عباس قال: نزلت في أبي بكر, وقيل غير ذلك. ومنها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} 2, عن ابن عباس قال: نزلت في أبي بكر, ذكره الواحدي. ومنها قوله تعالى: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 3 عن ابن عباس قال: هو أبو جهل وأبو بكر وقيل غير ذلك, حكاه الثعلبي. ومنها قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} 4 إلى قوله: {مِنَ الْمُسْلِمِينَ} , عن ابن عباس قال: نزلت في أبي بكر فاستجاب الله له, فأسلم والده وأولاده كلهم, رواه عقيل بن خالد وقد تقدم ذكرها في ذكر إسلام أمه. ومنها قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ} 5 الآية قال الكلبي: نزلت في أبي بكر, ذكره الواحدي, ومنها قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 6 الآية, عن ابن جريج أن أبا قحافة سبّ النبي -صلى الله عليه وسلم- فصكه أبو بكر صكة شديدة سقط منها, ثم ذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أفعلته؟ " قال: نعم قال: "فلا تعد إليه" فقال أبو بكر: والله لو كان السيف قريبًا مني لقتلته فنزلت, خرجه الواحدي وأبو الفرج, وقيل: نزلت في جماعة وقد تقدم.   1 سورة الزمر الآية 9. 2 سورة فصلت الآية: 30. 3 سورة فصلت الآية: 40. 4 سورة الأحقاف الآية: 15. 5 سورة الحديد الآية 10. 6 سورة المجادلة الآية 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 ومنها قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} 1, عن عبد الله بن الزبير عن بعض أهله قال: قال أبو قحافة لابنه أبي بكر: أراك تعتق رقابًا ضعافًا, فلو أنك إذا فعلت ما فعلت أعتقت رجالًا يمنعونك ويقومون دونك, فقال أبو بكر: يا أبت إنما أريد ما أريد قال: فما نزلت هذه الآيات إلا فيه وفيما قاله أبوه: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} إلى آخر السورة, خرجه ابن إسحاق الواحدي في أسباب النزول. وقد روي ما يدل على حكمها: عن علي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار" قالوا: يا رسول الله أفلا نتكل؟ قال: "اعملوا, فكل ميسر لما خلق له" ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} . أخرجاه, ولا تضاد بينهما لجواز أن تكون نزلت بسبب فعل أبي بكر ثم عمم الحكم. وعن ابن عباس: أن أبا بكر لما اشترى بلالًا وأعتقه قال المشركون: ما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده, فنزلت: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} 2 إلى آخر السورة, خرجه الواحدي. وعن ابن مسعود أن السورة كلها نزلت مدحًا في أبي بكر الصديق وما فيها من ذم ففي أمية بن خلف سيد بلال الذي ابتاعه أبو بكر منه, فقوله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} 3 سعي أبي بكر وأمية, {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} لا إله إلا الله, يعني أبا بكر {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} الجنة {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى, وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} بلا إله إلا الله, يعني أمية وأبيا {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} النار {تَرَدَّى} مات وهلك {الْأَشْقَى, الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أمية وأبي.   1 سورة الليل الآية: 6. 2 سورة الليل الآية: 19. 3 سورة الليل الآية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 الفصل العاشر: فيما جاء متضمنًا أفضليته وجميع أحاديث هذا الفصل دخلت في الفصل الذي قبله؛ لكونها خصائص وفي أبواب قبله, ونحن ننبه عليها ليقع الاستدلال بها في بابها, وتعلم أماكنها فتستخرج منها عند إرادتها. فمن ذلك أحاديث أولية إسلامه, وفيه حديث أبي سعيد عنه: "ألست أحق لهذا الأمر؟ ألست صاحب كذا؟ " وهو في فصل أنه أول الناس إسلامًا, ومنها أحاديث: "لو كنت متخذًا خليلًا" ووجه دلالتها على الأفضلية أنه لم يعدل عنه بالخلة إلا إلى الله تعالى, ولم يؤهل للخلة أحدًا من المخلوقين غيره, فإن صح حديث أبي في اتخاذه -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر خليلًا فأعظم به, ومنها حديث جابر في أنه خير الخلق وأفضلهم بعده -صلى الله عليه وسلم, وحديث أنس في أنه خير أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم, وحديث أبي الدرداء في أنه خير من طلعت عليه الشمس بعد النبيين, وحديث جابر في أنه أفضل الصحابة في الدنيا والآخرة, وأحاديث ابن عمر في التخيير وهي مذكورة في باب الثلاثة منها: كنا نخير بين الصحابة فنخير أبا بكر, ومنها "خير الناس أبو بكر" وحديث محمد بن الحنفية عن علي أنه خير الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وحديث عبد خير وحديث النزال بن سبرة, وحديث أبي جحيفة ومحمد بن الحنفية أيضًا كلهم عن علي مثله كلها في باب أبي بكر وعمر, وحديث عمر: "أبو بكر سيدنا وخيرنا" وحديثه الآخر: "إن الله قد جمع أمركم على خيركم" وحديث علي بن أبي طالب: "تركتكم, فإن يرد الله بكم خيرًا يجمعكم على خيركم كما جمعنا بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على خيرنا" وحديث ابن مسعود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جعل إمامنا خيرنا, وحديث أبي أمامة في راجحيته بالأمة وحديث ابن عمر مثله, كلاهما في باب ما دون العشرة, وحديث أبي بكر في راجحيته بعمر ثم بعثمان في باب الثلاثة, وحديث أبي سعيد كان أبو بكر أعلمنا, وحديثه الآخر في المعنى, وحديث أبي المعلى في معناه أيضًا, وتقدم في باب الأربعة والثلاثة والشيخين ما يدل على طرف من ذلك تصريحًا وتلويحًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 الفصل الحادي عشر: فيما جاء متضمنًا صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالجنة وقد تقدم من أحاديث هذا الفصل ما جاء في العشرة وفيما دون العشرة وفي الأربعة وفي الثلاثة وفي الشيخين في أبوابهم في كل باب ذكر يخص هذا المعنى, وتقدم في فصل الخصائص حديث أبي هريرة في أنه أول من يدخل الجنة, وحديث ابن عمر والزبير أنه رفيقه في الجنة. ذكر ما جاء أنه يدعى من أبواب الجنة كلها: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في باب الجنة: يا عبد الله هذا خير, فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة, ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد, ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة, ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان" فقال أبو بكر: يا رسول الله بأبي أنت وأمي, هل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "نعم, وأرجو أن تكون منهم" أخرجاه أحمد والترمذي وأبو حاتم. وعنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من أنفق من ماله زوجين في سبيل الله, ابتدرته حجبة الجنة: يا عبد الله يا مسلم, هذا خير لك" قال: فضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخذ أبي بكر ثم قال: "أما إنك منهم" خرجه القلعي. "شرح" قوله: زوجين, جاء في الحديث قيل: وما الزوجان؟ قال: "فرسان أو عبدان أو بعيران" وهكذا فسره بعض العلماء وقال الحسن البصري: شيئان متغايران: درهم ودينار, درهم وقوت, خف ولجام. وقال الباجي: يحتمل أن يريد بذلك العمل من صلاتين أو صيام يومين, والأصل في الزوج الصنف والنوع من كل شيء وكل شيئين متفرقين مثلين كانا أو غير مثلين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 فهما زوجان, وكل واحد منهما زوج, والمراد: أنفق نوعين من ماله. ذكر ما جاء أن الملائكة تزفه إلى الجنان مع النبيين والصديقين: عن جابر بن عبد الله قال: قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تأتي الملائكة بأبي بكر الصديق مع النبيين والصديقين تزفه إلى الجنة زفافًا". خرجه في فضائله وقد تقدم مثله في باب أبي بكر وعمر مختصا بأبي بكر من حديث زيد بن ثابت, إلا أنه لم يذكر فيه النبيين والصديقين. ذكر تنعمه في الجنة: عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن طير الجنة كأمثال البخت نزعًا في شجر الجنة" قال أبو بكر: يا رسول الله إن هذه الطير ناعمة؟ فقال: "آكلها أنعم منها -قالها ثلاثًا- وإني لأرجو أن تكون ممن يأكل منها" خرجه أحمد. وعن ابن عمر قال: ذكر عند النبي -صلى الله عليه وسلم- طوبى فقال: "يا أبا بكر, هل بلغك ما طوبى؟ " قال: الله ورسوله أعلم قال: "طوبى: شجرة في الجنة لا يعلم ما طولها إلا الله -عز وجل- يسير الراكب تحت غصن من أغصانها سبعين خريفًا, يقع عليها طير أمثال البخت" قال أبو بكر: إن هذا الطير لناعم يا رسول الله؟ قال: "أنعم منه من يأكله, وأنت منهم إن شاء الله تعالى يا أبا بكر" خرجه الخلعي. ذكر وصف برج له في الجنة: عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لما دخلت الجنة ليلة أسري بي نظرت إلى برج أعلاه حرير وأسفله حرير, فقلت: يا جبريل لمن هذا البرج؟ فقال: هذا لأبي بكر" خرجه في فضائله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 ذكر ما له من الحواري الورديات: عن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة حورًا خلقهن الله تعالى من الورد يقال لهن: الورديات, لا يتزوج بهن إلا نبي أو صديق أو شهيد, وإن لأبي بكر منهن أربعمائة". ذكر تشوق أهل الجنة إليه, وتسليمهم عليه إذا دخلها: عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يدخل رجل الجنة, فلا يبقى أهل دار ولا أهل غرفة إلا قالوا: مرحبًا, إلينا إلينا" قال أبو بكر: يا رسول الله ماتوا على هذا الرجل في ذلك اليوم؟ قال: "أجل وأنت هو يا أبا بكر". خرجه أبو حاتم هكذا بالتاء باثنتين معدى بعلى, ولعله أراد: التوى بالقصر الهلاك, وخرجه في الفضائل: ماثوا هذا الرجل بالمثلثة بإسقاط على, وقال: الثوي الإقامة يقال: ثوى يثوي ثوا أي: أقام, والأول أنسب للجواب بأجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 الفصل الثاني عشر: في ذكر نبذ من فضائله قال أبو عمر وغيره واللفظ له: لا يختلفون أن أبا بكر شهد بدرًا والحديبية مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنه لم يكن رفيقه من أصحابه غيره, وأنه كان مؤنسه في الغار, وأنه قام بقتال أهل الردة وظهر من فضل رأيه في ذلك وشدة بأسه مع لينه ما لم يحتسب, وأظهر الله به دينه, وقتل على يديه كل من ارتد عن دين الله حتى ظهر أمر الله وهم كارهون. وقال صاحب الصفوة: ذكر أهل العلم بالتواريخ أنه لم يفته مشهد من المشاهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنه ثبت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد حين انهزم الناس ودفع إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رايته العظمى يوم تبوك, وأنه تنزه عن شرب المسكر في الجاهلية والإسلام, وأنه أول من فاء تحرزًا من الشبهات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 ذكر ما جاء في أنه كان خيرًا كله: عن طارق قال: جاء ناس إلى ابن عباس فقالوا له: أي رجل كان أبو بكر؟ قال: كان خيرًا كله أو قال: كالخير كله على حدة كانت فيه, خرجه أبو عمر. وعن عبد خير عن علي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الخير ثلاثمائة وسبعون خصلة, إذا أراد الله بعبد خيرًا جعل فيه واحدة منهن, فدخل بها الجنة" قال: فقال أبو بكر: يا رسول الله هل فيَّ شيء منها؟ قال: "نعم, جمع من كل" خرجه في فضائله وخرجه ابن البهلول من حديث سليمان بن يسار عن النبي -صلى الله عليه وسلم, وعن الربيع بن أنس قال: مكتوب في الكتاب الأول: مثل أبي بكر مثل القطر1 حيثما وقع نفع. خرجه في فضائله أيضًا وقال: حسن. ذكر إثبات أفضليته بالمصاهرة: تقدم في باب ما دون العشرة مصاهرته -صلى الله عليه وسلم- والمصاهرة إليه موجبة للجنة محرمة على النار, وعن ابن عمر عن عمر: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كل نسب وصهر منقطع إلا نسبي وصهري" خرجه تمام في فوائده, وسيأتي كيفية تزوجه -صلى الله عليه وسلم- بعائشة في بابها من كتاب مناقب أمهات المؤمنين, إن شاء الله تعالى. ذكر منزلته عند النبي -صلى الله عليه وسلم: عن ابن عباس قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واقفًا مع علي, إذ أقبل أبو بكر فصافحه النبي -صلى الله عليه وسلم- وعانقه وقبل فاه أبي بكر فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا الحسن, منزلة أبي بكر عندي كمنزلتي عند ربي" خرجه الملاء في سيرته. ذكر أنه كان عنده بمنزلة سمعه وبصره: عن ابن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي بكر يوم بدر وقد أراد أن يتقدم   1 المطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 في أول الخيل فمنعه وقال: "أما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري". خرجه الواحدي وأبو الفرج في أسباب النزول في قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ} 1 الآية. ذكر أدبه مع النبي -صلى الله عليه وسلم: عن زيد بن الأصم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي بكر: "أنا أكبر أو أنت؟ " قال: لا بل أنت أكبر مني وأكرم وخير مني, وأنا أسن منك, خرجه ابن الضحاك. وعن الحسن قال: لما بويع أبو بكر قام دون مقام النبي -صلى الله عليه وسلم, خرجه حمزة بن الحارث. ذكر أنه لم يسؤ النبي -صلى الله عليه وسلم- قط: عن سهل بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس, إن أبا بكر لم يسؤني فاعرفوا له ذلك" خرجه الخلعي. ذكر كتمه سر النبي -صلى الله عليه وسلم: عن عمر بن الخطاب قال: تأيمت حفصة من خنيس بن حذافة وكان ممن شهد بدرًا, فلقيت عثمان بن عفان فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة فقال: أنظر, ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا, فلقيت أبا بكر فعرضتها عليه فصمت, فكنت عليه أوجد مني على عثمان فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنكحتها إياه, ثم لقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين لم أرجع إليك فقلت: أجل فقال: إنه لم يمنعني أن أرجع إليك إلا أني قد علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد ذكرها فلم أكن لأفشي سر رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ولو تركها لنكحتها. أخرجه البخاري. "شرح" اختلف في موجدته على أبي بكر لماذا كانت؟ فقيل: لمكان الود   1 سورة المجادلة الآية: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 الذي كان بينهما في الصحبة وقيل: لأنه لم يرجع إليه شيئًا وعثمان أراحه ولم يعلق خاطره؛ فلذلك اختلف وجده عليهما فكان على أبي بكر أكثر, وقد جاء في بعض الطرق: فكانت موجدتي على أبي بكر أكثر من موجدتي على عثمان. ذكر حبه صلة قرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر من حبه صلة قرابته: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال أبو بكر: والله لقرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحب إليَّ أن أصل من قرابتي, أخرجه في حديث طويل. ذكر إيثاره سرور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقرة عينه: تقدم في إسلام أبي قحافة من حديث أسماء قول أبي بكر: أما والذي بعثك بالحق لأنا كنت أشد فرحًا بإسلام أبي طالب مني بإسلام أبي, ألتمس بذلك قرة عينك قال: "صدقت". وعن أنس قال: بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس في المسجد قد أطاف به أصحابه إذ أقبل علي بن أبي طالب, فوقف فسلم ثم نظر مجلسًا1 يشبهه, فنظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وجوه أصحابه أيهم يوسع له, فكان أبو بكر جالسًا على يمين النبي -صلى الله عليه وسلم- فتزحزح له عن مجلسه, وقال: ههنا يا أبا الحسن, فجلس بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين أبي بكر, قال أنس: فرأيت السرور في وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا أبا بكر, إنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل" خرجه أحمد في المناقب والخلعي وابن السمان في الموافقة. ومما يقرب من هذا ما روي عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنه   1 مكانًا يجلس فيه يناسبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 جلس على منبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فصعد إليه الحسن فقال: انزل عن مجلس أبي فقال: مجلس أبيك لا مجلس أبي, وبكى وأجلسه في حجره وبكى وقال علي: والله ما هذا عن رأيي فقال: والله ما اتهمتك, وفي رواية: فبلغ ذلك عليا فجاء وقال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: والله ما أمرناه, فقال أبو بكر: والله ما اتهمتك, خرجه ابن السمان. ذكر وفائه بعدات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته: عن جابر قال: أتي أبو بكر بمال من البحرين فقال: من كانت له عدة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فليأت, فقمت فقلت: لي عدة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: وما عدتك؟ فقلت: قال لي: "لأن أتاني الله مالًا لأحثين لك هكذا وهكذا وهكذا" قال: فحثا لي أبو بكر كما قلت ثلاث حثيات, حديث حسن صحيح. وعن حبشي بن جنادة قال: كنت جالسًا عند أبي بكر فقال: من كانت له عدة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فليقم, فقام رجل فقال: يا خليفة رسول الله وعدني ثلاث حثيات من تمر, فقال: أرسلوا إلى علي فقال: يا أبا الحسن, إن هذا يزعم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعده ثلاث حثيات من تمر فأحثها له قال: فحثاها1, قال أبو بكر: عدوها فوجدوا في كل حثية ستين تمرة لا تزيد واحدة على الأخرى فقال أبو بكر: صدق الله ورسوله, قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة الهجرة ونحن خارجون من الغار نريد المدينة: "يا أبا بكر, كفي وكف علي في العدد سواء" خرجه ابن السمان في الموافقة. ذكر أن الله أعطاه ثواب من آمن بالنبي -صلى الله عليه وسلم: عن علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لأبي بكر: "يا أبا بكر إن الله أعطاني ثواب من آمن به منذ خلق آدم إلى أن بعثني,   1 أي: علي -رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وإن الله أعطاك ثواب من آمن بي منذ بعثني إلى أن تقوم الساعة" خرجه الخلعي والملاء وصاحب فضائله. ذكر شجاعته, وثبات قلبه عند الحوادث: تقدمت أحاديث هذا الذكر في ذكر اختصاصه بأنه أشجع الناس, في فضل خصائصه. ذكر علمه: تقدم أيضًا في ذكر اختصاصه بالفهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأعلميته بالأمور طرف منه, وذكرنا فيه ما يتضمن علمه وأعلميته, فلينظر ثمة1 وما يلتحق بهذا. "ذكر فراسته وكراماته": عن عائشة: أن أبا بكر كان نحلها جاد عشرين وسقًا من ماله بالغابة, فلما حضرته الوفاة قال: والله يا بنية ما في الناس أحد أحب إلي غناء2 بعدي منك, ولا أعز علي فقرًا بعدي منك, وإني كنت نحلتك جاد عشرين وسقًا فلو كنت جددته واحتززته كان لك, وإنما هو اليوم مال الوارث وإنما هو أخواك وأختاك, فاقتسموه على كتاب الله قالت: قلت: يا أبت لو كان كذا وكذا لتركته, إنما هي أسماء فمن الأخرى؟ قال: ذو بطن بنت خارجة أراها جارية. خرجه في الموطأ وخرجه أبو معاوية الضرير, وزاد بعد قوله: ذو بطن بنت جارية, استوصي بها خيرًا, وإنه قد ألقي في نفسي أنها جارية فولدت أم كلثوم. "شرح" جاد عشرين وسقًا أي: ما يجد من ذلك, ذكره الهروي وروى أن بني طي لما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وارتدت العرب, عزموا على الردة   1 أي: هناك. 2 نفعًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 ومنع الزكاة, فقام فيهم عدي بن حاتم ووعظهم وخوفهم بالله وأعانه على ذلك زيد الخيل, ثم إن عدي بن حاتم قدم على أبي بكر بزكاة طي فسلم عليه فقال له: أتعرفني يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم أنت عدي الذي آمنت حين كفروا, وأقبلت حين أدبروا, وأوفيت حين غدروا, قد عرفتك وصاحبك زيد الخيل, ولو لم أعرفكما لعرفكما الله, خرجه الملاء. ذكر اقتفائه آثار النبوة, واتباعه إياها: تقدم في قتال أهل الردة قوله: والله لو منعوني عقالًا -وفي رواية: عناقًا- كانوا يؤدونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم عليه. وعن عائشة: أن فاطمة سألت أبا بكر أن يقسم لها ميراثها, وفي رواية أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك وسهمه من خيبر, قال أبو بكر: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا نورَّث؛ ما تركناه صدقة" 1 إنما كان يأكل آل محمد من هذا المال, وإني والله لا أدع أمرًا رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصنعه فيه إلا صنعته, زاد في رواية: إني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ, ثم ذكر قصة طويلة, أخرجاه. وقد روى حديث نفي الميراث جماعة من الصحابة, منهم أبو هريرة ولفظه: "لا تقتسم ورثتي دينارًا ولا درهما, ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة" أخرجه البخاري وابن عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام والعباس بن عبد المطلب. وقد استنشد عمر طلحة والزبير وسعدا وعبد الرحمن بن عوف فقال: نشدتكم بالذي تقوم السماء والأرض بإذنه, ألم تعلموا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:   1 في رواية: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث ... " إلخ, وستأتي هنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 "لا نورث ما تركنا صدقة"؟ قالوا: بلى. خرجه الخلعي وفي حديث أبي هريرة تصريح بأن ما تركه -صلى الله عليه وسلم- لا يورث مطلقًا وأن ما تركه يصنع به ما أمر به من صرفه في النفقة المذكورة ثم يتصدق بفاضله, وهذا يرد رواية من روى: "ما تركنا صدقة" بالنصب فإن صحت فهي غلط وإلا فالغالب أنها من وضع بعض المبتدعة حتى يجعل الميراث ثابتًا, والصدقة فيما تركه للصدقة. وعن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه قال: جاءت فاطمة إلى أبي بكر فقالت: أعطني فدك فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهبها لي قال: صدقت يا بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقسمها فيعطي الفقراء والمساكين وابن السبيل بعد أن يعطيكم منها قوتكم, فما تصنعين بها؟ قالت: أفعل فيها كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعل قال: ولك علي أن أفعل فيها ما كان أبوك يفعل قالت: والله لتفعلن ذلك قال: والله لأفعلن ذلك قالت: اللهم اشهد قال: فكان أبو بكر يعطيهم منها قوتهم ويقسم الباقي في الفقراء والمساكين وابن السبيل, ثم ولي ذلك عمر ففعل مثل ذلك ثم فعل ذلك علي بن أبي طالب فقيل له في ذلك فقال: إني لأستحي من الله أن أنقض شيئًا فعله أبو بكر وعمر. وعن أبي الطفيل قال: جاءت فاطمة إلى أبي بكر فقالت: يا خليفة رسول الله أنت ورثت رسول الله أم أهله؟ فقال: لا بل أهله, قالت: فما بال الخمس؟ فقال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله إذا أطعم نبيا طعمة ثم قبضه كانت للذي بعده" فلما وليت رأيت أن أرده على المسلمين قالت: أنت ورسول الله أعلم ورجعت, خرجه ابن السمان في الموافقة. وعن مالك بن أوس بن الحدثان قال: أتى العباس وعلي أبا بكر لما استخلف, فجاء علي يطلب نصيب فاطمة وجاء العباس يطلب نصيبه مما كان في يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان في يده نصف خيبر ثمانية عشر سهمًا وكانت ستة وثلاثين سهمًا وأرض بني قريظة وفدك فقالا: ادفعها إلينا إنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 كانت في يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لهما أبو بكر: لا أرى ذلك إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث؛ ما تركنا فهو صدقة" فقام قوم من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فشهدوا بذلك قالا: فدعها تكن في أيدينا, تجري على ما كانت في يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لا أرى ذلك أنا الوالي من بعده وأنا أحق بذلك منكما, أضعها في موضعها الذي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يضعها فيه, فأبى أن يدفع إليهما شيئًا, فلما ولي عمر أتياه ثم ذكر قصة طويلة مضمونها أنهما ترددا إليه حتى دفعها إليهما وأخذ عليهما العهد أن يعملا فيها كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعمل, خرجه بهذا السياق تمام في فوائده ومعناه في الصحيح. وعن معاذ بن رفاعة عن أبيه قال: قام أبو بكر الصديق على المنبر فبكى ثم قال: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عامه الأول على المنبر فبكى ثم قال: "سلوا الله العفو والعافية؛ فإن أحدًا لم يعط بعد اليقين خيرًا من العافية" خرجه الترمذي والحافظ الدمشقي في الموافقات. ذكر أنه من الذين استجابوا لله والرسول: عن عروة عن عائشة, قالت لي: أبواك والله من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح, خرجه مسلم, وفي رواية يعني أبا بكر والزبير, وقد خرجه البخاري في قصة طويلة ستأتي في فصل فضائل الزبير إن شاء الله. ذكر تعبده وما جاء من حسن صلاته: عن عبد الرزاق قال: أهل مكة يقولون: أخذ ابن جريج الصلاة من عطاء, وأخذها عطاء من الزبير, وأخذها ابن الزبير من أبي بكر, وأخذها أبو بكر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم, خرجه في الصفوة. وعن أنس قال: صلى أبو بكر بالناس الفجر فاقترأ البقرة في ركعتيه, فلما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 انصرف قال له عمر: يا خليفة رسول الله ما انصرفت حتى رأينا أن الشمس قد طلعت, قال: لو طلعت لم تجدنا غافلين, خرجه البغوي والمخلص الذهبي, وقد تقدم ما جاء في وتره أول الليل في باب الشيخين. ذكر نبذ من أدعيته وتسبيحه: عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- عن أبي بكر أنه قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال: "قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت, فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني؛ إنك أنت الغفور الرحيم" أخرجاه. وعن أبي راشد الخيراني قال: أتيت ابن عمر فقلت له: حدثنا ما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فألقى صحيفة فنظرت فإذا فيها أن أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله علمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت قال: "يا أبا بكر قل: اللهم فاطر السموات والأرض, عالم الغيب والشهادة, لا إله إلا أنت, رب كل شيء ومليكه, أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه, وأن أقترف على نفسي شرًّا أو أن أجره إلى مسلم" خرجه ابن عرفة العبدي والترمذي عنه, وفي طريق عند غيرهما: "قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك". وعن أبي يزيد المدني قال: كان من دعاء أبي بكر: اللهم هب لي إيمانًا ويقينًا ومعافاة ونية, أخرجه ابن أبي الدنيا. وعن أبي معاوية بن قرة قال: بلغني أن أبا بكر كان يقول: اللهم اجعل خير عمري آخره, وخير عملي خواتمه, وخير أيامي يوم لقائك, خرجه في فضائله. وعن جعفر الصادق قال: كان أكثر كلام أبي بكر الصديق: لا إله إلا الله, خرجه الخجندي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 ذكر اشتماله على أنواع من البر: تقدم في خصائصه ذكر اختصاصه بالسبق إلى أنواع من البر في اليوم الواحد, وفي فضل الشهادة له بالجنة. ذكر أنه يدعى من أبواب الجنة كلها, وفيها طرف من ذلك: وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة دعي الإنسان بأفضل عمل يكون فيه, فإن كانت الصلاة أفضل عمله دعي بها, وإن كان الصيام أفضل عمله دعي به, وإن كان الجهاد أفضل عمله دعي به" قال أبو بكر: يا رسول الله وثم1 أحد يدعى بعملين؟ قال: "نعم أنت" وفي رواية: "وثم باب من أبواب الجنة يقال له: الريان" فقال أبو بكر: يا رسول الله وثم أحد يدعى منها كلها؟ قال: "نعم أنت" خرجهما في فضائله. "شرح" زوجين وجاء في بعضها: زوجًا وهما بمعنى واحد, وكل شيء قرن بصاحبه فهو زوج وزوجين, فالمرأة زوج الرجل وهو زوجها ومنه قولهم: زوجت بين الإبل أي: قرنت كل واحد بشكله, وكذلك كل شيء, قال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} 2 أي: مثلين وشكلين, وقد تقدم زيادة بيان في ذلك في باب الشهادة له بالجنة. وعنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل ينفق زوجين في سبيل الله إلا والملائكة معهم الرياحين على أبواب الجنة ينادونه: يا عبد الله يا مسلم, هلم" فقال أبو بكر: إن هذا الرجل ما على ماله توى فقال: "يا أبا بكر إني لأرجو أن تكون منهم, بل وأنت منهم" خرجه في فضائله. "شرح" توى مصدر توى المال يتوي تواء: إذا هلك, وأتوى فلان ماله: إذا أذهبه, وقول أبي بكر: ما على ماله توى إشارة إلى حسن العاقبة فيه.   1 وهناك. 2 سورة الذاريات الآية: 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ذكر ما أخبرت به زوجته من عمله, وأنه كان يوجد منه رائحة كبد مشويّ: وروي أن عمر بن الخطاب أتى إلى زوجة أبي بكر بعد موته فسألها عن أعمال أبي بكر في بيته ما كانت؟ فأخبرته بقيامه في الليل وأعمال كان يعملها, ثم قالت: إلا أنه كان في كل ليلة جمعة يتوضأ ويصلي العشاء, ثم يجلس مستقبلا القبلة رأسه على ركبتيه, فإذا كان وقت السحر رفع رأسه وتنفس الصعداء فيشم في البيت روائح كبد مشوي, فبكى عمر وقال: أنى لابن الخطاب بكبد مشوي, خرجه الملاء في سيرته. ذكر زهده -رضي الله عنه: تقدم من حديث هذا الذكر خروجه عن جميع ماله في كتاب الشيخين وحديث على: "إن تؤمروا أبا بكر تجدوه زاهدًا في الدنيا راغبًا في الآخرة" في باب أبي بكر وعمر وعلي, وحديث: "تحلله بالعبا" في فضل خصائصه في ذكر اختصاصه بمواساة النبي -صلى الله عليه وسلم. عن ابن عباس قال: مات النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليه إحدى عشرة رقعة بعضها من آدم, ومات أبو بكر وعليه ثلاث عشرة رقعة بعضها من آدم, خرجه في الفضائل وقال: غريب. وعن زيد بن أرقم قال: استسقى أبو بكر فأتى بإناء فيه ماء وعسل, فلما أدناه من فمه بكى حتى أبكى من عنده فسكت وسكتوا, ثم عاد فبكى حتى ظنوا أنهم لا يقدرون على مسألته, ثم مسح وجهه فأفاق فقالوا: ما هاجك على هذا البكاء يا أبا بكر؟ قال: كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وجعل يدفع عنه شيئًا يقول: "إليك عني" ولا أرى معه أحدًا فقلت: يا رسول الله أراك تدفع عنك شيئًا ولم أر معك أحدًا؟ فقال: "هذه الدنيا تمثلت لي بما فيها فقلت: إليك عني, فتنحت". وقال: "أما والله لئن أفلت مني لا ينفلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 مني من بعدك, فخشيت أن تكون قد لحقتني فذلك الذي أبكاني" خرجه الملاء. ذكر رضاه عن الله تعالى, وسلام الله عليه: عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر هذا جبريل يقرئك من الله السلام ويقول لك: أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط" فبكى أبو بكر وقال: أسخط على ربي؟! أنا عن ربي راض أنا عن ربي راض, خرجه الحافظ ابن نعيم البصري. ذكر خوفه من الله تعالى, واعترافه: عن الحسن قال: كان أبو بكر يقول: يا ليتني كنت شجرة تعضد وتؤكل. وعن أبي عمران الجوني عن أبي بكر أنه كان يقول: لوددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن, خرجهما في الصفوة. وعن ابن عباس قال: لما نزل قوله تعالى: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} 1 آلى أبو بكر أن لا يكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا كأخي السرار, خرجه الواحدي وخرج في فضائله معناه. عن عبد الرحمن بن عوف وعن طارق بن شهاب قال: قال أبو بكر لما نزلت {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} 2: آليت على نفسي أن لا أكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا كأخي السرار, أخرجه الواحدي. وعن أبي بكر -رضي الله عنه- قال: كنت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فنزلت هذه الآية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} 3 فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر, ألا أقرئك آية أنزلت على قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ " قال: فأقرأها قال: فلا أعلم إلا أني وجدت انقصامًا في ظهري حتى تمطأت لها فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما   1 سورة الحجرات الآية: 2. 2 سورة الحجرات الآية: 3. 3 سورة النساء الآية: 123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 شأنك يا أبا بكر؟ " فقلت: يا رسول الله بأبي وأمي وأينا لم يعمل سوءًا وإنا لمجزيون بما عملنا؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فتجزون بذلك حتى تلقوا الله وليست لكم ذنوب, وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة" خرجه في فضائله. وخرج الماوردي عنه أنه قال: لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر: يا رسول الله ما أشد هذه الآية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر, إن المصيبة في الدنيا جزاء". وعن عائشة -رضي الله عنها- أن أبا بكر لم يحنث قط في يمين حتى أنزل الله كفارة اليمين فقال: لا أحلف على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني, أخرجه الحميدي عن أبي بكر البرقاني, وعن قيس بن أبي حازم قال: رأيت أبا بكر آخذًا بطرف لسانه وهو يقول: هذا الذي أوردني, خرجه في الصفوة. وعن عمر أنه دخل على أبي بكر وهو ينصنص لسانه أو يحرك لسانه ويقول: إن ذا أوردني الموارد, خرجه صاحب فضائله والملاء بهذا السياق, وخرج ابن حرب الطائي أن أبا بكر قال: لساني أوردني الموارد. "شرح" النصنصة بالصاد المهملة معناها: التحريك, واللقلقة بالمعجمة لغة فيها, إلا أنها غير مسموعة في هذا الحديث. وعنه أيضًا أنه دخل عليه وهو آخذ بطرف لسانه ويقول: إن هذا أوردني الموارد, ثم قال: يا عمر لا حاجة لي في إمارتكم فقال عمر: والله لا نقيلك ولا نستقيلك, خرجه في فضائله. وروي أنه كان له حصاة يضعها في فمه خوفًا من فلتات اللسان, خرجه الملاء. ذكر ورعه -رضي الله عنه: عن عائشة قالت: كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج, وكان أبو بكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 يأكل من خراجه, فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: ما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة, إلا أني خدعته فلقيني فأعطاني, فهذا الذي أكلت منه, فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه, أخرجه البخاري. وعن زيد بن أرقم قال: كان لأبي بكر غلام يغل عليه, فأتاه ليلة بطعام فتناول منه لقمة فقال له المملوك: ما لك كنت تسألني كل ليلة ولم تسألني الليلة؟ فقال: حملني على ذلك الجوع من أين جئت بهذا؟ قال: مررت بقوم في الجاهلية فرقيت لهم فوعدوني, فلما أن جاء اليوم مررت بهم فإذا عرس لهم فأعطوني فقال: أف لك وكدت تهلكني, فأدخل يده في حلقه وجعل يتقيأ وجعلت لا تخرج فقيل له: إن هذه لا تخرج إلا بالماء, فدعا بعس ماء فجعل يشرب ويتقيأ حتى رمى بها فقيل له: يرحمك الله كل هذا من أجل هذه اللقمة؟ فقال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها, سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به" فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة. خرجه في الصفوة والملاء في سيرته. "شرح" يغل عليه أي: يأتيه بغلته وفلان يغل على فلان وأغل القوم: إذا بلغت غلتهم, والعس: القدح العظيم. وقد تقدم ذكره في شرح قوله -صلى الله عليه وسلم, والسحت: الحرام والكهانة: الإخبار عن المغيبات في مستقبل الزمان, وقد كان في العرب كهنة كشن وسطيح وغيرهما, فمنهم من كان له تابع من الجن ورئي يلقي إليه الأخبار, ومنهم من يعرف الأمور بمقدماتها وأسبابها يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله, وهذا يخصونه باسم العراف لأنه يدعي معرفة المسروق واسم السارق ومكان السرقة, ومنهم من مستنده في ذلك حساب وخط في رمل وغير ذلك. وما أحسن الكهانة! فيه إشعار بأنه لو كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 يحسن الكهانة لكان ما يأخذه مباحًا وهو كذلك؛ لأنها معاملة كانت جائزة بينهم, ومعاملة الكفار إذا تعاوضوا فيها قبل الإسلام نفذناها وأمضيناها, فلو كان العبد يحسن الكهانة لاستقرت الأجرة في رقبتهم له ولاستحق مؤاخذة منهم, ولما لم يحسنها كان ذلك جزعًا منه وأكل مال بالباطل, فإنهم لو علموا أنه لا يحسن الكهانة ما عاملوه وكانت المعاملة باطلة في أصلها؛ فلذلك حرمت والله أعلم. وعن مجاهد قال: لما نزل عذر عائشة, جاء أبو بكر فجلس عند رأسها فقالت: قد أنزل الله عذري بغير حمد منك ولا صاحبك فهلا عذرتني؟ فقال لها أبو بكر: فكيف أعذرك بما لا أعلم, خرجه في فضائله وقال: حديث حسن. وعن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله تعالى, فإن وجد فيه ما يقضي به وإن لم يكن في كتاب الله وعلم من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى به وإن لم يجد خرج فسأل المسلمين فقال: هل علمتم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر يذكرون من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضاء فيه فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ علينا ديننا أو قال: من يحفظ علينا سنة نبينا, خرجه الإسماعيلي في معجمه وصاحب فضائله. وعن قبيصة بن ذؤيب قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر فسألته ميراثها فقال: ما لك في كتاب الله شيء وما علمت لك في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا فارجعي حتى أسأل الناس, فسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعطاها السدس فقال: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة, فأنفذه لها أبو بكر. خرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ابن ماجه. وعن عائشة قالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان خمسمائة حديث, فبات ليلته يتقلب قالت: فغمني فقلت: لأي شيء تتقلب؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 لشكوى أو لشيء بلغك؟ فلما أصبح قال: أي بنية, هلمي الأحاديث التي هي عندك قالت: فجئته بها, فدعا بنار فأحرقها فقلت: ما لك يا أبت تحرقها؟ قال: ما بت الليلة, خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدثني, فأكون قد تقلدت ذلك, خرجه في فضائله وقال: غريب. وعنها قالت: لما مرض أبو بكر مرضه الذي مات فيه قال: انظروا ما زاد في مالي منذ دخلت في الإمارة فابعثوا به إلى الخليفة, فنظرنا فإذا هو عبد نوبي يحمل صبيانه وإذا ناضح كان يسقي بستانه فبعثنا بهما إلى عمر فبكى عمر وقال: رحمة الله على أبي بكر, لقد أتعب من بعده تعبًا شديدًا, خرجه صاحب الصفوة والفضائلي. وخرجه ابن قتيبة في المعارف ولفظه: انظري يا بنية فما زاد في مال أبي بكر منذ ولينا هذا الأمر رديه على المسلمين, فوالله ما نلنا من أموالهم إلا ما أكلنا في بطوننا من جريش الطعام, ولبسنا على ظهورنا من خشن ثيابهم, فنظرت فإذا بكر وجرد قطيفة لا تساوي خمسة دراهم, فلما جاء بها الرسول إلى عمر قال له عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين أتسلب هذا ولد أبي بكر قال: كلا ورب الكعبة لا يتأثم بها أبو بكر في حياته وأتحملها بعد موته, رحم الله أبا بكر لقد كلف من بعده تعبًا. وخرج البغوي معناه في معجمه بزيادة ولفظه: يا بنية إني كنت أتجر1 قريش وأكثرهم مالًا, فلما شغلتني الإمارة رأيت أن أصيب من المال فأصبت هذه العباءة القطوانية وحلابًا وعبدًا, فإذا مت فأسرعي به إلى ابن الخطاب, يا بنية ثيابي هذه كفنيني فيها قالت: فبكيت وقلت: يا أبت نحن أيسر من ذلك فقال: غفر الله لك وهل ذلك إلا المهل قالت: فلما مات بعثت بذلك إلى ابن الخطاب فقال: يرحم الله أباك, لقد أحب أن   1 أعظمهم تجارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 لا يترك لقائل مقالًا. وخرج القلعي معناه وقال بعد قوله فأبلغيه عمر: ولم يكن عنده دينار ولا درهم, ما كان إلا خادم ولقحة ومحلب, فلما رجعوا من جنازته أمرت به عائشة إلى عمر فقال عمر: يرحم الله أبا بكر, لقد أتعب من بعده. "شرح" الناضح: البعير يستقى عليه والأنثى: ناضحة وسانية, جريش الطعام: غليظه وجرشت الشيء: إذا لم ينعم دقه وملح جريش: لم يطيب, البكر بالفتح: الفتى من الإبل والأنثى: بكرة وبالكسر: المرأة التي ولدت بطنًا واحدًا وبكرها: ولدها الذكر والأنثى فيه سواء, وكذلك هي في الإبل, القطيفة: دثار مخمل والجمع: قطائف, وجرد القطيفة من إضافة الشيء إلى صفته والمراد أن القطيفة انجرد وبرها لكثرة الاستعمال, ولعله بالتحريك من قولهم: رجل أجرد بين الجرد: لا شعر عليه والجرد بالتحريك: فضاء لا نبات فيه, يتأثم أي: يتجنب الإثم وكذلك يتحرج ويتحنث, العباءة القطوانية منسوبة إلى قطوان موضع بالكوفة, والحلاب والمحلب بالكسر: الإناء يحلب فيه, والمهل هنا: القيح والصديد, وفي قوله تعالى: {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} قيل: هو النحاس المذاب وقيل: دردي الزيت. ذكر تنزيهه عن شرب الخمر في الجاهلية والإسلام, وعن قول الشعر في الإسلام: عن أبي العالية الرياحي قال: قيل لأبي بكر في مجمع من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم: هل شربت الخمر في الجاهلية؟ قال: أعوذ بالله, فقيل: ولم؟ قال: كنت أصون عرضي وأحفظ مالي, فمن شرب الخمر كان مضيعًا في عرضه ومروءته, فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "صدق أبو بكر" مرتين, خرجه الرازي. عن عائشة: أن أبا بكر لم يقل شعرًا في الإسلام حتى مات, وأنه كان قد حرم الخمر في الجاهلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 ذكر تعففه عن المسألة: عن ابن أبي مليكة قال: كان ربما يسقط الخطام من يد أبي بكر فيضرب بذراع ناقته فينحيها فيأخذه قال: فقالوا له: أفلا أمرتنا نناولكه؟ فقال: إن حبي1 صلوات الله عليه وسلامه أمرني أن لا أسأل الناس شيئًا, خرجه أحمد وصاحب الصفوة. ذكر تواضعه: عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" فقال أبو بكر: إن أحد شقي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إنك لست تصنع ذلك خيلاء" خرجه البخاري. وعن عطاء بن السائب قال: لما استخلف أبو بكر أصبح غاديًا إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتجر فيها, فلقيه عمر وأبو عبيدة فقالا: إلى أين تريد يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: السوق قالا: تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ قالا له: انطلق حتى نفرض لك شيئًا, فانطلق معهما ففرضوا له كل يوم شطر شاة وما كسوة في الرأس والبطن, خرجه في الصفوة. وعن عمر بن إسحاق قال: خرج أبو بكر وعلى عاتقه عباءة له فقال له رجل: أرني أكفك فقال: إليك عني لا تغرني أنت وابن الخطاب عن عيالي, خرجه في الصفوة. وقال: قال علماء السيرة: كان أبو بكر يحلب للحي أغنامهم, فلما بويع قالت جارية من الحي: الآن من يحلب لنا منائح دارنا؟ فسمعها فقال: لأحلبنها لكم, وأرجو أن لا يغرني ما دخلت فيه عن خلق كنت فيه, فكان يحلب لهم -رحمه الله.   1 حبيبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وعن عمر أنه كان رديف أبي بكر قال: وكنا نمر بالناس فنسلم عليهم فيردون, قال أبو بكر: لقد فضلنا الناس اليوم بزيادة كثيرة, خرجه أبو عبد الله الحسين القطان. وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: قعد أبو بكر على منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاء الحسن بن علي فصعد المنبر وقال: انزل عن منبر أبي فقال له أبو بكر: منبر أبيك لا منبر أبي, منبر أبيك لا منبر أبي فقال علي وهو في ناحية القوم: إن كان لعن غير أمري, خرجه أبو بكر بن الأنباري. وعن ابن عمر: أن أبا بكر بعث يزيد بن أبي سفيان إلى الشام ومشى معه نحوًا من ميلين فقيل له: يا خليفة رسول الله لو انصرفت؟ فقال: لا, إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار" خرجه ابن حبان. ذكر سرعة رجوعه عن غضبه, وما ظهر من بركته: عن عبد الرحمن بن أبي بكر أن أصحاب الصفة كانوا ناسًا فقراء, وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال مرة: "من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث, ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس" وأن أبا بكر جاء بثلاثة وانطلق نبي الله -صلى الله عليه وسلم- بعشرة وأبو بكر بثلاثة وأنا وأبي وأمي ولا أدري هل قال: وامرأتي وخادم بين بيتنا وبيت أبي بكر, وأن أبا بكر تعشى عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاء بعد أن مضى من الليل ما شاء الله تعالى فقالت له امرأته: ما حبسك عن أضيافك؟ أو قالت: ضيفك قال: أوما عشيتهم؟ قالت: أبوا حتى تجيء قد عرضوا عليهم فغلبوهم قال: فذهبت أنا فاختبأت فقال: يا غنثر فجذع وسب وقال: كلوا لا هنيئًا وقال: والله لا أطعمه أبدًا وحلف الضيف أن لا يطعمه حتى يطعمه أبو بكر قال أبو بكر: هذه من الشيطان, قال: فدعا بالطعام فأكل قال: وايم الله ما كنا نأخذ من لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها, قالت: حتى شبعوا وصارت أكثر مما كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 قبل ذلك فنظر إليها أبو بكر, فإذا هي كما هي وأكثر قال لامرأته: يا أخت بني فراس ما هذا؟ قالت: لا وقرة عيني, هي الآن لأكثر منها قبل ذلك بثلاث مرات, فأكل منها أبو بكر وقال: إنما كان ذلك من الشيطان يعني يمينه, ثم أكل منها لقمة ثم حملها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأصبحت عنده وكان بيننا وبين قوم عهد فمضى الأجل فتفرقنا اثني عشر رجلًا مع كل واحد منهم أناس, الله أعلم كم مع كل رجل منهم فأكلوا1 منها أجمعون, أخرجاه. "شرح" الغنثر: الجاهل, جذع أي: خاصم والمجاذعة: المخاصمة. وعن أبي برزة الأسلمي قال: كنا عند أبي بكر الصديق في عمل فغضب على رجل من المسلمين, فاشتد غضبه عليه جدا فلما رأيت ذلك قلت: يا خليفة رسول الله أضرب عنقه؟ فلما ذكر القتل أضرب عن ذلك الحديث أجمع إلى غير ذلك من النحو قال: فلما تفرقنا أرسل إلي بعد ذلك أبو بكر وقال: يا أبا برزة ما قلت؟ قال ونسيت الذي قلت قلت: ذكرنيه قال: أما تذكر ما قلت؟ قلت: لا والله قال: أرأيت حين رأيتني غضبت على الرجل فقلت: أضرب عنقه يا خليفة رسول الله؟ أما تذكر ذلك أو كنت فاعلًا؟ قال: قلت: نعم والله والآن إذا أمرتني فعلت, فقال: ويحك أو ويلك ما هذه لأحد بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم, أخرجه أحمد. "شرح" ويح: كلمة ترحم, وويل: كلمة عذاب وقال اليزيدي: هما بمعنى واحد, تقول: ويح لزيد وويل له ترفعهما على الابتداء ولك نصبهما بإضمار فعل, كأنك قلت: ألزمه الله ويحًا وويلًا, ولك أن تقول: ويلك وويحك على الإضافة وويح زيد وويله كذلك, والنصب بإضمار فعل أيضًا.   1 وهذا من البركة الحسية، يدل على كرامة أبي بكر -رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ذكر غيرته, وتزكية النبي -صلى الله عليه وسلم- زوجه 1: عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن نفرًا من بني هاشم دخلوا على أسماء بنت عميس, فدخل أبو بكر الصديق وهي تحته يومئذ فرآهم فكره ذلك, فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني لم أر إلا خيرًا فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى قد برأها من ذلك" ثم قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر فقال: "لا يدخل رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان" خرجه مسلم والنسائي والحافظ أبو القاسم في الموافقات. ذكر تكذيب ملك إنسانًا وقع بأبي بكر, ولم يزل كذلك حتى انتصر لنفسه: عن سعيد بن المسيب قال: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس ومعه أصحابه إذ وقع رجل بأبي بكر فآذاه فصمت عنه أبو بكر ثم آذاه الثانية فصمت عنه ثم آذاه الثالثة فانتصر منه أبو بكر, فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين انتصر أبو بكر أنه وجد عليه فقال: وجدت علي يا رسول الله حين انتصرت منه وقد أعرضت عنه مرتين فظننت أنك ستردعه عني؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "قد نزل ملك من السماء يكذبه بما قال لك, فلما انتصرت وقع الشيطان فلم أكن لأجلس إذ وقع الشيطان" خرجه أبو داود وأبو القاسم في الموافقات. وقد قيل: إن قوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} 2 الآية في ذلك. عن مقاتل أن رجلًا نال من أبي بكر والنبي -صلى الله عليه وسلم- حاضر فسكت عنه أبو بكر ثم رد عليه, فقام صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: يا رسول الله شتمني فلم تقل شيئًا حتى إذا رددت عليه قمت؟ فقال: "إن ملكًا كان يجيب عنك, فلما رددت ذهب الملك وجاء   1 زوج أبي بكر -رضي الله عنه. 2 سورة النساء آية 148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 الشيطان" فنزلت, ذكره أبو الفرج في أسباب النزول. ذكر ما جاء في الترغيب في محبته: عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "حب أبي بكر واجب على أمتي" خرجه الحافظ السلفي في مشيخته. وعنه قال: كنا في بيت عائشة أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وأنا يومئذ ابن خمس عشرة سنة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر, ليت أني لقيت إخواني فإني أحبهم" فقال أبو بكر: يا رسول الله نحن إخوانك قال: "لأنتم أصحابي, إخواني الذين لم يروني وصدقوني وأحبوني حتى إني لأحب إلى أحدهم من ولده ووالده" قالوا: يا رسول الله إنا نحن إخوانك قال: "لأنتم أصحابي, ألا تحب يا أبا بكر قومًا أحبوك بحبي إياك -قال: فأحبهم ما أحبوك بحبي إياك" خرجه الأنصاري. وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا فقعد فقال: "يا عمر إني أشتاق إلى إخواني" قال عمر: يا رسول الله أفلسنا إخوانك؟ قال: "لأنتم أصحابي, ولكن إخواني قوم آمنوا بي ولم يروني" قال: فدخل أبو بكر على بقية ذلك فقال له عمر: يا أبا بكر إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني أشتاق إلى إخواني" فقلت: يا رسول الله ألسنا إخوانك؟ قال: "لا ولكن أنتم أصحابي, ولكن إخواني قوم آمنوا بي ولم يروني" فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر ألا تحب قومًا بلغهم أنك تحبني فأحبوك بحبك إياي, فأحبهم أحبهم الله" خرجه ابن فيروز. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لما كانت الليلة التي ولد فيها أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- أقبل ربكم -عز وجل- على جنة عدن فقال: وعزتي وجلالي, لا أدخلك إلا من أحب هذا المولود" خرجه علي بن نعيم البصري وقال: غريب من حديث الزهري عن نافع, وخرجه الملاء في سيرته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وعن قيس بن أبي حازم قال: التقى أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب فتبسم أبو بكر في وجه علي فقال له علي: ما لك تبسمت؟ فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يجوز أحد الصراط إلا من كتب له علي بن أبي طالب الجواز" فضحك علي وقال: ألا أبشرك يا أبا بكر؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا يكتب الجواز إلا لمن أحب أبا بكر" خرجه ابن السمان. وعن أنس أن يهوديا أتى أبا بكر فقال: والذي بعث موسى كليمًا إني لأحبك, فلم يرفع له أبو بكر رأسًا تهاونًا باليهودي, قال: فهبط جبريل على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد, العلي الأعلى يقرئك السلام ويقول لك: " قل لليهودي الذي قال لأبي بكر إني أحبك: إن الله -عز وجل- قد أحاد عنه في النار خلتين, لا توضع الأنكال في قدميه ولا الغل في عنقه لحبه أبا بكر" فبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- فأحضره فأخبره الخبر قال: فرفع رأسه إلى السماء وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد1 رسول الله حقا, والذي بعثك بالنبوة لا ازددت لأبي بكر إلا حبا فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هنيئًا هنيئًا" خرجه الملاء في سيرته. شرح أحاد أصله أمال, والمراد والله أعلم هنا: أزال وهو داخل في الميل, تقول: حاد يحيد حيودًا وحيدة وحيدودة, والأنكال جمع نكل بالكسر وهو القيد, والغل: ما يجعل في العنق. ذكر ما جاء عن عمر في تفضيله أبا بكر على نفسه: عن ابن عمر قال: قيل لعمر: ألا تستخلف؟ فقال: إن أترك فقد ترك من هو خير مني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر الصديق, متفق على صحته وسيأتي في فصل وفاة عمر من   1 يا محمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 كتاب مناقبه. وعن ابن عباس قال: قال عمر: والله لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إليَّ أن أتقدم على قوم فيهم أبو بكر, أخرجاه. وعن أبي عمران الجوني قال: قال عمر: وددت أني شعرة في صدر أبي بكر, خرجهما في فضائله. وعن الحسن بن أبي الحسن قال: قال عمر: وددت أني من الجنة حيث أرى أبا بكر, خرجه في فضائله. وعن جابر بن عبد الله قال: قال عمر: أبو بكر سيدنا وخيرنا وقد تقدم في فصل الخصائص, وتقدم فيه أيضًا حديث القائل له: ما رأيت أحدًا خيرًا منك فقال: هل رأيت أبا بكر ... الحديث. ذكر ما يتضمن تعظيم عمر أبا بكر: عن أنس قال: دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- دارنا فحلبنا له من شاة داجن وشيب له بماء من ماء بئر في الدار وأبو بكر عن شماله وأعرابي عن يمينه, فشرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعمر ناحية فقال عمر: أعط أبا بكر, فناول الأعرابي وقال: "الأيمن فالأيمن" خرجه بهذا السياق علي بن حرب الطائي وقد تقدم في الخصائص مختصرًا من حديث الموطأ. وعنه قال: زارنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في دارنا فحلبنا له من داجننا وشبنا لبنها من ماء الدار, وعن يمين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجل من أهل البادية ومن وراء الرجل عمر بن الخطاب وعن يسار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر, فشرب حتى إذا نزع القدح من فيه أو همّ بنزعه قال عمر: يا رسول الله أعطه أبا بكر, فأعطاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأعرابي وقال: "الأيمن فالأيمن" خرجه النسائي. ذكر ما جاء عن علي أنه كان إذا حدثه أحد استحلفه غير أبي بكر: عن علي قال: كنت إذا سمعت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثًا نفعني الله بما شاء, فإذا حدثني عنه غيره استحلفته فإذا حلف لي صدقته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر, قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ليس من عبد يذنب ذنبًا فيقوم فيحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر, إلا غفر الله له " خرجه النسائي والحافظ في الأربعين البلدانية. وعنه أنه لما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واختلف الصحابة أين يدفن؟ قال أبو بكر: عهد إلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه ليس من نبي يموت إلا دفن حيث يقبض, وأبو بكر مؤتمن على ما جاء به. وعنه قال: سمعت أبا بكر يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من عبد يذنب ذنبًا, فقام فتوضأ فأحسن الوضوء, فقام فصلى ثم استغفر الله تعالى, إلا كان حقا على الله تعالى أن يغفر له" قال: فجعل ينادي بها على المنبر: صدق أبو بكر, صدق أبو بكر وذلك لأن الله تعالى قال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} 1 خرجهما في فضائله. فصل في التنبيه على ما رواه علي -رضي الله عنه- في فضل أبي بكر, وما روى عنه: وأحاديث هذا الفصل كلها مذكورة في غيره متقدمة ومتأخرة, وإنما لما كانت الدواعي متوفرة عد ما يرويه علي وما يروى عنه في فضل أبي بكر, وكذلك ما يرويه أبو بكر ويروى عنه فلذلك عقدنا هذا الفصل ننبه فيه على ما تقدم وتأخر ليطلب في مواضعه ونعقد أيضًا فصلًا مثله في مناقب علي إن شاء الله. وقد ذكرنا ما رواه أو روي عنه مما تضمن فضل أبي بكر وغيره في آخر باب الشيخين ما خلا حديث "مع أحدكما جبريل ومع الآخر ميكائيل" يعني أبا بكر وعليا, فإنه في فصل بعده وأما ما اختص بأبي بكر فنحن نذكره هنا.   1 سورة النساء آية: 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 فمنها حديث النزال بن سبرة عنه في قوله في أبي بكر: ذاك امرؤ سماه الله الصديق على لسان جبريل وعلى لسان محمد -صلى الله عليه وسلم, رضيه صلى الله عليه وسلم لديننا فرضيناه لديننا, وحديث ابن يحيى في المعنى. وعن علي أن الله تعالى أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق, الثلاثة في فضل اسمه, وحديث الحسن أن رجلًا سأل عليا: كيف سبق المهاجرون إلى بيعة أبي بكر؟ فقال: إنه سبقني بأربعة, الحديث تقدم في ذكر أنه أول من أظهر إسلامه, وحديث آخر عنه في معناه فيه, وحديث تضمن قوله -صلى الله عليه وسلم- لجبريل: "من يهاجر معي؟ " قال: أبو بكر, وحديث: "ما منكم من أحد إلا وقد كذبني إلا أبو بكر" في أول الخصائص وحديث: "إني أترككم فإن يرد الله بكم خيرًا" الحديث في ذكر اختصاصه بالخيرية, وحديث أبي سريجة عنه أن أبا بكر مثبت القلب, وحديث "إنه أشجع الناس". وقوله: يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا تفجعنا بنفسك, تقدم في ذكر اختصاصه بالأشجعية, وحديث: "إن الله تعالى يكره تخطئة أبي بكر" في الخصائص في أعلميته, وحديث أن قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} أبو بكر في الخصائص في آخرها, وحديث رضيه -صلى الله عليه وسلم- لديننا فرضيناه لدنيانا تكرر متقدمًا ومتأخرًا في فصل خلافته, وفي هذا الفصل قوله: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر للصلاة وهو يرى مكاني .... الحديث, وحديث قيس بن عباد عنه في المعنى, وحديث أن الله أعطاه ثواب من آمن بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في فصل فضائله. وحديث تجلي الله تعالى له خاصة في فصل خصائصه, وحديث "رحم الله أبا بكر, كان من أعظم الناس أجرًا في جمع المصاحف" في خصائصه, وحديث: "إن الخير ثلاثمائة خصلة, وفيه منها جمع من كل" في فضائله, وحديث: "نازلت ربي فيك يا علي ثلاثًا فأبى إلا أبا بكر" سيأتي في فصل خلافته, وثناؤه عليه يوم مات في فصل وفاته إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 ذكر اعتذار عبد الله بن عمر في تقديمه أباه في السلام على أبي بكر تنبيهًا على أفضليته 1: عن عبد الله بن عمر: كان إذا قدم من سفر لم يدخل على أهله حتى يدخل المسجد فيصلي فيه ركعتين, ثم يأتي قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فيسلم عليه وعلى أبي بكر وعمر, وكان إذا سلم على عمر قال: السلام عليك يا أبي, لولا أنك أبي ما بدأت بك قبل أبي بكر, خرجه أبو بكر بن أبي داود. ذكر ما روي عن عائشة في أبي بكر: عنها قالت: قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وارتدت العرب واشرأب النفاق ونزل بأبي ما لو نزل على الجبال الراسيات لهاضها قلت: فما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بحطها وثنائها, خرجه الطبراني. وعن القاسم بن محمد قال: سمعت عائشة تقول: لما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اشرأب النفاق وارتدت العرب وعاد أصحاب محمد كأنهم معزى بحظيرة في حفش, والله ما اختلفوا في الأمر إلا طار أبي بكذا وغنائها, خرجه الإسماعيلي في معجمه. وعنها وقد بلغها أن قومًا تكلموا في أبيها, فبعثت أزفلة من الناس وعلت وسادتها وأرخت ستارتها فحمدت الله تعالى وصلت على نبيه -صلى الله عليه وسلم- ثم قالت: أبي وما أبي, والله لا تعطوه الأيدي ذاك طود منيف وظل مديد, هيهات, كذبت الظنون, أنجح والله إذ كديتم, وسبق إذ ونيتم, سبق الجواد إذا استولى على الأمد فتى قريش, ناشئًا وكهفًا كهلًا يفك عانيها ويريش مملقها ويرأب شعبها ويلم شعثها حتى حليته قلوبها ثم استشرى في دينه. وفي رواية: استشرى في الله تعالى, فما برحت شكيمته في ذات الله -عز وجل- حتى اتخذ بفنائه مسجدًايحيي فيه ما أمات المبطلون, وكان رحمه الله   1 أفضلية أبي بكر -رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 غزير الدمعة وقيذ الجوانح شجي النشيج, فأنصفت عليه نسوان أهل مكة وولدانهم يسخرون منه ويهزءون به: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} 1 وأكبرت رجال ورجالات فحنت قسيها وفوقت سهامها, وامتثلوه غرضًا. وفي رواية: فانتثلوه عرضًا, فما فلوا له صفاة ولا قصفوا له قناة, ومضى على سيسائه حتى إذا ضرب الدين بجرانه ورست أوتاده ودخل الناس في دين الله أفواجًا ومن كل فرقة أرسالا وأشتاتًا, واختار الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم- ما عنده, فلما قبض النبي -صلى الله عليه وسلم- اضطرب حبل الدين ومرج أهله, وبغى الغوائل وظنت رجال أن قد اكتثبت نهزها. وفي رواية: فلما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نصب الشيطان رواقه ومد طنبه, ونصب حبائله وظن رجال أن قد تحققت أطماعهم ولات حين يظنون, وأبي أبو بكر الصديق بين أظهرهم, فقام حاسرًا مشمرًا وأقام أوده بثقافته, زاد في رواية: فجمع حاشيته ورفع قطريه فرد نشر الإسلام على عزه, ولم شعثه بطيه, وأقام أوده بثقافته حتى امذقر النفاق بوطأته, فلما انتاش الدين بنعشه. وفي رواية: حتى امذقر النفاق بوطأته وانتاش الدين بنعشه, فلما أراح الحق على أهله وقرت الرءوس على كواهلها, وحقن الدماء في أهبها, حضرت منيته فسد ثلمته بنظره في الشدة والرحمة ذاك ابن الخطاب, لله در أم حملته وردت عليه لقد أوحدت به فديخ الكفر وفنخها وشرك الشرك شذر مذر, فأروني ماذا ترون؟ وأي يومي أبي تنقمون؟ أيوم إقامته إذ عدل فيكم؟ أم يوم طعنه إذ نظر لكم؟ أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم, ثم التفتت إلى الناس فقالت: سألتكم بالله, هل أنكرتم مما قلت شيئًا؟ قالوا: اللهم لا. خرجه صاحب الصفوة في فضل عائشة في فصاحتها   1 سورة البقرة الآية: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وصاحب فضائله وقال: حسن صحيح. وخرجه الحافظ أبو القاسم السمرقندي بالروايات المزيدة. "شرح" الأزفلة: جماعة وجمعه: أزافل, تعطوه الأيدي: تناوله يقال: عطا يعطو وظبي عاط: يتناول الشجر, الطود هو: الجبل العظيم فاستعارته له مشرف عال, أنجح إذ كديتم أي: انقطعتم وآيستم يقال: أكدى يكدي فهو مكد مأخوذ من كدية الركية, وهو أن يحفر الحافر فيبلغ إلى الكدية وهي الصلابة من حجر أو غيره فلا يعمل معوله شيئًا, فييأس ويقطع الحفر, ونيتم أي: ضعفتم تقول: ونى يني وناء وونياء إذا ضعف, يريش مملقها أي: يقوى فقيرها وأصله من رشت السهم تقول: رشت الرجل أي: قويته فارتاش أي: قوي والمملق: الفقير تقول منه: أملق إملاقًا. يرأب شعبها أي: يلائمه ويجمعه والشعب: الصدع وهو الشق في الشيء, ويلم شعثها والمراد بالشعث هنا انتشار الأمر والتفرق بعد الاجتماع كما يتشعث الرأس واللم: الجمع, حليته قلوبها أي: أسلحته وأعجبها تقول: حلا يحلو حلاوة وحلا بالكسر بعيني وفي عيني وبصدري وفي صدري يحلى حلاوة: إذا أعجبك وقال الأصمعي: حلى في عيني بالكسر وحلا في عيني بالفتح, استشرى في دينه أي: ألح فيه, فما برحت شكيمته في ذات الله يقال: فلان شديد الشكيمة إذا كان شديد النفس ثابتًا على أمره, وفلان ذو شكيمة إذا كان لا ينقاد, وقيذ الجوانح: فعيل بمعنى مفعول أي: إنه كان محزون القلب حتى كأن الحزن صيره لا حراك به من الوقذ وهو الضرب حتى يصير المضروب لا حراك به, تقول منه: وقذه يقذه وقذًا ومنه الموقوذة, شجي النشيج أي: في صوت بكائه رقة وحنان تقول: نشج ينشج نشيجًا: إذا غص ببكائه وظهر منه صوت, وشجا شجًا: إذا حزن, وأكبرت رجال أي: عظمت ورجالات جمع: رجل ويجمع على رجال. حنت قسيها أي: عوجت, وفوقت سهامها أي: جعلت لها فوقًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وهو موضع الوتر من السهم, وذلك إشارة منها إلى إرسال الكلام نحوه لقولها, وامتثلوه غرضًا أي: صيروه مثل الغرض, ومن رواه انتثلوه غرضًا أي: صيروه مثل الغرض ومن رواه انتثلوه عرضًا أي: تركوه من النثل وهو أن يترك الشيء مرة واحدة يقال: نثل ما في كنانته إذا صبه مرة واحدة وكذا نثره, فلوا صفاته أي كسروها والصفاة: الصخرة الملساء يقال في المثل: ما تبذأ1 صفاته وجمعها: صفا مقصور وفله فانفل أي: كسره فانكسر وكأنها تشير إلى أنهم لم يغيروا من أمره المستجمع المستحكم شيئًا, ولو قصفوا له قناة تقول: قصفت الشيء أي: كسرته والإشارة إلى ذلك المعنى أي: لم يزل أمره قائمًا وكعبه عاليًا, على سيسائه أي: على ما ركب من أمره وسيساء الحمار: ظهره. قال أبو عمرو: السيساء من الفرس: الحارك ومن الحمار: الظهر, ضرب الدين بجرانه جران البعير: عنقه من مذبحه إلى منحره وكذلك هو من الفرس والمعنى أنه ألقى بجرانه على الأرض كما يفعل البعير إذا برك, ورست أوتاده: ثبتت, أفواجًا: جماعات جمع: فوج ويجمع أيضًا على فووج وجمع الجمع: أفاوج وأفاويج. أرسالًا جمع: رسل بالتحريك, وهو في الأصل القطيع من الإبل والغنم, فاستعير للجماعة من الناس, أشتاتًا أي: متفرقين واحدهم شت, مرج أهله يقال: مرج الأمر مرجًا إذا التبس هذا أصله, والمراد والله أعلم بمرجهم اضطرابهم من قولهم: مرج الدين والأمر اختلط واضطرب, اكتثبت نهزها يقال: كثبت الشيء كثبًا: جمعته وانكثب الرمل أي: اجتمع ومنه سمي الكثيب من الرمل والنهز جمع: نهزة وهي الفرصة, والكثب بالتحريك: القرب يقال: رماه من كثب أي: من قرب ويقال: أكثبك الصيد إذا أمكنك والتقدير: اقتربت فرصها. ومنه حديث يوم بدر: "إن أكثبكم القوم فأنبلوهم" أي: قاربوكم وأمكنوكم   1 تبذأ: تزدرى ويستخف بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 من أنفسهم فارموهم بالنبل, ولات حين يظنون وأبي بين أظهرهم أي: ليس الحين حين ظنهم ما دام أبي بين أظهرهم, ومنه: {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} أي: ليس الحين حين خلاص, أوده: اعوجاجه, بثقافته أي: حذاقته وفطنته يقال: ثقف ثقافة, وقطر الشيء جانباه ونشر الإسلام على عزه أي: ما انتشر منه على حاله الذي كان عليه, من قولهم: اطو هذا الثوب على عزة أي: على طيه الأول وكسره, امذقر النفاق: تقطع يقال: امذقر الرائب, إذا انقطع فصار اللبن ناحية والماء ناحية, قاله الجوهري. انتاش الدين يقال: انتشته أي: خلصته من ضراء ومنه التناوش: التناول بنعشه أي: رفعه, يقال: نعشه الله فانتعش أي: رفعه فارتفع, فأرادت والله أعلم بهذا وبما بعده أنه رفع منار الدين وأشاد قواعده وأقر الحق وأزاح الباطل, فقرت أمور الدين على ما كانت عليه, والكاهل: الحارك وهو ما بين الكتفين, أوحدت به أي: جاءت به وحيدًا لا ثاني له ولا مثل له, ديخ ودوخ بمعنًى والأصل بالواو من قولهم: داخ البلاد يدوخها إذا قهرها واستولى عليها وكذلك دوخ البلاد, الثلمة: الخلل, المرحمة: الرحمة, فنخها: قهرها يقال: فنخه الأمر: قهره, شرك الشرك شذر مذر يقال: شركت النعل وأشركتها أي: رممتها بالشراك فكأنه رم الكفر وشذر مذر أي: في كل جهة, يقال: تفرقوا شذر مذر بكسر الشين والميم وفتحهما وفتح الذال في اللغتين: إذا ذهبوا في كل وجهة, تنقمون أي: تعتبون يقال: نقم ينقم بكسر مضارعه, فهو ظعنه أي: سيره وارتحاله يقال: ظعن ظعنًا وظعنًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 الفصل الثالث عشر: في ذكر خلافته, وما يتعلق بها ذكر ما جاء دليلًا على خلافته تنبيهًا سابقًا منه -صلى الله عليه وسلم- وتقريرًا لاحقًا من الصحابة وشهادة منهم بصحتها, وأنها لم تكن إلا بحق. وقد تقدم جملة من أحاديث هذا الذكر, فشيء منها تقدم في باب الأربعة في ذكر ما جاء في خلافة الأربعة, وفي باب الثلاثة كذلك وفي باب أبي بكر وعمر كذلك, وبعضها مصرح بخلافتهم على الترتيب الواقع منه -صلى الله عليه وسلم- تارة ومن فهم الصحابة أخرى, خصوصًا أحاديث مرائيه -صلى الله عليه وسلم- فإن أحاديثها متفق على صحتها. وكذلك حديث الأمر بالاقتداء بأبي بكر وعمر وبعده باقيها, تقدم في الخصائص ونحن ننبه عليه لنفرغ إليه عند الحاجة إلى الاستدلال به. فمنها حديث ابن عباس: "ليس أحدا من علي" إلى قوله: "سدوا عني كل خوخة" وفهم الصحابة رضوان الله عليهم من ذلك التنبيه على الخلافة. وقد تقدم وجه بيان الدلالة منه وهو في الذكر الرابع في فصل الخصائص وأحاديث أفضليته كلها دليل على تعينه على قولنا لا تنعقد ولاية المفضول عند وجود الأفضل, وعلى القول الآخر دليل على أولويته لا نزاع في ذلك وقد تقدمت في الذكر الثالث عشر من الخصائص. وتقدم ضرب منها في باب الأربعة وفي باب الثلاثة, وفي باب أبي بكر وعمر, وحديث استخلافه على الصلاة لما ذهب يصلح بين بني عوف في الذكر الثالث والأربعين من الخصائص. وحديث استخلافه عليها في مرض وفاته في الخامس والأربعين وهو من أوضح الأدلة, وعليه اعتمد عمر وعلي وغيرهما من الصحابة في الاستدلال على خلافته وعلى أحقيته بها على ما سيأتي في آخر هذا الذكر, ووجهه أنه كان وهو -صلى الله عليه وسلم- قد تأهب للنقلة إلى ربه فعينه للإمامة, ثم عورض بعرض غيره عليه لذلك فمنع منه, ثم لما أن تقدم غيره كره ذلك وصرح بالمنع منه, ثم لما أن تقدم غيره كره ذلك وصرح بالمنع منه, ثم أكده بتكرار المنع فقال: "لا لا لا" ثم أردف ذلك بما فيه تعريض بالخلافة بل تصريح بقوله: "يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر" ثم أكد ذلك بتكرار كل ذلك مع علمه -صلى الله عليه وسلم- بأن ذلك مظنة الخلافة فإنه كان صلى الله عليه وسلم إمامهم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 الصلاة والحاكم عليهم, فلما أقام أبا بكر ذلك المقام مع توفر هذه القرائن الحالية والمقالية, علم أنه أراد ذلك, وفي قوله: "يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر" أكبر إشارة بل أفصح عبارة, ولولا اعتماده -صلى الله عليه وسلم- على تلك الإشارة المصرحة بإرادة الخلافة لما أهمل أمرها, فإنها من الوقائع العظيمة في الدين, ويؤيد ذلك أنه أراد كتب العهد على ما سنذكره ثم تركه وقال: "يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر" إنما كان والله أعلم اكتفاء بنصبه إمامًا عند إرادة الانتقال عنهم وإحالة على فهم ذلك عنه, ولم يصرح بالتنصيص عليها؛ لأنه مرتبط بما يوحى إليه لا يفعل شيئًا إلا بأمر ربه, ولم يأمره بالتنصيص لينفذ قضاءه وقدره في ابتداء قوم عميت أبصارهم بما ابتلاهم به وليبين فضل من انقاد إلى الحق بزمام الإشارة ودله نور بصيرته عليه, فإن من لم يعتقد ذلك بعد بلوغ هذه الأحاديث والعلم بتلك القرائن الحالية والمقالية, فالظاهر عناده ورده للحق بعد تبينه. ومنها حديث عائشة: "لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره" وهو صريح في الباب لعموم الإمامة تقدم في الرابع والأربعين, وحديث الحوالة عليه في السابع والأربعين وهو من أدل الأدلة وأوضحها, وحديثها من أصح الأحاديث وإن صحت الزيادة على ما رواه مسلم وهي قوله -صلى الله عليه وسلم: "فإني أخاف أن يتمنى متمن أو يقول قائل: أنا أولى". وفي رواية: "لكيلا يطمع في الأمر طامع أو يتمنى متمن" ثم قال: "ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" ويأبى الله ويدفع المؤمنون, أبى الله والمؤمنون أن يختلف عليه, وهذا صريح في الباب ولا يقال: إنه نص على إمامته بتوليته من جهته -صلى الله عليه وسلم- فإنه لم يكتب, بل عرف بأنه يكون الخليفة بعده فجعل الله سبحانه وتعالى ذلك وإجماع المسلمين عليه. ذكر سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- تقدمة علي, فأبى الله إلا تقدمة أبي بكر: عن علي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "سألت الله -عز وجل- أن يقدمك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 ثلاثًا فأبى إلا تقديم أبي بكر" خرجه الحافظ السلفي في المشيخة البغدادية, وخرجه صاحب الفضائل ولفظه: "يا علي, نازلت الله فيك ثلاثًا فأبى أن يقدم إلا أبا بكر" وقال: غريب وهذا الحديث مع غرابته يعتضد بما تقدم من الأحاديث الصحيحة, فيستدل بها على صحته لشهادة الصحيح لمعناه. ذكر ما روي عن عمر في هذا الباب: عن عبد الله بن مسعود قال: كان رجوع الأنصار يوم سقيفة بني ساعدة بكلام قاله عمر بن الخطاب: نشدتكم بالله هل تعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر أبا بكر يصلي بالناس؟ قالوا: اللهم نعم قال: فأيكم تطيب نفسه أن يزيله عن مقام أقامه فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: كلنا لا تطيب نفسه ونستغفر الله. خرجه أبو عمر وخرج أحمد معناه وفي آخره: فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ قالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر, وهذا مما يؤكد الاستدلال بإمامة الصلاة على الخلافة كما قررنا والله أعلم. ذكر ما روي عن علي -رضي الله عنه- متضمنًا القول بصحة خلافة أبي بكر, متعلقًا في ذلك بسبب من النبي -صلى الله عليه وسلم: عن الحسن قال: قال لي علي بن أبي طالب: لما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قدم أبا بكر في الصلاة, فرضينا لدنيانا من رضيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لديننا. وعنه قال: قال علي: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر يصلي بالناس وقد رأى مكاني وما كنت غائبًا ولا مريضًا, ولو أراد أن يقدمني لقدمني, فرضينا لدنيانا من رضيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لديننا. وعن قيس بن عبادة قال: قال لي علي بن أبي طالب: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرض ليالي وأيامًا ينادي بالصلاة فيقول: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 فلما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نظرت فإذا الصلاة علم الإسلام وقوام الدين, فرضينا لدنيانا من رضيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لديننا, فبايعنا أبا بكر. خرجه أبو عمر وخرج معنى الثلاثة ابن السمان في الموافقة وابن خيرون في حديث طويل تقدم في باب الثلاثة عن الحسن البصري. وهذا مما يؤيد ما ذكرناه من الاستدلال بتقديمه إمامًا في الصلاة على الإشارة إلى الخلافة, وإن رضاهم به خليفة إنما كان لكونه -صلى الله عليه وسلم- رضيه لإمامة الصلاة. وقد تقدم في الخصائص في ذكر أفضليته قوله -رضي الله عنه: إن أترككم فإن يرد الله بكم خيرًا يجمعكم على خيركم, كما جمعنا بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على خيرنا, وقد تقدم أيضًا دعاؤه أبا بكر: يا خليفة رسول الله في مواضع شتى. وعن سويد قال: دخل أبو سفيان على علي والعباس فقال لهما: ما بال هذا الأمر في أذل قبيلة من قريش وأقلها؟ والله إن شئت لأملأنها عليه خيلًا ورجلًا ولأورثنها عليه من أقطارها أي: لأصرمنها فقال علي: ما أريد أن تملأها عليه خيلًا ورجلًا, ولولا أنا رأيناه أهلًا ما خليناه وإياها يا أبا سفيان, المؤمنون قوم نصحة بعضهم لبعض متوادون وإن بعدت ديارهم, والمنافقون غششة بعضهم لبعض وإن قربت ديارهم, خرجه ابن السمان في الموافقة بهذا السياق, وهو عند غيره إلى قوله: أملأها عليه خيلًا ورجلًا. ذكر ما روي عن أبي عبيدة بن الجراح في هذا الباب: عن أبي البختري قال: قال عمر لأبي عبيدة بن الجراح: أبسط يدك حتى أبايعك, فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أنت أمين هذه الأمة" فقال أبو عبيدة: ما كنت لأتقدم بين يدي رجل أمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يؤمنا فأمنا حتى مات. خرجه أحمد وخرجه صاحب الصفوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وعن إبراهيم التيمي قال: لما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى عمر أبا عبيدة فقال: ابسط يدك لأبايعك؛ فإنك أمين هذه الأمة على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال أبو عبيدة لعمر: ما رأيت لك فهة قبلها منذ أسلمت, تبايعني وفيكم الصديق ثاني اثنين؟! "شرح" الفهة: السقطة والجهلة ونحو ذلك قال أبو عبيدة, والفهة والفهاهة: العي يقال: رجل فه وامرأة فهة. ذكر ما روي عن عبد الله بن مسعود في ذلك: عن زر بن حبيش عن ابن مسعود قال: إن الله تبارك وتعالى نظر في قلوب العباد, فوجد قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته, ثم نظر في قلوب العباد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه -صلى الله عليه وسلم- يقاتلون عن دينه, فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن وما رأوه سيئًا فهو عند الله سيئًا, وقد رأى أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جميعًا أن يستخلفوا أبا بكر -رضي الله عنه. خرجه ابن السري وهذا من أقوى الأدلة على صحة خلافته -رضي الله عنه- فإن الإجماع قطعي. ذكر ما روي عن أبي سعيد في معنى ذلك: عن أبي سعيد قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلا, ولكن أخي في الدين وصاحبي في الغار" وإن أبا بكر كان ينزل بمنزلة الوالد, وإن أحق ما اقتدينا به بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر, وروي عن ابن الزبير نحو ذلك. خرجهما إبراهيم التيمي. ذكر ما أخبره به النصارى مما يتضمن خلافة أبي بكر: عن جبير بن مطعم قال: لما بعث الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- وظهر أمره بمكة خرجت إلى الشام, فلما كنت ببصرى أتتني جماعة من النصارى فقالوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 لي: من الحرم أنت؟ قلت: نعم قالوا: تعرف هذا الذي تنبأ فيكم؟ قلت: نعم قال: فأخذوا بيدي فأدخلوني ديرًا لهم فيه تماثيل وصور فقالوا لي: انظر هل ترى صورة هذا الذي بعث فيكم؟ فنظرت فلم أر صورته فقلت: لا أرى صورته, فأدخلوني ديرًا أكبر من ذلك فإذا فيه تماثيل وصور أكثر مما في ذلك الدير فقالوا لي: انظر هل ترى صورته؟ فنظرت فإذا أنا بصفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصورته وإذا أنا بصفة أبي بكر وصورته وهو آخذ بعقب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: هل ترى صفته؟ قلت: نعم فقلت: لا أخبرهم حتى أعرف ما يقولون فقالوا: هو هذا؟ قلت: نعم أشهد أنه هو قالوا: أتعرف هذا الذي آخذ بعقبه؟ قلت: نعم قالوا: نشهد أن هذا صاحبكم وأن هذا الخليفة من بعده. خرجه ابن الصاعد, فإن قيل: ما ذكرتموه مما أوردتموه في حق أبي بكر واستدللتم به على أنه الخليفة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معارض بما جاء في حق علي بن أبي طالب, وقد وردت أحاديث تدل على أنه الخليفة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم. فمنها حديث سعد بن أبي وقاص وابن عباس: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" أخرجاه وغيرهما "أنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي" قال له ذلك, وقد استخلفه لما ذهب صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك. خرجه أحمد في مسنده والحافظ أبو القاسم الدمشقي في الموافقات. وسيأتي مستوفيًا في خصائصه من باب مناقبه, ووجه الدلالة أن موسى استخلف هارون عند ذهابه إلى ربه, فمقتضى التنظير بينهما أن يكون خليفته عند ذهابه إلى ربه كما كان هارون من موسى, وأن يكون المراد بقوله: "لا ينبغي أن أذهب" أي: إلى ربي وذلك ظاهر جلي, ومنها حديث: "من كنت مولاه فعلي مولاه, اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره" وفي بعض طرقه: "ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 قالوا: بلى يا رسول الله قال: "من كنت مولاه فإن هذا عليا مولاه" خرجه أحمد وأبو حاتم والترمذي والبغوي. وسنذكر الحديث بطرق كثيرة في خصائصه من باب مناقبه إن شاء الله تعالى, ووجه الدلالة أن المولى في اللغة المعتق والعتيق وابن العم والعصبة ومنه: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} وسموا بذلك لأنهم يلونه في النسب من الولي القرب, ومنه قول الشاعر: هم الموالي وإن جنفوا علينا ... وإنا من لقائهم لزور أي: بنو الأعمام, والحليف وهو العقيد والجار والناصر, ومنه قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} في قول ابن عرفة والولي ومنه الآية, قال بعضهم: أي وليهم والقائم بأمرهم, وأما الكافر فقد خذله وعاداه. ومنه أيضًا قوله -صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت بغير إذن مولاها فنكاحها باطل" أي: وليها ثمانية أوجه, ولا يصح الحمل على شيء من الأربعة الأول إذ لا معنى له في الحديث, وكذلك الخامس إلا على وجه بعيد فإنه يراد بالحليف الناصر والمتبادر إلى الذهن خلافه, إذ الحليف من وجدت منه صورة المحالفة حقيقة والمجاز خلاف الظاهر. وكذا السادس وهو الجار إلا أن يراد به المجير بمعنى الناصر, ومنه: {وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} أي: مجير فيرجع إلى معنى الناصر, فتعين أحد معنيين إما الناصر أو الولي بمعنى المتولي, وأيا ما كان أفاد المقصود؛ إذ معناه: من كنت متوليًا أمره والناظر في مصلحته والحاكم عليه فعلي في حقه كذلك, ويتأكد هذا المعنى بقوله: "ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ " وما ذاك إلا فيما ذكرناه من النظر فيما يصلحهم وفي الاحتكام عليهم, أو يكون معناه: من كنت ناصره ومنصفه من ظالمه والآخذ له بحقه وبثأره فعلي في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 حقه كذلك وقد تعذر وصفه بذلك في حال حياة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فتعين أن يكون المراد به بعد وفاته. ومنها وهو أقواها سندًا ومتنًا حديث عمران بن حصين: "إن عليا مني وأنا منه, وهو والي كل مؤمن بعدي" خرجه أحمد والترمذي وقال: حسن غريب, وأبو حاتم وحديث بريدة: "لا تقع في علي؛ فإنه مني وأنا منه, وهو وليكم بعدي" خرجه أحمد, والحديث الآخر: "من كنت وليه فعلي وليه" خرجه أبو حاتم. وستأتي هذه الأحاديث مستوفاة في خصائصه إن شاء الله تعالى, ووجه الدلالة أن الولي في اللغة المولى, قاله الفراء والمتولي ومنه: {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} 1 أي: متول أمري فيهما وضد العدو بمعنى المحب والمتوالي والناصر ومنه: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أي: يخوفكم أنصاره, فحذف المفعول الأول كما تقول: كسوت ثوبًا وأعطيت درهمًا. وقيل: معناه نخوفكم بأوليائه, فحذف الجار وأعمل الفعل, ولا يتجه حمله على المحب والمتوالي إذ لا يكون للتقييد بالبعدية معنى في الحديثين الأولين, فإنه -رضي الله عنه- كان محبا متواليا للمؤمنين في حياة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وبعد وفاته, والحديث الثالث محمول على الأولين في إرادة البعدية حملا للمطلق على المقيد, فتعين أحد المعاني الثلاثة وأيا ما كان أفاد المقصود إما بمعنى الناصر فقد تقدم توجيهه في الحديث قبله, وإما بمعنى المولى فإن حمل المولى على معنى يتجه في الحديث كما تقدم تقريره فالكلام فيه ما سبق, وإن حمل على ما لا يتجه فلا تصح إرادته, وأما بمعنى المتولي فظاهر في المقصود بل صريح والله أعلم. قلنا: الجواب من وجهين, الأول: أن الأحاديث المعتمد عليها في خلافة   1 سورة يوسف الآية: 101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 أبي بكر متفق على صحتها, وهذه الأحاديث غايتها أن تكون حسنة, وإن صح منها شيء عند بعضهم فلا يصح معارضًا لما اتفق عليه. الثاني: تسليم صحتها مع بيان أنه لا دليل لكم فيها: قوله في الحديث الأول: "إن موسى استخلف هارون عند ذهابه إلى ربه ... " إلى آخر ما قرره, قلنا: الجواب عنه من وجهين الأول: يقول: هذا عدول عن ظاهر ما تعلق به لسان الحال والمقال, فإنه قال لعلي تلك المقالة حين استخلفه لما توجه إلى غزوة تبوك على ما يتضح إن شاء الله تعالى في آخر هذا الكلام, وذلك استخلاف حال الحياة, فلما رأى تألمه بسبب التخلف إما أسفًا على الجهاد أو بسبب ما عرض من أذى المنافقين على ما سنبينه إن شاء الله تعالى قال له تلك المقالة إيذانًا له بعلو مكانته منه وشرف منزلته التي أقامه فيها مقام نفسه, فالتنظير بينه وبين هارون إنما كان في استخلاف موسى له منضما إلى الإخوة وشد الأزر والعضد به, وكان ذلك كله حال الحياة مع قيام موسى فيما استخلفه فيه, يشهد بذلك صورة الحال, فليكن الحكم في علي كذلك منضما إلى ما يثبت له من إخوة النبي -صلى الله عليه وسلم- وشد أزره وعضده به, غير أنه لم يشاركه في أمر النبوة كما شارك هارون موسى فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: "إلا أنه لا نبي بعدي". هذا على سبيل التنظير ولا إشعار في ذلك بما بعد الوفاة لا بنفي ولا بإثبات, بل يقول: لو حمل على ما بعد الوفاة لم يصح تنزيل علي من النبي -صلى الله عليه وسلم- منزلة هارون من موسى لانتفاء ذلك في هارون, فإنه لم يكن الخليفة من بعد وفاة موسى وإنما كان الخليفة بعد يوشع بن نون فعلم قطعا أن المراد به الاستخلاف حال الحياة لمكان التشبيه, ولم يوجد إلا في حال الحياة. لا يقال: عدم استخلاف موسى هارون بعد وفاته إنما كان لفقد هارون حينئذ ولو كان حيا ما استخلف والله أعلم غيره, بخلاف علي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنما يتم دليلكم أن لو كان هارون حيا عند وفاته واستخلف غيره؛ لأنا نقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 الكلام معكم في ثنتين: أن المراد بهذا القول الاستخلاف في حال الحياة, فكان التنزيل منزلة هارون من موسى ومنزلة هارون من موسى في الاستخلاف لم تحقق إلا في الحال الحياة, فثبت أن المراد به ما تحقق لا أمر آخر وراء ذلك, وإنما يتم متعلقكم منه أن لو حصل استخلاف هارون بعد وفاه موسى, ثم نقول: هب أن المراد الاستخلاف عند الذهاب إلى الرب فلم قلتم: إن ذلك بالموت؟ وإنما يكون كذلك أن لو لم يكن إلا به وهو ممنوع والذهاب إلى الرب سبحانه وتعالى في الحياة أيضًا, وهل كان ذهاب موسى إلى ربه إلا في حال حياته والصلاة مناجاة والدعاء كذلك والحجاج والعمار وفد الله, فهل يكون الذهاب إلى شيء من ذلك إلا ذهابًا إلى الرب حقيقة ومطابقتها أوقع من مطابقة الذهاب بالموت؟ فكل ذاهب إلى طاعة ربه ذاهب إلى ربه؛ لا به متوجه إليه بها وإن كان في بعض التوجه أوقع منه في غيره هذا لا نزاع فيه, فيكون النبي -صلى الله عليه وسلم- استخلف عليا وهو ذاهب إلى ربه بالخروج إلى طاعته بالجهاد كما استخلف موسى هارون في حال حياته ذاهبًا إلى ربه والله أعلم. الوجه الثاني: أن سياق هذا القول خبر, ولو كان المراد به ما بعد الوفاة لوقع لا محالة كما وقع, كما أخبر عن وقوعه, فإن خبره -صلى الله عليه وسلم- حق وصدق: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 1 ولما لم يقع علم قطعًا أنه لم يرد ذلك. وقوله: "إنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي" المراد به والله أعلم: خليفتي على أهلي فإنه -صلى الله عليه وسلم- لم يستخلف إلا عليهم, والقرابة مناسبة لذلك واستخلف -صلى الله عليه وسلم- على المدينة محمد بن مسلم الأنصاري وقيل: سباع بن عرفطة ذكره ابن إسحاق, وقال: خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك عليا على أهله, وأمره بالإمامة فيهم فأرجف المنافقون على علي, وقالوا: ما خلفه إلا   1 سورة النجم الآية: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 استثقالًا قال: فأخذ علي سلاحه ثم خرج حتى أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو نازل بالجرف فقال: يا نبي الله, زعم المنافقون أنك إنما خلفتني لأنك استثقلتني وتخففت مني فقال: "كذبوا ولكني خلفتك لما تركت ورائي, فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك, أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" أو يكون المعنى: إلا وأنت خليفتي في أهلي في هذه القضية على تقدير عموم استخلافه في المدينة إن صح ذلك ويكون ذلك لمعنى اقتضاه في تلك المرة علمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجهله غيره, يدل عليه أنه -صلى الله عليه وسلم- استخلف غيره في قضايا كثيرة ومرات عديدة أو يكون المعنى الذي يقتضيه حالك وأمرك ألا أذهب في جهة إلا وأنت خليفتي؛ لأنك مني بمنزلة هارون من موسى لمكان قربك مني وأخذك عني, لكن قد يكون شخوصك معي في وقت أنفع لي من استخلافك, أو يكون الحال يقتضي أن المصلحة في استخلاف غيرك فيتخلف حكم الاستخلاف عن مقتضيه لمعارض أقوى منه يقتضي خلافه, وليس في شيء من ذلك كله ما يدل على أنه الخليفة من بعد موته -صلى الله عليه وسلم. وأما الحديث الثاني فقوله فيه, فتعين أحد معنيين إما الناصر وإما الولي بمعنى المتولي, فيقول بموجبه لا بالتقدير الذي قدروه والمعنى الذي نزلوه عليه بل يكون التقدير على معنى الناصر: من كنت ناصره فعلي ناصره لأن عليا جلا من الكروب في الحروب ما لم يجلها غيره وفتح الله على يديه في زمنه -صلى الله عليه وسلم- ما لم يفتح على يد غيره, وشهرة ذلك تغني عن الاستدلال عليه والتطويل فيه. وإذا كان بهذه المثابة كان ناصرًا من كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ناصره, لما أشاد الله تعالى به من دعائم الإسلام المثبتة له بها منه في عنق الخاص والعام بنصرة المسلمين وإشادته منار الدين, أو يكون المعنى: من كنت ناصره فعلي نصره, وإن كان ذلك واجبًا على كل أحد من الصحابة بل من الأمة, لكن أثبت بذلك لعلي نوع اختصاص؛ لأنه أقربهم إليه وأولاهم بالانتصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 لمن نصره وهذا أولى من حمل الناصر على المعنى الذي ذكروه؛ لما يستلزم ذلك من المفسدة العظيمة والوصمة الفظيعة والثلمة المتفاقمة في جلة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المهاجرين والأنصار على ما سنقرره في الجواب عن الحديث الثالث, مما يدل على أنه لا يجوز حمله على معنى الاستخلاف بعده. وأما على معنى المتولي فيكون التقدير: فعلي وليه ومتولي أمره بعدي, فلا يصح ذلك إذ الإجماع منعقد على أنه لم يرد ذلك في الحالة الراهنة فيكون كالحديث الثالث, وسيأتي الكلام عنه مستوفيًا إن شاء الله تعالى. على أننا نقول: لم لا يجوز أن يكون المراد بالولي المنعم استعارة من مولى العتق, التفاتًا إلى المعنى المتقدم آنفًا في معنى الناصر ويكون التقدير من أنعم الله عليه بالهداية على يد نبيه -صلى الله عليه وسلم- إلى الإسلام والإيمان حتى اتصف النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه مولاه, فقد أنعم الله عليه أيضًا باستقامة أمر دينه وأمانه من أعداء الدين وخذلانهم وقوة الإسلام وإشادة دعائمه على يد علي بن أبي طالب مما اختص به دون غيره مما تقدم بيانه مما يصحح بيانه له الاتصاف بأنه مولى له أيضًا. وقد حكى الهروي عن أبي العباس أن معنى الحديث: من أحبني وتولاني فليحب عليا وليتوله, وفيه عندي بعد إذ كان قياسه على هذا التقدير أن يقول: من كان مولاي فهو مولى علي, ويكون المولي بمعنى الولي ضد العدو, فلما كان الإسناد في اللفظ على العكس من ذلك بعد هذا المعنى ولو قال: معناه: من كنت أتولاه وأحبه فعلي يتولاه ويحبه, كان أنسب للفظ الحديث وهو ظاهر لمن تأمله, نعم يتجه ما ذكره من وجه آخر بتقدير حذف في الكلام على وجه الاختصار, تقديره: من كنت مولاه فسبيل المولى وحقه أن يحب ويتولى فعلي أيضًا مولاه؛ لقربه مني ومكانته من تأييد الإسلام, فليحبه وليتوله كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وأما الحديث الثالث فقوله: فتعين حمل الولي إما على الناصر المتولي إلى آخر ما قرر قلنا: الجواب عنه من وجهين الأول: القول بالموجب على المعنيين من البيان بأنه لا دليل فيه لكم, أما على معنى الناصر فلما بيناه في الحديث قبله, وأما بمعنى المتولي فقد كان ذلك وإن كان بعد من كان بعده إذ يصدق عليه بعده حقيقة ومثل هذا قد ورد. وسيأتي في مناقب عثمان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى في منامه حورية فقال لها: "لمن أنت؟ " قالت: للخليفة من بعدك عثمان, ويكون فائدة ذكر ذلك التنبيه على فضيلته والأمر بالتمرن على محبته, فإنه سيلي عليكم ويتولى أمركم, ومن تتوقع إمرته فالأولى أن يمرن القلب على مودته ومحبته ومجانبة بغضه؛ ليكون أدعى إلى الانقياد وأسرع للطواعية وأبعد من الخلف. ويشهد لذلك أن هذا القول صدر حين وقع فيه من وقع وأظهر بغضه من أظهر على ما تضمنه الحديث, وسيأتي في خصائصه أيضًا, فأراد نفي ذلك عنهم والتمرن على خلافته لحاجتهم إليه وحاجته إليهم, ولا يجوز حمله على أنه المتولي عقيب وفاته -صلى الله عليه وسلم- في الأحاديث كلها لوجوه: الأول: أن لفظ الحديث لفظ الخبر ممن لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى, ولو كان المراد به ذلك لوقع لا محالة كما وقع كل ما أخبر عنه, ولما لم يقع ذلك دل على أن المراد به غيره, لا يقال: لم لا يجوز أن يكون المراد بلفظ الخبر؛ لأنا نجيب عنه من وجهين: الأول: أنه صرف اللفظ عن ظاهره, وذلك مرجوح والظاهر راجح فوجب العمل به. الثاني: أن ذلك أمر عظيم مهم في الدين وحكم تتوفر عليه داعية المسلمين, ومثل ذلك لا يكتفى فيه بالألفاظ المحتملة بل يجب فيه التصريح بنص أو ظاهر الوجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 الثاني: أنه يشم من الحمل على ذلك مفسدة عظيمة, وهي نسبة الأمة إلى الاجتماع على الضلالة, واعتقاد خطأ جميع الصحابة على تولية أبي بكر -رضي الله عنه وعنهم أجمعين- وأن عليا وافقهم على ذلك الخطأ, فإن بيعته قد اجتمع عليها ما سنقرره في فصل خلافته وذلك منفي بقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" وما ذكرناه في المصير إليه دفع لهذا المحذور ونفي للظلم أو الخطأ عن الجم الغفير المشهود لهم بأنهم كالنجوم وأن من اقتدى بهم اهتدى, خصوصًا من أمره -صلى الله عليه وسلم- بالاقتداء به من بعده, وشهد بالرشد لمن أطاعه, وأن الدين يتم به على ما سبق مما تضمنه باب أبي بكر وعمر. وما تدعيه الرافضة من أن عليا ومن تابعه من بني هاشم في ترك المبادرة إلى بيعة أبي بكر, إنما بايعوه تقية بلا إجماع في نفس الأمر, فذلك في غاية الفساد, وسنقرره ونجيب عنه على الوجه الأسد في ذكر بيعة علي إن شاء الله من هذا الفصل. الثالث: أن الأحاديث المتقدمة في أبي بكر دلت على أنه الخليفة عقيب وفاته -صلى الله عليه وسلم- وقد مر وجه دلالتها على ما تقدم, وأحاديث علي مترددة بين احتمالين, ففي الحمل على أحدهما توفيق بين الأحاديث كلها ونفي للمحذور اللازم في حق الصحابة كما قررناه, والحمل على الآخر إلغاء لبعضها وتقرير لذلك المحذور, فكان الحمل على ما يحصل به التوفيق ونفي المحذور أولى عملًا بالأحاديث كلها, وكيف يتطرق خلاف ذلك إلى الوهم؟ وقد روي عن علي وغيره من الصحابة -رضوان الله عليهم- ما يشهد بصحته على ما تقدم تقريره وتتبادر الأفهام عند سماعه إلى أنه مانع من تطرق تلك الأوهام, أم كيف يحل اعتقاد خلاف ذلك والإجماع على خلافه وهو قطعي؟ والله أعلم. الوجه الثاني من الوجهين في الجواب: أنه لا يجوز أن يكون الولي هنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 بمعنى المحب المتوالي ضد العدو, والتقدير: وهو متواليكم ومحبكم بعدي, ويكون المراد بالبعدية ههنا في الرتبة لا بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- أي: أنا المتقدم في توالي المسلمين ومحبتهم بذلك الاعتبار المتقدم, ثم علي بعدي في الدرجة الثانية لمكانته مني وقربه ومناسبته, فهو أولى بمحبة من أحبه وتوالي من أتولاه ونصرة من أنصره وإجارة من أجيره, والله أعلم. ذكر أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يعهد في الخلافة بعهد, ولم ينص فيها على أحد بعينه: وقد تقدم حديث حذيفة في باب الشيخين وأحاديث علي في ذلك أيضًا, وعن طلحة بن مصرف قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى: أوصى رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا قلت: وكيف أمر المسلمين بالوصية؟ قال: أوصى بكتاب الله, قال طلحة: قال الهزيل بن شرحبيل: أبو بكر يتأمر, علي وصي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ود أبو بكر أنه وجد عهدًا وخزم أنفه بخزام, وقول عمر: وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دليل أيضًا على عدم العهد في ذلك. وعن فطر عن شيخ من بني هاشم قال: قال رجل لعلي لما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم: اخرج يا علي وأخبر الناس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل الخلافة فينا فلا تخرج منا أبدًا فقال: لا والله ما كذبت عليه حيا, أفأكذب عليه ميتًا؟! وعن ابن عباس أن العباس أخذ بيد علي وقال له: ألا ترى أنك بعد ثلاث عبد العصى, والله لأرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيتوفى في وجعه هذا, فإني لأعرف الموت في وجوه بني عبد المطلب, فاذهب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاسأله فيمن يكون هذا الأمر؟ فإن كان فينا علمنا ذلك, وإن كان في غيرنا أمرناه وأوصى بنا فقال علي: والله إن سألناها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمنعناها لا يعطيناها الناس أبدًا. وعن علي -رضي الله عنه- أنه قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يعهد إلينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 عهدًا نأخذ به في الإمارة, ولكنه شيء رأيناه من قبل أنفسنا فإن يكن صوابًا فمن الله وإن يكن خطأ فمن قبل أنفسنا, ثم استخلف أبو بكر فأقام واستقام, ثم استخلف عمر فأقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه. وقد تقدم هذا في باب الشيخين وسيأتي في مقتل علي أنهم قالوا له: استخلف فقال: لا, ولكن أكلكم إلى من وكلكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإذا ثبت أنه لم يستخلف كان ما ذكرناه في حق أبي بكر من تقديمه للصلاة وما في معناه تنبيهًا لا عهدًا. ذكر بيعة أبي بكر, وما يتعلق بها: حكى الواقدي أن أبا بكر بويع بالخلافة يوم قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين لست عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة وقال ابن قتيبة وأبو عمر: بويع بالخلافة يوم قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سقيفة بني ساعدة وبويع بيعة العامة على المنبر يوم الثلاث من غد ذلك اليوم, قال أبو عمر: وتخلف عن بيعته سعد بن عبادة وطائفة من الخزرج وفرقة من قريش, ثم بايعوه بعد غير سعد, وقيل: إنه لم يتخلف عنه أحد من قريش يومئذ, وقيل: تخلف عنه علي والزبير وطلحة وخالد بن العاص ثم بايعوه بعد, ثم لم يزل علي سامعًا مطيعًا له يثني عليه ويفضله. قال ابن قتيبة: وارتدت العرب إلا القليل منهم بمنع الزكاة, فجاهدهم حتى استقاموا وبعث عمر على الحج فحج بالناس سنة إحدى عشرة, وفتح اليمامة وقتل مسيلمة الكذاب والأسود العنسي بصنعاء, وقاتل جموع أهل الردة إلى أن رجعوا إلى دين الله تعالى وقد أفردنا لقتال أهل الردة تأليفًا مختصرًا جامعًا, وحج بالناس أبو بكر سنة اثنتي عشرة, ثم صدر إلى المدينة وبعث الجيوش إلى الشام والعراق. وذكر صاحب الصفوة أنه اعتمر في رجب سنة اثنتي عشرة, فدخل مكة ضحوة وأتى منزله وأبو قحافة جالس على باب داره ومعه فتيان يحدثهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 فقيل له: هذا ابنك, فنهض قائمًا وعجل أبو بكر أن ينيخ راحلته فنزل عنها وهي قائمة, فجعل يقول: يا أبت لا تقم ثم التزمه, وقيل بين عيني أبي قحافة, وجعل أبو قحافة يبكي فرحًا بقدومه, وجاء إلى مكة عتاب بن أسيد وسهيل بن عمرو وعقبة بن عكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام فسلموا عليه: سلام عليك يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصافحوه جميعًا, فجعل أبو بكر يبكي حين يذكرون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم سلموا على أبي قحافة فقال أبو قحافة: يا عتيق هؤلاء الملأ فأحسن صحبتهم فقال أبو بكر: يا أبت لا حول ولا قوة إلا بالله, طوقت عظيمًا من الأمر لا قوة لي به ولا يدان إلا بالله, وقال: هل أحد يشتكي ظلامة؟ فما أتاه أحد وأثنى الناس على واليهم. "شرح" الملأ: الجماعة ويطلق على أشراف القوم؛ لأنهم يملئون القلب والعين, وكان حاجبه سديفا مولاه وكاتبه عثمان بن عفان وعبد الله بن الأرقم وكان نقش خاتمه: عبد ذليل لرب جليل, قاله ابن عباس وأكثر المؤرخين على أن نقش خاتمه: نعم القادر الله, وعليه عول الزبير بن بكار وغيره من المتقدمين, وهذا الخاتم لم يكن أبو بكر يطبع به, إنما كان يطبع بخاتم رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عمر قال: اتخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاتمًا من ورق فكان في يده, ثم كان في يد أبي بكر, ثم كان في يد عمر, ثم في يد عثمان حتى وقع في بئر أريس, نقشه: محمد رسول الله. وفي رواية قال: "لا ينقش أحد على نقش خاتمي" أخرجاه, وفي بعض الطرق من حديث الأنصاري: محمد سطر ورسول سطر والله سطر, وعن أنس قال: كان خاتم النبي -صلى الله عليه وسلم- في يده ثم كان في يد أبي بكر ثم كان في يد عمر فلما كان في يد عثمان جلس على بئر أريس وأخرج الخاتم, فجعل يعبث به فسقط, قال: فاختلفنا ثلاثة أيام مع عثمان ننزح البئر فلم نجده, أخرجاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 "شرح" الورق: الدراهم المضروبة وكذا الرقة مخففًا, والهاء بدل من الواو, وقد اختلف في هذا الخاتم: هل أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- باتخاذه واصطناعه وعليه دل ظاهر هذا الخبر وغيره, أو اصطنعه أحد الصحابة لنفسه فرآه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمر أن لا ينقش عليه واتخذه لنفسه وعليه دل بعض الآثار؟ والله أعلم. ذكر بيعة السقيفة, وما جرى فيها: عن ابن عباس أن عمر قام على المنبر فقال: لا يغترن امرؤ أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة, ألا وإنها كانت كذلك ألا وإن الله وقى شرها, وليس فيكم اليوم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر, وإنه كان من خيرنا حين توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم. إن عليا والزبير ومن كان معهما تخلفوا في بيت فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتخلفت عنا الأنصار بأجمعها في سقيفة بني ساعدة, فاجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت له: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار, فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا رجلان صالحان فذكرا لنا الذي صنع القوم, فقال: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلت: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار فقالا: لا عليكم ألا تقربوهم واقضوا أمركم يا معاشر المهاجرين فقلت: والله لنأتينهم, فانطلقنا حتى جئناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا هم مجتمعون وإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل فقلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة فقلت: ما له؟ قالوا وجيع فلما جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله وقال: أما بعد, فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم يا معاشر المهاجرين رهط منا, وقد دفت دافة منكم تريدون أن تختزلونا من أصلنا وتحضنونا من الأمر, فلما سكت أردت أن أتكلم وكنت قد زورت مقالة أعجبتني أريد أن أقولها بين يدي أبي بكر, وقد كنت أداري منه بعض الجسد وهو كان أحلم مني وأوقر فقال أبو بكر: على رسلك, فكرهت أن أغضبه وكان أعلم مني وأوقر, والله ما ترك كلمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 أعجبتني في تزويري إلا قالها في بديهته, وأفضل حتى سكت فقال: أما بعد فما ذكرتم من خير فأنتم أهله ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش, هم أوسط العرب نسبًا ودارًا, وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم, وأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح فلم أكره مما قال غيرها, وكان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر إلى أن تغير نفسي عند الموت. فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب, منا أمير ومنكم أمير قال: فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى خشينا الخلاف فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر, فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعه الأنصار, ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة قال: فقلت: قتل الله سعد بن عبادة قال مالك: فأخبرني ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن الرجلين اللذين لقياهما عويم بن ساعدة ومعن بن عدي قال ابن شهاب: وأخبرني سعيد بن المسيب أن الذي قال: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب الحباب بن المنذر, أخرجاه. وفي رواية: لما كان يوم الجمعة عجلت بالرواح حتى زاغت الشمس حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسًا إلى ركن المنبر فجلست حذوه تمس ركبتي ركبته فلم أنشب أن خرج عمر فجلس على المنبر, فلما سكت المؤذن قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد, فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها لا أدري لعلها بين يدي أجلي, فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته, ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب علي ثم ذكر ما تقدم بتقديم بعض اللفظ وتأخير بعض, أخرجاه. وفي رواية: لما قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير قال عمر بن الخطاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 من له مثل هذه الثلاث {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ؟ قال: ثم بسط يده فبايعه وبايعه الناس بيعة حسنة جميلة, خرجه الترمذي في الشمائل في وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وخرج أبو حاتم معنى المتفق عليه وقال بعد قوله منا أمير ومنكم أمير: فقال أبو بكر: لا ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء هم أوسط العرب دارًا وأعزهم احتسابًا, فبايعوا عمر وأبا عبيدة فقال عمر: بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس. وقال ابن إسحاق: لما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- انحاز هذا الحي من الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة واعتزل علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله في بيت فاطمة, وانحاز بقية المهاجرين إلى أبي بكر وانحاز معهم أسيد بن حضير في بني عبد الأشهل, فأتى آت إلى أبي بكر وعمر فقال: إن هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة قد انحازوا إليه, فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا الناس قبل أن يتفاقم أمرهم ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيته لم يفرغ من أمره قد أغلق دونه الباب أهله. قال عمر: فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار حتى ننظر ما هم عليه, ثم ذكر معنى حديث ابن عباس وقال موسى بن عقبة: قال ابن شهاب: فبينما هم يحتفرون والله أعلم قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقبل رجل فقرع الباب ونادى عمر بن الخطاب فقال عمر: إنا مشاغيل فما حاجتك؟ قال الرجل: إنه لا بد لك من القيام وسترجع إن شاء الله تعالى, فقام إليه عمر فقال له: إن هذا الحي من الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة ومعهم سعد بن عبادة وناس من أشرافهم يقولون: منا أمير ومن المهاجرين أمير, وقد خشيت أن تهيج فتنة, فانظر يا عمر واذكر لإخوانك واحتالوا حيلتكم فإني أنظر إلى باب فتنة إن لم يغلقه الله -عز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وجل, ففزع عمر وراعه ذلك, ثم خرج هو وأبو بكر مسرعين إلى بني ساعدة وتركا نفرًا من المهاجرين فيهم علي بن أبي طالب والفضل بن العباس وهم أقاربه وهم ولوا شأنه وغسله وتكفينه, وانطلق أبو بكر وعمر فلقيا أبا عبيدة فانطلقوا جميعًا حتى دخلوا سقيفة بني ساعدة وفيها رجال من أشراف الأنصار وسعد بن عبادة مضطجع بين أظهرهم يوعك, ثم ذكر بمعنى حديث ابن عباس. وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب أن أبا بكر يوم السقيفة تشهد وأنصت القوم فقال: بعث الله نبيه بالهدى ودين الحق فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الإسلام فأخذ الله بقلوبنا ونواصينا إلى ما دعا إليه, فكنا معشر المهاجرين أول الناس إسلامًا ونحن عشيرته وأقاربه وذوو رحمه, ونحن أهل الخلافة وأوسط الناس أنسابًا في العرب, ولدتنا العرب كلها, فليس منهم قبيلة إلا لقريش فيها ولادة ولن تصلح إلا لرجل من قريش, هم أصبح الناس وجوها، وأسلطهم1 ألسنة وأفضلهم قولًا, فالناس لقريش تبع, فنحن الأمراء وأنتم الوزراء, وأنتم يا معاشر الأنصار إخواننا في كتاب الله وشركاؤنا في دين الله تعالى, وأحب الناس إلينا وأنتم الذين آووا ونصروا وأنتم أحق الناس بالرضا بقضاء الله تعالى والتسليم لفضيلة إخوانكم من المهاجرين, وأحق الناس أن لا تحسدوهم على خير آتاهم الله إياه وأنا أدعوكم إلى أحد رجلين, ثم ذكر معنى ما قبله من حديث ابن عباس ثم قال: فقالت الأنصار: والله ما نحسدكم على خير ساقه الله إليكم وما أحد من خلق الله تعالى أحب إلينا ولا أعز علينا ولا أرضى عندنا منكم, ونحن نشفق مما بعد اليوم فلو جعلتم اليوم رجلًا منكم فإذا هلك اخترنا رجلًا من الأنصار فجعلناه مكانه كذلك أبدًا, وكان ذلك أجدر أن يشفق القرشي إن زاغ أن ينقض عليه الأنصاري وأن يشفق الأنصاري إن   1 أحدهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 زاغ أن ينقض عليه القرشي فقال عمر: لا ينبغي هذا الأمر ولا يصلح إلا لرجل من قريش, ولن ترضى العرب إلا به ولن تعرف الإمارة إلا له, والله ما يخالفنا أحد إلا قتلناه. فقام حباب بن المنذر السلمي فقال: منا أمير ومنكم أمير, أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب, وقد دفت علينا دافة أرادوا أن يختزلونا من أصلنا ويحضنونا من الأمر, وإن شئتم كررناها جذعة. قال: فكثر القول حتى كاد أن يكون بينهم في السقيفة حرب, وتوعد بعضهم بعضًا ثم تراد المسلمون وعصم الله لهم دينهم, فرجعوا بقول حسن فسلموا الأمر وأغضبوا الشيطان, فوثب عمر وأخذ بيد أبي بكر وقام أسيد بن الحضير أخو بني عبد الأشهل وبشير بن سعد يسبقان ليبايعا فسبقهما عمر وبايعاه معًا, ووثب أهل السقيفة يبتدرون البيعة وسعد بن عبادة مضطجع يوعك, فازدحم الناس على بيعة أبي بكر فقال قائل من الأنصار: اتقوا سعد بن عبادة ولا تطئوه فقال عمر: اقتلوه قتله الله, وقال عمر ذلك بغضب. فلما فرغ أبو بكر من البيعة رجع إلى المسجد فقعد على المنبر, فبايعه الناس حتى أمسى وشغلوا عن دفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى كان آخر الليل من ليلة الثلاثاء, ثم ذكر حديث دفنه والصلاة عليه -صلى الله عليه وسلم. "شرح" الفلتة: ما وقع عاجلًا من غير ترو ولا تدبير في الأمر ولا احتيال فيه, وكذلك كانت بيعة أبي بكر -رضي الله عنه- كأنهم استعجلوا خوف الفتنة, وإنما قال عمر ذلك لأن مثلها من الوقائع العظيمة التي ينبغي للعقلاء التروي في عقدها لعظم المتعلق بها, فلا تبرم فلتة من غير اجتماع أهل العقد والحل من كل قاص ودان لتطيب الأنفس ولا تحمل من لم يدع إليها نفسه على المخالفة والمنازعة وإرادة الفتنة لا سيما أشرف الناس وسادات العرب, فلما وقعت بيعة أبي بكر على خلاف ذلك قال عمر ما قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 ثم إن الله وقى شرها, فإن المعهود في وقوع مثلها في الوجود كثرة الفتن ووقوع العداوة والإحن؛ فلذلك قال عمر: وقى الله شرها. متزمل: ملتف بثوب أو كساء ومنه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} والكتيبة: الجيش تقول منه: كتب فلان الكتاب تكتيبًا أي: عبارة كتيبة كتيبة, رهط منا أراد: أنكم جماعة منا, ورهط الرجل: قومه وقبيلته, والرهط: ما دون العشرة من الرجال لا يكون معهم امرأة وليس مرادًا هنا, قال تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} وليس لهم واحد من لفظهم مثل ذود, والجمع: أرهط وأرهاط وأراهط وأراهيط, دفت دافة هو من الدفيف يعني الدبيب تقول: دفت علينا من بني فلان دافة أي: جماعة ودون الجيش إذا زحف, يختزلونا أي: يقتطعونا والاختزال الاقتطاع, ويحضنونا من الأمر أي: يضمونا عنه كأنهم أخذونا إلى حضنهم وهو ما دون الإبط إلى الكشح, وزورت في نفسي مقالة أي: حسنتها وقومتها, وتزوير الشيء تحسينه, أداري: أدافع, والحد والحدة بمعنى بديهته أي: إتيانه بالكلام فجأة من غير فكرة ولا روية والبداهة بمعناه, أوسط العرب نسبًا: أعدلهم وأشرفهم, والجذيل: تصغير الجذل وهو عود ينصب للإبل الجرباء لتحتك به فأراد أن يستشفي برأي, والعذيق: تصغير عذق وهو النخلة, والترجيب: أن تدعم النخلة إذا كثر حملها, ومبادرة أبي بكر وعمر إلى البيعة على ما تضمنه حديث ابن إسحاق وموسى بن عقبة إنما كان مراعاة لمصلحة المسلمين وخشية اضطراب أمر الأمة وافتراق كلمتهم, لا حرصًا على الإمامة. وقد صرح بذلك أبو بكر في خطبته على ما سيأتي في الذكر بعده؛ ولذلك دل في البيعة على غيره وخشي أن يخرج الأمر عن قريش, فلا تدين العرب لمن يقوم به من غير قريش, فيتطرق الفساد إلى أمر الأمة ولم يحضر معه في السقيفة من قريش غير عمر وأبي عبيدة فلذلك دل عليهما ولم يمكنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 ذكر غيرهما ممن كان غائبًا خشية أن يتفرقوا عن ذلك المجلس من غير إبرام أمر ولا إحكامه فيفوت المقصود, ولو وعدوا بالطاعة لمن غاب منهم حينئذ ما أمنهم على تسويل أنفسهم إلى الرجوع عن ذلك, فكان من النظر السديد والأمر الرشيد مبادرته وعقد البيعة والتوثق منهم فيها في حالته الراهنة. وذلك مما يرضي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويراه من أهم المطالب ويصوب المبادرة إليه ويقدمه على تجهيزه, فإنه -صلى الله عليه وسلم- ما زال شفيقًا على أمته رحيمًا بهم مؤثرًا لهم على نفسه حال حياته, فناسب أن يكون كذلك بعد وفاته مع أنهم لم يبادروا إلى ذلك حتى علموا أن من قد تركوه عنده -صلى الله عليه وسلم- من أهله كاف في ذلك, فرأوا الجمع بين الأمرين وباشروا منهما ما كان -صلى الله عليه وسلم- كلفًا مهتما به, مراعاة لمحابه وإيثارًا لما كان مؤثرة -صلى الله عليه وسلم. وعن أبي سعيد الخدري قال: لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قامت خطباء الأنصار فجعل الرجل منهم يقول: يا معشر المهاجرين إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا استعمل رجلًا منكم قرن معه رجلًا منا, فنرى أن يلي هذا الأمر رجلان, أحدهما منكم والآخر منا, فتتابعت خطباء الأنصار على ذلك فقام زيد بن ثابت فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان من المهاجرين وإن الإمام إنما هو من المهاجرين ونحن أنصاره كما كنا أنصار النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: فقام أبو بكر الصديق فقال: جزاكم الله من حي خيرًا يا معشر الأنصار, ثبت الله مقالتكم, أما والله لو نعلم غير ذلك لما صالحناكم. خرجه في فضائل أبي بكر وقال: حديث حسن. ذكر بيعة العامة: عن أنس بن مالك قال: لما كان يوم الاثنين كشف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ستر الحجرة فرأىأبا بكر يصلي بالناس قال: فنظرت إلى وجهه كأنه ورقة مصحف وهو يبتسم, فكدنا أن نفتتن في صلاتنا فرحًا برؤية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم أرخى الستر وتوفي من يومه ذلك, فقام عمر الغد من يوم توفي رسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر فتشهد وأبو بكر صامت لا يتكلم ثم قال: إن يكن محمد قد مات فإن الله -عز وجل- قد جعل بين أظهركم نورًا تهتدون به, فاعتصموا به تهتدوا لما هدى الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ثم إن أبا بكر صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وثاني اثنين, وإنه أولى الناس بأموركم فقوموا فبايعوه, وكانت طائفة منهم قد بايعوا قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة وكانت بيعة العامة على المنبر. خرجه أبو حاتم وخرجه ابن إسحاق عن أنس ولفظه: لما بويع أبو بكر في السقيفة وكان من الغد, جلس أبو بكر على المنبر فقام عمر فتكلم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أيها الناس إني قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت ولا وجدتها في كتاب الله -عز وجل- ولا كانت عهدًا عهده إلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكني قد كنت أرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيدبرنا أي: يكون آخرنا, وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن اعتصمتم به هداكم لما كان هداه له, وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وثاني اثنين إذ هما في الغار وأولى الناس بأموركم فبايعوه, فبايع الناس أبا بكر بيعة العامة بعد بيعة السقيفة, ثم تكلم أبو بكر فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: أما بعد, أيها الناس فإني وليت عليكم ولست بخيركم, فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني, الصدق أمانة والكذب خيانة, والضعيف منكم قوي عندي حتى أزيح عليه حقه إن شاء الله تعالى, والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله تعالى, لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل, ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء, أطيعوني ما أطعت الله ورسوله, فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم, قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله. وهذا الذي خرجه ابن إسحاق بهذا السياق هو عند البخاري منقطع ومعناه مستوف, وهذا مغاير لما تقدم عن موسى بن عقبة أن البيعة في المسجد كانت في يوم الوفاة قبل الدفن, ولعل البيعة على المنبر في المسجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 تكررت أو كان قد بقي من لا يبايع في يوم الوفاة, فجلس لهم صبيحة اليوم الثاني فبايعوه من غير أن يكون بينهما تضاد. قال ابن شهاب: وغضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر, منهم علي بن أبي طالب والزبير فدخلا بيت فاطمة معهما السلاح, فجاءهما عمر بن الخطاب في عصابة من المسلمين منهم أسيد بن حضير وسلمة بن سلامة بن وقش وهما من بني عبد الأشهل ويقال: منهم ثابت بن قيس بن شماس من بني الخزرج, فأخذ أحدهم سيف الزبير فضرب به الحجر حتى كسره ويقال: إنه كان فيهم عبد الرحمن بن عوف ومحمد بن مسلمة وإن محمد بن مسلمة هو الذي كسر سيف الزبير والله أعلم. خرجه موسى بن عقبة وهذا محمول على تقدير صحته على تسكين نار الفتنة وإغماد سيفها لا على قصد إهانة الزبير, وتخلف عن بيعة أبي بكر يومئذ سعد بن عبادة في طائفة من الخزرج وعلي بن أبي طالب وابناه والعباس عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبنوه في بني هاشم والزبير وطلحة وسلمان وعمار وأبو ذر والمقداد وغيرهم من المهاجرين وخالد بن سعيد بن العاص, ثم إنهم بايعوا كلهم فمنهم من أسرع ببيعته ومنهم من تأخر حينًا إلا ما روي عن سعد بن عبادة فإنهم قالوا: أدركته المنية قبل البيعة, ويقال: قتلته الجن وقصته مشهورة عند أهل التاريخ, وعلى الجملة لا خلاف بين طوائف المسلمين على أن أبا بكر توفي يوم توفي ولا مخالف عليه من أهل الإسلام طوعًا أو كرهًا, كما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توفي يوم توفي وقد قامت حجة التبليغ, وبلغ ذلك القاصي والداني وقامت كلمة الشهادتين طوعًا وكرهًا. وقال أبو عبيد في كتاب الأحاديث: بايع أبا بكر جميع الأنصار غير سعد بن عبادة وقد كانت الأنصار أرادت أن تجعل البيعة له فقال عمر: لا ندعه حتى يبايع له بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير وكان أول من صفق بيد أبي بكر, ولعله أراد من الأنصار توفيقًا بينه وبين حديث ابن عباس في أن أول من بايع عمر ثم المهاجرون ثم الأنصار فقال بشير: إنه ليس بمبايعكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 حتى يقتل وليس بمقتول حتى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته, فإن تركتموه فليس تركه بضائركم, إنما هو واحد فقبل أبو بكر نصيحة بشير ومشورته فكف عن سعد, قال: وكان سعد لا يصلي بصلاتهم ولا يصوم بصيامهم وإذا حج لم يفض بإفاضتهم, فلم يزل كذلك حتى توفي أبو بكر وولي عمر, فلم يلبث إلا يسيرًا حتى خرج مجاهدًا إلى الشام فمات بحوران في أول خلافة عمر ولم يبايع أحدًا, وهذا لا يقدح فيما تقدم ذكره من دعوى الإجماع بل نقول: خلاف الواحد مع ظهور العناد والحمية الجاهلية لا يعد خلافًا ينتقض به الإجماع, والله أعلم. قال ابن شهاب: ولما بويع لأبي بكر قام فخطب الناس واعتذر إليهم وقال: والله ما كنت حريصًا على الإمارة يومًا ولا ليلة قط, ولا كنت فيها راغبًا ولا سألتها الله في سر ولا علانية, ولكني أشفقت من الفتنة وما لي في الإمارة من راحة, ولقد قلدت أمرًا عظيمًا ما لي به طاقة ولا يدان إلا بتقوية الله -عز وجل- ولوددت أن أقوى الناس عليها مكاني اليوم فقبل المهاجرون منه ما قال وما اعتذر به, وقال علي والزبير: ما غضبنا إلا أن أخرنا عن المشورة, وإن أبا بكر أحق الناس بها بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنه صاحب الغار وثاني اثنين, وإنا لنعرف شرفه ولقد أمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالصلاة للناس وهو حي. خرجه موسى بن عقبة صاحب المغازي. ذكر بيعة علي -رضي الله عنه: عن محمد بن سيرين قال: لما بويع أبو بكر أبطأ علي في بيعته وجلس في بيته قال: فبعث إليه أبو بكر: ما أبطأ بك عني, أكرهت إمارتي؟ قال علي: ما كرهت إمارتك, ولكني آليت أن لا أرتدي ردائي إلا إلى صلاة حتى أجمع القرآن. قال ابن سيرين: فبلغني أنه كتبه علي على تنزيله, ولو أصيب ذلك الكتاب لوجد فيه علم كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 وفي رواية: أنه لقيه عمر فقال: تخلفت عن بيعة أبي بكر فقال وذكر الحديث, وزاد بعد قوله حتى أجمع القرآن: فإني خشيت أن يفلت ثم خرج فبايعه, أخرجه أبو عمر وغيره. وعن عائشة -رضي الله عنها- أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- مكث ستة أشهر حتى توفيت فاطمة -رضي الله عنها- لم يبايع أبا بكر ولم يبايعه أحد من بني هاشم حتى بايعه علي, فأرسل علي بعد وفاة فاطمة إلى أبي بكر: ائتنا ولا يأتنا معك أحد, وكره أن يأتيه عمر لما علم من شدته فقال عمر: لا تأتهم وحدك فقال أبو بكر: والله لآتينهم وحدي وما عسى أن يصنعوا بي, فانطلق أبو بكر حتى دخل على علي وقد جمع بني هاشم عنده, فقام علي فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد, فإنه لم يمنعنا أن نبايعك يا أبا بكر إنكار لفضيلتك ولا نفاسة عليك بخير ساقه الله إليك, ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقا فاستبددتم به علينا, ثم ذكر قرابته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يزل علي يذكر ذلك حتى بكى أبو بكر, فلما صمت علي تشهد أبو بكر فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد, فوالله لقرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحب إلى أن أصلهم من قرابتي, وإني والله ما آلو بكم في هذه الأموال التي كانت بيني وبينكم إلا الخير, ولكني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا نورث, ما تركناه صدقة" إنما يأكل آل محمد في هذا المال وإني والله لا أذكر صنعه فيه إلا صنعته إن شاء الله تعالى ثم قال علي: موعدك العشية للبيعة, فلما صلى أبو بكر الظهر أقبل على الناس ثم عذر عليا ببعض ما اعتذر به, ثم قام علي فعظم من حق أبي بكر فذكر فضيلته وسابقته ثم مضى إلى أبي بكر فبايعه, وأقبل الناس إلى علي فقالوا: أصبت وأحسنت. حديث صحيح متفق عليه وخرج أبو الحسن علي بن محمد القرشي في كتاب الردة والفتوح أن بيعته كانت بعد موت فاطمة بخمسة وسبعين يومًا. "شرح" استبددتم علينا أي: انفردتم به دوننا ويقال: استبد فلان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 بكذا أي: انفرد به, آلو: أقصر وفلان لا يألوك نصحًا فهو آل, والمرأة آلية, والجمع أوال, عذر عليا: أقام عذره. وقوله -رضي الله عنه: كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقا, المراد بالأمر الخلافة. ويدل عليه أن عليا بعث إلى أبي بكر ليبايعه, فقدم العذر في تخلفه أولًا فقال: لم نمتنع نفاسة عليك ولا كذا ولا كذا ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقا, فعلم بالضرورة أن الأمر المشار إليه المعرف بلام العهد هو ما تضمنه الكلام الأول وما ذاك إلا ما وقع التخلف عنه وهو بيعة الإمامة, أما الحق فالمراد به حق في الخلافة, إما بمعنى الأحقية أي: كنا نظن أنا أحق منكم بهذا الأمر لقرابتنا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مضافًا إلى ما اجتمع فينا من أهلية الإمامة مما ساوينا فيه غيرنا, وإما بمعنى أني أستحق استحقاقًا مساويًا لاستحقاقكم على تقدير انضمام القرابة إليه؛ إذ القرابة أعظم معنى يحصل به الراجحية, فإذا قدرنا التساوي دونها ترجح بها, وإما بمعنى استحقاق ما ولو كان مرجوحًا عند فرض انعقاده ولاية المرجوح, ويكون منه بالقرابة على هذين الاحتمالين الآخرين تنبيهًا على ما كان ينبغي أن يعامل به ويراعى فيه من قرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والأول هو المختار, والاحتمالان بعده باطلان؛ لأنه -رضي الله عنه- إذا اعتقد أنه ليس بأحق وأن غيره مساو له أو راجح عليه وقد عقد له, فلا يسعه التخلف لما فيه من شق العصا وتفريق الكلمة وقد صح تخلفه, فكان دليلًا على عدم اعتقاد ذلك وإلا لزم أن يكون تخلف عن الحق مع تمكنه منه ومنصبه أجل من ذلك ومرتبته في الدين أعظم ومنهاجه فيه أقوم, ولا يقال: إن التخلف إنما يكون تخلفًا عن الحق إذا انعقدت الإمامة وهي إنما تنعقد بإجماع أهل الحل والعقد, ومن ذكر من المتخلفين عن البيعة من أجلة أهل الحل والعقد؛ لأنا نقول: جمهور أهل الحل والعقد بايعوا أبا بكر وإذا اجتمع الجمهور على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 من تكاملت آلته واجتمعت خصال الأهلية فيه ولم يكن مفضولًا وكان على رأي انعقدت الولاية ولزم الباقين المتابعة على المبايعة, إذا كانوا معترفين بأهليته لها, وإلا جعل ذلك طريقًا إلى عدم انعقاد كل بيعة وتطرق الخلل وانتشار المفاسد فلا يقوم للدين نظام أبدًا. وفي فتح هذا الباب من اعتراض الأهوية والأغراض ما لا خفاء به. ولما بطل المعنيان تعين الأول وهو رؤيته أحقيته وأن المفضول لا تنعقد ولايته دفعًا لذلك المحذور, ولا يلزم من تخلفه في تلك المدة على الإنكار التقرير على الباطل؛ لأنا نقول: إن رؤيته الأحقية كانت أول وهلة وغاب عنه إذ ذاك ما كان يعلمه من حق أبي بكر وفيه من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما اجتمع الجم الغفير على ولاية أبي بكر اتهم نظره في حق نفسه ولم ير المبادرة إلى إظهاره, ولا المطالبة لمقتضاه حتى يبذل جهده في السير والنظر وإمحاص الفكر بأن ذلك من الوقائع العظيمة في الدين وفيه تفريق كلمة من اجتمع من المسلمين, فلم يقنع فيه بمبادئ النظر خشية استمالة الهوى الحيلي وحب الرياسة الطبيعي ولا رأى الموافقة لما ارتسم في ذهنه من رؤية أحقيته فيما تستحق به الإمامة, وتعين وجوب القيام بالأمر عليه لكونه أحق, وكان ذلك في مبادئ النظر قبل الإمعان فيه فتخلف عن الأمرين سالكًا في ذلك سبيل الورع والاحتياط فيهما عنده باذلًا جهده في الاجتهاد والنظر تلك المدة, فكان في تخلفه فيها مجتهدًا ذا أجر فلما تبين له أحقية أبي بكر وأفضليته بتذكر مقتضيات الأفضلية ولتقديمه نقلا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما ذكرناه عنه في فضليهما ونتيجة نظر قويم واجتهاد من حبر عليم, ووافى ذلك وفاة فاطمة أرسل إلى أبي بكر أن ائتنا, واعتذر إليه بأنه كان يرى أحقيته وسياق هذا اللفظ يشعر بأن تلك الرؤية قد زالت ولم يكن ذكره للقرابة إقامة للحجة على أبي بكر فإنه معتذر ولا تليق المحاجة بالمعتذر, وإنما كان إظهارًا لمستند تخلفه وتبيانًا لمعتمد تمسكه لكيلا يظن به أن تخلفه لهوى متبع بغير هدى من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 الله لا عن اجتهاد ونظر, وإن لم يكن صحيحًا إذ المجتهد معذور ولو أخطأ ولذلك كان له أجر, والله أعلم. وهذا التأويل مما يجب اعتقاده, ويتعين المصير إليه لأنه -رضي الله عنه- إما أن يعتقد صحة خلافة أبي بكر مع أحقيته, فيكون تخلفه عن البيعة ومفارقة الجماعة ونزع ربقة الطاعة عدولًا عن الحق, وماذا بعد الحق إلا الضلال وهو مبرأ عن ذلك ومنزه عنه -رضي الله عنه- أو لا يعتقد صحتها فيكون قد أقر على الباطل؛ لأنه -رضي الله عنه- أقر الطير على وكناتها ولم يظهر منه نكير على فعلهم لا بقول ولا بفعل مع قوة إيمانه وشدة بأسه وكثرة ناصره, وكفى بفاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والعباس عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبني هاشم بأجمعهم ظهيرًا ونصيرًا, مع ما أسس له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من القواعد في العقائد, وأن موالاته مع موالاته ومحبته مع محبته والدعاء لمن والاه وعلى من عاداه, ومع ذلك كله لم يظهر عنه ما يقتضيه حال مثله من إنكار الباطل بحسب طاقته, فلو كان باطلًا للزم تقريره الباطل واللازم باطل إجماعًا فالملزوم كذلك, والقول بأن سكوته كان تقية كما يزعم الروافض باطل عريق في البطلان؛ فإن مقتضى ذلك ضعف إما في الدين أو في الحال, والأول باطل إجماعًا والثاني أيضًا باطل لما قررناه آنفًا. ويتأيد ذلك بما تضمنه حديث الحسن البصري عنه المتضمن نفي العهد إليه بالخلافة, وتقدم في الذكر الأول من هذا الفصل وفيه: لو كان عندي عهد من النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك ما تركت أخا بني تيم بن مرة وعمر بن الخطاب يقومان على منبره ولقاتلتهما بيدي, ولو لم أجد إلا بردتي هذه ... الحديث, وهذا أدل دليل على أنه لم يسكت تقية إذ لو علم بطلان ذلك وأنه المستحق لها دونه, لتعين عليه القيام وكان كالعهد إليه وقد أخبر -رضي الله عنه- أنه لو تعين عليه بالعهد إليه لقاتل. فكذلك إذا تعين عليه بغير العهد إلحاقًا به, والجامع اشتراكهما في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 التعين عليه, ولقد أحسن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب حيث قال لبعض الرافضة: لو كان الأمر كما تقولون: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- اختار عليا لهذا الأمر والقيام على الناس بعده, فإن عليا أعظم الناس خطية وجرمًا إذا ترك أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقوم به, ويعذر إلى الناس. فقال له الرافضي: ألم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم: "من كنت مولاه فعلي مولاه"؟ فقال: أما والله لو يعني بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأمر والسلطان لأفصح به كما أفصح بالصلاة والزكاة والحج والصيام وقال: أيها الناس إنه الولي بعدي, فاسمعوا له وأطيعوا. خرجه ابن السمان في الموافقة. فإن قيل: قوله فاستبددتم به علينا, يشعر بأن المراد بالحق المشاورة والمراجعة والاشتراك في الرأي, وأنه إنما نقم انفرادهم دونهم, وأنهم لو أشركوه معهم في الرأي لتابعهم عليه, هذا هو المتبادر إلى الفهم عند سماع هذا السياق وما ذكرتموه فيه صرف للفظ عن ظاهره, ولا يبقى لذكر الاستبداد معنى قلنا: هذا الصرف واجب متعين؛ لأنا لو حملنا الحق على الاشتراك في الرأي للزم في حقه ما ذكرناه من المحذور؛ لأنه إما أن يعتقد صحة الخلافة مع عدم مشاورته فيلزم التخلف عن الحق, وإما أن لا يعتقد ذلك فيلزم التقرير على الباطل على ما تقدم تقريره, ثم إن نفس المتخلف عن البيعة بعد إجماع الجم الغفير لا يجوز إلا لمقتضى, وما ذاك إلا رؤية أحقية غيره عند من لا يرى صحتها للمفضول, أو أن المتولي لم يستكمل شروط الإمامة وكلاهما باطلان. أما الأول فلما تقدم, وأما الثاني فلأن المبطل إما فوات شرط إجماعًا وهو منتف هنا إجماعًا, وإما وجود الأفضل على رأي وهو المطلوب وقد تكلمنا عليه, وليس لقائل أن يقول: إن سكوت علي لا يعد به مخالفًا, إذ لم يشق عصا فيعد بذلك ممن أجمع. ويصح حمل الحق على المشاورة, ويستأنس بما صرح به موسى بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 عقبة عن علي أنه إنما نقم عليهم أمر المشورة كما تقدم في آخر بيعة العامة؛ لأن عليا -رضي الله عنه- من كبار أهل الحل والعقد ومثله لا يقنع منه بالسكوت, والظاهر من حاله أن يخلفه ابتداء إنما كان لما ذكرناه, وأما كونه نقم عدم مشاورته نفي من هنا شيء, وأما لفظ الاستبداد فيستعمل في العرف على ما يصح فيه الاشتراك فيتجه فيه ما تقدم ذكره من الاعتراض, وعلى ما لا يصح فيه فيكون بمعنى غلب وحاز الشيء قهرًا عن الغير, والناقم عليه ذلك ناقم أصل الحيازة لتعذر الاشتراك. وقد دللنا على تعين إرادة الإمامة بالأمر وهي مما لا يقبل الاشتراك فيكون الذي نقم عليهم أصل الحيازة فيكون المراد بالحق حقا في الخلافة على ما قررناه. فإن قيل: لم لا يجوز أن يراد بالأمر الميراث والحق حق الإرث ويكون تقدير الكلام: كنا نظن أن لنا مما خلفه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حقا وأنك منعتنا إياه, وأصررت على المنع فلم تصح لذلك خلافتك؛ فلذلك تخلفنا عن البيعة. ويدل على ذلك جواب أبي بكر بنفي الميراث وحب صلتهم وإلا لما صلح جوابًا, فوجب المصير إلى هذا المعنى صونًا لكلام هذا الفصيح عن الزلل, وهو من أفصح العرب وأعرفهم بما يقول, ومن سئل عن شيء فأجاب عن غيره لم يعد كلامه منتظمًا إلا أن يكون بينهما ارتباط كما إذا قيل: كيف أصبح حال زيد؟ فقال: أصبح حال عمرو جميلًا وحال عمرو إنما يتحمل حال زيد فقد يسوغ ذلك, أما إذا لم يكن كما في هذه الصورة فلا, قلنا: صورة الحال وسياق المقال يشهدان بخلافه وينبوان عنه, فإن اعتذاره إنما كان من تخلفه عن البيعة فقال: لم يمنعنا أن نبايعك يا أبا بكر إنكار لفضيلتك ولا نفاسة لخير ساقه الله إليك, ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر الحديث, ولم يجر في حديثه ذكر الميراث, والمتبادر إلى الفهم عند سماع هذا اللفظ ليس إلا الخلافة, وجواب أبي بكر محمول على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 تقديم كلام آخر تركه الراوي, ويكون علي لما فرغ من قوله: كنا نظن أن لنا في هذا الأمر حقا تعرض لذكر الميراث ثم اعتذر عن المبايعة فأغنى أبا بكر عن الجواب؛ لأن قوله: كنا نرى يقتضي أن تكون تلك الرؤية سابقة ثم انقطعت وإن روايته الآن غير تلك, هذا هو المفهوم من سياق لفظه, فما عسى أن يقول له أبو بكر وقد دل كلامه على تغير نظره والإجابة إلى مبايعته ورؤية الحق في ذلك, فاستغنى أبو بكر عن الجواب في فصل البيعة وعدل إلى جواب فصل الميراث, أو يقول: لم يجر للميراث في هذا المجلس ذكر, إلا أنه قد كان ذكر قبل ذلك على ما دل عليه أحاديث كثيرة, أن فاطمة جاءت تطلب ميراثها فلما كان هذا المجلس المعقود لإزالة صورة الوحشة الظاهرة والدخول فيما دخل فيه الجماعة واعتذر علي بما اعتذر به, وقبل أبو بكر عذره ثم أنشأ ذكر الميراث معتذرًا عما توهم فيه أولًا نافيًا له حالفًا على الإنصاف بخلافه محتجًّا على قضية الميراث بالحديث المذكور وقصد بذلك إزالة بقايا وحشة إن كانت حتى لا يبقى لها أثر أصلًا, على أنا نقول: على أي معنى حمل الحديث عليه, فحاصله يرجع إلى أن عليا رجع عما كان عليه, وأنه كان يظن أن له حقا إما في الخلافة, وإما بمعنى مطلق الحق أو بمعنى الأحقية, وإما في الميراث, وإما في المشاورة, ترتب على عدم اتصاله به تخلفه عن البيعة, ثم بان له خلاف ذلك وأنه جاء معتذرًا مراجعًا للحق داخلًا فيما دخل فيه الجماعة على ما قررناه, وذلك كله يفسد المطلوب وإنما طال البحث في تمهيد ما هو الأولى به واللائق بمنصبه. وحمل الحديث على وجه لا يتطرق معه خلل في حقه ولا في حقهم والحمد لله أن وفق لذلك, وأن لم يشقنا بالخوض فيهم بما نستوجب به مقته والوحشة من أحد منهم, وأن أسعدنا بمحبتهم والذب عنهم, ونسأله تمام هذه النعمة بالحشر معهم والكون في زمرتهم فقد قال نبينا -صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب" آمين آمين. فإن قيل: لأي معنى أرسل علي إلى أبي بكر: أن ائتنا وهلا سعى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 إليه وقد اتضح له الحق؟ قلنا: لم يكن إرساله إليه ترفعًا ولا تعاظمًا, لا والله ولا يحل اعتقاد ذلك, وكيف يعتقد ذلك وهو يريد مبايعته والانقياد له, وإنما كان ذلك لمعنى اقتضاه الحال وهو طلب اختلائه به خشية أن يقع عتاب على الصورة الظاهرة بين العامة, فربما وقع اعتراض من محق أو تعرض من ذي غرض فيكثر اللغط وترتفع الأصوات فلا يتوفر على إبداء العذر, ولذلك قال: ائتنا وحدك؛ دفعًا للتشاجر المتوقع بحسب الإمكان وكان على ثقة من الخلوة في بيته دون مكان آخر, فلذلك أرسل إليه ليأتيه فيه, ثم اعتذر إليه بما اعتذر, من اعتقد خلاف ذلك فقد حاد عن الحق وجنح إلى الباطل بل اقتحمه. فإن قيل: الحديث الأول من هذا الذكر يدل على أن التخلف كان بسبب الألية1 على أنه لا يرتدي رداء إلا إلى الصلاة حتى يجمع القرآن, وظاهر تضاد ما تضمنه هذا الحديث من أن التخلف كان لما رآه من أن له حقا فكيف يجمع بينهما؟ أم كيف يكون الحلف عذرًا في التخلف عن الواجب المتعين والحنث لأجله واجب كنظيره من الحلف على الصلاة الواجبة؟ قلنا: هذا الحديث متفق على صحته فلا يعارضه الحديث الأول, وإن صح الجميع فالجمع ممكن بأن يكون سبب امتناعه وتخلفه أولًا عن البيعة ما ذكرناه, ثم خطر له جمع القرآن وهو في مهلة النظر المتقدم ذكره, فآلى تلك الألية ثم أرسل إليه أبو بكر ثم لقيه عمر أو يكون الرسول عمر ووافاه ذلك ظهور أحقية أبي بكر عنده فأرسل إليه معتذرًا في التخلف بتلك الألية مسلمًا منقادًا طائعًا يدل عليه اعتذاره ونفيه كراهية إمامته, واقتضاء نظره إذ ذاك أن هذا القدر كافٍ في الطواعية والانقياد والدخول فيما دخل فيه الجماعة, فلم ير الحنث مع السعة خشية أن ينفك عزمه   1 الحلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وينقسم نظره عند ملابسته الناس ومخالطتهم، فأقام إظهار عذره مقام حضوره لأنه رأى اليمين عذرًا ولا أنه بقي على ما كان عليه من رؤية أحقيته، ثم لما تفرغ باله وانحل عقد يمينه وأمن ما يحذره من فوات ما تصدى له أرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ليجمع بين الانقياد حالا ومقالا، ولينفي الظن الناشئ عن الصورة الظاهرة، ويقطع مقال أهل الأهوية وإلا فقد كان الأول عنده كافيًا، فلما جاءه أبو بكر أبدى له العذر في امتناعه أول وهلة لأنه لم يتقدم منه اعتذار عنه، وسكت عن العذر في استصحابه ذلك؛ لأنه كان قد اعتذر عنه بالألية فما احتاج إلى إعادته، وكان عذره عن الأول ما تقدم تقريره في منطوق بقوله: كنا نرى لنا حقا. ومفهوم معناه: ثم اتضح لنا أحقيتك دوننا, وزال ما كان من تلك الرؤية, وإذا تقرر هذا فنقول: إذا دار الأمر بين أن تكون الرؤية الأولى دامت إلى حين الإرسال أو انقطعت، وكان العذر في التخلف ما تقدم في الحديث المتقدم كان حمله على الثاني أولى؛ جمعًا بين الحديثين بحسب الإمكان، ومتى أمكن الجمع كان أولى من إسقاط أحدهما. ذكر بيعة الزبير: عن أبي سعيد الخدري قال: قال أبو بكر لعلي بن أبي طالب: قد علمت أني كنت في هذا الأمر قبلك قال: صدقت يا خليفة رسول الله فمد يده فبايعه, فلما جاء الزبير قال: أما علمت أني كنت في هذا الأمر قبلك؟ قال: فمد يده فبايعه, خرجه في فضائله وقال: حديث حسن. ذكر استقالة أبي بكر من البيعة: عن زيد بن أسلم قال: دخل عمر على أبي بكر وهو آخذ بطرف لسانه وهو يقول: إن هذا أوردني الموارد ثم قال: يا عمر, لا حاجة لي في إمارتكم قال عمر: والله لا نقيلك ولا نستقيلك, خرجه حمزة بن الحارث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وعن أبي الجحاف قال: قام أبو بكر بعدما بويع له وبايع له علي وأصحابه, فأقام ثلاثًا يقول: يا أيها الناس قد أقلتكم بيعتكم, هل من كاره؟ قال: فيقوم علي في أوائل الناس يقول: لا والله لا نقيلك ولا نستقيلك, قدمك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمن ذا الذي يؤخرك؟! خرجه ابن السمان في الموافقة. وعنه قال: احتجب أبو بكر عن الناس ثلاثًا يشرف عليهم كل يوم يقول: قد أقلتكم بيعتي فبايعوا من شئتم قال: فيقوم علي بن أبي طالب فيقول: لا والله لا نقيلك ولا نستقيلك, قدمك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمن ذا الذي يؤخرك, خرجه الحافظ السلفي في المشيخة البغدادية وابن السمان في الموافقة وأبو الجحاف هذا هو داود بن عوف البرجمي التميمي مولاهم, كوفي ثقة, روى عن غير واحد من التابعين وهو حديث مرسل من الطريقين. وعن جعفر عن أبيه قال: لما استخلف أبو بكر خير الناس سبعة أيام, فلما كان يوم السابع أتاه علي بن أبي طالب فقال: لا نقيلك ولا نستقيلك, ولولا أنا رأيناك أهلًا ما بايعناك, خرجه ابن السمان في الموافقة. وعن سويد بن غفلة قال: لما بايع الناس أبا بكر قام خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس أذكر بالله أيما رجل ندم على بيعتي لما قام على رجليه قال: فقام إليه علي بن أبي طالب ومعه سيفه فدنا علي منه حتى وضع رجلًا على عتبة المنبر والأخرى على الحصا وقال: والله لا نقيلك ولا نستقيلك, قدمك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمن ذا يؤخرك؟ خرجه في فضائله وقال: هو أسند حديث روي في هذا المعنى وسويد بن غفلة أدرك الجاهلية, وأسلم في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم. وعن الحسن قال: لما بويع أبو بكر قام دون مقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا أيها الناس إني شيخ كبير, فاستعملوا عليكم من هو أقوى مني على هذا الأمر وأضبط له, فضحكوا وقالوا: لا نفعل, أنت صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المواطن وأحق بهذا الأمر, فقال: أما إذا أبيتم فأحسنوا طاعتي ومؤازرتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 واعلموا إنما أنا بشر ومعي شيطان يعتريني, فإذا رأيتموني غضبت فقوموا عني لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم, واتبعوني ما استقمت, فإن زغت فقوموني. خرجه حمزة بن الحارث وابن السمان في الموافقة. وعنه قال: خطب أبو بكر على منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخنقته العبرة, فحمد الله وأثنى عليه فقال: يا أيها الناس إني ما جعلت لهذا المكان أن أكون خيركم قال الحسن: وهو والله خيرهم غير مدافع, ولكن المسلم يهضم نفسه أبدًا, ولوددت أني كفاني هذا الأمر بعضكم قال الحسن: وهو والله صادق وإن أخذتموني بما كان الله -عز وجل- يقوم به لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي فما ذاك عندي, ما أنا إلا كأحدكم, فإن رأيتموني استقمت فاتبعوني, وإذا أنا زغت فقوموني. خرجه أبو القاسم بن بشران. وفي رواية: إنما أنا بشر ولست بخير من واحد منكم فراعوني, فإن رأيتموني استقمت, ثم ذكر ما بعده. خرجهما في فضائله. ذكر ما يدل على أنه كان كارهًا للولاية, وإنما تحملها رعاية لمصلحة المسلمين: عن رافع الطائي قال: صحبت أبا بكر في غزاة قلت: يا أبا بكر أوصني ولا تطول علي, فانثنى فقال: يرحمك الله يرحمك الله, بارك الله عليك بارك الله عليك, أقم الصلاة المكتوبة لوقتها, وأدر زكاة مالك طيبة بها نفسك, وصم رمضان وحج البيت, ولا تكونن أميرًا قال: قلت له: إنه ليخيل إلي أن أمراءكم اليوم خياركم فقال: إن هذه الإمارة اليوم يسيرة, وقد أوشكت أن تفشو وتكثر حتى ينالها من ليس لها بأهل, وإنه من يك أميرًا فإنه من أطول الناس حسابًا وأغلظهم عذابًا, ومن لا يكن أميرًا فإنه من أيسر الناس حسابًا وأهونهم عذابًا؛ لأن الأمراء أقرب من ظلم المؤمنين ومن يظلم المؤمنين فإنه يخفر الله, هم جيران الله وهم عواذ الله, والله إن أحدكم لتصاب شاة جاره أو بعير جاره فيبيت وارم العضل فيقول: شاة جاري وبعير جاري فإن الله أحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 أن يغضب لجيرانه وسألته بعد ذلك لما ولي: عم قبل من بيعتهم؟ وقال وهو يحدثه عما تكلمت به الأنصار وما كلمهم به وما كلم عمر بن الخطاب الأنصار, وما ذكرهم به من إمامته إياهم بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرضه: فبايعوني لذلك وقبلنا منهم, وتخوفنا أن تكون فتنة تكون بعدها ردة. أخرجه أبو ذر الهروي في مستدركه على الصحيح, وعن الحسن أن أبا بكر خطب فقال: أما بعد, فإني وليت هذا الأمر وأنا كاره له, والله لوددت أن بعضكم كفانيه, خرجه في فضائله. ذكر خطبة أبي بكر لما ولي الخلافة: عن عروة عن أبيه قال: خطب أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد, فإني وليت أمركم ولست بخيركم, ولكنه نزل القرآن وسن النبي -صلى الله عليه وسلم- السنة وعلّمنا فعلمنا, واعلموا أيها الناس أن أكيس الكيس التقا أو قال: الهدى وأعجز العجز الفجور, وإن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه وإن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق, أيها الناس إنما أنا متبع ولست بمبتدع, فإن أنا أحسنت قولي فأعينوني وإن أنا زغت فقوموني, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم, خرجه في فضائله. وعن قيس بن أبي حازم قال: إني جالس عند أبي بكر خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بشهر فذكر قصته, فنودي في الناس: إن الصلاة جامعة -وهي أول صلاة في المسلمين نودي بها: إن الصلاة جامعة- فاجتمع الناس فصعد المنبر شيئًا صنع له كان يخطب عليه, فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس لوددت أن هذا الأمر كفانيه غيري, ولئن أخذتموني بسنة نبيكم لا أطيقها1 إن كان لمعصومًا من الشيطان, وإن كان لينزل عليه الوحي من السماء. خرجه أحمد وخرج معناه حمزة بن الحارث, وقد تقدم في ذكر الاستقالة.   1 نعم, حقا فرق بين من يسير في الأمر والوحي يؤيده، وبين من يسير فيه باجتهاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 ذكر ما فرض له من بيت المال: عن حميد بن هلال قال: لما ولي أبو بكر قال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم: افرضوا لخليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يغنيه قالوا: نعم برداه إذا أخلقهما وضعهما وأخذ مثلهما, وظهره1 إذا سافر, ونفقته على أهله كما كان ينفق قبل أن يستخلف, خرجه في الصفوة. وعن إبراهيم بن محمد بن معبد بن عباس قال: كان رزق أبي بكر الصديق حين استخلف خمسين ومائتي دينار في السنة, وشاة في كل يوم يؤخذ منه بطنها ورأسها وأكارعها, فلم يكن يكفيه ذلك ولا عياله قالوا: وقد كان ألقى ماله في مال الله حين استخلف, قال: فخرج إلى البقيع فتصافق قال: فجاء عمر فإذا هو بنسوة جلوس فقال: ما شأنكن؟ قلن: نريد أمير المؤمنين وقال بعضهن: نريد خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقضي بيننا, فانطلق يطلبه فوجده في السوق قال: فأخذ بيده فقال: تعال ههنا فقال: لا حاجة لي في إمارتكم, رزقتموني مالا يكفيني ولا عيالي قال: فإنا نزيدك قال أبو بكر: ثلاثمائة دينار والشاة كلها قال: أما هذا فلا, فجاء علي وهما على حالهما تلك, فلما سمع ما سأله قال: أكملها له قال: ترى ذلك؟ قال: نعم قال: فقد فعلنا فقال أبو بكر: أنتما رجلان من المهاجرين لا أدري أيرضى بها بقية المهاجرين أم لا؟ فانطلق أبو بكر فصعد المنبر واجتمع إليه الناس فقال: أيها الناس, إن رزقي كان خمسين ومائتي دينار وشاة يؤخذ مني بطنها ورأسها وأكارعها, وإن عمر وعليا كملا لي ثلاثمائة دينار والشاة أفرضيتم؟ فقال المهاجرون: اللهم نعم قد رضينا فقال أعرابي من جانب المسجد: لا والله ما رضينا فأين حق أهل البادية؟ فقال أبو بكر: إذا رضي المهاجرون شيئًا فإنما أنتم تبع. خرجه أبو حذيفة إسحاق بن بشر في فتوح الشام وقد سبق طرف من ذلك في ذكر تواضعه في فصل فضائله, وذكر ابن النجار في كتاب أخبار المدينة أنهم   1 المطية يركبها في السفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 فرضوا له في كل سنة ستة آلاف درهم. وقد جاء عن عائشة قالت: لما استخلف أبو بكر قال: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي, وشغلت بأمر المسلمين فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال, ويحترف للمسلمين فيه. خرجه البخاري وظاهره يدل على أنه كان يتجر في ماله عوضًا عما يأكل, إلا أنه لا يلائم قوله: وشغلت بأمر المسلمين سواء كان بماله أو بمالهم ولا يقال: إنه من أمر المسلمين فيدخل تحت عموم الشغل بأمر المسلمين, فإن الشغل الذي أقيم له غيره هذا وأهم منه, ولعله والله أعلم يريد بالاحتراف الاشتغال بحفظه وتأدية الحقوق فيه ومنه, وتحصيله من وجوهه, فأطلق عليه احترافًا توسعًا وإن كان المتعارف في الاحتراف غير هذا. ذكر ما روي من قول أبيه أبي قحافة عند بلوغه خبر ولايته: عن سعيد بن المسيب قال: لما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ارتجت مكة فسمع بذلك أبو قحافة فقال: ما هذا؟ قالوا: قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: أمر جلل من ولي بعده؟ قالوا: ابنك قال: فهل رضي بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة؟ قالوا: نعم قال: لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع الله, خرجه أبو عمر. "شرح" ارتجت: اضطربت, والجلل: الأمر العظيم, قال الشاعر: قومي همو قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي فلئن عفوه لأعفون جللًا ... ولئن سطوت لأوهنن عظمي والجلل أيضًا: الهين الحقير وهو من الأضداد, هكذا ذكره الجوهري قال: والجلال -بالضم: العظيم لا غير, والجلالة: الناقة العظيمة وقال الخليل: يقال: أمر جلل بالضم للعظيم, وبفتحها للحقير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 الفصل الرابع عشر: في ذكر وفاته وما يتعلق بها ... الفصل الرابع عشر: في ذكر وفاته -رضي الله عنه- وما يتعلق بها قال أهل السير: توفي أبو بكر -رضي الله عنه- ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء لثمانٍ بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة, ذكره في الصفوة. وقال ابن إسحاق: توفي يوم الجمعة لتسع بقين من الشهر المذكور, ذكره أبو عمر, والأول أصح لما روت عائشة قالت: لما نقل أبو بكر قال: أي يوم هذا؟ قلنا: يوم الاثنين قال: فأي يوم قبض فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: يوم الاثنين قال: فإني أرجو فيما بيني وبين الليل قالت: وكان عليه ثوب فيه ردغ من مشق فقال: إذا أنا مت فاغسلوا لي ثوبي هذا, وضموا إليه ثوبين جديدين, وكفنوني في ثلاثة أثواب فقلنا: أفلا نجعلها جدادًا كلها؟ قال: نعم, إنما هو للمهلة قال: فمات ليلة الثلاثاء. خرجه البخاري وأحمد. وفي رواية: أنها قالت قال أبي: في كم كفنتم رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: في ثلاثة أثواب سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة, فنظر إلى ثوب كان تحته يمرض فيه, وفيه ردغ من زعفران أو مشق فقال: اغسلوا هذا ثم زيدوا عليه ثوبين, ثم ذكرت باقي الحديث. وفي رواية: في كم كفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: في ثلاثة أثواب قال: فكفنوني في ثلاثة أثواب, ثوبي هذا مع ثوبين آخرين, ثم ذكرت باقي الحديث, وقالت فيه: إنه قال: الحي أولى بالجديد وإنما هو للمهلة. وعن القاسم بن محمد قال: كفن أبو بكر في ريطة بيضاء وريطة ممصرة, خرجه ابن الضحاك. "شرح" الردغ: اللطخ, والمشق -بكسر الميم: المغرة, والمهلة: الصديد والقيح, وهكذا جاء في هذه الرواية المهلة, ورأيتها مضبوطة في بعض نسخ الهروي بالضم وقال: وبعضهم بكسرها ولم يذكر الجوهري هذه اللفظة. وحكى بعض المؤلفين فيها الفتح قال: وبعضهم يكسرها. وقد جاء في بعض الطرق: وإنما هو للمهل وهو بالضم لا غير, والمراد به هنا الصديد والقيح وهو اسم مشترك يطلق أيضا على النحاس المذاب ودردي الزيت, قاله الجوهري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 ولما مات رضي الله عنه غسلته أسماء بنت عميس زوجته بوصية منه, وصب عليها الماء ابنه عبد الرحمن. ولما كفن حمل على السرير الذي كان ينام عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو سرير عائشة, من خشبتي صاج منسوج بالليف, وبيع في ميراث عائشة فاشتراه رجل من موالي معاوية بأربعة آلاف درهم فجعله للناس. قال أبو محمد وهو بالمدينة: وصلى عليه عمر بن الخطاب في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تجاه المنبر وكبر أربعًا, وعن سعيد بن المسيب وقد سئل: أين صلي على أبي بكر؟ قال: بين القبر والمنبر, قيل: من صلى عليه؟ قال: عمر بن الخطاب قيل: كم كبر عليه؟ قال: أربعًا, ودفن إلى جنب قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وألصقوا لحده بلحده, ونزل في قبره عمر وعثمان وطلحة وعبد الرحمن بن أبي بكر ودفن ليلًا في بيت عائشة مع النبي -صلى الله عليه وسلم. ذكره أبو عمر وصاحب الصفوة وابن النجار وغيرهم, وذكر ابن النجار أن آخر ما تكلم به أبو بكر: رب توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين. ذكر سبب موته: عن ابن عمر قال: كان سبب وفاة أبي بكر كمد ما زال يذبل حتى مات, ذكره في الصفوة والكمد: الحزن المكتوم, تقول منه: كمد يكمد فهو كمد وكميد, وعن الزبير بن بكار أنه كان به طرف من السل, ذكره أبو عمر, ويشبه أن يكون ذبول الكمد ظن سلا أو تعلق به السل منه. وعن عائشة قالت: كان أول مرضه أن اغتسل في يوم بارد فحم خمسة عشر يومًا لا يخرج إلى الصلاة, وكان يأمر عمر بن الخطاب يصلي بالناس, فدخل الناس عليه يعودونه وهو يثقل كل يوم يقول: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} 1 خرجه الفضائلي وصاحب الفضائل   1 سورة ق الآية: 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وصاحب الدرة الثمينة في أخبار المدينة, وعن ابن شهاب قال: كان أبو بكر والحارث بن كلدة يأكلان حريرة أهديت لأبي بكر فقال الحارث لأبي بكر: ارفع يدك يا خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن فيها لسم سنة وأنا وأنت نموت في يوم واحد, فرفع يده فلم يزالا عليلين حتى ماتا في يوم واحد عند انقضاء السنة, خرجه في الصفوة والفضائل, وخرج صاحب الدرة الثمينة في أخبار المدينة وزاد: فمرض خمسة عشر يومًا فقال: قد رآني قالوا: فما قال لك؟ قال: إني أفعل ما أشاء, وقيل: إن اليهود سمت له في إرزة. ذكر تركه التطبب تسليمًا لأمر الله تعالى: عن أبي السفر قال: مرض أبو بكر فعاده الناس فقالوا: ألا ندعو لك طبيبًا ينظر إليك؟ قال: قد نظر إلي, قالوا: وما قال لك؟ قال: إني فعال لما أريد, خرجه الواقدي وأبو عمر وصاحب الصفوة والرازي. ذكر عهده إلى عمر, ووصيته له: عن عبد الرحمن بن عبد الله بن ساباط قال: لما حضرت أبا بكر الوفاة, دعا عمر فقال: اتق الله يا عمر, واعلم أن لله عملًا بالنهار لا يقبله بالليل وعملًا بالليل لا يقبله بالنهار, وأنه لا يقبل نافلة حتى تؤدى فريضة, وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في دار الدنيا وثقله عليهم وحق لميزان لا يكون فيه إلا الحق أن يكون ثقيلًا, وإنما خفت موازين من خفت موازينه باتباعهم الباطل وحق لميزان لا يكون فيه إلا الباطل أن يكون خفيفًا. وإن الله ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئاتهم, فإذا ذكرتهم قلت: إني لأخاف أن لا ألحق بهم, وإن الله ذكر أهل النار وذكرهم بأسوأ أعمالهم ورد عليهم أحسنها, فإذا ذكرتهم قلت: إني لأرجو أن لا أكون مع هؤلاء ليكون العبد راغبًا راهبًا, لا يتمنى على الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 ولا يقنط من رحمته, فإن أنت حفظت وصيتي فلا يك غائب أحب إليك من الموت ولست تعجزه. خرجه في الصفوة والفضائل وخرجه الرازي عن ابن أبي نجيح, وزاد: وإن لم تحفظ وصيتي فلا يك غائب أبغض إليك من الموت وقال بعد قوله أن يكون خفيفًا: وإنما جعلت آية الرجاء مع آية الشدة لكي يكون المؤمن راغبًا راهبًا, وإذا ذكرت أهل الجنة قلت: لست منهم وإذا ذكرت أهل النار قلت: لست منهم, وذلك أن الله -عز وجل- ذكر أهل الجنة وذكرهم بأحسن أعمالهم, وذكر أهل النار وذكرهم بأسوأ أعمالهم, وقد كانت لهؤلاء سيئات ولكن الله تجاوز عنها وقد كانت لهؤلاء حسنات ولكن الله -عز وجل- أحبطها. وعن محمد بن سعد بإسناده أن جماعة من الصحابة دخلوا على أبي بكر لما عزم على استخلاف عمر فقال له قائلون منهم: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا, وقد ترى غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني, أبالله تخوفونني خاب من تزود من أمركم بظلم, أقول: اللهم إني استخلفت عليهم خير أهلك, أبلغ عني ما قلت لك من وراءك, ثم اضطجع وجاء عثمان بن عفان وقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر في آخر عهده بالدنيا خارجًا منها وعند أول عهده بالآخرة داخلًا فيها, حيث يؤمن الكافر ويوقن الفاجر ويصدق الكاذب: إني استخلفت بعدي عمر بن الخطاب, فاسمعوا وأطيعوا فإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم إلا خيرًا, فإن عدل فذاك الظن به وعلمي فيه, وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب والخير أردت, ولا علم لي بالغيب {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وعن عائشة قالت: دخل ناس على أبي بكر فقالوا: تولي علينا عمر وأنت ذاهب إلى ربك, فماذا تقول له؟ قال: أجلسوني أجلسوني أقول: وليت عليهم خيرهم, خرجه أبو معاوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 ذكر وصيته من يغسله؟ وأين يدفن؟ وبأن يسرع في دفنه: عن ابن أبي مليكة أن أبا بكر أوصى أن تغسله أسماء بنت عميس فغسلته, خرجه أبو عمر وصاحب الصفوة, وخرجه في الفضائل وزاد: وهي صائمة, ولا تصح هذه الزيادة على المشهور؛ لأن الصوم إنما يكون نهارًا والأصح أنه مات ليلًا ودفن ليلًا, وإن كان قد قيل: إنه مات نهارًا ودفن في آخر نهاره, لكن الأول أشهر. وعن عائشة أن أبا بكر لما حضرته الوفاة قال: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم الاثنين قال: فإن مت من ليلتي فلا تنتظروا بي الغد؛ فإن أحب الأيام والليالي إلي أقربها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم. خرجه أحمد, وخرج في الصفوة: أنه أوصى أن يدفن إلى جانب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين القبر والمنبر. وعن أسماء بنت عميس قالت: إن أبا بكر عهد إلي: إن فلانًا منافق, فلا ينزل في قبري. خرجه ابن الضحاك. ذكر قدر سنه يوم مات رضي الله عنه: اختلف في ذلك, وأشهر الأقوال وأكثرها أنه توفي وهو ابن ثلاث وستين سنة, وأنه استوفى بمدة خلافته بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد تقدم في آخر ذكر هجرته ما يدل على خلاف ذلك وهذا أصح, وكان مولده بعد عام الفيل بسنتين وأربعة أشهر إلا أيامًا, ذكره الطائي في الأربعين, وكانت مدة خلافته من ذلك سنتين وثلاثة أشهر إلا خمس ليالٍ, وقيل: وثلاثة أشهر وسبع ليالٍ. وقال ابن إسحاق: توفي أبو بكر على رأس سنتين وثلاثة أشهر واثنتي عشرة ليلة من متوفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال غيره: وعشرة أيام وقيل: وعشرين يومًا, ذكره أبو عمر وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 ذكر قول أبيه أبي قحافة لما بلغه خبر وفاته: حكى ابن النجار في أخبار المدينة أن أبا قحافة حين توفي أبو بكر كان حيًّا بمكة, نعي إليه قال: رزء جليل, وعاش بعده ستة أشهر وأيامًا وتوفي في المحرم سنة أربع عشرة بمكة وهو بسبع وتسعين سنة. ذكر ثناء علي -رضي الله عنه- عليه عند وفاته: عن أسيد بن صفوان وكان قد أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لما قبض أبو بكر فسجي عليه وارتجت المدينة بالبكاء عليه كيوم قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاء علي مسترجعًا وهو يقول: اليوم انقطعت خلافة النبوة حتى وقف على باب البيت الذي فيه أبو بكر وهو مسجى فقال: يرحمك الله يا أبا بكر, كنت إلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنسه ومستراحه وثقته وموضع سره ومشاورته, كنت أول القوم إسلامًا وأخلصهم إيمانًا وأشدهم يقينًا, وأخوفهم لله وأعظمهم غناء1 في دين الله وأحوطهم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأحدبهم على الإسلام وأيمنهم على أصحابه وأحسنهم صحبة وأكثرهم مناقب وأفضلهم سوابق, وأرفعهم درجة وأقربهم وسيلة وأشبههم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- هديًا وسمتًا ورحمة وفضلًا, وأشرفهم منزلة وأكرمهم عليه وأوثقهم عنده, فجزاك الله عن الإسلام وعن رسوله خيرًا, كنت عنده بمنزلة السمع والبصر, صدقت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين كذبه الناس فسماك الله -عز وجل- في تنزيله صديقًا, فقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} الذي جاء بالصدق محمد -صلى الله عليه وسلم- وصدق به أبو بكر, واسيته حين بخلوا وقمت به عند المكاره حين عنه قعدوا, وصحبته في الشدة أكرم الصحبة {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} وصاحبه في الغار والمنزل عليه السكينة, ورفيقه في الهجرة, وخلفته في دين الله وأمته أحسن الخلافة حين ارتد الناس, وقمت بالأمر ما لم يقم به خليفة نبي, فنهضت حين وهن أصحابك وبرزت حين استكانوا وقويت حين ضعفوا, ولزمت منهاج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ هموا   1 نفعًا, كما سيأتي بيان ذلك للمؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 كنت خليفة حقا لم تنازع ولم تصدع برغم المنافقين وكبت الكافرين وكره الحاسدين وغيظ الباغين, وقمت بالأمر حين فشلوا وثبت حين تتعتعوا ومضيت بنور الله إذ وقفوا, فاتبعوك فهدوا, وكنت أخفضهم صوتًا وأعلاهم فوقًا وأمثلهم كلامًا وأصوبهم منطقًا وأطولهم صمتًا وأبلغهم قولًا وأشجعهم نفسًا وأعرفهم بالأمور وأشرفهم عملًا, كنت والله للدين يعسوبًا ولا حين نفر عنه الناس وآخرا حين أقبلوا, كنت للمؤمنين أبًا رحيمًا حين صاروا عليك عيالًا فحملت أثقال ما ضعفوا ورعيت ما أهملوا وحفظت ما أضاعوا, وعلمت ما جهلوا, شمرت إذ خفضوا وصبرت إذ جزعوا, فأدركت أوتار ما طلبوا وراجعوا رشدهم برأيك, فظفروا ونالوا بك ما لم يحتسبوا, كنت على الكافرين عذابا صبا ولهبا وللمؤمنين رحمة وإنسًا وحصنًا فطرت والله بغنائها وفزت بحبائها وذهبت بفضائلها وأدركت سوابقها, لم تفلل حجتك ولم تضعف بصيرتك ولم تجبن نفسك, ولم يرع قلبك ولم يخر, كنت كالجبل الذي لا تحركه القواصف ولا تزيله العواصف وكنت كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمنّ الناس علينا في صحبتك وذات يدك وكنت كما قال ضعيفًا في بدنك قويًّا في أمر الله, متواضعًا في نفسك عظيمًا عند الله, جليلًا في أعين الناس كبيرًا في أنفسهم, لم يكن لأحد فيك مغمز ولا لقائل فيك مهمز ولا لأحد فيك مطمع ولا لمخلوق عندك هوادة, الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ بحقه والقوي عندك ضعيف ذليل حتى تأخذ منه الحق, القريب والبعيد عندك في ذلك سواء, أقرب الناس إليك أطوعهم لله وأتقاهم له, شأنك الحق والصدق والرفق, قولك حكم وحتم وأمرك حلم وحزم, ورأيك علم وعزم, فأقلعت وقد نهج السبيل وسهل العسير وأطفأت النيران واعتدل بك الدين وقوي بك الإيمان, وثبت الإسلام والمسلمون, وظهر أمر الله ولو كره الكافرون, فسبقت والله سبقًا بعيدًا وأتعبت من بعدك إتعابًا شديدًا, وفزت بالخير فوزًا مبينًا, فجللت عن البكاء وعظمت رزيتك في السماء وهدت مصيبتك الأنام, فإنا لله وإنا إليه راجعون, رضينا عن الله قضاءه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 وسلمنا له أمره, فوالله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمثلك أبدًا, كنت للدين عزًّا وحرزًا وكهفًا وللمؤمنين فئة وحصنًا وغيثًا, وعلى المنافقين غلظة وغيظًا, فألحقك الله بنبيك -صلى الله عليه وسلم- ولا حرمنا أجرك ولا أضلنا بعدك, فإنا لله وإنا إليه راجعون قال: وسكت الناس حتى انقضى كلامه ثم بكوا حتى علت أصواتهم وقالوا: صدقت يا ختن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرجه ابن السمان في كتاب الموافقة, وخرج الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله الجوزقي من أوله إلى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} محمد -صلى الله عليه وسلم- {وَصَدَّقَ بِهِ} أبو بكر. "شرح" الغناء بالفتح والمد: النفع, وبالكسر والمد من السماع, وبالكسر مقصور اليسار, الهدي: السيرة تقول: هدي فلان أي: سار سيرته وما أحسن هديه وهديته أي: سيرته والجمع: هدي كتمرة وتمر والسمت: هيئة أهل الخير تقول: ما أحسن سمته أي: هديه, والسمت الطريق, وسمت يسمت بالضم أي: قصد. ووهن: ضعف, استكانوا: خضعوا, يصدع: يفل أمرك من الصدع الشق, برغم المنافقين أي: غضبهم وإهانتهم وأرغم الله أنفه أي: ألصقه بالرغام وهو التراب, وكبت الكافرين: إذلالهم, فشلوا: جبنوا, فوقًا قيد في بعض النسخ بضم الفاء وهو موضع الوتر من السهم وهو القرص الذي يكون في رأسه, هذا أصله ثم استعير هنا لعظم الشأن, وفي بعضها بالفتح وهو أقرب إلى معنى العلو؛ لأنه ضد التحت, ومنه قولهم: فلان يفوق قومه في الخير أي: يعلوهم, اليعسوب: ملكة النحل ومنه قيل للسيد: يعسوب قومه, وقوله للدين أي: لأهل الدين, خفضوا أي: وضعوا, أي: إنه شمر إذا وضع الناس, وفي بعض النسخ خنعوا أي: ضرعوا وذلوا, صبا مصدر: صب صبا وهذا وصف بالمصدر نحو: عدل ورضا. وقوله: فأدركت أوتار ما طلبوا. وقوله: ولم تحر أي: ترجع تقول: حار يحور حورًا أي: رجع, والهوادة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 المحاباة والرخصة. ومنه الحديث الآخر: "لا تأخذه في الله هوادة" أي: لا يسكن عند وجوب حد لله تعالى ولا يرخص فيه ولا يحابي, نهج السبيل هكذا قيد ثلاثيا على إسناد الفعل إلى السبيل, وقيده الجوهري رباعيا فقال: أنهج الطريق: إذا استبان وصار نهجًا واضحًا, ونهجت الطريق: بينته ونهجته أيضًا: سلكته, حكاه الجوهري الفئة: الطائفة فكأنه كالظهر للمسلمين. ذكر ثناء عائشة على أبيها, وقد مرت على قبره: عن القاسم بن محمد عن عائشة أنها مرت على قبر أبيها فقالت: نضَّر الله وجهك وشكر لك صالح أمرك, فلقد كنت للدنيا مذلا بإعراضك عنها وللآخرة معزا بإقبالك عليها, ولئن كان أجل بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رزؤك وأعظمها فقدك, إن كتاب الله ليعد بالعزاء عنك حسن العوض منك, فأنا أنتجز من الله موعده فيك بالصبر عليك وأستعيضه منك بالدعاء لك, فإنا لله وإنا إليه راجعون وعليك السلام ورحمة الله, توديع غير قالية لحياتك ولا زارية على القضاء فيك, خرجه ابن المثنى في معجمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 الفصل الخامس عشر: في ذكر ولده وهذا الذكر وإن كان ليس من لوازم ذكر المناقب إلا أنه مما يتشوف إليه عند ذكر النسب, وقد تقدم التنبيه عليه في الفصل الأول على أنه لا يخلو من إثبات الفضيلة, فإن شرف الأبناء منقبة للآباء كعكسه, ولم تزل العرب تتمدح بمفاخر آبائهم فلا يبعد في الأبناء مثله, والله أعلم. وكان له من الولد ستة, ثلاثة بنين وثلاث بنات, أما البنون فعبد الله وهو أكبر ولده الذكور أمه قتيلة, ويقال: قتلة دون تصغير, من بني عامر بن لؤي, شهد فتح مكة وحنينًا والطائف مع النبي -صلى الله عليه وسلم- مسلمًا, وخرج بالطائف وبقي إلى خلافة أبيه, ومات فيها فترك سبعة دنانير فاستكثرها أبو بكر ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 عقب له. وعبد الرحمن يكنى أبا عبد الله, أسلم في هدنة الحديبية وهاجر إلى المدينة, وكتب للنبي -صلى الله عليه وسلم- وكان من الشجعان, له مواقف في الجاهلية والإسلام مشهورة, وأبلى في فتوح الشام بلاء حسنًا, وقد كان ممن شهد بدرًا مع المشركين ثم من الله تعالى عليه بما من به على أمه أم رومان بنت الحارث, من بني فراس بن غنم بن كنانة أسلمت وهاجرت, مات فجأة سنة ثلاث وخمسين بجبل قرب مكة, فأدخلته أخته عائشة الحرم ودفنته وأعفت عنه, وكان شهد الجمل معها وله عقب. وقد تقدم في فصل الخصائص ما ثبت به لبيت أبي بكر من الشرف, برؤية ولد عبد الرحمن بن عتيق محمد بن عبد الرحمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه لم يوجد في بيت من بيوت أحد من الصحابة أربعة كلهم رأوا النبي -صلى الله عليه وسلم- بعضهم ولد بعض إلا في بيت أبي بكر, وكذلك ثبت هذا في ولد أسماء وزاد بالرواية وسيأتي بيانه والله أعلم. ومحمد بن أبي بكر ويكنى أبا القاسم, وكان من نساك قريش, أمه أسماء بنت عميس الخثعمية وكانت من المهاجرات الأول, وكانت تحت جعفر بن أبي طالب وهاجرت معه إلى الحبشة. ولما استشهد جعفر بمؤتة من أرض الشام, تزوجها بعده أبو بكر فولدت له محمدًا هذا بذي الحليفة لخمس ليال بقين من ذي القعدة, وهي شاخصة إلى الحج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- هي وأبو بكر فأمرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن تغتسل وترجل ثم تهل بالحج, وتصنع ما يصنع الحاج إلا أنها لا تطوف بالبيت, فكانت سببًا لحكم شرعي إلى قيام الساعة, وزكاها النبي -صلى الله عليه وسلم- وبرأها من الفحشاء على ما تقدم في ذكر غيرة أبي بكر من فصل فضائله, ولما توفي أبو بكر عنها تزوجها علي بن أبي طالب فنشأ محمد بن أبي بكر في حجر علي بن أبي طالب, وكان على رجالته يوم الجمل وشهد معه صفين، وولاه عثمان في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 أيامه مصر وكتب له العهد, ثم اتفق مقتله قبل وصوله إليها على ما سيأتي بيانه في باب عثمان, وولاه أيضًا على مصر بعد مرجعه من صفين فوقع بينه وبين عمرو بن العاص حرب فهزم محمد بن أبي بكر وقتل, وأكثر المؤرخين على أنه أحرق في جوف حمار ميت يقال: كان ذلك قتله, وقيل: بل بعد القتل. وأما البنات فعائشة أم المؤمنين شقيقة عبد الرحمن, تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فثبت لأبي بكر بذلك أشرف الشرف فكانت إحدى أمهات المؤمنين, وحظوتها عنده وشرف منزلتها وعظم مزيتها على سائر نسائه مشهور حتى بلغ ذلك منه أن قيل: من أحب الناس إليك يا رسول الله؟ قال: "عائشة" فقيل: من الرجال؟ قال: "أبوها" فكانت أحب الناس إليه مطلقًا بنت أحب الناس إليه من الرجال, وكيفية تزويجها سيأتي في مناقبها إن شاء الله تعالى. وأسماء بنت أبي بكر شقيقة عبد الله وهي أكبر بناته, وهي ذات النطاقين وقد تقدم سبب تسميتها بذلك الاسم في فصل هجرة أبي بكر, تزوجها الزبير بمكة وولدت له عدة أولاد, ثم طلقها فكانت مع ولدها عبد الله بمكة حتى قتل وعاشت بعده, وكانت من المعمرين بلغ عمرها مائة سنة وعميت وماتت بمكة, وقد تقدم في فصل الخصائص ما ثبت برؤية ولدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وروايته عنه لبيت أبي بكر من الشرف بوجود أربعة فيه, بعضهم ولد بعض رأوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورووا عنه. وأم كلثوم وهي أصغر بناته, وهي التي قال أبو بكر فيها: ذو بطن بنت خارجة, وقد تقدم ذلك في ذكر فراسته من فصل فضائله, أمها حبيبة بنت خارجة بن زيد, كان أبو بكر قد نزل عليه وتزوج ابنته وتوفي عنها وتركها حبلى فولدت بعده أم كلثوم هذه, ولما كبرت خطبها عمر بن الخطاب إلى عائشة فأنعمت له وكرهت أم كلثوم, فاحتالت له حتى أمسك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 عنها وتزوجها طلحة بن عبيد الله. وذكره ابن قتيبة وغيره وجميع ما ذكرناه في هذا الفصل من كتاب المعارف, ومن كتاب الصفوة لأبي الفرج بن الجوزي, ومن الاستيعاب لأبي عمر بن عبد البر, ومن كتاب فضائل أبي بكر, كل منهم خرج طائفة والله أعلم. تم الجزء الأول, ويليه الجزء الثاني في مناقب أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب -رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 المجلد الثاني تابع القسم الثاني: في مناقب الأفراد الباب الثاني: في مناقب أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه الفصل الأول: في نسبه أصلًا وفرعًا ... الباب الثاني: في مناقب أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وفيه اثنا عشر فصلًا: الأول في نسبه, الثاني في اسمه وكنيته, الثالث في صفته, الرابع في إسلامه, الخامس في هجرته, السادس في خصائصه, السابع في أفضليته, الثامن في الشهادة له بالجنة, التاسع في ذكر فضائله, العاشر في خلافته, الحادى عشر في وفاته, الثاني عشر في ولده. الفصل الأول: في نسبه أصلًا وفرعًا وقد تقدم في ذكر الشجرة في أنساب العشرة ذكر آبائه: أمه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وقالت طائفة: بنت هشام بن المغيرة, ومن قال ذلك فقد أخطأ, ولو كانت كذلك لكانت أخت أبي جهل بن هشام والحارث بن هشام، وليس كذلك، وإنما هي بنت هاشم وهاشم وهشام أخوان، وهاشم جد عمر أبو أمه، وهشام أبو الحارث وأبي جهل ابني هشام بن المغيرة, وكان له من الولد ثلاثة عشر وأسلموا كلهم, وتفاصيل أحوالهم وذكر أسمائهم سيأتي في آخر الباب إن شاء الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 الفصل الثاني: في اسمه وكنيته لم يزل اسمه في الجاهلية والإسلام عمر, وكناه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا حفص وكان ذلك يوم بدر، وذكره ابن إسحاق وسماه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفاروق. عن ابن عباس قال: سألت عمر: لأي شيء سميت الفاروق؟ فقال: أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام ثم شرح الله صدري للإسلام, فقلت: الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى، فما في الأرض نسمة هي أحب إلي من نسمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقلت: أين رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قالت أختي: هو في دار الأرقم بن أبي الأرقم عند الصفا، فأتيت الدار وحمزة في أصحابه جلوسا في الدار ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في البيت فضربت الباب فاستجمع القوم، فقال لهم حمزة: ما لكم؟ قالوا: عمر بن الخطاب قال: فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخذ بمجامع ثيابه ثم نتره نترة, فما تمالك أن وقع على ركبتيه، فقال: "ما أنت بمنتهٍ يا عمر؟ " قال: قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أنك محمدًا1 عبده ورسوله، قال: فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد، قال: فقلت: يا رسول الله ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال: "بلى, والذي نفسي بيده إنكم على الحق إن متم وإن حييتم" قلت: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لنخرجن, فأخرجناه -صلى الله عليه وسلم- في صفين حمزة في أحدهما وأنا في الآخر ولي كديد ككديد الطحين حتى دخلنا المسجد، قال: فنظرت إلي قريش وإلى حمزة فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها، فسماني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذ الفاروق، فرق الله بي بين الحق والباطل، خرجه صاحب الصفوة والرازي. وعن الشعبي أن رجلًا من المنافقين ويهوديًّا اختصما فقال اليهودي: ننطلق إلى محمد بن عبد الله، وقال المنافق: إلى كعب بن الأشرف فأبى   1 بالنصب بفعل محذوف تقديره: أعني، أو نحوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 اليهودي وأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقضى لليهودي، فلما خرج قال المنافق: ننطلق إلى عمر بن الخطاب فأقبلا إليه فقصا عليه القصة فقال: رويدًا حتى أخرج إليكما، فدخل البيت واشتمل على السيف ثم خرج وضرب عنق المنافق, وقال: هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فنزل جبريل فقال: إن عمر فرق بين الحق والباطل, فسمي الفاروق. خرجه الواحدي وأبو الفرج. وعن النزال بن سبرة قال: وافقنا من علي يومًا أطيب نفسًا ومزاجًا فقلنا: يا أمير المؤمنين حدثنا عن عمر بن الخطاب قال: ذاك امرؤ سماه الله الفاروق, فرق به بين الحق والباطل. خرجه ابن السمان في الموافقة. وعن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينا أنا جالس في مسجدي أتحدث مع جبريل, إذ دخل عمر بن الخطاب فقال: أليس هذا أخاك عمر بن الخطاب؟ فقلت: بلى يا أخي، أله اسم في السماء كما له اسم في الأرض? فقال: والذي بعثك بالحق, إن اسمه في السماء أشهر من اسمه في الأرض, اسمه في السماء فاروق وفي الأرض عمر". خرجه في الفضائل. وعنه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه ذكر موقفه يوم القيامة وموقف أبي بكر قال: "ثم ينادي منادٍ: أين الفاروق عمر? فيؤتى به فيقول الله تعالى: مرحبًا يا أبا حفص، هذا كتابك فإن شئت فاقرأه وإن شئت فلا, فقد غفرت لك" خرجه في الفضائل. وقد روي أن اسمه في السماء فاروق, وفي الإنجيل كافٍ، وفي التوراة منطق الحق، وفي الجنة سراج، وسيأتي في غضون الأحاديث. وعن عبد الله بن عمرو قال: الفاروق قرن من حديد أصبتم اسمه, خرجه الضحاك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 الفصل الثالث: في صفته قال ابن قتيبة: الكوفيون يروون أنه آدم شديد الأدمة، وأهل الحجاز يروون أنه أبيض أمهق وهو الذي يشبه لونه لون الجص, لا يكون له دم ظاهر, وكان طوالًا أصلع أجلح شديد حمرة العينين خفيف العارضين، قاله صاحب الصفوة. وقال أبو عمر: كان كث اللحية أعسر يسرًا, وذكر في لونه رواية الكوفيين قال: وهكذا وصفه ذر بن حبيش وغيره, وعليه الأكثر قال: كان عمر طويلًا جسيمًا أصلع شديد الصلع, أبيض شديد حمرة العينين, في عارضيه خفة, سبالته كثيرة الشعر أطرافها صهبة، قال: والأول أصح وأشهر. وعن سماك بن حرب قال: كان عمر بن الخطاب أروح كأنه راكب والناس يمشون كأنه من رجال سدوس, خرجه الحافظ السلفي, قال: والأروح: هو الذي تدانى قدماه إذا مشى، وقال الجوهري: هو الذي تتباعد صدور قدميه وتتدانى عقباه وكل نعامة روحاء، وكان رضي الله عنه يخضب بالحناء والكتم. وخرج القاضي أبو بكر بن الضحاك عن ابن عمر أن عمر كان لا يغير شيبه فقيل له: يا أمير المؤمنين ألا تغير وقد كان أبو بكر يغير؟ فقال عمر: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من شاب شيبة في الإسلام كانت نورًا يوم القيامة" وما أنا بمغير. وعنه وقد عرضت عليه مولدة له أن يصبغ لحيته فقال: ما أريد أن أطفئ نوري كما أطفأ فلان نوره, والأول هو الصحيح. "شرح" الآدم من الناس: الأسمر والجمع أدمان, والأدمة -بضم الهمزة وإسكان الدال: السمرة, والأمهق ما ذكره في الحديث, والأصلع: هو الذي انحسر شعر مقدم رأسه ويقال لموضع الصلع: صلعة بالتحريك وصلعة بضم الصاد وإسكان اللام, والأجلح هو الذي انحسر الشعر عن جانبي رأسه فوق الأنزع، فأوله النزع ثم الصلع، وقد جلح الرجل بالكسر فهو أجلح بين الجلح, واسم ذلك الموضع الجلحة بالتحريك, الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 وأعسر يسرًا: هو الذي يعتمد بيديه جميعًا, ويقال له: الأضبط، وكان رضي الله عنه من رؤساء قريش وأشرافهم وإليه كانت السفارة في الجاهلية، وهي أن قريشًا كانت إذا وقع بينهم حرب بعثوه سفيرًا, وإن نافرهم منافر أو فاخرهم مفاخر بعثوه مفاخرًا. وقد تقدم من صفاته المعنوية في ثناء ابن عباس في باب الأربعة وثناء علي في باب الشيخين طرف، وسيأتي في باب فضائله الكثير منها إن شاء الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 الفصل الرابع: في إسلامه ذكر بدء إسلامه: قال ابن إسحاق: كان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الحبشة، وعن عمر بن الخطاب قال: خرجت أتعرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن أسلم فوجدته قد سبقني إلى المسجد فقمت خلفه فاستفتح سورة الحاقة, فجعلت أعجب من تأليف القرآن قال: فقلت: هذا والله شاعر كما قالت قريش، قال: فقرأ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} 1 قال: قلت: كاهن, قال: {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} 1 قال: فوقع الإسلام في قلبي كل موقع. خرجه أحمد وطريق آخر عن أنس بن مالك قال: خرج عمر متقلدًا السيف فلقيه رجل من بني زهرة فقال: أين تعمد يا عمر? فقال: أريد أن أقتل محمدًا قال: وكيف تأمن من بني هاشم وبني زهرة وقد قتلت محمدًا? فقال له عمر: ما أراك إلا قد صبأت وتركت دينك الذي أنت عليه قال: أفلا أدلك على العجب يا عمر? إن أختك وختنك قد صبوا وتركا دينك الذي أنت عليه، فمشى عمر حتى أتاهما وعندهما رجل من المهاجرين   1 سورة الحاقة الآية: 41. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 يقال له: خباب، فلما سمع خباب حس عمر توارى في البيت فدخل عليهما فقال: ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم؟ قال: وكانوا يقرءون طه، فقالا: ما عدا حديثًا تحدثناه بيننا، قال: فلعلكما قد صبوتما? فقال له ختنه: أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك? فوثب عمر على ختنه فوطئه وطأ شديدًا، فجاءت أخته فدفعته عن زوجها فنفحها نفحة بيده فدمي وجهها، قالت وهي غضبى: يا عمر إن كان الحق في غير دينك أتشهد أن لا إله إلا الله وأتشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله؟ فلما تبين عمر قال: أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرأه, وكان عمر يقرأ الكتب فقالت أخته: إنك رجس ولا يمسه إلا المطهرون، فقم فاغتسل أو توضأ, فقام فتوضأ ثم أخذ الكتاب فقرأ "طه" حتى أتى إلى قوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} 1 فقال عمر: دلوني على محمد، فلما سمع خباب قول عمر خرج من البيت فقال: أبشر يا عمر, فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة الخميس: "اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام" قال: ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الدار التي في صل الصفا، فانطلق عمر حتى أتى الدار قال: وعلى الباب حمزة وطلحة وناس من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما رأى حمزة وجل القوم من عمر قال حمزة: نعم فهذا عمر، وإن يرد الله بعمر خيرًا يسلم، وإن يرد غير ذلك يكن قتله علينا هينًا, قال: والنبي -صلى الله عليه وسلم- داخل يوحى إليه، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أتى عمر فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل سيفه فقال: "أما أنت منتهٍ يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة? اللهم اهد عمر بن الخطاب، اللهم أعز الدين بعمر بن الخطاب". فقال عمر: أشهد أنك رسول الله فأسلم عمر وقال: اخرج يا رسول الله، خرجه في الصفوة. "شرح" الهيمنة: الصوت الخفي, والوجل: الخوف, وحمائل   1 سورة طه الآية: 14. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 السيف: جمع حمالة بالكسر وهي علاقته، هذا قول الأصمعي، وقال الخليل: لا واحد لها من لفظها وإنما واحدها محمل بزنة مرحل، وهو السير الذي يتقلده المتقلد, والخزي: الذل والهوان, والنكال: ما نكل به، يقال: نكل الله به تنكيلًا, إذا نزل به ما يكون نكالًا وعبرة لغيره، ومنه: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} الآية. طريق آخر, عن أسامة بن زيد عن أبيه عن جده قال: قال عمر: أتحبون أن أخبركم كيف كان إسلامي? قال: قلنا نعم! قال: كنت من أشد الناس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبينا أنا في يوم حار شديد الحر في الهاجرة في بعض طرق مكة إذ لقيني رجل من قريش فقال: أين تريد في هذه الساعة يابن الخطاب? قال: قلت: أريد هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي, فقال لي: عجبًا لك يابن الخطاب, إنك تزعم أنك هكذا وقد دخل عليك هذا الأمر في بيتك! قال: قلت: وما ذاك? فقال: أختك قال: فرجعت مغضبًا وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد ضم إلى زوج أختي رجلين من المسلمين يعينانه ويصيبان من فضل طعامه, فقرعت الباب فقيل: من هذا? فقلت: ابن الخطاب قال: وكانوا يقرءون كتابًا في أيديهم، فقاموا مبادرين واختبئوا مني وتركوا الصحيفة على حالها، فلما فتحت لي أختي قلت لها: يا عدوة نفسها أصبوت? وأرفع شيئًا في يدي فأضرب به رأسها وسال الدم، فلما رأت الدم بكت وقالت: ما كنت فاعلًا فافعله فقد صبوت، قال: فدخلت وأنا مغضب حتى جلست على السرير فنظرت فإذا صحيفة في وسط البيت، قال: فقلت لها: ما هذه الصحيفة؟ فأعطنيها، قالت: إنك لست من أهلها، إنك لا تغتسل من الجنابة ولا تطهر وهذا لا يمسه إلا المطهرون، قال: فلم أزل بها حتى أعطتنيها، قال: فأخذتها ففتحتها فإذا فيها: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فلما قرأت: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ذعرت وألقيت الصحيفة من يدي ثم رجعت إلى نفسي فأخذتها, فإذا فيها: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 الْحَكِيم} 1 قال: فكلما مررت باسم من أسماء الله تعالى ذعرت، ثم ترجع إلي نفسي قال: حتى بلغت: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} 2 قال: فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. قال: فخرج القوم مستبشرين فكبروا وقالوا: أبشر يابن الخطاب، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا يوم الاثنين فقال: "اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك: أبي جهل بن هشام، وإما عمر بن الخطاب" وإنا نرجو أن تكون دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لك فأبشر، قال: فقلت: دلوني على مكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فأخبروني أنه في بيت في أسفل الصفا، قال: فخرجت حتى جئت الباب فقرعته فقالوا: من هذا? قال: قلت: ابن الخطاب قال: فما اجترأ أحد منهم أن يفتح لي، قد علموا شدتي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "افتحوا له, فإن يرد الله به خيرًا يهده" قال: ففتحوا ثم أخذ رجلان بعضدي حتى أجلساني بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: فقال: "خلوا عنه" ثم أخذ بمجمع قميصي فجذبني إليه وقال: "أسلم يابن الخطاب، اللهم اهده". قال: فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قال: فكبر المسلمون تكبيرة حتى سمعت من مكة، وكانوا قبل ذلك مستخفين، خرجه الحافظ أبو القاسم في الأربعين الطوال. "شرح" صبا يصبو: إذا خرج عن دينه وقد تقدم ذكر ذلك, ذعرت أي: فزعت تقول: ذعرته أذعره ذعرًا أي: فزعته والاسم الذعر بالضم, جبذني: مقلوب جذبني وكلاهما بمعنى واحد. طريق آخر: قال ابن إسحاق: كان إسلام عمر فيما بلغنا أن أخته فاطمة أسلمت وأسلم زوجها سعيد بن زيد وهم مستخفون بإسلامهم،   1 سورة الحشرة الآية: 24. 2 سورة الحديد الآية: 7. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 وكان نعيم بن النحام من قومه أسلم أيضًا وكان مستخفيًا منه، وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن، فخرج عمر بن الخطاب متوشحًا بسيفه يريد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورهطًا من أصحابه، فذكر أنهم اجتمعوا في بيت عند الصفا وهم قريب من أربعين من بين رجال ونساء، ومع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمه حمزة وأبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب ورجال من المسلمين ممن كان أقام مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة ولم يخرج فيمن خرج إلى الحبشة، فلقيه نعيم بن عبد الله فقال: أين تريد يا عمر؟ قال: أريد محمدًا، وذكر معنى ما بعده من حديث أنس المتقدم وقال فيه: فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحجزته أو بمجمع ردائه, ثم جبذه جبذة شديدة ثم قال: "ما جاء بك يابن الخطاب?" ثم ذكر معنى ما بعده إلى قوله: "فقال عمر" وقال عمر: جئت لأؤمن بالله ورسله وبما جاء من عند الله، قال: فكبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن عمر قد اسلم، فتفرق أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكانهم وقد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة, وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويمتنعون وينتصفون من عدوهم. قال ابن إسحاق: فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن إسلام عمر, وحدثني عبد الله بن نجيح المكي عن أصحابه عن إسلام عمر أنه كان يقول: كنت للإسلام مباعدًا وكنت صاحب خمر في الجاهلية أحبها وأشربها، وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش بالخرورة عند دور آل عمر بن عمران المخزومي قال: فخرجت ليلة أريد جلسائي أولئك في مجلسهم ذلك، فجئتهم فلم أجد فيه منهم أحدًا، قال: فقلت: لو أني جئت فلانًا وكان بمكة يبيع الخمر, لعلي أجد عنده خمرًا فأشرب منها، قال: فخرجت فجئته فلم أجده قال: فقلت: فلو أني جئت الكعبة فطفت بها سبعًا أو سبعين قال: فجئت المسجد أريد أن أطوف بالكعبة فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائم يصلي، وكان إذا صلى استقبل الشام وجعل الكعبة بينه وبين الشام، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 فكان مصلاه بين الركنين، الركن الأسود والركن اليماني. قال: فقلت حين رأيته: والله لو أني استمعت من محمد الليلة حتى أسمع ما يقول فقلت: لئن دنوت لأسمع منه لأروعنه، فجئت من قبل الحجر فدخلت من تحت ثيابها فجعلت أمشي رويدًا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائم يصلي يقرأ القرآن، حتى قمت في قبلته مستقبله, ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة قال: فلما سمعت القرآن رقَّ له قلبي فبكيت ودخلني الإسلام، فلم أزل قائمًا في مكاني ذلك حتى قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاته ثم انصرف، وكان إذا انصرف خرج إلى دار ابن أبي حسين وكانت طريقه، حتى تجيز على المسعى ثم يسلك من دار العباس بن عبد المطلب ومن دار ابن أزهر بن عبد عوف الزهري، ثم على دار الأخنس بن شريق حتى يدخل بيته. وكان مسكنه -صلى الله عليه وسلم- في الدار الرقطاء التي كانت بيد معاوية بن أبي سفيان, قال عمر: فتبعته حتى إذا دخل من دار العباس ودار ابن أزهر أدركته, فلما سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عرفني فظن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أني إنما اتبعته لأؤذيه فنهمني ثم قال: "ما جاء بك يابن الخطاب هذه الساعة?" قلت: جئت لأؤمن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله, فحمد الله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "قد هداك الله يا عمر" ثم مسح صدري ودعا لي بالثبات، ثم انصرفت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيته. ومن طريق أسامة بن زيد بعد قوله: "وكانوا قبل ذلك مستخفين" قال: ثم خرجت فكنت لا أشاء أن أرى رجلًا من المسلمين يضرب إلا رأيته، قال: ذهبت إلى خالي قال: فقرعت عليه الباب قال: فقال: من هذا? فقلت: ابن الخطاب قال: فخرج إلي فقلت له: أعلمت أني صبوت? قال: فعلت؟ قال: قلت: نعم، قال: لا تفعل، قال: قلت: بلى، قال: لا تفعل، قال: ثم دخل وأجاف الباب دوني قال: قلت: ما هذا شيء قال: فذهبت إلى رجل من أشراف قريش فقرعت عليه بابه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 فقيل: من هذا? قلت: ابن الخطاب فخرج إلي فقلت: أشعرت أني صبوت? قال: أفعلت? قلت: نعم قال: لا تفعل, ثم دخل وأجاف الباب دوني، قلت: ما هذا شيء، قال: فقال لي رجل: أتحب أن يعلم إسلامك? قلت: نعم قال: فإذا كان الناس في الحجر جئت إلى ذلك الرجل فجلست إلى جنبه وأصغيت إليه، فقلت: أعلمت أني صبوت? قال: أوفعلت? قلت: نعم، قال: فرفع بأعلى صوته ثم قال: إن ابن الخطاب قد صبا, وثار الناس إلي فضربوني وضربتهم قال: فقال رجل: ما هذه الجماعة? قالوا: هذا ابن الخطاب قد صبا فقام على الحجر ثم أشار بكمه فقال: ألا إني قد أجرت ابن أختي، قال: فانكشف الناس عني، قال: فكنت لا أزال أرى إنسانًا يضرب ولا يضربني أحد، قال: فقلت: ألا يصيبني ما يصيب المسلمين? قال: فأمهلت حتى جلس الناس في الحجر فجئت إلى خالي وقلت: اسمع قال: ما أسمع? قلت: جوارك رد عليك، قال: لا تفعل يابن أختي، قال: فقلت: بل هو رد عليك، فقال: ما شئت فافعل؛ قال: فما زلت أضرب ويضربونني حتى أعز الله بنا الإسلام، خرجه الحافظ الدمشقي في الأربعين الطوال. وعن عبد الرحمن بن الحارث عن بعض آل عمر أو بعض أهله قال: قال عمر: لما أسلمت تلك الليلة تذكرت أن أهل مكة أشد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- عداوة حتى آتيه فأخبره أني قد أسلمت، قال: فقلت: أبو جهل وكان عمر ابنًا لحنتمة بنت هاشم بن المغيرة، قال: فأقبلت حين أصبحت حتى ضربت عليه بابه قال: فخرج إلي أبو جهل فقال: مرحبًا وأهلًا يابن أختي ما جاء بك? قال: قلت: جئت أخبرك أني قد آمنت بالله وبرسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- وصدقت بما جاء به، قال: فضرب الباب في وجهي وقال: قبحك الله وقبح ما جئت به. وعن ابن عمر قال: لما أسلم عمر لم تعلم قريش بإسلامه، فقال: أي أهل مكة أفشى للحديث? قال: جميل بن معمر الجمحي، فخرج إليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 وأنا معه أتبع أثره, أعقل ما أرى وأسمع، فأتاه فقال: يا جميل إني قد أسلمت، قال: فوالله ما رد علي كلمة حتى قام عامدًا إلى المسجد فنادى أندية قريش فقال: يا معشر قريش, إن ابن الخطاب قد صبا، فقال عمر: كذبت ولكني أسلمت وآمنت بالله وصدقت برسوله، فثاوروه فقاتلهم حتى ركدت الشمس على رءوسهم حتى فتر عمر، وجلس عمر فقاموا على رأسه فقال عمر: افعلوا ما بدا لكم, فوالله لو كنا ثلاثمائة رجل لتركتموها لنا أو تركناها لكم ... فبينما هم كذلك قيام إذ جاء رجل عليه حلة حرير وقميص قومسي فقال: ما بالكم إن ابن الخطاب قد صبا، قال: فمه, امرؤ اختار دينًا لنفسه، أتظنون أن بني عدي يسلمون إليكم صاحبهم? قال: فكأنما كانوا ثوبًا انكشف عنه، فقلت له بعد بالمدينة: يا أبت, من الرجل الذي رد عنك القوم يومئذ? قال: يا بني, ذاك العاص بن وائل، خرجه أبو حاتم وابن إسحاق. وخرج القلعي طرفًا من هذه القصة وقال: قال عمر: لا نعبد سرًّا بعد اليوم، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 1 وكان ذلك أول ما نزل من القرآن في تسمية الصحابة مؤمنين، وكان عمر عند ذلك ينصب رايته للحرب بمكة ويحاربهم على الحق، ويقول لأهل مكة: والله لو بلغت عدتنا ثلاثمائة رجل لتركتموها لنا, أو لتركناها لكم. "شرح" أندية: جمع نادٍ وندي وهو مجلس القوم ومتحدثهم فإن تفرقوا منه فليس بندي, وثاوروه أي: واثبوه، وأثار به الناس أي: وثبوا عليه، قاله الجوهري, ركدت الشمس على رءوسهم أي: قام قائم الظهيرة وكأنه سكن، ومنه ركدت السفينة: سكنت، وكذا الريح والماء, والحلة: إزار ورداء، ولا تسمى حلة حتى تكون ثوبين.   1 سورة الأنفال آية: 64. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 ذكر ظهور الإسلام وعزه بإسلامه, وامتناع المسلمين به: تقدم في فصل اسمه حديث ابن عباس وفيه طرف من ذلك، وتقدم في الذكر من حديث ابن إسحاق وحديث القلعي طرف منه أيضًا. وعن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا لعمر بن الخطاب وأبي جهل بن هشام، فأصبح وكانت الدعوة يوم الأربعاء وأسلم عمر يوم الخميس، فكبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأهل البيت تكبيرة سمعت من أعلى مكة، فقال عمر: يا رسول الله, علام نخفي ديننا ونحن على الحق وهم على الباطل؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "إنا قليل" فقال عمر: والذي بعثك بالحق نبيًّا, لا يبقى مجلس جلست فيه بالكفر إلا جلست فيه بالإيمان، ثم خرج فطاف بالبيت ثم مر بقريش وهم ينظرونه فقال أبو جهل بن هشام: زعم فلان أنك صبوت، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فوثب المشركون فوثب عمر على عتبة بن ربيعة فبرك عليه وجعل يضربه, وأدخل إصبعيه في عينيه، فجعل عتبة يصيح فتنحى الناس عنه، فقام عمر فجعل لا يدنو منه أحد إلا أخذ شريف من دنا منه حتى أحجم الناس عنه، واتبع المجالس التي كان يجلس فيها فأظهر الإيمان, ثم انصرف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ظاهر عليهم فقال: ما يحبسك بأبي أنت وأمي؟ فوالله ما بقي مجلس كنت أجلس فيه بالكفر إلا ظهرت فيه بالإيمان، غير هائب ولا خائف، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعمر أمامه وحمزة بن عبد المطلب حتى طاف بالبيت وصلى الظهر معلنًا، ثم انصرف النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى دار الأرقم ومن معه, خرجه أبو القاسم الدمشقي في الأربعين الطوال، وقال: حديث غريب. وقال ابن إسحاق: ولما قدم عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من الحبشة على قريش ولم يدركوا ما طلبوا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وردهم النجاشي بما يكرهون، وأسلم عمر بن الخطاب وكان رجلًا ذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 شكيمة لا يرام ما وراء ظهره, امتنع به أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبحمزة. "شرح" أحجم الناس عنه: كفّوا، تقول: حجمته عن الشيء فأحجم أي: كففته فكف، وهو من النوادر، مثل: كببته فأكب, معلنًا: العلانية ضد السر تقول: علن الأمر يعلن علونًا وعلن بالكسر يعلن علنًا, وأعلنته: أظهرته، وفي هذا الحديث أنه دعا له يوم الأربعاء وتقدم في الذكر قبله أنه دعا له يوم الخميس ويوم الاثنين, وهو محمول على تكرار الدعاء في تلك الأيام من غير أن يكون بين الأحاديث تضاد, ولا تهافت. وعن ابن مسعود قال: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر، خرجه البخاري وأبو حاتم. وعنه قال: كان إسلام عمر فتحًا وهجرته نصرًا وإمارته رحمة، لقد رأيتنا ولم نستطع أن نصلي بالبيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا فصلينا، خرجه الحافظ السلفي. وعنه قال: ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشًا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه، خرجه ابن إسحاق في سيرته، وعنه: ما صلينا ظاهرين حتى أسلم عمر. وعنه: لما أسلم عمر, ظهر الإسلام ودعا إلى الله علانية. وعن علي قال: ما سمينا مؤمنين حتى أسلم عمر، خرجهن في الفضائل. وعن صهيب قال: لما أسلم عمر جلسنا حول البيت حلقًا وطفنا وانتصفنا ممن غلظ علينا، خرجه في الصفوة. وعن ابن عباس قال: لما أسلم عمر قال المشركون: انتصف القوم منا. ذكر أن ذلك كله إنما كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- تقدم في ذكر بدء إسلامه, وفي الذكر قبله طرف منه. عن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم أعز الدين بأحب الرجلين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 إليك بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام" فكان أحبهما إلى الله عمر، خرجه أحمد والترمذي وصححه أبو حاتم. وعن علي قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب" خرجه ابن السمان في الموافقة. وعن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب خاصةً" أخرجه أبو حاتم، ولا تضاد بينهما لجواز أن يكون تكرر الدعاء منه -صلى الله عليه وسلم- فخص عمر مرة, وأشرك معه غيره أخرى. وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اللهم أيد الإسلام بعمر" خرجه الفضائلي. ذكر استبشار أهل السماء بإسلام عمر: عن ابن عباس قال: لما أسلم عمر, أتى جبريل -عليه السلام- النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد "لقد استبشر أهل السماء بإسلام عمر" خرجه أبو حاتم والدارقطني والخلعي والبغوي. وفي طريق غريب بعد قوله: "بإسلام عمر" قلت: وكيف لا يكون ذلك كذلك ولم تصعد إلى السماء للمسلمين صلاة ظاهرة ولا نسك ولا معروف إلا بعد إسلامه حيث قال: والله لا يعبد الله سرا بعد هذا اليوم. ذكر أنه بإسلامه كان مكملًا عدة أربعين: عن ابن عباس قال: أسلم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسعة وثلاثون رجلًا، ثم إن عمر أسلم فصاروا أربعين رجلًا, فنزل جبريل -عليه السلام- بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِين} 1. خرجه القلعي والواحدي, وقال أبو عمر: روي أنه أسلم بعد أربعين رجلًا, وإحدى عشرة امرأة.   1 سورة الأنفال الآية: 64. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 الفصل الخامس: في هجرته عن ابن عباس قال: قال علي: ما علمت أن أحدًا من المهاجرين هاجر إلا مختفيًا إلا عمر بن الخطاب, فإنه لما هاجر تقلد سيفه، وتنكّب قوسه، وانتضى في يده أسهمًا واختصر عنزته ومضى قبل الكعبة والملأ من قريش بفنائها، فطاب بالبيت سبعًا متمكنًا, ثم أتى المقام فصلى متمكنًا ثم وقف على الحلق واحدة واحدة فقال لهم: شاهت الوجوه، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس، من أراد أن يثكل أمه, أو ييتم ولده، أو يرمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي، قال علي: فما أتبعه أحد إلا قوم من المستضعفين, علمهم ما أرشدهم ثم مضى لوجهه، خرجه ابن السمان في الموافقة والفضائلي. "شرح" تنكب قوسه: ألقاه على منكبه, وانتضى في يده أسهمًا: استلّها من كنانته وتركها معدة في يده، وكذلك انتضى سيفه ونضاه: استله, واختصر عنزته, العنزة بالتحريك أطول من العصا وأقصر من الرمح، وفيه زج كزج الرمح واختصارها والله أعلم حملها مضمومة إلى خاصرته، والمعاطس: جمع بزنة مجلس وهو الأنف, وإرغامها: إلصاقها بالرغام وهو التراب، كنى بذلك عن الإهانة والإذلال. قال ابن إسحاق: خرج عمر بن الخطاب مهاجرًا وعياش بن أبي ربيعة قال عمر: ابتعدت لما أردنا الهجرة أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص بن وائل السهمي المناصب من أضاة بني غفار فوق سرف وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه قال: فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند المناصب، وحبس عنا هشام وفتن فافتتن، فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 الفصل السادس: في خصائصه وقد تقدم منها طرف جيد في أبواب الأعداد, خصوصًا في باب الشيخين وتقدم من ذلك اختصاصه بسؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه -عز وجل- أن يعز الإسلام بعمر خاصة، وأن المسلمين ما زالوا أعزة منذ أسلم عمر, وتسمية الفاروق في فصل اسمه وإعلان هجرته في الفصل قبله. ذكر اختصاصه بتأهله للنبوة, لو كان نبي بعد النبي -صلى الله عليه وسلم: عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لو كان نبي بعدي, لكان عمر بن الخطاب" خرجه أحمد والترمذي، وقال: حسن غريب, وفي بعض طرق هذا الحديث: "لو لم أبعث, لبعثت يا عمر" وفي بعضها: "لو لم أبعث فيكم لبعث عمر" خرجه القلعي. ذكر اختصاصه بالتحديث: عن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "قد كان في الأمم محدثون, فإن يكن في أمتي أحد فهو عمر بن الخطاب" خرجه أحمد ومسلم وقد قال ابن وهب: تفسير "محدثون: ملهمون" وأخرجه الترمذي وصححه وأبو حاتم وخرجه البخاري عن أبي هريرة، وخرج عنه من طريق آخر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أمتي فيهم أحد فعمر" ومعنى محدثون والله أعلم أي: يلهمون الصواب، ويجوز أن يحمل على ظاهره وتحدثهم الملائكة لا بوحي، وإنما بما يطلق عليه اسم حديث، وتلك فضيلة عظيمة. ذكر اختصاصه بالخيرية: عن جابر قال: قال عمر لأبي بكر: يا خير الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: "أما إنك إن قلت ذلك, فلقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما طلعت شمس على رجل خير من عمر" خرجه الترمذي وقال: غريب، وهذا محمول على أنه كذلك بعد أبي بكر جمعًا بين هذا وبين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 الأحاديث المتقدمة في أبي بكر. وعن ثابت بن الحجاج قال: خطب عمر ابنة أبي سفيان فأبوا أن يزوجوه, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما بين لابتي المدينة خير من عمر" خرجه البغوي في الفضائل، وأراد بعده -صلى الله عليه وسلم- وبعد أبي بكر، أما الأول فبالإجماع، وأما الثاني فلما تقدم. ذكر اختصاصه بأنه أزهدهم في الدنيا: عن طلحة بن عبيد الله قال: ما كان عمر بأولنا إسلامًا ولا أقدمنا هجرة، ولكنه كان أزهدنا في الدنيا وأرغبنا في الآخرة، خرجه الفضائلي. ذكر اختصاصه بموافقة التنزيل في قضايا, منها اتخاذ مقام إبراهيم مصلى: عن ابن عمر قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث: مقام إبراهيم, وفي الحجاب، وفي أسارى بدر, خرجه مسلم. وعن طلحة بن مصرف قال: قال عمر: يا رسول الله, أليس هذا مقام إبراهيم أبينا? قال: "بلى" قال عمر: فلو اتخذته مصلى? فأنزل الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} 1 خرجه المخلص الذهبي. ومنها: مشورته في أسارى بدر, عن ابن عباس عن عمر قال: لما كنا يوم بدر قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما ترون في هؤلاء الأسارى?" فقال أبو بكر: يا رسول الله, بنو العم وبنو العشيرة والإخوان, غير أنا نأخذ منهم الفداء، فيكون لنا قوة على المشركين وعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام ويكونوا لنا عضدًا، قال: "فما ترى يابن الخطاب?" قلت: يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدهم فنقربهم فنضرب أعناقهم, قال: فهوى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت وأخذ منهم الفداء، فلما أصبحت غدوت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا هو   1 سورة البقرة الآية: 125. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 وأبو بكر قاعدان يبكيان، قلت: يا نبي الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك? فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت لبكائكما، فقال: "لقد عرض علي عذابكم أدنى من الشجرة وشجرة قريبة حينئذ، فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَة} " 1 أخرجه مسلم، وعند البخاري معناه. وذكر أنه قتل من المشركين سبعون رجلًا وأسر سبعون رجلًا, فاستشار النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر وعمر وعليًّا فقال أبو بكر: يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان, وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار, وعسى الله أن يهديهم فيكونوا لنا عضدًا، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما ترى يابن الخطاب?" قال: فقلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر, ولكني أرى أن تمكنني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه، وتمكن عليًّا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم, فهوى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت، ثم ذكر معنى ما بعده وزاد: فلما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون وفر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنه, وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه, وسال الدم على وجهه, وأنزل الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} 2 بأخذكم الفداء {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .   1 سورة الأنفال الآية: 67. 2 سورة آل عمران الآية: 165. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 وعن أنس بن مالك قال: استشار النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس في الأسارى يوم بدر فقال: "إن الله قد أمكنكم منهم" فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم، فأعرض عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم عاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا أيها الناس, إن الله قد أمكنكم منهم وإنما هم إخوانكم بالأمس" فقام عمر فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم، فأعرض عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم عاد النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال للناس مثل ذلك، فقام أبو بكر الصديق فقال: يا رسول الله، نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء، قال: فذهب عن وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما كان فيه من الغم, فعفا عنهم وقبل منهم الفداء، فأنزل الله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} 1 الآية، أخرجه أحمد. وفي طريق أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لقي عمر فقال: "لقد كاد يصيبنا في خلافك بلاء" خرجه الواحدي في أسباب النزول، وفي بعضها: "لقد كان يصيبنا بخلافك شر يابن الخطاب". وفي رواية: "لو نزل من السماء نار لما نجا منها إلا عمر". وفي رواية: "لو نزل عذاب ... " وفي رواية: "لو عذبنا في هذا الأمر لما نجا غير عمر" خرجهما القلعي. وفي هذه الأحاديث دليل على أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يحكم باجتهاده، ومنها إشارته بحجب أمهات المؤمنين وقوله لهن: "لتكفن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو ليبدلنه الله أزواجًا خيرًا منكن" تقدم في الأولى طرف من الحجاب. وعن أنس بن مالك قال: قال عمر: "وافقت ربي في ثلاث أو وافقني في ثلاث: قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فأنزل الله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} 2 وقلت: يدخل عليك   1 سورة الأنفال الآية: 168. 2 سورة البقرة الآية: 125. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 البر والفاجر, فلو حجبت أمهات المؤمنين? فأنزل الله آية الحجاب، وبلغني شيء من معاتبة أمهات المؤمنين فقلت: لتكفن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو ليبدلنه الله أزواجًا خيرًا منكن, حتى انتهيت إلى إحدى أمهات المؤمنين فقالت: يا عمر أما في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت? فأنزل الله: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} 1 أخرجاه وأبو حاتم. وفي رواية بعد ذكر مقام إبراهيم والحجاب: اجتمع نساء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الغيرة فقلت لهن: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} فنزلت كذلك. وعن ابن مسعود قال: فضل الناس عمر بأربع فذكر الأسرى يوم بدر أمر بقتلهم، فأنزل الله: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 2 وبذكره الحجاب أمر نساء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يحتجبن، فقالت له زينب: وإنك علينا يابن الخطاب والوحي ينزل بيوتنا، فأنزل الله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} وبدعوة النبي -صلى الله عليه وسلم: "اللهم أيد الإسلام بعمر" وبرأيه في أبي بكر كان أول الناس بايعه. خرجه أحمد. وعن عائشة قالت: كنت آكل من النبي -صلى الله عليه وسلم- حيسًا في قعب, فمر عمر فدعاه فأكل فأصابت أصبعه أصبعي فقال: "حس أوه, لو أطاع فيكن ما رأتكن عين" فنزلت آية الحجاب, خرجهن الطبراني. "شرح" حس: هي بكسر السين والتشديد كلمة يقولها الإنسان إذا أصابه ما مضه وأحرقه، كالجمرة والضربة ونحوهما. ومنها قوله في قضية نسائه: "فإن الله معك وجبريل والمؤمنين".   1 سورة التحريم الآية: 5. 2 سورة الأنفال الآية 168. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 عن ابن عباس أن عمر حدثه قال: لما اعتزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نساءه كان قد وجد عليهن فاعتزلهن في مشربة من خزانته، قال عمر: فدخلت المسجد فإذا الناس ينكتون بالعصا ويقولون: طلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نساءه، فقلت: لأعملن في هذا اليوم وذلك قبل أن يؤمر نبي الله -صلى الله عليه وسلم- بالحجاب، فدخلت على عائشة بنت أبي بكر فقلت: يابنة أبي بكر, بلغ من أمرك أن تؤذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم? قالت: ما لي وما لك يابن الخطاب، عليك بعيبتك فأتيت حفصة بنت عمر فقلت: يا حفصة والله قد علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يحبك ولولا أنا لطلقك، قال: فبكت أشد بكاء قال: فقلت لها: أين رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هو في خزانته، قال: فذهبت فإذا أنا برباح غلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعدًا على أسكفة الغرفة مدليًا رجليه على نقير، يعني جذعًا منقورًا، قلت: يا رباح استأذن لي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فسكت، قال: فرفعت صوتي فقلت: استأذن يا رباح على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإني أظن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يظن أني إنما جئت من أجل حفصة، والله لئن أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أضرب عنقها لضربت عنقها، قال: فنظر رباح إلى الغرفة ونظر إلي ثم قال هكذا، يعني أشار بيده أن ادخل, فدخلت فإذا هو مضطجع على حصير وعليه إزاره فجلس، وإذا الحصير قد أثر في جنبه وقلبت عيني في الخزانة, فإذا ليس فيها شيء من الدنيا غير قبضتين من شعير وقبضة من قرص نحو الصاعين، وإذا أفيق معلق أو أفيقان، قال: فابتدرت عيناي فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك يابن الخطاب?" فقلت: يا رسول الله, ما لي لا أبكي وأنت صفوة الله ورسوله وخيرته من خلقه، وهذه الأعاجم كسرى وقيصر في الثمار والأنهار وأنت هكذا?! فقال: "يابن الخطاب, أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا?" قلت: بلى يا رسول الله، فأحمد اللهقلما تكلمت في شيء إلا أنزل الله تصديق قولي من السماء، قال: قلت: يا رسول الله إن كنت طلقت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 نساءك فإن الله -عز وجل- معك وجبريل وأنا وأبا بكر والمؤمنين, فأنزل الله -عز وجل: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} 1 الآية. قال: فما أخبرت ذلك نبي الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا أعرف الغضب في وجهه حتى رأيت وجهه يتهلل، وكشر فرأيت ثغره وكان من أحسن الناس ثغرًا، فقال: "إني لم أطلقهن" قلت: يا نبي الله فإنهم قد أشاعوا أنك قد طلقت نساءك, فأخبرهم أنك لم تطلقهن، قال: "إن شئت فعلت" فقمت على باب المسجد فقلت: ألا إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يطلق نساءه, فأنزل الله -عز وجل- في الذي كان من شأنه وشأنهم: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} 2 قال عمر: فأنا الذي استنبطه منهم, أخرجاه وأبو حاتم. وفي رواية: أنه لما قال له عمر: لو اتخذت يا رسول الله فراشًا أوثر من هذا? فقال: "يا عمر, ما لي وللدنيا أو ما للدنيا وما لي, إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة, ثم راح وتركها" خرجه الثقفي في الأربعين، ومنها منعه -صلى الله عليه وسلم- من الصلاة على المنافقين. عن ابن عمر قال: لما مات أبي بن سلول, جاء ابنه عبد الله إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فسأله أن يعطيه قميصه يكفنه فيه, وسأله أن يصلي عليه فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "ليصل عليه" فقام عمر فأخذ ثوب النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه? فقال: "إنما خيرني، فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} 3 وسأزيده على السبعين" قال: إنه منافق, فصلى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-   1 سورة التحريم الآية: 4. 2 سورة النساء الآية: 83. 3 سورة التوبة الآية: 80. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 فأنزل الله -عز وجل: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} أخرجاه. وعن ابن عباس عن عمر أنه قال: لما مات عبد الله بن أبي بن سلول دعي له رسول الله -صلى الله عليهوسلم- وصلى عليه، فلما قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وثبت إليه فقلت: يا رسول الله أتصلي على ابن أبي سلول وقد قال يوم كذا وكذا? أعد عليه قوله, فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "أخر عني يا عمر" فلما أكثرت عليه قال: "أما إني خيرت فاخترت، لو أعلم أني إذا زدت علىالسبعين يغفر له لزدت عليها" قال: فصلى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم انصرف، فلم يمكث يسيرًا حتى نزلت الآيتان من براءة: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ} 1 إلى: {وَهُمْ فَاسِقُونَ} قال: فعجبت بعد من جراءتي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذ, أخرجه البخاري. ومنها في رواية: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما نزل عليه: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} 2 قال: "فلأزيدن على السبعين" وأخذ في الاستغفار فقال عمر: يا رسول الله, والله لا يغفر الله لهم سواء استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم, فنزلت: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} خرجهما في الفضائل, فتجيء موافقة أخرى على هذه الرواية, ومنها موافقته في قوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} . عن أنس بن مالك قال: قال عمر: وافقت ربي في أربع؛ قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى, وقلت: يا رسول الله لو اتخذت على نسائك حجابًا, فإنه يدخل عليك البر والفاجر، فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} 3 وقلت لأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم: لتنتهن أو ليبدلنه الله أزواجًا خيرًا منكن، ونزل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا   1 يدل القول الكريم على أن صوت المرأة ليس بعورة. 2 سورة التوبة الآية: 80. 3 سورة الأحزاب الآية: 53. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 الْإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} 1 إلى قوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 2 خرجه الواحدي في أسباب النزول وأبو الفرج. وفي رواية: فقال صلى الله عليه وسلم: "تزيد في القرآن يا عمر?" فنزل جبريل بها وقال: إنها تمام الآية، خرجها في الفضائل والسجاوندي في تفسيره، وقد روي ذلك3 عن عبد الله بن أبي سرح كاتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما أملى كذلك قال: إن كان محمد يوحى إليه فأنا كذلك فارتد، وقد روي أنه راجع الإسلام واستعمله عمر، وسيأتي في مناقبه. ومنها موافقته في قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} 4 لكنه فيه حديث أنس المتقدم آنفًا، ومنها موافقته في قوله تعالى: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} 5 عن النبي -صلى الله عليه وسلم- استشار عمر في أمر عائشة حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فقال: يا رسول الله من زوجكما? فقال: "الله تعالى" قال: أفتظن أن ربك دلس عليك فيها? {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} فأنزل الله ذلك على وفق ما قال عمر، فتحصلنا على تسع لفظات وكلها مشهورة غير الثلاث الأخر: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} , {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} , {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} روى ذلك عن رجل من الأنصار، ومنها موافقة معنوية عن علي أن عمر انطلق إلى اليهود فقال: إني أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون وصف محمد في كتابكم? قالوا: نعم, قال: فما يمنعكم من اتباعه?! قالوا: إن الله لم يبعث رسولًا إلا كان له من الملائكة كفيل، وإن جبريل هو الذي يكفل محمدًا وهو الذي يأتيه, وهو عدونا من الملائكة وميكائيل سلمنا   1 سورة المؤمنون الآية: 12. 2 سورة المؤمنون الآية 14. 3 اشتهر نطق عبد الله بن أبي سرح بالقول الكريم: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} قبل إملائه. 4 سورة التحريم الآية: 5. 5 سورة النور الآية: 16. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 فلو كان هو الذي يأتيه اتبعناه، قال: فإني أشهد أنه ما كان ميكائيل ليعادي سلم جبريل, وما كان جبريل ليسالم عدو ميكائيل، قال: فمر نبي الله فقالوا: هذا صاحبك يابن الخطاب, فقام إليه وقد نزل الله عليه: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} 1 إلى قوله: {عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} خرجه ابن السمان في الموافقة، وخرج أبو الفرج معناه في أسباب النزول, وزاد: فقلت: والذي بعثك بالحق, ما جئت إلا لأخبرك بقول اليهود, فإذا اللطيف الخبير قد سبقني بالخبر. وذكر الواحدي في تفسيره الوسيط قال: ثم أتى عمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فوجد جبريل قد سبقه بالوحي، فقرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية وقال له: "وافقك ربك يا عمر" قال عمر: فلقد رأيتني في دين الله أصلب من الحجر، ومنها أخرى معنوية: إن عمر كان حريصًا على تحريم الخمر فكان يقول: اللهم بيّن لنا في الخمر؛ فإنها تذهب المال والعقل، فنزل قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} 2 الآية، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمر فتلاها عليه فلم ير فيها بيانًا فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} 3 الآية، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمر فتلاها عليه فلم ير فيها بيانًا ثم قال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} 4 الآية، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمر فتلاها عليه فقال عمر عند ذلك: انتهينا. خرجه القلعي، وذكر الواحدي أنها نزلت في عمر ومعاذ ونفر من الأنصار قالوا: يا رسول الله, إنها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزلت، ومنها أخرى معنوية: عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسل غلامًا من الأنصار إلى عمر بن   1 سورة البقرة الآية: 97. 2 سورة البقرة الآية: 98. 3 سورة البقرة الآية: 219. 4 سورة النساء الآية: 43. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر على حال كره رؤيته عليها، فقال: يا رسول الله, وددت لو أن الله أمرنا ونهانا في حال الاستئذان, فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} 1 الآية خرجه أبو الفرج، وخرجه صاحب الفضائل وقال بعد قوله فدخل عليه: وكان نائمًا وقد انكشف بعض جسده فقال: اللهم حرم الدخول علينا في وقت نومنا فنزلت، ومنها معنوية أيضًا عن كذا قال: لما نزل قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} 2 بكى عمر وقال: يا رسول الله {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} آمنا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصدقناه ومن ينجو منا قليل, فأنزل الله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمر وقال: "لقد أنزل الله تعالى فيما قلت, فجعل ثلة من الآخرين". ومنها موافقته كما في التوراة عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل يهودي إلى عمر بن الخطاب فقال: أرأيت قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} 3, فأين النار? فقال: لأصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- أجيبوه فلم يكن عندهم فيها شيء فقال عمر: أرأيت النهار إذا جاء أليس يملأ السموات والأرض? قال: بلى قال: فأين الليل? قال: حيث شاء الله -عز وجل- قال عمر: فالنار حيث شاء الله -عز وجل- قال اليهودي: والذي نفسك بيده يا أمير المؤمنين, إنها لفي كتاب الله المنزل كما قلت, خرجه الخلعي وابن السمان في الموافقة، ومنها موافقة أخرى كما في التوراة: أن كعب الأحبار قال يومًا عند عمر: ويل لملك الأرض من ملك السماء فقال عمر: إلا من حاسب نفسه، فقال كعب: والذي نفسي بيده إنها   1 سورة النور الآية: 58. 2 سورة الواقعة الآية: 13. 3 سورة آل عمران الآية: 133. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 لتابعتها في كتاب الله -عز وجل- التوراة، فخر عمر ساجدًا لله تعالى، فتحصلنا في الموافقات لما أنزل الله على خمس عشرة, تسع لفظيات وأربع معنويات واثنتان في التوراة. وعن ابن عمر أنه قال: ما اختلف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شيء فقالوا وقال عمر, إلا نزل القرآن بما قال عمر. خرجه ابن وركان وسعدان بن نصر المحرمي. وعن علي أن عمر ليقول القول فينزل القرآن بتصديقه، وعنه كنا نرى أن في القرآن لكلامًا من كلامه ورأيًا من رأيه. خرجهما ابن السمان في الموافقة. ذكر اختصاصه بشهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الله جعل الحق على لسانه وقلبه, وأن الحق بعده معه: عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله قد جعل الحق على لسان عمر وقلبه" خرجه أحمد وأبو حاتم والترمذي وصححه، وعن ابن عمر مثله. خرجه أبو حاتم. وفي رواية بعد قوله: "وقلبه": "يقول الحق ولو كان مرًّا" خرجهما القلعي. وفي رواية على لسان عمر: "يقول به" خرجهما المخلص. وفي رواية: "إن الله نزل الحق على قلب عمر ولسانه" خرجها البغوي في الفضائل. وقد تقدم في باب الأربعة من حديث الترمذي عن علي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "رحم الله عمر يقول الحق وإن كان مرًّا، تركه الحق وما له من صديق". وعن الفضل بن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "عمر معي وأنا مع عمر, والحق بعدي مع عمر حيث كان" خرجه البغوي في معجمه وفي الفضائل, وفي رواية: "ادن مني فأنت مني وأنا منك, والحق بعدي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 معك" خرجهما في الفضائل، وخرجه أبو القاسم السمرقندي بزيادة ولفظه: أن عمر قال كلمة ضحك منها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "عمر مني" الحديث إلى آخره. ذكر اختصاصه بأن السكينة تنطق على لسانه: عن علي قال: كنا نرى ونحن متوافرون أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- أن السكينة تنطق على لسان عمر، خرجه ابن السمان في الموافقة، والحافظ أبو الفرج في محبة الصحابة. ذكر اختصاصه بالهيبة, ونفران الشيطان منه: عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: لقد دخل عمر بن الخطاب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعنده نسوة من قريش يسألنه ويستكثرنه رافعات أصواتهن، فلما سمعن صوت عمر انقمعنَ وسكنّ، فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال عمر: يا عدوات أنفسهم, تهبنني ولا تهبن رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا عمر, ما لقيك الشيطان سالكًا فجًّا إلا سلك فجًّا غير فجك" خرجه النسائي وأبو حاتم وأبو القاسم في الموافقات، وأخرجاه وأحمد وقالوا: فلما استأذن عمر قمنا فبادرنا الحجاب فدخل عمر ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضحك فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي, فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب" قال عمر: يا عدوات أنفسهن تهبنني ولا تهبن رسول الله -صلى الله عليه وسلم? فقلن: نعم!! أنت أفظ وأغلظ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يابن الخطاب, والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان ... " وذكر باقي الحديث. "شرح" انقمعن: ذللن وارتدعن, وقمعته وأقمعته: إذا قهرته وأذللته, وأقمعت الرجل عني: إذا رددته, والفج: الطريق الواسع بين الجبلين، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 والجمع فجاج. وعن علي -عليه السلام- قال: والله إن كنا لنرى أن شيطان عمر يهابه أن يأمره بالخطيئة. وعن عائشة قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالسًا فسمعنا لغطًا وصوت صبيان فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا حبشية تزفن والصبيان حولها فقال: "يا عائشة تعالي فانظري" فجئت فوضعت لحيي على منكب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه، فقال: "أما شبعت؟ أما شبعت?" قالت: فجعلت أقول: لا, لأنظر عنده منزلتي، إذ طلع عمر قالت: فارفض الناس عنها، قالت: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إني لأنظر إلى شياطين الإنس والجن قد فروا من عمر" خرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح غريب. "شرح" تزفن: ترقص، وارفضوا: تفرقوا. وعن بريدة قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض مغازيه, فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله، إني كنت نذرت إن ردك الله سالمًا أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن كنت نذرت فاضربي, وإلا فلا" فجعلت تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب, ثم دخل عمر فألقت الدف تحت استها وقعدت عليه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان ليخاف منك يا عمر، إني كنت جالسًا وهي تضرب، ثم دخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدف" خرجه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب. وعن عائشة قالت: دخلت امرأة من الأنصار إلي فقالت: إني أعطيت الله عهدًا إذا رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في أمن لأنقرن على رأسه بالدف، قالت عائشة: فأخبرت النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال: "قولي لها: فلتفي بما حلفت" فقامت بالدف على رأس النبي -صلى الله عليه وسلم- فنقرت نقرتين أو ثلاثًا فاستفتح عمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 فسقط الدف من يدها وأسرعت إلى خدر عائشة، قالت لها عائشة: ما لك? قالت: سمعت صوت عمر فهبته، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان ليفرّ من حس 1 عمر" خرجه ابن السمان في الموافقة. وعن بريدة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني لأحسب الشيطان يفر منك يا عمر". وعن عليقال: كنا نرى أن شيطان عمر يخافه أن يجره إلى معصية الله تعالى، خرجه ابن السمان أيضًا. وعن عائشة أنها قالت: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخزيرة طبختها له فقلت لسودة والنبي -صلى الله عليه وسلم- بيني وبينها: كلي فأبت، فقلت: لتأكلن أو لألطخن وجهك فأبت، فوضعت يدي في الخزيرة ولطخت بها وجهها, فلطخت وجهي فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم، فوضع فخذه لها وقال لسودة: "لطخي وجهها" فلطخت وجهي، فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- أيضًا, فمر عمر فنادى: يا عبد الله, يا عبد الله، فظن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه سيدخل فقال: "قوما فاغسلا وجوهكما" فقالت عائشة: فما زلت أهاب عمر لهيبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إياه، رواه ابن غيلان من حديث الهاشمي وخرجه الملاء في سيرته. وعن ابن أبي مليكة أن عمر مر بامرأة مجذومة وهي تطوف بالبيت فقال لها: يا أمة الله "لو قعدت في بيتك لا تؤذين الناس" قال: فقعدت, فمر بها رجل بعد ذلك فقال: إن الذي نهاك قد مات فاخرجي، فقالت: والله ما كنت لأطيعه حيا وأعصيه ميتا. خرجه البصري من حديث أنس بن مالك. ذكر اختصاصه بأنه صارع جنيًّا فصرعه: عن ابن مسعود أن رجلًا من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- لقي رجلًا من الجن فصارعه فصرعه الإنسي، فقال له الجني: عاود فعاوده فصرعه أيضًا،   1 حسّ بمعنى: صوت، لفظ عربي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 فقال له الإنسي: إني لأراك ضئيلًا سخيفًا كأن ذراعيك ذراعا كلب، أفكذلك أنتم معشر الجن أم أنت منهم كذا? قال: والله إني منهم لضليع، ثم قال: عاودني الثالثة, فإن صرعتني علمتك شيئًا ينفعك فعاوده فصرعه، قال: هات علمني، قال: هل تقرأ آية الكرسي? قلت: نعم، قال: فإنك لا تقرؤها في بيت إلا خرج منه الشيطان ثم لا يدخله حتى يصبح، فقال رجل من القوم: من ذلك الرجل يا أبا عبد الله من أصحاب محمد؟ أهو عمر? قال: من يكون إلا عمر بن الخطاب؟ ذكر اختصاصه بشهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- بنفي حب مطلق الباطل عنه: عن الأسود بن سريع قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله, إني قد حمدت الله تبارك وتعالى بمحامد ومدح وإياك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن ربك تعالى يحب المدح، هات ما امتدحت به ربك تعالى" قال: فجعلت أنشده، فجاء رجل يستأذن, أدلم طوال أعسر أيسر، قال: فاستنصتني له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووصف لنا أبو سلمة كيف استنصته قال: كما يصنع بالهر, فدخل الرجل فتكلم ساعة ثم خرج، ثم أخذت أنشده أيضًا ثم رجع بعد، فاستنصتني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووصفه أيضًا، فقلت: يا رسول الله, من ذا الذي تستنصتني له? فقال: "هذا رجل لا يحب الباطل، هذا عمر بن الخطاب" خرجه أحمد. "شرح" الأدلم: الأسود, أعسر أيسر تقدم في فصل صفته، وأطلق على هذا باطلًا وهو متضمن حقا؛ لأنه حمد ومدح لله تعالى ولرسوله لأنه من جنس الباطل، إذ الشعر كله من جنس واحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 ذكر اختصاصه بالشدة في أمر الله تعالى: عن أنس بن مالك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أشد أمتي في أمر الله تعالى عمر" خرجه في المصابيح الحسان. ذكر اختصاصه بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- إياه بإجابة أبي سفيان يوم أحد: قال ابن إسحاق: إن أبا سفيان لما أراد الانصراف أشرف على الجبل ثم صرخ بأعلى صوته: إن الحرب سجال، يوم بيوم بدر، اعل هبل!! فقال صلى الله عليه وسلم: "قم يا عمر فأجبه" فقال: الله أعلى وأجل لا سواه، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فلما أجاب عمر أبا سفيان قال له: هلم يا عمر، فقال صلى الله عليه وسلم لعمر: "ائته, فانظر ما شأنه" فجاءه عمر فقال: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمدًا? قال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الآن، قال: أنت أصدق عندي من ابن قمئة، إنه يقول: إني قتلت محمدًا. وفي رواية: أن أبا سفيان وقف عليهم فقال: أفيكم محمد? فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تجيبوه" قال: أفيكم محمد? فلم يجيبوه، ثم قال الثالثة فلم يجيبوه، ثم قال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ قالها ثلاثًا فلم يجيبوه، ثم قال: أفيكم ابن الخطاب ثلاثًا? فلم يجيبوه، فقال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم، فلم يملك عمر نفسه أن قال: كذبت يا عدو الله، ها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وإنا أحياء، فقال: يوم بيوم بدر، ثم ذكر معنى ما تقدم، قال ابن إسحاق: وبينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالشعب يوم أحد مع أولئك النفر من الصحابة إذ علت عالية من قريش الجبل، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنه لا ينبغي أن يعلونا" فقام عمر ورهط معه من المهاجرين حتى أنزلوهم من الجبل. ذكر اختصاصه بمباهاة الله تعالى به, خاصة يوم عرفة: عن بلال بن رباح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له يوم عرفة: "يا بلال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 أسكت الناس, أو أنصت الناس" ثم قال: "إن الله تطول عليكم في جمعكم هذا, فوهب مسيئكم لمحسنكم, وأعطى محسنكم ما سأل، ادفعوا على بركة الله تعالى، إن الله باهى ملائكته بأهل عرفة عامة وباهاها بعمر بن الخطاب خاصة" خرجه البغوي في الفضائل، وتمامه في فوائده, وخرجه ابن ماجه من أوله إلى قوله: "ادفعوا باسم الله" مكان: "على بركة الله". وفيه دلالة على فضل عمر على الملائكة؛ لأن المباهاة إنما تتحقق إذا كان للمباهى به فضل على المباهى. ذكر اختصاصه بثوب يجره دون سائر الأمة, في رؤيا رآها النبي -صلى الله عليه وسلم: عن أبي سعيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما هو أسفل من ذلك، وعرض علي عمر وعليه قميص يجره" فقال من حوله: ما أولت يا نبي الله ذلك? قال: "الدين" أخرجاه وأحمد وأبو حاتم، وفسر الثوب بالدين والله أعلم؛ لأن الدين يشمل الإنسان ويحفظه ويقيه المخالفات، كوقاية الثوب وشموله. ذكر اختصاصه بشرب فضل لبن شربه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رؤيا رآها, وأول ذلك -صلى الله عليه وسلم- بالعلم: عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "بينا أنا نائم, إذ رأيت قدحًا أتيت به فيه لبن, فشربت حتى إني لأرى الري يجري في أظفاري, ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب" قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله? قال: "العلم" أخرجاه وأحمد وأبو حاتم والترمذي وصححه، وقد تقدم لأبي بكر مثله من حديث أبي حاتم خاصة. والظاهر أن الرؤيا تكررت، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 فشرب فضله في إحداهما أبو بكر وفي الأخرى عمر، ويؤيده تغاير ألفاظ الحديثين؛ ولهذه الخصوصية بلغ علمه ما روي عن ابن مسعود أنه قال: لو جمع علم أحياء العرب في كفة ميزان ووضع علم عمر في كفة, لرجح علم عمر، ولقد كانوا يرون أنه ذهب بتسعة أعشار العلم، ولمجلس كنت أجلسه من عمر أوثق في نفسي من عمل سنة. خرجه أبو عمر والقلعي. ذكر اختصاصه بفضل طول على الناس في رؤيا أبي بردة: عن أبي بردة أنه رأى في المنام كأن ناسًا جمعوا, فإذا فيهم رجل فرعهم فهو فوقهم بثلاثة أذرع، قال: فقلت: من هذا? قالوا: عمر، قلت: لم? قالوا: لأن فيه ثلاث خصال: لا يخاف في الله لومة لائم، وخليفة مستخلف، وشهيد مستشهد، قال: فأتى أبا بكر فقصها عليه فأرسل إلى عمر فدعاه فبشره, فجاء عمر قال: فقال لي أبو بكر: اقصص رؤياك، فلما بلغت: خليفة مستخلف زأرني عمر وانتهرني وقال: تقول هذا وأبو بكر حي, قال: فلما ولي عمر, فبينا هو على المنبر إذ دعاني وقال: اقصص رؤياك فقصصتها، فلما قلت: إنه لا يخاف في الله لومة لائم قال: إني لأرجو أن يجعلني الله منهم، قال: فلما قلت: خليفة مستخلف قال: قد استخلفني الله، وأسأله أن يعينني على ما ولاني, فلما ذكرت: شهيد مستشهد قال: أنى لي الشهادة وأنا بين أظهركم, تغزون ولا أغزو؟ ثم قال: بلى, يأتي الله بها إن شاء الله، يأتي الله بها إن شاء الله. ذكر اختصاصه بأن الناس ما دام فيهم, لا تصيبهم فتنة: عن الحسن الفردوسي قال: لقي عمر أبا ذر فأخذ بيده فعصرها فقال أبو ذر: دع يدي يا قفل الفتنة, فعرف أن لكلمته أصلًا، فقال: يا أبا ذر ما قفل الفتنة? قال: جئت يومًا ونحن عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فكرهت أن أتخطى رقاب الناس، فجلست في أدبارهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تصيبكم فتنة ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 دام هذا فيكم" خرجه المخلص الذهبي والرازي والملاء في سيرته. ومعناه في الصحيح من حديث حذيفة ولفظه عن حذيفة قال: كنا عند عمر فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الفتنة؟ وما قال? فقلت: أنا، فقال: هات إنك لجريء، وكيف قال? قلت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره، يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" فقال عمر: ليس هذا أريد، إنما أريد التي تموج كموج البحر، قال: قلت: ما لك ولها يا أمير المؤمنين, إن بينك وبينها بابا مغلقًا؟ قال: فيكسر الباب أو يفتح? قال: لا بل يكسر، قال: ذاك أحرى أن لا يغلق أبدًا، قال: قلنا لحذيفة: هل كان عمر يعلم من الباب? قال: نعم كما يعلم أن دون غد ليلة، إني حدثته حديثًا ليس بالأغاليط، قال: فهبنا أن نسأل حذيفة من الباب، فقلنا لمسروق: سله فسأله فقال: عمر، أخرجاه1. وعن عبد الله بن سلام أنه مر بعبد الله بن عمر وهو نائم فحركه برجله وقال: من هذا? قال: أنا عبد الله ابن أمير المؤمنين، قال: قم يابن قفل جهنم, فقام عبد الله وقد تغير لونه حتى أتى والده عمر وقال له: يا أبت أما سمعت ما قال ابن سلام? قال: وما قال لك يا بني? قال: قال لي: قم يابن قفل جهنم، فقال عمر: الويل لعمر إن كان بعد عبادة أربعين سنة ومصاهرته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقضاياه بين المسلمين بالاقتصاد أن يكون مصيره إلى جهنم، قال: فقام عمر وتقنع بطيلسان له وألقى الدرة على عاتقه, فاستقبله عبد الله بن سلام فقال له: يابن سلام بلغني أنك قلت لابني: قم يابن قفل جهنم، قال: نعم قال: وكيف قلت: إني في جهنم حتى أكون قفلًا لجهنم? قال: معاذ الله يا أمير المؤمنين أن تكون في جهنم ولكنك قفل جهنم، قال: وكيف? قال: أخبرني أبي عن آبائه عن   1 البخاري ومسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 موسى بن عمران عن جبريل أنه كان يقول: يكون في أمة محمد رجل يقال له: عمر بن الخطاب أحسن الناس وأحسنهم يقينًا، ما دام فيهم فالدين عالٍ واليقين فاشٍ، فاستمسك بالعروة الوثقى من الدين فجهنم مقفلة، فإذا مات عمر مرق الدين وافترق الناس على فرق من الأهواء، وفتحت أقفال جهنم فيدخل فيها كثير، خرجه في فضائله. وعن عبد الله بن دينار قال: جاء رجل إلى عمر قال: سمعت كعبًا يقول: إنك على باب من أبواب النار، قال: ففزع عمر لذلك وقال: ما شاء الله يرددها مرارًا ثم أرسل إلى كعب فقال: مرة في الجنة ومرة في النار، قال: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ وما بلغك عني? قال: أخبرني فلان أنك قلت كذا وكذا، قال: أجل, والذي نفسي بيده إني لأجدك على باب من أبواب النار قد سددته أن يدخل، قال: فكأنه جلا عنه ما كان في نفسه، خرجه عبد الرزاق في جامعه. ذكر اختصاصه بأنه أول من تنشق عنه الأرض بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعد أبي بكر, تقدم حديث الذكر في خصائص أبي بكر: ذكر اختصاصه بأنه أول من يعطى كتابه بيمينه يوم القيامة, ودعاء الإسلام له فيه: تقدم في باب الشيخين من حديث زيد بن ثابت طرف منه خرجه في الديباج، وعن عمران بن حصين قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا كان يوم القيامة وحشر الناس, جاء عمر بن الخطاب حتى يقف في الموقف فيأتيه شيء أشبه به, فيقول: جزاك الله يا عمر عني خيرًا، فيقول له: من أنت? فيقول: أنا الإسلام جزاك الله يا عمر خيرًا, ثم ينادي منادٍ: ألا لا يدفعن لأحد كتاب حتى يدفع لعمر بن الخطاب، ثم يعطى كتابه بيمينه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 ويؤمر به إلى الجنة" فبكى عمر وأعتق جميع ما يملكه وهم تسعة, خرجه في فضائله. ذكر اختصاصه بأن الله جعله مفتاح الإسلام: عن ابن عباس قال: نظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عمر ذات يوم وتبسم، فقال: "يابن الخطاب, أتدري لم تبسمت إليك?" قال: الله ورسوله أعلم، قال: "إن الله -عز وجل- نظر إليك بالشفقة والرحمة ليلة عرفة, وجعلك مفتاح الإسلام" خرجه الملاء في سيرته. ذكر اختصاصه بأنه أول من يسلم عليه الحق يوم القيامة: ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "عمر أول من يسلم عليه الحق يوم القيامة, وكل أحد مشغول بأخذ الكتاب وقراءته" خرجه في فضائله، ولا تضاد بينه وبين ما تقدم في الذكر قبله، إذ يعطى كتابه أولا، ثم يسلم عليه الحق والناس مشغولون حينئذ بإعطاء كتبهم. ذكر اختصاصه بأنه أول من تسمَّى بأمير المؤمنين: وعن الزبير قال: قال عمر لما ولي: كان أبو بكر يقال له: خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكيف يقال لي خليفة رسول الله يطول هذا، قال: فقال له المغيرة: أنت أميرنا ونحن المؤمنون، فأنت أمير المؤمنين، قال: فذاك إذًا. وعن الشفاء -وكانت من المهاجرات الأول- أن عمر بن الخطاب كتب إلى عامل العراق: أن ابعث إليَّ برجلين جلدين نبيلين أسألهما عن العراق وأهله، فبعث إليه عامل العراق لبيد بن ربيعة العامري وعدي بن حاتم الطائي، قال: فلما قدما المدينة أناخا راحلتيهما بفناء المسجد ثم دخلا المسجد, فإذا هما بعمرو بن العاص، فقالا: استأذن لنا على أمير المؤمنين يا عمرو، فقال عمرو: أنتما والله أصبتما اسمه نحن المؤمنون وهو أميرنا, فوثب عمرو فدخل على عمر فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال عمر: ما بالك في هذا الاسم? قال: إن لبيد بن ربيعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 وعدي بن حاتم قدما فأناخا راحلتيهما بفناء المسجد ثم دخلا المسجد وقالا لي: استأذن لنا يا عمرو على أمير المؤمنين, فهما والله أصابا اسمك, أنت الأمير ونحن المؤمنون، قال: فجرى الكتاب من يومئذٍ؛ خرجهما أبو عمر. ذكر اختصاصه بأنه أول من أمر بالجماعة في قيام رمضان: عن عبد الرحمن بن عبد القارئ قال: خرجت مع عمر في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقونيصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني لأرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد كان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، قال: ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم فقال عمر: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون, يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله، أخرجه البخاري. وعن علي قال: أنا حرضت عمر على القيام في شهر رمضان، أخبرته أن فوق السماء السابعة حضيرة يقال لها: حضيرة القدس يسكنها قوم يقال لهم: الروح، فإذا كان ليلة القدر استأذنوا ربهم في النزول إلى الدنيا فلا يمرون بأحد يصلي أو على الطريق إلا أصابه منهم بركة، فقال عمر: يا أبا الحسن فتحرض الناس على الصلاة حتى تصيبهم البركة، فأمر الناس بالقيام، خرجه ابن السمان في الموافقة. وعنه أنه مر على المساجد في شهر رمضان وفيها القناديل فقال: نور الله على عمر في قبره, كما نور علينا مساجدنا. وفي رواية: سمع القرآن في المساجد ورأى القناديل تزهر في المسجد فقال: نور الله لعمر، الحديث. خرجهما ابن السمان أيضًا، وخرج الرواية الأخيرة ابن عبدكويه وأبو بكر النقاش عن ابن إسحاق الهمداني قال: خرج علي الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 ذكر اختصاصه بآي نزلت فيه: تقدم من ذلك آيات الموافقات. وفي الخامسة منهن قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ} نزلت فيه، وقد تقدم بيانها ثمة, وتقدم في فصل إسلامه قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} 1 الآية, نزلت فيه في قول بعضهم. ومنها قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} 2, نزلت فيه وفي أبي جهل في قول زيد بن أسلم، وقال ابن عباس: نزلت في حمزة وأبي جهل. وعنه أيضًا أنها في عمار وأبي جهل، وقال مقاتل: في النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي جهل، وقال الحسن: عامة. ومنها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 3. قال ابن عباس: أسلم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسعة وثلاثون، ثم أسلم عمر فصاروا أربعين فنزلت الآية. ومنها: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} 4 قال الكلبي: نزلت في عمر حين شتمه رجل من المشركين من بني غفار فهمّ أن يبطش به، وقيل غير ذلك. ذكر جميع ذلك الواحدي وأبو الفرج وصاحب الفضائل.   1 سورة الأنعام الآية: 54. 2 سورة الأنعام الآية: 122. 3 سورة الأنفال الآية: 64. 4 سورة الجاثية الآية: 14. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 الفصل السابع: في أفضليته بعد أبي بكر تقدمت أحاديث هذا الفصل جميعها في باب أبي بكر، وفي باب الثلاثة والأربعة، وحديث يختص به تقدم في الخصائص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 الفصل الثامن: في شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالجنة تقدم أكثر أحاديث هذا الفصل في باب الشيخين، وباب الثلاثة والأربعة والعشرة وما بينهن. ذكر شهادته -صلى الله عليه وسلم- أنه من أهل الجنة: عن ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "عمر بن الخطاب من أهل الجنة" خرجه أبو حاتم, وعن علي مثله، خرجه ابن السمان. ذكر كونه مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة: عن زيد بن أبي أوفى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لعمر بن الخطاب: "أنت معي في الجنة ثالث ثلاثة" خرجه المخلص، وخرجه البغوي في الفضائل وزاد: من هذه الأمة. ذكر أنه سراج أهل الجنة: عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "عمر بن الخطاب سراج أهل الجنة" خرجه في الصفوة، والملاء في سيرته. وعن علي قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "عمر بن الخطاب سراج أهل الجنة" فبلغ ذلك عمر فقام في جماعة من الصحابة حتى أتى عليا فقال: أنت سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "عمر بن الخطاب سراج أهل الجنة" ? قال: نعم. قال: اكتب لي خطك، فكتب له: "بسم الله الرحمن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 الرحيم: هذا ما ضمن علي بن أبي طالب لعمر بن الخطاب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن جبريل عن الله تعالى أن عمر بن الخطاب سراج أهل الجنة" فأخذها وأعطاها أحد أولاده, وقال: إذا أنا مت وغسلتموني وكفنتموني فأدرجوا هذه معي في كفني حتى ألقى بها ربي، فلما أصيب غسل وكفن وأدرجت معه في كفنه ودفن، خرجه ابن السمان في الموافقة. ومعنى ذلك والله أعلم: أن أهل الجنة هم المؤمنون، وكانوا قبل إسلام عمر في ظلمة، ظلم الكفار من قريش، فلما أسلم عمر أنقذهم من ظلمهم وأظهر شعار الإسلام، فإن فائدة السراج ضوءه في الظلمة، والجنة لا ظلمة فيها، فكان معناه ما ذكرناه. ذكر قصره في الجنة: عن جابر عن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أدخلت الجنة فرأيت قصرًا من ذهب ولؤلؤ فقلت: لمن هذا القصر? فقالوا: لعمر بن الخطاب، فما منعني أن أدخله إلا علمي بغيرتك". قال: أعليك أغار بأبي أنت وأمي؟ عليك أغار؟ خرجه أبو حاتم، وخرجه مسلم ولم يقل: "من ذهب ولؤلؤ". وعن أنس بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أدخلت الجنة فإذا بقصر من ذهب فقلت: لمن هذا القصر? قالوا: لشاب من قريش، فظننت أني أنا هو، فقلت: ومن هو؟ قالوا: عمر بن الخطاب" خرجه أحمد وأبو حاتم. وعن أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينا أنا نائم رأيتني في الجنة, فإذا بامرأة تتوضأ إلى جانب قصر فقلت: لمن هذا? فقالت: لعمر بن الخطاب، فتذكرت غيرة عمر، فوليت مدبرًا" قال أبو هريرة: فبكى عمر ونحن جميعا في ذلك المجلس, ثم قال: بأبي أنت يا رسول الله, أعليك أغار? خرجه مسلم والترمذي وأبو حاتم, قال أبو حاتم: أدخل النبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 -صلى الله عليه وسلم- الجنة ليلة أسري به, فرأى قصر عمر بن الخطاب فسأل عن القصر فأخبروه أنه لعمر، وذلك فيما رواه أنس وجابر, ثم رأى في منامه مرة أخرى كأنه أدخل الجنة فإذا امرأة إلى جنب قصر تتوضأ فسأل عن القصر فقالت: لعمر بن الخطاب، وذلك فيما رواه أبو هريرة يدل على ذلك اختلاف لفظ الخبرين. وعن بريدة قال: أصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدعا بلالًا فقال: "يا بلال بم سبقتني إلى الجنة? ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي، دخلت البارحة الجنة فسمعت خشخشتك أمامي، فأتيت على قصر مربع مشرف من ذهب فقلت: لمن هذا القصر? فقالوا: لرجل من العرب، قلت: أنا عربي، لمن هذا القصر? فقالوا: لرجل من قريش، فقلت: أنا قرشي، لمن هذا القصر? فقالوا: لرجل من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- قلت: أنا محمد، لمن هذا القصر? قالوا: لعمر بن الخطاب" فقال بلال: يا رسول الله ما أذنت قط إلا صليت ركعتين، ولا أصابني حدث قط إلا توضأت ورأيت أن لله علي ركعتين، قالصلى الله عليه وسلم: "بهما". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 الفصل التاسع: في ذكر نبذة من فضائله -رضي الله تعالى عنه- قال أهل العلم بالسير: كان عمر بن الخطاب من المهاجرين الأولين ممن صلى إلى القبلتين, وشهد بدرًا والحديبية وبيعة الرضوان وسائر المشاهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولما أسلم أعز الله به الإسلام وهاجر علانية كما تقدم، وتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنه راضٍ وبشره بالجنة، وأخبره أن الله جعل الحق على لسانه وقلبه، وأن رضاه وغضبه عدل، وأن الشيطان يفر منه، وأن الله -عز وجل- أعز به الدين واستبشر أهل السماء بإسلامه وسماه عبقريا ومحدثا وسراج أهل الجنة، ودعاه صاحب رحى دارة العرب يعيش حميدًا، ويموت شهيدًا، وأنه رجل لا يحب الباطل ولو كان بعده نبي لكان عمر، وهو أول من كتب التاريخ للمسلمين من الهجرة، وأول من حض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 على جمع القرآن، وأول من جمع الناس على قيام رمضان، وأول من عس في عمله، وحمل الدرة1 وأدب بها، ووضع الخراج ومصّر الأمصار واستقضى القضاة، ودوّن الدواوين وفرض الأعطية، وحج بأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- في آخر حجة حجها، وأول من سمي بأمير المؤمنين للسبب المتقدم في الخصائص، وفتح الله على يديه في سني خلافته دمشق ثم الروم ثم القادسية حتى انتهى الفتح إلى حمص وجلولاء والرقة والرها وحران ورأس العين والخابور ونصيبين وعسقلان وطرابلس وما يليها من الساحل وبيت المقدس وبيسان واليرموك والجابية والأهواز وقيسارية ومصر وتستر ونهاوند والري وما يليها، وأصفهان وبلد فارس وإصطخر وهمدان والنوبة والبربر والبرلس، وحج بالناس عشر حجج متوالية، ثم صدر إلى المدينة فقتله أبو لؤلؤة, فيروى على ما سيأتي في فصل مقتله. ذكر جميع ذلك ابن قتيبة وأبو عمر وصاحب الصفوة، كل خرج طائفة. قال بعضهم: كانت درة عمر أهيب من سيف الحجاج، وكان يخافه ملوك فارس والروم وغيرهم، ولما ولي بقي على حاله كما كان قبل الولاية في لباسه وزيه، وأفعاله وتواضعه، يسير مفردًا في حضره وسفره من غير حرس ولا حجاب, لم يغيره الأمر ولم تبطره النعمة ولا استطال على مؤمن بلسانه، ولا حابى أحدًا في الحق لمنزلته، لا يطمع الشريف في حيفه ولا ييأس الضعيف من عدله، ولا يخاف في الله لومة لائم، ونزل نفسه من مال الله منزلة رجل من المسلمين وجعل فرضه كفرض رجل من المهاجرين, خرجه القلعي. وكان يقول: إنما أنا ومالكم كوالي مال اليتيم، إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف؛ فقيل له: ما ذلك المعروف يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا تقوم البهيمة الأعرابية إلا بالقضم لا الخصم،   1 العصا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 والقضم: الأكل بأطراف الأسنان، تقول: قضمت الدابة شعيرها بالكسر تقضمه قضمًا، والخصم: الأكل بجميع الفم, فكأنه أشار إلى الاكتفاء بالقليل الذي لا بد للحيوان منه ولا يتعداه، قال ابن شهاب وغيره من أهل العلم: أول ما ابتدأ به عمر من أمره حين جلس على المنبر أنه جلس حيث كان أبو بكر يضع قدميه وهو أول درجة ووضع قدميه على الأرض، فقالوا: لو جلست حيث كان أبو بكر يجلس، قال: حسبي أن يكون مجلسي حيث كانت تكون قدما أبي بكر، قالوا: وهاب الناس عمر هيبة عظيمة حتى ترك الناس المجالس بالأفنية قالوا: ننتظر ما رأى عمر، وقالوا: بلغ من أبي بكر أن الصبيان كانوا إذا رأوه يسعون إليه ويقولون: يا أبت فيمسح رءوسهم، وبلغ من هيبة عمر أن الرجال تفرقوا من المجالس هيبة حتى ينتظروا ما يكون من أمره، قالوا: فلما بلغ عمر أن الناس أهابوه فصيح في الناس: "الصلاة جامعة" فحضروا ثم جلس من المنبر حيث كان أبو بكر يضع قدميه، فلما اجتمعوا قام قائمًا فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: بلغني أن الناس قد هابوا شدتي وخافوا غلظتي وقالوا: قد كان عمر يشتد علينا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا، ثم اشتد علينا وأبو بكر والينا دونه, فكيف إذا صارت الأمور إليه? ومن قال ذلك فقد صدق، قد كنت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكنت عبده وخادمه، وكان ممن لا يبلغ أحد صفته من اللين والرحمة وقد سماه الله بذلك, ووهب له اسمين من أسمائه: "رءوف رحيم" فكنت سيفًا مسلولًا حتى يغمدني أو يدعني فأمضي، حتى قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عني راضٍ, والحمد لله وأنا أسعد بذلك، ثم ولي أمر المسلمين أبو بكر فكان ممن لا ينكرون دعته وكرمه ولينه، فكنت خادمه وعونه، أخلط شدتي بلينه فأكون سيفًا مسلولًا حتى يغمدني أو يدعني فأمضي، فلم أزل معه كذلك حتى قبض وهو عني راض, والحمد لله وأنا أسعد بذلك، ثم إني قد وليت أموركم أيها الناس, واعلموا أن هذه الشدة قد أضعفت ولكنها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والفضل فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحدًا يظلم أحدًا ويتعدى عليه، حتى أضع خده على الأرض وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن بالحق، ولكم عليّ أيها الناس خصال أذكرها لكم فخذوني بها، لكم علي أن لا أخبأ شيئًا من خراجكم مما أفاء الله عليكم إلا من وجهه, ولكم علي إذا وقع عندي أن لا يخرج إلا بحقه، ولكم علي أن أرد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله تعالى، ولكم علي أن لا ألقيكم في المهالك، وإذا رغبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا إليهم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. قال سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن: فوفى -والله- عمر وزاد الشدة في مواضعها واللين في مواضعه، وكان أبا العيال حتى إن كان ليمشي إلى المغيبات فيسلم على أبوابهن ثم يقول: أليكن آذاكن أحد? أتردن أشتري لكُنّ شيئًا من السوق، فإني أكره أن تخدعن في البيع والشراء، فيرسلن معه بجواريهن، فيدخل السوق وإن وراءه من جواري الناس وغلمانهم ما لا يحصى فيشتري لهم حوائجهم، ومن كان ليس عندها منهن شيء اشترى لها من عنده، وإذا قدم الرسول من بعض البعوث يتبعهن هو بنفسه بكتب أزواجهن ويقول لهن: إن أزواجكن في سبيل الله وأنتم في بلاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن كان عندكن من يقرأ وإلا فأدنين من الباب حتى أقرأ لكن، ثم يقول: رسولنا يخرج يوم كذا وكذا فاكتبن حتى نبعث بكتبكن ثم يدور عليهن بالقراطيس والدوي, فمن كتب منهن أخذ كتابها، ومن لم تكتب قال: هذا قرطاس ودواة، ادني من الباب فأملي علي فيمر على كذا وكذا بابًا فيكتب لأهله ثم يبعث بكتبهن، وإذا كان في سفر نادى الناس في المنزل عند الرحيل: ارحلوا أيها الناس، فيقول القائل: أيها الناس, هذا أمير المؤمنين قد ناداكم فقوموا فاسقوا وارحلوا, ثم ينادي الثانية الرحيل، فيقول الناس: اركبوا فقد نادى أمير المؤمنين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 الثانية، فإذا استقلوا قاموا فرحل بعيره وعليه غرارتان إحداهما فيها سويق والأخرى فيها تمر، وبين يديه قربة فيها ماء وخلفه جفنة كلما نزل جعل في الجفنة من السويق وصب عليه من الماء وبسط شناره، قال: والشنار مثل النطع الصغير، من جاء يخاصم أو يستقي أو يطلب حاجة قال له: كل من هذا السويق والتمر، ثم يرحل فيأتي المكان الذي رحل الناس منه فإن وجد متاعًا ساقطًا أخذه وإن وجد أحدًا به عرجة أو عرض لدابته أو بعيره تكارى له وساق به، فيتبع آثار الناس كذلك، فما سقط من متاع أخذه وما أصابته عرجة تخلف عليه, فإذا أصبح الناس في المساء من الغد لم يفقد أحد متاعًا له سقط منه إلا قال: حتى يأتي أمير المؤمنين، فيطلع عمر وإن جمله مثل المشجب مما عليه من المتاع، فيأتي هذا فيقول: يا أمير المؤمنين أدواتي، فيقول: وهل يغفل الرجل الحليم عن أدواته التي يشرب فيها, ويتوضأ للصلاة منها? أوكل ساعة أبصر ما يسقط؟ أوكل ليلة أكلأ عيني من النوم؟ ثم يرفع إليه أدواته ويقول: قوسي، وهذا رشاي، أو ما وقع منهم فيعنفهم، ثم يدفع ذلك إليهم. ولما بلغ الشام تلقوه ببرذون وثياب بيض، فكلموه أن يركب البرذون ليراه العدو ليكون ذلك أهيب له عندهم، ويلبس البياض ويطرح الفرو الذي عليه فأبى، ثم ألحوا عليه فركب البرذون بفروه وثيابه، فهملج به البرذون وخطا له ناقته بعد في يده، فنزل وركب راحلته وقال: لقد غير بي هذا حتى خفت أن أنكر نفسي، ذكر ذلك كله أبو حذيفة إسحاق بن بشر في فتوح الشام، وخرج ابن بشران خطبته إلى آخرها وجلوسه على المنبر فقط. ذكر كثرة فضائله وما له عند الله تعالى, وبكاء الإسلام على موته: عن أبي بن كعب قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "جاءني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 جبريل فقلت له: أخبرني عن فضائل عمر وماذا له عند الله تعالى؟ قال لي: لو جلست معك قدر ما لبث نوح في قومه لم أستطع أن أخبرك بفضائل عمر وما له عند الله -عز وجل- ثم قال: يا محمد ليبكين الإسلام من بعد موتك على موت عمر بن الخطاب" خرجه أبو سعد في شرف النبوة, وتمام في فوائده. وقد تقدم في باب الشيخين من حديث الحسن بن عرفة العبدي، ولم يذكر بكاء الإسلام على موته، ثم قال: وإن عمر حسنة من حسنات أبي بكر. ذكر وصف جبريل إياه بأخوة النبي -صلى الله عليه وسلم: عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينما أنا جالس في مسجدي أتحدث مع جبريل إذ دخل عمر بن الخطاب فقال جبريل: أليس هذا أخاك عمر بن الخطاب? فقلت: بلى يا أخي" أخرجه في الفضائل، وقد تقدم مستوفيًا في فصل اسمه، وسيأتي وصفه بذلك من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بيا أخي. ذكر ما أعد الله له من الكرامة بسبب عز الإسلام به: عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ينادي مناد يوم القيامة: أين الفاروق؟ فيؤتى به فيقول الله: مرحبًا بك يا أبا حفص، هذا كتابك إن شئت فاقرأه وإن شئت فلا، فقد غفرت لك، ويقول الإسلام: يا رب هذا عمر, أعزني في دار الدنيا فأعزه في عرصات القيامة، فعند ذلك يحمل على ناقة من نور ثم يكسى حلتين لو نشرت إحداهما لغطت الخلائق، ثم يسير في يديه سبعون ألف لواء، ثم ينادي مناد: يا أهل الموقف, هذا عمر فاعرفوه" خرجه في الفضائل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 ذكر نعته في كتب أهل الكتاب: عن كعب الأحبار أنه لقي عمر بالشام فقال له: إنه مكتوب في هذه الكتب: إن هذه البلاد التي كان بنو إسرائيل أهلها مفتوحة على يد رجل من الصالحين، رحيم بالمؤمنين شديد على الكافرين, سره مثل علانيته، قوله لا يخالف فعله، القريب والبعيد سواء عنده في الحكم، أتباعه رهبان بالليل وأسد بالنهار, متراحمون متواصلون. قال عمر: أحق ما تقول? فقلت: إي1 والذي يسمع ما أقول، فقال: الحمد لله الذي أعزنا وكرمنا وشرفنا ورحمنا بنبينا محمد, ورحمته التي وسعت كل شيء. ذكر إثبات فضيلته بالمصاهرة: تقدم في باب ما دون العشرة أن مصاهرته -صلى الله عليه وسلم- موجبة لدخول الجنة مانعة من دخول النار، وعن عمر سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كل نسب وصهر منقطع إلا نسبي وصهري" خرجه تمام. وقد تقدم في فضائل أبي بكر، وسيأتي كيفية تزويج النبي -صلى الله عليه وسلم- ابنته في باب مناقبها من كتاب مناقب أمهات المؤمنين. ذكر الحث على محبته: عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أحب عمر، عمر قلبه بالإيمان" خرجه في فضائله. ذكر سؤاله النبي -صلى الله عليه وسلم- والدعاء له: عن عمر أنه استأذن النبي -صلى الله عليه وسلم- في العمرة فأذن له وقال: "يا أخي, لا تنسنا من دعائك" وفي لفظ: "يا أخي أشركنا في دعائك" قال: ما   1 نعم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 أحب أن يكون لي بها ما طلعت عليه الشمس لقوله: "يا أخي" خرجه أحمد والحافظ السلفي وصاحب الصفوة، وخرجه ابن حرب الطائي ولفظه: "أشركنا في صالح دعائك ولا تنسنا". ذكر إحالته -صلى الله عليه وسلم- من سأله في منامه الدعاء عليه: عن أنس بن مالك قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر, فجاء رجل إلى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله استسقِ لأمتك فإنهم قد هلكوا، قال: فأتاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنام وقال: "ائت عمر فمره أن يستسقي للناس فإنهم سيسقون، وقل له: عليك الكيس الكيس" فأتى الرجل عمر فأخبره فبكى عمر وقال: يا رب ما آلو إلا ما عجزت عنه، خرجه البغوي في الفضائل وأبو عمر. ذكر أن الله يغضب لغضبه: عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اتقوا غضب عمر؛ فإن الله يغضب لغضبه" خرجه الملاء في سيرته وصاحب النزهة. وفي رواية: "لا تغضبوا عمر؛ فإن الله يغضب إذا غضب" خرجهما أبو الحسين بن أحمد البناء الفقيه. ذكر أن غضبه عسر: عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل فقال: أقرئ عمر من ربه السلام, وأعلمه أن رضاه حكم وغضبه عسر" خرجه الحافظ أبو سعيد النقاش والملاء وخرج المخلص معناه. ذكر شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيره له بالشهادة ودعائه -صلى الله عليه وسلم- بها, وتمني عمر ذلك لنفسه: تقدم في ذكر أحاديث "اثبت حرا" في باب ما دون العشرة و "اثبت أحد" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 و "اسكن ثبير" في باب الثلاثة وحديث ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "وصاحب رحى دارة العرب يعيش حميدًا ويموت شهيدًا" قالوا: من هو? قال: "عمر بن الخطاب". وتقدم أيضًا في باب الثلاثة من حديث الصوفي عن يحيى بن معين، وخرج منه أبو بكر بن الضحاك بن مخلد قصة عمر لا غير بلفظها، وحديث رخؤ بن بردة: "خليفة مستخلف, وشهيد مستشهد" تقدم في خصائصه. وعن ابن عمر قال: رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- على عمر ثوبًا أبيض فقال: "أجديد قميصك أم غسيل?" فقال: بل جديد, فقال صلى الله عليه وسلم: "البس جديدًا وعش حميدًا ومت شهيدًا". قال عبد الرزاق: وزاد فيه الثوري عن إسماعيل بن أبي مخلد: "ويعطيك الله قرة العين في الدنيا والآخرة" خرجه أبو حاتم. وعن كعب أنه قال لعمر: يا أمير المؤمنين إني أجدك في التوراة كذا وأجدك تقتل شهيدًا، فقال: وأنى لي بالشهادة وأنا في جزيرة العرب? وعن عمر وقد قرأ يومًا على المنبر: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} ثم قال: هل تدرون ما جنات عدن? قصر في الجنة له خمسة آلاف باب, على كل باب عشرون ألفًا من الحور العين, لا يدخله إلا نبي، وهنيئًا لصاحب القبر وأشار إلى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أو صديق وأشار إلى أبي بكر, أو شهيد وإني لعمر بالشهادة، ثم قال: إن الذي أخرجني من حنتمة بنت هشام بن المغيرة أخت أبي جهل قادر أن يوقها. قال ابن مسعود: فساقها الله على يدي شر خلقه، مجوسي عبد مملوك للمغيرة بن شعبة، هكذا قيد في هذا الحديث هشام بن المغيرة ثم أكد بأخت أبي جهل، وهو حجة لمن قال، إلا أن الصحيح في ذلك أنها ابنة هشام بن المغيرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 وقد تقدم ذكر ذلك في نسبه، ويكون أطلق عليها أخت أبي جهل لأنها في درجة الأخت، وإنما هي ابنة عمه. ذكر علمه وفهمه: تقدم في خصائصه حديث إشارته على أبي بكر بجمع القرآن مما يدل على غزارة علمه وحسن نظره، وحديث ابن عمر في رؤيا النبي -صلى الله عليه وسلم- شرب اللبن وإعطاء فضله عمر وتأويل ذلك بالعلم، وحديث ابن مسعود: "لو وضع عمر في كفة وعلم أهل الأرض في كفة, لرجح علم عمر" وكلاهما دليل على غزارة علمه، وعنه أنه قال لزيد بن وهب: اقرأ بما أقرأكه عمر، إن عمر أعلمنا بكتاب الله وأفقهنا في دين الله، خرجه علي بن حرب الطائي. وعن خالد الأسدي قال: صحبت عمر, فما رأيت أحدًا أفقه في دين الله ولا أعلم بكتاب الله ولا أحسن مدارسة منه، وعنه قال: إني لأحسب تسعة أعشار العلم ذهبت يوم ذهب عمر. وعنه قال: كان عمر أعلمنا بالله وأقرأنا لكتاب الله وأتقانا لله، والله إن أهل بيت من المسلمين لم يدخل عليهم حزن على عمر حين أصيب لأهل بيت سوء، خرجهن في فضائله. وعن طارق بن شهاب قال: قال يهودي لعمر بن الخطاب: إنكم لتقرءون آية في كتابكم لو علينا أنزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: وما هي? قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} قال عمر: فإني أعلم أي وقت نزلت وأي موضع نزلت، نزلت عشية عرفة ونحن وقوف بها يوم جمعة، أخرجاه. وعنه قال: جاء وفد بزاخة من أسد وغطفان إلى أبي بكر يسألونه الصلح, فخيرهم بين الحرب المجلية والسلم المخزية، فقالوا: هذه المجلية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 قد عرفناها، فما المخزية? قال: تنزع منكم الحلقة والكراع, ونغنم ما أصبنا منكم وتردون علينا ما أصبتم منا, وتدون قتلانا وتكون قتلاكم في النار, وتتركون أقوامًا يتبعون أذناب الإبل حتى يري الله خليفة رسوله -صلى الله عليه وسلم- والمهاجرين أمرًا يعذرونكم، فعرض أبو بكر ما قال على القوم، فقام عمر بن الخطاب فقال: قد رأيت رأيًا وسنشير عليك، أما ما ذكرت من الحرب المجلية والسلم المخزية فنعم ما ذكرت، وأما ما ذكرت أن نغنم ما أصبنا منكم وتردون ما أصبتم منا فنعم ما ذكرت، وأما ما ذكرت تدون قتلانا وتكون قتلاكم في النار، فإن قتلانا قتلت على أمر الله أجورها على الله ليس لها ديات، فتبايع القوم على ما قال عمر، خرجه الحميدي بهذا السياق عن البرقاني على شرط الصحيح وهو للبخاري مختصر. وعن أبي العالية قال: قال عمر: تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات؛ فإن جبريل نزل به على محمد -صلى الله عليه وسلم- خمس آيات خمس آيات، خرجه المخلص الذهبي. وعن عاصم بن عمر عن عمر أنه قال: لا يحرص على الإمارة أحد كل الحرص فيعدل فيها، خرجه أبو معاوية. وسئل محمد بن جرير الطبري فقيل له: العباس بن عبد المطلب مع جلالته وقربه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومنزلته لم يدخله عمر مع الستة في الشورى، فقال: إنه إنما جعلها في أهل السبق مع البدريين، والعباس لم يكن مهاجرًا ولا سابقًا ولا بدريًّا، وإن عمر لم يكن يفتات عليه في عمله. وعن مجاهد: سئل عمر عن رجل لا يشتهي المعصية ولا يعمل بها أفضل أم رجل يشتهي المعصية ولا يعمل بها؟ فقال: الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} خرجه ابن ناصر السلامي الحافظ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 ذكر تلطفه في استنباط الحكم: تقدم في هذا طرف في الموافقة الخامسة من الخصائص، وعن أبي قتادة قال: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول الله كيف تصوم? قال: فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما رأى ذلك عمر بن الخطاب قال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا, وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا، نعوذ بالله من غضب الله ومن غضب رسوله، قال: فجعل عمر يردد ذلك حتى سكن النبي -صلى الله عليه وسلم- من غضبه، ثم قال عمر: يا رسول الله، كيف بمن يصوم الدهر كله? قال: "لا صام ولا أفطر" أي: لم يصم ولم يفطر, قال: يا رسول الله, كيف بمن يصوم يومين ويفطر يومًا? قال: "أويطيق ذلك أحد?" قال: فكيف بمن يصوم يومًا ويفطر يومًا؟ قال: "ذلك صوم داود" قال: فكيف بمن يصوم يومًا ويفطر يومين? قال: "وددت أني أطيق ذلك" ثم قال: "ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان هذا صيام الدهر كله، وصيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي بعده والسنة التي قبله، وصيام يوم عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله" خرجه مسلم والترمذي والنسائي. ذكر فراسته: عن علي قال: كنا نقول: إن ملكًا ينطق على لسان عمر, خرجه الملاء في سيرته. وعن ابن عمر أنه كان إذا ذكر عمر قال: لله تلاد عمر، لقل ما رأيته يحرك شفتيه بشيء قط إلا كان, خرجه الجوهري. وعنه قال: ما سمعت عمر يقول لشيء: إني لأظنه كذا إلا كان كما يظن، بينما عمر جالس إذ مر به رجل جميل فقال: لقد أخطأ ظني، أو إن هذا على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم، علي بالرجل فدعي له، فقال له عمر: لقد أخطأ ظني أو إنك على دينك في الجاهلية أو لقد كنت كاهنهم، فقال: ما رأيت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 كاليوم يستقبل به رجل مسلم، فقال: أعزم عليك إلا ما أخبرتني قال: كنت كاهنهم في الجاهلية، قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك? قال: بينما أنا يومًا في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع فقالت: ألم تر الجن وإبلاسها وبأسها من بعد أساسها ولحوقها بالقلاص أحلاسها؟ قال عمر: صدق, فبينما أنا نائم عند آلهتهم إذ أتى رجل بعجل فذبحه فصرخ به صارخ، لم أسمع صارخًا قط أشد صوتًا منه يقول: يا جليح أمر نجيح فصيح يقول: لا إله إلا الله، فوثب القوم، قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول: لا إله إلا الله، فقمت فما نشبنا أن قيل: هذا نبي، خرجه البخاري. وعن عبد الله بن مسلمة قال: دخلنا على عمر معشر وفد مذحج وكنت من أقربهم منه مجلسًا، فجعل عمر ينظر إلى الأشتر ويصوب فيه نظره، ثم قال: أمنكم هذا? فقلت: نعم قال: قاتله الله وكفى الله أمته شره، والله إني لأحسب منه للمسلمين يومًا عصيبًا، قال: فكان ذلك منه بعد عشرين سنة, خرجه الملاء في سيرته. وفي رواية عند غيره: أن عمر كان في المسجد ومعه ناس إذ مر رجل فقيل له: أتعرف هذا? فقال: قد بلغني أن رجلًا أتاه الله -عز وجل- بظهر الغيب بظهور النبي -صلى الله عليه وسلم- اسمه سواد بن قارب، وإني لم أره وإن كان حيا فهو هذا، وله في قومه شرف وموضع، فدعا الرجل فقال له عمر: أنت سواد بن قارب الذي أتاه الله بظهر الغيب بظهور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولك في قومك شرف ومنزلة? فقال: نعم يا أمير المؤمنين, قال: فأنت على ما كنت عليه من كهانتك؟ فغضب الرجل غضبًا شديدًا وقال: يا أمير المؤمنين والله ما استقبلني بها أحد منذ أسلمت، قال عمر: سبحان الله! ما كنا عليه من الشرك أعظم مما كنت عليه من كهانتك، أخبرني عما كان يأتيك به ربك بظهور النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: نعم يا أمير المؤمنين! بينما أنا ذات ليلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 بين النائم واليقظان إذ أتاني جني فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب وافهم إن كنت تفهم, واعقل إن كنت تعقل، قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته, ثم أنشأ يقول: عجبت للجن وتحساسها ... وشدها العيس بأحلاسها تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما خير الجن كأنجاسها فارحل إلى الصفوة من هاشم ... واسم بغيتك إلى رأسها ثم أتاني في ليلة ثانية وثالثة يقول لي مثل قوله الأول وينشدني أبياتًا، فوقع في نفسي حب الإسلام ورغبت فيه، فلما أصبحت شددت على راحلتي فركبتها وانطلقت متوجهًا إلى مكة فأخبرت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد هاجر إلى المدينة، فقدمت المدينة فسألت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقيل لي: في المسجد، فعقلت ناقتي، فقال: "ادن" فلم يزل يدنيني حتى قمت بين يديه، فقال: "هات" فقصصت هذه القصة وأسلمت، ففرح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمقالتي وأصحابه، حتى رئي الفرح في وجوههم، قال: فوثب إليه عمر والتزمه وقال: لقد كنت أحب أن أسمع هذا الحديث منك, فأخبرني عن رئيك هل يأتيك اليوم? قال: أما منذ قرأت القرآن فلم يأتني، ونعم العوض كتاب الله، خرجه في فضائله. ذكر كراماته ومكاشفاته: عن عمر بن الحارث قال: بينا عمر يخطب يوم الجمعة إذ ترك الخطبة ونادى: يا سارية الجبل مرتين أو ثلاثًا، ثم أقبل على خطبته، فقال ناس من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم: إنه لمجنون، ترك خطبته ونادى: يا سارية الجبل، فدخل عليه عبد الرحمن بن عوف وكان يبسط عليه فقال: يا أمير المؤمنين, تجعل للناس عليك مقالًا، بينما أنت في خطبتك إذ ناديت: يا سارية الجبل أي شيء هذا? فقال: والله ما ملكت ذلك حين رأيت سارية وأصحابه يقاتلون عند جبل يؤتون منه من بين أيديهم ومن خلفهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 فلم أملك أن قلت: يا سارية الجبل ليلحقوا بالجبل، فلم تمض أيام حتى جاء رسول سارية بكتابه: إن القوم لقونا يوم الجمعة فقاتلناهم من حين صلينا الصبح إلى أن حضرت الجمعة، وذر حاجب الشمس فسمعنا صوت مناد ينادي الجبل مرتين فلحقنا بالجبل، فلم نزل قاهرين لعدونا حتى هزمهم الله تعالى. ويروى أن مصر لما فتحت, أتى أهلها عمرو بن العاص وقالوا له: إن هذا النيل يحتاج في كل سنة إلى جارية بكر من أحسن الجواري فنلقيها فيه وإلا فلا يجري, وتخرب البلاد وتقحط، فبعث عمرو إلى أمير المؤمنين عمر يخبره بالخبر, فبعث إلى عمرو: "الإسلام يجب ما قبله" ثم بعث إليه بطاقة قال فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم، إلى نيل مصر من عبد الله عمر بن الخطاب, أما بعد فإن كنت تجري بنفسك فلا حاجة بنا إليك، وإن كنت تجري بالله فاجر على اسم الله" وأمره أن يلقيها في النيل فجرى في تلك الليلة ستة عشر ذراعًا، وزاد على كل سنة ستة أذرع. وفي رواية: فلما ألقي كتابه في النيل جرى ولم يعد يقف، خرجهما الملاء في سيرته. وعن خوات بن جبير قال: أصاب الناس قحط شديد على عهد عمر فأمرهم بالخروج إلى الاستسقاء, فصلى بهم ركعتين وخالف بين طرف ردائه، فجعل اليمين على اليسار واليسار على اليمين ثم بسط يديه وقال: اللهم إنا نستغفرك ونستقبلك، فما برح حتى مطروا، فبينما هم كذلك إذ قدم الأعراب فأتوا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين, بينا نحن في بوادينا في يوم كذا في ساعة كذا إذ أظلتنا غمامة فسمعنا فيها صوتًا وهو يقول: أتاك الغوث أبا حفص, أتاك الغوث أبا حفص. وروي أنه عسّ ليلة من الليالي فأتى على امرأة وهي تقول لابنتها: قومي اللبن، فقالت: لا تفعلي، فإن أمير المؤمنين نهى عن ذلك، قالت: ومن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 أين يدري هو? فقالت: فإن لم يعلم هو فإن رب أمير المؤمنين يرى ذلك، فلما أصبح عمر قال لابنه عاصم: اذهب إلى مكان كذا وكذا فإن هناك صبية, فإن لم تكن مشغولة فتزوج بها لعل الله أن يرزقك منها نسمة مباركة، فتزوج عاصم بتلك البنية فولدت له أم عاصم بنت عمر، فتزوجها عبد العزيز بن مروان فولدت له عمر بن عبد العزيز -رحمة الله عليه. ولما دخل أبو مسلم الخولاني المدينة من اليمن وكان الأسود بن قيس الذي ادعى النبوة باليمن عرض عليه أن يشهد أنه رسول الله فأبى، فقال: أتشهد أن محمدًا رسول الله? قال: نعم قال: فأمر بتأجيج نار عظيمة وألقي فيها أبو مسلم فلم تضره، فأمر بنفيه من بلاده فقدم المدينة، فلما دخل من باب المسجد قال عمر: هذا صاحبكم الذي زعم الأسود الكذاب أنه يحرقه فنجاه الله منها، ولم يكن القوم ولا عمر سمعوا قضيته ولا رأوه، ثم قام إليه واعتنقه وقال: ألست عبد الله بن ثوب? قال: بلى, فبكى عمر ثم قال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- شبهًا بإبراهيم الخليل -عليه السلام، خرجهن في فضائله، وخرج معنى الأخير بلفظ أوعب من هذا أبو حاتم. وروي عن عمر أنه أبصر أعرابيًّا نازلًا من جبل فقال: هذا رجل مصاب بولده قد نظم فيه شعرًا لو شاء لأسمعكم، ثم قال: يا أعرابي من أين أقبلت? فقال: من أعلى هذا الجبل، قال: وما صنعت فيه? قال: أودعته وديعة لي، قال: وما وديعتك? قال: بني لي هلك قذفته فيه، قال: فأسمعنا مرثيتك فيه فقال: وما يدريك يا أمير المؤمنين? والله ما تفوهت بذلك، وإنما حدثت به نفسي، ثم أنشد: يا غائبًا ما يئوب منه سفره ... عاجله موته على صغره يا قرة العين كنت لي أنسا ... في طول ليلي نعم وفي قصره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 ما تقع العين حينما وقعت ... في الحي مني إلا على أثره شربت كأسًا أبوك شاربه ... لا بد منه له على كبره يشربها والأنام كلهم من كا ... ن في بدوه وفي حضره فالحمد لله لا شريك له ... في حكمه كان ذا وفي قدره قدر موتًا على العباد فما ... يقدر خلق يزيد في عمره قال: فبكى عمر حتى بل لحيته, ثم قال: صدقت يا أعرابي. وعن ابن عباس قال: تنفس عمر ذات يوم تنفسًا ظننت أن نفسه خرجت فقلت: والله ما أخرج هذا منكإلا هم، قال: هم! والله هم شديد، إن هذا الأمر لم أجد له موضعًا -يعني الخلافة- فذكرت له علياوطلحة والزبير وعثمان وسعدًا وعبد الرحمن بن عوف، فذكر في كل واحد منهم معارضًا، وكان مما ذكر في عثمان أنه كلف بأقاربه، قال: لو استعملته استعمل بني أمية أجمعين، وحمل بني أبي معيط على رقاب الناس، والله لو فعلت لفعل، والله لو فعل ذلك لسارت إليه العرب حتى تقتله، والله لو فعلت لفعل، والله لو فعل لفعلوا، خرجه في فضائله. وروي أن عمر -رضي الله عنه- كتب إلى سعد بن أبي وقاص وهو بالقادسية يقول له: وجه نضلة بن معاوية الأنصاري إلى حلوان العراق ليغزو على ضواحيها, فبعث سعد نضلة في ثلاثمائة فارس فخرجوا حتى أتوا حلوان العراق, فأغار على ضواحيها وأصابوا غنمًا وسبيًا، فأقبلوا يسوقونها حتى أرهقهم العصر وكادت الشمس تغرب, فألجأ نضلة السبي والغنيمة إلى سفح الجبل، ثم قام فأذن فقال: الله أكبر الله أكبر، فإذا مجيب من الجبل يجيبه: كبرت كبيرًا يا نضلة، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: كلمة الإخلاص يا نضلة، ثم قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، قال: هو الذي بشرنا به عيسى ابن مريم وعلى رأس أمته تقوم الساعة، فقال: حي على الصلاة، فقال: طوبى لمن مشى إليها وواظب عليها، قال: حي على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 الفلاح، قال: أفلح من أجاب, قال: الله أكبر الله أكبر, لا إله إلا الله، قال: أخلصت الإخلاص كله يا نضلة, حرم الله بها جسدك على النار. فلما فرغ من أذانه قاموا فقالوا: من أنت يرحمك الله? ملك أنت أم من الجن أم طائف من عباد الله قد أسمعتنا صوتك فأرنا صورتك؟ فإن الوفد وفد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووفد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: فانفلق الجبل عن هامة كالرحى، أبيض الرأس واللحية، عليه طمران من صوف، قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، من أنت يرحمك الله? قال: زريت بن برثملا، وصي العبد الصالح عيسى ابن مريم، أسكنني هذا الجبل ودعا لي بطول البقاء إلىحين نزوله من السماء، فأقرئوا عمر مني السلام وقولوا: يا عمر سدد وقارب فقد دنا الأمر، وأخبروه بهذا الخصال التي أخبركم بها: يا عمر: إذا ظهرت هذه الخصال في أمة محمد فالهرب الهرب: "إذا استغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء، وانتسبوا إلى غير مناسبهم وانتموا إلى غير مواليهم, ولم يرحم صغيرهم كبيرهم, وترك المعروف ولم يؤمر به وترك المنكر فلم ينه عنه، ويتعلم عالمهم العلم ليجلب به الدنانير والدراهم، وكان المطر فيضًا والولد غيضًا، وطولوا المنارات، وفضّضوا المصاحف، وزخرفوا المساجد، وأظهروا الرشا، وشيدوا البناء, واتبعوا الهوى، وباعوا الدين بالدنيا، وقطعت الأرحام، وبيع الحكم، وأكل الربا، وصار الغنى عزًّا، وخرج الرجل من بيته فقام إليه من هو خير منه فسلموا عليه، وركب النساء السروج" ثم غاب عنهم فلم يروه، فكتب نضلة بذلك إلى سعد وكتب سعد بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: سر أنت ومن معك من المهاجرين والأنصار حتى تنزلوا بهذا الجبل، فإن لقيته فأقرئه مني السلام، فخرج سعد في أربعة آلاف من المهاجرين والأنصار حتى نزلوا ذلك الجبل، ومكث أربعين يومًا ينادي بالصلاة فلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 يجدون جوابًا ولا يسمعون خطابًا، خرجه في فضائله. وروي أن عمر بعث جندًا إلى مدائن كسرى وأمّر عليهم سعد بن أبي وقاص وجعل قائد الجيش خالد بن الوليد، فلما بلغوا شط الدجلة ولم يجدوا سفينة تقدم سعد وخالد فقالا: يا بحر إنك تجري بأمر الله, فبحرمة محمد -صلى الله عليه وسلم- وبعدل عمر خليفة رسول الله إلا خليتنا والعبور، فعبر الجيش بخيله وجماله إلى المدائن ولم تبتل حوافرها. وروي أنه قال يومًا وقد انتبه من نومه وهو يمسح عينيه: من ترى الذي يكون من ولد عمر يسير بسيرة عمر, يرددها مرارًا وأشار بذلك إلى عمر بن عبد العزيز وهو ابن بنت ابنه عاصم. وروي أنه قال لرجل من العرب: ما اسمك? قال: جمرة، قال: ابن من? قال: ابن شهاب، قال: ممن? قال: من الحرقة، قال: أين مسكنك؟ قال: الحرة، قال: فبأيها? قال: اللظى، قال عمر: أدرك أهلك فقد احترقوا، فسارع الرجل فوجدهم كما قال عمر. وعن علي -رضي الله عنه- أنه رأى في منامه كأنه صلى الصبح خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- واستند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المحراب، فجاءت جارية بطبق رطب فوضع بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخذ منها رطبة وقال: "يا علي, تأخذ هذه الرطبة?" فقلت: نعم يا رسول الله، فمد يده وجعله كذا في فمي، ثم أخذ أخرى وقال لي مثل ذلك فقلت: نعم فجعلها في فمي، فانتبهت وفي قلبي شوق إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحلاوة الرطب في فمي، فتوضأت وذهبت إلى المسجد فصليت خلف عمر واستند إلى المحراب، فأردت أن أتكلم بالرؤيا فمن قبل أن أتكلم جاءت امرأة ووقفت على باب المسجد ومعها طبق رطب فوضع بين يدي عمر فأخذ رطبة, وقال: تأكل من هذا يا علي? قلت: نعم، فجعلها في فمي, ثم أخذ أخرى وقال لي مثل ذلك فقلت: نعم، ثم أخذ أخرى كذلك ثم فرق على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 يمنة ويسرة وكنت أشتهي منه، فقال: يا أخي, لو زادك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلتك لزدناك، فعجبت وقلت: قد أطلعه الله على ما رأيت البارحة، فنظر وقال: يا علي المؤمن ينظر بنور الله، قلت: صدقت يا أمير المؤمنين هكذا رأيته، وكذا رأيت طعمه ولذته من يدك كما وجدت طعمه ولذته من يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم. ذكر رؤياه في الأذان: عن عبد الله بن زيد قال: لما أجمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يضرب بالناقوس وهو كارهموافقة النصارى, طاف بي من الليل وأنا نائم رجل وعليه ثوبان أخضران وفي يده ناقوس يحمله، قال: فقلت له: يا عبد الله أتبيع الناقوس? قال: وما تصنع به? قال: قلت: أدعو به إلى الصلاة، قال: أولا أدلك على خير من ذلك? فقلت: بلى؛ قال: تقول: الله أكبر الله أكبر وسرد الأذان إلى آخره، ولم يرجع التشهد فيه، قال: ثم تقول إذا قمت إلى الصلاة: الله أكبر الله أكبر وسرد الإقامة إلى آخرها، قال: فلما أصبحت أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته بما رأيت فقال صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الرؤيا حق إن شاء الله تعالى، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت؛ فإنه أندى صوتًا منك" فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه فسمع ذلك عمر وهو في بيته، فخرج يجر رداءه ويقول: والذي بعثك بالحق, لقد رأيت مثل الذي رأيت، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "فلله الحمد". خرجه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح، وخرجه ابن إسحاق. ذكر حسن نظره, وإصابة رأيه: تقدم في أحاديث الموافقات في خصائصه أعظم دليل على ذلك، وتقدم في ذكر علمه أحاديث ممزوجة بعلم ورأي استند إليه؛ فلذلك ضمناه إياها. وعن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري قال: حدثني أبي قال: كنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة غزاها فأصاب الناس مخمصة فاستأذن الناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نحر بعض ظهورهم، فهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يأذن لهم, فقال عمر بن الخطاب: أرأيت يا رسول الله إذا نحرنا ظهورنا ثم لقينا عدونا غدًا, ونحن جياع رجال? قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فما ترى يا عمر؟ " قال: أرى أن تدعو الناس ببقايا أزوادهم ثم تدعو فيها بالبركة، فإن الله -عز وجل- سيطعمنا بدعوتك إن شاء الله تعالى, قال: فكأنما كان على رسول الله غطاء فكشف، قال: فدعا بثوب ثم أمر به فبسط، ثم دعا بالناس ببقايا زادهم قال: فجاءوا بما كان عندهم قال: من الناس من جاء بالحفنة من الطعام أو الحثية، ومنهم من جاء بمثل البيضة قال: فأمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوضع على ذلك الثوب، ثم دعا فيه بالبركة ثم تكلم بما شاء الله -عز وجل- ثم نادى في الجيش ثم أمرهم فأكلوا وأطعموا وملئوا بنيتهم ومزاودهم, ثم دعا بركوة فوضعت بين يديه ثم دعا بشيء من ماء فصب فيها ثم مج فيها وتكلم بما شاء الله أن يتكلم به وأدخل كفيه فيها، فأقسم بالله لقد رأيت أصابع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تتفجر بينابيع الماء, ثم أمر الناس فشربوا وملئوا قربهم وأدواتهم قال: ثم ضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه ثم قال: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، لا يلقى الله بها أحد إلا دخل الجنة" متفق على صحته، وهذا السياق لتمام في فوائده. وعن ابن عباس أن عمر خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، قال ابن عباس: فقال لي عمر: ادع لي المهاجرين الأولين فدعوتهم, فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا، فقال بعضهم: خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي الأنصار فدعوتهم, فاستشارهم فسلكوا سبيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 المهاجرين واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني ثم قال: ادع لي من كان ههنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح, فدعوتهم فلم يختلف عليه منهم رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه فقال أبو عبيدة: أفرارًا من قدر الله تعالى? فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة -وكان عمر يكره خلافه- نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل فتهبطت واديًا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبًا في بعض حاجته فقال: إن عندي من هذا علمًا, سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه" قال: فحمد الله عمر وانصرف، وفي رواية: فسار حتى أتى المدينة فقال: هذا المحل وهذا المنزل إن شاء الله تعالى، أخرجاه. "شرح" سرغ بسكون الراء وفتحها: قرية بوادي تبوك من طريق الشام، وقيل: على ثلاث عشرة مرحلة من المدينة. وعن أبي موسى قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعي نفر من قومي فقال: "أبشروا وبشروا من وراءكم أنه من شهد أن لا إله إلا الله صادقًا بها, دخل الجنة" فخرجنا من عند النبي -صلى الله عليه وسلم- نبشر الناس, فاستقبلنا عمر بن الخطاب فرجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال عمر: يا رسول الله, إذن يتكل الناس، فسكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم, خرجه أحمد. وعن أبي هريرة قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فأعطاني نعليه وقال: "اذهب بنعلي هاتين, فمن لقيته من وراء الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه، فبشره بالجنة" فكان أول من لقيت عمر فقال: ما هاتان النعلان يا أبا هريرة? فقلت: هاتان نعلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثني بها, منلقيته يشهد أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه بشرته بالجنة، فضرب بيده بين ثديي فخررت لاستي. فقال: ارجع يا أبا هريرة, فرجعت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأجهشت بالبكاء وركبني عمر فإذا هو على أثري فقلت: لقيت عمر وأخبرته بالذي بعثتني به فضرب بين صدري ضربة خررت لاستي وقال: ارجع, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا عمر, ما حملك على ما صنعت?" فقال: يا رسول الله أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه بشرته بالجنة? قال: "نعم" قال: فلا تفعل فإني أخاف أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملوا, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فخلهم" خرجه أحمد ومسلم. وإقراره -صلى الله عليه وسلم- دليل على تصويب رأيه واجتهاده. وعن أبي رمثة قال: صليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد كان معه رجل قد شهد التكبيرة الأولى من الصلاة، فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم سلم, فقام الرجل الذي أدرك معه التكبيرة الأولى يشفع، فوثب عمر إليه فأخذ بمنكبه فهزه ثم قال: اجلس فإنه لم يهلك أهل الكتاب إلا أنه لم يكن بين صلاتهم فصل، فرفع النبي -صلى الله عليه وسلم- بصره وقال: "أصاب الله بك يابن الخطاب" أخرجه أبو داود في باب الرجل يتطوع في مكانه الذي صلى فيه المكتوبة. ذكر قضائه على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم: عن ابن عمر, قال عثمان: ما يمنعك من القضاء وقد كان أبوك يقضي على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: لست أنا كأبي ولست أنت كرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أبي إذا أشكل القضاء سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- وإذا أشكل على النبي -صلى الله عليه وسلم- سأل جبريل, ما أرجو بالقضاء وقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من قضى بجهالة أو تكلف لقي الله كافرًا، ومن قضى فخاف متعمدًا لقي الله كافرًا، ومن قضى بنية وفقه واجتهاد فذلك لا له ولا عليه" قال عثمان: ما أحب أن تحدث قضاتنا فتفسدهم علينا, خرجه أبو بكر الهاشمي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 ذكر وقوفه عند كتاب الله, واقتفائه آثار النبوة وإيثاره لها, وكثرة اتباعه للسنة: عن ابن عباس قال: استأذن الحر بن قيس بن حصن لعمه عيينة بن حصن على عمر فأذن له، فلما دخل قال: يابن الخطاب والله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى همّ أن يوقع به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين إن الله -عز وجل- قال لنبيه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر حتى قرأها عليه, وكان وقافًا عند كتاب الله, خرجه البخاري. وعن عمر قال: سمعني النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا أقول: وأبي, فقال: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم" قال عمر: فأحلف بها ذاكرًا لا آثرًا, أخرجاه. وعن ابن عمر أنه قيل لعمر وقد أصيب: ألا تستخلف؟ فقال: إن أستخلف, فقد استخلف من هو خير مني -يعني أبا بكر- وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني -يعني رسول الله, صلى الله عليه وسلم- فعرفت حين ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه غير مستخلف، أخرجاه، وخرجه أبو معاوية. وعنه قال: قبّل عمر الحجر ثم قال: أما والله قد علمت أنك حجر, ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك، أخرجاه, وقال النسائي: قبله ثلاثًا وقال البخاري: حجر لا تضر ولا تنفع, ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استلمك ما استلمتك، فاستلمه ثم قال: ما لنا وللرمل؟ إنما كنا رأينا به المشركين وقد أهلكهم الله، ثم قال: شيء صنعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا نحب أن نتركه. وفي رواية ابن غفلة: أن عمر قبل الحجر وقال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بك حفيًّا أي: معتنيًا، وجمعه: أحفياء. وعن يعلى بن أمية أنه طاف مع عمر فاستلم الأركان كلها, فقال عمر: أما رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- قد طاف بالبيت? قال: نعم, قال: رأيته يستلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 الحجر الأسود؟ قال: لا, قال: فما لك به أسوة? قال: بلى. أخرجه الحسين القطان. وعن ابن عمر قال: كان عمر يهلّ بإهلال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمة لك والملك, لا شريك لك, لبيك وسعديك والخير في يديك, والرغبى إليك والعمل. خرجه النسائي. وعن شرحبيل بن السمط قال: رأيت عمر صلى بذي الحليفة ركعتين فقلت له فقال: إنما أفعل كما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعل. خرجه مسلم. وعن مصعب بن سعيد قال: قالت حفصة لعمر: يا أمير المؤمنين لو لبست ثوبًا هو ألين من ثوبك, وأكلت طعامًا أطيب من طعامك؛ فقد وسع الله من الرزق وأكثر من الخبز؟ فقال: إني سأخاصمك إلى نفسك، أما تذكرين ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلقى من شدة العيش? فما زال يذكرها حتى أبكاها، فقال: أما والله لأشاركنهما في مثل عيشهما الشديد, لعلي أدرك عيشهما الرخي. خرجه في الصفوة. وفي رواية أنه قال: يا بنية, كيف رأيت عيش رسول الله -صلى الله عليه وسلم? قالت: والله يقيم الشهر لا يوقد في بيته سراج ولا يغلى له قدر، ولقد كانت له عباءة يجعلها غطاء ووطاء، قال: فكيف كان عيش صاحبه? قالت: مثل ذلك، قال: فما تقولين في ثلاثة أصحاب مضى اثنان على طريقة واحدة وخالفهما الثالث, أفيلحق بهما? قالت: لا، قال: فأنا ثالث ثلاثة, ولا أزال على طريقتهما حتى ألحق بهما. وعن عبد الله بن عباس قال: كان للعباس ميزاب على طريق عمر، فلبس عمر ثيابه يوم الجمعة وقد كان ذبح للعباس فرخان، فلما وافى الميزاب صب ماء بدم الفرخين فأصاب عمر فأمر عمر بقلعه، ثم رجع عمر فطرح ثيابه ولبس ثيابًا غير ثيابه ثم جاء فصلى بالناس، فأتاه العباس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 وقال: والله إنه للموضع الذي وضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال عمر للعباس: وأنا أعزم عليك لما1 صعدت على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ففعل ذلك العباس، خرجه أحمد. وعن مسلم قال: قلت لعمر: إن في الظهر ناقة عمياء فقال عمر: ادفعها إلى أهل بيت ينتفعون بها، قلت: إنها عمياء قال: يقطرونها بالإبل، قال: قلت: كيف تأكل من الأرض? قال: أمن نعم الجزية أم من نعم الصدقة? قال: بل من نعم الجزية قال عمر: أردتم والله أكلها، فأمر عمر فأتي بها فنحرت، قال: وكان عنده صحاف تسع، فلا تكون فاكهة وطرفة إلا جعل منها في تلك الصحاف، وبعث بها إلى أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان الذي يبعث به إلى حفصة من آخر ذلك، فإن كان فيه نقصان كان في حق حفصة، فجعل في تلك الصحاف من لحم تلك الجزور وبعث به إلى أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم أمر بما بقي من اللحم فصنع فدعا عليه المهاجرين والأنصار، فقال العباس: يا أمير المؤمنين, لو صنعت لنا كل يوم مثل هذا لكان حسنًا، رب طاوية كشحًا لا تحتفل بها أنت ولا صاحبك، ثم قال عمر: لا أعود لمثلها أبدًا, إنه مضى لي صاحبان عملا عملًا وسلكا طريقًا, إني إن عملت بغير عملهما سلك بي غير طريقهما. خرجه القلعي. وعن ابن عمر قال: لبس عمر قميصًا جديدًا ثم دعا بالشفرة ثم قال: مد يا بني كم القميص, والزق يدك بأطراف أصابعي ثم اقطع، قال: فقطعت ما قال, فصار كم القميص بعضه على بعض فقلت: يا أبت لو سويته بالمقص? فقال: يا بني دعه, فهكذا رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعل، قال: فما زال عليه حتى تقطع، وربما كانت الخيوط تنشر على قدميه منه. خرجه الملاء في سيرته.   1 إلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 وعن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: جلست مع شيبة على الكرسي في الكعبة فقال: لقد جلس هذا المجلس عمر فقال: لقد هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمته، قلت: إن صاحبيك لم يفعلا، قال: هما المرءان أقتدي بهما، وفي لفظ: هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمته بين المسلمين فقلت: ما أنت بفاعل قال: لم? قلت: لم يفعله صاحباك قال: هما المرءان يقتدى بهما. أخرجاه وأخرجه ابن ماجه ولفظه: قال عمر: لا أخرج حتى أقسم مال الكعبة بين فقراء المسلمين، قلت: ما أنت بفاعل، قال: لم? قلت: لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى مكانه وأبا بكر وهما أحوج إلى المال فلم يخرجاه، فقام هو فخرج. وعن ابن عمر أن عمر بينما هو قائم يخطب يوم الجمعة إذ دخل رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- من المهاجرين الأولين, فنادى عمر: أية ساعة هذه? فقال: إني شغلت اليوم فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين, فلم أزد على أن توضأت، فقال عمر: والوضوء أيضًا وقد علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأمر بالغسل. أخرجه البخاري. وعن السائب بن زيد أن عمر بن الخطاب قال لابن السعدي: ما مالك? قال: فرسان وعبدان وبغلان أغزو بهن ومزرعة آكل منها، فأعطاه عمر ألف دينار فقال: خذ هذه فاستنفقها، فقال ابن السعدي: إنه لا حاجة لي إليها وستجد يا أمير المؤمنين من هو أحوج إليها مني، فقال عمر: بلى فخذها فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعاني إلى مثل ما دعوتك إليه فقلت له مثل الذي قلت فقال: "يا عمر، ما جاءك الله به من رزق غير متشوفة إليه نفسك ولا سائلة فاقبله فاستنفقه, فإن استغنيت عنه فتصدق به, وما لم يأتك فدعه" خرجه ابن السباق الحافظ السلفي، ومعناه في الصحيح، وعن أسلم أن عمر فضل أسامة بن زيد على ابنه عبد الله بن عمر فلم يزل الناس بعبد الله حتى كلم أباه في ذلك فقال: تفضل علي من ليس أفضل مني وفرضت له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 في ألفين وفرضت لي في ألف وخمسمائة, ولم يسبقني إلى شيء? فقال عمر: فعلت ذلك؛ لأن زيدًا كان أحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عمر, وكان أسامة أحب إلى رسول الله من عبد الله. أخرجه القلعي. وعن ابن عباس قال: لما فتح الله المدائن على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أيام عمر أمرهم بالأنطاع فبسطت في المسجد، وأمر بالأموال فأفرغت عليها، ثم اجتمع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأول من بدر إليه الحسن بن علي فقال: يا أمير المؤمنين أعطني حقي مما أفاء الله على المسلمين، فقال: بالرحب والكرامة, وأمر له بألف درهم ثم انصرف، فبدر إليه الحسين بن علي فقال: يا أمير المؤمنين أعطني حقي مما أفاء الله على المسلمين فقال: بالرحب والكرامة وأمر له بألف درهم، فبدر إليه ابنه عبد الله بن عمر فقال: يا أمير المؤمنين، أعطني حقي مما أفاء الله على المسلمين فقال له: بالرحب والكرامة وأمر له بخمسمائة درهم, فقال: يا أمير المؤمنين أنا رجل مشتد, أضرب بالسيف بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والحسن والحسين طفلان يدرجان في سكك المدينة، تعطيهم ألفًا وتعطيني خمسمائة? قال: نعم, اذهب فأتني بأب كأبيهما وأم كأمهما وجد كجدهما وجدة كجدتهما وعم كعمهما وخال كخالهما فإنك لا تأتيني به، أما أبوهما فعلي المرتضى وأما أمهما ففاطمة الزهراء وجدهما محمد المصطفى وجدتهما خديجة الكبرى، وعمهما جعفر بن أبي طالب وخالهما إبراهيم ابن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخالتاهما رقية وأم كلثوم ابنتا رسول الله -صلى الله عليه وسلم. خرجه ابن السمان في الموافقة ومما يلتحق بهذا الذكر: ذكر صلته أقارب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعرفته حقهم: عن الزهري قال: كان عمر إذا أتاه مال العراق أو خمس العراق، لم يدع رجلًا من بني هاشم عزبًا إلا زوجه، ولا رجلًا ليس له خادم إلا أخدمه. خرجه ابن البختري الرزاز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 وعن محمد بن علي قال: قدمت على عمر حلل من اليمن، فقسمها ما بين المهاجرين والأنصار ولم يكن فيها شيء يصلح على الحسن والحسين، فكتب إلى صاحب اليمن أن يعمل لهما على قدرهما, ففعل وبعث بهما إلى عمر فلبساها، فقال عمر: لقد كنت أراها عليهم, فما يهنيني حتى رأيت عليهما مثلها. وعن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- قال: أتيت على عمر بن الخطاب وهو على المنبر فصعدت إليه فقلت له: انزل عن منبر أبي، واذهب إلى منبر أبيك، فقال عمر: ليس لأبي منبر وأخذني فأجلسني معه، فجعلت أقلب حصًا بيدي، فلما نزل انطلق بي إلى منزله فقال لي: من علمك? فقلت: والله ما علمني أحد، فقال: يا بني لو جعلت تغشانا, فأتيته يومًا وهو خال بمعاوية وابن عمر بالباب، فرجع ابن عمر فرجعت معه، فلقيني بعد قال: لم أرك، فقلت: يا أمير المؤمنين إني جئت وأنت خال بمعاوية وابن عمر في الباب فرجع ابن عمر فرجعت معه، قال: أنت أحق بالإذن من ابن عمر، إن ما أنبت ما في رءوسنا الله -عز وجل- ثم أنتم، خرجه ابن السمان والجوهري. وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: لما دون عمر الدواوين قال: بمن نبدأ? قلنا: ابدأ بنفسك يا أمير المؤمنين، فبدأ ببني هاشم وفرض للحسن والحسين خمسمائة خمسمائة. وفي رواية: قلنا: ابدأ بنفسك فإنك الإمام، فقال: بل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الإمام, فابدءوا برهطه الأقرب فالأقرب. وفي رواية: لما دون عمر الديوان وكله لأبي زيد بن ثابت فقال له: أبدأ بمن يا أمير المؤمنين? فقال: برهط النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم بالأقرب فالأقرب منهم. وعن عبيد بن حنين قال: جاء الحسن والحسين يستأذنان على عمر وجاء عبد الله بن عمر فلم يؤذن لعبد الله فرجع، قال: فقال الحسن أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 أو الحسين: إذا لم يؤذن لعبد الله لا يؤذن لنا، فبلغ عمر فأرسل إليه فقال: يابن أخي ما أدراك? قال: قلت: إذا لم يأذن لعبد الله بن عمر لم يؤذن لي، قال: يابن أخي, فهل أنبت الشعر على الرأس غيركم. خرجهما ابن السمان في الموافقة. ذكر محافظته على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم: تقدم في الموافقات من خصائصه طرف من ذلك. وعن ابن أبي نجيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الذي يحافظ على أزواجي بعدي فهو الصادق البار" فقال عمر: من يحج مع أمهات المؤمنين? فقال عبد الرحمن: أنا, فكان يحج بهن وينزلهن الشعب الذي ليس فيه منفذ, ويجعل على هوادجهن الطيالسة. وعن أبي وائل أن رجلًا كتب إلى أم سلمة يخرج عليها في حق له, فأمر عمر بن الخطاب فجلده ثلاثين جلدة، خرجه سفيان بن عيينة. وعن المنذر بن سعد أن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- استأذنّ عمر في الحج فأبى أن يأذن لهن حتى أكثرن عليه فقال: سآذن لكن بعد العام وليس هذا من رأيي، فقالت زينب بنت جحش: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول عام حجة الوداع: "إنما هو هذه الحجة ثم الحصر" فخرجهن غيرها فأرسل معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وأمرهما أن يسير أحدهما بين أيديهن والآخر خلفهن ولا يسايرهن أحد، ثم أمرهما إذا طفن بالبيت لا يطوف معهن أحد إلا النساء، فلما هلك عمر غلبن من بعده، أخرجه سعيد في سننه. وقد ورد أنه كان يحج بالناس كل عام, فيحتمل أن يكون أمر عثمان وعبد الرحمن بتولي أمرهن لشغله هو بأمر العامة, فخاف من التقصير في حقهن، ويدل هذا على ما رواه البخاري عن إبراهيم عن أبيه أن عمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 أذن لأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- في آخر حجة حجها يعني في الحج, وبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف قال البرقاني: إبراهيم هذا هو إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. قال الحميدي: وفيه نظر، ولم يذكر ابن مسعود في الأطراف. ذكر غضبه لغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغمه لغمه على انبساطه وتألمه لتألمه وبكائه لرقة حاله: تقدم في الخصائص في الموافقة الخامسة وغيرها طرف من ذلك عن عمر قال: كنا معشر قريش نغلب نساءنا, فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم فغضبت يومًا على امرأتي فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني, فقالت: ما تنكر أن أراجعك، فوالله إن أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يراجعنه وتهجره إحداهن اليوم حتى الليل، فدخلت على حفصة فقلت: أتراجعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتهجره إحداكن اليوم حتى الليل? قالت: نعم، قلت: قد خاب من فعل ذلك منكن، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله لغضب رسوله -صلى الله عليه وسلم- فإذا هي قد هلكت, لا تراجعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا تسأليه شيئًا واسأليني ما بدا لك، ولا تغرنك جارتك إن كانت هي أوسم منك وأحب إلى رسول الله -يريد عائشة- قال: ثم قيل: طلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نساءه فقلت: قد خابت حفصة إذًا وخسرت، كنت أظنه يوشك أن يكون، فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت: أطلقكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم? قالت: لا أدري، هو ذا معتزل في المشربة، فأتيت غلامًا أسود فقلت: استأذن لعمر, فدخل ثم خرج قال: قد ذكرتك، فقمت فانطلقت حتى أتيت المنبر فإذا عنده رهط جلوس فجلست قليلًا ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر فدخل ثم خرج فقال: قد ذكرتك، فصمت فوليت مدبرًا فإذا الغلام يدعوني فقال: ادخل فقد أذن لك، فدخلت فسلمت على النبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 -صلى الله عليه وسلم- فإذا هو متكئ على رمال حصير قد أثر في جنبه، فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك? فرفع رأسه إلي وقال: "لا" فقلت: الله أكبر, لو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم, فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم فعتبت على امرأتي يومًا فإذا هي تراجعني, فأنكرت أن تراجعني فقالت: ما تنكر أن أراجعك، وإن نساء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم حتى الليل, فقلت: قد خابت من فعلت ذلك منهن وخسرت، أفتأمن إحداهن أن يغضب الله لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت, فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله, فدخلت على حفصة وقلت لها: لا تغرنك جارتك إن كانت هي أوسم منك وأحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتبسم أخرى، فقلت: أستأنس برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "نعم" فجلست فرفعت رأسي في البيت, فوالله ما رأيت فيه شيئًا يرد البصر إلا أهبا ثلاثة، فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يوسع على أمتك, فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالسًا وقال: "أفي شاك أنت يابن الخطاب? أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا" أخرجاه. وفي روية: أن عمر قال عند الاستئذان في إحدى المراتب: يا رباح استأذن, فإني أظن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يظن أني جئت من أجل حفصة، والله إن أمرني أن أضرب عنقها لأضربن عنقها، قال: فرفعت صوتي وإنه أذن لي عند ذلك، وفيها أنه رأى الغضب في وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يزل يحدثه حتى انحسر الغضب عن وجهه وحتى كشر فضحك، وكان من أحسن الناس ثغرًا. وعن أبي حميد الساعدي قال: استلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تمرًا لونًا من رجل, فلما جاءه يتقاضاه قال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "ليس عندنا اليوم, وإن شئت أخرت عنا حتى يأتينا شيء فنقضيك" فقال الرجل: وا غدراه! فتذمر عمر فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "دعه يا عمر, فإن لصاحب الحق مقالًا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 خرجه الطبراني. تذمر أي: توعد, وتذامر القوم: إذا حث بعضهم بعضًا على القتال. ذكر أدبه مع النبي -صلى الله عليه وسلم: تقدم في باب الشيخين طرف منه. وعن ابن عمر أنه كان مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر على بكر صعب لعمر، وكان يتقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول أبوه: يا عبد الله, لا يتقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- أحد. خرجه البخاري. وعن أنس قال: خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- يتبرز فلم يجد أحدًا يتبعه، فهرع عمر فاتبعه بمطهرة فدخل النبي -صلى الله عليه وسلم- في شربة فتنحى عمر خلفه حتى رفع رأسه فقال: "أحسنت, قد أحسنت يا عمر حين وجدتني ساجدًا فتنحيت عني، إن جبريل -عليه السلام- أتاني فقال: من صلى عليك من أمتك واحدة صلى الله عليه بها عشرًا, ورفع له بها عشر درجات" خرجه الطبراني. الشربة -بالتحريك: حويض يتخذ حول النخلة لتروى منه. وخرجه الأنصاري أيضًا. ذكر محبته للنبي -صلى الله عليه وسلم: عن عبد الله بن هشام قال: كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر: يا رسول الله, لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده, حتى أكون أحب إليك من نفسك" فقال له عمر: فإنه الآن، والله لأنت أحب إليَّ من نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر". أخرجاه. ذكر قوة إيمانه, وثباته عليه حيًّا وميتًا: عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر فتاني القبور فقال عمر: أترد إلينا عقولنا يا رسول الله? فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "نعم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 كهيئتكم اليوم" فقال عمر: بفيه الحجر. خرجه أحمد. وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا وضع الرجل في قبره أتاه منكر ونكير، وهما ملكان فظان غليظان أسودان أزرقان, ألوانهما كالليل الدامس, أصواتهما كالرعد القاصف, عيونهما كالشهب الثواقب, أسنانهما كالرماح يسحبان بشعورهما على الأرض, بيد كل واحد منهما مطرقة لو اجتمع الثقلان الجن والإنس لم يقدروا على حملها, يسألان الرجل عن ربه وعن نبيه وعن دينه" فقال عمر بن الخطاب: أيأتيانني وأنا ثابت كما أنا? قال: "نعم" قال: فسأكفيكهما يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "والذي بعثني بالحق نبيًّا, لقد أخبرني جبريل أنهما يأتيانك فتقول أنت: الله ربي فمن ربكما? ومحمد نبيي فمن نبيكما? والإسلام ديني فما دينكما? فيقولان: وا عجباه!! ما ندري نحن أرسلنا إليك, أم أنت أرسلت إلينا?" خرجه عبد الواحد بن محمد بن علي المقدسي في كتابه التبصير, وخرج الحافظ أبو عبد الله القاسم الثقفي عن جابر من أوله إلى ذكر السؤال وقال: فقال عمر: يا رسول الله أية حال أنا يومئذ? قال: "على حالك" قال: إذن أكفيكهما، ولم يذكر ما بعده. وخرج سعيد بن منصور معناه، ولفظه: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أنا محمد بن علوان بن علقمة قال: حدثني أصحابنا قالوا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمر: "كيف بك إذا جاءك منكر ونكير يسألانك؟ صوتهما مثل الرعد القاصم وأبصارهما مثل البرق الخاطف, يطئان في أشعارهما ويبحثان بأنيابهما" فقال: يا رسول الله, أنبعث على ما متنا عليه? قال: "نعم, إن شاء الله تعالى" قال: إذن أكفيكهما. ذكر اعتقاد الصحابة قوة إيمانه: عن أبي سعيد الخدري قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحدثنا عن الدجال أنه يسلط على نفس يقتلها ثم يحييها فيقول: ألست بربك? فيقول: ما كنت قط أكذب منك الساعة، قال: فما كنا نراه إلا عمر بن الخطاب حتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 مات أو قتل، خرجه أبو حفص عمر بن شاهين في السداسيات. ذكر شدته في دين الله, وغلظته على من عصى الله: وقد تقدم في فصل إسلامه, ثم في فصل خصائصه طرف جيد من ذلك. عن عمر قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستمعت لقراءته, فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكدت أساوره في الصلاة، فتربصت حتى سلم فلببته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرؤها? قال: أقرأنيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: كذبت، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله، سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على أحرف لم تقرئنيها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أرسله، اقرأ يا هشام" فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرؤها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت" ثم قال صلى الله عليه وسلم: "اقرأ يا عمر" فقرأت القراءة التي أقرأني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "هكذا أنزلت, إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف, فاقرءوا ما تيسر منه". أخرجاه. "شرح" أساوره: أواثبه، ويقال: إن لغضبه لسورة, وإن لسوار أي: وثاب, والتلبيب تقدم في إسلام عمر. وعن ابن عمر أن غلامًا قُتل غيلة فقال عمر: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم. وعن منيرة بن حكيم أن أربعة قتلوا صبيًّا فقال عمر مثاله. أخرجه البخاري. وعن العباس بن عبد المطلب أنه لما كان يوم فتح مكة ونزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمر الظهران قال: وا صباح قريش! والله لئن دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر، قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 فجلست على بغلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البيضاء, فخرجت عليها حتى جئت لأراك فقلت: لعلي أجد بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة فيأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخل عليهم عنوة قال: والله إني لأسير عليها, وألتمس ما خرجت له إذ سمعت كلام أبي سفيان بن حرب وبديل بن ورقاء يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليل نيرانا قط ولا عسكرًا، قال: فيقول بديل: هذه والله خزاعة حمشتها الحرب، قال: يقول أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها، قال: فعرفت صوته فقلت: يا أبا حنظلة! فعرف صوتي فقال: أبو الفضل؟ قال: قلت: نعم، قال: ما لك, فداك أبي وأمي؟ قال: قلت: ويحك يا أبا سفيان، هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الناس وا صباح قريش والله، قال: فما هذه الحيلة فداك أبي وأمي؟ قال: قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأستأمنه لك، قال: فركب خلفي ورجع صاحبه، قال: فجئت به فكلما مررت بنار من المسلمين قالوا: من هذا? فإذا رأوا بغلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا عليها قالوا: عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على بغلته، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال: من هذا وقام إلي، رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان عدو الله، الحمد الله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء، فاقتحمت عن البغلة فدخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودخل عليه عمر فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد فدعني أضرب عنقه، قال: قلت: يا رسول الله إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخذت برأسه فقلت: والله لا يناجيه الليلة دوني رجل، فلما أكثر عمر في شأنه قلت: مهلًا يا عمر، والله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت هذا, ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف، فقال: مهلًا يا عباس, فوالله لإسلامك يوم أسلمت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 كان أحب إليَّ من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من إسلام الخطاب قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به" فذهبت به إلى رحلي فبات عندي، فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عرض عليه الإسلام فتلكأ، فقال له العباس: ويحك, أسلم قبل أن يضرب عنقك، قال: فشهد شهادة الحق وأسلم. خرجه ابن إسحاق. "شرح" حمشتها الحرب -بالمهملة- أي: ساقتها بغضب، ومنه حديث أبي دجانة: "رأيت إنسانًا يحمش الناس" أي: يسوقهم بغضب، قال المديني: وأحمشته: أغضبته، قال الجوهري: قال بعضهم: يقال: حمش النسر اشتد وأحمشته أنا، وأحمشت النار: ألهبتها. وعن جابر قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار فقال الأنصاري: يا للأنصار وقال المهاجر: يا للمهاجرين فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما بال دعوتي الجاهلية؟ " قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال: "دعوها؛ فإنها منتنة" فسمعها عبد الله بن أبي فقال: قد فعلوها، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، قال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: "دعه, يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه" أخرجه مسلم. وعن عروة بن الزبير قال: تذاكر صفوان وعمير أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان: والله إن1 في العيش خير بعدهم، قال عمير: صدقت والله، أما والله لولا دين علي ليس عندي له قضاء، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي في   1 إن: نافية بمعنى ما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 قتلهم علة، ابني أسير في أيديهم، فاغتنمها صفوان فقال: علي دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا، ولا يسعني شيء ويعجز عنهم، قال له عمير: فاكتم عني شأني وشأنك، قال: أفعل، ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له وسم، ثم انطلق به حتى قدم المدينة، فبينما عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون في يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله تعالى به، إذ نظر إلى عمير بن وهب حين أناخ على باب المسجد متوشحًا السيف فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب ما جاء إلا لشر، وهو الذي حرش بيننا وحزرنا للقوم يوم بدر، ثم دخل عمر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا نبي الله هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحًا سيفه، قال: "فأدخله علي" قال: فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلببه بها، وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاجلسوا عنده واحذروا عليه ذلك الخبيث فإنه غير مأمون، ثم دخل به على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه، قال: "أرسله يا عمر, ادن يا عمير" فدنا ثم قال: أنعموا صباحًا -وكانت تحية أهل الجاهلية- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير, بالسلام 1 تحية أهل الجنة" قال: أما والله إن كنت يا محمد بهذا الحديث عهد، قال: "فما جاء بك يا عمير؟ " قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه، قال: "فما بال السيف في عنقك?" قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئًا? قال: "اصدقني, ما الذي جئت له?" قال: ما جئت إلا لذلك، قال: "بلى, قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر, فذكرتم أصحاب القليب من قريش ثم قلت: لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدًا،   1 لعل المسلم بذلك يحرص على تحية الإسلام -السلام- عند تحيته لأخيه المسلم، ويعدل عن مثل: نهارك سعيد، أو مساء الخير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 فتحمل صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني له، والله1 حائل بينك وبين ذلك" قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم أن ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام وساقني هذا المساق، ثم تشهد بشهادة الحق. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فقهوا أخاكم في دينه, وأقرئوه القرآن, وأطلقوا له أسيره" ثم قال: يا رسول الله, إني كنت جاهدًا على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله، وأنا أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله -عز وجل- وإلى الإسلام لعل الله يهديهم، وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أؤذي أصحابك في دينهم، قال: فأذن له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلحق بمكة وكان صفوان يسأل عنه الركبان فلما أخبره بإسلامه حلف أن لا يكلمه ولا ينفعه أبدًا. خرجه ابن إسحاق وقال: فأقام عمير بمكة يدعو إلى الإسلام ويؤذي من خالفه أذى شديدًا, فأسلم على يديه ناس كثير. وعن ابن مسعود قال: بينما نحن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نمشي إذ مر بصبيان يلعبون فيهم ابن الصياد فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تربت يداك، أتشهد أني رسول الله؟ " فقال هو: أتشهد أني رسول الله? قال: فقال عمر: يا رسول الله دعني فلأضربن عنقه، قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن يكن الذي يخاف فلن تستطيعه" خرجه أحمد وخرجه أيضًا مسلم بزيادة ولفظه: قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمررنا بصبيان فيهم ابن الصياد، ففر الصبيان وجلس ابن الصياد، فكأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كره ذلك، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "تربت يداك، أتشهد أني رسول الله؟ " فقال: لا, بل أتشهد أنت أني رسول الله? فقال عمر بن الخطاب: ذرني يا رسول الله حتى أقتله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن يكن الذي يرى, فلن تستطيع قتله".   1 حقًّا, فالله تعالى قد قال له -صلى الله عليه وسلم: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 وعن ابن عباس قال: كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة، فأطلع الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- على ذلك, فبعث عليا والزبير في أثر الكتاب فأدركا امرأة على بعير فاستخرجاه من قرونها فأتيا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأرسل إلى حاطب فقال: "يا حاطب أنت كتبت هذا الكتاب؟ " قال: نعم يا رسول الله قال: "فما حملك على ذلك?" فقال: يا رسول الله أما والله إني لناصح لله ولرسوله, ولكني كنت غريبًا في أهل مكة وكان أهلي بين ظهرانيهم وخشيت عليهم, فكتبت كتابًا لا يضر الله ورسوله شيئًا، وعسى أن يكون منفعة لأهلي، قال عمر: فاخترطت سيفي ثم قلت: أمكني من حاطب فإنه قد كفر, فأضرب عنقه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يابن الخطاب ما يدريك, لعل الله قد اطلع على هذه العصابة من أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم, فقد غفرت لكم". خرجه مسلم. وفي لفظ فقال: ما فعلت ذلك ارتدادًا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن هذا صدقكم" فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب، الحديث، إلى قوله: "فقد غفرت لكم" وزاد: فنزلت فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} . أخرجاه1، وابن حبان واللفظ له. وعن أبي سعيد الخدري قال: بينما نحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقسم قسمًا, إذ أتاه ذو الخويصرة -وهو رجل من بني تميم- فقال: يا رسول الله اعدل، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ويلك!! من يعدل إذا لم أعدل? قد خبت وخسرت إن لم أعدل" فقال عمر: يا رسول الله ائذن لي فيه أضرب عنقه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "دعه فإن له أصحابًا, يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم, يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم, يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، فيهم رجل أسود إحدى   1 البخاري ومسلم, كما سبق بيان ذلك مرارًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر, يخرجون على خير فرقة من الناس". قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأشهد أن عليا قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتمس فوجد، فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي نعته. أخرجه مسلم. وعن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث شيبة بن عثمان إلى أمه: أن أرسلي لي بالمفاتيح -يعني مفاتيح الكعبة- فأبت ثم أرسل فأبت ثم أرسل فأبت وقالت: قتلت رجالنا وتذهب بمكرمتنا? فقال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه -أو قال: أقتله- قال: "لا" قال: فذهب الغلام -يعني شيبة- فقال لأمه: إن عمر أراد قتلي, فأرسلت بالمفاتيح، ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قذف بالمفاتيح بعدما قبضها إلى الغلام وقال: "اذهب بها إلى أمك". خرجه ابن مخلد. وعنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه يوم بدر: "إني قد عرفت أن رجالًا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهًا لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحدًا من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا يقتله, فإنه إنما أخرج مستكرهًا" قال: فقال أبو حذيفة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا, ونترك العباس? والله لئن لقيته لألجمنه السيف، ويقال: لألجمنه، قال: فبلغت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لعمر: "يا أبا حفص" قال عمر: والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأبي حفص, أيضرب وجه عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالسيف؟ قال عمر: يا رسول الله دعني فلأضربن عنقه بالسيف، فوالله لقد نافق، فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفًا إلا أن تكفرها عني الشهادة، فقتل يوم اليمامة شهيدًا. خرجه ابن إسحاق, وقال: إنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قتل أبي البختري؛ لأنه كان أكف القوم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو بمكة, وكان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شيء يكرهه. وعن عمرو بن العاص قال: بينا أنا في منزلي بمصر إذ قيل: هذا عبد الرحمن بن عمر وأبو سروعة يستأذنان عليك، فقلت: يدخلان, فدخلا وهما منكسران، فقالا: أقم علينا حد الله, فإنا أصبنا البارحة شرابًا وسكرنا. قال: فزجرتهما وطردتهما فقال عبد الرحمن: إن لم تفعله خبرت والدي إذا قدمت عليه، قال: فعلمت أني إن لم أقم عليهما الحد غضب علي عمر وعزلني، قال: فأخرجتهما إلى صحن الدار فضربتهما الحد، ودخل عبد الرحمن بن عمر ناحية إلى بيت في الدار فحلق رأسه وكانوا يحلقون من الحدود، ووالله ما كتبت لعمر بحرف مما كان حتى إذا كتابه جاءني فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم" من عند عبد الله عمر إلى العاص بن العاصي عجبت لك يابن العاص وجراءتك علي وخلافك عهدي, فما أراني إلا عازلك، تضرب عبد الرحمن في بيتك وتحلق رأسه في بيتك وقد عرفت أن هذا يخالفني، وإنما عبد الرحمن رجل من رعيتك تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين, ولكن قلت: هو ولد أمير المؤمنين وعرفت أنه لا هوادة لأحد من الناس عندي في حق، فإذا جاءك كتابي هذا فابعث به في عباءة على قتب حتى يعرف سوء ما صنع، فبعث به كما قال أبوه وكتب إلى عمر يعتذر إليه إني ضربته في صحن داري، والله الذي لا يحلف بأعظم منه إني لأقيم الحدود في صحن داري على المسلم والذمي، وبعث بالكتاب مع عبد الله بن عمر, فقدم بعبد الرحمن على أبيه فدخل وعليه عباءة ولا يستطيع المشي من سوء مركبه فقال: يا عبد الرحمن فعلت وفعلت!! فكلمه عبد الرحمن بن عوف وقال: يا أمير المؤمنين قد أقيم عليه الحد؛ فلم يلتفت إليه، فجعل عبد الرحمن يصيح ويقول: إني مريض وأنت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 قاتلي, قال: فضربه الحد ثانية وحبسه, فمرض ثم مات. وعن مجاهد قال: تذاكرنا الناس في مجلس ابن عباس, فأخذوا في فضل أبي بكر ثم في فضل عمر, فلما سمع ابن عباس ذكر عمر بكى بكاءً شديدًا حتى أغمي عليه فقال: رحم الله رجلًا قرأ القرآن وعمل بما فيه, وأقام حدود الله كما أمر، لا تأخذه في الله لومة لائم، لقد رأيت عمر وقد أقام الحد على ولده فقتله فيه، فقيل له: يابن عم رسول الله حدثنا كيف أقام عمر الحد على ولده? فقال: كنت ذات يوم في المسجد وعمر جالس والناس حوله, إذ أقبلت جارية فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال عمر: وعليك السلام ورحمة الله, ألك حاجة? فقالت: نعم خذ ولدك هذا مني، فقال عمر: إني لا أعرفك, فبكت الجارية وقالت: يا أمير المؤمنين إن لم يكن ولدك من ظهرك فهو ولد ولدك، فقال: أي أولادي? قالت: أبو شحمة، فقال: أبحلال أم بحرام? فقالت: من قبلي1 بحلال ومن جهته بحرام، قال عمر: وكيف ذاك? اتق الله ولا تقولي إلا حقا، قالت: يا أمير المؤمنين كنت مارة في بعض الأيام إذ مررت بحائط لبني النجار, إذ أتى ولدك أبو شحمة يتمايل سكرًا، وكان شرب عند نسيكة اليهودي، قالت: ثم راودني عن نفسي وجرني إلى الحائط, ونال مني ما ينال الرجل من المرأة وقد أغمي علي، فكتمت أمري عن أهلي وجيراني حتى أحسست بالولادة, فخرجت إلى موضع كذا وكذا ووضعت هذا الغلام وهممت بقتله ثم ندمت على ذلك، فاحكم بحكم الله بيني وبينه، فأمر عمر مناديًا فأقبل الناس يهرعون إلى المسجد, ثم قام عمر فقال: لا تتفرقوا حتى آتيكم، ثم خرج ثم قال: يابن عباس أسرع معي، فلم يزل حتى أتى منزله فقرع الباب وقال: ههنا ولدي أبو شحمة? فقيل له: إنه على الطعام   1 من جهتي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 فدخل عليه وقال: كل يا بني, فيوشك أن يكون آخر زادك. قال ابن عباس: فلقد رأيت الغلام وقد تغير لونه وارتعد وسقطت اللقمة من يده، فقال له عمر: يا بني من أنا؟ قال: أنت أبي وأمير المؤمنين، قال: فلي حق طاعة أم لا? قال: لك طاعتان مفترضتان؛ لأنك والدي وأمير المؤمنين، قال عمر: بحق نبيك وبحق أبيك هل كنت ضيفًا لنسيكة اليهودي, فشربت الخمر عنده فسكرت? قال: لقد كان ذلك، وقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "رأس مال المؤمن التوبة" قال: يا بني, أنشدك الله هل دخلت حائط بني النجار فرأيت امرأة فواقعتها? فسكت وبكى، قال عمر: يا بني اصدق فإن الله يحب الصادقين قال: قد كان ذلك وأنا تائب نادم، فلما سمع منه عمر قبض على يده ولببه وجره إلى المسجد فقال: يا أبت لا تفضحني وخذ السيف واقطعني إربًا إربًا، قال: أما سمعت قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 1 ثم خرجه وأخرجه إلى بين يدي الصحابة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد وقال: صدقت المرأة وأقر أبو شحمة بما قالت، وكان له مملوك يقال له: أفلح، فقال: يا أفلح, خذ ابني هذا إليك واضربه مائة سوط ولا تقصر في ضربه، فقال: لا أفعل وبكى، فقال: يا غلام إن طاعتي طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فافعل ما آمرك به، قال: فنزع ثيابه وضج الناس بالبكاء والنحيب وجعل الغلام يشير إلى أبيه: يا أبت ارحمني، فقال له عمر وهو يبكي: ربك يرحمك، وإنما أفعل هذا كي يرحمك ويرحمني، ثم قال: يا أفلح اضرب, فضربه وهو يستغيث وعمر يقول: اضربه حتى بلغ سبعين فقال: يا أبت اسقني شربة من ماء، فقال: يا بني إن كان ربك يطهرك فيسقيك محمد -صلى الله عليه وسلم- شربة لا تظمأ بعدها أبدًا، يا غلام اضربه, فضربه حتى بلغ ثمانين فقال: يا أبت السلام عليك، فقال: وعليك   1 سورة النور الآية: 2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 السلام إن رأيت محمدًا فأقرئه مني السلام وقل له: خلفت عمر يقرأ القرآن ويقيم الحدود، يا غلام اضربه فلما بلغ تسعين انقطع كلامه وضعف, فرأيت أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا: يا عمر انظر كم بقي فأخره إلى وقت آخر، فقال: كما لم تؤخر المعصية لا تؤخر العقوبة، وجاء الصريخ إلى مه فجاءت باكية صارخة وقالت: يا عمر أحج بكل سوط حجة ماشية وأتصدق بكذا وكذا درهما، فقال: إن الحج والصدقة لا ينوب1 عن الحد، يا غلام تمم الحد فضربه, فلما كان آخر سوط سقط الغلام ميتًا فصام وقال: يا بني محص الله عنك الخطايا، ثم جعل رأسه في حجره وجعل يبكي ويقول: يا بني من قتله الحق، يا بني من مات عن انقضاء الحد، يا بني من لم يرحمه أبوه وأقاربه، فنظر الناس إليه فإذا هو قد فارق الدنيا، فلم ير يوم أعظم منه، وضج الناس بالبكاء والنحيب، فلما كان بعد أربعين يومًا أقبل علينا حذيفة بن اليمان صبيحة يوم الجمعة فقال: إني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنام وإذ الفتى معه وعليه حلتان خضراوان فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أقرئ عمر مني السلام وقل له: هكذا أمرك الله أن تقرأ القرآن وتقيم الحدود" وقال الغلام: يا حذيفة, أقرئ أبي السلام وقل له: طهرك الله كما طهرتني والسلام. أخرجه شيرويه الديلمي في كتابه المنتقى. وخرجه غيره مختصرًا بتغيير اللفظ وقال فيه: لعمر ابن يقال له: أبو شحمة فأتاه يومًا فقال له: إني زنيت فأقم علي الحد، قال: زنيت? قال: نعم، حتى كرر عليه ذلك أربعًا، قال: وما عرفت التحريم? قال: بلى، قال: معاشر المسلمين خذوه، فقال أبو شحمة: معاشر المسلمين, من فعل فعلي في جاهلية أو إسلام فلا يحدني, فقام علي بن أبي طالب وقال لولده الحسن فأخذ بيمينه وقال لولده الحسين فأخذ بيساره, ثم ضربه ستة   1 لا ينوب شيء منهما من الحج والصدقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 عشر سوطًا فأغمي عليه ثم قال: إذا وافيت ربك فقل: ضربني الحد من ليس لك في جبينه حد، ثم قام عمر حتى أقام عليه تمام المائة السوط، فمات من ذلك فقال: أنا أوثر عذاب الدنيا على عذاب الآخرة، فقيل: يا أمير المؤمنين ندفنه من غير غسل ولا كفن كمن قتل في سبيل الله? قال: بل نغسله ونكفنه وندفنه في مقابر المسلمين؛ فإنه لم يمت قتيلًا في سبيل الله وإنما مات1. وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة وكان من أكبر بني عدي, وكان أبوه شهد بدرًا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: استعمل عمر قدامة بن مظعون على البحرين, وكان شهد بدرًا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو خال ابن عمر وحفصة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: قدم الجارود من البحرين فقال: يا أمير المؤمنين إن قدامة بن مظعون قد شرب مسكرًا، وإني إذا رأيت حدا من حدود الله حق علي أن أرفعه إليك، فقال له عمر: من يشهد على ما تقول? فقال: أبو هريرة، فدعا عمر أبا هريرة فقال: علام تشهد يا أبا هريرة? فقال: لم أره حين شرب، وقد رأيته سكران يقيء، فقال عمر: لقد تنطعت أبا2 هريرة في الشهادة، ثم كتب عمر إلى قدامة وهو بالبحرين يأمره بالقدوم عليه، فلما قدم قدامة والجارود بالمدينة كلم الجارود عمر فقال: أقم على هذا كتاب الله، فقال عمر: أشهيد أنت أم خصم? فقال الجارود: أنا شهيد، فقال: قد كنت أديت شهادتك، فسكت الجارود ثم قال: لتعلمن أني أنشدك الله، فقال عمر: أما والله لتملكن لسانك أو لأسوءنك، فقال الجارود: أما والله ما ذاك بالحق أن يشرب ابن عمك وتسوءني، فأوعده عمر. فقال أبو هريرة وهو جالس: يا أمير المؤمنين، إن كنت تشك في شهادتنا فسل بنت الوليد امرأة ابن مظعون، فأرسل عمر إلى هند ينشدها   1 بالحد؛ للتطهر من الذنب. 2 يا أبا هريرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 بالله فأقامت هند على زوجها قدامة الشهادة فقال عمر: يا قدامة إني جالدك, فقال قدامة والله لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني يا عمر، قال: ولم يا قدامة? قال: إن الله -عز وجل- قال: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 1 فقال عمر: إنك أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله، ثم أقبل عمر على القوم فقال: ما ترون في جلد قدامة? قالوا: لا نرى أن تجلده وهو مريض, فسكت عمر عن جلده أيامًا ثم أصبح يومًا وقد عزم على جلده فقال لأصحابه: ماذا ترون في جلد قدامة? فقالوا: لا نرى أن تجلده ما دام وجعًا، فقال عمر: إنه والله لأن يلقى الله تحت السياط أحب إلي أن ألقى الله وهو في عنقي، إني والله لأجلدنه، ائتوني بسوط، فجاءه مولاه أسلم بسوط دقيق صغير، فأخذه عمر فمسحه بيده ثم قال لأسلم: قد أخذتك بدقرارة أهلك، ائتوني بسوط غير هذا، فجاءه أسلم بسوط تام، فأمر عمر بقدامة فجلد فغاضب قدامة عمر وهجره، فحجا وقدامة مهاجر لعمر حتى قفلوا من حجهم ونزل عمر بالسقيا ونام بها, فلما استيقظ قال: عجلوا علي بقدامة، انطلقوا فأتوني به، فوالله إني لأرى في النوم أنه جاءني آت فقال: سالم قدامة فإنه أخوك، فلما جاءوا قدامة أبى أن يأتيه، فأمر عمر بقدامة فجر إليه جرًّا حتى كلمه عمر واستغفر له، فكان أول صلحهما، خرج البخاري منه إلى قوله: وهو خال ابن عمر وحفصة، وتمامه خرجه الحميدي. "شرح" دقرارة أهلك أي: مخالفتهم, قال ابن الأعرابي: الدقرارة: الحديث المفتعل، والدقرارة: المخالفة. وعن عمر بن أبي سلمى عن أبيه قال: قال عمر: لو أن أحدكم أومأ   1 سورة المائدة الآية: 93. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 إلى السماء بإصبعه لشرك يعني بالأمان، فنزل إليه على ذلك فقتله لقتلته، خرجه المخلص. وعن عائشة قالت: اعتمّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة بالعتمة، فناداه عمر: نام النساء والصبيان، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما من الناس أحد ينتظر الصلاة غيركم؟ " قالت: ولم يكن يصلي يومئذ إلا بالمدينة, خرجه النسائي. وعن عمران بن حصين أن امرأة زنت, فأمر بها النبي -صلى الله عليه وسلم- فرجمت، ثم أمر بها فصلى عليها، فقال عمر: يا رسول الله أتصلي عليها وقد زنت?! فقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده, لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جاءت 1 بنفسها لله -عز وجل" أخرجه مسلم. وعن السائب بن يزيد قال: كنت نائمًا بالمسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال: اذهب فأتين بهذين الرجلين، فجئته بهما فقال: ممن أنتما ومن أنتما? قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما, ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، خرجه البخاري. وعن أبي النضر أن رجلًا قام إلى عمر وهو على المنبر فقال: يا أمير المؤمنين ظلمني عاملك وضربني، فقال عمر: والله لأقيدنك منه إذًا، فقال عمرو بن العاص: أوتقيد من عاملك يا أمير المؤمنين? قال: نعم والله لأقيدن منه، أقاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من نفسه، وأقاد أبو بكر من نفسه أفلا أقيد? فقال عمرو بن العاص: أوغير ذلك يا أمير المؤمنين? قال: وما هو? قال: أو يرضيه، قال: أو يرضيه، خرجه الحافظ الثقفي في الأربعين. وعن أبي سعيد قال: كنت في مجلس من مجالس الأنصار, إذ جاء أبو   1 في رواية: جادت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 موسى كأنه معذور فقال: استأذنت على عمر ثلاثًا فلم يؤذن لي فرجعت، فقال: ما منعك? فقلت: استأذنت ثلاثًا فلم يؤذن لي فرجعت، وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له, فليرجع" فقال: والله لتقيمن عليه بينة، أمنكم أحد سمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال أبي: فوالله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغرهم فقمت معه، فأخبرت عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك، خرجه مسلم. وفي رواية: أن عمر قال له: إن كان هذا, فشيء من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإلا لأجعلنك عظة، وفيها أنه حين أتى الأنصار جعلوا يضحكون فقال لهم: يأتيكم أخوكم قد أقرع وتضحكون! فقال: انطلق وأنا شريكك في العقوبة فأتاه, خرجه مسلم. وعن المغيرة بن شعبة قال: سئل عمر عن إملاص المرأة وهي التي تضرب بطنها فتلقي جنينًا قال: أيكم سمع من رسول الله فيها شيئًا? فقلت: أنا، فقال: ما هو? قلت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "فيه غرة عبد أو أمة" فقال: لا تبرح حتى تجيء بالمخرج مما قلت، فخرجت فجئت بمحمد بن مسلمة فشهد معي أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "فيه غرة عبد أو أمة" خرجه أبو معاوية بهذا السياق، وأخرجا1 معناه. وعن صهيب أن عمر قال لصهيب: أي رجل2 لولا خصال ثلاث قال: وما هي? قال: اكتنيت وليس لك ولد وانتميت إلى العرب وأنت من الروم وفيك سرف في الطعام، قال: أما قولك: اكتنيت وليس لك ولد فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كناني أبا يحيى، وأما قولك: انتميت إلى العرب وأنت من الروم, فإني رجل من النمر بن قاسط سبتني الروم من الموصل بعد إذ أنا   1 البخاري ومسلم. 2 أي: أنت عظيم في رجولتك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 غلام قد عرفت نسبي، وأما قولك: فيك سرف في الطعام فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "خياركم من أطعم الطعام" خرجه أبو عبد الله بن ماجه القزويني، وخرج النسائي معناه، وخرجه الحافظ الدمشقي في الأربعين البلدانية. وعن ... 1 أن أبا موسى قدم على عمر ومعه كاتب نصراني فرفع كتابه, فأعجب عمر ولم يعلم أنه نصراني، فقال لأبي موسى: أين كاتبك هذا حتى يقرأ الكتاب على الناس? فقال أبو موسى: يا أمير المؤمنين إنه لا يدخل المسجد قال: لم? أجنب هو? قال: لا ولكنه نصراني، فانتهره عمر وقال: لا تدنوهم وقد أقصاهم الله، ولا تكرموهم وقد أهانهم الله، ولا تأمنوهم وقد خونهم الله، وقد نهيتكم عن استعمال أهل الكتاب، فإنهم يستحلون الرشا. وعن ... 2 أن عمر قال لأبي موسى: ائتني برجل ينظر في حسابنا، فأتاه بنصراني فقال: لو كنت تقدمت إليك لفعلت وفعلت، سألتك رجلًا أشركه في أمانتي فأتيتني بمن يخالف دينه ديني. وعن سالم بن عبد الله بن عمر قال: كان عمر إذا نهى الناس عن أمر دعا أهله فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإنما ينظر الناس إليكم نظر الطير اللحم، فإن وقعتم وقع الناس وإن هبتم هاب الناس، وإنه والله لا يقع أحد منكم في شيء نهيت الناس عنه إلا أضعف له العقوبة لمكانه مني، أخرجه عقيل بن خالد. وعن ثعلبة بن أبي مالك القرظي أن عمر قسم مروطا بين نساء أهل المدينة فبقي منها مرط جيد، فقال بعض من عنده: يا أمير المؤمنين أعط هذا ابنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي عندك -يريد أم كلثوم بنت علي؟ فقال: أم   1 هكذا بالأصل. 2 هكذا بالأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 سليط أحق به، فإنها ممن بايع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانت تزفن لنا القرب يوم أحد، خرجه البخاري، تزفن بالفاء: تحمل. وعن عمر أنه أرسل إلى كعب فقال: يا كعب كيف تجد نعتي? قال: أجد نعتك قرن حديد، قال: وما قرن حديد? قال: لا تأخذك في الله لومة لائم، خرجه الضحاك. وعنه أنه كان يقول: اللهم إن كنت تعلم أني أبالي إذا قعد الخصمان بين يدي على من مال عن الحق من قريب أو بعيد, فلا تمهلني طرفة عين، خرجه ابن خيرون. وروي أنه أقام خصمين بين يديه ثم عادا ثم أقامهما ثم عادا فقضى بينهما، فقيل له في ذلك فقال: إني وجدت لأحدهما ما لم أجد للآخر، فعادا وقد ذهب بعض ذلك فقضيت بينهما. ذكر تعبده: عن سعيد بن المسيب قال: كان عمر يحب الصلاة في كبد الليل -يعني وسط الليل, خرجه في الصفوة، وقد تقدم كيف يوتر في باب الشيخين. وعن عبد الله بن ربيعة قال: صليت خلف عمر الفجر, فقرأ سورة الحج وسورة يوسف قراءة بطيئة، خرجه أبو معاوية. وعن عمرو بن ميمون قال: كان عمر ربما قرأ بسورة يوسف والسجدة ونحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس، خرجه البخاري. وعن ابن عمر قال: ما مات عمر حتى سرد الصوم، خرجه في الصفوة، وفيه دلالة لمن قال: سرده أفضل من صوم يوم, وفطر يوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 وعنه أن عمر قال: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك" أخرجاه وزاد البخاري: فاعتكف ليلة، وفيه حجة لمن قال: يصح1 دون صوم، وإنه يلزم الكافر بالتزامه، وإن لم يصح حال كفره. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "من أصبح صائمًا اليوم?" قال عمر: أنا، قال: "من تصدق اليوم؟ " قال عمر: أنا، قال: "فمن عاد مريضًا?" قال عمر: أنا، قال: "فمن تبع جنازة؟ " قال عمر: أنا، قال: قال: "وجبت لك" يعني الجنة, خرجه البغوي في الفضائل، وأبو عبد الله بن حبان وقد تقدم محمد في خصائص أبي بكر مثل ذلك من حديث مسلم عن أبي هريرة, فإن صحت هذه الرواية كان ذلك في يوم آخر من غير أن يكون بينهما تضاد ولا تهافت. وعن جعفر الصادق قال: كان أكثر كلام عمر: الله أكبر، خرجه الخجندي. وعن ابن عمر أن عمر أصاب أرضًا من أرض خيبر فقال: يا رسول الله, أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالًا قط أنفس عندي منه, فما تأمرني? فقال: "إن شئت حبست أصلها, وتصدقت بها" فتصدق بها عمر على أن لا تباع ولا توهب ولا تورث في الفقراء وذوي القربى والرقاب والضيف وابن السبيل, لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف, ويطعم غير ممول وفي لفظ: غير متماثل مالًا، أخرجاه. وفي بعض الطرق أنه وصى بها إلى حفصة ثم إلى الأكابر من آل عمر, وفي بعضها أن عمر قال للنبي -صلى الله عليه وسلم: إن المائة التي لي بخيبر لم أصب مالًا قط هو أعجب إلي منها وقد أردت أن أتصدق بها، فقال صلى الله عليه وسلم: "احبس أصلها وسبل ثمرتها" وفي بعضها قلت: يا رسول الله إن لي مالًا بثمغ   1 أي: الاعتكاف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 أكره أن يباع بعدي قال: "فاحبسه وسبل ثمرته". خرج هذه الطرق وقد تقدم ذكر صدقته بسطر ماله, وصدقة أبي بكر بجميع ماله في باب الشيخين. ثمغ: مال لعمر معروف بالمدينة، وهو غير الذي تصدق به بخيبر. ذكر زهده: وقد تقدم طرف منه في خصائصه، وفي النشر في أول الفصل. وعن طلحة: ما كان عمر بأولنا إسلامًا ولا بأقدمنا هجرة, ولكنه كان أزهدنا في الدنيا وأرغبنا في الآخرة. وعن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعطي عمر العطاء فيقول له عمر: أعطه يا رسول الله من هو أفقر إليه مني، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "خذه فتموله أو تصدق به، وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه, وما لا فلا تتبعه نفسك" قال سالم: فمن أجل ذلك كان ابن عمر لا يسال أحدًا شيئًا, ولا يرد شيئًا أعطيه. خرجه مسلم. وعن ابن أبي مليكة قال: بينا عمر قد وضع بين يديه طعام إذ جاء الغلام فقال: هذا عتبة بن فرقد بالباب، قال: وما أقدم عتبة ائذن له، فلما دخل رأى بين يدي عمر طعامه خبزًا وزيتًا فقال: اقرب يا عتبة فأصب من هذا، قال: فذهب يأكل فإذا هو بطعام جشب لا يستطيع أن يسيغه, فقال: يا أمير المؤمنين, هل لك في طعام يقال له: الحواري? قال: ويلك, أويسع ذلك المسلمين? قال: لا والله، قال: يا عتبة, أفأردت أن آكل طيباتي في حياتي الدنيا وأستمتع بها. أخرجه الفضائلي. "شرح" الجشب والمجشوب: الغليظ. وعنه أنه دخل عليه وهو يكدم كعكًا شاميًّا ويتفوق لبنًا حازرًا فقلت: يا أمير المؤمنين لو أمرت أن يصنع لك طعام ألين من هذا? فقال: يابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 فرقد أترى أحدًا من العرب أقدر على ذلك مني? فقلت: ما أجد أقدر على ذلك منك يا أمير المؤمنين، فقال عمر: سمعت الله عير أقوامًا فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} 1. خرجه الواحدي. "شرح" الكدم: العض والتفوق: الشرب شيئًا فشيئًا من فوقت الفصيل: إذا سقيته فواقًا فواقًا، والفواق: قدر ما بين الحلبتين، والحازر -بالحاء المهملة: اللبن الحامض قاله الجوهري. وعن عمر أنه كان يقول: لو شئت لدعوت بصلاء وصناب وصلائق كراكر وأسنمة وأفلاذ كثيرة من لطائف اللذات، ثم قال: ولكني لا أدعو بها, ولا أقصد قصدها لئلا أكون من المتنعمين. "شرح" الصلاء بالكسر والمد: الشوي، والصناب: الخردل المعمول بالزيت وهو صناع يؤتدم به، والصلائق: الرقاق واحدتها صليقة، وقيل: هي الحملان المشوية من صلقت الشاة: إذا شويتها، ويروى بالسين المهملة وهو كل ما سلق من البقول وغيرها، والكراكر: جمع كركرة وهي الثفنة التي في زور البعير, وهي إحدى الثفنات الخمس، والأفلاذ: جمع فلذة وهي القطعة, وكأنه أراد قطعًا من أنواع شتى. وعنه أنه كان يقول: والله ما يمنعنا أن نأمر بصغار المعزى فتسمط لنا, ونأمر بلباب الحنطة فيخبز لنا, ونأمر بالزبيب فينبذ لنا فنأكل هذا ونشرب هذا, إلا أنا نستبقي طيباتنا؛ لأنا سمعنا الله تعالى يقول يذكر أقوامًا: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} . وعنه أنه اشتهى سمكًا طريًّا وأخذ يرقى راحلة, فسار ليلتين مقبلًا وليلتين مدبرًا واشترى مكتلًا فجاء به، وقام يرقى إلى الراحلة يغسلها من العرق فنظرها عمر فقال: عذبت بهيمة من البهائم في شهوة عمر! والله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 لا يذوق عمر ذلك. وروي أنه كان يداوم على أكل التمر ولا يداوم على كل اللحم, ويقول: إياكم واللحم, فإن له ضراوة كضراوة الخمر، أي: إن له عادة نزاعة إليه كعادة الخمر، يقال منه: ضري بالكسر به ضرا وضراوة وضراة, إذا اعتاده. وعن جعفر بن أبي العاص قال: أكلت مع عمر بن الخطاب الخبز والزيت, والخبز واللبن, والخبز والخل, والخبز والقديد، وأقل ذلك اللحم الغريض، وكان يقول: لا تنخلوا الدقيق فإنه كله طعام، فأتي بخبز غليظ فجعل يأكل ويقول: لتأكلوا، فجعلنا نعتذر فقال: ما لكم لا تألون? فقلنا: لا نأكله والله يا أمير المؤمنين، نرجع إلى طعام هو ألين من طعامك. وعن حفصة قالت: دخل عليّ عمر فقدمت إليه مرقة باردة وصببت عليها زيتًا فقال: إدامان في إناء واحد، لا أذوقه أبدًا حتى ألقى الله, خرجه في فضائله. وعن ابن عمر قال: دخل أمير المؤمنين عمر ونحن على مائدة فأوسعت له عن صدر المجلس فقال: باسم الله، ثم ضرب بيده في لقمة فلقمها, ثم ثنى بأخرى ثم قال: إني لأجد طعم دسم غير دسم اللحم، فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين, إني خرجت إلى السوق أطلب السمين لأشتريه فوجدته غاليًا, فاشتريت بدرهم من المهزول وجعلت عليه بدرهم سمنًا فقال عمر: ما اجتمعنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أكل أحدهما وتصدق بالآخر، فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين, ولن يجتمعا عندي أبدًا إلا فعلت ذلك. وعن قتادة قال: كان عمر بن الخطاب يلبس وهو أمير المؤمنين جبة من صوف مرقعة بعضها من أدم, ويطوف في الأسواق وعلى عاتقه الدرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 يؤدب الناس بها، ويهم بالنكث والنوى فيلقطه ويلقيه في منازل الناس لينتفعوا به. أخرجه الفضائلي. "شرح" النكث: الغزل المنقوض من الأخبية, والأكسية ليغزل ثانية. وعن أنس قال: لقد رأيت بين كتفي عمر أربع رقع في قميص له. خرجه الفضائلي وصاحب الصفوة وقال: ثلاث رقاع. وعن الحسن قال: خطب عمر الناس وهو خليفة, وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة. خرجه في الصفوة. وعن عامر بن ربيعة قال: خرج عمر حاجًّا من المدينة إلى مكة إلى أن رجع, فما ضرب فسطاطًا ولا خباء إلا كان يلقي الكساء والنطع على الشجرة, ويستظل تحتها. وعن عمر أنه كان يقول: والله ما نعبأ بلذات العيش ولكنا نستبقي طيباتنا لآخرتنا، وكان رضي الله عنه يأكل خبز الشعير ويأتدم بالزيت, ويلبس المرقوع ويخدم نفسه. خرجه الملاء. وعن الأحنف بن قيس قال: أخرجنا عمر في سرية إلى العراق ففتح الله علينا العراق وبلد فارس, وأصبنا فيها من بياض فارس وخراسان فحملناه معنا واكتسينا منه، فلما قدمنا على عمر أعرض عنا بوجهه وجعل لا يكلمنا، فاشتد ذلك علينا، فشكونا إلى عبد الله بن عمر فقال: إن عمر زهد في الدنيا, وقد رأى عليكم لباسًا لم يلبسه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا الخليفة من بعده، فأتينا منازلنا فنزعنا ما كان علينا, وأتيناه في البزة التي يعهدها منا، فقام فسلم علينا رجلًا رجلًا واعتنق رجلًا رجلًا حتى كأنه لم يرنا، فقدمنا إليه الغنائم فقسمها بيننا بالسوية، فعرض في الغنائم شيء من أنواع الخبيص من أصفر وأحمر فذاقه عمر فوجده طيب الطعم طيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 الريح فأقبل علينا بوجهه وقال: يا معشر المهاجرين والأنصار, ليقتلن منكم الابن أباه والأخ أخاه على هذا الطعام، ثم أمر به فحمل إلى أولاد من قتل من المسلمين بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المهاجرين والأنصار، ثم إن عمر انصرف ولم يأخذ لنفسه شيئًا. البزة -بالكسر: الهيئة. وعن ... 1 أنه لما فتح العراق وحملت إلى عمر خزائن كسرى قال له صاحب بيت المال: ألا ندخله بيت المال? قال: لا والله! ولا يأوي تحت سقف حتى أقسمه، فبسط الأنطاع في المسجد وكشفوا عن الأموال فرأى منظرًا عظيمًا من الذهب والجوهر فقال: إن الذي أدى هذا لأمين، قالوا: أنت أمين الله, وهم يؤدون إليك ما أديت إلى الله فإذا زغت زاغوا، فقسمه ولم يأخذ منه لنفسه شيئًا. خرجه في فضائله. وروي أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اجتمعوا في المسجد زهاء خمسين رجلًا من المهاجرين فقالوا: ما ترون إلى زهد هذا الرجل وإلى حليته وقد فتح الله على يديه ديار كسرى وقيصر وطرفي الشرق والغرب، ووفود العرب والعجم يأتون فيرون عليه هذه الجبة قد رقعها اثنتي عشرة رقعة فلو سألتموه معاشر أصحاب محمد أن يغير هذه الجبة بثوب لين فيهاب منظره، ويغدق عليه بحفنة من الطعام ويراح عليه بحفنة يأكلها من حضره من المهاجرين والأنصار؟ فقال القوم بأجمعهم: ليس لهذا القول إلا علي بن أبي طالب فإنه صهره، فكلموه فقال: لست بفاعل ذلك ولكن عليكم بأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنهن أمهات المؤمنين يجترئن عليه، فقال الأحنف بن قيس: فسألوا عائشة وحفصة وكانتا مجتمعتين فقالت عائشة: أسأله ذلك، وقالت حفصة: ما أراه يفعل وسيبين لك، فدخلتا عليه فقربهما وأدناهما، فقالت عائشة: أتأذن لي أن أكلمك? قال: تكلمي يا أم المؤمنين فقالت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد مضى إلى جنة ربه ورضوانه لم يرد   1 هكذا بالأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 الدنيا ولم ترده، وكذلك مضى أبو بكر على أثره، وقد فتح الله عليك كنوز كسرى وقيصر وديارهما وحمل إليك أموالهما وذلك طرفا المشرق والمغرب، ونرجو من الله تعالى المزيد ورسل العجم يأتونك ووفود العرب يردون إليك وعليك هذه الجبة قد رقعتها اثنتي عشرة رقعة فلو غيرتها بثوب لين يهاب فيه منظرك, ويغدى عليك بحفنة من طعام ويراح عليك بأخرى تأكل أنت ومن حضرك من المهاجرين والأنصار, فبكى عمر عند ذلك بكاءً شديدًا ثم قال: سألتك بالله هل تعلمين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شبع من خبز بر عشرة أيام أو خمسة أو ثلاثة أو جمع بين عشاء وغداء حتى ألحق بالله? قالت: لا، قال: أنشدك بالله هل تعلمين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرب إليه على مائدة في ارتفاع شبر من الأرض، كان يأمر بالطعام فيوضع على الأرض ويأمر بالمائدة فترفع؟ قالت: اللهم نعم، ثم قال لهما: أنتما زوجتا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمهات المؤمنين ولكما على المؤمنين حق وعليّ خاصة، ولكن أتيتماني ترغبانني في الدنيا، وإني لأعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لبس جبة من صوف فربما حكجسمه من خشونتها، أتعلمان ذلك? قالتا: نعم، قال: فهل تعلمان أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يرقد على عباءة على طاق واحد وكان مسح في بيتك يا عائشة يكون بالنهار بساطًا وبالليل فراشًا, ينام عليه ويرى أثر الحصير في جنبه؟ ألا يا حفصة أنت حدثتني أنك تثنيت المسح له ليلة فوجدها لينة فرقد عليه فلم يستيقظ إلا بأذان بلال فقال لك: يا حفصة, ماذا صنعت ثنيت المهاد حتى ذهب بي النوم إلى الصباح، ما لي وما للدنيا وما للدنيا وما لي، شغلتموني بلين الفراش؟ يا حفصة: أما تعلمين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان مغفورًا له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, ولم يزل جائعًا ساهرًا راكعًا ساجدًا باكيًا متضرعًا آناء الليل والنهار إلى أن قبضه الله تعالى إلى رحمته ورضوانه? لا أكل عمر طيبًا ولا لبس لينًا أسوة بصاحبيه, ولا جمع بين أدمين إلا الماء والزيت, ولا أكل لحمًا إلا في كل شهر، فخرجنا من عنده فأخبرنا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يزل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 كذلك حتى لحق بالله -عز وجل. ذكر خوفه: عن أبي موسى قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أشياء كرهها, فلما أكثر عليه غضب ثم قال للناس: "سلوني عما شئتم" فقال رجل: من أبي? فقال: "أبوك حذافة" فقال آخر: من أبي يا رسول الله? فقال: "أبوك مولى شيبة" فلما رأى عمر ما في وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- من الغضب قال: يا رسول الله, إنا نتوب إلى الله -عز وجل. أخرجاه. وعن أنس قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو غضبان ونحن نرى أن معه جبريل -عليه السلام- حتى صعد المنبر فما رأيت يومًا كان أكثر باكيًا منه، قال: "سلوني, فوالله لا تسألونني عن شيء إلا أنبأتكم" فقال رجل: يا رسول الله من أبي? قال: "أبوك حذافة" فقام إليه آخر فقال: يا رسول الله أفي الجنة أنا أم في النار? فقال: "في النار" فقام إليه آخر فقال: يا رسول الله أعلينا الحج كل عام? فقال: "لو قلت نعم لوجب ولو وجب لم تقوموا بها، ولو لم تقوموا بها عذبتم" قال: فقال عمر بن الخطاب: رضينا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا، لا تفضحنا بسرائرنا واعف عنا عفا الله عنك، قال: فسري عنه، ثم التفت إلى الحائط فقال: "لم أر كاليوم في الخير والشر, أريت الجنة والنار وراء هذا الحائط". خرجه بتمام هذا السياق الحافظ الدمشقي في الموافقات، وفي المتفق عليه طائفة منه، وخرج ابن ماجه من قصة الحج إلى آخره. وعن أبي قتادة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن صومه فغضب، فقال عمر: رضينا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا. خرجه مسلم. وعن أبي بردة عامر بن أبي موسى قال: قال لي عبد الله بن أبي عمر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 هل تدري ما قال أبي لأبيك? قال: قلت: لا، قال: فإن أبي قال لأبيك أبي موسى: هل يسرك أن إسلامنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهجرتنا معه وشهادتنا معه وعلمنا كله معه برد علينا وأن كل عمل عملناه بعده نجونا منه كفافًا رأسًا برأس؟ فقال أبوك لأبي: لا والله, جاهدنا بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصلينا وصمنا وعملنا خيرًا كثيرًا, وأسلم على أيدينا بشر كثير وإنا لنرجو ذلك، قال أبي: ولكني والذي نفس عمر بيده لوددت أن ذلك برد لنا، وأن كل شيء عملنا بعده نجونا منه كفانا رأسًا برأس، فقلت: إن أباك والله كان خيرًا من أبي. خرجه البخاري. "شرح" برد لنا أي: ثبت واستقر. وعن جابر بن عبد الله أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لبس يومًا قباء من ديباج أهدي له ثم نزعه, فأرسل به إلى عمر وقال: "نهاني عنه جبريل -عليه السلام" فجاءه عمر يبكي فقال: يا رسول الله كرهت أمرًا وأعطيتنيه فما لي؟ فقال: "إني لم أعطكه تلبسه وإنما أعطيتكه تبيعه" فباعه بألف درهم. خرجه مسلم. قال ابن إسحاق: لما وقع الصلح يوم الحديبية وطال الكلام بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين سهيل بن عمرو, وثب عمر بن الخطاب فقال: يا أبا بكر أليس برسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين? قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين? قال: بلى، قال: فلم نعطى الدنية في ديننا? فقال أبو بكر: يا عمر الزم غرزه, فأنا أشهد أنه رسول الله، ثم أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله ألست رسول الله? قال: "بلى" قال: أولسنا بالمسلمين? قال: "بلى" قال: أوليسوا بالمشركين? قال: "بلى" قال: فعلام نعطى الدنية في ديننا? قال: "أنا عبد الله ورسوله, لن أخالف أمره ولن يضيعني" قال: فكان يقول عمر: فما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به, حتى رجوت أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 يكون خيرًا. وعن يحيى بن أبي كثير عن عمر أنه قال: لو نادى مناد من السماء: يا أيها الناس لا يدخل النار إلا رجل واحد، لخفت أن أكون أنا ذلك الرجل. خرجه الملاء، وزاد غيره: لو نادى مناد: إنكم داخلون النار إلا رجلًا واحدا, لرجوت أن أكون أنا. وعن عبد الله بن عامر قال: رأيت عمر أخذ تبنة من الأرض فقال: ليتني كنت هذه التبنة، ليتني لم أخلق، ليت أمي لم تلدني، ليتني لم أك شيئًا, ليتني كنت نسيا منسيا. وعن مجاهد قال: كان عمر يقول: لو مات جدي بطف الفرات, لخشيت أن يطالب الله به عمر. "شرح" الطف: اسم موضع بناحية الكوفة، فلعله المراد وأضيف إلى الفرات لكونه قريبًا منه, من قولهم: طف الصاع لما قرب من ملئه. وعن عبد الله بن عيسى قال: كان في وجه عمر خطان أسودان من البكاء. خرجهن في الصفوة. وعن الحسن قال: كان عمر يبكي في ورده حتى يخر على وجهه, ويبقى في بيته أيامًا يعاد. خرجه الملاء. وعن ابن الزبير قال: ما حدث عمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد قوله تعالى: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} فيسمع كلامه حتى يستفهم مما يخفض صوته, فأنزل الله فيه: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} الآية. خرجه الواحدي، وقد تقدم في باب الشيخين. وعن أم سلمة قالت: دخل عليها عبد الرحمن بن عوف فقال: يا أمه, قد خشيت أن يهلكني كثرة مالي، أنا أكثر قريش كلهم مالًا، فقالت: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 يا بني تصدق، فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن من أصحابي من لا يراني بعد أن أفارقه" فخرج عبد الرحمن فلقي عمر فأخبره ذلك, فجاء عمر فدخل عليها فقال: بالله منهم أنا? قالت: لا؛ ولن أقول لأحد بعدك. وفي رواية: فبلغ ذلك عمر فأتاها يشتد ويسرع فقال: أنشدك بالله، أنا منهم? قالت: لا, ولن أبرئ بعدك أحدًا أبدًا، خرجه أبو عمر. وعن أبي جعفر قال: بينما عمر يمشي في طريق من طرق المدينة إذ لقيه علي ومعه الحسن والحسين -رضي الله عنهم- فسلم عليه علي وأخذ بيده, فاكتنفهما الحسن والحسين عن يمينهما وشمالهما قال: فعرض لعمر من البكاء ما كان يعرض له فقال له: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ قال عمر: ومن أحق مني بالبكاء يا علي؟ وقد وليت أمر هذه الأمة أحكم فيها ولا أدري أمسيء أنا أم محسن، فقال له علي: والله إنك لتعدل في كذا وتعدل في كذا قال: فما منعه ذلك من البكاء, ثم تكلم الحسن بما شاء الله فذكر من ولايته وعدله فلم يمنعه ذلك, فتكلم الحسين بمثل كلام الحسن فانقطع بكاؤه عند انقطاع كلام الحسين, فقال: أتشهدان بذلك يابني أخي؟ فسكتا، فنظر إلى أبيهما فقال علي: اشهدا وأنا معكما شهيد، خرجه ابن السمان في الموافقة. وعن عبيد بن عمير قال: بينما عمر بن الخطاب يمر في الطريق, فإذا هو برجل يكلم امرأة فعلاه بالدرة فقال: يا أمير المؤمنين إنما هي امرأتي, فقام عمر فانطلق فلقي عبد الرحمن بن عوف فذكر ذلك له, فقال له: يا أمير المؤمنين, إنما أنت مؤدب وليس عليك شيء, وإن شئت حدثتك بحديث سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ألا لا يرفعن أحد من هذه الأمة كتابه قبل أبي بكر وعمر" خرجه ابن الغطريف, وخرج الملاء منه إلى قوله: إنما هي امرأتي ولم يذكر ما بعده وقال: فقال له: فلم تقف مع زوجتك في الطريق تعرضان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 المسلمين إلى غيبتكما? فقال: يا أمير المؤمنين الآن قد دخلنا المدينة ونحن نتشاور أين ننزل؟ فرفع إليه الدرة وقال: اقتص مني يا عبد الله فقال: هي لك يا أمير المؤمنين، فقال: خذ واقتص فقال بعد ثلاث: هي لله, قال الله لك فيها. وعن عمر وقد كلمه عبد الرحمن بإشارة عثمان وطلحة والزبير وسعد في هيبته وشدته, وأن ذلك ربما يمنع طالب الحاجة من حاجته فقال: والله لقد لنت للناس حتى خشيت الله في اللين, واشتددت حتى خشيت الله في الشدة, فأين المخرج؟ وقام يجر رداءه وهو يبكي، خرجه في فضائله. وروي عنه أنه قرأ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} 1 حتى بلغ: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} 2 فخر مغشيًّا عليه وبقي أيامًا يعاد. وروي عنه أنه خرج يومًا ومعه عبد الرحمن بن مسعود, فإذا هو بضوء نار فاتبع الضوء حتى دخل دارًا, فإذا شيخ جالس وبين يديه شراب وقينة تغنيه فلم يشعر حتى هجم عمر فقال: ما رأيت كالليلة أقبح من شيخ ينتظر أجله! فرفع الشيخ رأسه وقال: بل ما صنعت يا أمير المؤمنين أقبح؛ إنك تجسست وقد نهى الله تعالى عن التجسس, وإنك دخلت بغير إذن وقد نهى الله تعالى عن ذلك فقال عمر: صدقت ثم خرج عاضا على ثوبه ويقول: ثكلت عمر أمه إن لم يغفر له ربه، قال: وهجر الشيخ مجالس عمر حينًا ثم إنه جاءه شبيه المستحي فقال له: ادن مني فدنا منه فقال له: والذي بعث محمدًا بالحق ما أخبرت أحدًا من الناس بالذي رأيت منك ولا ابن مسعود وكان معي، فقال الشيخ: وأنا والذي بعث محمدًا بالحق ما عدت إليه إلى أن جلست هذا المجلس, خرجهما في فضائله. وعن عمر أنه أرسل إلى عبد الرحمن بن عوف يستسلفه أربعمائة   1 سورة التكوير الآية: 1. 2 سورة التكوير الآية: 10. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 درهم فقال عبد الرحمن: أتستسلفني وعندك المال ألا تأخذ منه ثم ترده؟ فقال عمر: إني أتخوف أن يصيبني قدري فتقول أنت وأصحابك: اتركوها لأمير المؤمنين حتى تؤخذ من ميزاني يوم القيامة, ولكن أستلفها منك لما أعلم من شحك, فإذا مت جئت فاستوفيتها من ميراثي, خرجه القلعي. وعن جابر بن عبد الله قال: رأى عمر بن الخطاب لحمًا ملقى في يدي فقال: ما هذا يا جابر؟ قال: اشتهيت لحمًا فاشتريته فقال عمر: أوكلما اشتهيت اشتريت يا جابر؟ ما تخاف الآية يا جابر: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} خرجه الواحدي مسندًا. ذكر محاسبته نفسه: عن أنس بن مالك قال: سمعت عمر بن الخطاب وخرجت معه حتى دخل حائطًا فسمعته وبيني وبينه جدار وهو في جوف الحائط: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخ بخ, والله لتتقين الله بني الخطاب أو ليعذبنك, خرجه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس, وروى أنه كان يقول: ما صنعت اليوم؟ صنعت كذا صنعت كذا, ثم يضرب ظهره بالدرة, خرجه في فضائله. ذكر ورعه: عن المسور بن مخرمة قال: كنا نلتزم عمر نتعلم منه الورع. وعن سلمة بن سعيد قال: أتي عمر بمال فقام إليه عبد الرحمن بن عوف فقال: يا أمير المؤمنين لو حبست هذا المال في بيت المال لنائبة تكون، أو أمر يحدث فقال: فقال كلمة ما عرض بها الشيطان لقاني الله حجتها ووقاني فتنتها أعصي الله العام مخافة قابل أعد لهم تقوى الله قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} وتكون فتنة على من بعدي, خرجه الفضائلي. وعن ابن عمر أن عمر فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف أربعة آلاف, وفرض لابن عمر ثلاثة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 وخمسمائة فقيل له: هو من المهاجرين فلِمَ تنقصه عن أربعة آلاف؟ قال: إن من هاجر به أبوه ليس هو كمن هاجر بنفسه، خرجه البخاري. وعنه1 قال: اشتريت إبلًا وارتجعتها إلى الحمى فلما سمنت قدمت بها قال: فدخل عمر السوق فرأى إبلًا سمانًا فقال: لمن هذه؟ فقيل: لعبد الله بن عمر, فجعل يقول: يا عبد الله بخ بخ, ابن أمير المؤمنين قال: فجئته أسعى فقلت: ما لك يا أمير المؤمنين؟ قال: ما هذه الإبل? فقلت: إبلًا أنضاء اشتريتها وبعثت بها الحمى أبتغي ما يبتغي المسلمون، قال: فقال: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، يا عبد الله بن عمر، اغد على رأس مالك واجعل باقيه في بيت مال المسلمين، خرجه الفضائلي. "شرح" بخ بخ قد تكررت، قال أبو بكر: معناه تعظيم الأمر وتفخيمه, وسكنت الخاء فيه كما سكنت في هل وبل، ويقال: بالخفض والتنوين تشبيهًا بالأصوات كصه، ويقال: بخ بخ بتشديد الخاء في الأولى. وقال ابن السكيت: بخ بخ وبه به بمعنى واحد, أنضاء: جمع نضو وهو البعير المهزول والناقة نضوة, وقد أنضتها الأسفار فهي منضاة. وعن قتادة قال: قدم بريد ملك الروم على عمر، فاستقرضت امرأة عمر دينارًا فاشترت به عطرًا وجعلته في قوارير، وبعثت به مع البريد إلى امرأة ملك الروم، فلما أتاها فرغتهن وملأتهن جواهر وقالت: اذهب به إلى امرأة عمر، فلما أتاها فرغتهن على البساط فدخل عمر فقال: ما هذا? فأخبرته, فأخذ عمر الجوهر فباعه ودفع إلى امرأته دينارًا وجعل ما بقي من ذلك في بيت مال المسلمين، خرجه الفضائلي. "شرح" البريد: الرسول. وعن الأحنف بن قيس قال: سمعت عمر يقول: لا يحل لعمر من مال الله إلا حلتان حلة للشتاء وحلة للصيف   1 وعن ابن عمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 وما أحج به وأعتمر عليه من الظهور وقوت أهلي كرجل من قريش, ليس بأغناهم ولا بأفقرهم, ثم أنا برجل من المسلمين، خرجه أيضًا الفضائلي وخرجه القلعي وزاد بعد وأنا رجل من المسلمين: يصيبني ما أصابهم. عن البراء بن معرور أن عمر خرج يومًا حتى أتى المنبر، وكان قد اشتكى شكوى فنعت له العسل وفي بيت المال عكة فقال: إن أنتم أذنتم لي فيها أخذتها وإلا فإنها علي حرام, فأذنوا له، خرجه الرازي والفضائلي. وعن عاصم بن عمر عن عمر أنه قال: لا أجده يحل لي أن آكل من مالكم هذا إلا كما كنت آكل من صلب مالي الخبز والزيت, والخبز والسمن قال: فكان ربما أتي بالحفنة قد صنعت بزيت وما يليه بسمن، فيعتذر إلى القوم فيقول: إني رجل عربي ولست أستمرئ هذا الزيت. وعنه أن عمر لما زوجه أنفق عليه من مال الله شهرًا ثم قال: يا يرفأ اضرب عنه، ثم دعاني فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد أي بني، قد نحلتك من مالي بالعالية، فانطلق إليه فأجدده ثم بعه ثم استنفق وأنفق على أهلك، خرجهما أبو معاوية الضرير. وعن أبي سنان الدؤلي أنه دخل على عمر بن الخطاب وعنده نفر من المهاجرين الأولين, فأرسل إلى سفط أتى به من قلعة من العراق فكان فيه خاتم, فأخذه بعض بنيه فأدخله في فمه فانتزعه عمر منه ثم بكى عمر، فقال له من عنده: لم تبكي وقد فتح الله لك وأظهرك على عدوك وأقر عينك? فقال عمر: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا تفتح الدنيا على أحد إلا ألقى الله بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة" فأنا أشفق من ذلك، خرجه أحمد. وروي أن عمر أتي بمسك فأمر أن يقسم بين المسلمين، ثم سد أنفه فقيل له في ذلك، فقال: وهل ينتفع إلا بريحه? ودخل يوما على زوجته فوجد معها ريح المسك، فقال: ما هذا? قالت: إني بعت في مسك في بيت مال المسلمين وزنت بيدي، فلما وزنت مسحت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 إصبعي في قناعي، فقال: ناوليني قناعك, فأخذه فصب عليه الماء فلم يزل يدلكه في التراب ويصب عليه الماء حتى ذهب ريحه، خرجهما الملاء في سيرته. وعن عمر قال: حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده, فأردت أن أشتريه فظننت أنه يبيعه برخص فسألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لا تشتره ولا تعد في صدقتك ولو أعطاكه بدرهم؛ فإن العائد في هبته كالعائد في قيئه" أخرجاه وهذا الحكم من باب الورع, وإلا فالجواب متفق عليه. وعن أنس قال: قرأ عمر: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} 1 قال: فما الأب? ثم قال: ما كلفنا وما أمرنا بهذا، خرجه البخاري. عنه قال: كنا مع عمر وعليه قميص وفي ظهره أربع رقع، فسئل عن هذه الآية {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فقال: ما الأب؟ ثم قال: مه! قد نهينا عن التكلف، ثم قال: يا عمر, إن هذا لمن التكلف وما عليك ألا تدري ما الأب, خرجه البغوي والمخلص الذهبي. وعن سعيد بن المسيب قال: سئل عمر عن قوله تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} 2 قال: هي الرياح ولولا أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوله ما قلته, قيل: {فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا} 3 قال: السحاب ولولا أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوله ما قلته. قيل: {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} 4 قال: السفن ولولا أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوله ما قتله. قيل: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} 5 قال: هي الملائكة ولولا أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوله ما قلته, خرجه في فضائله. ذكر تواضعه: وقد تقدم في أول الفصل في النثر منه طرف صالح من ذلك.   1 الأب: المرعى المتهيئ للرعي. "2, 3, 4, 5" سورة الذاريات الآيات 1, 2، 3، 4. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 وروي عنه أنه كان إذا قيل له: اتق الله, فرح وشكر قائله. وكان يقول: رحم الله امرأ أهدى إلينا عيوبنا, خرجه في فضائله. وعن طارق بن شهاب قال: قدم عمر بن الخطاب الشام فلقيه الجنود وعليه إزار وخفان وعمامة وهو آخذ برأس راحلته يخوض الماء قد خلع خفيه, وجعلهما تحت إبطه قالوا له: يا أمير المؤمنين, الآن تلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على هذه الحال؟! قال عمر: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام, فلا نلتمس العز من غيره, خرجه الملاء وصاحب الفضائل. وعن عبد الله بن عمر أن عمر حمل قربة على عاتقه فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين, ما حملك على هذا? قال: إن نفسي أعيتني فأردت أن أذلها, خرجه الفضائلي أيضًا. وعن زيد بن ثابت قال: رأيت على عمر مرقعة فيها سبع عشرة رقعة, فانصرفت إلى بيتي باكيًا ثم عدت في طريقي فإذا عمر وعلى عاتقه قربة ماء وهو يتخلل الناس، فقلت: يا أمير المؤمنين! فقال لي: لا تتكلم وأقول لك، فسرت معه حتى صبها في بيت عجوز وعدنا إلى منزله فقلت له في ذلك فقال: إنه حضرني بعد مضيك رسول الروم ورسول الفرس فقالوا: لله درك يا عمر! قد اجتمع الناس على علمك وفضلك وعدلك، فلما خرجوا من عندي تداخلني ما يتداخل البشر فقمت ففعلت بنفسي ما فعلت. وعن محمد بن عمر المخزومي عن أبيه قال: نادى عمر بالصلاة جامعة, فلما اجتمع الناس وكثروا صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على محمد -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: أيها الناس لقد رأيتني أرعى على خالات لي من بني مخزوم فيقبض لي من التمر والزبيب, فأظل يومي وأي يوم ثم نزل. قال عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين, ما زدت على أن قميت نفسك -يعني عبت- قال: ويحك يابن عوف! إني خلوت بنفسي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 فحدثتني قالت: أنت أمير المؤمنين فمن ذا أفضل منك? فأردت أن أعرفها نفسها. خرجه الفضائلي أيضًا. وروي عنه أنه قال في انصرافه من حجته التي لم يحج بعدها: الحمد لله ولا إله إلا الله, يعطي من يشاء ما يشاء، لقد كنت بهذا الوادي -يعني- ضجنان أرعى إبلًا للخطاب, وكان فظا غليظا يتعبني إذا عملت, ويضربني إذا قصرت, قد أصبحت وأمسيت وليس دون الله أحد أخشاه. "شرح" ضجنان: بناحية مكة. وروي أنه قال يومًا على المنبر: يا معاشر المسلمين, ماذا تقولون لو ملت برأسي إلى الدنيا كذا -وميل رأسه- فقام إليه رجل فسل سيفه وقال: أجل! كنا نقول بالسيف كذا -وأشار إلى قطعه- فقال: إياي تعني بقولك? قال: نعم إياك أعني بقولي، فنهره عمر ثلاثًا وهو ينهر عمر، فقال عمر: رحمك الله! الحمد لله الذي جعل في رعيتي من إذا تعوجت قومني، خرجه الملاء في سيرته. وعن عمر قال: تأيمت حفصة من خنيس بن حذيفة السهمي وكان ممن شهد بدرًا، فلقيت عثمان بن عفان فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة، فقال: أنظر ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا, فلقيت أبا بكر فعرضت عليه فصمت، ثم ذكر تزويجها من النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيأتي في مناقب حفصة من كتاب1 مناقب أمهات المؤمنين. وعن محمد بن الزبير عن شيخ التقت ترقوتاه من الكبر يخبره أن عمر استفتى في مسألة فقال: اتبعوني حتى انتهى إلى علي بن أبي طالب فقال: مرحبًا يا أمير المؤمنين, فذكر له المسألة, فقال: ألا أرسلت لي? فقال: أنا   1 كتاب خاص للمؤلف في هذا الموضوع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 أحق بإتيانك، خرجه ابن البختري في حديث طويل سنذكره في فضائل علي. وروي أن عمر جاءه برد من اليمن وكان من جيد ما حمل إليه، فلم يدر لمن يعطيه من الصحابة، إن أعطاه واحدًا غضب الآخر ورأى أن قد فضله عليه، فقال عند ذلك: دلوني على فتى من قريش نشأ نشأة حسنة، فسموا له المسور بن مخرمة؛ فدفع الرداء إليه، فنظر إليه سعد فقال له: ما هذا الرداء? قال: كسانيه أمير المؤمنين فجاء معه إلى عمر فقال له: تكسوني هذا الرداء وتكسو ابن أخي مسورا أفضل منه? فقال له: يا أبا إسحاق إني كرهت أن أعطيه رجلًا كبيرًا فتغضب أصحابه فأعطيته من نشأ نشأة حسنة، لا تتوهم أني أفضله عليكم، قال سعد: فإني قد حلفت لأضربن بالرداء الذي أعطيتني رأسك، فخضع له عمر رأسه وقال له: يا أبا إسحاق, وليرفق الشيخ بالشيخ. وعن أسيد بن جابر قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن يسألهم: أفيكم أويس بن عامر? حتى أتى على أويس فقال: أنت أويس بن عامر? قال: نعم!! قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم!! قال: فكان بك برص فبرئت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم! قال: ألك والدة? قال: نعم, قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن, من مراد ثم من قرن, كان به برص فبرئ منه إلا موضع درهم، له والدة هو لها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل لي" فاستغفر له فقال له عمر: أين تريد? قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها? قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي، قال: فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم فوافق عمر فسأله عن أويس فقال: تركته رث البيت قليل المتاع، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذكر الحديث، ثم قال له: فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، فأتى أويسًا فقال: استغفر لي، فقال: أنت أحدث عهد بسفر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 صالح فاستغفر لي، قال: استغفر لي، قال: أنت أحدث عهد بسفر صالح فاستغفر لي، قال: لقيت عمر? قال: نعم فاستغفر له، ففطن له الناس فانطلق على وجهه. خرجه مسلم. "شرح" الغبرات: البقايا, الواحد: غابر, ثم يجمع على غبراء ثم غبرات جمع الجمع. ذكر شفقته على رعيته وتفقد أحوالهم وإنصافه لهم ونصحه إياهم: عن قيس بن أبي حازم قال: كان عطاء البدريين خمسة آلاف خمسة آلاف فقال عمر: لأفضلنهم على من بعدهم. خرجه البخاري. وعن أبي هريرة قال: قدمت من البحرين فسألني عمر عن الناس فأخبرته، ثم قال: ماذا جئت به? فقلت: خمسمائة ألف، قال: ويحك!! هل تدري ما تقول? قلت: نعم مائه ألف، ومائة ألف، ومائة ألف، ومائة ألف ومائة ألف، فقال: إنك ناعس، ارجع إلى أهلك فنم، فلما أصبحت طلبني فأتيته فقال: ماذا جئت به? قلت: جئت بخمسمائة ألف، قال: ويحك!! هل تدري ما تقول? قلت: نعم مائة ألف وعددتها خمس مرات، فقال: أطيب? قلت: لا أعلم إلا ذاك، قال: فدون الديوان وفرض للمهاجرين خمسة آلاف وأربعة آلاف, ولأمهات المؤمنين اثني عشر ألفًا. وعن عدي بن حاتم قال: أتيت عمر في أناس من قومي فجعل يفرض للرجل من طيئ في ألفين ويعرض عني، قال: فاستقبلته فأعرض عني، ثم أتيته من حيال وجهه فأعرض عني، قال: فاستقبلته فأعرض عني، قال: قلت: يا أمير المؤمنين, أتعرفني? قال: فضحك ثم قال: والله إني لأعرفك, آمنت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وإن أول صدقة بيضت وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووجوه أصحابه صدقة طيئ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 حيث جئت بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم أخذ يعتذر له, ثم قال: إنما فرضت لأقوام أجحفت بهم الفاقة وهم سادات عشائرهم لما ينوب من الحتوف، قال عدي: فلا أبالي إذًا. خرجه البخاري بتمامه، وهو لمسلم مختصر. وعن أبي الطفيل عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان -وكان قد استعمله على مكة- فقال: من استعملت على أهل الوادي? قال: ابن أبزي? قال: ومن ابن أبزي? فقال: مولى من موالينا، فقال: استعملت عليهم مولى? فقال: إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب قومًا ويضع به آخرين". خرجه مسلم. وعن ليث بن أبي سليمان قال: بلغني أن عمر بن الخطاب عوتب في جهده نهارًا في أمور الناس, وفي إجهاده ليلًا في أمور آخرته فقال لهم: إن أنا نمت نهاري ضاعت الرعية، وإن نمت ليلي ضيعت نفسي، فكيف بالنوم معهما?! خرجه نظام الملك في أماليه. وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: خرجت مع عمر إلى السوق فلحقته امرأة شابة فقالت: يا أمير المؤمنين هلك زوجي وترك صبية صغارًا، والله ما ينضجون كراعًا ولا لهم ضرع ولا زرع وخشيت عليهم الضيعة، وأنا ابنة خفاف بن أيمن الغفاري، وقد شهد أبي الحديبية مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوقف معها ولم يمض وقال: مرحبًا بنسب قريب، ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطًا في الدار فحمل عليه غرارتين ملأهما طعامًا وجعل بينهما نفقة وثيابًا، ثم ناولها خطامه فقال: اقتاديه فلن يفنى هذا حتى يأتيكم الله بخير، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين أكثرت لها، فقال: ثكلتك أمك!! والله إني لأرى أبا هذه وأخاه وقد حاصرا حصنًا زمانًا فافتتحاه, ثم أصبحنا نستفيء سهامهما. خرجه البخاري. "شرح" ظهير أي: قوي وناقة ظهير، وأصله من الظهير: المعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 ومنه: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} . وعنه أن عمر بن الخطاب طاف ليلة فإذا بامرأة في جوف دار لها حولها صبيان يبكون، وإذا قدر على النار قد ملأتها ماء, فدنا عمر من الباب فقال: يا أمة الله!! لأي شيء بكاء هؤلاء الصبيان? فقالت: بكاؤهم من الجوع، قال: فما هذه القدر التي على النار? قالت: قد جعلت فيها ماء أعللهم بها حتى يناموا وأوهمهم أن فيها شيئًا، فجلس عمر يبكي، ثم جاء إلى دار الصدقة وأخذ غرارة وجعل فيها شيئًا من دقيق وسمن وشحم وتمر وثياب ودراهم حتى ملأ الغرارة ثم قال: أي أسلم، احمل علي، قلت: يا أمير المؤمنين أنا أحمله عنك، قال: لا أم لك يا أسلم، أنا أحمله لأني المسئول عنه في الآخرة، قال: فحمله على عاتقه حتى أتى به منزل المرأة وأخذ القدر وجعل فيها دقيقًا وشيئًا من شحم وتمر، وجعل يحركه بيده وينفخ تحت القدر -وكانت لحيته عظيمة فرأيت الدخان يخرج من خلال لحيته- حتى طبخ لهم، ثم جعل يغرف بيده ويطعمهم حتى شبعوا ثم خرج. خرجه الفضائلي. وعنه أن عمر كان يصوم الدهر وكان زمان الرمادة إذا أمسى أتي بخبز قد ثرد بالزيت إلى أن نحر يومًا من الأيام جزورًا فأطعمها الناس وغرفوا له طيبها، فأتي به فإذا قدر من سنام ومن كبد، فقال: أي هذا? فقالوا: يا أمير المؤمنين من الجزور التي نحرنا اليوم، قال: بخ بخ!! بئس الوالي أنا!! أكلت طيبها وأطعمت الناس كراديسها، ارفع هذه الجفنة، هات لنا غير هذا الطعام، فأتي بخبز وزيت فجعل يكسر بيده ويثرد ذلك الخبز، ثم قال: ويحك يا يرفأ! احمل هذه الجفنة حتى تأتي بها أهل بيت بتمغ, فإني لم آتهم منذ ثلاثة أيام أحسبهم مقفرين، فضعها بين أيديهم. خرجه صاحب الصفوة. "شرح" الرمادة: الهلاك، يشير -والله أعلم- إلى زمن القحط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 والقدر: القطع جمع قدرة، وهي القطعة من اللحم إذا كانت مجتمعة, وتمغ اسم مال لعمر، وقد تقدم بخ بخ تقدم شرحه أيضًا في ذكر الورع. وروي أنه عام الرمادة لما اشتد الجوع بالناس وكان لا يوافقه الشعير والزيت ولا التمر وإنما يوافقه السمن، فحلف لا يأتدم بالسمن حتى يفتح على المسلمين عامه هذا، فصار إذا أكل خبز الشعير والتمر بغير أدم يقرقر بطنه في المجلس فيضع يده عليه ويقول: إن شئت قرقر, وإن شئت لا تقرقر، ما لك عندي أدم حتى يفتح الله على المسلمين. وروي أن زوجته اشترت له سمنًا فقال: ما هذا? قالت: من مالي ليس من نفقتك، قال: ما أنا بذائقه حتى يجيء الناس. خرجهما في فضائله. وعن أبي هريرة قال: خرج عمر عام الرمادة فرأى نحوًا من عشرين بيتًا من محارب، فقال عمر: ما أقدمكم? قالوا: الجهد، قال: وأخرجوا لنا جلد ميتة مشويا كانوا يأكلونه ورمة العظام يسحقونها ويسفونها، قال: فرأيت عمر طرح رداءه ثم نزل يطبخ لهم ويطعم حتى شبعوا، ثم أرسل أسلم إلى المدينة فجاءه بأبعرة, فحملهم عليها ثم كساهم, ثم لم يزل يختلف إليهم وإلى غيرهم حتى رفع الله ذلك. وعن1 ... أن عمر خرج حاجا في نفر من أصحابه حتى بلغ الأبواء, إذا هو بشيخ على قارعة الطريق فقال الشيخ: يا أيها الركب قفوا, فوقفوا له، وقال عمر: قل يا شيخ قال: أفيكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم? قالوا: لا وقد توفي! قال: أوقد توفي? قالوا" نعم, فبكى حتى ظننا أن نفسه ستخرج من جنبيه، ثم قال: من ولي الأمة بعده؟ قالوا: أبو بكر، قال: نجيب بني تيم؟ قالوا: نعم، قال: أفيكم هو? قالوا: لا وقد توفي. قال: توفي! قالوا: نعم, فبكى حتى سمعنا لبكائه نشيجًا، وقال: من ولي الأمة   1 وعن أبي هريرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 بعده? قالوا: عمر بن الخطاب، قال: فأين كانوا من أبيض بني أمية -يريد عثمان بن عفان- فإنه كان ألين جانبًا وأقرب؟! ثم قال: إن كانت صداقة أبي بكر لعمر لمسلمة إلى خير، أفيكم هو? قالوا: هو الذي منذ اليوم يكلمك، قال: أغثني, فإني لم أجد مغيثًا، قال: ومن أنت بلغك الغوث? قال: أنا أبو عقيل أحد بني مليك، لقيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدعاني إلى الإسلام فآمنت به وصدقت بما جاء به، فسقاني شربة سويق شرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولها وشربت آخرها، فما برحت أجد شبعها إذا جعت وريها إذا عطشت وبردها إذا سخنت, ثم يممت في رأس الأبيض أنا وقطعة غنم، أصلي في يومي وليلتي خمس صلوات وأصوم شهرًا هو رمضان, وأذبح شاة بعشر ذي الحجة أنسك بها حتى إذا أتت علينا السنة فما أبقت لنا منها غير شاة واحدة ننتفع بدرها, فأكلها الذئب البارحة الأولى فأدركنا زكاتها وأكلناها وبلغناك فأغث أغاثك الله، قال عمر: بلغك الغوث بلغك الغوث، أدركني على الماء، قال الراوي: فنزلنا المنزل وأصبنا من فضل أزوادنا, فكأني أنظر إلى عمر متقنعًا على قارعة الطريق، آخذًا بزمام ناقته لم يطعم طعامًا ينتظر الشيخ ويرمقه، فلما رحل الناس دعا عمر صاحب الماء فوصف له الشيخ وقال: إذا أتى عليك فأنفق عليه وعلى عياله حتى أعود عليك إن شاء الله تعالى, قال: فقضينا حجنا وانصرفنا، فلما نزلنا المنزل دعا عمر صاحب الماء فقال: هل أحسنت إلى الشيخ? قال: نعم يا أمير المؤمنين، أتاني وهو موعدك فمرض عندي ثلاثًا ومات فدفنته وهذا قبره، فكأني أنظر إلى عمر وقد وثب مباعدًا ما بين خطاه حتى وقف على القبر فصلى عليه ثم اعتنقه وبكى، ثم قال: كره الله له صلتكم واختار له ما عنده، ثم أمر بأهله فحملوا فلم يزل ينفق عليهم حتى قبض رضي الله عنه. وروي عنه أنه كان إذا جاءه وفد من الأقطار استخبرهم عن أحوال الناس فيقولون: أما البلد الفلاني فإنهم يرهبون أمير المؤمنين ويخافون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 سطوته ويحذرون عقوبته، وأما البلد الفلاني فإنهم قد جمعوا من الأموال ما لا تحمله السفن وهم موجهون بها إليك، وأما البلد الفلاني فقد وجدنا بها عابدًا في زاوية من زوايا المسجد ساجدًا يقول في سجوده: "اللهم اغفر لأمير المؤمنين عمر زلته, وارفع درجته" فيقول عمر: أما من خافني فلو أريد بعمر خير لما أخيف منه، وأما الأموال فلبيت مال المسلمين ليس لعمر ولا لآل عمر فيها شيء، وأما الدعاء الذي سمعتم بظهر الغيب فإن ما أرجو أن يعيد الله من بركات الصالحين ودعواتهم علي فيغفر لي. وعن عروة بن رويم قال: بينما عمر بن الخطاب يتصفح الناس يسألهم عن أمراء أجنادهم إذ مر بأهل حمص فقال: كيف أنتم وكيف أميركم? قالوا: خير أمير يا أمير المؤمنين, إلا أنه قد بنى علية يكون فيها, فكتب كتابًا وأرسل بريدًا وأمره إذا جئت باب عليته فاجمع حطبًا وأحرق باب عليته، فلما قدم جمع حطبًا وأحرق باب العلية، فدخل عليه الناس وذكروا أن ههنا رجلًا يحرق باب عليتك فقال: دعوه فإنه رسول أمير المؤمنين، ثم دخل عليه فناوله الكتاب فلم يضع الكتاب من يده حتى ركب، فلما رآه عمر قال: احبسوه عني في الشمس ثلاثة أيام، فحبس عنه ثلاثة حتى إذا كان بعد ثلاثة قال: يابن قرط ألحقني إلى الحرة -وفيها إبل الصدقة وغنمها- حتى إذا جاء الحرة ألقى عليه ثمرة وقال: انزع ثيابك واتزر بهذه ثم ناوله الدلو فقال: اسق هذه الإبل فلم يفرغ حتى لغب، فقال: يابن قرط متى كان عهدك بهذا? قال: مليا يا أمير المؤمنين، قال: فلهذا بنيت العلية وأشرفت بها على المسلمين والأرملة واليتيم، ارجع إلى عملك ولا تعد. لغب أي: تعب، ومنه: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} مليا أي: زمانًا وحينًا. وعن إبراهيم أن عمر كان إذا بلغه عن عامله أنه لا يعود المريض ولا يدخل عليه الضعيف نزعه. خرجهما سعيد بن منصور في سننه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 وعن ابن عمر قال: قدمت رفقة من التجار فنزلوا المصلى فقال عمر لعبد الرحمن: هل لك أن تحرسهم الليلة من السرق? فباتا يحرسانهم ويصليان ما كتب الله لهما، فسمع عمر بكاء صبي فتوجه نحوه فقال لأمه: اتقي الله وأحسني إلى صبيك، ثم عاد إلى مكانه فسمع بكاءه فعاد إلى أمه فقال لها مثل ذلك، ثم عاد إلى مكانه, فلما كان من آخر الليل سمع بكاءه فأتى إلى أمه وقال: ويحك! إني لأراك أم سوء، ما لي لا أرى ابنك لا يقر منذ الليلة? قالت: يا عهد الله قد أبرمتني منذ الليلة، إني أربعه على الفطام فيأبى، قال: ولم? قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للمفطم، قال: فكم له? قالت: كذا وكذا شهرًا، قال: لا تعجليه، فصلى الفجر وما يستبين الناس ثم غلبه البكاء، فلما سلم قال: يا بؤسا لعمر، كم قتل من أولاد المسلمين؟! ثم أمر مناديًا ينادي أن لا تعجلوا صبيانكم على الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، وكتب بذلك إلى الآفاق أن يفرض لكل مولود في الإسلام. خرجه صاحب الصفوة. "شرح" أبرمتني: أضجرتني, أربعه: أحبسه وأمرنه, البؤسى: خلاف النعي. وروي أن عمر جاءته برود من اليمن ففرقها على الناس بردًا بردًا, ثم صعد المنبر يخطب وعليه حلة منها فقال: اسمعوا رحمكم الله! فقام إليه رجل من القوم فقال: والله لا نسمع، والله لا نسمع، فقال: ولم يا عبد الله؟! قال: لأنك يا عمر تفضلت علينا بالدنيا، فرقت علينا بردًا بردًا وخرجت تخطب في حلة منها، فقال: أين عبد الله بن عمر? فقال: ها أنا يا أمير المؤمنين، فقال: لمن أحد هذين البردين اللذين عليّ? قال: لي، فقال للرجل: عجلت علي يا عبد الله، إني كنت غسلت ثوبي الخلق فاستعرت ثوب عبد الله، قال: قل الآن: نسمع ونطيع. خرجه الملاء في سيرته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 وعن أنس بن مالك: بينما أمير المؤمنين عمر يعسّ ذات ليلة إذ مر بأعرابي جالس بفناء خيمة فجلس إليه يحدثه ويسأله ويقول له: ما أقدمك هذه البلاد? فبينما هو كذلك إذ سمع أنينًا من الخيمة فقال: من هذا الذي أسمع أنينه? فقال: أمر ليس من شأنك، امرأة تمخض، فرجع عمر إلى منزله وقال: يا أم كلثوم شدي عليك ثيابك واتبعيني، قال: ثم انطلق حتى انتهى إلى الرجل فقال له: هل لك أن تأذن لهذه المرأة أن تدخل عليها فتؤنسها، فأذن لها فدخلت فلم يلبث أن قالت: يا أمير المؤمنين بشر صاحبك بغلام، فلما سمع قولها أمير المؤمنين وثب من حينه فجلس بين يديه وجعل يعتذر إليه فقال: لا عليك!! إذا أصبحت فأتنا فلما أصبح أتاه ففرض لابنه في الذرية وأعطاه. وعن ... أن عمر لما رجع من الشام إلى المدينة انفرد عن الناس ليعرف أخبارهم فمر بعجوز في خبائها فقصدها فقالت: يا هذا ما فعل عمر؟ قال: هو ذا قد أقبل من الشام، قالت: لا جزاه الله عني خيرًا، قال: ويحك! ولم? قالت: لأنه والله ما نالني من عطائه منذ ولي إلى يومنا هذا دينار ولا درهم، فقال: ويحك ما يدري عمر حالك, وأنت في هذا الموضع? فقالت: سبحان الله ما ظننت أن أحدًا يلي على الناس ولا يدري ما بين مشرقها ومغربها! قال: فأقبل عمر وهو يبكي ويقول: وا عمراه! وا خصوماه! كل واحد أفقه منك يا عمر، ثم قال لها: بكم تبيعيني ظلامتك منه فإني أرحمه من النار؟ قالت: لا تهزأ بنا يرحمك الله، قال لها عمر: ليس بهزء، فلم يزل بها حتى اشترى ظلامتها بخمسة وعشرين دينارًا، فبينا هو كذلك إذ أقبل علي بن أبي طالب وابن مسعود فقالا: السلام عليك يا أمير المؤمنين, فوضعت المرأة يدها على رأسها وقالت: وا سوءتاه!! شتمت أمير المؤمنين في وجهه، فقال لها عمر: لا عليك يرحمك الله، قال: ثم طلب عمر قطعة جلد يكتب فيه فلم يجد, فقطع قطعة من فروة كان لبسها وكتب: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} هذا ما اشترى عمر من فلانة ظلامتها منذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 ولي إلى يومنا بخمسة وعشرين دينارًا، فما تدعي عند وقوفي في المحشر بين يدي الله -عز وجل- فعمر منه بريء، شهد على ذلك علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود، ثم دفع الكتاب إلى علي وقال: إذا أنا تقدمتك, فاجعلها في كفني. وعن الأوزاعي أن عمر بن الخطاب خرج في سواد الليل فرآه طلحة, فذهب عمر فدخل بيتًا ثم دخل بيتًا آخر فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت, فإذا بعجوز عمياء مقعدة فقال لها: ما بال هذا الرجل يأتيك? قالت: إنه معاهدي منذ كذا وكذا بما يصلحني, ويخرج عني الأذى فقال طلحة: ثكلتك أمك! أعثرات عمر تتبع? خرجه صاحب الصفوة والفضائلي. وعن ... 1 أن عمر كان يخرج ظاهر المدينة ويتفقد أحوال الناس, فصلى الظهر تحت شجرة بعيدة من المدينة ثم وضع رأسه يستريح تحتها ساعة, فمر به رجل2 كافر ووقف على رأسه وقال: أحسنت يا عمر عدلت فنمت، فلما استيقظ قبل رجليه وأسلم، فبكى عمر وقال: يا رب, هلك عمر إن لم ترحمه. وعن ابن عمر أن عمر رأى رجلًا يحتش في الحرم فقال: أما علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن هذا? قال: لا، وشكا إليه الحاجة فرثى له وأمر له بشيء، خرجه المخلص الذهبي. وعن عبد الله بن جعفر قال: رأيت عمر بن الخطاب وإنه ليدعو بالإناء فيه الماء فيعطيه معيقيبًا -وكان رجلًا قد أسرع فيه ذلك الوجع- فيشرب منه ثم يتناوله عمر من يده, فيتيمم بفمه موضع فمه حتى يشرب منه، فعرف أنه إنما يصنع ذلك فرارًا من أن يدخل نفسه في شيء من   1 وعن الأوزاعي. 2 هو رسول كسرى ملك الفرس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 العدوى، قال: وكان يطلب له الطب من كل من يسمع له بطب حتى قدم عليه رجلان من أهل اليمن فقال: هل عندكما من طب لهذا الرجل الصالح, فإن هذا الوجع قد أسرع فيه? قالا: ما شيء يذهبه، فإنا لا نقدر عله، ولكنا نداويه بدواء يقفه فلا يزيد، قال عمر: عافية عظيمة أن يقف فلا يزيد، قالا: هذا ينبت في أرضك هذا الحنظل، قال: نعم، قالا: فاجمع لنا منه، قال: فأمر عمر فجمع له منه مكتلان عظيمان، قال: فعمد إلى كل حنظلة فقطعاها باثنين ثم أضجعا معيقيبًا فأخذ كل واحد منهما بإحدى قدميه, ثم جعلا يدلكان بطون قدميه بالحنظل حتى إذا محقت أخذا أخرى حتى رأينا معيقيبًا ينتخمه، أخضر مرا، ثم أرسلاه فقالا لعمر: لا يزيد وجعه هذا أبدًا، وقال: فوالله ما زال معيقيب منها متماسكًا ما يزيد وجعه حتى مات. خرجه أبو مسعود أحمد بن الفرات الضبي. وعن ابن عمر قال: كتب عمر بن الخطاب فيمن غاب من الرجال من أهل المدينة عن نسائهم أن يردوهم: فليرجعوا إليهن أو يطلقوهن أو ليبعثوا إليهن بالنفقة، فمن طلق بعث نفقة ما ترك. خرجه الأبهري. وروي أنه كان يطوف ليلة في المدينة, فسمع امرأة تقول: ألا طال هذا الليل وازورَّ جانبه ... وليس إلى جنبي خليل ألاعبه فوالله لولا الله تخشى عواقبه ... لزعزع من هذا السرير جوانبه مخافة ربي والحياء يردني ... وأكرم بعلي أن تنال مراكبه ولكنني أخشى رقيبًا موكلا ... بأنفسنا لا يفتر الدهر كاتبه فسأل عمر نساء: كم تصبر المرأة عن الرجل? فقلن: شهرين، وفي الثالث يقل الصبر، وفي الرابع ينفد الصبر، فكتب إلى أمراء الأجناد: أن لا تحبسوا رجلًا عن امرأته أكثر من أربعة أشهر. وعن الشعبي قال: سمع عمر امرأة تقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 دعتني النفس بعد خروج عمرو ... إلى اللذات تطلع اطلاعا فقلت لها: عجلت فلن تطاعي ... ولو طالت إقامته رباعا أحاذر أن أطيعك سب نفسي ... ومخزاة تجللني قناعا فقال لها عمر: ما الذي يمنعك من ذلك? قالت: الحياء وإكرام زوجي، قال عمر: إن في الحياة لهنات ذات ألوان؛ من استحى استخفى، ومن استخفى اتقى، ومن اتقى وقى. خرجه ابن أبي الدنيا. وعن ... 1 أن رجلًا من الموالي خطب إلى رجل من قريش أخته وأعطاها مالًا جزيلًا, فأبى القرشي من تزويجها، فقال له عمر: ما منعك أن تزوجه فإن له صلاحًا وقد أحسن عطية أختك? فقال القرشي: يا أمير المؤمنين إن لنا حسبًا وإنه ليس لها بكفء، فقال عمر: لقد جاءك بحسب الدنيا والآخرة؛ أما حسب الدنيا فالمال، وأما حسب الآخرة فالتقوى, زوج الرجل إن كانت المرأة راضية، فراجعها أخوها فرضيت فزوجها منه. ذكر محافظته على مال المسلمين ومباشرة ذلك بنفسه, ووصف عثمان وعلي -رضي الله عنهما- إياه بالقوة والأمانة -رضي الله عنه: تقدم في صدر هذا الفصل في النثر طرف جيد، ثم في ذكر زهده وذكر ورعه طرف صالح منه، وكذلك تقدم في غضون الأحاديث كثير مما يتضمن معناه. وعن أبي بكر العبسي قال: دخلت مع عمر وعثمان وعلي مكان الصدقة فجلس عثمان في الظل يكتب، وقام علي على رأسه يملي عليه ما يقول عمر, وعمر قائم في الشمس في يوم شديد الحر، عليه بردتان سوداوان مؤتزر بواحدة وقد وضع الأخرى على رأسه، وهو يتفقد إبل الصدقة يكتب ألوانها وأسنانها، فقال علي لعثمان: أما سمعت قول ابنة   1 وعن الشعبي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 شعيب في كتاب الله -عز وجل- {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} وأشار إلى عمر وقال: هذا القوي الأمين، خرجه المخلص وابن السمان في الموافقة. وعن محمد بن علي بن الحسين عن مولى لعثمان بن عفان قال: بينما أنا مع عثمان في مال له في العالية في يوم صائف إذ رأى رجلًا يسوق بكرين وعلى الأرض مثل الفراش من الحر، فقال عثمان: ما على هذا? فنظرت فقلت: أرى رجلًا معممًا بردائه يسوق بكرين ثم دنا الرجل فقال: انظر فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب فقلت: هذا أمير المؤمنين، فقام عثمان فأخرج رأسه من الباب فإذا لفح السموم فأعاد رأسه حتى إذا حاذاه قال: ما أخرجك هذه الساعة? فقال: بكران من إبل الصدقة تخلفا وقد مضى بإبل الصدقة, فأردت أن ألحقهما بالحمى وخشيت أن يضيعا فيسألني الله عنهما فقال عثمان: يا أمير المؤمنين هلم الماء والظل ونكفيك قال: عد إلى ظلك، فقلت: عندنا من يكفيك، فقال: عد إلى ظلك ومضى، فقال عثمان: من أحب أن ينظر إلى القوي الأمين فلينظر إلى هذا, خرجه الشافعي في مسنده. ذكر كتبه لعماله, وما كان يوصيهم ويأمرهم به: عن أسلم أن عمر استعمل مولى له على الصدقة يدعى هنيئًا فقال: يا هنيء, ضم جناحك عن الناس، واتق دعوة المظلوم فإنها مجابة، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة، وإياك ونعم ابن عفان وابن عوف فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى زرع ونخل، وإن رب الصريمة والغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتيني ببنيه فيقول: يا أمير المؤمنين أفتاركه أنا? لا أبا لك!! فالماء والمأكل أيسر من الذهب والفضة، وايم الله!! إنهم ليرون أنا قد ظلمناهم وإنها لبلادهم ومياههم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام, والله لولا أن المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 الناس من بلادهم شيئًا. خرجه البخاري. "شرح" الصريمة: تصغير الصرمة وهي القطعة من الإبل, وقوله الصريمة: تصغير الصرمة وهي القطعة من الإبل. وقوله: "لا أبا لك" قال الجوهري: هو مدح وكذا لا أم لك، وربما قالوا: لا أبا لك لأن اللام كالمقحمة، ومعناه: لا كافي لك يشبهك. قال في النهاية: وقد تذكر في بعض الذم لقولهم: لا أم لك. وعن خزيمة بن ثابت قال: كان عمر إذا استعمل عاملًا كتب عليه كتابًا وأشهد عليه رهطًا من المهاجرين والأنصار ثم يقول له: إني لم أستعملك على دماء المسلمين ولا على أعراضهم ولا على أستارهم, ولكن استعملتك لتقيم فيهم الصلاة وتقسم فيهم وتحكم بالعدل، ثم يشترط عليه أنه لا يأكل ولا يلبس رفيعًا ولا يركب برذونًا ولا يغلق بابه دون حاجات الناس. خرجه الفضائلي، وكان يأمر أصحابه بالتقشف فيقول لهم: "اخشوشنوا, واخشوشبوا". وعن سفيان بن عيينة أن سعد بن أبي وقاص كتب إلى عمر وهو على الكوفة يستأذنه في بناء منزل يسكنه, فكتب إليه: ابنِ ما يسترك من الشمس ويكنك من الغيث. خرجه الفضائلي أيضًا. وعن عروة بن رويم اللخمي قال: كتب ابن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح كتابًا يقرؤه على الناس بالجابية. أما بعد: فإنه لا يقيم أمرا في الناس إلا خصيف القعدة بعيد الغرة، ولا يطلع الناس منه على عورة، ولا يحنق في الحق على حرة، ولا يخاف في الله لومة لائم، والسلام عليك. وفي رواية: ولا يحابي في الحق على قرابة مكان, ولا يحنق في الحق على حرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 "شرح" خصيف القعدة أي: مستحكمها، واستخصف الشيء: استحكم, الخصيف: الرجل المحكم العقل وكنى بذلك عمر عن الاشتداد في دين الله وقوة الإيمان، والغرة: الاعتماد. وكتب إليه أيضًا: أما بعد, فإني كتبت إليك كتابًا لم آلك ونفسي فيه خيرًا: الزم خمس خلال يسلم لك دينك وتحظ بأفضل حظك: إذا حضرك الخصمان فعليك بالبينات العدول والأيمان القاطعة, ثم أدن الضعيف حتى ينبسط لسانه ويجري قلبه, وتعاهد الغريب فإنه إذا طال حبسه ترك حاجته وانصرف إلى أهله، وإنما الذي أبطل حقه من لم يرفع به رأسًا، واحرص على الصلح ما لم يتبين لك القضاء، والسلام عليك. خرجه السمرقندي. وعن زيد الأيامي قال: كتب أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب: أما بعد, فإنا عهدناك وشأن نفسك لك مهم، فأصبحت اليوم وقد وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها، يجلس بين يديك الشريف والوضيع والصديق والعدو، ولكل حصته من العدل، فانظر كيف أنت عند ذلك يا عمر؟ وإنا نحذرك ما حذرت الأمم قبلك، ونحذرك يومًا تعنو فيه الوجوه وتوجل فيه القلوب وتنقطع فيه الحجج لغرة ملك قاهر، هم له داخرون وينتظرون قضاءه ويخشون عقابه، وإنه كان يذكر لنا أنه سيأتي الناس زمان يكون إخوان العلانية فيه أعداء السريرة. وإنا نعوذ بالله -عز وجل- أن ينزل كتابنا منك سوى المنزل الذي نزل من قلوبنا، وإنما كتبنا به إليك والسلام. فكتب إليهما عمر: أما بعد, فإنه أتاني كتابكما, فكتبتما إلي أنكما عهدتماني وشأن نفسي إلي مهم وما يدريكما، وكتبتما إلي أني وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها، يجلس بين يدي الشريف والوضيع والعدو والصديق ولكل حصته من العدل، وإنه لا حول ولا قوة عند عمر إلا بالله -عز وجل- وكتبتما تحذرانني ما حذرت الأمم من قبل، وإنما هو اختلاف الليل والنهار وآجال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 الناس يبنيان كل جديد ويقربان كل بعيد ويأتيان بكل موعود، حتى تصير الناس أعمالهم إلى الجنة أو إلى النار، فيجزي الله كل نفس بما كسبت إن الله سريع الحساب، وكتبتما أنه كان يذكر لكما أنه سيأتي على الناس زمان يكون فيه إخوان العلانية أعداء السريرة ولستم أولئك، وليس هذا زمان ذاك، إنما ذلك إذا ظهرت الرغبة والرهبة فكان رغبة الناس بعضهم إلى بعض في إصلاح دنياهم, وكتبتما إلي تعيذانني بالله أن ينزل كتابكما مني سوى المنزل الذي نزل من قلوبكما، وإنما كتبتما إلي نصيحة، وإني قد صدقتكما فتعاهداني منكما بكتاب، فإنه لا غناء عنكما. خرجه في كتاب التحفة. "سرح" تعنو فيه الوجوه: تخضع. وعن أبي عوانة قال: كتب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى عبد الله بن عمر: أما بعد, فإنه من اتقى الله وقاه, ومن توكل عليه كفاه, ومن أقرضه جزاه, ومن شكره زاده، ولتكن التقوى عماد عملك وجلاء قلبك، فإنه لا عمل لمن لا نية له, ولا مال لمن لا رفق له, ولا جديد لمن لا خلق له. خرجه الصولي. وعن ... 1 أن عمر كتب إلى أبي موسى الأشعري: أما بعد, فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك بحجة, وأنفذ الحق إذا وضح؛ فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آسِ بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك حتى لا ييأس الضعيف من عدلك ولا يطمع الشريف في حيفك، البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا، لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق، فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، الفهم الفهم   1 وعن أبي عوانة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في الكتاب والسنة، واعرف الأمثال والأشباه ثم قس الأمور عند ذلك فاعمد إلى أحبها إلى الله -عز وجل- وأشبهها بالحق فيما ترى، واجعل لمن ادعى بينة أمدًا ينتهي إليه، فإن أحضر بينة أخذت له بحقه وإلا وجهت القضاء عليه، فإن ذلك أجلى للعمى وأبلغ في العذر, المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودًا في حد ومجربًا في شهادة زور أو ظنينًا في ولاء أو وراثة، إن الله تولى منكم السرائر ودرأ عنكم البينات, وإياك والغلق والضجر والتأذي بالناس والتنكر للخصوم في مواطن الحق التي يوجب الله بها الأجر ويحسن بها الذخر، فإنه من يصلح نيته فيما بينه وبين الله تعالى ولو على نفسه يكفيه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين للناس بما يعلم الله منه غير ذلك يشينه الله، فما ظنك بثواب الله -عز وجل- وعاجل رزقه وخزائن رحمته?!!. والسلام عليك. خرجه الدارقطني. "شرح" أدلى يقال: أدلى دلوه: أرسلها، ودلاها: أخرجها, والظنين بالظاء: المتهم وبالضاد: البخل والأول المقصود, الغلق: ضيق الصدر ورجل غلق: سيئ الخلق وأغلق الأمر إذا لم ينفسح, وغلق الرهن إذا لم يجد مخلصًا, والشين: العيب. وروي أنه كتب له أيضًا: أما بعد، فإن أسعد الرعاة من سعدت به رعيته وأشقاهم من شقيت به رعيته، وإياك أن تزيغ فتزيغ عمالك فيكون مثلك عند الله مثل البهيمة نظرت إلى خضرة من الأرض ورعت تبتغي بذلك السمن، وإنما حتفها في سمنها، والسلام. "شرح" تزيغ: تميل, حتفها: هلاكها, وكان يكتب إلى أهل الأمصار: علموا أولادكم العوم والفروسية. وعن كرام بن معاوية قال: كتب إلينا عمر: أن أدبوا الخيل ولا ترفعن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 بين ظهرانيكم الصليب, ولا تجاورنكم الخنازير. خرجه ابن عرفة العبدي. وعن جعفر بن رومان أن عمر كتب إلى بعض عماله فكان في آخر كتابه: أن حاسب نفسك في الرخاء قبل حسابك في الشدة، فإنه من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد مرجعه إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته وشغفته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والحسرة، فتذكر ما توعظ به لكيما تنتهي عما تنهى عنه, وتكون عند التذكرة والوعظ من أولي النهى، خرجه في محاسبة النفس لابن أبي الدنيا. وعن أبي عثمان عبد الرحمن النهدي قال: كتب إلينا عمر, ونحن بآذربيجان مع عتبة بن فرقد: يا عتبة, إنه ليس من كدك ولا من كد أبيك فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك، وإياكم والتنعم وزي أهل الشرك ولبوس الحرير، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن لبوس الحرير، قال: "إلا هكذا" ورفع لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأصبعيه السبابة والوسطى وضمهما. أخرجاه. ذكر أنه كان أعز الناس على أبي بكر: عن عائشة قالت: قال أبو بكر ذات يوم: ما على الأرض أحد أحب إلي من عمر، ثم قال: كيف قلت? قالت: قلت: ما على الأرض أحد أحب إلي من عمر، قال: أعز علي والولد ألوط. "شرح" ألوط: ألصق بالقلب. فصل: فيما رواه علي في فضل عمر, وروي عنه قد تقدمت أكثر أحاديث هذا الفصل فيها، حديث دعائه -صلى الله عليه وسلم- أن يعز الله به الإسلام، وحديث تسميته الفاروق، وحديث أنه من أهل الجنة، وحديث أنه سراج أهل الجنة. وتقدم في الخصائص حديث هجرته علانية وحديث انطلاقه إلى اليهود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 في الموافقات، وحديث مروره على المساجد في رمضان ودعائه لعمر، وقد تقدم في الفضائل حديث أن السكينة تنطلق على لسانه، وحديث أن شيطانه يخافه أن يجره إلى معصية، وحديث أن في القرآن لكلامًا من كلامه، وهذه في الخصائص، وحديث وصفه له بالقوي الأمين، وحديث شهادته والحسن والحسين بالعدل والإحسان في ذكر خوفه، وتقدم في باب الشيخين أحاديث التخيير وحديث سيدي كهول أهل الجنة، وأحاديث في الحث على حبهما والتحذير من سبهما -رضي الله عنهما. وسيأتي في فصل وفاته ثناؤه عليه عند ذلك، وقد تقدم أيضًا في باب الشيخين، وتقدم أيضًا في باب الأربعة أحاديث عنه في فضلهم وفي خلافتهم, وفي باب الثلاثة كذلك أيضًا. وعن علي -رضي الله عنه- أنه كان يقول: إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر. "شرح" حي: كلمة على حالها معناها: هلم وهلا: حث, فجعلا كلمة واحدة معناها, إذا ذكروا فهات وعجل بعمر. وعن الشعبي أن عليا قال لأهل نجران: إن عمر كان رشيد الأمر، ولن أغير شيئًا صنعه. وعنه أن عليا لما دخل الكوفة قال: ما كنت لأحل عقدة شدها عمر. وعن الحسن بن علي قال: لا أعلم عليا خالف عمر, ولا غير شيئًا مما صنع حين قدم الكوفة. وعن زيد أن عليا كان يشبه بعمر في السيرة. وعن أبي إسحاق -عمن حدثه- أنه كان جليسًا لعلي، فاستبكى بكاءً شديدًا فقيل له: ما يبكيك يا أمير المؤمنين? قال: ذكرت خليلي عمر وهذا البرد علي كسانيه. وعن أبي السفر قال: رئي على علي برد كان يلبسه فقيل له: إنك تكثر من لبس هذا البر? فقال له: كسانيه خليلي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 وصفيي عمر بن الخطاب. خرجهن ابن السمان في الموافقة، وخرج الأخير أبو القاسم الحريري وزاد: إن عمر ناصح الله فنصحه الله, ثم بكى. وعن علي أنه كان يقول: لا يبلغني أن أحدًا فضلني على عمر إلا ضربته حد المفتري. خرجه سعدان بن نصر، وقد تقدم بطرق كثيرة في أبي بكر وعمر في بابهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 الفصل العاشر: في خلافته, وما يتعلق بها ذكر ما جاء متضمنا الدلالة عليها، وجميع أحاديث هذا الذكر قد تقدمت في نظيره في باب الأربعة والثلاثة والشيخين. ذكر ما أخبر به أهل الكتاب عن كتبهم متضمنًا ذلك: عن صالح بن كيسان قال: بلغني أن اليهود قالوا: إنا نجد فيما نقرأ من الأحاديث عن الأنبياء أنه يجلي يهود الحجاز رجل صفته صفة عمر، فأجلاهم. خرجه الزهري. وعن عمر قال: دخلت الشام في أيام الجاهلية تاجرًا مع أصحاب من قريش, فلما قضينا حاجتنا من دمشق وخرجت أنحو مكة نسيت حاجة فرجعت إليها وقلت لأصحابي: أنا ألحقكم، فوالله إني لفي سوق من أسواقها إذا أنا ببطريق قد جاء فأخذ بعنقي وأدخلني كنيسة، فإذا تراب متراكم بعضه على بعض، فدفع إلي مجرة وفأسًا وزنبيلًا وقال: انقل هذا التراب، فجلست أتفكر في أمري كيف أصنع? فأتاني في الهاجرة وقال: لم أرك أخرجت شيئًا، وضم أصابعه فضرب بها وسط رأسي، فقلت: ثكلتك أمك يا عمر، بلغت ما أرى، فقمت بالمجرة فضربت بها هامته، فإذا دماغه قد انتثر، فأخذته فواريته تحت التراب، ثم خرجت على وجهي ما أدري أين أسلك بقية يومي وليلتي حتى أصبحت، فانتهيت إلى دير فاستظللت بظله، فخرج إليَّ رجل منه فقال: يا عبد الله ما يجلسك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 ههنا? فقلت: أضللت أصحابي، فقال: ما أنت على الطريق، وإنك لتنظر بعين خائف، ادخل فأصب من الطعام والشراب واسترح ونم، فدخلت فأتى بطعام وشراب، فصعد في النظر وصوبه ثم قال: يا هذا, قد علم أهل الكتاب أنه لم يبق على وجه الأرض أحد أعلم مني بالكتاب، وإني أجد صفتك الذي يخرجنا من هذا الدير وتغلب على هذه البلدة، فقلت له: أيها الرجل قد صنعت معروفًا فلا تكدره، فقال لي: اكتب لي كتابًا في رق ليس عليك فيه شيء, فإن تكن صاحبنا فهو ما نريد، وإن تكن الأخرى فلن يضرك، فقلت: هات فكتبت له ثم ختمت عليه، فدعا بنفقة فدفعها إلي وبأثواب وبأتان قد وكفت، فقال: ألا تسمع؟ قلت: نعم!! قال: اخرج عليها، فإنها لا تمر بأهل دير إلا علفوها وسقوها، حتى إذا بلغت مأمنك فاضرب في وجهها مدبرة فإنها لا تمر بقوم ولا أهل دير إلا علفوها وسقوها، حتى أدركت أصحابي متوجهين إلى الحجاز ثم ضربت في وجهها مدبرة ثم سرت معهم. قال الراوي: فلما قدم عمر في خلافته إلى الشام أتاه ذلك الراهب وهو صاحب دير العدس بذلك الكتاب, فعرفه عمر فقال له: أوف لي، فقال عمر: ليس العمر فيه شيء ولكن للمسلمين. ثم أنشأ عمر يحدثنا بحديثه حتى أتى على آخره، ثم قال للراهب: إن أضفتم المسلمين وهديتموهم الطريق ومرضتم المريض فعلنا ذلك، قال: نعم يا أمير المؤمنين، فوفى له بشرطه. أخرجه في فضائله. ذكر وصف علي له بما يتأهل معه للخلافة, وتصويب أبي بكر في العهد إليه: وعن علي -رضي الله عنه- أنه خطب خطبة طويلة فقال فيها: أيها الناس إن هذا الأمر لا يصلح آخره إلا بما يصلح به أوله، ولا يحتمله إلا أفضلكم مقدرة وأملككم لنفسه وأشدكم في حال الشدة وأسلككم في حال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 اللين، يأتي على الأمور لا يتجاوز منها شيئًا معتدلًا لا عدوان فيه ولا تقصير، مقتصد لما هو آتٍ, وهو عمر بن الخطاب. وعن أنه قال في خطبة طويلة: إن الله تعالى صير الأمر إلى عمر في المسلمين, فمنهم من رضي ومنهم من سخط، فكنت ممن رضي، فوالله ما فارق الدنيا حتى رضي به من سخطه، فأعز الله بإسلامه الإسلام وجعل هجرته للدين قوامًا، وضرب الحق على لسانه حتى ظننا أن ملكًا ينطق على لسانه، وقذف الله في قلوب المؤمنين الحب له وفي قلوب المنافقين الرهبة منه، شبهه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بجبريل فظا غليظا، وبنوح حنقًا مغتاظًا فمن منكم بمثله. وقد تقدم معنى الجميع وبعض ألفاظه في باب أبي بكر وعمر. وعنه قال: المتفرسون في الناس أربعة: امرأتان ورجلان؛ فالمرأة الأولى: صفيراء بنت شعيب لما تفرست في موسى فقالت: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} والرجل الأول: الملك العزيز تفرس في يوسف -وكانوا فيه من الزاهدين- فقال لامرأته: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} والمرأة الثانية: خديجة, تفرست في النبي -صلى الله عليه وسلم- النبوة فقالت لعمها: قد شمت روحي روح محمد أنه نبي هذه الأمة فزوجني منه, والرجل الثاني: أبو بكر الصديق, لما حضرته الوفاة قال: إني قد تفرست أن أجعل الأمر من بعدي في عمر بن الخطاب فقلت له: إن تجعلها في عمر فإني راض، فقال: سررتني، والله لأسرنك بما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: وما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم? فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن على الصراط عقبة لا يجوزها أحد إلا بجواز من علي بن أبي طالب" فقلت: أفلا أسرك في نفسك وفي عمر بما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم? قال: بلى، قلت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "هذان سيدا كهول أهل الجنة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 وروي أن أبا بكر لما ثقل أشرف على الناس من كوة وقال: يا أيها الناس, إني قد عهدت عهدًا أفترضون به? قال الناس: رضينا يا خليفة رسول الله، فقال علي: لا نرضى إلا أن يكون عمر، قال: فإنه عمر. ذكر بيعته, وما يتعلق بها: قال أبو عمر وغيره: بويع له بالخلافة صبيحة ليلة وفاة أبي بكر، فاستخلافه له على ما تقدم بيانه سنة ثلاث عشرة. ذكر أول ما تكلم به لما ولي: عن شداد بن أوس قال: كان أول كلام تكلم به عمر حين صعد المنبر أن قال: اللهم إني شديد فليِّنِّي، وإني ضعيف فقوِّني، وإني بخيل فسخِّني، خرجه في الصفوة. وعن الحسن أن أول خطبة خطبها عمر حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد, فقد ابتليت بكم وابتليتم بي، وخلفت فيكم بعد صاحبي، فمن كان بحضرتنا باشرناه بأنفسنا، ومهما غاب عنا وليناه أهل القوة والأمانة، فمن يحسن نزده حسنى، ومن يسئ نعاقبه وغفر الله لنا ولكم. وعن الشعبي قال: لما ولي عمر صعد المنبر فقال: ما كان الله ليراني أرى نفسي أهلًا لمجلس أبي بكر، فنزل مرقاة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: اقرءوا القرآن تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا يوم العرض الأكبر يوم تعرضون على الله لا تخفى منكم خافية، إنه لم يبلغ حق ذي حق أن يطاع في معصية الله، ألا وإني نزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم, إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف، خرجه الفضائلي. وعن شريح أن رزق عمر كان في كل شهر مائة درهم، وقد تقدم في أول الفصل في النثر من حديث القلعي بزيادة، وجميع ما تقدم من صفاته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 بعد الخلافة من هيبة الناس له ومن تواضعه معهم في حضره وسفره وإنصافه لهم, وقد تقدم هناك أن استتبع الكلام بعضه بعضًا، وهذا موضع كبير منه. وعن ابن الأهتم أنه قال: لما ولي عمر الأمر بعد أبي بكر حسر عن ذراعيه وشمر عن ساقيه وأعد للأمور أقرانها وراضها وأذل صعابها، ثم حضرته الوفاة وكان قد أصاب من فيء المسلمين فلم يرض في ذلك بكفالة أحد من ولده, حتى باع في ذلك ربعه وضمه إلى بيت مال المسلمين. وروي عنه أنه كان يقول: لو علمت أن أحدًا أقوى على هذا الأمر مني لكان أن أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أليه. واتخذ رضي الله عنه حاجبًا اسمه "يرفأ" وكاتبًا هو عبد الله بن الأرقم، ويزيد بن ثابت، ذكره الخجندي. وكان نقش خاتمه الذي اصطنعه لنفسه: "كفى بالموت واعظًا يا عمر" ذكره أبو عمر وغيره, وأما الخاتم الذي كان يختم به فهو خاتم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان في يد أبي بكر، ثم في يد عمر، في يد عثمان، حتى وقع في بئر أريس وكان نقشه: "محمد رسول الله" وقد تقدم الكلام في خلافة أبي بكر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 الفصل الحادي عشر: في ذكر مقتله وما يتعلق به ذكر سؤاله الله أن يتوفاه فاستجاب له على النحو الذي سأل ... الفصل الحادي عشر: في ذكر مقتله وما يتعلق به, وذكر سؤاله الله أن يتوفاه فاستجاب له على النحو الذي سأل: عن سعيد بن المسيب أن عمر لما نفر من منى أناخ بالأبطح, ثم كوم كومة بالبطحاء فألقى عليها طرف ردائه, ثم استلقى ورفع يديه إلى السماء ثم قال: "اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي, فاقبضني إليك غير مضيع, ولا مفرط" فلما انقضت ذو الحجة حتى طعن، خرجه ابن الضحاك والفضائلي. وعن حفص وأسلم مولاه قالا: قال عمر: اللهم ارزقني شهادة في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 سبيلك, واجعل موتي في بلد رسولك، وفي رواية عن حفصة قالت: أنى يكون هذا? فقال: يأتيني به الله إذا شاء، خرجه البخاري وأبو زرعة في كتاب العلل. ذكر كيفية قتله, وبيان أنه كان في الصلاة: وأنه استخلف في بقيتها عبد الرحمن بن عوف وبيان من قتله، وكم قتل معه وجرح، وسقيه ماء عرف بهقدر جراحته, وثناء الناس عليه، وتوصية ابنه عبد الله في دينه، وسؤاله عائشة أن يدفن في حجرتها مع صاحبيه، وإجابتها إلى ذلك، وبكاء حفصة عليه، وتوصيته الخليفة من بعده. عن عمر بن ميمون قال: إني لقائم ما بيني وبين عمر إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب، وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا حتى إذا لم ير فيهم خللا تقدم فكبر قال: وربما قرأ بسورة يوسف والنحل ونحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس، قال: فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني أو أكلني الكلب حين طعنه، فطار العلج بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يمينا ولا شمالا إلا طعنه, حتى طعن ثلاثة عشر رجلًا مات منهم تسعة، وفي رواية: سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه ثوبًا فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه، وتناول عمر بيد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فأما من كان يلي عمر فقد رأى الذي رأيت. وأما من في نواحي المسجد فإنهم لا يدرون ما الأمر!! غير أنهم فقدوا صوت عمر وهم يقولون: سبحان الله! سبحان الله!! فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة, فلما انصرفوا قال: يابن عباس انظر من قتلني? فجال ساعة فقال: غلام المغيرة بن شعبة، قال: الصنع? قال: نعم! قال: قاتله الله، لقد أمرت به معروفًا ثم قال: الحمد لله الذي لم يجعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 منيتي بيد رجل يدعي الإسلام، فقد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة، وكان العباس أكثرهم رقيقًا فقال: إن شئت فعلت -أي: قتلنا- قال: بعدما تكلموا بلسانكم وصلوا قبلتكم وحجوا حجكم فحمل إلى بيته فانطلقنا معه وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فقائل يقول: لا بأس وقائل يقول: أخاف عليه، فأتي بنبيذ فشربه فخرج من جوفه، ثم أتي بلبن فشربه فخرج من جوفه، فعرفوا أنه ميت, فدخلنا عليه فجاء الناس يثنون عليه، وجاء رجل شاب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله -عز وجل- لك من صحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقدم في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة، قال: وددت أن ذلك كان كفافًا لا علي ولا لي، فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض فقال: ردوا علي الغلام، قال: يابن أخي ارفع يديك فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك، يا عبد الله بن عمر، انظر ما علي من الدين فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفًا أو نحوه، قال: إن وفى به مال آل عمر فأده من أموالهم وإلا فسل في بني عدي بن كعب، فإن لم تف أموالهم فسل في قريش ولا تعدهم إلى غيرهم وقال: انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل: يقرئ عليك عمر السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين فإني لست اليوم للمؤمنين أميرًا وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، فمضى فسلم واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي فقال: يقرئ عمر عليك السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، قالت: كنت أريده لنفسي ولأوثرن به اليوم على نفسي، فلما أقبل قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء فقال: ارفعوني فأسنده رجل إليه فقال: ما لديك? قال: الذي تحبه يا أمير المؤمنين أذنت قال: الحمد لله ما كان شيء أهم إلي من ذلك المضجع، فإذا أنا قبضت فاحملوني وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين. وجاءت أم المؤمنين حفصة -والنساء يسترنها- فلما رأيناها قمنا فولجت عليه فبكت عنده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 ساعة، فاستأذن الرجال فولجت داخلًا لهم فسمعنا بكاءها من الداخل، ثم قال -يعني عمر: أوصي الخليفة من بعدي بتقوى الله -عز وجل- وأوصيه بالأنصار خيرًا -الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم- أن يقبل من محسنهم ويعفو عن مسيئهم, وأوصيه بأهل الأمصار خيرًا فإنهم رداء الإسلام وجباة المال وغيظ العدو، وألا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضا، وأوصيه بالأعراب خيرًا فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام, أن يؤخذ منهم من حواشي أموالهم ويرد في فقرائهم, وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من وراءهم وألا يكلفوا إلا طاقتهم. قال: فلما قبض خرجنا فانطلقنا نمشي, فسلم عبد الله بن عمر وقال: يستأذن عمر بن الخطاب!! قالت: أدخلوه فأدخل فوضع هنالك مع صاحبيه. أخرجه البخاري وأبو حاتم. وفي رواية من حديث غزوة بن الزبير أن عمر أرسل إلى عائشة: ائذني لي أن أدفن مع صاحبيّ قالت: إي والله!! قال: وكان الرجل من الصحابة إذا أرسل إليها قالت: لا والله, لا أوثرهم أبدًا. أخرجه البخاري. وعن عمرو بن ميمون قال: كان أبو لؤلؤة أزرق نصرانيًّا، خرجه أبو عمر وقيل: كان مجوسيًّا، ذكره القلعي وغيره. ذكر سبب قتله, وبيان أنه لم يستخلف: وإنما قدموا عبد الرحمن مع أن القتل كان في الصلاة، وتكرر الناس أفواجًا أفواجًا للثناء عليه في تمنيه الخروج كفافًا، وتسلم له صحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومراجعة ابن عباس له في ذلك، وثنائه عليه واسترواحه بحديثه، وجعله الخلافة شورى بين ستة، واستخلافه شهيبًا على الصلاة. عن أبي رافع قال: كان أبو لؤلؤة عبد المغيرة بن شعبة وكان يصنع الأرحاء، وكان المغيرة كل يوم يستغله أربعة دراهم، فلقي أبو لؤلؤة عمر فقال: يا أمير المؤمنين, إن المغيرة قد أثقل علي غلتي فكلمه يخفف عني, فقال له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 عمر: اتق الله وأحسن إلى مولاك، فغضب العبد وقال: وسع الناس كلهم عدله غيري، فأضمر على قتله فاصطنع خنجرًا له رأسان وسمه، ثم أتى به الهرمزان فقال: كيف ترى هذا? قال: أرى أنك لا تضرب بهذا أحدًا إلا قتلته قال: وتحين أبو لؤلؤة عمر فجاءه في صلاة الغداة حتى قام وراء عمر، وكان إذا أقيمت الصلاة يقول: أقيموا صفوفكم فقال كما كان يقول، فلما كبر وجأه أبو لؤلؤة في كتفه ووجأه في خاصرته فسقط عمر وطعن بخنجره ثلاثة عشر رجلًا، هلك منهم سبعة وحمل عمر فذهب به إلى منزله وماج الناس حتى كادت الشمس تطلع، فنادى الناس عبد الرحمن بن عوف: يا أيها الناس الصلاة الصلاة ففزعوا إلى الصلاة, فتقدم عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم بأقصر سورتين في القرآن، فلما قضى صلاته توجهوا إلى عمر فدعا عمر بشراب لينظر ما قدر جرحه، فأتي بنبيذ فشربه فخرج من جوفه فلم يدر أنبيذ هو أم دم, فدعا بلبن فشربه فخرج من جرحه فقالوا: لا بأس عليك يا أمير المؤمنين قال: إن يكن القتل ثابتًا فقد قتلت، فجعل الناس يثنون عليه ويقولون: جزاك الله خيرًا يا أمير المؤمنين كنت ... ثم ينصرفون، ويجيء آخرون فيثنون عليه فقال: أما والله على ما تقولون وددت أني خرجت منها كفافًا لا علي ولا لي، وإن صحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سلمت لي، فتكلم عبد الله بن عباس -وكان عند رأسه وكان خليطه كأنه من أهله وكان ابن عباس يقرئه القرآن- فقال: لا والله لا تخرج منها كفافًا, فقد صحبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصحبته وهو عنك راضٍ بخير ما صحبه صاحب وكنت له وكنت له وكنت له حتى قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنك راض، ثم صحبت خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكنت تنفذ أمره وكنت له وكنت له ثم وليتها يا أمير أنت, فوليتها بخير ما وليها والٍ، كنت تفعل وكنت تفعل، فكان عمر يستريح إلى حديث ابن عباس فقال له عمر: يابن عباس كرر علي حديثك فكرر عليه، فقال عمر: وأما والله, علام تقول؟! لو أن لي طلاع الأرض ذهبًا لافتديت به اليوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 من هول المطلع، قد جعلتها شورى في ستة: عثمان وعلي وطلحة بن عبيد الله والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنهم- وجعل عبد الله بن عمر معهم مشيرًا وليس منهم، وأجلهم ثلاثًا وأمر صهيبًا أن يصلي بالناس -رحمة الله عليهم. خرجه أبو حاتم. وروي أن عمر كان لا يأذن لمشرك قد احتلم أن يدخل المدينة, حتى كتب إليه المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة يستأذنه في غلام صنع يقال: لديه أعمال كثيرة, حداد ونقاش ونجار ومنافع للناس، فأذن له عمر، فأرسل به المغيرة وضرب عليه المغيرة مائة درهم في كل شهر، فجاء الغلام إلى عمر واشتكى، فقال له: ما تحسن من الأعمال? فذكرها له، فقال له عمر: فما خراجك يكثر، ثم ذكر معنى ما تقدم. وعن ابن عباس أنه دخل على عمر حين طعن فقال: أبشر يا أمير المؤمنين, أسلمت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين كفر الناس، وقاتلت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين خذله الناس، وتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنك راضٍ، ولم يختلف في خلافتك رجلان، وقتلت شهيدًا، فقال: أعد فأعاد، فقال: المغرور من غررتموه، لو أن لي ما على ظهرها من بيضاء وصفراء لافتديت به من هول المطلع. خرجه أبو حاتم. ذكر أن قتله كان قبل الدخول في الصلاة: وتقدم الناس عبد الرحمن، وتبرئهم من المواطأة على قتله، ودعائه الطبيب، وأمر الطبيب عمر بالوصية حين سقاه وخرج المشروب من جرحه، وذكر أهل الشورى، وتخصيص علي بالإشارة إليه والاعتذار من توليته حين قيل له: ما يمنعك أن توليه؟ عن عمرو بن ميمون قال: شهدت عمر يوم طعن وما منعني أن أكون في الصف المقدم إلا هيبته وكان رجلًا مهيبًا، وكنت في الصف الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 يليه، فأقبل عمر فعرض له أبو لؤلؤة -غلام المغيرة- فناجى عمر قبل أن يسوي الصفوف، ثم طعنه ثلاث طعنات، فسمعت عمر وهو يقول: دونكم الكلب!! إنه قتلني، وماج الناس فأسرعوا إليه، فجرح ثلاثة عشر رجلًا، فانكفى عليه رجل من خلفه فاحتضنه، وحمل عمر فماج الناس بعضهم في بعض حتى قال قائل: الصلاة عباد الله طلعت الشمس، فقدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بنا بأقصر سورتين في القرآن {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} و {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} واحتمل عمر ودخل الناس عليه، فقال: يا عبد الله اخرج فناد في الناس: عن ملأ منكم هذا? فخرج ابن عباس فقال: أيها الناس إن أمير المؤمنين يقول: أعن ملأ منكم? فقالوا: معاذ الله!! والله ما علمنا وما أطلعناه، وقال: ادعوا إلي الطبيب، فدعوا الطبيب فقال: أي الشراب أحب إليك? قال: النبيذ, فسقي نبيذًا فخرج من بعض طعانه، فقال الناس: هذا دم هذا صديد، فقال: اسقوني لبنًا فخرج من الطعنة، فقال له الطبيب: لا أرى أن تمشي فما كنت فاعلًا فافعل، ثم ذكر تمام الخبر في الشورى، وتقديم صهيب في الصلاة، وشهادة ابن عمر وقال: إن ولوها الأجلح يسلك بهم الطريق المستقيم -يعني عليا- فقال له ابن عمر: فما منعك أن تقدم عليا؟ قال: أكره أن أحملها حيا وميتا. خرجه النسائي. وفي رواية: لله درهم, إن ولوها الأصيلع كيف يحملهم على الحق وإن كان السيف على عنقه؟ قال محمد بن كعب: فقلت: أتعلم ذلك منه ولا توليه? فقال: إن أتركهم فقد تركهم من هو خير مني. خرجه القلعي. ذكر خبر ثانٍ يصرح بأن قتله كان قبل الصلاة, وتوعد أبي لؤلؤة له بالقتل: عن عبد الله بن الزبير قال: غدوت مع عمر بن الخطاب إلى السوق وهو يتكئ على يدي، فلقيه أبو لؤلؤة -غلام المغيرة- فقال له: ألا تكلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 مولاي يضع عني من خراجي? قال: كم خراجك? قال: دينار، قال: ما أرى أن أفعل، إنك لعامل وما هذا بكثير، ثم قال له عمر: ألا تعمل لي رحى? قال: بلى, فلما ولى عمر قال أبو لؤلؤة: لأعملن لك رحى يتحدث بها ما بين المشرق والمغرب، قال: فوقع في نفسي قوله، قال: فلما كان في النداء لصلاة الصبح وخرج عمر إلى الناس يؤذنهم بالصلاة قال ابن الزبير: وأنا في مصلاي وقد اضطجع له عدو الله أبو لؤلؤة فضربه بالسكين طعنات إحداهن من تحت سرته وهي التي قتلته، فصاح عمر: أين عبد الرحمن بن عوف? فقال: ها هو ذا, فصلى بالناس وقرأ في الركعتين: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 1 و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 2, واحتملوا عمر فأدخلوه منزله، فقال لابنه عبد الله: اخرج فانظر من قتلني، قال: فخرج عبد الله بن عمرفقال: من قتل أمير المؤمنين? قالوا: أبو لؤلؤة -غلام المغيرة بن شعبة- فرجع فأخبر عمر فقال: الحمد الله الذي لم يجعل قتلي بيد رجل يحاجني بلا إله إلا الله، ثم قال: انظروا إلى عبد الرحمن بن عوف، ثم ذكر الحديث في الشورى. خرجه الواقدي وأبو عمر. أما تقدمة الناس عبد الرحمن على ما تضمنه الحديث الأول وتقدمة عمر قيل: الجمع بينهما بأن يكون أمره أولًا ثم قدمه الناس، وأما اختلاف الروايتين في وقت القتل فليس فيه إلا الترجيح, وروايات القتل في الصلاة أصلح فترجح, والله أعلم. ذكر تألمه للرعية لما أصيب -رضي الله عنه: عن المسور بن مخرمة قال: لما طعن عمر جعل يتألم، فقال له ابن عباس: يا أمير المؤمنين, لقد صحبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راضٍ، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم   1 سورة الإخلاص الآية: 1. 2 سورة الكافرون الآية: 1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 فارقته وهو عنك راضٍ، ثم صحبتهم فأحسنت صحبتهم ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون, قال: أما ما ذكرت من صحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورضاه فإنما ذلك من فضل الله تعالى منَّ به عليَّ، وأما ما ترى من جزعي فإنما هو من أجلك ومن أجل أصحابك، والله لو أن لي طلاع الأرض ذهبًا لافتديت به من عذاب الله قبل أن أرده. خرجه البخاري. ذكر تزكيته أهل الشورى لما طعن عليهم: وعن ابن عمر قال: لما طعن عمر وأمر بالشورى, دخلت عليه حفصة ابنته فقالت: يا أبت إن الناس يزعمون أن هؤلاء الستة ليسوا رضًا، فقال: أسندوني، فلما أسندوه قال: فما عسى أن يقولوا في علي بن أبي طالب? سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يا علي, يدك في يدي تدخل -يعني يوم القيامة- حيث أدخل" ما عسى أن يقولوا في عثمان? سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يوم يموت عثمان يصلي عليه ملائكة السماء" قلت: يا رسول الله عثمان خاصة أم الناس عامة? قال: "عثمان خاصة" ما عسى أن يقولوا في طلحة بن عبيد الله? سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ليلة, وقد سقط رحله: "من يسوي رحلي وهو في الجنة؟ " فبدر طلحة بن عبيد الله فسواه حتى ركب, فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "يا طلحة, هذا جبريل يقرئك السلام ويقول: أنا معك يوم القيامة حتى أنجيك منها" ما عسى أن يقولوا في الزبير? رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد نام فجلس الزبير يذب عن وجهه حتى استيقظ فقال له: "يا أبا عبد الله لم تزل?" فقال: لم أزل بأبي أنت وأمي! قال: "هذا جبريل يقرئك السلام ويقول: أنا معك يوم القيامة حتى أذب عن وجهك شر جهنم" ما عسى أن يقولوا في سعد? سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر, وقد أوتر قوسه أربع عشرة مرة فيدفعها له ويقول: "ارم فداك أبي وأمي" ما عسى أن يقولوا في عبد الرحمن بن عوف? رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في منزل فاطمة والحسن والحسين يبكيان جوعًا ويتضوران, فقال صلى الله عليه وسلم: "من يصلنا بشيء?" فطلع عبد الرحمن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 بصحفة فيها حيس ورغيفان بينهما إهالة، فقال صلى الله عليه وسلم: "كفاك الله أمر دنياك، وأما أمر آخرتك فأنا لها ضامن". خرجه الحافظ أبو الحسن بن بشران، والحافظ أبو القاسم الدمشقي في الأربعين الطوال. ذكر سؤالهم منه الاستخلاف عليهم, واعتذاره منهم فيه: عن ابن عمر قال: حضرت أبي حين أصيب فأثنوا عليه فقالوا: جزاك الله خيرًا فقال: راغب وراهب، فقالوا: استخلف علينا، قال: أتحمل أمركم حيا وميتا? وددت أن حظي منكم الكفاف لا علي ولا لي، إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني -يعني أبا بكر- وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال عبد الله: فعرفت حين ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه غير مستخلف. أخرجاه وأبو معاوية. وعن ابن عمر أنه قال لعمر: إن الناس يتحدثون أنك غير مستخلف، ولو كان لك راعي إبل أو راعي غنم ثم جاء وترك رعيته رأيت أن قد فرط، ورعية الناس أشد من رعية الإبل والغنم، ماذا تقول لله -عز وجل- إذا لقيته ولم تستخلف على عباده? قال: فأصابه كآبة ثم نكس رأسه طويلًا ثم رفع رأسه وقال: إن الله تعالى حافظ الدين، وأي ذلك أفعل فقد سن لي؛ إن لم أستخلف فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يستخلف، وإن استخلفت فقد استخلف أبو بكر، قال عبد الله: فعرفت أنه غير مستخلف. خرجه ابن السمان في الموافقة. وعنه قال: لما طعن عمر قلت: يا أمير المؤمنين لو اجتهدت بنفسك وأمرت عليهم رجلًا؟ قال: أقعدوني، قال عبد الله: فتمنيت لو أن بيني وبينه عرض المدينة فرقًا منه حين قال: أقعدوني، ثم قال: والذي نفسي بيده لأردنها إلى الذي دفعها إليَّ أول مرة. خرجه أبو زرعة في كتاب العلل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 ذكر إخباره -رضي الله عنه- عن موته بسبب رؤيا رآها, واعتذاره عن الاستخلاف أيضًا: وإخباره أيضًا بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توفي وهو راض عن الستة أهل الشورى وذم الطاعنين عليهم وإشهاده الله تعالى على أمر الأمصار وعلى ما ولاهم عليه، ووصيته بالمهاجرين والأنصار وثنائه عليهم وبالعرب وأهل الذمة. عن معدان بن أبي طلحة أن عمر خطب يوم الجمعة وذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- وذكر أبا بكر, ثم قال: إني رأيت كأن ديكًا نقرني ثلاث نقرات وإني لا أراه إلا لحضور أجلي، وإن أقوامًا يأمرونني أن أستخلف، وإن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته ولا الذي بعث به نبيه، فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راضٍ، وإني قد علمت أقوامًا يطعنون في هذا الأمر، أنا ضربتهم بيدي هذه على الإسلام، فإن فعلوا ذلك فأولئك أعداء الله الضلال, ثم قال: اللهم إني أشهد على أمراء الأنصار، فإني إنما بعثتهم عليهم ليعدلوا وليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم ويقسموا بينهم فيئهم, ويدفعوا إلى ما أشكل عليهم من أمرهم قال: فما كان إلا الجمعة الأخرى حتى طعن قال: فأذن للمهاجرين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأذن للأنصار، ثم أذن لأهل المدينة، ثم أذن لأهل الشام، ثم أذن لأهل العراق، فكنا آخر من دخل عليه. قال: فإذا هو قد عصب جرحه ببرد أسود والدم يسيل عليه قال: فقلنا: أوصنا! ولم يسأله الوصية أحد غيرنا! قال: أوصيكم بكتاب الله, فإنكم لن تضلوا ما اتبعتموه، وأوصيكم بالمهاجرين، فإن الناس يكثرون ويقلون، وأوصيكم بالأنصار، فإنهم شعب الإسلام الذي لجأ إليه، وأوصيكم بالأعراف فإنهم أصلكم ومادتكم. وفي رواية: فإنهم إخوتكم وعدو عدوكم، وأوصيكم بأهل الذمة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 فإنهم ذمة نبيكم ورزق عيالكم، قوموا عني. أخرجاه, وفي رواية: ديكًا أحمر. ذكر رؤيا أبي موسى الأشعري في موت عمر قبل وقوعه: عن أبي موسى قال: رأيت في المنام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جبل وإلى جنبه أبو بكر وهو يومئ إلى عمر أن تعال!! فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون!! مات والله أمير المؤمنين، فقيل له: ألا تكتب بهذا إلى عمر? قال: ما كنت لأنعي إليه نفسه. ذكر من أخبر عمر بموته قبل وقوعه, وأمرهم إياه بالاحتراز على نفسه: عن كعب الأحبار أنه قال لعمر: يا أمير المؤمنين اعهد بأنك ميت إلى ثلاثة أيام. فلما قضى ثلاثة أيام طعنه أبو لؤلؤة, فدخل عليه الناس ودخل كعب في جملتهم فقال: القول ما قال كعب وما بي حذر الموت، ولكن حذر الذنب. وروي أن عيينة بن حصن الفزاري قال لعمر: احترس أو أخرج العجم من المدينة؛ فإني لا آمن أن يطعنك رجل منهم في هذا الموضع, ووضع يده في الموضع الذي طعنه فيه أبو لؤلؤة. وعن جبير بن مطعم قال: إنا لواقفون مع عمر على الجبل بعرفة إذ سمعت رجلًا يقول: يا خليفة الله، فقال أعرابي من لهب خلفي: ما هذا الصوت? قطع الله لهجتك، والله لا يقف أمير المؤمنين بعد هذا العام أبدًا فسببته وأدبته، فلما رمينا الجمرة مع عمر جاءت حصاة فأصابت رأسه، ففتحت عرقًا من رأسه فسال الدم، فقال رجل: أشعر أمير المؤمنين? أما والله لا يقف بعد هذا العام ههنا أبدًا, فالتفت فإذا هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 ذلك اللهبي، فوالله ما حج عمر بعدها. خرجه ابن الضحاك. ذكر وصاياه: تقدم منها وصيته ابنه بدينه، وتوصيته الخليفة من بعده في الذكر الأول من هذا الفصل، ووصيته بالمهاجرين والأنصار وغيرهم تقدم قبل هذا بذكرين. وعن عمر أنه نظر إلى علي وقال: اتق الله إن وليت شيئًا من أمور الناس، فلا تحملن بني هاشم على رقاب المسلمين, ثم نظر إلى عثمان فقال: اتق الله إن وليت شيئًا من أمور المسلمين فلا تحملن بني أمية -أو قال: بني أبي معيط- على رقاب المسلمين، ثم نظر إلى سعد والزبير فقال: وأنتما, فاتقيا الله إن وليتما شيئًا من أمور المسلمين. وفي رواية: أنه قال لعبد الرحمن: إن كنت على شيء من أمور الناس, فلا تحملن أقاربك على رقاب الناس. وعن ابن عمر أن عمر قال له: إذا أنا مت فأغمضني واقصد في كفني؛ فإنه إن كان لي عند الله خير أبدلني خيرًا منه، وإن كنت على غير ذلك سلبني، واقصد في حفرتي فإنه إن كان لي عند الله خير وسع لي فيها مد بصري وإن كنت على غير ذلك ضيق علي حتى تختلف أعضائي، ولا تخرج معي امرأة، ولا تزكوني بما ليس فيّ فإن الله هو أعلم بي، وأسرعوا في المشي، فإن كان لي عند الله خير تقدمونني إليه، وإلا فشر تضعونه عن رقابكم. وعن حفصة أم المؤمنين أنها دخلت عليه وهي تبكي تقول: يا صاحب رسول الله!! يا صهر رسول الله!! فقال عمر لابنه: أجلسني فلا صبر لي على ما أسمع، فأسنده إلى صدره فقال1: إني أقسم عليك   1 موجهًا الخطاب إلى ابنته -رضي الله عنها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 بما لي عليك من الحق أن لا تندبيني بعد مجلسك هذا، فأما عينيك1 فلن أملكها، إنه ليس من ميت يندب بما ليس فيه إلا والملائكة تمقته. ذكر تاريخ موته, ومدة مكثه بعد الجراحة, ومن صلى عليه, وما سمع منه حين احتضر: قال أهل العلم بالتاريخ: توفي لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وقيل: طعن لذلك ومات في آخر الحجة, واتفق هؤلاء على أنه أقام بعدما طعن ثلاثًا ثم مات, وصلى عليه صهيب ودفن في حجرة عائشة، ذكره ابن قتيبة والسلفي وغيرهما. وعن عروة بن الزبير قال: لما قتل عمر استبق علي وعثمان للصلاة عليه فقال لهما صهيب: إليكما عني, فقد وليت من أمركما أكثر من الصلاة على عمر وأنا أصلي بكم المكتوبة، فصلى عليه صهيب. خرجه الخجندي وروي أنه كان يقول حين احتضر, ورأسه في حجر عبد الله بن عمر: ظلوم لنفسي, غير أني مسلم أصلي صلاتي كلها وأصوم. خرجه القلعي. وروي أن ملك الموت لما دخل عليه, سمعه عمر يقول لملك آخر: هذا بيت أمير المؤمنين ما فيه شيء كأنه القبر, فقال عمر: يا ملك الموت من تكون أنت خلفه هكذا يكون بيته. ذكر مدة عمره, ومدة ولايته: قال ابن إسحاق: كانت ولايته عشر سنين وستة أشهر وخمس ليالٍ، وكان يحج بالناس كل عام غير سنتين متواليتين. واختلف في سنه يوم مات, فقيل: ثلاث وستون سنة كسن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر -رضي الله عنه- روي ذلك عن معاوية والشعبي، وقيل: خمس   1 فأما دموع عينيك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 وخمسون، وروي ذلك عن سالم بن عبد الله بن عمر, وقال الزهري: أربع وخمسون، ذكر جميع ذلك أبو عمر والحافظ السلفي وغيرهما. وعن أبي عمر سمعت عمر يقول قبل موته بسنتين أو ثلاث: أنا ابن سبع أو ثمان وخمسين، وإنما أتاني الشيب من قبل أخوالي بني المغيرة. خرجه الخجندي. ذكر إظلام الأرض لموت عمر: عن الحسن بن أبي جعفر قال: لما قتل عمر أظلمت الأرض، فجعل الصبي يقول: يا أماه! أقامت القيامة? فتقول: لا يا بني! ولكن قتل عمر بن الخطاب. ذكر من ندب عمر, ومن أثنى عليه بعد موته: تقدم ثناء ابن عباس في الذكر الثاني من هذا الفصل، وتقدم ثناء علي عليه وقد وضع على سريره في باب الشيخين في ذكر قوله -صلى الله عليه وسلم: "كثيرًا كنت أنا وأبو بكر وعمر" من حديث البخاري عن ابن عباس وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: لما غسل عمر وكفن وحمل على سريره وقف عليه علي فقال: والله ما على الأرض رجل أحب إليَّ أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى بالثوب. خرجه في الصفوة، وابن السمان في الموافقة وزاد: ثم بكى, حتى اخضلت لحيته بالدموع. "شرح" اخضلت: ابتلت، يقال: اخضلَّ الشيء اخضلالًا واخضوضل اخضيضالا أي: ابتل، وأخضلته فهو مخضل. وعن عبد الرحمن أن عليا دخل على عمر وهو مسجى بثوبه فقال: ما أحب أن ألقى الله بصحيفة أحب إلي من أن ألقاه بصحيفة هذا المسجى بينكم، رحمك الله يابن الخطاب, إن كنت بآيات الله لعالما, وإن كان الله في صدرك لعظيما, وإن كنت لتخشى الله ولا تخشى الناس في الله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 جوادًا بالحق بخيلًا بالباطل، خميصًا من الدنيا بطينًا من الآخرة. وعن أوقر بن حكيم قال: لما مات عمر قلت: والله لآتين عليا ولأسمعن منه، قال: فجئت فوجدت في مجلسه ناسًا يرقبونه قال: فوالله ما لبثنا أن خرج علينا معتلا, فسلم ثم نكس رأسه ثم رفعه فقال: لله در باكية عمر، وا عمراه! قوّم الأود وأيّد العمل، وا عمراه! مات نقي الثوب، قليل العيب، وا عمراه! ذهب بالسنة واتقى الفتنة، أصاب والله ابن الخطاب خيرها ونجا من شرها، ولقد نظر له صاحبه فصار على الطريقة ما استقامت، ثم مال فقال: ورحل الركب فتشعبتهم الطرق، لا يهتدي الضال ولا يستيقن المهتدي. خرجهما ابن السمان في الموافقة. "شرح" الأود: الاعوجاج, وأيد: قوى. وعن سعيد بن زيد أنه بكى فقيل له: ما يبكيك? قال: أبكي على الإسلام، إن موت عمر ثلم الإسلام ثلمة لا ترتتق إلى يوم القيامة. وروي أنه استأذن ودخل عليه ورثاه بأبيات لغيره. وعن عبد الله بن عمر قال: كان عمر حصنًا حصينًا للإسلام، فالناس يدخلون فيه ولا يخرجون، فأصبح الحصن قد انهدم والناس يخرجون منه ولا يدخلون. وقال أبو طلحة: ما من بيت حاضر ولا بادٍ إلا وقد دخل عليه من موت عمر نقص. وعن عبد الله بن سلام أنه وقف على جنازة عمر ثم قال: نعم المرء للإسلام! كنت يا عمر جوادًا بالحق بخيلًا بالباطل, ترضى حين الرضا وتغضب حين الغضب، عفيف الطرف، لم تكن مداحًا ولا مغتابًا. وعن حذيفة بن اليمان قال: كان الإسلام في زمان عمر كالرجل المقبل لا يزداد إلا قربًا، فلما توفي صار كالرجل المدبر لا يزداد إلا بعدًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 وعن عبد الرحمن بن غنم أنه قال يوم مات عمر: اليوم أصبح الإسلام موليًا. وعن ابن مسعود أنه قال: والله لو أعلم أن كلبًا يحب عمر لأحببته, ولوددت أني كنت خادمًا لعمر حتى أموت، ولو وجد فقده كل شيء حتى العضاه، وإن هجرته كانت نصرًا، وإن سلطانه كان رحمة. وعنه وقد سأله عبيد الله بن عمر وهو في حلقته في المسجد الحرام: يا أبا عبد الرحمن ما الصراط المستقيم? قال: هو ورب الكعبة الذي ثبت عليه أبوك حتى دخل الجنة، وحلف ثلاثة أيمان على ذلك. وقد تقدم في فصل إسلام عمر أحاديث عنه في الثناء عليه، وفي فصل خصائصه أحاديث في عمله، وحديث مصارعته الجني. وعن معاوية أنه قال لصعصعة بن صوحان: صف لي عمر فقال: كان عالمًا في نفسه، عادلًا في رعيته، قليل الكبر، قبولًا للعذر، سهل الحجاب, مفتوح الباب، يتحرى الصواب، بعيدًا من الإساءة، رفيقًا بالضعيف، غير صخَّاب، كثير الصمت، بعيدًا من العيب. وقد تقدم ثناء عائشة عليه في ذكر فضائل أبي بكر في خطبة طويلة. وعنها أنها كانت تقول: كان عمر والله أحوذيا نسيج وحده، قد أعد للأمور أقرانها. خرجه الإسماعيلي والطبراني في معجمهما، قال الرياشي: نسيج وحده: هو الرجل البارع الذي لا يسبقه أحد، والأحوذي: السابق الخفيف من كل شيء. وعنها: إذا ذكر عمر في المجلس حسن الحديث، فزينوا مجالسكم بالصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- وبذكر عمر. ذكر إيثار أبي عبيدة الموت قبل موت عمر: عن أبي عبيدة أنه قال: إن مات عمر رق الإسلام، ما أحب أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 يكون لي ما تطلع عليه الشمس أو تغرب، وأني أبقى بعد عمر, قال قائل: ولم? قال: سترون ما أقول إن بقيتم، إن ولي بعده وال فأخذهم بما كان عمر يأخذهم به لم يطعه الناس، وإن ضعف عنه قتلوه. ذكر محو الزبير نفسه من الديوان لموت عمر: عن هشام بن عروة قال: لما قتل عمر محا الزبير نفسه من الديوان. ذكر رثاء الجن لعمر: عن عائشة قالت: ناحت الجن على عمر قبل أن يموت بثلاث, فقالت: أبعد قتيلٍ بالمدينة أظلمت ... له الأرض تهتز العضاه بأسوق جزى الله خيرًا من إمام وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق فمن يسع أو يركب جناحي نعامةٍ ... ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق قضيت أمورًا ثم غادرت بعدها ... بواثق من أكمامها لم تفتق خرجه أبو عمر. وعن المطلب بن زياد قال: رثت الجن عمر, فكان فيما قالوا: ستبكيك نساء الجن ... تبكين منتحبات وتخمشن وجوها ... كالدنانير النقيات ويلبس ثياب السود ... بعد القصبيات وعن معروف الموصلي قال: لما أصيب عمر سمع صوت: ليبكِ على الإسلامِ من كان باكيًا ... فقد أوشكوا هلكى وما قدم العهد وأدبرت الدنيا وأدبر خيرها ... وقد ملها من كان يؤمن بالوعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 خرجه الملاء في سيرته. ذكر من رأى عمر في منامه بعد موته: عن عبد الله بن عبد الله بن العباس قال: كان العباس خليلًا لعمر, فلما أصيب جعل يدعو الله أن يريه عمر في المنام قال: فرآه بعد حول وهو يمسح العرق عن وجهه فقال: ما فعلت? فقال: هذا أوان فرغت، لولا أني لقيت رءوفًا رحيمًا. خرجه في الصفوة. وعن عمرو بن العاص قال: ما كان شيء أحب إلي أن أعلمه من أمر عمر, فرأيت في المنام قصرًا فقلت: لمن هذا? قالوا: هو لعمر بن الخطاب، فخرج من القصر عليه ملحفة كأنه قد اغتسل، فقلت: كيف صنعت? قال: متى فارقتكم؟ قلت: من اثنتي عشرة سنة، قال: إنما انقلبت الآن من الحساب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 الفصل الثاني عشر: في ذكر ولده وكان له ثلاثة عشر ولدًا، تسعة بنين وأربع بنات، ذكر البنين عبد الله وكان يكنى أبا عبد الرحمن، أسلم مع إسلام أبيه بمكة صغيرًا وهاجر مع أبيه وأمه وهو ابن عشر, ذكره الخجندي, وشهد المشاهد كلها بعد بدر وأحد. قال الدارقطني: واستصغر يوم أحد، وشهد الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة، وشهد المشاهد بعد الخندق مع النبي -صلى الله عليه وسلم, وقيل: شهد بدرًا فاستصغره النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يجزه، وأجازه في السنة الأخرى يوم أحد، ذكره الطائي وقال: والأول أصح. وكان رضي الله عنه عالمًا مجتهدًا عابدًا لزومًا للسنة فرورًا من البدعة ناصحًا للأمة, رئي في الكعبة ساجدًا يقول في سجوده: يا رب تعلم ما يمنعني من مزاحمة قريش على هذه الدنيا إلا خوفك, وأثنى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "إن عبد الله بن عمر رجل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 صالح" ويقال: إنه ما خرج من الدنيا حتى صار مثل أبيه. قال سالم بن أبي الجعد: ما أدركت أحدًا مالت به الدنيا إلا مال بها إلا عبد الله بن عمر. قال سفيان الثوري: كان من عادة ابن عمر أنه إذا أعجبه شيء من ماله تصدق به، وكأن رقيقه عرفوا ذلك فربما شمر أحدهم ولزم المسجد وأقبل على الطاعة فإذا رآه ابن عمر على تلك الحالة أعتقه، فقيل له: إنهم يخدعونك، فقال: من خدعنا بالله انخدعنا له. قال نافع: ما مات ابن عمر حتى أعتق ألف إنسان أو زاد عليه, ذكر ذلك كله الطائي وبقي إلى زمان عبد الملك بن مروان. قال أبو اليقظان: وزعموا أن الحجاج دس له رجلًا قد سم زج رمحه فرجمه في الطريق وطعنه في ظهر قدمه، فدخل عليه الحجاج فقال: يا أبا عبد الرحمن من أصابك? قال: أنت أصبتني, قال: ولم تقول هذا رحمك الله? قال: حملت السلام في بلد لم يكن يحمل فيه السلام، فمات فصلي عليه عند الردم ودفن في حائط أم خرمان. قلت: هذا الحائط لا يعرف اليوم بمكة ولا حواليها، وإنما بالأبطح موضع يقال له: الخرمانية فلعله هو، نسب إلى أم خرمان. وقال غير أبي اليقظان: مات بمكة ودفن بفج وهو موضع قريب من مكة، وهو ابن أربع وثمانين سنة وله عقب. قال الدارقطني: وتوفي سنة ثلاث وسبعين. وروى عبد الله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وزيد بن الخطاب وزيد بن ثابت وأبي أمامة الأنصاري وأبي أيوب الأنصاري وأبي ذر الغفاري وأبي سعيد الخدري وزيد بن حارثة وأسامة بن زيد وعامر بن ربيعة وبلال وصهيب وعثمان بن طلحة ورافع بن خديج وعبد الله بن مسعود وكعب بن عمرو وتميم الداري وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 عباس وغيرهم من الصحابة. وروي أيضًا عن عائشة وحفصة وامرأته صفية بنت أبي عبيد الله, وروى عنه من الصحابة عبد الله بن عباس، وكان فقيهًا ورعًا شديد التتبع لآثار النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقتدي به فيها, ذكر ذلك الدارقطني, وعبد الرحمن الأكبر: شقيقه أمهما زينب بنت مظعون, وزيد الأكبر: أمه أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب من فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقال: إنه رمي بحجر في حرب بين حيين فمات ولا عقب له, ويقال: إنه مات هو وأمه أم كلثوم في ساعة واحدة فلم يرث أحدهما من الآخر, وصلى عليهما عبد الله بن عمر، فقدم زيدًا وأخر أم كلثوم فجرت السنة بذلك فكان فيهما حكمان، وعاصم: أمه أم كلثوم جميلة بنت عاصم بن ثابت حمي الدبر، وهي التي كان اسمها عاصية فسماها النبي -صلى الله عليه وسلم- جميلة, وكان عاصم فاضلًا خيرًا توفي سنة سبعين وله عقب أخوه لأمه: عبد الرحمن بن زيد بن حارثة الأنصاري يروي عن ثوبان, وعمر بن عبد العزيز: ابن ابنته أم عاصم بنت عاصم، وزيد الأصغر وعبيد الله: أمهما مليكة بنت جرول الخزاعية. وقال الدارقطني: أم كلثوم بنت جرول، فلعل ذلك كنيتها. وكان عبيد الله شديد البطش، لما قتل عمر جرد سيفه فقتل ابنة أبي لؤلؤة، وقتل الهرمزان، وقتل في وقعة صفين مع معاوية وله عقب, وأخواهما لأمهما: عبيد الله بن أبي جهم بن حذيفة وحارثة بن وهب الخزاعي وله صحبة, وعبد الرحمن الأوسط: أمه لهية أم ولد وعبد الرحمن الأصغر: أمه أم ولد، يكنى أحد الثلاثة أبا شحمة، ويلقب آخر منهم مجبرًا، فأما أبو شحمة فهو الذي ضربه عمر في الحد فمات ولا عقب له, وأما مجبر فكان له عقب فبادوا ولم يبق منهم أحد, ذكره ابن قتيبة. وقال الدارقطني: عبد الرحمن الأوسط هو أبو شحمة المجلود في الحد وقطع به، وذكر أن أمه أم ولد يقال لها: لهية, وعبد الرحمن الأصغر يقال له: أبو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 المجبر, وعياض بن عمر: أمه عاتكة بنت زيد. ذكر البنات: وهن أربع: حفصة: زوجة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيأتي كيفية تزويجها من كتاب1 مناقب أمهات المؤمنين، وهي شقيقة عبد الله، وعبد الرحمن الأكبر، ورقية، شقيقة زيد الأكبر: تزوجها إبراهيم بن نعيم بن عبد الله النحام، فماتت عنده، ولم تلد له، وفاطمة: أمها أم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة, تزوجها ابن عمها عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب فولدت له عبد الله, ذكره الدارقطني، وزينب: أمها فكيهة أم ولد, تزوجها عبد الله بن عبد الله بن سراقة العدوي، وروت عن أختها حفصة, ذكر ذلك كله ابن قتيبة، وصاحب الصفوة، والله أعلم. والحمد لله أولا وآخرًا، والصلاة والسلام على سيد الورى. تم الجزء الثاني، ويليه الجزء الثالث في مناقب الشيخين عثمان وعلي -رضي الله عنهما.   1 يعني المؤلف كتابا مستقلا عن هذا الكتاب له في موضوع مناقب زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 الفهارس : فهرس الجزء الأول من الكتاب : 5 فاتحة المؤلف 15 القسم الأول: في مناقب الأعداد وفيه أبواب 17 الباب الأول فيما جاء متضمنا ذكر العشرة وغيرهم 19 ذكر ما جاء في فضل أهل بدر والحديبية 21 ذكر ما جاء في الحث على حبهم والإحسان إليهم: بالاستفغار لهم، والكف عما شجر بينهم 23 ذكر ما جاء في التحذير من الخوض فيما شجر بينهم، والنهي عن سبهم 31 في الباب الثاني فيما جاء متضمنا ذكر العشرة 33 ذكر ما جاء في إثبات صحبته -صلى الله عليه وسلم- لكل واحد منهم وإن تفاوتت مراتبهم في المحبة 34 ذكر ما جاء في التحذير عن بغضهم 36 الفصل الرابع: في وصف كل واحد من العشرة بصفة حميدة 37 الباب الثالث في ذكر ما دون العشر من العشرة 38 ذكر ما جاء في خوله -صلى الله عليه وسلم- الجنةن ورؤيته أهلها ووزنه بأمته، ووزن بعض العشرة، واستبطائه عبد الرحمن بن عوف 39 ذكر ما جاء في وصف جماعة منهم. ومن غيرهم: بأنهم الرفقاء، والنجباء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 40 ذكر ما جاء في تخصيص أبي بكر بأنه لم يسؤه قط، وإثبات رضاه -صلى الله عليه وسلم- بجمع منهم ومن غيرهم 41 ذكر ما جاء في إخباره -صلى الله عليه وسلم- عن عدد بأن كل واحد منهم نعم الرجل 41 ذكر ما جا في إخباره -صلى الله عليه وسلم- عن جمع أنه يحب الله ورسوله وصلاته عليهم 42 ذكر ما جاء في أحبية بعضهم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- 42 ذكر ما جاء في دعائة -صلى الله عليه وسلم- لجمع منهم: كل واحد بدعاء يخصه ويليق بحاله 43 ذكر ما جاء في بيان مراتب جمع منهم في الجنة 43 ذكر إثبات فضل لبعضهم في الثبوت معه يوم الجمعة حين انفض القوم 44 ذكر ما جاء دليلًا على تأهل بعضهم للخلافة 44 ذكر ما جاء من آي نزلت في جمع منهم ومن غيرهم 47 الباب الرابع فيما جاء مختصا بالأربعة الخلفاء 47 ذكر أمر الله جل وعلا نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يتخذ كلا منهم لمعنى 50 ذكر افتراض محبتهم 51 ذكر أن أبا بكر وعمر خلقغا من طينة واحدة وأن عثمان وعليا كذلك 51 ذكر أنهم ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلقوا من عصارة تفاحة من الجنة 51 ذكر أنهم والنبي -صلى الله عليه وسلم- كانوا أنوار قبل خلق آدم، ووصف كل منهم بصفة والتحذير عن سبهم 52 ذكر أنهم أول من تنشق عنه الأرض بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- 52 ذكر مراتبهم في الحساب يوم القيامة 52 ذكر تبشيره -صلى الله عليه وسلم- الأربعة 53 ذكر كيفية دخولهم الجنة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- 53 ذكر أن كل منهم بركن من أركان الحوض يوم القيامة 54 ذكر اختصاص كل منهم يوم القيامة. بخصوصية شريفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 54 ذكر إثبات أسمائهم على العرش 54 ذكر إثبات أسمائهم في لواء الحمد 55 ذكر ما جاء متضمنا الدلالة على خلافة الأربعة 56 ذكر آي نزلت فيهم 57 ذكر أفضلية الأربعة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- 57 ذكر ثناء ابن عباس على الأربعة 59 ذكر ثناء جعفر الصادق على الخلفاء الأربعة 60 ذكر موافقة الأربعة نبي الله -صلى الله عليه وسلم- في حب كل واحد منهم ثلاثا من الدنيا 61 الباب الخامس فيما جاء ختصا بأب ي بكر وعمر وعثمان ذكر الموازنة بينهم ورجحان بعضهم ببعض 62 ذكر رجحان كل واحد منهم بجميع الأمة 63 ذكر كتب أسمائهم على العرش 64 ذكر كتب أسمائهم على كل ورقة في الجنة 64 ذكر تسبيح الحصا في كفهم 65 ذكر إثبات الصديقة لأبي بكر والشهادة لهما 66 ذكر بتشيرهم بالجنة 69 ذكر ما روي عن جعفر بن محمد 69 ذكر ما روي عن أولاد الحسن ابن علي 70 ذكر ما روي عن الحسن بن الحسن 70 فصل يتضمن ذكر أبي بكر وعلي 71 القسم الثاني في مناقب الأفراد وفيه عشرة أبواب: الباب الأول في مناقب خليفة رسول الله أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وفيه خمسة عشر فضلًا 73 الفصل الأول في ذكر نسبه وإسلام أبويه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 74 ذكر إسلام أبي قحافة 75 ذكر إسلام أمه أم الخير 77 الفصل الثاني في ذكر اسمه 79 ذكر اسمه الصديق 82 ذكر أنه كان يدعي في السماء الحليم 82 الفصل الثالث في ذكر صفته -رضي الله عنه- 83 الفصل الرابع في إسلامه: 83 في بدء إسلامه 85 ذكر ما جاء في أول من أسلم 88 ذكر أقاويل العلماء في أول من أسلم وبيان اختلافهم والجمع بين الأحاديث المختلفة 91 الفصل الخامس في ذكر من أسلم على يديه 92 الفصل السادس فيما كان بينه وبين النبي -صلى الله عليه وسلم: من الود والخلة في الجاهلية 93 الفصل السابع فيما لقي من اذن المشركين بسب دعائه إلى الله تعالى ودفعه المشركين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وتوبيخه لهم 94 ذكر فعه المشركين عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- 96 ذكر إخراج المشركين أبا بكر وجوار ابن الدغنة له 98 الفصل اثامن في هجرته مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وخدمته له فيها وما جرى لهما في الطريق وما 98 جرى لهما في الغار ومقدمهما المدينة وذكر خروجهما من المدينة طالبين غار ثور وما يتعلق بذلك 104 ذكر الغار وما جرى لأبي بكر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيه وفي طريقه 111 ذكر توجههما طالبين المدينة وما جرى لهما في الطريق ومقدمهما المدينة وما تعلق بذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 123 الفصل التاسع في خصائصه 125 ذكر اختصاصه بمؤانسته له -صلى الله عليه وسلم- في الغار. الخ 126 ذكر اختصاصه بالسبق بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- 126 ذكر اختصاصه بإثبات أهلية الخلة له 126 ذكر أحاديث تدل على ثبوت الخلة له، وهي أعظم الخصائص 127 ذكر تخصيصه بالأخوة والصحبة 128 ذكر اختصاص بقوله -صلى الله عليه وسلم- في حقه أنه أمنت الناس عليه في صحبته وماله.. 130 ذكر اختصاص بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما نفعه مال، وما نفعه مال أبي بكر 130 ذكر شهادة علي بن أبي طالب بذلك وبغيره 130 ذكر اختصاصه بمكافأة الله تعالى له عن نبيه -صلى الله عليه وسلم- 131 ذكر اختصاصه بمواساة النبي -صلى الله عليه وسلم- بنفسه وماله وأنه لا ظلمة على باب قلبه 132 ذكر ما جاء في كمية ما أنفق أبو بكر -رضي الله عنه- 133 ذكر من أعتقه أبو بكر ممن كان يعذب في الله عز وجل 135 ذكر اختصاصه بأن أحب الرجال إليه 136 ذكر اخصاصه بالأفضلية والخيرية 138ذكر اختصاصة بسيادة كهول العرب 138 ذكر اختصاصه بأنه أشجع الناس 141 ذكر ثباته يوم الحديبية 141 ذكر ثباته يوم توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- 147 ذكر شدة بأسه وثبات قلبه لما ارتدت العرب بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- 150 ذكر ثباته عند الموت 150 ذكر اختصاصه بالفهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- 151 ذكر اختصاصه بشربة فضل لبن شربه رسول الله -صلى الله عليه وسلم في رؤيا رآها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 158 ذكر اختصاصه بالفتوى بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإمضاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فتياه 159 ذكر تعبيهر الرؤيا بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي حال انفراده عنه وتقرير النبي -صلى الله عليه وسلم تعبيره في الحالين وأنه كان أعلم الناس بالتعبير 161 ذكر اختصاصه بالشورى بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وقبوله -صلى الله عليه وسلم- مشورته 161 ذكر اختصاصه بأنه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يزال عنده يسمر في أمر المسلمين 162 ذكر ما جاء في أن الله تعالى يكره تخطئة أبي بكر 162 ذكر اختصاصه بأنه أول من جمع القرآن 163 ذكر اختصاصه بأنه أول من تنشق عنه الأرض بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- 164 ذكر اختصاصه بأنه أول من يرد الحوض 164 ذكر مصاحبته النبي -صلى الله عليه وسلم- على الحوض 164 ذكر اختصاصه بموافقته -صلى الله عليه وسلم- في الجنة 164 ذكر اختصاصه بالكون بين الخليل والحبيب يوم القيامة 165 ذكر اختصاصه بأنه لا يحاسب يوم القيامة من بين الأمة 165 ذكر اختصاصه بتجلي الله تعالى له يوم القيامة خاصة 166 ذكر اختصاصه بأنه لم يسمع واحد وطء جبريل حين ينزل بالوحي غيره 167 ذكر اختصاصه بتقديم النبي -صلى الله عليه وسلم- إياه أميرًا على الحج في حياته -صلى الله عليه وسلم- 167 ذكر اختصاصه بالتقديم إمامًا في الصلاة 168 ذكر اختصاصه -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر بأنه لا ينبغي أن يتقدم غيره 169 ذكر اختصاصه بتقديم النبي -صلى الله عليه وسلم- إياه إماما في مرض وفاته تنبيها على خلافته 172 ذكر اختصاصه بصلاة النبي خلفه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 172 ذكر اختصاصه بالحوالة عليه بعد وفاته تنبيها على خلافته وأنه القائم بعده 172 ذكر اختصاصه بإرادة العهدة إليه في الخلافة، ثم ترك ذلك إحالة على إباء الله تعالى خلاف ذلك والمؤمنين 174 ذكر اختصاصه بالسبق إلى أنواع من البر في اليوم الواحد 175 ذكر اختصاصه بالصلاة إماما على فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليها لما ماتت 176 ذكر أن فاطة لم تمت إلا راضية عن أبي بكر 176 ذكر اختصاصه بالدعاء بخليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- 177 ذكر اختصاصه بيته بوجود أربعة فيه بعضهم ولد بعض 177 ذكر اختصاصه بآي من القرآن نزلت فيه أو بسببه 181 الفصل العاشر فيما جاسء متضمنا أفضليته 182 الفصل الحادي عشر فيما جاء متضمنا صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالجنة 182 ذكر ما جاء أنه يدعى من أبواب الجنة كلها 183 ذكر ما جاء أن الملائكة تزفه إلى الجنان مع النبيين والصديقين 183 ذكر تنعمه في الجنة 184 ذكر ماله من الحور الورديات 184 ذكر تشوف أهل الجنة إليه.. 184 الفصل الثاني عشر في ذكر نبذ من فضائله 185 ذكر ما جاء في أنه كان خيرًا كله 185 ذكر أنه كان عنده. -صلى الله عليه وسلم- بمنزلة سمعه وبصره 186 ذكر أدبه مع النبي -صلى الله عليه وسلم- 186 ذكر انه لم يسوء النبي -صلى الله عليه وسلم- قط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 186 ذكر كتمه سر النبي -صلى الله عليه وسلم- 187 ذكر حبه صلة قرابته رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر من حبه صلة قرابة 187 ذكر إيثاره سرور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- 188 ذكر وفائه بعدات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته 188 ذكر أن الله أعطاه ثوبا من آمن بالنبي -صلى الله عليه وسلم- 189 ذكر شجاعته وثبات قلبه عند الحوادث 189 ذكر علمه 189 ذكر فراسته وكراماته 190 ذكر اقتفائه آثار النبوة واتباعه إياها 192 ذكر أنه من الذين استجابوا لله والرسول 192 ذكر تعبده وما جاء من حسن صلاته 193 ذكر نبذ من أدعيته وتسبيحه 194 ذكر اشتماله عن أنواع من البر 194 ذكر أنه يدعى من أبواب الجنة كلها 195 ذكر زهده -رضي الله عنه- 196 ذكر رضاه عن الله وسلام الله عليه 196 ذكر خوفه من الله تعالى 197 ذكر ورعه: -رضي الله عنه 201 ذكر تنزيهه عن شرب الخمر في الجاهلية والإسلام، وعن قول الشعر في الإسلام 202 ذكر تعففه عن المسألة 202 ذكر تواضعه 203 ذكر سرعة رجوعه عن غضبه وما ظهر من بركته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 205 ذكر غيرته وتزكية النبي -صلى الله عليه وسلم- وزوجه 205 ذكر تكذيب ملك إنسانا وقع بأبي بكر 206 ذكر ما جاء ف ي الترغيب في صحبته 208 ذكر ما يتضمن تعظيم عمر أبا بكر 208 ذكر ما جاء عن عل ي أنه كان إذا حدثه أحد استحلفه غير أبي بكر 209 فصل في التنبيه على ما رواه علي في فضل أبي بكر وما روي عنه 211 ذكر اعتذار عبد الله بن عمر في تقديمنه أبه في السلام على أبي بكر: تنبيها على أفضليته 211 ذكر ما روي عن عائشة في أبي بكر 215 الفصل الثالث عشر في ذكر خلافته وما يتعلق بها 217 ذكر سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- تقدمة علي فأبى الله إلا تقدمة أبي بكر 218 ذكر ما روي عن عمر في هذا الباب 219 ذكر ما روي عن أبي عبيدة بن الجراح في هذا الباب 220 ذكر ما روي عن عن عبد الله بن مسعود في ذلك 220 ذكر ما روي عن أبي سعيد في معنى ذلك 220 ذكر ما أخبر به النصارى مما يتضمن خلافة أبي بكر 230 ذكر أنه -صلى اللهع عليه وسلم- لم يعهد في الخلافة بعهد ولم ينص فيها على أحد بعينه 231 ذكر بيعة أبي بكر وما يتعلق بها 233 ذكر بيعة السقيفة وما جرى فيها 239 ذكر بيعه العامة 251 ذكر بيعة علي -رضي الله عنه- وهو باب ممتع: أشبع المؤلففيه المقال 4/ الله بيعة الزبير 251 ذكر استقالة أبي بكر من البعية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 253 ذكر أنه كان كارها للولاية، وإنما تحملها رعاية ل محصلة المسلمين 254 ذكر خطبة أبي بكر لما ولي الخلافة 255 ذكر ما فرض له من بيت المال 256 ذكر ما روي عن قول أبيه أبي قحافة عند بلوغه خبر ولايته 256 الفصل الرابع عشر في ذكر وفاته وما يتعلق بها 258 ذكر سبب موته 259 ذكر تركه التطبب تسليما لأمر الله تعالى 259 ذكر عنده إلى عمر ووصيته له 261 ذكر وصيته من يغسله وأين يدفن وبأن يسرع دفنه 262 ذكر قدر سنة يوم مات رضي الله عنه 262 ذكر قول أبيه أبي قحافة لما بلغه خبر وفاته 262 ذكر ثناء علي -رضي الله عنه- عليه عند وفاته -رضي الله عنه- 265 ذكر ثناء عائشة على أبيه وقد مرت علي قبره 265 الفصل الخامس عشر في ذكر ولده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 فهرس الجزء الثاني من الكتاب : 271 الباب الثاني: في مناقب أمير المؤمني أبي حفص عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- 271 الفصل الأول: في نسبه أصلا وفرعا 272 الفصل الثاني في اسمه وكنيته 273 الفصل الثالث في صفته 275 الفصل الرابع في إسلامه 283 ذكر ظهور الإسلام وعزه بإسلامه وامتناع المسلمين به 285 ذكر استبشار أهل السماء بإسلام عمر 285 ذكر أنه بإسلامه كان مكملًا عدة أربعين 286 الفصل الخامس في هجرته 286 الفصل السادس في خصائصه 287 ذكر اختصاصه بالتحدث 287 ذكر اختصاصه بالخيرية 288 ذكر اختصاصه بأنه أزهدهم في الدنيا. 298 ذكر اختصاصه بشهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الله جعل الحق على لسانه. وقلبه وأن الحق بعده معه. 299 ذكر اختصاصه بأن السكينة تنطق على لسانه 299 ذكر اختصاصه بالهيبة، ونفران الشيطان منه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 301 ذكر اختصاصه بأنه صارع جنبًا، فصرعه 302 ذكر اختصاصه بشهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- ينفي حب مطلق الباطل عنه 303 ذكر اختصاصه بالشدة في أمر الله تعالى 303 ذكر اختصاصه بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أياه: إجابة أبي سفيان يوم أحد 304 ذكر اختصاصه بثوب يجره دون سائر الأمة في رؤيا رآها النبي -صلى الله عليه وسلم- 304 ذكر اختاصه بشرب فضل لبن شربه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رؤيا رآها، وأول ذلك -صلى الله عليه وسلم- بالعلم 305 ذكر اختصاصه بفضل طول على الناس في رؤيا أبي بردة 305 ذكر اختصاصه بأن الناس ماد ام فيهم لا تصيبهم فتنة 307 ذكر اختصاصه بأن أول تنشف عنه الأرض بعد النبي -صلى الله عليه وسلم، وبعد أبي بكر ذكر اختصاصه بأن أول من يعطي كتابه بيمينه يوم القيامة ودعاء الإسلام له فيه 308 ذكر اختصاصه بأن لله وجد مفتاح الإسلام 308 ذكر اختصاصه بأنه أول من يسلم عليه الحق يوم القيامة 308 ذكر اختصاصه بأنه أول من تسمى بأمير المؤمنين 309 ذكر اختصاصه بأنه أومن من أمر بالجماعة في قيام رمضان 310 ذكر اختصاصه بآي نزلت فيه 311 الفصل السابع في أفضليته بعد أبي بكر 311 الفصل الثامن في شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالجنة 311 ذكر شهادته -صلى الله عليه وسلم- أنه أهل الجنة 311 ذكر كونه مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة 311 ذكر أنه سراج أهل الجنة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 312 ذكر قصره في الجنة 317 ذكر كثرة فضائله وماله عند الله تعالى، وبكاء الإسلام على موته 318 ذكر وصف جبريل إياه بأخوة النبي -صلى الله عليه وسلم- 318 ذكر ما أعده الله له: من الكرامة بسبب عز الإسلام به 319 ذكر نعته في كتب أهل الكتاب 319 ذكر إثبات فضليته بالمصاهرة 319 ذكر الحث على محبته 319 ذكر سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- الدعاء عنه 320 ذكر إحالته: -صلى الله عليه وسلم- من سأله في منامه الدعاء عليه 320 ذكر أن الله يغضب لغضبه 320 ذكر أن غضبه عسر 320 ذكر شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيره له بالشهادة ودعائه -صلى الله عليه وسلم- بها، وتمنى عمر ذلك لنفسه 322 ذكر علمه وفهمه 324 ذكر تلطفه في استنباط الحكم 324 ذمر فراسته 326 ذكر كراماته ومكاشافته 332 ذكر رؤياه في الأذان 332 ذكر حسن نظره وإصابة رأيه 335 ذكر فضائله على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- 336 ذكر وقوفه عند كتاب الله واقتفائه آثار النبوة وإيثارها لها وكثرة اتباعه للسنة 340 ذكر صلة أقارب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- 342 ذكر محافظته على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 343 ذكر غضبه لغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغمه لغمهع على انبساطه، وتأمله لتألمه، وبكائه لرقة حاله 345 ذكر أدبه مع النبي -صلى الله عليه وسلم- 345 ذكر محبته للنبي -صلى الله عليه وسلم- 345 ذكر قوة إيمانه وثباته عليه حيا وميتًا 346 ذكر اعتقاد الصحابة قوة إيمانه 363 ذكؤ تعبده 365 ذكر زهده 376 ذكر محاسبته نفسه 376 ذكر ورعه 379 ذكر تواضعه 383 ذكر شفقته على رعيته، وتفقد أحوالهم، وأنصافه لهم، ونصحه إياهم 394 ذكر كتبه لعماله، وما كان يوصيهم، ويأمرهم به 399 ذكر أنه كان أعز الناس على أبي بكر 399 فصل فيما رواه علي في فضل عمر، وروي عنه 401 الفصل العاشر في خلافته وما يتعلق بها 404 ذكر ما أخبر به أهل الكتاب عن كتبهم متضمنا ذلك 402 ذكر وصف علي له بما يتأهل معه للخلافة وتصويب أبي بكر في العهد إليه 404 ذكر بيعته وما يتعلق بها 404 ذكر أول ما تكلم به لما ولي 405 الفصل الحادي عشر: في ذكر مقتله، وما يتعلق به ذكر سؤاله الله أن يتوفاه، فاستجاب له على النحو الذي سأل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 ذكر كيفية قتله وبيان أنهخ كان في الصلاة 406 ذكر سبب قتله وبيان أنه لم يستخلف 408 ذكر أنه قتله -كان قبل الدخول في الصلاة 410 ذكر خبر ثان يصرح بأنه قلته -كان قبل الصلاة، وتوعد إبي لؤلؤة له بالقتل. ذكر تألمه للرعية لما أصيب -رضي الله عنه- 412 ذكر تزكيته أهل الشورى لما طعن عليهم 413 ذكر سؤالهم منه الاستخلاف عليهم، واعتذاره منهم فيه 414 ذكر إخباره -رضي الله عنه موته بسبب رؤيا رآها واعتذاره عن الاستخلاف أيضًا 415 ذكر رؤيا أبي موسى الأشعري في موت عمر قبل وقوعه 416 ذكر من أخبر عمر قبل وقعه وأمرهم إياه بالاحتراز على نفسه 416 ذكر وصاياه 417 ذكر تاريخ موته ومدة مكثه بعد الجراحة ومن صلى عليه وما سمع منه حين احتضر 418 ذكر مدة عمره ومدة ولايته 418 ذكر إظلام الأرض لموت عمر 419 ذكر من ندب عمر ومن أثنى عليه بعد موته 419 ذكر إيثار أبي عبيدة الموت قبل موت عمر 422 ذكر رثاء الجن لعمر 423 الفصل الثاني عشر في ذكر ولده 423 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 المجلد الثالث تابع القسم الثاني: في مناقب الأفراد الباب الثالث: في مناقب أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه الفصل الأول: في نسبه ... تابع القسم الثاني: في مناقب الأفراد الباب الثالث: في مناقب أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وفيه اثنا عشر فصلًا الأول في نسبه، الثاني في اسمه وكنيته، الثالث في صفته، الرابع في إسلامه، الخامس في هجرته، السادس في خصائصه، السابع في أفضليته، الثامن في شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالجنة، التاسع في فضائله، العاشر في خلافته، الحادي عشر في مقتله، الثاني عشر في ولده. الفصل الأول: في نسبه وقد تقدم ذكر آبائه في ذكر الشجرة في إثبات العشرة، وينسب إلى أمية بن عبد شمس فيقال: الأموي، يجتمع مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عبد مناف، وهو أقربهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما. أمه أروى بنة كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، أسلمت، رواه أبو بكر بن مخلد في الآحاد والمثاني عن ابن عباس. أمها: البيضاء -أم حكيم- بنت عبد المطلب عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شقيقة أبي طالب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 الفصل الثاني: في اسمه ونيته ... الفصل الثاني: في اسمه وكنيته ولم يزل اسمه في الجاهلية والإسلام عثمان، ويكنى أبا عبد الله وأبا عمرو، كنيتان مشهورتان، وأبو عمرو أشهر. قيل: إنه ولدت له رقية ولدًا سماه عبد الله فاكتنى به فمات، ثم ولد له عمرو فاكتنى به إلى أن مات. وقيل: إنه كان يكنى أبا ليلى، وكان يقال له: ذو النورين. وعن علي -رضي الله عنه- وقد سئل عن عثمان قال: فذاك امرؤ يدعى في الملأ ذا النورين، كان ختن1 رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ابنته، ضمن له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيتًا في الجنة، خرجه ابن السمان. وعن المهلب بن أبي صفرة وقد قيل له: لم قيل لعثمان: ذو النورين؟ قال: لأنه لم يعلم أحد تزوج ابنتي نبي غيره. وحكى الإمام أبو الحسين القزويني الحاكمي في تسميته بذلك ثلاثة أقوال: أحدها، هذا، والثاني: لأنه كان يختم القرآن في الوتر، فالقرآن نور وقيام الليل نور، والثالث: لأنه كان له سخاءان، أحدهما قبل الإسلام والثاني بعده. وذكر الحافظ أبو بكر محمد بن عمر بن النجار, عن وكيع بن الجراح, أنه إنما سمي ذا النورين؛ لأنه ذو كنيتين يكنى أبا عمرو وأبا عبد الله، قال: وقال بعض العلماء: إنما سمي بذلك؛ لأنه إذا دخل الجنة برقت له برقتين، فلذلك سمي ذا النورين, فتحصلنا في سبب تسميته "ذا النورين" على خمسة أقوال.   1 صهره ونسيبه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 الفصل الثالث: في صفته كان رضي الله عنه رجلًا ربعة، ليس بالقصير ولا بالطويل، حسن الوجه، بوجنتيه نكتات جدري، أقنى. وقال البغوي: مشرف الأنف من أجمل الناس، رقيق البشرة، عظيم اللحية طويلها، أسمر اللون، كثير الشعر، له جمة أسفل من أذنيه، ولكثرة شعر رأسه ولحيته كان أعداؤه يسمونه نعثلًا، ضخم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين، وكان أصلع، وكان يصفر لحيته. عن عبد الرحمن بن سعد قال: رأيت عثمان بن عفان على بغلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو بين الزوراء قد صفر لحيته، أخرجه ابن الضحاك. وقيل: كان يختضب بالسواد، وقيل: ما خصب به قط بل كان أبيض اللحية، حكاهما الخجندي. وكان وتد أسنانه بالذهب، وكان محببًا في قريش، وفيه يقول قائلهم: أحبك الرحمن حب قريش عثمان، ذكر ذلك كله ابن قتيبة وأبو عمر وصاحب الصفوة، وكان يقال له: الليِّن الرحيم، ذكره الخجندي. "شرح" نعثل: اسم رجل طويل اللحية، كان إذا نيل من عثمان سمي بذلك. ونعثل أيضًا: اسم الذكر من الضباع. وعن الحسن -وقد سئل عن صفة عثمان- فقال: كان خفيف الجسم عظيم الأرنبة، شعر رأسه إلى أنصاف أذنيه. خرجه ابن الضحاك وروى أنه كان من أجمل الناس. وعن أسامة قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصحفة فيها لحم إلى عثمان, فدخلت عليه وإذا هو جالس مع رقية -ما رأيت زوجا أحسن منهما- فجعلت مرة أنظر إلى عثمان ومرة أنظر إلى رقية, فلما رجعت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "دخلت عليهما?" قلت: نعم, قال: "هل رأيت زوجًا أحسن منهما?" قلت: لا, وقد جعلت مرة أنظر إلى رقية ومرة أنظر إلى عثمان. خرجه البغوي في معجمه والحافظ الدمشقي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 الفصل الرابع: في إسلامه عن عمرو بن عثمان قال: كان إسلام عثمان فيما حدثنا عن نفسه قال: كنت رجلًا مستهترًا بالنساء, وإني ذات ليلة بفناء الكعبة قاعد في رهط من قريش إذ أتينا فقيل لنا: إن محمدًا قد أنكح عتبة بن أبي لهب رقية, وكانت رقية ذات جمال رائع, قال عثمان: فدخلتني الحسرة لم لا أكون أنا سبقت إلى ذلك؟ فلم ألبث أن انصرفت إلى منزلي فأصبت خالة لي قاعدة وهي سعدى بنت كريز وكانت قد طرقت وتكهنت عند قومها, فلما رأتني قالت: أبشر وحييت ثلاثًا تترى ... أتاك خير ووقيت شرا أنكحت والله حصانًا زهرًا ... وأنت بكر ولقيت بكرا وافيتها بنت عظيم قدرًا ... بنت امرئ قد أشاد ذكرا قال عثمان: فعجبت من قولها فقلت: يا خالة ما تقولين? فقالت: يا عثمان لك الجمال ولك اللسان، هذا نبي معه البرهان أرسله بحقه الديان, فاتبعه لا تغتالك الأوثان. قال: قلت: يا خالة إنك لتذكرين شيئًا ما وقع ذكره في بلدنا فأبينيه لي قالت: محمد بن عبد الله رسول من عند الله جاء بتنزيل الله, يدعو إلى الله ثم قالت: مصباحه مصباح ودينه فلاح, وأمره نجاح وقرنه نطاح, دانت له البطاح, ما ينفع الصباح لو وقع الذباح وسلمت الصفاح ومدت الرماح قال: ثم انصرفت ووقع كلامها في قلبي, فجعلت أفكر فيه وكان لي مجلس عند أبي بكر فأتيته فأصبته في مجلس ليس عنده أحد, فجلست إليه فرآني مفكرًا فسألني عن أمري وكان رجلا متأنيا, فأخبرته بما سمعت من خالتي فقال: ويحك يا عثمان, إنك لرجل حازم ما يخفى عليك الحق من الباطل, ما هذه الأوثان التي يعبدها قومنا؟! أليست من أحجار صم لا تسمع ولا تبصر?! قلت: بلى والله إنها كذاك! فقال: والله لقد صدقتك خالتك، هذا رسول الله محمد بن عبد الله قد بعثه الله تعالى برسالته إلى خلقه, فهل لك أن تأتيه فتسمع منه? قلت: نعم, فوالله ما كان أسرع من أن مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه علي بن أبي طالب يحمل ثوبًا, فلما رآه أقبل علي فقال: "يا عثمان أجب الله إلى جنته، فإني رسول الله إليك وإلى خلقه" قال: فو الله ما تمالكت حين سمعت قوله أن أسلمت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، ثم لم ألبث أن تزوجت رقية بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي إسلام عثمان تقول خالته سعدى بنت كريز: هدى الله عثمانًا بقولي إلى الهدى ... وأرشده والله يهدي إلى الحق فتابع بالرأي السديد محمدًا ... وكان برأي لا يصد عن الصدق وأنكحه المبعوث بالحق بنته ... فكان كبدر مازج الشمس في الأفق فدى لك يابن الهاشميين مهجتي ... وأنت أمين الله أرسلت للخلق ثم جاء الغد أبو بكر بعثمان بن مظعون وأبي عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف وأبي سلمة بن عبد الأسد والأرقم بن أبي الأرقم فأسلموا، وكانوا مع من اجتمع مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثمانية وثلاثين رجلا، خرجه الفضائلي، وخرج صاحب فضائله طائفة منه، وأسلمت أخت عثمان -آمنة بنت عفان- وأسلم إخوته لأمه: الوليد وخالد وعمارة -أسلموا يوم الفتح- وأم كلثوم بنو عقبة بن أبي معيط بن عمرو بن أمية، أمهم كلهم أروى المتقدم ذكرها في فصل نسبه، وذكر ذلك الدارقطني في كتاب الأخوة، وذكر أن أم كلثوم من المهاجرات الأول، يقال: إنها أول قرشية بايعت النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنكحها زيد بن حارثة، ثم خلف عليها عبد الرحمن بن عوف, ثم تزوجها الزبير بن العوام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 الفصل الخامس: في هجرته قال أبو عمر: هاجر عثمان إلى أرض الحبشة فارًّا بدينه مع زوجته رقية بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان أول مهاجر إليها، ثم تابعه سائر المهاجرين إلى أرض الحبشة، ثم هاجر الهجرة الثانية إلى المدينة. عن أنس قال: أول من هاجر إلى أرض الحبشة عثمان، وخرج بابنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأبطأ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خبرهما فجعل يتوكف الخبر، فقدمت امرأة من قريش من أرض الحبشة فسألها فقالت: رأيتها، فقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 "على أي حال رأيتها?" قالت: رأيتها وقد حملها على حمار من هذه الدواب وهو يسوقها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "صحبهما الله, إن كان عثمان لأول من هاجر إلى الله -عز وجل- بعد لوط" خرجه خيثمة بن سليمان في فضائل عثمان، والملاء في سيرته، والظاهر أن قدومه من الحبشة كان قبل هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة أو بعدها وقبل وقعة بدر؛ لأنه صح أنه كان في وقعة بدر متخلفا بالمدينة على زوجته رقية بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانت مريضة، وضرب له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسهمه وأجره منها، وسيأتي ذكر ذلك في خصائصه، وكانت وقعة بدر لسنة من الهجرة وثمانية أشهر وسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان, وكان قدوم أكثر مهاجري الحبشة-جعفر وأصحابه- موافقًا لفتح خيبر, فأسهم صلى الله عليه وسلم لهم منها، وما أسهم لأحد غاب عن فتح خيبر من غنائمها إلا لجعفر وأصحاب سفينته، وكان فتح خيبر لست سنين من الهجرة وثلاثة أشهر وأحد عشر يومًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 الفصل السادس: في خصائصه تقدم من ذلك اختصاصه بأنه أول من هاجر إلى أرض الحبشة في الذكر قبله. ذكر اختصاصه بعظيم الشرف, وشرف المنقبة بتزوج ابنتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن الله أوحي إليَّ أن أزوج كريمتي عثمان بن عفان" خرجه الطبراني وخرجه خيثمة بن سليمان عن عروة بن الزبير عن عائشة وزاد بعد قوله "كريمتي" يعني: رقية وأم كلثوم. وعن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل فأمرني أن أزوج عثمان كريمتي" وقالت عائشة: كن لما لا ترجو أرجى منك لما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 ترجو، فإن موسى -عليه السلام- خرج يلتمس نارًا فرجع بالنبوة، خرجه الحافظ أبو الحسين بن نعيم البصري. وعن أبي هريرة قال: لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- عثمان عند باب المسجد فقال: "يا عثمان, هذا جبريل أخبرني أن الله قد أمرني أن أزوجك أم كلثوم بمثل صداق رقية، وعلى مثل صحبتها" خرجه ابن ماجه القزويني والحافظ أبو بكر الإسماعيلي وأبو سعيد النقاش وأبو الحسن الخلعي وأبو القاسم الدمشقي والإمام أبو الخير القزويني الحاكمي. وعنه قال: قال عثمان لما ماتت امرأته بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم: بكيت بكاءً شديدًا فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك?" قلت: أبكي على انقطاع صهري منك، قال: "فهذا جبريل يأمرني بأمر الله -عز وجل- أن أزوجك أختها". وعن ابن عباس معناه, وزاد فيه: "والذي نفسي بيده, لو أن عندي مائة بنت تموت واحدة بعد واحدة زوجتك أخرى حتى لا يبقى من المائة شيء، هذا جبريل أخبرني أن الله -عز وجل- يأمرني أن أزوجك أختها, وأن أجعل صداقها مثل صداق أختها" خرجه الفضائلي. وعن علي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لو كان عندي أربعون بنتًا لزوجت عثمان واحدة بعد واحدة حتى لا يبقى منهن واحدة" خرجه أبو حفصة عمر بن شاهين وابن السمان، ولا تضاد بين هذا وبين حديث ابن عباس قبله، بل يحمل على تكرر القول منه -صلى الله عليه وسلم. وعن إسماعيل بن علية قال: أتيت يونس بن خباب لأسمع منه فقال: من أين أنت? فقلت: من أهل البصرة، فقال: من أهل المدينة الذين يحبون عثمان بن عفان وقد قتل ابنتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: قتل واحدة, فلم زوجه الثانية?! خرجه الحافظ السلفي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 ذكر اختصاصه بأنه من أشبه الصحابة خلقًا بالنبي: عن أبي هريرة قال: دخلت على رقية بنت النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي يدها مشط, فقالت: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عندي آنفًا رجلت رأسه فقال: "كيف تجدين أبا عبد الله?" قلت: خير الرجال، قال: "أكرميه؛ فإنه من أشبه أصحابي بي خلقًا" خرجه الدولابي والبغوي، وخرج خيثمة بن سليمان منه قوله -صلى الله عليه وسلم- في عثمان: "إنه أشبه أصحابي بي خلقًا" وخرجه الملاء عن معاذ بن جبل بزيادة ولفظه: قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن عثمان بن عفان أشبه الناس بي خلقًا وخلقًا ودينًا وسمتًا, وهو ذو النورين زوجته ابنتي، وهو معي في الجنة كهاتين" وحرك السبابة والوسطى. ذكر اختصاصه بكثرة الحياء, وبأنه أصدق الأمة حياء: عن أنس بن مالك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أصدق أمتي حياء عثمان" خرجه في المصابيح الحسان. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "عثمان أحيا أمتي وأكرمها" خرجه الملاء في سيرته. وعن عائشة قالت: استأذن أبو بكر على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا معه في مرط واحد فأذن له، فقضى حاجته وهو على تلك الحال في المرط، ثم استأذن عليه عمر فأذن له فقضى حاجته وهو على تلك الحال في المرط، ثم استأذن عثمان فأصلح ثيابه وجلس فقضى إليه حاجته ثم خرج. قالت عائشة: قلت: يا رسول الله استأذن عليك أبو بكر فقضى إليك حاجته وأنت على حالك، ثم استأذن عليك عمر فقضى إليك حاجته وأنت على تلك الحال، ثم استأذن عليك عثمان فأصلحت ثيابك واحتفظت، فقال: "يا عائشة, إن عثمان رجل حيي، ولو أذنت له على تلك الحال خشيت أن لا يقضي حاجته" خرجه أحمد وأبو حاتم، وخرجه مسلم ولفظه: استأذن أبو بكر على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مضطجع على فراشه لابس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 مرط عائشة فأذن له، ثم ذكر الحديث وقال في عثمان: فجلس وقال: "يا عائشة, اجمعي عليك ثيابك" وقال: "لم يبلغ إلى حاجته" مكان: "أن لا يقضي". "شرح" المرط -بالكسر: كساء من صوف أو خز يؤتزر به وجمعه مروط، ولا تضاد بين الحديثين، بل يحمل الثاني على أنه -صلى الله عليه وسلم- كان لابسًا مرط عائشة وهي معه فيه، وقوله: "اجمعي عليك ثيابك" يؤيد هذا، فإنه لما جمع عليه ثيابه وخرج من المرط أمرها بمثل فعله -صلى الله عليه وسلم. وعن الحسن وذكر عثمان وشدة حيائه فقال: إن كان ليكون في البيت والباب عليه مغلق, فما يضع عنه الثوب ليفيض عليه الماء, يمنعه الحياء أن يقيم صلبه، خرجه أحمد وصاحب الصفوة. ذكر اختصاصه باستحياء الملائكة منه: عن عائشة قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مضطجعًا في بيته كاشفًا عن فخذيه أو عن ساقيه, فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسوى ثيابه فدخل فتحدث، فلما خرج قالت عائشة: يا رسول الله دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تبال به، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تبال به، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك? فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟ " خرجه أحمد ومسلم وحاتم؛ وعند مسلم أنه قال لعائشة: "اجمعي عليك ثيابك". "شرح" تهتش: من الهشاشة وهي الارتياح والخفة للمعروف، تقول: هششت لفلان بالكسر أهش هشاشة, إذا خفضت إليه وارتحت له. وعن حفصة قالت: دخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوضع ثوبه بين فخذيه, الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 فجاء أبو بكر يستأذن فأذن له وهو على هيئته، ثم جاء عمر يستأذن فأذن له وهو على هيئته؛ ثم جاء عثمان يستأذن فتجلل ثوبه ثم أذن له، فتحدثوا ساعة ثم خرجوا، قلت: يا رسول الله دخل أبو بكر وعمر وعلي وأناس من أصحابك وأنت على هيئتك لم تتحرك, فلما دخل عثمان تجللت ثوبك? قال: "ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة?" خرجه أحمد، وخرجه رزين مختصرًا وقال البخاري: قال محمد: ولا أقول: ذلك في يوم واحد. ذكر اختصاصه بالتوصية إليه ألا يخلع قميصًا ألبسه الله إياه: عن النعمان بن بشير عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعثمان ذات يوم: "يا عثمان, إن الله لعله يقمصك قميصا، فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه" ثلاثًا قال: قلت: يا أم المؤمنين أين كنت عن هذا الحديث? قالت: يا بني أنسيته كأني لم أسمعه قط, خرجه أبو حاتم والترمذي، وقال: حسن غريب. وفي رواية: "يا عثمان, إن الله يقمصك قميصًا, فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه, ولا كرامة لهم" يقولها مرتين أو ثلاثًا. وفي رواية قالت: أرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عثمان, فأقبل عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان آخر كلام كلمه أن ضرب منكبه وقال: "يا عثمان, إن الله عسى أن يلبسك قميصًا, فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني" فذكره ثلاث مرات. خرجهما أحمد. وفي رواية أنها قالت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا عثمان, إن ولاك الله تعالى هذا الأمر يوما فأرادك المنافقون على أن تقلع قميصك الذي قمصك الله فلا تخلعه" يقول ذلك ثلاث مرات. قال النعمان بن بشير: فقلت لعائشة ثم ذكر معنى ما تقدم، خرجه أبو الخير القزويني الحاكمي. وفي رواية عن عبد الله بن عمر: "يا عثمان, إن كساك الله قميصًا وأرادوك على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 خلعه فلا تخلعه، فوالذي نفسي بيده لئن خلعته لا ترى الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط" خرجه الصوفي من حديث يحيى بن معين. ذكر اختصاصه بتمنيه محادثته في بعض الأحوال: عن عائشة قالت: كنت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم أنا وحفصة فقال صلى الله عليه وسلم: "لو كان عندنا رجل يحدثنا?" فقلت: يا رسول الله, أبعث إلى أبي بكر فيجيء فيحدثنا؟ قالت: فسكت صلى الله عليه وسلم؛ قالت: فدعا رجلًا فأسر إليه شيئًا دوننا, فذهب فجاء عثمان وأقبل عليه بوجهه. وعنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرضه: "وددت أن عندي بعض أصحابي" قالت: فقلت: يا رسول الله، ألا ندعو لك أبا بكر؟ فسكت، قلنا: عمر؟ فسكت، قلنا: عليا؟ فسكت، قلنا: عثمان؟ قال: "نعم" قالت: فأرسلنا الى عثمان. خرجهما الترمذي، وقال: حسن غريب، وأبو حاتم واللفظ له. وعنها قالت: كنت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا عائشة, لو كان عندنا من يحدثنا" فقلت: ألا أبعث إلى عمر؟ فسكت، ثم دعا وصيفًا بين يديه فسار فذهب, فإذا عثمان يستأذن فأذن له؛ فدخل فناجاه النبي -صلى الله عليه وسلم- طويلًا. خرجه أحمد. ذكر اختصاصه بقوله: "ادعوا إليَّ أخي": عن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ادعوا إليَّ أخي" قلنا: أبو بكر? قال: "ادعوا إلي أخي" قلنا: عمر? قال: "ادعوا إلي أخي" قلنا: عثمان? قال: "نعم". خرجه الملاء في سيرته. ذكر اختصاصه بالمسارّة له في مرضه, والعهد إليه في أمر بينه وبينه: عن أبي عبد الله الجبيري قال: دخلت على عائشة وعندها حفصة بنت عمر فقالت لها: "أنشدك بالله أن تصدقيني بكذب أو تكذبيني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 بصدق: تعلمين أني كنت أنا وأنت عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأغمي عليه فقلت لك: أترينه قد قبض? فقلت: لا أدري، ثم أفاق فقال: "افتحوا له الباب" فقلت لك: أبوك أو أبي? فقلت: لا أدري؛ ففتحنا فإذا عثمان، فلما رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ادنه" فأكب عليه فساره بشيء لا أدري أنا وأنت ما هو، ثم رفع رأسه فقال: "أفهمت ما قلت لك?" قال: نعم، قال: "ادنه" فأكب عليه أخرى مثلها فساره بشيء ما ندري ما هو، ثم رفع رأسه فقال: "أفهمت ما قلت لك?" قال: نعم، قال: "ادنه" فأكب عليه إكبابا شديدًا فساره بشيء ثم رفع رأسه فقال: "أفهمت ما قلت لك?" قال: نعم سمعته أذناي ووعاه قلبي، فقال له: "اخرج" قالت حفصة: اللهم نعم" أخرجه أحمد. وعنها قالت: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ادعوا إلي بعض أصحابي" قلت: أبا بكر؟ قال: "لا" قلت: عمر؟ قال: "لا" قلت: ابن عمك؟ قال: "لا" قلت: عثمان؟ قال: "نعم" فلما جاءه قال: تنح فجعل يساره ولون عثمان يتغير، فلما كان يوم الدار وحضر فيها قلنا: يا أمير المؤمنين ألا تقاتل? قال: لا, إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عهد إلي عهدًا وإني صابر نفسي عليه. خرجه أحمد. وفي رواية عنها: فأرسلنا إلى عثمان فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يكلمه ووجهه يتغير قال قيس: فحدثني أبو سهلة أن عثمان قال يوم الدار: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عهد إلي وإني صابر عليه، قال قيس: كانوا يرون أن ذلك اليوم. خرجهما الترمذي وأبو حاتم، واللفظ له. قيس هذا هو قيس بن أبي حازم, يروي عن عائشة. ذكر اختصاصه بتجهيز جيش العسرة: عن عبد الرحمن بن خباب قال: شهدت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يحث على جيش العسرة, فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله علي مائة بعير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش فقام عثمان فقال: علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش فقام عثمان فقال: يا رسول الله علي ثلاثمائة بعير بأحلاسها في سبيل الله؛ فأنا رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينزل عن المنبر وهو يقول: "ما على عثمان ما عمل بعد هذه, ما على عثمان ما عمل بعد هذه" خرجه الترمذي، وخرجه أحمد، وقال في آخره: قالت: فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول بيده هكذا ويحركها, وأخرج عبد الصمد يده كالمتعجب: "ما على عثمان ما عمل بعدها". وقال أبو عمر: جهز عثمان جيش العسرة بتسعمائة وخمسين بعيرًا، وأتم الألف بخمسين فرسًا. وروي عن قتاده أنه قال: حمل عثمان في جيش العسرة على ألف بعير وسبعين فرسًا. وعن ابن شهاب الزهري: حمل عثمان بن عفان في غزوة تبوك على تسعمائة وأربعين بعيرًا وستين فرسًا أتم بها الألف، خرجه القزويني الحاكمي. وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان بن عفان بألف دينار في كمه -حين جهز جيش العسرة- فنثرها في حجره -صلى الله عليه وسلم- فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقلبها في حجره ويقول: "ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم" خرجه الترمذي وقال: حسن غريب، وخرجه أحمد وقال: يرددها مرارًا. وعن حذيفة قال: بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عثمان في جيش العسرة, فبعث إليه عثمان بعشرة آلاف دينار فصبت بين يديه، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول بيده ويقلبها ظهرًا لبطن ويقول: "غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت وما هو كائن إلى يوم القيامة، ما يبالي ما عمل بعدها" خرجه الملاء في سيرته والفضائلي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 وعن عبد الرحمن بن عوف قال: شهدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد جاءه عثمان بن عفان في جيش العسرة بسبعمائة أوقية من ذهب، خرجه الحافظ السلفي. وهذا الاختلاف في الروايات قد يوهم التضاد بينها، والجمع ممكن بأن يكون عثمان دفع ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها على ما تضمنه الحديث الأول، ثم جاء بألف دينار لأجل المؤن التي لا بد للمسافر منها، ثم لما اطلع على أن ذلك لا يكفي زاد في الإبل وأردف بالخيل تتميمًا للألف، ثم لما لم يكتف بذلك تمم الألف أبعرة وزاد عشرين فرسًا على تلك الخمسين، وبعث بعشرة آلاف دينار للمؤن، كما دل عليه حديث الرازي والفضائلي من غير أن يكون بينها تضاد ولا تهافت؛ ومما يؤيد ذلك ما روت أم عمرو بنت حسان بن يزيد بن أبي الغض -قال أحمد بن حنبل: وكانت عجوز صدق- قالت: سمعت أبي يقول: إن عثمان جهز لجيش العسرة مرتين. خرجه القزويني الحاكمي. ذكر اختصاصه بتسبيل بئر رومة: عن بشر بن بشير الأسلمي عن أبيه قال: لما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء، وكان لرجل من بني غفار عين يقال لها: رومة، وكان يبيع منها القربة بمد، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تبيعها بعين في الجنة?" فقال: يا رسول الله ليس لي ولا لعيالي عين غيرها، لا أستطيع ذلك. قال: فبلغ ذلك عثمان فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم، ثم أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: اجعل لي مثل الذي جعلت له عينًا في الجنة قال: "نعم" قال: قد اشتريتها وجعلتها للمسلمين. خرجه الفضائلي، وفيه دلالة على أن صاحبها كان مسلمًا. وقد ذكر أبو عمر أنها كانت ليهودي فساومه عثمان فأبى أن يبيعها كلها, فاشترى منه نصفها باثني عشر ألف درهم فجعله للمسلمين، واتفق على أن يكون لليهودي يوم ولعثمان يوم. قال: فكان إذا كان يوم عثمان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 استقى المسلمون ما يكفيهم يومين، فلما رأى اليهودي ذلك قال: أفسدت عليَّ ركيتي, فاشترى النصف بثمانية آلاف درهم. ذكر اختصاصه بإجابة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى توسيع مسجده -صلى الله عليه وسلم: عن الأحنف بن قيس قال: قدمنا المدينة فجاء عثمان فقيل: هذا عثمان وعليه ملبة صفراء قد قنع بها رأسه, قال: ههنا علي؟ قالوا: نعم، قال: ههنا طلحة؟ قالوا: نعم، قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو, أتعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من يبتاع مربد بني فلان غفر الله له" فابتعته بعشرين ألفا أو خمسة وعشرين ألفًا, فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: قد ابتعته فقال: "اجعله في مسجدنا وأجره لك"؟ قالوا: فقالوا: اللهم نعم، فقال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو, أتعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من يبتاع رومة غفر الله له" فابتعتها بكذا وكذا ثم أتيته فقلت: قد ابتعتها قال: "اجعلها سقاية للمسلمين وأجرها لك"؟ فقالوا: اللهم نعم، قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو, أتعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نظر في وجه القوم فقال: "من يجهز هؤلاء غفر الله له" يعني: جيش العسرة، فجهزتهم حتى لم يفقدوا عقالا ولا خطاما؟ قالوا: اللهم نعم، قال: اللهم اشهد ثلاثا. خرجه الدارقطني وأبو حاتم، وخرجه أحمد ولفظه: قال: انطلقنا حجاجا فمررنا بالمدينة, فبينما نحن بمنزلنا إذ جاءنا آتٍ فقال الناس من فزع في المسجد, فانطلقت أنا وصاحبي فإذا الناس مجتمعون على نفر في المسجد قال: فتخللتهم حتى قمت عليهم فإذا علي بن أبي طالب وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص، فلم يكن ذلك بأسرع مما جاء عثمان قال: أههنا علي؟ قالوا: نعم قال: أههنا الزبير؟ قالوا: نعم قال: أههنا طلحة؟ قالوا: نعم قال: أههنا سعد؟ قالوا: نعم, قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، ثم ذكر الحديث إلى آخره، ثم قال: اللهم اشهد، ثم انصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 وعن ثمامة بن حزن القشيري قال: شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان فقال: أنشدكم بالله وبالإسلام هل تعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدم المدينة وليس بها ماء مستعذب غير بئر رومة فقال: "من يشتري بئر رومة يجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة" فاشتريتها من صلب مالي، فأنتم اليوم تمنعونني أن أشرب منها حتى أشرب من ماء البحر? فقالوا: اللهم نعم! قال: أنشدكم بالله وبالإسلام هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة" فاشتريتها من صلب مالي فأنتم اليوم تمنعونني أن أصلي فيها ركعتين? قالوا: اللهم نعم فقال: أنشدكم بالله وبالإسلام, هل تعلمون أني جهزت جيش العسرة من مالي? قالوا: اللهم نعم قال: أنشدكم بالله وبالإسلام, هل تعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان على ثبير مكة ومعه أبو بكر وعمر وأنا فتحرك الجبل حتى سقطت حجارته بالحضيض قال: فركضه برجله وقال: "اسكن ثبير؛ فإن عليك نبيًّا وصديقًا وشهيدين"؟ قالوا: اللهم نعم, قال: الله أكبر شهدوا ورب الكعبة أني شهيد ثلاثًا. خرجه الترمذي وقال: حسن، وخرجه أحمد بتغيير بعض ألفاظه وتقديم تأخير وقال: "حرا" مكان "ثبير" وزاد: أنشدكم بالله من شهد بيعة الرضوان إذ بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المشركين أهل مكة فقال: "هذه يدي وهذه يد عثمان, فبايع لي" فأنشد له رجال، وخرجه الدارقطني وزاد في بعض طرقه: أنشدكم بالله! هل تعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زوجني إحدى ابنتيه بعد الأخرى؛ رضا بي ورضا عني? قالوا: اللهم نعم. وعن قتادة قال: كانت بقعة إلى جنب المسجد فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "من يشتريها ويوسعها في المسجد, له مثلها في الجنة" فاشتراها عثمان فوسعها في المسجد. خرجه خيثمة بن سليمان في فضائل عثمان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 ذكر اختصاصه بتشييد مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقصيصه: عن ابن عمر أن المسجد كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مبنيا باللبن وسقفه بالجريد وعمده خشب النخل، فلم يزد أبو بكر شيئًا، وزاد فيه عمر وبناه على بنائه على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باللبن والجريد وأعاد عمده خشبًا، ثم عمر عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج، أخرجه البخاري. ذكر اختصاصه بأنه نور أهل السماء, ومصباح أهل الأرض: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "قوموا بنا نعد عثمان بن عفان" قلنا: عليل يا رسول الله? قال: "نعم" فقام صلى الله عليه وسلم واتبعناه حتى أتى منزل عثمان, فاستأذن فأذن له فدخل ودخلنا، فوجد عثمان مكبوبًا على وجهه فقال صلى الله عليه وسلم: "ما لك يا عثمان لا ترفع رأسك?" فقال: يا رسول الله إني أستحي -يعني من الله تعالى- قال: "ولم ذاك?" قال: أخاف أن يكون علي غضبان، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "ألست حافر بئر رومة، ومجهز جيش العسرة, والزائد في مسجدي, وباذل المال في رضا الله تعالى ورضاي, ومن تستحي منه ملائكة السماء؟ هذا جبريل يخبرني عن الله -عز وجل- أنك نور أهل السماء, ومصباح أهل الأرض وأهل الجنة" خرجه الملاء. ذكر اختصاصه بإجابة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى توسيع مسجد الكعبة: عن المهلب بن عبد الله أنه دخل على سالم بن عبد الله بن عمر رجل, وكان ممن يحمد عليا ويذم عثمان, فقال الرجل: يا أبا الفضل ألا تخبرني هل شهد عثمان البيعتين كلتيهما: بيعة الرضوان وبيعة الفتح? فقال سالم: لا، فكبر الرجل وقام ونفض رداءه وخرج منطلقا, فلما أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 خرج قال له جلساؤه: والله ما أراك تدري ما أمر الرجل، قال: أجل وما أمره? قالوا: فإنه ممن يحمد عليا ويذم عثمان، فقال: علي بالرجل فأرسل إليه فأتاه فقال: يا عبد الله الصالح, إنك سألتني هل شهد عثمان البيعتين كلتيهما: بيعة الرضوان وبيعة الفتح فقلت: لا فكبرت وخرجت شامتًا, فلعلك ممن يحمد عليا ويذم عثمان? فقال: أجل والله إني لمنهم، قال: فاستمع مني ثم اردد علي: فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما بايع الناس تحت الشجرة كان بعث عثمان في سرية وكان في حاجة الله وحاجة رسوله وحاجة المؤمنين، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ألا إن يميني يدي وشمالي يد عثمان, وإني قد بايعت له" ثم كان من شأن عثمان في البيعة الثانية أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث عثمان إلى علي فكان أمير اليمن فصنع به مثل ذلك، ثم كان من شأن عثمان أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل من أهل مكة: "يا فلان, ألا تبيعني دارك أزيدها في مسجد الكعبة ببيت أضمنه لك في الجنة?" فقال الرجل: يا رسول الله ما لي بيت غيره فإن أنا بعتك داري لا يأويني وولدي بمكة شيء، فقال: "لا, بل -يعني- دارك أزيدها في مسجد الكعبة ببيت أضمنه لك في الجنة". فقال الرجل: والله ما لي إلى ذلك حاجة فبلغ ذلك عثمان -وكان الرجل صديقًا له في الجاهلية- فلم يزل به عثمان حتى اشترى منه داره بعشرة آلاف دينار, ثم أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله بلغني أنك أردت من فلان داره لتزيدها في مسجد الكعبة ببيت تضمنه له في الجنة, وإنما هي داري فهل أنت آخذها ببيت تضمنه لي في الجنة? قال: "نعم" فأخذها منه وضمن له بيتًا في الجنة وأشهد له على ذلك المؤمنين، ثم كان من جهازه جيش العسرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غزا غزوة تبوك فلم يلق في غزاة من غزواته ما لقيفيها من المخمصة والظمأ وقلة الظهر, فبلغ ذلك عثمان فاشترى قوتًا وطعامًا وأدمًا وما يصلح لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولأصحابه، فجهز إليه عيرا فنظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى سواد قد أقبل قال: "هذا قد جاءكم الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 بخير" فأنيخت الركاب ووضع ما عليها من الطعام والأدم وما يصلح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه, فرفع يديه إلى السماء وقال: "اللهم إني قد رضيت عن عثمان فارضَ عنه" ثلاث مرات ثم قال: "يا أيها الناس, ادعوا لعثمان" فدعا له الناس جميعا مجتهدين ونبيهم -صلى الله عليه وسلم- معهم, ثم كان من شأن عثمان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- زوجه ابنته فماتت, فجاء عثمان وعمر عند النبي -صلى الله عليه وسلم- جالس فقال: يا عمر إني خاطب فزوجني ابنتك, فسمعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "خطب إليك عثمان ابنتك, زوجني ابنتك وأنا أزوجه ابنتي" فتزوج النبي -صلى الله عليه وسلم- ابنة عمر وزوجه ابنته، فهذا ما كان من شأن عثمان. أخرجه أبو الخير القزويني الحاكمي. ذكر اختصاصه بإقامة يد النبي -صلى الله عليه وسلم- الكريمة مقام يد عثمان, لما بايع الصحابة وعثمان غائب: قد تقدم في الذكرين قبله طرف منه. وعن أنس قال: لما أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببيعة الرضوان, كان عثمان بن عفان رسول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أهل مكة فبايع الناس فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن عثمان في حاجة الله وحاجة رسوله" فضرب بإحدى يديه على الأخرى, فكانت يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعثمان خيرًا له من أيديهم لأنفسهم. خرجه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب. وعن عثمان قال: كانت بيعة الرضوان فيَّ وضرب لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشماله على يمينه، وشمال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير من يميني، قال القوم في حديثهم: بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ قيل: هذا عثمان قد جاء, فقطع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البيعة. خرجه خيثمة بن سليمان في فضائل عثمان. ذكر اختصاصه بتبليغ رسالة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى من بمكة أسيرًا من المسلمين: عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: اشتد البلاء على من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 كان في أيدي المشركين من المسلمين قال: فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمر فقال: "يا عمر هل أنت مبلغ عني إخوانك من أسرى المسلمين?" قال: بأبي أنت والله, ما لي بمكة عشيرة غيري أكثر عشيرة مني، قال: فدعا عثمان فأرسله إليهم, فخرج عثمان على راحلة حتى جاء عسكر المشركين فعبثوا به وأساءوا له القول, ثم أجازه أبان بن سعيد بن العاص ابن عمه وحمله على السرج وردف خلفه, فلما قدم قال: يابن عم طف، قال: يابن عم إن لنا صاحبًا لا نبتدع أمرًا هو الذي يكون يعمله فتتبع أثره، قال: يابن عم ما لي أراك متحشفا أسبل؟ قال: وكان إزاره إلى أنصاف ساقيه، قال له عثمان: هكذا إزرة صاحبنا, فلم يدع أحدًا بمكة من أسرى المسلمين إلا أبلغهم ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم. أخرجه أبو عمرو الغفاري. ذكر شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- لعثمان بموافقته في ترك الطواف لما أرسله في تلك الرسالة: عن إياس بن سلمة عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بايع لعثمان إحدى يديه على الأخرى فقال الناس: هنيئًا لأبي عبد الله الطواف بالبيت آمنا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "لو مكث كذا, ما طاف حتى أطوف" خرجه ابن الضحاك في الآحاد والمثاني. ذكر اختصاصه بسهم رجل ممن شهد بدرا وأجره, ولم يحضره: عن عثمان بن وهب قال: جاء رجل من أهل مصر وحج البيت فرأى قوما فقال: من هؤلاء القوم? فقالوا: هؤلاء قريش، قال: فمن الشيخ منهم? قالوا: عبد الله بن عمر، قال: يابن عمر إني سائلك فحدثني, هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد? قال: نعم، قال: هل تعلم أنه تغيب عن بدر? قال: نعم، قال: هل تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 يشهدها? قال: نعم. قال: الله أكبر، قال ابن عمر: تعال أبين لك؛ أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله تعالى عفا عنه وغفر له، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته ابنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت مريضة فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه" وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد ببطن مكة أعز من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عثمان وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده اليمنى: "هذه يد عثمان" فضرب بها على يده فقال: "هذه لعثمان" ثم قال ابن عمر: اذهب بها الآن معك. خرجه البخاري والترمذي واللفظ مختلف والمعنى واحد. وفي رواية: أن الرجل الذي سأل ابن عمر لما قام, قيل لابن عمر: هذا يقول: إنك وقعت في عثمان، قال: أوقد فعلت ذلك? قالوا: إنه يقول ذلك، فقال: ردوه فردوه فقال: أعقلت ما قلت لك? قال: نعم، سألتك أشهد عثمان بيعة الرضوان فقلت: لا، وسألتك أشهد بدرًا فقلت: لا، وسألتك أكان ممن استنزله الشيطان فقلت: نعم. فقال ابن عمر: تعال أخبرك؛ أما بيعة الرضوان ثم ذكر معنى ما تقدم وقال في آخره: وأما الذين تولوا يوم التقى الجمعان إنما استنزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم, فاجهد عليه جهدك. خرجه أبو الخير القزويني الحاكمي المشهور في تخلف عثمان عن بدر أنه كان بما تضمنه هذا الحديث من تمريض زوجته ابنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أراد الخروج معهم, فأذن له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالتخلف عليها. ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل العلم بالسير. وقال بعضهم: كان مريضًا بالجدري فأراد الخروج, فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ارجع" وضرب له بسهمه وأجره. خرجه القلعي والأول أصح. ذكر اختصاصه بكتابة الوحي حال الوحي: عن فاطمة بنت عبد الرحمن عن أمها أنها سألت عائشة وأرسلها عمها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 فقال: إن أحد بنيك يقرئك السلام ويسألك عن عثمان بن عفان, فإن الناس قد شتموه فقالت: لعن الله من لعنه, فوالله لقد كان قاعدًا عند نبي الله -صلى الله عليه وسلم- وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمسند ظهره إلي, وإن جبريل ليوحي إليه القرآن وإنه ليقول له: "اكتب يا عثيم 1 , فما كان الله لينزل تلك المنزلة إلا كريمًا على الله ورسوله" خرجه أحمد وخرجه الحاكمي وقال: قالت: لعن الله من لعنه -لا أحسبها قالت إلا ثلاث مرات- لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مسند فخذه إلى عثمان وإني لأمسح العرق عن جبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن الوحي لينزل عليه وإنه ليقول: "اكتب يا عثيم, فوالله ما كان الله لينزل عبدًا من نبيه تلك المنزلة إلا كان عليه كريمًا". ذكر اختصاصه بكتابة سر رسول الله -صلى الله عليه وسلم: عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا جلس, جلس أبو بكر عن يمينه وعمر عن يساره وعثمان بين يديه, وكان كاتب سر رسول الله -صلى الله عليه وسلم. خرجه الحافظ أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي في كتاب فضائل العباس. ذكر اختصاصه بمرافقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الجنة: عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: شهدت عثمان يوم حوصر ولو ألقي حجرًا لم يقع إلا على رأس رجل, فرأيت عثمان أشرف من الخوخة التي تلي مقام جبريل على الناس وقال لطلحة: أنشدك الله أتذكر يوم كنت أنا وأنت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في موضع كذا وكذا, ليس معه أحد من أصحابه غيري وغيرك؟ قال: نعم، فقال لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا طلحة, إنه ليس من نبي إلا ومعه من أصحابه رفيق في الجنة, وإن عثمان -يعنيني- رفيقي في الجنة"؟ قال طلحة: اللهم نعم ثم انصرف. خرجه أحمد، وخرجه   1 تصغير عثمان، مرخمًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 الترمذي مختصرًا عن طلحة بن عبيد الله ولفظه: قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي رفيق, ورفيقي عثمان" ولم يقل: في الجنة, وخرجه الحافظ أبو القاسم في الموافقات كذلك, وسياق هذا اللفظ يشعر بالتخصص بالمرافقة. وقد سبق نحو من هذا السياق في حق أبي بكر, ولعل أحدهما رفيق في وقت أو في جنة, والآخر رفيق في آخر أو في أخرى من غير أن يكون بين الخبرين تضاد أو تهافت. ذكر اختصاصه بكونه أوصلهم للرحم: عن مطرف قال: لقيت عليا فقال لي: يا أبا عبد الله ما بطأ بك عنا, أحب عثمان? أما إن قلت ذاك, لقد كان أوصلنا للرحم وأتقانا للرب. خرجه في الصفوة. ذكر اختصاصه بدعاء من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يدع به لأحد قبله, ولا بعده: عن الحسن بن علي قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنام متعلقًا بالعرش ثم رأيت أبا بكر آخذا بحقوي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم رأيت عمر آخذا بحقوي أبي بكر ثم رأيت عثمان آخذًا بحقوي عمر, ثم رأيت الدم منصبا من السماء إلى الأرض. فحدث الحسن بهذا الحديث وعنده ناس من الشيعة فقالوا: ما رأيت عليا? قال: ما كان أحد أحب إلي أن أراه آخذا بحقوي النبي -صلى الله عليه وسلم- من علي -رضي الله عنه- ولكن إنما هي رؤيا فقال أبو مسعود عقبة بن عمرو: إنكم لتجدون على الحسن في رؤيا رآها, لقد كنت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن في غزاة قد أصاب المسلمين جهد حتى عرفت الكآبة في وجوه المسلمين والفرح في وجوه المنافقين, فلما رأى ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "والله لا تغيب الشمس حتى يأتيكم الله برزق" فعلم عثمان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 أن الله ورسوله يصدقان, فوجه راحلته فإذا هو بأربع عشرة راحلة فاشتراها وما عليها من الطعام, فوجه منها سبعًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووجه سبعًا إلى أهله, فلما رأى المسلمون العير قد جاءت عرف الفرح في وجوههم والكآبة في وجوه المنافقين فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما هذا?" فقالوا: أرسل به عثمان هدية لك، قال: فرأيته رافعًا يديه يدعو لعثمان, ما سمعته يدعو لأحد قبله ولا بعده: "اللهم أعط لعثمان وافعل لعثمان" رافعًا يديه حتى رأيت بياض إبطيه. خرجه القزويني الحاكمي. ذكر اختصاصه بدعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض الأحوال الليل كله: عن أبي سعيد الخدري قال: رمقت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أول الليل إلى أن طلع الفجر يدعو لعثمان بن عفان يقول: "اللهم, عثمان رضيت عنه فارض عنه" خرجه الحافظ أبو الحسن الخلعي وصاحب الصفوة, ويشبه أن يكون سبب ذلك تجهيزه جيش العسرة أو تسبيل بئر رومة. وقد ذكر الواحدي ما يشعر بذلك, فإنه حكى في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا ... } الآية: نزلت في عثمان وعبد الرحمن بن عوف، فأما عثمان فجهز جيش العسرة وسبل1 بئر رومة. قال أبو سعيد: فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رافعًا يديه يدعو لعثمان يقول: "يا رب رضيت عن عثمان فارض عنه" فما زال رافعًا يديه حتى طلع الفجر. ومما ورد عن دعائه -صلى الله عليه وسلم- لعثمان عن عائشة قالت: مكث آل محمد أربعة أيام ما طعموا شيئًا حتى تضاغوا2 صبياننا, فدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-   1 جعلها في سبيل الله تعالى ينتفع بها جميع المسلمين؛ ابتغاء وجه الله تعالى. 2 بلغة من يسند الفعل إلى واو الجماعة مع وجود الفاعل, كأكلوني البراغيث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 فقال: "يا عائشة, هل أصبتم بعدي شيئا?" فقلت: من أين إن لم يأتنا الله -عز وجل- به على يديك, فتوضأ وخرج منسحبًا يصلي ههنا مرة وههنا مرة يدعو، قالت: فأتى عثمان من آخر النهار فاستأذن فهممت أن أحجبه ثم قلت: هو رجل من مكاثير الصحابة لعل الله -عز وجل- إنما ساقه إلينا ليجري على يديه خيرًا، فأذنت له فقال: يا أمتاه أين رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: يا بني, ما طعم آل محمد من أربعة أيام شيئا, دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متغيرًا ضامر البطن, فأخبرته بما قال لها وبما ردت قالت: فبكى عثمان بن عفان وقال: مقتًا للدنيا ثم قال: يا أم المؤمنين ما كنت بحقيقة أن ينزل بك، يعني هذا ثم لا تذكرينه لي ولعبد الرحمن بن عوف ولثابت بن قيس في نظائرنا من مكاثير الناس, ثم خرج فبعث إلينا بأحمال من الدقيق وأحمال من الحنطة وأحمال من التمر وبمسلوخ وبثلاثمائة درهم في صرة ثم قال: هذا يبطئ عليكم، ثم بعث بخبز وشواء كثير، فقال: كلوا أنتم واصنعوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى يجيء, ثم أقسم علي أن لا يكون مثل هذا إلا أعلمته، قالت: ودخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا عائشة, هل أصبتم بعدي شيئا?" قلت: يا رسول الله قد علمت أنك إنما خرجت تدعو الله -عز وجل- وقد علمت أن الله -عز وجل- لن يردك عن سؤالك. قال: "فما أصبتم" ? قلت: كذا وكذا حمل بعير دقيقًا وكذا وكذا حمل بعير حنطة وكذا وكذا حمل بعير تمرًا وثلاثمائة درهم في صرة ومسلوخًا وخبزًا وشواء كثيرًا. فقال: "ممن?" فقلت: من عثمان بن عفان، قالت: وبكى وذكر الدنيا بمقت, وأقسم علي أن لا يكون مثل هذا إلا كلمته، قالت: فلم يجلس النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى خرج إلى المسجد ورفع يديه وقال: "اللهم قد رضيت عن عثمان فارض عنه" ثلاث مرات. خرجه الحافظ أبو القاسم الدمشقي في الأربعين. وعن ليث بن أبي سالم قال: أول من خبص الخبيص في الإسلام عثمان بن عفان, قدمت عليه عير تحمل الدقيق والعسل فخلط بينهما وبعث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى منزل أم سلمة, فلما جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدمت بين يديه فأكل فاستطابه فقال: "من بعث بهذا?" فقالت: عثمان يا رسول الله بعث به, قال: "اللهم إن عثمان ترضاك فارض عنه". وعن يوسف بن سهل بن يوسف الأنصاري عن أبيه عن جده قال: خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال في خطبته: "اللهم ارض عن عثمان بن عفان" خرجهما خيثمة في فضائله. وعن عبد الله بن سلام قال: قدمت عير من طعام فيها جمل لعثمان بن عفان, عليه دقيق حواري وسمن وعسل فأتى بها النبي -صلى الله عليه وسلم- فدعا فيها بالبركة، ثم دعا ببرمة فنصبت على النار وجعل فيها من العسل والدقيق والسمن ثم عصد حتى نصج أو كاد ينضج, ثم أنزل فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "كلوا, هذا شيء تسميه فارس الخبيص" خرجه تمام في فوائده والطبراني في معجمه. وعن جابر بن عطية قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "غفر الله لك يا عثمان ما قدمت وما أخرت, وما أسررت وما أعلنت, وما أخفيت وما أبديت, وما هو كائن إلى يوم القيامة" خرجه البغوي في معجمه, وخرجه ابن عرفة العبدي وقال: وما كان وما هو كائن. ذكر اختصاصه بترك الصلاة على مبغضه: عن جابر قال: أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بجنازة رجل ليصلي عليها, فلم يصل عليه فقيل: يا رسول الله ما رأيناك تركت الصلاة على أحد قبل هذا قال: "إنه كان يبغض عثمان, فأبغضه الله -عز وجل" خرجه الترمذي والخلعي. ذكر اختصاصه بصلاة الملائكة عليه يوم يموت: عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يوم يموت عثمان تصلي عليه ملائكة السماء" قلت: يا رسول الله عثمان خاصة أم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 الناس عامة؟ قال: "عثمان خاصة" خرجه الحافظ الدمشقي, وقد تقدم في حديث طويل في ذكر وفاة عمر. ذكر اختصاصه باعتناق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له في بعض الأحوال, وقوله له: "أنت وليي في الدنيا والآخرة": عن جابر بن عبد الله قال: بينما نحن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نفر من المهاجرين, منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لينهض كل رجل منكم إلى كفئه" 1 ونهض النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عثمان فاعتنقه وقال: "أنت وليي في الدنيا والآخرة" خرجه الخجندي في الأربعين والملاء في سيرته وخرج منه الحافظ ابن عبيد عن جابر قوله -صلى الله عليه وسلم: "أنت وليي في الدنيا والآخرة". ذكر اختصاصه بأنه لا يحاسب, أو يحاسب سرًّا: عن علي بن أبي طالب أنه قال: يا رسول الله, من أول من يحاسب يوم القيامة? قال: "أبو بكر" قال: ثم من؟ قال: "ثم عمر" قال: ثم من? قال: "ثم أنت يا علي" قلت: يا رسول الله أين عثمان؟ قال: "إني سألت عثمان حاجة سرًّا فقضاها سرًّا, فسألت الله أن لا يحاسب عثمان" خرجه الحافظ بن بشران وخرج معناه ابن السمان في الموافقة بزيادة ولفظه: قال: قلت: يا رسول الله من أول من يدعى للحساب? قال: "أنا أقف بين يدي ربي يوم القيامة ما شاء الله, ثم أخرج وقد غفر الله لي" قلت: ثم من يا رسول الله? قال: "ثم أبو بكر يقف مثل ما وقفت مرتين أو كما وقفت, ثم يخرج وقد غفر الله له" قلت: ثم من يا رسول الله? قال: "ثم عمر يقف ما وقف أبو بكر مرتين, ثم يخرج وقد غفر الله   1 نظيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 له" قلت: ثم من يا رسول الله? قال: "ثم أنت يا علي" قلت: يا رسول الله فأين عثمان? قال: "عثمان رجل ذو حياء, سألت ربي أن لا يقف للحساب فشفعني فيه". وعن أبي أمامة قال: سمعت أبا بكر الصديق يقول للنبي -صلى الله عليه وسلم: من أول من يحاسب؟ قال: "أنت يا أبا بكر" قال: ثم من? قال: "ثم عمر" قال: ثم من? قال: "ثم علي" قال: فعثمان? قال: "سألت ربي أن يهب لي حسابه فلا يحاسبه, فوهب لي" خرجه الخجندي وقال: قال الحافظ أبو بكر: وفي رواية أخرى: "قضى لي حاجة سرا, فسألت الله أن يحاسبه سرا" ولا تضاد بين الروايتين, بل تحمل الأولى على أنه سأله أن لا يحاسبه جهرًا بين الناس فوهب له ذلك وجمعا بين هذا وبين ما تقدم في حق أبي بكر أنه لا يحاسب, ويكون معنى قوله: أول من يحاسب في هذا الحديث أي: أول من يبعث للحساب, بدليل أنه أول من تنشق عنه الأرض كما تقدم, ثم لا يحاسب والله أعلم. ذكر اختصاصه بأنه أول من خط المفصل 1: عن أبي سعيد مولى أبي أسيد الأنصاري أن عثمان لما دخل عليه أهوى إليه رجل بالسيف فاتقاه بيده فقطعها, فلا أدري أبانها أو لم يبنها قال عثمان: أما والله إنها لأول كف خطت المفصل. خرجه أبو حاتم. ذكر اختصاصه بصبره نفسه على القتل, وجمعه القرآن: عن عبد الرحمن بن مهدي قال: كان لعثمان شيئان: ليس لأبي بكر وعمر صبره نفسه حتى قتل مظلومًا, وجمعه الناس على المصحف. وعن أنس أن حذيفة قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة   1 القرآن الكريم: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى, فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك, فأرسلت بها إليه فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الله بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة, وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سوى ذلك من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق. خرجه البخاري. ذكر اختصاصه بخلال عشر اختبأها عند الله -عز وجل: عن أبي بشور الفهمي قال: سمعت عثمان بن عفان يقول: لقد اختبأت ربي عشرًا: إني لرابع أربعة في الإسلام وجهزت جيش العسرة وجمعت القرآن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأتمنني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ابنته ثم توفيت فزوجني الأخرى، وما تغنيت مما تمنيت، وما وضعت يدي اليمنى على فرجي منذ بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما مرت بي جمعة إلا وأنا أعتق فيها رقبة أن لا تكون عندي فأعتقها بعد ذلك، ولا زنيت في جاهلية ولا في إسلام، ولا سرقت. خرجه الحاكمي, وقوله: تمنيت أي: كذبت، وقد تقدم وتغنيت من الغناء والله أعلم. ذكر اختصاصه بآي من القرآن نزلت فيه: وقد تقدم من ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا.. الآية} 1 واختصاصه بدعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم.   1 سورة البقرة الآية: 261. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 وفي عبادة الليل كله: عن ابن عمر في قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} 1 قال: نزلت في عثمان. خرجه الواحدي والحاكمي والفضائلي. وعن محمد بن حاطب قال: سمعت عليا -رضي الله عنه- يقول يعني2 {إِن الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} 3 عثمان. خرجه الحاكمي. وعن ابن عباس في قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 4 قال: عثمان. خرجه النجار.   1 سورة الزمر الآية 9. 2 يقصد بالذين سبقت لهم من الله الحسنى: عثمان. 3 سورة الأنبياء الآية 101. 4 سورة النحل الآية 76. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 الفصل السابع: في أفضليته بعد عمر -رضي الله عنهما- وأحاديث هذا الفصل تقدمت في باب الأربعة وباب الثلاثة من حديث ابن عمر, وغيره مستوفيًا فلتنظر ثمة. وعن النزال قال: قال عبد الله بن مسعود حين استخلف عثمان: استخلفنا خير من بقي ولم نأله. خرجه خيثمة بن سليمان والقلعي وصاحب الصفوة. وعن عبد الرحمن بن عوف أنه قال لعلي بعد أن شاور الصحابة: إني قد رأيت القوم لا يعدلون بعثمان أحدًا, فلا تجعلن عليك حجة. خرجه القلعي. وعن علي بن الموفق قال: قمت في ليلة باردة فتوضأت بماء بارد وتوجهت إلى القبلة فصليت وقرأت ألف مرة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فلما فرغت غلبتني عيناي فنمت, فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم فقلت: يا رسول الله، القرآن الكريم كلام الله غير مخلوق؟ فسكت فقلت: يا رسول الله القدر خيره وشره, حلوه ومرة؟ فسكت، فقلت: يا رسول الله الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية؟ فسكت، فقلت: يا رسول الله خير الناس بعدك أبو بكر؟ فسكت، ثم قلت: عمر بعد أبي بكر فسكت، ثم أردت أن أقول: عثمان فاستحييت منه -صلى الله عليه وسلم- فقلت: علي بعد عمر فقال لي: "ثم عثمان ثم علي" وجعل يرددها: "ثم عثمان ثم علي" قال: ثم أخذ بعضدي وقال لي: "يا علي بن الموفق هذه سنتي" فاستيقظت. خرجه الحافظ السلفي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 الفصل الثامن: في شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالجنة تقدمت أحاديث هذا الفصل في باب العشرة وما دونها والأربعة، وفي باب الثلاثة من حديث أبي موسى وحديث أنس وحديث عائشة وحديث زيد بن أرقم، وحديث عبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد، وتقدم في فصل الخصائص حديث زيد بن أسلم وطلحة بن عبد الله في اختصاصه بمرافقة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة. وعن عبد الله بن حوالة قال: قال صلى الله عليه وسلم: "يهجمون على رجل يبايع الناس، مدثر ببرد، من أهل الجنة" فإذا هو عثمان. وعن علي -رضي الله عنه- وقد سئل عن عثمان فقال: ذاك ختن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ابنتيه, ضمن له بيتا في الجنة. خرجه ابن السمان في الموافقة. وعن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما صعد المنبر فنزل حتى قال: "عثمان في الجنة" خرجه الحاكمي. وعن عبد الله بن ظالم أن رجلا جاء إلى سعيد بن زير فقال له: إني أبغضت عثمان بغضًا لم أبغضه شيئًا قط، قال: بئس ما قلت, أبغضت رجلا من أهل الجنة؟! خرجه أحمد في المناقب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 ذكر وصف حورية لعثمان في الجنة: عن عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لما أسري بي دخلت جنة عدن, فوضع في يدي تفاحة فانطلقت عن حوراء عيناء مرضية كأن مقادم عينيها أجنحة النسور فقلت: لمن أنت? فقالت: للخليفة من بعدك عثمان بن عفان" خرجه خيثمة بن سليمان، وخرجه الحاكمي، "وقالت: للخليفة المقتول من بعدك" وخرجه الملاء عن أنس ولفظه: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنة فناولني جبريل تفاحة" ثم ذكر معنى ما بقي، وقال: "قالت: للخليفة المظلوم المقتول ظلمًا عثمان بن عفان" ولم يقل: بعدك. ذكر فعله أشياء موجبة للجنة؛ طمعا فيها: تقدم من ذلك ما ورد في بئر رومة, وفي توسيع المسجدين. وعن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين أن عثمان ابتاع حائطًا من رجل فساومه حتى قام على عثمان ثم قال: أعط عشرة آلاف، فالتفت عثمان إلى عبد الرحمن بن عوف فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله -عز وجل- أدخل الجنة رجلا كان سمحا بائعا ومبتاعا وقابضا ومقبضا" ثم قال: زدتك العشرة الآلاف لأستوجب هذه الكلمة التي سمعتها من النبي -صلى الله عليه وسلم. أخرجه أبو الخير الحاكمي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 الفصل التاسع: في ذكر نبذ من فضائله كان عثمان -رضي الله عنه- من السابقين الأولين، وصلى إلى القبلتين، وهاجر الهجرتين، وتزوج ابنتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعد من البدريين ومن أهل بيعة الرضوان ولم يشهدهما كما تقدم بيانه، وهو أحد من توفي عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنه راض, وقد تقدم ذكر شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالشهادة في باب ما دون العشرة في أحاديث حراء، وفي باب الثلاثة في أحاديث أحد وثبير. ذكر شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه على الحق: عن كعب بن عجرة قال: ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتنة فقربها وعظمها قال: ثم مر رجل مقنع في ملحفة فقال: "هذا يومئذ على الحق" فانطلقت فأخذت بضبعيه فقلت: هذا يا رسول الله؟ قال: "هذا" فإذا هو عثمان بن عفان. خرجه أحمد، وخرج الترمذي معناه عن مرة بن كعب البهزي وقال: هذا يومئذ على الهدى, فقمت إليه ثم ذكر ما بعده وقال: حسن صحيح. ذكر أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- باتباعه عند ثوران الفتنة: عن مرة بن كعب البهزي قال: بينما نحن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في طريق من طرق المدينة قال: "كيف تصنعون في فتنة تثور في أقطار الأرض كأنها صياصي بقر؟ " قالوا: فنصنع ماذا يا رسول الله? قال: "عليكم بهذا وأصحابه، أو اتبعوا هذا وأصحابه" قال: فأسرعت حتى عطفت الرجل فقلت: هذا يا نبي الله? قال: "هذا" فإذا هو عثمان بن عفان. أخرجه أبو حاتم وأحمد، وقال فيه: فأسرعت حتى عييت فلحقت بالرجل فقلت: هذا يا نبي الله؟ ثم ذكر ما بقي. "شرح" صياصي: قرون البقر، وربما ركبت في الرماح مكان الأسنة، والصياصي: الحصون. ذكر وصفه بالأمين, والحث على الكون معه: عن أبي حبيبة قال: سمعت أبا هريرة -وعثمان محصور- استأذن في الكلام فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنها تكون فتنة واختلاف, أو اختلاف وفتنة" قلنا: يا رسول الله فما تأمرنا? قال: "عليكم بالأمين وأصحابه" وأشار إلى عثمان بن عفان. خرجه القزويني الحاكمي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 وعن كعب قال: والذي نفسي بيده إن في كتاب الله المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر الصديق، عمر الفاروق، عثمان الأمين، فالله الله يا معاوية في أمر هذه الأمة, ثم نادى الثانية: إن في كتاب الله المنزل, ثم أعاد الثالثة. خرجه الأنصاري. ذكر أن له شأنًا في أهل السماء: عن زيد بن أبي أوفى حديث مؤاخاته -صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه, وفيه: ثم دعا عثمان وقال: "ادن يا أبا عمرو, ادن يا أبا عمرو" فلم يزل يدنو منه حتى ألصق ركبته بركبته، فنظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى السماء وقال: "سبحان الله" ثلاث مرات ثم نظر إلى عثمان وكانت أزراره محلولة فزرها -صلى الله عليه وسلم- بيده ثم قال: "اجمع عطفي ردائك على نحرك" ثم قال: "إن لك لشأنا في أهل السماء أبا عمرو، ترد على حوضي وأوداجك تشخب دما فأقول: من فعل بك هذا? فتقول: فلان وفلان، وذلك كلام جبريل" خرج هذا القدر أبو الخير الحاكمي، وخرج حديث المؤاخاة بكماله أبو القاسم الدمشقي، وقد تقدم في باب العشرة. ذكر استجابته الله ولرسوله في فضائل أخر: عن عبد الله بن عدي بن الخيار بن المسور بن مخرمة عن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث قال: ما منعك أن تكلم عثمان في أخيه الوليد, فقد أكثر الناس فيه? فقصدت لعثمان حين خرج إلى الصلاة، قلت: إن لي إليك حاجة وهي نصيحة لك قال: يا أيها المرء منك? قال معمر: أعوذ بالله منك، فانصرفت فرجعت، فجاء رسول عثمان فأتيته فقال: ما نصيحتك? فقلت: إن الله قد بعث محمدًا بالحق وأنزل عليه الكتاب وكنت ممن استجاب لله ورسوله, فهاجرت الهجرتين، وصحبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورأيت هديه وقد أكثر الناس في شأن الوليد قال: أدركت رسول الله -صلى الله عليه وسلم? قلت: لا ولكن خلص إلي من علمه ما يخلص إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 العذراء في خدرها. قال: أما بعد, فإن الله بعث محمدًا بالحق فكنت ممن استجاب لله ورسوله وآمنت بما بعث به، وهاجرت الهجرتين كما قلت، وصحبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبايعته فوالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله تعالى، ثم أبا بكر1 مثله، ثم عمر مثله، ثم استخلفت أفليس لي من الحق مثل الذي لهم؟ قلت: بلى, قال: فما هذه الأحاديث التي تبلغني عنكم? أما ما ذكرت من شأن الوليد فنأخذ فيه بالحق إن شاء الله تعالى, ثم دعا عليا فأمره أن يجلده فجلده ثمانين. خرجه البخاري. وعن حصين بن المنذر قال: لما جيء بالوليد بن عقبة إلى عثمان -وقد شرب الخمر- قال عثمان لعلي: دونك ابن عمك, فأقم عليه الحد قال: فجلده أربعين. وفي رواية فقال علي: يا حسين قم فاجلده فقال: ما أنت هذا؟! ولي هذا غيرك؟! قال: لا, ولكنك ضعفت ووهنت وعجزت، وقال: قم يا عبد الله بن جعفر فاجلده، وعد علي حتى بلغ أربعين. خرجه مسلم. ذكر تبشيره -صلى الله عليه وسلم- عثمان بثبوت الإيمان: عن أنس بن مالك قال: عطس عثمان بن عفان عند النبي -صلى الله عليه وسلم- عطسات متواليات, فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "يا عثمان ألا أبشرك?" قال: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: "فهذا جبريل يخبرني عن الله -عز وجل- أن من عطس ثلاث عطسات متواليات كان الإيمان ثابتا في قلبه" خرجه أبو الخير الحاكمي وقال: إنما أراد به من عطس ثلاثًا وهو على مثل مقام عثمان في الحياء والإيمان، قلت: وهذا تحكم لا مستند   1 ثم عاملت أبا بكر مثله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 له، بل إن صح الحديث فظاهره العموم، وتكون هذه خصيصًا للمؤمنين. ذكر شهادته -صلى الله عليه وسلم- بأن له الشفاعة يوم القيامة: عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليشفع عثمان يوم القيامة في سبعين ألفا عند الميزان من أمتي, ممن استوجبوا النار". وعن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يدخل بشفاعة رجل من أمتي الجنة مثل أحد الحيين ربيعة ومضر" قيل: وكانوا يرون أن ذلك الرجل عثمان بن عفان. خرجهما الملاء في سيرته. وعن الحسن قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يشفع عثمان يوم القيامة في مثل ربيعة ومضر" خرجه الحاكمي القزويني. ذكر تشبيهه -صلى الله عليه وسلم- عثمان بإبراهيم -عليه السلام: عن مسلم بن يسار قال: نظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عثمان فقال: "شبيه بإبراهيم -عليه السلام- وإن الملائكة لتستحي منه" خرجه المخلص الذهبي والبغوي في الفضائل. وقد تقدم في مناقب الأعداد أنه شبيه بهارون، فيحتمل أن يكون شبيهًا بإبراهيم في استحياء الملائكة منه, أو في بعض صفاته وهارون في بعض. ذكر فراسته: روي أن رجلا دخل على عثمان وقد نظر امرأة أجنبية, فلما نظر إليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 قال: هاء1!! أيدخل علي أحدكم وفي عينيه أثر الزنا? فقال له الرجل: أوحي بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم? قال: لا!! ولكن قول حق, وفراسة صدق. خرجه الملاء في سيرته. ذكر كراماته: عن نافع أن جهجاه الغفاري تناول عصا عثمان وكسرها على ركبته, فأخذته الأكلة في رجله. وعن أبي قلابة قال: كنت في رفقة بالشام, إذ سمعت صوت رجل يقول: يا ويلاه النار!! قال: فقمت إليه وإذا رجل مقطوع اليدين والرجلين من الحقوين2 أعمى العينين منكب لوجهه فسألته عن حاله فقال: إني قد كنت ممن دخل على عثمان الدار فلما دنوت منه صرخت زوجته فلطمتها، فقال: ما لك قطع الله يديك ورجليك وأعمى عينيك وأدخلك النار، فأخذتني رعدة عظيمة وخرجت هاربًا فأصابني ما ترى ولم يبق من دعائه إلا النار قال: فقلت له: بعدًا لك وسحقًا. خرجهما الملاء في سيرته. وعن مالك أنه قال: كان عثمان مر بحش كوكب فقال: إنه سيدفن ههنا رجل صالح، فكان أول من دفن فيه. خرجه القلعي. ذكر متابعته للسنة: عن عبد الرحمن بن يزيد قال: أفضت مع ابن مسعود من عرفة، فلما جاء المزدلفة صلى المغرب والعشاء, كل واحد منهما بأذان وإقامة وجعل بينهما العشاء ثم نام، فلما قال قائل: طلع الفجر صلي الفجر، ثم قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:   1 لفظة تذكر عند التعجب من شيء. 2 من الجنبين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 "إن هاتين الصلاتين أخرتا عن وقتهما" في هذا المكان المغرب، فإن الناس لا يأتون ههنا حتى يعتموا، وأما الفجر فهذا الحين، ثم وقف فلما أسفر قال: إن أصاب أمير المؤمنين السنة دفع، قال: فما فرغ عبد الله حتى دفع عثمان. وعن أبي شريح الخزاعي قال: كسفت الشمس في عهد عثمان بن عفان وبالمدينة عبد الله بن مسعود قال: فخرج عثمان فصلى بالناس تلك الصلاة: ركعتين وسجدتين في كل ركعة قال: ثم انصرف ودخل داره وجلس عبد الله إلى حجرة عائشة وجلسنا إليه فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأمر بالصلاة عند كسوف الشمس والقمر, فإذا رأيتموه قد أصابهما فافزعوا إلى الصلاة؛ فإنها إن كانت الذي تحذرون كانت وأنتم على غير غفلة، وإن لم تكن كنتم قد أصبتم خيرًا اكتسبتموه. خرجهما أحمد. ذكر تعبده: عن محمد بن سيرين قال: كان عثمان يحيي الليل كله بركعة يجمع فيها القرآن. وعنه قال: قالت امرأة عثمان, حين أطافوا به يريدون قتله: إن يقتلوه أو يتركوه, فإنه كان يحيي الليل كله بركعة يجمع فيها القرآن. خرجهما أبو عمر. وعن عثمان بن عبد الرحمن التيمي قال: قلت: لأغلبن الليلة على المقام، قال: فلما صلينا العتمة تخلصت إلى المقام حتى قمت فيه قال: فبينا أنا قائم إذا رجل وضع يده بين كتفي فإذا هو عثمان بن عفان, فبدأ بأم القرآن يقرأ حتى ختم القرآن فركع وسجد, ثم أخذ نعليه فلا أدري صلى قبل ذلك شيئًا أم لا. خرجه الحاكمي والملاء. وعن مولاة لعثمان قالت: كان عثمان يصوم الدهر. خرجه أبو عمر وصاحب الصفوة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 وعن الزبير بن عبد الله عن جدته قالت: كان عثمان يصوم الدهر, ويقوم الليل إلا هجعة من أوله. خرجه في الصفوة. وعن عبد الرحمن بن عثمان التيمي قال: قلت: لأغلبن الليلة على الحجر -يعني المقام- فقمت, فلما قمت إذا برجل متقنع زحمني فنظرت فإذا عثمان بن عفان, فتأخرت فإذا هو يسجد سجود القرآن حتى إذا قلت: هذه هوادي الفجر أوتر بركعة لم يصل غيرها ثم انطلق. خرجه الشافعي في مسنده. ذكر كثرة إعتاقه: عن أبي نشور الفهمي قال: قدمت على عثمان، فبينما أنا عنده فخرجت فإذا وفد أهل مصر قد رجعوا فدخلت عليه فأعلمته، قال: كيف رأيتهم? قلت: رأيت في وجوههم الشر، وعليهم ابن عدس البلوي، فصعد ابن عدس منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلى بهم الجمعة وتنقص عثمان في خطبته، فدخلت عليه فأخبرته بما قام فيهم فقال: كذب والله ابن عدس، لولا ما ذكر ما ذكرت ذلك، إني والله لرابع أربعة في الإسلام وأنكحني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابنته، ثم توفيت فأنكحني ابنته الأخرى؛ ما زنيت ولا سرقت في الجاهلية ولا في الإسلام، ولا تغنيت ولا تمنيت منذ أسلمت، ولا مسست فرجي بيميني منذ بايعت بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولقد جمعت القرآن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أتت جمعة إلا ولنا عتق رقبة منذ أسلمت, إلا أن لا أجد تلك الجمعة فأجمعها في الجمعة الثانية. أخرجه الرازي والفضائلي. ذكر صدقاته: تقدم في الخصائص طرف جيد منها، عن ابن عباس قال: قحط الناس في زمان أبي بكر، فقال أبو بكر: لا تمسون حتى يفرج الله عنكم. فلما كان من الغد جاء البشير إليه قال: قدمت لعثمان ألف راحلة برا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 وطعاما، قال: فغدا التجار على عثمان فقرعوا عليه الباب, فخرج إليهم وعليه ملاءة قد خالف بين طرفيها على عاتقه فقال لهم: ما تريدون? قالوا: قد بلغنا أنه قد قدم لك ألف راحلة برا وطعاما، بعنا حتى نوسع به على فقراء المدينة، فقال لهم عثمان: ادخلوا فدخلوا فإذا ألف وقر1 قد صب في دار عثمان، فقال لهم: كم تربحونني على شرائي من الشام? قالوا: العشرة اثني عشر، قال: قد زادوني، قالوا: العشرة أربعة عشر، قال: قد زادوني, قالوا: العشرة خمسة عشر، قال: قد زادوني، قالوا: من زادك ونحن تجار المدينة? قال: زادني2 بكل درهم عشرة، عندكم زيادة? قالوا: لا!! قال: فأشهدكم معشر التجار أنها صدقة على فقراء المدينة, قال عبد الله3: فبت ليلتي فإذا أنا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في منامي وهو على برذون أشهب يستعجل وعليه حلة من نور وبيده قضيب من نور وعليه4 نعلان شراكهما من نور، فقلت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد طال شوقي إليك، فقال صلى الله عليه وسلم: "إني مبادر؛ لأن عثمان تصدق بألف راحلة، وإن الله تعالى قد قبلها منه وزوجه بها عروسا في الجنة، وأنا ذاهب إلى عرس عثمان" خرجه الملاء في سيرته. ذكر زهده: عن شرحبيل بن مسلم قال: كان عثمان يطعم الناس طعام الإمارة, ويأكل الخل والزيت. خرجه صاحب الصفوة والملاء والفضائلي. وعن عبد الله بن شداد قال: رأيت عثمان يوم الجمعة يخطب وهو يومئذ أمير المؤمنين, وعليه ثوب قيمته أربعة دراهم أو خمسة دراهم. خرجه الملاء.   1 حمل. 2 أي: الله تبارك وتعالى, يعني قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} . 3 هو ابن عباس, راوي هذا الخبر. 4 وفي قدميه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 وعن الحسن, وقد سأله رجل: ما كان رداء عثمان? قال: قطري، قال: كم ثمنه? قال: ثمانية دراهم، قال: ما كان قميصه? قال: سنبلاني، قال: كم ثمنه? قال: ثمانية دراهم، قال: ونعلاه معقبتان مخصرتان لهما قبالان. خرجه البغوي في معجمه، وخرجه ابن الضحاك مختصرًا بزيادة، ولفظه: أنه سئل عن رداء عثمان فقال: قطري، قيل: فما كان قميصه? قال: سنبلاني، قيل: فما كان إزاره? قال: سراويل، ونعلاه لهما قبالان مخصرتان معقبتان. "شرح" القطر: ضرب من البرود، يقال لها: القطرية. وسنبلاني قال الهروي: يجوز أن يكون منسوبًا إلى موضع من المواضع، ويقال إذا نسب: ثوب سنبلاني، وسنبل ثوبه: إذا أسبله وجره من خلفه إلا أنه غير مراد هنا؛ لأنه ذكره في معرض المدح له. ومخصرتان أي: حف خصريهما حتى صارا مستدقين، وخصرة كل شيء: وسطه. ذكر خوفه: عن أبي الفرات قال: كان لعثمان عبد فقال له: إني كنت عركت أذنك فاقتص مني فأخذ بأذنه، ثم قال عثمان: اشدد، يا حبذا قصاص في الدنيا لا قصاص في الآخرة. خرجه ابن السمان في الموافقة. وروي عنه أنه قال: لو أني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي, لاخترت أن أكون رمادًا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير. خرجه الملاء. عن حماد بن زيد قال: رحم الله أمير المؤمنين عثمان، حوصر نيفًا وأربعين ليلة لم تبد منه كلمة يكون لمبتدع فيها حجة. خرجه الفضائلي. "شرح" النيف يخفّف ويشدّد وأصله من الواو، ويقال: عشرة ونيف ومائة ونيف, وكل ما زاد على العقد فهو نيف حتى يبلغ العقد الثاني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 ذكر تواضعه: عن الحسن قال: رأيت عثمان نائمًا في المسجد ورداؤه تحت رأسه فيجيء الرجل فيجلس إليه، ثم يجيء الرجل فيجلس إليه, فيجلس كأنه أحدهم. خرجه في الصفوة، وخرج خيثمة معناه ولفظه: قال: رأيت عثمان نائمًا في المسجد في ملحفة ليس حوله أحد وهو أمير المؤمنين. وخرجه الملاء ولفظه: رأيت عثمان يقيل في المسجد ويقوم, وأثر الحصا في جنبه فيقول الناس: هذا أمير المؤمنين. وعن علقمة بن وقاص أن عمرو بن العاص قام إلى عثمان وهو يخطب الناس فقال: يا عثمان, إنك قد ركبت بالناس النهابير وركبوها منك، فتب إلى الله -عز وجل- وليتوبوا، قال: فالتفت إليه عثمان وقال: وأنت هناك يابن النابغة، ثم رفع يديه واستقبل القبلة وقال: أتوب إلى الله تعالى, اللهم إني أول تائب إليك. خرجه القلعي. النهابير: الرمال المشرفة, وأراد: إنك ركبت شدائد وأمورًا صعبة, كما يصعب السير في الرمال. ذكر شفقته على رعيته: عن سليمان بن موسى: أن عثمان بن عفان دعي إلى قوم كانوا على أمر قبيح, فخرج إليهم فوجدهم قد تفرقوا ورأى أمرًا قبيحا، فحمد الله إذ لم يصادفهم وأعتق رقبة. خرجه في الصفوة. ذكر حسن صحبته لأهله, وخدمه: عن جدة الزبير بن عبد الله مولاة لعثمان قالت: كان عثمان لا يوقظ أحدًا من أهله من الليل إلا أن يجده يقظان, فيدعوه فيناوله وضوءه. خرجه أبو عمر وصاحب الصفوة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 ذكر كثرة الخير في زمن ولايته: عن محمد بن سيرين قال: كثر المال في زمن عثمان, فبيعت جارية بوزنها وفرس بمائة ألف درهم، ونخلة بألف درهم. وعن الحسن قال: كانت الأرزاق في زمن عثمان دارة, والخير كثيرا. ذكر ما جاء في الحث على حبه, والتحذير من بغضه: عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة يؤتى بعثمان وأوداجه تشخب دما، اللون لون دم والرائحة رائحة المسك، يكسى حلتين من نور وينصب له منبر على الصراط, فيجوز المؤمنون بنور وجهه، وليس لمبغضه منه نصيب" خرجه الملاء في سيرته. وعن علي بن زيد بن جدعان قال: قال لي سعيد بن المسيب: انظر إلى وجه هذا الرجل، فنظرت فإذا هو مسود الوجه، فقلت: حسبي، قال: إن هذا كان يسب عليا وعثمان فكنت أنهاه فلا ينتهي. فقلت: اللهم إن هذا يسب رجلين قد سبق لهما ما تعلم، اللهم إن كان يسخطك ما يقول فيهما فأرني فيه آية, فاسود وجهه كما ترى. خرجه أبو عمر، وخرجه خيثمة ولفظه: كنت جالسًا عند سعيد بن المسيب فقال لي: قل لقائدك يذهب ينظر إلى هذا الرجل حتى أحدثك، قال: فذهب قال: فرأيت رجلا أسود الوجه أبيض الجسد، فقال سعيد: هذا كان يسب عليا وعثمان وطلحة والزبير فقلت: إن كان كاذبًا سود الله وجهه، فخرجت بوجهه قرحة فاسود وجهه. وخرج عن أنس أنه ذكر عنده أنه لا يجتمع حب علي وعثمان في قلب أبدا، فقال: كذبوا، والله إنا نحب عليا وعثمان. وفي رواية: كذبوا والله الذي لا إله إلا هو، لقد اجتمع حبهما في قلوبنا، ونحن كذلك والحمد لله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 ذكر ثناء علي -رضي الله عنه- على عثمان: تقدم في الخصائص قول علي: كان عثمان أوصلنا للرحم, وأتقانا للرب. وعن أم عمرو بنت حسان بن يزيد بن أبي الغض -قال أحمد بن حنبل: وكانت عجوز صدق- قالت: حدثني أبي قال: دخلت المسجد الأكبر -مسجد الكوفة- وعلي قائم على المنبر يخطب الناس وهو ينادي بأعلى صوته ثلاث مرات: يا أيها الناس!! يا أيها الناس!! إنكم تكثرون في عثمان وإن مثلي ومثله كما قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} 1 أيها الناس، هذه لنا خاصة. وعنه وقد قيل له: إنهم يقولون: إن عليا قتل عثمان, فقال: قتله الذي قتله، لعن الله قتلة عثمان. قال علي: أنا وطلحة وعثمان والزبير كما قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} خرجهما ابن السمان. وعن محمد بن حاطب قال: دخلت على علي وهو بالكوفة فقلت: يا أمير المؤمنين إني أريد الحجاز وإن الناس سائلي عنك، فما تقول في, وكان متكئا؟ فجلس وقال: تسائلني يابن حاطب عما أقول في عثمان? والله إني لأرجو أن أكون أنا وأخي عثمان ممن قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} خرجه ابن السمان. وعنه عن علي قال: عثمان من الذين آمنوا، ثم قرأ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} خرجه ابن حرب الطائي. وعن ثابت بن عبد قال: جاء رجل من آل حاطب إلى علي بن أبي   1 سورة الحجر الآية 47. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 طالب فقال: يا أمير المؤمنين إني راجع إلى المدينة، وإنهم سائلي عن عثمان، فماذا أقول لهم? قال: أخبرهم أن عثمان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا, ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين. وعن محمد بن الحنفية قال: قال علي: لو سيرني عثمان إلى كذا لسمعت وأطعت. وعن عروة بن الزبير قال: لما زاد عثمان في المسجد قال علي: ما أحسن ما صنع! سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من بني مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة". وعن أبي سعيد قال: رأيت غلاما ما أدرى غلاما هو أم جارية, ما رأيت أحسن منه جالسًا إلى جنب علي بن أبي طالب، فقلت له: عافاك الله!! من هذا الفتى إلى جانبك? قال: هذا عثمان بن علي، سميته بعثمان بن عفان، وقد سميت بعمر وبالعباس عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسميت بخير البرية محمد -صلى الله عليه وسلم- وأما حسن وحسين ومحسن فإنما سماهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعتق عنهم أو حلق رءوسهم وتصدق بزنتها ذهبا، وأمر بهم فسموا. خرجه ابن السمان في الموافقة. وعن سعيد بن المسيب أنه جرى بين عثمان وعلي نزغ من الشيطان فما ترك أحدهما من الآخر شيئًا, ثم لم يقوما حتى استغفر أحدهما للآخر. خرجه ابن السمان. وعن محمد بن الحنفية قال: جاء إلى علي ناس من الناس فشكوا سعاة عثمان, قال: فقال لي أبي: اذهب بهذا الكتاب إلى عثمان فقل له: إن الناس قد شكوا من سعاتك، وهذا أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الصدقة فلتأخذ به, قال: فأتيت عثمان فذكرت له ذلك، فلو كان ذاكرًا عثمان بشيء لذكره- يعني بسوء. خرجه أحمد في المناقب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 ذكر رؤية الحسن حق عثمان: عن أرطأة بن المنذر قال: لقي علي بن أبي طالب الحسن بن علي وهو خارج من عند عثمان قال: يا بني أما لي عليك حق الوالد? فقال الحسن: حق الخليفة أعظم من حق الوالد. خرجه ابن الضحاك. ذكر ما كان بين أولاد علي وعثمان من الصلة: بالمصاهرة, كما كان بينه وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم: عن أبهز بن ميرز قال: حججت مرة فإذا غلامان صبيحان أبيضان مقرطان يطوفان بالكعبة وقد أطاف الناس بهما، فقلت: من هذان? قالوا: هذان ابنا علي وعثمان، فقلت: ألا ترى هؤلاء تزوج بعضهم بعضا وحجا معًا ومن حوالينا يقول: يشهد بعضهم على بعض بالكفر؟! قال وكيع: هما ابن لعبد الله بن الحسين والآخر محمد بن عمرو بن عثمان، أمه فاطمة بنت الحسين. خرجه ابن السمان. ذكر ثناء ابن عمر على عثمان: عن ابن عمر أنه سئل عن علي وعثمان فقال للسائل: قبحك الله! تسائلني عن رجلين, كلاهما خير مني?! تريد أن أخفض من أحدهما وأرفع من الآخر! خرجه أبو عمر. وعن سعيد بن عبد قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن عثمان فذكر محاسن عمله ثم قال: لعل ذاك يسوءك!! قال: نعم. قال: فأرغم الله أنفك، ثم سأله عن علي فذكر محاسن عمله ثم قال: ذاك بيته أوسط بيوت النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: لعل ذلك يسوءك! قال: نعم. قال: فأرغم الله أنفك! انطلق فاجهد على جهدك. خرجه البخاري. ذكر ثناء البراء على عثمان: عن البراء بن عازب قال: لا تسبوا عثمان فإنه أخي وخليلي، لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 تسبوا عليا فإنه أخي وخليلي. والذي نفس محمد بيده لموقف أحدهم ساعة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير من الدنيا وما فيها. خرجه ابن البختري هكذا موقوفا على البراء، ولعله مرفوع, وأسقط الناسخ ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم. ذكر ثناء خارجة بن زيد عليه بعد موته: عن النعمان بن بشير قال أبي رجل يقال له: خارجة بن زيد قد سجي عليه بثوب فوقف عليه فإذا هو يقول: عبد الله عثمان أمير المؤمنين العفيف المتعفف, الذي يعفو عن ذنوب كثيرة, خلت ليلتان وبقيت أربع. خرجه ابن الضحاك وابن أبي الدنيا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 الفصل العاشر: في خلافته وما يتعلق بها , ذكر ما تضمن الدلالة على خلافته بعد عمر وقد تقدمت أحاديث هذا الذكر في نظيره من باب الأربعة والثلاثة من تصريح وتلويح، وتقدم الكلام على ما تضمنته الأحاديث من مشكل، وبيان وجه الدلالة على المطلوب، وتقدم في فصل الشهادة له بالجنة في ذكر وصفنا الحورية طرف منه أيضا. وعن الأسود بن هلال عن رجل من قومه قال: كنا نقول في خلافة عمر بن الخطاب: لا يموت عثمان حتى يستخلف1, قلنا: من أين تعلم ذلك? قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "رأيت الليلة في المنام كأن ثلاثة من أصحابي ودقوا" الحديث, وتقدم أيضا في باب الثلاثة، وفيه بحث دقيق فلينظر ثمة. وروي أن أبا بكر لما أملى على عثمان وصيته عند موته، فلما بلغ إلى ذكر الخليفة أغمي عليه، فكتب عثمان عمر، فلما أفاق قال: من   1 حتى يصير خليفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 كتبت? قال: عمر, قال: لو كتبت نفسك لكنت لها أهلًا. خرجه في الصفوة. وعن يزيد بن أسلم عن أبيه قال: كتب عثمان بن عفان عهد الخليفة من بعد أبي بكر, فأمره أن لا يسمي أحدا، وترك اسم رجل، فأغمي على أبي بكر إغماءة, فأخذ عثمان العهد وكتب فيه اسم عمر. قال: فأفاق أبو بكر فقال: أرنا العهد فإذا اسم عمر, قال: من كتب هذا? قال عثمان: أنا! قال: رحمك الله وجزاك خيرا، فوالله لو كتبت نفسك لكنت لذلك أهلًا. أخرجه ابن عرفة العبدي. وعن حذيفة قال: قيل لعمر, وهو بالموقف: من الخليفة بعدك? قال: عثمان بن عفان. خرجه خيثمة بن سليمان، وهذا خبر عن كشف واطلاع لا عن عهد. وعن حارثة بن مضرب قال: حججت مع عمر فكان الحادي يحدو: إن الأمير بعده عثمان, وحججت مع عثمان فكان الحادي يحدو: إن الأمير بعده علي. خرجه البغوي في معجمه، وخرجه خيثمة وقال: حججت مع عمر حجتين, فسمعت الحادي إلى آخره. ذكر بيعته: بويع بالخلافة يوم السبت عاشر المحرم سنة أربع وعشرين بعد دفن عمر بثلاثة أيام باجتماع الناس عليه. ذكره ابن قتيبة وأبو عمر وغيره، واتخذ رضي الله عنه حاجبًا هو حمران مولاه وكاتبًا هو مروان بن الحكم, ذكره الخجندي وغيره وخاتما1 نقشه: آمنت بالله مخلصا، وقيل: آمنت بالذي خلق فسوى، وقيل: لتصبرن أو لتذمن, ذكره الخجندي أيضا, وكان في يده خاتم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطبع به إلى أن وقع منه في بئر أريس. وقد   1 أي: واتخذ خاتمًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 تقدم ذكره في فصل خلافة أبي بكر ثم عمر. قال ابن قتيبة: وافتتح أيام خلافته الإسكندرية، ثم سابور، ثم أفريقية، ثم قبرص، ثم سواحل الروم وإصطخر الأخيرة وفارس الأولى، ثم خوز وفارس الأخيرة، ثم طبرستان ودار أبجرد وكرمان وسجستان، ثم الأساورة في البحر، ثم أفريقية من حصون قبرص، ثم ساحل الأردن، ثم مرو, ثم حضر عثمان في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين. ذكر حديث الشورى: عن عمرو بن ميمون أنهم قالوا لعمر بن الخطاب لما طعنه أبو لؤلؤة: أوصِ يا أمير المؤمنين استخلف, قال: ما أرى أحدا أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راضٍ, فسمى عليا وطلحة وعثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنهم- قال: ويشهد عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء -كهيئة التعزية له- فإن أصاب الأمر سعد فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر فإني لم أعزله1 من عجز ولا خيانة. فلما توفي وفرغ من دفنه ورجعوا اجتمع هؤلاء الرهط فقال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي، وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن، وقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان, فخلا هؤلاء الثلاثة علي وعثمان وعبد الرحمن فقال عبد الرحمن للآخرين: أيكما يتبرأ من هذا الأمر ونجعله إليه والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه وليحرصن على إصلاح الأمة? قال: فأسكت الشيخان علي وعثمان، فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إلي, والله على أن لا آلو عن أفضلكم؟   1 أي: عن ولاية الكوفة حين شكاه أهلها إلى سيدنا عمر -رضي الله عنه- وما كان الشاكون محقين في شكواهم، ومن أهل الكوفة رجل يقال له: أبو سعدة من بني عبس قام في مسجدهم وقال: إن سعدا كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، فدعا عليه سعد فاستجيب له، وخبر هذا مروي في الصحيحين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 قال: نعم! فأخذ بيد علي فقال: إن لك القدم والإسلام والقرابة ما قد علمت، الله عليك، لئن أمرتك لتعدلن ولئن أمرت إليك لتسمعن ولتطيعن، ثم خلا بعثمان فقال له مثل ذلك, فلما أخذ الميثاق قال لعثمان: ارفع يدك فبايعه، ثم بايعه علي, ثم ولج أهل الدار فبايعوه. خرجه البخاري وأبو حاتم. وفي رواية ذكرها ابن الجوزي في كتاب منهاج أهل الإصابة في محبة الصحابة, أن عبد الرحمن لما قال لعلي وعثمان: أفتجعلونه إلي? قالا: نعم قال لعلي: أبايعك على سيرة أبي بكر وعمر? فقال علي: واجتهاد رأي, فخاف أن يترخص من المباح ما لا يحتمله من ألف ذلك التشدد من سيرة الشيخين. فقال لعثمان: أبايعك على سيرة أبي بكر وعمر? فقال: نعم فبايعه، فسار سيرة أبي بكر وعمر مدة, ثم ترخص في مباحات فلم يحتملوها حتى أنكروا عليه. وعن المسور بن مخرمة أن الرهط الذين ولاهم عمر اجتمعوا فتشاوروا فقال لهم عبد الرحمن: لست بالذي أنافسكم في هذا الأمر, ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم، فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن. فلما ولوه أمرهم انثال الناس على عبد الرحمن ومالوا إليه حتى ما رأى أحدا من الناس يتبع أحدا من أولئك، ومال الناس إلى عبد الرحمن يشاورونه ويناجونه تلك الليالي, إذ كان الليلة التي أصبحنا فيها فبايعنا عثمان. قال المسور: طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل فضرب الباب حتى استيقظت, فقال: ألا أراك نائما فوالله ما اكتحلت هذه الثلاث بكثير نوم، فادع إلى الزبير وسعد، فدعوتهما له فشاورهما ثم دعاني فقال: ادع لي عليا فدعوته فناجاه حتى ابهار الليل، ثم قال: ادع لي عثمان فدعاه فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن للصبح، فلما صلى الناس الصبح اجتمع أولئك الرهط عند المنبر, فأرسل عبد الرحمن إلى من كان خارجا من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد وكانوا قد وافوا تلك الحجة مع عمر, فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن فقال: أما بعد يا علي, فإني نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان، أفلا تجعل على نفسك سبيلا؟ وأخذ بيد عثمان فقال: أبايعك على سنة الله وسنة رسوله والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس والمهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون. أخرجاه. "شرح" الرهط: ما دون العشرة ليس فيهم امرأة, ومنه: {كَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} وانثال الناس عليه وتناثلوا: إذا انصبوا, وهجع من الليل وهجعة منه أي: نومة خفيفة من أوله، وابهار الليل وابتهر: انتصف ويقال: ذهب معظمه وأكثره، فابهار علينا الليل: طال، والإشارة بقوله توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راض إلى ما تضمنه الحديث المتقدم في باب ما دون العشرة. وعن سهل بن مالك عن أبيه عن جده قال: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حجة الوداع صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أيها الناس, إن أبا بكر لم يسؤني قط فاعرفوا له ذلك. يا أيها الناس, إني راضٍ عن عمر وعلي وعثمان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن مالك وعبد الرحمن بن عوف والمهاجرين الأولين فاعرفوا لهم ذلك" خرجه الخلعي، والحافظ الدمشقي في معجمه؛ فلذلك خصهم عمر بالذكر ولم يتعدهم إلى غيرهم لمكان تخصيصه -صلى الله عليه وسلم- إياهم بالذكر مع تعميمه حكم الرضا في المهاجرين الأولين، وكان هذا القول بعد حجة الوداع قريب الوفاة على ما تضمنه الحديث واعتماد عمر عليه يؤيد ذلك، ولو بعد عنها كان الأصل بقاءه، ولكن قربه أنسب لترتب الاعتماد عليه وأبعد من تغير حكم الرضا، وإن جاز فهو مرجوح. وقد يتبادر إلى الأفهام أن المراد بالذين توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راضٍ بقية العشرة، ولو كان المراد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 أولئك لدخل سعيد بن زيد, فإنه كان حاضرًا لأنه كان من أمراء الأجناد، وقد تقدم في الحديث آنفا أنهم حضروا في ذلك العام، وتوفي عمر في آخر ذي الحجة قبل أن يتفرقوا، ويدل على ذلك وجه التنصيص أعني: دخول سعيد بن زيد ممن حضر في ذلك العام حديث السقيفة عن ابن عباس وفيه: أن عمر خطب في يوم جمعة مرجعه من حجة الوداع وذكر حديث السقيفة, وذكر ابن عباس أنه عجل الرواح ذلك اليوم فوجد سعيد بن زيد جالسًا إلى ركن المنبر فدل على ما قلناه آنفا، على أن العشرة -رضي الله عنهم- وغيرهم من المهاجرين ممن توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راضٍ، لكن لم يرد فيهم تنصيص على الرضا عنهم على التعيين كما ورد في هؤلاء، وللتخصيص بالذكر والتنصيص راجحية؛ فلذلك اعتمدها عمر -رضي الله عنه- وهذا في الاعتذار عن ذكر غيرهم من سعيد وغيره -رضي الله عنهم- أولى من جواب محمد بن جرير الطبري لما قيل له: العباس بن عبد المطلب مع جلالته وقربه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومنزلته لم يدخله عمر في الستة في الشورى, فقال: إنه إنما جعلها في أهل السبق من البدريين، والعباس لم يكن مهاجرًا ولا سابقًا ولا بدريًّا، وهذا يعترض عليه بعثمان وطلحة فإنهما لم يحضرا بدرا, ولئن قال: ثبت لهما أجر بدريين وسهمهما فعدا من البدريين، قلنا: يشكل بسعيد بن زيد فإنه أسبق السابقين إسلاما وهجرة، وكان ممن لم يحضر بدرا إلا أنه أعطي سهم بدري وأجره فلينسحب عليه حكمهما، فعلم والحالة هذه أن لا موجب للتنصيص عليهم وتخصيصهم بالذكر دون غيرهم إلا ما تضمنه الحديث المذكور مما اعتمده عمر, والله أعلم. ذكر اختيار كل واحد من أهل الشورى عثمان -رضي الله عنهم: عن أسامة بن زيد عن رجل منهم أنه كان -يعني عبد الرحمن بن عوف- كلما دعا رجلا منهم -يعني من أهل الشورى- تلك الليلة ذكر مناقبه وقال: إنك لها أهل، فإن أخطأتك فمن? يقول: إن أخطأتني فعثمان. خرجه أبو الخير القزويني الحاكمي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 الفصل الحادي عشر: في مقتله وما يتعلق به , ذكر شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له عن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر فتنة فقال: "يقتل فيها هذا مظلوما" وأشار إلى عثمان. خرجه في المصابيح الحسان، وخرجه الترمذي وقال: "يقتل مظلوما" لعثمان، وقال: حديث حسن غريب1، وخرجه أحمد وقال: يقتل فيها هذا المقنع يومئذ مظلوما, فنظرت فإذا هو عثمان بن عفان. ذكر ما روي عن الصحابة أنه مظلوم: عن موسى بن حكيم قال: أشرف عثمان على المسجد فإذا طلحة جالس في المسجد في المشرق، قال: يا طلحة قال: يا لبيك! قال: نشدتك بالله هل تعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من يشتري قطعة يزيدها في المسجد" فاشتريتها من مالي? قال طلحة: اللهم نعم, فقال: يا طلحة قال: يا لبيك! قال: نشدتك بالله هل تعلمني حملت في جيش العشرة على مائة? قال طلحة: اللهم نعم ثم قال طلحة: اللهم لا أعلم عثمان إلا مظلوما. أخرجه الدارقطني. وعن الأوزاعي: أن عمر أرسل إلى كعب فقال: يا كعب كيف تجد نعتي? قال: أجد نعتك قرن حديد, قال: وما قرن حديد? قال: لا تأخذك في الله لومة لائم، قال: ثم مه2؟ قال: يكون بعدك خليفة تقتله أمة ظالمة له، قال: ثم مه؟ قال: يقع البلاء. أخرجه ابن الضحاك.   1 رواه راوٍ واحد فقط. 2 هذه الكلمة ما الاستفهامية, أدخلت عليها هاء السكت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 وعن طلق بن حبيب قال: انطلقت من البصرة إلى المدينة حتى انتهيت إلى عائشة, فسلمت فردت السلام وقالت: ممن الرجل? فقلت: من أهل البصرة, قالت: من أي أهل البصرة؟ قلت: من بكر بن وائل، قالت: من أي بكر بن وائل? قلت: من بني قيس بن ثعلبة, قالت: من قوم فلان? قلت: يا أم المؤمنين فيم قتل عثمان? قالت: قتل والله مظلوما, لعن الله قتلته. أخرجه الحاكمي. ذكر رؤيا أنس النبي -صلى الله عليه وسلم- مشيرا له إلى قتل عثمان, وإخباره بما ترتب على ذلك: عن أنس بن مالك قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وضع يده على كتف عثمان وقال: "كيف أنتم إذا قتلتم إمامكم, وتجلدتم بأسيافكم, وورث دنياكم شراركم? فويل لأمتي! فويل لأمتي إذا فعلوه! " خرجه الحاكمي. ذكر استشعار ابن عمر منهم قتل عثمان: عن ابن عمر قال: جاءني رجل في خلافة عثمان فإذا هو يأمرني أن أعتب على عثمان، فلما قضى كلامه قلت له: إنا كنا نقول ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- حي: أفضل أمة محمد بعده أبو بكر وعمر ثم عثمان، وإنا والله ما نعلم عثمان قتل نفسا بغير حق ولا جاء من الكبائر شيئا، ولكنه هذا المال إن أعطاكموه رضيتم وإن أعطاه قرابته سخطتم, إنما تريدون أن تكونوا كفارس والروم، لا يتركون لهم أميرًا إلا قتلوه، ففاضت عيناه بأربعة من الدمع ثم قال: اللهم لا ترد ذلك. خرجه الحافظ الدمشقي. ذكر دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالصبر, وصبره على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم: عن الزبير بن العوام أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم صبر عثمان بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 عفان" خرجه خيثمة بن سليمان. وعن أبي سهلة قال: قال عثمان يوم الدار: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عهد إلي عهدا, وأنا صابر عليه" خرجه الترمذي وقال: حسن صحيح، وخرجه أحمد وزاد: قال قيس: فكانوا يرونه ذلك اليوم. ذكر إخباره -صلى الله عليه وسلم- عثمان أنه يرد على الحوض, وأوداجه تشخب دمًا: عن زيد بن أبي أوفى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لعثمان: "ترد علي الحوض وأوداجك تشخب دمًا فأقول: من فعل بك هذا? فتقول: فلان وفلان, وذلك كلام جبريل" خرجه الحافظ الدمشقي. وقد تقدم طرف من هذا المعنى من حديث ابن عمر في ذكر التحذير من بغضه. ذكر قدوم أهل مصر, وغيرهم ممن تمالأ على قتله: واعتذاره إليهم مما نقموا وانصرافهم ثم عودهم بسبب الكتاب المزور، وإتيانهم عليا وسؤالهم منه القيام معهم إلى عثمان فأبى، ودعواهم عليه أنه كتب إليهم ليقدموا، وحلفه على أنه لم يكتب إليهم كتبًا قط، وخروجه من المدينة ودخولهم على عثمان وتقريرهم له وإنكاره الكتاب وحلفه على ذلك، وحصارهم له وصبره على ذلك، ومحاورات جرت بينه وبينهم, ورؤيا النبي -صلى الله عليه وسلم- مبشرًا له بالفطر عندهم، ودخولهم عليه وقتلهم إياه -رضي الله عنه- وبيان من قتله ومن صلى للناس مدة حصاره ومن حج بهم، وكم كان معه في الدار وكم مدة الحصار. عن أبي سعيد مولى أبي سيد الأنصاري قال: سمع عثمان أن وفد أهل مصر قد أقبلوا فاستقبلهم، فلما سمعوا به أقبلوا نحوه إلى المكان الذي هو فيه, وقالوا له: ادع بالمصحف, فدعا بالمصحف، فقالوا له: افتح السابعة, قال: وكانوا يسمون سورة يونس السابعة, فقرأها حتى أتى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 على هذه الآية: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُون} فقالوا له: قف! أرأيت ما حميت من الحمى آلله أذن لك به أم تفتري؟! فقال: امضه نزلت في كذا وكذا، وأما الحمى في إبل الصدقة فلما ولدت زادت في إبل الصدقة فزدت في الحمى لما زاد في إبل الصدقة, امضه. قال: فجعلوا يأخذونه بآية آية فيقول: امضه نزلت في كذا وكذا، فقال لهم: ما تريدون? قالوا: نأخذ ميثاقك قال: فكتبوا عليه شرطا وأخذ عليهم أن لا يشقوا عصا ولا يفارقوا جماعة, فأقام لهم شرطهم وقال لهم: ما تريدون? قالوا: نريد أن لا يأخذ أهل المدينة عطاء، قال: لا إنما هذا المال لمن قاتل عليه، ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- قال: فرضوا وأقبلوا معه إلى المدينة راضين, قال: قام فخطب فقال: ألا من كان له زرع فليلحق بزرعه ومن كان له ضرع فليحتلبه, ألا وإنه لا مال لكم عندنا، إنما هذا المال لمن قاتل عليه ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- قال: فغضب الناس وقالوا: هذا مكر بني أمية، قال: ثم رجع المصريون, فبينما هم في الطريق إذا براكب يتعرض لهم يفارقهم ثم يرجع إليهم ويسبهم، قالوا: ما لك? إن لك الأمان ما شأنك? قال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر، قال: ففتشوه فإذا هم بكتاب على لسان عثمان عليه خاتمه إلى عامله بمصر أن يصلبهم أو يقتلهم أو يقطع أيديهم وأرجلهم، فأقبلوا حتى قدموا المدينة فأتوا عليا فقالوا: ألم تر إلى عدو الله كتب فينا بكذا وكذا، وإن الله قد أحل دمه, قم معنا إليه فقال: والله لا أقوم معكم، قالوا: فلم كتب إلينا? قال: والله ما كتبت إليكم كتابا قط، فنظر بعضهم إلى بعض ثم قال بعضهم إلى بعض: لهذا تقاتلون أو لهذا تغضبون, فانطلق علي فخرج من المدينة إلى قرية وانطلقوا حتى دخلوا على عثمان فقالوا: كتبت كذا وكذا؟ فقال: إنما هما اثنتان: أن تقيموا علي رجلين من المسلمين أو يميني بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبت ولا أمليت ولا علمت، وقد تعلمون أن الكتاب يكتب على لسان الرجل وقد ينقش الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 الخاتم على الخاتم فقالوا: والله أحل دمك, ونقضوا العهد والميثاق فحاصروه فأشرف عليهم ذات يوم وقال: السلام عليكم, فما أسمع أحدا من الناس يرد عليه السلام إلا أن يرد رجل في نفسه، فقال: أنشدكم الله هل علمتم أني اشتريت بئر رومة من مالي فجعلت رشاي كرشا رجل من المسلمين؟ قيل: نعم قال: فعلام تمنعونني أن أشرب منها حتى أفطر على ماء البحر؟! أنشدكم الله هل علمتم أني اشتريت كذا وكذا من الأرض فزدته في المسجد؟ قيل: نعم, فهل علمتم أن أحدا من الناس منع أن يصلي فيه قبلي؟! أنشدكم الله هل سمعتم نبي الله -صلى الله عليه وسلم- يذكر كذا وكذا أشياء في شأنه عددها؟ قال: ورأيته أشرف عليهم مرة أخرى فوعظهم وذكرهم فلم تأخذ منهم الموعظة، وكان الناس تأخذ منهم الموعظة في أول ما يسمعونها، فإذا أعيدت عليهم لم تأخذ منهم، فقال لامرأته: افتحي الباب ووضع المصحف بين يديه، وذلك أنه رأى من الليل أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- يقول له: "أفطر عندنا الليلة" فدخل عليه رجل فقال: بيني وبينك كتاب الله فخرج وتركه, ثم دخل عليه آخر فقال: بيني وبينك كتاب الله والمصحف بين يديه قال: فأهوى إليه بالسيف واتقاه بيده فقطعها، فلا أدري أبانها أو لم يبنها، قال عثمان: أما والله إنها لأول كف خطت المفصل، وفي حديث غير أبي سعيد: فدخل البحتري فضربه مشقصًا فنضح الدم على هذه الآية: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} قال: وإنها في المصحف ما حكت, قال في حديث أبي سعيد: وأخذت بنت الفرافصة حلتها فوضعته في حجرها وذلك قبل أن يقتل, فلما قتل تفاجت عنه فقال بعضهم: قاتلها الله ما أعظم عجيزتها, فعلمت أن أعداء الله لم يريدوا إلا الدنيا, أخرجه أبو حاتم. وذكر ابن قتيبة أنه سار إليه قوم من أهل مصر منهم محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن زيد في جند، وكنانة بن بشر في جند، وابن عديس البلوي، ومن أهل البصرة حكيم بن جبلة العبدي، وسدوس بن عنبس الشني ونفر من أهل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 الكوفة فاستعتبوه فأعتبهم وأرضاهم، ثم وجدوا بعد انصرافهم كتابًا من عثمان عليه خاتمه إلى أمير مصر: إذا نلت القوم فاضرب رقابهم, فعادوا به إلى عثمان فحلف لهم أنه لم يأمر ولم يعلم فقالوا: إن هذا عليك شديد، يؤخذ خاتمك من غير علمك وراحلتك! فإن كنت قد غلبت على نفسك فاعتزل، فأبى أن يعتزل وأن يقاتلهم، ونهى عن ذلك وأغلق بابه, فحصروه أكثر من عشرين يوما وهو في الدار في ستمائة رجل، ثم دخلوا عليه من دار أبي حزم الأنصاري فضربه سيار بن عياض الأسلمي بمشقص في وجهه فسال الدم على مصحف في حجره، وأقام للناس الحج تلك السنة عبد الله بن عباس وصلى بالناس علي بن أبي طالب وخطبهم. وروي عن عبد الله بن سلام أنه قال: لما حصر عثمان ولى أبا هريرة على الصلاة، وكان ابن عباس يصلي أحيانا، وأقام للناس الحج في ذلك العام عبد الله وكان عثمان قد حج عشر حجج متواليات. خرجه القلعي وقال الواقدي: حاصروه تسعة وأربعين يوما وقال الزبير: حاصروه شهرين وعشرين يومًا. وذكر ابن الجوزي في شرح الصحيحين في شرح الحديث الخامس من مسند عثمان: أن الذين خرجوا على عثمان هجموا على المدينة، وكان عثمان يخرج فيصلي بالناس وهم يصلون خلفه شهرا ثم خرج من آخر جمعة خرج فيها فحصبوه حتى وقع عن المنبر ولم يقدر يصلي بهم، فصلى بهم يومئذ أبو أمامة بن سهل بن أبي حنيف ثم حصروه ومنعوه الصلاة في المسجد، فكان يصلي ابن عديس تارة وكنانة بن بشر أخرى -وهما من الخوارج على عثمان- فبقوا على ذلك عشرة أيام ثم قتلوه. وفي رواية: أنهم حصروه أربعين ليلة وطلحة يصلي بالناس, وفي رواية: أن عليا صلى بهم أكثر تلك الأيام. وروي أن الجهجاه الغفاري قال له بعد أن حصبوه ونزل من المنبر: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 والله لنغربنك إلى جبل الرمال، وأخذ عصا النبي -صلى الله عليه وسلم- وكسرها بركبته, فوقعت الأكلة في ركبته. طريق آخر في مقتله, وفيه بيان الأسباب التي نقمت عليه على سبيل الإجمال: عن ابن شهاب قال: قلت لسعيد بن المسيب: هل أنت مخبري كيف كان قتل عثمان? وما كان شأن الناس وشأنه? ولم خذله أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم? قال: قتل عثمان مظلومًا، ومن قتله كان ظالمًا، ومن خذله كان معذرًا فقلت: وكيف كان ذلك? قال: لما ولي كره ولايته نفر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأن عثمان كان يحب قومه فولي اثنتي عشرة حجة، وكان كثيرًا ما يولي بني أمية ممن لم يكن له مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان يجيء من أمرائه ما يكره أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صحبة، وكان يستغاث عليهم فلا يغيثهم، فلما كان في الست الحجج الأواخر استأثر بني عمه فولاهم وأمرهم، وولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر فشكا منه أهل مصر، وكان من قبل ذلك من عثمان هنات إلى عبد الله بن مسعود وأبي ذر وعمار بن ياسر، وكانت هذيل وبنو زهرة في قلوبهم ما فيها لأجل عبد الله بن مسعود، وكانت بنو غفار وأحلافها ومن غضب لأبي ذر في قلوبهم ما فيها، وكانت بنو مخزوم جفت على عثمان لأجل عمار بن ياسر، وجاء أهل مصر يشكون من ابن أبي سرح فكتب إليه يهدده, فأبى ابن أبي سرح أن يقبل ما نهاه عنه وضرب بعض من أتاه من قبل عثمان ومن كان من أهل مصر ممن كان أتى عثمان فقتله, فخرج جيش أهل مصر سبعمائة رجل إلى المدينة فنزلوا المسجد وشكوا إلى أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدخل عليه علي بن أبي طالب -وكان متكلم القوم- قال: إنما سألوك رجلا مكان رجل وقد ادعوا قبله دما فاعزله عنهم، وإن وجب عليه حق فأنصفهم من عاملك. فقال لهم: اختاروا رجلا, فأشار الناس إلى محمد بن أبي بكر فكتب عهده وولاه، وخرج معهم مدد من المهاجرين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 والأنصار ينظرون فيما بين أهل مصر وبين ابن أبي سرح، فخرج محمد ومن معه فلما كانوا على مسيرة ثلاثة أيام من المدينة إذا هم بغلام أسود على بعير يخبط البعير خبطا حتى كأنه يطلب أو يطلب فقال له أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم: ما قصتك وما شأنك كأنك هارب أو طالب? فقال لهم: أنا غلام أمير المؤمنين وجهني إلى عامل مصر، قال رجل: هذا عامل مصر معنا، قال: ليس هذا الذي يريد، وأخبروا بأمره محمد بن أبي بكر فبعث في طلبه رجالًا فأخذوه, فجاءوا به إليه فقال: غلام من أنت? فاعتل, مرة يقول: أنا غلام أمير المؤمنين، ومرة يقول: أنا غلام مروان، فقال له محمد: إلى من أرسلت? قال: إلى عامل مصر، قال: بماذا؟ قال: برسالة، قال: معك كتاب? قال: لا قال: ففتشوه فلم يجدوا معه كتابًا، وكانت معه إداوة قد يبست فيها شيء يتقلقل, فرادوه فلم يخرج فشقوا الإداوة فإذا فيها كتاب من عثمان إلى ابن أبي سرح فجمع محمد من كان معه من المهاجرين والأنصار وغيرهم ثم فك الكتاب بمحضر منهم فإذا فيه: إذا أتاك فلان ومحمد وفلان فاحتل لقتلهم وأبطل كتابه وقف على عملك حتى يأتيك أمري إن شاء الله تعالى, فلما قرءوا الكتاب فزعوا ورجعوا إلى المدينة وختم محمد الكتاب بخواتيم نفر كانوا معه من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- ودفع الكتاب إلى رجل منهم وقدموا المدينة, فجمعوا طلحة والزبير وعليا وسعدا ومن كان من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- ثم فكوا الكتاب بمحضر منهم وقرءوا عليهم الكتاب وأخبروهم بقصة العبد فلم يبق أحد من أهل المدينة إلا حنق على عثمان، وزاد ذلك من غضب ابن مسعود وأبي ذر وعمار وقام أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى منازلهم وما منهم من أحد إلا مغتمّ وحاصر الناس عثمان، فلما رأى ذلك علي بعث إلى طلحة والزبير وسعد وعمار ونفر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم دخل على عثمان ومعه الكتاب والغلام والبعير فقال له علي: هذا الغلام غلامك? قال: نعم والبعير بعيرك? قال: نعم, قال: فأنت كتبت الكتاب? قال: لا, أحلف بالله ما كتبت هذا الكتاب ولا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 أمرت به ولا علمت به ولا وجهت بهذا الغلام إلى مصر، وأما الخط فعرفوا أنه خط مروان، وسألوه يدفعه إليهم وكان معه في الدار فأبى وخشي عليه القتل, فخرج أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عنده غضابًا وعلموا أن عثمان لا يحلف بباطل، فحصره الناس ومنعوه الماء فأشرف على الناس وقال: أفيكم علي؟ قالوا: لا, قال: أفيكم سعد? قالوا: لا, فقال: ألا أحد يسقينا ماء? فبلغ ذلك عليا فبعث إليه بثلاث قرب مملوءة ماء؛ فما كادت تصل إليه حتى خرج بسببها عدة من موالي بني هاشم وبني أمية، ثم بلغ عليا أنهم يريدون قتل عثمان فقال: إنما أردنا منه مروان فأما قتل عثمان فلا!! وقال للحسن والحسين: اذهبا بسيفكما حتى تقوما على باب عثمان فلا تدعوا أحدا يصل إليه؛ وبعث الزبير ابنه، وبعث طلحة ابنه؛ وبعث عدة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أبناءهم يمنعون الناس أن يدخلوا على عثمان، ويسألونه إخراج مروان. فلما رأى الناس ذلك رموا باب عثمان بالسهام حتى خضب الحسن بن علي بدمائه وأصاب مروان سهم وهو في الدار، وكذلك محمد بن طلحة, وشج قنبر مولى علي، ثم إن بعض من حصر عثمان خشي أن يغضب بنو هاشم لأجل الحسن والحسين فتنتشر الفتنة, فأخذ بيد رجلين فقال لهما: إن جاء بنو هاشم فرأوا الدم على وجه الحسن كشفوا الناس عن عثمان وبطل ما تريدون، ولكن اذهبوا بنا نتسور عليه الدار فنقتله من غير أن يعلم أحد, فتسوروا من دار رجل من الأنصار حتى دخلوا على عثمان وما يعلم أحد ممن كان معه؛ لأن كل من كان معه كان فوق البيت ولم يكن معه إلا امرأته، فقتلوه وخرجوا هاربين من حيث دخلوا، وصرخت امرأته فلم يسمع صراخها من الجلبة فصعدت إلى الناس فقالت: إن أمير المؤمنين قتل، فدخل عليه الحسن والحسين ومن كان معهما فوجدوا عثمان مذبوحا فانكبوا عليه يبكون, ودخل الناس فوجدوا عثمان مقتولا فبلغ عليا وطلحة والزبير وسعدا ومن كان بالمدينة, فخرجوا وقد ذهبت عقولهم حتى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 دخلوا على عثمان فوجدوه مقتولا، فاسترجعوا وقال علي لابنيه: كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب? ورفع يده فلطم الحسن وضرب صدر الحسين، وشتم محمد بن طلحة، ولعن عبد الله بن الزبير، وخرج علي وهو غضبان فلقيه طلحة فقال: ما لك يا أبا الحسن ضربت الحسن والحسين؟ وكان يرى أنه أعان على قتل عثمان فقال: عليك كذا وكذا رجلا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدريا لم تقم عليه بينة ولا حجة، فقال طلحة: لو دفع مروان لم يقتل، فقال علي: لو أخرج إليكم مروان لقتل قبل أن تثبت عليه حكومة, وخرج فأتى منزله وجاء الناس كلهم إلى علي ليبايعوه فقال لهم: ليس هذا إليكم إنما هو إلى أهل بدر، فمن رضي به أهل بدر فهو الخليفة، فلم يبق أحد من أهل بدر إلا قال: ما نرى أحق لها منك؛ فلما رأى علي ذلك جاء المسجد فصعد المنبر، وكان أول من صعد إليه، وبايعه طلحة والزبير وسعد وأصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- وطلب مروان فهرب، وطلب نفرا من ولد مروان وبني أبي معيط فهربوا. خرجه ابن السمان في كتاب الموافقة. ذكر ما قال لهم, حين بلغه توعدهم له بالقتل: عن أبي أمامة بن سهل قال: كنا مع عثمان وهو محصور في الدار فقال: إنهم يتوعدونني بالقتل قال: قلنا: يكفيكهم الله يا أمير المؤمنين، قال: وبم يقتلونني? سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسًا فيقتل بها" فوالله ما أحببت بديني بدلا منذ هداني الله، ولا زنيت في جاهلية ولا إسلام قط، ولا قتلت نفسًا فبم يقتلونني؟! خرجه أحمد. وعن إبراهيم بن سعد عن أبيه قال عثمان: إن وجدتم في كتاب الله أن تضعوا رجلي في القيد فضعوها. خرجه أحمد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 ذكر طلبهم منه أن يخلع نفسه, فأبى: تقدم طرف منه في الذكر الأول. وعن عبد الله بن سلام أنه بعث إليهم فقال لهم: ما تريدون مني? قالوا: أن تخلع نفسك، قال: لا أخلع سربالا سربلنيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قيل: فهم قاتلوك، قال: لئن قتلوني لا يتحامون بعدي، ويقاتلون1 بعدي عدوا جميعا أبدًا، فلما اشتد عليه الأمر أصبح صائما يوم الجمعة، فلما كان في النهار قام فقال: رأيت الآن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنك تفطر عندنا الليلة" فقتل من يومه. ذكر رؤيا النبي -صلى الله عليه وسلم- وسقيه إياه الماء وتخييره إياه بين النصر والفطر عنده, فاختار الفطر عنده واستعد لذلك بالصوم وبالعتق وغير ذلك: تقدم ذكر رؤياه النبي -صلى الله عليه وسلم- في الذكر قبله، وفي الذكر الأول. وعن عبد الله بن سلام أنه قال: أتيت عثمان وهو محصور أسلم عليه فقال: مرحبا بأخي، مرحبا بأخي أفلا أحدثك ما رأيت الليلة في المنام؟ فقلت: بلى قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذه الخوخة -وإذا خوخة في البيت- فقال: "حصروك?" فقلت: نعم! فقال: "عطشوك?" فقلت: نعم! فأدلى لي دلوا من ماء فشربت حتى رويت، فإني لأجد بردا بين كتفي وبين ثديي، قال: "إن شئت نصرت عليهم، وإن شئت أفطرت عندنا" قال: فاخترت أن أفطر عندهم، فقتل في ذلك اليوم. خرجه أبو الخير الحاكمي القزويني. وعن مسلم عن أبي سعيد مولى عثمان أن عثمان أعتق عشرين مملوكا ودعا بسراويل فشدها عليه, ولم يلبسها في جاهلية ولا إسلام قال: إني   1 ولا يقاتلون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البارحة وأبا بكر وعمر فقالوا لي: صبرا فإنك تفطر عندنا القابلة، ثم دعا بمصحف فنشره بين يديه. خرجه أحمد. وعن ابن عمر: أن عثمان أصبح يحدث الناس قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنام قال: "يا عثمان أفطر عندنا غدا" فأصبح يحدث صائما وقتل من يومه. واختلاف الروايات محمول على تكرار الرؤيا، فكانت مرة نهارا ومرة ليلا. ذكر عرض علي -رضي الله عنه- وغيره على عثمان قتال من قصده, ودفعهم عنه: عن شداد بن أوس قال: لما اشتد الحصار بعثمان يوم الدار أشرف على الناس فقال: يا عباد الله, قال: فرأيت علي بن أبي طالب خارجا من منزله معتما بعمامة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متقلدا سيفه، أمامه الحسن وعبد الله بن عمر في نفر من المهاجرين والأنصار حتى حملوا على الناس وفرقوهم ثم دخلوا على عثمان فقال له علي: السلام عليك يا أمير المؤمنين, إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يلحق هذا الأمر حتى ضرب بالمقبل المدبر وإني والله لا أرى القوم إلا قاتليك فمرنا فلنقاتل, فقال عثمان: أنشد الله رجلا رأى الله حقا وأقر أن لي عليه حقا أن يهريق في سبيلي1 ملء محجمة من دم أو يهريق دمه في، فأعاد علي عليه القول فأجابه بمثل ما أجابه. قال: فرأيت عليا خارجا من الباب وهو يقول: اللهم إنك تعلم أنا بذلنا المجهود، ثم دخل المسجد وحضرت الصلاة فقالوا له: يا أبا الحسن تقدم فصل بالناس فقال: لا أصلي بكم والإمام محصور، ولكن أصلي وحدي، فصلى وحده وانصرف إلى منزله فلحقه ابنه وقال: والله يا أبت قد اقتحموا عليه الدار، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، هم والله قاتلوه قالوا: أين هو يا أبا الحسن؟ قال: في الجنة والله زلفى قالوا: وأين هم يا أبا الحسن?   1 في نسخة: في سبي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 قال: في النار والله, ثلاثًا. وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: دخل أبو قتادة ورجل آخر على عثمان وهو محصور, فاستأذناه في الحج فأذن لهم، فقالا له: إن غلب هؤلاء القوم مع من نكون? قال: عليكم بالجماعة، قالا: فإن كانت الجماعة هي التي تغلب عليك، مع من نكون? قال: فالجماعة حيث كانت، فخرجنا فاستقبلنا الحسن بن علي عند باب الدار داخلًا على عثمان فرجعنا معه لنسمع ما يقول, فسلم على عثمان ثم قال: يا أمير المؤمنين مرني بما شئت, فقال عثمان: يابن أخي ارجع واجلس حتى يأتي الله بأمره، فخرج وخرجنا عنه فاستقبلنا ابن عمر داخلًا على عثمان فرجعنا معه نسمع ما يقول، فسلم على عثمان ثم قال: يا أمير المؤمنين صحبت رسول الله فسمعت وأطعت، ثم صحبت أبا بكر فسمعت وأطعت، ثم صحبت عمر فسمعت وأطعت، ورأيت له حق الوالد وحق الخلافة، وها أنا طوع يديك يا أمير المؤمنين فمرني بما شئت، فقال عثمان: جزاكم الله يا آل عمر خيرا مرتين, لا حاجة لي في إراقة الدم لا حاجة لي في إراقة الدم، ثم دخل أبو هريرة متقلدا سيفه فقال: الآن طاب الضراب، فقال له عثمان: عزمت عليك يا أبا هريرة لما ألقيت سيفك، قال: فألقيته فما أدرى من أخذه، ثم دخل عليه المغيرة بن شعبة فقال: يا أمير المؤمنين إن هؤلاء القوم قد اجتمعوا عليك وهموا بك، فإن شئت أن تلحق بمكة وإن شئت أن تلحق بالشام فإن بها معاوية، وإن شئت فاخرج إلى هؤلاء فقاتلهم فإن معك عددا وقوة وأنت على الحق وهم على الباطل، فقال عثمان: أما أن أخرج وأقاتل فلن أكون أول من خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أمته بسفك الدماء، وأما أن أخرج إلى مكة فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يلحد رجل من قريش بمكة, يكون عذابه نصف عذاب العالم" فلن أكون أنا, وأما أن ألحق بالشام وفيهم معاوية فلن أفارق دار هجرتي ومجاورة رسول الله -صلى الله عليه وسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 وعن عبد الله بن الزبير أنه قال لعثمان حين حصر: عندي نجائب قد أعددتها, فهل لك أن تحول عليها إلى مكة فيأتيك من أراد أن يأتيك? قال: لا, إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يلحد بمكة كبش من قريش, عليه مثل أوزار نصف الناس". وعن المغيرة بن شعبة أنه دخل على عثمان وهو محصور فقال: إنك إمام العامة وإني أعرض عليك خصالا ثلاثًا اختر إحداهن: إما أن تخرج فتقاتلهم فإن معك عددًا وقوة وأنت على الحق وهم على الباطل، وإما أن نخرق لك بابًا سوى الباب الذي هم عليه فتقعد على رواحلك فتلحق بمكة؛ فإنهم لن يستحلوك وأنت بها، وإما أن تلحق بالشام؛ فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية، فقال له عثمان ثم ذكر ما تقدم في حديث أبي سلمة. خرجهما أبو أحمد, وعن أبي هريرة قال: إني لمحصور مع عثمان في الدار قال: فرمي رجل منا فقلت: يا أمير المؤمنين الآن طاب الضراب قتلوا منا رجلا، قال: عزمت عليك يا أبا هريرة إلا رميت سيفك فإنما تراد نفسي، وسأقي المؤمنين بنفسي, قال أبو هريرة: فرميت سيفي لا أدري أين هو حتى الساعة. خرجه أبو عمر. ذكر خبر عن علي -رضي الله عنه- يوهم ظاهره أنه مضاد لما تقدم عنه: عن عطاء أن عثمان دعا عليا فقال: يا أبا الحسن إنك لو شئت لاستقامت علي هذه الأمة فلم يخالفني واحد فقال علي: لو كانت لي أموال الدنيا وزخرفها ما استطعت أن أدفع عنك أكف الناس، ولكني سأدلك على أمر هو أفضل مما سألتني, تعمل بعمل أخويك أبي بكر وعمر وأنا لك بالناس لا يخالفك أحد منهم. خرجه ابن السمان ولا تضاد بينهما، بل ذلك في حالين مختلفين، فكان هذا في مبتدأ الأمر قبل اجتماع الناس عليه في وقت يتمكن فيه من العمل بسنة الشيخين, بحيث يشتهر عنه فلا يبقى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 لأحد عليه حجة، وقال له علي هذه المقالة رجاء عمله بسنة الشيخين ولم يكن قطعا يخطئه فيما هو عليه؛ فلذلك لم ينكر عليه ولا كان مصوبًا له، وإلا فما كان أمره باتباع غيره مع رؤيته أنه إمام حق لا محالة، وإلا كان مع المتمالئين عليه ولما دعت الضرورة إلى الدفع عنه واجتمع الناس عليه, عرض عليه الدفع عنه ولم ير أن يفتات عليه في ذلك، بل رأى طواعيته له أولى من الدفع، وكذلك كل من عزم عليه عثمان في ترك الدفع عنه، والله أعلم. وسيأتي في فصل خلافة علي ما يدل على أنه نهض بنصرته فوجده قد مات. ذكر من كان معه في الدار, ومن دفع عنه: تقدم في الذكر الأول أنه كان معه في الدار ستمائة رجل. قال أبو عمر: كان معه في الدار ممن يريد الدفع عنه: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن سلام، وعبد الله بن الزبير، والحسن بن علي، وأبو هريرة، ومحمد بن حاطب، وزيد بن ثابت، ومروان بن الحكم، والمغيرة بن الأخنس -يومئذ قتل, أعني: يوم قتل عثمان- وطائفة من الناس. وعن كنانة مولى صفية بنت حيي بن أخطب قال: شهدت مقتل عثمان, فأخرج من الدار أمامي أربعة من شباب قريش مضرجين بالدم محمولين كانوا يدرءون عن عثمان: الحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير، ومحمد بن حاطب، ومروان بن الحكم، قال محمد بن طلحة: فقلت له: هل تدمى محمد بن أبي بكر شيء من دمه? قال: معاذ الله! دخل عليه فكلمه بكلام فخرج ولم ينل شيئًا من دمه, قال: فقلت: من قتله? قال: قتله رجل من أهل مصر يقال له: جبلة بن الأيهم. أخرجه أبو عمر. ذكر زجر عبد الله بن سلام عن قتله, وإخبارهم بما يترتب على ذلك: عن حميد بن هلال أن عبد الله بن سلام قال لهم: إن الملائكة لم تزل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 محيطة بمدينتكم هذه منذ قدمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولئن قتلتموه لتذهبن ثم لا تعود إليكم أبدا، أو إن السيف لا يزال مغمودًا فيكم ووالله لئن قتلتموه ليسلنه عليكم ثم لا يغمد عنكم أبدا, أو قال: إلى يوم القيامة, وما قتل نبي قط إلا قتل به سبعون ألفا، ولا قتل خليفة إلا قتل به خمسة وثلاثون ألفا. أخرجه أبو الخير الحاكمي، وخرجه القاضي أبو بكر بن الضحاك مختصرًا. ذكر من قتله: قال أبو عمر: يروى أن محمد بن أبي بكر دخل عليه فقال له قولا فاستحيا وخرج، ثم دخل رومان بن سرحان -رجل أزرق قصير من أصبح، معه خنجر- فاستقبله فقال: على أي دين أنت يا نعثل? فقال عثمان: لست بنعثل ولكني عثمان بن عفان، أنا على ملة إبراهيم حنيفا وما أنا من المشركين، فضربه على صدغه الأيسر فقتله فخرّ وأدخلته امرأته نائلة بينها وبين ثيابها وكانت امرأة جسيمة, ودخل رجل من أهل مصر معه السيف مصلتا وقال: والله لأقطعن أنفه, فعاجل امرأته فقبضت على السيف فقطع إبهامها، فقالت لغلام لعثمان يقال له: رباح, ومعه سيف عثمان: أعني على هذا وأخرجه عني، فضربه الغلام بالسيف فقتله، وقيل: قتله جبلة بن الأيهم، وقيل: الأسود التجيبي، وقيل: يسار بن عياض. وقد تقدم ذكر ذلك. وأكثرهم يروي أن قطرة من دمه أو قطرات سقطت على المصحف على قوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . ذكر ما روي عنه من القول حين ضرب: عن هارون بن يحيى أن عثمان جعل يقول حين ضرب, والدماء تسيل على لحيته: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين, اللهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 إني أستعديك وأستعينك على جميع أموري, وأسألك الصبر على بليتي. وعن عبد الله بن سلام أنه قال لمن حضر: قتل عثمان وهو يتشحط في دمه وهو يقول: اللهم اجمع أمة محمد, والذي نفسي بيده لو دعا الله -عز وجل- على تلك الحال أن لا يجتمعوا أبدا ما اجتمعوا إلى يوم القيامة. أخرجه الفضائلي. ذكر تاريخ مقتله: قال ابن إسحاق: قتل يوم الأربعاء بعد العصر ودفن يوم السبت قبل الظهر, وقيل: يوم الجمعة لثماني عشرة أو سبع خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين ذكر المدائني عن أبي معشر عن نافع. وقال أبو عثمان النهدي: قتل في وسط أيام التشريق. وعن الليث قال: قتل مصدر الحاج سنة خمس وثلاثين. ذكر دفنه وأين دفن, وكم ومن دفنه ومن صلى عليه: قال أبو عمر: لما قتل أقام مطروحا يومه ذلك إلى الليل فحمله رجال على باب ليدفنوه, فعرض لهم ناس ليمنعوهم من دفنه, فوجدوا قبرا كان قد حفر لغيره فدفنوه، وصلى عليه جبير بن مطعم. وقال الواقدي: دفن ليلا ليلة السبت في موضع يقال له: "حش كوكب" وأخفي قبره، وكوكب: رجل من الأنصار والحش: البستان، كان عثمان قد اشتراه وزاده في البقيع، فكان أول من قبر فيه. قال مالك: وكان عثمان مر بحش كوكب فقال: إنه سيدفن هنا رجل صالح, خرجه القلعي. قال الواقدي وغيره: وحمل على لوح وصلى عليه جبير بن مطعم في ثلاثة نفر هو رابعهم, وقيل: المسور بن مخرمة وقيل: حكيم بن حزام, وقيل: الزبير وكان أوصى إليه, رواه أحمد, وقيل: ابنه عمرو بن عثمان. ذكره القلعي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 وعن عروة أنه قال: أرادوا أن يصلوا على عثمان فمُنِعُوا، فقال رجل من قريش أبو جهم بن حذيفة: دعوه فقد صلى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرجه القلعي. وقد قيل: إن الذين تولوا تجهيزه كانوا خمسة أو ستة: جبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، وأبو جهم بن حذيفة، ويسار بن مكرم, وزوجتاه نائلة بنت الفرافصة، وأم البنين بنت عقبة، نزل قبره بيان وأبو جهم وجبير وكان حكيم ونائلة وأم البنين يدلونه، فلما دفنوه غيبوا قبره. وعن الحسن قال: شهدت عثمان بن عفان دفن في ثيابه بدمائه, خرجه في الصفوة. وعن إبراهيم بن عبد الله بن فروخ عن أبيه مثله ولم يغسل, خرجه البخاري عن البغوي في معجمه. وذكر الخجندي أنه أقام في حش كوكب ثلاثًا مطروحا لا يصلى عليه حتى هتف بهم هاتف: ادفنوه ولا تصلوا عليه؛ فإن الله -عز وجل- قد صلى عليه. وقيل: صلي عليه وغشيهم في الصلاة عليه وفي دفنه سواد, فلما فرغوا منه نودوا: أن لا روع عليكم اثبتوا، وكانوا يرون أنهم الملائكة. وروى محمد بن عبد الله بن عبد الحكم بن عبد الملك بن الماجشون عن مالك قال: لما قتل عثمان ألقي على المزبلة ثلاثة أيام, فلما كان في الليل أتاه اثنا عشر رجلا منهم: حويطب بن عبد العزى وحكيم بن حزام وعبد الله بن الزبير وجدي فاحتملوه, فلما صاروا به إلى المقبرة ليدفنوه إذا هم بقوم من بني مازن قالوا: والله لئن دفنتموه ههنا لنجرن الناس غدا، فاحتملوه وكان على باب وإن رأسه على الباب ليقول: طق طق حتى صاروا به إلى حش كوكب فاحتفروا له، وكانت عائشة ابنته معها مصباح في حق, فلما أخرجوه ليدفنوه صاحت فقال لها الزبير: والله لئن لم تسكتي لأضربن الذي فيه عيناك، فسكتت فدفنوه. خرجه القلعي. ذكر شهود الملائكة عثمان: تقدم في الذكر قبله طرف منه، وتقدم في خصائصه أن الملائكة تصلي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 عليه يوم يموت. وعن سهم بن خنيس -وكان ممن شهد قتل عثمان- قال: فلما أمسينا قلت: لئن تركتم صاحبكم حتى يصبح مثلوا به، فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد فأمكنا له من جوف الليل، ثم حملناه فغشينا سواد من خلفنا, فهبناهم حتى كدنا نتفرق فإذا منادٍ: لا روع عليكم اثبتوا, فإنا جئنا لنشهده معكم، وكان ابن خنيس يقول: هم الملائكة. خرجه ابن الضحاك. ذكر وصيته: تقدم في ذكر عرض الصحابة عليه القتال والدفع عنه، ووصيته أبا قتادة بالكون مع الجماعة. وعن العلاء بن الفضل عن أمه قالت: لما قتل عثمان فتشوا خزانته فوجدوا فيها صندوقًا مقفلًا, ففتحوه فوجدوا فيه ورقة مكتوبا فيها: هذه وصية عثمان: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} عثمان بن عفان يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الله يبعث من في القبور ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، عليها يحيى وعليها يموت وعليها يبعث إن شاء الله. خرجه الفضائلي والرازي وخرجه نظام الملك وزاد: ووجدوا في ظهرها مكتوبًا: غنى النفس يغني النفس حتى يجلها ... وإن غضها حتى يضر بها الفقر وما عسرة فاصبر لها إن لقيتها ... بكائنة إلا سيتبعها يسر ومن لم يقاس الدهر لم يعرف الأسى ... وفي غير1 الأيام ما وعد الدهر ذكر مدة ولايته, وقدر سنه: قال ابن إسحاق: كانت ولايته اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوما،   1 تقلباته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 وقتل وهو ابن ثمانين سنة. وقال غيره: كانت ولايته إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرًا وأربعة عشر يومًا. وقيل في عمره: ثمان وثمانون سنة، وقيل: تسعون, وقال قتادة: ست وثمانون, وقال الواقدي: لا خلاف عندنا أنه قتل وهو ابن اثنتين وثمانين سنة. ذكر بكاء الجن عليه: عن عثمان بن مرة قال: حدثتني أمي قالت: بكت الجن على عثمان في مسجد المدينة أو قال: في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم. خرجه الملاء في سيرته. ذكر محو ابن الزبير نفسه من الديوان لموت عثمان: عن هشام بن عروة عن أبيه قال: لما قتل عمر محا الزبير نفسه من الديوان, فلما قتل عثمان محا ابن الزبير نفسه من الديوان. خرجه أبو عمر. ذكر رؤيا ابن عباس النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد قتل عثمان, مخبرًا له بحاله: عن ابن عباس قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام على برذون وعليه عمامة من نور متعمما بها وبيده قضيب من الفردوس فقلت: يا رسول الله إني إلى رؤياك بالأشواق وأراك مبادرًا, فالتفت إلي وتبسم وقال: "إن عثمان بن عفان أضحى عندنا في الجنة ملكا عروسا, وقد دعينا إلى وليمته فأنا مبادر" خرجه أبو علي الحسين بن عبد الله بن البنا الفقيه، وهو حديث غريب من حديث العلاء بن المسيب انفرد به محمد بن معاوية عن جرير، وخرجه أبو شجاع شيرويه الديلمي في كتاب المنتقى ولفظه عن ابن عباس قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في منامي على برذون أبلق، عليه عمامة من نور معتجرًا بها، وفي رجليه نعلان خضراوان، شراكه من لؤلؤ رطب، بكفه قضيب من قضبان الجنة، فسلم عليَّ فرددت عليه ثم قلت: بأبي أنت وأمي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 قد اشتد شوقي إليك, فإلى أين تبادر? قال: "إن عثمان أصبح ملكا عروسا في الجنة, وقد دعيت إلى عرسه". وقد تقدم عن ابن عباس من حديث الملاء مثله في ذكر صدقته من فصل الفضائل، ولعل الرؤيا تكررت وهو الظاهر، ألا ترى إلى بعض ألفاظها? ذكر رؤيا الحسن بن علي حال عثمان بعد قتله, وأن الله يطلب بدمه: عن الحسن بن علي قال: ما كنت لأقاتل بعد رؤيا رأيتها: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واضعًا يده على العرش، ورأيت أبا بكر واضعًا يده على منكب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورأيت عمر واضعًا يده على منكب أبي بكر، ورأيت عثمان واضعًا يده على منكب عمر، ورأيت دما دونه فقلت: ما هذا? قالوا: دم عثمان يطلب الله به. خرجه الديلمي في كتاب المنتقى. ذكر ما قال علي, لما بلغه قتل عثمان: عن أبي جعفر الأنصاري قال: دخلت مع المصريين على عثمان, فلما ضربوه خرجت أشتد حتى ملأت فروجي عدوًا حتى دخلت المسجد فإذا رجل جالس في نحو عشرة عليه عمامة سوداء، فقال: ويحك، ما وراءك? قلت: والله قد فرغ من الرجل، فقال: تبًّا لك1 آخر الدهر، فنظرت فإذا هو علي, خرجه القلعي وخرجه ابن السمان ولفظه قال: لما دخل على عثمان يوم الدار خرجت فملأت مجتازا بالمسجد, فإذا رجل قاعد في ظله النساء, عليه عمامة سوداء وحوله نحو من عشرة فإذا هو علي، فقال: ما صنع الرجل? قال: قلت: قتل الرجل، قال: تبًّا لهم آخر الدهر.   1 هلاكًا، وليس المراد حقيقة الدعاء على المخبر، بل هو مما يصدر عند انفعال النفس من التأثر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 ذكر تبري علي من دم عثمان, وشهادته له بالإيمان: عن علي -رضي الله عنه- قال: من تبرأ من دين عثمان فقد تبرأ من الإيمان, والله ما أعنت على قتله ولا أمرت ولا رضيت, خرجه أبو عمر وابن السمان وزاد: ولا شاركت. وعن قيس بن عباد قال: سمعت عليا يوم الجمل يقول: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان، وأنكرت نفسي وجاءوني للبيعة فقلت: ألا أستحي من الله أن أبايع قوما قتلوا رجلا قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة"؟! وإني لأستحي من الله أن أبايع وعثمان قتيل في الأرض لم يدفن بعد فانصرفوا، فلما دفن رجع الناس يسألون البيعة فقلت: اللهم إني مشفق مما أقدم عليه، ثم جاءت عزيمة فبايعت، قال: فقالوا: يا أمير المؤمنين؛ فكأنما صدع قلبي وقلت: اللهم خذ مني حتى ترضى. خرجه ابن السمان في الموافقة, والخجندي في الأربعين. وعن ابن عباس عن علي قال: والله ما قتلت عثمان ولا أمرت بقتله ولكني نهيت؛ والله ما قتلت عثمان ولا أمرت ولكني غلبت, قالها ثلاثًا. وفي رواية: ولكني غلبت في قتل عثمان. وعن محمد بن سيرين قال: لما قدم علي البصرة اعتذر على المنبر من قتل عثمان, فقال: والله ما مالأت ولا شاركت ولا رضيت. خرجه ابن السمان. وعن محمد بن الحنفية قال: لما كان يوم الدار أرسل عثمان إلى علي فأراد إتيانه فتعلقوا به ومنعوه، قال: فلوى عمامة له سوداء ونادى ثلاثا: اللهم إني لا أرضى قتل عثمان, ولا آمر به. خرجه ابن السمان أيضًا. ذكر أولوية علي بعثمان: عن وائل بن حجر أنه قال لمعاوية -وقد عاتبه في تخلفه عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 نصرته- فقال: إنك قاتلت رجلا هو أحق بعثمان منك، قال: وكيف يكون أحق بعثمان مني وأنا أقرب إلى عثمان في النسب?! قلت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان آخى بين عثمان وعلي، فالأخ أولى من ابن العم. خرجه الطبراني في قصة طويلة. ذكر لعن قتلة عثمان, ودعائه عليهم: عن محمد بن الحنفية أن عليا قال يوم الجمل: لعن الله قتلة عثمان في السهل والجبل. وعنه أن عليا بلغه أن عائشة تلعن قتلة عثمان, فرفع يديه حتى بلغ بهما وجهه فقال: أنا ألعن قتلة عثمان، لعنهم الله في السهل والجبل, مرتين أو ثلاثًا. خرجهما ابن السمان، وخرج الثاني الحاكمي. وعن يحيى بن سعيد قال: حدثني عمي أو عم أبي قال: لما كان يوم الجمل نادى علي في الناس: لا ترموا بسهم ولا تطعنوا برمح ولا تضربوا بسيف ولا تبدءوهم بقتال، كلموهم باللطف وقال: إن هذا يوم من أفلح فيه أفلح يوم القيامة. قال: فتوافقنا على ذلك حتى أتانا حر الحديد, ثم إن القوم نادوا بأجمعهم: يا ثارات عثمان قال: وابن الحنفية أمامنا معه اللواء فناداه علي: يابن الحنفية ما يقولون? قال: يا أمير المؤمنين يقولون: يا ثارات عثمان! قال: فرفع علي يديه وقال: اللهم أكبّ قتلة عثمان اليوم لوجوههم. خرجه الحسين القطان وابن السمان في الموافقة. وعن إسماعيل بن أبي خالد عن بعض أصحابه قال: قال علي يوم الجمل: ما يريد هؤلاء القوم? قال: يقولون: قتلت عثمان. قال: فرفع يديه إلى السماء وقال: اللهم جلل قتلة عثمان, منك اليوم نجزى. خرجه ابن السمان أيضًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 ذكر لعن الحسن بن علي, وغيره من الصحابة قتلة عثمان: عن عبيد الله بن الزراد قال: حدثني رجل كان مع الحسن بن علي في الحمام قال: فوضع الحسن يده على الحائط، وقال: لعن الله قتلة عثمان، فقال الرجل: إنهم يزعمون أن عليا قتله، قال: قتله الذي قتله، لعن الله قتلة عثمان. خرجه ابن السمان. وقد تقدم في أول الفصل لعن عائشة قتلة عثمان. خرجه الحاكمي. ذكر بكاء بعض أهل البيت على عثمان: عن عبد الله بن الحسن أنه قد ذكر عنده قتل عثمان, فبكى حتى بلَّ لحيته. أخرجه ابن السمان. ذكر تبري حذيفة من دم عثمان: عن حذيفة أنه قال لما بلغه قتل عثمان قال: اللهم إنك تعلم براءتي من دم عثمان، فإن كان الذين قتلوا عثمان أصابوا بقتله فأنا بريء منهم، وإن كانوا أخطئوا فإنك تعلم براءتي منهم. أخرجه القزويني الحاكمي. ذكر شهادته بأن قتلة عثمان في النار: عن جندب قال: دخلت على حذيفة فقال لي: ما فعل الرجل, يعني عثمان? فقلت: أراهم قاتليه، فمه! قال: إن قتلوه كان في الجنة, وكانوا في النار. أخرجه خيثمة. وتقدم في ذكر عرض علي على عثمان الدفع عنه, شهادته أيضًا أنهم في النار وأنه في الجنة. ذكر أن أول الفتن قتل عثمان, وأن من كان في قلبه مثقال حبة من حب قتل عثمان تبع الدجال: عن حذيفة قال: أول الفتن قتل عثمان، وآخر الفتن خروج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 الدجال. والذي نفسي بيده لا يموت رجل وفي قلبه مثقال حبة من حب قتل عثمان إلا تبع الدجال إن أدركه، وإن لم يدركه آمن به في قبره. أخرجه السلفي الحافظ. ذكر عدهم النجاة من قتل عثمان عافية: عن طاوس قال: لما وقعت فتنة عثمان قال رجل لأهله: أوثقوني بالحديد فإني مجنون، فلما قتل عثمان قال: خلوا عني فالحمد لله الذي شفاني من الجنون, وعافاني من قتل عثمان. خرجه خيثمة بن سليمان. ذكر استعظامهم قتله: عن سعيد بن زيد قال: لو أن أحدًا انقض للذي صنعتموه بعثمان, لكان محقوقا أن ينقض. خرجه البخاري. وعن عبد الله بن سلام قال: لقد فتح الناس على أنفسهم بقتل عثمان باب فتنة, لا يغلق عنهم إلى قيام الساعة. أخرجه أبو عمر. وعن ابن عباس قال: لو اجتمع الناس على قتل عثمان, لرموا بالحجارة كما رمي قوم لوط. أخرجه الحاكمي. ذكر استعظامهم جرأة قاتله: عن طاوس وقد قال له رجل: ما رأيت أحدًا أجرأ على الله من فلان, قال. إنك لم تر قاتل عثمان. خرجه البغوي. ذكر اقتتال قتلة عثمان: عن الحسن قال: لقد رأيت الذين قتلوا عثمان تحاصبوا في المسجد, حتى ما أبصر أديم السماء، وإن إنسانًا رفع مصحفًا من حجرات النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ألم تعلموا أن محمدًا قد برئ ممن فرق دينه؟ وكانوا شيعًا. خرجه في الصفوة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 ذكر ما نقم على عثمان مفصلًا, والاعتذار عنه بحسب الإمكان: وذلك أمور: الأول: ما نقموا عليه من عزله جمعًا من الصحابة, منهم أبو موسى عزله عن البصرة وولاها عبد الله بن عامر, ومنهم عمرو بن العاص عزله عن مصر وولاها عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وكان ارتد في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولحق بالمشركين فأهدر النبي -صلى الله عليه وسلم- دمه بعد الفتح إلى أن أخذ له عثمان الأمان ثم أسلم، ومنهم عمار بن ياسر عزله عن الكوفة، ومنهم المغيرة بن شعبة عزله عن الكوفة أيضا، ومنهم عبد الله بن مسعود عزله عن الكوفة أيضا وأشخصه إلى المدينة. الثاني: ما ادعوا عليه في الإسراف في بيت المال، وذلك بأمور منها: أن الحكم بن العاص لما رده من الطائف إلى المدينة وقد كان طرده النبي -صلى الله عليه وسلم- وصله من بيت المال بمائة ألف درهم وجعل لابنه الحارث سوق المدينة يأخذ منها عشور ما يباع فيها، ومنها: أنه وهب لمروان خمس أفريقية, ومنها: أن عبد الله بن خالد بن أسد بن أبي العاص بن أمية قدم عليه فوصله بثلاثمائة ألف درهم، ومنها: ما رواه أبو موسى قال: كنت إذا أتيت عمر بالمال والحلية من الذهب والفضة لم يلبث أن يقسمه بين المسلمين حتى لا يبقى منه شيء، فلما ولي عثمان أتيت به فكان يبعث به إلى نسائه وبناته، فلما رأيت ذلك أرسلت دمعي وبكيت، فقال لي: ما يبكيك? فذكرت له صنيعه وصنيع عمر فقال: رحم الله عمر, كان حسنة وأنا حسنة ولكل ما اكتسب قال أبو موسى: إن عمر كان ينزع الدرهم الفرد من الصبي من أولاده فيرده في مال الله ويقسمه بين المسلمين، فأراك قد أعطيت إحدى بناتك مجمرًا من ذهب مكللا باللؤلؤ والياقوت وأعطيت الأخرى درتين لا يعرف كم قيمتهما، فقال: إن عمر عمل برأيه ولا يألو عن الخير، وأنا أعمل برأيي ولا آلو عن الخير؛ وقد أوصاني الله تعالى بذوي قرباي وأنا مستوصٍ بهم أبرهم, ومنها ما قالوا: إنه أنفق أكثر بيت المال في ضياعه ودوره التي اتخذها لنفسه ولأولاده، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 وكان عبد الله بن الأرقم ومعيقيب على بيت المال في زمان عمر، فلما رأيا ذلك استعفيا فعزلهما وولاه زيد بن ثابت وجعل المفاتيح بيده؛ فقال له يوما -وقد فضل في بيت المال فضلة- فقال: خذها فهي لك, فأخذها زيد فكانت أكثر من مائة ألف درهم. الثالث: أنهم قالوا: حبس عن عبد الله بن مسعود وأبي عطاءهما, وأخرج ابن مسعود إلى الربذة فكان بها إلى أن مات، وأوصى إلى الزبير وأوصاه أن يصلي عليه ولا يستأذن عثمان لئلا يصلي عليه، فلما دفن وصل عثمان ورثته بعطاء أبيهم خمس سنين. الرابع: ما روي أنه حمى بقيع المدينة ومنع الناس منه, وزاد في الحمى أضعاف البقيع. الخامس: قالوا: إنه حمى سوق المدينة في بعض ما يباع ويشترى فقالوا: لا يشتري منه أحد النوى حتى يشتري وكيله من شراء ما يحتاج إليه عثمان لعلف إبله. السادس: زعموا أنه حمى البحر من أن تخرج فيه سفينة إلا في تجارته. السابع: أنه أقطع أصحابه إقطاعات كثيرة من بلاد الإسلام, مما لم يكن له فعله. الثامن: أنه نفى جماعة من أعلام الصحابة عن أوطانهم, منهم أبو ذر الغفاري وجندب بن جنادة؛ وقصته فيما نقلوه: أنه كان بالشام، فلما بلغه ما أحدث عثمان ذكر عيوبه للناس، فكتب إليه عثمان أن أشخصه إلي على مركب وعر وسائق عنيف؛ فأشخصه معاوية على تلك الصورة، فلما وصل إلى عثمان قال له: لم تفسد علي? أشهد لقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال الله دولا، وعباد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 الله خولا، ودين الله دغلا, ثم يريح الله العباد منهم" فقال عثمان لمن بحضرته من المسلمين: أسمعتم هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم? قالوا: لا، فدعا عثمان عليا فسأله عن الحديث فقال: لم أسمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكن قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما أظلت الخضراء, ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر" فاغتاظ عثمان وقال لأبي ذر: اخرج من هذه البلدة, فخرج منها إلى الربذة فكان بها إلى أن مات. التاسع: قالوا: إن عبادة بن الصامت كان بالشام في جند، فمر عليه قطار جمال تحمل خمرًا وقيل: إنها خمر تباع لمعاوية، فأخذ شفرة وقام إليها فما ترك منها راوية إلا شقها، ثم ذكر لأهل الشام سوء سيرة عثمان ومعاوية، فكتب معاوية إلى عثمان يشكوه وسأل إشخاصه إلى المدينة فبعث إليه واستدعاه، فلما دخل عليه قال: ما لنا وما لك يا عبادة, تنكر علينا وتخرج عن طاعتنا? فقال عبادة: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا طاعة 1 لمن عصى الله تعالى". العاشر: هجره لعبد الله بن مسعود، وذلك أنه لما عزله عن الكوفة، وأشخصه إلى المدينة هجره أربع سنين إلى أن مات مهجورًا. وسبب ذلك فيما زعموا أن ابن مسعود لما عزله عثمان من الكوفة وولى الوليد بن عقبة ورأى صنيع الوليد في جوره وظلمه، فعاب ذلك وجمع الناس بمسجد الكوفة وذكر لهم أحداث عثمان ثم قال: أيها الناس لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر, أو ليسلطن الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لكم, وبلغه خبر نفي أبي ذر إلى الربذة فقال في خطبته بمحفل من أهل الكوفة: هل سمعتم قول الله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} ؟ وعرض بذلك لعثمان، فكتب الوليد بذلك إلى عثمان فأشخصه من الكوفة, فلما دخل مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر   1 روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن علي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا طاعة لأحد في معصية الله, إنما الطاعة في المعروف". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 عثمان غلاما له أسود فدفع ابن مسعود, وأخرجه من المسجد ورمى به الأرض, وأمر بإحراق مصحفه, وجعل منزله حبسه وحبس عطاءه أربع سنين إلى أن مات، وأوصى الزبير بأن لا يترك عثمان يصلي عليه. وزعموا أيضا أن عثمان دخل على ابن مسعود يعوده وقال له: استغفر الله لي، فقال: اللهم إنك عظيم العفو كثير التجاوز، فلا تتجاوز عن عثمان حتى تقيد لي منه. الحادي عشر: نقلوا أنه قال لعبد الرحمن بن عوف: إنه منافق, وذلك أن الصحابة لما نقموا على عثمان ما أحدثه وعاتبوا عبد الرحمن في توليته إياه في اختياره فندم على ذلك وقال: إني لا أعلم ما يكون والآن الأمر إليكم، فبلغ قوله عثمان فقال: إن عبد الرحمن منافق، وإنه لا يبالي ما قال؛ فحلف ابن عوف لا يكلمه ما عاش ومات على هجرته، وقالوا: فإن كان ابن عوف منافقًا كما قال فما صحت بيعته ولا اختياره له، وإن لم يكن منافقًا فقد فسق بهذا القول وخرج عن أهلية الإمامة. الثاني عشر: ما رووا أنه ضرب عمار بن ياسر, وذلك أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اجتمع منهم خمسون رجلا من المهاجرين والأنصار فكتبوا أحداث عثمان وما نقموا عليه في كتاب, وقالوا لعمار: أوصل هذا الكتاب إلى عثمان ليقرأه فلعله يرجع عن هذا الذي ينكر، وخوفوه فيه بأنه إن لم يرجع خلعوه واستبدلوا غيره، قالوا: فلما قرأ عثمان الكتاب طرحه، فقال له عمار: لا ترم بالكتاب وانظر فيه, فإنه كتاب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا والله ناصح لك وخائف عليك؛ فقال: كذبت يابن سمية، وأمر غلمانه فضربوه حتى وقع لجنبه وأغمي عليه، وزعموا أنه قام بنفسه فوطئ بطنه ومذاكيره حتى أصابه الفتق وأغمي عليه أربع صلوات, فقضاها بعد الإفاقة واتخذ لنفسه تبانًا تحت ثيابه، وهو أول من لبس التبان لأجل الفتق، فغضب لذلك بنو مخزوم وقالوا: والله لئن مات عمار من هذا لنقتلن من بني أمية شيخًا عظيمًا -يعنون عثمان- ثم إن عمار لزم بيته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 إلى أن كان من أمر الفتنة ما كان. الثالث عشر: قالوا: إنه انتهك حرمة كعب بن عبدة البهري، وذلك أن جماعة من أهل الكوفة اجتمعوا وكتبوا إلى عثمان كتابًا يذكرون فيه أحداثه ويقولون: إن أنت أقلعت عنها فإنا سامعون مطيعون، وإلا فإنا هنا بذاك ولا طاعة لك علينا، وقد أعذر من أنذر ودفعوا الكتاب إلى رجل من عنزة ليحمله إلى عثمان. وكتب إليه كعب بن عبدة كتابًا أغلظ منه مع كتابهم فغضب عثمان وكتب إلى سعيد بن العاص أن يسرع إلى كعب بن عبدة ويبعث به من الكوفة إلى بعض الجبال، فدخل عليه وجرده من ثيابه وضربه عشرين سوطا, ونفاه إلى بعض الجبال. الرابع عشر: أنه انتهك حرمة الأشتر النخعي وذلك: أن سعيد بن العاص لما ولي الكوفة من قبل عثمان دخل المسجد، فاجتمع إليه أشراف الكوفة فذكروا الكوفة وسوادها, فقال عبد الرحمن بن حنين صاحب شرطة سعيد: وددت أن السواد كله للأمير، فقال الأشتر النخعي: لا يكون للأمير ما أفاء الله علينا بأسيافنا، فقال عبد الرحمن: اسكت يا أشتر فوالله لو أراد الأمير لكان السواد كله له, فقال الأشتر: كذبت يا عبد الرحمن، لو رام ذلك لما قدر عليه، وقامت العامة على ابن حنين فضربوه حتى وقع لجنبه، وكتب سعيد إلى عثمان ليأمره بإخراج الأشتر من الكوفة إلى الشام مع أتباعه الذين أعانوه فأجابه إلى ذلك، فأشخصه مع عشرين نفرًا من صلحاء الكوفة إلى الشام، فلم يزالوا محبوسين بها إلى أن كانت فتنة عثمان؛ ثم إن سعيدًا لحق بالمدينة واضطربت الكوفة على عمال عثمان، وكتب أشراف الكوفة إلى الأشتر: أما بعد, فقد اجتمع الملأ من إخوانك فتذاكروا أحداث عثمان وما أتاه إليك، ورأوا ألا طاعة عليهم في معصية الله، وقد خرج سعيد عنا، وقد أعطينا عهودنا ألا يدخل علينا سعيد بعد هذا واليًا؛ فالحق بنا إن كنت تريد أن تشهد معنا أمرنا، فسار إليهم واجتمع معهم وأخرجوا ثابت بن قيس صاحب شرطة سعيد بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 العاص وعزم عسكر الأشتر وأهل الكوفة على منع عمال عثمان على الكوفة، واتصل الخبر بعثمان فأرسل إليهم سعيد بن العاص؛ فلما بلغ العذيب استقبله جند الكوفة وقالوا له: ارجع يا عدو الله فإنك لا تذوق فيها بعد صنيعك ماء الفرات، وقاتلوه وهزموه، فرجع إلى عثمان خائبًا، وكتب عثمان إلى الأشتر كتابًا توعده فيه على مخالفة الإمام, فكتب إليه الأشتر كتابا عنوانه: من مالك بن الحويرث إلى الخليفة الخارج عن سنة نبيه النابذ حكم القرآن وراء ظهره: أما بعد, فإن الطعن على الخليفة إنما يكون وبالا إذا كان الخليفة عادلًا وبالحق قاضيًا، وإذا لم يكن كذلك ففراقه قربة إلى الله تعالى ووسيلة إليه, وأنفذ الكتاب مع كميل بن زياد، فلما وصل إلى عثمان سلم ولم يسمه بأمير المؤمنين، فقيل له: لم لا تسلم بالخلافة على أمير المؤمنين? فقال: إن تاب عن فعاله وأعطانا ما نريد فهو أميرنا وإلا فلا فقال عثمان: إني أعطيكم الرضا، من تريدون أن أوليه عليكم? فاقترحوا عليه أبا موسى الأشعري, فولاه عليهم. الخامس عشر: قالوا: إن عثمان أحرق مصحف ابن مسعود ومصحف أبي وجمع الناس على مصحف زيد بن ثابت، ولما بلغ ابن مسعود أنه أحرق مصحفه وكان به نسخة عند أصحاب له بالكوفة أمرهم بحفظها وقال لهم: قرأت سبعين سورة وإن زيد بن ثابت لصبي من الصبيان. السادس عشر: قالوا: إن عثمان ترك إقامة حدود الله تعالى في عبيد الله بن عمر لما قتل الهرمزان وقتل حنيفة وبنتًا صغيرة لأبي لؤلؤة القاتل عمر، فاجتمعت الصحابة عند عثمان وأمروه بقتل عبيد الله بن عمر قصاصًا بمن قتل، وأشار علي بذلك فلم يقبله؛ ولذلك سار عبيد الله بعد قتل عثمان إلى معاوية خوفًا من علي أن يقتله بالهرمزان. السابع عشر: قالوا: إن عثمان خالف الجماعة بإتمام الصلاة بمنى مع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 علمه بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر قصروا الصلاة بها. الثامن عشر: انفرد بأقوال شاذة خالف فيها جميع الأمة, في الفرائض وغيرها. التاسع عشر: قالوا: إنه كان غادرا مخلفًا لوعده؛ لأن أهل مصر شكوا إليه عامله عبد الله بن سعد بن أبي السرح فوعدهم أن يولي عليهم من يرتضونه، فاختاروا محمد بن أبي بكر فولاه عليهم وتوجهوا به معهم إلى مصر, ثم كتب إلى عامله ابن أبي السرح بمصر يأمره أن يأخذ محمد بن أبي بكر فيقطع يديه ورجليه، وهذا كان سبب رجوع أهل مصر المدينة وحصارهم عثمان وقتله. والجواب: أما القضية الأولى وهي عزل من عزله من الصحابة، أما أبو موسى فكان عذره في عزله أوضح من أن يذكر، فإنه لو لم يعزله اضطربت البصرة والكوفة وأعمالها، للاختلاف الواقع بين جند البلدين, وقصته: أنه كتب إلى عمر في أيامه يسأله المدد فأمده بجند الكوفة, فأمرهم أبو موسى قبل قدومهم عليه برامهرمز فذهبوا إليها وفتحوها وسبوا نساءها وذراريها فحمدهم على ذلك، وكره نسبة الفتح إلى جند الكوفة دون جند البصرة، فقال لهم: إني كنت قد أعطيتهم الأمان وأجلتهم ستة أشهر فرعوا عليهم فوقع الخلاف في ذلك بين الجندين، وكتبوا إلى عمر فكتب عمر إلى صلحاء جند أبي موسى مثل البراء وحذيفة وعمران بن حصين وأنس بن مالك وسعيد بن عمرو الأنصاري وأمثالهم وأمرهم أن يستحلفوا أبا موسى فإن حلف أنه أعطاهم الأمان وأجلهم ردوا عليهم, فاستحلفوه فحلف ورد السبي عليهم وانتظر لهم أجلهم، وبقيت قلوب الجند حنقة على أبي موسى، ثم رفع على أبي موسى إلى عمر وقيل له: لو أعطاهم الأمان لعلم ذلك، فأشخصه عمر وسأل عن يمينه فقال: ما حلفت إلا على حق, قال: فلم أمرت الجند إليهم حتى فعلوا ما فعلوا? الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 وقد وكلنا أمرك في يمينك إلى الله تعالى، فارجع إلى عملك فليس نجد الآن من يقوم مقامك، ولعلنا إن وجدنا من يكفينا عملك وليناه، فلما مضى عمر لسبيله وولي عثمان شكا جند البصرة شح أبي موسى، وشكا جند الكوفة ما نقموا عليه، فخشي عثمان ممالأة الفريقين على أبي موسى فعزله عن البصرة وولاها أكرم الفتيان عبد الله بن عامر بن كريز، وكان من سادات قريش، وهو الذي سقاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ريقه حين حمل إليه طفلا في مهده. وأما عمرو بن العاص فإنما عزله لأن أهل مصر أكثروا شكايته، وكان عمر قبل ذلك عزله لشيء بلغه عنه، ثم لما أظهر توبته رده، كذلك عزله عثمان لشكاية رعيته، كيف والرافضة يزعمون أن عمرًا كان منافقًا في الإسلام، فقد أصاب عثمان في عزله فكيف يعترض على عثمان بما هو مصيب فيه عندهم? وأما توليته عبد الله فمن حسن النظر عنده؛ لأنه تاب وأصلح عمله، وكانت له فيما ولاه آثار محمودة، فإنه فتح من تلك النواحي طائفة كبيرة، حتى انتهى في إغارته إلى الجزائر التي في بحر بلاد الغرب، وحصل في فتوحه ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار، سوى ما غنمه من صنوف الأموال؛ وبعث بالخمس منها إلى عثمان وفرق الباقي في جنده, وكان في جنده جماعة من الصحابة ومن أولادهم كعقبة بن عامر الجهني، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، قاتلوا تحت رايته، وأدوا طاعته, ووجدوه أقوم بسياسة الأمر من عمرو بن العاص. ثم أبان عن حسن رأي في نفسه عند وقوع الفتنة فحين قتل عثمان اعتزل الفريقين ولم يشهد مشهدًا ولم يقاتل أحدًا بعد قتال المشركين. "وأما عمار بن ياسر" فأخطئوا في ظن عزله، فإنه لم يعزله وإنما عزله عمر, كان أهل الكوفة قد شكوه فقال عمر: من يعذرني من أهل الكوفة إن استعملت عليهم تقيا استضعفوه، وإن استعملت عليهم قويا فجروه. ثم عزله وولى المغيره بن شعبة، فلما ولي عثمان شكوا المغيرة إليه وذكروا أنه ارتشى في بعض أموره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 فلما رأى ما وقر عندهم منه استصوب عزله عنهم؛ ولو كانوا مفترين عليه. والعجب من هؤلاء الرافضة كيف ينقمون على عثمان عزل المغيرة وهم يكفرون المغيرة? على أنا نقول: ما زال ولاة الأمر قبله وبعده يعزلون من عمالهم من رأوا عزله ويولون من رأوا توليته بحسب ما تقتضيه أنظارهم. عزل عمر خالد بن الوليد عن الشام وولى أبا عبيدة، وعزل عمارًا عن الكوفة وولاها المغيرة بن شعبة، وعزل قيس بن سعد عن مصر وولاها الأشتر النخعي. ألا ترى إلى معاوية -وكان ممن ولاه عمر- لما ضبط الجزيرة وفتح البلاد إلى حدود الروم وفتح جزيرة قبرص وغنم منها مائة ألف رأس سوى ما غنم من البياض وأصناف المال وحمدت سيرته وسراياه, أقره على ولايته? وأما ابن مسعود فسيأتي الاعتذار عنه فيما بعد. وأما القصة الثانية وهو ما ادعوه من إسرافه في بيت المال فأكثر ما نقلوه عنه مفترًى عليه ومختلق؛ وما صح منه فعذره فيه واضح، وأما رده الحكم إلى المدينة فقد ذكر رضي الله عنه أنه كان استأذن النبي -صلى الله عليه وسلم- في رده إلى المدينة فوعده بذلك، فلما ولي أبو بكر سأله عثمان ذلك فقال: كيف أرده إليها وقد نفاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فقال له عثمان ذلك فقال له: إني لم أسمعه يقول له ذلك؛ ولم تكن مع عثمان بينة على ذلك، فلما ولي عمر سأله ذلك فأبى ولم يريا1 الحكم بقول الواحد، فلما ولي قضي بعلمه وهو قول أكثر الفقهاء، وهو مذهب عثمان، وهذا بعد أن تاب وأصلح عما كان طرد لأجله، وإعادة التائب مما تحمد. وأما صلته من بيت المال بمائة ألف فلم تصح، وإنما الذي صح أنه زوج ابنه من ابنة الحارث بن الحكم وبذل لها من مال نفسه مائة ألف درهم، وكان رضي الله عنه ذا ثروة في الجاهلية والإسلام, وكذلك زوج ابنته أم أبان من ابن مروان بن الحكم وجهزها من خاصّ ماله بمائة ألف لا   1 يعني أبا بكر وعمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 من بيت المال, وهذه صلة رحم يحمد عليها. وأما طعنهم على عثمان أنه وهب خمس أفريقية مروان بن الحكم فهو غلط منهم؛ وإنما المشهور في القضية أن عثمان كان جهز ابن أبي السرح أميرًا على آلاف من الجند وحضر القتال بأفريقية، فلما غنم المسلمون أخرج ابن أبي السرح الخمس من الذهب وهو خمسمائة ألف دينار فأنفذها إلى عثمان، وبقي من الخمس أصناف من الأثاث والمواشي مما يشق حمله إلى المدينة فاشتراها مروان منه بمائة ألف درهم نقد أكثرها وبقيت منها بقية، ووصل إلى عثمان مبشرًا بفتح أفريقية، وكانت قلوب المسلمين مشغولة خائفة أن يصيب المسلمين من أمر أفريقية نكبة؛ فوهب له عثمان ما بقي عليه جزاء ببشارته؛ وللإمام أن يصل المبشرين من بيت المال بما رأى على قدر مراتب البشارة. وأما ما ذكروا من صلته عبد الله بن خالد بن أسد بثلاثمائة ألف درهم, فإن أهل مصر عاتبوه على ذلك لما حاصروه فأجابهم بأنه استقرض له ذلك من بيت المال، وكان يحتسب لبيت المال ذلك من نفسه حتى وفاه. وأما دعواهم أنه جعل للحارث بن الحكم سوق المدينة يأخذ عشور ما يباع فيه فغير صحيح؛ وإنما جعل إليه سوق المدينة ليراعي أمر المثاقيل والموازين، فتسلط يومين أو ثلاثة على باعة النوى واشتراه لنفسه، فلما رفع ذلك إلى عثمان أنكر عليه وعزله وقال لأهل المدينة: فإني لم آمره بذلك، ولا عتب على السلطان في جور بعض العمال إذا استدرك بعد علمه. وقد روي أنه جعله على سوق المدينة وجعل له كل يوم درهمين، وقال لأهل المدينة: إذا رأيتموه سرق شيئًا فخذوه منه وهذا غاية الإنصاف. "وأما قصة أبي موسى" فلا يصح شيء منها، فإنه رواه ابن إسحاق عمن حدثه عن أبي موسى؛ ولا يصح الاستدلال برواية المجهول، وكيف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 يصح ذلك وأبو موسى ما ولي لعثمان عملًا إلا في آخر السنة التي قتل فيها? ولم يرجع إليه؛ فإنه لما عزله عن البصرة بعبد الله بن عامر لم يتول شيئا من أعماله إلى إرسال أهل الكوفة -في السنة التي قتل فيها- أن يوليه الكوفة فولاه إياها ولم يرجع إليه؛ ثم يقال للخوارج والروافض: إنكم تكفرون أبا موسى وعثمان، فلا حجة في دعوى بعضهم على بعض. وأما عزله ابن الأرقم ومعيقيبًا عن ولاية بيت المال؛ فإنهما أسنا وضعفا عن القيام بحفظ بيت المال. وقد روي أن عثمان لما عزله خطب الناس وقال: ألا إن عبد الله بن الأرقم لم يزل على جرايتكم زمن أبي بكر وعمر إلى اليوم, وإنه كبر وضعف وقد ولينا عمله زيد بن ثابت. وما نسبوه إليه من صرف مال بيت المال في عمارة دوره وضياعه المختصة فبهتان افتروه عليه؛ وكيف وهو من أكثر الصحابة مالا?! وكيف يمكنه ذلك بين أظهر الصحابة مع أنه الموصوف بكثرة الحياء، وأن الملائكة تستحي منه لفرط حيائه?! أعاذنا الله من فرطات الجهل وموبقات الهوى, آمين آمين. "وقولهم": إنه دفع إليه ما فضل من بيت المال افتراء واختلاق, بل الصحيح أنه أمر بتفرقة المال على أصحابه ففضل في بيت المال ألف درهم فأمره بإنفاقها فيما يراه أصلح للمسلمين، فأنفقها زيد على عمارة مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدما زاد عثمان في المسجد زيادة، وكل واحد منهما مشكور محمود على فعله. وأما القضية الثالثة وهو ما ادعوه من حبس عطاء ابن مسعود, فكان ذلك في مقابلة ما بلغه عنه ولم تزل الأئمة على مثل ذلك، وكل منهما مجتهد، فإما مصيبان أو مخطئ ومصيب، ولم يكن قصد عثمان حرمانه البتة، وإنما التأخير إلى غاية اقتضى نظره التأخير إليها أدبًا، فلما قضى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 عليه إما مع بلوغ حصول تلك الغاية أو دونها وصل به ورثته، ولعله كان أنفع لهم. وأما القضية الرابعة وهي الحمى, فهذا مما كان اعترض به أهل مصر عليه فأجابهم بأنه حمى لإبل الصدقة كما حمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لها، فقالوا: إنك زدت! فقال: لأن إبل الصدقة زادت، وليس هذا مما ينقم على الإمام. وأما الخامسة وهو أنه حمى سوق المدينة إلى آخر ما قرر, فهذا مما تقول عليه واختلق ولا أصل له، ولم يصح إلا ما تقدم من حديث الحارث بن الحكم. ولعله لما فعل ذلك نسبوه إلى عثمان، وعلى تقدير صحة ذلك يحمل على أنه فعله لإبل الصدقة وألحقه بحمى المرعى لها؛ لأنه في معناه. وأما السادسة وهي حمى البحر, فعلى تقدير صحة النقل فيها يحمل على أنها كانت ملكا له؛ لأنه كان منبسطا في التجارات، متسع المال في الجاهلية والإسلام، فما حمى البحر، وإنما حمى سفنه أن يحمل فيها متاع غير متاعه. وأما السابعة وهي إقطاعه كثيرًا من الصحابة كثيرًا من بلاد الإسلام, فعنه جوابان: الأول: أن ذلك كان منه إذنًا في إحياء كل ما قدر عليه من أموات أرض العراق، ومن أحيا أرضًا ميتة فهي له. الثاني: أن أصحاب السير ذكروا أن الأشراف من أهل اليمن قدموا المدينة وهجروا بلادهم وأموالهم مثلها، فأعطى طلحة موضعًا وأخذ منه ما له بكندة، وهكذا كل من أعطى شيئًا فإنما هو شيء صار للمسلمين، وفعل ذلك لما رأى من المصلحة، إما إجارة إن قلنا: أراضي السواد وقف، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 وإما تمليكا إن قلنا: ملك. "وأما القضية الثامنة" وهو ما ادعوه في نفيه جماعة من الصحابة: أما أبو ذر فروي أنه كان يتجاسر عليه ويجبهه بالكلام الخشن ويفسد عليه ويثير الفتنة، وكان يؤدي ذلك التجاسر عليه إلى إذهاب هيبته وتقليل حرمته ففعل ما فعل به صيانة لمنصب الشريعة وإقالة لحرمة الدين, وكان عذر أبي ذر فيما كان يفعله أنه كان يدعوه إلى ما كان عليه صاحباه من التجرد عن الدنيا والزهد فيها، فيخالفه في أمور مباحة من اقتنائه الأموال، وجمعه الغلمان الذين يستعان بهم على الحروب، وكل منهما كان على هدى من الله تعالى, ولم يزل أبو ذر ملازمًا طاعة عثمان بعد خروجه إلى الربذة حتى توفي. ولما قدم إليها كان لعثمان غلام يصلي بالناس, فقدم أبا ذر للصلاة فقال له: أنت الوالي، والوالي أحق, وهذا كله على تقدير صحة ما نقله الروافض في قصة أبي ذر مع عثمان؛ وإلا فقد روى محمد بن سيرين خلاف ذلك، فقال: لما قدم أبو ذر الشام استأذن عثمان في لحوقه بالربذة فقال عثمان: أقم عندي تغدو عليك اللقاح وتروح فقال: لا حاجة لي في الدنيا، فأذن له في الخروج إلى الربذة. وروى قتادة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي ذر: "إذا رأيت المدينة بلغ بناؤها سلعا, فاخرج منها" وأشار إلى الشام فلما كان في ولاية عثمان بلغ بناؤها سلعًا فخرج إلى الشام، وأنكر على معاوية أشياء فشكاه إلى عثمان، فكتب عثمان إلى أبي ذر: أقبل إلينا فنحن أرعى لحقك وأحسن جوارًا من معاوية فقال أبو ذر: سمعًا وطاعة, فقدم على عثمان ثم استأذن في الخروج إلى الربذة فأذن له فمات. ورواية هذين الإمامين العالمين من التابعين وأهل السنة هذه القصة أشبه بأبي ذر وعثمان من رواية غيرهما من أهل البدعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 وأما القضية التاسعة وهي قضية عبادة بن الصامت فهي دعوى باطلة وكذب مختلق؛ وما شكا معاوية عبادة ولا أشخصه عثمان، والأمر على خلاف ذلك فيما رواه الثقات الأثبات من اتفاقهم ورجوع بعضهم إلى بعض في الحق. ويشهد لذلك ما روي: أن معاوية لما غزا جزيرة قبرص كان معه عبادة بن الصامت، فلما فتحوا الجزيرة وأخذوا غنائمها أخرج معاوية خمسها وبعثه إلى عثمان وجلس يقسم الباقي بين جنده، وجلس جماعة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ناحية، منهم عبادة بن الصامت وأبو الدرداء وشداد بن أوس وواثلة بن الأسقع وأبو أمامة الباهلي وعبد الله بن بشر المازني, فمر بهم رجلان يسوقان حمارين فقال لهما عبادة بن الصامت: ما هذان الحماران? فقالا: إن معاوية أعطاناهما من المغنم، وإنا نرجو أن نحج عليهما، فقال لهما عبادة: لا يحل لكما ذلك ولا لمعاوية أن يعطيكما, فرد الرجلان الحمارين على معاوية, وسأل معاوية عبادة بن الصامت عن ذلك فقال عبادة: شهدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة حنين والناس يكلمونه في الغنائم فأخذ وبرة من بعير وقال: "ما لي مما أفاء الله عليكم من هذه الغنائم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم" فاتق الله يا معاوية واقسم الغنائم على وجهها ولا تعط منها أحدًا أكثر من حقه، فقال له معاوية: قد وليتك قسمة الغنائم ليس أحد بالشام أفضل منك ولا أعلم، فاقسمها بين أهلها واتق الله فيها, فقسمها عبادة بين أهلها وأعانه أبو الدرداء وأبو أمامة، وما زالوا على ذلك إلى آخر زمن عثمان. فهذه قصة عبادة في التزامه طاعة عثمان وطاعة عامله بالشام، بضد ما رووه، قاتلهم الله. وأما القضية العاشر: ما رووه مما جرى على عبد الله بن مسعود من عثمان وأمره غلامه بضربه إلى آخر ما قرروه, فكله بهتان واختلاق لا يصح منه شيء، وهؤلاء الجهلة لا يتحامون الكذب فيما يرونه موافقًا لأغراضهم، إذ لا ديانة تردهم عن ذلك. ثم نقول: على تقدير صحة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 صدور ذلك من الغلام، فيكون قد فعله من نفسه غضبا لمولاه، فإن ابن مسعود كان يجبه عثمان بالكلام ويلقاه بما يكرهه، ولو صح ذلك عنه لكان محمولا على الأدب، فإن منصب الخلافة لا يحتمل ذلك، ويصنع ذلك منه بين العامة، وليس هذا بأعظم من ضرب عمر سعد بن أبي وقاص بالدرة على رأسه حين لم يقم له، وقال له: إنك لم تهب الخلافة فأردت أن تعرف أن الخلافة لا تهابك, ولم يغير ذلك سعدًا ولا رآه عيبًا وكذلك ضربه لأبي بن كعب حين رآه يمشي وخلفه قوم فعلاه بالدرة وقال: إن هذه مذلة للتابع وفتنة للمتبوع، ولم يطعن أبي بذلك على عمر، بل رآه أدبًا منه نفعه الله به، ولم يزل دأب الخلفاء والأمراء تأديب من رأوا منه الخلاف، على أنه قد روي أن عثمان اعتذر لابن مسعود وأختاه في منزله، حين بلغه مرضه وسأله أن يستغفر له وقال: يا أبا عبد الرحمن هذا عطاؤك فخذه, فقال له ابن مسعود: وما أتيتني به إذ كان ينفعني, وجئتني به عند الموت لا أقبله, فمضى عثمان إلى أم حبيبة، وسألها أن تطلب إلى ابن مسعود ليرضى عنه، فكلمته أم حبيبة، ثم أتاه عثمان فقال له: يا أبا عبد الله، ألا تقول كما قال يوسف لإخوته: {لا تَثْرِيبَ 1 عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} ? فلم يكلمه ابن مسعود. وإذا ثبت هذا فقد فعل عثمان ما هو الممكن في حقه واللائق بمنصبه أولًا وآخرًا، ولو فرض خطؤه فقد أظهر التوبة والتمس الاستغفار، واعتذر بالذنب لمن لم يقبله حينئذ، فإن الله أخبر أنه: {يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} وفي ذلك حثهم على الاقتداء به, على أنه قد نقل أن ابن مسعود رضي عنه واستغفر له. قال سلمة بن سعيد: دخلت على ابن مسعود في مرضه الذي توفي فيه، وعنده قوم يذكرون عثمان فقال لهم: مهلا, فإنكم إن قتلتموه لا تصيبون مثله. وأما عزله عن الكوفة وإشخاصه إلى المدينة وهجره له وجفاؤه إياه،   1 لا لوم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 فلم تزل هذه شيمة الخلفاء قبله وبعده على ما تقدم تقريره، وليس هجره إياه بأعظم من هجر علي أخاه عقيل بن أبي طالب وأبا أيدب الأنصاري حين فارقاه بعد انصرافه من صفين وذهبا إلى معاوية، ولم يوجب ذلك طعنًا عليه ولا عيبًا فيه. وقد روي أن أعرابيا من همدان دخل المسجد فرأى ابن مسعود وحذيفة وأبا موسى الأشعري يذكرون عثمان طاعنين عليه فقال لهم: أنشدكم الله، لو أن عثمان ردكم إلى أعمالكم ورد إليكم عطاياكم أكنتم ترضون? قالوا: اللهم نعم, فقال: الهمداني: اتقوا الله يا أصحاب محمد ولا تطعنوا على أئمتكم, وفي هذا بيان أن من طعن على عثمان إنما كان لعزله إياه وتوليته غيره وقطع عطائه، وذلك سائغ للإمام إذا أدى اجتهاده إليه. وأما الحادية عشرة وهي قولهم: إن عبد الرحمن ندم على تولية عثمان, فكذب صريح، ولو كان كذلك لصرح بخلعه إذ لا مانع له، فإن أعيان الصحابة على زعمهم منكرون عليه ناقمون أحداثه، والناس تبع لهم، فلا مانع لهم من خلعه، وكيف يصح ما وصفوا به كل واحد منهما في حق الآخر، وقد آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينهما؟ فثبت لكل واحد منهما على الآخر حق الإخوة والاشتراك في صحبة النبوة، وشهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- لكل واحد منهما بالجنة، وترك التنزيل مخبرًا بالرضا عنهم، وتوفي صلى الله عليه وسلم وهو عليهما راض. ويبعد مع كل هذا صدور ما ذكروه عن كل واحد منهما، وإنما الذي صح في قصته أن عثمان استوحش منه، فإن عبد الرحمن كان يبسط عليه في القول لا يبالي بما يقول له. وروي أنه قال له: إني أخاف يابن عوف أن تبسط من دمي. "حاشية" كذا وقع، ولعله: أن تهدر دمي. وأما الثانية عشرة وهي ضرب عمار, فسياق هذه القصة لا يصح على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 النحو الذي رووه, بل الصحيح منها أن غلمانه ضربوا عمارًا، وقد حلف أنه لم يكن على أمره لأنهم عاتبوه في ذلك فاعتذر إليهم بأن قال: جاء هو وسعد إلى المسجد وأرسلا إلي أن ائتنا فإنا نريد أن نذاكرك أشياء فعلناها، فأرسلت إليهما أني عنكما اليوم مشغول، فانصرفا وموعدكما يوم كذا وكذا. فانصرف سعد وأبى هو أن ينصرف، فأعدت إليه الرسول فأبى ثم أعدته إليه فأبى، فتناوله رسولي بغير أمري, والله ما أمرته ولا رضيت بضربه؛ وهذه يدي لعمار فليقتص مني إن شاء, وهذا من أبلغ ما يكون من الإنصاف. ومما يؤيد ذلك ويوهي ما رووه: ما روى أبو الزناد عن أبي هريرة أن عثمان لما حوصر ومنع الماء قال لهم عمار: سبحان الله! قد اشترى بئر رومة وتمنعوه ماءها! خلوا سبيل الماء، ثم جاء إلى علي وسأله إنفاذ الماء إليه، فأمر براوية ماء, وهذا يدل على رضائه عنه. وقد روي أنه -رضي الله عنه- لما أنصفه بحسن الاعتذار، فما بال أهل البدعة لا يرضون! وما مثله فيه إلا كما يقال: رضي الخصمان، ولم يرض القاضي. وأما الثالثة عشرة وهي قولهم: إنه انتهك حرمة كعب, فيقال لهم: ما أنصفتم إذ ذكرتم بعض القصة وتركتم تمامها، وذلك أن عثمان استدرك ذلك بما أرضاه فكتب إلى سعد بن العاص أن ابعثه إلي مكرما؛ فبعث إليه فلما دخل عليه قال له: يا كعب, إنك كتبت إلي كتابًا غليظًا ولو كتبت ببعض اللين لقبلت مشورتك، ولكنك حددتني وأغضبتني حتى نلت منك ما نلت. ثم نزع قميصه ودعا بسوط فدفعه إليه ثم قال: قم فاقتص مني ما ضربته, فقال كعب: أما إذا فعلت ذلك فأنا أدعه لله تعالى، ولا أكون أول من اقتص من الأئمة؛ ثم صار بعد ذلك من خاصة عثمان، وعذره في مبادرته الأمر بضربه ونفيه، وذلك سبيل أولي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 الأمر في تأديب من رأوا خروجه على إمامه. و"أما الرابعة عشرة" وهي قضية الأشتر النخعي فنقول: ظلمة البدعة والحمية الناشئة عن محض العصبية دون رؤية الحق، وهل آثار الفتنة في هذه إلا فعل الأشتر بالكوفة من هتك حرمة السلطان، وتسليط العامة على ضرب عامله، فلا يعتذر عن عثمان في الأمر بنفيه? بل ذلك أقل ما يستوجبه ثم لم يمنعه ذلك حتى سار من الشام إلى الكوفة وأضرم نار الفتنة على ما تقدم تقريره، ثم لم يتمكن عثمان معهم من شيء إلا سلوك سبيل السياسة وإجابتهم إلى ما أرادوا، فولى عليهم أبا موسى وبعث حذيفة بن اليمان على خراجهم، ثم لم يلبث ذلك حتى خرج إليه الأشتر مع رعاع الكوفة فانضم إليه غاغة أهل مصر وساروا إلى عثمان فقتلوه، وباشر الأشتر قتله على ما تقدم في بعض الروايات، وصار قتله سببا للفتنة الى أن تقوم الساعة، فعميت أبصارهم وبصائرهم عن ذم الأشتر وأنصاره وتعرضوا لذم من شهد لسان النبوة أنه على الحق، وأمر بالكون معه، وأخبر بأنه يقتل مظلوما؛ يشهد لذلك الحديث الصحيح على ما تقدم في أول فصل مقتله، وسنعيد طرفًا منه إن شاء الله تعالى. "الخامسة عشرة" وهي إحراق مصحف ابن مسعود, فليس ذلك إلا دواء لفتنة كبيرة في الدين؛ لكثرة ما فيه من الشذوذ المنكر عند أهل العلم بالقرآن، وبحذفه المعوذتين من مصحفه مع الشهرة عند الصحابة أنهما في القرآن وقال عثمان لما عوتب في ذلك: خشيت الفتنة في القرآن. وكان الاختلاف بينهم واقعا حتى كان الرجل يقول لصاحبه: قرآني خير من قرآنك فقال له حذيفة: أدرك الناس, فجمع الناس على مصحف عثمان. ثم يقال لأهل البدع والأهواء: إن لم يكن مصحف عثمان حقا فلم رضي علي وأهل الشام بالتحكيم إليه حين رفع أهل الشام المصاحف؛ فكانت مكتوبة على نسخة مصحف عثمان؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 و"أما السادسة عشرة" وهي ترك إقامة حدود الله تعالى في عبيد الله بن عمر, فنقول: أما ابنة أبي لؤلؤة فلا قود فيها لأنها ابنة مجوسي صغيرة تابعة له؛ وكذلك جفينة فإنه نصراني من أهل الحيرة، وأما الهرمزان فعنه جوابان: الأول: أنه شارك أبا لؤلؤة في ذلك ومالأه، وإن كان المباشر أبو لؤلؤة وحده، ولكن المعين على قتل الإمام العادل يباح قتله عند جماعة من الأئمة، وقد أوجب كثير من الفقهاء القود على الآمر والمأمور. وبهذا اعتذر عبيد الله بن عمر وقال: إن عبد الرحمن بن أبي بكر أخبره أنه رأى أبا لؤلؤة والهرمزان وجفينة يدخلون في مكان يتشاورون، وبينهم خنجر له رأسان مقبضه في وسطه، فقتل عمر في صبيحة تلك الليلة، فاستدعى عثمان عبد الرحمن فسأله عن ذلك فقال: انظروا إلى السكين، فإن كانت ذات طرفين فلا أرى القوم إلا وقد اجتمعوا على قتله, فنظروا إليها فوجدوها كما وصف عبد الرحمن؛ فلذلك ترك عثمان قتل عبيد الله بن عمر، لرؤيته عدم وجوب القود لذلك أو لتردده فيه, فلم ير الوجوب بالشك. والجواب الثاني: أن عثمان خاف من قتله ثوران فتنة عظيمة؛ لأنه كان بنو تميم وبنو عدي مانعين من قتله ودافعين عنه، وكان بنو أمية أيضا جانحين1 إليه حتى قال له عمرو بن العاص: قتل أمير المؤمنين عمر بالأمس ويقتل ابنه اليوم?! لا والله لا يكون هذا أبدا, ومال في بني جمح، فلما رأى عثمان ذلك اغتنم تسكين الفتنة وقال: أمره إلي وسأرضي أهل الهرمزان عنه. و"أما السابعة عشرة" وهي إتمام الصلاة بمنى, فعذره في ذلك ظاهر، فإنه ممن لم يوجب القصر في السفر، وإنما كان يتجه كما رآه فقهاء   1 مائلين إليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 المدينة ومالك والشافعي وغيرهما، وإنما أوجبه فقهاء الكوفة، ثم إنها مسألة اجتهادية؛ ولذلك اختلف فيها العلماء فقوله فيها لا يوجب تكفيرًا ولا تفسيقًا. وأما الثامنة عشرة وهي انفراده بالأقوال الشاذة, فلم يزل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على نحو من ذلك, ينفرد الواحد منهم بالقول ويخالفه فيه الباقون؛ وهذا علي بن أبي طالب في مسألة بيع أم الولد على مثل ذلك. وفي الفرائض عدة مسائل على هذا النحو لكثير من الصحابة. وأما التاسعة عشرة وهي قولهم: إنه كان غادرًا إلى آخر ما قرروه, فنقول: أما الكتاب الذي كان إلى عامله بمصر فلم يكن من عنده وقد حلف على ذلك لهم، وقد تقدم ذكر ذلك في فصل مقتله مستوفيًا؛ وذكرنا من المتهم بالتزوير عليه؛ وقد تحققوا ذلك، وإنما غلب الهوى -أعاذنا الله منه- على العقول حتى ضلت في قتله -رضي الله عنه. فهذا تمام القول في الاعتذار عن تلك القضايا التي نقموها على عثمان وأحسن ما يقال في الجواب عن جميع ما ذكر دعاة أهل البدع: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر عن وقوع فتنة عثمان، وأخبر أنه على الحق على ما تضمنه حديث كعب بن عجرة في فصل فضائله في ذكر شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه على الحق. وفي رواية: أنه على الهدى, خرجه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح، وأخبر أنه يقتل ظلمًا على ما تضمنه حديث ابن عمر في فصل مقتله من حديث الترمذي, وللبغوي وأمر -صلى الله عليه وسلم- باتباعه عند ثوران الفتنة على ما تضمنه حديث مرة بن كعب من حديث أبي حاتم وأحمد؛ وتقدم في ذكره في فصل فضائله, ومن شهد له النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه على الحق وأنه يقتل ظلمًا وأمر باتباعه كيف يتطرق إلى الوهم أنه على باطل?! ثم ورد في الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبره أن الله يقمصه بقميص وأن المنافقين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 يريدونه على خلعه؛ وأمره أن لا يخلعه، وأكد عليه الأمر بأن لا يخلعه. وفي بعض الطرق أنه توعده على خلعه وأمره بالصبر -على ما تقدم تقريره في خصائصه- فامتثل أمره وصبر على ما ابتلي به. وهذا من أدل دليل على أنه كان على الحق؛ وماذا بعد الحق إلا الضلال?! فمن خالفه يكون على الباطل. كيف لا وقد وصف -صلى الله عليه وسلم- الذين أرادوا خلعه بالنفاق فعلم بالضرورة أن كل ما ورد عنه مما يوجب الطعن عليه دائر بين مفتر عليه ومختلق وبين محمول على تقدير صحته على أحسن التأويلات ليكون معه على الحق تصديقًا لخبر النبوة المقطوع بصدقه. هذا ما علم من سابقته وكثرة إنفاقه في سبيل الله وشرف منزله بالصهارة الثابتة له في ابنتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعظم مكانته في الدين والصفات الجميلة والمآثر الحميدة على ما تضمنه فصل مناقبه، فكيف يتوهم فيه شيء مما ادعاه أهل الأهواء والبدع؟! وأما كلفه1 بأقاربه وصلته إياهم وحبه الخير لهم فتلك صفة جبلة لم يودعها الله -عز وجل- إلا في خيار خلقه، وقد كان صلى الله عليه وسلم على مثل ذلك في بني هاشم على ما سنبينه في مناقب بني هاشم وقريش إن شاء الله تعالى، وذلك محمود فيما لم يؤد إلى معصية, ولم يتحقق في شيء مما أتاه عثمان معصية بل له من المحامل الجلية الطاهرة ما يمنع من اعتقاد الحرمة بل الكراهة. غاية ما في الباب أنه ترك الأولى وما هو الأفضل اللائق به مما كان عليه الشيخان2، ولعله اعتقد أنه ما لا يشبه الأفضل في زمانه وعصره فلكل عصر حكم. وعلى الجملة فالذي يجب اعتقاده ولا يحل خلافه أن شيئا مما يسنه عثمان لم يخرج فيه عن الحق ولا عن الهدى تصديقا لشهادة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وإن كان في شيء من ذلك له هوى فهو هوى بهدى من الله -عز وجل- وقد وسع الله تعالى في ذلك, فشهده قوله تعالى: {وَمَنْ   1 شدة حبه المتجلي في إحسانه إليهم وحرصه على نفعهم، ولكنه -رضي الله عنه- لم يجانب الحق في ذلك. 2 أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} فدل على أن ثم هوى بهدى من الله، وهوى عثمان منه بدليل شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه على الهدى وأنه على الحق وأنه مظلوم، وأمر باتباعه على ما قررناه, والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 الفصل الثاني عشر: في ذكر ولده وكان له من الولد ستة عشر ولدًا: تسعة ذكور وسبع إناث. ذكر الذكور: عبد الله ويعرف بالأصغر: أمه رقية بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هلك صغيرًا وقيل: بلغ ستسنين ونقره ديك في عينه فمرض فمات، وعبد الله الأكبر: أمه فاختة بنت غزوان، وعمرو: وكان أسنهم وأشرفهم عقبًا وتوفي بمنى، وأبان: شهد الجمل مع عائشة وعقبه كثير، وخالد وعمر وله عقب أيضًا: أمهم بنت جندب بن الأزد، وسعيد والوليد وأمهما فاطمة بنت الوليد, وعبد الملك: أمه أم البنين بنت عيينة بن حصن, هلك غلامًا. ذكر الإناث: مريم أخت عمرو لأمه، وأم سعيد أخت سعيد لأمه، وعائشة وأم أبان وأم عمرو: أمهن رملة بنت شيبة بن ربيعة، ومريم: أمها نائلة بنت الفرافصة, وأم البنين: أمها أم ولد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 الباب الرابع: في مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الفصل الأول: في ذكر نسبه ... الباب الرابع: في مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وفيه اثنا عشر فصلا: الأول في نسبه. الثاني في اسمه وكنيته. الثالث في صفته. الرابع في إسلامه. الخامس في هجرته. السادس في خصائصه. السابع في أفضليته. الثامن في الشهادة له بالجنة. التاسع في فضائله. العاشر في خلافته. الحادي عشر في مقتله. الثاني عشر في ولده. الفصل الأول: في ذكر نسبه تقدم ذكر آبائه في ذكر الشجرة في أنساب العشرة وهو أقربهم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نسبا، يجتمع مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عبد المطلب الجد الأدنى، وينسب إلى هاشم فيقال: القرشي الهاشمي ابن عم رسول الله لأبويه، أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف. قال أبو عمر وغيره: وهي أول هاشمية ولدت هاشميا, أسلمت وتوفيت مسلمة بالمدينة وشهدها النبي -صلى الله عليه وسلم- وتولى دفنها وأشعرها قميصه واضطجع في قبرها، ذكره الخجندي. وذكر السلفي أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى عليها وتمرغ في قبرها. وذكر الطائي في الأربعين أنه -صلى الله عليه وسلم- نزع قميصه وألبسها إياه وتولى دفنها واضطجع في قبرها, فلما سوى عليها التراب سئل عن ذلك فقال: "ألبستها لتلبس من ثياب أهل الجنة, واضطجعت معها في قبرها لأخفف عنها من ضغطة القبر، إنها كانت أحسن خلق الله صنيعًا إليَّ بعد أبي طالب" وبكى وقال: "جزاك الله من أم خيرا، فلقد كنت خير أم" قال: وكانت ربت النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: وولدت لأبي طالب طالبا وعقيلا وجعفرا وعليا وأم هانئ واسمها فاختة وجمانة. قال ابن قتيبة وأبو عمر: وكان علي أصغر ولد أبي طالب, كان أصغر من جعفر بعشر سنين وكان جعفر أصغر من عقيل بعشر سنين وكان عقيل أصغر من طالب بعشر سنين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 الفصل الثاني: في اسمه وكنيته ولم يزل اسمه في الجاهلية عليًّا وكان يكنى أبا الحسن, وسماه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صديقًا. عن ابن أبي ليلى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الصديقون ثلاثة: حبيب بن مري النجار مؤمن آل ياسين الذي قال: يا قوم اتبعوا المرسلين, وحزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله, وعلي بن أبي طالب الثالث وهو أفضلهم" خرجه أحمد في المناقب، وكناه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأبي الريحانتين. عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي بن أبي طالب: "سلام عليك يا أبا الريحانتين، فعن قليل يذهب ركناك والله خليفتي عليك" فلما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال علي: هذا أحد الركنين الذي قال صلى الله عليه وسلم, فلما ماتت فاطمة قال: هذا الركن الآخر الذي قال صلى الله عليه وسلم. خرجه أحمد في المناقب, وكناه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيضا أبا تراب. وعن سهل بن سعد أن رجلا جاءه فقال: هذا فلان أمير من أمراء المدينة يدعوك لتسب عليا على المنبر, قال: أقول ماذا? قال: تقول له أبا تراب, قال: فضحك سهل وقال: والله ما سماه إياه إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والله ما كان لعلي اسم أحب إليه منه. دخل علي على فاطمة ثم خرج؛ فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاطمة فقال: "أين ابن عمك؟ " قالت: هو ذا مضطجع في المسجد، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- فوجد رداءه قد سقط عن ظهره، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمسح التراب عن ظهره ويقول: "اجلس أبا تراب" ما كان اسم أحب إليه منه، ما سماه إياه إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم. أخرجاه وأبو حاتم واللفظ له. وقال البخاري بعد قوله فوجد رداءه قد سقط عن ظهره: وخلص التراب إلى ظهره فجلس يمسح عن ظهره ويقول: "اجلس أبا تراب" مرتين. وعنه أنه قال: استعمل علي على المدينة رجلًا من آل مروان، قال: فدعا سهل بن سعد فأمره أن يشتم عليا فأبى, فقال: أما إذ أبيت فقل: لعن الله أبا التراب، فقال سهل: ما كان لعلي اسم أحب إليه من أبي التراب, إنه كان يفرح إذا دعي به, فقال له: أخبرنا عن قصته لم سمي أبا تراب? قال: جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيت فاطمة فلم يجد عليا في البيت فقال: "أين ابن عمك?" فقالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج ولم يقم عندي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لإنسان: "انظر أين هو?" فقال: يا رسول الله هو في المسجد راقد. فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مضطجع قد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 سقط رداؤه عن شقه وأصابه تراب، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمسحه ويقول: "قم أبا تراب، قم أبا تراب" أخرجاه. وعن عمار بن ياسر قال: كنت أنا وعلي رفيقين في غزاة ذي العشيرة، فلما نزلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قأقام بها رأينا ناسا من بني مدلج يعملون في عين لهم في نخل، فقال علي: يا أبا اليقظان, هل لك أن تأتي هؤلاء فتنظر كيف يعملون? فجئناهم، فنظرنا إلى عملهم ساعة ثم غشينا النوم، فانطلقت أنا وعلي فاضطجعنا في صور من النخل في دقع من التراب فنمنا، فوالله ما أنبهنا إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحركنا برجله وقد تتربنا من تلك الدقعاء، فيومئذ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي: "يا أبا تراب" لما رأى عليه من التراب؛ قال: "ألا أحدثكما بأشقى الناس?" فقلنا: بلى يا رسول الله قال: "أحيمر ثمود الذي عقر الناقة, والذي يضربك في هذه -يعني قرنه- حتى تبتل منه هذه, يعني لحيته" خرجه أحمد. "شرح" الصور بفتح الصاد وتسكين الواو: النخل المجتمع الصغار, والدقعاء: التراب، ودقع بالكسر أي: لصق بالتراب, وأحيمر: تصغير أحمر, وهو لقب قدار بن سالف عاقر ناقة صالح -عليه السلام. قال الخجندي: وكان يكنى أبا قصم، ويلقب بيعسوب الأمة وبالصديق الأكبر. وعن معاذة العدوية قالت: سمعت عليا على المنبر -منبر البصرة- يقول: أنا الصديق الأكبر. خرجه ابن قتيبة. وعن علي أنه كان يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر. خرجه القلعي. وعن أبي ذر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لعلي: "أنت الصديق الأكبر، وأنت الفاروق الذي تفرق بين الحق والباطل". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 وفي رواية: "وأنت يعسوب الدين" خرجهما الحاكمي. "شرح" يعسوب الدين: سيده ورئيسه, ومنه الحديث الآخر: "هذا يعسوب قريش" وأصله فحل النحل، ويلقب أيضا ببيضة البلد، وبالأمين، وبالشريف، وبالهادي، وبالمهتدي، وذي الأذن الواعي, وقد جاء في الصحيح من شعره: أنا الذي سمتني أمي حيدره وسيأتي في الخصائص -إن شاء الله تعالى- وحيدرة: اسم الأسد وكانت فاطمة أمه لما ولدته سمته باسم أبيها، فلما قدم أبو طالب كره الاسم، فسماه عليا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 الفصل الثالث: في صفته وكان رضي الله عنه ربعة من الرجال، أدعج العينين عظيمهما, حسن الوجه كأنه قمر ليلة البدر، عظيم البطن. وعن أبي سعيد التيمي أنه قال: كنا نبيع الثياب على عواتقنا ونحن غلمان في السوق، فإذا رأينا عليا قد أقبل قلنا: بزرك أشكم قال علي: ما تقولون? قال: نقول: عظيم البطن قال: أجل أعلاه علم وأسلفه طعام. وكان رضي الله عنه عريض المنكبين، لمنكبه مشاش كمشاش السبع الضاري لا يبين عضده من ساعده، قد أدمج إدماجا، شثن الكفين، عظيم الكراديس، أغيد كأن عنقه إبريق فضة، أصلع ليس في رأسه شعر إلا من خلفه. وعن أبي لبيد قال: رأيت علي بن أبي طالب يتوضأ، فحسر العمامة عن رأسه، فرأيت رأسه مثل راحتي عليه مثل خط الأصابع من الشعر. خرجه ابن الضحاك. وعن قيس بن عباد قال: قدمت المدينة أطلب العلم, فرأيت رجلا عليه بردان وله ضفيرتان، وقد وضع يده على عاتق عمر، فقلت: من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 هذا? قالوا: علي. خرجه ابن الضحاك أيضا، ولا تضاد بينهما، إذ يكون الشعر انحسر عن وسط رأسه وكان في جوانبه شعر مسترسل، جمع فظفر باثنتين، وكان كثير شعر اللحية؛ لم يصفه أحد بالخضاب إلا سوادة بن حنظلة. وروي أنه كان أصفر اللحية، والمشهور أنه كان أبيضها، ويشبه أن يكون خضب مرة ثم ترك. وعن الشعبي أنه قال: رأيت علي بن أبي طالب ورأسه ولحيته قطنة بيضاء, خرجه ابن الضحاك. وكان إذا مشى تكفأ، وإذا أمسك بذراع رجل أمسك بنفسه فلم يستطع أن يتنفس، وهو قريب إلى السمن، شديد الساعد واليد، وإذا مشى إلى الحرب هرول، ثبت الجنان، قوي ما صارع أحدًا قط إلا صرعه، شجاع منصور على من لاقاه. "شرح" ربعة أي: مربوع الخلق لا طويل ولا قصير؛ وجمعه: ربعات بالتحريك وهو شاذ؛ لأن فعلة لا تحرك في الجمع إذا كان صفة وإنما تحرك إذا كان اسما ولم يكن موضع العين واو أو ياء, والدعج: شدة سواد العين مع سعتها، يقال: عين دعجاء، والأدعج من الرجال: الأسود, والأشكم بالعجمية: البطن, وبزرك بضم الباء والزاي وسكون الراء: عظيم, شثن الكفين بالتسكين: عظيمهما، تقول منه: شثنت كفه شثنا بالتحريك: إذا خشنت وغلظت, الأغيد: الوسنان المائل العنق والغيد: النعومة، وامرأة غيداء وغادة أيضا: ناعمة بينة الغيد, المشاش: رءوس العظام اللينة، الواحد: مشاشة, ودمج الشيء دموجًا: إذا دخل في الشيء واستحكم فيه، وكذلك اندمج وادّمج بتشديد الدال، يريد -والله أعلم- أن عظمي عضده وساعده للينهما قد اندمجا، وهكذا هو في صفة الأسد, والضاري: المتعود الصيد، والضرو من أولاد الكلاب والأنثى ضروة, تكفأ أي: تمايل في مشيته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 الفصل الرابع: في إسلامه "ذكر سنه يوم أسلم" عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن أنه بلغه أن علي بن أبي طالب والزبير أسلما, وهما ابنا ثماني سنين. وقال ابن إسحاق: وأسلم علي ابن عشرة. وعن الحسن: أسلم علي وهو ابن ذؤابة, حكاه الخجندي. وعن ابن عمر: أنه أسلم وهو ابن ثلاث عشرة, خرجه القلعي. وعن أبي الحجاج مجاهد بن جبر قال: كان من نعمة الله على علي بن أبي طالب، ومما أراد الله به أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للعباس عم النبي -صلى الله عليه وسلم: "يا عباس، إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه فلنخفف من عياله فآخذ من بنيه رجلا وتأخذ رجلا فنكفيهما عنه" فقال العباس: نعم. فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا له: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه, فقال لهم أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما, وفي رواية: إذا تركتما لي عقيلا وطالبا فاصنعا ما شئتما, فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليا فضمه إليه، فلم يزل علي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بعثه الله نبيًّا فتابعه علي وآمن به وصدقه، ولم يزل جعفر عند العباس. ذكر أنه أول من أسلم: قد تقدم في نظير هذا الذكر من فصل إسلام أبي بكر طرف صالح من ذلك، وبيان الخلاف فيه, وذكر المختلفين. عن عمر قال: كنت أنا وأبو عبيدة وأبو بكر وجماعة من أصحابه, إذ ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منكب علي فقال: "يا علي, أنت أول المؤمنين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 إيمانا، وأول المسلمين إسلاما، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى" خرجه ابن السمان. وعن زيد بن أرقم قال: كان أول من أسلم علي بن أبي طالب. خرجه أحمد والترمذي وصححه. عن ابن عباس قال: كان علي أول من أسلم بعد خديجة، قال ابن عمر: هذا حديث صحيح الإسناد لا مطعن في رواته لأحد، وهو يعارض ما تقدم عن ابن عباس في أبي بكر، والصحيح أن أبا بكر أول من أظهر الإسلام كما تقدم ذكره في بابه، وبه قال مجاهد ومن حكينا قوله من العلماء ثمة. وعن معاذة العدوية قالت: سمعت عليًّا على المنبر -منبر البصرة- يقول: أنا الصديق الأكبر، آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر وأسلمت قبل أن يسلم أبو بكر. خرجه ابن قتيبة في المعارف. وعن أبي ذر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لعلي: "أنت أول من آمن بي, وصدق" خرجه الحاكمي. وعن سلمان أنه قال: "أول هذه الأمة ورودًا على نبيها -صلى الله عليه وسلم- أولها إسلامًا علي بن أبي طالب" وقد روي مرفوعا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ولفظه: "أول هذه الأمة ورودا على الحوض ... " الحديث. وفي رواية: "أولكم ورودا على الحوض أولكم إسلاما علي بن أبي طالب" خرجه القلعي وغيره. وعن ابن عباس قال: السبَّاق ثلاثة: يوشع بن نون إلى موسى, وصاحب ياسين إلى عيسى، وعلي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم. خرجه ابن الضحاك في الآحاد والمثاني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 ذكر أنه أول من صلى: عن ابن عباس أنه قال: لعلي أربع خصال ليست لأحد غيره, وذكر منها: أنه أول عربي وعجمي صلى مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم. خرجه أبو عمر وخرج الترمذي منه عن ابن عباس: أول من صلى علي -رضي الله عنه. وخرجه أبو القاسم في الموافقات كذلك. وعن أنس قال: استنبئ النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين وصلى علي يوم الثلاث. خرجه الترمذي وأبو عمر, وفي بعض طرقه: بُعِثَ النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين, وأسلم علي يوم الثلاث. خرجه البغوي في معجمه. وعن الحكم بن عيينة قال: خديجة أول من صدق، وعلي أول من صلى إلى القبلة. خرجه الحافظ السلفي. وعن رافع قال: صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين, وصلت خديجة آخر يوم الاثنين, وصلى علي يوم الثلاث من الغد قبل أن يصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحد سبع سنين وأشهرا. خرجه القلعي. وعنه قال: صليت قبل أن يصلي الناس بسبع سنين. وفي رواية: أسلمت قبل أن يسلم الناس بسبع سنين. وفي رواية: صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث سنين قبل أن يصلي معه أحد من الناس. خرجهن أحمد في المناقب. وعنه أنه كان يقول: أنا عبد الله وأخو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا الصديق الأكبر, ولقد صليت قبل الناس بسبع سنين. خرجهن الخلعي. وعن علي قال: عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة خمس سنين. خرجه أبو عمر. وعن عفيف الكندي قال: كنت امرأ تاجرا فقدمت الحج فأتيت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 العباس بن عبد المطلب لأبتاع منه بعض التجارة وكان امرأ تاجرا، قال: فوالله إني لعنده بمنى إذ خرج رجل من خباء قريب منه, فنظر إلى السماء فلما رآها قام يصلي, ثم خرجت امرأة من ذلك الخباء فقامت خلفه فصلت, ثم خرج غلام حين راهق الحلم فقام معه يصلي، قال: فقلت للعباس: يا عباس ما هذا? قال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي، قال: قلت: من هذه المرأة? قال: هذه امرأته خديجة بنت خويلد، قال: فقلت: من هذا الفتى? قال: هذا ابن عمه علي بن أبي طالب، قال: قلت: فما الذي يصنع? قال: يصلي وهو يزعم أنه نبي ولم يتبعه أحد على أمره إلا امرأته وابن عمه هذا الفتى, وهو يزعم أنه سيفتح عليه كنوز كسرى وقيصر. قال: فكان عفيف وهو ابن الأشعث بن قيس يقول, وأسلم بعد ذلك وحسن إسلامه: لو كان الله رزقني الإسلام يومئذ, فأكون ثانيا مع علي بن أبي طالب. وعن حبة العربي قال: سمعت عليا يقول: أنا أول رجل صلى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- خرجهما أبو أحمد. وعن حبة أيضا قال: رأيت عليا ضحك ضحكا أكثر منه حتى بدت نواجذه ثم قال: ذكرت قول أبي طالب ظهر علينا أبو طالب وأنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نصلي ببطن نخلة قال: ماذا تصنعان يابن أخي? فدعاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الإسلام فقال: ما بالذي تصنعان أو الذي تقولان بأس ولكن والله لا تعلوني استي أبدًا, وضحك تعجبًا من قول أبيه ثم قال: اللهم لا أعرف لك عبدًا من هذه الأمة عبدك قبلي غير نبيك -ثلاث مرات- لقد صليت قبل أن يصلي الناس. خرجه أحمد، وخرجه في المناقب وزاد: لقد صليت قبل أن يصلي أحد سبعًا. وحبة العربي ضعيف. قال ابن إسحاق: وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة, وخرج معه علي بن أبي طالب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 مستخفيًا من عمه أبي طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا، ثم إن أبا طالب عثر عليهما يومًا وهما يصليان فقال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: يابن أخي ما هذا أراك تدين به? قال: "أي عم, هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم" أو كما قال صلى الله عليه وسلم: "وبعثني الله به رسولا إلى العباد, وأنت يا عم أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى، وأحق من أجابني إليه وأعانني عليه" أو كما قال: قال: فقال أبو طالب: أي ابن أخي, إني والله لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه, ولكن والله لا يخلص إليك شيء تكرهه ما بقيت. وذكروا أنه قال لعلي: أي بني ما هذا الدين الذي أنت عليه? قال: يا أبت آمنت برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصدقت بما جاء به، وصليت معه لله، واتبعته فزعموا أنه قال: أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه. خرجه ابن إسحاق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 الفصل الخامس: في هجرته قال ابن إسحاق: وأقام علي بمكة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاث ليالٍ وأيامها حتى أدى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الودائع1 التي كانت عنده للناس, حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنزل معه على كلثوم بن زهدم, ولم يقم بقباء إلا ليلة أو ليلتين.   1 وليملأ القارئ نفسه تقديرا للأمانة على ضوء تأديته -صلى الله عليه وسلم- لودائع من أخرجوه منوطنه، ولقد كانوا -ولا ريب- يعلمون هذه الحقيقة فيه -صلى الله عليه وسلم- ولهذا ائتمنوه مع دعوته التي حاربوها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 الفصل السادس: في خصائصه ذكر اختصاصه بأنه أول من أسلم وأول من صلى: تقدم أحاديث هذا الذكر في الفصل قبله. ذكر أنه أول من يجثو للخصومة يوم القيامة: عن علي قال: أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الرحمن يوم القيامة. قال قيس: فيهم1 نزلت: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} 2 قال: هم الذين تبارزوا يوم بدر؛ علي وحمزة وعبيدة بن الحارث وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. وفي رواية أن عليا قال: فينا نزلت هذه الآية, وفي مبارزتنا يوم بدر: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} خرجه البخاري. ذكر أنه أول من يقرع باب الجنة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم: عن علي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا علي, إنك أول من يقرع باب الجنة فتدخلها بغير حساب بعدي" خرجه الإمام علي بن موسى الرضا في مسنده. ذكر اختصاصه بأحبية الله تعالى له: عن أنس بن مالك قال: كان عند النبي -صلى الله عليه وسلم- طير فقال: "اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطير" فجاء علي بن أبي طالب فأكل معه. خرجه الترمذي وقال: غريب، والبغوي في المصابيح في الحسان، وخرجه الحربي وزاد بعد قوله: أهدي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- طير وكان مما يعجبه أكله, وزاد بعد قوله: فجاء علي بن أبي طالب فقال: استأذن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: ما عليه إذًا وكنت أحب أن يكون رجلا من الأنصار. وخرجه عمر بن شاهين ولم يذكر زيادة الحربي، وقال بعد قوله: فجاء علي فرددته، ثم جاء فرددته، فدخل في الثالثة أو في الرابعة فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "ما حبسك عني؟ أو ما أبطأ بك عني يا علي؟ " قال: جئت فردني   1 أي: في علي ومن معه, وخصومهم المذكورين في المبارزة الآتية. 2 من سورة الحج الآية 19. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 أنس، ثم جئت فردني أنس، قال: "يا أنس، ما حملك على ما صنعت?" قال: رجوت أن يكون رجلا من الأنصار خيرا من علي أو أفضل من علي. وخرجه النجار عنه وقال: قدمت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- طيرًا فسعى وأكل لقمة وقال: "اللهم ائتني بأحب الخلق إليك وإلي" فأتى علي فضرب الباب، فقلت: من أنت? قال: علي، قلت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حاجة ثم أكل لقمة وقال مثل الأولى فضرب علي، فقلت: من أنت? قال: علي، قلت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حاجة، ثم أكل لقمة وقال مثل ذلك، قال: فضرب علي ورفع صوته، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا أنس, افتح الباب" قال: فدخل فلما رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- تبسم ثم قال: "الحمد لله الذي عجلك؛ فإني أدعو في كل لقمة أن يأتيني الله بأحب الخلق إليه وإلي, فكنت أنت" قال: فوالذي بعثك بالحق نبيًّا, إني لأضرب الباب ثلاث مرات ويردني أنس. قال: فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لم رددته?" قال: كنت أحب معه1 رجلا من الأنصار، فتبسم النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "ما يلام الرجل على قومه". وعن سفينة قال: أهدت امرأة من الأنصار إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طيرين بين رغيفين فقدمت إليه الطيرين فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم ائتني بأحب خلقك إليك وإلى رسولك" ثم ذكر معنى حديث البخاري وقال في آخره: فأكل مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الطيرين حتى فنيا. ذكر اختصاصه بأحبية النبي -صلى الله عليه وسلم: عن عائشة، سئلت: أي الناس أحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قالت: فاطمة, فقيل: من الرجال؟ قالت: زوجها، إن كان ما علمت صوامًا قوامًا. خرجه الترمذي وقال: حسن غريب.   1 مع طلبه -صلى الله عليه وسلم- إجابة له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 وعنها, وقد ذكر عندها علي فقالت: ما رأيت رجلا أحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منه, ولا امرأة أحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من امرأته. خرجه المخلص والحافظ الدمشقي. وعن معاذية الغفارية قالت: كان لي أنس بالنبي -صلى الله عليه وسلم- أخرج معه في الأسفار وأقوم على المرضى وأداوي الجرحى, فدخلت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت عائشة وعلي خارج من عنده, فسمعته يقول: "يا عائشة, إن هذا أحب الرجال إلي, وأكرمهم علي, فاعرفي له حقه وأكرمي مثواه" خرجه الخجندي. وعن مجمع قال: دخلت مع أبي على عائشة, فسألتها عن مسراها يوم الجمل فقالت: كان قدرًا من الله، وسألتها عن علي فقالت: سألت عن أحب الناس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وزوج ابنة أحب الناس كان إليه. وعن معاوية بن ثعلبة قال: جاء رجل إلى أبي ذر وهو في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا أبا ذر, ألا تخبرني بأحب الناس إليك, فإني أعرف أن أحب الناس إليك أحبهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: إي1 ورب الكعبة, أحبهم إلي أحبهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو الشيخ, وأشار إلى علي. خرجه الملاء. وقد تقدم لأبي بكر مثل هذا في المتفق عليه, فيحمل هذا على أن عليا أحب الناس إليه من أهل بيته وعائشة أحب إليه مطلقًا جمعًا بين الحديثين, ويؤيده ما رواه الدولابي في الذرية الطاهرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لفاطمة: "أنكحتك أحب أهل بيتي إليَّ" وخرجه عبد الرزاق ولفظه: "أنكحتك أحب أهلي إليَّ".   1 نعم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 ذكر اختصاصه بأنه من النبي -صلى الله عليه وسلم- بمنزلة الرأس من الجسد: عن البراء قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "علي مني بمنزلة رأسي من جسدي" خرجه الملاء. ذكر اختصاصه بأنه من النبي -صلى الله عليه وسلم- بمنزلة هارون من موسى: عن سعد بن أبي وقاص أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى, إلا أنه لا نبي بعدي" أخرجاه1 وأخرجه الترمذي وأبو حاتم ولم يقولا: "إلا أنه لا نبي بعدي". وعنه قال: خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليًّا في غزوة تبوك فقال: يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان? قال: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى, إلا أنه لا نبي بعدي" خرجه أحمد ومسلم وأبو حاتم. وفي رواية: "غير أنه ليس معي نبي" خرجه ابن الجراح. وعنه قال: لما نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجرف, طعن رجال من المنافقين في إمرة علي وقالوا: إنما خلفه استثقالا, فخرج علي فحمل سلاحه حتى أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجرف فقال: يا رسول الله ما تخلفت عنك في غزاة قط قبل هذه؛ قد زعم المنافقون أنك خلفتني استثقالا فقال: "كذبوا, ولكن خلفتك لما ورائي فارجع فاخلفني في أهلي، أفلا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" خرجه ابن إسحاق وخرج معناه الحافظ الدمشقي في معجمه. وعن سفيان, وقد قال له المهدي: حدثني بأحسن فضيلة عندك لعلي   1 أي: البخاري ومسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 قال: حدثني سلمة بن كهيل عن حجبة بن عدي عن علي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى, إلا أنه لا نبي بعدي" خرجه الحافظ السلفي في النسخة البغدادية. وعن أسماء بنت عميس قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم إني أقول كما قال أخي موسى: اللهم اجعل لي وزيرًا من أهلي أخي عليا, اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرًا ونذكرك كثيرًا إنك كنت بنا بصيرًا" خرجه أحمد في المناقب, والمراد بالأمر غير النبوة بذكر ما تقدم وقد تعلق بعض الرافضة بهذا الحديث في أنه الخليفة بعده؛ ولا دلالة فيه. وقد سبق الكلام مستوفيًا في شرح لفظه ومعناه في فصل خلافة أبي بكر. وعن عمر وقد سمع رجلا يسب عليا فقال: إني لأظنك من المنافقين, سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى, إلا أنه لا نبي بعدي" خرجه ابن السمان. وعنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لعلي ثلاث خصال, لوددت أن لي واحدة منهن" بينا أنا وأبو عبيدة وأبو بكر وجماعة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- منكب علي فقال: "يا علي أنت أول المؤمنين إيمانًا, وأول المسلمين إسلامًا, وأنت مني بمنزلة هارون من موسى" خرجه ابن السمان. ذكر اختصاصه بأنه من النبي -صلى الله عليه وسلم- كمنزلة النبي -صلى الله عليه وسلم- من الله -عز وجل: قال: جاء أبو بكر وعلي يزوران قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته بستة أيام, فقال علي لأبي بكر: تقدم يا خليفة رسول الله, فقال أبو بكر: ما كنت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 لأتقدم رجلًا سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "علي مني بمنزلتي من ربي" خرجه ابن السمان في الموافقة. ذكر اختصاصه بأنه أقرب الناس قرابةً من النبي -صلى الله عليه وسلم: عن الشعبي أن أبا بكر نظر إلى علي بن أبي طالب فقال: من سره أن ينظر إلى أقرب الناس قرابة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأعظمهم عنه غنى وأحظهم عنده منزلة, فلينظر وأشار إلى علي بن أبي طالب. خرجه ابن السمان. ذكر إخبار جبريل عن الله بأن عليا من النبي -صلى الله عليه وسلم- بمنزلة هارون من موسى: عن أسماء بنت عميس قالت: هبط جبريل -عليه السلام- على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد, إن ربك يقرئك السلام ويقول لك: علي منك بمنزلة هارون من موسى لكن لا نبي بعدك. خرجه الإمام علي بن موسى. ذكر اختصاصه بأن له من الأجر ومن المغنم مثل ما للنبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك, ولم يحضرها: عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي يوم غزوة تبوك: "أما ترضى أن يكون لك من الأجر مثل ما لي, ولك من المغنم مثل ما لي?" خرجه الخلعي. ذكر اخصاصه بأنه مثل النبي -صلى الله عليه وسلم: عن المطلب بن عبد الله أبي حيطب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لوفد ثقيف حين جاءوه: "لتسلمن أو لأبعثن عليكم رجلا مني -أو قال: مثل نفسي- فليضربن أعناقكم وليستبين ذراريكم وليأخذن أموالكم" قال عمر: فوالله ما تمنيت الإمارة إلا يومئذ، فجعلت أنصب صدري رجاء أن يقول: هو هذا، قال: فالتفت إلى علي فأخذه بيده وقال: "هو هذا". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 خرجه عبد الرزاق في جامعه, وأبو عمر وابن السمان. وعن زيد بن نفيع قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لينتهين بنور ربيعة, أو لأبعثن إليهم رجلا كنفسي يمضي فيهم أمري, يقتل المقاتلة ويسبي الذرية" قال: فقال أبو ذر: فما راعني إلا برد كف عمر في حجرتي من خلفي فقال: من تراه يعني? قلت: ما يعنيك ولكن يعني خاصف النعل, يعني عليًا. خرجه أحمد في المناقب. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي إلا وله نظير في أمته, وعلي نظيري" خرجه الخلعي, وقد تقدم مستوعبًا في مناقب الأعداد. ذكر اختصاص علي بأنه قسم النبي -صلى الله عليه وسلم- في نور كان عليه قبل خلق الخلق: عن سلمان قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كنت أنا وعلي نورًا بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام, فلما خلق الله آدم قسم ذلك النور جزأين, فجزء أنا وجزء علي" خرجه أحمد في المناقب. ذكر اختصاصه بأن كفه مثل كف النبي -صلى الله عليه وسلم: عن حبشي بن جنادة قال: كنت جالسًا عند أبي بكر فقال: من كانت له عدة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم? فقام رجل فقال: يا خليفة رسول الله وعدني بثلاث حثيات من تمر، قال: فقال: أرسلوا إلى علي فقال: يا أبا الحسن إن هذا يزعم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعده بثلاث حثيات من تمر فاحثها له قال: فحثاها, قال أبو بكر: عدوها فوجدوا في كل حثية ستين تمرة لا تزيد واحدة على الأخرى فقال أبو بكر: صدق الله ورسوله، قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة الهجرة ونحن خارجون من الغار نريد المدينة: "يا أبا بكر, كفي وكف علي في العدد سواء" خرجه ابن السمان في الموافقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 ذكر اختصاصه بصلاة الملائكة على النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليه؛ لكونهما كانا يصليان قبل الناس: عن أبي أيوب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لقصد صلت الملائكة عليَّ وعلى علي؛ لأنا كنا نصلي ليس معنا أحد يصلي غيرنا" خرجه أبو الحسن الخلعي. ذكر اختصاصه بأنه والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقبض الله أرواحهما بمشيئة دون ملك الموت: عن أبي ذر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لما أسرى بي, مررت بملك جالس على سرير من نور وإحدى رجليه في المشرق والأخرى في المغرب، وبين يديه لوح ينظر فيه، والدنيا كلها بين عينيه، والخلق بين ركبتيه، ويده تبلغ المشرق والمغرب، فقلت: يا جبريل من هذا? قال: هذا عزرائيل تقدم فسلم، فتقدمت وسلمت عليه، فقال: وعليك السلام يا أحمد, ما فعل ابن عمك علي? فقلت: وهل تعرف ابن عمي عليا؟ قال: وكيف لا أعرفه وقد وكلني الله بقبض أرواح الخلائق ما خلا روحك وروح ابن عمك علي بن أبي طالب, فإن الله يتوفا 1 كما بمشيئته" خرجه الملاء في سيرته. ذكر اختصاصه أن من آذاه: فقد آذى النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن أبغضه فقد أبغضه، ومن سبه فقد سبه، ومن أحبه فقد أحبه, ومن تولاه فقد تولاه، ومن عاداه فقد عاداه، ومن أطاعه فقد أطاعه، ومن عصاه فقد عصاه. عن عمر بن شاس الأسلمي وكان من أصحاب الحديبية قال: خرجت مع علي إلى اليمن فجفاني في سفري حتى وجدت في نفسي عليه   1 الكل يتوفى بمشيئة الله تعالى، ولكن المراد يتوافهما بدون ملك الموت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 فلما قدمت أظهرت شكايته في المسجد حتى بلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ناس من أصحابه, فلما رآني أبدأني عينيه يقول: "حدد إلي النظر" حتى إذا جلست قال: "يا عمر, والله لقد آذيتني" قلت: أعوذ بالله أن أوذيك يا رسول الله قال: "بلى من آذى عليًّا فقد آذاني" خرجه أحمد وخرجه أبو حاتم مختصرًا. وعنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من أحب عليا فقد أحبني, ومن أبغض عليا فقد أبغضني, ومن آذى عليا فقد آذاني, ومن آذاني فقد آذى الله" خرجه أبو عمر. وعن أم سلمة قالت: أشهد أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من أحب عليا فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله, ومن أبغض عليا فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله -عز وجل" خرجه المخلص وخرجه الحاكمي عن عمار بن ياسر, وزاد في أوله: "من تولاه فقد تولاني ومن تولاني فقد تولى الله, ومن أحبه ... " الحديث. وعن ابن عباس قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى علي بن أبي طالب فقال له: "أنت سيد في الدنيا سيد في الآخرة, من أحبك فقد أحبني وحبيبك حبيب الله, وعدوك عدوي وعدوي عدو الله، الويل لمن أبغضك" خرجه أحمد في المناقب. وعن ابن عباس أنه مر بعدما حجب بصره بمجلس من مجالس قريش وهم يسبون عليا فقال لقائده: ما سمعت هؤلاء يقولون? قال: سبوا عليا قال: فردني إليهم فرده, قال: أيكم الساب الله? قالوا: سبحان الله من سب الله فقد أشرك قال: أيكم الساب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: سبحان الله من سب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد كفر، قال: فأيكم الساب لعلي? قالوا: أما هذا فقد كان, قال: فأنا أشهد بالله لسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من سب عليا فقد سبني, ومن سبني فقد سب الله, ومن سب الله -عز وجل- أكبه الله على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 منخره" ثم تولى عنهم فقال لقائده: ما سمعتهم يقولون? قال: ما قالوا شيئًا, قال: فكيف رأيت وجوههم حيث قلت ما قلت? قال: نظروا إليك بأعين محمرة ... نظر التيوس إلى شفار الجازر قال: زدني فداك أبي. جزر الحواجب ناكسو أذقانهم ... نظر الذليل إلى العزيز القاهر قال: زدني فداك أبي, قال: ما عندي غيرهما, قال: لكن عندي: أحياؤهم حزنى على أمواتهم ... والميتون مسبة للغابر خرجه أبو عبد الله الملاء. وعن أبي عبد الله الحدي قال: دخلت على أم سلمة فقالت لي: أتسب رسول الله -صلى الله عليه وسلم? فقلت: معاذ الله, قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من سب عليا فقد سبني" خرجه أحمد. وعن أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي: "من أطاعك فقد أطاعني, ومن أطاعني أطاع الله, ومن عصاك عصاني" خرجه أبو بكر الإسماعيلي في معجمه, وخرجه الخجندي بزيادة ولفظه: "من أطاعني فقد أطاع الله, ومن أطاعك فقد أطاعني, ومن عصاني فقد عصى الله, ومن عصاك فقد عصاني". وعنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يا علي من فارقني فقد فارق الله, ومن فارقك فقد فارقني" خرجه أحمد في المناقب والنقاش. وعن عروة بن الزبير أن رجلا وقع في علي بن أبي طالب بمحضر من عمر فقال له عمر: أتعرف صاحب هذا القبر? هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب؛ وعلي بن أبي طالب بن عبد المطلب، لا تذكر عليا إلا بخير فإنك إن تنقصه آذيت صاحب هذا في قبره -صلى الله عليه وسلم. خرجه أحمد في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 المناقب وابن السمان في الموافقة. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي: "حبيبك حبيبي وحبيبي حبيب الله, وعدوك عدوي وعدوي عدو الله, والويل لمن أبغضك بعدي" خرجه الحاكمي. ذكر اختصاصه بإخاء النبي -صلى الله عليه وسلم: عن ابن عمر قال: آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه, فجاء علي تدمع عيناه قال: يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم تؤاخِ بيني وبين أحد! قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنت أخي في الدنيا والآخرة" خرجه الترمذي وقال: غريب, والبغوي في المصابيح في الحسان. وعنه قال: آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه حتى بقي علي, وكان رجلا شجاعا ماضيًا على أمره إذا أراد شيئا فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن أكون أخاك?" قال: بلى يا رسول رضيت، قال: "فأنت أخي في الدنيا والآخرة" خرجه الخلعي. وعن علي أنه كان يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله, لا يقوله أحد غيري إلا كذب. خرجه أبو عمر وخرجه الخلعي وزاد: وأنا الصديق الأكبر, ولقد صليت قبل الناس بسبع سنين. وعن علي قال: طلبني النبي -صلى الله عليه وسلم- فوجدني في حائط نائما فضربني برجله وقال: "قم فوالله لأرضينك، أنت أخي وأبو ولدي, تقاتل على سنتي, من مات على عهدي فهو في كنز الجنة, ومن مات على عهدك فقد قضى نحبه, ومن مات محبك بعد موتك ختم الله له بالأمن والإيمان ما طلعت شمس أو غربت" خرجه أحمد في المناقب. وعن علي قال: جمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو دعا بني عبد المطلب, فهم رهط كلهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق قال: فصنع لهم مدا من طعام فأكلوا حتى شبعوا, قال: وبقي الطعام كما هو كأن لم يمس, ثم دعا بغمر فشربوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 حتى رووا وبقي الشراب كأنه لم يمس أو لم يشربوا فقال: "يا بني عبد المطلب, إني بعثت إليكم خاصة وإلى الناس عامة وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم, فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي?" فلم يقم إليه أحد، قال: فقمت وكنت أصغر القوم قال: "اجلس" ثم قال ذلك ثلاث مرات كل ذلك أقوم إليه فيقول: "اجلس" حتى كان في الثالثة, فضرب بيده على يدي. خرجه أحمد في المناقب. وفي طريق آخر قال: لما نزل قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجالا من أهله, إن كان الرجل منهم لآكلًا جذعة وإن كان لشاربا فرقا, فقدم إليهم رجلا فأكلوا حتى شبعوا فقال لهم: "من يضمن عني ديني ومواعيدي, ويكون معي في الجنة, ويكون خليفتي في أهلي?" فعرض ذلك على أهل بيته فقال: أنا, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تقضي ديني وتنجز مواعيدي" خرجه أحمد في المناقب. وعن ابن عباس, وقد سئل عن علي قال: كان أشدنا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- لزومًا وأولنا به لحوقًا, خرجه ابن الضحاك. وعن عمر بن عبد الله عن أبيه عن جده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- آخى بين الناس وترك عليا حتى بقي آخرهم لا يرى له أخًا فقال: يا رسول الله آخيت بين الناس وتركتني?! قال: "ولم تراني تركتك? إنما تركتك لنفسي، أنت أخي وأنا أخوك فإني أذاكرك قل: أنا عبد الله وأخو رسوله, لا يدعيها بعدي إلا كذاب" خرجه أحمد في المناقب. وعن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "على باب الجنة مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله, علي أخو رسول الله". وفي رواية: "مكتوب على باب الجنة: محمد رسول الله, علي أخو رسول الله قبل أن تخلق السموات بألفي سنة" خرجهما أبو أحمد في المناقب وخرج الأول الغساني في معجمه, وقد تقدمت أحاديث المؤاخاة بين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 الصحابة مستوعبة في باب العشرة. ذكر اختصاصه بأن الله جعل ذرية نبيه في صلبه: تقدم في الذكر قبله قوله -صلى الله عليه وسلم: "أنت أخي وأبو ولدي". وعن عبد الله بن عباس قال: كنت أنا والعباس جالسين عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ دخل علي بن أبي طالب فسلم عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقام وعانقه, وقبل بين عينيه وأجلسه عن يمينه فقال العباس: يا رسول الله أتحب هذا? فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا عم والله لله أشد حبا له مني أن جعل ذرية كل نبي في صلبه, وجعل ذريتي في صلب هذا" خرجه أبو الخير الحاكمي. ذكر اختصاصه بأنه مولى من كان النبي -صلى الله عليه وسلم- مولاه: عن رباح بن الحارث قال: جاء رهط إلى علي بالرحبة فقالوا: السلام عليك يا مولانا قال: وكيف أكون مولاكم وأنتم عرب? قالوا: سمعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول يوم غدير خم: "من كنت مولاه, فعلي مولاه". قال رباح: فلما مضوا تبعتهم فسألت: من هؤلاء? قالوا: نفر من الأنصار فيهم أبو أيوب الأنصاري, خرجه أحمد. وعنه قال: بينما علي جالس إذ جاء رجل فدخل, عليه أثر السفر فقال: السلام عليك يا مولاي, قال: من هذا؟ قال: أبو أيوب الأنصاري, فقال علي: افرجوا له, ففرجوا فقال أبو أيوب: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من كنت مولاه, فعلي مولاه" خرجه البغوي في معجمه. وعن البراء بن عازب قال: كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر, فنزلنا بغدير خم فنودي فينا: الصلاة جامعة, وكسح لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحت شجرة فصلى الظهر وأخذ بيد علي وقال: "ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ " قالوا: بلى، فأخذ بيد علي وقال: "اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه" قال: فلقيه عمر بعد ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 فقال: هنيئًا لك يابن أبي طالب, أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة. وعن زيد بن أرقم مثله. خرجه أحمد في مسنده وخرج الأول ابن السمان, وخرج في كتاب المناقب معناه عن عمر وزاد بعد قوله: "وعاد من عاداه, وانصر من نصره, وأحب من أحبه" قال شعبة: أو قال: "ابغض من أبغضه" وخرج ابن السمان عن عمر منه: "من كنت مولاه فعلي مولاه" وخرجه المخلص الذهبي عن حبشي بن جنادة وقال بعد "وانصر من نصره": "وأعن من أعانه" ولم يذكر ما بعده. وعن أبي الطفيل قال: قال علي: أنشد الله كل امرئ سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم غدير خم لما1 قام، فقام ناس فشهدوا أنهم سمعوه يقول: "ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ " قالوا: بلى يا رسول الله قال: "من كنت مولاه فإن هذا مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه" فخرجت وفي نفسي من ذلك شيء فلقيت زيد بن أرقم فذكرت ذلك له فقال: قد سمعناه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ذلك له، قال أبو نعيم: قلت لفطر -يعني الذي روى عنه الحديث: كم بين القول وبين موته? قال: مائة يوم. خرجه أبو حاتم وقال: يريد موت علي بن أبي طالب. وخرج الترمذي عنه من ذلك: "من كنت مولاه فعلي مولاه" وقال: حسن غريب وخرجه أحمد عن سعيد بن موهب ولفظه قال: نشد علي, فقام خمسة أو ستة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فشهدوا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كنت مولاه فعلي مولاه". وعن زيد بن أرقم قال: استنشد علي الناس فقال: أنشد الله رجلا سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من كنت مولاه فعلي مولاه, اللهم وال من والاه وعاد من عاداه" فقام ستة عشر رجلا, فشهدوا.   1 إلا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 وعن زياد بن أبي زياد قال: سمعت علي بن أبي طالب ينشد الناس فقال: أنشد الله رجلًا مسلمًا سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول يوم غدير خم ما قال، فقام اثنا عشر رجلا بدريا فشهدوا. وعن بريدة قال: غزوت مع علي اليمن فرأيت منه جفوة, فلما قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكرت عليا فتنقصته, فرأيت وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتغير وقال: "يا بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم?" قلت: بلى يا رسول الله, قال: "من كنت مولاه فعلي مولاه" خرجه أحمد. وعن عمر أنه قال: علي مولى من كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مولاه. وعن سالم قيل لعمر: إنك تصنع بعلي شيئا ما تصنعه بأحد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إنه مولاي. وعن عمر وقد جاء أعرابيان يختصمان فقال لعلي: اقض بينهما يا أبا الحسن, فقضى علي بينهما فقال أحدهما: هذا يقضي بيننا? فوثب إليه عمر وأخذ بتلبيبه وقال: ويحك ما تدري من هذا، هذا مولاي ومولى كل مؤمن, ومن لم يكن مولاه فليس بمؤمن. وعنه وقد نازعه رجل في مسألة فقال: بيني وبينك هذا الجالس, وأشار إلى علي بن أبي طالب فقال الرجل: هذا الأبطن! فنهض عمر عن مجلسه وأخذ بتلبيبه حتى شاله من الأرض ثم قال: أتدري من صغرت? مولاي ومولى كل مسلم, خرجهن ابن السمان. "شرح" غدير خم: موضع بين مكة والمدينة بالجحفة1. وبيان معنى الحديث بيان متعلق من ذهب إلى إمامة علي -رضي الله عنه- والجواب عنه وحمل الحديث على المعنى المناسب -لما تقدم في إمامة أبو بكر- قد تقدم في فصل خلافة أبي بكر.   1 بالقرب من رابغ, حيث ميقات الإحرام لأهل مصر ومن مر به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 ذكر اختصاصه بأنه من النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه ولي كل مؤمن بعده: قد تقدم طرف من أحاديث أنه من النبي -صلى الله عليه وسلم. وعن عمران بن حصين قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سرية واستعمل عليها عليا، قال: فمضى على السرية فأصاب جارية, فأنكروا عليه وتعاقد أربعة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: إذا لقينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخبرناه بما صنع علي، فقال عمران: وكان المسلمون إذا قدموا من سفر بدءوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسلموا عليه ثم انصرفوا إلى رحالهم، فلما قدمت السرية سلموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقام أحد الأربعة فقال: يا رسول الله ألم تر أن عليا صنع كذا وكذا? فأعرض عنه ثم قام الثاني فقال مثل مقالته فأعرض عنه، ثم قام الثالث فقال مثل مقالته فأعرض عنه ثم قام الرابع فقال مثل ما قالوا, فأقبل إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والغضب يعرف في وجهه فقال: "ما تريدون من علي -ثلاثًا-؟ إن عليا مني وأنا منه, وهو ولي كل مؤمن بعدي" خرجه الترمذي وقال: حسن غريب وأبو حاتم, وخرجه أحمد وقال فيه: فأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الرابع وقد تغير وجهه فقال: "دعوا عليا، دعوا عليا، علي مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي". وعن بريدة قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سرية وأمَّر عليها رجلا وأنا فيها فأصبنا سبيا, فكتب الرجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ابعث لنا من يخمسه قال: فبعث عليا وفي السبي وصيفة هي من أفضل السبي, قال: فخمس وقسم قال: فخرج ورأسه يقطر، قلنا: يا أبا الحسن ما هذا? قال: ألم تروا إلى الوصيفة التي كانت في السبي? فإني قسمت وخمست وصارت في الخمس ثم صارت في أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم صارت في آل علي ووقع بها. فكتب الرجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: ابعثني مصدقا, قال: فجعلت أقرأ الكتاب وأقول صدق قال: فأمسك يدي والكتاب وقال: "تبغض عليا؟ " قلت: نعم قال: "فلا تبغضه وإن كنت تحبه فازدد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 له حبا؛ فوالذي نفسي بيده لنصيب آل علي من الخمس أفضل من وصيفة" قال: فما كان من الناس أحد بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحب إلي من علي. وفي رواية: فلما أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- دفعت الكتاب فقرئ عليه, فرأيت الغضب في وجهه -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله هذا مكان العائذ, بعثتني مع رجل وأمرتني أن أطيعه ففعلت ما أمرت, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا تقع في علي؛ فإنه مني وأنا منه, وهو وليكم بعدي" خرجهما أحمد. وعنه قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليًّا إلى خالد ليقبض الخمس, فكنت أبغض عليا فاصطفى منه سبية, فأصبح وقد اغتسل فقلت لخالد: أما ترى إلى هذا? فلما قدمنا على النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكرت ذلك له فقال: "يا بريدة, أتبغض عليا?" قلت: نعم قال: "لا تبغضه, فإن له في الخمس أكثر من ذلك" انفرد به البخاري. وعنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "من كنت وليه فعلي وليه" أخرجه أبو حاتم. وعن علي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة ونصب الصراط على جسر جهنم, ما جازها أحد حتى كانت معه براءة بولاية علي بن أبي طالب" خرجه الحاكمي في الأربعين, والمراد بالولاية والله أعلم الموالاة والنصرة والمحبة. وعن ابن مسعود قال: أنا رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ بيد علي وقال: "هذا وليي وأنا وليه، واليت من والاه وعاديت من عاداه" خرجه الحاكمي. ذكر حق عليّ على المسلمين: عن عمار بن ياسر وأبي أيوب قالا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "حق علي على المسلمين حق الوالد على الولد" خرجه الحاكمي. وعن أبي مقدم صالح قال: لما حضرت عبد الله بن عباس الوفاة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 قال: اللهم إني أتقرب إليك بولاية علي بن أبي طالب, خرجه أحمد في المناقب. والكلام على هذا الحديث, وبيان متعلق الرافضة منه, والجواب والجمع بينه وبين ما تقدم في خلافة أبي بكر, تقدم في فصل خلافة أبي بكر. ذكر اختصاصه بأن جبريل منه: عن أبي رافع قال: لما قتل علي أصحاب الألوية يوم أحد, قال جبريل: يا رسول الله إن هذه لهي المواساة، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "إنه مني وأنا منه" فقال جبريل: وأنا منكما يا رسول الله، خرجه أحمد في المناقب. ذكر اختصاصه بتأييد الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- به, وكتبه ذلك على ساق العرش وعلى بعض الحيوان: عن أبي الحمراء قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ليلة أسري بي إلى السماء, نظرت إلى ساق العرش فرأيت كتابًا فهمته: محمد رسول الله، أيدته بعلي ونصرته به" خرجه الملاء في سيرته. وعن ابن عباس قال: كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا بطائر في فيه لوزة خضراء، فألقاها في حجر النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخذها فقبلها ثم كسرها، فإذا في جوفها دودة خضراء مكتوب فيها بالأصفر: لا إله إلا الله محمد رسول الله، نصرته بعلي. خرجه أبو الخير القزويني الحاكمي. ذكر اختصاصه بالتبليغ عن النبي -صلى الله عليه وسلم: عن أبي سعيد أو أبي هريرة قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر، فلما بلغ ضجنان سمع بغام ناقة علي فعرفه فأتاه فقال: ما شأني? قال: خير، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثني ببراءة. فلما رجعنا انطلق أبو بكر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 فقال: يا رسول الله ما لي? قال: "خير، أنت صاحبي في الغار غير أنه لا يبلغ غيري أو رجل مني" يعني عليا. "شرح" بغام الناقة: صوت لا تفصح به, تقول منه: بغمت تبغم بالكسر, وبغمت الرجل: إذا لم تفصح له عن معنى ما تحدثه به, ضجنان: جبل بناحية مكة. وعن جابر أنهم حين رجعوا من الجعرانة إلى المدينة بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر على الحج، فأقبلنا معه حتى إذا كان بالعرج ثوب بالصبح, فلما استوى بالتكبير سمع الرغوة خلف ظهره فوقف على التكبير فقال: هذه رغوة ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلعله أن يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنصلي معه، فإذا علي عليها، فقال له أبو بكر: أمير أم رسول? فقال: لا، بل رسول أرسلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببراءة أقرؤها على الناس في مواقف الحج، فقدمنا مكة فلما كان قبل التروية بيوم قام أبو بكر, فخطب الناس حتى إذا فرغ قام علي فقرأ براءة حتى ختمها ثم خرجنا معه، حتى إذا كان يوم عرفة، قام أبو بكر فخطب الناس فعلمهم مناسكهم، حتى إذا فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها ثم كان يوم النحر فأفضنا, فلما رجع أبو بكر خطب الناس فحدثهم عن إفاضتهم وعن نحرهم وعن مناسكهم، فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها، فلما كان يوم النفر الأول قام أبو بكر فخطب الناس فحدثهم كيف ينفرون وكيف يرمون وعلمهم مناسكهم, فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها. خرجهما أبو حاتم, وخرج الثاني النسائي. "شرح" الجعرانة: موضع بقرب مكة معروف يعتمر منه أهل مكة في كل عام مرة في ذي القعدة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتمر منها بعد مرجعه من الطائف لثنتي عشرة ليلة بقيت من القعدة, وفيها لغتان إسكان العين والتخفيف وكسرها مع تشديد الراء, والعرج: منزل بطريق مكة وإليها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 ينسب العرجي الشاعر وهو عبد الله بن عمر بن عثمان بن عفان ذكره الجوهري, والصواب عبد الله بن عمر بن عمر بن عثمان بن عفان, والتثويب في الصبح: أن يقول: الصلاة خير من النوم، ثم قد يراد به الإيذان بالصلاة ولعله المراد هنا, والرغوة والرغاء بمعنًى، وهو صوت ذوات الخف، يقول: رغا البعير يرغو رغاء إذا ضج. وعن علي -رضي الله عنه- قال: لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر, فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة، ثم دعاني فقال لي: "أدرك أبا بكر, فحيثما لقيته فخذ الكتاب فاذهب به إلى أهل مكة فاقرأه عليهم" فلحقته بالجحفة فأخذت الكتاب منه, ورجع أبو بكر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله, نزل في شيء? قال: "لا، جبريل جاءنا فقال: لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك". "شرح" قوله: فرجع أبو بكر, الظاهر أن رجوعه كان بعد مرجعه من الحج، يشهد له الحديث المتقدم، وأطلق عليه لفظ الرجوع لوجود حقيقة الرجوع فيه جمعًا بينهما. وعنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين بعثه ببراءة قال: يا رسول الله إني لست باللسن ولا بالخطيب، قال: "ما بد لي أن يذهب بها أنا أو تذهب بها أنت" قال: فإن كان فأذهب أنا, قال: "انطلق فإن الله يسدد لسانك ويهدي قلبك" قال: ثم وضع يده على فمه. خرجهما أحمد. وعن حبشي بن جنادة وكان قد شهد حجة الوداع قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "علي مني وأنا منه, ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي" خرجه الحافظ السلفي. "شرح" قوله: "ولا يبلغ عني غيري أو رجل مني" أي: من أهل بيتي، وكذلك قول جبريل: "لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك" وهذا التبليغ والأداء يختص بهذه الواقعة لا مطلق التبليغ والأداء، وذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 معلوم بالضرورة يشهد له الوجود، فإن رسله -صلى الله عليه وسلم- لم تزل مختلفة إلى الآفاق في التبليغ عنه وأداء رسالاته وتعليم الأحكام والوقائع, مؤدين لها عنه ومبلغين عنه، وليسوا كلهم منه، فعلم أن الإشارة والتبليغ في تلك الواقعة، وكان ذلك لسبب اقتضاه، وهو أن عادة العرب لم تزل جارية في نقض العهود أن لا يتولى ذلك إلا من تولى عقدها أو رجل من قبيلته، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- ولى أبا بكر ذلك على ما تضمنه حديث علي جريًا على عادته في عدم مراعاة العوائد الجاهلية، فأمره الله تعالى أن لا يبعث في نقض عهودهم إلا رجلا منه إزاحة لعللهم, وقطعًا لحججهم لجواز أن يحتجوا على أبي بكر بعوائدهم ومألوفهم كما احتجوا عليه -صلى الله عليه وسلم- في كتاب صلح الحديبية لما قال لعلي: "اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم" فقالوا: اكتب: باسمك اللهم كما كنت تكتب في الجاهلية، وإن كان المعنى المقتضي لإجابتهم في صلح الحديبية إلى ما طلبوا مفقودا هنا لانتشار أمر الإسلام وعلو شأنه وظهوره وقوة أهله زمن حجة أبي بكر، لكن الإيناس بالمألوف المعروف أقرب إلى انقياد النفوس وأدعى إلى طاعتها، وإذا تقررت هذه المقدمة ثبت أن إرسال علي لم يكن عزلا لأبي بكر -رضي الله عنه- عن إمارته، وإنما عن التبليغ فقط لمقتضٍ اقتضاه كما قررنا، وكان أبو بكر الآمر والخطيب والإمام والمعلم مناسك الحج. وقد صرح علي -رضي الله عنه- لما قال له أبو بكر: أمير أم رسول? فقال: بل رسول، وقال بعض منه أشبه قوله قول الرافضة ممن ينتمي إلى التحديث والتصوف إنما صرف النبي -صلى الله عليه وسلم- إمارة الحج عن علي، لما في الإمارة من شوائب الدنيا تنزيهًا له، إذ كان سبيله -صلى الله عليه وسلم- في أهل بيته إبعادهم عن الدنيا وإبعاد الدنيا عنهم، وإنما كانت توليته أمر التبليغ للضرورة التي لا تندفع إلا به كما تقدم تقريره، وهذا القول في هذا الموطن غلط من هذا القائل، والنبي -صلى الله عليه وسلم- وإن كان سبيله في أهل بيته ما ذكره فلا يمكن ادعاء هذا المعنى في هذا الموطن لوجوه، الأول: ما فيه من حط الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 مرتبة أبي بكر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في إيثار الأولى في حقه ومكانته منه ومنزلته عنده المعلومة المشهورة التي لا يوازنها مكانة، ولا يضاهيها مرتبة، حتى اتصف بأحب القوم إليه وألزمهم عنده، واختص منه بخصائص لم يشاركه فيها غيره على ما تقدم تقريره في مناقبه، وذلك لا يناسب تخصيصه بالأدنى مع علمه برسوخ قدمه في الزهد والرغبة فيما عند الله تعالى، وإنما كان ذلك -والله أعلم- تنبيهًا على أفضليته المقتضية إقامته مقام نفسه، ولذلك صرف الأمور كلها إليه ابتداء ثم خص عليا بأمر التبليغ لما ذكرناه فكان صرف إمرة الحج إلى أبي بكر لاختصاصه بقيام المقتضى لها, لا لأمر آخر وراء ذلك. الوجه الثاني: لا نسلم أن هذا الأمر من الدنيا في شيء، بل هو محض عبادة كالصلاة, والأمير فيها كإمام الصلاة وخطيب الجمعة ولا يقال في شيء من ذلك دنيا، وكيف يصح أن يقال فيه دنيا وعلي -رضي الله عنه- يقول: يا دنيا غري غيري, طلقتك ثلاثًا بتاتًا. وقد تولى الخلافة العظمى فلو اعتقد أن ما قام فيه محض عبادة لله تعالى لا دنيا فيه لما صح هذا القول ولا شك في صحته, وفي أن قدمه في الزهد في الدنيا من أرسخ الأقدام ومباينته لها مشهورة بين الأنام ثابتة عند العلماء الأعلام، نعم تصير هذه الأمور دنيا إذا نوى بها الترفع على أبناء جنسه وأقام جاهه وعلو شأنه ونحو ذلك، وأعاذ الله أبا بكر وعليا وواحدًا من الصحابة من ذلك وأعاذنا الله من اعتقاد ذلك فيهم, بل قام والله أعلم أبو بكر فيما أقامه النبي -صلى الله عليه وسلم- من إمرته فيه عبدًا لله مؤديًا مناسكه ممتثلا أمر نبيه في نصب نفسه إماما يقتدى به تعبدًا لله وتقربا إليه ليس إلا، وكذلك قيامه في خلافته وجميع أموره، وقام علي في المواطن التي أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها وفي خلافته كذلك، وهكذا كل منهم -رضوان الله عليهم أجمعين. والوجه الثالث: سلمنا أن فيها شائبة دنيا, لكنها مغمورة مضمحلة بالنسبة إلى ما فيها من التعبد والقربة إلى الله تعالى، إذ في ذلك إقامة منار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 الدين وإظهار شعائره وانتظام أمره، وإن ظهرت لها صورة بحكم التبعية فغير مقصودة، ولم تزل سنة الله تعالى في أنبيائه ورسله وأوليائه والصالحين من عباده جارية بإعلاء منارهم وتكثير تابعهم وتحكمهم في أمور خلقه بحسب مراتبهم, وهل الدنيا إلا عبارة عن ذلك? لكن لا يعد شيء من ذلك دنيا؛ لعدم قصدها وإرادتها وإن حصلت صورتها ضمنا وتبعا. والوجه الرابع: أن ما ذكره منتقض بالمواطن التي أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها عليا على ما تقدم تقريره، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وكل ما يتكلف فيه من غير ما أشرنا إليه فهو خلاف الظاهر. ذكر اختصاصه بإقامة النبي -صلى الله عليه وسلم- إياه مقامه في نحر بقية بدنه, وإشراكه إياه في هديه -صلى الله عليه وسلم: عن جابر حديثه الطويل، وفيه: فنحر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثا وستين بدنة بيده وأعطى عليا فنحر ما غبر منها وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر، فطبخت فأكلا من لحمها، وشربا من مرقتها. خرجه مسلم. "شرح" غبر أي: بقي, ومنه: {إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} أي: الباقين, والبضعة: القطعة بالفتح وأخواتها بالكسر مثل القطعة والفلذة والقدرة والكسرة والخرقة، وما لا يحصى، قاله الجوهري والبضع والبضعة في العدد مكسور وبعض العرب يفتحها وهو ما بين الثلاث والتسع، يقال: بضع سنين وبضعة عشر رجلا، وبضع عشرة امرأة، فإذا جاوز لفظ العشر ذهب البضع فلا تقول: بضع وعشرون قاله الجوهري. ذكر اختصاصه بالقيام على بدن رسول الله -صلى الله عليه وسلم: عن علي قال: أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أقوم على بدنه، وأن أتصدق بلحمها وجلودها, وأن لا أعطي الجزار منها شيئا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 ذكر اختصاصه بأنه لا يجوز أحد الصراط إلا من كتب له علي الجواز: عن قيس بن حازم قال: التقى أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب, فتبسم أبو بكر في وجه علي، فقال له: ما لك تبسمت? قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يجوز أحد الصراط إلا من كتب له علي الجواز" خرجه ابن السمان في الموافقة. ذكر اختصاصه بمغفرة من الله يوم عرفة: عن فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشية عرفة، فقال: "إن الله -عز وجل- قد باهى بكم وغفر لكم عامة ولعلي خاصة، وإني رسول الله غير محاب بقرابتي" خرجه أحمد. ذكر اختصاصه بسيادة العرب, وحث الأنصار على حبه: عن الحسن بن علي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ادعو إلي سيد العرب" يعني عليا، قالت عائشة: ألست سيد العرب? قال: "أنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب" فلما جاء أرسل إلى الأنصار فأتوه فقال لهم: "يا معشر الأنصار، ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "هذا علي فأحبوه بحبي وأكرموه بكرامتي، فإن جبريل -عليه السلام- أخبرني بالذي قلت لكم عن الله -عز وجل" خرجه الفضائلي والخجندي، والمراد سيد شباب العرب لأنه تقدم في خصائص أبي بكر أنه سيد كهول العرب جمعًا بين الحديثين. ذكر اختصاصه بسيادة المسلمين وولاية المتقين وقيادة الغر المحجلين: عن عبد الله بن سعد بن زرارة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ليلة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 أسري بي انتهيت إلى ربي -عز وجل- فأوحى إلي -أو أمرني، شك الراوي- في علي بثلاث: أنه سيد المسلمين, وولي المتقين, وقائد الغر المحجلين" خرجه المحاملي. وعن علي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إنك سيد المسلمين, وإمام المتقين, وقائد الغر المحجلين, ويعسوب الدين" خرجه علي بن موسى الرضا. ذكر سيادته في الدنيا والآخرة: عن ابن عباس قال: نظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى علي بن أبي طالب فقال: "أنت سيد في الدنيا وسيد في الآخرة" خرجه أبو عمر وأبو الخير الحاكمي. ذكر اختصاصه بالولاية, والإرث: وعن بريدة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي وصي ووارث، وإن عليا وصيي ووارثي" خرجه البغوي في معجمه. وعن أنس قال: قلنا لسلمان: سل النبي -صلى الله عليه وسلم: من وصيه? فقال سلمان: يا رسول الله من وصيك? قال: "يا سلمان من كان وصي موسى?" قال: يوشع بن نون, قال: "فإن وصيي ووارثي يقضي ديني وينجز موعدي, علي بن أبي طالب" خرجه في المناقب. وهذان الحديثان لا يصحان، وإن صحا فالإرث محمول على ما تضمنه حديث المؤاخاة في باب العشرة وهو أنه قال له -صلى الله عليه وسلم: "أنت أخي ووارثي" قال: وما أرث منك يا نبي الله? قال: "ما ورث الأنبياء من قبلي" قال: وما ورث الأنبياء من قبلك? قال: "كتاب ربهم وسنة نبيهم" وعلى ما تضمنه حديث معاذ قال: قال علي: يا رسول الله ما أرث منك? قال: "ما يرث النبيون بعضهم من بعض: كتاب الله وسنة نبيه" خرجه ابن الحضرمي حملًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 للمطلق على المقيد، وهذا توريث غير التوريث المتعارف، فيحمل الإيصاء على نحو من ذلك كالنظر في مصالح المسلمين على أي حال كان خليفة أو غير خليفة ومساعدة أولي الأمر، وعليه يحمل توصيته بالعرب فيما رواه حبة العربي عن علي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا علي أوصيك بالعرب خيرًا" خرجه ابن السراج. وعن حبشي قال: رأيت عليًّا يضحي بكبشين فقلت له: ما هذا? قال: أوصاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أضحي عنه. خرجه أحمد في المناقب، وهذا يدل على صرف الوصية إلى غير الولاية؛ إذ لو كانت الولاية لاستوى فيها العرب والعجم، أو يحمل على إيصائه إليه في الضحية عنه، أو الإيصاء إليه في رد الأمانات حين هاجر، أو على حفظ الأهل حين استخلفه على المدينة في غزوة تبوك ونحو ذلك، أو على قضاء دينه وإنجاز وعده على ما تضمنه حديث أنس المتقدم، أو على إيصائه بغسله. عن حسين بن علي عن أبيه عن جده قال: أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- عليًّا أن يغسله فقال علي: يا رسول الله أخشى أن لا أطيق ذلك. قال: "إنك ستعان علي" قال: فقال علي: فوالله ما أردت أن أقلب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عضوًا إلا قلب لي. خرجه ابن الحضرمي، ويعضد هذا التأويل بالأحاديث الصحيحة في نفي التوريث والإيصاء على ما تقدم في فصل خلافة أبي بكر وأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يعهد إليه عهدًا غير ما في كتاب الله -عز وجل- وما في صحيفة فيها شيء من أسنان الإبل ومن العقل. عن بريدة بن سويد بن طارق التيمي قال: رأيت عليا على المنبر يخطب, فسمعته يقول: لا, والله ما عندنا من كتاب نقرؤه إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة؛ وإذا فيها أسنان الإبل وأشياء من الجراحات. وحديث المدينة: "حرم ما بين عير إلى ثور" أخرجاه. وعن أبي الطفيل عامر بن واثلة قال: كنت عند علي, فأتاه رجل فقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 له: ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أسرَّ إليك? قال: فغضب ثم قال: ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يسر إلي شيئا يكتمه على الناس، غير أنه قد حدثني بكلمات أربع قال: ما هن يا أمير المؤمنين? قال: "لعن الله من لعن والديه, ولعن الله من ادعى لغير أبيه, ولعن الله من آوى محدثا, ولعن الله من غير منار الأرض" خرجه مسلم. ذكر اختصاصه بغسل النبي -صلى الله عليه وسلم- لما توفي: قال ابن إسحاق: لما غسل النبي -صلى الله عليه وسلم- علي أسنده إلى صدره وعليه قميصه يدلكه به من ورائه, ولا يفضي بيده إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقول: بأبي وأمي ما أطيبك حيا وميتا!! ولم ير من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيء يرى من الميت وكان العباس والفضل وقثم يساعدون عليا في تقليب النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان أسامة بن زيد وشقران يصبان الماء عليه. ذكر اختصاصه بالرخصة في تسمية ولده باسم النبي -صلى الله عليه وسلم- وتكنيته بكنيته: عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن ولد لك غلام فسمه باسمي وكنه بكنيتي، وهو لك رخصة دون الناس" خرجه المخلص الذهبي. وعن علي قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يولد لك ابن, قد نحلته اسمي وكنيتي" خرجه أحمد. ذكر اختصاصه برد الشمس عليه: عن الحسن بن علي قال: كان رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجر علي وهو يوحى إليه فلما سري عنه قال: "يا علي صليت العصر?" قال: لا قال: "اللهم إنك تعلم أن كان في حاجتك وحاجة نبيك فرد عليه الشمس" فردها عليه فصلى وغابت الشمس. خرجه الدولابي قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 وقال علماء الحديث: وهو حديث موضوع ولم ترد الشمس لأحد وإنما حبست ليوشع بن نون, وقد خرجه الحاكمي عن أسماء بنت عميس ولفظه قالت: كان رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجر علي فكره أن يتحرك حتى غابت الشمس, فلم يصل العصر ففزع النبي -صلى الله عليه وسلم- وذكر له علي أنه لم يصل العصر, فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الله -عز وجل- أن يرد الشمس عليه فأقبلت الشمس لها خوار حتى ارتفعت قدر ما كانت في وقت العصر قال: فصلى ثم رجعت. وخرج أيضا عنها: أن علي بن أبي طالب دفع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد أوحى الله إليه أن يجلله بثوب فلم يزل كذلك إلى أن أدبرت الشمس، يقول: غابت أو كادت تغيب ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- سري عنه فقال: "أصليت يا علي?" قال: لا, قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "اللهم رد الشمس على علي" فرجعت الشمس حتى بلغت نصف المسجد. ذكر اختصاصه بإدخال النبي -صلى الله عليه وسلم- إياه معه في ثوبه يوم توفي, واحتضانه إياه إلى أن قبض: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة: "ادعوا إلي حبيبي" فدعوا له أبا بكر فنظر إليه ثم وضع رأسه ثم قال: "ادعوا لي حبيبي" فدعوا له عمر فلما نظر إليه وضع رأسه ثم قال: "ادعوا لي حبيبي" فدعوا له عليا, فلما رآه أدخله معه في الثوب الذي كان عليه, فلم يزل يحتضنه حتى قبض ويده عليه. أخرجه الرازي. ذكر اختصاصه بأقربية العهد به يوم مات: عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: والذي أحلف به إن كان علي لأقرب الناس عهدًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: عدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غداة بعد غداة يقول: "جاء علي?" مرارًا وأظنه كان بعثه لحاجة, فجاء بعد فظننت أن له حاجة فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب فكنت من أدناهم إلى الباب, فأكب عليه علي فجعل يسارّه ويناجيه ثم قبض من يومه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 ذلك صلى الله عليه وسلم, فكان من أقرب الناس به عهدًا. أخرجه أحمد. ذكر قدم اختصاصه بتزويج فاطمة -عليها السلام: عن أنس بن مالك -رضى الله عنه- قال: جاء أبو بكر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقعد بين يديه فقال: يا رسول الله قد علمت مناصحتي وقدمي في الإسلام, وإني وإني. قال: "وما ذاك?" قال: تزوجني فاطمة, قال: فسكت عنه قال: فرجع أبو بكر إلى عمر فقال: هلكت وأهلكت، قال: وما ذاك? قال: خطبت فاطمة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأعرض عني, قال: مكانك حتى آتي النبي -صلى الله عليه وسلم- فأطلب مثل الذي طلبت فأتى عمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقعد بين يديه، فقال: يا رسول الله، قد علمت مناصحتي وقدمي في الإسلام, وإني وإني، قال: "وما ذاك?" قال: تزوجني فاطمة، فسكت عنه فرجع إلى أبي بكر، فقال: إنه ينتظر أمر الله بها، قم بنا إلى علي حتى نأمره يطلب مثل الذي طلبنا، قال علي: فأتياني وأنا أعالج فسيلًا لي، فقالا: إنا جئناك من عند ابن عمك بخطبة، قال علي: فنبهاني لأمر فقمت أجر ردائي حتى أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقعدت بين يديه، فقلت: يا رسول الله، قد علمت قدمي في الإسلام ومناصحتي, وإني وإني، قال: "وما ذاك?" قلت: تزوجني فاطمة، قال: "وما عندك?" قلت: فرسي وبزتي، قال: "أما فرسك فلا بد لك منها, وأما بزتك فبعها" قال: فبعتها بأربعمائة وثمانين، قال: فجئت بها حتى وضعتها في حجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقبض منها قبضة، فقال: "أي بلال, ابغنا بها طيبًا" وأمرهم أن يجهزوها، فحمل لها سريرًا مشرطًا بالشرط ووسادة من أدم حشوه ليف، وقال لعلي: "إذا أتتك, فلا تحدث شيئا حتى آتيك" فجاءت مع أم أيمن حتى قعدت في جانب البيت وأنا في جانب، وجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ههنا أخي؟ " قالت أم أيمن: أخوك وقد زوجته ابنتك؟ قال: "نعم" ودخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البيت فقال لفاطمة: "ائتني بماء" فقامت إلى قعب في البيت فأتت به بماء فأخذه النبي -صلى الله عليه وسلم- ومج فيه ثم قال: "تقدمي" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 فتقدمت فنضح بين ثدييها وعلى رأسها، وقال: "اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم" ثم قال لها: "أدبري" فأدبرت فصب بين كتفيها وقال: "اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم" ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ائتوني بماء" قال علي: فعلمت الذي يريد فقمت فملأت القعب ماء وأتيته به فأخذه ومج فيه ثم قال: "تقدم" فصب على رأسي وبين ثديي ثم قال: "اللهم إني أعيذه بك وذريته من الشيطان الرجيم" ثم قال: "أدبر" فأدبرت فصب بين كتفي وقال: "اللهم إني أعيذه بك وذريته من الشيطان الرجيم" ثم قال لعلي: "ادخل بأهلك باسم الله والبركة" أخرجه أبو حاتم وأخرجه أحمد في المناقب من حديث أبي يزيد المدائني وقال: فأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى علي: "لا تقرب امرأتك حتى آتيك" فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فدعا بماء فقال فيه ما شاء الله أن يقول ثم نضح منه على وجهه, ثم دعا فاطمة فقامت إليه تعثر في ثوبها وربما قال في مرطها من الحياء فنضح عليها أيضًا وقال لها: "إني لم آل أن أنكحك أحب أهلي إلي" فرأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سوادًا وراء الباب فقال: "من هذا?" قالت: أسماء، قال: "أسماء بنت عميس؟ " قالت: نعم قال: "أمع بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جئت كرامة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ " قالت: نعم فدعا لي دعاء وإنه لأوثق عملي عندي، قال: ثم خرج ثم قال لعلي: "دونك أهلك" ثم ولى في حجرة, فما زال يدعو لهما حتى دخل في حجرته وأخرج عبد الرزاق في جامعه من هذا الحديث عن عكرمة قال: لما زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- عليا فاطمة، قال لها: "ما ألوت أن أنكحك أحب أهلي إلي" وأخرج الدولابي جملة معناه عن أسماء بنت عميس وقدم فيه عليا في النضح والدعاء كما تقدم عن أحمد، وقال: ثم قال لأم أيمن: "ادعي لي فاطمة" فجاءت وهي خرقة من الحياء، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اسكني, فقد أنكحتك أحب أهل بيتي إلي" ثم نضح صلى الله عليه وسلم عليها ودعا لها, ثم رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرأى سوادًا بين يديه فقال: "من هذا?" قالت: أنا، قال: "أسماء بنت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 عميس؟ " قلت: نعم، قال: "جئت في زفاف بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تكرمينه؟ " قلت: نعم، فدعا لي. "شرح" الفسيل: الودي الصغار، والجمع: فسلان, والنضح: الرش, ونضح البيت: رشه, والخرقة: المستحية من الخرق بالتحريك أي: الدهش من الخوف والحياء, تقول منه: خرق بالكسر فهو خرق. وعن أنس -رضي الله عنه- قال: لما زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- فاطمة قال: "يا أم أيمن زفي ابنتي إلى علي, ومريه أن لا يعجل عليها حتى آتيها" فلما صلى العشاء أقبل بركوة فيها ماء فتفل فيها ما شاء الله وقال: "اشرب يا علي وتوضأ, واشربي يا فاطمة وتوضئي" ثم أجاف عليهما الباب فبكت فاطمة، فقال: "ما يبكيك وقد زوجتك أقدمهم إسلامًا, وأحسنهم خلقًا؟ " أخرجه أبو الخير الحاكمي. وعن بريدة -رضي الله عنه- قال: خطب أبو بكر وعمر فاطمة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إنها صغيرة" فخطبها علي فزوجها. أخرجه أبو حاتم والنسائي. وعن جابر -رضي الله عنه- قال: حضرنا عرس علي فما رأيت عرسا كان أحسن منه، حشونا البيت طيبا وأتينا بتمر وزيت فأكلنا, وكان فراشهما ليلة عرسهما إهاب كبش. أخرجه أبو بكر بن فارس. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما زوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاطمة بعلي قالت: يا رسول الله زوجتني برجل فقير لا شيء له, فقال صلى الله عليه وسلم: "أما ترضين يا فاطمة أن الله اختار من أهل الأرض رجلين جعل أحدهما أباك، والآخر بعلك؟ " أخرجه الملاء في سيرته. ذكر أن تزويج فاطمة من علي كان بأمر الله -عز وجل- ووحي منه: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خطب أبو بكر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 ابنته فاطمة، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر, لم ينزل القضاء بعد" ثم خطبها عمر مع عدة من قريش كلهم يقول له مثل قوله لأبي بكر، فقيل لعلي: لو خطبت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فاطمة لخليق أن يزوجكها، قال: وكيف وقد خطبها أشرف قريش فلم يزوجها؟ قال: فخطبها فقال صلى الله عليه وسلم: "قد أمرني ربي -عز وجل- بذلك" قال أنس: ثم دعاني النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أيام فقال لي: "يا أنس اخرج وادع لي أبا بكر الصديق، وعمر بن الخطاب, وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة، والزبير، وبعدة من الأنصار" قال: فدعوتهم, فلما اجتمعوا عنده -صلى الله عليه وسلم- وأخذوا مجالسهم وكان علي غائبا في حاجة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: $"الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، المطاع بسلطانه، المرهوب من عذابه وسطواته، النافذ أمره في سمائه وأرضه، الذي خلق الخلق بقدرته، وميزهم بأحكامه، وأعزهم بدينه، وأكرمهم بنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وإن الله تبارك اسمه وتعالت عظمته جعل المصاهرة سببًا لاحقًا، وأمرًا مفترضًا أوشج به الأرحام وألزم الأنام، فقال عز من قائل: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} فأمر الله تعالى يجري إلى قضائه, وقضاؤه يجري إلى قدره، ولكل قدر أجل ولكل أجل كتاب، يمحو الله ويثبت وعنده أم الكتاب، ثم إن الله -عز وجل- أمرني أن أزوج فاطمة بنت خديجة1 من علي بن أبي طالب فاشهدوا أني قد زوجته على أربعمائة مثقال فضة, إن رضي بذلك علي بن أبي طالب" ثم دعا بطبق من بسر فوضعه بين أيدينا ثم قال: "انهبوا" فنهبنا، فبينا نحن ننتهب إذ دخل علي على النبي -صلى الله عليه وسلم- فتبسم النبي -صلى الله عليه وسلم- في وجهه ثم قال: "إن الله أمرني أن أزوجك فاطمة على أربعمائة مثقال فضة, إن رضيت   1 مع أن نسبة الأولاد إلى الآباء، وفي غير هذا الحديث، قال صلى الله عليه وسلم: "فاطمة بنت محمد" ذكر هنا صلى الله عليه وسلم النسبة إلى خديجة والدة فاطمة، زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- المشهورة بالفضل، والعقل، وحسن التصرف والمعاملة، لفتًا إلى أن هذه الابنة كأمها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 بذلك" فقال: قد رضيت بذلك يا رسول الله, فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "جمع الله شملكما، وأسعد جدكما، وبارك عليكما, وأخرج منكما كثيرًا طيبا" قال أنس: فوالله لقد أخرج منهما كثيرًا طيبًا. أخرجه أبو الخير القزويني الحاكمي. "شرح" أوشج به الأرحام أي: شبك بعضها في بعض, يقال: رحم واشجة أي: مشتبكة. وعنه قال: كنت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فغشيه الوحي، فلما أفاق قال: "تدري ما جاء به جبريل?" قلت: الله ورسوله أعلم, قال: "أمرني أن أزوج فاطمة من علي" فانطلق فادع لي أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وطلحة والزبير وبعدة من الأنصار. ثم ذكر الحديث بتمامه وقال: وشج به الأرحام وقال: فلما أقبل علي قال له: "يا علي, إن الله أمرني أن أزوجك فاطمة، وقد زوجتكها على أربعمائة مثقال فضة أرضيت?" قال: رضيت يا رسول الله، قال: ثم قام علي فخر ساجدًا شاكرًا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "جعل الله منكما الكثير الطيب، وبارك الله فيكما" قال أنس: فوالله لقد أخرج منهما الكثير الطيب. أخرجه أبو الخير أيضًا. وعن عمر, وقد ذكر عنده علي قال: ذاك صهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نزل جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تزوج فاطمة ابنتك من علي. أخرجه ابن السمان في الموافقة. ذكر أن الله زوج فاطمة عليًّا بمشهد من الملائكة: عن أنس -رضي الله عنه- قال: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، إذ قال صلى الله عليه وسلم- لعلي: "هذا جبريل يخبرني أن الله -عز وجل- زوجك فاطمة، وأشهد على تزويجك أربعين ألف ملك، وأوحى إلى شجرة طوبى أن انثري عليهم الدر والياقوت, فنثرت عليهم الدر والياقوت، فابتدرت إليه الحور العين يلتقطن من أطباق الدر والياقوت، فهم يتهادونه بينهم إلى يوم القيامة" أخرجه الملاء في سيرته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 ذكر اختصاصه بإعطائه الراية يوم خيبر, وبفتحها: عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لأعطين الراية غدًا رجلا يفتح الله على يديه" قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها, فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: "أين علي بن أبي طالب?" قالوا: يشتكي عينيه يا رسول الله، قال: "فأرسلوا إليه" فلما جاء بصق في عينيه, ودعا له فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع؛ وأعطاه الراية فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، قال: "ابتدئ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه, فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا، خير لك من أن يكون لك حمر النعم" أخرجاه وأبو حاتم. "شرح" قوله: يدوكون أي: يخوضون ويموجون, وقوله: "ابتدئ على رسلك" أي: امض على مؤدتك كما تقول: على هينتك, وحمر النعم: أفخرها عند العرب ويجوز أن يكون المراد والله أعلم يكون لك حمر النعم فتنفقها في سبيل الله، وهداية رجل على يديك أفضل لك من ذلك, لأن يملكها ويقتنيها، إذ لا فضل في ذلك إلا زينة الدنيا، ولا تعدل وإن عظمت شيئًا من ثواب الآخرة، وهكذا كلما ورد نحو خير من الدنيا، وما فيها خير مما طلعت عليه الشمس والله أعلم. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لأدفعن الراية اليوم إلى رجل يحب الله ورسوله" فتطاول القوم فقال: "أين علي?" فقالوا: يشتكي عينه، فدعاه فبزق في كفيه ومسح بهما عين علي ثم دفع إليه الراية ففتح الله عليه, أخرجه أبو حاتم. وعنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم خيبر: "لأعطين هذه الراية رجلًا يحب الله ورسوله, يفتح الله عليه" قال عمر: فما أحببت الإمارة إلا يومئذ، فتشارفت فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليا فأعطاه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 إياها وقال: "امش ولا تلتفت" فسار علي شيئًا ثم وقف ولم يلتفت، فصرخ رسول الله، فقال علي: علام أقاتل? فقال صلى الله عليه وسلم: "قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله, فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل" أخرجه مسلم وأبو حاتم بتغيير بعض اللفظ. وعن سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- قال: كان علي قد تخلف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خيبر وكان به رمد فقال: أنا أتخلف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟! فخرج علي فلحق بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فلما كانت الليلة التي فتحها الله في صباحها قال صلى الله عليه وسلم: "لأعطين الراية, أو ليأخذن الراية غدا رجل يحبه الله ورسوله" أو قال: "يحب الله ورسوله، يفتح الله عليه" فإذا نحن بعلي وما نرجوه، فقالوا: هذا علي، فأعطاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ففتح الله عليه. أخرجاه1. وعنه قال: خرجنا إلى خيبر وكان عمي عامر يرتجز بالقوم وهو يقول: والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا ونحن عن فضلك ما استغنينا ... فثبت الأقدام إن لاقينا وأنزلن سكينة علينا فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "من هذا?" قالوا: عامر، فقال: "غفر الله لك يا عامر" وما استغفر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لرجل خصه إلا استشهد، قال عمر: يا رسول الله لو متعتنا بعامر. فلما قدمنا خيبر, خرج مرحب يخطر بسيفه وهو ملكهم وهو يقول:   1 البخاري ومسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلتهب فنزل عامر فقال: قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مغامر فاختلفا بضربتين, فوقع سيف مرحب في فرس عامر فذهب ليسفل له, فوقع سيفه على نفسه فقطع أكحله فكان فيها نفسه, وإذا نفر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقولون: بطل عمل عامر قتل نفسه, فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا أبكي فقلت: يا رسول الله بطل عمل عامر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من قال هذا?" قلت: ناس من أصحابك، فقال صلى الله عليه وسلم: "بل له أجره مرتين" ثم أرسلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى علي فألقيته وهو أرمد فقال: "لأعطين الراية اليوم رجلًا يجب الله ورسوله, ويحبه الله ورسوله" فجئت به أقوده وهو أرمد حتى أتيت به النبي -صلى الله عليه وسلم- فبصق في عينيه فبرئ وأعطاه الراية، وخرج مرحب فقال: قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مغامر فقال علي: أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظره أو فيهم بالصاع كيل السندره قال: فضربه ففلق رأسه فقتله, وكان الفتح على يد علي بن أبي طالب. أخرجه أبو حاتم وقال: هكذا روي في فرس عامر وإنما هو في عامر، وأخرجه مسلم بتغيير بعض لفظه، وأخرجه أحمد عن بريدة الأسلمي ولم يذكر فيه قصة عامر، وقال بعد قوله: شاكي السلاح بطل مجرب: أطعن أحيانًا وحينًا أضرب وقال: فاختلف هو وعلي ضربتين, فضربه علي على عاتقه حتى عض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 السيف فيها بأضراسه وسمع أهل العسكر صوت ضربته، قال: وما ينام الناس مع علي, حتى فتح الله له ولهم. "شرح" ألقيته: وجدته؛ وتلافيته: تداركته, شاكي السلاح وشائك السلاح بمعنًى وهو الذي ظهرت حدته وشوكته, مغامر: المغامرة المباطشة، تقول: غامره إذا باطشه وقاتله ولم يبال بالموت. وقد تقدم ذكر ذلك في خصائص أبي بكر, والأكحل: عرق في البدن يفصد ولا يقال: عرق الأكحل, يسفل: التسفيل التصويب, حيدرة: من أسماء الأسد. وقد تقدم في ذكر اسمه -والليث اسم للأسد أيضًا- والغابات: جمع غاية وهي الأجمة من القصب، وغابة: اسم موضع بالحجاز, والسندرة: مكيال ضخم كالقنفل، ويروى أكيلهم بالسيف كيل السندره. وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ الراية وهزها ثم قال: "من يأخذها بحقها" فجاء فلان فقال: أنا، فقال: "امض" ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "والذي كرم وجه محمد لأعطينها رجلا لا يفر, هاك يا علي" فانطلق حتى فتح الله عليه خيبر، وفدك، وجاء بعجوتها وقديدها. خرجه أحمد. وعن بريدة -رضي الله عنه- قال: لما كان حيث نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحصن أهل خيبر, أعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اللواء عمر بن الخطاب ونهض معه من نهض من الناس فلقوا أهل خيبر, فانكشف عمر وأصحابه فرجعوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لأعطين الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله, ويحبه الله ورسوله" فلما كان الغد تصادر بها أبو بكر وعمر, فدعا عليا وهو أرمد فتفل في عينيه وأعطاه اللواء ونهض معه من الناس من نهض، ثم ذكر قتل مرحب وقال: فما ينام آخر الناس حتى فتح الله لهم وله. أخرجه الغيباني والحافظ الدمشقي في الموافقات، وعنه قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 حاصرنا خيبر فأخذ اللواء أبو بكر فانصرف ولم يفتح له، ثم أخذه عمر من الغد فخرج ورجع ولم يفتح له، وأصاب الناس يومئذ شدة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إني دافع اللواء إلى رجل يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله، لا يرجع حتى يفتح عليه" فبتنا طيبة أنفسنا أن الفتح غدًا، فلما أصبح صلى الله عليه وسلم قام قائمًا فدعا باللواء والناس على مصافهم, فدعا عليا وهو أرمد فتفل في عينيه ودفعه إليه ففتح له، قال بريدة: وأنا ممن تطاول لها. أخرجه أحمد في المناقب. وعن سلمة -رضى الله عنه- قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر الصديق برايته وكانت بيضاء إلى بعض حصون خيبر, فقاتل ورجع ولم يكن فتح وقد جهد، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لأعطين الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه، ليس بفرار" فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعلي وهو أرمد فتفل في عينيه ثم قال: "خذ هذه الراية فامض بها, حتى يفتح الله عليك" قال سلمة: فخرج والله بها يهرول هرولة وإنا خلفه أثره, حتى ركز رايته في رضم من حجارة تحت الحصن فاطلع عليه يهودي من رأس الحصن فقال: من أنت? قال: أنا علي بن أبي طالب، قال: يقول اليهودي: علوتم وما أنزل على موسى، أو كما قال، فما رجع حتى فتح الله على يديه. أخرجه ابن إسحاق. وعن أبي رافع مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: خرجنا مع علي حين بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برايته, فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم, فضربه رجل من يهود وقد طرح ترسه من يده, فتناول علي بابًا كان عند الحصن فترس به نفسه فلم يزل بيده حتى فتح الله -عز وجل- عليه ثم ألقاه من يده حين فرغ, فلقد رأيتني في نفر معي سبعة أنا ثامنهم نجتهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه, أخرجه أحمد. وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن علي بن أبي طالب حمل الباب يوم خيبر حتى صعد المسلمون فافتتحوها، وبعد ذلك لم يحمله أربعون رجلا وفي طريق ضعيف ثم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 اجتمع عليه سبعون رجلا فكان جهدهم أن أعادوا الباب. أخرجهما الحاكمي في الأربعين. ذكر اختصاصه بأنه وزوجته وابنيه أهل البيت: عن سعيد قال: أمر معاوية سعدًا أن يسب أبا تراب فقال: أما ما ذكرت ثلاثا قالهن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلن أسبه لأن يكون في واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم, سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول وخلفه في بعض مغازيه فقال له علي: تخلفني مع النساء والصبيان، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى, إلا أنه لا نبي بعدي" وسمعته يقول يوم خيبر: "لأعطين الراية ... " وذكر القصة, وسيأتي. ولما نزلت هذه الآية: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} 1 دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليا وفاطمة والحسن والحسين وقال: $"اللهم هؤلاء أهلي" خرجه مسلم والترمذي. وعن أم سلمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جلل على الحسن والحسين وعلي وفاطمة كساء، وقال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا" خرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح. وعن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، قال: قلت لعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة: يا عم, لم كان صغو الناس إلى علي? فقال: يابن أخي إن عليا كان له ما شئت من ضرس قاطع في العلم, وكان له من السطة2 في العشيرة والقدم في الإسلام والصهر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والفقه في السنة, والنجدة في الحرب, والجود في الماعون. ولما نزل قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ   1 سورة آل عمران الآية 61. 2 مصدر وسط يسط سطة، وسيأتي في كلام المؤلف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} 1 دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاطمة وعليًّا وحسنًا وحسينًا في بيت أم سلمة، وقال: "اللهم إن هؤلاء أهل بيتي, فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا" أخرجه القلعي ومعناه في الصحيح, وستأتي أحاديث هذا الذكر مستوفاة في فضل أهل البيت من كتاب "مناقب القرابة والذرية". "شرح" صغو الناس أي: ميلهم، قال أبو زيد: يقال: صغوه معك بفتح الصاد وكسرها وصغاه أي: ميله، تقول منه: صغا يصغو ويصغي صغيا، وكذلك صغي بالكسر يصغى, السطة: المتوسطة تقول: وسطت القوم أسطهم وسطا وسطة أي: توسطتهم وأشار والله أعلم إلى التمكن فيهم؛ لأن من توسط شيئًا تمكن منه, والنجدة والشجاعة، تقول: نجد الرجل بالضم فهو نجد ونجد ونجيد, وجمع نجد: أنجاد مثل يقظ وأيقاظ، وجمع نجيد نجد ونجداء ورجل ذو نجدة أي: ذو بأس, والرجس: القذر، يطلق على العقاب والغضب كما في قوله تعالى: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} قال الفراء: والرجز لغة فيه. ذكر أن بيوته أوسط بيوت رسول الله -صلى الله عليه وسلم: عن سعيد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن عثمان فذكر له محاسن عمله, ثم قال: لعل ذلك يسوءك قال: نعم قال: فأرغم الله أنفك, ثم سأله عن علي فذكر محاسن عمله قال: ذاك بيته أوسط بيوت النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لعل ذلك يسوءك قال: أجل, قال: فأرغم الله أنفك, انطلق فاجهد على جهدك. أخرجه البخاري والمخلص.   1 سورة الأحزاب الآية 33. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 ذكر اختصاصه وزوجه وبنيه بأنه -صلى الله عليه وسلم- حرب لمن حاربهم, سلم لمن سالمهم: عن زيد بن أرقم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لعلي وفاطمة والحسن والحسين: "أنا حرب لمن حاربهم, سلم لمن سالمهم" خرجه الترمذي. وعن أبي بكر الصديق قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيم خيمة وهو متكئ على قوس عربية, وفي الخيمة علي وفاطمة والحسن والحسين فقال: "معشر المسلمين, أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة, حرب لمن حاربهم, ولي لمن والاهم, لا يحبهم إلا سعيد الجد1 طيب المولد, ولا يبغضهم إلا شقي الجد رديء الولادة". ذكر اختصاصه بانتفاء الرمد عن عينيه أبدًا بسبب تفل النبي -صلى الله عليه وسلم- فيهما: عن علي -رضي الله عنه- قال: ما رمدت2 منذ تفل النبي -صلى الله عليه وسلم- في عيني. أخرجه أحمد. وعنه قال: ما رمدت عيناي منذ مسح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجهي, وتفل في عيني يوم خيبر حين أعطاني الراية. أخرجه أبو الخير القزويني. ذكر اختصاصه بلبس لباس الشتاء في الصيف, ولبس لباس الصيف في الشتاء؛ لعدم وجدان الحر والبرد: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان أبي يسمر مع علي, وكان علي يلبس ثياب الصيف في الشتاء وثياب الشتاء في الصيف فقيل له: لو سألته, فسأله فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث إلي وأنا أرمد العين يوم خيبر فقلت: يا   1 الحظ. 2 ما أصابني رمد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 رسول الله إني أرمد العين قال: فتفل في عيني وقال: "اللهم أذهب عنه الحر والبرد" فما وجدت حرا ولا بردا منذ يومئذ, وقال: "لأعطين الراية رجلًا يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله, ليس بفرار" فتشوف لها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعطانيها. أخرجه أحمد. ذكر اختصاصه بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعطيه الراية, فلا ينصرف حتى يفتح عليه: عن عمر بن حبشي قال: خطبنا الحسن حين قتل علي فقال: لقد فارقكم رجل إن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليعطيه الراية فلا ينصرف حتى يفتح عليه, ما ترك من صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم من عطائه كان يرصدها لخادم لأهله. أخرجه أحمد. ذكر اختصاصه بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يبعثه بالسرية, جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله, فلا ينصرف حتى يفتح عليه: عن الحسن أنه قال حين قتل علي: لقد فارقكم رجل ما سبقه الأولون بعلم ولا أدركه الآخرون, كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبعثه بالسرية, جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله لا ينصرف حتى يفتح عليه. أخرجه أحمد وأبو حاتم ولم يقل: بعلم, وأخرجه الدولابي بزيادة ولفظه: لما قتل علي, قام الحسن خطيبا فقال: قتلتم والله رجلا في ليلة نزل فيها القرآن, وفيها رفع عيسى ابن مريم وفيها قتل يوشع فتى موسى, والله ما سبقه أحد كان قبله كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبعثه بالسرية, وذكر الحديث. ذكر اختصاصه بتنويه الملك باسمه يوم بدر: عن أبي جعفر محمد بن علي قال: نادى ملك من السماء يوم بدر يقال له رضوان: لا سيف إلا ذو الفقار ... ولا فتًى إلا علي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 أخرجه الحسن بن عرفة العبدي. "شرح" ذو الفقار: اسم سيف النبي -صلى الله عليه وسلم- قال أبو العباس: سمي بذلك؛ لأنه كانت فيه حفر صغار, والفقرة: الحفرة التي فيها. قال أبو عبيد: والمفقر من السيوف: الذي فيه حزوز. ذكر اختصاصه بحمله راية النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر, وفي المشاهد كلها: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان علي آخذًا راية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر، قال الحكم: يوم بدر والمشاهد كلها. أخرجه أحمد في المناقب. وعن علي -عليه السلام- قال: كسرت يد علي يوم أحد فسقط اللواء من يده، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ضعوه في يده اليسرى، فإنه صاحب لوائي في الدنيا والآخرة" أخرجه الحضرمي. ذكر اختصاصه بكتابة كتاب الصلح يوم الحديبية: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان كاتب كتاب الصلح يوم الحديبية علي بن أبي طالب، قال عبد الرزاق: قال معمر: فسألت عنه الزهري فضحك أو قال: تبسم، وقال: هو علي، ولو سألت هؤلاء لقالوا: هو عثمان يعني بني أمية، خرجه في المناقب والغساني. ذكر اختصاصه يوم الحديبية بتهديد قريش ببعثه عليهم: عن علي -عليه السلام- قال: لما كنا يوم الحديبية؛ خرج لنا أناس من المشركين منهم سهيل بن عمر وناس من رؤساء المشركين، فقالوا: يا رسول الله خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقائنا فارددهم إلينا، فإن كان بهم فقه في الدين فسنفقههم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "يا معشر قريش لتنتهن أو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين، قد امتحن الله قلبه على الإيمان" فقالوا: من هو يا رسول الله? وقال أبو بكر: من هو يا رسول الله? وقال عمر: من هو يا رسول الله؟ قال: "هو خاصف النعل" وكان أعطى عليا نعله يخصفها، ثم التفت علي إلى من عنده وقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح. ذكر اختصاصه بالقتال على تأويل القرآن كما قاتل النبي -صلى الله عليه وسلم- على تنزيله: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: $"إن فيكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله" قال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: "لا" قال عمر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: "لا, ولكن خاصف النعل" وكان أعطى عليا نعله يخصفها. أخرجه أبو حاتم. وعنه قال: كنا ننتظر النبي -صلى الله عليه وسلم- يخرج علينا من بعض بيوت نسائه, فقمنا معه فانقطعت نعله فخلف عليها علي يخصفها, فمضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومضينا معه ثم قام ينتظره وقمنا معه، فقال: "إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله" فاستشرفنا وفينا أبو بكر وعمر، فقال: "لا ولكن خاصف النعل" قال: فجئنا نبشره؛ قال: وكأنه قد سمعه. "شرح" أصل الخصف: الضم والجمع, وخصف النعل: إطباق طاق على طاق، ومنه: {يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} . وقوله: استشرفنا أي: تشوفنا وتطلعنا, تقول: استشرفت الشيء واستكشفته بمعنًى وهو أن تضع يدك على حاجبك كالذي يستظل به من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 الشمس؛ حتى يتبين لك الشيء. حكاه الهروي. ذكر اختصاصه بسدّ الأبواب الشارعة في المسجد, إلا بابه: عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بسدّ الأبواب إلا باب علي. أخرجه الترمذي، وقال: حديث غريب. وعن زيد بن أرقم -رضي الله عنه- قال: كان لنفر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبواب شارعة في المسجد، قال: فقال يوما: "سدوا هذه الأبواب, إلا باب علي" قال: فتكلم في ذلك أناس قال: فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد, فإني أمرت بسد هذه الأبواب إلا باب علي فقال فيه قائلكم, وإني والله ما سددت شيئًا ولا فتحته, ولكن أمرت بشيء فاتبعته" أخرجه أحمد. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: لقد أوتي ابن أبي طالب ثلاث خصال, لأن يكون لي واحدة منهن أحب إليَّ من حمر النعم: زوجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابنته وولدت له, وسد الأبواب إلا بابه في المسجد, وأعطاه الراية يوم خيبر. أخرجه أحمد. وعن أبي هريرة -رضى الله عنه- قال: قال عمر: ثلاث خصال لعلي, لأن يكون لي خصلة منهن أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم: تزويج فاطمة بنت النبي -صلى الله عليه وسلم- وسكناه في المسجد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإعطاء الراية يوم خيبر. أخرجه ابن السمان في الموافقة. وعن عبد الله بن شريك, عن عبد الله بن الأرقم الكسائي قال: خرجنا إلى المدينة زمن الجمل, فلقينا سعد بن مالك فقال: أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسد الأبواب الشارعة في المسجد, وترك باب علي. أخرجه أحمد. قال السعدي: عبد الله بن شريك كذاب، وقال ابن حبان: كان غاليًا في التشيع, يروي عن الأثبات ما لا يشبه حديث الثقات. وقد روي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 هذا الحديث عن ابن عباس وجابر؛ وإنما الصحيح ما أخرج في الصحيحين عن أبي سعد: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يبقى باب في المسجد إلا سد، إلا باب أبي بكر" وإن صح الحديث عن علي أيضا حمل ذلك على حالين مختلفين؛ توفيقًا بين الحديثين. ذكر اختصاصه بالمرور في المسجد جنبًا: عن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا علي, لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك" قال علي بن المنذر: قلت لضرار بن صرد: ما معنى هذا الحديث? قال: لا يحل لأحد يستطرقه جنبا غيري وغيرك. أخرجه الترمذي. ذكر اختصاصه بأنه حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كنت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فرأى عليا مقبلا فقال: "يا أنس" قلت: لبيك, قال: "هذا المقبل حجتي على أمتي يوم القيامة". ذكر اختصاصه بأنه باب دار الحكمة: عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا دار الحكمة وعلي بابها" أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب. ذكر اختصاصه بأنه باب دار العلم, وباب مدينة العلم: عن علي -عليه السلام- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا دار العلم وعلي بابها" أخرجه في المصابيح في الحسان، وأخرجه أبو عمر وقال: "أنا مدينة العلم" وزاد: "فمن أراد العلم, فليأته من بابه". ذكر اختصاصه بأنه أعلم الناس بالسنة: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: من أفتاكم بصوم عاشوراء? قالوا: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 علي, قالت: أما إنه أعلم الناس بالسنة. أخرجه أبو عمر. ذكر اختصاصه بأنه أكبر الأمة علمًا, وأعظمهم حلمًا: عن معقل بن يسار قال: وصب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "هل لك في فاطمة تعودها?" فقلت: نعم, فقام متوكئًا عليَّ فقال: "إنه سيحمل ثقلها غيرك, ويكون أجرها لك" قال: فكأنه لم يكن علي شيء حتى دخلنا على فاطمة فقلنا: كيف تجدينك? قالت: لقد اشتد حزني، واشتدت فاقتي، وطال سقمي. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: وجدت بخط أبي في هذا الحديث قال: "أوما ترضين أني زوجتك أقدمهم سلمًا 1 وأكثرهم علمًا وأعظمهم حلمًا؟ " أخرجه أحمد وأخرجه القلعي وقال: "زوجتك سيدا في الدنيا والآخرة" ثم ذكر الحديث. وعن عطاء وقد قيل له: أكان في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحد أعلم من علي؟ قال: ما أعلم. أخرجه القلعي. وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: أعلم أهل المدينة بالفرائض علي بن أبي طالب. وعن المغيرة نحوه، أخرجهما القلعي. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: والله لقد أعطي تسعة أعشار العلم، وايم الله لقد شارككم في العشر العاشر, أخرجه أبو عمر. وعنه وقد سأله الناس فقالوا: أي رجل كان عليا? قال: كان مملئا جوفه حكما وعلما وبأسا ونجدة, مع قرابته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم. أخرجه أحمد في المناقب.   1 أقدمهم دين سلم أي: إسلام، وفي القرآن الكريم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 "شرح" البأس: الشدة في الحرب، يقول: بؤس الرجل بالضم يبؤس بأسًا فهو بئيس على فعيل أي: شجاع, والنجدة: الشجاعة، تقول منه: نجد ينجد بالضم فهو نجيد ونجد ونجد. وروي أن عمر أراد رجم المرأة التي ولدت لستة أشهر، فقال له علي: إن الله تعالى يقول {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} 1 وقال تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} 2 فالحمل ستة أشهر والفصال في عامين, فترك عمر رجمها وقال: لولا علي لهلك عمر. أخرجه العقيلي، وأخرجه ابن السمان عن أبي حزم بن أبي الأسود. وعن سعيد بن المسيب قال: كان عمر يتعوذ من معضلة ليس لها أبو حسن. أخرجه أحمد وأبو عمر. وعن محمد بن الزبير قال: دخلت مسجد دمشق فإذا أنا بشيخ قد التوت ترقوتاه من الكبر فقلت: يا شيخ من أدركت? قال: عمر قلت: فما غزوت? قال: اليرموك. قلت: فحدثني بشيء سمعته قال: خرجنا مع قتيبة حجاجًا فأصبنا بيض نعام -وقد أحرمنا- فلما قضينا نسكنا ذكرنا ذلك لأمير المؤمنين عمر، فأدبر وقال: اتبعوني حتى انتهى إلى حجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فضرب حجرة منها، فأجابته امرأة فقال: أثم أبو حسن? قالت: لا, فمر في المقتاة، فأدبر وقال: اتبعوني، حتى انتهى إليه وهو يسوي التراب بيده فقال: مرحبًا يا أمير المؤمنين, فقال: إن هؤلاء أصابوا بيض حمام وهم محرمون قال: ألا أرسلت إلي? قال: أنا أحق بإتيانك, قال: يضربون الفحل قلائص أبكارا بعدد البيض، فما نتج منها أهدوه. قال عمر: فإن الإبل تخدج, قال علي: والبيض يمرض، فلما أدبر قال   1 سورة الأحقاف الآية 15. 2 سورة لقمان الآية 14. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 عمر: اللهم لا تنزل بي شديدة إلا وأبو حسن إلى جنبي. أخرجه ابن البختري. ذكر اختصاصه بإحالة جمع من الصحابة عند سؤالهم عليه: عن أذينة العبدي قال: أتيت عمر فسألته: من أين أعتمر? قال: ائت عليا فسله. أخرجه أبو عمر وابن السمان في الموافقة. وعن أبي حازم قال: جاء رجل إلى معاوية فسأله عن مسألة فقال: سل عنها علي بن أبي طالب، فهو أعلم. قال: يا أمير المؤمنين جوابك فيها أحب إلي من جواب علي, قال: بئس ما قلت، لقد كرهت رجلا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يغزره بالعلم غزرًا، ولقد قال له: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" وكان عمر إذا أشكل عليه شيء أخذه منه. أخرجه أحمد في المناقب. "شرح" الغزارة بالغين المعجمة: الكثرة, وقد غزر الشيء بالضم: كثر. وعن عائشة -رضي الله عنها- وقد سئلت عن المسح على الخفين فقالت: ائت عليا فسله. أخرجه مسلم. وعن ابن عمر أن اليهود جاءوا إلى أبي بكر فقالوا: صف لنا صاحبك, فقال: معشر اليهود لقد كنت معه في الغار كإصبعي هاتين، ولقد صعدت معه جبل حراء وإن خنصري لفي خنصره، ولكن الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم- شديد وهذا علي بن أبي طالب. فأتوا عليا فقالوا: يا أبا الحسن صف لنا ابن عمك فقال: لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالطويل الذاهب طولا ولا بالقصير المتردد، كان فوق الربعة أبيض اللون مشربا حمرة جعد الشعر ليس بالقطط, يضرب شعره إلى أرنبته, صلت الجبين أدعج العينين دقيق المسربة, براق الثنايا أقنى الأنف كأن عنقه إبريق فضة، له شعرات من لبته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 إلى سرته كأنهن قضيب مسك أسود, ليس في جسده ولا في صدره شعرات غيرهن، وكان شثن الكف والقدم، وإذا مشى كأنما يتقلع من صخر، وإذا التفت التفت بمجامع بدنه، وإذا قام غمر الناس، وإذا قعد علا الناس، وإذا تكلم أنصت الناس وإذا خطب أبكى الناس، وكان أرحم الناس بالناس، لليتيم كالأب الرحيم وللأرملة كالكريم الكريم، أشجع الناس وأبذلهم كفا وأصبحهم وجها، لباسه العباء وطعامه خبز الشعير وإدامه اللبن ووساده الأدم محشوا بليف النخل، سريره أم غيلان مرمل بالشريف، كان له عمامتان إحداهما تدعى السحاب والأخرى العقاب، وكان سيفه ذا الفقار ورايته الغراء وناقته العضباء, وبغلته دلدل وحماره يعفور وفرسه مرتجز وشاته بركة وقضيبه الممشوق ولواؤه الحمد، وكان يعقل البعير ويعلف الناضح ويرقع الثوب ويخصف النعل. وعن زيد بن علي عن أبيه عن جده قال: أتي عمر بامرأة حامل قد اعترفت بالفجور فأمر برجمها، فتلقاها علي فقال: ما بال هذه? فقالوا: أمر عمر برجمها فردها علي وقال: هذا سلطانك عليها, فما سلطانك على ما في بطنها? ولعلك انتهرتها أو أخفتها, قال: قد كان ذلك, قال: أوما سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا حد على معترف بعد بلاء, إنه من قيد أو حبس أو تهدد فلا إقرار له"؟ فخلى سبيلها. وعن عبيد الله بن الحسن قال: دخل علي على عمر وإذا امرأة حبلى تقاد ترجم، فقال: ما شأن هذه? قال: يذهبون بها يرجموها, فقال: يا أمير المؤمنين لأي شيء ترجم? إن كان لك سلطان عليها فما لك سلطان على ما في بطنها, فقال عمر: كل أحد أفقه مني ثلاث مرات, فضمنها علي حتى وضعت غلاما، ثم ذهب بها إليه فرجمها، فهذه غير تلك والله أعلم؛ لأن اعتراف تلك كان بعد تخويف فلم يصح فلم ترجم، وهذه رجمت كما تضمنه الحديثان. عن عبد الرحمن السلمي قال: أتي عمر بامرأة أجهدها العطش الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 فمرت على راع فاستسقته, فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها ففعلت, فشاور الناس في رجمها فقال لي علي: هذه مضطرة إلى ذلك, فخل سبيلها ففعل. وعن أبي ظبيان قال: شهدت عمر بن الخطاب أتي بامرأة قد زنت فأمر برجمها، فذهبوا بها ليرجموها فلقيهم علي فقال لهم: ما بال هذه? قالوا: زنت فأمر عمر برجمها, فانتزعها علي من أيديهم فردهم فرجعوا إلى عمر فقالوا: ردنا علي. قال: ما فعل هذا إلا لشيء، فأرسل إليه فجاء فقال: ما لك رددت هذه? قال: أما سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "رفع 1 القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ, وعن الصغير حتى يكبر, وعن المبتلى حتى يعقل"؟ قال: بلى قال: فهذه مبتلاة بني فلان فلعله أتاها وهويها. قال له عمر: لا أدري. قال: وأنا لا أدري؛ فترك رجمها. وعن مسروق أن عمر أتي بامرأة قد نكحت في عدتها ففرق بينهما وجعل مهرها في بيت المال، وقال: لا يجتمعان أبدًا, فبلغ عليا فقال: إن كان جهلا فلها المهر بما استحل من فرجها ويفرق بينهما, فإذا انقضت عدتها فهو خاطب من الخطاب. فخطب عمر وقال: ردوا الجهالات إلى السنة, فرجع إلى قول علي. أخرج جميع ذلك ابن السمان في الموافقة، أخرج حديث أبي ظبيان أحمد. عن ابن سيرين أن عمر سأل الناس: كم يتزوج المملوك? وقال لعلي: إياك أعني يا صاحب المعافري, رداء كان عليه, قال: اثنتين. وعن محمد بن زياد قال: كان عمر حاجا, فجاءه رجل قد لطمت عينه فقال: من لطم عينك? قال: علي بن أبي طالب. فقال: لقد وقعت   1 روى الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 عليك عين الله؛ ولم يسأل ما جرى منه ولم لطمه. فجاء علي والرجل عند عمر فقال علي: هذا الرجل رأيته يطوف وهو ينظر إلى الحرم في الطواف، فقال عمر: لقد نظرت بنور الله. وفي رواية: كان عمر يطوف بالبيت وعلي يطوف أمامه, إذ عرض رجل لعمر فقال: يا أمير المؤمنين خذ حقي من علي بن أبي طالب. قال: وما باله? قال: لطم عيني، قال: فوقف عمر حتى لحق به علي فقال: ألطمت عين هذا يا أبا الحسن? قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ولم? قال: لأني رأيته يتأمل حرم المؤمنين في الطواف فقال عمر: أحسنت يا أبا الحسن. ثم أقبل على الرجل فقال: وقعت عليك عين من عيون الله -عز وجل- فلا حق لك فقال يقلب، يعني صاحبه: من جواهر الله, ولي من أولياء الله تعالى. وعن حنش بن المعتمر: أن رجلين أتيا امرأة من قريش فاستودعاها مائة دينار وقالا: لا تدفعيها إلى أحد منا دون صاحبه حتى نجتمع، فلبثا حولا ثم جاء أحدهما إليها وقال: إن صاحبي قد مات فادفعي إلي الدنانير، فأبت فثقل عليها بأهلها فلم يزالوا بها حتى دفعتها إليه، ثم لبثت حولا آخر، فجاء الآخر فقال: ادفعي إلي الدنانير، فقالت: إن صاحبك جاءني وزعم أنك قد مت فدفعتها إليه فاختصما إلى عمر، فأراد أن يقضي عليها. وروي أنه قال لها: ما أراك إلا ضامنة! فقالت: أنشدك الله أن تقضي بيننا، وارفعنا إلى علي بن أبي طالب، فرفعها إلى علي وعرف أنهما قد مكرا بها، فقال: أليس قلتما لا تدفعيها إلى واحد منا دون صاحبه؟ قالا: بلى. قال: فإن مالك عندنا, اذهب فجئ بصاحبك حتى ندفعها إليكما. وعن موسى بن طلحة أن عمر اجتمع عنده مال فقسمه ففضلت منه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 فضلة فاستشار أصحابه في ذلك الفضل فقالوا: نرى أن تمسكه، فإن احتجت إلى شيء كان عندك, وعلي في القوم لا يتكلم. فقال عمر: ما لك لا تتكلم يا علي? قال: قد أشار عليك القوم، قال: وأنت فأشر. قال: فإني أرى أن تقسمه، ففعل. وعن حارثة بن مضرب أن عمر أراد أن يقسم السواد فقال له علي: إن للناس نسلًا من أولادهم وموادة من أعرابهم، فدعهم كما هم. وعن أبي سعيد الخدري سمع عمر يقول لعلي, وقد سأله عن شيء فأجابه: أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا حسن. وعن يحيى بن عقيل قال: كان عمر يقول لعلي, إذا سأله ففرج عنه: لا أبقاني الله بعدك يا علي. وعنه عن علي أنه قال لعمر: يا أمير المؤمنين إن سرك أن تلحق بصاحبيك, فأقصر الأمل وكل دون الشبع واقصر الإزار وارفع القميص واخصف النعل تلحق بهما. أخرج جميع ذلك ابن السمان. وعن محمد بن يحيى بن حبان بن منقذ كان تحته امرأتان: هاشمية وأنصارية، فطلق الأنصارية ثم مات على رأس الحول فقالت: لم تنقض عدتي؟ فارتفعوا إلى عثمان فقال: هذا ليس لي به علم، فارتفعوا إلى علي، فقال علي: تحلفين عند منبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنك لم تحيضي ثلاث حيضات ولك الميراث? فحلفت فأشركت في الإرث. أخرجه ابن حرب الطائي. ذكر اختصاصه بأنه لم يكن أحد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: سلوني غيره: عن سعيد بن المسيب أنه قال: لم يكن أحد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: سلوني إلا عليا. أخرجه أحمد في المناقب والبغوي في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 المعجم، وأبو عمر ولفظه: ما كان أحد من الناس يقول: سلوني غير علي بن أبي طالب. وعن أبي الطفيل قال: شهدت عليًّا يقول: سلوني, والله لا تسألونني عن شيء إلا أخبرتكم، وسلوني عن كتاب الله فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار، في سهل أم في جبل. أخرجه أبو عمر. ذكر اختصاصه بأنه أقضى الأمة: عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أقضى أمتي علي" أخرجه في المصابيح في الحسان. وعن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- قال: أقضانا علي بن أبي طالب. أخرجه السلفي. وعن ابن مسعود قال: كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي بن أبي طالب. وعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تختصم الناس بسبع ولا يحاجك أحد من قريش؛ أنت أولهم إيمانًا بالله, وأوفاهم بعهد الله، وأقومهم بأمر الله، وأقسمهم بالسوية، وأعدلهم في الرعية, وأبصرهم بالقضية، وأعظمهم عند الله مزية" أخرجه الحاكمي. ذكر دعائه -صلى الله عليه وسلم- حين ولاه قضاء اليمن: عن علي -رضي الله عنه- قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن قاضيًا وأنا حديث السن فقلت: يا رسول الله، تبعثني إلى قوم يكون بينهم أحداث ولا علم لي بالقضاء?! قال: "إن الله سيهدي لسانك, ويثبت قلبك" قال: فما شككت في قضاء بين اثنين. وفي رواية: "إن الله يثبت لسانك, ويهدي قلبك" قال: ثم وضع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 يده على فمه. أخرجهما أحمد. "شرح" أحداث: جمع حدث وهو الأمر يحدث ويقع، والحدث والحدثي والحادثة والحدثان كلها بمعنًى. وعنه قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن قاضيًا، فقلت: يا رسول الله تبعثني إلى قوم ذوي أسنان وأنا شاب لا أعلم القضاء? فوضع يده على صدري وقال: "إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك, يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقضِ بينهما حتى تسمع من الآخر كما تسمع من الأول، إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء" قال علي: فما اختلف, وربما قال شريك: فما أشكل علي قضاء بعد ذلك. وفي رواية: فما شككت, فما شككت في قضاء وما زلت قاضيًا بعد. أخرجه الإسماعيلي الحاكمي. ذكر بعض أقضيته: عن رزين بن حبيش قال: جلس اثنان يتغديان ومع أحدهما خمسة أرغفة والآخر ثلاثة أرغفة وجلس إليهما ثالث واستأذنهما في أن يصيب من طعامهما, فأدنا له فأكلوا على السواء ثم ألقى إليهما ثمانية دراهم وقال: هذا عوض ما أكلت من طعامكما, فتنازعا في قسمتها فقال صاحب الخمسة: لي الخمسة ولك ثلاثة وقال صاحب الثلاثة: بل نقسمها على السواء فترافعا إلى علي فقال لصاحب الثلاثة: اقبل من صاحبك ما عرض عليك فأبى وقال: ما أريد إلا مر الحق, فقال علي عليه السلام: لك في مر الحق درهم واحد وله سبعة. قال: وكيف ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: لأن الثمانية أربعة وعشرون ثلثا لصاحب الخمسة خمسة عشر ولك تسعة، وقد استويتم في الأكل، فأكلت ثمانية وبقي لك واحد، وأكل صاحبك ثمانية وبقي له سبعة وأكل الثالث ثمانية سبعة لصاحبك وواحد لك. فقال: رضيت الآن. أخرجه القلعي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 وعن علي -عليه السلام- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثه إلى اليمن فوجد أربعة وقعوا في حفرة حفرت ليصطاد فيها الأسد، سقط أولا رجل فتعلق بآخر وتعلق الآخر بآخر حتى تساقط الأربعة فجرحهم الأسد وماتوا من جراحته؛ فتنازع أولياؤهم حتى كادوا يقتتلون فقال علي: أنا أقضي بينكم فإن رضيتم فهو القضاء وإلا حجزت بعضكم عن بعض, حتى تأتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليقضي بينكم. اجمعوا من القبائل الذين حفروا البئر ربع الدية وثلثها ونصفها ودية كاملة, فللأول ربع الدية لأنه أهلك من فوقه وللذي يليه ثلثها لأنه أهلك من فوقه وللثالث النصف لأنه أهلك من فوقه وللرابع الدية كاملة, فأبوا أن يرضوا، فأتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلقوه عند مقام إبراهيم، فقصوا عليه القصة فقال: "أنا أقضي بينكم" واحتبى ببردة, فقال رجل من القوم: إن عليا قضى بيننا. فلما قصوا عليه القصة أجازه. أخرجه أحمد في المناقب. وعن الحارث عن علي أنه جاءه رجل بامرأة فقال: يا أمير المؤمنين دلست علي هذه وهي مجنونة, قال: فصعد علي بصره وصوبه وكانت امرأة جميلة فقال: ما يقول هذا? قالت: والله يا أمير المؤمنين ما بي جنون، ولكني إذ كان ذلك الوقت غلبتني غشية. فقال علي: خذها ويحك وأحسن إليها, فما أنت لها بأهل. أخرجه السلفي. وعن زيد بن أرقم قال: أتي علي في اليمن بثلاثة نفر وقعوا على جارية في طهر واحد, فولدت ولدا فادعوه فقال علي لأحدهم: تطيب به نفسا لهذا? قال: لا. قال: أراكم شركاء متشاكسين، إني مقرع بينكم، فما أجابته القرعة أغرمته ثلثي القيمة وألزمته الولد، فذكروا ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما أجد فيها إلا ما قال علي". وعن جميل بن عبد الله بن يزيد المدني قال: ذكر عند النبي -صلى الله عليه وسلم- قضاء قضى به علي, فأعجب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "الحمد لله الذي جعل فينا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 الحكمة أهل البيت" أخرجهما أحمد في المناقب. ذكر اختصاصه بالعمل بآية في كتاب الله -عز وجل: وعن علي عليه السلام أنه قال: آية في كتاب الله -عز وجل- لم يعمل بها أحد بعدي, آية النجوى. كان لي دينار فبعته بعشرة دراهم, فلما أردت أن أناجي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدمت درهما، فنسختها الآية الأخرى: {أَأَشْفَقْتُمْ} 1 الآية. أخرجه ابن الجوزي في أسباب النزول. ذكر اختصاصه بنجوى النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الطائف: عن جابر قال: دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- عليًّا يوم الطائف فانتجاه, فقال الناس: لقد طال نجواه مع ابن عمه, فقال صلى الله عليه وسلم: "ما انتجيته, ولكن الله انتجاه" أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب. "شرح" انتجاه: من النجوى وهو السر بين اثنين, يقول: نجوته نجوى أي: ساررته، وكذا ناجيته، وانتجى القوم وتناجوا أي: تساروا. ذكر اختصاصه بالرقى على منكبي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض الأحوال: عن علي -عليه السلام- قال: انطلقت أنا والنبي -صلى الله عليه وسلم- حتى أتينا الكعبة فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اجلس" وصعد على منكبي, فذهبت لأنهض به فرأى مني ضعفا، فنزل، وجلس لي نبي الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "اصعد على منكبي" فصعدت على منكبيه، قال: فنهض، قال: فتخيل إلي، إن شئت لنلت أفق السماء حتى صعدت على البيت وعليه تمثال صفراء ونحاس، فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله ومن بين يديه ومن خلفه حتى إذا استمكنت منه قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اقذف به" فقذفت به   1 سورة المجادلة الآية 13. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 فتكسر كما تتكسر القوارير ثم نزلت، فانطلقت أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- نستبق حتى توارينا بالبيوت خشية أن يلقانا أحد من الناس. أخرجه أحمد وصاحب الصفوة, وأخرجه الحاكمي. وقال بعد قوله فصعدت على الكعبة: فقال لي: ألق صنمهم الأكبر, وكان من نحاس موتدا بأوتاد من حديد إلى الأرض. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "عالجه" فلم أزل أعالجه حتى استمكنت منه فقال: "اقذفه" فقذفته, ثم ذكر باقي الحديث وزاد, فما صعد حتى الساعة. "شرح" التمثال: الصورة، والجمع: التماثيل. وقوله: أزاوله أي: أحاوله وأعالجه، والمزاولة: المحاولة والمعالجة, والقذف: الرمي إما بالحجارة أو بالغيب, وقوله: توارينا أي: استترنا. ذكر اختصاصه بحمل لواء الحمد يوم القيامة, والوقوف في ظل العرش بين إبراهيم والنبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه يكسى إذا كسي النبي -صلى الله عليه وسلم: عن محدوج بن زيد الدهلي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعلي: "أما علمت يا علي أنه أول من يدعى به يوم القيامة بي, فأقوم عن يمين العرش في ظله فأكسى حلة خضراء من حلل الجنة، ثم يدعى بالنبيين بعضهم على أثر بعض فيقومون سماطين عن يمين العرش ويكسون حللا خضراء من حلل الجنة، ألا وإني أخبرك يا علي أن أمتي أول الأمم يحاسبون يوم القيامة، ثم أبشر: أول من يدعى بك لقرابتك مني فيدفع إليك لوائي وهو لواء الحمد، تسير به بين السماطين آدم وجميع خلق الله تعالى يستظلون بظل لوائي يوم القيامة, وطوله مسيرة ألف سنة, سنانه ياقوتة حمراء, قبضته فضة بيضاء، زجه درة خضراء, له ثلاث ذوائب من نور ذؤابة في المشرق وذؤابة في المغرب والثالثة في وسط الدنيا, مكتوب عليه ثلاثة أسطر، الأول: بسم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 الله الرحمن الرحيم, الثاني: الحمد لله رب العالمين، الثالث: لا إله إلا الله محمد رسول الله. طول كل سطر ألف سنة وعرضه مسيرة ألف سنة، فتسير باللواء والحسن عن يمينك والحسين عن يسارك حتى تقف بيني وبين إبراهيم في ظل العرش، ثم تكسى حلة من الجنة، ثم ينادي منادٍ من تحت العرش: نعم الأب أبوك إبراهيم ونعم الأخ أخوك علي, أبشر يا علي, إنك تكسى إذا كسيت, وتدعى إذا دعيت، وتحيى إذا حييت" أخرجه أحمد في المناقب. وفي رواية وأخرجهما الملاء في سيرته: قيل: يا رسول الله وكيف يستطيع علي أن يحمل لواء الحمد? فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "وكيف لا يستطيع ذلك وقد أعطي خصالا شتى: صبرًا كصبري، وحسنا كحسن يوسف، وقوة كقوة جبريل؟ ". وعن جابر بن سمرة أنهم قالوا: يا رسول الله, من يحمل رايتك يوم القيامة? قال: "من عسى أن يحملها يوم القيامة إلا من كان يحملها في الدنيا, علي بن أبي طالب" أخرجه نظام الملك في أماليه. وأخرج المخلص الذهبي عن أبي سعيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كسا نفرًا من أصحابه ولم يكس عليا، فكأنه رأى في وجه علي فقال: "يا علي, أما ترضى أنك تكسى إذا كسيت, وتعطى إذا أعطيت". "شرح" السماطان من الناس والنخل: الجانبان، يقال: مشى بين السماطين. ذكر اختصاصه بثلاث بسبب النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يؤت النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلهن: روى أبو سعيد في شرف النبوة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لعلي: "أوتيتَ ثلاثا لم يؤتهن أحد ولا أنا: أوتيت صهرًا مثلي ولم أؤت أنا مثلك، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 وأوتيت زوجة صديقة مثل ابنتي, ولم أؤت مثلها زوجة, وأوتيت الحسن والحسين من صلبك، ولم أؤت من صلبي مثلهما، ولكنكم مني وأنا منكم". وأخرج معناه ابن موسى الرضا في مسنده وزيادة في لفظه: "يا علي, أعطيت ثلاثا لم يجتمعن لغيرك: مصاهرتي وزوجك وولديك، والرابعة لولاك ما عرف المؤمنون". وقوله: "ولولاك ما عرف المؤمنون" معناه مستفاد مما ذكرناه في قوله -صلى الله عليه وسلم: "من كنت مولاه فعلي مولاه" على حمل المولى على الناصر. وقد تقدم في مناقب أبي بكر، أو يكون لما كان حب علي علما للمؤمنين كما تقدم في أنه لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق, جاز إطلاق ذلك لأن العلامة تعرفه, فلولاه ما حصلت تلك العلامة. ذكر اختصاصه بأربعة ليست لأحد غيره: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لعلي أربع خصال ليست لأحد غيره: هو أول عربي وعجمي صلى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي كان لواؤه معه في كل زحفه، وهو الذي صبر معه يوم فر عنه غيره, وهو الذي غسله وأدخله قبره. أخرجه أبو عمر. ذكر اختصاصه بخمس أعطيها النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أعطيت في علي خمسا هو أحب إلي من الدنيا وما فيها: أما واحدة فهو تكأتي بين يدي الله -عز وجل- حتى يفرغ من الحساب، وأما الثانية فلواء الحمد بيده آدم ومن ولده تحته، وأما الثالثة فواقف على عقر حوضي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 يسقي من عرف من أمتي، وأما الرابعة فساتر عوراتي 1 ومسلمي إلى ربي -عز وجل- وأما الخامسة فلست أخشى عليه أن يرجع زانيًا بعد إحصان ولا كافرًا بعد إيمان" أخرجه أحمد في المناقب. "شرح" عقر الحوض: آخره بضم العين وإسكان القاف وضمها لغتان, وتكأة بزنة الهمزة: ما يتكأ عليه والكثير الاتكاء أيضًا. ذكر اختصاصه بعشر: عن عمرو بن ميمون قال: إني لجالس عند ابن عباس إذ أتاه سبعة رهط فقالوا: يابن عباس إما أن تقوم معنا وإما أن تخلو من هؤلاء. قال: بل أقوم معكم وهو يومئذ صحيح قبل أن يعمى. قال: فانتدوا يتحدثون فلا أدري ما قالوا؛ قال: فجاء ينفض ثوبه، ويقول: أف وتف، وقعوا في رجل له عشر، وقعوا في رجل, قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "لأبعثن رجلا لا يخزيه الله أبدًا, يحب الله ورسوله" قال: فاستشرف لها من استشرف، فقال: "أين علي?" قالوا: هو في الرحى يطحن. قال: "فما كان أحدكم يحن! " فجاء وهو أرمد لا يكاد يبصر، فنفث في عينيه، ثم هز الراية ثلاثا فأعطاه إياها، فجاء بصفية بنت حيي قال: ثم بعث فلانا بسورة التوبة فبعث عليا خلفه فأخذها منه وقال: "لا يذهب بها إلا رجل مني وأنا منه" قال: وقال لبني عمه: "أيكم يواليني في الدنيا والآخرة؟ " قال: وعلي معه جالس فأبوا, قال علي: أنا أواليك في الدنيا والآخرة. قال: فتركه ثم أقبل على رجل منهم، فقال: "أيكم يواليني في الدنيا والآخرة?" فأبوا فقال علي: أنا أواليك في الدنيا والآخرة. قال: "أنت وليي في الدنيا والآخرة" قال: وكان أول من أسلم من الناس بعد خديجة قال: وأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثوبه فوضعه على علي وفاطمة وحسن وحسين، فقال: " {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ   1 في نسخة: عواري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} قال: وكان شرا على نفسه, فلبس ثوب النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم نام مكانه، قال: فكان المشركون يرمون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاء أبو بكر وعلي نائم. قال: وأبو بكر يحسب أنه نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فقال له علي: إن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- انطلق نحو بئر ميمون فأدركه. فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار؛ قال: وجعل علي يرمى بالحجارة كما كان يرمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يتضور, فدلف رأسه في الثوب لا يخرجه حتى أصبح، ثم كشف عن رأسه فقالوا: إنك للئيم، كان صاحبك نرميه فلا يتضور وأنت تتضور، وقد استنكرنا ذلك. قال: وخرج بالناس في غزوة تبوك. قال: فقال له علي: أخرج معك? قال: فقال له نبي الله -صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنك لست بنبي? إنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي" وقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنت ولي كل مؤمن بعدي" قال: وسد أبواب المسجد إلا باب علي، قال: فيدخل المسجد جنبا وهو طريقه ليس له طريق غيره قال: وقال: "من كنت مولاه فإن عليا مولاه" قال: وأخبرنا الله -عز وجل- في القرآن أنه قد رضي على أصحاب الشجرة فعلم ما في قلوبهم, هل حدثنا أنه سخط عليهم بعد? قال: وقال عمر: يا نبي الله ائذن لي أضرب عنقه -يعني حاطبا- قال: وكنت فاعلا، "وما يدريك, لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم". أخرجه بتمامه أحمد والحافظ أبو القاسم الدمشقي في الموافقات وفي الأربعين الطوال، وأخرج النسائي بعضه. "شرح" انتدوا أي: جلسوا في النادي وكذلك تنادوا, والتنادي والندى والمنتدى والندوة: مجلس القوم ومتحدثهم فاستعير للمكان الذي جلسوا فيه وتحدثوا؛ لأنهم اتخذوه لذلك أو لعله كان مكانا معدا لذلك أف وتف: أي قذر له يقال: أفا له وأفة وتفة والتنوين للتنكير وقد أفف تأفيفًا إذا قال له: أف، ومنه قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} وفيه ست لغات حكاها الأخفش: أف، أف أف، بالكسر والفتح والضم دون تنوين، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 وبالثلاثة مع التنوين، وتفا: اتباع، قاله الجوهري. ويمكن أن يقال: معناه القذر لأن التف وسخ الأظفار, والنفث: شبيه بالنفخ وهو أقل من التفل لا ريق معه, تقول منه: نفث ينفث بكسر الفاء وضمها، و {النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} : السواحر وأوله النفخ ثم النفث ثم التفل ثم البزق. وقد تقدم من حديث مسلم أنه بصق في عينه، فيكون أطلق على البصق النفث أو بالعكس لأنه أوله, والتضور: الصياح والتلوي عند الضرب. وقوله: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" تقدم الكلام فيه مستوفى في فضل خلافة أبي بكر. ذكر قصة لبس علي ثوب النبي -صلى الله عليه وسلم- ونومه مكانه, على ما ذكره ابن عباس في الحديث آنفا: قال ابن إسحاق: لما رأت قريش أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صارت له شيعة وأنصار من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه المهاجرين إليهم عرفوا أنهم قد نزلوا دارا وأصابوا فيهم منعة، فحذروا خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- فاجتمعوا في دار الندوة التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها يتشاورون ما يصنعون برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان إبليس قد تصور لهم في صورة شيخ فوقف على الباب، فلما رأوه قالوا: من الشيخ? قال: شيخ من أهل نجد، سمع بالذي اتعدتم عليه فحضر ليسمع، وعسى لا يعدمكم منه رأي! فقالوا: ادخل فدخل معهم. فقال قائل: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله زهيرا والنابغة، ومن مضى منهم من هذا الموت. فقال الشيخ النجدي: ما هذا برأي، والله لئن حبستموه -كما تقولون- ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فيثبون عليكم وينزعونه، فانظروا في غير هذا الرأي. فقال قائل: نخرجه من بين أظهرنا وننفيه من بلادنا، فما نبالي أين يذهب إذا غاب عنا قال الشيخ النجدي: لا والله ما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 هذا لكم برأي ألم تروا إلى حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به! والله لئن فعلتم ذلك ما آمن أن يحل على حي من أحياء العرب فيغلب عليهم بذلك حتى يبايعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم قال أبو جهل: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتًى شابًّا جليدًا نسيبًا وسيطًا فيها، ثم يعطى كل فتى منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه, فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا، فرضوا منا بعقل فعقلنا لهم، فقال الشيخ النجدي: القول ما قال أبو جهل، هذا الرأي لا أرى غيره، فتفرق القوم وهم على ذلك مجمعون، فأتى جبريل -عليه السلام- النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه" قال: فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه, فلما رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكانهم قال لعلي: "نم على فراشي واتشح ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم" وكان صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام. قال: فاجتمعوا، وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخذ حفنة من تراب في يده وأخذ الله على أبصارهم فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رءوسهم وهو يتلو هذه الآيات من يس: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} 1 حتى فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذه الآيات ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع التراب على رأسه، ثم انصرف إلى حيث أراد، فأتاهم آتٍ فقال: ما تنتظرون ههنا? قالوا: محمدًا قال: حسيبكم الله, قد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابًا وانطلق لحاجته، فما ترون ما بكم? قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يطلعون فيرون عليا على الفراش متسجيا ببرد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقولون: والله إن هذا   1 سورة يس الآية 9. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 لمحمد نائمًا عليه برده, فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي من الفراش فقالوا: لقد صدقنا الذي كان حدثنا. قال: وأنزل الله تعالى في ذلك: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} 1 إلى {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} 2 وقوله: {شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ} 3 إلى {فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} قال: وأذن الله -جل وعز- لنبيه في الهجرة. ذكر اختصاصه بما نزل فيه من الآي: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً} 4 قال: نزلت في علي بن أبي طالب, كانت معه أربعة دراهم فأنفق في الليل درهما وفي النهار درهما ودرهما في السر ودرهما في العلانية, فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما حملك على هذا?" قال: أن أستوجب على الله ما وعدني, فقال: "ألا إن لك ذلك" فنزلت الآية. وتابع ابن عباس مجاهد وابن التائب ومقاتل وقيل: نزلت فيمن يربط الخيل في سبيل الله؛ قاله أبو الدرداء وأبو أمامة. ويروى عن ابن عباس أيضا. وروي عنه أيضا أنها نزلت في علي وعبد الرحمن بن عوف, حمل علي إلى أهل الصفة وسق تمر ليلا وحمل إليهم عبد الرحمن دراهم كثيرة نهارا. أخرجه الواحدي وأبو الفرج في أسباب النزول. ومنها قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُه ... } 5 الآية نزلت فيه. أخرجه الواحدي وستأتي القصة مشروحة في صدقتة. ومنها قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} الآية. قال   1 سورة الأنفال الآية 30. 2 سورة آل عمران الآية 54. 3 سورة الطور الآية 30. 4 سورة البقرة الآية 274. 5 سورة المائدة الآية 55. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 ابن عباس: نزلت في علي بن أبي طالب والوليد بن عقبة بن أبي معيط لأشياء بينهما. أخرجه الحافظ السلفي. وعنه أن الوليد قال لعلي: أنا أحدّ منك سنانًا وأبسط لسانًا وأملأ الكتيبة؛ فقال له علي: اسكت فإنما أنت فاسق -وفي رواية: أنت فاسق- تقول الكذب. فأنزل الله ذلك تصديقا لعلي. قال قتادة: لا والله ما استووا في الدنيا ولا عند الله ولا في الآخرة, ثم أخبر عن منازل الفريقين فقال تعالى: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا ... } الآية أخرجه الواحدي. ومنها قوله تعالى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ} 1 قال مجاهد: نزلت في علي وحمزة وأبي جهل. وروي عنه: في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي جهل, وقيل: في عمار والوليد بن المغيرة وقيل: المؤمن والكافر. ذكره ابن الجوزي. ومنها قوله تعالى: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} قال ابن الحنفية: لا يبقى مؤمن إلا وفي قلبه ود لعلي وأهل بيته. أخرجه الحافظ السلفي. ومنها قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} 2 إلى قوله: {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} . وعن أبي ذر أنه كان يقسم: لنزلت هذه الآية في علي وحمزة وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. أخرجه البالسي. ومنها قوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ... } الآية نزلت في علي وحمزة وأبي لهب وأولاده، فعلي وحمزة شرح الله صدرهما للإسلام, وأبو لهب وأولاده قست قلوبهم. ذكره الواحدي وأبو الفرج. ومنها قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} 3 الآية، نزلت في علي وسيأتي ذكرها في فصل صدقته إن شاء الله تعالى من فصل فضائله. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ليس آية في كتاب الله -عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} إلا وعلي أولها وأميرها وشريفها، ولقد عاتب الله أصحاب محمد في القرآن وما ذكر عليا إلا بخير. أخرجه أحمد في المناقب.   1 سورة القصص الآية 61. 2 سورة الإنسان الآية 8. 3 سورة الإنسان الآية 76. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 الفصل السابع: في أفضليته وقد أجمع أهل السنة من السلف والخلف, من أهل الفقه والأثر أن عليًّا أفضل الناس بعد عثمان هذا مما لم يختلف فيه, وإنما اختلفوا في علي وعثمان, واختلف أيضا بعض السلف في علي وأبي بكر قال أبو قاسم عبد الرحمن بن الحباب السعدي في كتابه المسمى بالحجة لسلف هذه الملة في تسميتهم الصديق بخليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم: وهم في ذلك أبو عمرو غلطًا ظاهرًا لمن تأمله, يعني ذكر الخلاف في فضل علي على أبي بكر؛ وذلك أنه ذكر في كتابه تعريضا لا تصريحا أنه كان من جملة من يعتقد ذلك أبو سعيد وأبو سعيد ممن روى عن علي أن أبا بكر خير الأمة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكيف يعتقد في علي أنه خير من أبي بكر وقد روي عن علي ذلك؟! وإذا تقرر أن أهل السنة أجمعوا على ذلك علم أن ابن عمر لم يرد بأحاديثه المتقدم ذكرها في باب الثلاثة نفي أفضلية علي بعد عثمان, ويدل على ذلك أنه قد جاء في بعض طرق حديثه: فقال رجل لابن عمر: يا أبا عبد الرحمن، فعلي قال ابن عمر: علي من أهل البيت لا يقاس بهم، علي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في درجته, إن الله -عز وجل- يقول: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} 1 فاطمة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في درجته وعلي مع فاطمة عليها السلام. أخرجه علي بن نعيم البصري وهذا أدل دليل على أنه لم يرد   1 سورة الطور الآية 21. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 بسكوته عن ذكر علي في أفضليته, وإنما سكت عنه لما أبداه لما سئل عنه، كأنه قال: أفضل الناس من أصحابه لا من أهل بيته. وعن يحيى بن معين قال: من قال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعرف لعلي سابقته وفضله فهو صاحب سنة، ومن قال: أبو بكر وعمر وعلي وعثمان وعرف لعثمان سابقته وفضله فهو صاحب سنة. وذكر من يقول: أبو بكر وعمر يقول أبو بكر وعمر وعثمان ثم يسكتون محتجين بحديث ابن عمر، وتكلم فيهم بكلام وقال: هذا قائل بخلاف ما اجتمع عليه أهل السنة كما قدمناه؛ وكان يقول: أبو بكر وعمر وعلي وعثمان. وعن أبي جعفر النفيلي, وقد سئل عن تفضيل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أبو بكر خير الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم عمر ثم عثمان ثم علي, قيل له: فإن أحمد بن حنبل ويعقوب بن كعب يقفان على عثمان فقال: أخطأا معًا، أدركت الناس من أهل السنة والجماعة على هذا. أخرجه خيثمة بن سليمان. وعن أحمد بن حنبل, وقد سئل عن تفضيل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أبو بكر خير الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم عمر ثم عثمان ثم علي بن أبي طالب في الخلافة ويذهب إلى حديث سفينة: "تكون خلافة رحمة ثلاثين سنة" قيل: يا أبا عبد الله فتعنف من قال: علي في الإمامة والخلافة؟ قال: لا قال أحمد: ولا يعجبني من وقف عن علي في الخلافة قال: ونترحم على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجمعين. أخرجه خيثمة بن سليمان وهذا السياق يشعر بأن أحمد يتوقف على ما ورد، فلما ورد حديث ابن عمر مقصورا في التفضيل مطلقا على عثمان لم يتعده، ولما ورد ما يعم خلافة علي وقيد تفضيله بها ورأى الإمامة في معناها فلذلك لم يعنف قائلها، قال أبو عمر وغيره: وقد توقف جماعة من أهل السنة وأئمة السلف في علي وعثمان, لم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 يفضلوا واحدا منهما على الآخر, منهم مالك بن أنس ويحيى بن سعيد القطان وابن معمر؛ وأهل السنة اليوم على تقديم أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي؛ وعليه عامة أهل الفقه والحديث إلا خواص من جملتهم فإنهم على ما ذكرناه. وعن عبد الله قال: كنا نتحدث أن أفضل أهل المدينة علي بن أبي طالب. أخرجه أحمد في المناقب، وهو محمول عند من يقول بالترتيب المتقدم على أنه كذلك بعدهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 الفصل الثامن: في شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالجنة تقدم من أحاديث هذا الفصل طائفة من باب العشرة, وباب ما دونها, وباب الأربعة. وعن زيد بن أبي أوفى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعلي: "أنت معي في قصري في الجنة مع فاطمة ابنتي, وأنت أخي ورفيقي" ثم تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم: {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} 1. أخرجه أحمد في المناقب. وعن ابن عمر عن أبيه -رضي الله عنهما- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لعلي: "يا علي, يدك في يدي تدخل معي يوم القيامة حيث أدخل" أخرجه الحافظ الدمشقي في الأربعين الطوال. وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الجنة تشتاق إلى ثلاثة: علي وعمار وسليمان" أخرجه ابن السدي، أو عند غيره: علي وعمار وبلال وفي رواية: المقداد. وعنه قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "نحن بنو عبد المطلب سادات أهل الجنة: أنا وحمزة وعلي وجعفر والحسن والحسين والمهدي" أخرجه ابن السري.   1 سورة الحجر الآية 47. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 وعن علي -عليه السلام- قال: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا على المنامة، فاستسقى الحسن والحسين قال: فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى شاة لنا بكي فحلبها, فدرت فجاءه الحسن فنحاه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت فاطمة: يا رسول الله كان أحبهما إليك؟ قال: "لا ولكنه -يعني الحسين- استسقى قبله" ثم قال: "إني وإياك وهذين وهذا الراقد في مكان واحد يوم القيامة" أخرجه أحمد في المسند. والبكي: القليلة اللبن. وعن عبد الله قال: بينما أنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجميع المهاجرين والأنصار إلا من كان في سرية, أقبل علي يمشي وهو مغضب فقال: "من أغضبه فقد أغضبني " فلما جلس قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما لك يا علي?" قال: آذاني بنو عمك فقال: "يا علي, أما ترضى أنك معي في الجنة والحسن والحسين, وذرياتنا خلف ظهورنا, وأزواجنا خلف ذرياتنا، وأشياعنا عن أيماننا وشمائلنا؟ " أخرجه أحمد في المناقب وأبو سعد في شرف النبوة. وعن عبد الله بن ظالم قال: جاء رجل إلى سعيد بن زيد فقال: إني أحببت عليا حبا لم أحبه شيئًا قط قال: نعم ما رأيت، أحببت رجلا من أهل الجنة. خرجه أحمد في المناقب, وخرجه الحضرمي وقال: نعم ما صنعت, أحببت رجلا من أهل الجنة. ذكر ما له في الجنة: عن علي -عليه السلام- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا علي, إن لك كنزًا في الجنة، وإنك ذو قرنيها فلا تتبع النظرة النظرة, فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة" أخرجه أحمد، وأخرجه الهروي في غريبه, وقال: "إن لك بيتا في الجنة" وقال في تفسير ذو قرنيها -أي طرفيها: يعني الجنة وقال أبو عبيدة: أحسبه ذا قرني هذه الأمة, فأضمر الأمة ولم يجر لها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 ذكرًا كما في قوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} 1 وقيل: أراد الحسن والحسين. قال الهروي في قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} قال: إنما سمي ذا القرنين؛ لأنه دعا قومه إلى عبادة الله -عز وجل- فضربوه على قرنه الأيمن فمات, ثم أحياه الله -عز وجل- فضربوه على قرنه الأيسر فمات فأحياه الله تعالى, قال: ومن ذلك قول علي حين ذكر قصة ذي القرنين قال: وفيكم مثله, فنرى أنه إنما عنى نفسه؛ لأنه ضرب على رأسه ضربتين إحداهما يوم الخندق والأخرى ضربة ابن ملجم, فيجوز أن تكون الإشارة إلى ذلك بقوله: "وإنك ذو قرنيها" أي: قرني هذه الأمة كما كان ذو القرنين في تلك الأمة. وعن علي قال: كنت أمشي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعض طرق المدينة, فمررنا على حديقة فقلت: يا رسول الله, ما أحسن هذه الحديقة! قال: "لك في الجنة أحسن منها" ثم أتينا على حديقة أخرى فقلت: يا رسول الله ما أحسنها! قال: "لك في الجنة أحسن منها" حتى أتينا على سبع حدائق، أقول: يا رسول الله، ما أحسنها! فيقول: "لك في الجنة أحسن منها" أخرجه أحمد في المناقب. وفي رواية: فلما خلا الطريق اعتنقني وأجهش باكيا فقلت: يا رسول الله ما يبكيك? فقال: "ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك إلا من بعدي" فقلت: في سلامة من ديني؟ فقال: "في سلامة من دينك". "شرح" الجهش: أن يفزع الإنسان إلى غيره وهو مع ذلك يريد البكاء كالصبي يفزع إلى أمه وقد تهيج للبكاء، وقد تقدم ذكر ذلك, والضغن والضغينة: الحقد وقد ضغن عليه بالكسر ضغنا, والشيعة: الأتباع، ومنه قولهم: حياكم الله وأشاعكم السلام، أي: جعله صاحبا لكم وتابعا.   1 سورة ص الآية 32. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا علي, إن لك في الجنة ما لو قسم على أهل الأرض لوسعهم". ذكر أنه يزهر بأهل الجنة: عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لما أسري بي إلى السماء, أخذ جبريل بيدي وأقعدني على درنوك من درانيك الجنة، وناولني سفرجلة فكنت أقلبها إذ انفلقت وخرجت منها حوراء لم أر أحسن منها، فقالت: السلام عليك يا محمد, قلت: وعليك السلام، من أنت? قالت: أنا الراضية المرضية، خلقني الجبار من ثلاثة أصناف: أعلاي من عنبر، ووسطي من كافور، وأسفلي من مسك؛ عجنني بماء الحيوان، ثم قال: كوني فكنت, خلقني لأخيك وابن عمك علي بن أبي طالب" أخرجه الإمام علي بن موسى الرضا في مسنده. ذكر قصره, وقبته في الجنة: عن حذيفة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، وإن قصري في الجنة وقصر إبراهيم في الجنة متقابلان، وقصر علي بن أبي طالب بين قصري وقصر إبراهيم, فيا له من حبيب بين خليلين" أخرجه أبو الخير الحاكمي. وعن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة ضرب لي قبة حمراء عن يمين العرش, وضرب لإبراهيم قبة من ياقوتة خضراء عن يسار العرش, وضرب فيما بيننا لعلي بن أبي طالب قبة من لؤلؤة بيضاء؛ فما ظنكم بحبيب بين خليلين?! " أخرجه الحاكمي وقال: قال الحاكم: هذا البورقي -يعني راوي الحديث- قد وضع في المناكير عن الثقات ما لا يحصى. ذكر ذود علي المنافقين عن حوض النبي -صلى الله عليه وسلم: عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا علي معك يوم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 القيامة عصا من عصي الجنة، تذود بها المنافقين عن الحوض" أخرجه الطبراني. وعن علي -عليه السلام- قال: لأذودن بيدي هاتين القصيرتين عن حوض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رايات الكفار والمنافقين, كما يذاد غريب الإبل عن حياضها. أخرجه أحمد في المناقب. ذكر ناقته يوم القيامة: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لعلي يوم القيامة ناقة من نوق الجنة، فتركبها وركبتك مع ركبتي وفخذك مع فخذي، حتى تدخل الجنة" أخرجه أحمد في المناقب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 الفصل التاسع: في ذكر نبذ من فضائله تقدم أنه أول من أسلم وأول من صلى، وأجمعوا أنه صلى إلى القبلتين وهاجر، وشهد بدرًا والحديبية وبيعة الرضوان والمشاهد كلها غير تبوك. استخلفه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها على المدينة وعلى عماله بها، وأنه أبلى ببدر وأحد والخندق وخيبر بلاء عظيما، وأنه أغنى في تلك المشاهد وقام القيام الكريم، وكان لواء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده في مواطن كثيرة منها يوم بدر على خلف فيه؛ ولما قتل مصعب بن عمير يوم أحد وكان لواء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده, دفعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى علي. أخرجه أبو عمر. وقد تقدم في خصائصه أن لواء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان بيده في كل زحف, فيحمل الكل على الأكثر تغليبًا للكثرة، وهو شائع في كلامهم؛ توفيقًا بين الروايتين. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا لم يغزُ لم يعط سلاحه إلا عليًّا أو أسامة. أخرجه أحمد في المناقب، وشهد له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالشهادة في حديث: "تحرك حرا" وثبت له أفضل فضيلة بالمصاهرة وأقرب القرابة، وقد تقدمت أحاديثهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 ومن أدل دليل على عظيم منزلته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صنيعه في المؤاخاة كما تقدم، فإنه -صلى الله عليه وسلم- جعل يضم الشكل إلى الشكل يؤلف بينهما إلى أن آخى بين أبي بكر وعمر، وادخر عليا لنفسه وخصه بذلك، فيا لها من مفخرة وفضيلة!! وقد روي أن معاوية قال لضرار الصدائي: صف لي عليا, فقال: اعفني يا أمير المؤمنين قال: لتصفنه, قال: أما إذ لا بد من وصفه، كان والله بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلا ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه, يستوحش من الدنيا وزهرتها ويأنس إلى الليل ووحشته, وكان غزير العبرة طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعان ما خشن، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين ويقرب المساكين ولا يطمع القوي في باطه ولا ييأس الضعيف من عدله؛ وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه -وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه- قابضًا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ويقول: يا دنيا غري غيري، إلي تعرضت أم إلي تشوقت? هيهات! هيهات! قد طلقتك ثلاثًا لا رجعة فيها فعمرك قصير وخطرك قليل, آه آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق! فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا حسن، كان والله كذلك؛ فيكف حزنك عليه يا ضرار? قال: حزن من ذبح واحدها في حجرها. أخرجه الدولابي وأبو عمر وصاحب الصفوة. وعن الحسن بن أبي الحسن -وقد سئل عن علي بن أبي طالب- قال: كان علي والله سهمًا صائبًا من مرامي الله على عدوه، ورباني هذه الأمة وذا فضلها، وذا سابقتها، وذا قرابتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن بالنومة عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 أمر الله، ولا بالملومة في دين الله عز وجل، ولا بالسروقة لمال الله عز وجل، أعطى القرآن عزائمه ففاز منه برياض مونقة؛ ذلك علي بن أبي طالب. أخرجه القلعي. وقد تقدم في باب الأربعة وصف ابن عباس له؛ وفضائله أكثر من أن تعد. قال أحمد بن حنبل والقاضي إسماعيل بن إسحاق: لم يرد في فضائل أحد من الصحابة بالأسانيد الحسان ما روي في فضائل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه. ذكر محبة الله -عز وجل- ورسوله -صلى الله عليه وسلم- له: تقدم في الخصائص ذكر أحبية الله ورسوله له، وهي متضمنة المحبة مع الترجيح فيها على الغير. عن بريدة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن الله أمرني بحب أربعة، وأخبرني أنه يحبهم" قيل يا رسول الله، فسمهم لنا، قال: "علي منهم -يقول ذلك ثلاثًا- وأبو ذر وسلمان والمقداد، أمرني بحبهم وأخبرني أنه يحبهم" أخرجه أحمد والترمذي وقال: حسن غريب. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن عليا دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقام إليه وعانقه وقبَّل بين عينيه، فقال العباس: أتحب هذا يا رسول الله? فقال: "يا عم, والله لله أشد حبا له مني" أخرجه أبو الخير القزويني. وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى -وقد ذكر عنده علي وقول الناس فيه- فقال عبد الرحمن: قد جالسناه وجاريناه وواكلناه وشاربناه وقمنا له على الأعمال، فما سمعته يقول شيئًا مما يقولون، أولا يكفيكم أن يقولوا: ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحبيبه وشهد بيعه الرضوان وشهد بدرًا? أخرجه أحمد في المناقب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 ذكر فضل منزلته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم: عن عبد الله بن الحارث قال: قلت لعلي بن أبي طالب: أخبرني بأفضل منزلتك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم, قال: بينما أنا نائم عنده وهو يصلي، فلما فرغ من صلاته قال: "يا علي, ما سألت الله -عز وجل- من الخير إلا سألت لك مثله، وما استعذت الله من الشر إلا استعذت لك مثله" أخرجه المحاملي. ذكر أنه ما اكتسب مكتسب مثل فضله: عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما اكتسب مكتسب مثل فضل علي, يهدي صاحبه إلى الهدى ويرد عن الردى" أخرجه الطبراني. ذكر الحث على محبته, والزجر عن بغضه: تقدم في الخصائص في ذكر: "من أحبك فقد أحبني, ومن أبغضك فقد أبغضني" طرف من ذلك. وعن علي -عليه السلام- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة" أخرجه أحمد والترمذي وقال: حديث غريب. وعنه أنه قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة, إنه لعهد النبي الأمي -صلى الله عليه وسلم- لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق. أخرجه مسلم, وأخرجه أبو حاتم وقال: وذرأ النسمة, إنه لعهد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلي: أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق. وأخرجه الترمذي ولفظه: عهد إلي من غير قسم، وقال: حسن صحيح. وعن أم سلمة -رضي الله عنها- كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يحب عليًّا منافق، ولا يبغضه مؤمن" أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 "شرح" ذرأ: خلق, من ذرأ الله لخلق النسمة: النفس وكل ذي روح فهو نسمة. وعنها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لعلي: "لا يبغضك مؤمن, ولا يحبك منافق" أخرجه أحمد في المسند. وعن المطلب بن عبد الله بن حطب عن أبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس أوصيكم بحب ذي قرنيها أخي وابن عمي علي بن أبي طالب؛ فإنه لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق, من أحبه فقد أحبني ومن أبغضه فقد أبغضني" أخرجه أحمد في المناقب. وعن الحارث الهمداني قال: رأيت عليا على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: قضاء قضاه الله -عز وجل- على لسان نبيكم النبي الأمي -صلى الله عليه وسلم- أن لا يحبني إلا مؤمن, ولا يبغضني إلا منافق. أخرجه ابن فارس. وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: ما كنا نعرف المنافقين إلا ببغضهم عليا. أخرجه أحمد في المناقب، وأخرجه الترمذي عن أبي سعيد ولفظه قال: إن كنا لنعرف المنافقين -نحن معشر الأنصار- ببغضهم علي بن أبي طالب, وقال: غريب. وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا بثلاث: بتكذيبهم الله ورسوله, والتخلف عن الصلاة, وبغضهم علي بن أبي طالب. أخرجه ابن شاذان. وعن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن يستمسك بالقضيب الأحمر الذي غرسه الله في جنة عدن فليستمسك بحب علي بن أبي طالب" أخرجه أحمد في المناقب. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "حب علي يأكل الذنوب كما تأكل النار الحطب" أخرجه الملاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 وعن أنس -رضي الله عنه- قال: دفع علي بن أبي طالب إلى بلال درهما يشتري به بطيخًا؛ قال: فاشتريت به فأخذ بطيخة فقورها فوجدها مرة فقال: يا بلال رد هذا إلى صاحبه، وأتني بالدرهم فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لي: "إن الله أخذ حبك على البشر والشجر والثمر والبذر, فما أجاب إلى حبك عذب وطاب, وما لم يجب خبث ومر" وإني أظن هذا مما لم يجب. أخرجه الملاء، وفيه دلالة على أن العيب الحادث إذا كان مما يطلع به على العيب القديم لا يمنع من الرد. وعن فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن السعيد كل السعيد حق السعيد من أحب عليا في حياته, وبعد موته" أخرجه أحمد. وعن عمار بن ياسر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يا علي، طوبى لمن أحبك وصدق فيك، وويل لمن أبغضك وكذب فيك" أخرجه ابن عرفة. وعن سعيد بن المسيب أن رجلا كان يقع في الزبير وعلي، فجعل سعد بن مالك ينهاه ويقول: لا تقس في إخواننا، فأبى، فقام سعد وصلى ركعتين ثم قال: اللهم إن كان مسخطا لك ما يقول فأرني به واجعله آية للناس, فخرج الرجل فإذا هو ببختي يشق الناس، فأخذه ووضعه بين كركرتيه وبين البلاط فسحبه حتى قتله، وجاء الناس يسعون إلى سعد يبشرونه: هنيئًا لك أبا إسحاق قد استجيبت دعوتك. أخرجه القلعي، وأخرج معناه أبو مسلم بن عامر عن عامر بن سعد ولفظه: قال: بينما سعد يمشي إذ مر برجل وهو يشتم عليا وطلحة والزبير، فقال له سعد: إنك لتشتم قوما قد سبق لهم من الله ما سبق، والله لتكفن عن شتمهم أو لأدعون الله عليك فقال: يخوفني كأنه نبي! قال فقال سعد: اللهم إن كان قد سب أقوامًا سبق لهم منك ما سبق فاجعله اليوم نكالا؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 قال: فجاءت بختية وأفرج الناس لها فتخبطته، قال: فرأيت الناس يبتدرون سعدا فيقولون: استجاب الله لك أبا إسحاق. أخرجه الأنصاري وأبو مسلم. وعن علي بن زيد بن جدعان قال: كنت جالسا إلى سعيد بن المسيب فقال: يا أبا الحسن مر قائدك يذهب بك فتنظر إلى وجه هذا الرجل وإلى جسده, فانطلق فإذا وجهه وجه زنجي وجسده أبيض قال: إني أتيت على هذا وهو يسب طلحة والزبير وعليا، فنهيته، فأبى فقلت: إن كنت كاذبا يسود الله وجهك، فخرج في وجهه قرحة فاسود وجهه. أخرجه ابن أبي الدنيا. وعن حوثرة بن محمد البصري قال: رأيت يزيد بن هارون الواسطي في المنام بعد موته بأربع ليالٍ، فقلت: ما فعل الله بك? قال: تقبل مني الحسنات وتجاوز عني السينات وأذهب عني التبعات، قلت: وما كان بعد ذلك? قال: وهل يكون من الكريم إلا الكرم? غفر لي ذنوبي وأدخلني الجنة, قلت: بم نلت الذي نلت? قال: بمجالس الذكر وقولي الحق وصدقي في الحديث وطول قيامي في الصلاة وصبري على الفقر، قلت: منكر ونكير حق? فقال: إي والله الذي لا إله إلا هو، لقد أقعداني وسألاني فقالا لي: من ربك? وما دينك? ومن نبيك? فجعلت أنفض لحيتي البيضاء من التراب فقلت: مثلي يسأل?! أنا يزيد بن هارون الواسطي، وكنت في دار الدنيا ستين سنة أعلم الناس, قال أحدهما: صدق وهو يزيد بن هارون نم نومة العروس، فلا روعة عليك بعد اليوم. قال أحدهما: أكتبت عن حريز بن عثمان? قلت: نعم، وكان ثقة في الحديث. قال: ثقة ولكن كان يبغض عليا، أبغضه الله عز وجل. أخرجه ابن الطباخ في أماليه. ذكر شفقته -صلى الله عليه وسلم- ورعايته ودعائه له: عن إبراهيم بن عبيد بن رفاعة بن رافع الأنصاري عن أبيه عن جده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 قال: أقبلنا من بدر ففقدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنادت الرفاق بعضها بعضًا: أفيكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم? فوقفوا حتى جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه علي بن أبي طالب. فقالوا: يا رسول الله فقدناك، قال: "إن أبا حسن وجد مغصًا في بطنه, فتخلفت عليه" أخرجه أبو عمر. وعن أم عطية قالت: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جيشًا فيهم علي بن أبي طالب قالت: فسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو رافع يديه يقول: "اللهم لا تمتني حتى تريني عليًّا" أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب. وعن علي قال: كنت إذا سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطاني, وإذا سكتُّ ابتداني. أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب. وعنه قال: كنت شاكيًا فمر بي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا أقول: اللهم إن كان أجلي قد حضر فأرحني، وإن كان متأخرًا فارفع عني، وإن كان بلاء فصبرني، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "كيف قلت?" فأعدت عليه، فضربني برجله وقال: "اللهم عافه, أو اشفه" شعبة الشاك قال: فما اشتكيت وجعي ذاك بعد. أخرجه أبو حاتم. وعنه قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا علي إياك ودعوة المظلوم، فإنما يسأل الله حقه، وإن الله لا يمنع ذا حق حقه" أخرجه الخلعي. وعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث عليا ثم بعث رجلا خلفه، وقال: "ارعه, ولا تدعه من ورائه" أخرجه الدارقطني. ذكر طروق النبي -صلى الله عليه وسلم- عليا ليلًا, يأمره بصلاة الليل: عن علي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- طرقه وفاطمة ليلا فقال: "ألا تصلون?" فقلت: يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله -عز وجل- فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا. فانصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قلت ذلك، فسمعته وهو مدبر يضرب فخذه ويقول: " {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} ". أخرجه مسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 والترمذي والنسائي. وفي رواية أنه قال: "قوما فصليا" ثم رجع إلى منزله، فلما مضى هوي من الليل رجع، فلم يسمع لنا حسا، فقال: "قوما فصليا" فقمت وأنا أعرك عيني، فقلت: ما نصلي إلا ما كتب لنا, الحديث. أخرجه أبو القاسم في الموافقات. ذكر كسوة النبي -صلى الله عليه وسلم- عليا ثوب حرير: عن علي عليه السلام قال: كساني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حلة سيراء, فخرجت بها فرأيت الغضب في وجهه, فشققتها بين نسائي. وفي أفراد مسلم عنه أن أكيدر دومة أهدى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ثوب حرير, فأعطاه عليًا وقال: "شققه خمرًا بين الفواطم". وعنه قال: أهدي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حلة مسيرة بحرير، إما سداها وإما لحمتها، فبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- بها إلي، فقلت: يا رسول الله، ما أصنع بها? قال: "لا أرضى لك شيئًا، وأكره لنفسي، اجعلها خمرًا بين الفواطم" فشققت منها أربعة أخمرة، خمارًا لفاطمة بنت أسد أم علي, وخمارًا لفاطمة بنت محمد -صلى الله عليه وسلم- وخمارًا لفاطمة بنت حمزة، وذكر فاطمة أخرى نسيتها. أخرجه ابن الضحاك. ذكر تعميمه إياه -صلى الله عليه وسلم- بيده: عن عبد الأعلى بن عدي النهرواني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا عليا يوم غدير خم, فعممه وأرخى عذبة العمامة من خلفه. ذكر الزجر عن الغلو فيه: عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فيك مثل من عيسى عليه السلام، أبغضته اليهود حتى بهتوا أمه، وأحبته النصارى حتى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 أنزلوه بالمنزلة التي ليس بها" ثم قال: "يهلك فيَّ رجلان: محب مفرط بما ليس في، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني" أخرجه أحمد في المسند. وعنه قال: ليحبني أقوام حتى يدخلوا النار فيَّ بحبي, ويبغضني أقوام حتى يدخلوا النار فيَّ ببغضي. أخرجه أحمد في المناقب. "سرح" بهتوه أي: كذبوا عليه من البهت وهو الكذب وقول الباطل، والشنآن "مهموز بالتحريك بالفتح والإسكان، وبغير همز محركا بالفتح": البغض، تقول منه: شنئته شنئًا بفتح الشين وكسرها وضمها ومنشأ وشنآنا بالتحريك والإسكان كما تقدم. قاله الجوهري. وعن السدي قال: قال علي: اللهم العن كل مبغض لنا, وكل محب لنا غالٍ. أخرجه أحمد في المناقب. ذكر إحراق علي قومًا اتخذوه إلهًا دون الله عز وجل: عن عبيد بن شريك العامري عن أبيه قال: أتى علي بن أبي طالب، فقيل: إن ههنا قومًا على باب المسجد يزعمون أنك ربهم، فدعاهم فقال لهم: ويلكم!! ما تقولون؟! قالوا: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا، فقال: ويلكم!! إنما أنا عبد مثلكم، آكل الطعام كما تأكلون وأشرب مما تشربون، إن أطعته أتابني إن شاء، وإن عصيته خشيت أن يعذبني، فاتقوا الله وارجعوا فأبوا، فطردهم، فلما كان من الغد غدوا عليه فجاء قنبر، فقال: والله رجعوا يقولون ذاك الكلام، فقال: أدخلهم علي، فقالوا له مثل ما قالوا، وقال لهم مثل ما قال إلا أنه قال: إنكم ضالون مفتونون، فأبوا، فلما أن كان اليوم الثالث أتوه فقالوا له مثل ذاك القول فقال: والله لئن قلتم لأقتلنكم بأخبث قتلة، فأبوا إلا أن يتموا على قولهم، فخدَّ لهم أخدودًا بين باب المسجد والقصر، وأرقد فيه نارًا، وقال: إني طارحكم فيها أو ترجعون، فأبوا، فقذف بهم فيها. خرجه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 المخلص الذهبي. وتزيدهم محمول على الاستتابة وإحراقهم -مع النهي عنه- محمول على رجاء رجوعهم أو رجوع بعضهم. ذكر شبهه بخمسة من الأنبياء -عليهم السلام- في مناقب لهم: عن أبي الحمراء قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في فهمه، وإلى إبراهيم في حلمه، وإلى يحيى بن زكريا في زهده، وإلى موسى بن عمران في بطشه فلينظر إلى علي بن أبي طالب" أخرجه القزويني الحاكمي. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أراد أن ينظر إلى إبراهيم في حلمه, وإلى نوح في حكمه، وإلى يوسف في جماله فلينظر إلى علي بن أبي طالب" خرجه الملاء في سيرته. ذكر رؤيته جبريل عند النبي, وكلام جبريل لهما عليهما السلام: عن علي قال: دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مريض، فإذا رأسه في حجر رجل أحسن ما رأيت من الخلق والنبي -صلى الله عليه وسلم- نائم، فلما دخلت عليه قال: ادن إلى ابن عمك، فأنت أحق به مني، فدنوت منهما، فقام الرجل وجلست مكانه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "فهل تدري من الرجل?" قلت: لا بأبي وأمي، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "ذاك جبريل كان يحدثني حتى خف عني وجعي، ونمت ورأسي في حجره" أخرجه أبو عمر محمد اللغوي. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- وقد ذكر عنده علي قال: إنكم لتذكرون رجلا كان يسمع وطء جبريل فوق بيته. أخرجه أحمد في المناقب. ذكر أن النظر إليه عبادة: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: رأيت أبا بكر يكثر النظر إلى وجه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 علي، فقلت: يا أبت، رأيتك تكثر النظر إلى وجه علي فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "النظر إلى وجه علي عبادة" أخرجه ابن السمان في الموافقة. وعنها قالت: كان إذا دخل علينا علي وأبي عندنا لا يمل النظر إليه، فقلت له: يا أبت، إنك لتديمن النظر إلى علي فقال: يا بنية، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "النظر إلى علي عبادة" أخرجه الخجندي. وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "النظر إلى وجه علي عبادة " أخرجه أبو الحسن الحربي. وعن عمرو بن العاص مثله، أخرجه الأبهري. وعن معاذة الغفارية قالت: كان لي أنس بالنبي -صلى الله عليه وسلم- أخرج معه في الأسفار، وأقوم على المرضى، وأداوي الجرحى فدخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت عائشة وعلي خارج من عنده، فسمعته يقول: "يا عائشة، إن هذا أحب الرجال إلي وأكرمهم علي، فاعرفي له حقه وأكرمي مثواه" فما أن جرى بينها وبين علي بالبصرة ما جرى رجعت عائشة إلى المدينة، فدخلت عليها فقلت لها: يا أم المؤمنين، كيف قلبك اليوم بعدما سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لك فيه ما قال? قالت: يا معاذة كيف يكون قلبي لرجل كان إذا دخل علي وأبي عندنا لا يمل من النظر إليه فقلت له: يا أبت إنك لتديمن النظر إلي علي، فقال: يا بنية سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "النظر إلى وجه علي عبادة" أخرجه الخجندي. وعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي: "عد عمران بن الحصين فإنه مريض" فأتاه وعنده معاذ وأبو هريرة، فأقبل عمران يحد النظر إلى علي، فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "النظر إلى علي عبادة"، قال معاذ: وأنا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 أبو هريرة: وأنا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم. أخرجه ابن أبي الفرات. وعن ابن لعلي بن أبي طالب أنه قيل له, وقد أدام النظر إلى وجه علي: ما لك تديم النظر إليه؟ فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "النظر إلى وجه علي عبادة" أخرجه أبو الخير الحاكمي. ذكر اشتياق أهل السماء, والأنبياء الذين في السماء إليه: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما مررت بسماء إلا وأهلها يشتاقون إلى علي بن أبي طالب، وما في الجنة نبي إلا وهو يشتاق إلى علي بن أبي طالب" أخرجه الملاء في سيرته. ذكر أنه من خير البشر: عن عقبة بن سعد العوفي قال: دخلنا على جابر بن عبد الله -وقد سقط حاجباه على عينيه- فسألناه عن علي، قال: فرفع حاجبيه بيده فقال: ذاك من خير البشر. أخرجه أحمد في المناقب. ذكر مباهاة الله -عز وجل- به حملة العرش: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صف المهاجرين والأنصار صفين ثم أخذ بيد علي والعباس، فمر بين الصفين فضحك صلى الله عليه وسلم فقال له رجل: من أيش ضحكت يا رسول الله فداك أبي وأمي? قال: "هبط علي جبريل -عليه السلام- بأن الله باهى بالمهاجرين والأنصار أهل السموات العلا, وباهى بي وبك يا علي وبك يا عباس حملة العرش" أخرجه أبو القاسم في فضائل العباس. ذكر إخبار المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بأنه مغفور له: عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن غفر الله لك, مع أنك مغفور لك? لا إله إلا الله الحليم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 الكريم، لا إله إلا الله العلي العظيم، لا إله إلا الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم, والحمد لله رب العالمين" أخرجه أحمد والنسائي وأبو حاتم, وأخرجه ابن الضحاك وزاد بعد الحمد لله رب العالمين: "اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني، الله اعف عني, إنك غفور رحيم أو عفو غفور" وقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علمني هؤلاء الكلمات. ذكر علمه وفقهه: وقد تقدم في ذكر أعلميته مطلقا وأعلميته بالسنة, وأنه باب دار العلم وأن أحدًا من الصحابة لم يكن يقول: سلوني غيره, وإحالة جمع من الصحابة عليه، تقدم معظم أحاديث هذا الذكر. وعن علي عليه السلام قال: قلت: يا رسول الله أوصني, قال: "قل: ربي الله ثم استقم" فقلت: ربي الله وما توفيقي إلا بالله, عليه توكلت وإليه أنيب قال: "ليهنك العلم أبا الحسن، لقد شربت العلم شربا" أخرجه ابن البختري والرازي وزاد: "ونهلته نهلا" ومعنى نهلته هنا: شربته, وكرر لاختلاف اللفظ ونحو ذلك قول الشاعر: الطاعن الطعنة يوم الوغى ... ينهل منها الأسل الناهل قال أبو عبيد: الناهل هنا بمعنى الشارب, وإذا جاز في اسم الفاعل جاز في الفعل، وكان قياسه أن يقول: ونهلت منه نهلا؛ لأنه إنما يتعدى بحرف الجر أي: رويت منه ريا، ويجوز أن يكون الناهل في البيت بمعنى العطشان وهو من الأضداد يطلق على الريان والعطشان وهو أنسب؛ لأنه أكثر شربا ويكون قوله: ينهل منها أي: يشرب. وعن أبي الزهراء عن عبد الله قال: علماء الأرض ثلاثة: عالم بالشام وعالم بالحجاز وعالم بالعراق, فأما عالم أهل الشام فهو أبو الدرداء وأما عالم أهل الحجاز فهو علي بن أبي طالب وأما عالم العراق فأخ لكم, وعالم أهل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 الشام وعالم أهل العراق يحتاجان إلى عالم أهل الحجاز, وعالم أهل الحجاز لا يحتاج إليهما. أخرجه الحضرمي ويريد -والله أعلم- بالعالم هنا الأعلم يكون أعلم من كان في كل موضع ذلك المذكور، وإن جاز أن يكون بالحجاز من هو أعلم من عالمي الشام والعراق دون علي، والله أعلم. وعن عبد الله بن عياش الزرقي وقد قيل له: أخبرنا عن هذا الرجل علي بن أبي طالب، فقال: إن لنا أخطارا وأحسابا ونحن نكره أن نقول فيه ما يقول بنو عمنا, قال: كان علي رجلا نلعابة -يعني مزاحا- وكان إذا فزع فزع إلى ضرس من حديد، قال: قلت: وما ضرس من حديد? قال: قراءة القرآن وفقه في الدين وشجاعة وسماحة. أخرجه أحمد في المناقب. وعن سعيد بن عمر بن سعيد بن العاص قال: قلت لعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة: ألا تخبرني عن أبي بكر وعلي -رضي الله عنهما- فإن أبا بكر كان له السن والسابقة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم إن الناس صاغية إلى علي? فقال: أي ابن أخي، كان له والله ما شاء من ضرس قاطع السطة في النسب، وقرابته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومصاهرته، والسابقة في الإسلام والعلم بالقرآن، والفقه، والسنة، والنجدة في الحرب، والجود في الماعون, كان له والله ما يشاء من ضرس قاطع. أخرجه المخلص الذهبي. وعن محمد بن كعب القرظي قال: كان ممن جمع القرآن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو حي: عثمان وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود من المهاجرين، وسالم مولى أبي حذيفة مولى لهم. أخرجه أبو عمر. وعن محمد بن قيس قال: دخل ناس من اليهود على علي بن أبي طالب، فقالوا له: ما صبرتم بعد نبيكم إلا خمسا وعشرين سنة حتى قتل بعضكم بعضا؛ قال: فقال علي: قد كان صبر وخير، قد كان صبر وخير، ولكنكم ما جفت أقدامكم من البحر حتى قلتم: {يَا مُوسَى اجْعَلْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} أخرجه أحمد في المناقب. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ما انتفعت بكلام بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا بشيء كتب به إلي علي بن أبي طالب، فإنه كتب: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد يا أخي، فإنك تسر بما يصل إليك مما لم يكن يفوتك، ويسوءك ما لم تدركه. فما نلت يا أخي من الدنيا فلا تكن به فرحا، وما فاتك فلا تكن عليه حزنا، وليكن عملك لما بعد الموت، والسلام. أخرجه المخلص. ذكر كراماته: عن الأصبغ قال: أتينا مع علي فمررنا بموضع قبر الحسين، فقال علي: ههنا مناخ ركائبهم، وههنا موضع رحالهم، وههنا مهراق دمائهم، فتية من آل محمد -صلى الله عليه وسلم- يقتلون بهذه العوصة تبكي عليهم السماء والأرض. وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: عرض لعلي رجلان في خصومه، فجلس في أصل جدار، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، الجدر تقع فقال له علي: امض، كفى بالله حارسا، فقضى بين الرجلين، وقام فسقط الجدار. وعن الحارث قال: كنت مع علي بن أبي طالب بصفين، فرأيت بعيرًا من إبل الشام جاء وعليه راكبه وثقله، فألقى ما عليه، وجعل يتخلل الصفوف حتى انتهى إلى علي. فوضع مشفره ما بين رأس علي ومنكبه، وجعل يحركها بجرانه، فقال علي: إنها والله لعلامة بيني وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فجد الناس في ذلك اليوم واشتد قتالهم. وعن علي بن زاذان أن عليا حدث حديثًا فكذبه رجل، فقال علي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 أدعو عليك إن كنت صادقًا? قال: نعم؛ فدعا عليه، فلم ينصرف حتى ذهب بصره. وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أدعو عليًّا، فأتيت بيته فناديته فلم يجبني، فعدت فأخبرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال لي: "عد إليه، ادعه فإنه في البيت" قال: فعدت أناديه، فسمعت صوت رحى تطحن، فشارفت فإذا الرحى تطحن وليس معها أحد، فناديته، فخرج إلي منشرحا فقلت له: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعوك، فجاء، ثم لم أزل أنظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وينظر إلي، ثم قال: "يا أبا ذر، ما شأنك?" فقلت: يا رسول الله، عجيب من العجب، رأيت رحى تطحن في بيت علي وليس معها أحد يرحى، فقال: "يا أبا ذر, إن لله ملائكة سياحين في الأرض، وقد وكلوا بمؤنة آل محمد" أخرجهن الملاء في سيرته, وأخرج أحمد في المناقب حديث علي بن زاذان خاصة. وعن فضالة بن أبي فضالة قال: خرجت مع أبي إلى ينبع, عائدًا لعلي وكان مريضًا، فقال له أبي: ما يسكنك بمثل هذا المنزل? لو هلكت لم يلك إلا الأعراب -أعراب جهينة- فاحتمل إلى المدينة فإن أصابك بها قدر وليك أصحابك وصلوا عليك، وكان أبو فضالة من أهل بدر، فقال له علي: إني لست بميت من وجعي هذا، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عهد إلي أن لا أموت حتى أضرب ثم تخضب هذه -يعني لحيته- من هذه -يعني هامته- فقتل أبو فضالة معه بصفين. أخرجه ابن الضحاك. ذكر اتباعه للسنة: عن جابر -رضي الله عنه- حديثه الطويل في صفة حج النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيه: أن عليا قدم من اليمن ببدن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ماذا قلت حين فرضت الحج?" فقال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك -صلى الله عليه وسلم. أخرجاه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 وعن علي عليه السلام قال: رأينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام فقمنا، وقعد فقعدنا, يعني في الجنازة. أخرجه مسلم. وعن أبي سلمان حصين بن المنذر قال: شهدت عثمان بن عفان وقد أتي بالوليد وقد شرب الخمر، فقال: يا علي قم فاجلده فقال علي: قم يا حسن فاجلده, فقال الحسن: ولي حارها من تولى قارها، فكأنه وج عليه، فقال: يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده، فجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك، ثم قال: جلد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي. أخرجه مسلم. وعن أبي مطر البصري قال: رأيت عليا اشترى ثوبا بثلاثة دراهم، فلما لبسه قال: الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس وأواري به عورتي، ثم قال: هكذا سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم. أخرجه في المناقب. وعن علي أنه كان يقول: إني لست نبيا ولا يوحى إلي، ولكن أعمل بكتاب الله وسنة نبيه ما استطعت، فما أمرتكم من طاعة الله فحق عليكم طاعتي فيما أحببتم وكرهتم. أخرجه أحمد في المناقب. وعنه وقد شاوره أبو بكر في قتال أهل الردة بعد أن شاور الصحابة فاختلفوا عليه فقال له: ما تقول يا أبا الحسن? فقال: أقول لك: إن تركت شيئًا مما أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم فأنت على خلاف سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: أما إن قلت ذاك لأقاتلنهم وإن منعوني عقالا. أخرجه ابن السمان، وقد سبق في خصائص أبي بكر مستوفى. ذكر تفاؤل النبي -صلى الله عليه وسلم- بكلمة سمعها من علي, وتيمن بها, وعمل عليها: عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعجبه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 الفأل الحسن، فسمع عليًّا يومًا وهو يقول: ها حضرة فقال: "يا لبيك قد أخذنا فألك من فمك, فاخرجوا بنا إلى حضرة" قال: فخرجوا إلى خيبر فما سل فيها سيف إلى آخرها, يريد والله أعلم: فما ظهر ولا انتصر ولا أثر إلا سيفه وإلا فعامر سل سيفه ورجع عليه فقتله, وقد وقع القتال قبل إعطائه الراية لعلي يومين لأبي بكر ويوما لعمر على ما تقدم في الخصائص. ومن ضرورة القتال سل السيوف, وكان عامة قتالهم بها فصح ما ذكرناه من التأويل، والله أعلم. ذكر شجاعته: تقدم في خصائصه في ذكر اختصاصه بدفع الراية له طرف منه، وشهرة إبلائه يوم بدر وأحد وخيبر وأكثر المشاهد قد بلغت حد التواتر حتى صارت شجاعته معلومة لكل أحد، بحيث لا يمكنه دفع ذلك عن نفسه. وتقدم حديث ابن عباس في ذكر علمه متضمنًا ذكر شجاعته. وعن صعصعة بن صوحان قال: خرج يوم صفين رجل من أصحاب معاوية يقال له: كريز بن الصباح الحميري, فوقف بين الصفين وقال: من يبارز? فخرج إليه رجل من أصحاب علي فقتله، فوقف عليه ثم قال: من يبارز? فخرج إليه آخر فقتله وألقاه على الأول، ثم قال: من يبارز? فخرج إليه الثالث فقتله وألقاه على الآخرين، وقال: من يبارز? فأحجم الناس عنه وأحب من كان في الصف الأول أن يكون في الآخر، فخرج علي -عليه السلام- على بغلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البيضاء، فشق الصفوف، فلما انفصل منها نزل عن البغلة وسعى إليه فقتله، وقال: من يبارز? فخرج إليه رجل فقتله ووضعه على الأول، ثم قال: من يبارز? فخرج إليه رجل فقتله ووضعه على الآخرين، ثم قال: من يبارز? فخرج إليه رجل فقتله ووضعه على الثلاثة، ثم قال: يا أيها الناس إن الله -عز وجل- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 يقول: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} 1 ولو لم تبدءوا بهذا لما بدأنا, ثم رجع إلى مكانه. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- وقد سأله رجل: أكان علي يباشر القتال يوم صفين? فقال: والله ما رأيت رجلا أطرح لنفسه في متلف من علي، ولقد كنت أراه يخرج حاسر الرأس بيده السيف, إلى الرجل الدارع فيقتله. أخرجهما الواحدي. وقال ابن هشام: حدثني من أثق به من أهل العلم أن علي بن أبي طالب صاح وهم محاصرو بني قريظة: يا كتيبة الإيمان، وتقدم هو والزبير بن العوام وقال: والله لأذوقن ما ذاق حمزة أو لأفتحن حصنهم، فقالوا: يا محمد ننزل على حكم سعد بن معاذ. وعن علي قال: قاتلت يوم بدر قتالا، ثم جئت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا هو ساجد يقول: "يا حي يا قيوم" ففتح الله -عز وجل- عليه. أخرجه النسائي والحافظ الدمشقي في الموافقات. ذكر شدته في دين الله عز وجل: عن سويد بن غفلة قال: قال عليه السلام: إذا حدثتكم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثا فوالله لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه. وفي رواية: أن أقول عليه ما لم يقل. أخرجاه. وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: اشتكى الناس عليًّا يومًا، فقام رسول الله فينا فخطبنا، فسمعته يقول: "أيها الناس لا تشكوا عليا، فوالله إنه لأخشن في ذات الله -عز وجل- أو قال: في سبيل الله" أخرجه أحمد. وعن كعب بن عجرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن   1 سورة البقرة الآية 194. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 عليا مخشوشن في ذات الله عز وجل" أخرجه أبو عمر. "شرح" الأخشن مثل الخشن قاله الجوهري، تقول منه: خشن بالضم فهو خشن, واخشوشن للمبالغة أي: اشتدت خشونته. وعن علي -عليه السلام- قال: كنت أنطلق أنا وأسامة إلى أصنام قريش التي حول الكعبة, فنأتي بالعذرات التي حول البيوت، فنأخذ كل صوابة جرو وبزاق بأيدينا وننطلق به إلى أصنام قريش فنلطخها. فيصيحون ويقولون: من فعل هذا بآلهتنا؟! فيظلون النهار يغسلونها بالماء واللبن. أخرجه أبو الخير الحاكمي. "شرح" العذرات: جمع عذرة, وهي فناء الدار. ذكر رسوخ قدمه في الإيمان: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن عليا كان يقول في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم: الله -عز وجل- يقول: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} 1 والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله, ولئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت, والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه, ومن أحق به مني? أخرجه أحمد في المناقب. وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: أشهد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لسمعته وهو يقول: "لو أن السموات السبع والأرضين السبع وضعت في كفة, ووضع إيمان علي في كفة, لرجح إيمان علي" أخرجه ابن السمان والحافظ السلفي في المشيخة البغدادية والفضائلي. ذكر تعبده: تقدم في حديث ضرار, في أول الفصل طرف منه.   1 سورة آل عمران الآية 144. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 وعن حارثة بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه -رضي الله عنه- قال: كان لعلي بيت في المسجد يتحنث فيه, كما كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم. أخرجه الحضرمي. ذكر أذكاره, وأدعيته: عن جعفر الصادق قال: كان أكثر كلام علي عليه السلام: الحمد لله. أخرجه الخجندي. وعن عبد الله بن الحارث الهمداني أن عليا كان يقول في ركوعه: اللهم لك ركعت وبك آمنت وأنت ربي, ركع سمعي وبصري ولحمي ودمي وشعري وعظمي، تقبل مني أنت السميع العليم. فإذا رفع رأسه من الركوع وأراد أن يسجد قال: لك أركع وأسجد، وأقوم وأقعد. وإذا سجد قال: اللهم لك سجدت، وبك آمنت، وأنت ربي، سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين، الحمد لله رب العالمين. ويقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني. أخرجه أبو روق الهزاني. وعن أبي إسحاق السبيعي عن علي -عليه السلام- لما خرج من باب القصر قال: فوضع رجله في الغرز فقال: باسم الله، فلما استوى على الدابة قال: الحمد لله الذي كرمنا وحملنا في البر والبحر، ورزقنا من الطيبات، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا. سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، رب اغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي والحافظ في الموافقات. ذكر صدقته: عن علي -عليه السلام- قال: رأيتني مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإني لأربط الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 الحجر على بطني من الجوع وإن صدقتي اليوم لأربعون ألفا, وفي رواية وإن صدقة مالي لأربعون ألف دينار. أخرجهما أحمد وربما يتوهم متوهم أن مال علي عليه السلام تبلغ زكاته هذا القدر وليس كذلك -والله أعلم- فإنه -رضي الله عنه- كان أزهد الناس على ما علم من حاله ما تقدم وما سيأتي في ذكر زهده، فكيف يقتني مثل هذا؟ قال أبو الحسن بن فارس اللغوي: سألت أبي عن هذا الحديث قال: معناه أن الذي تصدقت به منذ كان لي مال إلى اليوم كذا وكذا ألفا، قلت: وذكره لذلك يحتمل أن يكون في معرض التوبيخ لنفسه بتنقل الحال إلى مثل هذا بعد ذلك الحال, ويحتمل أن يكون في معرض الشكر على الخلة وعظم الاكتراث بما خرج لله, وأن إخراجه أبلغ في الزهد من عدمه. وعن عبد الله بن سلام قال: أذن بلال بصلاة الظهر، فقام الناس يصلون، فمن بين راكع وساجد وسائل يسأل فأعطاه علي خاتمه وهو راكع, فأخبر السائل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقرأ علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} أخرجه الواحدي وأبو الفرج والفضائلي، ومضى أن الولاية هنا النصرة على ما تقدم تقريره في الخصائص. وعن جعفر بن محمد عن أبيه، وقد سئل عن قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} 1 قال: هم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قلت: إنهم يقولون: إنه علي بن أبي طالب؟ فقال: علي منهم ... أخرجه ابن السمان في الموافقة. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} قال: أجر علي نفسه يسقي نخلًا بشيء من شعير ليلة حتى أصبح، فلما أصبح قبض الشعير فطحن منه شيئًا ليأكلوه يقال له: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 الحريرة "دقيق بلا دهن" فلما تم إنضاجه أتى مسكين فسأل فأطعموه إياه، ثم صنعوا الثلث الثاني، فلما تم إنضاجه أتى يتيم مسكين فسأل فأطعموه إياه، ثم صنعوا الثلث الثالث، فلما تم إنضاجه أتى أسير من المشركين، فأطعموه إياه وطووا يومهم فنزلت, وهذا قول الحسن وقتادة أن الأسير كان من المشركين. قال أهل العلم: وهذا يدل على أن الثواب مرجو فيهم وإن كانوا من غير أهل الملة، وهذا إذا أعطوا من غير الزكاة والكفارة. وقال سعيد بن جبير: الأسير: المحبوس من أهل القبلة, ذكره الواحدي. وعن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر أقطع عليا ينبع, ثم اشترى أرضا إلى جنب قطعته فحفر فيها عينا، فبينما هم يعملون فيها إذ انفجر عليهم مثل عنق الجذور من السماء فأتى علي فبشر بذلك، فقال: بشروا عمر. ثم تصدق بها على الفقراء والمساكين وابن السبيل وفي سبيل الله للقريب والبعيد، في السلم والحرب، ليوم تبيض وجوه، وتسود وجوه، ليصرف الله بها وجهي عن النار ولتصرف النار عن وجهي. أخرجه ابن السمان في الموافقة. ذكر فكه رهان ميت بتحمل دين عنه: عن علي بن أبي طالب قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أتي بجنازة لم يسأل عن شيء من عمل الرجل ويسأل عن دينه، فإن قيل: عليه دين كف عن الصلاة عليه، وإن قيل: ليس عليه دين صلى عليه، فأتي بجنازة فلما قام ليكبر سأل صلى الله عليه وسلم أصحابه: "هل على صاحبكم دين?" قالوا: ديناران، فعدل صلى الله عليه وسلم وقال: "فصلوا على صاحبكم" فقال علي: هما علي، بريء منهما. فتقدم صلى الله عليه وسلم, ثم قال لعلي: "جزاك الله خيرا، فك الله رهانك كما فككت رهان أخيك، إنه ليس من ميت إلا وهو مرتهن بدينه, الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 ومن يفك رهان ميت فك الله رهانه يوم القيامة" فقال بعضهم: هذا لعلي خاصة أو للمسلمين عامة? فقال: "للمسلمين عامة" أخرجه الدارقطني، وأخرجه أيضًا عن أبي سعيد، وفيه: فقال علي: أنا ضامن لدينه. وأخرجه الحاكمي عن ابن عباس. ذكر أنه كان من أكرم الناس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم: عن أبي إسحاق السبيعي قال: سألت أكثر من أربعين رجلا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم: من كان أكرم الناس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم? قالوا: الزبير وعلي -رضي الله عنهما. أخرجه الفضائلي. ذكر زهده: تقدم في صدر الفصل حديث ضرار, وفيه طرف منه. وعن عمار بن ياسر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي: "إن الله قد زينك بزينة لم يزين العباد بزينة أحب منها, هي زينة الأبرار عند الله: الزهد في الدنيا، فجعلك لا ترزأ من الدنيا ولا ترزأ الدنيا منك شيئًا، ووصب لك المساكين فجعلك ترضى بهم أتباعًا ويرضون بك إمامًا" أخرجه أبو الخير الحاكمي. "شرح" ترزأ: تصيب والرزء: المصيبة, ووصب لك أي: أدام, ومنه: {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} . وعن علي عليه السلام قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا علي, كيف أنت إذا زهد الناس في الآخرة ورغبوا في الدنيا وأكلوا التراث أكلا لما وأحبوا المال حبا جما, واتخذوا دين الله دغلا ومالوا دولا?" قلت: أتركهم وما اختاروا, وأختار الله ورسوله والدار الآخرة، وأصبر على مصيبات الدنيا وبلواها حتى ألحق بكم إن شاء الله تعالى قال: "صدقت, اللهم افعل ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 به" أخرجه الحافظ الثقفي في الأربعين. وعن علي بن أبي ربيعة أن علي بن أبي طالب جاءه ابن التياح فقال: يا أمير المؤمنين، امتلأ بيت المال من صفراء وبيضاء فقال: الله أكبر، فقام متوكئًا على ابن التياح حتى قام على بيت المال وأمر فنودي في الناس، فأعطى جميع ما في بيت المال للمسلمين، وهو يقول: يا صفراء يا بيضاء غري غيري، هاء وهاء؛ حتى ما بقي فيه دينار ولا درهم، ثم أمر بنضحه وصلى فيه ركعتين. أخرجه أحمد في المناقب، والملاء وصاحب الصفوة. وأخرج أحمد من طريق آخر، والفضائلي معناه عن أبي صالح السمان، ولفظه: رأيت عليا دخل بيت المال فرأى فيه شيئًا، فقال: ألا أرى هذا ههنا وبالناس إليه حاجة؟! فأمر به فقسم، وأمر بالبيت فكنس ونضح، فصلى فيه -أو قال فيه يعني نام- وفي رواية عند أحمد: فصلى فيه رجاء أن يشهد له يوم القيامة. وأخرجهما القلعي. "شرح" نضحه أي: رشه، وقوله: هاء وهاء أي: هاك وهاك. وقال الخطابي: أصحاب الحديث يروونه: ها وها ساكن لألف، والصواب مدها وفتحها؛ لأن أصلها هاك فحذفت الكاف وعوضت منها المدة والهمزة يقال للواحد: ها وللاثنين: هاؤما وللجميع: هاؤم, وغير الخطابي يجيز فيه السكون على حذف العوض وينزل منزلة ها التي للتنبيه. وعن أبي السوار قال: رأيت عليًّا اشترى ثوبين غليظين, فخير قنبر في أحدهما. أخرجه أحمد وصاحب الصفوة، وقد تقدم في ذكر اتباعه للسنة أنه اشترى ثوبا بثلاثة دراهم. وعن عبد الله بن أبي الهذيل قال: رأيت عليا خرج وعليه قميص رازي إذا قمصه بلغ الظفر، وإذا أرسله صار إلى نصف الساعد. وعن الحسن بن جرموز عن أبيه قال: رأيت علي بن أبي طالب يخرج من مسجد الكوفة وعليه قطريتان مؤتزرا بواحدة، مرتديا بالأخرى، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 وإزاره إلى نصف الساق وهو يطوف بالأسواق، ومعه درة، يأمرهم بتقوى الله -عز وجل- وصدق الحديث وحسن البيع والوفاء بالكيل والميزان. أخرجهما القلعي. "شرح" القطر والقطرية: ضرب من البرود. وعن أبي سعيد الأزدي قال: رأيت عليا في السوق وهو يقول: من عنده قميص صالح بثلاثة دراهم? فقال رجل: عندي. فجاء به فأعجبه فأعطاه ثم لبسه فإذا هو يفضل عن أطراف أصابعه فأمر به فقطع ما فضل عن أصابعه. أخرجه الملاء في سيرته، وأخرج صاحب الصفوة معناه عن فضل بن سلمة عن أبيه، ولفظه: أن عليا اشترى قميصا, ثم قال: اقطعه لي من ههنا من أطراف أصابعه، فأمر بقطع ما فضل عن أطراف الأصابع. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: اشترى علي بن أبي طالب قميصًا بثلاثة دراهم وهو خليفة، وقطع كمه من موضع الرسغين وقال: الحمد لله الذي هذا من رياشه. أخرجه السلفي. "شرح" الرسغ: موصل الوظيف من الرجل واليد, تسكن سينه وتحرك بالضم كاليسر والعسر، والوظيف: مستدق الذراع والساق من الخيل والإبل ثم استعمل الرسغ في الآدمي اتساعًا, والريش والرياش: اللباس الفاخر، كالحرم والحرام واللبس واللباس. وعن أبي بحر عن شيخ قال: رأيت على علي إزارًا غليظًا ثمنه خمسة دراهم، وقد اشتراه بخمسة دراهم وقال: رأيت معه دراهم مصرورة, قال: هذه بقية نفقتنا من ينبع. وعن علي بن ربيعة قال: كان لعلي امرأتان، فكان إذا كان يوم هذه اشترى لحما بنصف درهم، وإذا كان يوم هذه اشترى لحما بنصف درهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 وعن ابن أبي مليكة قال: لما أرسل عثمان إلى علي في اليعاقيب وجده مؤتزرًا بعباءة, محتجزا بعقال وهو يهنأ بعيرا له. "شرح" يهنأ أي: يطليه بالهنا وهو القطران. وعن عمر بن قيس قال: قيل لعلي: يا أمير المؤمنين، لم ترفع قميصك? قال: يخشع القلب, ويقتدي به المؤمن. وعن زيد بن وهب أن الجعد بن بعجة عاتب عليا في لبوسه، فقال: وما لك واللبوس? إن لبوسي هذا أبعد من الكبر, وأجدر أن يقتدي به المسلم. وعن عدي بن ثابت أن عليا أتي بالفالوذج, فلم يأكله. وعن حبة العرني أن عليا أتي بالفالوذج فوضع قدامه, فقال: والله إنك لطيب الريح حسن اللون طيب المطعم، ولكني أكره أن أعوّد نفسي ما لم تعتده. وعن أم سليم -وقد سئلت عن لباس علي- قالت: كان لباسه الكرابيس السنبلانية. وعن الضحاك بن عمير قال: رأيت قميص علي بن أبي طالب الذي أصيب فيه، كرباس سنبلاني، ورأيت أثر دمه فيه, كأنه رديء. أخرج من حديث أبي سعيد الأزدي إلى هنا أحمد في المناقب. ذكر ما كان فيه من ضيق العيش مع استصحاب الصبر الجميل: عن علي -عليه السلام- قال: أصبت شارفا من مغنم بدر، وأعطاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شارفا، فأنختهما عند باب رجل من الأنصار أريد أن أحمل عليهما إذخرا وأبيعه وأستعين به على وليمة فاطمة، ومعي رجل صانع من بني قينقاع وحمزة بن عبد المطلب في البيت، وقينة تغنيه فقالت: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 ألا يا حمزة للشرف البواء: فثار إليهما بالسيف فجب أسنتهما، وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما قال: فنظرت إلى أمر فصنعني, فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه زيد بن حارثة، فخرجت معه حتى قام على حمزة فتغيظ عليه، فرفع حمزة بصره وقال: هل أنتم إلا أعبد آبائي? فرجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقهقر عنه. متفق على صحته. وعنه قال: جعت بالمدينة جوعًا شديدًا, فخرجت أطلب العمل في عوالي المدينة، فإذا أنا بامرأة قد جمعت مدرا فظننتها تريد بله، فأتيتها فعاطيتها كل دلو بتمرة فمددت ستة عشر ذنوبا حتى مجلت يدي ثم أتيتها فقلت: بكلتي يدي هكذا بين يديها, وبسط إسماعيل راوي الحديث يديه جميعا فعدت لي ست عشرة تمرة, فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته، فأكل معي منها وقال لي خيرا ودعا لي. وأخرجه أحمد وصاحب الصفوة والفضائلي. "شرح" عوالي المدينة: أعاليها وهي منازل معروفة بها, عاطيتها: يجوز أن يكون من قولهم: هو يعطيني بالتشديد ويعاطيني إذا كان يخدمك, ويجوز أن يكون من المعاطاة المناولة, فكل واحد منهما أخذ يد صاحبه على ذلك إذا عاقده عليه، وإن لم يوجد أخذ اليد حسا. والذنوب: الدلو الملآن ماء, وقال ابن السكيت: فيها ماء ما يقرب من ملئها يؤنث ويذكر ولا يقال لها وهي فارغة: ذنوب وجمعه في القلة: أذنبة والكثير ذنائب نحو قلوص وقلائص ومجلت: تنفطت من العمل. وعن سهل بن سعد أن علي بن أبي طالب دخل على فاطمة, والحسن والحسين يبكيان فقال: ما يبكيهما? قالت: الجوع, فخرج علي فوجد دينارا في السوق فجاء إلى فاطمة فأخبرها, فقالت: اذهب إلى فلان اليهودي فخذ لنا به دقيقا، فجاء إلى اليهودي فاشترى به دقيقا فقال اليهودي: أنت ختن هذا الذي يزعم أنه رسول? قال: نعم. قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 فخذ دينارك ولك الدقيق. فخرج علي حتى جاء به فاطمة فأخبرها فقالت: اذهب إلى الجزار فخذ لنا بدرهم لحما، فذهب فرهن الدينار بدرهم على لحم، فجاء به وعجنت ونصبت وخبزت، وأرسلت إلى أبيها، فجاءهم, فقالت: يا رسول الله أذكر لك، فإن رأيته حلالا أكلنا وأكلت، من شأنه كذا وكذا، فقال: "كلوا باسم الله" فأكلوا، فبينما هم مكانهم إذا غلام ينشد الله والإسلام الدينار، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدعي له، فسأله فقال: سقط مني في السوق، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "يا علي اذهب إلى الجزار، فقل له: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لك: أرسل إلي بالدينار، ودرهمك علي" فأرسل به, فدفعه إليه. أخرجه أبو داود. وعن أسماء بنت عميس عن فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتاها يومًا فقال: "أين ابناي?" يعني حسنًا وحسينًا، قالت: أصبحنا وليس في بيتنا شيء نذوقه، فقال علي: أذهب بهما، فإني أتخوف أن يبكيا إليك وليس عندك شيء؛ فذهب بهما إلى فلان اليهودي. فتوجه إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوجدهما يلعبان في مسربة، بين أيديهما فضل من تمر، فقال: "يا علي, ألا تقلب ابني قبل أن يشتد الحر عليهما?" قال: فقال علي: أصبحنا وليس في بيتنا شيء، فلو جلست يا رسول الله حتى أجمع لفاطمة تمرات? فجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلي ينزع لليهودي كل دلو بتمرة حتى اجتمع له شيء من تمر, فجعله في حجزته، ثم أقبل فحمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحدهما وحمل علي -عليه السلام- الآخر. أخرجه الدولابي في الذرية الطاهرة في مسند أسماء بنت عميس عن فاطمة. "شرح" المسربة بالفتح والضم: الغرفة، وحجزة الإزار: معقده، وحجزة السراويل التي فيها التكة. وعن أبي سويد المدني قال: لما أهديت فاطمة إلى علي لم تجد عنده إلا رملا مبسوطا ووسادة وجرة وكوزًا فأرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا تقرب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 امرأتك حتى آتيك ... " وذكر قصة دخولها عليه, وقد تقدمت في الخصائص. وعن علي -عليه السلام- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما زوجه فاطمة, بعث معها بخميلة ووسادة من أدم حشوها ليف ورحاتين وسقاء وجرتين فقال علي لفاطمة ذات يوم: والله لقد سنوت حتى لقد اشتكيت صدري وقد جاء الله أباك بسبي، فاذهبي فاستخدميه، فقالت: والله قد طحنت حتى مجلت يداي، فأتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما حاجتك يا بنية?" قالت: جئت لأسلم عليك، واستحيت أن تسأله، ورجعت، فقالت: استحيت أن أسأله، فأتيناه جميعًا فقال علي: يا رسول الله، لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقالت فاطمة: وقد طحنت حتى مجلت يداي، وقد جاء الله بسبي وسعة، فأخدمنا قال: " والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوي بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيعه وأنفق عليهم أثمانهم" فرجعا فأتاهما -صلى الله عليه وسلم- وقد دخل في قطيفتهما إذا غطت رءوسهما انكشفت أقدامهما، وإذا غطت أقدامهما انكشفت رءوسهما، فثارا فقال: "مكانكما" ثم قال: "ألا أخبركما بخير مما سألتماني?" قالا: بلى، قال: "كلمات علمنيهن جبريل عليه السلام، فقال: تسبحان دبر كل صلاة عشرًا وتحمدان عشرًا وتكبران عشرًا، وإذا أوتيتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبرا أربعا وثلاثين" قال: علي: فما تركتهن منذ علمنيهن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقيل له: ولا ليلة صفين? قال: "ولا ليلة صفين" أخرجه أحمد. "شرح" الخميلة: لعله أراد بها الطنفسة ويقال: لها الخمل, وسنوت: استقيت، والسانية: الناضحة التي يستقى عليها, ومجلت: تنفطت من العمل، والسبي والسبا: الأسرى، قاله الجوهري، وقال غيره: السبي: النهب وأخذ الناس عبيدًا، وأما السبية: المرأة المنهوبة، فعيلة بمعنى مفعولة وجمعه: سبايا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 وعنه أن فاطمة شكت ما تلقى من أثر الرحى، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- سبي فانطلقت فلم تجده, فوجدت عائشة فأخبرتها، فلما جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرته عائشة بمجيء فاطمة، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلينا وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبت لأقوم فقال: "على مكانكما" فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري، فقال: "ألا أعلمكما خيرًا مما سألتماني? إذا أخذتما مضاجعكما فكبرا أربعًا وثلاثين، وسبحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم يخدمكما" أخرجه البخاري وأبو حاتم. وعندما قال: شكت إلي فاطمة من الطحين فقلت: لو أتيت أباك فسألته خادمًا? قال: فأتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم تصادفه، فرجعت مكانها، فلما جاء أخبر، فأتى وعلينا قطيفة إذا لبسناها طولا خرجت منها جنوبنا وإذا لبسناها عرضا خرجت منها أقدامنا ورءوسنا فقال: "يا فاطمة أخبرت أنك جئت، فهل كانت لك حاجة?" قالت: لا، قلت: نعم، شكت إلي من الطحين فقلت: لو أتيت أباك فسألته خادمًا? فقال: "أفلا أدلكما على ما هو خير لكما? إذا أخذتما مضاجعكما ... " ثم ذكر معناه. أخرجه أبو حاتم. وعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: جاءت فاطمة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- تشتكي أثر الخدمة وتسأله خادمًا، قالت: يا رسول الله, لقد مجلت يداي من الرحى، أطحن مرة وأعجن مرة، فقال لها: "إن يرزقك الله شيئا سيأتيك، وسأدلك على خير من ذلك: إذا لزمت مضجعك فسبحي الله ثلاثًا وثلاثين، وكبري الله ثلاثًا وثلاثين، واحمدي الله أربعًا وثلاثين، فتلك مائة، فهو خير لك من الخدم" أخرجه الدولابي. ذكر تواضعه: تقدم في زهده طرف منه، وسيأتي في ذكر ورعه طرف منه أيضًا. وعن أبي صالح بياع الأكسية عن جده قال: رأيت عليا اشترى تمرًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 بدرهم فحمله في ملحفته، فقيل: يا أمير المؤمنين, ألا نحمله عنك? قال: أبو العيال أحق بحمله. أخرجه البغوي في معجمه. وعن زيد بن وهب أن الجعد بن بعجة من الخوارج عاتب عليًّا في لباسه فقال: ما لكم ولباسي? هذا هو أبعد من الكبر، وأجدر أن يقتدي به المسلم. أخرجه أحمد وصاحب الصفوة، وقد تقدم في زهده، وقوله: أجدر أي: أحق وأولى، وجدير وخليق وحري بمعنًى. وعن زاذان قال: رأيت عليًّا يمشي في الأسواق فيمسك الشسوع بيده فيناول الرجل الشسع، ويرشد الضال ويعين الحمال على الحمولة, وهو يقرأ الآية: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ثم يقول: هذه الآية نزلت في ذي القدرة من الناس. أخرجه أحمد في المناقب. وعن أبي مطر البصري أنه شهد عليًّا أتى أصحاب التمر وجارية تبكي عند التمار، فقال: ما شأنك? قال: باعني تمرًا بدرهم فرده مولاي، فأبى أن يقبله، فقال: يا صاحب التمر خذ تمرك وأعطها درهمها، فإنها خادم وليس لها أمر، فدفع عليا، فقال المسلمون: تدري من دفعت? قال: لا. قالوا: أمير المؤمنين, فصب تمرها وأعطاها درهمها، وقال: أحب أن ترضى عني فقال: ما أرضاني عنك إذا أوفيت الناس حقوقهم! أخرجه أحمد في المناقب. ذكر حيائه من النبي -صلى الله عليه وسلم: عن علي -عليه السلام- قال: كنت رجلا مذاء، فكنت أستحي أن أسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمكان ابنته مني، فأمرت المقداد بن الأسود فقال: "يغسل ذكره ويتوضأ" أخرجاه. ذكر غيرته على النبي -صلى الله عليه وسلم: عن علي -عليه السلام- قال: قلت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: ما لك تنوق في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 قريش وتدعنا? قال: "وعندكم شيء?" قلت: نعم، بنت حمزة، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنها لا تحل لي, إنها ابنة أخي من الرضاعة" أخرجه مسلم. وقوله: تنوق: لعله بمعنى تأنق، ويجوز ذلك، أو يتخذ نوقا، وكنى به عن النساء. ذكر خوفه من الله عز وجل: تقدم وصف ضرار له في أول الفصل. ذكر ورعه: عن عبد الله بن الزبير قال: دخلت على علي بن أبي طالب يوم الأضحى فقرب إلينا خزيرة، فقلت: أصلحك الله لو قربت إلينا من هذا البط -يعني الإوز- فإن الله قد أكثر الخير؟ فقال: يابن زبير سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يحل لخليفة من مال الله إلا قصعتان: قصعة يأكلها هو وأهله، وقصعة يضعها بين أيدي الناس" أخرجه أحمد. "شرح" الخزيرة: أن ينصب القدر بلحم يقطع صغارًا على ماء كثير, فإذا نضح رد عليه الدقيق، وإن لم يكن فيها لحم فهي عصيدة. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: حدثني رجل من ثقيف أن عليا قال له: إذا كان عند الظهر فرح علي، قال: فرحت إليه فلم أجد عنده حاجبًا يحجبني دونه، ووجدته وعنده قدح وكوز من ماء، فدعا بظبية، فقلت في نفسي: لقد أمنني حين يخرج إلي جوهرًا ولا أدري ما فيها، فإذا عليها خاتم فكسر الخاتم، فإذا فيها سويق فأخذ منه قبضة في القدح وصب عليه ماء، فشرب وسقاني فلم أصبر فقلت: يا أمير المؤمنين، أتصنع هذا بالعراق وطعام العراق أكثر من ذلك? فقال: والله ما أختم عليه بخلا به, ولكني أبتاع قدر ما يكفيني، فأخاف أن يفنى فيوضع فيه من غيره، وإنما حفظي لذلك، وأكره أن يدخل بطني إلا طيبا. أخرجه في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 الصفوة والملاء في سيرته. وعن ابن حبان التيمي عن أبيه قال: رأيت علي بن أبي طالب على المنبر يقول: من يشتري مني سيفي هذا? فلو كان عندي ثمن إزار ما بعته. فقام إليه رجل وقال: أسلفك ثمن إزار. قال عبد الرزاق: وكانت بيده الدنيا كلها إلا ما كان من الشام. أخرجه أبو عمر، وأخرج معناه بزيادة صاحب الصفوة عن علي بن الأرقم عن أبيه، ولفظه: قال: رأيت عليا وهو يبيع له سيفًا في السوق ويقول: من يشتري مني هذا السيف? فوالذي فلق الحبة لطال ما كشفت به الحروب عن وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولو كان عندي ثمن إزار ما بعته. وعن هارون بن عنترة عن أبيه قال: دخلت على علي بن أبي طالب في الخورنق وهو يرعد تحت سمل قطيفة، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الله قد جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال، وأنت تصنع بنفسك ما تصنع? فقال: ما أرزؤكم من مالكم، وإنها لقطيفتي التي خرجت بها من منزلي أو قال: من المدينة. "شرح" السمل: الخلق, والقطيفة: دثار مخمل، والجمع: قطائف وقطف أيضًا كصحيفة وصحف, أرزؤكم: أصيب منكم, الرزء: المصيبة والجمع أرزاء. وعن ابن مطرف قال: رأيت عليا مؤتزرًا، مرتديًا برداء ومعه الدرة كأنه أعرابي بدوي، حتى بلغ سوق الكرابيس فقال: يا شيخ أحسن بيعي في قميص بثلاثة دراهم؛ فلما عرفه لم يشتر منه شيئًا، فأتى غلامًا حدثًا فاشترى منه قميصا بثلاثة دراهم ثم جاء أبو الغلام فأخبره، فأخذ أبوه درهما ثم جاء به فقال: هذا الدرهم يا أمير المؤمنين؛ فقال: ما شأن هذا الدرهم? قال: كان ثمن القميص درهمين؛ باعني رضاي وأخذ رضاه. أخرجهما صاحب الصفوة، وخرج الثاني أحمد في المناقب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 "شرح" الكرباس: فارسي معرب بكسر الكاف، والكرباسة أخص منه، والجمع: كرابيس، وهي ثياب خشنة. وعن عمر بن يحيى عن أبيه قال: أهدي إلى علي بن أبي طالب أزقاق سمن وعسل، فرآها قد نقصت، قال: فقيل له: بعثت أم كلثوم فأخذت منه؛ فبعث إلى المقومين، فقوموا خمسة دراهم، فبعث إلى أم كلثوم: ابعثي لي خمسة دراهم. أخرجه في الصفوة. وعن عاصم بن كليب عن أبيه قال: قدم علي بن أبي طالب مال من أصبهان، فقسمه سبعة أسباع، فوجد فيه رغيفًا، فقسمه سبع كسر، وجعل على كل جزء كسرة، ثم أقرع بينهم: أيهم يعطى أولا? أخرجه أحمد والقلعي. وعن الأعمش قال: كان علي يغدي ويعشي، ويأكل هو من شيء يجيئه من المدينة. وعن أبي صالح قال: دخلت على أم كلثوم بنت علي وإذا هي تمتشط في ستر بيني وبينها، فجاء حسن وحسين، فدخلا عليها وهي جالسة تمشط، فقالت: ألا تطعمون أبا صالح شيئًا? قال: فأخرجوا إلي قصعة فيها مرق بحبوب، قال: فقلت: تطعمون هذا وأنتم أمراء? قالت أم كلثوم: يا أبا صالح، كيف لو رأيت أمير المؤمنين، يعني عليا، وأتي بأترج، فذهب حسين فأخذ منها أترجة فنزعها من يده, ثم أمر به فقسم بين الناس؟! ذكر عدله في رعيته: تقدم في ذكر ورعه آنفا طرف منه. وعن كريمة بنت همام الطائية قالت: كان علي يقسم فينا الورس بالكوفة. قال فضالة: حملناه على العدل منه. أخرجه أحمد في المناقب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 ذكر تفقده أحوالهم: عن أبي الصهباء قال: رأيت علي بن أبي طالب بشط الكلأ يسأل عن الأسعار. ذكر شفقته على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- في الجاهلية والإسلام, وتخفيف الله -عز وجل- عن الأمة بسببه: عن علي بن أبي طالب قال: لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} 1 قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما ترى, دينارًا?" قلت: لا يطيقونه؛ قال: "فكم?" قلت: شعيرة؛ قال: "إنك لزهيد" فنزلت: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} 2 الآية؛ قال: فبي خفف الله عن هذه الأمة. أخرجه أبو حاتم. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: ألا أخبركم بإسلام أبي ذر? قال: قلنا: بلى؛ قال: قال أبو ذر: كنت رجلا من غفار فبلغنا أن رجلا قد خرج بمكة يزعم أنه نبي، فقلت لأخي: انطلق إلى هذا الرجل بمكة وأتني بخبره، فانطلق فلقيه ثم رجع، فقلت: ما عندك? قال: والله لقد رأيت رجلا يأمر بالخير وينهى عن الشر فقلت: لم تشفني من الخبر، فأخذت جرابًا وعصا ثم أقبلت إلى مكة، فجعلت لا أعرفه وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد، قال: فمر بي علي، فقال: كأن الرجل غريب؟ قال: قلت: نعم، قال: فانطلق إلى المنزل، فانطلقت معه لا يسألني عن شيء ولا أخبره؛ فلما أصبحت غدوت إلى المسجد لأسأل عنه وليس أحد يخبرني عنه بشيء؛ قال: فمر بي علي فقال: أما آن للرجل أن يعرف منزله? قال: قلت: لا. قال:   1 سورة المجادلة الآية 12. 2 سورة المجادلة الآية 13. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 فانطلق معي فذهبت معه ولا يسأل أحد منا صاحبه عن شيء؛ حتى إذا كان اليوم الثالث فعل مثل ذلك فأقامه علي معه، ثم قال له: ألا تحدثني? قال: فقال: ما أمرك؟ وما أقدمك هذه البلد? قال: قلت له: إن كتمت علي أخبرتك، قال: فقلت له: بلغنا أنه خرج ههنا رجل يزعم أنه نبي، فأرسلت أخي ليكلمه، فرجع ولم يشفني من الخبر، فأردت أن ألقاه، فقال: أما إنك قد رشدت، هذا وجهي إليه فاتبعني وادخل حيث أدخل، فإني إن رأيت أحدًا أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي، وامض أنت، فمضى ومضيت معه حتى دخلت معه على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت له: اعرض علي الإسلام؛ فعرضه فأسلمت. أخرجه البخاري. وفي الحديث قصة ذكرناها مستوعبة في مناقب العباس. ذكر إسلام همدان على يديه: عن البراء بن عازب قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام، وكنت فيمن سار معه، فأقام عليهم ستة أشهر لا يجيبونه إلى شيء؛ فبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب, وأمره أن يرسل خالدا ومن معه إلا من أراد البقاء مع علي فيتركه، قال البراء: وكنت مع من عقب مع علي، فلما انتهينا إلى أوائل اليمن بلغ القوم الخبر، فجمعوا له، فصلى علي بنا الفجر، فلما فرغ صفنا صفًّا واحدًا ثم تقدم بين أيدينا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قرأ عليهم كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسلمت همدان كلها في يوم واحد، وكتب بذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما قرأ كتابه خرَّ ساجدًا وقال: "السلام على همدان، السلام على همدان" أخرجه أبو عمر. ذكر إثبات أفضليته بقتل الخوارج: عن عبيدة السلماني قال: ذكر علي الخوارج، فقال: فيهم رجل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 مخدج اليد أو مودن اليد, لولا أن تبطروا لأخبرتكم بما وعد الله تعالى على لسان نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- لمن قتلهم؛ قال: فقلت لعلي: أسمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم? قال: إي ورب الكعبة ثلاثا. أخرجه مسلم. "شرح" البطر: الأشر وهو شدة المرح، تقول منه: بطر بالكسر يبطر، وأبطره المال، وتقول: بطرت عيشك كما تقول: رشدت أمرك, ومخدج اليد: ناقصها، ومنه حديث الصلاة: "فهي خداج" يقال: خدجت الناقة إذا ألقت ولدها لغير تمام, ومودن اليد وروي: مودون اليد ومعناهما: ناقصها أيضًا، ومنه قول العرب: ودنت الشيء وأودنته, إذا نقصته وصغرته. وعن عبد الله بن أبي رافع مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إن الحرورية لما خرجت وهو مع علي، فقالوا: لا حكم إلا لله، فقال علي: كلمة حق أريد بها باطل؛ إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصف لنا أناسا وإني لأعرف وصفهم في هؤلاء، يقولون الحق بألسنتهم لا يجوز هذا منهم -وأشار إلى حلقه- من أبغض خلق الله إلى الله، فيهم أسود إحدى يديه حلمة ثدي، فلما قتلهم على عليه السلام قال: انظروا، فنظروا فلم يجدوا، فقال: ارجعوا، فوالله ما كذب ولا كذبت -مرتين أو ثلاثا- ثم وجدوه في خربة، فأتوا به حتى وضعوه بين يديه. قال عبد الله: وأنا حاضر ذلك من أمرهم وقول علي فيهم. أخرجه أبو حاتم. "شرح" الحرورية: قوم ينسبون إلى حروراء, وهي بلد الخوارج. وعن زيد بن وهب الجهني أنه كان في الجيش الذي كان مع علي بن أبي طالب الذين ساروا إلى الخوارج، فقال علي: يا أيها الناس، إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يخرج من أمتي قوم يقرءون القرآن، ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضى الله لهم على لسان محمد -صلى الله عليه وسلم- لنكلوا عن العمل، وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد ليس له ذراع، على رأس عضده مثل حلمة الثدي، شعرات بيض، فتذهبون إلى معاوية وأهل الشام وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم، والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم فإنهم سفكوا الدم الحرام، وأغاروا في سرح الناس فسيروا على اسم الله تعالى. قال سلمة بن كهيل: فلما التقينا وعلى الخوارج يومئذ عبد الله بن وهب الراسبي، فقال لهم: القوا الرماح، وسلوا سيوفكم من جفونها، فإني أخاف أن يناشدوكم كما يوم حروراء؛ فرجعوا فوحشوا برماحهم وسلوا السيوف فشجرهم الناس برماحهم فقتل بعضهم على بعض، وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان فقال علي: التمسوا فيهم المخدج، فالتمسوه فلم يجدوه، فقام علي بنفسه حتى أتى ناسا قد قتل بعضهم على بعض. قال: أخروهم، فوجدوه مما يلي الأرض، فكبر علي ثم قال: صدق الله وبلغ رسوله، فقام إليه عبيدة السلماني، فقال: يا أمير المؤمنين والله الذي لا إله إلا هو لسمعت هذا الحديث من رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: إي والله الذي لا إله إلا هو، حتى استحلفه ثلاثا وهو يحلف له. أخرجه مسلم. وفي رواية قال: فخروا سجودًا عند وجود المخدج، وخر علي ساجدًا معهم. وفي رواية: قال أبو الرضا: فكأني أنظر إليه حبشيا عليه ثديان، أحد ثدييه مثل ثدي المرأة عليه شعرات مثل شعرات تكون على ذنب اليربوع. وفي رواية: أنهم لما لم يجدوه جاء علي بنفسه, فجعل يقول: اقلبوا ذا، واقلبوا ذا، حتى جاء رجل من أهل الكوفة، فقال: هو ذا؟ فقال علي: الله أكبر. أخرجهن أحمد في المناقب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 وفي رواية: أنهم لما وجدوه قال علي: هذا شيطان وهو أضلهم. أخرجها أبو الخير القزويني الحاكمي. "شرح" وحشوا برماحهم أي: ألقوها. وعن أبي سعيد أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تمرق مارقة من الناس، تقتلهم أولى الطائفتين بالله عز وجل". وعن ابن مسعود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى منزل أم سلمة، فجاء علي فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا أم سلمة، هذا قاتل القاسطين والناكثين والمارقين من بعدي" أخرجهما الحاكمي. "شرح" القاسطون: الجائرون من القسط بالفتح والقسوط: الجور والعدول عن الحق، والقسط بالكسر: العدل. ذكر السبب الموجب لقتال الخوارج عليًّا -عليه السلام: عن ابن عباس قال: اجتمعت الخوارج في دارها وهم ستة آلاف أو نحوها، قلت لعلي بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين، أبرد بالصلاة لعلي ألقى هؤلاء القوم، فقال: إني أخافهم عليك، قال: فقلت: كلا، قال: ثم لبس حلتين من أحسن الحلل، قال: وكان ابن عباس جميلًا جهيرًا، قال: فلما نظروا إلي قالوا: مرحبا بابن عباس، فما هذه الحلة? قال: قلت: وما تنكرون من ذلك? لقد رأيت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حلة من أحسن الحلل، قال: ثم تلوت عليهم: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} 1 قالوا: فما جاء بك? قلت: جئتكم من عند أمير المؤمنين ومن عند أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن المهاجرين والأنصار لأبلغكم ما قالوا ولأبلغهم ما تقولون، فما تنقمون من علي ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصهره? قال: فأقبل بعضهم على بعض، فقال بعضهم: لا   1 سورة الأعراف الآية 32. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 تكلموه, فإن الله تعالى يقول: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} وقال بعضهم: ما يمنعنا من كلام ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يدعونا إلى كتاب الله? قالوا: ننقم عليه خلالا ثلاثا، قال: وما هن? قالوا: حكم الرجال في أمر الله -عز وجل- وما للرجال ولحكم الله?! وقاتل ولم يسب ولم يغنم، فإن كان الذين قاتل قد حل قتالهم فقد حل سبيهم وإن لم يكن حل سبيهم فما حل قتالهم، ومحا اسمه من أمير المؤمنين فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير المشركين؛ قال: فقلت لهم: غير هذا? قالوا: حسبنا هذا؛ قال: قلت: أرأيتم إن خرجت من هذا بكتاب الله وسنة رسوله أراجعون أنتم? قالوا: وما يمنعنا? قلت: أما قولكم حكم الرجال في أمر الله فإني سمعت الله -عز وجل- يقول في كتابه: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} في ثمن صيد أرنب أو نحوه يكون قيمته ربع درهم، فرد الله الحكم فيه إلى الرجال، ولو شاء أن يحكم لحكم، وقال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} أخرجت من هذه? قالوا: نعم, قلت: وأما قولكم: قاتل ولم يسب ولم يغنم فإنه قاتل أمكم، وقال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} فإن زعمتم أنها ليست بأمكم فقد كفرتم، وإن زعمتم أنها أمكم فما حل سباها، فأنتم بين ضلالين، أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم، قال: وأما قولكم: محا اسمه من أمير المؤمنين، فإني أنبئكم بذلك عمن ترضون، أما تعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية وقد جرى الكتاب بينه وبين سهيل بن عمرو قال: "يا علي، اكتب: هذا ما اصطلح محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسهيل بن عمرو" فقالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال: "اللهم إنك تعلم أني رسولك" ثم أخذ الصحيفة فمحاها بيده، ثم قال: "يا علي اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمر" فوالله ما أخرجه الله بذاك من النبوة، أخرجت من هذا? قالوا: نعم. قال: فرجع ثلثهم، وانصرف ثلثهم، وقتل سائرهم على الضلالة. أخرجه بكار بن قتيبة في نسخته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 الفصل العاشر: في خلافته ذكر ما جاء في صحة خلافته والتنبيه عليها: تقدم في باب الأربعة طرف منه، وفي باب أبي بكر وعمر وعلي كذلك: وعن عمر أنه قال حين طعن وأوصى: إن ولوها الأجلح سلك بهم الطريق المستقيم, يعني عليا, أخرجه أبو عمر, وعن عمرو بن ميمون قال: كنت عند عمر إذ ولى الستة الأمر، فلما جاوزوا أتبعهم بصره، ثم قال: لئن وليتم هذا الأجلح ليركبن بكم الطريق, يعني عليا, أخرجه ابن الضحاك. وفي لفظ: إن ولوها الأصيلع يحملهم على الحق, وإن السيف على عنقه. أخرجه القلعي، وقد تقدم في فصل مقتل عمر. وعن عبد الرحمن بن عبيد أنه سمع عمر رجلا ينادي رجلا من الأنصار من بني حارثة فقال: تجدونه يستخلف، فعد الأنصار والمهاجرين ولم يذكر عليا، فقال عمر: فما بكم عن علي? فوالله إني لأرى إن قد ولي شيئًا من أموركم, فسيحملكم على طريقة الحق. أخرجه ابن الضحاك. وعن حارثة بن مضرب قال: حججت مع عمر وكان الحادي يحدو: إن الأمير بعده عثمان، فحججت مع عثمان، فكان الحادي يحدو: إن الأمير بعده علي. أخرجه البغوي في معجمه، وقد تقدم في ذلك أيضا في نظيره في مناقب عثمان. وعن فضالة بن أبي فضالة الأنصاري قال: خرجت مع أبي إلى ينبع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 عائدا لعلي بن أبي طالب، فقال له: يا أبا حسن؛ من قيمك بهذا البلد، إن أصابك أجلك لم يلك إلا أعراب جهينة? فلو احتملت إلى المدينة فأصابك أجلك وليك أصحابك فصلوا عليك? فقال: يا أبا فضالة, إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عهد إلي أن لا أموت حتى أومر، ثم تخضب هذه يعني لحيته, من هذه يعني ناصيته. أخرجه أحمد في المناقب وأبو حاتم وقال: وقتل أبو فضاله مع علي بصفين. وخرجه الملاء في سيرته، وأخرجه ابن الضحاك وقال بعد قوله عائدًا لعلي: وكان مريضا، ولم يقل: حتى أومر. وقد تقدم ذكر كراماته. وعن ابن عمر أنه قال: ما أساء علي شيء إلا أني لم أقاتل مع علي الفئة الباغية، وعلى صوم الهواجر. وفيه دليل على صحة خلافته عندهم. وعن عمر بن خاقان قال: قال لي الأحنف بن قيس: لقيت الزبير? فقلت له: ما تأمرني به وترضاه لي? قال: آمرك بعلي بن أبي طالب، قلت: أتأمرني به وترضاه لي? قال: نعم. أخرجه الحضرمي. وعن عاصم بن عمر قال: لقي عمر عليا فقال: يا أبا الحسن، نشدتك بالله هل كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولاك الأمر? قال: إن قلت ذاك فما تصنع أنت وصاحبك? قال: أما صاحبي فقد مضى، وأما أنا فوالله لأخلعنها من عنقي في عنقك، قال: جذع الله أنف من أبعدك من هذا? لا، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جعلني علما، فإذا أنا قمت فمن خالفني ضل. وفي رواية أنه قال له: يا أبا الحسن نشدتك بالله هل استخلفك رسول الله -صلى الله عليه وسلم? قال: لا، ولكن جعلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علمًا، فمتى قمت فمن خالفني ضل. أخرجهما ابن السمان في الموافقة. ذكر بيعته, ومن تخلف عنها: تقدم في مقتل عثمان طرف من ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 وعن محمد بن الحنفية قال: أتى رجل وعثمان محصور، فقال: إن أمير المؤمنين مقتول، ثم جاء آخر فقال: إن أمير المؤمنين مقتول الساعة، قال: فقام علي فقال: يا محمد, فأخذت بوسطه تخوفا عليه فقال: حل لا أم لك قال: فأتوا على الدار وقد قتل الرجل، فأتى داره فدخلها وأغلق عليه بابه، فأتاه الناس فضربوا عليه الباب فدخلوا عليه، فقال: إن هذا الرجل قد قتل، ولا بد للناس من خليفة، ولا نعلم أحدًا أحق بها منك. فقال لهم علي: لا تريدونني، فإني لكم وزير خير مني لكم أمير فقالوا: والله لا نعلم أحدًا أحق بها منك قال: فإن أبيتم علي فإن بيعتي لا تكون سرا، ولكن ائتوا المسجد، فمن شاء أن يبايعني بايعني. قال: فخرج إلى المسجد فبايعه الناس. وعن المسور بن مخرمة قال: قتل عثمان وعلي في المسجد، فمال الناس إلى طلحة، قال: فانصرف علي يريد منزله، فلقيه رجل من قريش عند موضع الجنائز فقال: انظروا إلى رجل قتل ابن عمه وسلب ملكه! قال: فولى راجعا فرقى المنبر، فقيل: ذاك علي على المنبر، فمال الناس إليه فبايعوه وتركوا طلحة. أخرجهما أحمد في المناقب وغيره، ولا تضاد بينهما، بل يحمل على أن طائفة من الناس أرادوا بيعة طلحة والجمهور أتوا عليا في داره فسألوه ما سألوه وأجابهم على ما تقدم تقريره، فخرج بعد انصرافهم عنه في بعض شئونه، فلما سمع كلام ذلك الرجل خشي الخلف بين الناس، فصعد المنبر في وقته ذاك، وبادر إلى البيعة لهذا المعنى، لا لحب المملكة وخشية فواتها وحمية حين سمع كلام ذلك الرجل. قال ابن إسحاق: إن عثمان لما قتل بويع علي بن أبي طالب بيعة العامة في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبايع له أهل البصرة، وبايع له بالمدينة طلحة والزبير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 قال أبو عمر: واجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار، وتخلف عن بيعته نفر فلم يكرههم، وسئل عنهم فقال: أولئك قوم قعدوا عن الحق ولم يقوموا مع الباطل، وتخلف عنه معاوية ومن معه بالشام وكان منهم في صفين ما كان، فغفر الله لهم أجمعين ثم خرج عليه الخوارج فكفروه وكل من معه, إذ رضي بالتحكيم في دين الله بينه وبين أهل الشام، فقالوا: حكمت الرجال في دين الله -عز وجل- والله تعالى يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} 1 ثم اجتمعوا وشقوا عصا المسلمين، ونصبوا راية الخلاف، وسفكوا الدماء، وقطعوا السبيل، فخرج إليهم بمن معه، ورام رجعتهم، فأبوا إلا القتال، فقاتلهم بالنهروان، فقتلهم واستأصل جمهورهم، ولم ينج منهم إلا القليل. وقال أبو عمر: وبايع له أهل اليمن بالخلافة يوم قتل عثمان. ذكر حاجبه, ونقش خاتمه: كان حاجبه قنبر مولاه, ذكره الخجندي, وكان نقش خاتمه: "الله الملك". رواه أبو جعفر محمد بن علية، أخرجه السلفي وأخرجه الخجندي. ذكر ابتداء شخوصه من المدينة, وأنه لم يقم فيما قام فيه إلا محتسبًا لله تعالى: عن مالك بن الجون قال: قام علي بن أبي طالب بالربذة، فقال: من أحب أن يلحقنا فليلحقنا، ومن أحب أن يرجع فليرجع مأذونا له غير حرج، فقام الحسن بن علي فقال: يا أبة -أو يا أمير المؤمنين- لو كنت في جحر وكان للعرب فيك حاجة لاستخرجوك من جحرك، فقال: الحمد لله الذي يبتلي من يشاء بما يشاء، ويعافي من يشاء بما يشاء، أما   1 سورة الأنعام الآية 57. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 والله لقد ضربت هذا الأمر ظهرًا لبطن أو ذنبًا ورأسًا, فوالله إن وجدت له إلا القتال أو الكفر بالله يحلف بالله عليه، اجلس يا بني ولا تحن عليَّ حنين الجارية. أخرجه أبو الجهم. وقد تقدم في باب الشيخين قول ابن الكوا وقيس بن عباد له في قتاله, وأنه: هل هو بعهد من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو شيء من عندك? وجوابه لهما, فلينظر ثمة. ذكر ما رواه أبو بكر في فضل علي, وروي عنه: وقد ذكرنا ذلك مفرقا في الأبواب والفصول، ونحن ننبه عليه لتوفر الداعية. فمنه حديث النظر إليه عبادة في الفضائل، وحديث استواء كفه وكف النبي -صلى الله عليه وسلم- وحديث أنه خيم عليه وعلى بنيه خيمة، وحديث أنه من النبي -صلى الله عليه وسلم- بمنزلة النبي -صلى الله عليه وسلم- من ربه، وحديث: "لا يجوز أحد الصراط إلا بجواز يكتبه علي" كل ذلك في الخصائص، وقوله: "من سره أن ينظر إلى أقرب الناس قرابة" وإحالته على علي لما سئل عن وصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الفضائل, وحديث مشاورة أبي بكر له في قتال أهل الردة في اتباعه للسنة. ذكر ما رواه عمر في علي, وروي عنه مختصرا: وقد تقدم جميع ذلك مفرقا في أبوابه. فمنه حديث الراية يوم خيبر، وحديث: "ثلاث خصال لأن يكون لي واحدة منهن" وحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "في علي ثلاث خلال, لوددت أن لي واحدة منهن" وحديث: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" وحديث رجحان إيمانه بالسموات السبع والأرضين، وحديث: "من كنت مولاه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 فعلي مولاه" وقوله: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ، لما قال لعلي: "لأبعثنه إلى كذا كذا" وقوله: أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة, وقوله: علي مولى من النبي -صلى الله عليه وسلم- مولاه, وقوله في علي: إنه مولاي, وإحالته في المسألة عليه غير مرة في القضاء. وقوله: أقضانا علي، ورجوعه إلى قوله في مسائل كثيرة. كل ذلك في الخصائص والفضائل مفرقا في بابه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 الفصل الحادي عشر: في مقتله وما يتعلق به , ذكر إخباره عن نفسه أنه يقتل تقدم في الذكر قبله حديث فضالة، وفيه طرف منه وعن زيد بن وهب قال: قدم على علي قوم من أهل البصرة من الخوارج فيهم رجل يقال له: الجعد بن بعجة فقال له: اتق الله يا علي، فإنك ميت، قال علي: بضربة على هذه تخضب هذه -يعني لحيته من رأسه- عهد معهود، وقضاء مقضي وقد خاب من افترى. وعن عبد الله بن سبع قال: خطبنا علي فقال: والذي خلق الحبة وبرأ النسمة، لتخضبن هذه من هذه. قال فقال الناس: أعلمنا من هو لنبيره -أو لنبيرن عشيرته- قال: أنشدكم بالله أن لا يقتل بي غير قاتلي، قالوا: إن كنت قد علمت ذلك فاستخلف، قال: لا ولكن أكلكم إلى من وكلكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخرجهما أحمد. "شرح" لنبيره أي: نهلكه، والبوار: الهلاك، وقوم بور أي: هلكي، وبار فلان: هلك, وأباره الله: أهلكه. ذكره الجوهري. وعن سكين بن عبد العزيز العبدي أنه سمع أباه يقول: جاء عبد الرحمن بن ملجم يستحمل عليه فحمله, ثم قال: أما إن هذا قاتلي؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 قيل: فما منعك منه؟ قال: إنه لم يقتلني بعد, وقيل له: إن ابن ملجم يسم سيفه، وقيل له: إنه سيقتلك به قتلة يتحدث بها العرب، فبعث إليه وقال: لم تسم سيفك؟ قال: لعدوي وعدوك فخلى عنه, وقال: ما قتلني بعد. أخرجه ابن عمر. وعن الحسين بن كثير عن أبيه وكان قد أدرك عليا، قال: فخرج علي إلى الفجر، فأقبل الإوز يصحن في وجهه فطردوهن، فقال: فإنهن نائح، فضربه ابن ملجم قلت له: يا أمير المؤمنين، خل بينا وبين مراد، فلا تقوم لهم ثاغية ولا راغية أبدا قال: لا ولكن احبسوا الرجل فإن أنا مت فاقتلوه، وإن أعش فالجروح قصاص. أخرجه أحمد في المناقب. "شرح" ثاغية: شاة, راغية: بعير، ثغت الشاة ثغاء ورغا البعير يرغو رغاء. ذكر رؤياه في نومه ليلة قتله: عن الحسن البصري أنه سمع الحسن بن علي يقول: إنه سمع أباه في سحر اليوم الذي قتل فيه يقول لهم: يا بني رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في نومة نمتها، فقلت: يا رسول الله ما لقيت من أمتك من اللأواء واللدد!! فقال: ادع الله عليهم. فقلت: اللهم أبدلني بهم خيرًا منهم، وأبدلهم بي من هو شر مني. ثم انتبه، وجاء مؤذنه يؤذنه بالصلاة, فخرج فقتله ابن ملجم. أخرجه أبو عمر والقلعي وغيرهما. ذكر قاتله وما حمله على القتل, وكيفية قتله, وأين دفن: قال الزبير بن بكار: كان من بقي من الخوارج تعاقدوا على قتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص، فخرج لذلك ثلاثة، فكان عبد الرحمن بن ملجم هو الذي التزم لهم قتل علي، فدخل الكوفة عازمًا على ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 واشترى سيفا لذلك بألف وسقاه السم فيما زعموا حتى نفضله, وكان في خلال ذلك يأتي عليا يسأله ويستحمله فيحمله، إلى أن وقعت عينه على قطام -امرأة رائعة جميلة كانت ترى رأي الخوارج- وكان علي قد قتل أباها وأخوتها بالنهروان، فخطبها ابن ملجم، فقالت له البنت: أنا لا أتزوج إلا على مهر لا أريد سواه فقال: وما هو? قالت: ثلاثة آلاف دينار وقتل علي. قال: والله لقد قصدت قتل علي والفتك به, وما أقدمني هذا المصر غير ذلك, ولكني لما رأيتك آثرت تزويجك, فقالت: إلا الذي قلت لك, قال: وما يغنيك أو يغنيني منك قتل علي وأنا أعلم أني إن قتلت عليا لم أفلت فقالت: إن قتلته ونجوت فهو الذي أردت، فتبلغ شفاء نفسي، ويهنيك العيش معي، وإن قتلت فما عند الله خير من الدنيا وما فيها, فقال لها: لك ما اشترطت, فقالت له: سألتمس لك من يشد ظهرك، فبعثت إلى ابن عم لها يدعى وردان بن مجالد، فأجابها ولقي ابن ملجم شبيب بن نجرة الأشجعي، فقال: يا شبيب هل لك في شرف الدنيا والآخرة? قال: وما هو? قال: تساعدني على قتل علي بن أبي طالب، قال: ثكلتك أمك لقد جئت شيئا إدا كيف تقدر على ذلك? قال: إنه رجل لا حرس له، ويخرج إلى المسجد منفردًا دون من يحرسه، فنكمن له في المسجد، فإذا خرج إلى الصلاة قتلناه فإذا نجونا نجونا، وإن قتلناه سعدنا بالذكر في الدنيا والجنة في الآخرة. فقال: ويلك إن عليا ذو سابقة في الإسلام مع النبي -صلى الله عليه وسلم- والله ما تنشرح نفسي لقتله. قال: ويلك! إنه حكم الرجال في دين الله -عز وجل- وقتل إخواننا الصالحين، فنقتله ببعض من قتل، ولا تشكن في دينك, فأجابه وأقبلا، حتى دخلا على قطام وهي معتكفة في المسجد الأعظم في قبة ضربتها لنفسها فدعت لهم، وأخذوا أسيافهم، وجلسوا قبالة السدة التي يخرج منها علي، فخرج علي إلى صلاة الصبح فبدره شبيب فضربه فأخطأه, وضربه ابن ملجم على رأسه وقال: الحكم لله يا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 علي, لا لك ولا لأصحابك فقال علي: لا يفوتكم الكلب فشد الناس عليه من كل جانب ليأخذوه، وهرب شبيب خارجا من باب كندة, فلما أخذ قال: احبسوه فإن مت فاقتلوه ولا تمثلوا به، وإن لم أمت فالأمر إلي في العفو والقصاص. أخرجه أبو عمر. "شرح" الفتك: أن يأتي الرجل وهو غار غافل حتى يشد عليه ويقتله، وفيه ثلاث لغات: فتح الفاء وضمها وكسرها مع إسكان التاء كود ودعم, إدا: الإد بالكسر والإدة الداهية والأمر الفظيع، ومنه قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} فنكمن له أي: نختفي، تقول: كمن كمونًا ومنه الكمين في الحرب, والسدة: باب الدار، وقد تقدم. وعن الليث بن سعد أن عبد الرحمن بن ملجم ضرب عليا في صلاة الصبح على دهش بسيف كان سمه بسم، ومات من يومه، ودفن بالكوفة ليلا. أخرجه البغوي في معجمه. واختلفوا في أنه: هل ضربه في الصلاة أو قبل الدخول فيها? وهل استخلف من أتم الصلاة أو هو أتمها? والأكثر: على أنه استخلف جعدة بن هبيرة يصلي بهم تلك الصلاة، واختلفوا في موضع دفنه فقيل: في قصر الإمارة بالكوفة، وقيل: في رحبة الكوفة، وقيل: بنجف الحيرة. قال الخجندي: والأصح عندهم أنه مدفون من وراء المسجد غير الذي يؤمه الناس اليوم. "شرح" النجف والنجفة بالتحريك: مكان لا يعلوه الماء مستطيل منقاد، والجمع: نجاف بالكسر، والنجاف أيضًا: أسكفة الباب وهي عتبته العليا, والحيرة بالكسر: مدينة بقرب الكوفة، والنسبة إليها حيري وحاري أيضًا على غير قياس، وكأنهم قلبوا الياء ألفًا. وعن أبي جعفر أن قبره جهل موضعه، وغسله الحسن والحسين وعبد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 الله بن جعفر. ذكر الخجندي. وصلى عليه الحسن بن علي وكبر عليه أربع تكبيرات, قال الخجندي, وقيل: تسعًا. وروى هارون بن سعيد أنه كان عنده مسك أوصى أن يحنط به، وقال: فضل من حنوط رسول الله -صلى الله عليه وسلم. أخرجه البغوي. وعن عائشة -رضي الله عنها- لما بلغها موت علي قالت: لتصنع العرب ما شاءت، فليس لها أحد ينهاها. ذكر تاريخ مقتله: وكان ذلك في صبيحة يوم سبعة عشر من رمضان صبيحة بدر وقيل: ليلة الجمعة لثلاث عشرة, وقيل: لإحدى عشرة ليلة خلت -وقيل: بقيت- من رمضان، وقيل: لثماني عشرة ليلة منه، سنة أربعين. ذكر ذلك كله ابن عبد البر. ذكر ما ظهر من الآية في بيت المقدس لموت علي: عن ابن شهاب قال: قدمت دمشق وأنا أريد العراق، فأتيت عبد الملك لأسلم عليه، فوجدته في قبة على فرش تفوت القائم، وتحته سماطان فسلمت ثم جلست، فقال لي: يابن شهاب، أتعلم ما كان في بيت المقدس صباح قتل علي بن أبي طالب? قلت: نعم. قال: فقمت من وراء الناس حتى أتيت خلف القبة، وحول إليَّ وجهه وأحنى علي فقال: ما كان? فقلت: لم يرفع حجر في بيت المقدس إلا وجد تحته دم. فقال: لم يبق أحد يعلم هذا غيري وغيرك، فلا يسمعه أحد منك, فما حدثت به حتى توفي. أخرجه ابن الضحاك في الآحاد والمثاني. ذكر وصف قاتله بأشقى الآخرين: عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا علي، أتدري الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 من أشقى الأولين?" قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "قاتلك". أخرجه أحمد في المناقب، وأخرجه ابن الضحاك. وقال في أشقى الآخرين: "الذي يضربك على هذه, فيبل هذه" وأخذ بلحيته. وعن صهيب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي: "من أشقى الأولين يا علي?" قال: الذي عفر ناقة صالح، قال: "صدقت, فمن أشقى الآخرين?" قال: الله ورسوله أعلم قال: "أشقى الآخرين الذي يضربك على هذه" وأشار إلى يافوخه، فكان علي يقول لأهله: والله لوددت أن لو انبعث أشقاها. أخرجه أبو حاتم والملاء في سيرته. وعن ابن سبع قال: سمعت عليا على المنبر يقول: ما ينتظر أشقاها? عهد إليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتخضبن هذه من هذا وأشار إلى لحيته ورأسه, فقالوا: يا أمير المؤمنين، خبرنا من هو حتى نبتدره فقال: أنشد الله رجلا قتل بي غير قاتلي. أخرجه المحاملي. ذكر وصيته: روي أنه لما ضربه ابن ملجم أوصى إلى الحسن والحسين وصية طويلة في آخرها: يا بني عبد المطلب؛ لا تخوضوا دماء المسلمين خوضا، تقولون: قتل أمير المؤمنين, ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي. انظروا، إذا أنا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة ولا تمثلوا به، فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إياكم والمثلة, ولو بالكلب العقور" أخرجه الفضائلي. وعن هشيم مولى الفضل قال: لما قتل ابن ملجم عليا قال للحسن والحسين: عزمت عليكم لما حبستم الرجل، فإن مت فاقتلوه ولا تمثلوا به. فلما مات قام إليه حسين ومحمد وقطعاه وحرقاه، ونهاهم الحسن. أخرجه ابن الضحاك في الآحاد والمثاني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 ذكر سنه يوم مات, ومدة خلافته: واختلف في ذلك، فقيل: سنه سبع وخمسون، وقيل: ثمانٍ وخمسون, وقيل: ثلاث وستون، وقيل: خمس وستون، وقيل: ثمانٍ وستون. ذكر أبو عمر وغيره. وذكر أبو بكر أحمد بن الدارع في كتاب "مواليد أهل البيت" أن سنه خمس وستون، لم يذكر غيره، صحب النبي -صلى الله عليه وسلم- منها بمكة ثلاث عشرة سنة، وعمره إذ ذاك اثنتا عشرة سنة، ثم هاجر فصحبه بالمدينة عشر سنين, وعاش بعده ثلاثين سنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 الفصل الثاني عشر: في ذكر ولده وكان له من الولد أربعة عشر ذكرًا, وثماني عشرة أنثى. ذكر الذكور: "الحسن والحسين" وقد استوعبنا ذكرهما في مناقب ذوي القربى، ولهما عقب، و"محسن" مات صغيرًا، أمهم فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليها. و"محمد الأكبر" أمه خولة بنت إياس بن جعفر الحنفية، ذكره الدارقطني وغيره، وقال: وأخته لأمه "عوانة بنت أبي مكمل الغفارية" وقيل: بل كانت أمه من سبي اليمامة فصارت إلى علي، وإنها كانت أمة لبني حنيفة سندية سوداء، ولم تكن من أنفسهم؛ وقيل: إن أبا بكر أعطى عليا الحنفية أم محمد من سبي بني حنيفة. أخرجه ابن السمان. و"عبد الله" قتله المختار، و"أبو بكر" قتل مع الحسين، أمهما ليلى بنت معوذ بن خالد النهشلي، وهي التي تزوجها عبد الله بن جعفر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 خلف عليها بعد عمه، جمع بين زوجة علي وابنته، فولدت له "صالحًا" وأم ابنها وأم محمد ابني عبد الله بن جعفر، فهم إخوة عبد الله وأبي بكر ابني علي لأمهما. ذكره الدارقطني. و"العباس الأكبر" و"عثمان" و"جعفر" و"عبد الله" قتلوا مع الحسين أيضًا، أمهم أم البنين بنت حزام بن خالد الوحيدية ثم الكلابية. و"محمد الأصغر" قتل مع الحسين أيضًا، أمه أم ولد. و"يحيى"، و"عون" أمهما أسماء بنت عميس، فهما أخوا بني جعفر بن أبي طالب، وأخوا محمد بن أبي بكر لأمهم. و"عمر الأكبر" أمه أم حبيب الصهباء التغلبية، سبية سباها خالد في الردة فاشتراها علي. ومحمد الأوسط أمه بنت أبي العاص. ذكر الإناث: "أم كلثوم الكبرى" و"زينب الكبرى" شقيقتا الحسن والحسين. و"رقية" شقيقة عمر الأكبر. و"أم الحسن" و"رملة الكبرى" أمهما أم سعد بنت عروة بن مسعود الثقفي. و"أم هانئ" و"ميمونة" و"رملة الصغرى" و"زينب الصغرى" و"أم كلثوم الصغرى" و"فاطمة" و"أمامة" و"خديجة" و"أم الكرم" و"أم سلمة" و"أم جعفر" و"جمانة" و"تقية" لأمهات أولاد شتى، ذكرها ابن قتيبة وصاحب الصفوة. وعقبه من الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية وعمر والعباس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 وتزوج بنات علي بنو عقيل وبنو العباس، ما خلا زينب بنت فاطمة كانت تحت عبد الله بن جعفر؛ وأم كلثوم بنت فاطمة كانت تحت عمر بن الخطاب؛ فمات عنها، فتزوجها بعده محمد بن جعفر بن أبي طالب، فمات عنها, فتزوجها بعده عون بن جعفر بن أبي طالب، فماتت عنده؛ وأم حسن تزوجها جعفر بن هبيرة المخزومي؛ وفاطمة تزوجها سعد بن الأسود من بني الحارث. والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 المجلد الرابع تابع القسم الثاني: في مناقب الأفراد الباب الخامس: في مناقب أبي محمد طلحة بن عبد الله الفصل الأول: في ذكر نسبه ... تابع القسم الثاني: في مناقب الأفراد الباب الخامس: في مناقب أبي محمد طلحة بن عبيد الله, وفيه عشرة فصول الفصل الأول: في ذكر نسبه وقد تقدم ذكر آبائه في باب العشرة, يجتمع نسبه مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرة بن كعب، وينسب إلى تيم بن مرة، فيقال: القرشي التيمي. ويجتمع مع أبي بكر في كعب بن سعد بن تيم, أمه الصعبة بنت عبد الله بن عباد بن مالك بن ربيعة الحضرمي، أخت العلاء بن الحضرمي, أسلمت. ذكره ابن الضحاك، في الآحاد والمثاني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 الفصل الثاني: في اسمه وكنيته ولم يزل اسمه في الجاهلية والإسلام طلحة، ويكنى أبا محمد، وكان يلقب بطلحة الخير، لقبه1 به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد2، وقيل: في وقعة بدر حين غاب عنها في حاجة المسلمين، وطلحة الفياض، لقبه به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم غزوة ذات العشيرة1، وطلحة الجود، لقبه به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين2. حكاه ابن قتيبة وصاحب الصفوة ومشكل   1 لا ريب في إفادة كثرة ألقابه عظم فضله، وكل لقب يدل على فضيلة خاصة. 2 يوم غزوة أحد التي انتهت بقتل سبعين من المسلمين، وعزى الله تعالى المسلمين بقوله: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} وكان طلحة في غزوة أحد يتلقى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضربات السيوف، وطعنات الرماح، ورميات السهام؛ حرصًا على الخير للأمة بحياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسلامته, وقد شلت يده -رضي الله عنه- بدفعه سهمًا بها عنه -صلى الله عليه وسلم- وسيأتي هنا مزيد بيان للمؤلف في هذا الأمر, فلا عجب أن لقبه صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة بطلحة الخير، وما أعظم فوزه -رضي الله عنه- بمثوبته. والقول بأن تلقيبه بذلك كان في غزوة بدر ضعيف, كما أشار المؤلف إلى ذلك بقوله: وقيل: في وقعة بدر. وكانت غزوة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة، وكانت غزوة أحد في شوال من السنة الثالثة من الهجرة. وروى الترمذي، والحاكم في مستدركه عن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على الأرض, فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله". 3خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهذه الغزوة في جمادى الأولى من السنة الثانية للهجرة من أجل عير لقريش عظيمة جمعوا فيها أموالهم، ولم يزل سائرا بمن معه من الصحابة حتى بلغ العشيرة، فوجد العير قد مضت، فرجع إلى المدينة ينتظرها حينما ترجع. 4 بعد فتح مكة الأعظم وسقوط دولة الأوثان والأصنام، دخل الناس في دين الله أفواجًا، ودانت للإسلام جموع العرب. ولكن قبيلتي هوازن وثقيف أدركتهما حمية الجاهلية، واجتمع أشرافهم يتشاورون وقالوا: قد فرغ محمد من قتال قومه ففرغ لنا، فلنغزُه قبل أن يغزونا، فأجمعوا أمرهم على ذلك، وولوا رياستهم مالك بن عوف النصري، فاجتمع له جموع كثيره فيهم بنو سعد بن بكر، الذين كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسترضعا فيهم، وكان في القوم دريد بن الصمة المشهور بأصالة الرأي وشدة البأس في القتال، ولكن لم يكن له في هذه الحرب إلا الرأي، ثم إن مالك بن عوف أمر الناس أن يأخذوا معهم نساءهم وذراريهم وأموالهم ليكون خلف كل رجل أهله وماله يقاتل عنهم، فتمتلئ نفسه زيادة وحماسة وإقداما, فقال دريد: وهل يرد المنهزم شيء؟ إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك، فلم يقبل مالك مشورته، وجعل النساء صفوفًا وراء المقاتلة، ووراءهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 الصحيحين والفضائلي والطائي وغيره. وعن طلحة بن عبيد الله قال: سماني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد طلحة   الإبل ثم البقر ثم الغنم؛ لكيلا يفر أحد من المقاتلة. وقد سار صلى الله عليه وسلم إليهم في اثني عشر ألف مقاتل, حين بلغه استعدادهم لحربه وقد أعجب المسلمون بكثرتهم فلم تغن عنهم شيئًا، فإن مقدمة المسلمين توجهت جهة العدو, فخرج لهم كمين كان مستترا في شعاب الوادي ومضايقه، وقابلهم بنبل كأنه الجراد المنتشر، فلووا أعنة خيلهم متقهقرين، ولما وصلوا إلى من قبلهم تبعوهم في الهزيمة, لما لحقهم من الدهشة. وقد ثبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على بغلته في ميدان القتال، وثبت معه قليل من المهاجرين والأنصار، وكان العباس آخذا بلجام البغلة، وأبو سفيان بن الحارث آخذا بالركاب، وكان عليه الصلاة والسلام ينادي: "أيها الناس" لا يلوي عليه أحد وضاقت بالمنهزمين الأرض بما رحبت. وأما رجال مكة الذين هم حديثو عهد بالإسلام والذين لم ينزعوا عنهم ربقة الشرك، فمنهم من فرح، ومنهم من ساءه هذا الإدبار. قال أخ لصفوان بن أمية: الآن بطل السحر، فقال له صفوان وهو على شركه: اسكت، فض الله فاك، والله لأن يربيني رجل من قريش خير من أن يربيني رجل من هوازن, وقد بلغت هزيمة بعض الفارين مكة, كل هذا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- واقف مكانه يقول: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" ثم قال للعباس وكان جهوري الصوت: "ناد بالأنصار يا عباس" فنادى: يا معشر الأنصار، يا أصحاب بيعة الرضوان فأسمع من في الوادي، وصار الأنصار يقولون: لبيك لبيك، ويريد كل واحد منهم أن يلوي عنان بعيره، فيمنعه من ذلك كثرة الأعراب المنهزمين، فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه ويأخذ سيفه وترسه، وينزل عن بعيره، ويخلي سبيله، ويؤم الصوت حتى اجتمع حول رسول الله جمع عظيم منهم، وأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنودا لم يروها، فكر المسلمون على عدوهم على قلب رجل واحد، فتفرق المشركون في كل وجه لا يلوون على شيء من الأموال والنساء والذراري، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، فأخذوا النساء والذراري وأسروا كثيرًا من المحاربين، وهرب من هرب وجرح في هذا اليوم خالد بن الوليد جراحات بالغة، وأسلم ناس كثيرون من مشركي مكة لما رأوه من عناية الله بالمسلمين وأن في الذي حصل في هذه الغزوة لعبرة بالغة، فقد دخل جيش المسلمين أخلاط كثيرون من أعراب ومشركين وحديثي عهد بإسلام، وهولاء يستوي لديهم نصر الإسلام وخذلانه، ولذلك بادروا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 الخير، وفي غزوة العشيرة طلحة الفياض، ويوم حنين طلحة الجود. أخرجه ابن الضحاك.   لأول صدمة إلى الهزيمة، ولولا فضل الله لانتهى أمر المسلمين وعزهم. فلا ينبغي إذًا أن يكون في الجيش إلا من يقاتل خالصًا مخلصًا من قلبه؛ ليكون مدافعًا حقا عن دينه ولا يتجه إلى الفرار أبدًا فرارًا من أليم العقاب الذي أعده الله للفارين؛ قال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . وفي غزوة حنين، يقول الله تعالى في القرآن الكريم: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وحنين: اسم موضع بين مكة وبين الطائف وإليه سار صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة لقتال هوازن وثقيف, ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالسًا يقسم غنائم هوازن بحنين، فوقف عليه رجل من الناس، فقال: إن لي عندك موعدا يا رسول الله، فقال: "صدقت, فاحتكم ما شئت " أي: لك الحكم في طلب ما تريد، فقال: أحتكم ثمانين ضائنة -أي: نعجة، فالذكر ضائن- وراعيها -أي: معها الخادم الذي يرعاها- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هي لك"، ولقد احتكمت يسيرًا، ولصاحبة موسى -عليه السلام- وهي العجوز من عجائز مصر، التي دلته على عظام يوسف عليه السلام، أي: جسده الشريف، وكان في صندوق من رخام في قعر النيل تتلاطم عليه الأمواج، أحزم منك، أي: أكثر حزمًا منك، وأجزل حكما حين حكمها موسى عليه السلام, فإنه لما سأل عن يوسف -عليه السلام- لم يجد عند أحد علمًا لتقادم العصر ومرور الأزمنة، وأجمع رأيهم على عجوز كانت من بقايا القبط وقد أتت عليها سنون، فطلبها سيدنا موسى -عليه السلام- وسألها، فقالت: عندي علم من ذلك، فقال: أخبرينا ولك ما تريدين، فقالت: حكمي أن تردني شابة كأحسن ما كنت عليه من الشباب, وأدخل معك الجنة. فأخبرته عن محله، فدعا الله تعالى أن يردها شابة فارتدت في الحال شابة ورجع إليها حسنها وجمالها, ودعا الله تعالى أن يجعلها معه في الجنة فاستجيب له، ودلته على محله في قعر النيل، فأتى إليه وأشار بعصاه فانفرق البحر وظهر الصندوق, فحمله موسى عليه السلام إلى بيت المقدس، فدفنه عند آبائه الكرام -عليهم السلام- فكان الناس يصفون ما احتكم به حتى جعل مثلا يقولون: هو أشح من صاحب الثمانين والراعي يعنون به ذلك الرجل الدنيء الهمة". قال العراقي في تخريج هذا الحديث: رواه ابن حبان، والحاكم في المستدرك؛ من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- مع اختلاف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 ودعاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصبيح المليح الفصيح. ذكره الطائي في الأربعين. وعن موسى بن طلحة أن طلحة نحر جزورًا، وحفر بئرًا يوم ذي قرد فأطعمهم وسقاهم؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الفياض" وقال: اشترى طلحة بئرًا فتصدق بها ونحر جزورًا، فأطعمهم وسقاهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا طلحة، أنت الفياض" فسمي طلحة الفياض. أخرجه ابن الضحاك. وأما طلحة الطلحات الذي قيل فيه: رحم الله أعظمًا دفنوها ... بسجستان طلحة الطلحات فهو رجل من خزاعة، ذكره ابن قتيبة. "شرح" إنما لقب بطلحة الجود وطلحة الفياض؛ لسعة عطائه وكرمه، وكان جوادًا؛ وسيأتي من وصف جوده طرف في بابه إن شاء الله تعالى, وغزوة ذات العشيرة، ويقال: العشيرة، وهو موضع ببطن ينبع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 الفصل الثالث: في صفته قال بعضهم: كان آدم، كثير الشعر ليس بالسبط ولا بالجعد القطط, حسن الوجه، دقيق العرنين، إذا مشى أسرع، وكان لا يغير شعره. هكذا ذكره أبو عمر، وقيل: ولم يحك البغوي غيره، كان أبيض إلى الحمرة، مربوعًا إلى القصر أقرب منه إلى الطول، رحب الصدر، عريض المنكبين، إذا التفت التفت جميعًا، ضخم القدمين لا أخمص لهما. والقولان حكاهما ابن قتيبة. "شرح" آدم: أسمر والأدمة بالضم: السمرة، والأدمة أيضًا: الوسيلة إلى الشيء؛ قاله الفراء. والسبط بكسر الباء وإسكانها: الشعر المسترسل، والجعد ضده، والقطط: الشديد الجعودة. وعرنين الأنف: أوله تحت مجتمع الحاجبين، وقد يطلق على الأنف, وعرنين كل شيء: أوله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 الفصل الرابع: في إسلامه عن إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله قال: قال طلحة: حضرت بسوق بصرى فإذا راهب1 في صومعة يقول: سلوا أهل هذا الموسم: أفيهم أحد من الحرم2? قال طلحة: نعم أنا. قال: هل ظهر أحمد بعد? قال: قلت: ومن أحمد? قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذي يخرج فيه وهو آخر الأنبياء، ومخرجه من الحرم ومهاجره إلى نخل3 وحرة وسباخ، فإياك أن تسبق إليه. قال طلحة: فوقع في قلبي ما قال، فخرجت مسرعًا حتى قدمت مكة فقلت: هل كان من حدث? قالوا: نعم، محمد بن عبد الله الأمين تنبَّأ، وقد تبعه ابن4 أبي قحافة. قال: فخرجت حتى دخلت على أبي بكر فقلت: اتبعت هذا الرجل? قال: نعم، فانطلق إليه فادخل عليه فاتبعه فإنه يدعو إلى الحق، وأخبره طلحة بما قال الراهب، فسر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك, فلما أسلم أبو بكر وطلحة أخذهما نوفل بن خويلد، وشدهما في حبل واحد ولم يمنعهما بنو تيم؛ فلذلك سمي أبو بكر وطلحة "القرينين" أخرجه الفضائلي، وصاحب فضائل أبي بكر. وأسلم أخو طلحة عثمان بن عبيد الله، أمه كريمة بنت موهب من كندة، وقيل: بنت جندب من بني سواة بن عباس بن صعصعة، ولده عبد الرحمن بن عثمان، له صحبة ورواية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولهما أخ ثالث قتل يوم بدر كافرًا.   1 منقطع من النصارى للعبادة وفق تعاليم النصرانية في زعمه. 2 حرم مكة. 3 يعني: يثرب "المدينة". 4 أبو بكر -رضي الله عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 الفصل الخامس: في ذكر هجرته 1 لم أظفر بشيء يخصها, ولا شك في أنه -رضي الله عنه- هاجر ولم يزل مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ملازما له, حتى توفي2 وهو عنه راض، وقضاياه في أحد وغيرها مما يشهد له بذلك.   1 أي: من مكة إلى المدينة المنورة. 2 أي: النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو عنه أي: عن طلحة راض, فإنه -رضي الله عنه- توفي شهيدًا يوم وقعة الجمل ستة ست وثلاثين من الهجرة في خلافة سيدنا علي -رضي الله عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 الفصل السادس: في خصائصه ذكر اختصاصه بالبروك يوم أحد للنبي حتى صعد على ظهره إلى صخرة عن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: كان على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد درعان، فذهب لينهض على صخرة فلم يستطع، فبرك طلحة بن عبيد الله تحته وصعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ظهره حتى صعد على الصخرة؛ قال الزبير: فسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أوجب 1 طلحة". أخرجه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح، وأبو حاتم واللفظ للترمذي. وعن طلحة -رضي الله عنه- قال: لما كان يوم أحد وحملت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ظهري حتى استقل, وصار على الصخرة فاستتر من المشركين، قال لي هكذا, وأومأ بيده إلى وراء ظهره: "هذا جبريل يخبرني أنه لا   1 أي: لنفسه الخير, ببروكه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 يراك يوم القيامة في هول, إلا أنقذك منه" أخرجه الفضائلي. ذكر اختصاصه برفع النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد, حتى استوى قائما: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد فكسر رباعيته1 اليمنى، وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن شهاب الزهري شجه في جبهته، وأن ابن قمئة جرح وجنته, فدخلت حلقتان من حلق الدرع في وجنته، ووقع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حفرة من الحفر التي عمل عامر ليقع المسلمون وهم لا يعلمون، فأخذ علي بيد رسول الله، ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما, ومص مالك بن أبي سعيد الخدري الدم من وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: "من مس دمه دمي 2 لم تمسه النار" أخرجه ابن إسحاق. ذكر اختصاصه بحمل النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد, والقتال دونه: عن عائشة بنت طلحة قالت: لما كان يوم أحد كسرت رباعية النبي -صلى الله عليه وسلم- وشج وجهه، وخلاه الغشي، فجعل طلحة يحمله ويرجع القهقرى, وكلما أدركه أحد من المشركين قاتل دونه، حتى أسنده إلى الشعب. أخرجه الفضائلي. ذكر اختصاصه بيوم أحد 3: عن عائشة قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذلك كله يوم طلحة، قال أبو بكر: كنت أول من جاء يوم أحد، فقال لي رسول   1 السن من المفلجتين والناب, على وزن ثمانية. 2 مما اختص به -صلى الله عليه وسلم- طهارة دمه. 3 وما أعظم هذه المنقبة لطلحة -رضي الله عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 الله -صلى الله عليه وسلم- ولأبي عبيدة بن الجراح: "عليكما 1 " يريد طلحة وقد نزف، فأصلحنا من شأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم أتينا طلحة في بعض تلك الحفار، فإذا فيه بضع وسبعون أو أقل أو أكثر بين طعنة وضربة ورمية، وإذا قد قطعت أصبعه، فأصلحنا من شأنه. أخرجه صاحب الصفوة، وأخرج أبو حاتم معناه ولفظه: قال: قال أبو بكر: لما صرف الناس يوم أحد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كنت أول من جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فجعلت أنظر إلى رجل بين يديه يقاتل عنه ويحميه، فجعلت أقول: كن طلحة فداك أبي وأمي, مرتين؛ ثم نظرت إلى رجل خلفي كأنه طائر، فلم أنشب أن أدركني، فإذا أبو عبيدة بن الجراح فدفعنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإذا طلحة بين يديه صريع؛ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "دونكم أخاكم" فأهويت إلى ما رمي به في جبهته ووجنته لأنزعه؛ قال لي أبو عبيدة: نشدتك الله يا أبا بكر إلا تركتني. قال: فتركته، فأخذ أبو عبيدة السهم بفمه فجعل ينضنضه، ويكره أن يؤذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم استله بفمه؛ ثم أهويت إلى السهم الذي في وجنته لأنزعه؛ فقال أبو عبيدة: نشدتك بالله يا أبا بكر إلا تركتني. فأخذ السهم بفمه، وجعل ينضنضه، ويكره أن يؤذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم استله؛ وكان طلحة أشد   1 أي: ارمياه بما يصلح شأنه، وتلك العناية بطلحة منه -صلى الله عليه وسلم- دليل رحمته -صلى الله عليه وسلم- ووفائه وحسن صنيعه وتقديره، وصدق الله العظيم إذ قال لصلاح المجتمع، وحسن حال الفرد: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} . والدنيا اليوم في حاجة ملحة إلى الاقتداء به -صلى الله عليه وسلم- في هذين الخلقين العظيمين: الرحمة والوفاء، وهما من أظهر شعب الإيمان وصفات المؤمنين, قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" رواه الإمام أحمد ومسلم عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- والوفاء من حسن العهد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن حسن العهد من الإيمان" رواه الحاكم في مستدركه عن عائشة -رضي الله عنها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 نهكة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشد1 منه، وكان قد2 أصاب طلحة بضع وثلاثون من طعنة وضربة ورمية. "شرح" ينضنضه أي: يحركه؛ يقال بالصاد والضاد معا. ونهكة من قولهم: نهكته الحمى بالكسر تنهكه نهكا إذا أجهدته، ونهكته بالفتح نهكا، لغتان والمعنى أشد جراحة وجهدا وألما. وعن قيس بن أبي حازم قال: رأيت يد طلحة بن عبيد الله شلاء؛ وقى بها النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد, أخرجه البخاري وأبو حاتم، واللفظ له. وعن أبي عثمان قال: لم يبق مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعض تلك الأيام التي قاتل فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غير طلحة وسعد. أخرجاه3. ذكر اختصاصه بمسح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جسده بيده الكريمة يوم أحد, فقام صحيحًا: عن أبي هريرة أن طلحة لما جرح يوم أحد, مسح صلى الله عليه وسلم بيده على جسده، وقال: "اللهم اشفه وقوه" فقام صحيحًا فرجع إلى العدو. أخرجه الملاء. ذكر اختصاصه بالمبادرة إلى تسوية رحل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين دعا إلى ذلك: عن عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة وقد سقط رحله، يقول: "من يسوي رحلي وله الجنة?" فبدر طلحة بن عبيد الله فسواه حتى ركب؛ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "يا طلحة هذا جبريل يقرئكالسلام، ويقول: أنا معك في أهوال يوم القيامة حتى أنجيك منها" أخرجه الحافظ أبو القاسم الدمشقي.   1 أقوى منه. 2 بيان لسبب أن طلحة أشد نهكة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم. 3 يعني: البخاري ومسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 الفصل السابع: في شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالجنة تقدم في باب العشرة طرف من ذلك. وعن علي بن أبي طالب قال: سمعت أذني من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: "طلحة والزبير جاراي في الجنة" أخرجه الترمذي، وقال: غريب. وعن الزبير قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد يقول: "أوجب طلحة الجنة" أخرجه البغوي في معجمه. وعن طلحة قال: كان بيني وبين عبد الرحمن بن عوف مال، فقاسمته إياه فأراد شربا في أرضي فمنعته، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فشكاني إليه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أتشكو رجلا قد أوجب?" فأتاني فبشرني، فقلت: يا أخي أبلغ من المال ما تشكوني فيه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم? قال: قد كان ذلك؛ قال: فإني أشهد الله وأشهد رسوله -صلى الله عليه وسلم- أنه لك. أخرجه الفضائلي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 الفصل الثامن: في ذكر نبذ من فضائله قال ابن قتيبة وأبو عمر وغيرهما: شهد طلحة أحدا وما بعدها. وقال الزبير بن بكار وغيره: أبلى طلحة يوم أحد بلاء حسنا، وثبت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووقاه بيده فشلت، وشهد الحديبية والمشاهد1 كلها، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة, وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الستة الذين جعل عمر فيهم الشورى2 وأخبر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توفي وهو عنهم راضٍ, وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر. ذكر إثبات سهمه من غنيمة بدر وأجره, ولم يحضر: عن ابن شهاب قال: لم يشهد طلحة بدرا، وقدم من الشام بعد مرجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من بدر، فكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سهمه3، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لك سهمك" قال: وأجري يا رسول الله? قال: "وأجرك" فلذلك كان معدودا في البدريين. أخرجه ابن إسحاق وابن الضحاك, وحكاه أبو عمر عن موسى بن عقبة قال الزبير بن بكار: كان طلحة بن عبيد الله بالشام في تجارة حين كانت وقعة بدر وكان من المهاجرين الأولين, فضرب له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسهمه، فلما قدم قال: وأجري يا رسول الله? قال: "وأجرك" أخرجه أبو عمر. وقال الوقدي: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يخرج من المدينة إلى بدر طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد إلى طريق الشام يتجسسان4 الأخبار, ثم رجعا إلى المدينة فقدماها يوم وقعة بدر.   1 مشاهد القتال في سبيل الله تعالى. 2 لاختيار الخليفة بعده، وكان من الستة الذين جعل عمر فيهم الشورى عثمان بن عفان -رضي الله عنه- الذي اختير خليفة كما هو مشهور، وكان ابن عمر مع أهل الشورى في الرأي فقط، ولم يرض عمر رضي الله عنه له أن يكون خليفة لتبعات الخلافة الثقيلة، فما أرحم عمر بابنه، وهكذا يكون الآباء الرحماء حقا. 3 السهم: النصيب. 4 وتجسسهما الأخبار عون على كسب المعركة، فهو ضرب من الجهاد، فلا عجب أن عُدَّا في البدريين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 ذكر شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالشهادة 1: تقدم في باب ما دون العشرة حديث: "تحرك حراء 2 " وقوله -صلى الله عليه وسلم: "اثبت حراء؛ فما عليك إلا نبي أو صديق 3 أو شهيد" وكان طلحة ممن كان معه -صلى الله عليه وسلم. وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض, فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله" أخرجه الترمذي وقال: غريب. ذكر شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له أنه ممن قضى نحبه: عن موسى بن معاوية قال: دخلت على معاوية فقال: ألا أبشرك? سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "طلحة ممن قضى نحبه" أخرجه الترمذي وقال: غريب. وعن طلحة: أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا لأعرابي جاهل: سله عمن قضى نحبه من هو? وكانوا لا يجترئون على مسألته يوقرونه ويهابونه, فسأله الأعرابي فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض, ثم إني طلعت من باب المسجد وعلي ثياب خضر، فلما رآني النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أين السائل عمن قضى نحبه?" قال الأعرابي: أنا يا رسول الله. قال: "هذا ممن قضى نحبه" أخرجه الترمذي، وقال: حسن غريب. وعنه قال: لما رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أحد صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قرأ هذه الآية: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ   1 الشهادة: الموت في سبيل الله تعالى. 2 حراء وزان كتاب: جبل بمكة, يذكر ويؤنث, قاله الجوهري. 3 ملازم للصدق، وذلك الوصف من أوصاف سيدنا أبي بكر -رضي الله عنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} 1 الآية، فقام إليه رجل, فقال: "أيها السائل, هذا منهم" أخرجه في الصفوة. وعن جابر -رضي الله عنه- قال: نظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى طلحة فقال: "من أحب أن ينظر إلى رجل يمشي على وجه الأرض وقد قضى نحبه, فلينظر إلى وجه طلحة بن عبيد الله" أخرجه الملاء. "شرح" نحبه: نذره، كأنه ألزم نفسه أن يموت على وصف فوفى به، هذا أصله؛ لأن النحب النذر، تقول: نحبت أنحب بالضم، والنحب: الوقت والمدة، يقال: فلان قضى نحبه أي: مدته فمات، والمعنى: أن طلحة التزم أن يصدق الله في الحرب لأعدائه فوفى له ولم يفسخ، وتناحب القوم: إذا تواعدوا للقتال أو غيره، وناحبت الرجل: فاخرته أيضًا، ومنه حديث طلحة أنه قال لابن عباس: هل لك أن أناحبك ونرفع النبي -صلى الله عليه وسلم? أي: أفاخرك ونرفع النبي -صلى الله عليه وسلم- من رأس الأمر، لا تذكره في فضائلك وقرابتك منه. ذكره الهروي. ذكر شهادته -صلى الله عليه وسلم- بالمغفرة له, وإثبات اسمه في ديوان المقربين: عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لطلحة بن عبيد الله: "أبشر يا أبا محمد، إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وقد أثبت اسمك في ديوان المقربين" أخرجه الملاء. ذكر أنه في حفظ الله -عز وجل- وفي نظره: وعن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لطلحة: "أنت في حفظ الله, ونظره إلى أن تلحق به" أخرجه الملاء.   1 سورة الأحزاب الآية 23. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 ذكر أنه سلف 1 النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والآخرة: عن علي -عليه السلام- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لطلحة بن عبيد الله: "أنت سلفي في الدنيا، وأنت سلفي في الآخرة" أخرجه الملاء في سيرته، وذلك أن طلحة تزوج حمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمهما أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي -صلى الله عليه وسلم. ذكر أنه حواري النبي -صلى الله عليه وسلم: عن زيد بن أبي أوفى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لطلحة والزبير: "أنتما حوارياي كحواريي عيسى ابن مريم" أخرجه الحافظ الدمشقي والبغوي في معجمه. "شرح" الحواري: الناصر، والحواريون: أنصار عيسى -عليه السلام- ومنه قول الأعور الكلابي: ولكنه ألقى زمام قلوصه2 ... ليحيي كريمًا أو يموت حواريا قال يونس بن حبيب: الحواري: الخالصة، وقيل: إن أصحاب عيسى إنما سموا حواريين؛ لأنهم كانوا يغسلون الثياب ويخلصونها من الأوساخ، ويحورونها أي: يبيضونها، والتحوير: التبييض، والحور: البياض، وقال محمد بن السائب: الحواري: الخليل، وقال معمر عن قتادة: الحواريون كلهم من قريش: أبو بكر وعمر وعلي وعثمان وحمزة وجعفر وأبو عبيدة بن الجراح وعثمان بن مظعون وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة والزبير. وعن قتادة أيضًا أنه قال: الحواريون الذين تصلح   1 السلف: هو المعروف بالعديل الآن. 2 ناقته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 لهم الخلافة. ذكره جميعه أبو بكر، وذكر الهروي طائفة منهم، وكذلك الجوهري. ذكر إثبات الرجاء بأنه ممن قال الله تعالى فيه: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} : عن علي -عليه السلام- أنه قال: إني والله لأرجو1 أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله تعالى فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} 1 أخرجه أبو عمر. وعن أبي حبيبة عن مولى طلحة قال: دخلت على علي مع عمران بن طلحة بعدما فرغ من أصحاب الجمل، فرحب به وأدناه، وقال: إني لأرجو أن يجعلني وأباك من الذين قال الله تعالى فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ... } الآية وقال: يابن أخي كيف فلان? وكيف فلان? وسأله عن أمهات أولاد ابنه، ثم قال: لم نقبض أرضكم هذه إلا مخافة أن ينهبها الناس. يا فلان، انطلق به إلى ابن قرطة مرة فليعطه غلته وليدفع إليه أرضه، فقال رجلان جالسان ناحية أحدهما الحارث الأعور: الله أعدل من ذلك أن يقتلهم ويكونوا إخواننا في الجنة. فقال: قوما، وأبعدهما وأسحقهما، فمن هو إذا لم أكن أنا وطلحة أخوين? يابن أخي إذا كان لك حاجة فأتنا. أخرجه الفضائلي الرازي. "شرح" أسحقهما: أبعدهما، ومنه: {فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} أي: بعيد، وكرر لاختلاف اللفظ، والسحق بالضم: البعد، تقول: سحقًا له، ومنه   1 ومن أراد أن يكون ممن قال الله تعالى فيهم هذا القول الكريم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} فليقتد بأولئك المذكورين في سيرهم وسلوكهم, وروى ابن ماجه بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قيل: يا رسول الله, أي الناس أفضل؟ قال: "كل مخموم القلب, صدوق اللسان" قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: "التقي النقي, لا إثم فيه، ولا بغي، ولا غل، ولا حسد". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 الحديث: "فأقول: سحقًا سحقًا" والسحق بضم الحاء لغة فيه، نحو: عسر وعسر، وسحق الشيء: بعده وأسحقه الله: أبعده. ذكر جوده 1 وسماحة نفسه, وكثرة عطائه وصلة رحمه: عن سعدى بنت عوف امرأة طلحة قالت: لقد تصدق طلحة يومًا بمائة ألف. وعنها قالت: دخل علي طلحة فرأيته مغمومًا، فقلت: ما شأنك? قال: المال الذي عندي قد كثر وأكربني، فقلت: وما عليك? اقسمه، فقسمه حتى ما بقي منه درهم؛ قال طلحة بن يحيى: فقلت لخازن طلحة: كم كان المال? قال: أربعمائة ألف. وعن الحسن قال: باع طلحة أرضًا له بسبعمائة ألف، فبات أرقًا من مخافة ذلك المال، حتى أصبح ففرقه. "شرح" الأرق: السهر، وأرقت بالكسر: سهرت، وكذلك ايترقت على افتعلت فأنا أرق؛ وأرقني كذا تأريقا أي: أسهرني. وعنه أن طلحة باع أرضًا من عثمان بسبعمائة ألف فحملها إليه، فلما جاء بها قال: إن رجلا تبيت هذه عنده في بيته -لا يدري ما يطرقه من أمر الله- لغرير بالله, فبات ورسله تختلف في سكك المدينة حتى أسحر وما عنده منها درهم. أخرجهن صاحب الصفوة. "شرح" غرير أي: مغرور؛ فعيل بمعنى مفعول كقتيل وطريح، وأسحر أي: دخل في السحر.   1 وبالنظر إلى ما تضمنه هذا الباب، قلت في ختام مدح له -رضي الله عنه وأرضاه: عليك رضا الرحمن يا طلحة الندي ... ولا زلت بين الأكرمين إماما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 وعن جابر -رضي الله عنه- قال: صحبت طلحة، فما رأيت رجلًا أعطى لجزيل مال عن غير مسألة منه. وعن علي بن زيد قال: جاء أعرابي إلى طلحة يسأله ويتقرب إليه برحم فقال: إن هذه لرحم ما سألني بها أحد قبلك، إن لي أرضًا أعطاني بها عثمان ثلاثمائة ألف؛ فإن شئت فاغدُ فاقبضها، وإن شئت بعتها من عثمان، ودفعت إليك الثمن فقال الأعرابي: الثمن. فباعها من عثمان, ودفع إليه الثمن. وعن بعض ولد طلحة قال: لبس طلحة رداءً نفيسًا، فبينا هو يسير إذا رجل قد استله، فقام الناس فأخذوه منه، فقال طلحة: ردوه عليه، فلما رآه الرجل خجل ورمى به إلى طلحة، فقال طلحة: خذه بارك الله لك فيه؛ إني لأستحي من الله أن يؤمل في أحد أملا فأخيب أمله. وعن محمد بن إبراهيم قال: كان طلحة يغل بالعراق ما بين أربعمائة ألف إلى خمسمائة ألف، ويغل بالشراة عشرة آلاف دينار أو أكثر أو أقل، وكان لا يدع أحدًا من بني تيم عائلًا إلا كفى مئونة عياله، ويزوج أياماهم ويخدم عائلهم ويقضي دين غارمهم, وكان يرسل إلى عائشة إذا جاءت غلته كل سنة عشرة آلاف، ولقد قضى عن صبيحة ثلاثين ألف درهم. أخرج الأربعة الفضائلي. "شرح" العائل: الفقير ومنه: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} أي: فقرًا والأيامى: جمع أيم وهي التي لا زوج لها بكرًا كانت أو ثيبًا، ويقال للذي لا زوجة له: أيم أيضا. قال أبو عبيد: يقال: رجل أيم وامرأة أيم؛ ولا يقال: أيمة، والغارم: المديون1. وعن الزبير بن بكار أنه سمع سفيان بن عيينة يقول: كانت غلة طلحة   1 يقال في المقترض: مديون، ومدين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 ابن عبيد الله كل يوم ألفًا وافيًا، قال: والوافي وزنه وزن الدينار وقال: وعلى ذلك وزن دراهم فارس التي تعرف بالبغلية. وسمع علي -عليه السلام- رجلًا ينشد: فتى كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر قال: ذلك أبو محمد طلحة. ذكر أنه كان من خطباء الصحابة: عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن عمر شاور الناس في الزحف إلى قتال ملوك فارس التي اجتمعت بنهاوند، فقام طلحة بن عبيد الله وكان من خطباء الصحابة، فتشهد ثم قال: أما بعد يا أمير المؤمنين، فقد أحكمتك الأمور، وعجنتك البلايا، وأحنكتك التجارب، فأنت وشأنك، وأنت ورأيك، إليك هذا الأمر، فمرنا نطع، وادعُنا نُجِب، واحملنا نركب، وقدنا ننقد، فإنك ولي هذه الأمور، وقد بلوت واختبرت فلم ينكشف لك عن شيء من عواقب قضاء الله -عز وجل- إلا عن خيار, ثم جلس. أخرجه في فضائل عمر. ذكر ثناء ابن عباس عليه, وعلى الزبير: عن ابن عباس -وقد سئل عن طلحة والزبير- فقال: رحمة الله عليهما، كانا والله مسلمين مؤمنين بارين، تقيين خيرين فاضلين طاهرين, زلالتين والله غافر لهما؛ للصحبة القديمة والعشرة الكريمة والأفعال الجميلة، فأعقب الله من يبغضهما بسوء الغفلة إلى يوم الحشر. أخرجه الأصبهاني. وقد تقدم في مناقب علي عليه السلام عن سعد بن أبي وقاص وعن سعيد بن المسيب ما يدل على الحث على محبتهما, والزجر عن بغضهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 الفصل التاسع: في مقتله وما يتعلق بذلك , ذكر كيفية قتله وسببه ومن قتله كان رضي الله عنه حربا لعلي -رضى الله عنه- وزعم بعضهم أن عليا دعاه فذكره أشياء من سوابقه وفضله، فخرج طلحة عن قتله واعتزل في بعض الصفوف، فجاءه سهم عزب، فقطع من رجله عرق النسا، فلم يزل دمه ينزف منه حتى مات. ويقال: إن السهم أصاب ثغرة نحره، فقال: بسم الله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} 1. "شرح" سهم عزب بفتح الزاي: هو الذي لا يعرف راميه، قاله الأزهري. وعن أبي زيد: يقال: أصابه سهم عزب، بإسكانها إذا أتاه من حيث لا يدري، وبفتحها إذا رمى غيره فأصابه, والنسا بالفتح والقصر: عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذين ثم يمر بالعروق حتى يبلغ الحافر، فإذا سمنت الدابة انفلت فخذاها بلحمتين عظيمتين ويجري النسا بينهما ويستبين، وإذا هزلت الدابة اضطرب الفخذان وخفي النسا, وثغرة النحر بالضم: النقرة التي بين الترقوتين. قال الأحنف بن قيس: لما التقوا كان أول قتيل طلحة، والمشهور أن مروان بن الحكم هو الذي قتله، رماه بسهم؛ وقال: لا أطلب بثأري بعد اليوم؛ وذلك أن طلحة زعموا أنه كان ممن حاصر عثمان واشتد عليه. وعن يحيى بن سعيد قال: قال طلحة يوم الجمل: ندمت ندامة الكسعي لما ... شريت رضى بني حزم برغمي   1 سورة الأحزاب الآية 38. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 اللهم خذ مني لعثمان حتى ترضى؛ فرماه مروان بن الحكم بسهم في ركبته فجعل الدم يسيل، فإذا أمسكوا فم الجرح انتفخت ركبته، فقال: دعوه فإنما هو سهم أرسله الله تعالى. قال: فمات، فدفناه على شاطئ الكلأ فرأى بعض أهله أنه أتاه في المنام فقال: ألا تريحونني من هذا الماء, فإني قد غرقت? ثلاث مرات يقولها، قال: فنبشوه، فإذا هو أخضر كأنه السلق فنزحوا عنه الماء، ثم استخرجوه فإذا ما يلي الأرض من لحيته ووجهه قد أكله الأرض، فاشتروا له دارا من دور بني بكرة بعشرة آلاف، فدفنوه فيها. أخرجه أبو عمر؛ وأخرج بعضه ابن قتيبة وصاحب الصفوة. وذكر أبو عمر من طريق آخر أن مروان بن الحكم رماه بسهم في فخذه، فشكه بسرجه، فانتزع السهم، وكان إذا أمسك الجرح انتفخ الفخذ وإذا أرسلوه سال. فقال طلحة: دعوه, فإنه سهم من سهام الله أرسله، فمات ودفن، فرآه مولى له ثلاث ليال في المنام كأنه يشكو إليه البرد، فنبش عنه فوجد ما يلي الأرض من جسده مخضرا وقد تحاص شعره، فاشتروا له دارا, وذكر ما تقدم. وعن المثنى بن سعد قال: لما قدمت عائشة بنت طلحة أتاها رجل، فقال: أنت عائشة بنت طلحة? قالت: نعم قال: إني رأيت طلحة في المنام, فقال: قل لعائشة حتى تحولني من هذا المكان فإن البرد قد آذاني, فركبت في مواليها وحشمها فضربوا عليه بيتا، واستثاروه فلم يتغير منه إلا شعرات في أحد شقي لحيته -أو قال: رأسه- حتى حول إلى هذا الموضع, وكان بينهما بضع وثلاثون سنة. أخرجه ابن قتيبة والفضائلي. "شرح" قوله: ندمت ندامة الكسعي: البيت، هكذا رواه أبو عمر والمشهور: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 ندمت ندامة الكسعي1 لما ... رأت عيناه ما صنعت يداه وهو رجل كان ربى نبعة، وهو شجر ينبت في الصخر، واتخذ منها قوسا فرمى به الوحش ليلا فأصاب وظن أنه أخطأ، فكسر القوس، فلما أصبح رأى ما أصمى من الصيد، فندم، فقال الشاعر: ندمت ندامة الكسعي ... البيت وقوله: برغمي: في الرغم ثلاث لغات ضم الراء وفتحها وكسرها، تقول: رغم أنفي لله بكسر الغين وفتحها رغمًا ورغمًا، إذا انقدت على كره من نفسك، وفعلت ذلك على الرغم من أنفه ورغم فلان بالفتح: إذا لم يقدر على الانتصاف, وأصله من الرغام بالفتح وهو التراب، يقال: أرغم الله أنفه أي: ألصقه بالرغام، فكأن الفاعل للشيء على كره ملصق أنفه بالرغام لما اتصف به من إذلال نفسه, والشاطئ: الجانب وكذلك الشطء, وتحاص شعره أي: سقط, ورجل أحص بين الحصص: قليل الشعر. ذكر تاريخ مقتله: قتل رضي الله عنه يوم الجمل، وكان يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين. ذكر سنه يوم قتل: وكان له يوم قتل ستون سنة، وقيل: اثنتان وستون، وقيل: أربع   1 رجل يضرب به المثل عند الندم، واسمه كما ذكر صاحب القاموس: غامد بن الحارث الكسعي، الذي اتخذ قوسا وخمسة أسهم، وكمن في فترة -في ناحية- فمر قطيع, فرمى عيرًا أي حمارًا، وغلب على الوحشي, فأمخطه -أي أنفذه- السهم، وصدم الجبل، فأورى نارا، فظن أنه أخطأ، فرمى ثانيا، وثالثا إلى آخرها، وهو يظن خطأه، فعمد إلى قوسه فكسرها ثم بات، فلما أصبح نظر، فإذا الحمر مطرحة مصرعة وأسهمه بالدم مضرجة، فندم فقطع إبهامه، وأنشد: ندمت ندامة لو أن نفسي ... تطاوعني إذًا لقطعت خمسي تبين لي سفاه الرأي مني ... لعمر أبيك حين كسرت قوسي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 وستون، وقيل غير ذلك. أخرجه ابن قتيبة وأبو عمر وغيرهما. ذكر ما روي عن علي -عليه السلام- من القول عند موت طلحة: عن طلحة بن معروف أن عليا انتهى إلى طلحة وقد مات، فنزل عن دابته وأجلسه، وجعل يمسح الغبار عن وجهه ولحيته وهو يترحم عليه ويقول: ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة. أخرجه الفضائلي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 الفصل العاشر: في ذكر ولده وكان له أربعة عشر ولدا؛ عشرة بنين وأربع بنات. ذكر البنين: "محمد" وهو السجاد, سمي بذلك لكثرة عبادته, ولد في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسموه محمدًا وكنوه أبا القاسم، فقيل: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- سماه محمدًا وكناه أبا سليمان، وقال: "لا أجمع له بين اسمي وكنيتي" أخرجه الدارقطني, قتل مع أبيه يوم الجمل، وله عقب؛ وكان علي ينهى عنه ويقول: إياكم وصاحب البرنس، فقتله رجل وأنشأ يقول: وأشعث قوام بآيات ربه ... قليل الأذى فيما ترى العين مسلم أمكنه بالرمح حضني مقبلًا ... فخر صريعًا لليدين وللفم على غير شيء غير أن ليس تابعًا ... عليا ومن لا يتبع الحق يظلم يناشدني حم والرمح شاجر ... فهلا تلاحم قبل التقدم "شرح" الحضن: ما دون الإبط إلى الكشح، وحضنا الشيء: جانباه ونواحي كل شيء: أحضانه, شاجر أي: ملابس له، وتشاجر القوم: تطاعنوا، وتشاجروا: تنازعوا، وشجر الأمر بينهم: اختلف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 وروي أن عليا مر به قتيلا فقال: هذا السجاد، قتله1 بره بأبيه, ذكره الدارقطني. وهو وعمران بن طلحة: أمهما حمنة بنت جحش, أمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا عقب له، وأختهما لأمهما زينب بنت مصعب بن عمير العبدري. قاله الدارقطني، وذكر أن عمران هذا هو الذي قدم على علي بعد الجمل، وسأله أن يرد عليه أموال أبيه، فقربه وترحم على أبيه، وقال: لم نقبض أموالكم إلا لتحفظ عليكم, ثم أمر بتسليمها وتسليم جميع ما استغل منها إليه و"عيسى بن طلحة" وكان ناسكا له عقب، ويحيى وكان من خيار ولده، وله عقب، أمهما سعدى بنت عوف المرية، أخوهما لأمهما المغيرة بن عبد الرحمن بن هشام بن عبد الله بن المغيرة؛ وإسماعيل، وإسحاق, وله عقب, ويعقوب وكان جوادا ممدحا قاله الدارقطني. قتل يوم الحرة، وله عقب، أمهم أم أبان بنت عتبة بن ربيعة وهم بنو خالة معاوية بن أبي سفيان قاله الدارقطني، وموسى: من خيارهم أيضًا، وله نبل وقدر، ووجهه عبد الملك بن مروان إلى شبيب فقتله شبيب بالكوفة, وله عقب, أمه خولة بنت القعقاع بن معبد بن زرارة, أخوه لأمه محمد بن أبي جهم بن حذيفة العدوي قاله الدارقطني؛ وزكريا، ويوسف أمهما: أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، وإخوتهما لأمهما عمار وإبراهيم وموسى بنو عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي؛ وصالح, أمه الفرعة التغلبية. ذكر الإناث: "عائشة" شقيقة زكريا ويوسف, وتزوجها مصعب بن الزبير بن العوام بعد أن كانت حلفت2: إن تزوجته فهو عليَّ كظهر أمي، فأمرت   1 ويا له من مثل أعلى تحيا به في النفس عاطفة البر بالأب, وبر الأم أعظم. 2 ذكر الإمام ابن العربي في أحكام القرآن أن التحليل والتحريم في النكاح بيد الرجل وأن هذا إجماع, فالظهار بيد الرجل، وليس للمرأة ظهار كما أنها ليس لها طلاق, فإنه لمن أخذ بالساق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 بكفارة الظهار، فكفرت ثم تزوجته، وأم إسحاق تزوجها الحسن بن علي و"الصعبة" أمها أم ولد وذكر الدارقطني أن أم أم إسحاق أم الحارث الجرباء بنت قسامة بن حنظلة الطائية، و"مريم" أمها أم ولد. وذكر ذلك كله ابن قتيبة وصاحب الصفوة، وذكره الدارقطني، غير أنه ذكر في أولاده "صالحا" و"عثمان" ولم يثبت ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 الباب السادس: في مناقب الزبير بن العوام الفصل الأول: في نسبه ... الباب السادس: في مناقب الزبير بن العوام وفيه عشرة فصول على نحو من فصول طلحة الفصل الأول: في نسبه وقد تقدم ذكر آبائه في باب العشرة في ذكر الشجرة، يجتمع نسبه ونسب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قصي بن كلاب، وينسب إلى أسد بن عبد العزى بن قصي, فيقال: القرشي الأسدي, أمه صفية بنت عبد المطلب، عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسلمت وهاجرت، والنبي -صلى الله عليه وسلم- ابن خاله. وعن عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه قال له: يا بني، كانت عندي أمك1 وعند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خالتك عائشة، وبيني وبينه من الرحم والقرابة ما قد علمت، وعمة أبي أم حبيبة بنت أسد جدته وأمي عمته، وأمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف، وجدتي هالة بنت وهب بن عبد مناف، وزوجته خديجة بنت خويلد عمتي. أخرجه البغوي في معجمه.   1 أسماء بنت أبي بكر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 الفصل الثاني: في اسمه ولم يزل اسمه في الجاهلية والإسلام الزبير، ويكنى أبا عبد الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 الفصل الثالث: في صفته قال الواقدي: كان الزبير ليس بالطويل ولا بالقصير، إلى الخفة, ما هو خفيف اللحية، أسمر اللون، أشعر، وكان لا يغير1 شيبه. وعن هشام بن عروة عن أبيه أن الزبير كان طويلا، تخط رجلاه في الأرض إذا ركب الدابة، أزرق, أشعر، وربما أخذت وأنا غلام شعر كنفيه حين أقوم. ذكره ابن قتيبة والبغوي في معجمه وصاحب الصفوة.   1 ارتياحًا منه لنور الشيب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 الفصل الرابع: في إسلامه, وسنه يوم أسلم عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن أنه بلغه أن عليا والزبير أسلما, وهما ابنا ثماني سنين. وعن عروة قال: أسلم الزبير وهو ابن ست عشرة سنة. أخرجه أبو عمر والبغوي. قال أبو عمر: وقول عروة أصح من قول أبي الأسود. وقد روي من طريق آخر عن عروة أن الزبير أسلم وهو ابن اثنتي عشرة سنة. أخرجه أبو عمر. وعن أبي الأسود قال: أسلم الزبير بعد أبي بكر رابعا أو خامسا، وعنه لما أسلم الزبير كان عمه يعلقه في حصير ويدخن عليه بالنار، ويقول له: ارجع إلى الكفر، فيقول الزبير: لا أكفر أبدًا. أخرجهما في الصفوة. وأسلم أخواه1 شقيقاه السائب وأم حبيب ابنا العوام وأمهما صفية، وأسلم أخواه لأبيه عبد الرحمن وزينب ابنا العوام: أمهما أم الخير أميمة بنت مالك بن عميلة بن السباق بن عبد الدار بن قصي ولهم إخوة عدد لهم يوقف على إسلامهم وهم: مالك والحارث وصفوان وعبيد الله وبعكل وملك وأصرم وأسد الله وبجير والأسود ومرة وبلال، ومنهم من قتل كافرًا ذكر ذلك الدارقطني, وذكر أن السائب جاهد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- واستعمله أبو بكر وقتل يوم اليمامة شهيدًا ولا عقب له ولا رواية، وأن عبد الرحمن بن العوام كان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة، فسماه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبد الرحمن؛ وحسن إسلامه، واستشهد يوم اليرموك ولم يسند شيئا، وأم حبيب تزوجها خالد بن حزام أخو حكيم بن حزام فولدت له أم حسين بنت خالد, وزينب بنت العوام تزوجها حكيم بن حزام، فولدت له عبد الله وخالدًا ويحيى وأم شيبة وفاختة بنت حكيم بن حزام، ولا رواية لها ولا لأختها.   1 أخوه وأخته, ففي التثنية تغليب الذكر على الأنثى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 الفصل الخامس: في هجرته عن أبي الأسود قال: أسلم الزبير وهو ابن ثماني سنين وهاجر وهو ابن ثماني عشرة سنة. ذكره صاحب الصفوة وذكر الدارقطني أنه هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وأنه من المهاجرين الأولين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 الفصل السادس: في خصائصه ذكر اختصاصه بأنه أول من سل سيفًا في سبيل الله -عز وجل- ودعا النبي -صلى الله عليه وسلم- لسيفه: عن سعيد بن المسيب قال: كان الزبير أول من سل سيفا في سبيل الله -عز وجل- فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- له بخير. وعن هشام بن عروة عن أبيه: أن أول رجل سل سيفه في سبيل الله -عز وجل- الزبير، وذلك أنه نفحت نفحة من الشيطان وأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأقبل الزبير يشق الناس بسيفه والنبي -صلى الله عليه وسلم- بأعلى مكة فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما لك يا زبير?" فقال: أخبرت بأنك أخذت. قال: فصلى عليه ودعا لسيفه. أخرجه أبو عمر، وأخرج الفضائلي معناه عن سعيد بن المسيب، ولفظه: بينا الزبير بمكة إذ سمع نغمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أخذ, فخرج عريانا ما عليه شيء، بيده السيف مصلتا، فتلقاه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما لك يا زبير?" قال: سمعت أنك قد قتلت قال: "فما كنت صانعا?" قال: أردت والله أن أستعرض أهل مكة, فدعا له النبي -صلى الله عليه وسلم. وأخرجه صاحب الصفوة كذلك وأخرجه الملاء وزاد بعد قوله "أستعرض أهل مكة": وأجري دماءهم كالنهر, لا أترك أحدًا منهم إلا قتلته حتى أقتلهم عن آخرهم. قال: فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلع رداءه وألبسه، فنزل جبريل وقال: "إن الله يقرئك السلام، ويقول لك: أقرئ مني على الزبير السلام، وبشره أن الله أعطاه ثواب كل من سل سيفا في سبيل الله منذ بعثت إلى أن تقوم الساعة، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا؛ لأنه أول من سل سيفا في سبيل الله عز وجل". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 "شرح" نفحت نفحة: يجوز أن يكون من نفحت الريح إذا هبت, أو من نفح العرق ينفح إذا نزل منه الدم، أو من نفحت الناقة: ضربت برجلها، ونفحه بالسيف: تناوله من بعيد كل هذا يناسبه نفحة الشيطان؛ ويقال: نفح الطيب ينفح إذا فاح، وله نفحة طيبة، ولا يزال لفلان نفحات من المعروف, ونفحة من العذاب: قطعة منه، ونغمة: كلام خفي، يقال منه: نغم ينغم وينغم نغما، وفلان حسن النغمة إذا كان حسن الصوت, مصلتًا: مجردًا وأصلت سيفه: إذا جرده من غمده فهو مصلت بفتح اللام, أستعرض أهل مكة أي: أقتل من جانب، ولا أسأل عن واحد من العرض الجانب, يقال للخارجي: إنه يستعرض الناس أي: يقتلهم ولا يسأل عن مسلم ولا كافر. ذكر اختصاصه بأنه حواري النبي -صلى الله عليه وسلم: عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي حواريًّا، وحواريي الزبير" أخرجه البخاري والترمذي ومسلم بزيادة ولفظه: ندب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس يوم الخندق فندب الزبير ثم ندبهم, فانتدب الزبير فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي حواري, وحواريي الزبير" وأخرجه الترمذي عن علي بن أبي طالب وقال: حسن صحيح. وأخرجه أحمد عن عبد الله بن الزبير بزيادة ولفظه: "لكل نبي حواري والزبير حواريي وابن عمتي" وأخرجه أبو معاوية ولفظه: "الزبير ابن عمتي, وحواريي من أمتي". وسمع ابن عمر رجلا يقول: أنا ابن الحواري، فقال: إن كنت ابن الزبير وإلا فلا. أخرجه أبو عمر. "شرح" الحواري تقدم شرحه في فضائل طلحة, وندب أي: دعا، فانتدب أي: أجاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 ذكر اختصاصه بنزول الملائكة يوم بدر, عليها عمائم على لون عمامة الزبير: عن هشام بن عروة عن عبادة بن حمزة بن الزبير قال: كانت على الزبير عمامة صفراء، معتجرًا بها يوم بدر، ونزلت الملائكة عليها عمائم صفراء يوم بدر. أخرجه أبو عمر. وروي أنه كان يوم بدر على الميمنة وعليه ريطة صفراء، فنزلت الملائكة على سيماه. أخرجه أبو الفرج في مشكل الصحيحين. "شرح" الاعتجار: لفّ العمامة على الرأس، والمعجر: ما تشده المرأة على رأسها، يقال: اعتجرت المرأة بالمعجر، والمعجرة بالكسر: نوع من العمة، يقال: فلان حسن المعجرة. والريطة: الملاءة إذا كانت قطعة واحدة ولم تكن لفقين, والسيما: العلامة. ويجوز أن يكون والله أعلم إنما نزلت على سيماه؛ لأنه أول حربها فنزلت على سيما أول محارب لله -عز وجل- وفي سبيله، وقد تقدم ذلك في هذا الفصل. ذكر اختصاصه بالقتال بعنزة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر: عن الزبير -رضي الله عنه- قال: لقيت يوم بدر عبيدة بن سعيد بن العاص وهو مدجج لا يرى منه إلا عيناه، وكان يكنى أبا ذات الكرش، فقال: أنا أبو ذات الكرش، فحملت عليه بالعنزة، فطعنته في عينه فمات، قال هشام بن عروة: فأخبرت أن الزبير قال: لقد وضعت رجلي عليه، ثم تمطيت، وكان الجهد أن نزعتها وقد انثنى طرفها، قال عروة: فسأله إياها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعطاه إياها، فلما قبض صلى الله عليه وسلم أخذها، فطلبها أبو بكر فأعطاه إياها، فلما قبض أخذها، ثم سألها عمر فأعطاه إياها، فلما قبض عمر أخذها، ثم سألها عثمان فأعطاه إياها، فلما قتل وقعت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 إلى آل علي فطلبها عبد الله بن الزبير, فكانت عنده حتى قتل. أخرجه البخاري. "شرح" قوله: مدجج: يروى بكسر الجيم وفتحها أي: عليه سلاح تامّ, فسمي به لأنه يدج أي: يمشي رويدًا لثقله بالسلاح، وقيل: لأنه يتغطى به من دججت السماء: إذا تغيمت. وقوله: تمطيت أي: تمددت, ومددت مطاي, المطا: الظهر. ذكر اختصاصه بجمع النبي -صلى الله عليه وسلم- له أبويه يفديه بهما يوم الأحزاب: عن عبد الله بن الزبير قال: كنت عند الأحزاب أنا وعمر بن أبي سلمة مع النساء في أطم حسان، فنظرت فإذا الزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة مرتين أو ثلاثا، فلما رجعت قلت: يا أبة، رأيتك تختلف، فقال: رأيتني يا بني? قلت: نعم، قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من يأتي بني قريظة فيأتيني بخبرهم?" فانطلقت، فلما رجعت جمع لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبويه فقال: "فداك أبي وأمي" أخرجاه وأخرجه الترمذي وقال: حديث حسن. وهذا القول لم ينقل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله يوم الأحزاب لغيره. وأخرج أحمد عنه قال: جمع لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبويه يوم أحد. والمشهور في ذلك يوم أحد أنه كان لسعد، وسيأتي في خصائصه، ويحتمل أن يكون جمعهما لهما، واشتهر في سعد لكثرة ترديد القول له بذلك. وقد روي عنه أنه قال: جمع لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبويه مرتين، في أحد وفي قريظة. "شرح" أطم حسان أي: حصنه، تضم وتسكن؛ والجمع آطام، والأجم مثله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 ذكر اختصاصه بالقتال مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن اثنتي عشرة سنة: عن عمر بن مصعب بن الزبير قال: قاتل الزبير مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وكان يحمل على القوم ويقول له: ههنا بأبي أنت وأمي، ههنا بأبي أنت وأمي. أخرجه البغوي في معجمه، وصاحب الصفوة ولم يقل: بأبي وأمي. ذكر اختصاصه بمرافقة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى وفد الجن: عن الزبير بن العوام قال: صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصبح في مسجد المدينة، فلما انصرف قال: "أيكم يتبعني إلى وافد الجن الليلة?" فأسكت القوم فلم يتكلم منهم أحد، قال ذلك ثلاثًا، فلم يتكلم منهم أحد، فمر بي يمشي وأخذ بيدي, فجعلت أمشي معه وما أجد من مس، حتى خنس عنا نخل المدينة كله وأفضينا إلى أرض بوار, فإذ رجال طوال كأنهم رماح مستثفرو ثيابهم بين أرجلهم فلما رأيتهم غشيتني رعدة شديدة حتى ما تمسكني رجلاي من الفرق، فلما دنونا منهم خط لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برجله في الأرض خطا وقال لي: "اقعد في وسطها" فلما جلست فيها ذهب كل شيء كنت أجده، ومضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتلا عليهم القرآن حتى طلع الفجر، ثم أقبل حتى مر بي، فقال: "الحق" فجعلت أمشي معه، فمضينا غير بعيد فقال لي: "التفت فانظر هل ترى حيث كان أولئك من أحد?" فقلت: يا رسول الله أرى سوادًا كثيرًا، قال: فخفض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده الأرض، وأخذ بروثة ثم رمى بها إليهم، وقال: "رشد أولئك من وفد قوم" أخرجه ابن الضحاك في الآحاد والمثاني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 ذكر اختصاصه بكسوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في طريق الهجرة: عن عروة بن الزبير أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما هاجر لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارًا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر ثيابًا بيضاء. أخرجه الحميدي في جامعه من الصحيحين. ذكر اختصاصه بنزول قرآن بسببه: عن عبد الله بن الزبير أن رجلًا خاصم الزبير في شراج الحرة التي يسقون بها النخل، فقال للأنصاري: سرح الماء يمر, فأبى عليه فاحتكموا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- للزبير: "اسق يا زبير، ثم أرسل إلى جارك" فغضب الأنصاري فقال: يا رسول الله, أن كان ابن عمتك? فتلون وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "يا زبير, اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر" فقال الزبير: والله إني لأحسب هذه نزلت في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم} 1 الآية, أخرجاه, وعند البخاري: فاستوعى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للزبير حينئذ حقه. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} 2 الآية, وذلك أن خبيبًا أخرجه المشركون ليقتلوه فقال: دعوني حتى أصلي ركعتين، فتركوه حتى صلى ركعتين، ثم قال: لولا أن يقولوا: جزع لزدت، وأنشأ يقول: ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي جنب كان في الله مصرعي فصلبوه حيا، فقال: اللهم إنك تعلم أنه ليس حوالي أحد يبلغ رسولك مقامي، فأبلغه سلامي، ثم رموه بسهم وطعنوه برمح، فبلغ   1 سورة النساء الآية 65. 2 سورة البقرة الآية 207. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 النبي -صلى الله عليه وسلم- خبره فقال: "أيكم يحتمل خبيبًا من خشبته وله الجنة?" فقال الزبير: أنا وصاحبي المقداد. فخرجا يسيران الليل والنهار حتى وافيا المكان، فإذا حول الخشبة أربعون رجلا نياما، وإذا هو رطب لم يتغير منه شيء بعد أربعين يوما، فحمله الزبير على فرسه وسار فلحقه سبعون منهم، فقذف خبيبًا فابتلعته الأرض، وقال: ما جرأكم علينا يا معشر قريش? ثم رفع العمامة عن رأسه، وقال: أنا الزبير بن العوام، وأمي صفية بنت عبد المطلب، وصاحبي المقداد الأسود، أسدان رابضان، إن شئتم ناضلتم وإن شئتم نازلتم، وإن شئتم انصرفتم فانصرفوا، فقدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعنده جبريل فقال: يا محمد إن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك، ونزل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} هذا أحد خمسة أقوال في سبب نزولها، وهو قول ابن عباس والضحاك. الثاني: نزلت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وروي عن علي وعمر. الثالث: في صهيب الرومي. الرابع: في المهاجرين والأنصار، قاله قتادة. الخامس: في المهاجرين خاصة, قاله الحسن. وقوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} نزلت في سبعين منهم أبو بكر والزبير, وقد سبق ذكر ذلك. أخرجه أبو الفرج في أسباب النزول. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 الفصل السابع: في شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالجنة وقد تقدم ذلك في باب العشرة من حديث عبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد, وتقدم في فصل الشهادة لطلحة بالجنة قوله -صلى الله عليه وسلم: "طلحة والزبير جاران في الجنة". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 الفصل الثامن: في ذكر نبذ من فضائله قال أبو عمر وغيره: شهد الزبير بدرًا والحديبية والمشاهد كلها، لم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أهل الشورى الذين قال عمر فيهم: توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راض، وهاجر الهجرتين1، وفيه يقول حسان بن ثابت: أقام على عهد النبي وهديه ... حواريه والقول بالفعل يعدل أقام على منهاجه وطريقه ... يوالي ولي الحق والحق أعدل هو الفارس المشهور والبطل الذي ... يصول إذا ما كان يوم محجل له من رسول الله قربى قريبة ... ومن نصرة الإسلام مجد مؤثل فكم كربة ذب الزبير بسيفه ... عن المصطفى والله يعطي ويجزل إذا كشفت عن ساقها الحرب هشَّها ... بأبيض سباق إلى الموت يرقل فما مثله فيهم ولا كان قبله ... وليس يكون الدهر ما دام يذبل ثناؤك خير من فعال معاشر ... وفعلك يابن الهاشمية أفضل "شرح" الهدي بفتح الهاء وإسكان الدال: السيرة، يقول: ما أحسن هديه أي: سيرته, والحواري: تقدم تفسيره, مؤثل أي: مؤصل والتأثيل والتأصيل بمعنًى، يقال: مجد أثيل أي: أصيل, وكشفت الحرب عن ساقها أي: اشتدت, ومنه: {يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} أي: عن شدة، وكذلك قامت على ساق, هشها لعله من الهش: الجمع والكسب، والهياشة مثل الحياشة، وهو ما جمع من المال واللباس فكأنه يجمع الناس ويكشفهم بسيفه, والأبيض: السيف والجمع: البيض, والإرقال: ضرب من السير نحو الخبب, ويذبل: اسم جبل. ذكر شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالشهادة: تقدم حديث هذا الذكر بطرقه في باب ما دون العشرة وهو حديث   1 الهجرة إلى الحبشة، والهجرة إلى المدينة المنورة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 تحرك حراء, وقوله -صلى الله عليه وسلم: "اثبت؛ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد" خرجه مسلم. وخرج صاحب الكوكب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض, فلينظر إلى الزبير" وعلم عليه بعلامة ابن أبي شيبة. ذكر شهادة عمر أنه ركن من أركان الإسلام: عن سطيع بن الأسود قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: الزبير ركن من أركان الإسلام. أخرجه ابن السري. ورفعه ابن عمر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ولفظه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الزبير بن العوام ركن من أركان المسلمين" أخرجه الملاء في سيرته. ذكر شهادة عثمان بأنه خيرهم, وأحبهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم: عن مروان بن الحكم قال: أصاب عثمان رعاف شديد حتى حبسه عن الحج وأوصى, فدخل رجل من قريش فقال: استخلف، فقال: نعم, قال: ومن؟ قال: فسكت، فدخل عليه رجل أحسبه الحارث فقال: استخلف، فقال عثمان: وقالوا? قال: نعم قال: فمن هو? قال: فسكت، قال: فلعلهم قالوا الزبير؟ قال: نعم قال: أما والذي نفسي بيده إنه لخيرهم ما علمت, وإن كان لأحبهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وفي رواية أنه قال: والله إنكم لتعلمون أنه خيركم. أخرجه البخاري والبغوي وقال: أما والذي نفسي بيده ... إلى آخره، وزاد ثلاث مرات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 ذكر ما جاء عن سعد بن مالك وسعيد بن المسيب في الحث على محبته والزجر عن بغضه, تقدم حديثهما في نظيره من فصل فضائل عثمان, ذكر ثناء ابن عباس عليه: تقدم في فضائل طلحة؛ لأن الثناء كان عليهما جميعا، والله أعلم. ذكر إبلائه يوم اليرموك: عن عروة أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا للزبير يوم اليرموك: ألا تشد فنشد معك? فحمل عليهم فضربوه ضربتين على عاتقه بينهما ضربة ضربها يوم بدر، قال عروة: فكنت أدخل أصابعي في تلك الضربات ألعب وأنا صغير قال عروة: وكان معه عبد الله وهو ابن خمس سنين, فحمله على فرس ووكل به. أخرجه البخاري. واليرموك: موضع بناحية الشام. ذكر أنه من الذين استجابوا لله والرسول: عن عروة عن عائشة -رضي الله عنها- قالت لي: أبوك -والله- من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. أخرجه مسلم، وزاد في رواية: تعني أبا بكر والزبير. وعنها قالت: يابن أختي، كان أبوك -تعني أبا بكر- والزبير من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. قالت: لما انصرف المشركون من أحد، وأصاب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أصابهم فخاف صلى الله عليه وسلم أن يرجعوا، فقال: "من ينتدب لهؤلاء في آثارهم حتى يعلموا أن بنا قوة" فانتدب أبو بكر والزبير في سبعين, فخرجوا في آثار القوم، فسمعوا بهم فانصرفوا, قالت: فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يقاتلوا عدوا. أخرجه البخاري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 ذكر ما كان في جسده من الجراح: عن عروة قال: أوصى الزبير إلى ابنه عبد الله صبيحة الجمل، فقال: يا بني ما من عضو إلا وقد جرح مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى انتهى ذلك إلى فرجه. أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب. وعن علي بن زيد قال: أخبرني من رأى الزبير, وإن في صدره لأمثال العيون من الطعن والرمي. أخرجه صاحب الصفوة والفضائلي. وعن بعض التابعين قال: صحبت الزبير في بعض أسفاره، فأصابته جنابة وكنا بأرض قفر، فقال لي: استرني حتى أغتسل، قال: فسترته، فحانت مني التفاتة فرأيته مجدعا بالسيوف, فقلت له: والله لقد رأيت بك آثارا ما رأيتها بأحد قط، قال: أوقد رأيتها? قلت: نعم, قال: أما والله ما فيها جراحة إلا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي سبيل الله. أخرجه الملاء في سيرته. ذكر ذَبِّه عن وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو نائم, وما ترتب على ذلك: عن عمر بن الخطاب قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد نام، فجلس الزبير يذب عن وجهه حتى استيقظ، فقال له: "يا أبا عبد الله لم تزل?" قال: لم أزل، أنت بأبي وأمي قال: "هذا جبريل يقرئك السلام ويقول: أنا معك يوم القيامة حتى أذب عن وجهك شرر جهنم" أخرجه الحافظ الدمشقي في الأربعين الطوال. ذكر قوله -صلى الله عليه وسلم- لابن الزبير: "يابن أخي" فأثبت له وصف الأخوة: عن سليمان قال: دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وعنده عبد الله بن الزبير, ومعه طشت يشرب ما فيه فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "ما شأنك يابن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 أخي?" ثم ذكر باقي الحديث, وسيأتي في مناقبه من حديث ابن الغطريف. ذكر ورعه: عن عبد الله بن الزبير قال: قلت للزبير: ما يمنعك أن تحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما يحدث عنه أصحابه? قال: أما والله لم أفارقه منذ أسلمت، ولكني سمعته يقول: "من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" أخرجه البخاري. وفي رواية: والله لقد كان لي منه منزلة ووجهة، ولكني سمعته يقول, وذكر الحديث. وفي رواية: لقد نلت من صحابته أفضل ما نال أحد، ولكني سمعته يقول: "من قال عليَّ ما لم أقل تبوأ مقعده من النار" فلا أحب أن أحدث عنه. أخرجهما البغوي في معجمه. "شرح" الوجهة: الجاه والعز, "فليتبوأ مقعده من النار" أي: لينزل منزلته منها, قال: بوأه الله منزلا أي: أسكنه إياه, والمباءة: المنزل. ذكر صلته وصدقته: وعن أم درة قالت: بعث الزبير إلى عائشة بغرارتين, تبلغ الواحدة منهما ثمانين ومائة ألف درهم. وعن كعب قال: كان للزبير ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، فما كان يدخل منها بيته درهم واحد؛ كان يتصدق بذلك كله. أخرجه أبو عمر وأخرجه الفضائلي وقال: فكان يتصدق بقسمه كل ليلة، ويقوم إلى منزله ليس معه منه شيء. وأخرج الطائي عن سعيد بن عبد العزيز أنه قال: كان للزبير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 وذكره. وعن جويرية قالت: باع الزبير دارًا له بستمائة ألف، قال: فقيل له: يا أبا عبد الله غبنت قال: كلا، والله لتعلمن أني لم أغبن؛ هي في سبيل الله. أخرجه في الصفوة. ذكر أنه كان من أكرم الناس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم: عن ابن إسحاق السبيعي قال: سألت مجلسا فيه أكثر من عشرين رجلا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم: من كان أكرم الناس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم? قالوا: الزبير وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما. أخرجه الفضائلي. ذكر سماحته في بيعه: قال أبو عمر: كان الزبير تاجرًا مجدودًا في التجارة، فقيل: بم أدركت في التجارة? قال: لأني لم أشتر معيبا, ولم أرد ربحا, والله يبارك لمن يشاء. "شرح" مجدودا أي: محظوظًا، والجد: الحظ، والجديد: الحظيظ، فعيل بمعنى مفعول. ذكر شهادة الحسن بن علي بكفاءة نسبه لنسبهم: عن هشام بن عروة عن أبيه أن حسن بن علي أوصى في وصيته: أن تزوجوا إلى آل الزبير وزوجوهم، فإنهم أكفاؤكم من قريش. أخرجه أبو معاوية. وفيه دليل على اعتبار الكفاءة في النسب، وأن قريشا ليسوا أكفاء لبني هاشم، وإلا لما كان في التخصيص فائدة. ذكر إثبات رخصة عامة للمسلمين بسببه: عن أنس -رضي الله عنه- أن الزبير وعبد الرحمن بن عوف شكيا إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القمل في غزاة لهما؛ فرخص لهما في قميص الحرير، فرأيت على كل واحد منهما قميص حرير. وعنه رخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمن بن عوف والزبير في قميص الحرير في السفر؛ لحكة كانت بهما. أخرجهما مسلم, ويشبه أن تكون الرخصة للحكة والقمل جمعًا بين الحديثين. ذكر من أوصى إلى الزبير من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم: عن عروة بن الزبير أن ابن مسعود وعثمان والمقداد بن الأسود وعبد الرحمن بن عوف ومطيع بن الأسود أوصوا إلى الزبير بن العوام. أخرجه ابن الضحاك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 الفصل التاسع: في مقتله وما يتعلق به , ذكر كيفية قتله ومن قتله وأين قتل قال أبو عمر: شهد الزبير يوم الجمل فقاتل فيه ساعة، فناداه علي وانفرد به فذكره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له وقد وجدهما يضحكان بعضهما إلى بعض: "أما إنك ستقاتل عليا وأنت له ظالم" فذكر الزبير ذلك وانصرف عن القتال راجعًا إلى المدينة, قادمًا مفارقا للجماعة التي خرج فيها، فأتبعه ابن جرموز عبد الله ويقال: عمير ويقال: عمر ويقال: عميرة السعدي فقتله بموضع يعرف بوادي السباع، وجاء برأسه إلى علي، فقال علي رضى الله عنه: بشر قاتل ابن صفية بالنار. وعن أبي الأسود الدؤلي قال: لما دنا علي وأصحابه من طلحة والزبير، ودنت الصفوف بعضها من بعض، خرج علي على بغلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنادى: ادعوا الزبير, فأقبل حتى اختلفت أعناق دوابهما، فقال علي: يا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 زبير نشدتك بالله, أتذكر يوم مر بك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مكان كذا وكذا وقال: "يا زبير أتحب عليا?" قلت: ألا أحب ابن خالي وعلى ديني؟! فقال: "يا علي، أتحبه?" قلت: يا رسول الله ألا أحب ابن عمتي وعلى ديني?! فقال: "يا زبير لتقاتلنه, وإنك له ظالم"؟ قال: نعم، والله لقد أنسيته منذ سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم ذكرته الآن، والله لا أقاتلك. فرجع الزبير على دابته يشق الصفوف، فعرض له ابنه عبد الله وقال: ما لك? قال: قد ذكرني علي حديثًا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لتقاتلنه وأنت له ظالم" ولا أقاتله، ثم رجع منصرفا إلى المدينة، فرأى عبد الله بن جرموز، فقال: أي ها تورش بين الناس ثم تتركهم? والله لا نتركه، فلما لحق بالزبير ورأى أنه يريده، أقبل عليه الزبير فقال له ابن جرموز: اذكر الله، فكف عنه الزبير حتى فعل ذلك مرارًا، فقال الزبير: قاتله الله، يذكر بالله وينساه، ثم غافصه ابن جرموز فقتله. أخرجه الفضائلي وغيره. "شرح" أي ها بمعنى كيف, والتوريش: التحريش، تقول: ورشت بين القوم وأرشت, وغافصه أي: أخذه على غرة. قال أبو عمر: ويروى أن الزبير لما انصرف لقيه النغر -رجل من بني مجاشع- فقال: أين تذهب يا حواري رسول الله -صلى الله عليه وسلم? إليَّ فأنت في ذمتي لا يوصل إليك، فأقبل معه، فلحقه عميرة بن جرموز وفضالة بن حابس ونفيع في غزاة من غزاة بني تميم، فلقوه مع الثغر، فأتاه عمير بن جرموز من خلفه وهو على فرس له ضعيفة، فطعنه طعنة خفيفة وحمل عليه الزبير وهو على فرس يقال له: ذو الخمار، حتى ظن أنه قاتله, نادى صاحبيه: يا نفيع، يا فضالة فحملوا عليه حتى قتلوه. قال أبو عمر: وهذا أصح مما تقدم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 وعن عبد العزيز السلمي قال: لما انصرف الزبير يوم الجمل سمعته يقول: ولقد علمت لو أن علمي نافعي ... أن الحياة من الممات قريب فلم ينشب أن قتله ابن جرموز. أخرجه الملاء في سيرته. ذكر تاريخ مقتله, وسنه يوم قتل: قيل: كان قتله يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، وفي ذلك اليوم كانت وقعة الجمل، وسنه يومئذ سبع وستون سنة، وقيل: ست وستون, ذكره أبو عمر. وقيل: أربع وستون، وقيل: ستون، وقيل: إحدى وستون, ذكره البغوي في معجمه. وقيل: خمس وسبعون، وقيل: بضع وخمسون, ذكره صاحب الصفوة والرازي. ذكر ما قاله علي -عليه السلام- لقاتل الزبير: تقدم في كيفية قتله طرف منه. قال أبو عمر: روي أنه لما جاء قاتل الزبير عليًّا برأس الزبير، لم يأذن له وقال للآذن: بشره بالنار. وعن زر قال: استأذن ابن جرموز على علي وأنا عنده، فقال: بشر قاتل ابن صفية بالنار. أخرجه صاحب الصفوة. ذكر وصيته: عن عبد الله بن الزبير قال: جعل الزبير يوم الجمل يوصيني بدينه ويقول: إن عجزت عن شيء منه فاستعن عليه بمولاي. قال: فوالله ما دريت ما أراد حتى قلت: يا أبة من مولاك? قال: الله تعالى، فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه، فيقضيه, وإنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال يستودعه إياه فيقول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 الزبير: لا ولكنه سلف، فإني أخشى عليه الضيعة قال عبد الله: فحسبت ما عليه من الدين فوجدته ألفي ألف ومائة ألف؛ فقتل ولم يدع دينارا ولا درهما إلا أرضين بعتهما وقضيت دينه، فقال بنو الزبير: ميراثنا؛ قلت: والله لا أقسم بينكم حتى أنادي بالموسم أربع سنين: ألا من كان له على الزبير دين فليأتنا فلنقضه. فجعل كل سنة ينادي؛ فلما انقضت أربع سنين قسم بينهم، وكان للزبير أربع نسوة، فأصاب كل امرأة ألف ألف ومائتا ألف، فجمع مال الزبير خمسون ألف ألف ومائتا ألف. وعن عبد الله أنه لقيه حكيم بن حزام فقال: يابن أخي، كم على أخي? فكتمه، وقلت: مائة ألف. فقال حكيم: والله ما أرى أموالكم تسع هذا، قال: فقال عبد الله: أرأيت إن كانت ألفي ألف ومائتي ألف? قال: ما أراكم تطيقون هذا، فإن عجزتم عن شيء منه فاستعينوا بي، وكان الزبير قد اشترى الغابة بسبعين ومائة ألف، فباعها عبد الله بألف ألف وستمائة ألف، ثم قال: من كان له على الزبير شيء فليوافنا على الغابة. قال: فأتاه عبد الله بن جعفر وكان له على الزبير أربعمائة ألف؛ قال لعبد الله: إن شئتم تركتها لكم. قال عبد الله: لا قال: إن شئتم جعلتموها فيما تؤخرون إن أخرتم؛ قال عبد الله: لا، قال: فاقطعوا لي قطعة، قال عبد الله: من ههنا إلى ههنا، قال: فباع عبد الله منها فقضى دينه وأوفاه، وبقي منها أربعة أسهم ونصف قال: فقدم على معاوية, وعنده عمر بن عثمان والمنذر بن الزبير وابن ربيعة, قال: فقال له معاوية: كم قومت الغابة? قال: كل سهم بمائة ألف، قال: كم بقي منه? قال: أربعة أسهم ونصف، قال المنذر بن الزبير: أخذت منها سهما بمائة ألف، وقال عمر بن عثمان: أخذت منها سهما بمائة ألف؛ وقال ابن ربيعة: أخذت منها سهما بمائة ألف, فقال معاوية: كم بقي؟ قال: سهم ونصف، قال: قد أخذته بخمسين ومائة ألف، قال: فلما فرغ ابن الزبير من قضاء دينه قال بنو الزبير: اقسم بيننا، قال: لا والله، ثم ذكر معنى ما تقدم. أخرجهما البخاري, وذكر القلعي أن تركته بعد قضاء دينه سبعة وخمسون ألف ألف وستمائة ألف. وعن عروة بن الزبير أن الزبير أوصى بثلث ماله ولم يدع دينارا ولا درهما. أخرجه البغوي في معجمه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 الفصل العاشر: في ذكر ولده وكان له عشرون ولدًا، أحد عشر ذكرًا وتسع إناث. ذكر الذكور: عبد الله، وكان يكنى أبا بكر، ويكنى أيضًا أبا خبيب بابنه خبيب. عن عائشة -رضى الله عنها- قالت: أول مولود ولد في الإسلام عبد الله بن الزبير، أتوا به النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- تمرة فلاكها ثم أدخلها في فيه, فأول ما دخل بطنه ريق رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وعن فاطمة بنت المنذر وهشام بن عروة بن الزبير قالا: خرجت أسماء بنت أبي بكر حين هاجرت وهي حبلى بعبد الله بن الزبير فقدمت قباء فنفست عبد الله بقباء، ثم خرجت حتى أتت به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليحنكه, فأخذه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منها فوضعه في حجره، قالا: قالت عائشة: فمكثنا ساعة نلتمسها -يعني تمرة- قبل أن نجدها، فمضغها1 ثم بصقها في فيه؛ فإن أول شيء دخل بطنه ريق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت أسماء: ثم مسحه وصلى2 عليه، وسماه عبد الله، ثم جاء وهو ابن سبع سنين أو ثمانٍ ليبايع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمره بذلك الزبير, فتبسم   1 وهذا هو التحنيك. 2 المراد: دعا له بالبركة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رآه مقبلًا، ثم بايعه. أخرجهما البخاري. وقال أبو عمر: كناه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكنية جده أبي أمه، وسماه باسمه ودعا له، وبارك عليه، وشهد1 الجمل مع أبيه وخالته، وكان فصيحًا ذا أنفة، أطلس، لا لحية له، ولا شعر في وجهه، وكان كثير الصوم والصلاة, شديد البأس، كريم الجدات والأمهات والخالات, وبويع له بالخلافة سنة أربع وستين، وقتل سنة خمس وستين بعد موت معاوية بن يزيد، واجتمع على طاعته أهل الحجاز واليمن والعراق وخراسان، وحج بالناس ثماني حجج؛ وذكر صاحب الصفوة في صفته أنه كان إذا صلى كأنه عود من الخشوع. قال مجاهد: وكان إذا سجد يطول حتى تنزل العصافير على ظهره لا تحسبه إلا جذما, قاله يحيى بن ثابت. "شرح" الجذم: أصل الشيء، والجذمة: القطعة من الجبل ونحوه. وقال ابن المنكدر: لو رأيت ابن الزبير يصلي كأنه غصن شجرة, تصفقه الريح. وعن عمر بن قيس عن أمه قالت: دخلت على ابن الزبير بيته وهو يصلي فسقطت حية من السقف على ابنه، ثم تطوقت على بطنه وهو نائم فصاح أهل البيت، ولم يزالوا بها حتى قتلوها، وابن الزبير يصلي ما التفت ولا عجل، ثم فرغ بعدما قتلت الحية فقال: ما بالكم? فقالت زوجته: رحمك الله أرأيت إن كنا هُنَّا عليك, يهون عليك ابنك?! وعن محمد بن حميد قال: كان عبد الله بن الزبير يحيي الدهر أجمع   1 وقعة الجمل المشهورة في التاريخ بين طلحة والزبير ومن كان معهما، وبين علي -كرم الله وجهه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 ليلة قائمًا حتى يصبح، وليلة راكعًا حتى يصبح، وليلة ساجدًا حتى يصبح. وعن مسلم بن يناق المكي قال: ركع ابن الزبير يومًا ركعة, فقرأت البقرة وآل عمران والنساء والمائدة وما رفع رأسه. وعن محمد بن الضحاك وعبد الملك بن عبد العزيز: كان ابن الزبير يصوم يوم الجمعة، فلا يفطر إلا ليلة الجمعة الأخرى، ويصوم بالمدينة فلا يفطر إلا بمكة، ويصوم بمكة فلا يفطر إلا في المدينة, وأول ما يفطر عليه لبن لقحه بسمن بقر. وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: كان ابن الزبير صواما بالنهار قواما بالليل, وكان يسمى خادم المسجد. وعن ابن أبي مليكة قال: كان ابن الزبير يواصل سبعة أيام. وعن وهب بن كيسان قال: ما رأيت ابن الزبير يعطي كلمة قط -لرغبة ولا لرهبة- سلطانا ولا غيره. أخرجه أبو معاوية الضرير. وعن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال: دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وإذا عبد الله بن الزبير معه طشت يشرب ما فيه, فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "ما شأنك يابن أخي?" قال: إني أحببت أن يكون من دم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جوفي، فقال: "ويل لك من الناس، وويل للناس منك، لا تمسك النار؛ إلا قسم اليمين" أخرجه ابن الغطريف. وعن عروة قال: عبد الله بن الزبير أحب البشر إلى عائشة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعد أبي بكر, وكان أبر الناس بها. أخرجه البخاري. وعنه, وعن وهب بن كيسان قال أهل الشام يعيرون الزبير، يقولون: يابن ذات النطاقين، فقالت أسماء: يا بني، يعيرونك بالنطاقين!! هل تدري ما النطاقين? إنما كان نطاقي شققته نصفين فأكيت قربة رسول الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 -صلى الله عليه وسلم- بأحدهما وجعلت في سفرته آخر. قال: وكان أهل الشام إذا عيروه بالنطاقين يقول: إيها والإله؛ تلك شكاة ظاهر عنك عارها. أخرجه البخاري. قال الدارقطني: روى عبد الله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن أبيه الزبير، وروى عنه أخوه عروة وبنوه، والجم الغفير. ذكر مقتله: قتل في أيام عبد الملك بن مروان سنة ثلاث وسبعين، وعمره ثلاث وسبعون سنة, صلب بعد قتله بمكة وبدأ الحجاج في حصاره من أول ذي الحجة، وحج الحجاج بالناس ذلك العام، ووقف بعرفة وعليه درع، ولم يطوفوا بالبيت في تلك الحجة، وحاصروه ستة أشهر وسبعة عشر يومًا. وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: لما كان قبل قتل ابن الزبير بعشرة أيام, دخل على أمه أسماء وهي شاكية فقال لها: كيف تجدينك يا أماه? قالت: ما أجدني إلا شاكية؛ فقال لها: إن هم الموت راحة؛ فقالت: لعلك تمنيته لي! ما أحب أن أموت حتى تأتي على أحد طرفيك إما قتلت فأحتسبك, وإما ظفرت بعدوك فقرت عيني، وقال عروة: فالتفت إلى عبد الله وضحك قال: فلما كان في اليوم الذي قتل فيه، دخل عليها في المسجد، فقالت: يا بني لا تقبل منهم خطة تخاف منها على نفسك الذل مخافة القتل؛ فوالله لضربة سيف في عز خير من ضربة سوط في مذلة، فأتاه رجل من قريش فقال: ألا نفتح لك الكعبة فتدخلها؟ فقال عبد الله: من كل شيء تحفظ أخاك إلا من حتفه، والله لو وجدوكم تحت أستار الكعبة لقتلوكم، وهل حرمة المسجد إلا كحرمة البيت? قال: ثم شد عليه أصحاب الحجاج؛ فقال: أين أهل مصر? فقالوا: هم هؤلاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 من هذا الباب -لأحد أبواب المسجد- فقال لأصحابه: اكسروا غماد سيوفكم ولا تميلوا عني؛ قال: فأقبل الرعيل الأول، فحمل عليهم وحملوا معه وكان يضرب بسيفين فلحق رجلا فضربه فقطع يده، وانهزموا وجعل يضربهم حتى أخرجهم من باب المسجد. قال: ثم دخل عليه أهل حمص، فشد عليهم وجعل يضربهم حتى أخرجهم من باب المسجد، ثم دخل عليه أهل الأردن من باب آخر، فقال: من هؤلاء? فقيل: من أهل الأردن فجعل يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من المسجد، ثم انصرف؛ قال: فأقبل عليه حجر من ناحية الصف، فوقع بين عينيه، فنكس رأسه، قال: ثم اجتمعوا عليه فلم يزالوا يضربونه, حتى قتلوه ومواليه جميعا. ولما قتل كبر عليه أهل الشام، فقال عبد الله بن عمر: المكبرون عليه يوم ولد خير من المكبرين عليه يوم قتل, وقال يعلى بن حرملة: دخلت مكة بعدما قتل عبد الله بن الزبير بثلاثة أيام، فإذا هو مصلوب؛ فجاءت أمه -امرأة عجوز كبيرة طويلة مكفوفة البصر- تقاد، فقالت للحجاج: أما آن لهذا الراكب أن ينزل? فقال لها الحجاج: المنافق? قالت: والله ما كان منافقا، ولكنه كان صواما قواما، فقال: انصرفي، فإنك عجوز قد خرفت, قالت: لا, والله ما خرفت، ولقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يخرج من ثقيف كذاب ومبير" أما الكذاب فقد رأيناه وأما المبير فأنت المبير. قال أبو عمر: الكذاب فيما يقولون: المختار بن عبيد الثقفي. وعن ابن أبي مليكة قال: لما نزل عبد الله دعت أسماء بمركن؛ وأمرتني بغسله فكنا لا نتناول عضوا إلا جاء معنا، فكنا نغسل العضو ونضعه في الأكفان ثم نتناول الذي يليه فنغسله ونضعه في أكفانه، حتى فرغنا منه؛ ثم قامت فصلت عليه، وكانت تقول قبل ذلك: اللهم لا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 تمتني حتى تقر عيني بجثته, فما أتت عليها جمعة حتى ماتت. أخرج ذلك كله أبو عمر. وعن ابن نوفل معاوية بن مسلم بن أبي عقرب قال: رأيت عبد الله بن الزبير على عقبة مكة قال: فجعلت قريش تمر عليه الناس، حتى مر عليه عبد الله بن عمر، فوقف عليه، فقال: السلام عليك أبا خبيب -ثلاثا- أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، والله إن كنت -ما علمت- صواما قواما وصولا للرحم. ثم نفد عبد الله بن عمر فبلغ ذلك الحجاج فأرسل إليه فأنزل عن جذعه، فألقي في قبور الشهود. ثم أرسل إلى أمه أسماء بنت أبي بكر، فأبت أن تأتيه فأعاد عليها الرسول: إما أن تأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك، قال: فأبت وقالت: والله لا آتينك حتى تبعث إلي من يسحبني بقروني. قال: فقالت: أروني سبتيتي، فأخذ نعليه، ثم انطلق حتى دخل عليها فقال: كيف رأيتني صنعت بعدو الله? قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك، بلغني أنك تقول له: يابن ذات النطاقين، أما أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وطعام أبي بكر من الدواب، وأما الآخر فنطاق المرأة الذي لا تستغني عنه، أما إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حدثنا أن في ثقيف كذابا ومبيرا, فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا إخالك إلا أياه, قال: فقام عنها ولم يراجعها. أخرجه مسلم. وعن مجاهد قال: كنت مع ابن عمر فمر على ابن الزبير، فوقف عليه فقال: رحمك الله، فإنك كنت صواما وصولا للرحم؛ وإني أرجو أن لا يعذبك الله -عز وجل. قال الواقدي: حصر ابن الزبير ليلة هلال ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين ستة أشهر وسبع عشرة ليلة؛ ونصب الحجاج عليه المنجنيق، وألح عليه بالقتال من كل جهة، وحبس عنهم المير، وحصرهم أشد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 الحصار فقامت أسماء يوما فصلت ودعت فقالت: اللهم لا تخيب عبد الله بن الزبير، اللهم ارحم ذلك السجود والنحيب والظمأ في تلك الهواجر. وقتل يوم الثلاث لست عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. أخرجه صاحب الصفوة. عودة إلى ولد الزبير: "والمنذر بن الزبير" وكان يكنى أبا عثمان، وكان سيدا حليما؛ قتل مع عبد الله بمكة قتله أهل الشام، ويقال: إنه قتل وله أربعون سنة، وله عقب، وعروة كان فقيها فاضلا يكنى أبا عبد الله وأصابته الأكلة في رجله بالشام فقطعت رجله وعاش بعد ذلك ثماني سنين؛ توفي في ضيعة له بقرب المدينة وله عقب, وهو أحد الفقهاء السبعة المدنيين، وكان حين قتل عثمان بن عفان غلاما لم يبلغ الحلم؛ قال الدارقطني: وروى عن أبيه الزبير، وأمه أسماء، وخالته عائشة، وأخيه عبد الله، وروى عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو، وحكيم بن حزام وعبد الله بن عباس، وسعيد بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، وأبي حميد الساعدي، وسفيان بن عبد الله الثقفي، وزيد بن ثابت, وغيرهم, وروى عن عمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف مرسلا. و"المهاجر" أمهم أسماء بنت أبي بكر و"مصعب" كان يكنى أبا عبد الله وقيل: أبا عيسى، وكان أجود العرب، وكان أسمح الناس كفا، وأحسنهم وجها، كريما، شجاعا، جوادا، ممدحا وجمع بين أربع عقائل لم يكن في زمانه أجمل منهن فيما يقال. روي عن عبد الملك بن مروان أنه قال يوما لجلسائه: من أشجع العرب؟ قالوا: ابن فلان شبيب فلان. فقال عبد الملك: إن أشجع العرب لرجل جمع بين سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة وأمة الحميد بنت عبد الله بن عامر بن كريز وابنة زيان بن أنيف الكلبي سيد ضاحية العرب, ذكره الدارقطني. وولاه أخوه عبد الله العراقين، فسار إليه، وقام به خمس سنين فأصاب ألف ألف وألف ألف وألف ألف وأعطي الأمان فأبى، ومشى بسيفه حتى مات. ذلك مصعب بن الزبير، وقتل مصعب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 سنة اثنتين وسبعين. سار إليه عبد الملك بن مروان من الشام وكاتب أصحابه فخذلهم عنه، فأسلموه ووجه إليه أخاه محمد بن مروان في مقدمته، فلقيه مصعب فقاتله فقتل مصعب وله عقب، وكان الذي تولى قتله عبيد الله بن زياد بن ظبيان، وجاء برأسه إلى عبد الملك فخر عبد الملك ساجدا، قتل وهو ابن خمس وأربعين سنة، وقيل: ست وأربعين، وقيل: اثنتين وأربعين، وقيل: خمس وثلاثين, حكاه الدارقطني. و"حمزة" قتل مع عبد الله بمكة, أمهما الرباب بنت أنيف بن عبيد الكلبية و"عبيدة" له عقب و"جعفر" أمهما زينب بنت بشر من بني قيس بن تغلب وكان عبيدة يشبه بأبيه, وشهد جعفر مع أخيه حروبه واستعمله على المدينة وقاتل يوم قتل أخوه قتالا شديدا, حتى جمد الدم على سيفه في يده، وله شعر كثير في كل فن وروى عن أبيه. و"عمر" وكان يكنى أبا الزبير، وكان له قدر كبير, وكان من أجمل أهل زمانه وقتل أيضًا وله عقب. و"خالد" له عقب أيضًا, وكان استعمله أخوه عبد الله على اليمن, أمهما أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص. ذكر الإناث: "خديجة الكبرى" وأم الحسن و"عائشة" أمهن أسماء, و"حبيبة" و"سودة" و"هند" أمهن أم خالد و"رملة" أمها الرباب و"زينب" أمها أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وإخوتها لأمها محمد وإبراهيم وحميد وإسماعيل بنو عبد الرحمن بن عوف. و"خديجة الصغرى" أمها الجلال بنت قيس من بني أسد بن خزيمة وأخواها لأمها الزبير بن مطيع بن الأسود وعبد الرحمن بن الأسود بن أبي البختري بن هشام بن أسد بن عبد العزى بن قصي, ذكره الدارقطني. فأما خديجة الكبرى فتزوجها عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي ثم خلف عليها جبير بن مطعم, ثم خلف عليها السائب بن أبي حبيش بن المطلب بن أسد بن عبد العزى. وأما أم الحسن فتزوجها عبد الرحمن بن الحارث بن هشام, فولدت له أولادا ذكورًا وإناثًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 وأما عائشة بنت الزبير فتزوجها الوليد بن عثمان بن عفان فولدت له عبد الله بن الوليد. وأما حبيبة فتزوجها يعلى بن أمية السهمي, ثم خلف عليها عبد الله بن عباس بن علقمة من بني عامر بن لؤي. وأما سودة فتزوجها الأشدق عمرو بن سعيد بن العاص, ثم خلف عليها عبد الرحمن بن الأسود بن البختري. وأما هند فتزوجها عبد الملك بن عبد الله بن عامر بن كريز فولدت له رجلين وهلكا, ثم خلف عليها عباس بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب فولدت له عون بن العباس. وأما رملة فتزوجها عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام فولدت له, ثم خلف عليها خالد بن زيد بن معاوية بن أبي معاوية. وأما زينب فتزوجها عتبة بن أبي سفيان بن حرب فولدت له أولادا. وأما خديجة الصغرى فتزوجها أبو يسار عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن شيبة بن ربيعة، فولدت له الزبير ومصعبا ابني أبي يسار, وليس لبنات الزبير رواية. ذكر ذلك الدارقطني، وذكر منهن "حفصة" قال: وماتت بعد أبيها ولم تتزوج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 الباب السابع: في مناقب أبي محمد عبد الرحمن بن عوف الفصل الأول: في نسبه ... الباب السابع: في مناقب أبي محمد عبد الرحمن بن عوف وفيه عشرة فصول على ترتيب ما تقدم في طلحة الفصل الأول: في نسبه وقد تقدم ذكر آبائه في باب العشرة, يجتمع مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كلاب بن مرة وينسب إلى زهرة بن كلاب، ويقال: القرشي الزهري. أمه الشفاء1 بنت عوف بن عبد الحارث الزهرية، أسلمت وهاجرت. ذكره ابن الضحاك وذكره الدارقطني قال: وأسلمت أختها الضيزنة بنت أبي قيس بن عبد مناف بن زهرة.   1 حضرت مولد رسول الله -صلى الله عليه وسلم. قال الإمام البوصيري في الهزيمة: شممته الأملاك إذ وضمته ... وشفتنا بقولها الشفاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 الفصل الثاني: في اسمه كان اسمه في الجاهلية عبد عمرو؛ وقيل: عبد الحارث؛ وقيل: عبد الكعبة؛ فسماه النبي -صلى الله عليه وسلم- عبد الرحمن، ويكنى أبا محمد وسماه النبي -صلى الله عليه وسلم- الصادق البار. ذكره الدارقطني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 الفصل الثالث: في صفته قال الواقدي: كان رجلا طويلا، حسن الوجه رقيق البشرة, أبيض اللون مشربا بحمرة لا يغير لحيته ولا رأسه، ضخم الكفين، غليظ الأصابع، أقنى، جعدا له جمة من أسفل أذنيه، أعنق، ساقط الثنيتين أعرج, أصيب يوم أحد فهتم وجرح عشرين جراحة أو أكثر, أصاب بعضها رجله فعرج. "شرح" ضخم الكفين: عظيمهما, أقنى: القنا: احديداب في الأنف يقال: رجل أقنى الأنف وامرأة قنواء بينة القنا, جعد الشعر ضد السبط, أعنق: طويل العنق؛ والمرأة بينة العنق, والهتم: كسر الثنايا من أصلها، يقول: ضربه فهتم فاه إذا ألقى مقدم أسنانه, ورجل أهتم بين الهتم, والثرم بالتحريك: سقوط الثنيتين أيضا، يقول منه: ثرم الرجل بالكسر ثرما وثرمته أنا بالفتح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 الفصل الرابع: في إسلامه أسلم قديما قبل أن يدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دار الأرقم، وقد تقدم أنه من جملة من أسلم على يد أبي بكر، ذكرناه في مناقب أبي بكر، وأسلم معه أخوه الأسود بن عوف -وهاجر قبل الفتح- وأخواه لأبيه عبد الله بن عوف وحمن بن عوف ولم يهاجرا وأقاما بمكة، وعاش حمن في الجاهلية ستين سنة وفي الإسلام ستين سنة, وأوصيا إلى الزبير بن العوام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 الفصل الخامس: في هجرته وهاجر عبد الرحمن بن عوف إلى المدينة. ذكره ابن قتيبة وأبو عمر وغيرهما، وقال ابن الضحاك: هاجر الهجرتين. ذكره في كتاب "الآحاد والمثاني". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 الفصل السادس: في خصائصه ذكر اختصاصه بصلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- خلفه في بعض الأحوال عن المغيرة بن شعبة قال: تخلفت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك فتبرز وذكر وضوءه، ثم عمد الناس وعبد الرحمن يصلي بهم فصلى مع الناس الركعة الأخيرة؛ فلما سلم عبد الرحمن قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتم صلاته، فلما قضاها أقبل عليهم وقال: "قد أصبتم وأحسنتم" يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها. أخرجاه. وفي رواية: فأراد أن يتأخر، فأومى1 إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يمضي, فصليت أنا والنبي -صلى الله عليه وسلم- خلفه. وفي رواية: قال المغيرة: فأردت تأخير عبد الرحمن، فقال لي النبي -صلى الله عليه وسلم: "دعه" أخرجه الشافعي في مسنده. وفي رواية: فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وعبد الرحمن قد صلى بهم, فصلى خلفه وأتم الذي فاته، وقال: "ما قبض نبي حتى يصلي خلف رجل صالح من أمته" أخرجه صاحب الصفوة.   1 فأشار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 ذكر اختصاصه بالأمانة على نساء النبي -صلى الله عليه وسلم: عن الزبير بن بكار قال: كان عبد الرحمن بن عوف أمين النبي -صلى الله عليه وسلم- على نسائه. أخرجه أبو عمر. ذكر إثبات أمانته في السماء والأرض: عن عبد الله بن عمر أن عبد الرحمن بن عوف قال لأصحاب الشورى: هل لكم أن أختار لكم وأنتفي منها? قال علي: أنا أول من يرضى، فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أنت أمين في أهل الأرض" أخرجه أبو عمر، وأخرجه الحضرمي عن علي مختصرا؛ ولفظه: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "عبد الرحمن بن عوف أمين في الأرض, وأمين في السماء". ذكر اختصاصه بأنه وكيل الله في الأرض: عن علي -عليه السلام- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "عبد الرحمن بن عوف وكيل الله في الأرض" أخرجه الملاء في سيرته. ذكر اختصاصه وعثمان بآي نزلت فيهما: عن السائب في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا ... } 1 الآية: نزلت في عثمان وعبد الرحمن بن عوف، فأما عثمان فقد تقدم ذكره، وأما عبد الرحمن فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بأربعة آلاف درهم صدقة وقال: كان عندي ثمانية آلاف، فأمسكت أربعة آلاف لنفسي وعيالي وأربعة آلاف أقرضها ربي -عز وجل- فقال صلى الله عليه وسلم: "بارك الله لك فيما أمسكت, وفيما أعطيت" ونزلت الآية. أخرجه الواحدي وأبو الفرج.   1 سورة البقرة الآية 262. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 الفصل السابع: في شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالجنة سبق في نظيره من مناقب أبي بكر حديثه, وحديث سعيد بن زيد في الشهادة للعشرة. وعن أنس -رضي الله عنه- قال: بينما عائشة في بيتها إذ سمعت رجة في المدينة فقالت: ما هذا? قالوا: عير لعبد الرحمن بن عوف من الشام تحمل من كل شيء وكانت سبعمائة بعير، فارتجت المدينة من الصوت؛ فقالت عائشة: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "رأيت عبد الرحمن يدخل الجنة حبوًا" فبلغ ذلك عبد الرحمن فقال: إن استطعت لأدخلها قائما, فجعلها بأقتابها وأحمالها في سبيل الله -عز وجل. أخرجه أحمد. وفي رواية: أنه لما بلغه قول عائشة أتاها فسألها عما بلغه، فحدثته؛ فقال: إني أشهدك أنها بأحمالها وأقتابها وأحلاسها في سبيل الله -عز وجل. أخرجه صاحب الصفوة. ذكر تسليم الله -عز وجل- عليه, وتبشيره بالجنة: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: وردت قافلة من تجار الشام لعبد الرحمن بن عوف فحملها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدعا له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة، فنزل جبريل وقال: "إن الله يقرئك السلام, ويقول: أقرئ عبد الرحمن السلام وبشره بالجنة" أخرجه الملاء، وسيأتي في ذكر صدقته أتم من هذا إن شاء الله تعالى. وهذه القافلة غير القافلة المتقدم ذكرها في الفصل قبله، فإن الظاهر أن تلك كانت بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي تلك أري عبد الرحمن داخلا الجنة حبوا وفي هذه دعا له بها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 الفصل الثامن: في ذكر نبذ من فضائله قال أبو عمر وغيره: شهد عبد الرحمن بدرا والمشاهد كلها وثبت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة, وأحد الثمانية الذين سبقوا بالإسلام، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين شهد عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توفي وهو عنهم راضٍ، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر وبعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى دومة الجندل وعممه بيده, وسد لها بين كتفيه وقال له: "سر باسم الله" ووصاه بوصايا وقال له: "إن فتح الله عليك فتزوج بنت شريفهم" أو قال: "بنت مليكهم" وقال: شريفهم الأصبغ بن ثعلبة الكلبي، فتزوج ابنته تماضر وهي أم ابنة أبي سلمة. وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "عبد الرحمن بن عوف سيد من سادات المسلمين" ذكر ذلك كله أبو عمر وغيره. ذكر دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- له: عن عمر بن الخطاب قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في منزل فاطمة والحسن والحسين يبكيان جوعا ويتضوران، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "من يصلنا بشيء?" فطلع عبد الرحمن بن عوف بصحفة فيها حيس ورغيفان بينهما إهالة فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "كفاك الله أمر دنياك، وأما آخرتك فأنا لها ضامن" أخرجه الحافظ أبو القاسم في الأربعين الطوال. وعن أنس -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لعبد الرحمن بن عوف: "بارك 1 الله في مالك, وخفف عليك حسابك يوم القيامة" أخرجه الملاء. وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة" أخرجه الدارقطني في كتاب الأخوة.   1 يا لها من دعوة في قبولها راحة البال في الدنيا والآخرة، ولا شك في قبولها من خير خلق الله, وإنه -رضي الله عنه- لجدير بتلك الدعوة. قال الزهري: تصدق على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- بأربعة آلاف، ثم بأربعين، ثم حمل على خمسمائة فرس، ثم على خمسمائة مائة راحلة، وأوصى لنساء النبي -صلى الله عليه وسلم- بحديقة قومت بأربعمائة ألف، وسيأتي هنا ما يؤيد ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 ذكر ثقة النبي -صلى الله عليه وسلم- بإيمانه: عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطى رهطا منهم عبد الرحمن بن عوف ولم يعطه معهم، فخرج عبد الرحمن يبكي، فلقيه عمر بن الخطاب فقال: ما يبكيك? قال: أعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رهطا وأنا معهم وتركني فلم يعطني شيئا، فأخشى أن يكون إنما منع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لموجدة وجدها علي، قال: فدخل عمر على النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره بخبر عبد الرحمن وما قال، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ليس بي سخط عليه, ولكني وكلته إلى إيمانه" أخرجه عبد الرزاق. ذكر أنه ولي النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والآخرة: عن أويس بن أبي أويس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لعبد الرحمن بن عوف: "أنت وليي 1 في الدنيا والآخرة" أخرجه الملاء في سيرته. ذكر أنه ممن سبقت له السعادة, وهو في بطن أمه: عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: أغمي على عبد الرحمن ثم أفاق فقال: إنه أتاني ملكان فظان غليظان فقالا لي: انطلق نخاصمك إلى العزيز الأمين؛ قال: فلقيهما ملك فقال: إلى أين تذهبان به؟ فقالا: نخاصمه إلى العزيز الأمين. قال: فخليا عنه, فإنه ممن سبقت له السعادة وهو في بطن أمه. أخرجه الملاء في سيرته وأخرجه الواحدي في أوسطه مسندا في سورة هود عند قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} . ذكر إثبات الشهادة له: تقدم في باب العشرة حديث: "اثبت حرا 2 " وفيه ما يدل على ذلك في مناقب سعيد بن زيد؛ ووجه الشهادة مع كونه مات على فراشه   1 حبيبي. 2 مقصور حراء: حبل بمكة, يذكر ويؤنث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 أنه غريب وموت الغريب شهادة على ما تضمنه الحديث، فإنه مات بالمدينة -على ما سيأتي بيانه في باب ذكر وفاته- وليس ببلده، أو لعله كان مبطونا أو مطعونا، على أنني لم أقف على ذلك، لكنه يعلم -بالقطع- أن ثم سببا تثبت له به شهادة لسان النبوة له بذلك, والله أعلم. ذكر تزكية عثمان له: عن عروة بن الزبير أن الزبير جاء إلى عثمان وقال: إن عبد الرحمن بن عوف زعم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقطعه وعمر بن الخطاب أرض كذا وكذا، وإني اشتريت نصيب آل عمر، فقال عثمان: عبد الرحمن بن عوف جائز الشهادة له وعليه. أخرجه أحمد. ذكر علمه: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن عمر خرج إلى الشام فلما بلغ سرغ أخبر أن الوباء قد نزل بالشام، فجمع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستشارهم فاختلفوا، فوافق رأيه رأي الرجوع، فرجع فجاء عبد الرحمن بن عوف -وكان متغيبا في بعض حاجته- فقال: إن عندي من هذا علما, سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا وقع بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه" أخرجاه، وقد تقدم مستوعبًا في نظيره من مناقب عمر. ذكر رجوع عمر إلى رأيه: عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جلد في الخمر بالجريد والنعال وجلد أبو بكر أربعين, فلما أن ولي عمر قال: إن الناس قد دنوا من الريف، فما ترون في حد الخمر؟ فقال له عبد الرحمن بن عوف: نرى أن نجعله كأخف الحدود؛ فجلد فيه ثمانين. أخرجاه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 ذكر إثبات رخصة للمسلمين بسببه, وقد تقدم ذكر ذلك في فضائل الزبير لاشتراكهما في سببه, ذكر خوفه من الله -عز وجل: عن سعيد بن إبراهيم عن أبيه أن عبد الرحمن أتي بطعام -وكان صائما- فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني, فكفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه وإن غطي رجلاه بدا رأسه، وقتل حمزة وهو خير مني فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط -أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا- قد خشينا أن تكون حسناتنا قد عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام. أخرجه البخاري. وفي بعض طرق هذا الحديث: أتي بطعام وكان صائما، فجعل يبكي وقال: قتل حمزة فلم يوجد ما يكفن فيه إلا ثوب واحد وكان خيرًا مني, وقتل مصعب بن عمير, وذكر معنى ما تقدم. وعن نوفل بن إياس الهذلي قال: كان عبد الرحمن لنا جليسا وكان نعم الجليس، وإنه انقلب يوما حتى دخل بيته ودخلنا، فاغتسل ثم خرج فجلس معنا, وأتي بصحفة فيها خبز ولحم, فلما وضعت بكى عبد الرحمن بن عوف، فقلنا له: يا أبا محمد ما يبكيك? قال: ملك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يشبع هو وأهل بيته من خبز الشعير، ولا أرانا أخرنا لما هو خير لنا. أخرجه صاحب الصفوة. وعن الحضرمي قال: قرأ رجل عند النبي -صلى الله عليه وسلم- لين الصوت أو لين القراءة, فما بقي أحد من القوم إلا فاضت عينه إلا عبد الرحمن بن عوف, فقال صلى الله عليه وسلم: "إن لم يكن عبد الرحمن فاضت عينه, فقد فاض قلبه" أخرجه الفضائلي. ذكر تواضعه: عن سعيد بن جبير قال: كان عبد الرحمن بن عوف لا يعرف من بين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 عبيده. أخرجه صاحب الصفوة. وعن عبد الرحمن بن عوف قال: نظرت يوم بدر عن يميني وشمالي فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما, فتمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: أي عم, هل تعرف أبا جهل? قلت: نعم، فما حاجتك إليه يابن أخي? قال: أخبرت أنه يسب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، قال: فتعجبت لذلك، قال: وغمزني الآخر فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت: ألا تريان? هذا صاحبكما الذي تسألان عنه, فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبراه فقال: "أيكما قتله?" قال كل واحد منهما: أنا قتلته فقال: "هل مسحتما سيفيكما?" قالا: لا, فنظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى السيفين فقال: "كلاكما قتله" وقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح؛ الرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء. أخرجاه, وموضع تواضعه -رضي الله عنه- تمنيه أن يكون بين أضلعهما وقدره أكثر من ذلك. ذكر تعففه, واستغنائه حتى أغناه الله -عز وجل: عن عبد الرحمن بن عوف قال: لما قدمت المدينة آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيني وبين سعد بن الربيع، فقال سعد بن الربيع: إني أكثر الأنصار مالا، فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتي هويت فأنزل لك عنها فإذا حلت تزوجتها؛ فقال له عبد الرحمن: لا حاجة لي في ذلك؛ هل من سوق فيه تجارة? قال: سوق بني قينقاع. قال: فغدا إليه عبد الرحمن، فأتى بأقط وسمن قال: ثم تابع الغدو، فما لبث أن جاء عليه أثر صفرة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تزوجت?" قال: نعم. قال: "من؟ " قال: امرأة من الأنصار. قال: "فكم سقت?" قال: زنة نواة من ذهب, فقال صلى الله عليه وسلم: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 "أولم ولو بشاة" أخرجه البخاري. ذكر صلته أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم: عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "إن أمركن لمما يهمني بعدي، ولن يصبر عليكن إلا الصابرون" قال: ثم تقول عائشة: سقى الله أباك من سلسبيل الجنة, تريد عبد الرحمن بن عوف، وقد كان وصل أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- بما بيع بأربعين ألفا. أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن1 صحيح، وأبو حاتم. وعنه أن عبد الرحمن أوصى بحديقة لأمهات المؤمنين, بيعت بأربعمائة ألف. أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب2. ذكر صلته رحمه: عن المسور بن مخرمة قال: باع عبد الرحمن بن عوف أرضا من عثمان بأربعين ألف دينار، فقسم ذلك المال في بني زهرة وفقراء المسلمين وأمهات المؤمنين، وبعث إلى عائشة معي من ذلك المال، فقالت عائشة: سقى الله ابن عوف سلسبيل الجنة. أخرجه في الصفوة. ذكر صدقته, وبره أهل المدينة: عن الزهري قال: تصدق عبد الرحمن بن عوف على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشطر ماله أربعة آلاف, ثم تصدق بألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل الله -عز وجل- ثم حمل على ألف وخمسمائة راحلة في سبيل الله؛ وكان عامة ماله من التجارة. أخرجه صاحب الصفوة, وأخرجه الملاء عن ابن عباس وقال: تصدق بشطر ماله -أربعة آلاف درهم- ثم   1 حسن من طريق, صحيح من طريق آخر. 2 روه راوٍ فقط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 بأربعين ألف درهم ثم بأربعين ألف دينار ثم خمسمائة فرس في سبيل الله، ثم وردت له قافلة من تجارة الشام فحملها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدعا له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة, فنزل جبريل وقال: "إن الله يقرئك السلام، ويقول: أقرئ عبد الرحمن السلام، وبشره بالجنة". وقد تقدم في خصائصه أن قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُون ... } 1 الآية, نزلت في ذلك. وعن طلحة بن عبد الرحمن بن عوف قال: كان أهل المدينة عيالًا على عبد الرحمن بن عوف، ثلث يقرضهم ماله، وثلث يقضي دينهم بماله، وثلث يصلهم. وعن عروة بن الزبير أنه قال: أوصى عبد الرحمن بن عوف بخمسين ألف دينار في سبيل الله تعالى. أخرجهما الفضائلي. ذكر خروجه عن جميع ماله, وتسليم الله عليه وإخباره بقبول صدقته: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: مرض عبد الرحمن بن عوف فأوصى بثلث ماله، فصح فتصدق بذلك بيد نفسه, ثم قال: يا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كل من كان من أهل بدر له علي أربعمائة دينار، فقام عثمان وذهب مع الناس فقيل له: يا أبا عمر ألست غنيا? قال: هذه وصلة من عبد الرحمن لا صدقة وهو من مال حلال, فتصدق عليهم في ذلك اليوم بمائة وخمسين ألف دينار، فلما جن عليه الليل جلس في بيته وكتب جريدة بتفريق جميع المال على المهاجرين والأنصار حتى كتب أن قميصه الذي على بدنه لفلان وعمامته لفلان، ولم يترك شيئا من ماله إلا كتبه للفقراء، فلما صلى الصبح خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هبط جبريل وقال: "يا محمد, إن الله يقول لك: أقرئ مني على عبد الرحمن السلام واقبل منه   1 سورة البقرة الآية 262. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 الجريدة ثم ردها عليه، وقل له: قد قبل الله صدقتك وهو وكيل الله ووكيل رسوله، يصنع في ماله ما شاء، وليتصرف فيه كما كان يتصرف قبل، ولا حساب عليه، وبشره" أخرجه الملاء في سيرته. ذكر تبرره 1 بالعتق: عن جعفر بن برقان قال: بلغني أن عبد الرحمن بن عوف أعتق ثلاثين ألفا. أخرجه صاحب الصفوة. وقال أبو عمر: وقد روي أنه أعتق في يوم واحد ثلاثين عبدًا. ذكر أمر جبريل له بإضافة الضيف وإطعام المسكين, حتى أراد الخروج عن جميع ماله: عن إبراهيم بن عبد الرحمن عن أبيه أن رسول الله قال له: "يابن عوف إنك من الأغنياء، وإنك لن تدخل الجنة إلا زحفا -وفي رواية: حبوا- فأقرض الله -عز وجل- يطلق لك قدمك" قال ابن عوف: ما الذي أقرض الله? قال: "مما أمسيت فيه" قال: من كله أجمع يا رسول الله? قال: "نعم" فخرج ابن عوف وهو يهم بذلك, فأتى جبريل فقال: "مر ابن عوف فليضف الضيف وليطعم المسكين وليعط السائل؛ فإذا فعل ذلك كان كفارة لما هو فيه" أخرجه الفضائلي. ذكر ما فضل به عبد الرحمن وغيره من السابقين على غيرهم ممن شاركهم في أعمالهم, أو زاد عليهم: عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أن رجلا من أهل المدينة قال: والله لأقدمن المدينة ولأحدثن عهدا بأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقدم المدينة قال: فلقي المهاجرين إلا عبد الرحمن بن عوف، فأخبر أنه بالجرف في أرضه، فأقبل يسير حتى إذا جاء عبد الرحمن وهو يحول الماء بمسحاة في يده   1 إطاعته لله تعالى بالعتق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 واضعا رداءه, فلما رآه عبد الرحمن استحى فألقى المسحاة وأخذ رداءه، فوقف الرجل عليه فسلم عليه ثم قال: جئتك لأمر ثم رأيت أعجب منه، هل جاءكم إلا ما جاءنا? وهل علمتم إلا ما علمنا? قال عبد الرحمن: ما جاءنا إلا ما جاءكم وما علمنا إلا من علمتم, فقال الرجل: فما لنا نزهد في الدنيا وترغبون فيها, ونخف في الجهاد وتتثاقلون عنه وأنتم خيارنا وسلفنا وأصحاب نبينا -صلى الله عليه وسلم? فقال له عبد الرحمن: إنه لم يأتنا إلا ما جاءكم, ولم نعلم إلا ما قد علمتم, ولكنا ابتلينا بالضراء فصبرنا, وابتلينا بالسراء فلم نصبر. أخرجه ابن حويصا. ذكر شهادة عمر بن الخطاب بصلاحيته للخلافة, لولا ضعف فيه: عن ابن عمر قال: خدمت عمر وكنت له هائبًا معظمًا، فدخلت عليه ذات يوم في بيته وقد خلا بنفسه، فتنفس تنفسا ظننت أن نفسه خرجت، ثم رفع رأسه إلى السماء فقلت له: والله ما أخرج هذا منك إلا هم يا أمير المؤمنين قال: هم والله، هم شديد، إن هذا الأمر لم أجد له موضعًا -يعني الخلافة- قال: فذكرت له عليا وطلحة والزبير وسعدا وعثمان فذكر في كل واحد منهم معارضًا, فذكرت له عبد الرحمن بن عوف فقال: أوه! نعم المرء! ذكرت رجلا صالحا إلا أنه ضعيف، وهذا الأمر لا يصلح له إلا الشديد من غير عنف، اللين من غير ضعف، الجواد من غير سرف، الممسك من غير بخل. أخرجه القاسم بن سلام في مصنفه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 الفصل التاسع: في ذكر وفاته, وما يتعلق بها توفي رضي الله عنه سنة إحدى وثلاثين، وقيل: اثنتين وثلاثين وهو ابن خمس وسبعين، وقيل: اثنتين وسبعين، ودفن بالبقيع، وصلى عليه عثمان وكان أوصى بذلك. وروى ابن النجار في كتاب أخبار المدينة بسنده عن عبد الرحمن بن حميد عن أبيه قال: أرسلت عائشة إلى عبد الرحمن بن عوف حين نزل به الموت أن هلم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإلى أخويك، فقال: ما كنت مضيقًا عليك بيتك، إني كنت عاهدت ابن مظعون أينا مات دفن إلى جنب صاحبه, فيكون على هذا قبر عثمان بن مظعون وقبر عبد الرحمن بن عوف في قبة إبراهيم ابن النبي -صلى الله عليه وسلم- فينبغي أن يزار هناك. ذكر ما روي عنه عند الموت: قال أبو عمر: لما حضرته الوفاة بكى بكاء شديدا، فسئل عن بكائه فقال: إن مصعب بن عمير كان خيرًا مني، توفي على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يكن له ما يكفن فيه، وإن حمزة بن عبد المطلب كان خيرًا مني، توفي على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يجد له كفنا؛ وإني أخشى أن أكون ممن عجلت له طيباته في حياته الدنيا، وأخاف أن أحبس عن أصحابي لكثرة مالي. وقد تقدم في ذكر خوفه صدور هذا القول عنه وهو صائم, ولعله تكرر منه وهو الأظهر؛ أو كان صائما وقد حضرته الوفاة، وقد تقدم أيضا في ذكر صدقته أنه أوصى أن يتصدق من ماله بخمسين ألف دينار، وفي ذكر صلته لأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أوصى لهن بحديقة فبيعت بأربعمائة ألف. ذكر ما خلفه: عن محمد أن عبد الرحمن بن عوف توفي, وكان فيما خلفه ذهب قطع بالفئوس حتى مجلت أيدي الرجال منه، وترك أربع نسوة فأصاب كل امرأة ثمانون ألفا. أخرجه في الصفوة. وقال أبو عمر: كان تاجرًا مجدودًا1 في التجارة، فكسب مالا كثيرا وخلف ألف بعير وثلاثة آلاف شاة ومائة فرس ترعى بالبقيع، وكان يزرع   1 محظوظًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 بالجرف على عشرين ناضحًا، فكان يدخل من ذلك قوت أهله سنة. وعن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن قال: صالحنا امرأة عبد الرحمن التي طلقها في مرضه من ثلث الثمن بثلاثة وثمانين ألفا, وفي رواية: من ربع الثمن. أخرجه أبو عمر. وقال الطائي: قسم ميراثه على ستة عشر سهما, فبلغ نصيب كل امرأة ثمانين ألف درهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 الفصل العاشر: في ولده وكان له ثمانية وعشرون ذكرًا وثماني بنات. ذكر الذكور: "محمد" وبه كان يكنى، ولد في الإسلام، و"سالم الأكبر" مات قبل الإسلام، أمهما أم كلثوم بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس, قاله أبو عمر وذكر ابن قتيبة وصاحب الصفوة أن محمدًا أخو حميد لأمه، وسيأتي؛ و"أبو سلمة الفقيه" واسمه عبد الله الأصغر، أمه تماضر بنت الأصبغ، ذكره ابن قتيبة وغيره "وإبراهيم" و"إسماعيل" و"حميد" أمهم أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ذكره في الصفوة و"زيد" قال ابن قتيبة: أمه أم إبراهيم، وقال في الصفوة: أمه أم معن، وسيأتي ذكره و"معن" و"عمر" أمهما سهلة بنت عاصم بن عدي، و"عروة الأكبر" أمه بحرية بنت هانئ و"سالم الأصغر" أمه سهلة بنت سهيل بن عمر، و"أبو بكر" أمه أم حكيم بنت قارظ، و"عبد الله" أمه بنت أبي الخشخاش؛ و"عبد الرحمن" أمه أسماء بنت سلامة؛ و"مصعب" أمه أم حريث من سبي بهراء، و"سهيل" أبو الأبيض أمه مجد بنت يزيد؛ و"عثمان" أمه عراك بنت كسرى، أم ولد، و"عروة" و"يحيى" و"بلال" لأمهات أولاد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 ذكر البنات: "أم القسم" ولدت في الجاهلية، أمها أم سالم الأكبر، وقال في الصفوة: أمها بنت شيبة بنت ربيعة و"حميدة" و"أمة الرحمن الكبرى" أمهما أم حميد؛ و"أمة الرحمن الصغرى" شقيقة معن، و"أم يحيى" أمها زينب بنت الصباح؛ و"جويرية" أمها بادنة بنت غيلان؛ و"أمية" و"مريم" شقيقتا مصعب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 الباب الثامن: في مناقب سعد بن مالك الفصل الأول: في نسبه ... الباب الثامن: في مناقب سعد بن مالك وفيه عشرة فصول على ترتيب فصول طلحة الفصل الأول: في نسبه وقد تقدم ذكر آبائه في باب العشرة في ذكر الشجرة، يجتمع مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كلاب بن مرة، وينسب إلى زهرة بن كلاب، فيقال: الفرشي الزهري، ويجتمع هو وعبد الرحمن في زهرة. عن سعد بن أبي وقاص أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم: من أنا يا رسول الله? قال: "أنت سعد بن مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة؛ من قال غير ذلك فعليه لعنة الله" أخرجه الضحاك, أمه: حمنة بنت سفيان بن أبي أمية بن عبد شمس, قاله ابن قتيبة والدارقطني وغيرهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 الفصل الثاني: في اسمه ولم يزل اسمه في الجاهلية والإسلام سعدا, ويكنى أبا إسحاق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 الفصل الثاني: في اسمه ... No pages الجزء: 4 الفصل الثالث: في صفته وكان رجلا قصيرًا غليظًا، ذا هامة، شثن الأصابع، آدم، جعد الشعر، أشعر الجسد، يخضب بالسواد، ذهب بصره في آخره عمره؛ وقيل: إنه كان طويلا. ذكر ذلك كله ابن قتيبة وصاحب الصفوة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 الفصل الرابع: في إسلامه قال أبو عمر: أسلم قديمًا بعد ستة هو سابعهم, وهو ابن تسع عشرة سنة قبل أن تفرض الصلاة، وهو ممن أسلم على يد أبي بكر, وقد تقدم ذكر ذلك. وعن سعيد بن المسيب قال: سمعت سعدًا يقول: ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام, وإني لثلث الإسلام. أخرجه البخاري والبغوي في معجمه وقال: ما أسلم أحد قبلي؛ وقال: ستة أيام. وعن جابر بن سعد عن أبيه قال: لقد رأيتني وأنا ثلث الإسلام. أخرجه البخاري. وعن عائشة بنت سعد قالت: لقد مكث أبي يومًا إلى الليل, وإنه لثلث الإسلام. أخرجه البغوي في المعجم. وعنها قالت: لقد سمعت أبي يقول: رأيت في المنام قبل أن أسلم بثلاث كأني في ظلمة لا أبصر شيئًا, إذ أضاء لي قمر فاتبعته، فكأني أنظر من سبقني إلى ذلك القمر, فأنظر إلى زيد بن حارثة وإلى علي بن أبي طالب وإلى أبي بكر، وكأني أسألهم: متى انتهيتم إلى ههنا? وبلغني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو للإسلام مستخفيًا، فلقيته في شعب أجياد قد صلى العصر، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 فقلت له: إلامَ تدعو? قال: "تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله" قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله؛ فما تقدمني إلا هم. أخرجه الفضائلي؛ وهذا يرد ما خرجه البغوي إذ قال: ما أسلم أحد قبلي, ولعله يريد: ما أسلم أحد قبلي، أي: في اليوم الذي أسلمت فيه. وكذلك رواه صاحب الصفوة عن سعيد بن المسيب قال: كان سعد يقول: ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه ... ثم ذكر حديث البخاري المتقدم. وكذلك أخرجه ابن الضحاك، ولكنه قال: سبع الإسلام، ولفظه: عن سعيد عن سعد أنه قال: ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه, ولقد مكثت تسعة أيام وإني لسبع الإسلام. وأسلم أخواه لأبويه عامر وعمير ابنا أبي وقاص, وأخواه لأبيه عتبة بن أبي وقاص وخالدة بنت أبي وقاص. فأما عامر فكان من مهاجرة الحبشة ثم هاجر إلى المدينة، وكان فاضلا، روى سعد بن أبي وقاص أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال يومًا: "يطلع عليكم رجل من أهل الجنة" فطلع أخي عامر. وأما عمير فشهد بدرًا وهو ابن ست عشرة سنة -فيما يقال- وأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرده فبكى، فخرج به معه فاستشهد يومئذ. عن سعد قال: كان يوم بدر قتل أخي عمير، وقتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكتيبة، فأتيت به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ذاهب فاطرحه في القبض" قال: فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي، فما مكثت إلا قليلا حتى أنزلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سورة الأنفال، فقال صلى الله عليه وسلم: "اذهب فخذ سيفك". وأما عتبة بن أبي وقاص فشهد أحدًا مع المشركين، ويقال: هو الذي رمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكسر رباعيته، ورمى وجهه. وأما خالدة فتزوجها سمرة بن جنادة السواي، وولدت له. ذكره الدارقطني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 الفصل الخامس: في هجرته ولم أظفر بشيء يخصها ولا شك فيها، ووقائعه في بدر وأحد وغيرهما تدل عليها، ولم يزل ملازمًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أن توفي وهو عنه راضٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 الفصل السادس: في خصائصه ذكر اختصاصه بأنه أول العرب رمى بسهم في سبيل الله: عن سعد بن مالك قال: إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله. أخرجاه، وأخرجه أبو عمر وزاد: وذلك في سرية عبيدة بن الحارث، وكان معه يومئذ المقداد بن عمرو وعتبة بن غزوان. أخرجه صاحب الصفوة أيضًا. ذكر اختصاصه بدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يستجاب دعاؤه, فكان ذا دعوة مجابة: عن سعد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم استجب لسعد إذا دعاك" أخرجه الترمذي، وأخرجه أيضًا عن قيس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ... الحديث. وعن جبير بن مطعم بن المقداد أن سعدًا قال: يا رسول الله، ادع الله أن يستجيب دعائي؛ قال: "يا سعد، إن الله لا يستجيب دعاء عبد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 حتى يطيب طعمته" قال: يا رسول الله، ادع الله أن يطيب طعمتي، فإني لا أقوى إلا بدعائك؛ قال: "اللهم أطب طعمة سعد" فإن كان سعد ليرى السنبلة من القمح في حشيش دوابه فيقول: ردوها من حيث حصدتموها. أخرجه الفضائلي. وعن يحيى بن عبد الرحمن بن لبيبة عن جده قال: قال سعد: يا رب, إن لي بنين صغارًا فأخر عني الموت حتى يبلغوا، فأخر عنه الموت عشرين سنة. أخرجه في الصفوة. وعن جابر بن سمرة قال: شكا أهل الكوفة سعد بن مالك إلى عمر فقالوا: لا يحسن الصلاة. فقال سعد: أما أنا فكنت أصلي بهم صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أركد في الأوليين، وأخفف في الأخريين؛ فقال عمر: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق, قال: فبعث رجالا يسألون عنه في مساجد الكوفة؛ قال: فلا يأتون مسجدًا من مساجد الكوفة إلا أثنوا عليه خيرًا وقالوا معروفًا، حتى أتوا مسجدًا من مسجد بني عبس، قال: قال رجل يقال له أبو سعدة: اللهم إنه كان لا يسير بالسرية، ولا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية؛ قال: فقال سعد: أما والله لأدعون بثلاث: اللهم إن كان كاذبًا فأطل عمره وأطل فقره وعرضه للفتن؛ فكان بعد ذلك يقول إذا سئل: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد. قال جابر بن سمرة: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر, وإنه ليتعرض للجواري في الطرق فيعهرهن. وفي رواية: أما أنا فأركد في الأوليين وأحذف في الأخريين، ولا آلو ما اقتديت به من صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: صدقت؛ ذلك الظن بك -أو ظني بك- أبا إسحاق. أخرجه البخاري؛ وأخرجه البرقاني على شرطهما بنحوه، وقال: فقال عبد الملك بن عمير الراوي عن جابر: فأنا رأيته يتعرض للإماء في السكك، وإذا قيل له: كيف أنت يا أبا سعدة? قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد. وعنده: اللهم إن كان كاذبا فأعم بصره، وأطل عمره ... ثم ذكر ما بعده. وروي أن ابنته كانت تشرف عليه عند وضوئه، فنهاها عن ذلك فلم تنته فدعا عليها، وقال: شاه وجهك، فلم تزل شوهاء. ودخل عليه مولى لابنه عمير يشتكي إليه وقد ضربه عمير حتى أدماه، فنهاه عن ضربه وأمره فيه بمعروف، فأغلظ له في القول فقال: أجرى الله دمك على عقبيك، فقتله المختار بن أبي عبيد. أخرجهما الملاء. قال أبو عمر: وكان سعد مشتهرًا بإجابة الدعوة؛ تخاف دعوته وترجى؛ لاشتهار إجابتها عندهم. ذكر اختصاصه بدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- له بتسديد السهم: عن سعد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم سدد سهمه، وأجب دعوته" أخرجه أبو عمر وأبو الفرج في الصفوة. ذكر اختصاصه بجمع النبي -صلى الله عليه وسلم- له أبويه يوم أحد: عن علي عليه السلام قال: ما جمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبويه لأحد غير سعد بن مالك، فإنه جعل يقول له يوم أحد: "ارم، فداك أبي وأمي" أخرجه مسلم والترمذي, وقال: حسن صحيح. وأخرجه من طريق آخر ولفظه: ما سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفدي أحدًا بأبويه ... الحديث، وقال: حسن صحيح. وعنه قال: ما سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدى رجلًا غير سعد؛ فإنه قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 يوم حنين ويوم أحد: "ارم، فداك أبي وأمي" أخرجه الملاء. وعنه قال: ما جمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أبويه لأحد إلا لسعد بن مالك قال: "ارم، فداك أبي وأمي، وأنت الغلام الحسن" أخرجه أبو بكر يوسف بن يعقوب بن البهلول. وعن سعد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جمع له أبويه يوم أحد؛ قال: كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "ارم، فداك أبي وأمي" قال: فنزعت له بسهم ليس فيه نصل، فأصبت جبينه، فسقط وانكشفت عورته، فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى رأيت نواجذه. أخرجاه. وأخرج الترمذي منه: جمع أبويه يوم أحد. وفي بعض طرقه: نثر لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كنانته يوم أحد، وقال: "ارم، فداك أبي وأمي" أخرجاه. قال أبو عمر: لم يقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فداك أبي وأمي" فيما بلغنا إلا لسعد والزبير، فإنه قال لكل واحد منهما ذلك؛ وقد تقدم أين قال ذلك للزبير في خصائصه. ذكر اختصاصه بموافقته تمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلا صالحًا يحرسه عند قدومه المدينة, وقد أرق ليلة: عن عائشة قالت: أرق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة، فقال: "ليت رجلًا صالحًا من أصحابي يحرسني الليلة" فقالت: فسمعنا صوت السلاح، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من هذا?" قال: سعد بن أبي وقاص يا رسول الله، جئت أحرسك. قالت عائشة: فنام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى سمعنا غطيطه. وعنها قالت: سهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقدمه المدينة ليلة، فقال: "ليت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 رجلًا صالحًا من أصحابي يحرسني الليلة" قالت: فبينا نحن كذلك إذ سمعنا خشخشة السلاح، فقال: "من هذا؟ " قال: سعد بن أبي وقاص؛ قال: "ما جاء بك؟ " قال: وقع في نفسي خوف على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجئت أحرسه؛ فدعا له رسول الله -صلى الله عليه وسلم. أخرجه مسلم والترمذي. ذكر اختصاصه برؤية جبريل وميكائيل عن يمين النبي -صلى الله عليه وسلم- ويساره يوم أحد: عن سعد قال: رأيت عن يمين النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن شماله يوم أحد رجلين, عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه أشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد, يعني جبريل وميكائيل. أخرجاه وأبو حاتم. ذكر اختصاصه بقوله -صلى الله عليه وسلم: "هذا خالي, فليرني المرء خاله": عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: أقبل سعد فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "هذا خالي، فليرني امرؤ خاله" أخرجه الترمذي، وقال: غريب. قال: وكان سعد من بني زهرة؛ وأم النبي -صلى الله عليه وسلم- من بني زهرة؛ فلذلك قال: "خالي". ذكر اختصاص عمر إياه من بين أهل الشورى بالأمر بالاستعانة, إن لم يصبه الأمر: عن عمرو بن ميمون ... الحديث، تقدم في فصل خلافة عثمان، وفيه: "فإن أصاب الأمر سعدًا فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر، فإني لم أعزله من عجز ولا خيانة" أخرجه البخاري وأبو حاتم. ذكر اختصاصه بآيات نزلت فيه: عن سعد أنه قال: نزلت فيَّ آيات من القرآن، قال: حلفت أم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 سعد لا تكلمه أبدًا حتى يكفر بدينه، ولا تأكل ولا تشرب؛ قال: قالت: زعمت أن الله أوصاك بوالديك، فأنا أمك، وأنا آمرك بهذا؛ قال: فمكثت ثلاثًا حتى غشي عليها من الجهد، فقام ابن لها يقال له: عمارة، فسقاها فجعلت تدعو على سعد، فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي ... } 1 إلى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} . قال: وأصاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غنيمة عظيمة فإذا فيها سيف، فأخذته فأتيت به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: نفلني هذا السيف، فأنا من قد علمت حاله؛ فقال: "رده من حيث أخذته" فانطلقت حتى إذا أردت أن ألقيه في القبض لامتني نفسي، فرجعت إليه فقلت: أعطنيه؛ قال: فشد بي صوته: "رده من حيث أخذته" فأنزل الله -عز وجل: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} 2. قال: مرضت، فأرسلت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأتاني فقلت: دعني أقسم مالي حيث شئت. قال: فأبى؛ قلت: فالنصف؛ فأبى؛ قلت: فالثلث، فسكت، فكان يعد الثلث جائزًا. قال: وأتيت على نفر من الأنصار والمهاجرين، فقالوا: تعال نطعمك ونسقك خمرًا، وذلك قبل أن تحرم الخمر، قال: فأتيتهم في حش -والحش البستان- فإذا رأس جزور مشوي عندهم وزق من خمر؛ قال: فأكلت وشربت معهم، قال: فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم، فقلت: المهاجرون خير من الأنصار, فأخذ رجل أحد لحيي الرأس فضربني به، فجرح أنفي، فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته، فأنزل الله -عز وجل- فيَّ يعني نفسه شأن الخمر: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ   1 سورة لقمان الآية 15. 2 سورة الأنفال الآية 1. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} 1 أخرجه مسلم. "شرح" الجهد بفتح الجيم: المشقة، يقال: جهد دابته وأجهدها إذا حمل عليها في السير فوق طاقتها، والجهد بضمها وفتحها: الطاقة, ومنه: "والذين لا يجدون إلا أجهدهم" قرئ بهما، وقال الفراء: هو بالضم الطاقة وبالفتح من قولك: اجهد جهدك في هذا الأمر، أي: ابلغ غايتك، ولا يقال: أجهد جهدك بالضم, والقبض بالتحريك: هو ما قبض من أموال الناس، وبالإسكان: خلاف البسط. وعن سعد قال: نزلت {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} 2 في ستة أنا وابن مسعود منهم، وكان المشركون قالوا: لا يدنى هؤلاء. وعنه قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ستة نفر، فقال المشركون: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا؛ قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما؛ فوقع في نفس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما شاء أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} 3 أخرجهما مسلم.   1 سورة المائدة الآية 90. 2 سورة الأنعام الآية 52. 3 سورة الأنعام الآية 52. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 الفصل السابع: في شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالجنة تقدم في باب العشرة عبد الرحمن بن عوف, وسعيد بن زيد في العشرة وهو منهم. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أول من يدخل من هذا الباب رجل من أهل الجنة" فدخل سعد بن أبي وقاص. أخرجه أحمد. وأخرج الفضائلي معناه عن أنس، ولفظه: بينا نحن جلوس عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة" فطلع سعد بن أبي وقاص؛ حتى إذا كان الغد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك، فطلع سعد. وأخرجه ابن المثنى في معجمه عن ابن عمر, ولفظه قال: كنا جلوسًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يدخل عليكم من ذا الباب رجل من أهل الجنة" فليس منا أحد إلا وهو يتمنى أن يكون من أهل بيته؛ فإذا سعد قد طلع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 الفصل الثامن: في ذكر نبذ من فضائله قال أبو عمر وغيره: شهد سعد بدرًا والحديبية والمشاهد كلها، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أهل الشورى الذين أخبر عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توفي وهو عنهم راضٍ، وأحد من كان على حراء حين تحركت بهم الصخرة فقال صلى الله عليه وسلم: "اثبت حرا؛ فما عليك إلا نبي وصديق وشهيد" فكانت شهادة من النبي -صلى الله عليه وسلم- بالشهادة. وقد تقدم الحديث مستوفى في باب ما دون العشرة, وكان سابع سبعة في الإسلام على ما تقدم في فصل إسلامه، وأحد الفرسان الشجعان، وأحد من كان يحرس النبي -صلى الله عليه وسلم- في مغازيه، وهو الذي كوف الكوفة، ونفى الأعاجم، وتولى قتال فارس، وكان على يديه فتح القادسية وغيرها، وولاه عمر الكوفة فشكاه أهلها ورموه بالبهتان، فدعا على الذي واجهه بالكذب دعوة ظهرت فيها إجابته، وعزله عمر لما شكاه أهل الكوفة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 وولى عمار بن ياسر الصلاة وعبد الله بن مسعود بيت المال وعثمان بن حنيف مساحة الأرضين، ثم عزل عمارًا وأعاد سعدًا على الكوفة ثانيًا، ثم عزله وولى جبير بن مطعم، ثم عزله قبل أن يخرج إليها وولى المغيرة بن شعبة، وقيل: إن عمر لما ولى سعدًا بعد أن عزله أبى عليه، وقال: لا أعود لقوم يزعمون أني لا أحسن أصلي فتركه؛ ورام منه ابنه عمر وابن أخيه هاشم أن يدعو إلى نفسه بعد قتل عثمان فأبى، فصار هاشم إلى علي، وكان سعد ممن لزم بيته في الفتنة، وأمر أهله أن لا يخبروه من أخبار الناس بشيء حتى تجتمع الأمة على إمام. وقد تقدم ثناء الله عليه بأنه من: {الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وفي ذكر اختصاصه بنزول آيات فيه. ذكر دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالشفاء من مرضه, فشفي: عن سعد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عاده عام حجة الوداع بمكة من مرض أشفى فيه فقال سعد: يا رسول الله، قد خفت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اللهم اشف سعدًا" ثلاث مرات وفيه ذكر الوصية وقوله: "والثلث كثير" وفيه: "إن صدقتك من مالك صدقة, وإن نفقتك على عيالك صدقة، وإن ما تأكل امرأتك من مال صدقة" أخرجاه. ذكر إثبات الشهادة له: تقدم حديث هذا الذكر في مثله من باب العشرة، وسيأتي في مناقب سعد, ووجه شهادته فيما تقدم نظيره من مناقب عبد الرحمن بن عوف. ذكر أنه ناصر الدين: عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا سعد, أنت ناصر الدين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 حيث كنت" أخرجه الملاء في سيرته. ذكر اتباعه للسنة: تقدم في خصائصه في الأولى منها قوله في صلاته: ولا آلو ما اقتديت من صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاري. وعن عامر بن سعد أن سعدًا ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبدًا يقطع شجرًا أو يخبطه فسلبه، فلما رجع سعد جاء أهله فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم فقال: معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبى أن يرد عليهم. أخرجه مسلم. ذكر شجاعته: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "سعد بن أبي وقاص يعد بألف فارس" أخرجه الملاء في سيرته. وقد تقدم في خصائص طلحة من حديث مسلم أنه لم يبق مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض تلك الأيام التي قاتل فيها غير طلحة وسعد. ذكر صبره مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع ضيق العيش: عن سعد قال: إني لأول العرب رمى سهما في سبيل الله، ولقد كنا نغزو مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لنا طعام إلا ورق الحبلة وهذا السمر، حتى إن كان أحدنا ليضع كما تضع الشاة, ما له خلط. أخرجاه. ذكر شدته في دين الله: عن سعد قال: أعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رهطًا وأنا جالس، فترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم رجلًا هو أعجبهم إلي، فقلت: ما لك عن فلان? والله إني لأراه مؤمنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أو مسلمًا" ذكر ذلك سعد ثلاثا، وأجابه بمثل ذلك، ثم قال: "إني لأعطي الرجل العطاء وغيره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 إلي أحب منه؛ خشية أن يكبه الله -عز وجل- على وجهه في النار". قال الزهري: فرأى أن الإسلام الكلمة, الإيمان العمل الصالح. أخرجاه. ذكر زهده: تقدم في النثر في أول الفصل طرف منه. وعن عامر بن سعد قال: بينا سعد في إبله فجاءه ابنه عمر، فلما رآه سعد قال: أعوذ بالله من شر الراكب، فقال له: نزلت في إبلك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم، فضرب سعد صدره وقال: اسكت، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله يحب العبد التقي العيي الخفي" أخرجه مسلم. ذكر تواضعه وعدله وشفقته على رعيته وحيائه: عن أبي المنهال أن عمر بن الخطاب سأل عمرو بن معد يكرب عن سعد فقال: متواضع في جبايته، عربي في نمرته، أسد في تاموره، يعدل في القضية، ويقسم بالسوية، ويبعد في السرية، ويعطف عليها عطف البرة، وينقل إلينا خفيا نقل الذرة. أخرجه الفضائلي. وفي رواية بعد قوله "ويقسم بالسوية": وهو لنا كالأب البر والأم المتحننة، وإذا صاح الصائح أسد في تاموره، هو مع ذلك عاتق في حجلتها من الحياء، لم أر مثله. قال عمر: لم أر كاليوم ثناء أحسن منه. ذكر صدقه: عن ابن عمر أن سعدًا حدثه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه مسح على الخفين, وإن ابن عمر سأل عن ذلك عمر فقال: نعم, إذا حدث سعد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا تسأل عنه غيره. أخرجه البخاري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 ذكر حرصه على البر والصدقة: عن سعد قال: عادني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام حجة الوداع من وجع اشتد بي فقلت: يا رسول الله إني قد بلغ بي من الوجع ما ترى ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بكل مالي? قال: "لا" قلت: فالشطر يا رسول الله? قال: "لا" قلت: فالثلث? قال: "الثلث، والثلث كثير أو كبير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" أخرجاه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 الفصل التاسع: في ذكر وفاته, وما يتعلق بها قال أبو عمر وغيره: مات سعد بن أبي وقاص في قصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة، وحمل على أعناق الرجال إلى المدينة، ودفن بالبقيع، وصلى عليه مروان بن الحكم وهو يومئذ والي المدينة، ثم صلى عليه أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجرهن. ذكره أبو عمر وصاحب الصفوة. وقال الفضائلي: أدخل المسجد ووضع عند بيوت النبي -صلى الله عليه وسلم- بفناء الحجر, فصلى الإمام عليه وصلى أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- بصلاة الإمام. وعن موسى بن عقبة عن عبد الواحد بن حمزة قال: لما توفي سعد أرسل أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- أن مروا بجنازته في المسجد، ففعلوا فوقف به على حجرهن فصلين عليه، فبلغهن أن الناس عابوا ذلك وقالوا: ما كانت الجنائز يدخل بها المسجد، فقالت عائشة: ما أسرع الناس إلى أن يعيبوا ما لا علم لهم به، عابوا علينا أن يمر بجنازة في المسجد! ما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على سهل بن بيضاء إلا في جوف المسجد. أخرجه مسلم. قال في الصفوة: وكان سعد أوصى أن يكفن في جبة صوف له كان لقي المشركين فيها يوم بدر، فقال: أخبأها لهذا، فكفن فيها. وذكره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 الفضائلي والقلعي. قال ابن قتيبة: كان آخر العشرة موتًا. وقال الفضائلي: كان آخر المهاجرين وفاة. قال الواقدي: وكان ذلك سنة خمس وخمسين، وقيل: أربع وخمسين وقيل: ثمان وخمسين, حكاه أبو عمر. وله بضع وستون سنة، وقيل: بضع وسبعون، وقيل: بضع وثمانون، وقيل: بضع وتسعون، ذكره ابن قتيبة وأبو عمر وغيرهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 الفصل العاشر: في ذكر ولده وكان له من الولد أربعة وثلاثون ولدا؛ سبعة عشر ذكرًا وسبع عشرة أنثى. ذكر الذكور: "إسحاق الأكبر" وبه كان يكنى، أمه ابنة شهاب، و"عمر" قتله المختار و"محمد" قتله الحجاج، أمهما بنت قيس بن معدي كرب و"عامر" وكان يروي عنه الحديث، و"إسحاق الأصغر" و"إسماعيل" أمهم أم عامر بنت عمرو، و"إبراهيم" و"موسى" أمهما زبد، و"عبد الله" أمه خولة بنت عمرو، و"عبد الله الأصغر" و"بجير" واسمه عبد الرحمن، أمهما أم هلال بنت ربيع بن مري، و"عمير الأكبر" أمه أم حكيم بنت قارظ، و"عمير الأصغر" و"عمرو" و"عمران" أمهم سلمى بنت حفص و"صالح" أمه ظبية بنت عامر، و"عثمان" أمه أم حجير. ذكر الإناث: "أم الحكم الكبرى" شقيقة إسحاق الأكبر، و"حفصة" و"أم القسم" و"كلثوم" شقائق عمر ومحمد، و"أم عمران" شقيقة إسحاق الأصغر، و"أم الحكم الصغرى" و"أم عمرو" و"هند" و"أم الزبير" و"أم موسى" أمهن زبد، و"حمنة" أخت بجير، و"حمنة" أخت عمير الأكبر، و"أم عمر" و"أم أبونا" و"أم إسحاق" أمهن سلمى، و"رملة" أخت عثمان، و"عمرة" وهي العمياء أمها من سبي العرب و"عائشة" ذكر ذلك كله ابن قتيبة وصاحب الصفوة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 الباب التاسع: في مناقب أبي الأعور سعيد بن زيد الفصل الأول: في نسبه ... الباب التاسع: في مناقب أبي الأعور سعيد بن زيد وفيه عشرة فصول الفصل الأول: في نسبه وقد تقدم ذكره في ذكر الشجرة من باب العشرة، يجتمع مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كعب بن لؤي، وينسب إلى عدي بن كعب فيقال: القرشي العدوي وعمر بن الخطاب ابن عم أبيه. كان أبوه زيد يطلب دين الحنفية دين إبراهيم قبل أن يبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان لا يذبح للأنصاب ولا يأكل الميتة ولا الدم، وخرج يطلب الدين هو وورقة بن نوفل فتنصر ورقة وأبى هو التنصر، فيقول له الراهب: إنك تطلب دينا ما هو على الأرض اليوم، قال: وما هو? قال: دين إبراهيم، كان يعبد الله لا يشرك به شيئًا، ويصلي إلى الكعبة، وكان زيد على ذلك حتى مات. وعن سعيد بن زيد قال: خرج ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو يطلبان الدين حتى مرا بالشام، فأما ورقة فتنصر وأما زيد فقيل له: إن الذي تطلب أمامك. قال: فانطلق حتى أتى الموصل فإذا هو براهب، فقال: من أين أقبل صاحب الراحلة? قال: من بيت إبراهيم قال: ما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 يطلب? قال: الدين. فعرض عليه النصرانية، فقال: لا حاجة لي فيها وأبى أن يقبل, فقال: إن الذي تطلب سيظهر بأرضك، فأقبل وهو يقول: لبيك حقا حقا ... تعبدًا ورقا مهما تجشمني فإني جاشم ... عذت بما عاذ به إبراهم1 قال: ومر بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ومعه أبو سفيان بن الحارث يأكلان من سفرة لهما، فدعواه إلى الغداء، فقال: "يابن أخي, إني لا آكل مما ذبح على النصب" قال: فما رئي النبي -صلى الله عليه وسلم- من يومه ذلك يأكل مما ذبح على النصب حتى بعث -صلى الله عليه وسلم- قال: فأتاه سعيد بن زيد فقال: إن زيدًا كان كما قد رأيت وبلغك، استغفر له قال: "نعم" فاستغفر له، وقال: "إنه يبعث يوم القيامة أمة وحده" أخرجه أبو عمر. "شرح" تجشمني أي: تحملني تقول: جشمت الأمر بالكسر جشما وتجشمته إذا تكلفته على مشقة، وأجشمته إذا كلفته إياه. وعن أسماء قالت: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسندًا ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش, والله ما منكم على دين إبراهيم غيري. وكان يحيي الموءودة، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها وأنا أكفيك مؤنتها، فيأخذها فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك, وإن شئت كفيتك مؤنتها. أخرجه البخاري. وعن ابن زيد عن أبيه قال في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} 2 نزلت في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يوحدون الله عز وجل: زيد بن عمرو بن نفيل، وأبي ذر، وسلمان، أولئك الذين هداهم الله بغير كتاب ولا نبي. أخرجه الواحدي وأبو الفرج في أسباب النزول. أمه فاطمة بنت بعجة بن مليح الخزاعية, ذكره أبو عمر.   1 لغة في إبراهيم. 2 سورة الزمر الآية 17. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 الفصل الثاني: في اسمه ولم يزل اسمه في الجاهلية ثم في الإسلام سعيدًا، وكان كذلك لفظا ومعنى، ويكنى أبا الأعور. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 الفصل الثالث والرابع: في صفته وإسلامه كان آدم طوالا أشعر, قاله الواقدي. أسلم هو وزوجته أم جميل بنت الخطاب أخت عمر قديما، وكان إسلامه قبل إسلام عمر، وبسبب زوجته كان إسلام عمر، وقد تقدم ذكر ذلك في فصل إسلام عمر. عن قيس قال: سمعت سعيد بن زيد في مسجد الكوفة يقول: والله لقد رأيتني وإن عمر لموثقي على الإسلام أنا وأخته, قبل أن يسلم عمر. أخرجه رزين. وأسلمت أخته عاتكة بنت زيد وكانت حسناء جميلة بارعة الجمال فيما يقال، تزوجها عبد الله بن أبي بكر فشغلته عن الغزو، فأمره أبوه بطلاقها وقال: قد شغلتك عن المغازي فطلقها، فمر به يوما وهو يقول: ولم أر مثلي طلق اليوم مثلها ... ولا مثلها من غير جرم تطلق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 لها خلق جزل ورأي ومنصب ... وخلق سوي في الحياة ومصدق فرق له أبوه فأذن له في مراجعتها، فراجعها وقتل عنها, فقالت ترثيه: رُزئت بخير الناس بعد نبيهم ... وبعد أبي بكر وما كان قصرا فآليت لا تنفكّ عيني حزينة ... عليك ولا ينفك جنبي أغبرا في أبيات. ثم خلف عليها عمر بن الخطاب، فلم تزل عنده حتى قتل عنها فرثته بأبيات؛ ثم خلف عليها الزبير بن العوام، وكانت تخرج إلى المسجد ليلا وكان يكره مخرجها ويتحرج من منعها، فخرجت ليلة إلى المسجد وخرج الزبير فسبقها إلى مظلم من طريقها فوضع يده على بعض جسدها فرجعت تسبح, ثم لم تخرج بعد ذلك فقال لها الزبير: ما لك لا تخرجين إلى المسجد? قالت: يا أبا عبد الله فسد الناس؛ فقال: أنا فعلت ذلك؛ فقالت: أليس يقدر غيرك يفعل مثله? فلم تخرج حتى قتل عنها الزبير، فرثته بأبيات فقالت: غدر ابن جرموز بفارس بهمة ... يوم اللقاء وكان غير مفدد يا عمرو لو نبهته لوجدته ... لا طائشًا رعش الجنان ولا اليد كم غمرة قد خاضها لم يثنه ... عنها طراؤك يابن فقع القردد والله ربك إن قتلت لمسلما ... حلت عليك عقوبة المتعمد ويقال: إن عبد الله بن الزبير صالحها على ميراثها من الزبير على ثمانين ألفًا فقبلتها؛ ثم خطبها علي بن أبي طالب، فقالت: إني أضن بك يابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن القتل، ويقال: خطبها عمرو بن العاص ومحمد بن أبي بكر فامتنعت عليهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 الفصل الخامس، والسادس، والسابع: في هجرته وخصائصه وفي شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالجنة: قال أبو عمر: وهاجر هو وزوجته أم جميل فاطمة بنت الخطاب. في خصائصه: لم ينقل له من الخصائص غير ما ثبت لأبيه, فإنه لم ينقل في فضل أحد من آباء العشرة ما نقل في فضل زيد بن عمرو، كما تقدم. في شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالجنة تقدمت أحاديث هذا الفصل في نظيره من باب العشرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 الفصل الثامن: في ذكر نبذ من فضائله قال أبو عمر وغيره: شهد سعيد المشاهد كلها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا بدرًا. قال الواقدي: بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وطلحة إلى الشام يتجسسان الأخبار، ثم رجعا فقدما إلى المدينة يوم وقعة بدر. وقد تقدم الحديث في فصل فضائل طلحة؛ فلذلك كانا معدودين من البدريين. قال البغوي في معجمه: فضرب له النبي -صلى الله عليه وسلم- بسهمه، قال: وأجري? قال: "وأجرك" وأخرجه ابن الضحاك أيضًا. وكانت له بنت عند الحسن بن الحسن بن علي, ذكره الطائي. ذكر شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالشهادة: عن عبد الله بن سالم عن سعيد بن زيد قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحرا فقال: "اثبت حرا؛ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد" قيل: ومن هم? قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 والزبير وسعد بن مالك وعبد الرحمن بن عوف؛ قال: قيل: فمن العاشر? فقال: أنا. أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح, وقد تقدم الحديث مختصرًا في باب العشرة. وسيأتي في ذكر وفاته أنه مات بالمدينة على فراشه, فوجه شهادته ما تقدم في نظيره من مناقب عبد الرحمن بن عوف، فإن سعدًا وسعيدًا وعبد الرحمن ماتوا على فرشهم بمقبرة المدينة, فحكمهم واحد. ذكر أنه ذو دعوة مجابة: عن سعيد بن زيد أن أروى خاصمته في بعض داره فقال: دعوها وإياها، فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من أخذ شبرًا من الأرض بغير حق طوقه في سبع أرضين يوم القيامة" اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واجعل قبرها في دارها. قال محمد بن زيد: فرأيتها عمياء تلتمس الجدر، وتقول: أصابتني دعوة سعيد بن زيد؛ فبينما هي تمشي في الدار إذ مرت على بئر في الدار فوقعت فيها فكانت قبرها. أخرجه مسلم، وأخرجه أبو عمر وقال: اللهم إن كانت كاذبة فلا تمتها حتى تعمي بصرها, وتجعل قبرها في بئر. ذكر زهده: روي أن عمر أرسل إلى أبي عبيدة يقول: أخبرني عن حال الناس، وأخبرني عن خالد بن الوليد أي رجل هو، وأخبرني عن يزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص كيف هما وحالهما ونصيحتهما للمسلمين؛ فقال: خالد خير رجل وأنصحه للمسلمين وأشده على عدوهم، وعمرو ويزيد نصحهما وجدهما كما تحب؛ قال: عن أخويك سعد بن يزيد ومعاذ بن جبل? قال: كما عهدت، إلا أن السواد زادهما في الدنيا زهدًا وفي الآخرة رغبة. أخرجه أبو حذيفة وإسحاق بن بشر في فتوح الشام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 وأخرج أيضًا أن أبا عبيدة ولى سعيدًا دمشق، ثم خرج حتى أتى الأردن فنزلها فعسكر، وبعث عليهم خالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان، فلما بلغ ذلك سعيد بن زيد كتب إلى أبي عبيدة: "سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإني ما كنت لأوثرك وأصحابك بالجهاد على نفسي وعلى ما يدنيني من مرضاة ربي، فإذا أتاك كتابي هذا فابعث إلى عملك من هو أرغب إليه مني، فإني قادم عليك وشيكا إن شاء الله تعالى. والسلام عليك" فلما بلغ الكتاب أبا عبيدة قال: ليتركنها, ثم دعا يزيد بن أبي سفيان فقال: اكفني دمشق. "شرح" وشيكا: سريعا، تقول منه: وشك بالضم يوشك وشكا أي: يسرع. ذكر احترام الولاة له, ووصية أم المؤمنين حين وفاتها أن يصلي عليها: عن ابن سعيد بن زيد قال: كتب معاوية بن أبي سفيان إلى مروان بن الحكم بالمدينة يبايع الناس لابنه يزيد، فقال رجل من الشام: ما يحبسك? قال: حتى يجيء سعيد بن زيد فيبايع، فإنه سيد أهل البلد؛ فإذا بايع بايع الناس. قال: أفلا أذهب آتيك به? فجاء الشامي وأنا مع أبي في الدار، فقال: انطلق فبايع، فقال: انطلق، فسأجيء فأبايع؛ فقال: تنطلق أو لأضربن عنقك؛ قال: أتضرب عنقي? والله إنك لتدعوني إلى أقوام أنا قاتلتهم على الإسلام. قال: فرجع إلى مروان وأخبره، فقال له مروان: اسكت. قال: فماتت أم المؤمنين أظنها زينب، فأوصت أن يصلي عليها سعيد بن زيد، فقال الشامي لمروان: ما يحبسك أن تصلي على أم المؤمنين? قال: أنتظر الرجل الذي أردت أن تضرب عنقه، فإنها أوصت أن يصلي عليها، فقال الشامي: أستغفر الله. أخرجه البغوي في معجمه والفضائلي؛ وخرج ابن الضحاك منه قصة البيعة، وقال: سأل أهل المدينة ... إلخ ولم يذكر قصة الصلاة على الجنازة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 الفصل التاسع: في وفاته, وما يتعلق بها توفي بأرضه بالعقيق وحمل إلى المدينة, ودفن بها سنة خمسين أو إحدى وخمسين في أيام معاوية وهو ابن بضع وسبعين سنة، ونزل في قبره سعد وابن عمر. ذكره في الصفوة وأبو عمر والفضائلي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 الفصل العاشر: في ذكر ولده وكان له واحد وثلاثون ولدًا؛ ثلاثة عشر ذكرًا وثماني عشرة أنثى. ذكر الذكور: "عبد الله الأكبر" و"عبد الله الأصغر" و"عبد الرحمن الأكبر" و"عبد الرحمن الأصغر" و"إبراهيم الأكبر" و"إبراهيم الأصغر" و"عمر الأكبر" و"عمر الأصغر" و"الأسود" و"طلحة" و"محمد" و"خالد" و"زيد". ذكر الإناث: "أم الحسن الكبرى" و"أم الحسن الصغرى" و"أم حبيب الكبرى" و"أم حبيب الصغرى" و"أم زيد الكبرى" و"أم زيد الصغرى" و"عائشة" و"عاتكة" و"حفصة" و"زينب" و"أم سلمة" و"أم موسى" و"أم سعيد" و"أم النعمان" و"أم خالد" و"أم صالح" و"أم عبد الحولا" و"رجلة". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 الباب العاشر: في مناقب أبي عبيدة بن الجراح الفصل الأول والثاني والثالث: في نسبه وأسمه وصفته ... الباب العاشر: في مناقب أبي عبيدة بن الجراح وفيه عشرة فصول الفصل الأول والثاني والثالث: في نسبه واسمه وصفته وقد تقدم ذكره في ذكر الشجرة من باب العشرة، يجتمع هو ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في فهر بن مالك، وينسب إلى فهر فيقال: القرشي الفهري، أمه من بني الحارث بن فهر أسلمت، قاله ابن قتيبة. في اسمه ولم يزل اسمه في الجاهلية والإسلام عامرًا، وكنيته أبا عبيدة وبها اشتهر، لقبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأمين هذه الأمة؛ وسيأتي في خصائصه. في صفته وكان رضي الله عنه رجلا طويلا نحيفا، معروق الوجه، أثرم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 الثنيتين، خفيف اللحية، وكان يخضب بالحناء والكتم. ذكره ابن الضحاك، وسبب ثرمه أنه كان قد انتزع سهمين من جبهة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد بثنيتيه فسقطتا، وسيأتي ذكر ذلك. ويروى أنه المنتزع حلقتي الدرع، ويجوز أن يكون السهمان أثبتا حلقتي الدرع فانتزع الجميع، فسقطتا لذلك, فما رئي أهتم كان أحسن من أبي عبيدة. ذكره ابن قتيبة وأبو عمر وغيرهما. "شرح" الأثرم: الساقط الثنية، وكذلك الأهتم، وقد سبق ذكرهما في نظيره من مناقب عبد الرحمن بن عوف, والمعروق الوجه تقدم شرحه في صفة أبي بكر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 الفصل الرابع والخامس: في إسلامه وهجرته في إسلامه: أسلم قديمًا مع عثمان بن مظعون، وهو ممن أسلم على يدي أبي بكر على ما تقدم بيانه. في هجرته: قال الواقدي: هاجر أبو عبيدة إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، ولم يحك ذلك ابن عقبة ولا غيره، ثم هاجر إلى المدينة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 الفصل السادس: في خصائصه ذكر اختصاصه بأنه أمين هذه الأمة عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن لكل أمة أمينًا، وإن أميننا -أيتها الأمة- أبو عبيدة بن الجراح" أخرجه البخاري ومسلم، وأخرجه الترمذي وأبو حاتم ولفظهما: "لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة ... " الحديث. وأخرجه ابن نجيد وزاد: وطعن في خاصرته، وقال: هذه خاصرة مؤمنة. وعن حذيفة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأهل نجران: "لأبعثن حق أمين" فأشرف أصحابه، فبعث أبا عبيدة. أخرجه البخاري. وعنه قال: جاء السيد والعاقب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالا: يا رسول الله ابعث معنا أمينك؛ فقال: "سأبعث معكم أمينًا، حق أمين" فتشرف لها الناس؛ فبعث أبا عبيدة. أخرجاه. وعن أبي مسعود قال: لما جاء العاقب والسيد صاحبا نجران أراد أن يلاعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهما لصاحبه: لا تلاعنه، فوالله لئن كان نبيا فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا أبدًا؛ قال: فأتياه فقالا: لا نلاعنك، ولكن نعطيك ما سألت، فابعث معنا رجلا أمينا. فقال صلى الله عليه وسلم: "لأبعثن رجلًا أمينًا حق أمين" قال: فاستشرف لها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "قم يا أبا عبيدة بن الجراح" قال: فلما قفا1 قال: "هذا أمين هذه الأمة" أخرجه أحمد وأخرجه الترمذي وقال: "فبعث أبا عبيدة" مكان "قم يا أبا عبيدة" ولم يذكر ما بعده. وأخرج ابن إسحاق معناه عن محمد بن جعفر قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين" قال: فكان عمر بن الخطاب يقول: ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر مهجرًا فلما صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نظر عن يمينه ويساره، فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه، فقال: "اخرج معهم, فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه" قال عمر: فذهب بها أبو عبيدة. وعن أنس بن مالك أن أهل اليمن قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا:   1 تبع الأمر، وقام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 ابعث معنا برجل يعلمنا؛ فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيد أبي عبيدة وقال: "هذا أمين هذه الأمة" أخرجه أبو عمر، وأخرجه صاحب الصفوة وقال: إن أهل اليمن لما قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سألوه أن يبعث معهم رجلًا يعلمهم السنة والإسلام ... وذكر بقية الحديث. ذكر اختصاصه بالإمرة في بعض الأحيان: عن جابر بن عبد الله قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سرية وأمر عليها أبا عبيدة بن الجراح نتلقى عيرًا لقريش، وزودنا جرابا من تمر لم يجد لنا غيره، وكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة، فقيل له: فكيف كنتم تصنعون بها؟ قال: نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها الماء فتكفينا يومنا إلى الليل، فكنا نضرب بعصينا الخبط ثم نله بالماء فنأكله، قال: وانطلقنا على ساحل البحر فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر، قال أبو عبيدة: ميتة، ثم قال: لا بل نحن رسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي سبيل الله، وقد اضطررتم، فكلوا؛ قال: فأقمنا عليه شهرًا ونحن ثلاثمائة حتى سمنا، ولو رأيتنا نغترف من وقب عينه بالقلال الدهن ونقتطع منه القدر كالثور -أو كقدر الثور- ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينه، وأخذ ضلعا من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها، وتزودنا من لحمه وشائق. فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكرنا ذلك له، فقال: "هو رزق الله أخرجه لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعموننا?" قال: فأرسلنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منه فأكله. أخرجه مسلم. وفي رواية: فأخذ أبو عبيدة ضلعًا من أضلاعه فنصبه, ونظر إلى أطول بعير في الجيش وأطول رجل فحمله عليه، فجاز تحته، وأخرجه بهذه الزيادة الخلعي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 "شرح" العير بالكسر: الإبل تحمل الميرة، ويجوز أن تجمع على عيرات، والكثيب: الرمل المجتمع، وقد تقدم في فصل هجرة أبي بكر، ووقب العين: نقرتها، ووقبت عيناه: غارتا, وشائق جمع: وشيق ووشيقة، وهو اللحم يغلي إغلاء ثم يقدد ويحمل في الأسفار، وهو أبقى قديد يكون. قال أبو عبيدة: وزعم بعضهم أنه بمنزلة القدر لا تمسه النار، يقول: وشقت اللحم أشقه وشقا وأشقته مثله, الفدر: جمع فدرة، وهي القطعة. ذكر اختصاص عمر إياه بالخلافة إن مات وهو حي: عن عمر أنه لما بلغ سرغ وحدث أن بالشام وباء شديدًا فقال: إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حي استخلفته، فإن سألني ربي -عز وجل- لم استخلفته على أمة محمد? قلت: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن لكل نبي أمينا، وأميني أبو عبيدة بن الجراح" وإن أدركني أجلي وقد توفي أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل, فإن سألني ربي لم استخلفته? قلت: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنه يحشر يوم القيامة بين يدي العلماء نبذة". "شرح" سرغ بفتح الراء وسكونها: قرية بوادي تبوك من طريق الشام، وقيل: على ثلاث عشرة مرحلة من المدينة, نبذة بفتح النون وضمها: ناحية، وقد تقدم في فصل خلافة أبي بكر أن عمر بادر إلى مبايعة أبي عبيدة لما مات النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "أنت أمين هذه الأمة" فامتنع معتذرًا بأولوية أبي بكر، ولما سئلت عائشة: من كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مستخلفًا لو استخلف? قالت: أبا بكر، قيل: ثم من? قالت: عمر، قيل: ثم من? قالت: أبا عبيدة. وقد تقدم ذلك في فصل خلافة أبي بكر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 ذكر اختصاص أبي بكر إياه بالكون معه: وروى أبو حذيفة إسحاق بن بشر في كتابه "فتوح الشام" أن طوائف من أحياء العرب كانت تأتي من عامة الآفاق إلى أبي بكر إمدادًا للمسلمين، فيستعمل عليهم الرجل منهم، ويخبرهم أن يمضوا إلى أي أمرائه أحبوا، فإذا قالوا: اختر لنا يا خليفة رسول الله، قال: عليكم بالهين اللين الذي إذا ظلم لم يظلم، وإذا أسيء إليه غفر، وإذا قطع وصل، رحيم بالمؤمنين، شديد على الكافرين. عليكم بأبي عبيدة بن الجراح. "شرح" هين: لين مخفف ومشدد، وقوم هينون: لينون. وقد تقدم في فصل خلافة أبي بكر أنه قال يوم السقيفة: وقد رضيت لكم أحد الرجلين عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح, أما أبو عبيدة فسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة" وأما عمر فسمعته يقول: "اللهم أيد الدين بعمر, أو بأبي جهل". الحديث. وقد تقدم في فصل إسلام عمر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 الفصل السابع: في شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالجنة وأحاديث هذا الفصل تقدمت في نظيره من باب العشرة, من حديث عبد الرحمن وسعيد بن زيد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 الفصل الثامن: في ذكر نبذ من فضائله شهد أبو عبيدة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بدرًا وهو ابن إحدى وأربعين سنة وما بعدها من المشاهد كلها، وشهد بيعة الرضوان، وثبت معه يوم أحد، وقتل أباه يوم بدر كافرًا فأنزل الله -جل وعلا: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُم} 1 الآية، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، كان رضي الله عنه يسير في العسكر ويقول: ألا ربَّ مبيض لثيابه ومدنس لدينه، ألا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين، بادروا السيئات القديمات بالحسنات الحادثات، فلو أن أحدكم عمل في السيئات ما بينه وبين السماء ثم عمل حسنة, لعلت فوق سيئاته حتى تقهرها. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "نعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح" أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن. ذكر أحبية النبي -صلى الله عليه وسلم- له: عن عائشة وقد سئلت: أي أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أحب إليه? قالت: أبو بكر، قيل: ثم من? قالت: أبو عبيدة بن الجراح. وقد تقدم ذلك في باب ما دون العشرة. ذكر ثناء أبي بكر وعمر وغيرهما عليه: تقدم ثناء أبي بكر في فصل الخصائص, وطرف من ثناء عمر. وعن عمر أنه قال لأصحابه يومًا: تمنوا، فقال رجل: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبًا أنفقه في سبيل الله -عز وجل- فقال: تمنوا, فقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤًا وزبرجدًا وجوهرًا أنفقه في سبيل الله -عز وجل- وأتصدق به، ثم قال: تمنوا, قالوا: ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين? قال عمر: لكني أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة رجالا مثل أبي عبيدة بن الجراح. أخرجه صاحب الصفوة، وأخرجه الفضائلي وزاد: فقال رجل: ما آلوت الإسلام، قال: ذلك الذي أردت.   1 سورة المجادلة الآية 22. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 "شرح" آلوت: قصرت عنه. وعن عمرو بن العاص قال: ثلاثة من قريش أصبح الناس وجوهًا وأحسنهم أخلاقًا وأشدهم حياء، إن حدثوك لم يكذبوك، وإن حدثتهم لم يكذبوك: أبو بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وأبو عبيدة بن الجراح. أخرجه الفضائلي. ذكر كراهية عمر خلاف أبي عبيدة: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن عمر لما خرج إلى الشام وأخبر أن الوباء قد وقع به فجمع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستشارهم فاختلفوا، فرأى عمر رأي من رأى الرجوع فرجع، فقال له أبو عبيدة: أفرارًا من قدر الله? فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة? وكان عمر يكره خلافه, نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله, أرأيت لو كان لك إبل فنزلت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله? أخرجاه. "شرح" العدوة بضم العين وكسرها: شاطئ الوادي أي: جانبه. ذكر زهده: عن عروة بن الزبير قال: لما قدم عمر بن الخطاب من الشام تلقاه أمراء الأجناد وعظماء أهل الأرض، فقال عمر: أين أخي? قالوا: من? قال: أبو عبيدة، قالوا: يأتيك الآن، فلما أتاه نزل فاعتنقه، ثم دخل عليه بيته فلم ير في بيته إلا سيفه وترسه ورحله، فقال له عمر: ألا اتخذت ما اتخذ صاحبك? فقال: يا أمير المؤمنين هذا يبلغني المقيل. أخرجه في الصفوة والفضائلي وزاد بعد قوله "يأتيك الآن": "فجاء على ناقة مخطومة بحبل". وفي رواية: أن عمر قال له: اذهب بنا إلى منزلك، قال: وما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 تصنع? ما تريد إلا أن تعصر عينيك علي? قال: فدخل منزله فلم ير شيئًا، قال: أين متاعك? ما أرى إلا لبدًا وصحفة وشنا، وأنت أمير عندك طعام، فقام أبو عبيدة إلى جونة فأخذ منها كسيرات، فبكى عمر، فقال أبو عبيدة: قد قلت لك: ستعصر عينيك علي يا أمير المؤمنين، يكفيك ما يبلغك المقيل، فقال عمر: غرتنا الدنيا، كلنا غيرك يا أبا عبيدة. وأخرج جميع ذلك بتغيير بعض ألفاظه صاحب "فتوح الشام" وأخرج أيضًا أبو حذيفة في فتوح الشام أن أبا بكر لما توفي وخالد على الشام واليًا واستخلف عمر, كتب إلى أبي عبيدة بالولاية على الجماعة وعزل خالدًا، فكتم أبو عبيدة الكتاب من خالد وغيره حتى انقضت الحرب وكتب خالد الأمان لأهل دمشق وأبو عبيدة الأمير وهم لا يدرون, ثم لما علم خالد بذلك بعدما مضى نحو من عشرين ليلة دخل على أبي عبيدة فقال: يغفر الله لك، جاءك كتاب أمير المؤمنين بالولاية فلم تعلمني وأنت تصلي خلفي والسلطان سلطانك? فقال له أبو عبيدة: ويغفر الله لك، ما كنت لأعلمك حتى تعلمه من غيري, وما كنت لأكسر عليك حربك حتى ينقضي ذلك كله وقد كنت أعلمك إن شاء الله تعالى، وما سلطان الدنيا أريد، وما للدنيا أعمل، وإن ما نرى سيصير إلى زوال وانقطاع، وإنما نحن إخوان وقوام بأمر الله -عز وجل- وما يضر الرجل أن يلي عليه أخوه في دينه ولا دنياه بل يعلم الوالي أنه يكاد أن يكون أدناهما إلى الفتنة وأوقعهما في الخطيئة لما يعرض من الهلكة إلا من عصم الله -عز وجل- وقليل ما هم, فدفع أبو عبيدة عند ذلك الكتاب إلى خالد. ذكر خوفه من الله -عز وجل: روى أحمد في مسنده أن أبا عبيدة دخل عليه إنسان وهو يبكي فقال: ما يبكيك يا أبا عبيدة? فقال: يبكيني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر يومًا ما يفتح الله على المسلمين، حتى ذكر الشام فقال: "إن ينسأ من أجلك يا أبا عبيدة فحسبك من الخدم ثلاثة: خادم يخدمك، وخادم يسافر معك، وخادم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 يخدم أهلك ويرد عليهم، وحسبك من الدواب ثلاث: دابة لرحلك، ودابة لثقلك، ودابة لغلامك" ثم أنا أنظر إلى بيتي قد امتلأ رقيقا، وأنظر إلى مربطي قد امتلأ خيلا ودواب؛ وكيف ألقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد هذا, وقد أوصانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن أحبكم إلي وأقربكم مني من لقيني على الحال التي فارقني عليها"؟ ذكر تواضعه, وإنصافه لرعيته, ومساواته لهم: روى أبو حذيفة في "فتوح الشام" أن أبا بكر قد بعث عمرو بن العاص في نفر وقال له: يا عمرو؛ هؤلاء أشراف قومك يخرجون مجاهدين في سبيل الله، بائعين أنفسهم لله، فاخرج فعسكر حتى أندب الناس معك، فقال عمرو: يا خليفة رسول الله, ألست أنا الوالي على الناس? قال: بلى أنت الوالي على من أبعثه معك من ههنا؛ فقال: بل على من أقدم عليه من المسلمين؛ قال: فقال: لا، ولكن أحد الأمراء فإن جمعتكم حرب فأبو عبيدة أميركم؛ فسكت عمرو، ثم لما حضر شخوصه جاء إلى عمر فقال: يا أبا حفص، قد علمت نصرتي في الحرب ومناقبي في العدو؛ وقد رأيت منزلتي من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد أرى أبا بكر ليس يعصيك، فأشر عليه رحمك الله أن يوليني أمر هذه الجنود بالشام، فإني أرجو أن يفتح الله على يدي البلاد، وأن يريكم الله والمسلمون ما تسرون به؛ فقال عمر: ما كنت لأكذبك، ما كنت لأكلمك في ذلك, وما يوافقني أن يبعثك على أبي عبيدة وأبو عبيدة أفضل عندنا منزلة منك، قال: فإنه لا ينقص أبا عبيدة شيئًا من فضله إن ولاني عليه؛ قال: فلما قدم عمرو على أبي عبيدة قال له أبو عبيدة: مرحبًا بك يا أبا عبد الله, رب يوم قد شهدته مبارك للمسلمين فيه برأيك ومحضرك، وإنما أنا رجل منكم، لست -وإن كنت الوالي عليكم- بقاطع أمرًا دونكم فاحضرني برأيك في كل يوم بما ترى، فإنه ليس لي عنك غنى، قال: فقال عمرو: أفعل، وفقك الله لما يصلح للمسلمين ونكبت به العدو. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 وروى أيضًا أبو حذيفة في "فتوح الشام" أن الروم بعثوا إلى أبي عبيدة: إنا نريد أن نبعث إليك رجلا منا يعرض عليك الصلح ويدعوك إلى النصف، فإن قبلت منه فلعل ذلك أن يكون خيرًا لك لنا, وإن أبيت فما نراه إلا شرا لك, فقال لهم: ابعثوا من شئتم. فبعثوا رجلا طويلا أحمر أزرق، فجاء، فلما دنا من المسلمين لم يعرف أبا عبيدة من القوم، ولم يدر أهو فيهم أم لا, ولم يرهبه مكان أمير من الأمراء. فقال: يا معشر العرب، أين أميركم? فقالوا له: ها هو ذا، فنظر فإذا هو بأبي عبيدة جالسًا عليه الدرع، وهو ممسك الفرس، وبيده أسهم يقلبها وهو جالس على أرض، فقال له: أنت أمير هؤلاء? قال: نعم، قال: ما يجلسك على الأرض? أرأيت إن كنت جالسًا على وسادة أو كان تحتك بساط أكان ذلك واضعك عند الله، أو هل يبعدك من الإحسان? قال له أبو عبيدة: إن الله لا يستحي من الحق، لأصدقنك: ما أصبحت أملك إلا سيفي وفرسي وسلاحي، ولقد احتجت أمس إلى نفقة فاقترضت من أخي هذا شيئًا -يعني معاذ بن جبل- وكان عنده شيء فاقترضت، ولو كان عندي بساط أو وسادة ما كنت لأجلس عليه وأجلس أخي المسلم -الذي لا أدري لعله خير مني منزلة عند الله عز وجل- على الأرض، ونحن عباد الله، نمشي على الأرض ونجلس عليها ونأكل عليها ونضطجع عليها، وليس ذلك بناقصنا عند الله شيئًا، بل تعظم به أجورنا وترفع درجاتنا، فهلم حاجتك التي جئت لها. وأخرج أيضًا أبو حذيفة أن أبا عبيدة لما وجهه عمر إلى الشام تلقاه في جنوده وهو على قلوص مكتنفها بعباءة خطامها من شعر، لابس سلاحه, متنكب قوسه. وعن أبي موسى -رضي الله عنه- أن عمر كتب إلى أبي عبيدة في الطاعون الذي وقع بالشام أنه: قد عرضت حاجة عندنا ولا غنى فيها عنك، فإذا أتاك كتابي هذا فإني أعزم عليك إن أتاك كتابي ليلا أن لا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 تصبح حتى تركب، وإن أتاك نهارا أن لا تمسي حتى تركب إليَّ. فلما قرأ الكتاب قال: قد عرفت حاجة أمير المؤمنين، إنه يريد أن يستبقي من ليس بباق، ثم كتب: إني قد عرفت حاجتك التي لك، فخلني من عزمتك يا أمير المؤمنين، فإني في جند من أجناد المسلمين لا أرغب بنفسي عنهم. فلما قرأ عمر الكتاب بكى، فقيل له: مات أبو عبيدة? قال: لا. وكان قد كتب إليه عمر أن الأردن أرض غمقة، وأن الجابية أرض نزهة، فاظهر بالمسلمين إلى الجابية. فلما قرأ أبو عبيدة الكتاب قال: هذا نسمع فيه أمير المؤمنين ونطيعه. أخرجه أبو حذيفة والفضائلي. "شرح" الطاعون: الموت من الوباء وهو المرض العام لفساد الهواء, فتفسد لذلك الأمزجة والأبدان، يقال: طعن الرجل فهو مطعون وطعين. والأردن بضم الهمزة وتشديد النون: نهر وكورة بأعلى الشام والجابية: قرية بدمشق، وغمقة -بالغين المعجمة- أي: قريبة من الماء والنزور والحضر، والغمق: فساد الريح "وغموقها من كثرة الأنداء" فيحصل منها الوباء، والغمق أيضًا: ركوب الندى الأرض, وأرض غمقة: ذات ندى, وقال الأصمعي: الغمق: الندى. نزهة أي: بعيدة من الماء فهي أقل وباء، قال ابن السكيت: ومما يضعه الناس في غير موضعه قولهم: خرجنا نتنزه إذا خرجوا إلى البساتين، قال: وأما التنزه التباعد عن المياه والأرياف، ومنه قولهم: فلان يتنزه عن الأقذار أي: يتباعد عنها. وعن عروة بن الزبير أن طاعون عمواس كان معافى منه أبو عبيدة بن الجراح وأهله، فقال: اللهم نصيبه في آل أبي عبيدة، فخرجت بثرة في خنصر أبي عبيدة، فجعل ينظر إليها، فقيل له: إنها ليست بشيء، فقال: إني أرجو أن يبارك الله فيها, إنه إذا بارك في القليل كان كثيرًا. أخرجه الفضائلي وأبو حذيفة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 "شرح" طاعون عمواس: قال الجوهري: هو أول طاعون كان في الإسلام بالشام، والبثرة: خراج صغير، وجمعها بثور، وفي هذا إشعار بأن الطاعون مفسر بغير ما فسر به آنفًا، وأن أوله خراج في البدن, ولا يبعد أن يقال: كل مرض عام من خراج أو غيره يسمى طاعونًا، وكان ذلك الطاعون على ذلك النحو، والله أعلم. ذكر اهتمامه حين استنهضه عمر عام القحط: روي أن الناس قحطوا في خلافة عمر، فكتب إلى أبي عبيدة بن الجراح وهو يومئذ بالشام: الغوث الغوث، أدرك المسلمين. فكتب إليه أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، كتبت إلي: "الغوث الغوث" وقد أتتك العير, أولها عندك وآخرها بالشام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 الفصل التاسع: في ذكر وفاته, وما يتعلق بها مات رضي الله عنه في طاعون عمواس بالأردن من الشام -وفيها قبره- سنة ثماني عشرة، في خلافة عمر، وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وصلى عليه معاذ بن جبل، ونزل في قبره معاذ وعمرو بن العاص والضحاك بن قيس. ذكره أبو عمر وصاحب الصفوة. وذكر المدائني عن العجلاني عن سعيد بن عبد الرحمن بن حسان قال: مات في طاعون عمواس خمسة وعشرون ألفًا، وقيل: لما وقع الطاعون قال عمرو بن العاص: إنه رجز فتفرقوا عنه، فبلغ شرحبيل بن حسنة فقال: صحبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعمرو أضل من بعير أهله، إنه دعوة نبيكم ورحمة من ربكم وموت الصالحين قبلكم، فاجتمعوا له ولا تتفرقوا عنه, فبلغ ذلك عمرو، فقال: صدق. وروي أن عمرو بن العاص قال: تفرقوا عن هذا الرجز في الشعاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 والأودية ورءوس الجبال، قال معاذ بن جبل: بل هو شهادة ورحمة ودعوة نبيكم, اللهم أعط معاذا وأهله نصيبه من رحمتك, فطعن فمات. وقال أبو قلابة: قد عرفت الشهادة والرحمة، وبها عرفت ما دعوة نبيكم، فسألت عنها فقيل: دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يجعل فناء أمته بالطعن والطاعون حين دعا أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعها فدعا بهذا. قال أهل العلم: إنما يكون شهادة لمن صبر عليه محتسبًا عالمًا بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه, وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فأما من فر منه فأصابه فليس بشهيد. أخرج من قول المدائني إلى هنا القلعي. ذكر وصيته -رضي الله عنه: عن سعيد بن المسيب قال: لما طعن أبو عبيدة بالأردن دعا من حضره من المسلمين وقال: إني موصيكم بوصية إن قبلتموها لن تزالوا بخير: أقيموا الصلاة، وصوموا شهر رمضان، وتصدقوا, وحجوا واعتمروا, وتواصوا، وأنصحوا لأمرائكم ولا تغشوهم، ولا تلهكم الدنيا فإن امرأ لو عمر ألف حول ما كان له بد من أن يصير إلى مصرعي هذا الذي ترون. إن الله تعالى كتب الموت على بني آدم فهم ميتون، فأكيسهم أطوعهم لربه وأعملهم ليوم معاده، والسلام عليكم ورحمة الله، يا معاذ بن جبل صل بالناس. ومات رحمه الله فقام معاذ في الناس، فقال: يا أيها الناس, توبوا إلى الله من ذنوبكم، فأيما عبد يلقى الله تعالى تائبًا من ذنبه إلا كان على الله حقا أن يغفر له، من كان عليه دين فليقضه، فإن العبد مرتهن بدينه، ومن أصبح منكم مهاجرًا أخاه فليلقه فليصالحه، ولا ينبغي لمسلم أن يهجر أخاه أكثر من ثلاثة أيام، أيها المسلمون قد فجعتم برجل ما أزعم أني رأيت عبدًا أبر صدرًا ولا أبعد من الغائلة ولا أشد حبا للعامة ولا أنصح منه، فترحموا عليه واحضروا الصلاة عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 الفصل العاشر: في ذكر ولده وكان له من الولد "يزيد" و"عمير" أمهما هند بنت جابر, ودرجا ولم يبق له عقب، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 الفهارس فهرس الجزء الثالث من الكتاب ... فهرس الجزء الثالث من الكتاب: 5 الباب الثالث من كتاب الرياض النضرة في مناقب أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- 5 الفصل الأول: في نسبة 5 الفصل الثاني: في اسمه وكنيته 6 الفصل الثالث: في صفته 7 الفصل الرابع: في إسلامه 9 الفصل الخامس: في هجرته 10 الفصل السادس: في خصائه 10 ذكر اختصاصه ... بعظيم الشرف. وشرف المنقبة بتزوج ابنتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم 12 ذكر اختصاص. بأنه من أشبه اصحابه خلقًا بالنبي -صلى الله عليه وسلم 12 ذكر اختاصه ... بكثيرة الحياء، وبأنه أصدق لأمة حياة 13 ذكر اختصاصه.. باستحياء الملائكة منه 14 ذكر اختصاصه بالتوصية إليه ألا يخلع قميصًا ألبسه الله أياه 15 ذكر اختصاصه: بتمنيه -صلى الله عليه وسلم- محادثته رضي الله عنه في بعض الأحوال 15 ذكر اختصاصه بقوله -صلى الله عليه وسلم- ادعوا إلى أخي 15 ذكر اختصاصه بمساررة النبي -صلى الله عليه وسلم- له في مرضه، والعهد إليه في أمر بينه وبينه 16 ذكر اختصاصه بتجهيز جيش العشرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 18 ذكر اختصاصه بتسبيل بئر رومة 19 ذكر اختصاصه بإجابة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى توسيع مسجده -صلى الله عليه وسلم 21 ذكر اختصاصه بتشييد مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقصيصه 21 ذكر اختصاصه بإجابة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى توسيع مسجد الكعبة 23 ذكر اختصاصه بإقامة يد النبي -صلى الله عليه وسلم- الكريمة -مقام يد عثمان: لما بايع الصحابة عثمان- غائب 23 ذكر اختصاصه بتبليغ رسالة رسول الله -صلى الله عليه وسلم إلى من بمكة: أسيرًا من المسلمين 24 ذكر شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- لعثمان بموافقته: في ترك الطواف لما أرسله في تلك الرسالة 24 ذكر اختصاصه بسهم رجل ممن شهد بدرًا، وأجره -ولم يحضره 25 ذكر اختصاصه بكتابه الوحي حال الوحي 25 26 ذكر اختصاصه بكتابة سر رسول الله -صلى الله عليه وسلم 26 ذكر اختصاصه بمرافقة رسول الله في الجنة 27 ذكر اختصاصه: بكونه أوصل الصحابة للرحم 27 ذكر اختصاصه بدعاء من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يدع به لأحد قبله ولا بعده 28 ذكر اختصاصه بترك الصلاة على مبغضه 30 30 ذكر اختصاصه بصلاة الملائكة عليه يوم يموت 31 ذكر اختصاصه باعتناق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض الأحوال، وقوله له: أنت وليي: في الدنيا والآخرة 31 ذكر اختصاصه بأنه لا يحاسب أو يحاسب سرا 32 ذكر اختصاصه بصبره نفسه على القتل وجمعه القرآن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 33 ذكر اختصاصه بخلال عشر اختبارها عند الله عز وجل 33 ذكر اختصاصه بآي من القر آن نزلت فيه 34 الفصل السابع: في افضليته بعد عمر -رضي الله عنما- 35 الفصل الثامن في شهادة النبي: بالجنة 36 ذكر وصف حورية عثمان في الجنة 36 ذكر فعله أشياء موجبة لجنة طمعًا فيها 36 الفصل التاسع: ذكر نبذ من فضائله 37 ذكر شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه على الحق 37 ذكر أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- باتباعه عند ثوران الفتنة 37 ذكر وصفه بالأمين والحث على الكون معه 38 ذكر أنه له شأنا في أهل السماء 38 ذكر استجابته لله ولرسوله في فضائل أخر 39 ذكر تبشيره -صلى الله عليه وسلم- عثمان بثبوت الإيمان 40 ذكر إشادته -صلى الله عليه وسلم- الشفاعة يوم القيامة 40 ذكر تشبيهه -صلى الله عليه وسلم- عثمان بإبراهيم عليه السلام 40 ذكر فراسته -رضي الله عنه 41 ذكر كراماته -رضي الله عنه 41 ذكر متابعته للسنة 42 ذكر تعبده 43 ذكر كثرة إعتاقه 43 ذكر صدقاته 44 ذكر زهده 45 ذكر خوفه 46 ذكر تواضعه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 46 ذكر شفقته على رعيته 46 ذكر حسن صبته لأهله وخدمه 47 ذكر كثرة الخير فلي زمن ولايته 47 ذكر ما جاء في الحث على حبه والتحذير من بغضه 48 ذكر ثناء علي -رضي الله عنه- على عثمان: رضي الله عنه 50 ذكر رؤية الحسن حق عثمان 50 ذكر ما كان بين أولاد علي وعثمان من الصلة بالمصاهرة كما كان بينه وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم 50 ذكر ثناء ابن عمر على عثمان 51 ذكر ثناء البراء على عثمان 51 ذكر ثناء خارجة بن زيد عليه بعد موته 51 الفصل العاشر في خلافته وما يتعلق بها ذكر ما تضمن الدلالة على خلافته بعد عمر 52 ذكر بيعته 53 ذكر حديث الشورى 56 ذكر اختيار كل واحد من أهل الشورى عثمان -رضي الله عنهم الفصل الحادي عشر في مقتله وما يتعلق به: 57 ذكر شهادة النبي له -صلى الله عليه وسلم- بأنه يقتل مظلومًا 57 ذكر ما رويى عن الصحابة أنه مظلوما ذكر ما روي عن الصحابة أنه مظلوم 58 عثمان وأخباره بما ترتب على ذلك 58 ذكر استشعار ابن عمر منهم قتل عثمان 58 ذكر دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالصبر وصبره على عهده -صلى الله عليه وسلم 59 ذكر إخباره -صلى الله عليه وسلم أنه يرد على الحوض وأوداجه تشخب دما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 59 ذكر قدوم أهل مصر وغيرهم ممن تمالأ على قتله 63 طيرف آخر في مقتله، وفيه بيان الأسباب التي نقمت عليه على سبيل الإجمال 66 ذكرنا ما قال لهم حينبلغه تتعدهم له بالقتل 67 ذكر طلبنهم منه أن يخلع نفسه فأبى 67 ذكر رؤيا النبي -صلى الله عليه وسلم- وسقيه إياه بالماء، وتخييره إياه بين النصر والفطر عنده، فاختار الفطر عنده، واستعد لذلك بالصوم وبالعتق وغير ذلك 68 ذكر عرض على -رضي الله عنه، وغيره- على عثمان قتال من قصده ودفعهم عنه 70 ذكر خير عن علي -رضي الله عنه يوهم ظاهره- أنه مضاد لم تقدم عنه 71 ذكر من كان معه في الدار ومن دفع عنه 71 ذكر زجر عبد الله بن سلام عن قتله، وإخبارهم بما يترتب علي ذلك 72 ذكر من قتله 72 ذكر ما روى عنه من القول حين ضرب 73 ذكر تاريخ مقتله 73 ذكر دفنه واين دفن 74 ذكر شهود الملائكة عثمان 75 ذكر وصيته 75 ذكر مدة ولايته وقدر سنه 76 ذكر بكاء الجن عليه 76 ذكر محور ابن الزبير نفسه في الديوان لموت عثمان 76 ذكر رؤيا ابن عباس النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد قتل عثمان مخبرًا له بحاله 77 ذكر رؤيا الحسن بن علي حال عثمان بعد قتله، وأن الله يطلب بدمه 77 ذكر ما قال علي لما بلغه قتل عثمان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 78 ذكر تبري علي من دم عثمان وشهادته له بالإيمان 78 ذكر أولوية علي بعثمان 79 ذكر لعن قتله عثمان، دعائه عليهم 80 ذكر لعن الحسن بن علي، وغيره من الصحابة -قتلة عثمان 80 ذكر بكاء بعض أهل البيت عل عثمان 80 ذكر تبري حذيفة من عثمان 80 ذكر شهادته بأن قتلة عثمان في النار 80 ذكر أن أول الفتن قتل عثمان وأن من كان في قلبه حبة من حب قتل عثمان -تبع الدجال 81 ذكر عدهم النجاة من قتل عثمان عافية 81 ذكر استعظامهم قتله 81 ذكر استعظامهم جرأة قاتله 81 ذكر اقتتال قتلة عثمان 82 ذكر ما نقم على عثمان مفصلًا والاعتذار عنه بحسب الإمكان، وهذا الباب تهم مراجعته: لكثرة فوائده 103 الفصل الثاني عشر في ذكر ولده 103 ذكر الذكور من ولده 103 ذكر الإناث 103 الباب الرابع في مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وفيه اثنا عشر فصلا 104 الفصل الأول: في ذكر نسبه 107 الفصل الثاني: في اسمه وكنيته 109 الفصل الثالث في صفته الفصل الرابع: في إسلامه، -ذكر سنه يوم أسلم- الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 109 ذكر أنه أول من أسلم 111 ذكر أنه أول من صلى 113 الفصل الخامس في هجرته 113 الفصل السادس في خصائصه 114 ذكر أنه أول من يجشو للخصوبة يوم القيامة 114 ذكر أنه أول من يقرع باب الجنة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم 114 ذكر اختصاصه بأحبية الله تعالى له 115 ذكر اخصاصه بأحبيه النبي -صلى الله عليه وسلم 117 ذكر اختصاصه بأنه من النبي -صلى الله عليه وسلم- بمنزلة الرأس من الجسد 117 ذكر اختصاصه بأنه من النبي -صلى الله عليه وسلم- بمنزلة هارون من موسى 118 ذكر اختصاصه بأنه من النبي -صلى الله عليه وسلم- كمنزلة النبي -صلى الله عليه وسلم- من الله عز وجل 119 ذكر اختصاصه بأنه أقرب الناس في قرابة من النبي -صلى الله عليه وسلم 119 ذكر إخبار جبريل عن الله بأن عليا من النبي -صلى الله عليه وسلم- بمنزلة هارون من موسى 119 ذكر اختصاصه بأن له من الأجر ومن المغنم مثل ما للنبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك، ولم يحضرها 119 ذكر اختصاصه باعتبار النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه مثل نفسه 120 ذكر اختصاصه علي بأنه قسيم النبي -صلى الله عليه وسلم- في نور كان عليه قبل خلق الخلق 120 ذكر اختصاصه بصلاة الملائكة على النبي -صلى الله عليه وسلم وعليه لكونهما كان يصليان قبل اناس 121 ذكر اختصاصه بأنه والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقبض أرواحهما بمشيئة الله دون ملك الموت 121 ذكر اختصاصه بأن من آذاه -فقد آذى النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن أبغضه فقد ابعضه -صلى الله عليه وسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 124 ذكر اختصاصه بإخاء النبي -صلى الله عليه وسلم 126 ذكر اختصاصه بأن الله جعل ذرية نبيه في صلبه 130 ذكر حق علي على المسلمين 131 ذكر اختصاصه بأن جبريل منه 131 ذكر اختصاصه بتأييد الله نبيه -صلى الله عليه وسلم 131 ذكر اختصاصه بالتبليغ عن النبي -صلى الله عليه وسلم 136 ذكر اختصاصه بإقامة النبي -صلى الله عليه وسلم إياه مقامه في تحريقية بدنه، وإشراكطه إياه في هديه -صلى الله عليه وسلم 136 ذكر اختصاصه بأنه لا يجوز أحد الصراط إلا ن كتب له على الجواز 137 ذكر اختصاصه بمغفرة الله يوم عرفة 137 ذكر اختصاصه بسيادة العرب وحث الأنصار على حبه 137 ذكر اختصاصه بسيادة العرب وحث الأنصار على حبه 137 ذكر اختاصه بسيادة المسلمين وولاية المتقين، وقيادة الغر المحجلين 138 ذكر سيادته في الدنيا والآخرة 138 ذكر اختصاصه بالولاية والإرث 140 ذكر اختصاصه بغسل النبي -صلى الله عليه وسلم- لما توفي 140 ذكر اختصاصه بالرخصة في تسمية ولده باسم النبي -صلى الله عليه وسلم- وتكنيته بكنيته 140 ذكر اختصاصه برد الشمس عليه 141 ذكر اختصاصه بإدخال النبي -صلى الله عليه وسلم- إياه معه في ثوبه يوم توفي، واحتضاه إياه إلى أن قبض 141 ذكر اختصاصه بأقربية العهد به يوم مات 142 ذكر اختصاصه بتزويج فاطمة عليهما السلام 146 ذكر أن الله زوج فاطمة عليا بمشهد من الملائكة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 147 ذكر اختصاصه بإعطائه الراية يوم خيبر وبفتحها 152 ذكر اختصاصه بأنه وزوجته وابنيه أهل البيت 153 ذكر أن بيوته -أوسط بيوت رسول الله -صلى الله عليه وسلم 154 ذكر اختصاصه وزوجه وبنيه بأنه -صلى الله عليه وسلم- حرب لمن حاربهم سلم لمن سالمهم 154 ذكر اختصاصه بانتفاء الرم عن عينه أبدا بسبب تفل ز -صلى الله عليه وسلم- فيهما 154 ذكر اختصاصه بلبس لباس الشتاء في الصيف، ولبس لباس الصيف في الشتاء: لعدم وجدان الحر والبرد 155ذكر اختصاصه بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعطيه الراية، فلا ينصرف حتى يفتح عليه 155 ذكر اختصاصه بتنويه الملك باسمه يوم بدر 156 ذكر اختصاصه بحملة راية النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر، وفي المشاهد كلها 156 ذكر اختصاصه بكتابة كتاب الصلح يوم الحديبية 156 ذكر اختصاصه يوم الحديبية بتهديد قريش بعثه عليهم 157 ذكر اختصاصه بالقتال على تأويل القرآن كما قالت النبي -صلى الله عليه وسلم- على تنزيه 158 ذكر اختصاصه بسد الأبواب الشارعة في المسجد إلا بابه 159 ذكر اختصاصه بالمرور في المسجد جنبا 159 ذكر اختصاصه بأنه حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته 159 ذكر اختصاصه بأنه دار الحكمة 159 ذكر اختصاصه بأنه دار العلم وباب مدينة العلم 159 ذكر اختصاصه بأنه أعلم الناس بالسنة 160 ذكر اختصاصه بأنه أكثر الأمةى علمًا، وأعظمهم حلمًا 162 ذكر اختصاصه بإحالة جمع من الصحابة: عند سؤاله عليه 166 ذكر اختصاه بأنه لم يكن أحد أصحاب - النبي صلى الله عليه وسلم- يقول سلوني غيره 167 ذكر اختصاصه بأنه أقضى الأمة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 168 ذكر بعض أقضيته 170 ذكر اختصاصه بالعمل بآية في كتاب الله عز وجل 170 ذكر اختصاصه بنجوى النبي -صلى الله عليه وسلم- الطائف 170 ذكر اختصاصه بالرقى على منكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض الأحوال 171 ذكر اختصاصه بحمل لواء الحمد يوم القيامة، والوقوف في ظل العرش بين إبراهيم والنبي -صلى الله عليه وسلم وأنه يكسى إذا كسى النبي -صلى الله عليه وسلم 172 ذكر اختصاصه بثلاث بسبب النبي -صلى الله عليه وسلم، ولم يؤت النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلهن 173 ذكر اختصاصه بأربعة ليت لأحد غيره 173 ذكر اختصاصه بخمس أعطيها النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه: كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها 174 ذكر اختصاصه بعشر 176 ذكر قصة لبس على ثوب النبي -صلى الله عليه وسلم- ونومه ومكانة على ما ذكره ابن عباس.. الخ 178 ذكر اختصاصة بما نزل فيه من الآي 180 الفصل السابع في أفضليته 182 الفصل الثامن في شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالجنة 183 ذكر ماله في الجنة 185 ذكر أنه يزوج بأهل الجنة 185 ذكر قصره وقبته في الجنة 186 ذكر ناقته يوم القيامة 186 الفصل التاسع في ذكر نبذ من فضائله 188 ذكر محبة الله عز وجل له الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 189 ذكر فضائل منزلته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- 189 ذكر أنه ما اكتسب مثل فضله 189 ذكر الحث على محبته والرحز عن بغضه 192 ذكر شفقته -صلى الله عليه وسلم- عليا ليلًا: يأمره بصلاة الليل 193 ذكر كسوة النبي -صلى الله عليه وسلم- عليا ثوب حرير 194 ذكر تعميمه إياه -صلى الله عليه وسلم- بيده 194 ذكر الزجر عن الغلو فيه 194 ذكر إحراق علي قومًا اتخذوه إلها دون الله عز وجل 195 ذكر شبهه بخمسة من الأنبياء عليهم السلام: في مناقب لهم 196 ذكر رؤيته جبريل عند النبي -صلى الله عليه وسلم، وكلام جبريل لهما عليهما السلام 196 ذكر أن النظر إليه عبادة 198 ذكر اشتياق أهل السماء والأنبياء الذين في السماء إليه 198 ذكر انه من خير البشر 198 ذكر مباهاة الله عز وجل به حملة العرش 196 ذكر إخبار المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بأنه مغفور له 199 ذكر علمه وفقهه 201 ذكر كراماته 202 ذكر اتباعه للسنة 203 ذكر تفاؤل النبي -صلى الله عليه وسلم- بكلمة سمعها من علي وتيمن بها، وعمل عيها 204 ذكر شجاعته 205 ذكر شتدته في دين الله عز وجل 206 ذكر رسوخ قدمه في الإيمان 206 ذكر تعبده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 207 ذكر أذكاره. وأدعيته 207 ذكر صدقته 209 ذكر فكه رهان ميت بتحمل دين عنه 210 ذكر أنه كان من أكرم الناس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم 210 ذكر زهده 217 ذكر تواضعه 218 ذكر حيائه من النبي -صلى الله عليه وسلم 218 ذكر غيرته على النبي -صلى الله عليه وسلم 219 ذكر خوفه من الله عز وجل 219 ذكر ورعه 221 ذكر عدله في رعيته 222 ذكر تفقده أحوالهم 223 ذكر إسلام همدان على يديه 223 ذكر إثبات أفضليته بقتل الخوارج 228 الفصل العاشر في خلاقته: ذكر ما جاء في صحة خلافته والتنبيه عليها 229 ذكر بيعته ومن تخلف عنها 231 ذكر حاجبه ونقش خاتمه 231 ذكر ابتداء شخوصه من المدينة وأنه لم يقم فيما قام فيه إلا محتسبا لله تعالى 232 ذكر ما رواه أبو بكر في فضل علي وروي عنه 232 ذكر ما وراه عمر في علي، وروى عنه مختصرًا الفصل الحادي عشر: في مقتله وما يتعلق به: 233 ذكر إخباره عن نفسه أنه يقتل 234 ذكر رؤياه في نومه ليلة قتله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 237 ذكر تاريخ مقتله 237 ذكر ما ظهر من الآية في بيت المقدس لموت علي 237 ذكر وصف قاتله بأشقى الآخري 238 ذكر وصيته 239 ذكر سنه يوم مات ومدة خلافته 239 الفصل الثاني عشر في ذكر ولده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 فهرس الجزء الرابع من الكتاب : 245 الباب الخامس في مناقب أبي محمد طلحة بن عبد الله رضي الله عنه وارضاه 245 الفصل الأول: في ذكر نسبه 245 الفصل الثاني: في اسمه وكنيه 249 الفص الثالث: في صفة طلحة 250 الفصل الرابع في إسلامه 251 الفصل الخامس في ذكر هجرته 251 الفصل السادس في خصائصه 252 ذكر اختصاصه برفع النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد حتى استوى قائمًا 252 ذكر اختصاصه بحمل النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم احد والقتال دون 252 ذكر اختاصه بيوم أحد ذكر اختصاصه بمسح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جسده 254 بيده الكريم يوم أحد فقام صحيحًا 254 ذكر اختصاصه بالمبادرة إلى تسوية رحل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين دعا إلى ذلك 255 الفصل السابع في شهادة النبي -صلى الله له بالجنة 255 الفصل الثامن في ذكر نبذ من فضائله 256 ذكر إثبات سهمه من غنيمة بدر وأجره ولم يحضر 258 ذكر شهادته -صلى الله عليه وسلم- بالمفغرة له وإثبات اسمه في ديون المقربين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 258 ذكر أنه في حفظ الله عز وجل وفي نظره 259 ذكر أنه سلف النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والآخرة 259 ذكر أنه حواري النبي -صلى الله عليه وسلم 260 ذكر إثبات الرجاء بأنه ممن قال الله تعالى فيهم: {ونزعنا ما في صدورهم من غل} 261 ذكر جوده وسماحة نفسه وكثرة عطائة وصلة رحمه 263 ذكر أنه كان من خطباء الصحابة 263 ذكر ثناء ابن العباس عليه وعلى الزبير 264 الفصل التاسع في مقتله وما يتعلق بذلك 266 ذكر تاريخ مقتل طلحة 266 ذكر سنه يوم قتل 267 الفصل العاشر في ذكره ولده الفصل العاشر في ذكر و271 الباب السادس: ف ي مناقب الزبير بن العوام 271 الفصل الأول في نسبه 272 الفصل الثاني في اسمه 272 الفصل الثالث في صفته 272 الفصل الرابع في إسلامه وسنه يوم أسلم 273 الفصل الخامس في هجته 274 الفصل السادس في خصائصه 275 ذكر اختصاصه بأنه حواري النبي -صلى الله عليه وسلم ذكر اختصاصه بنزول الملائكة يوم بدر 276 عليها عمائم على لون الزبير 276 ذكر اختصاصه بالقتال بعنزة رسول الله -صلى الله عليه وسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 277 ذكر اختصاصه بجمع النبي -صلى الله عليه وسلم- له أبويه يفيده بهما يوم الأحزاب 278 ذكر اختصاصه بالقتال مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن اثنتي عشرة سنة 278 ذكر اختصاصه بمرافقة النبي -صلى الله عليه وسلم-إلى وفد الجن 279 ذكر اختصاصه بكسوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في طريق الهجرة 279 ذكر اختصاصه بنزول القرآن بسببه 280 الفصل السابع في شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له الجنة 280 الفصل الثامن في ذكر نبذ من فضائله 281 ذكر شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالشهادة 282 ذكر شهادة عمر -رضي الله عنه- أنه ركن من أركان الإم 282 ذكر شهادة عثمان بأنه خيرهم، وأحبهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- 283 ذكر ما جاء عن سعد بن مالك وسعيد بن المسيب في الحث على محبته والزجر عن بغضه 283 ذكر إبلائه يوم اليرموك 283 ذكر أنه من الذين استجابوا لله والرسول 284 ذكر ما كان في جسده: من الجراح 284 ذكر ذبه عن وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو نائم وما ترتب على ذلك 284 ذكر قوله: صلى الله عليه وسلم- لابن الزبير: يا ابن أخي 285 ذكر ورعه 285 ذكر صلته وصدقته 286 ذكر أنه كان من أكرم الناس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم 286 ذكر سماحته في بيعه 286 ذكر إثبات رخصة عامة المسلمين بسببه 287 ذكر من أوصى إلى الزبير من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم 287 الفصل التاسع في مقتله وما يتعلق به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 289 ذكر تاريخ مقتله وسنه يوم قتل 289 ذكر ما قاله علي عليه السلام لقاتل الزبير 289 ذكر وصية الزبير لولده عبد الله يوم الجمل 291 الفصل العاشر في ذكر ولده 294 ذكر مقتله 294 الباب السابع في مناقب أبي محمد بن عبد الرحمن بن عوف 301 الفصل الأول في نسبه 301 الفصل الثاني في اسمه 302 الفصل الثالث في صفته 302 الفصل الرابع في إسلامه 303 الفصل الخامس في هجرته 303 الفصل السادس في خصائصه 303 ذكر اختصاصه بصلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- خلفه في بعض الأحوال 304 ذكر اختصاصه بالأمانة على نساء النبي -صلى الله عليه وسلم 304 ذكر إثبات أمانته في السماء والأرض 304 ذكر اختصاصه بأنه وكيل الله في الأرض 304 ذكر اختصاصه وعثمان بآي نزلت فيهما 305 الفصل السابع في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة 305 ذكر تسليم الله عز وجل عليه وتبشيره بالجنة 305 الفصل الثامن في ذكر نبذ من فضائله 306 ذكر دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- له 307 ذكر ثقة النبي -صلى الله عليه وسلم- بإيمانه 307 ذكر أنه ولي النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والآخرة 307 ذكر أنه ممن سبقت له السعادة وهو في بطن أمه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 307 ذكر إ ثبات الشهادة له 308 ذكر تزكية عثمان له 308 ذكر علمه 308 ذكر رجوع عمر إلى رأيه 309 ذكر إثبات رخصه للمسلمين بسببه 309 ذكر خوفه من الله عز وجل 309 ذكر توا ضعه 310 ذكر تعففه واستغنائه حتى أغناه الله عز وجل 311 ذكر صلته أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم 311 ذكر صلة رحمه 311 ذكر صدقته وبره أهل المدينة 313 ذكر تبرره بالعتق 313 ذكر أمر جبريل له بإضافة الضيف وإطعام المسكين حتى أراد الخروج عن جميع ماله 313 ذكر ما فضل به عبد الرحمن وغيره من السابقين على غيرهم ممن شاركهم في اعمالهم أو زاد عليهم 314 ذكر شهادة عمر بن الخطاب بصلاحيته للخلافة لولا ضعف فيه 314 الفصل التاسع في ذكر وفاته وما يتعلق بها 315 ذكر ما روي عنه عند الموت 315 ذكر ما خلفه 316 الفصل العاشر في ولده 316 الباب الثامن في ولده 319 الباب الثامن في مناقب سعد بن مالك 319 الفصل الأول في نسبه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 319 الفصل الثاني في اسمه 320 الفصل الثالث في صفته 320 الرابع في إسلامه 322 الفصل الخامس في هجرته 322 الفصل السادس في خصائصه 322 ذكر اختصاصه بدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يستجاب دعاؤه، فكان ذا دعوة مجابة 324 ذكر اختصاصه بدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بتسديد السلهم 324 ذكر اختصاصه بجمع النبي -صلى الله عليه وسلم- أبويه له يوم أحد 325 ذكر اختصاصه بموافقته تمنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلًا صالحًا يحرسه عند قدومه للمدينة ووقد أرق ليلة 326 ذكر اختصاصه برؤية جبريل وميكائيل عن يمين النبي -صلى الله عليه وسلم- ويساره يوم احد 326 ذكر اختصاصه بقوله -صلى الله عليه وسلم- هذا خالي، قليرني المرء خاله 326 ذكر اختصاص عمر إياه من بين أهل الشروى بالأمر بالاستعانة إن لم يصبه الأمر 326 ذكر اختصاصه بآيات نزلت فيه 328 الفصل السابع في شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالجنة 329 الفصل الثامن في ذكر نبذ من قضائله 330 ذكر دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالشفاس من مرضه، فشفي 330 ذكر إثبات الشهادة له 330 ذكر أنه ناصر الدين 331 ذكر اتباعه للسنة 331 ذكر شجاعته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 331 ذكر صبره مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع ضيق العيش 331 ذكر شدته في دين الله 332 ذكر زهده 332 ذكر تواضعه وعدله وشفقته على رعيته وحياته 332 ذكر صدقة 333 ذكر حرصه على البر والصدقة 333 الفصل التاسع في ذكر وفاته وما يتعلق بها 334 الفصل العاشر في ذكر ولده 337 الباب التاسع: في مناقب أبي الأعور: سعيد بن زيد 337 الفصل الأول في نسبه 339 الفصل الثاني في اسمه 339 الفصل الثالث في صفته 339 الفصل الرابع في إسلامه 340 الفصل الخامس في هجرته 341 الفصل السادس في خصائصه 341 الفصل السابع في شهادة النبي 342 ذكر أنه ذو دعوة مجابة 342 ذكر زهده 344 الفصل التاسع في وفته وما يتعلق بها 344 الفصل اعاشر في ذكر ولده 344 الباب العاشر في مناقب أبي عبيدة بن الجراح 345 الفصل الأول في نسبه 345 الفصل الثاني في اسمه 345 الفصل الثالث في صفته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 346 الفصل الرابع في إسلامه 346 الفصل الخامس في هجرته 346 الفصل السادس في خصائصه 346 الفصل السادس في ذكر اختصاصه بأنه أمين هذه الأمة 348 ذكر اختصاصه بالإمرة في بعض الأحيان 349 ذكر اختصاص عمر إياه بالخلافة إن مات وهو حي 350 ذكر اختصاص أبي بكر إياه بالكون معه 350 الفصل السابع في شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالجنة 350 الفصل الثامن في ذكر نبذ من فضائله 351 ذكر أحبيه النبي -صلى الله عليه وسلم- له 351 ذكر ثناء أبي بكر وعمر وغيرهما عليه 352 ذكر كراهية عمر خلاف أبي عبيدة 352 ذكر زهده 353 ذكر خوفه من الله عز وجل 354 ذكر تواضعه وإنصافه لرعيته ومساوته لهم 357 ذكر اهتمامه حيت استنهضه عمر عام القحط 357 الفصل التاسع في ذكر وفاته وما يتعلق بها 358 ذكر وصيته: رضي الله عنه 359 الفصل العاشر في ذكر ولده كلمة ختامية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382