الكتاب: مدخل في علوم القراءات المؤلف: السيد رزق الطويل (المتوفى: 1419هـ) الناشر: المكتبة الفيصلية الطبعة: الأولى 1405هـ - 1985م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- مدخل في علوم القراءات السيد رزق الطويل الكتاب: مدخل في علوم القراءات المؤلف: السيد رزق الطويل (المتوفى: 1419هـ) الناشر: المكتبة الفيصلية الطبعة: الأولى 1405هـ - 1985م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمات : مقدمةالمؤلف: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه ورسله، تلقى القرآن من لدن حكيم خبير فهدى الناس إليه، وأقام فيهم حكمه وشريعته. وبعد: فإن العلوم تشرف بشرف موضوعاتها، وتتفاضل بمدى فضل بحوثها، ومسائلها. وعلوم القراءات، موضوعها كتاب الله، وبحوثها حول أسانيده، وطرق أدائه، ووجوه قراءته، ونظام رسمه، والاحتجاج له، ولأجل هذا فهي بين العلوم في الذروة والسنام، ولا عجب فكل العلوم اللسانية ما كانت إلا من أجله وفي سبيل الحفاظ عليه، والعلوم الإسلامية ما وجدت إلا على أساسه، تنهل من نبعه وتستمد من صافي معينه. ولقد شرفتني كلية اللغة العربية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة بأن أسندت إلي تدريس بعض مناهج القراءات في قسم اللغويات، فأتيحت لي الفرصة لكي أتوفر على هذه العلوم، وأعطيها جانبًا من وقتي، هي له أهل، وبه أجدر فإذا بها تكاد تأخذ علي وقتي، ووجدت بيني وبينها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 أسباب وثيقة لم أحسن بها إلا عندما اقتحمت ميادينها الواسعة، ومجالاتها الرحبة. هي تمنح الإنسان مزيدًا من العلم بالقرآن تاريخًا وتأصيلًا، والقرآن نبع العلوم جميعًا. وفيها قضايا لا بد أن يفقهها الداعية، ونحن والحمد لله على طريق الدعوة. والدارس للسان العربي لا بد أن تكون القراءات جزءًا أساسيًّا في درسه؛ إذ هي مصدر للنحو والتصريف ولغات القبائل، وصوتيات اللسان العربي، وهي تصف مستويات صوتية تحتاج إلى الدارس الحديث ليحولها إلى واقع محس. وكتب الاحتجاج للقراءات تثري الدراسة النحوية ثراء عظيمًا، ومن العجيب أن أعلام النحاة كانوا قراء، وأعلام القراءات لهم قدم راسخة في النحو، وما عليك إلا أن تتصفح كتب الطبقات وتقرأ فيتراجم هؤلاء وأولئك ليستبين لك بوضوح صدق هذه القضية. وفي القراء السبعة اثنان من أئمة الدرس النحوي: أبو عمرو بن العلاء، والكسائي. ورأيت -لهذا- أن أدلي بدلوي في الدلاء، وأقف في صف هؤلاء الأعلام، وإن كان في الساقة لكنه في تقديري شرف كبير أرجو ربي ألا يحرمني منه، وأن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه، فما أردت؛ إلا تيسير معارف القرآن لتكون في متناول الدارس الحديث من حيث العرض والتبويب، والعبارة السائغة التي تحتفظ مع يسرها بوقار الحقيقة العلمية. وفي حسابي أن يكون هذا العمل بمثابة مدخل لهذه العلوم، مع درس وتحقيق لبعض القضايا التي تتطلب الدرس والتحقيق بحيث يخرج القارئ بصورة صحيحة موجزة عن هذه العلوم وما كتب فيها، بحيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 يكتفي به المقتصد، وينطلق منه إلى آفاق البحث كل مجتهد. وقد جعلته في بابين يسبقهما تمهيد، وهذه المقدمة. الباب الأول: موضوعه: القراءات والقراء. وقد قدمته في أربعة فصول: الفصل الأول: مفاهيم أساسية تدور حول تعريف القراءات ونشأتها، ومكانتها، وأساس الاختلاف. الفصل الثاني: القراءات المقبولة والشاذة. الفصل الثالث: القراء من عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم مع التعريف بالقراء الأربعة عشر. الفصل الرابع: عن ترتيل القرآن وصور الترتيل وأركانه. والباب الثاني: بحوث في القراءات. وقد عرضته في ثلاثة فصول: الفصل الأول: الأحرف السبعة والقراءات السبع. الفصل الثاني: الأصول والفرش الفصل الثالث: رسم المصحف -نماذج له- شبه وردود. الفصل الرابع: صور من الاحتجاج للقراءات. أرجو أن أكون -بهذا- قد أوفيت على الغاية أو دانيت، فإن أصبت فالحمد لله وحده وإن كانت الأخرى فجل من لا يخطئ وحسبي سلامة القصد، واستقامة الهدف. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب؟ دكتور السيد رزق الطويل الأستاذ المشارك بقسم الدراسات العليا كلية اللغة العربية- جامعة أم القرى مكة المكرمة 26 من المحرم 1405 هـ 21/ 10/ 1984م الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 تمهيد : القرآن الكريم وقراءاته كلمة "القرآن": اختلف العلماء حول معنى لفظ "قرآن"، العلم على الكتاب الحكيم، بالرغم من أنه من الوضوح حتى يعطي السامع أيًّا كان حظه من الثقافة انطباعًا قريبًا من الصواب، لكن الواضح من الألفاظ تحار العقول في سبر غوره أكثر مما تعاني من فهم الخفي الغامض. وللقرآن الكريم أسماء كثيرة تفهم من آيات شتى تحدثت عنه، ومن هذه الأسماء: الفرقان- قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} 1. والكتاب -قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيه} 2. والذكر -قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 3.   1 الفرقان: 1. 2 البقرة: 2. 3 الحجر: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 والمثاني -قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} 1. والنور -قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} 2. وغير ذلك كثير: وفي تقديري أنها وأمثالها صفات كاشفة عن خصائص الكتاب، مبينة عن رسالته وأثره، شارحة لفضله، وعظم آيته في الإقناع وهداية النفوس حتى يرث الله الأرض ومن عليها. ومن هنا فالعلم الغالب، السائد، المشهور إطلاقه على الكتاب الحق هو القرآن، وهو الاسم الذي اختاره الله له وسماه به، وتحدث عنه على ضوئه، يبدو هذا من هذه الآيات: {ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ} 2، {وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا} 4، {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} 5، {وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} 6، {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ} 7، {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ} ، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ} 9. إذن لفظ "القرآن" له معناه ومغزاه فماذا قال العلماء في تخريج لفظه. القرآن في الأصل مصدر "قرأ" يقال: قرأ قراءة وقرآنًا،   1 سورة الزمر: 23. 2 المائدة: 15. 3 ص: 1. 4 المزمل: 4. 5 الحشر: 21. 6 الإسراء: 103 7 النمل: 92. 8 التوبة: 111. 9 البقرة: 185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} 1، أي قراءته، فهو إذن مصدر على وزن فعلان بضم الفاء، مثل غفران، ثم نقل من هذا المعنى المصدري، وجعل علمًا على الكتاب العزيز. ورأي آخر: يرى أنه وصف على وزن "فُعلان" بضم الفاء مشتق من "القرآن" بمعنى الجمع، يقال: قرأت الماء في الحوض، أي جمعته؛ ولأن القرآن يجمع السور والآيات سمي بهذا العلم. وهذا الرأي ينتهي إلى الرأي الأول؛ لأن المعنى اللغوي للقراءة هو الجمع أيضًا، كما ظهر في الآية الكريمة. وهذان الرأيان على أساس أن اللفظ مهموز، وهو الأكثر والأشهر وذهب بعض العلماء إلى أنه غير مهموز. فترى منهم من قال: إنه مشتق من: قرنت الشيء بالشيء إذا ضممت أحدهما إلى الآخر، وسور القرآن وآياته اقترن بعضها ببعض. وقال الفراء: هو مشتق من القرائن؛ لأن الآيات منه يصدق بعضها بعضًا، ويشبه بعضها بعضًا، وهي قرائن أي أشباه ونظائر. ومن ناحية الاشتقاق لا يختلف هذا الرأي عن سابقه. ويرى بعض العلماء أنه علم مرتجل فهو وضع من أول الأمر للكتاب العزيز، ولم يكن له استعمال سابق نقل منه إليه2. والذي نخلص إليه من مقالات العلماء حول اسم "القرآن" هو أن   1 سورة القيامة: 17، 18. 2 راجع: الصحاح للجوهري، والمعجم الوسيط ص 2 ص 722 طـ. القاهرة، والإتقان للسيوطي ج 1 ص 50 ط. الحلبي والمستدرك للحاكم ج 2 ص 230، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 29 ط القاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وراءه معنى عظيمًا وسمة واضحة من سمات الكتاب الحق، غابت عمن أوغلوا في التصور. واشتطوا في التخرج وذلك أن من خصائص هذا الكتاب أنه يقرأ، فقراءته عبادة يتقرب بها المسلم إلى الله، وقراءة آيات منه جزء من عبادة الصلاة، وتلاوته وتدبره منهج إسلامي للأفراد والجماعات على السواء، فهو قد تميز عن الكتب السابقة بأنه محفوظ الصدور، مثبت في السطور، تردده الألسن كل حين. يقول الدكتور محمد عبد الله دراز: "روعي في تسميته قرآنًا كونه متلوًا بالألسن، كما روعي في تسميته كتابًا كونه مدونًا بالأقلام، فكلتا التسميتين من تسمية شيء بالمعنى الواقع عليه، وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أن حقه العناية بحفظه في موضعين لا في موضع واحد. أعني أنه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعًا: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} 1، فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المجمع عليه من المنقول إلينا جيلًا بعد جيل، على الهيئة التي وضع عليها أول مرة، ولا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحافظ بالإسناد الصحيح المتواتر"2. هذا المغزى الكبير رواه اسم القراءات، والإيحاءات الصادقة له، وأما ما أشير إليه من معان أخرى من نحو جمع السور، وضم الآيات فهي في المتناول، ولا تدل على سمة مميزة. وبجاب هذه السمة المفهومة من لفظ القرآن وهو أنه كتاب من   1 ساق هذه الآية متمثلًا بها، ليشير إلى أن طريق الحفظ يساند الكتابة، والعكس صحيح أيضًا. 2 راجع كتاب النبأ العظيم ص 12، 13 دار العلم الكويت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 شأنه أن يقرأ ويتلى، حتى إن القرآن علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بثلاثة أشياء جاءت في آية النمل التي ذكرناها آنفًا وهي: أ- أن يعبد رب البلد الحرام 2- أن يكون من المسلمين 3- أن يتلو القرآن. وفي هذا بيان أي بيان. وثمت سمة أخرى: هو للإنس والجن جميعًَا؛ لأنه كتاب الرسالة الشاملة الخاتمة: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} ، {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ} . وأنه مصدق لما قبله من الكتب ومهيمن عليها. فهو ناسخ لكل حكم فيها يخالفه. وأنه الآية على الرسالة الخاتمة، ولذلك ضم كل عناصر البقاء، وما من يوم يمر إلا ويظهر جديد يشهد بقدره، وعلو شأنه، فلا تنتهي عجائبه. ومن هنا تكفل رب العالمين بحفظه؟ إذ قال عز من قائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1. وقد يسر الله تبارك وتعالى لهذا الكتاب من وسائل الحفظ وأسبابه، مما نذكر هنا بعضه دلالة على تحقق الوعد، واستمراره. 1 منها أنه: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} .   1 سورة الحجر: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 فالروح نزل به على قلب النبي محمد عليه الصلاة والسلام، فلم تكن هناك فرصة للنسيان؛ لأن النسيان أو السهو يعرض لمن يتلقى شيئًا في المرحلة الأولى من مراحل التلقي، فإذا وصل القلب وثبت فلا سبيل لنسيانه، وهذا أمر اختص الله به نبيه حفاظًا على الكتاب الخاتم. ولأجل هذا عندما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يردد العبارة القرآنية في أثناء التلقي قال له ربه: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ} كما قال له: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} . 2- عندما كانت تنزل الآيات من الكتاب العزيز، ويتلقاها الرسول عليه الصلاة والسلام يعلمها لأصحابه فيحفظونها ثم يتجهون للعمل بها، والعمل من أقوى العوامل للحفظ، ويأمر كتاب الوحي، وهم كثير، وعلى رأسهم زيد بن ثابت فيكتبونها على العظام والأحجار وسعف النخل وإمعانًا في المحافظة نهى النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الفترة عن تدوين شيء غير القرآن. وقال: لا تكتبوا عني، ومن كتب عني شيئًا غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج"1. 3- تلقى الرسول عليه الصلاة والسلام القرآن من عند ربه بكل صور الأداء التي تستبقي معانيه، وتحافظ على أهدافه ورسالته، وتيسر لكل القبائل على اختلاف لغاتها تلاوته، وروى الصحابة عن النبي هذه القراءات ورددوها، حتى إذا اختلفوا رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم واستمع منهم فيقول: "كذلك أنزلت". فهذه القراءات المروية بالتواتر سبب من أسباب الحفظ؛ إذ لو كان على حرف واحد وترك للألسنة المختلفة تعانيه قد يدفعها ذلك إلى التحريف والتغيير، فكانت القراءات المتواترة محققة للصيانة والحفظ   1 رواه البخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 4- بعد أن تولى أبو بكر خلافة المسلمين، واضطر إلى محاربة المرتدين ومانعي الزكاة، واستشهد في هذه المعارك جمهرة من حفاظ القرآن وقرائه الذين وعت صدورهم الكتاب العزيز أشار عمر رضي الله عنه على الصديق بجمع القرآن في مصحف واحد خشية أن يضيع شيء منه بموت القراء، فأبى عليه أبو بكر الذي اتخذ لنفسه منهج الاتباع للنبي الكريم، ورأى أول الأمر في ذلك العمل بدعة لم يعملها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما زال به عمر حتى استبان للصديق أن هذا العمل هو من صميم منهج الاتباع، لأنه يهدف إلى الحفاظ على دستور الأمة، وكتابها الحق، ولنترك زيد بن ثابت يكمل القصة وقد أرسل إليه أبو بكر، فقال له: إنك رجل، شاب، عاقل، لا نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن واجمعه، قال زيد: فوالله لنقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ من الذي أمرني به من جمع القرآن، أجمع من الرقاع واللخاف، والعسف، وصدور الرجال حتى وجدت سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} ، حتى خاتمة السورة، فكانت الصحف عند أبي بكر حياته، حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة ابنة عمر"1. ولا شك أن جهود الحفاظ والكتاب توافرت مع زيد الذي رأس هذا العمل حتى تم هذا الإنجاز العظيم على طريق الحفاظ على الكتاب العزيز. 5- الجمع الثاني وكتابه المصحف العثماني، المعروف بالمصحف الإمام، ونسخت منه عدة نسخ وزعت على الأمصار وأحرق   1 الفهرست لابن النديم ص 37 دار المعرفة بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 ما عداها لتنضبط عملية القراءة على نهج سوي تم بإجماع الصحابة، وبمشورة حذيفة بن اليمان على عثمان رضي الله عنه، كما سنفصل ذلك بعد. وكان هذا العمل أيضًا مرحلة أخرى للحفاظ على القرآن يسر الله له الصحابي الجليل عثمان وإخواته من قراء الصحابة وحاظهم، ونال شرف انتساب المصحف إليه. 6- وضع النحو في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمعرفة أبي الأسود الدؤلي، وكان هذا العمل يهدف إلى صيانة الكتاب العزيز وحفظه بالحفاظ على اللسان الذي نزل به. 7- اتجاه بعض النحاة القرء من تلامذة أبي الأسود إلى نقط المصحف لإزالة الإعجام بعد تفشي اللحن، واحتمال أن يستعصي فهمه على بعض هؤلاء الذين استعجموا، وهؤلاء التلاميذ نصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر، وعبد الرحمن بن هرمز، وعنبسة الفيل "نقطوا المصحف، وأخذ عنهم النقط، وحُفِظ، وضبط، وقيد، وعمل به، واتبع فيه سنتهم، واقتدى فيه بمذاهبهم"1. وقد ذكرت المراجع أن هذا الأمر تم بمشورة الحجاج ورأيه. فإذا وضعنا بجانب هذا صنيع أبي الأسود في وضع نقط الإعراب، وتخيره كاتبًا فطنًا يراقب حركة شفتيه، ويضبط كلمات المصحف على هذا النحو رفعًا ونصبًا وجرًّا وجزمًا2 تبين لنا أنهم بهذا العمل الخطير قد أحاطوا لفظ القرآن الكريم بسياج يمنع اللحن فيه، مما جعل بعض القدماء   1 المحكم في نقط المصاحف للداني ص6، والتصحيف والتحريف لأبي أحمد العسكري ص10. 2 راجع المحكم للداني في نقط المصاحف "طبع دمشق" ص 2 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 يظنون أنهم وضعوا قواعد الإعراب أو أطرافًا منها وهم إنما رسموا في دقة نقط الإعراب إلا قواعده، كما رسموا نقط الحروف المعجمة1. 8- وظلت الجهود في الحفاظ على القرآن الكريم قائمة على قدم وساق؛ ولأجل هذا الهدف الأسمى، وضع ما وضع من قواعد اللغة العربية نحوًا وصرفًا، وبلاغة، وفقه لغة، وتدوين شعر ونحو هذا، كما اتجه العلماء للتدوين في القراءات، وضبطها نظرًا لكثرتها وتعددها؛ إذ وضع أبو عبيد القاسم بن سلام المتوفى 224هـ كتاب القراءات، جمع فيه قراءة خمسة وعشرين قارئًا، ومما يدل على قيمة هذا العمل قول ابن الجزري: لما كانت المائة الثالثة واتسع الخرق، وقل الضبط، وكان علم الكتاب والسنة أوفر ما كان في هذا العصر تصدى بعض الأئمة لضبط ما رواه من القراءات2. وزاد الأمر دقة وتحديدًا هذا الصنيع العظيم الذي صنعه ابن مجاهد بعد ذلك عندما تخير السبعة القراء، الذين ارتضيت إمامتهم في الأمصار الإسلامية ومن بعده عرف اسم السبعة. يقول الدكتور شوقي ضيف: والحق أن ابن مجاهد -نضر الله وجهه- أدى للأمة عملًا باهرًا باختيار هؤلاء السبعة؟ إذ كانت قد أدت كثرة الروايات في القراءات إلى ضرب من الاضطراب عند طائفة من القراء غير المتقنين3. وكل جهد بذل ويبذل من أجل كتاب الله تعالى هو في حقيقته توفير للحفظ الذي وعد به رب العالمين، ووعده الحق.   1 راجع مقدمة المدارس النحوية. د. شوقي ضيف ص17. 2 النشر ج2 ص34 ط. القاهرة. 3 السبعة لابن مجاهد -المقدمة ص34 دار المعارف بمصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وهذا العمل الذي نعمله ما هو إلا لبنة متواضعة في طريق الغاية العظيمة. وبعد أن استبانت بعض المعارف الأساسية عن الكتاب العزيز، نستطيع بعدها أن ندخل إلى فصول الكتاب ومباحثه، راجين من الله التوفيق والسداد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الباب الأول: القراءات والقراء الفصل الأول: مفاهيم أساسية تعريف القراءات : القراءات: جمع قراءة، وهي مصدر قرأ، وهي الجمع والضم، يقال: ما قرأت الناقة جنينًا أي لم تضم رحمها على ولد، قال أبو عبيدة: سمي القرآن؛ لأنه يجمع السور، فيضمها، وقوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ} أي جمعه وقراءته1. والقارئ لكل مكتوب من شأنه أن يضم أصوات الحروف في ذهنه لتتكون الكلمات التي ينطق بها وفي اصطلاح القراء: القراءات وجوه مختلفة في الأداء من النواحي الصوتية، أو التصريفية، أو النحوية واختلاف القراءات على هذا النحو اختلاف تنوع وتغاير لا اختلاف تضاد وتناقص؛ لأن التناقص والتضارب يتنزه عنهما الكتاب العزيز، وقد قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} 2، ولأن التناقض في القول دليل بطلانه، وقد قال رب العالمين: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ   1 الصحاح للجوهري "مادة قرأ". 2 النساء: 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 حَمِيدٍ} 1، والتناقص لا يجتمع مع الإبانة والوضوح، وقد وصف الله كتابه فقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِين} 2. وهذا الاختلاف ينحصر في وجوه ثلاثة: أولها: اختلاف اللفظ والمعنى واحد. مثالها: كلمة "الصراط" تقرأ بالصاد والسين3، والإشمام، وكلمة "عليهم"4 بكسر الهاء وضمها. ثانيهما: اختلاف اللفظ والمعنى مع جواز اجتماعهما في شيء واحد. مثالها: "مالك5، ملك" في الفاتحة، فبرغم أن الملك يزيد عن المالك معنى السلطة إلا أن المراد بهما واحد وهو الله تعالى. ومثل قوله تعالى في سورة البقرة: {كَيْفَ نُنْشِزُهَا} ، "ننشرها"6 بالراء والزاي؛ لأن المراد بهما العظام؛ لأن الله تعالى أنشرها أي أحياها، وأنشزها؛ أي: رفع بعضها إلى بعض حتى التأمت، فيجتمع المعنيان في القراءتين أخيرًا في معنى واحد. ثالثها: اختلافهما في اللفظ والمعنى، وامتناع اجتماعهما في شيء واحد جوازًا، بل يتفقان من وجه آخر يساير المعنى العام وينتفي معه التضاد.   1 فصلت: 43. 2 الشعراء: 195. 3 قرأ بالسين قنبل عن ابن كثير -الكشف ج1 ص 34. 4 قرأ بضم الهاء حمزة ووافقه يعقوب -راجع الكشف ج 1 ص 35. 5 قرأ "ملك" بغير ألف جماعة من الصحابة وغيرهم، منهم أبو الدرداء، وابن عباس، وابن عمر، ومروان بن الحكم ومجاهد، المرجع السابق ص27. 6 قرأها الكوفيون وابن عامر بالزاي، وقرأها الباقون بالراء -الكشف ج1 ص31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 من ذلك قوله تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَم} 1، بالبناء للمعلوم ثم المجهول، وقرئ بعكس هذه القراءة المشهورة: "وهو يطعم ولا يطعم" بالبناء للمجهول، ثم المعلوم في قراءة شاذة. والوجه الذي تتفق فيه القراءتان هو أن الضمير في القراءة المشهورة يعود على الله، وفي القراءة الأخرى يعود على الولي: والمعنى العام للآية ينسجم مع القراءتين جميعًا2.   1 النشر ج1 ص112. 2 النشر ج1 من ص111 إلى ص113 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 أساس اختلاف القراءت ... أساس اختلاف القراءات: لا يقوم اختلاف القراءات على اجتهاد الأشخاص، ووجهات أنظارهم، أو على أساس قياس يراعي القوم قواعده، وإنما القراءة سنة متبعة، تقوم على سند متواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر العلماء للقراءة الصحيحة أركانًا ثلاثة: 1- صحة سندها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم1. 2- موافقتها لرسم المصحف. 3- موافقتها وجهًا من وجوه العربية. يقول ابن الجزري عن القراءة التي استوفت الأركان الثلاثة: لا يجوز ردها، ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووجب على الناس قبولها، سواء أكانت عن الأئمة السبعة، عن العشرة، أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين، ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة، أو باطلة، سواء أكانت عن السبعة أم عمن هو أكبر منهم هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف2.   1 ذكر مكي بدل هذا الشرط: اجتماع العامة، ثم قال: والعامة عندهم ما اتفق عليه أهل المدينة وأهل الكوفة، فذلك عندهم حجة قوية فوجب الاختيار، وربما جعلوا العامة ما اجتمع عليه أهل الحرمين، وربما جعلوا الاختيار على ما اتفق عليه نافع، وعاصم فقراءة هذين الإمامين أوثق القراءات، الإبانة ص89. 2 النشر ج 1 ص54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 القراءة والرواية، والطريق: يقال: قراءة فلان إذا نسبت لأحد القراء السبعة أو العشرة، أو غيرهم ممن تتوافر لقراءتهم شروط القبول التي ذكرناها كأن يقال: قراءة نافع، أو قراءة ابن كثير، أو قراءة حمزة وهكذا، أو ممن لا تتوافر فيهم الشروط كأصحاب القراءات الشواذ. وأما الرواية: فهي التي تنسب لأحد الرواة عن القارئ كأن يقال رواية حفص عن عاصم أو رواية قالون عن نافع، أو رواية البزي عن ابن كثير1 ولا تلزم في الرواية المعاصرة للقارئ والطريق. والطريق: يطلق على ما ينسب للآخذ عن الراوي ولو سفل2.   1 فقد يكون الإنسان راويًا لقارئ، وقد يكون هو صاحب قراءة عرف بها وتنسب إليه وله رواته أيضًا مثل خلف العاشر هو أحد رواة حمزة، وفي الوقت نفسه هو أحد القراء العشرة ومن رواته: إسحاق بن إبراهيم المروزي، وأبو الحسن إدريس بن عبد الكريم البغدادي. 2 إتحاف فضلاء البشر ص88 وغيث النفع ص14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 نشأة علم القراءات وبداية نزولها : كيف نشأ علم القراءات: منذ تلقى الرسول عليه الصلاة والسلام القرآن من لدن حكيم خبير كان يقرأ ما أنزل عليه لأصحابه والصحابة يلتزمون تلاوة الرسول عليه الصلاة والسلام وأداءه، وكانت تلاوته بحروف شتى، فمنهم من أخذ القرآن عنه بحرف واحد، ومنهم من أخذ عنه بحرفين، ومنهم من زاد على ذلك حتى تفرقوا بعد ذلك في الأمصار، وهم على هذا الحال، يقرءون القرآن بما سمعوه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحروفه المختلفة. وأدرك بعض الصحابة شيئًا من هذا الاختلاف، وسألوا فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان يجيز ما سمع من قراءات. من ذلك ما رواه البخاري في صحيحه من أن عمر بن الخطاب لبَّبَ هشام بن حكيم لما سمعه يقرأ سورة الفرقان على حروف لم يقرئها الرسول لعمر، فقاده إلى الرسول، فلما سمع من هشام قال: "كذلك أنزلت" ولما سمعها من عمر. قال: "كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه" 1. وكان تفرق الصحابة في الأمصار إبان الفتوح الإسلامية سببًا في كثرة الاختلاف في وجوه القراءات التي تعددت وكثرت حتى أحس الغُيُر من الصحابة أن هذا الاختلاف في حاجة إلى ضبط فرفعوا الأمر للخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فكتب مصاحفه التي وزعت على الأمصار، وأجمع الصحابة على عدم الاعتداد بما سواها، كما سنفصل ذلك بعد.   1 صحيح البخاري ج6 ص227 الطبعة الشعبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 انحصرت وجوه القراءات بعد هذا فيما تواتر موافقًا للرسم العثماني، إلا أنه ظهرت قراءات لم يتوافر لها السند القوي، واكتفى أصحابها بموافقة الرسم "فصار أهل البدع والأهواء يقرءون بما لا يحل تلاوته وفاقًا لبدعتهم"1 فكان لا بد من إجراء آخر تصدى له أهل الخبرة والدراية والبصر بهذا الفن، وهو اختيار أئمة ثقات من مختلف الأمصار تكون قراءتهم قدوة لمن سواهم، وكان رائد هذا الاتجاه ابن مجاهد في كتابه "السبعة". ثم جاء من أضاف ثلاثة قراء آخرين فصاروا عشرة، وأصبحوا هم الذين تنتهي إليهم القراءات الصحيحة التي توافرت لها شروط القبول. وارتضاها الإجماع2. متى بدأ نزول القراءات: بلا ريب نزل القرآن الكريم بحروفه المتعددة من عند رب العالمين. وحروف القرآن المتنوعة سببها التيسير على الأمة التي تختلف لغات قبائلها. وهذا الأمر لم يظهر إلا بعد هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ودخول القبائل المختلفة في رحاب الإسلام. فهل نزلت الحروف المختلفة في مكة أو المدينة؟   1 اتحاف فضلاء البشر في قراءات الأربعة عشر للدمياطي ص6. 2 وهذا لا يعني أن كل قراءة عدا العشرة غير صحيحة، بل هناك قراءة صحيحة السند، وخالفت رسم المصحف ولم يعتد بها، تنفيذًا لإجماع الصحابة على الالتزام بالرسم العثماني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 اتجه بعض الباحثين إلى أن القراءات نزلت بمكة مع بداية نزول القرآن الكريم؛ لأن معظم سور القرآن مكية، وفيها من القراءات ما في السور المدنية1. ويرى آخرون أنها نزلت بالمدينة؛ لأن سببها وهو التيسير لم تظهر الحاجة إليه إلا في المدينة حيث تعددت قبائل المسلمين. وقد يستشهد أصحاب هذا الرأي بما رواه مسلم في صحيحه، وابن جرير الطبري في تفسيره، عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان عند "أضاة بني غفار" فأتاه جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف، فقال: "أسأل الله معافاته ومغفرته وأن أمتي لا تطيق ذلك"، ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك على حرفين، فقال: "أسأل الله معافته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك"، ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك على ثلاثة أحرف قال: "أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك"، ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك على سبعة أحرف فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا2. فيبدو من هذا الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صرح له أن يقرأ بالحروف المختلفة في الفترة المدنية بعد أن دخل في الإسلام قبائل شتى ذات لغات مختلفة؛ ولأن الحديث ذكر "أضاة بني غفار" وهي ماء قريب من المدينة3.   1 في رحاب القرآن د. محمد سالم محيسن ج1 ص233 وما بعدها. 2 صحيح مسلم ج1 ص103 طـ عيسى الحلبي القاهرة. 3 التعريف بالقرآن والحديث الدكتور محمد الزفزاف ص38 طـ دار الكتب العلمية بيروت. وهذا الاستشهاد في تقديري غير دقيق؛ لأن أضاة بني غفار، كما جاء في معجم البلدان لياقوت: موضع على عشرة أميال من مكة، وهو غدير أو مسيل ماء، وإن كنت لا أشك في أن الواقعة حدثت بعد الهجرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 والخلاف في تقديري نظري؛ لأن القرآن الكريم المكي منه والمدني نزل بحروفه المختلفة التي يسرها الله للذكر، غير أن الحاجة لم تظهر لاستخدامها في مكة، وأصبحت ملحة بعد الهجرة والحديث الشريف ليس فيه ما يقطع بأن الحروف تنزل لأول مرة بل كل ما فيه هو الإذن باستخدامها؛ ولأن السور المكية فيها الحروف المختلفة التي في السور المدنية، بدليل أن أول خلاف نشأ بين الصحابة وهو خلاف عمر بن الخطاب، وهشام بن حكيم كان حول سورة الفرقان وهي مكية. التدوين في علم القراءات: على امتداد القرنين الأول والثاني تعددت القراءات وانتشر القراء في الأمصار الإسلامية، ثم أحكمت حركة القراءة والإقراء -كما بينا- في العالم على مرحلتين: أ- مرحلة نسخ المصاحف العثمانية. ب- ثم مرحلة التسبيع التي تعني اختيار أئمة مشهورين يرجع إليهم، وهي المرحلة التي قادها ابن مجاهد وأصبح الأمر بعد هذا مهيئًا للتدوين في هذا العلم. وأكبر الظن أن بداية التدوين في القراءات كانت مع القرن الثالث. ويتجه الباحثون إلى أن أول إمام يعتد به دون في هذا العلم هو الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام، المتوفى سنة 224هـ، حيث جمع فيه قراءة خمسة وعشرين قارئًا. قال ابن الجزري: لما كانت المائة الثالثة، واتسع الخرق، وقل الضبط، وكان علم الكتاب، والسنة أوفر ما كان في ذلك العصر. تصدى بعض الأئمة لضبط ما رواه من القراءة، فكان أول إمام معتبر جمع القراءات في كتاب واحد أبو عبيد القاسم بن سلام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وجعلهم فيما أحسب خمسة وعشرين قارئًا مع هؤلاء السبعة1. ويذهب حاجي خليفة في كشف الظنون إلى أن أول من نظم كتابًا في القراءات السبع هو: الحسين بن عثمان بن ثابت البغدادي الضرير، المتوفى سنة 378 هـ2. وما ذهب إليه صاحب كشف الظنون بعيد عما قرره المحققون من المؤرخين إلا إذا كان في حسابه أنه يعني أول من دون في القراءات نظمًا. ويرى بعض الباحثين المعاصرين أن أولية التدوين في القراءات ترجع إلى يحيى بن يعمر المتوفى سنة 90 هـ3. وفي هذا الاتجاه جانب كبير من المبالغة؛ وذلك لأمور. منها أن القرن الأول لم يكن عصر تأليف في أي فرع من فروع المعرفة، وإنما كان عصر رواية. وأنه إذا وجد في أحد المراجع أن يحيى بن يعمر كتب في القراءات فليس معنى هذا أنه دون مؤلفًا يعتد به4، وهذا لا يقدح في مكانته العلمية وإسهامه في خدمة القرآن الكريم. ونخلص من هذا إلى أن ابن سلام -كما قال صاحب النشر- أول   1 النشر ج1 ص34 ط القاهرة. 2 كشف الظنون ج2 ص1317. 3 ذهب إلى هذا الرأي الأستاذ فؤاد سزكين في "تاريخ التراث العربي". قسم القراءات ج1 ص9 والدكتور عبد الهادي الفضلي القراءات القرآنية -تاريخ وتعريف ص27. 4 ذكر ابن النديم في الفهرست من بين كتب القراءات: كتاب القراءات لأبي عمرو بن العلاء وهو أحد القراء السبعة ت154هـ والرأي فيه لا يتعدى ما ذكرته في أولية: يحيى بن يعمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 إمام معتبر جمع القراءات في كتاب. وقد بلغ عدد ما ألف في القراءات حتى تسبيع ابن مجاهد نحو أربعين مؤلفًا منهم من اقتصر على قراءة واحدة ومنهم من تناول أكثر ومن هذه المؤلفات: كتاب القراءات لخلف بن هشام البزار، وكتاب القراءات لابن سعدان، وكتاب القراءات لأبي حاتم السجستاني، وكتاب القراءات لثعلب، وكتاب القراءات لابن قتيبة1. ثم اتسعت حركة التأليف والتدوين في القراءات: فكتب ابن مجاهد كتابه السبعة، وله كتاب القراءات الكبير وكتاب القراءات2 الصغير، وكتب إسماعيل بن إسحاق المالكي المتوفى سنة 310 هـ كتابًا في القراءات سماه "الجامع" جمع فيه عددًا من القراءات3. وممن ألف في القراءات أحمد بن جبير المتوفى سنة 358 هـ ألف كتابًا ضمنه قراءة أئمة الأمصار الخمسة: مكة والمدينة، والبصرة، والكوفة والشام4. ومنهم الإمام محمد بن أحمد الداجوني المتوفى سنة 334 ألف كتابًا سماه "القراءات الثمانية". جمع فيه قراءات الأئمة السبعة، وأضاف إليهم قراءة أبي جعفر5.   1 راجع الفهرست ص53. 2 الفهرست ص53. 3 النشر ج1 ص34. 4 طبقات القراء ج1 ص42. 5 غاية النهاية ج2 ص77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وعلى هذا النحو تتابع التأليف في القراءات وتكاثر ما بين منظوم ومنثور، ومطول ومختصر. كما تنوعت اتجاهاته، فهناك مؤلفات في القراءات وأسانيدها، والأصول والفرش. وهناك مؤلفات في طبقات الفراء. وهناك مؤلفات في الاحتجاج للقراءات سأشير إليها في حديثي عن مكانة علم القراءات، والعلوم التي تندرج تحته. ومن أراد أن يتتبع مؤلفات القراءات منذ بدايتها حتى القرون الأخيرة فعليه بالمراجع التالية. الفهرست لابن النديم. وفيات الأعيان لابن خلكان. الوافي بالوفيات للصفدي. بغية الوعاة للسيوطي. معرفة القراء الكبار على الطبقات والأمصار -للإمام الذهبي- ت محمد سيد جاد الحق. غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري. من كتب القراءات المطبوعة: 1- الإبانة عن معاني القراءات. تأليف مكي بن أبي طالب القيسي ت سنة 437 ص دار المأمون للتراث دمش تحقيق د. محيي الدين رمضان وهناك طبعة أخرى دار نهضة مصر تحقيق د. عبد الفتاح شلبي. 2- الإقناع في القراءات لابن الباذش. نشر مركز البحث العلمي -جامعة أم القرى- مكة ت د. عبد المجيد قطامش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 3- إبراز المعاني من حرز الأماني شرح على الشاطبية تأليف عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي - الشهير "بأبو شامة" ت سنة 665هـ طبع القاهرة. 4- إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر تأليف أحمد بن محمد الدمياطي. طبع مكتبة المشهد الحسيني بالقاهرة. 5- تحبير التيسير في القراءات العشر من طريق الشاطبية والدرة -تأليف الإمام محمد بن محمد الجزري المتوفى سنة 832هـ طبع القاهرة. 6- التيسير في القراءات السبع -تأليف الإمام أبي عمرو الداني المتوفى 444هـ طبع استانبول سنة 1930م. 7- الحجة في القراءات السبع تأليف الحسين بن أحمد بن خالويه المتوفى سنة 370هـ طبع دمشق. 8- الحجة في علل القراءات السبع تأليف الحسن بن أحمد، الشهر بأبي علي الفارسي المتوفى سنة 377هـ -الهيئة القومية للكتاب- صدر منه جزءان. 9- حجة القراءات للإمام أبي زرعة ت سعيد الأفغاني الطبعة الأولى -جامعة بنغازي 1974. 10- سراج القارئ المبتدي وتذكرة القارئ المنتهي -شرح علي الشاطبية. تأليف أبي القاسم علي بن عثمان الشهير بابن القاصح المتوفى سنة 801- طبع القاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 11- طيبة النشر في القراءات العشر -نظم- تأليف الإمام ابن الجزري طبع القاهرة. 12- غيث النفع في القراءات السبع -تأليف الشيخ على النوري الصفاقسي "طبع بالقاهرة على هامش سراج القارئ". 13- كتاب السبعة لابن مجاهد 324هـ دار المعارف تحقيق شوقي ضيف. 14- الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها -تأليف الإمام مكي بن أبي طالب القيسي ت سنة 437هـ. ط دمشق تحقيق د. محيي رمضان. 15- كنز المعاني في شرح حرز الأماني تأليف الإمام محمد بن أحمد، الشهير بشعلة -المتوفى سنة 656هـ طبع القاهرة. 16- حرز الأماني ووجه التهاني نظم في القراءات السبع للإمام الشاطبي المتوفى سنة 548هـ طبع القاهرة. 17- المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات تأليف أبي الفتح ابن جني 392هـ نشر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية -القاهرة. 18- مختصر شواذ القراءات تأليف الإمام ابن خالويه طبع بالقاهرة. 19- النشر في القراءات العشر -تأليف الإمام ابن الجزري- القاهرة. 20- لطائف الإشارات لفنون القراءات للقسطلاني ت عبد الصبور شاهين، والشيخ عامر السيد عثمان طـ القاهرة. 21- غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري ط الحلبي بالقاهرة الطبعة الأولى 1352هـ. هذه طائفة من أشهر كتب التراث التي أخرجتها المطابع في ميدان القراءات وللباحثين المعاصرين بحوث ودراسات جيدة تتصل بالقراءات في ميادينها المختلفة وهي في متناول الباحث، وقد وعتها فهارس دور النشر، والمكتبات العامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 مكانة علم القراءات : هو من العلوم الجليلة القدر، العظيمة الشأن؛ لأنه يدور حول رواية الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والقرآن الكريم رأس العلوم والمعارف الإسلامية، والمصدر الأول للتشريع فهو دستور الأمة، ومنارها، كما أنه نورها وهداها. وقد أسلفنا الكلام حول الجهود التي بذلت، ويسرها رب العالمين من أجل الحفاظ عليه وصيانته من عبث العابثين وتحريف المنحرفين مصداقًا لقوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . ومن هنا فهذا العلم العظيم وعى عددًا من العلوم النافعة. أولها: علم القراء، وهو يتناول الترجمة لمن تصدوا للقراءة، وكانوا مرجعًا لغيرهم، وتتلمذ عليهم سواهم منذ عصر الصحابة حتى القرن العاشر الهجري. وهذا العلم يتوفر على دراسة أسانيد كل قراءة وتواترها، والرواة الذين نقلوا هذه القراءة عن القارئ الذي عرف بها ونسبت إليه. ثانيها: علم رسم المصحف: ويتناول الصورة الخطية التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ارتضاها عثمان رضي الله عنه، وكتب بها المصاحف التي وزعت على الأمصار الإسلامية، وكانت خالية من النقط والشكل، وأمر أهل كل مصر أن يقيموا مصحفهم على المصحف المبعوث إليهم1 فأصبحت قراءة كل قطر تابعة لرسم مصحفهم2. فكان هذا الرسم ضابطًا للقراءات جميعًا، كما عدت موافقته أساسًا من أسس قبولها، لا سيما وأن من كتبوا المصاحف لعثمان كانوا من خيرة الصحابة، وخيرة القراء الحفاظ. وأصبحت دراستنا لعلم رسم المصحف وسيلة من الوسائل المعينة على إدراك أبعاد هذا العلم العظيم. ثالثها: علم توجيه القراءات والاحتجاج لها: تفور على الاحتجاج النحوي والصرفي واللغوي للقراءات عدد كبير من العلماء. منذ أوائل القرن الرابع الهجري. على أنه في القرن الثاني والثالث استشهد النحويون بالقراءات خلال عرضهم للمسائل النحوية، ومن الجائز أن يكون هناك كتب ألفت في الاحتجاج للقراءات لكن لم تصل إلينا. أما أول من ألف في الاحتجاج فهو أبو بكر بن السراج، ذكر ابن النديم في الفهرست أنه له كتاب "احتجاج القراءة"3. كما ذكر أن القارئ النحوي أبا طاهر عبد الواحد البزار، له كتاب: الفصل بين أبي عمرو والكسائي4.   1 فضائل القرآن الكريم لابن كثير ص29. 2 غيث النفع للصفاقسي ص114. 3 راجع الفهرست ص49، وبغية الوعاة ج1 ص44، وذكر ابن النديم أن أبا محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه المتوفى سنة نيف وثلاثين وثلاثمائة ألف كتابًا في: الاحتجاج للقراء "راجع الفهرست ص53، ص 94. 4 الفهرست ص49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 غير أننا لا نقطع بأن هذا الكتاب في الاحتجاج، غير أننا نظن ظنًّا قويًّا أن الرجل في مقام الفصل والموازنة لا بد أن يكون النحو وسيلة من وسائله لا سيما وأنه قارئ ونحوي. ومنهم محمد بن الحسن الأنصاري "351هـ" ألف كتاب السبعة بعللها. ومنهم أبو بكر محمد بن الحسن بن مقسم العطار "362هـ" أحد قراء دار السلام، ذكر له ابن النديم عددًا من الكتب في اللغة والنحو والقراءات ومنها "احتجاج القراءات" وذلك بعد وفاة ابن مجاهد واشتهار تسبيعه. ثم ألف أبو علي الفارسي "377" كتابه المشهور: "الحجة في علل القراءات السبع" ويرى صاحب كشف الظنون أن هذا الكتاب شرح لكتاب القراءات السبع لابن مجاهد1. ومنها كتاب الحجة لابن خالويه "370" هـ وهو مطبوع ومحقق. وقد تشكك في نسبته بعض الباحثين. ثم ألف مكي ابن أبي طالب "437هـ" كتابه الكشف عن وجوه القراءات وعللها وحججها. 4- علم القراءات: ويتناول الأصول المطردة في القراءات من الوقف والابتداء، والإمالة والفتح والهمز والتسهيل، والتفخيم والترقيق ونحوها. والفرش، ويتناول القراءات غير المطردة، والتي تناقلتها الروايات بأسانيدها الصحيحة.   1 كشف الظنون ج2 ص1448. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 والمتأمل فيما دون القدماء من مؤلفات في علوم القراءات يجد منها ما يتحدث في هذه الجوانب كلها، ومنها ما هو مقصور على جانب معين منها. فمثلًا كتاب "النشر" لابن الجزري تناول هذه العلوم كلها. ومنها ما هو مقصور على جانب معين. مثل كتاب الاحتجاج للقراءات كالحجة والكشف ونحوهما. ومثل غاية النهاية خصصه ابن الجزري لطبقات القراء. وهناك كتب ألفت في المصاحف واختلافها1. 5- وهناك علم آخر يدخل في دائرة علوم القراءات وهو علم التجويد. وهو يتوفر على دراسة أصول الأداء القرآني من مخارج الحروف وصفاتها، وأحكام النون الساكنة والتنوين، وأحكام الميم الساكنة، وأحكام المد. وموضوعاته هذه قد تأتي تبعًا لموضوعات أخرى في القراءات، شأن الفروع السابقة، وأحيانًا يفرد لها مؤلفات خاصة، وسنشير لذلك عند حديثنا عن ترتيل القرآن الكريم.   1 راجع الفهرست ص54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الفصل الثاني: القراءات المقبولة والشاذة القراءة المقبولة والمردودة مدخل ... الفصل الثاني: القراءات المقبولة والشاذة القراءة المقبولة والمردودة: وضع علماء القراءات ضوابط بالغة الدقة للفصل بين قراءة مقبولة وأخرى مردودة بحيث إذا توافرت هذه الضوابط في قراءة حكمنا -ونحن مطمئنون- بصحتها وأنها قرآن يتلى ويصلى به، وإذا لم تتوافر هذه الضوابط كان لهم منها موقف آخر يعطون فيه هذه القراءة ما تستحقه من حكم، وما يمكن أن يترتب عليها من نتائج. ومن الأمور المعروفة في تاريخ القراءات أنها تعددت وكثرت قبل المصحف العثماني، كما تعددت وكثرت بعد نسخ المصحف العثماني وفي ظلال ما يحتمله الرسم برغم أن المصحف العثماني من ناحية أخرى، وكما سنعلم ذلك في موطن آخر ضبط عملية الإقرار إلى مدى بعيد. ومن هنا جاء اختلاف الأئمة السبعة والعشرة في ظلال الرسم العثماني. قال نافع: قرأت على سبعين من التابعين فما اجتمع عليه اثنان أخذته، وما شك فيه واحد تركته حتى اتبعت هذه القراءة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وقد قرأ الكسائي على حمزة وهو يخالفه في نحو ثلاثمائة حرف؛ لأنه قرأ على غيره فاختار من قراءة حمزة، ومن قراءة غيره قراءة وترك منها كثيرًا. وكذلك أبو عمرو قرأ على ابن كثير وهو يخالفه في أكثر من ثلاثة آلاف حرف؛ لأنه قرأ على غيره، واختار من قراءته، ومن قراءة غيره قراءة1. ضوابط القراءة المقبولة: 1- أن ينقلها الثقات عن النبي صلى الله عليه وسلم. 2- أن يكون لها وجه شائع في العربية التي نزل بها القرآن الكريم2. 3- أن تكون موافقة لخط المصحف3. وقد تناول ابن الجزري هذه الشروط في منظومته فقال: فكل ما وافق وجه نحوي ... وكان للرسم احتمالًا يحوي وصح إسنادًا هو القرآن ... فهذه الثلاثة الأركان4   1 الإبانة، ص50. 2 اشترط شيوع الوجه في العربية مكي. 3 راجع الإبانة ص51 وانظر منجد المقرئين ومرشد الطالبين لابن الجزري ص91، والإتقان للسيوطي 1/ 129 ط. القاهرة، وغيث النفع للصفاقسي بهامش سراج القارئ ص716 ط. القاهرة. 4 طيبة النشر في القراءات العشر لابن الجزري ص3 ط الحلبي بالقاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 الشرط الأول: السند المتواتر يرى جمهور العلماء من الأصوليين، وفقهاء المذاهب الأربعة، والمحدثين، والقراء أن شرط القراءة الصحيحة هو التواتر، ولا تثبت بالسند الصحيح غير المتواتر. والقراءة التي تكتب بسند غير متواتر لا تسمى قرآنًا ولا يقرأ بها؛ لأن من تعريف العلماء للقرآن قولهم: "المنقول إلينا بالتواتر"1. والتواتر: هو نقل جماعة عن جماعة تحيل العادة تواطؤهم على الكذب من أول السند إلى منتهاه2. يقول النويري: عدم اشتراط التواتر قول حادث مخالف لإجماع الفقهاء والمحدثين، وغيرهم لأن القرآن -عند الجمهور من أئمة المذاهب الأربعة هو ما نقل بين دفتي المصحف نقلًا متواترًا، وكل من قال بهذا الحد اشترط التواتر، كما قال ابن الحاجب، وحينئذ فلا بد من التواتر عند الأئمة الأربعة، صرح بذلك جماعات كابن عبد البر، وابن عطية، والنووي، والزركشي، والسبكي، والإسنوي، والأذرعي، وعلى ذلك أجمع القراء، ولم يخالف من المتأخرين إلا مكي، وتبعه بعضهم3. ومن عبارة النويري التي نقلها الدمياطي ما يفيد أن بعض القراء المتأخرين ومنهم مكي ومن تبعه لا يشترطون التواتر مثل ابن الجزري. وفي تقديري أن نسبة هذا القول لمكي، وعده من المتأخرين حكم غير دقيق. وكذلك الأمر بالنسبة لابن الجزري الذي هو من المتأخرين فعلًا توفي 833 هـ. أما مكي فقد عاش النصف الثاني من القرن الرابع، وأدرك الثلث الأول من القرن الخامس "355- 437" وهو أبعد ما يكون عما نسب إليه لأمور:   1 إرشاد الفحول للشوكاني ص29. 2 الكفاية في علم الرواية للبغدادي ص50. 3 إتحاف فضلاء البشر ص6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 أولها: أنه في وصف القراءة المقبولة قال: "أن ينقل عن الثقات"1 ولفظ الجمع هنا كاف في الدلالة على قصد التواتر. ثانيها: أنه قسم ما روى من القراءات على ثلاثة أقسام: قسم يقرأ به، وذلك ما اجتمع فيه ثلاث خلال، وذكر الشروط الثلاثة التي أسلفناها. والقسم الثاني: ما صح نقله في الآحاد، وصح وجهه في العربية، وخالف لفظه خط المصحف فهذا يقبل ولا يقرأ به لعلتين2: إحداهما: أنه لم يؤخذ بإجماع إنما أخذ بأخبار الآحاد، ولا يثبت قرآن يقرأ به بخبر الواحد. والثانية: أنه مخالف لما أجمع عليه، فلا يقطع على مغيبه وصحته. والقسم الثالث: ما نقله غير ثقة، أو نقله ثقة ولا وجه له في العربية3، فهذا لا يقبل وإن وافق خط المصحف4 من خلال هذا التقسيم نرى مكيًّا لا يأخذ القرآن بخبر الآحاد، وهو إن قبل القراءة يمنع القراءة بها. ثالثها: أنه ثبت عن مكي قوله: وما خالف خط المصحف أيضًا.   1 الإبانة ص51. 2 من شواهد هذا النوع قراءة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَغَيْرِ الضَّالِين" رواها إسماعيل القاضي في كتابه: القراءات راجع الإبانة ص54. 3 مثال ما نقله غير ثقة. "وكذلك ننجيك ببدنك" [يونس: 92] قرأ ابن ....... ، وأبو السيل: نحنيك" ومثال ما نقله ثقة، ولا وجه له في العربية ووافق خط المصحف: "فتوبوا إلى بارئْكم، إن الله يأمرْكم" بالإسكان لهمزة "بارئْكم"، وراء "يأمرْكم" النشر ج1 ص10. 4 الإبانة ص51، 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 هو من السبعة إذا صحت روايته ووجهه في العربية، ولم يضاد معنى خط المصحف، لكن لا يقرأ به، إذ لا يأتي إلا بخبر الآحاد ولا يثبت قرآن بخبر الآحاد، وإذ هو مخالف للمصحف المجمع عليه، فهذا الذي نقول به ونعتقده، وقد بيناه كله1. تشير هذه العبارة بوضوح إلى وجهة مكي في هذه الناحية، وأنه لا يعتد بالقراءة إلا بسند متواتر. وبناء على هذا فإن عبارته التي تقول: القراءة الصحيحة ما صح سندها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وساغ وجهها في العربية، ووافقت خط المصحف"2 لا تعني أنه لا يقول بشرط التواتر. وأما ابن الجزري: فنسب إليه أنه لا يقول بناء على نظمه في الطيبة؛ وعبارته وإن لم نشر للتواتر لكنها لم تنص على أنه غير شرط، وظروف الناظم تختلف عن ظروف الذي يدون العلم نثرًا، حيث يتحرى العبارة الدقيقة بعيدًا عن قيود النظم والقافية. على أن عبارته في كتابه منجد المقرئين ترفع الإيهام والاتهام، إذا اشترط التواتر في قبول القراءة الصحيحة3.   1 المرجع السابق ص56. 2 الإبانة ص39ط دمشق. 3 راجع منجد المقرئين ص91- تحقيق د. عبد الحي فرماوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 الشرط الثاني: موافقة العربية أن يكون للقراءة وجه شائع في العربية. بمعنى أن توافق وجها مشهورًا، ومعتدًا به، مما قاله النحاة سواء أكان هو الوجه الأصح أم الصحيح؛ لأن القراءة متى ثبتت بالسند المتواتر وموافقه رسم المصحف فلا ينبغي أن ترد، بل تصبح هي حجة على قواعد النحو لا أن تكون قواعد النحو حجة عليها. وقد أحسن الكوفيون باحتجاجهم بقراءات حمزة "وَاتَّقُوا الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامِ" بجر الأرحام على أنه يجوز العطف على المجرور دون إعادة الجار، والبصريون المعارضون لهذا يقولون: إن الأرحام جرت على القسم تعظيمًا لها، وحثًا على صلتها1. فالقراءة سنة متبعة2، كما روي عن زيد بن ثابت. وقد فسر البيهقي هذه العبارة بقوله: أراد -أي زيد بن ثابت- أن اتباع من قبلنا في الحروف سنة متبعة، لا يجوز مخالفة خط المصحف الذي هو إمام، ولا مخالفة القراءات التي هي مشهورة وإن كان غير ذلك سائغًا في اللغة"3. وقال أبو عمرو الداني: وأئمة القراءة لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة، والأقيس في العربية، بل على الأثبت من الأثر، والأصح في النقل، وإذا ثبت الرواية لم يردها قياس عربية ولا فشو لغة؛ لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها". وبرغم ما أكده القراء مما يفيد أن شرط الموافقة لوجه في العربية أي وجه هو لمجرد الاستئناس ومزيد من الاستيثاق ولا ترد القراءة؛ لأجله فإننا نرى مكيًّا يخالف هؤلاء في أمرين: أولهما: اشتراطه موافقة القراءة لوجه شائعٍ في العربية. والآخر: أنه يرد القراءة التي لا توافق وجهًا في العربية، وإن وافقت خط المصحف، ونقلها ثقة4.   1 إتحاف فضلاء البشر، ص75. 2 أخرجه سعيد بن منصور في سنته. 3 راجع مباحث في علوم القرآن للشيخ مناع القطان ص177. 4 راجع الإبانة ص51، ص52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الشرط الثالث: موافقة خط المصحف هذا الشرط يكاد يجمع عليه القراء؛ لأنهم يرون أن مصاحف عثمان تمت بإجماع الصحابة الذين قرروا إحراق ما عداها، ومن هنا كان الأخذ بأي قراءة مخالفة يعني مخالفة هذا الإجماع. نقل مكي عن إسماعيل القاضي1 قوله: فإذا اختار الإنسان أن يقرأ ببعض القراءات التي رويت مما يخالف خط المصحف صار إلى أن يأخذ القراءة برواية واحد عن واحد، وترك ما تلقته الجماعة عن الجماعة، والذين هم حجة على الناس كلهم"2. ويعني بترك ما تلقته الجماعة مخالفة رسم المصحف. ثم ينتهي مكي إلى رأي استخلصه من كلام إسماعيل حول القراءات المخالفة لرسم المصحف فيقول: فهذا كله من قول إسماعيل يدل على أن القراءات التي وافقت خط المصحف هي من السبعة الأحرف كما ذكرنا، وما خالف خط المصحف أيضًا هو من السبعة إذا صحت روايته ووجهه في العربية، ولم يضاد معنى خط المصحف، لكن لا يقرأ به؛ إذ لا يأتي إلا بخبر الآحاد"3. فالمخالفة لرسم المصحف، وإن كانت الرواية صحيحة. تعني أنها فقدت التواتر، وأنها ليست بقرآن فلا يقرأ بها   1 هو إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد القاضي، أبو إسحاق الأزدي بغدادي مشهور ولد سنة 199هـ وروى القراءة عن قالون، وصنف كتابًا في القراءات جمع فيه قراءة نحو عشرين إمامًا وروى القراءة عنه ابن مجاهد، وابن الأنباري، توفي فجأة وقت العشاء، من ذي الحجة سنة 282 ببغداد "طبقات القراء -1/ 160. 2 الإبانة ص55 نقلًا عن كتاب القراءات لإسماعيل القاضي. 3 الإبانة ص56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 القراءات من حيث السند : استبان لنا مما سبق أن التواتر شرط في قبول القراءة؛ لأن القراءة المقبولة الصحيحة قرآن، ولايثبت القرآن إلا بالتواتر وقد قسم العلماء القراءات ثلاثة أقسام: قسم متفق على تواتره، ولا خلاف عليه بين العلماء، وهو قراءات الأئمة السبعة. وقسم مختلف فيه، والصحيح المشهور أنه متواتر، وهو قراءات الأئمة الثلاثة: أبو جعفر، ويعقوب، وخلف العاشر. وقسم متفق على شذوذه، وهو ما زاد على العشرة1. قال القرطبي: وقد أجمع المسلمون في جميع الأمصار على الاعتماد على ما صح عن هؤلاء الأئمة فيها رووه، ورأوه من القراءات -يعني الأئمة العشرة- وكتبوا في ذلك مصنفات، واستمر الإجماع على الصواب، وحصل ما وعد الله به من حفظ الكتاب، وعلى هذا الأئمة المتقدمون، والفضلاء المحققون كابن جرير الطبري، والقاضي أبي بكر بن الطيب وغيرهما"2. ويذكر علامة القراءات ابن الجزري فتوى وجهت إلى الإمام المحقق عبد الوهاب بن السبكي الشافعي. وهذا هو السؤال: ما تقول السادة العلماء أئمة الدين في القراءات العشر التي يقرأ بها اليوم، هل هي متواترة أو غير متواترة؟ وهل كل ما انفرد به واحد من العشرة بحرف من الحروف متواتر أم لا؟ وإذا كانت متواترة، فما يجب على من جحدها أو حرف منها؟   1 إتحاف فضلاء البشر، ص7. 2 الجامع لأحكام القرآن ج1 ص46 ط. دار الكتب المصرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 يقول ابن الجزري -وهو الذي وجه السؤال للسبكي- فأجابني، ومن خطه نقلت: الحمد لله، القراءات السبع التي اقتصر عليها الشاطبي، والثلاث التي هي قراءة أبي جعفر، وقراءة يعقوب، وقراءة خلف متواترة معلومة من الدين بالضرورة، وكل حرف انفرد به واحد من العشرة معلوم من الدين بالضرورة أنه منزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يكابر في ذلك إلا جاهل، وليس تواتر شيء منها مقصورًا على من قرأ بالروايات بل هي متواترة عند كل مسلم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ولو كان مع ذلك عاميًّا جلفًا، لا يحفظ من القرآن حرفًا، ولهذا تقرير طويل وبرهان عريض لا يسع هذه الورقة شرحه، وحظ كل مسلم وحقه أن يدين الله تعالى، ويجزم نفسه بأن ما ذكرناه متواتر، معلوم باليقين، لا يتطرق الظنون ولا الارتياب إلى شيء منه، والله أعلم. كتبه عبد الوهاب بن السبكي الشافعي1.   1 النشر ج1 ص106، ص107، ت محبش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الاختيار في القراءات : إسناد كل حرف من حروف القراءة إلى صاحبه من الصحابة فمن بعدهم يعني أنه كان أضبط لهذا الحرف، وأكثر قراءة وإقراء به، وملازمة له وميلًا إليه. وإضافة الحروف والقراءات إلى أئمة القراء ورواتهم تعني أن ذلك القارئ الإمام اختار القراءة بذلك الوجه من اللغة حسبما قرأ به، فصح عنده، وآثره على غيره، وداوم عليه، ولزمه حتى اشتهر وعرف به، وأخذ عنه، وأضيف إليه دون غيره من القراء. فإضافة القراءة لقارئ من القراء السبعة أو العشرة، أو غيرهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 أساسها: الاختيار والدوام، واللزوم، ولم يكن مرجعها اختراع القارئ أو رأيه واجتهاده1. فمنهج الاختيار في تاريخ القراءات نشأ عنه ما عرف بالقراءات السبع أو العشر. ومن هنا اختيار كل قارئ الحرف الذي لزمه، فنسب إليه، وصار فيما بعد إمامًا في قراءته له. واختار ابن مجاهد القراءات السبع للقراء السبعة، وارتضى الأكثرون اختياره، وإن عارضه بعضهم. وشاعت كلمة الاختيار في تصانيف المقرئين: يقول ابن الباذش في كلامه عن نافع: إمام أهل المدينة والذي صاروا إلى قراءته، ورجعوا إلى اختياره2. ويقول شعبة عن أبي عمرو بن العلاء: انظر ما يقرأ أبو عمرو، مما يختار لنفسه فإنه سيصير للناس إسنادًا3. ونقل ابن الجزري عن الإمام البغوي المحدث، المفسر قوله: واتفقت كلمة الأمة على اختيارهم ثم عقب بقوله: "وقد ذكرت في هذا الكتاب قراءات من اشتهر منهم بالقراءة واختياراتهم"4.   1 النشر ج1 ص51 طـ القاضي. 2 الإقناع ج1 ص55. 3 طبقات القراء ج1 ص292. 4 النشر ج1 ص37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 القراءات الشاذة مدخل ... القراءات الشاذة: على ضوء ما عرفنا من أركان القراءة المقبولة، والأقسام التي عرضها مكي للقراءات في كتابه الإبانة يستبين لنا أن القراءة الشاذة هي التي فقدت الأركان الثلاثة أو واحدًا منها، بأن فقدت شرط التواتر، أو خالفت رسم المصحف تمامًا، أو خالفت وجوه اللغة العربية، وحينئذ لا يقرأ بها، ولا تسمى قرآنًا1. وبناء على هذا نرى للقراءات الشاذة صورًا ثلاثًا: 1- نقلها غير ثقة مع الموافقة لرسم المصحف، وللسان العربي. كقراءة ابن السميفع وأبي السمال: "فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن حلفك آية" قرئت بالحاء المهملة، وفتح اللام في خَلَفك2. وكالقراءة المنسوبة إلى أبي حنيفة رضي الله عنه، ورددها أكثر المفسرين على أنها له، وتكلفوا تأويلها وهو بريء منها "إنما يخشى الله من عباده العلماء" برفع لفظ الجلالة، ونصب العلماء3. 2- قراءة نقلها ثقة، ولا وجه لها في العربية. يقول ابن الجزري: ولا يصدر مثل هذا إلا على وجه السهو والغلط وعدم الضبط، ويعرفه الأئمة المحققون، والحفاظ الضابطون، وهو قليل جدًّا بل لا يكاد يوجد، وقد جعل بعضهم منه رواية خارجة عن نافع "وجعلنا لكم فيها معائش" بالهمز4. ويقول مكي في هذا النوع: فهذا لا يقبل وإن وافق خط المصحف5.   1 راجع الإبانة ص51 وما بعدها، ومنجد المقرئين ص91، والإتقان للسيوطي ص129، ج1، وغيث النفع ص726. 2 النشر ج1 ص12 ت محبش. 3 المرجع السابق ص63. 4 المرجع السابق. 5 الإبانة ص52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 3- صح نقله في الآحاد، وله وجه في العربية وخالف رسم المصحف. وقد قدمنا فيما سبق تفصيلات لهذا النوع. ومن أمثلتها قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} قرأ سعد بن أبي وقاص: "وله أخ أو أخت من أمه" بزيادة: "من أمه"1. وقراءة ابن مسعود "فصيام ثلاثة أيام متتابعات"، بزيادة لفظ "متتابعات"2. وقراءة ابن شنبوذ "يأخذ كل سفينة صالحة غصبًا" بزيادة لفظ "صالحة"3. قرأ ابن مسعود "فامضوا إلى ذكر الله" بدلًا من "فاسعوا"4. قرأ ابن مسعود وأبو الدرداء "والذكر والأثنى" بحذف لفظ "ما خلق"5. وأضاف ابن الجوزي صورة رابعة مردودة وشاذة. وهي ما وافق العربية والرسم، ولم ينقل ألبتة، ثم يقول تعليقًا على ذلك: "فهذا رده أحق، ومنعه أشد، ومرتكبه مرتكب لعظيم الكبائر"6 وقد أجاز ذلك ابن مقسم البغدادي المقرئ النحوي بعد المائة الثالثة، وعقد له مجلس من القراء والفقهاء ببغداد وأجمعوا على منعه فتاب عن بدعته ورجع، وقد وردت هذه القصة في تاريخ بغداد للحافظ أبي بكر بن الخطيب، وأشار إليها ابن الجزري في الطبقات، وفي النشر7.   1 سورة النساء: 11 وراجع القرطبي ج5 ص87 دار الكتب. 2 سورة المائدة: 89 وراجع القرطبي 1/ 47. 3 سورة الكهف: 79 وراجع طبقات القراء ج2 ص52. 4 سورة الجمعة: 9 وراجع المحتسب لابن جني ج2 ص322. 5 سورة الليل: 3 وراجع النشر في القراءات العشر ج1 ص 14 ط. القاهرة. 6 النشر ج1 ص 63. 7 جاءت هذه القصة بتفصيل من كتاب النشر ج1 ص64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 متى بدأ الحكم بالشذوذ ... متى بدأ الحكم على بعض القراءات بالشذوذ؟: بدأ الحكم على بعض القراءات بالشذوذ بعد أن عرفت الضوابط التي تقاس بها القراءات الصحيحة ويمكن أن تحدد ذلك بظهور المصاحف العثمانية، وتوزيعها على الأمصار الإسلامية، والأمر بإحراق ما عداها، ومن هنا ساغ الحكم بالشذوذ على كل ما خالف رسم المصحف باعتباره مخالفًا لإجماع خيار الأمة وهم الصحابة، واتسعت دائرة الحكم بالشذوذ بعد أن وضعت قواعد النحو والتصريف منذ النصف الثاني من القرن الأول. وقيل هذه الفترة كانت القراءات الشاذة موجودة لكن لم يطلق عليها هذا الاصطلاح بعد ومن التكلف البالغ القول بأن بعض الصحابة لم يحرقوا مصاحفهم واحتفظوا بها، أو أن الخليفة عثمان -رضي الله عنه- في أول الفتنة أجاز القراءة بالحروف المخالفة لمصحفه اعتمادًا على ما جاء في كتاب المصاحف للسجستاني، وهو كتاب مرتاب فيه احتفى به المستشرقون وحدهم، وذلك من أجل أن نصل إلى القول بأن القراءات الشاذة، عرفت من بعد العرضة الأخيرة1. وهذه النتيجة كما نرى متكلفة، ومقدماتها بعيدة عن الصواب، فما كان لبعض الصحابة وهم من الخيار أن يخفو مصاحفهم عن عثمان،   1 أبدى هذا الرأي الدكتور محمد محيسن في كتابه: في رحاب القرآن، وراجع الدكتور شعبان محمد إسماعيل في كتابه: القراءات مصدرها وأحكامها، ومناقشته لهذا الرأي ص115 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وما كان لعثمان أن يفتح بابًا تحمس من أول الأمر لإغلاقه، وهو الذي لا يخشى في الله لومة لائم. وإذا كان عثمان -رضي الله عنه- أجاز القراءة بالحروف التي تخالف مصحفه فلماذا -إذن- يخفي بعض الصحابة مصاحفهم. إن التناقض في هذا الرأي واضح والحق أحق أن يتبع. يقول مكي بعد أن نقل قراءة ابن الزبير في سورة الفاتحة "صراط من أنعمت عليهم": وإنما قرئ بهذه الحروف التي تخالف المصحف قبل جمع عثمان -رضي الله عنه- الناس على المصحف. فبقي ذلك محفوظًا في النقل غير معمول به عند الأكثر لمخالفته للخط المجمع عليه"1 معنى هذا أن المصاحف العثمانية كانت الفصل بين الشاذ وغيره من القراءات.   1 الإبانة ص127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 رواة القراءة الشاذة، والباحثون فيها: توفر كثير من العلماء على تتبع القراءات الشاذة، ومعرفة وجوهها، وأسانيدها، والتعرف على أسباب شذوذها، وأول من عرف عنه هذا الاتجاه من علمائنا الأعلام -فيما نعلم- هارون بن موسى، أبو عبد الله الأعور، العتكي، البصري، الأزدي، وهو رجل صدوق، له قراءة معروفة تنسب إليه، روى عن عاصم الجحدري، وعبد الله بن كثير، وأبي عمرو بن العلاء وغيرهم. توفي سنة 198هـ1. ومن العلماء الذين كتبوا في الشواذ. ابن خالويه في كتابه "المختصر في شواذ القراءات".   1 طبقات القراء ج2 ص348. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وابن جني في كتابه "المحتسب في وجوه شواذ القراءات". والدمياطي في كتابه: "إتخاف فضلاء البشر". كما نرى في كتب التفسير روايات كثيرة ومتنوعة للقراءات الشاذة مثل الطبري، والكشاف والبحر المحيط لأبي حيان. رواة القراءات الأربع بعد العشر. 1- الحسن البصري، مولى الأنصار أحد كبار التابعين، عرف بالزهد والورع توفي سنة 110هـ. 2- محمد بن عبد الرحمن، المعروف بابن محيصن، كان شيخًا لأبي عمرو بن العلاء توفي سنة 123هـ. 3- يحيى بن المبارك اليزيدي النحوي، بغدادي، أخذ عن أبي عمرو، وحمزة، وكان شيخًا للدوري والسوسي، وتوفي سنة 202هـ. 4- سليمان بن مهران الأسدي بالولاء، والمعروف بالأعمش، وهو من التابعين توفي سنة 148هـ1. ومن رواة القراءات الشاذة من الصحابة. 1- عبد الله بن مسعود، الصحابي الجليل، وأحد السابقين للإسلام توفي سنة 32هـ. 2- مسروق بن الأجدع بن مالك، أبو همام الهمداني الكوفي توفي سنة 62 هـ. 3- عبد الله بن الزبير بن العوام، القرشي الأسدي توفي سنة 73هـ2.   1 إتحاف فضلاء البشر للدمياطي ص7. 2 ومنهم أبو موسى الأشعري، عبد الله بن قيس، من فضلاء الصحابة, وأحسنهم صوتًا بقراءة القرآن، وأكثرهم فقهًا توفي سنة 52هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 ومن التابعين. 1- نصر بن عاصم الليثي، نحوي، بصري من كبار التابعين، روى عن أبي الأسود الدؤلي وروى عنه عمرو بن العلاء البصري توفي سنة 99هـ. 2- مجاهد بن جبر، أبو الحجاج المكي، أحد التابعين والأئمة المفسرين توفي سنة 103هـ. 3- أبان بن عثمان بن عفان الأموي، أبو عبد الله المدني، أخذ القراءات عن أبيه وعن زيد بن ثابت توفي سنة 105هـ. 4- الضحاك بن مزاحم، أبو القاسم من خيرة التابعين، رويت عنه حروف كثيرة توفي سنة 105هـ. 5- محمد بن سيرين، أبو بكر بن أبي عمرة البصري، تابعي، روى عن زيد بن ثابت توفي سنة 110هـ. 6- قتادة بن دعامة -أبو الخطاب السدوسي، البصري، إمام في القراءة والتفسير توفي سنة 117هـ. 7- إبراهيم بن أبي عبلة، تابعي أخذ القراءة عن الزهري وأنس بن مالك، توفي سنة 151هـ1. 8- سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، الكوفي، أخذ القراءة عن حمزة، توفي سنة "161"2. ومما ينبغي أن نتنبه له أن هؤلاء الكرام من الصحابة والتابعين ممن رووا القراءات الشاذة بعامة، أو الأربع الزائدة على العشر لم تكن روايتهم مقصورة على الشواذ، وإنما رويت عنهم الصحاح كما رويت الشواذ، ومن الأئمة العشرة من رووا الشواذ أيضًا، وهذا يدل على مدى عناية هؤلاء الأعلام بتوافر شروط القراءة الصحيحة. بقي في بحث القراءات الشاذة مسألتان: أولاهما: هل تجوز قراءة القرآن بالروايات الشاذة؟ الأخرى: هل يصح الاحتجاج بها في الأحكام الشرعية أو اللغوية؟   1 طبقات القراء ج1 ص19. 2 المحتسب لابن جني ج1 ص 104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 القراءة في الصلاة بالشاذة : أجاز القراءة بالشاذ بعض العلماء، وهو أحد القولين لأصحاب أبي حنيفة والشافعي، وإحدى الروايتين عن مالك وأحمد، وذلك لأمرين: أولهما: أن الصحابة والتابعين كانوا يقرءون بهذه الحروف في الصلاة. والآخر: لو لم تجز القراءة بالشاذ يكون عالم من الصحابة وأتباعهم قد ارتكبوا محرمًا بقراءتهم بالشاذ، فيسقط الاحتجاج بخبر من يرتكب المحرم دائمًا، وهو نقلة الشريعة الإسلامية، فيسقط ما نقلوه -بناء على رأي المانعين- نظام الإسلام والعياذ بالله1. واتجه أكثر العلماء إلى منع القراءة في الصلاة بالشاذة. وحجتهم أن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وإن ثبتت بالنقل فهي منسوخة بإجماع الصحابة على المصحف العثماني، أو أنها لم تنقل إلينا نقلًا يثبت بمثله القرآن، أو أنها لم تكن من الأحرف السبعة2.   1 راجع النشر ج1 ص63. 2 المرجع السابق ص61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 قال الإمام النووي: لا تجوز القراءة في الصلاة ولا في غيرها بالقراءة الشاذة؛ لأنها ليست قرآنًا؛ لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، والقراءة الشاذة ليست متواترة، ومن قال غيره فغالط أو جاهل، فلو خالف وقرأ بالشاذ أنكر عليه قراءته في الصلاة وغيرها، وقد اتفق فقهاء بغداد على استبانة من قرأ بالشواذ، ولا يصلي خلف من يقرأ بها". كما ذكر النووي ما حكاه الإمام أبو عمر بن عبد البر من إجماع المسلمين على أنه لا يجوز القراءة بالشاذ، وأنه لا يجوز أن يصلي خلف من يقرأ بها1. وهذا الإجماع يتناقض مع ما قرره ابن الجزري في كتابه النشر من خلاف في هذه المسألة بين الفقهاء.   1 التبيان في آداب جملة القرآن للنووي ص47 القاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الاستشهاد بالقراءة الشاذة : يرى جمهور العلماء جواز العمل بالقراءات الشاذة، واستنباط الأحكام الشرعية منها. وحجتهم أنها -على أقل تقدير- في منزلة خبر الآحاد، التي لا يختلف العلماء في الاحتجاج بها في الأحكام الشرعية وقد احتج العلماء بها في أحكام كثيرة منها: أ- قطع يمين السارق مستدلين بقراءة ابن مسعود: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما"1. ب- احتج الحنفية على وجوب التتابع في صوم كفارة اليمين بقراءة ابن مسعود أيضًا "فصيام ثلاثة أيام متتابعات"2.   1 سورة المائدة: 38، وراجع القرطبي ج1 ط. دار الكتب المصرية. 2 سورة المائدة: 89، وراجع تفسير القرطبي ج1 للآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 كما أن القراءات الشاذة تهدف إلى تفسير القراءة المشهورة، وتبيين معانيها على نحو ما في القراءتين السابقتين، ومثل قراءة حفصة وعائشة "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى1 صلاة العصر". يقول أبو عبيد في فضائل القرآن: فهذه الحروف وما شاكلها قد صارت مفسرة للقرآن، وقد كان يروي مثل هذا التفسير عن التابعين فيستحسن، فكيف إذا روى عن كبار الصحابة، ثم صار في نفس القراءة، فهو أكثر من التفسير وأقوى، فأدنى ما يستنبط من هذه الحروف معرفة صحة التأويل"2. وخالف في الاستدلال بهذه القراءة الإمام الشافعي في بعض النقول عنه، وتبعه أبو نصر القشيري، وابن الحاجب مستدلين على ذلك بأن القراءة شاذة لم تثبت قرآنيتها، وتبعهم جمهور الشافعية وغيرهم لثبوت نسخ هذه القراءة عندهم. والذين أجازوا الاستشهاد يقولون: لا يلزم من انتفاء قرآنيتها انتفاء عموم كونها أخبار أي أنها تأخذ حكم العمل بخبر الواحد، وخبر الواحد يعمل به3.   1 البقرة: 228. 2 الإتقان للسيوطي ج1 ص227، 228. 3 راجع جمع الجوامع بحاشية البناني ج1 ص232، والإتقان ج1 ص 227. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الاستشهاد بالقراءات الشاذة في قضايا اللغة والنحو : يجوز الاستشهاد بالقراءات الشاذة في قضايا النحو واللغة. فإذا كان سبب شذوذها أنها آحاد غير متواترة فلم أر من توقف عن الاستشهاد بها لا سيما وأنها تسير في رحاب القواعد التي وصفها النحويون. وكذلك إذا كان سبب شذوذها المخالفة لرسم المصحف. وكتب النحو حافلة بعشرات القراءات الشاذة يستشهدون بها على قضايا1 نحوية. وهم على حق فيما فعلوا؛ لأنها أوثق من أبيات الشعر مجهولة القائل، بل أوثق ممن عرف قائلها؛ لأنها من ناحية الرواية وإن كانت أحادًا إلا أن رواتها أكثر ثقة. أما إذا كانت القراءة الشاذة تخالف المشهور من قواعد العربية فإن كثيرًا من النحويين لا يأخذون بها بل رأينا من النحاة -وبخاصة من البصريين- من يتوقف أمام بعض القراءات السبع أو العشر بحجة المخالفة لقواعدهم، فيحملونها على ما يوافق القواعد بضرب من التأول. والرأي عندي أنها مع هذا يصح الاحتجاج بها على وجه من وجوه العربية، والتماس الدليل منها، وجمهرة العلماء قديمًا وحديثًا على ذلك2.   1 من ذلك استدلالهم بقراءة الحسن والشنبوذي "تمامًا على الذين أحسنُ" بضم النون، سورة الأنعام، على جواز حذف العائد على الموصول في حالة الرفع مع قصر الصلة، والموصول غير أي -راجع: أوضح المسالك. 2 راجع القراءات الشاذة وتوجيهها من لغة العرب- عبد الفتاح القاضي ص8، ج1 باب الموصول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 الفصل الثالث: القراء القراء من الصحابة ... القراء من الصحابة: منذ نزلت آيات الكتاب الكريم أول ما نزلت في الليلة المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم تستنبت بذور العقيدة الصحيحة في القلوب المؤمنة، كما تحيي القيم الراشدة في سلوكهم ومجتمعهم كانت تلاوة هذه الآيات هدفًا إسلاميًّا، وعبادة تسمو بصاحبها إلى منزلة الرضوان من رب العالمين. يقول جل شأنه في أمره الكريم لنبيه المصطفى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} 1. فكما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بعبادة رب البيت أمر بتلاوة القرآن الكريم لينشر أشعة الهداية تبدد ظلمات القلوب الضالة. فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك إمام القراء وقدوتهم وتبعه الجماهير من صحابته الكرام والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى   1 سورة النمل: 91، 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 الله عليه وسلم: "أفضل عبادة أمتي قراءة القرآن" 1. وعن عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني سألت سفيان الثوري عن الرجل يغزو أحب إليك أو يقرئ القرآن؟ فقال: يقرئ القرآن؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" 2. أشهر الحفاظ من الصحابة: تلقى الصحابة الأبرار القرآن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحروفه المتعددة، منهم من حفظه كله ومنهم من حفظ بعضه، ثم تفرقوا -بحكم الفتوح الإسلامية، ومتطلبات الدعوة- في قبائل الجزيرة، والأمصار الإسلامية فيما بعد. روى البخاري عن قتادة قال: سألت أنس بن مالك، من جمع القرآن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم فقال: أربعة، كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، قلت: من أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي. كما وردت الأحاديث بحفظ كثير من الصحابة للقرآن مثل أبي بكر، وعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، وأبي أيوب الأنصاري3. وهؤلاء هم أشهر من عرفوا بالإقراء من الصحابة: 1- عثمان بن عفان -رضي الله عنه- ثالث الخلفاء الراشدين، وأحد السابقين، إلى الإسلام وذو النورين، وقد تتلمذ عليه كثيرون، منهم: المغيرة بن أبي شهاب المخزومي المتوفى سنة 91هـ.   1 أخرجه البيهقي في شعب الإيمان. 2 راجع النشر ج1 ص47. 3 لإتقان للسيوطي ج1 ص202. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 القراء من التابعين وتابعيهم : توزع القراء من التابعين في الأمصار الإسلامية، وقرأ عليهم كثيرون، وتتابعت سلاسل الإقراء، وتخرج على أيديهم أئمة من القراءة كانوا مرجعًا للناس في العصور المختلفة وسأشير هنا إلى بعض التابعين في الأمصار الإسلامية. ثم نتحدث بتفصيل عن أئمة القراء. 1- في المدينة: اشتهر في المدينة سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، وسليمان وعطاء ابنا يسار، ومعاذ بن الحارث، المعروف بمعاذ القارئ، وزيد بن أسلم، وابن شهاب الزهري، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، ومسلم بن جندب. 2- في مكة: عبيد بن عمير، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وعكرمة، وابن أبي مليكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 3- في الكوفة: علقمة بن قيس النخعي، ويحيى بن وثاب، وعاصم بن أبي النجود، وسليمان الأعمش، وحمزة، والكسائي كما كان فيها سعيد بن جبير، وعمر بن شرحبيل، وعمرو بن ميمون، والحارث بن قيس. 4- في البصرة: عامر بن عبد القيس، وأبو العالية، ونصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر، وجابر بن الحسن، وابن سيرين، كما كان فيها عبد الله بن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر، وأبو عمرو بن العلاء، ثم عاصم الجحدري، ثم يعقوب الحضرمي. 5- في الشام: أبو الدرداء، وصاحبه خليد بن سعيد، والمغيرة بن أبي شهاب المخزومي، كما عاش فيه عبد الله بن عامر، وعطية بن قيس الكلابي، وإسماعيل بن عبد الله بن المهاجر، ثم يحيى بن الحارث الذماري، ثم شريح بن يزيد الحضرمي. راجع في ترجمة هؤلاء القراء. غاية النهاية لابن الجزري ج1 ص439- ص440. النشر لابن الجزري ج1 ص32 ص53. معرفة القراء الكبار للذهبي ج1 ص49. مناهل العرفان للزرقاني ج1 ص 415، 416. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 القراء العشرة ورواتهم مدخل ... القراء العشرة ورواتهم: انتشر القراء في الأمصار الإسلامية مع الفتوح، وامتداد آثار الدعوة في المشارق والمغارب، وتعددت الروايات للحروف التي قرأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثرت الطرق حتى نسخت المصاحف العثمانية، وتقرر ترك ما خالفها، فضبطت القراءة. ثم جاءت المرحلة الثانية في طريق الضبط والتقنين ممثلة في عمل ابن مجاهد، وتسبيعه السبعة، ولاقى هذا العمل قبولًا عند جمهرة علماء القراءات. ثم أضيف الثلاثة إلى السبعة فأصبح أئمة القراءات المتواترة عشرة وهم على هذا الترتيب من حيث وفياتهم، بادئين بالسبعة، ثم بالثلاثة المتممين للعشرة وسنترجم لهؤلاء بتراجم موجزة، ومعهم أشهر رواتهم. ثم نختم القول في القراء بتراجم للأربعة الشواذ. القراء السبعة 1: 1- ابن عامر ت 118هـ. 2- ابن كثير ت 120هـ. 3- عاصم ت 127هـ. 4- أبو عمرو ت 154هـ. 5- حمزة ت 156هـ. 6- نافع ت 169هـ. 7- الكسائي ت 189هـ.   1 رأيت أن كتب القراءات ترتب هؤلاء القراء حسب مواطنهم، بادئة بنافع، ثم ابن كثير، ثم عمرو بن العلاء وقد رأيت هنا ترتيبهم حسب وفياتهم، بادئًا بالسبعة، ثم الثلاثة، ثم رواة القراءات الشاذة الأربع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 الثلاثة المتمون للعشرة: 8- أبو جعفر ت 130هـ 9- يعقوب ت 205هـ 10- خلف ت 229هـ الأربع الشواذ: 11- الحسن البصري ت 110هـ 12- ابن محيصين ت 123هـ 13- الأعمش ت 148هـ 14- اليزيدي ت 202هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 1- ابن عامر : "8 - 118هـ" هو عبد الله بن عامر اليحصبي، قاضي دمشق في أيام الوليد بن عبد الملك، وإمام مسجد دمشق وكان الناظر على عمارته حتى فرغ، لا يرى فيه بدعة إلا غيرها، وأتم به الخليفة عمر بن عبد العزيز. وقد اختلف في كنيته، فكناه مسلم "أبا عمران" وقيل: كنيته أبو نعيم، وقيل: غير ذلك1وليس في القراء في السبعة من العرب إلا هو، وأبو عمرو. و"يَحْصُب" بالصاد المهملة، وتكسر وتضم ابن دهمان بن مالك، ويرجع في نسبه إلى حمير2. ولد سنة 8 من الهجرة وتوفي سنة 118 هـ في أيام هشام بن عبد   1 الإقناع في القراءات السبع ج1 ص 103. 3 جهرة أنساب العرب لابن حزم ص432- 437. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وهو من التابعين، وإمام أهل الشام في القراءة، سمع من أبي الدرداء، وفضالة بن عبيد، وواثلة بن الأسقع، ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهم1. كان إمامًا، ثقة فيما أتاه، عالمًا، متقنًا في حفظه، صادقًا في نقله، يعد من أفاضل المسلمين وخيار التابعين2. راوياه: عرف بالرواية عنه اثنان من أعلام القراء: ابن ذكوان وهشام. ابن ذكوان 173- 242: هو عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان، القرشي، الفهري، الدمشقي، ويكنى: أبا عمرو. ولد يوم عاشوراء عام 173هـ ومات بدمشق صبيحة الاثنين لسبع خلون من شوال سنة 242هـ. عاش سبعًا وستين سنة3. وهو الإمام المشهور، والراوي الثقة، وشيخ الإقراء بالشام، وإمام جامع دمشق، أخذ القراءة عن أيوب بن تميم، وانتهت إليه مشيخة الإقراء بعده، كما قرأ على الكسائي حين قدم الشام4. قال أبو زرعة الدمشقي وهو من تلاميذه: لم يكن بالعراق، ولا بالحجاز، ولا بالشام، ولا بمصر، ولا بخراسان في زمان ابن ذكوان أقرأ منه5.   1 راجع معرفة القراء الكبار ج1 ص67 والنشر ج1 ص144، والأعلام ج4 ص228، ومقدمة سعيد الأفغاني لحجة القراءات لابن زنجلة ص56. 2 المراجع السابقة. 3 الإقناع ج2 ص105. 4 غاية النهاية ج1 ص440. 5 هذا النقل ذكره الأفغاني في مقدمة حجة القراءات لأبي زرعة ص57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 هشام 153- 245: هو هشام بن عمار، أبو الوليد السلمي الدمشقي، إمام أهل دمشق، وخطيبهم، ومحدثهم، وفقيههم ومقرئهم، وكان ثقة، عدلًا، ضابطًا، فصيحًا، عالمًا، عرف بالرواية والدراية. أخذ القراءة عرضًا عن أيوب بن تميم، وعراك بن خالد، وسويد بن عبد العزيز. وروى القراءة عنه أبو عبيد القاسم بن سلام قبل وفاته بنحو أربعين سنة، وأحمد بن يزيد الحلواني، وغيرهم1.   1 راجع في ترجمته الإقناع لابن الباذش ج1 ص106 ومعرفة القراء الكبار للذهبي ج1 ص160، والنشر ج1 ص142، ومقدمة الأفغاني لحجة القراءات لابن زنجلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 2- ابن كثير : "45- 120هـ": هو عبد الله بن كثير المكي الداري، والدار بطن من لخم، منهم الصحابي الجليل تميم الداري. وقيل: إنما هو نسبة إلى "دارين" بالبحرين1 وهي فرضة يجلب إليها المسك والطيب من الهند؛ لأنه كان عطارًا، وهذا هو الصحيح2. وهو مولى عم بن علقمة الكناني، وهو من الطبقة الثانية من التابعين، ويكنى أبو معبد وقال الأهوازي3: يكنى: أبو بكر، وقيل: أبو عباد.   1 هي الآن تابعة للمملكة العربية السعودية. 2 الإقناع ج1 ص77. 3 انظر كتابه الوجيز شرح أداء القراءات الثمان ص4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ولد في زمان معاوية سنة 45هـ، وتوفي في أيام هشام بن عبد الملك سنة 120هـ، وله يومئذ خمسين وسبعون سنة1. يرى ابن الباذش أن هذا التاريخ لوفاته غير صحيح على أساس أن عبد الله بن إدريس الأودي قرأ عليه مع أن مولده سنة 115هـ، ويرى أن الذي توفي في هذا التاريخ عبد الله بن كثير القرشي، وهو آخر غير القارئ، ثم يرجع هذا الخطأ إلى ابن مجاهد، وخطأه بعض العلماء فيما تصوره من هذا الخطأ2. روى عن عدد من الصحابة لقيهم منهم عبد الله بن الزبير، وأبو أيوب الأنصاري، وأنس بن مالك. وأخذ القراءة عرضًا على درباس مولى ابن عباس، ونجاهد بن جبر، وعبد الله بن السائب وغيرهم. وروى القراءة عنه جماعة من الأعلام منهم: حماد بن زيد، وحماد بن سلمة، والخليل بن أحمد، وعيسى بن عمر الثقفي، وأبو عمر بن العلاء، وسفيان بن عيينة. كان فصيحًا بليغًا، مفوهًا، عليه سكينة ووقار، قال أبو عمرو بن العلاء: "ختمت القرآن على ابن كثير بعدما ختمت على مجاهد، وكان ابن كثير أعلم بالعربية من مجاهد". وظل الناس مجتمعين على قراءته بمكة حتى مات3.   1 راجع معرفة القراء الكبار ج1 ص72. 2 راجع الإقناع وتعليقات محققة الدكتور قطامش عليه ص278، ص79. 3 راجع في ترجمته: معرفة القراء الكبار ج1 ص71، والنشر، وطبقات القراء لابن الجزري، ومقدمة حجة القراءات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 3- عاصم : "127هـ" هو عاصم بن أبي النجود، الضرير الكوفي، ويقال في بعض تراجمه ابن بهدلة، وقيل بهدلة هو أبو النجود، كان مولى بني حذيمة بن مالك من أسد، يكنى أبا بكر، وهو من التابعين. سمع الحارث بن حسان البكري، الصحابي، كما سمع أبا رمثة رفاعة بن يثربي التميمي صحابي مات بإفريقية وأخذ القراءة عرضًا عن زر بن حبيش، وأبي عبد الرحمن السلمي، وأبي عمرو الشيباني. وتصدر للإقراء بالكوفة بعد موت السلمي سنة 73هـ. وروى القراءة عنه إبان بن تغلب، وحفض بن سليمان، وحماد بن زيد، وأبو بكر بن عياش وجماعة، كما روى عنه حروفًا من القرآن أبو عمرو بن العلاء ، والخليل بن أحمد، وحمزة الزيات. انتهت إليه مشيخة الإقراء بالكوفة، وكان يجمع بين الفصاحة، والإتقان، والتحرير، والتجويد كما كان أحسن الناس صوتًا بالقرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 قال أبو بكر بن عياش، وهو من رواة عاصم: لا أحصي ما سمعت أبا إسحاق السبعي يقول: ما رأيت أحدًا أقرأ للقرآن من عاصم. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن عاصم بن بهدلة، فقال: رجل، صالح، خير ثقة، فسألته: أي القراءة أحب إليك؟ قال: قراءة أهل المدينة، فإن لم تكن فقراءة عاصم، وحديثه مخرج في الكتب الستة. قال حفص: قال لي عاصم: ما كان من القراءة التي أقرأتك بها فهي القراءة التي قرأت بها على أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب، وما كان من القراءة التي أقرأت بها أبا بكر بن عياش فهي القراءة التي كنت أعرضها على زر بن حبيش عن ابن مسعود. توفي بالكوفة، وقيل بطريق الشام سنة سبع، وقيل: سنة ثمان، وقيل: سنة تسع وعشرين ومائة في أيام مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية1. راوياه: روى قراءته كثيرون، اشتهر منهم اثنان: حفص وشعبة. حفص: هو أبو عمرو حفص بن أبي داود سليمان بن المغيرة، الأسدي الكوفي، وكان يلقب بحفيض، وهو أعلم أصحاب عاصم بقراءته، فقد كان ربيبه، ابن زوجته قرأ عليه مرارًا، وكان الأولون يعدونه في الحفظ   1 راجع في ترجمته: غاية النهاية ج1، والإقناع ج1 ص115، ومعرفة القراء الكبار 1/73، والنشر 1/ 155 والأعلام 4/ 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 فوق أبي بكر بن عياش. وكان ثقة في الإقراء، ثبتًا ضابطًا، بقراءته يقرأ أهل المشرق اليوم، قال يحيى بن معين: الرواية الصحيحة التي رويت عن قراءة عاصم هي رواية حفص بن سليمان. ولد سنة تسعين وتوفي سنة 180هـ1. شعبة: هو أبو بكر بن عياش بن سالم الحناط، الأسدي، الكوفي الكاهلي، كان مولى، واختلف في اسمه على ثلاثة عشر قولًا أصحها: شعبة. كان إمامًا، علمًا، عالمًا، عاملًا، روى عن عاصم وعرض عليه القرآن ثلاث مرات، وعلى عطاء بن السائب، وأسلم المنقري، وأخذ عنه الحروف آخرون منهم الكسائي وخلاد الصيرفي. وكان من أئمة السنة، وصاحب الكلمة المشهورة في أبي بكر الصديق: ما فضلكم أبو بكر بكثير صلاة ولا صيام ولكن بشيء وقر في صدره. وهو أول من قال "بواو الثمانية". ذكر الثعلبي ذلك في تفسيره2. ولما حضرته الوفاة بكت أخته فقال لها: ما يبكيك؟ انظري إلي تلك الزاوية فقد ختمت فيها القرآن ثماني عشرة ألف ختمة. كان مولده سنة 94هـ وتوفي بالكوفة في جمادى الأولى سنة 193هـ، وفي هذا الشهر مات هارون الرشيد بطوس. عاش نحو تسع وتسعين سنة، وقطع الإقراء قبل موته بسنوات3.   1 نقل ابن الباذش عن الأهوازي أنه توفي سنة 170هـ عن ثلاث وسبعين سنة وراجع في ترجمته: غاية النهاية 1/255، والإقناع ج1 ص117، والنشر 1/ 156، والأعلام 2/ 291. 2 راجع بحثنا عن واو الثمانية بمجلة معهد اللغة العربية -جامعة أم القرى- مكة- العدد الثاني. 3 راجع في ترجمته الإقناع لابن الباذش ج1، والنشر 1/ 156، والأعلام، ومقدمة حجة القراءات للأفغاني ص58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 4- أبو عمرو بن العلاء : "68- 154هـ" هو أبو عمرو بن العلاء بن عمار التميمي، البصري. اختلف في اسم أبي عمرو اختلافًا كثيرًا، ذكر وجوهها ابن الباذش في الإقناع1 وقال ابن الجزري: وقد اختلف في اسمه على عشرين قولًا، لا ريب أن بعضها تصحيف من بعض، وأكثر الناس من الحفاظ وغيرهم على أنه "زبان" كما ذكرنا، وقال الذهبي: لا أشك في أنه زبان بالزاي. وقال الجاحظ: أبو عمرو وأبو سفيان ابنا العلاء، أسماؤهما كناهما2. ولد بمكة، ونشأ بالبصرة، وتوجه مع أبيه لما هرب من الحجاج فقرأ بمكة والمدينة، كما قرأ بالكوفة والبصرة، وليس في السبعة أكثر شيوخًا منه، سمع أنس بن مالك وغيره، وقرأ على الحسن البصري، وأبي العالية، وسعيد بن جبير، وعاصم بن أبي النجود، وعبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، وابن كثير المكي، وعكرمة مولى ابن عياش، وابن محيصن، ونصر بن عاصم، ويزيد بن القعقاع ويحيى بن يعمر.   1 ج1 ص92، ص93. 2 البيان والتبيين 1/ 321. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 روى القراءة عنه عرضًا جماعة كثيرة من مشاهير الأعلام مثل أبي زيد الأنصاري، والأصمعي، وعيسى بن عمر، ويحيى اليزيدي، وسيبويه، وكانت دفاتره ملء بيت إلى السقف. وأبو عمر من الطبقة الثالثة بعد الصحابة، حكى عنه أنه قال: كنت رأسًا والحسن حي. يعني البصري وقد مر به الحسن، وحلقته متوافرة، والناس عكوف فقال: لا إله إلا الله، كادت العلماء أن يكونوا أربابًا، كل عز لم يؤكد بعم فإلى ذل يؤول". انتشرت قراءته بين العلماء، ثم أقبل عليها العامة. وقد صحت فيه فراسة شعبة حين قال: انظروا ما يقرأ أبو عمرو مما يختار لنفسه فإنه سيصير للناس إسنادًا". ويقول ابن الباذش: وكان أبو عمرو أعلم الناس بالغريب والعربية والقرآن والشعر، وبأيام العرب وأيام الناس، وتتبع حروف القرآن تتبعًا استحق بها الإمامة، وشهد له بها أئمة وقته كأبي بسطام شعبة بن الحجاج. وقد شهد له ابن الجزري فقال: القراءة التي عليها الناس اليوم -يعني: في عهده حيث كانت المائة التاسعة للهجرة- بالشام والحجاز، واليمن ومصر هي قراءة أبي عمرو، فلا تكاد تجد أحدًا يلقن القرآن إلا على حرفه خاصة من الفرش. قال الأصمعي: مات أبو عمرو سنة 154هـ، وقيل: سنة 157هـ، وقيل: غير ذلك، وكانت وفاته بالكوفة عن ست وثمانين سنة1.   1 راجع في ترجمته معرفة القراء الكبار 1/ 83 والنشر 1/ 134 وغاية النهاية 1/ 443 والأعلام 3/ 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 راوياه: أشهر من روى عنه اثنان: الدوري والسوسي. الدوري: هو أبو عمر حفص بن عمر بن عبد العزيز بن صهبان الأزدي النحوي الضرير، ونسب للدور موضع ببغداد. كان إمام القراء في زمانه، ثقة، ثبتًا، ضابطًا. قرأ على الكسائي، وأخذ قراءة نافع عن إسماعيل بن جعفر وقراءة يزيد بن القعقاع عن ابن جماز، وقراءة حمزة عن محمد بن سعدان، ولأبي بكر عن عاصم، وعن يحيى اليزيدي قراءة أبي عمرو. وغيرهم، وأخذ القراءة عنه كثيرون، قال أبو داود: رأيت أحمد بن حنبل يكتب عن أبي عمرو الدوري، مات أبو عمر الدوري سنة 246هـ1. السوسي: وهو أبو شعيب صالح بن زياد بن عبد الله السوسي، نسبة إلى السوس، كورة بالأهواز. كان محرزًا، ضابطًا مقرئًا ثقة، أخذ القراءة عرضًا وسماعًا، قراءة أبي عمرو عن أبي محمد اليزيدي، وقرأ على حفص قراءة عاصم، وأخذ القراءة عنه جماعة. توفي بالرقة عام 261هـ عن نحو سبعين سنة2.   1 راجع فن ترجمته: الإقناع ج1 ص94، والنشر 1/ 134 والأعلام 2/ 291. 2 راجع من ترجمته: الإقناع ج1 ص95، والنشر 1/ 134، والأعلام 3/ 276. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 5- حمزة : 80- 156 هـ هو أبو عمارة حمزة بن حبيب الكوفي، الزيات1، مولى بني تميم، وقيل: مولى لبني عجل، وقال ابن دريد: هو من ولد أكثم بن صيفي2. إمام الناس في القراءة بعد عاصم والأعمش، مع زهد وعبادة وخشوع، محدث ثقة، سابق في القرآن والفرائض، قيّم بالعربية. قال أبو حنيفة وسفيان الثوري، ويحيى بن آدم: غلب حمزة الناس على القرآن والفرائض3. وحمزة من الطبقة الثالثة، وأدرك بعض الصحابة فهو من التابعين. أخذ القراءة عرضًا عن سليمان الأعمش، وحمدان بن أعين، وأبي إسحاق السبيعي، وجعفر بن محمد الصادق واختار مذهب حمدان الذي يقرأ قراءة ابن مسعود، ولا يخالف مصحف عثمان. روى عنه القراءة أعلام مشهورون منهم إبراهيم بن أدهم، والحسن الجعفي، وسليم بن عيسى أضبط أصحابه والكسائي، ويحيى بن زياد الفراء، ويحيى بن المبارك اليزيدي وغيرهم، وعرض عليه من نظرائه جماعة منهم سفيان الثوري. يقول ابن الباذش: ولد سنة 80هـ، وأحكم القراءة وله خمس عشرة سنة، وأم الناس سنة مائة وتوفي بحلوان العراق بموضع يقال له باغ يوسف في خلافة أبي جعفر المنصور، سنة 156هـ وله ست وسبعون سنة4.   1 لقب بالزيات؛ لأنه كان يجلب الزيت من العراق إلى حلوان. 2 الاشتقاق ص207. 3 راجع الإقناع ج1 ص125، وغاية النهاية 1/ 263. 4 المرجع السابق ص125 وما بعدها وراجع في ترجمته: معرفة القراء الكبار 1/ 93، والنشر 1/ 166، والأعلام 2/ 308. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 راوياه: أشهر من روى عن حمزة اثنان: خلف وخلاد. خلف: هو أبو محمد خلف بن هشام بن طالب البزار، الصِّلْحي من أهل فمَ الصِّلح1. إمام في القراءة، ثبت عند أهل الحديث، حدث عنه أحمد بن حنبل والأئمة، وهو أحد القراء العشرة، وأحد الرواة عن سليم عن حمزة، عرف بالزهد والعلم والعبادة. أخذ القرآن عن سليم بن عيسى، وعبد الرحمن بن أبي حماد عن حمزة، وأبي زيد الأنصاري عن المفضل الضبي، وروى الحروف عن إسحاق المسَيِّبِيّ ويحيى بن آدم، وسمع من الكسائي، ولم يقرأ عليه القرآن. وروى القراءة عنه عرضًا وسماعًا: ورّاقة أحمد بن إبراهيم، وأحمد بن يزيد الحلواني. كان خلف يأخذ بمذهب حمزة إلا أنه خالفه في مائة وعشرين حرفًا في اختياره. ولد في رجب سنة 150هـ، وتوفي ببغداد وهو مختف من الجهمية يوم السبت لسبع خلون من جمادي الآخرة سنة 229 في خلافة الواثق بالله2.   1 فم الصِّلح: نهر كبير فوق واسط، عليه عدة قرى، وفيها بين المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل. 2 راجع في ترجمته: الإقناع 1/ 126، غاية النهاية 1/ 273، تاريخ بغداد 8/ 322، والأعلام 2/ 360. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 خلاد: هو أبو عيسى خلاد بن خالد، الشيباني بالولاء، الصيرفي، الكوفي، اختلف في اسم أبيه أهو خالد أم عيسى أم خليد. إمام في القراءة، ثقة، محقق، ضابط، مجود. أخذ القراءة عن أبي عيسى سليم بن عيسى، الحنفي الكوفي عن حمزة، وسليم من أضبط الناس وأجلهم، كما رواها حسين بن علي الجعفي عن أبي بكر، وعن أبي بكر نفسه عن عاصم. وروى القراءة عنه عرضًا: أحمد بن يزيد الحلواني، والقاسم الوزان وهو من أنبل أصحابه وآخرون. توفي بالكوفة سنة 220هـ كما قال البخاري1.   1 راجع في ترجمته الإقناع 1/ 127، والنشر 1/ 165، والأعلام 2/ 356. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 6- نافع : 70- 169 هـ هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، مولى جعونة بن شعوب الشِّجْعي، وجَعْوَنة حليف حمزة بن عبد المطلب، وقيل: حليف العباس، وقيل: حليف بني هاشم. ذكرت له عدة كنى منها أبو رويم، وأبو الحسن، وأبو نعيم. يعد من الطبقة الثالثة بعد الصحابة. أصله من أصبهان، كما روى الأصمعي حكاية عنه، وكان أسود شديد السواد، صبيح الوجه حسن الخلق، فيه دعابة، إذا تلك يشم من فيه رائحة المسك. وهو إمام أهل المدينة، صاروا إلى قراءته، ورجعوا إلى اختياره، قاله ابن أبي أويس قال لي مالك: قرأت على نافع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 كان عالمًا بوجوه القراءات، متبعًا لآثار الأئمة، زاهدًا، جوادًا، صافي في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- ستين سنة. تلقى القراءة على سبعين من التابعين عرضًا منهم: عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وأبو جعفر يزيد بن القعقاع، وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر، والزهري، وشبيه بن نصاح القاضي، ومسلم بن جندب الهذلي. وروى القراءة عنه عرضًا وسماعًا: الإمام مالك، وقالون من أهل المدينة، والأصمعي، وأبو عمرو بن العلاء من أهل البصرة، وورش، والليث بن سعد من أهل مصر، وأبو مسهر الدمشقي، وخويلد بن معدان من أهل الشام، وكثير غيرهم من مختلف الأمصار. أقرأ الناس سبعين سنة ونيفًا، وانتهت إليه رياسة القراءة بالمدينة، وتمسك أهلها بقراءته، وكان الإمام مالك يقول: قراءة أهل المدينة سنة، قيل له: قراءة نافع؟ قال: نعم، وكانت قراءتهم أحب القراءات إلى الإمام أحمد بن حنبل. توفي بالمدينة سنة 169هـ في خلافة الهادي، وقيل: سنة 159هـ في خلافة المهدي، وقيل: غير ذلك1. راوياه: وأشهر رواته اثنان: ورش وقالون. ورش: هو عثمان بن سعيد بن عدي بن غزوان بن سابق المصري، مولى   1 الإقناع ج1 ص55- 56 ومعرفة القراء الكبار للذهبي 1/ 90- 92، النشر لابن الجزري 1/ 112 والأعلام 8/ 317، 318. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 آل الزبير بن العوام، يكنى أبا سعيد، وقيل: أبا عمرو، وقيل: أبا القاسم. ولقب بورش، قيل: لأنه كان قصيرًا، أشقر، أبيض اللون، يلبس ثيابًا قصارًا فشبهة نافع "بالورشان" الطائر المعروف، ثم خفف، فقيل: ورش، وقيل: لقب بذلك لشدة بياضه؛ لأن الورش شيء يصنع من الدين. ونقل ابن الباذش عن أبيه أنه رأى في كتاب: "الغريب المصنف" نقلًا عن الفراء: ورشت الطعام ورشًا إذا تناولت منه شيئًا يسيرًا" ثم يبنى على ذلك هذا الاستنتاج فيقول: فلعله كان يكثر تصريف الكلمة فعرف بها1، ولد بمصر سنة 110هـ، ثم رحل إلى نافع فعرض عليه القرآن عدة ختمات سنة 155هـ. كان شيخ القراء المحققين، إمامًا في أدائه وترتيله، حسن الصوت، انتهت إليه رياسة الإقراء بالديار المصرية وكان له اختيارات خالف فيها نافعًا، إذا قرأ يهمز ويمد، ويشدد، ويبين الإعراب، لا يمله سامعه. توفي بمصر سنة 197هـ في خلافة المأمون، وله سبع وثمانون سنة. قالون: هو أبو موسى عيسى بن مينا بن وردان بن عيسى بن عبد الصمد بن عمرو بن عبد الله المدني، جده عبد الله سبي من الروم في عهد عمر بن الخطاب، وبيع في المدينة، فاشتراه أحد الأنصار فأعتقه، فهو   1 الإقناع ج1 ص57، وطبقات القراء ج1 ص502، والغريب المصنف مخطوط ألفه أبو عبيد القاسم بن سلام، أنفق في تأليفه أربعين عامًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 مولى الأنصار1 وقيل: إنه مولى الزُّهْرِيين. يقال: إنه كان ربيب نافع، وأنه هو الذي لقبه به لجودة قراءته؛ لأن "قالون" بلسان الروم "جيد"2. وقد حقق ابن الجزري هذا الأمر فقال: سألت الروم عن ذلك، فقالوا: نعم، غير أنهم نطقوا لي بالقاف كافًا على عادتهم3. كما قالوا: إن عبد الله بن عمر كانت له جارية رومية، وكانت تقول له: أنت قالون. أي رجل صالح. قرأ القرآن على "نافع" كثيرًا، وكان جيد القراءة، وكان أصم لا يسمع البوق لكن ينظر إلى شفتي القارئ ويرد عليه اللحن والخطأ. ولد سنة 120هـ في أيام هشام بن عبد الملك، وقرأ على نافع سنة 150، ومات سنة 205هـ من أيام المأمون وله خمس وثمانون سنة4.   1 هذه الرواية نقلها ابن الباذش عن أبي علي الحسن بن علي الأهوازي شيخ القراء في عصره توفي بدمشق سنة 446هـ، وقرأ عليه غلام الهراس، وأبو القاسم الهذلي، وله كتاب: "الوجيز في القراءات الثمان" ينقل عنه أبو جعفر بن الباذش كثيرًا. 2 الإقناع ج1 ص58. 3 طبقات القراء 1/ 615. 4 راجع في ترجمته بجانب ما سبق النشر 1/ 112 والنجوم الزاهرة 2/ 235، والأعلام 4/ 366. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 7- الكسائي : "119- 189" هو أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله، بن بهمن، بن فيروز الكوفي النحوي، مولى بني أسد، فارسي الأصل. اختلف في سبب تسميته الكسائي، فقيل: إنه سئل من ذلك فقال: لأني أحرمت في كساء وقيل: لأنه من قرية بين واسط وبغداد اسمها باكُسَايا، فهو نسب على غير قياس، والقياس: باكساوي، وباكسائي، وقال آخرون: كان يتشح بكساء ويجلس في مجلس حمزة، فإذا أراد أن يقرأ يقول: حمزة أعرضوا على صاحب الكساء، فسمى الكسائي بذلك1. كان صادق اللهجة، واسع العلم بالقرآن، والعربية، والغريب، وإمام مدرسة الكوفة النحوية، وعمدة نحويي الكوفة ومرجعهم. قال فيه الشافعي: من أراد أن يتبحر في النحو فهو عيال على الكسائي. وقال أبو بكر الأنباري: اجتمعت في الكسائي أمور، كان أعلم الناس بالنحو، وأوحدهم في الغريب، وكان أوحد الناس في القرآن. انتهت إليه رياسة الإقراء بالكوفة بعد حمزة الزيات، أخذ القراءة عرضًا عن حمزة أربع مرات وعليه اعتماده، وعن محمد بن أبي ليلى، وعيسى بن عمر الهمداني، وروى الحروف عن أبي بكر بن عياش، وعن إسماعيل ويعقوب ابني جعفر قراءة نافع، وعن المفضل الضبي، ورحل إلى البصرة، فأخذ اللغة عن الخليل. وأخذ القراءة عنه عرضًا وسماعًا جمع منهم: إبراهيم زاذان، وحفص الدوري، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وقتيبة بن مهران، وخلف بن هشام البزار،، ويحيى بن زياد الفراء، وروى عنه الحروف يعقوب الحضرمي. ذكر أبو عبيد في كتاب "القراءات": أن الكسائي كان يتخير القراءات، فأخذ من قراءة حمزة ببعض وترك بعضًا، وكان من أهل القراءة، وهي كانت علمه وصناعته، ولم يجالس أحدًا كان أضبط، ولا أقوم بها منه، وكانت قراءته متوسطة غير خارجة عن آثار من تقدم من   1 ذكر هذه الآراء محققة منسوبة لأصحابها ابن الباذش في الإقناع ج1 ص 138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الأئمة إلا أن الناس كانوا يكثرون عليه حتى لا يضبط الأخذ عليهم، فيجمعهم، ويجلس على كرسي، ويتلو القرآن من أوله إلى آخره، وهم يسمعون ويضبطون عنه حتى المقاطع والمبادئ، وربما وقع منه خطأ، فيأمرهم بمحوه من كتبهم. ألف كتبًا كثيرة في اللغة والنحو والقراءة منها: معاني القرآن، والقراءات، مقطوع القرآن وموصوله، والهاءات. توفي برنبويه قرية من قرى الري في رحلته مع الرشيد: إلى خراسان، وتوفي معه محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة فقال الرشيد: دفنا الفقه والنحو برنبويه، وكان ذلك سنة 289هـ، كما قال البخاري، وأبو عمر الدوري، وابن مجاهد1. راوياه: اشتهر بالرواية عنه اثنان: الليث والدوري. الليث: هو الليث بن خالد المروزي، وقيل البغدادي. ثقة، معروف، حاذق، ضابط، عرض القراءة على الكسائي وهو من أجل أصحابه، وروى الحروف عن حمزة بن القاسم الأحول، وعن اليزيدي. وروى القراءة عنه عرضًا وسماعًا سلمة بن عاصم صاحب الفراء وغيره. توفي سنة 240هـ، كما ذكره الأهوازي في كتابه الوجيز2. الدوري: سبقت الترجمة له عند حديثنا عن راويي عمرو بن العلاء؛ لأنه روى قراءة عمرو وقراءة الكسائي جميعًا، وهو نزيل سامرا، وشيخ قراء زمانه، وروى القراءة عنه الإمام الطبري، المفسر، المؤرخ، ورئي أحمد بن حنبل يكتب عنه. توفي سنة 246.   1راجع في ترجمته: السبعة لابن مجاهد، ووفيات الأعيان، والإقناع ج1 ص 138، ومعرفة القراء الكبار 1/ 100، والنشر 1/ 172، والأعلام 5/ 94. 2 راجع في ترجمة الإقناع ج1 ص140، ومعرفة القراء الكبار 1/ 173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 8- أبو جعفر : "130" هـ: من الثلاثة المتمون للعشرة: هو يزيد بن القعقاع، المخزومي، المدني، القارئ، وكنيته أبو جعفر. من التابعين، وأحد القراء العشرة، صالح متعبد، عرض القراءة على مولاه عبد الله بن عياش، وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة، وقرأ هؤلاء الثلاثة على أبي بن كعب، وابن عباس على يزيد بن ثابت أيضًا، وكلهم قرءوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد صلى بابن عمر، وأقرأ الناس، حتى كان إمام أهل المدينة في القراءة فعرف بالقارئ وذكر أبو الزناد أنه: لم يكن أحد أقرأ للسنة منه، وكان يقدم في زمانه على عبد الرحمن بن هرمز الأعرج. روى القراءة عنه: نافع، وسليمان بن مسلم بن جماز، وعيسى بن وردان وجماعة. توفي رحمه الله سنة 130 هـ، على الأصح1.   1 معرفة القراء الكبار 1/ 59- 60، النشر 1/ 178، والأعلام 9/ 241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 راوياه: أشهر من روى عنه: عيسى بن وردان وابن جماز. عيسى بن وردان: هو عيسى بن وردان المدني، يكنى أبا الحارث. هو من أقدم أصحاب نافع، ومن رفقائه في القراءة على أبي جعفر، وشاركه في الإسناد وقد عرض القرآن على أبي جعفر، وشيبة، ثم عرض على نافع. وعرض عليه القرآن إسماعيل بن جعفر وقالون. وهو إمام مقرئ حاذق، وراوٍ، محقق، ضابط. توفي عام 160هـ1. ابن جماز: سليمان بن محمد بن مسلم بن جماز الزهري المدني، يكنى أبا الربيع. عرض على أبي جعفر وشيبة، ثم على نافع، وأقرأ بحرف أبي جعفر ونافع، ثم عرض عليه إسماعيل بن جعفر، وقتيبة بن مهران، وهو مقرئ جليل، ضابط، مقصود في قراءة نافع وأبي جعفر. توفي بعد سنة 170هـ2.   1 معرفة القراء الكبار 1/ 92 والنشر لابن الجزري 1/ 179. 2 النشر 1/ 179 وتاريخ القراء العشرة ورواتهم للشيخ القاضي ص39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 9- يعقوب الحضرمي : "117- 205هـ" من الثلاثة المتمون للعشرة. هو يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد الله بن إسحاق الحضرمي، البصري، مولى الحضرميين وكنيته أبو محمد، أحد الأئمة العشرة. إمام أهل البصرة ومقرئها، انتهت إليه رياسة القراءة فيها بعد أبي عمرو، وكان أعلم الناس بمذاهب النحويين في القراءات. قال عنه السجستاني: هو أعلم من رأيت بالحروف، والاختلاف في القرآن، وعلله، ومذاهبه، ومذاهب النحو، وأروى الناس لحروف القرآن، ولحديث الفقهاء. وقد اتبع البصريون اختبارته في القراءة بعد أبي عمرو، ولا يقرأ إمام الجامع في البصرة إلا بقراءته، حتى المائة التاسعة حيث كان يعيش ابن الجوزي الذي استنكر قول من عد قراءته من الشواذ فقال: فليعلم أنه لا فرق بين قراءة يعقوب وقراءة غيره من السبعة عند أئمة المحققين، وهو الحق الذي لا محيد عنه. وكان عالمًا ثقة على صلاح ودين، وله مكانة في البصرة حتى كان يحبس ويطلق. أخذ القراءة عرضًا عن جماعة منهم سلام بن سليمان المزني، ومهدي بن ميمون، وقرأ على شهاب بن شرنقة قراءة أبي الأسود الدؤلي عن علي بن أبي طالب، وقراءته على أبي الأشهب عن أبي رجاء عن أبي موسى في غاية العلو، وسمع الحروف من الكسائي ومحمد بن زريق الكوفي عن عاصم، وسمع من حمزة حروفًا. وروى القراءة عنه عرضًا كثيرون منهم أبو حاتم السجستاني، وأبو عمر الدوري. توفي في ذي الحجة سنة 205هـ، عن ثمان وثمانين سنة1.   1 انظر ترجمته في النشر 1/ 186، ومعرفة القراء الكبار 1/ 130، والأعلام 9/ 255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 راوياه: من أشهر الذين رووا عن جعفر قارئان هما: روح، ورويس. روح: هو روح بن عبد المؤمن الهذلي بالولاء، وكنيته أبو الحسن. مقرئ جليل، ضابط ثقة، من أجل أصحاب يعقوب، عرض عليه وأخذ الحروف عن جماعة عن أبي عمرو، وعرض عليه جماعة منهم أحمد بن يزيد الحلواني. توفي عام "234 أو 235"1. رويس: هو محمد بن المتوكل اللؤلؤي البصري، وكنيته أبو عبد الله. مقرئ حاذق، ضابط مشهور أخذ القراءة عن يعقوب الحضرمي، وختم عليه مرات، وهو أكثر أصحابه فطنة، وروى القراءة عنه عرضًا محمد بن هارون التمار، والإمام أبو عبد الله الزبيري، وكان ماهرًا في الإقراء بحيث يفرق بين المبتدئين في القراءة ومن مهروا فيها. توفي بالبصرة سنة 238هـ2.   1 انظر في ترجمته معرفة القراء الكبار 1/ 175، والنشر 1/ 187. 2 راجع في ترجمته معرفة القراء الكبار 1/ 177، والنشر 1/ 186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 10- خلف العاشر : "150- 229" هو خلف بن هشام البزار، البغدادي، كنيته أبو محمد. تقدمت ترجمته باعتباره راويًا عن حمزة، وله قراءة اشتهر بها. وأشهر رواته، إسحاق وإدريس. إسحاق: هو إسحاق بن إبراهيم بن عثمان بن عبد الله المروزي، ثم البغدادي، كنيته أبو يعقوب. روى عن خلف اختياره وقرأ عليه، وقام به بعده، كما قرأ على الوليد بن مسلم. وقرأ عليه جماعة منهم ابن شنبوذ وابنه محمد بن إسحاق. كان قيمًا بالقراءة، ثقة، ضابطًا لها وإن كان لا يعرف من القراءات إلا اختيار خلف. توفي سنة 286هـ1. إدريس: هو إدريس بن عبد الكريم البغدادي، الحداد، وكنيته أبو الحسن. قرأ على خلف البزار روايته واختياره، وعلى محمد بن حبيب الشموني. وروى عنه القراءة سماعًا ابن مجاهد، وعرضًا محمد بن أحمد بن شنبوذ، وابن مقسم وأبو بكر النقاش وجماعة. وهو إمام ضابط، متقن، ثقة، سئل عنه الدارقطني فقال: هو ثقة، وفوق الثقة بدرجة. توفي سنة 292هـ عن ثلاث وتسعين سنة2.   1 النشر لابن الجزري 1/ 191، وتاريخ القراء العشرة ص45. 2 النشر 1/ 199، وتاريخ القراء العشرة ص45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 الأربع الشواذ : 11- الحسن البصري : "21- 110هـ": هو أبو سعيد بن يسار، مولى الأنصار. علم من أعلام الإسلام، ومن خيرة التابعين، وإما أهل زمانه علمًا وعملًا، وهو أشهر من أن يعرف. قرأ على حطان بن عبد الله الرقاشي عن أبي موسى الأشعري، على أبي العالية عن أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعمر بن الخطاب. روى عنه أبو عمرو بن العلاء، وسلام الطويل، ويونس بن عبيد، وعيسى بن عمر النحوي. كان الحسن فصيح العبارة، سليم اللغة حتى قال فيه الشافعي: لو أشاء أقول: إن القرآن نزل بلغة الحسن لقلت. وذلك لفصاحته1. أشهر الرواة عنه: اثنان 1- شجاع بن أبي نصر البلخي، البغدادي الزاهد: كنيته أبو نعيم ولد في نحو سنة 120هـ، وتوفي سنة 190هـ. ثقة كبير، عرض على أبي عمرو بن العلاء، وكان من خيرة أصحابه، وسمع من عيسى بن عمر. وروى عنه القراءة أبو عبيد القاسم بن سلام، وغيره. سئل عنه الإمام أحمد بن حنبل فقال: بخ بخ وأين مثله اليوم2. 2- الدوري: وقد سبقت ترجمته باعتباره أحد راويي أبي عمرو بن العلاء.   1 راجع في ترجمته وفيات الأعيان، وإتحاف فضلاء البشر. 2 راجع: إتحاف فضلاء البشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 12- ابن محيصن "123": محمد بن عبد الرحمن السهمي بالولاء. مقرئ أهل مكة مع ابن كثير، ثقة، أعلم قراء مكة بالعربية، وأقواهم عليها. عرض على مجاهد بن جبر، ودرباس مولى ابن عباس، وسعيد بن جبير. عرض عليه شبل بن عباد، وأبو عمرو بن العلاء، وسمع منه حروفًا إسماعيل بن مسلم المكي، وعيسى بن عمر البصري. ولولا ما في قراءته من مخالفة المصحف لألحق بالقراءات المشهورة، قال ابن مجاهد: كان لابن محيصن اختيار في القراءة على مذهب العربية، فخرج به عن إجماع أهل بلده، فرغب الناس عن قراءته، وأجمعوا على قراءة ابن كثير لاتباعه". توفي سنة 123هـ1. وأشهر الرواة عنه اثنان: البزي، وابن شنبوذ. البزي: أحد راويي ابن كثير أيضًا، وقد تقدمت ترجمته. ابن شنبوذ: محمد بن أحمد بن أيوب البنداري، وكنيته: أبو الحسن.   1 راجع السبعة لابن مجاهد، وإتحاف فضلاء البشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 شيخ الإقراء في العراق، ارتحل في طلب العلم، وكان ثقة، عرف بالخير والصلاح، واشتهر بالعلم وقوة الحفظ. أخذ القراءة عرضًا عن أحمد بن إبراهيم، وراق خلف، وعن إبراهيم الحربي، وقنبل، وجماعة في أمصار عديدة. وقرأ، عليه جماعة كثيرة منهم أبو بكر بن مقسم، والمعافي بن زكريا. وكانت العلاقات قد ساءت بينه وبين ابن مجاهد، فلم يقرئ من قرأ على ابن مجاهد، ويقول فيه: لم تغبر قدماه في هذا العلم. وكان يجوز القراءة بالشاذ وهو ما خالف رسم المصحف، وعقد له بسبب ذلك مجلس، فاعترف وتاب وكتب له محضر بذلك. توفي سنة 328هـ1.   1 راجع النشر للجزري، وإتحاف فضلاء البشر للدمياطي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 13- الأعمش : "60- 148هـ" 1: هو سليمان بن مهران الكوفي، مولى بني أسد، وكنيته أبو محمد. الإمام الجليل، مقرئ الأئمة، وصاحب نوادر. أخذ القراءة عرضًا عن إبراهيم النخعي، وزر بن حبيش، وعاصم بن أبي النجود، ومجاهد بن جبر، وأبي العالية الرياحي وغيرهم. روى القراءة عنه عرضًا وسماعًا: حمزة الزيات، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وجماعة، وروى عنه الحروف محمد بن عبد الله المعروف بزاهر، ومحمد بن ميمون.   1 راجع طبقات القراء، ومعرفة القراء الكبار، وإتحاف فضلاء البشر، ومقدمة سعيد الأفغاني لحجة القراءات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 قال هشام: "ما رأيت في الكوفة أقرأ لكتاب الله من الأعمش، وكان يقول: إن الله زين بالقرآن أقوامًا، وإني ممن زينه الله بالقرآن، ولولا ذلك لكان على عنقي "من أطوف في سكك الكوفة". ومن نوادر أنه خرج يومًا إلى الطلبة فقال: لولا أن في منزلة من هو أبغض إلى منكم ما خرجت إليكم. توفي سنة 148هـ. وأشهر الرواة عنه اثنان: المطوعي والشنبوذي. المطوعي: هو الحسن بن سعيد العباداني: البصري العمري، وكنيته: أبو العباس. إمام، ثقة، ارتحل في القراءة إلى شتى الأقطار، فقرأ على إدريس بن عبد الكريم، ومحمد الأصبهاني، ويوسف الواسطي، والحسن بن حبيب الدمشقي، وابن مجاهد، ويموت بن المزرع، وابن شنبوذ، وجماعة. وقرأ عليه جماعة، وعمر حتى جاوز المائة، فانتهى إليه علو الإسناد في القراءات، له كتاب "معرفة اللامات وتفسيرها". توفي سنة 371هـ1. الشنبوذي: محمد بن أحمد بن إبراهيم الشطوي البغدادي، وكنيته أبو الفرج، وعرف بالشنبوذي.   1 راجع: طبقات القراء وإتحاف فضلاء البشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 إمام من أئمة القراءة، مشهور نبيل، حافظ حاذق، رحل في الأقطار، ولقي الشيوخ، وتبحر في التفسير:. أخذ القراءة عرضًا عن ابن مجاهد، وأبي بكر النقاش، وأبي الحسن بن شنبوذ، ولازمه فنسب إليه. وكان عالمًا بالتفسير وعلل القراءات. وقرأ عليه جماعة، واشتهر اسمه وطال عمره. ولد سنة 300هـ، وتوفي سنة 388هـ1.   1 راجع: طبقات القراء وإتحاف فضلاء البشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 14- اليزيدي : "128- 202هـ": هو يحيى بن المبارك، العدوي بالولاء، البصري، وكنيته: أبو محمد. نحوي، مقرئ، ثقة، علامة كبير في النحو والعربية والقراءة أخذ القراءة عرضًا عن أبي عمرو بن العلاء، وخلقه بالقيام بها، وأخذ عن حمزة. روى القراءة عنه أولاده: محمد وعبد الله وإبراهيم وإسماعيل، كما روى عنه أبو عمر الدوري، وسليمان بن أيوب بن الحكم، وسليمان بن خلاد، وجماعة. روى عنه الحروف أبو عبيد القاسم بن سلام. وله اختيار خالف فيه أبا عمرو في حروف يسيرة، وهو أضبط أصحاب أبي عمرو عنه، وتصدى لروايتها عنه، والاشتغال بها، قيل: إنه أملي عشرة آلاف ورقة عن أبي عمرو خاصة. نقل عنه أبو زرعة في "حجة القراءات" كثيرًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 له مناظرات ومجالس نحوية ذكرتها كتب الطبقات ولد سنة 128هـ، وتوفي سنة 202هـ1. راوياه: روى عنه قراءته اثنان من القراء: سليمان الخياط، وأحمد بن فرح. سليمان: هو سليمان بن أيوب بن الحكم، الخياط البغدادي، يعرف بصاحب البصري، وكنيته: أبو أيوب. مقرئ جليل، ثقة، قرأ على اليزيدي، وقيل: إنه عرض على ابنه: أبي عبد الرحمن عبد الله بن اليزيدي، وقرأ عليه أحمد بن حرب المعدل، وإسحاق بن مخلد الدقاق وآخرون. توفي سنة 235هـ2. أحمد بن فرح: هو أحمد بن فرح "بالحاء المهملة" بن جبريل، الضرير، البغدادي، المفسر، وكنيته: أبو جعفر. ثقة كبير، قرأ على الدوري بجميع ما عنده من القراءات، وقرأ أيضًا على عبد الرحمن بن واقد، والبزي وعمر بن شبه. وقرأ عليه جماعة منهم ابن مقسم، وابن مجاهد، وابن شنبوذ توفي عام 303هـ وقد قارب التسعين من عمره3.   1 راجع نزهة الألباء للأنباري، وطبقات القراء لابن الجزري، وإتحاف فضلاء البشر. 2 راجع طبقات القراء وإتحاف فضلاء البشر. 3 راجع طبقات القراء وإتحاف فضلاء البشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الفصل الرابع: ترتيل القرآن الترتيل معناه وأركانه : بين لنا رب العالمين في كتابه الكريم الأسلوب القويم الذي نتلو به كتابه؛ لتتحقق لنا الثمرة المرجوة من تلاوته فقال تعالى: {وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} 1، وقال جل شأنه مخاطبًا نبيه محمدًا عليه الصلاة والسلام: {وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا} 2. فالقراءة على مكث أي، بتأنٍ وتمهل هي الترتيل. معنى الترتيل: قال الجوهري: الترتيل في القراءة الترسل فيها والتبيين بغير بغي، وكلام رَتِل بالتحريك، أي مرتل، وثغر رَتَل أيضًا إذا كان مستوى لثنيات، ورجل رَتِل مثل تَعِبْ بَيِّن الرتَل أي مُفَلّج الأسنان3. وفي القاموس المحيط: الرتل محركة حسن تناسق الشيء. قال ابن عباس في تفسير "رتل القرآن" بينه، وقال "مجاهد":   1 الإسراء: 106. 2 سورة المزمل: 4. 3 الصحاح مادة "رتل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 تأن فيه، وقال الضحاك: انبذه حرفًا حرفًا، أي تلبث في قراءته وتمهل فيها، وافصل الحرف من الحرف الذي بعده1. من خلال هذه التفسيرات سواء أكانت لغوية أم مأثورة يستبين لنا أن الترتيل يعني البيان والوضوح بحيث تخرج الحروف من مخارجها، وتؤدي أداء جيدًا، وتتحرى الوقف الملائم ونحو هذا، وقد سئل علي -رضي الله عنه- عن الآية: {وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا} فقال: الترتيل تجويد الحروف، ومعرفة الوقوف. قال ابن الجزري: الترتيل مصدر رتل فلان كلامه إذا أتبع بعضه بعضًا على مكث وتفهم من غير عجلة، وقد نزل القرآن الكريم بالترتيل، فقال تعالى: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} 2، وروى ابن الجزري عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله يحب أن يقرأ القرآن كما أنزل" 3. ولأهمية الترتيل لم تكتف الآية بمجرد الأمر عن طريق الفعل وإنما أكده بالمصدر، تعظيمًا لشأنه، وليكون ذلك عونًا على تدبر القرآن، وتفهمه. قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم: وصفت أم سلمة قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى إن الراوي عنها يقول: فإذا هي مفسرة حرفًا حرفًا4، كما روى ابن أبي مليكة عن أم   1 النشر ج1 ص296. 2 المرجع السابق. 3 النشر ج1 ص296. 4 القطع والائتناف لابن النحاس ص86، والحديث رواه الترمذي ج4 ص254، عن يعلي بن مملك أنه سأل أم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قراءة النبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 سلمة أيضًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقطع قراءته أي يقف على رءوس الآيات. كما جاء في حديث ابن عمر -رضي الله عنه: أنه تنزل السورة من القرآن على النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- "فتعلم حلالها، وحرامها، وما ينبغي أن يوقف عنده منها، كما تتعلمون أنتم اليوم القرآن"1. وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قام بآية يرددها حتى أصبح، وهي قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2. وعن أنس أنه سئل عن قراءة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال: كانت مدًّا، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، يمد الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم3. من خلال هذا النصوص نتبين معالم القراءة النبوية، كما يلي: أ- إخراج الحروف من مخارجها إخراجًا دقيقًا. ب- تخير الوقف الملائم. د- مراعاة المد، وتجويد الحروف. هـ- التأمل والتدبر. نخلص من هذا إلى أن الترتيل كما فسره علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- له ركنان: 1- تجويد الحروف. 2- معرفة الوقوف.   1 القطع والائتناف ص87. 2 رواه النسائي وابن ماجه، والآية من سورة المائدة: 118. 3 رواه البخاري، وراجع النشر ج2 ص297. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وسنتحدث عن كليهما فيما بعد. أنواع القراءة: ذكر صاحب النشر ثلاثة أنماط لقراءة القرآن هي: 1- التحقيق. 2- الحدر. 3- التدوير 1- التحقيق: وهو الإتيان بالشيء على حقه دون زيادة أو نقصان، فهو بلوغ حقيقة الشيء، والوقوف على كنهه. والظواهر القرائية لهذه الطريقة تتمثل في: إعطاء كل حرف حقه من إشباع المد، وتحقيق الهمزة، وإتمام الحركات. واعتماد الإظهار والتشديدات، وتوفية الغنات، وتفكيك الحروف، وهو بيانها، وإخراج بعضها من بعض بالسكت، والترسل، واليسر، والتؤدة، وملاحظة الجائز من الوقوف1، وتتم كل هذه الظواهر دون مبالغة. والذين قرءوا بالتحقيق حمزة، وورش من غير طريق الأصبهاني عنه. وقرأ به قتيبة عن الكسائي. وقرأ به بعض المصريين عن الحلواني عن هشام، وأكثر العراقيين عن الأخفش عن ابن ذكوان. وذكر ابن الجزري إسنادًا لهذه القراءة يبدأ منه، وينتهي بأبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلق أبو عمرو الداني من قبل على هذا الحديث بأنه غريب "لا أعلمه يحفظ إلا من هذا الوجه، وهو مستقيم الإسناد"2.   1 النشر ج2 ص294. 2 المرجع السابق ص295. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 2- قراءة الحدر: هو من حدَر يحدُر "من باب نصر" إذا أسرع، فهو من الحدور أي الهبوط؛ لأن الإسراع من لوازمه على عكس الصعود، فهي قراءة تتسم بالأداء السريع، وتتلاءم مع من يريدون الإكثار من القراءة رغبته في مزيد من الأجر. وظواهرها القرائية تتمثل من: إدراج القراءة وسرعتها، وتخفيفها بالقصر والتسكين، والاختلاس، والبدل، والإدغام الكبير، وتخفيف الهمزة؛ ونحوها من الظواهر اللغوية التي وردت القراءة بها مع إيثار وصل، وإقامة الإعراب، ومراعاة تقويم اللفظ، وتمكن الحروف. والقراءة بالحدر مذهب ابن كثير وأبي جعفر، وسائر من قصر المنفصل كأبي عمرو، ويعقوب وقالون، والأصبهاني عن ورش، وكالولي عن حفص، وأكثر العراقيين عن الحلواني عن هشام1. 3- قراءة التدوير: فهو عبارة عن التوسط بين المقامين من التحقيق والحدر. وقد وردت هذه القراءة عن أكثر الأئمة ممن روى من المنفصل، ولم يبلغ فيه إلى الإشباع. وهو مذهب سائر القراء، وصح عن جميع الأئمة، وهو المختارعند أكثر أهل الأداء. قال ابن مسعود رضي الله عنه: لا تنثروه -يعني القرآن- نثر الدقل، ولا تهزوه هزَّ الشعر. وجاءه رجل فقال قرأت المفصل الليلة من ركعة، فقال: هزًّا كهز الشعر.   1 المرجع السابق ص296. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 أي الأنواع الثلاثة أفضل؟: ذهب بعضهم إلى أن كثرة القراءة أفضل، ومعنى هذا أنهم، يؤثرون الحدر على التحقيق محتجين بحديث ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة, الحسنة بعشر أمثالها" 1، كما ذكروا آثارًا كثيرة عن السلف في كثرة القراءة. والذي عليه معظم السلف والخلف أن الترتيل والتدبر مع قلة القراءة أفضل من السرعة مع كثرتها؛ لأن المقصود من القرآن الكريم فهمه وتدبره، والتفقه فيه، والعمل به، كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ} 2، والتلاوة والحفظ وسيلة إلى فهم المعنى، الذي يلزم المسلم بالعمل والتنفيذ. وقراءة التحقيق أدنى هذه الأنماط الثلاثة إلى الترتيل. وإذا نظرنا إلى خصائص قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي استنتجناها آنفًا نراها أقرب إلى قراءة التحقيق أيضًا؛ إذ تتجه إلى إيضاح المعنى وإبرازه. وحديث ابن مسعود ليس فيه حث على الإسراع، وإنما فيه بيان للثواب العظيم في القراءة، والذي يضاعفه الله للقارئ المحسن القراءة، المستفيد منها في عمله وسلوكه. وسئل مجاهد عن رجلين قرأ أحدهما البقرة، والآخر البقرة وآل عمران في الصلاة، وركوعهما، وسجودهما واحد؟ فقال: الذي قرأ البقرة وحدها أفضل3.   1 رواه الترمذي وصححه، ورواه غيره "بكل حرف عشر حسنات". 2 سورة ص: 29. 3 النشر ج2 ص297. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وقد أسلفنا حديث أبي الدرداء الذي روى فيه ترديد النبي -صلى الله عليه وسلم- لآية واحدة حتى الصباح. وروى ابن الجزري عن محمد بن كعب القرظي قوله: لأن أقرأ ليلتي حتى أصبح: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} و {القَارِعَةُ} لا أزيد عليهما، وأردد فيهما، وأتفكر أحب إلى من أن أهز القرآن هزًّا1. ويقول أبو حامد الغزالي: واعلم أن الترتيل يستحب لا لمجرد التدبر، فإن العجمي الذي لا يفهم معنى القرآن يستحب له أيضًا في القراءة الترتيل والتودة؛ لأن ذلك أقرب إلى التوقير والاحترام، وأشد تأثيرًا في القلب من الهذرمة والاستعجال2. بين الترتيل والتحقيق: أهناك فرق بينهما؟ نقول على ضوء ما سبق: الترتيل أعم من التحقيق، وهو يلائم من يقرأ للتدبر، والتفكر، والاستنباط، أما التحقيق فيكون للتعليم والتمرين، وترويض النشء على القراءة الصحيحة3. وعلينا الآن أن نتناول ركني الترتيل اللذين أشرنا إليهما، وهما: التجويد والوقف.   1 المصدر السابق. 2 المصدر السابق. 3 المرجع السابق ص298. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 التجويد : التجويد مصدر جود يجود إذا أدى العمل بإتقان وإحسان، والاسم منه الجودة وهي ضد الرداءة. والمراد به في اصطلاح القراء: الأداء الجيد لحروف القرآن الكريم وكلماته مع بيان ووضوح، وإعطاء كل حرف حقه، ورده إلى مخرجه، ومراعاة الصورة الملائمة في نطقه مع مجاوره، وإعراب ألفاظه، ومراعاة الحدود بمقاديرها الزمنية المناسبة. كل ذلك من غير إسراف ولا تعسف، وبدون إفراط أو تكلف. والتجويد حلية التلاوة وزينة القراءة، وقد حرص عليه الأسلاف. وقد أعطي عبد الله بن مسعود حظًّا عظيمًا في تجويد القرآن وترتيله، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحب سماع القرآن منه، وكانت تبكيه قراءته أحيانًا، حتى قال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ أَحَبَّ أنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ" يعني عبد الله بن مسعود. كما روى ابن الجزري بسند صحيح عن أبي عثمان النهدي قال صلى بنا ابن مسعود المغرب بـ: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} ووالله لوددت أن قرأ بسورة البقرة من صوته وترتيله1. يقول ابن الجزري: وهذه سنة الله تبارك وتعالى فيمن يقرأ القرآن مجودًا، مصححًا، كما أنزل، تلتذ الأسماع بتلاوته، وتخشع القلوب عند قراءته، حتى يكاد يسلب العقول، ويأخذ بالألباب، سر من أسرار الله تعالى يودعه من يشاء من خلقه. ولقد أدركنا من شيوخنا من لم يكن   1 النشر ج2 ص301. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 له حسن صوت، ولا معرفة بالألحان إلا أنه كان جيد الأداء قيمًا باللفظ، فكان إذا قرأ أطرب المسامع، وأخذ من القلوب بالمجامع، وكان الخلق يزدحمون عليه، ويجتمعون على الاستماع إليه، أمم من الخواص والعوام، يشترك في ذلك من يعرف اللسان العربي ومن لا يعرفه من سائر الأنام مع تركهم جماعات من ذوي الأصوات الحسان1. والتجويد أبعد ما يكون عن التكلف في النطق، والتعسف في الأداء، يقول أبو عمرو الداني، مشيرًا إلى الصور المرفوضة في الأداء، والتي ينبغي أن ينأى عنها القراء: فليس التجويد بتمضيع اللسان، ولا بتقعير الفم، ولا بتعويج الفك، ولا بترعيد الصوت، ولا بتمطيط الشد، ولا بتقطيع المد، ولا بتطنين العنات، ولا بحصرمة الراءات، قراءة تنفر منها الطباع، وتمجها القلوب والأسماع، بل القراءة السهلة العذبة، الحلوة اللطيفة التي لا مضغ فيها، ولا لوك، ولا تعسف، ولا تكلف، ولا تصنع ولا تنطع، ولا تخرج عن طباع العرب، وكلام الفصحاء بوجه من وجوه القراءات والأداء2. والوصول إلى المستوى الصحيح من تجويد القرآن، يتطلب مزيدًا من الدربة، والمران، والتلقي عمن يحسن الأداء، وكلما أمعن القارئ من الدربة، والرياضة على القراءة الصحيحة، بعيدة عن مساوئ التكلف وصل ما يريد من التجويد. وبجانب هذا كله فإن قراءة القرآن عبادة تتطلب حسن النية، وإخلاص العمل، والرغبة الصادقة في التقرب إلى الله بتلاوة كتابه، والعمل بما فيه:   1 المرجع السابق ص302. 2 النشر ج2 ص303. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 1. وحق التلاوة هو العمل والتنفيذ. ومن خلال ما أسلفناه من كلام أئمة القراء عن "التجويد" يتبين لنا أنه يقوم على مراعاة الأمور الصوتية التالية: أ- معرفة مخارج الحروف، وإخراج كل حرف من مخرجه الصحيح. ب- معرفة صفات الحروف، ليأخذ كل حرف صفته التي تميزه عن غيره من الحروف التي تشاركه في المخرج. ج- مراعاة الإظهار، والإخفاء، والإدغام، والإقلاب بصورها المتعددة شفوية كانت أو حلقية. وقضايا التفخيم والترقيق. د- المد، وأسبابه، وأنواعه، والمدى الزمني لكل نوع من هذه الأنواع. وقد دونت منذ مدى بعيد كتب في تجويد القرآن الكريم، وهي في جوهرها دراسات صوتية تتناول قضايا النبر، والتزمين، ومخارح الحروف، وصفاتها ونحو ذلك مما يؤكد أن العرب أسبق من بحث في هذه القضايا اللسانية. ومن هذه المؤلفات: مؤلفات تناولت مسائل التجويد والأداء بين ما تناولته من موضعات القراءات تأريخًا وأصولًا وفرشًا مثل: الكشف لمكي بن أبي طالب، والإقناع لأبي جعفر بن الباذش وغيرهما. وقد عرض ابن الجزري في كتابه: النشر أبوابًا من التجويد، وله مؤلفات خاصة بالتجويد.   1 راجع الكشف ج1 ص17 - 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وأقدم ما ألف في التجويد بخاصة -فيما أعلم- قصيدة أبي مزاحم الخافاني المتوفى سنة 325هـ، ونشرت محققة بعناية الدكتور عبد العزيز القاري. ومنها: الرعاية لتجويد القراءة، وتحقيق لفظ التلاوة، لمكي بن أبي طالب1. ومنها: كتاب جمال القراء، وكمال الإقراء قصيدة نونية لعلم الدين أبي الحسن علي بن محمد السخاوي المتوفى سنة 643هـ قال عنه ابن الجزري: وهو غريب من بابه جمع أنواعًا مما يتعلق بالقراءات، والتجويد والوقوف والابتداء2. وهذا المؤلف هو بنفسه عروة المفيد3، وعدة المجيد في معرفة لفظ التجويد، جمعه الدكتور عبد العزيز مع قصيدة أبي مزاحم في مؤلف واحد. ثم تكاثرت المؤلفات فيما بعد في علم التجويد خاصة، وغلب على أكثرها طابع النظم، مثل: من الجزرية، وتحفة الأطفال، ثم أخذ المحدثون يشرحون هذه المتون مثل: ملخص العقد الفريد في فن التجويد للشيخ على أحمد صبره سنة 1331هـ، والإتقان في تجويد القرآن للشيخ محمد الصادق قمحاوي. والدرس اللغوي الحديث توفر على دراسة التجويد باعتباره يمثل جهود العرب في الدراسات الصوتية. وقد تناولت في هذا الكتاب فصولًا من التجويد عند الحديث عن الأصول. فتحدثت في الأصول عن الموقف قضية واحدة سواء ما يتصل منه بالقراءات أم ما يتصل منه بالتجويد، ونحو ذلك فعلت في الحديث عن التفخيم والترقيق، والإظهار والإدغام. لكني هنا أقدم حديثًا موجزًا ووافيًا عن قضيتين من قضايا التجويد وهما: 1- مخارج الحروف. 2- صفات الحروف.   1 راجع الكشف ج1 ص17، 24. 2 النشر ج1 ص165 محبس. 3 راجع كشف الظنون ج2 ص1171 وما بعدها، والسيوطي في الإتقان ج1 ص133 الحلبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 مخارج الحروف وصفاتها مخارج الحروف ... مخارج الحروف وصفتها: مخارج الحروف: حروف الهجاء في اللسان العربي، أو الأصوات خمسة وثلاثون حرفًا. ماله صورة منها ترسم تسعة وعشرون حرفًا1. أما الحروف التي لا ترسم فهي ستة: الهمزة بين بين، والألف الممالة، وألف التفخيم والحرف المعترض بين الشين والجيم، والحرف المعترض بين الزاي والصاد، والنون الخفيفة2. وسنشير بإيجاز إلى مخارج هذه الحروف، ليسير القارئ على   1 قال سيبويه: فأصل حروف العربية تسعة وعشرون حرفًا: الهمزة والألف والهاء..، الكتاب ج2 ص 404، ويرى المبرد أنها ثمانية وعشرون حرفًا، فلا بعد منها الهمزة. المقتضب ج1 ص192. 2 في الكتاب أوصل سيبويه الأصوات والحروف إلى اثنين وأربعين حرفًا منها المستحسن وغيره. وهذه الحروف كلها ترجع إلى التسعة وعشرين حرفًا" الكتاب ج2 ص404. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 هديها في تجويد الأداء للكتاب العزيز. أ- مخارج الحلق: للحلق ثلاثة مخارج فمن أقصى الحلق مخرج الهمزة وهي أبعد الحروف، ويليها في البعد مخرج الهاء. ويليه المخرج الثاني، وهو مخرج الحاء والعين "وهو وسط الحلق". والثالث: أدنى الحلق مما يلي الفم، وهو مخرج الخاء والغين. وهذه الحروف الستة هي المعروفة بحروف الحلق. ب- اللسان والفم وفيهما عشرة مخارج. 1- أقصى اللسان -أي: أبعده مما يلي الحلق، وما يحاذيه من الحنك الأعلى، ويخرج منه القاف. 2- أقصى اللسان -مع ما يحاذيه من الحنك الأعلى تحت مخرج القاف، ويخرج منه الكاف وهذان الحرفان يقال لهما: لهويان لخروجهما من قرب اللهاة. 3- وسط اللسان: مع ما يحاذيه من الحنك الأعلى، ويخرج منه الجيم والشين والياء وتسمى هذه الحروف شجرية لخروجها من "شجر" اللسان أي منفتحة1. 4- إحدى حافتي اللسان، وما يحاذيها من الأضراس العليا -تخرج منها الضاد، المعجمة وخروجها من الجهة اليسرى أسهل وأكثر استعمالًا، ومن اليمنى أصعب وأقل استعمالًا، ومن الجانبين أشد عسرًا؛ ولذا فهي أصعب الحروف مخرجًا2.   1 راجع الكتاب ج2 ص405. 2 راجع المبرد ج1 ص183 المقتضب، يقول عن الضاد: مخرجها من الشدق. 3 فبعض الناس تجري له في الأيمن، وبعضهم تجري من الأيسر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 5- ما بين حافتي اللسان معًا، بعد مخرج الضاد، وما يحاذيها من اللثة أي لحمة الأسنان العليا، يخرج منه اللام، وخروج حرف اللام، الحافة اليمنى أمكن عكس الضاد. 6- طرف اللسان، وما يحاذيه من لثة الأسنان العليا تحت مخرج اللام قليلًا تخرج النون المظهرة بخلاف المدغمة، والمخفاة، فمخرجها الخيشوم. 7- طرف اللسان مع ظهره مما يلي رأسه، ويخرج منه الراء، وهو أدخل إلى ظهر اللسان من النون وتسمى الحروف الثلاثة "اللام- النون- الراء" زلقية لخروجها من ذلق اللسان أي طرفه. 8- طرف اللسان مع أطراف الثنايا العليا، وتخرج منه الظاء والذال والثاء، وتسمى هذه الحروف لثويه لخروجها من قرب اللثة. 9- طرف اللسان مع ما بين الأسنان العليا والسفلى، قريبة إلى السفلى، مع انفراج قليل بينهما، وتخرج منه الصاد فالسين فالزاي، وتسمى هذه الحروف أسلية من أسلة اللسان، أي مستدقة. 10- ظهر اللسان من جهة رأسه، وأصل الثنيتين العليين، ويخرج منه الطاء فالدال المهملتان فالتاء المثناة الفوقية. ج- الشفتان. 1- بطن الشفة السفلى مع أطراف الثنايا العليا، ويخرج منه الفاء. 2- الشفتان معًا، ويخرج منهما الباء الموحدة والميم والواو إلا أنهما بانطباق مع الميم والباء، وانفتاح مع الواو تسمى هذه الحروف شفوية لخروجها من الشفة. د- الجوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 3- وهو الخلاء الداخل في الحلق والفم، ويخرج منه حروف المد الثلاثة: الألف ولا تكون إلا ساكنة، ولا يكون ما قبلها إلا مفتوحًا، والواو الساكنة المضموم ما قبلها، واليا الساكنة المكسور ما قبلها، وتسمى هذه الحروف بالجوفية أو الهوائية. هـ- الخيشوم. الخيشوم وهو خرق الأنف، المنجذب إلى الداخل فوق سقف الفم، وليس بالمنخر ويخرج منه الغنة، والنون المدغمة والمخفاة كما أشرنا. فالمخارج الفرعية كما رأينا سبعة عشر، وهي موزعة على خمس مخارج رئيسة في منطقة الفم ومن كل منهما يخرج حرف أو أكثر. ومعرفة هذه المخارج، وملاحظتها في النطق والأداء أكبر عون على تجويد التلاوة، وتحقيق معنى الترتيل، كما أنها من ناحية أخرى تحافظ على الخصائص الصوتية للسان الغربي. وهنا قضية أخرى نختم بها القول في مخارج الحروف. اختلف العلماء في عدد مخارج الحروف. ولهم في ذلك مذاهب ثلاثة: ذهب الخليل بن أحمد وأكثر القراء والنحويين وتبعهم ابن الجزري إلى أنها سبعة عشر مخرجًا على الوضع الذي شرحناه، والتزمنا به. وذهب سيبويه والمبرد، وتبعهما الشاطبي إلى أنها ستة عشر مخرجًا. وذهب الفراء وقطرب والجرمي إلى أنها أربعة عشر مخرجًا. فمن جعلها سبعة عشر، وزع الحروف على النحو التالي: في الجوف مخرج، ومن الحلق ثلاثة، وفي اللسان عشرة، وفي الشفتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 اثنان، وفي الخيشوم واحد. ومن جعلها ستة عشر: أسقط مخرج الجوف، ووزع حروفه وهي حروف المد على بعض المخارج فجعل الألف مع الهمزة من أقصى الحلق، وياء المد مع الياء المحركة من وسط اللسان، وواو المد من الشفتين مع الواو المحركة. ومن جعلها أربعة عشر: أسقط مخرج الجوف كذلك، وجعل مخارج اللسان ثمانية بجعله مخرج اللام والراء والنون واحدًا. وقد التزمت في العرض السابق مذهب ابن الجزري، وهو المشهور عند أهل الأداء والذي سار عليه من قبل الخليل وجمهرة من النحويين والقراء كما ذكرنا1.   1 يراجع الكتاب لسيبويه، والمقتضب للمبرد، والنشر لابن الجزري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 صفات الحروف : صفات الحروف: كيفية تعرض للحرف عند حدوثه من مخرجه تميزه عن غير كالشدة والرخاوة ونحوهما. وحروف الهجاء العربي لها صفات متعددة لاحظها العلماء المتمرسون بخصائص الصوت العربي فأوصلها بعض العلماء إلى أربع وأربعين صفة، ومنهم من نقصها إلى أربع عشرة صفة بحذف الإذلاق وضده، والانحراف واللين، وزيادة صفة الغنة. ومنهم من عدها ست عشرة بحذف الإذلاق وضده أيضًا، وزيادة صفة الهوائي. واختار العلماء وأهل الأداء مذهب ابن الجزري في عدها سبع عشرة صفة. والناظر إلى هذه الصفات التي أحصاها العلماء يجدها قسمين: 1- قسم منها له ضد، وهي خمس: الهمس وضده الجهر، والشدة والتوسط وضدهما الرخاوة، والاستعلاء وضده الاستفال، والإطباق وضده الانفتاح، والإذلاق وضده الإصمات. 2- والقسم الآخر صفات لا ضد لها وهي سبع: الصفير والقلقلة والانحراف والتكرير، واللين، والتفشي، والاستطالة. وإليك بيانها وبيان الحروف التي تتصف بكل منها. 1- الهمس لغة الخفاء، واصطلاحًا: جريان النفس عند النطق بالحرف لضعف الاعتماد على المخرج، وحروفه عشرة اجتمعت في قولنا: سكت فحثه شخص. وبعض حروف الهمس أقوى من بعض، فالصاد والخاء أقوى من بقية الحروف، لما لها من بعض الصفات القوية، وأضعفها الهاء؛ وليس فيها صفة قوية. 2- الجهر، وهو في اللغة الإعلان، واصطلاحًا: انحباس جري النفس عند النطق بحروفه لقوة الاعتماد على المخرج، وحروفه تسعة عشرة، وهي الباقية بعد استثناء حروف الهمس. وتختلف حروف الجهر فيما بينها في القوة فالطاء أقوى؛ لأن فيها مع الجهر: استعلاء وشدة. 3- الشدة: لغة القوة، واصطلاحًا، انحباس جري الصوت عند النطق بالحرف لكمال الاعتماد على المخرج، وحروفه ثمانية جمعت في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 قولهم: "أجد قط بكت". والطاء أقوى حروف الشدة لما فيها من الجهر والاستعلاء والإطباق. - والتوسط وهو في اللغة الاعتدال، واصطلاحًا: اعتدال الصوت عند النطق بالحرف لعدم كمال انحباسه كما في الشدة، وعدم كمال جريانه كما في الرخاوة، وحروفه خمسة جمعت في قولنا: لنعمر. 4- الرخاوة ومعناها لغة: اللين، واصطلاحًا: جريان الصوت مع الحرف لضعف الاعتماد على المخرج، وحروفه ستة عشر، وهو بقية حروف الهجاء بعد استعباد حروف الشدة والتوسط. 5- الاستعلاء، وهو في اللغة: الارتفاع، واصطلاحًا: ارتفاع اللسان إلى الحنك الأعلى عند النطق بالحرف، وحروفه سبعة يجمعها قولهم: خص ضغط قظ. 6- الاستفال معناه: الانخفاض، واصطلاحًا: انخفاض اللسان عن الحنك الأعلى إلى قاع الفم عند النطق بالحرف، وحروفه: اثنان وعشرون، وهي حروف الهجاء ما عدا حروف الاستعلاء السبعة. 7- الإطباق وهو في اللغة: الإلصاق، واصطلاحًا: تلاصق ما يحاذي اللسان من الحنك الأعلى باللسان عند النطق بالحرف، أو بعبارة أخرى: تلاقي اللسان بما يحاذيه من الحنك الأعلى عند النطق بالحرف، وحروفه أربعة: الصاد والضاد، والطاء والظاء وأقواها الطاء، وأضعفها الظاء "المعجمة". 8- والانفتاح بمعنى الافتراق، ويعني به في الاصطلاح: تجافي اللسان عن الحنك الأعلى عند النطق بالحرف حتى يخرج الهواء من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 بينهما، وحروفه خمسة وعشرون، وهي حروف الهجاء بعد استبعاد حروف الإطباق. 9- الإذلاق: هو في اللغة حدة اللسان أي طلاقته وتدفقه في الحديث، واصطلاحًا: سرعة النطق بالحرف لخروجه من طرف اللسان كاللام والراء، والنون أو من الشفتين كالفاء والباء والميم ويجمع هذه الحروف قولنا: "فر من لب". 10- الإصمات: لغة المنع، واصطلاحًا: امتناع حروفه من أن يتكون منها وحدها كلمات رباعية أو خماسية، بدون أن يكون فيها حرف من حروف الذلاقة، ومن أجل هذا تأتي كلمة رباعية أو خماسية ليس فيها حرف من حروف الذلاقة فهي غير عربية، كلفظ "عسجد" اسم للذهب، وحروف الإصمات هي حروف الهجاء مستثنى منها حروف الذلاقة. 11- الصفير: لغة صوت يشبه صوت الطائر: واصطلاحًا صوت زائد يخرج من الشفتين مصاحبًا الحروف الثلاثة: الصاد والسين المهملتين، والزاي المعجمة، وهي المعروفة بحروف الصفير، وأقواها الصاد لما فيها من استعلاء وإطباق. 12- القلقلة: هي في اللغة: الاضطراب والتحريك، واصطلاحًا: اضطراب المخرج عند النطق بالحرف ساكنًا حتى يسمع له نبرة قوية، وحروفها خمسة جمعت في قولنا: قطب جد، وسبب الاضطراب شدة حروفها لما فيها من الشدة التي تمنع جريان الصوت، والجهر الذي يمنع جريان النفس. ولها مراتب ثلاث: أعلاها الطاء، وأوسطها: الجيم، وأدناها: الحروف الباقية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وهناك من يرتبها حسب حالة الحرف لا على حسب نوعه، فأعلاها: المشدد الموقوف عليه، ثم الساكن في الوقف، ثم الساكن وصلًا، ثم المتحرك. وتلزم القلقلة هذه الحروف سكونها، سواء أكانت وسطًا أم طرفًا، مثال المتوسطة "خلقنا"، "قطمير"، "ربوة"، "اجتباه"، "يدخلون"، والمتطرفة مثل: "خلاقْ، محيطْ، بهيجْ، مجيدْ". هذا في حالة الوقف عليها؛ إذ إن بيانها حال الوقف أولى، ولا سيما إذا كان الموقوف عليه مشددًا مثل: {جِئْتَ بِالْحَقّ} . 13- اللين: وهو في اللغة ضد الخشونة، واصطلاحًا إخراج الحرف في يسر وبلا كلفة، وحروفه: اثنان: الواو والياء الساكنان، والمفتوج ما قبلهما نحو: خوف -بيت. 14- والانحراف لغة: الميل، واصطلاحًا: ميل الحرف بعد خروجه إلى طرف اللسان، وله حرفان: اللام والراء. وتلزمهما هذه الصفة لانحرافهما عن مخرجهما، حتى يتصلا بمخرج غيرهما، فاللام إلى ناحية طرف اللسان، والراء إلى ظهره. 15- والتكرير لغة: الإعادة مرة بعد مرة، واصطلاحًا: ارتعاد رأس اللسان عند النطق بالحرف، وهي صفة تلزم الراء، والغرض من معرفتها الابتعاد عنها. 16- والتفشي لغة: الانتشار والاتساع، واصطلاحًا: انتشار الهواء في الفهم عند النطق بالشين حتى يتصل بمخرج الظاء المعجمة، قيل: إن هذه الصفة خاصة بالشين وهو الأصح، وقيل: تشاركها في هذه الصفة: الفاء، والثاء، والضاد، والصاد، والراء والسين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 17- الاستطالة في اللغة: الامتداد، واصطلاحًا امتداد الصوت من أول إحدى حافتي اللسان إلى آخرها، وهي صفة الضاد المعجمة. ملاحظات مهمة. 1- هذه الصفات منها صفات قوية وهي اثنتا عشرة صفة: الجهر، والشدة، والاستعلاء، والإطباق، والإصمات، والصفير، والقلقلة، والانحراف، والتكرير والتفشي، والاستطالة، والغنة، وأقواها: القلقلة، فالشدة، فالجهر، فالإطباق، فالاستعلاء، فالباقي. والصفات الضعيفة هي: الهمس والرخاوة والاستفال، والانفتاح، والذلاقة واللين والخفاء. 2- من صفات الحروف الغنة، وهي لازمة للنون والميم في كل حالاتهما، والخفاء، وهي صفة لأربعة أحرف: حروف المد الثلاثة والهاء. 3- هناك فرق بين المخرج والصفة. فالمخرج أقرب إلى الكم والمقدار أو المدى العضوي الذي يقع عليه عبء النطق، وأما الصفة فهي الهيئة التي يظهر بها الحرف عند النطق، فالمخرج بمثابة الوزن والمقدار؟ والصفة بمثابة المحك والمعيار. 4- لكل حرف صفات عدة لا تقل عن خمس، ولا تزيد عن سبع. والحرف الوحيد الذي له سبع صفات هو الراء، فهي: مجهورة، متوسطة، مستفلة، منفتحة، مذلقة، منحرفة، مكررة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ومثال ما له ست صفات الباء، فهي: مجهورة، شديدة، مستفلة، منفتحة، مذلقة، مقلقلة. ومثال ماله خمس صفات الفاء فهي: مهموسة، رخوة، مستفلة، منفتحة، مذلقة1.   1 يرجع في بحث صفات الحروف إلى كتاب سيبويه ج2 ص 405، والمقتضب للمبرد ج1 ص194 وما بعدها، متن الجزرية، والإقناع لابن الباذش، والنشر لابن الجزري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 الباب الثاني: بحوث في القراءات الفصل الأول: الأحرف السبعة مدخل ... الباب الثاني: بحوث في القراءات الفصل الأول: الأحرف السبعة من العبارات الشائعة على ألسنة الدارسين للقراءات ومن هم بسبب منها: عبارة الأحرف السبعة، وعبارة القراءات السبع، ووقع شيء من الخلط واللبس على غير أهل التحقيق. فما أصل العبارتين؟ وما العلاقة بينهما. الأحرف السبعة: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف" 1، زاد مسلم: قال ابن شهاب: بلغني أن تلك السبعة من الأمر الذي يكون واحدًا، لا يختلف في حلال، ولا حرام2. جمعه لذلك، وبلغ عدد رواته عنده نحو عشرين صحابيًّا منهم أبو بكر وعمر وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل. كما نقل عن أبي عبيد القاسم بن سلام قوله بتواتر هذا الحديث3. وأمام هذا النص نحاول أن نفهم أمرين: أولهما: المقصود بالحرف . الآخر: المقصود بالسبعة.   1 رواه البخاري في كتاب: فضائل القرآن -باب أنزل القرآن على سبعة أحرف. 2 صحيح مسلم- كتاب صلاة المسافرين. 3 النشر ج1 ص70 ت محيسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 المقصود بالحرف : حرف كل شيء طرقه، ووجهه، وحافته، وحده، وناحيته، والقطعة منه، والحرف أيضًا واحد من حروف التهجي كأنه قطعة من الكلمة، ويطلق على القراءة من القراءات التي يقرأ بها القرآن كقولهم. حرف أبي بن كعب، وحرف ابن مسعود، وقراءة كل إمام تسمى حرفًا1. وفي بيان علم القراءات لمعنى الحرف لا يبتعدون عن المعنى اللغوي كثيرًا. قال ابن الجزري نقلًا عن الحافظ أبي عمرو الداني: معنى الأحرف التي أشار إليها النبي -صلى الله عليه وسلم- ههنا يتوجه إلى أمرين: أحدهما: أن القرآن أنزل على سبعة أوجه من اللغات؛ لأن   1 القاموس المحيط ج3 ص130، 131، والإبانة عن معاني القراءات ص41 وتأويل مشكل القرآن ص27، وتفسير الطبري ج1 ص47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الأحروف جمع حرف في القليل كفلس وأفلس، والحرف قد يراد به الوجه بدليل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} 1، فالمراد بالحرف هنا الوجه، أي على النعمة والخير، وإجابة السؤال والعافية، فإذا استقامت له هذه الأحوال اطمأن وعبد الله، وإذا تغيرت عليه وامتحنه بالشدة والضر ترك العبادة وكفر، فهذا عبد الله على وجه واحد، فلهذا سمى النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الأوجه المختلفة من القراءات، والمتغايرة من اللغات أحرفًا على معنى أن كل شيء منها وجه. والوجه الثاني من معناها: أن يكون سمى القراءات أحرفًا على طريق السعة كعادة العرب في تسميتهم الشيء باسم ما هو منه وما قاربه وجاوره، وكان كسبب منه، وتعلق به ضربًا من التعلق كتسميتهم الجملة باسم البعض منها، فذلك سمى صلى الله عليه وسلم القراءة حرفًا، وإن كان كلامًا كثيرًا. ثم يعقب ابن الجزري على كلام الداني بأن كلا الوجهين محتمل احتمالًا قويًّا، ثم يشير إلى قول عمر -رضي الله عنه: سمعت هشامًا يقرأ سورة الفرقان على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم2. وهذا النص يؤيد الوجه الثاني.   1 سورة الحج: 11. 2 النشر ج1 ص73- 74 مع تصرف يسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 أقوال العلماء في الأحرف السبعة : المقصود بالسبعة: اتفق العلماء على أنه لا يعني بالأحرف السبعة أن يكون الحرف الواحد مقروء على سبعة أوجه؛ لأن ذلك لا يوجد -كما قال ابن الجزري في النشر- إلا في كلمات يسيرة مثل: "أف، جبريل، أرجه، هيهات، هيت". لكنهم اختلفوا في المقصود بالأحرف السبعة. الرأي الأول: هي سبع لغات من لغات العرب. وذلك على وجهين: أولهما: كما تختلف لغات العرب في تناول معنى من المعاني يأتي القرآن منزلًا بألفاظ وتعبيرات مختلفة على ضوء هذه اللغات، وقد روى هذا الفهم عن محمد بن السائب الكلبي وسليمان بن مهران الأسدي "الشهير بالأعمش". والآخر: أن القرآن الكريم في جملته لا يخرج عن سبع لغات من لغات العرب هي أفصحها فأكثره بلغة قريش، ومنه ما هو بلغة هذيل أو ثقيف أو هوازن1. وقد أيد هذا الرأي أبو عبيد القاسم بن سلام بقوله: ليس المراد أن كل كلمة تقرأ على سبع لغات، بل اللغات السبع مفرقة فيه، فبعضه بلغة قريش، وبعضه بلغة هوازن، وبعضه بلغة اليمن، وبعض اللغات أسعد به من بعض وأكثر نصيبًا"2. واختلف العلماء في تحديد اللغات السبع. فقيل هي لغات قريش، وهذيل، وتميم، والأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر3، وهذا قول أبي حاتم السجستاني.   1 الإتقان للسيوطي ج1 ص47. 2 المرجع السابق، وممن قال به مكي بن أبي طالب راجع الإبانة، ص71. 3 المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وقال أبو عبيد: قريش، وهذيل، وثقيف، وهوازن، وكنانة، وتميم، واليمن1. ويمكن أن يعترض على الرأي القائل بأنها اللغات السبع: باختلاف عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم في قراءة سورة الفرقان كما ثبت في الصحيح، وكلاهما قرشي، ولغتهما واحدة. الرأي الثاني: أنها سبعة من المعاني، أو الأحكام، أو طرائق التعبير التي جاءت في الكتاب العزيز. والقائلون بهذا لهم عدة تفسيرات. فمنهم من قال: هي، الحلال، والحرام، والمحكم، والمتشابه، والأمثال، والإنشاء، والإخبار. ومنهم من قال: هي: الناسخ، والمنسوخ، والخاص، والعام، والمجمل والمبين، والمفسر. ومنهم من قال: هي: الأمر، والنهي، والطلب، والدعاء، والخبر، والاستخبار، والزجر. ومنهم من قال: هي: الوعد والوعيد، والمطلق والمقيد، والتفسير، والإعراب، والتأويل2. وقد يحتج لهذه الآراء بحديث ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد، وعلى حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب، على سبعة أحرف: زجر وأمر،   1 النشر ج1 ص75، وراجع الإبانة لمكي ص72- 73. 2 النشر ج1 ص75- 76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وحلال، وحرام ومحكم، ومتشابه، وأمثال1. ويمكن أن نناقش هذا الرأي بما يأتي: 1- الصحابة الذين اختلفوا ورفعوا الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام مثل: عمر بن الخطاب، وهشام بن حكيم وأبي بن كعب، وابن مسعود، وعمرو بن العاص لم يختلفوا في تفسيره، ولا أحكامه، وإنما اختلفوا في قراءة حروفه2. 2- يبدو التكلف في عد الأبواب السبعة بحيث تفتقد التناسق، ووحدة الأساس الذي قامت عليه القسمة؛ إذ هي تخليط بين الأحكام الشرعية، وطرائق التعبير، وعلوم القرآن. 3- من جهة الحديث الشريف.. نرى الأبواب المذكورة فيه غير الأحرف السبعة، على أن الحديث ذكر الأحرف والأبواب ثم فسر الأبواب، أو يكون ما ذكره من حلال وحرام "لا تعلق له بالسبعة الأحرف ولا بالسبعة الأبواب بل إخبار عن القرآن هو كذا وكذا، وجاءت الصفات السبع اتفاقًا3. الرأي الثالث: العدد لا مفهوم له، ولا تراد به حقيقته، والعرب يطلقون لفظ   1 أخرجه الحاكم والبيهقي، ورواه الطبراني من حديث عمرو بن أبي سلمة المخزومي. 2 يقول مكي في هذا المعنى: إن عمر إنما سمع هشامًا يقرأ غير قراءته، فأنكر عليه، ولم يره يغير حكمًا، ولا بحرف معنى في القرآن، ويدل على ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما تخاصموا إليه في القراءة أمرهم بالقراءة، فلما سمعوا صوب قراءتهم، ولم يسألهم عن معانٍ مستورة في نفوسهم، إنما سمع ألفاظهم فصوبها. الإبانة ص72- 73. 3 النشر ج1 ص76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 السبع، والسبعين، والسبعمائة، ولا يريدون حقيقته العدد بحيث لا يزيد ولا ينقص، بل يريدون الكثرة والمبالغة من غير حصر، كما جاء في الآيات: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} ، {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُم} ، وفي الأحاديث الشريفة: "الإيمان بضع وسبعون شعبة"، "إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة"1. ويرى ابن الجزري أن الحديث بالصورة التي ورد بها يعني أن العدد بحقيقته مراد ومقصود؛ لأن وجوه اختلاف القراءات يمكن حصرها في سبعة كما سنشير في الرأي التالي2. ويفسر آخرون من علماء القراءات بأن التحديد بالسبعة بأن أصول قبائل العرب تنتهي إلى سبعة، أو أن اللغات الفصحى سبع. الرأي الرابع: ذهب إليه ابن الجزري3: وهو أنها سبعة أوجه من الاختلاف لا تخرج عنها قراءة، على النحو التالي: 1- اختلاف في الحركات بلا تغير في المعنى مثل: "يحسَِب" بفتح السين وكسرها. 2- اختلاف في الحركات مع تغيير في المعنى دون الصورة مثل: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّه كَلِمَاتٍ} 4، بنصب الميمم من "آدم" أو رفعها، وفتح التاء من "كلمات" أو ضمها. 3- أن يكون التغيير في الحروف مع التغيير في المعنى دون   1 الإتقان ج1 ص45 والنشر ج1 ص77. 2 المرجع السابق. 3 المرجع السابق مع اختصار وتصرف ص77، وما بعدها. 4 سورة البقرة: 37، الأولى قراءة الجمهور والأخرى قراءة ابن كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 الصورة مثل قوله تعالى1: {هُنَالِكَ تَبْلُو} ، قرئ: "تتلو". 4- تغير في الحروف مع تغير في الصورة لا المعنى نحو: "الصراط، والسراط"، "وبصطة، وبسطة". 5- تغير في الحرف والصورة والمعنى واحد وتختلف عن الصور السابقة بأن هذه حدث فيها تقديم وتأخير بين حروفها مثل: "يَأْتَل، ويَتَأَلَّ"2، والسابقة استبدل فيها حرف بحرف. 6- التغيير بالتقديم والتاخير. قرئ: {وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} 4، بالتقديم والتأخير، وقرئ: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَق} 5، "وجاءت سكرة الحق بالموت". 7- التغيير بالزيادة والنقصان نحو قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوب} 6، قرئ: "وأوصى". الرأي الخامس: ذهب إليه الإمام أبو الفضل الرازي. ويرى فيه وجوه التغاير السبعة التي ترجع إليها القراءات غير الوجوه التي ذهب إليه ابن الجزري، وهي في مجملها أمور نحوية وتصريفية. 1- اختلاف الأسماء بالإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث.   1 سورة يونس: 30. 2 سورة التوبة: 22 قرأ الجمهور "يأتل" وقرأ أبو جعفر "يتأل" على وزن يتفعل بمعنى الحلف فيهما "إتحاف فضلاء البشر ص224. 3 آل عمران: 195. 4 التوبة: 111. 5 سورة "ق". 6 البقرة: 132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 مثال: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} قرئ: "لأمانتهم"1، بالإفراد. 2- الاختلاف في التصريف كقوله تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} ، قرئ: "رَبُّنَا بَاعَد"، رب: "مبتدأ، بَاعَد: فعل ماض، كما قرئ: "بَعَّدَ" فعل ماض مضعف2. 3- الاختلاف بالإبدال سواء أكان إبدال حرف بحرف أم كلمة بكلمة. مثال الأول: {نَنْشُزُهَا} ، قرئ: "ننشرها" بالراء مع فتح النون الأولى3. ومثال الثاني: {كَالعِهْنِ الْمَنْفُوش} قرأ ابن مسعود، وهي قراءة أحادية شاذة: "كالصوف المنفوش"4. 4- الاختلاف في التقديم والتأخير في الحروف مثل: {أَفَلَمْ يَيْأَس} قرئ: "يأيس"5، وفي الكلمات مثل: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} 6، قرئ: بالتقديم والتأخير. 5- الاختلاف بالزيادة والنقص مثل قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} 7، قرأ نافع وابن عامر، وأبو جعفر بدون الواو، والقراءتان صحيحتان.   1 المؤمنون: 8. 2 سبأ: 9 وراجع إتحاف فضلاء البشر، ص359. 3 البقرة: 259، وراجع غيث النفع في القراءات السبع للصفاقسي ص72. 4 القارعة: 5. 5 سورة الرعد: 21، وراجع الإتحاف ص270. 6 التوبة: 111، وراجع الإتحاف: 245. 7 آل عمران: 133، وراجع الإتحاف ص179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 6- الاختلاف في وجوه الإعراب، مثل: {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} 1، وقد أشرنا إلى القراءتين فيها وهي اختلاف الإعرابيين من الفاعل والمفعول به. 7- اختلاف لغات العرب في التفخيم والترقيق، والهمز والتسهيل، والإظهار والإدغام ونحو ذلك. هذا وقد اتجه مكي بن أبي طالب إلى رأي يكاد يجمع بين ما ذهب إليه الرازي وابن الجزري من وجوه التغاير السبعة ونسبه إلى ابن قتيبة "ت276 هـ"، وابن شريح "476هـ"، وأكبر الظن أن الرازي وابن الجزري أخذا رأييهما منه. الرأي السادس: ذهب إليه شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل، المعروف بأبي شامة المقدسي2 المتوفى سنة: 665. يرى الأحرف السبعة هي الأصول السبعة المطردة في القراءات وهي: 1- وصل ميم الجمع وهاء الضمير وعدم ذلك. 2- الإظهار الإدغام. 3- والمد والقصر. 4- وتحقيق الهمز وتسهيله. 5- والإمالة وعدم الإمالة. 6- والوقف بوجوهه المتنوعة: الإسكان، والروم، والإشمام.   1 البقرة: 37 وراجع سراح القاريّ المبتدي لابن الناصح ص191 المكتبة التجارية الكبرى. 2 المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز ط. بيروت ص127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 7- الياءات من حيث الفتح والإسكان والإثبات والحذف. وهذا الرأي على جانب كبير من الوجاهة وحسن الفهم إلا أن المفروض أن كل القراءات تندرج تحتها لكنا نلاحظ أن هذا التفسير مقصور على الأصول المطردة في القراءات ولا يتناول "الفرش" وتحته قراءات كثيرة غير مطردة. الرأي السابع: أن الأحرف السبعة هي القراءات السبع. وهو رأي بالغ الضعف لأمور: 1- القراءات كثيرة ومتعددة ولا حصر لها. 2- الحديث منذ عصر النبوة وإطلاقه على القراءات غير سديد، كما أن فيه تحديدًا لمحتواه وإخلالًا بمضمونه العظيم الذي يبرز مدى التنوع التعبيري في أسلوب القرآن الكريم مع استبقاء سلامة المعنى واستقامته، وبعده عن التناقض، واحتفاظه بخصائص الفصاحة، وأعظم مقومات البلاغة. 3- أن هذا رأي ناشئ عن لبس في الفهم أساسه ما شاع بين الأوائل من تسمية القراءة حرفًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 رأي وتعليق : بعد أن عرضنا لهذه الآراء التي حاول أصحابها تفسير الحديث الشريف، وبيان ما جاء فيه عن الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن الكريم أستطع أن أقرر ما يأتي: 1- الرأي القائل بأنها القراءات السبع، نشأ عن وهم سرى إلى نفوس الكثيرين بعد أن قدم ابن مجاهد كتابه: "السبعة" وفيه قرر اختياره للسبعة القراء، أو القراءات السبع، ومن هنا لا تصلح تفسير سديد للحديث الشريف. 2- رأي أبي شامة المقدسي بأن العدد لامفهوم له رأي قائم على نظر سديد، وخبرة بأساليب العرب، وهو رأي مقبول تمامًا؛ لأن أئمة القراءات ذكروا أن القراءات المقبولة كثيرة ومتعددة، وسياق الحديث؛ يعني أن العدد مقصود برغم ما قرره العلامة ابن الجزري في نقد هذا الرأي1. 3- يمكن- بعد هذا- أن تكون الآراء الأخرى مجتمعة داخلة في مفهوم الحديث صالحة لتفسيره، فأصول القراءات داخلة في مفهوم الحروف السبعة، ووجوه الإعراب والتصريف كذلك، واختلاف لغات العرب لا شك أنه داخل في معنى هذه الحروف ليتأتى التيسير المراد وكذا اختلاف الأحكام الشرعية، وتنوع الأساليب. ومن التكلف الوقوف عند رأي واحد منها على أنه الصحيح الأولى بالقبول. كيف وجدت الأحرف السبعة في القرآن ؟ على ضوء ما أسلفنا من وجوه قيلت في توجيه الأحرف السبعة وما انتهى إليه اختيارنا نريد أن نشير إلى أمرين:   1 لاحظت تكلفًا واضحًا في تفسير الحروف السبعة بسبعة أحكام، أو سبع لغات أو سبعة وجوه من ذلك رأي الإمام الرازي، الذي ذكره: اختلاف االأسماء في الأفراد والتثنية، ثم ذكر الاختلاف في الإبدال، ثم ذكر الاختلاف في الزيادة والنقص مع أنها كلها من قبيل الاختلاف في التصريف، فكيف يصل العدد إذن إلى سبعة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 كيف وجدت الأحرف السبعة في القرآن ؟: على ضوء ما أسلفنا من وجوه قيلت في توجيه الأحرف السبعة وما انتهى إليه اختيارنا نريد أن نشير إلى أمرين: أولهما: كيف وجدت الأحرف السبعة في القرآن؟ الآخر: هل المصاحف العثمانية مشتملة على جميع هذه الأحرف. وللإجابة عن السؤال الأول نقول على ضوء ما سبق. إن الأحرف السبعة موزعة في القرآن الكريم، في قراءته الكثيرة، والمتعددة والتي نقلت إلينا نقلًا صحيحًا، متواترًا بأسانيدها المعتد بها، وموافقتها لوجوه قوية في العربية، وكذا لرسم المصاحف العثمانية. وليس معنى هذا أنها منحصرة في قراءة أو رواية واحدة. على أن وجهة نظر العلماء في هذا تختلف باختلاف رأيهم في معنى الأحرف السبعة. وأما وجود الأحرف السبعة في المصاحف العثمانية، فقد اختلف رأي العلماء في ذلك على وجهين: ذهب جماعة من القراء والفقهاء والمتكلمين إلى أن المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة، وحجتهم أن الأمة لا يصح أن تهمل شيئًا من الحروف السبعة التي نزل بها القرآن الكريم، كما أن المصاحف العثمانية نقلت عن المصاحف التي كتبها أبو بكر وعمر، وأمر بترك ما سواها فلا بد أن تكون جامعة لهذه الحروف؛ لأنه لا يصح النهي. عن القراءة ببعضها، كما أجمعوا على أنه لا يجوز ترك شيء من القرآن. وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف وأئمة المسلمين إلى أن هذه المصاحف العثمانية مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة فقط جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي -صلى الله عليه وسلم- على جبريل، متضمنة لها، لم تترك حرفًا منها1.   1 النشر ج1 ص85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 الحكمة في تعدد الحروف والقراءات : وراء اختلاف الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن الكريم، ووعتها قراءاته المتنوعة فوائد كثيرة، وحكم بالغة. أولها: تيسير القراءة على الفراء. يقول مكي بن أبي طالب في شرح هذا الجانب: وكانت لغات من أنز عليهم القرآن مختلفة ولسان كل صاحب لغة لا يقدر على رده إلى لغة أخرى إلا بعد تكلف ومئونة شديدة، فيسر الله عليهم أن أنزل كتابه على سبع لغات متفرقات1 في القرآن بمعانٍ متفقة ومختلفة ليقرأ كل قوة على لغتهم على ما يسهل عليهم من لغة غيرهم، وعلى ما جرت به عادتهم، فقوم جرت عادتهم بالهمز وقوم بالتخفيف، وقوم بالفتح، وقوة بالإمالة، وكذلك الإعراب واختلافه في لغتهم2. فاختلاف الأحرف -إذن- بهذه الصورة يسر على القارئين أسباب القراءة برغم اختلاف لغاتهم. ثانيها: فيها برهان عظيم على سمو بلاغة القرآن، ومنزلته في الإيجاز؛ إذا يترتب على ذلك سعة الوعاء المعنوي للآية، فتحمل معاني عدة متآخية، كما تدعم أحكامًا متعددة تفهم من الآية. ثالثها: سهولة الحفظ، وتيسير النقل؛ لأن حفظ كلمة ذات وجوه في الأداء أيسر من حفظ جمل من الكلام تؤدي معاني تلك القراءات. رابعها: في تعدد القراءات آية بالغة وبرهان قاطع على صدق   1 هذا هو تفسير مكي للحروف السبعة، وإن كان كلامه في تيسير القراءات يوحي بما أشرنا إليه من صلاحية كل الآراء في تفسير الحديث ما عدا الرأي القائل بأنها القراءات السبع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعظمة الآية القرآنية؛ إذ إنه برغم تعدد القراءات، وتنوع الأداء لم يتطرق إليه تناقض ولا تضاد، ولا تخالف بل يصدق بعضه بعضًا، ويبين بعضه بعضًا، ويشهد بعضه لبعض على نمط واحد، وأسلوب واحد. خامسها: فيه دلالة على عظمة هذه الأمة وشرفها التي تلقت هذا القرآن بحروفه المختلفة، ووعته هذا الوعي، وقامت بما ينبغي له من ضبط وإحكام، ودقة في الأداء، وتوفرت على وضع القواعد والأصول للعلوم التي من شأنها صيانة الكتاب العظيم ورعايته، مما يجعل أعلام هذه الأمة محلًا لفضل الله ومثوبته وتكريمه. سادسها: في تعدد القراءات سند لقواعد مختلفة نحوية وتصريفية مثل قراءة حمزة لقوله تعالى: "وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامِ" بجر الأرحام، فاستشهد بها من قال بجواز العطف على المجرور دون إعادة الجار، ومنها قراءات تفسر معنى لغويًّا في قراءة أخرى مثل قراءة ابن مسعود: "وتكون الجبال كالصوف المنفوش" فإنها مفسرة للقراءة الأخرى، سادسها: ما يكون في حجة في قضية من قضايا العقيدة تأييدًا لأهل الحق، ودفعًا لأهل الزيغ وذلك كقراءة: "رأيت نعيمًا ومَلِكًا كبيرًا" بفتح الميم، وكسر اللام، وهي قراءة ابن كثير وغيره، وهي دليل واضح على رؤية الله في الدار الآخرة. سابعها: تأثير اختلاف القراءات في الأحكام الفقهية. اختلاف القراءات مجال خصب لآراء فقهية وتشريعية تدعم التشريع الإسلامي وتكسبه خصوبة ومرونة، وطواعية في مواجهة مشكلات الحياة المتعددة والمتجددة. وذلك على النحو التالي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 قد تأتي القراءة مبنية لحكم أجمع عليه الفقهاء كقراءة سعد بن أبي وقاص وغيره: "وله أخ أو أخت من أم"؛ إذ إن العلماء أجمعوا على أن الأخ في الآية هو الأخ لأم. وقد تأتي مرجحة لحكم مختلف فيه، كقراءة: "أو تحرير رقبة مؤمنة" في كفارة اليمين فكان في هذه القراءة ترجيح لما اشترطه الشافعي من الإيمان في العبد المقرر عتقه. وقد تكون للجمع بين حكمين مختلفين كقراءة: "يَطْهُرْن" "وَيَطَّهران" بالتخفيف والتشديد ينبغي الجمع بينهما وهو أن الحائض لا يقربها زوجها حتى تطهر بانقطاع حيضها، وتطهر بالاغتسال. وقد تقدم القراءات أحكامًا شرعية متعددة كقراءة: "وأرجلكم" بالخفض والنصب، فإن الخفض يقتضي فرض المسح، والنصب يقتضي فرض الغسل، فبينهما النبي -صلى الله عليه وسلم- فجعل المسح للابس الخف، والغسل لغيره. وقد تكون القراءة موضحة لحكم يقتضي الظاهر خلافه مثل: {فَاسْعَوا إِلَى ذِكْرِ الله} يقتضي ظاهرها المشي فجاءت قراءة: "فامضوا إلى ذكر الله" رافعة لهذا الوهم1. القراءات واللهجات: ثامنًا: تقدم قراءات القرآن لدارسها سجلًا عن اللغات المنتشرة عند العرب، واختلافاتها الصوتية وفي البنية والإعراب.   1 النشر ج1 ص80 إلى ص82 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 القراءات السبع، والقراء السبع: كيف نشأت فكرة القراءات السبع؟: القراءات كثيرة ومتعددة تتجاوز المئات، والقراء ورواتهم آلاف مؤلفة، وظهرت فكرة تحديد أئمة وقراءات تكون مرجعًا لأهل الأمصار، وقدوة لهم. يقول مكي: إن الرواة عن الأئمة من القراء كانوا في العصر الثاني والثالث كثيرًا في العدد، كثيرًا في الاختلاف فأراد الناس في العصر الرابع أن يقتصروا من القراءات التي توافق المصحف على ما يسهل حفظه وتنضبط القراءة به فنظروا إلى إمام مشهور بالثقة والأمانة وحسن الدين، وكمال العلم، قد طال عمره، واشتهر أمره، وأجمع أهل مصره على عدالته فيما نقل، وثقته فيما قرأ وروى، وعلمه بما يقرأ فلم تخرج قراءته عن خط مصحفهم المنسوب إليهم، فأفردوا من كل مصر وجه إليه عثمان مصحفًا إمامًا هذه صفته وقراءته على مصحف ذلك المصر1. هكذا شرح مكي الأسس التي قام عليها فيما بعد اختيار ما عرف ب القراءات السبع والقراء السبع ة. وقد ألف ابن جبير المقري كتابًا في القراءات وسماه: كتاب الثمانية، ذكر فيه القراء السبعة المشهورين: ابن عامر إمام أهل الشام. أبو عمرو بن العلاء من البصرة. وحمزة وعاصم والكسائي من الكوفة. ونافع من المدينة. وابن كثير من مكة.   1 الإبانة ص86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وزاد عليهم يعقوب الحضرمي. وكان عمل ابن جبير اتجاهًا من اتجاهات التحديد التي ظهرت من هذا العصر، وأول من سبع السبعة أبو بكر بن مجاهد1، وتابعه على ذلك من أتى بعده. وشاع أمر القراء السبعة، والقراءات السبع. وهذا التحديد أمر أكده العلماء. يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: "لا نزاع بين العلماء المعتبرين أن الأحرف السبعة التي ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن القرآن أنزل عليها ليست قراءات القراء السبعة المشهورة، بل أول من جمع ذلك ابن مجاهد"2. وهنا أمور لا بد من مناقشتها: ماذا يعني التزام ابن مجاهد بالسبعة؟ هل هذا التحديد يعني إهدار من سواهم؟ ما القيمة العلمية لعمل ابن مجاهد؟ أما التحديد بالسبعة فيمكن أن نجيب عنه بما يأتي: 1- أن عثمان -رضي الله عنه- كتب سبعة مصاحف، ووجه بها إلى الأمصار، فجعل عدد القراء على عدد المصاحف. 2- أنه جعل عددهم على عدد الحروف التي نزل بها القرآن وهي سبعة، على أنه لو جعل عددهم أكثر أو أقل لم يمنع ذلك؛ لأن عدد الرواة   1 أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد التميمي، شيخ القراء، ولد سنة 245 بسوق العطش ببغداد، وتوفي سنة 324 "طبقات القراء ج1 ص129". 2 راجع النشر ج1 ص97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 الموثوق بهم أكثر من أن يحصى1. فهدف ابن مجاهد مجرد الموافقة في العدد "لا لاعتقاده واعتاقد غيره من العلماء أن القراءات السبع هي الحروف السبعة، أو أن هؤلاء السبعة المعينين هم الذين لا يجوز أن يقرأ بغير قراءتهم"2. هذه هي الأسباب وراء التحديد بالسبعة. ولا يعني إهدار من سواهم. وما دام قد تبين لنا حكمة التحديد بالسبعة عند ابن مجاهد ومن تابعه فقد اتضح لنا بناء على هذا أنه لا يعني عدم توثيق من سواهم، وذلك لأمور. 1- لم تترك القراءة بقراءة غيرهم، أو اختيار من أتى بعدهم إلى الآن مثل قراءة يعقوب الحضرمي3 وعاصم الجحدري4، واختيار أبي حاتم5 وأبي عبيد6. 2- اختلاف وجهات النظر في السبعة زيادة ونقصانًا، يقول   1 الإبانة ص90. 2 النشر ج1 ص97. 3 يعقوب بن إسحاق بن زيد الحضرمي البصري أحد القراء العشرة، إمام البصرة ومقرئها، وهو أعلم الناس بالحروف والنحو توفي سنة 250هـ. 4 هو عاصم بن أبي الصبن الجحدري البصري، قرأ على نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر توفي سنة 128هـ. 5 أبو حاتم السجستاني: سهل بن محمد بن عثمان إمام البصرة في النحو والقراءة واللغة، عرض على يعقوب الحضرمي، وروى عن الأصعمي "ت سنة 255" طبقات القراء ج1 ص320. 6 أبو عبيد القاسم بن سلام الخراساني الأنصاري صاحب التصانيف الكثيرة في القراءات والحديث والفقه واللغة والشعر، ورحل في طلب العلم توفي سنة 224هـ، وطبقات القراء ج2 ص17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 مكي: "والكسائي إنما ألحق بالسبعة بالأمس في أيام المأمون وغيره، وكان السابع يعقوب الحضرمي فأثبت ابن مجاهد في سنة ثلاثمائة أو نحوها الكسائي في موضع يعقوب1، وتم ذلك في عصر المأمون. وفي كلام ابن تيمية الذي نقله عنه صاحب النشر جاء فيه قوله. ولهذا قال بعض من قال من أئمة القراء: لولا أن ابن مجاهد سبقني إلى حمزة لجعلت مكانه يعقوب الحضرمي إمام جامع البصرة وإمام قراء البصرة في زمانه في رأس المائتين2. كما نقل صاحب النشر عن مكي: وقد ذكر الناس من الأئمة في كتبهم أكثر من سببين ممن هو أعلى رتبة وأجل قدرًا من هؤلاء السبعة، على أنه قد ترك جماعة من العلماء في كتبهم في القراءات ذكر بعض هؤلاء السبعة" ثم ذكر مكي أمثلة لذلك، فذكر أبو حاتم الذي ترك ذكر السبعة، وكذلك زاد الطبري في كتاب القرءات له على هؤلاء نحو خمسة عشر رجلًا3. 3- مما أجمع4 عليه علماء الإسلام والأئمة المتبعون للسلف أنه لا يتعين القراءة بهذه القراءات في جميع أمصار المسلمين، فمن ثبت عنده قراءة الأعمش شيخ حمزة، أو قراءة يعقوب الحضرمي، ونحوهم كما ثبت عنده قراءة حمزة والكسائي فله أن يقرأ بها بلا نزاع بين العلماء المعتد بهم، والمعدودين من أهل الإجماع والخلاف.   1 الإبانة ص39، والنشر ج1 ص93. 2 النشر ج1 ص97. 3 المرجع السابق ص92. 4 ذكر هذا الإجماع صاحب النشر ج1 ص97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 فمتى توافر في القراءة شروط القبول قرئ بها ولو كانت لغير السبعة الذين ذكرهم ابن مجاهد. القيمة العلمية لعمل ابن مجاهد: لكن هذا العمل الذي عمله ابن مجاهد له قيمة علمية كبيرة. هو أنه وضع أمام الجماهير المسلمة أنماطًا محددة من القراءات معتدًا بها، دفعًا لما يترتب على اختلاف القراءات الكثيرة من نوع من الفوضى لدى غير الواعين بأبعاد هذا العلم فقد سن منهج التحديد، وهو نافع بلا ريب. وجاء بعده من ذكر القراءات العشر وقرائها، وأضاف إلى السبعة أبا جعفر المدني، وأبا يعقوب البصري، وخلفًا العاشر البغدادي. ويبدو لنا من خلال النصوص السابقة أن العلماء الذين جاءوا بعد ابن مجاهد ارتضوا عمله، ووافقوا عليه وتلقوه بالقبول، وقد أسلفنا قول من قال: لولا ابن مجاهد سبقني إلى حمزة لجعلت مكانه يعقوب. وثمرة صنيع ابن مجاهد باقية إلى عصرنا الحاضر فيما نراه من الدقة والانضباط1، واجتماع العالم الإسلامي على الشاطبية والتيسير، مع علمنا بقيمة القراءات الأخرى التي استوفت شروط القبول.   1 راجع السبعة لابن مجاهد -مقدمة د. شوقي ضيف ص23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الفصل الثاني: الأصول والفرش مدخل ... الفصل الثاني: الأصول والفرش تطلق كلمة "الأصول"1، في القراءات على الظواهر القرائية التي تمثل أحكامًا مطردة في كل السور. وسنتحدث هنا عن "الأصول" التالية بما يحدد موقف القراء منها، وقد نجد أنفسنا مضطرين لتناول ما يتصل بها من أحكام التجويد؛ ليكون الحديث فيها وافيًا متكاملًا. وهي: 1- الوقف والابتداء . 2- الإدغام والتبيين. 3- المد والقصر. 4- الهمز والتليين. 5- الإمالة والفتح. 6- التفخيم والترقيق -الراءات واللامات. 7- الهاءات. 8- أحكام الياءات -الإثبات والحذف. 9- وصل ميم الجمع وهاء الضمير.   1 قال الجرجاني: الأصول: جمع أصل وهي اللغة عبارة عما يفتقد إليه، ولا يفتقر هو إلى غيره التعريفات ص18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 ويقابل الأصول ما يسمى بالفرش: وهو ما كان غير مطرد من حروف القراءات، أو ما قل دوره منها، وسميت فرشًا؛ لأنها لما كانت مذكورة في أماكنها من السور دون أصل يجمعها صارت كالمفروشة بخلاف الأصول التي تتصف بالاطراد، وبعض القراء يسمون الفرش فروعًا في مقابلة الأصول1. ويرى شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل، المعروف بأبي شامة المقدسي أن الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن الكريم هي هذه الأصول التي أشرنا إليها مع مزج بعضها ببعض على النحو الذي بيناه فيما سبق2. وهذا الرأي أغفل الأحكام غير المطردة، وهي المعروفة بالفرش أو الفروع، كما أنه من ناحية أخرى نرى الأصول أكثر من سبعة، كما هو واضح.   1 سراج القارئ المبتدي وتذكرة المقرئ المنتهي لابن الفاصح ص148 الحلبي مصر والإتحاف ص118. 2 المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز لأبي شامة المقدسي ت 665هـ ط بيروت ص127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 1- الوقف و الابتداء : الوقف: الوقف في اللغة: الكف والحبس. وفي اصطلاح القراء: عبارة عن قطع الصوت عند آخر الكلمة زمنًا يتنفس فيه عادة بنية استئناف القراءة لا بنية الإعراض عنها1. ولدراسة الوقف على منهج القراء، وفي علم القراءات جانبان2.   1 النشر ج1 ص334، الإتحاف ص100، هداية القارئ ص371. 2 النشر ج1 ص323 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 أولهما: معرفة ما يوقف عليه، وما يبتدأ به. وهذا قضية يحددها المعنى، ويحكم فيها السياق، وتتصل بتجويد الأداء. والآخر: كيف يوقف على الكلمة، وكيف يبتدأ؟، وما يحدث في هذا الصدد من صور صوتية أو تصريفية1. أهمية دراسة الوقوف: وبخاصة الجانب الأول؛ إذ إن دراسته على جانب كبير من الأهمية لصلته الوثيقة بإبراز المعنى الذي يحتمه السياق، كما يكون مفسدًا للمعنى ومغيرًا له إذا وقف القارئ وقفًا غير صحيح. روى عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: الترتيل معرفة الوقوف، وتجويد الحروف. وروى عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: لقد عشنا برهة من دهرنا، وإن أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على النبي -صلى الله عليه وسلم- فيتعلم حلالها، وحرامها، وأمرها، وزاجرها، وما ينبغي أن يوقف عنده منها2. وقول ابن عمر هنا: لقد عشنا برهة يدل على إجماع الصحابة على ذلك. وصح عن الشعبي وهو من أئمة التابعين علمًا وفقهًا ومقتدى أنه قال: إذا قرأت: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} فلا تسكت حتى تقرأ: {وَيَبْقَى وَجْهُ   1 الوقف: في علم الصرف تختص بحوثه بالجانب الثاني، والفربق بينه وبين الوقف في القراءات أن الأخير مقصور على ما وردت الأسانيد المتواترة، فلا يلزم في كل وقف جائز تصريفيًّا، أن تكون صورته جائزة في القراءات. 2كتاب القطع والائتناف لأبي جعفر النحاسي تحقيق الدكتور أحمد خطاب العمر -بغداد سنة 1978 ص86- 87، وما بعدها والكتاب كله موسوعة توفرت على دراسة مواضع الوقف في القرآن الكريم مستندة إلى معاني الآيات، ومواقع الإعراب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 رَبُّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَام} 1. بهذا يستبين لنا أهمية هذا الجانب من جوانب الوقف، وأنه يسهم إسهامًا كبيرًا في الترتيل الصحيح للقرآن الكريم. ولكي يعرف الإنسان التالي للكتاب العزيز أين يقف؟ يجب أن يعرف ما يأتي: الوقف نوعان: اضطراري، واختياري. أما الاضطراري فيكون عند انقطاع النفس، وتعذر مواصلة القراءة لسبب من الأسباب الخارجة عن طاقة القارئ، فيقف حيثما اتفق له ولو كان موقفًا قبيحًا أو غير مناسب. حتى إذا استجمع القارئ نفسه وأصل القراءة مبتدئًا البداية المناسبة التي تبرز المعنى الصحيح للآية. مثاله أنه يضطر القارئ إلى الوقوف عند قوله تعالى: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ} فمثل هذا عندما يواصل القراءة يقول: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين} ، وهو المعروف بالوقف القبيح. وأما الوقف الاختياري، فله عدة أحكام حسب طبيعة الموقف الذي اختاره القارئ وهي: 1- الوقف التام. 2- الوقف الكافي. 3- الوقف الحسن. 4- الوقف السنة. 1- الوقف التام: وهو ألا يكون للكلام الذي تقف عليه تعلق بما يعده من ناحية   1 النشر ج2 ص298- 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 اللفظ أو المعنى وأكثر ما يكون في رءوس الآيات، وانقضاء القصص. مثل: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّين} ، والابتداء بالآية: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين} . ومثل: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} ، والابتداء بالآية: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَة} . وقد يكون الوقف تامًّا قبل انقضاء الآية. مثل قوله تعالى: {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّة} وإلى هنا انتهى كلام ملكة سبأ، وتم المعنى. ويكون الابتداء بعد هذا بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُون} وهو رأس الآية. وقد يلزم لتمام الوقف أن تأتي بعد نهاية الآية بجزء من الآية التي بعدها، ومثال ذلك قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ، وَلَدَ اللَّهُ} فالوقوف على رأس الآية: "يقولون" لا يكون وقفًا تامًا؛ لأن المعنى لا يتم إلا بإضافة هذا الجزء إليه. وأحيانًا يكون الوقف تامًا على تفسير أو إعراب، وغير تام على تفسير أو إعراب آخر. مثال ذلك قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه} إلى هنا تم الكلام، وما بعده مستأنف وهو قول عائشة وابن عباس وابن مسعود وغيرهم، ومذهب أبي حنيفة، وقال به من أئمة العربية الفراء والأخفش، وأبو حاتم وسواهم، ومن أئمة القراء: نافع والكسائي ويعقوب. قال عروة: والراسخون في العلم لا يعلمون التأويل، ولكن يقولون: آمنا به. وهذا الوقف غير تام عند آخرين، والتمام عندهم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 {وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلِمِ} فهو عندهم معطوف وذهب لهذا الرأي كثير من المفسرين والأصولين كابن الحاجب1. هذا وتتفاضل درجات التمام في الوقف التام حسب درجات اكتمال المعنى. 2- الوقوف الكافي: ويكون الوقف كافيًا إذا كان ما نقف عليه له ارتباط بما بعده في المعنى دون اللفظ، وسمي بذلك للاكتفاء به عما بعده. وهو كالوقف التام في جواز الوقف عليه والابتداء بما بعده. ويكثر في رءوس الآي وفي غيرها مثل قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون} ، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا} . وقد تتفاضل درجات الكفاية فالوقف على قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَض} كاف وعلى قوله: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} أكفى منه، ولو وقفت على قوله تعالى: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُون} كان أكفى منهما. وقد يكون الوقف كافيًا على تفسير أو إعراب، ويكون غير كافٍ على إعراب آخر. من ذلك قوله تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْر} فالوقف هنا كافٍ إذا جعلت "ما" في العبارة التالية: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْن} نافية، فإن جعلتها موصولة كان الوقف غير كافٍ. 3- الوقف الحسن: ويكون الوقف حسنًا إذا كان ما تقف عليه له ارتباط بما بعده لفظًا،   1 تفسير ابن كثير ج1 ص346- 347، والنشر ج1 ص319. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وسمي بذلك لأنه في نفسه حسن ومفيد، لكن لا يجوز الابتداء بما بعده لتعلقه به لفظًا إلا إذا كان رأس آية فإنه يوقف عليه تنفيذًا للسنة كما سنشير لذلك بعد. ومثاله الوقف على {بِسْمِ اللَّه} وعلى: {الْحَمْدُ لِلَّه} وعلى {رَبِّ الْعَالَمِين} . وقد يكون الوقف حسنًا على تقدير، وكافيًا على تقدير آخر، وتامًّا على تقدير ثالث. وذلك مثل قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِين} يجوز أن يكون حسنًا إذا جعلت: {الّذِينَ يُؤْمِنُون} صفة للمتقين. وإن جعلتها خبر المبتدأ محذوف، أو مفعولًا لفعل محذوف كان كافيًا، وإن جعلته مبتدأ خبره: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِم} كان الوقف تامًّا. 4- الوقف السنة: وهو الوقف على رءوس الآيات. وقد أجازه أكثر القراء، لما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما ترويه عنه أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا قرأ قطع قراءته آية آية يقول: {بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، ثم يقف، ثم يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} ثم يقف، ثم يقول: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} 1. ومن هنا سمي هذا الموقف: الوقف السنة، كما ذهب إلى ذلك بعض القراء.   1 رواه أبو داود، والترمذي وأحمد، وهو حديث حسن وسنده صحيح، وراجع النشر ج1 ص318. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وقال أبو عمرو1: وهو أحب إِلَيَّ. واختاره البيهقي في شعب الإيمان وغيره من العلماء وقالوا: الأفضل الوقوف على رءوس الأي، وإن تعلقت بما بعده؛ لأن اتباع هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسنته أولى2. ولا يعني الوقف على رءوس الآية تنفيذًا للسنة أن يبدأ القارئ بما بعدها، فقد يكون البدء موهمًا معنى فاسدًا مثل قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُون} فإذا وقفت على رأس هذه الآية تنفيذًا للسنة وجب عليك عند البداء أن تقول: {لَيَقُولُونَ، وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الصافات: 151، 152] . كما ينبغي أن نعلم أن الوقف على رءوس الآي قد يكون تامًّا، وقد يكون كافيًا، وقد يكون حسنًا. 5- الوقف اللازم أو الواجب: هذا نوع من الوقف الاختياري لا يخرج عن دائرة الأنواع السابقة، وقد اختار له بعض علماء القراءات3 هذا الاسم تعبيرًا عن مزيد استحباب الوقف في هذا الموضع دفعًا لوهم يتسرب إلى الذهن عند الوصل، وليس المراد باللزوم أو الواجب الواجب الفقهي بمعنى أنه يعاقب على تركه. مثال الوقف اللازم التام: {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا   1 هو أبو عمرو بن العلاء قارئ البصرة وإمام من أئمة اللغة والنحو. 2 راجع النشر ج2 ص318. 3 الذي سماه لازمًا هو أبو عبد الله محمد بن طيفور السنجاوندي، وغيره من العلماء سماه "الواجب" راجع النشر ج1 ص324. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُون} 1 فالوقف على "قولهم"، والاتبداء من "إنا نعلم". ومثال الوقف اللازم الكافي: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِين} والابتداء بقوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّه} 2 لئلا: نتوهم أن الحال صفة. ومثال الوقف اللازم الحسن: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ} والابتداء: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا} 3، لئلا يوهم أنه "إذ" معمولة للفعل "واتل". 6- الوقف القبيح: هو الوقف الاضطرابي عندما ينقطع النفس فيضطر القارئ إلى أن يقف موقفًا لا يفيد أو يفسد المعنى ولا يتأتى هذا الموقف في حالة الاختيار وإلا أثم القارئ. ومن أمثلة الوقف على {بِسْمِ} أو {الْحَمْد} . وتتفاوت درجات القبح فالوقف على قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ} 4، قبيح جدًّا لما يترتب عليه من فساد المعنى، وأن الأبوين يشتركان مع البنت في نصف التركة. ومثل الوقف على قوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى} 5؛ إذ يترتب عليه محال وهو أن الموتى يستجيبون مع الذين يسمعون وليس الأمر كذلك.   1 سورة يس: 76. 2 سورة البقرة: 9. 3 سورة المائدة: 27. 4 سورة النساء: 11. 5 سورة الأنعام: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وأقبح منهما الوقف على قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْي} 1، لما يترتب عليه من سوء الأدب ونسبة ما لا يليق لله سبحانه وتعالى. ومما ينبغي لنا أن نعلمه من اصطلاحات القراء أنهم إذا قالوا: لا يوقف على كذا، معناه أنه لا يبتدأ بما بعده، فحيثما يجوز الوقف يجوز الابتداء. "موقف أئمة القراء من مواضع الوقف والابتداء": نافع قارئ المدينة كان منهجه أن يتخير محاسن الوقف والابتداء بحسب المعنى. وابن كثير كما روى عنه أبو الفضل الرازي كان يراعي الوقف على رءوس الأي مطلقًا، ولا يعتمد في أوساط الآي وقفًا إلا في مواطن ثلاثة: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه} 2، {مَا يُشْعِرُكُم} 3، {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَر} 4، ومعنى هذا أنه كان يلتزم السنة في الوقف على آخر كل آية مضيفًا إليها هذه المواطن الثلاثة من الأوساط حتى إنه ذكر أنه لا يبالي بعده هذه الثلاثة: أين يقف، بمعنى أنه لا يقف في غيرها إلا اضطرارًا. وعمرو بن العلاء كان يتعمد الوقف على رءوس الأي ويقول هو أحب إِلَيَّ. وأما عاصم فقد روى عنه أبو الفضل الرازي أنه كان يراعي حسن الابتداء.   1 سورة البقرة: 26. 2 سورة آل عمران: 7. 3 سورة الأنعام: 109. 4 سورة النحل: 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وذكر الخزاعي أنه عاصمًا والكسائي كانا يطلبان الوقف حيث يتم الكلام. واتفقت الرواة عن حمزة أنه كان يقف عند انقطاع النفس، وعللوا ذلك بأن قراءته تعتمد على التحقيق والمد الطويل، ولكن ابن الجزري يعلل ذلك بأن القرآن عند كالسورة الواحدة، فلم يكن يتعمد وقفًا معينًا1. وبقية القراء يراعون الحسن في الوقف والابتداء، كما حكى عنهم الإمامان: أبو الفضل الخزاعي، وأبو الفضل الرازي. الوقف المتكلف: قد يتجه بعض القراء أو المعربين، أو أصحاب الأهواء إلى تكلف أنواع من الوقف والابتداء من شأنها أن تخرج معنى الآية عن مساره الصحيح إلى معنى آخر قد يكون مقبولًا لكنه غير مراد، ولا يساير السياق. وهذا اتجاه خاطئ في تلاوة الكتاب العزيز إن لم يكن تحريفًا للكلم عن مواضعه2، ومحاولة ضالة، وضارة بالمعاني السامية التي تحملها الآيات الحكيمة. من أمثلة هذه الوقوف المتكلفة. الوقوف عند قوله تعالى: {وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْت} والابتداء   1 النشر ج2 ص 332، وهو الذي اعتمدنا عليه في بيان مواقف أئمة القراء من الوقف. 2 النشر ج1 ص324. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 بقوله: {مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا} 1، على معنى النداء. الوقف عند قوله تعالى: {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُون} ثم الابتداء بقوله: {بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا} 2، على معنى القسم. الوقف عند قوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ} ثم الابتداء بقوله: {عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} 3، على أن، الجار والمجرور، خبر. الوقف عند قوله تعالى: {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى} ثم الابتداء بقوله {سَلْسَبِيلًا} 4، ويكون المعنى عينًا فيها مسماه، واسأل طريقًا موصلة إليها. ومثل هذا التكلف كثير يأباه سياق الكتاب العزيز. تعانق الوقف "المراقبة": قد يجيز بعض القراء الوقف على حرف، ويجيز آخرون الوقف على حرف آخر، ويكون بين الوقفين مراقبة على التضاد، فإذا وقفت على أحدهما امتنع الوقف على الآخر. مثال ذلك قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيه} 5، فمن أجاز الوقف على "لا ريب" لا يجيزه على "فيه" والذي يجيزه على لفظ "فيه" يمنع الوقف على "لا ريب". ومثله أيضًا: من أجاز الوقف على {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه} يمنعه على6، {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم} ومن أجازه على {الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم} يمنعه على {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه} .   1 البقرة: 286. 2 النساء: 62. 3 البقرة: 158. 4 الأنساب/ 18. 5 البقرة: 2. 6 آل عمران: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 يقول ابن الجزري: وما بين هذين الوقفين يسمى "مراقبة"، وأول من نبه على "المراقبة" في الوقف الإمام الفضل الرازي أخذه من المراقبة في العروض1. الوقف والقطع والسكت: أما الوقف فقد عرفنا أنه عبارة عن قطع الصوت زمنًا يتنفس فيه عادة بنية استئناف القراءة. وأما القطع فهو قطع القراءة رأسًا، فكأن القارئ أعرض عن القراء لعمل آخر، والقطع لا يكون إلا على رءوس الآيات كما اشترط ذلك وسار عليه جمهور القراء. روى عن ابن أبي الهذيل، وهو تابعي مشهور أنهم كانوا يكرهون أن يقرءوا بعض الآية ويدعوا بعضها"2، وهذا قول عام يشمل القراءة في الصلاة أو خارجها، وقوله: "كانوا" يشير إلى أن يحكي أعمال الصحابة. وأما السكت: فهو عبارة عن قطع الصوت زمنًا، هو دون زمن الوقف عادة دون الوقف. وفي رواية حفص عن عاصم -كما جاء في الشاطبية وشروحها يحسن السكت في المواضع التالية من الكتاب العزيز: قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ   1 النشر ج2 ص331. 2 النشر ج2 ص333. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} 1. قوله تعالى: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} 2. قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِي، وَقِيلَ مَنْ} 3. قوله تعالى: {كَلَّا بَل} 4. هذا "والسكت" مقيد بالسماع والنقل، فلا يجوز إلا فيما صحت الرواية به، ويكون ذلك مراعاة للمعنى، أو تحقيقًا لغرض معين، أو دفعًا لشبهة تعرض في حالة عدم السكت. وذهب ابن سعدان فيما حكاه عن أبي عمرو، وأبي بكر بن مجاهد فيما حكاه عنه أبو الفضل الخزاعي إلى أنه جائز في رءوس الأي مطلقًا، حالة الوصل لقصد البيان. وحمل بعضهم الحديث الوارد على ذلك5. سكت حمزة. وكان حمزة يسكت على كل ساكن بعده همزة من كلمة أخرى سكتة خفيفة يريد بذلك التجويد والتحقيق وتبين الهمزة لا الوقف6 نحو: "قد أفلح، من آمن، عذاب أليم، عليهم أأنذرتهم، جديد أفترى، خلوا إلى"، فإذا كان الساكن حرف مد نحو: {قَالُوا آمَنَّا} لم يسكت، وكذلك   1 الكهف: 1. 2 سورة يس: 52. 3 سورة القيامة: 27. 4 سورة المطففين: 14. 5 النشر ج2 ص337. 6 الإقناع ج1 ص482، وقد أشار فيه ابن الباذش إلى أنه قرأ بالسكت على أبيه وعلى غيره من طريق أبي عمرو، ومن طريق خلف وحده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 إن كان الساكن مع الهمزة في كلمة نحو: "ينأون، يجأرون" وفي المسألة تفصيلات أخرى1. كيف تقف؟: وهذا هو الجانب الثاني من جانبي الوقف. توفر علماء التصريف على دراسة الوقف، والوجوه التي يأتي عليها، كما عرفها اللسان العربي، ومنها السكون المجرد، والروم2، والإشمام3، وإبدال الألف في المنصوب المنون، وإبدال تاء التأنيث هاء، ونحوها من الظواهر التصريفية والصوتية4. وليس كل ما جاز في العربية جاز في القراءات؛ لأن القراءات بجانب موافقتها لقواعد اللسان العربي الفصيح الذي نزل به الكتاب العزيز هي سنة متبعة، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك. ومهمتنا هنا أن نبرز ما ورد من هذه الوجوه في القراءات. الوقف على المرفوع والمجرور. روى أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف عن أبي جعفر الوقف بالروم، وذلك في نحو "الدينِ"، "نستعينُ" ونحو ذلك. وقرأ الباقون بالسكون5.   1 راجع الإقناع ج1 ص 482 وما بعدها، والنشر ج1 ص332 وما بعدها ط محيش. 2 الروم: الإتيان بالحركة خفية، حرصًا على بيان الحركة التي تحرك بها آخر الكلمة في الوصل. 3 والإشمام: تصوير الفم عند حذف الحركة بالصورة التي يكون عليها حين التلفظ بها من غير صوت "النشر ج2 ص281 - الكشف ج1 ص122- الشافية ج2- ص275. 4 راجع شرح الشافية ص271 وما بعدها. 5 راجع إرشاد المبتدئ ص100، وما بعدها، والنشر ج2 ص 283، والإتحاف ص100- 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 الوقف على تاء التأنيث. تقلب تاء التأنيث في الوقف هاء. وكان الكسائي يقف على ما قبل تاء التأنيث المنقلبة هاء في الوقت بالإمالة عند خمسة عشر حرفًا يجمعها قولهم: فجثت زينب لذود شمس، مثل الفاء في: "خليفة"، "مصفوفة"، والجيم في: "زجاجة"، "درجة"، ونحوها. وبميل الكاف إذا كان قبلها ياء نحو: "الأيكة"، أو كسرة نحو، "ضاحكة"، "مشركة". وبميل الراء إذا كان قبلها كسرة مثل: "ناظرة"، "فاخرة" أو ساكن نحو: "سدرة، عبرة" واستثنى "فطرة"1 فلم يملها2. ويبدو حرص الكسائي على الإمالة واختياره لها؛ لأن رآها موافقة لخصائص العربية، قيل للكسائي: إنك تميل ما قبل هاء التأنيث، فقال: هذا طباع العربية3. الوقف على المهموز. تفرد حمزة بتخفيف كل همزة متوسطة، أو متطرفة عند الوقف ووافقه هشام4 على تخفيف المتطرفة خاصة. وحقق ذلك سائر القراء غيرهما في الوقف كالوصل. وإذا وقعت الهمزة بعد حرف زائد لا بغير الكلام حذفه لم   1 جزء من الآية 30 من سورة الروم. 2 راجع: رشاد المبتدئ ص100 وما بعدها. 3 النشر ج2 ص235. 4 هو هشام بن عمار، من الرواة عن ابن عامر، عالم أهل دمشق، وخطيبهم ومقرئهم توفي سنة 245- معرفة القراء الكبار ج1 ص160. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 تخفف1 نحو: "فإن، لأن، فبأي، والآخرة"2. أما طريقة حمزة في تخفيف الهمزة عند الوقف فقد فصلها أبو العز الواسطي القلانسي في كتابه الإرشاد3. وكذلك ابن الباذش في الإقناع، ومكي في الكشف. ويناقش مكي علة تخفيف الهمزة، ويذكر ثقلها، وبعد مخرجها، وتصرف العرب من تغيير لفظها. أما تخصيص التخفيف بالوقف دون الوصل فعلته "أن القارئ لا يقف إلا وقد وهنت قوة لفظه وصوته فيما قرأ قبل وقفه، والهمزة حرف صعب اللفظ به، فلما كان الوقف يضعف فيه صوت القارئ بغير همز، كان فيما فيه همز أضعف، فخفف الهمزة في الوقوف للحاجة إلى التسهيل، والتخفيف على القارئ، مع أنها لغة للعرب، ومع نقله ذلك من أئمته4. أما عامة القراء الذين اتجهوا إلى تحقيق الهمزة في الوقف متوسطة أو متطرفة فحجتهم أنهم أتوا بالهمزة على أصل الكلام، وأنه وافق بين الوصل والوقف، وأنه إجماع من القراء غير حمزة، وأن التخفيف يحتاج إلى معاناة شديدة5. وقد ألف أبو محمد مكي بن أبي طالب كتابًا مفردًا في تخفيف الهمزة المتطرفة لحمزة وهشام، وذكر أمثلته وعلله، كما ذكر صور تخفيف الهمزة متوسطة ومتطرفة وعلل ذلك في كتابه الكشف عن وجوه القراءات السبع6.   1 الكشف لمكي بن أبي طالب ج1 ص95. 2 هذه الحروف بالترتيب "البقرة: 24، الرحمن: 13، الأعراف: 185، البقرة: 4". 3 قال القلانس: كان حمزة يلين الهمزة في الوقف إذا سكنت، ويقلبها إذا انضم ما قبلها واوًا، وإذا انكسر ياء، وإذا انفتح ألفًا، مثل: "المؤمنون، ذئب، اقرأ، من يشاء"، ونحو ذلك وإن تحركت بالفتح منونة جعلت بين بين. إلخ راجع إرشاد المبتدئ، تحقيق عمر الكبيس، رسالة مخطوطة بكلية اللغة العربية بإشرافنا. 4 الكشف ج1 ص95. 5 المرجع السابق ص98. 6 راجع الكشف من ص100 إلى ص118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الابتداء : الحديث عن الابتداء يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالوقف. وإذا قال القراء لا يجوز الوقف على كذا فمعنى هذا أنه لا يجوز الابتداء بما بعده. وإذا قيل يجوز الابتداء بكذا فمعنى هذا أنه يجوز الابتداء بما بعده. ويتميز الابتداء بأنه لا يكون إلا إختياريًّا، فلا توجد ضرورة تدعو إليه، ومن هنا لا يكون الابتداء إلا بما هو مستقل بمعناه، موف بالمقصود، وله أقسام أربعة كالوقف، فمنه التام، والكافي، والحسن، ومنه القبيح أيضًا. وتتفاوت فيه درجات التمام والكفاية والحسن والقبح. فالوقف على: {خَتَمَ الله} قبيح، والابتداء بلفظ الجلالة أشد من ذلك لفساد المعنى حينذاك والابتداء بختم "كاف". والوقف على "عزير بن"، "والمسيح بن" قبيح، والابتداء "بابن" أقبح والابتداء "بعزير" وبلفظ المسيح أقبح منهما. والوقف على قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} ضرورة، والابتداء بما بعده قبيح. وقد يكون الوقف حسنًا، والابتداء بالكلمة التي وقفت عليها قبيحًا. نحو: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} والوقف هنا حسن لتمام الكلام والابتداء "إياكم" قبيح لفساد المعنى إذ يصير تحذيرًا من الإيمان بالله تعالى. وقد يكون الوقف قبيحًا والابتداء به جيدًا نحو: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا} فالوقف على "هذا" قبيح؛ لأن فيه فصلًا بين المبتدأ وخبره؛ ولأنه يوهم الإشارة إلى مرقدنا، وليس الأمر كذلك. والابتداء بهذا جيد لاستقامة المعنى معه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 2- الإدغام والإظهار : الإدغام معناه لغة: إدخال شيء من شيء لمناسبة بينهما، قال الخليل: يقال: أدغمت الفرس اللجام، أي أدخلته في فيه1. وفي اصطلاح القراء: أن تصل حرفًا ساكنًا. بحرف مثله من غير أن تفصل بينهما بحركة أو وقف، فيرتفع اللسان بالحرفين ارتفاعة واحدة2. أو هو: اللفظ بحرفين حرفًا كالثاني مشددًا3. والإدغام -بهذا- عملية صوتية تحدث عندما تتوافر أسبابها، ويترتب عليها أن يتحول الحرفان المتقاربان أو المتجانسان إلى متماثلين. وهو ظاهرة يألفها اللسان العربي، قال أبو عمرو بن العلاء: الإدغام كلام العرب الذي يجري على ألسنتها ولا يحسنون غيره4 وله   1 كتاب سيبويه 1/ 491، والكشف ج1 ص143. 2 الإقناع ج1 ص164. 3 النشر ج1 ص374. 4 المرجع السابق ص375. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 شواهد كثيرة في كلامهم. أسباب الإدغام: وللإدغام أسباب تهيئ لحدوثه، وهي التماثل والتجانس والتقارب. فالتماثل: أن يتفقا مخرجًا وصفة كالباء في الباء، والتاء في التاء، وسائر الحروف المتماثلة. والتجانس: أن يتفقا مخرجًا، ويختلفا صفة كالذال في الثاء، والثاء في الظاء، والتاء في الدال. والتقارب: أن يتقاربا مخرجًا أو صفة، أو مخرجًا وصفة. ويشترط في الإدغام التقاء الحرفين لفظًا وخطًّا، أو خطًّا فقط وموانع الإدغام المتفق عليه ثلاثة: أن يكون الحرف الأول: أ- تاء الضمير سواء أكان متكلمًا أم مخاطبًا مثل قوله تعالى: {كُنْتُ تُرَابًا} ، {أَفَأَنْتَ تُسْمِع} . ب- أو مشددًا مثل قوله تعالى: {غَفُورٌ رَحِيم} ، {نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا} ، {رَجُلٌ رَشِيد} . وللإدغام مذاهب شتى وصور متعددة في كلام العرب، لكننا في القراءات نتوافر ما ورد بسند صحيح متواتر؛ لأن كل ما صح في العربية لا يلزم أن تصح القراءة به؛ إذ القراءة سنة متبعة، والعكس صحيح؛ إذ ما صح سنده، ووافق المصحف العثماني لا بد أن يصح وجهه في العربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 أحكام الإدغام: قال أبو جعفر بن الباذش: والحرف عند لقائه حرفًا آخر لا يخلو من أحد ثلاثة أقسام: قسم لا يجوز فيه إلا الإدغام وقسم لا يجوز فيه إلا الإظهار. وقسم يجوز فيه الإظهار والإضمار. القسم الأول: ما يجب فيه الإدغام صورته أن يكون الحرفان مثلين أولهما ساكن. كقوله تعالى: {مِنْ نَاصِرِين} [آل عمران: 22] {يُدْرِكَكُّمُ الْمَوْت} [النساء: 78] {فَلَا يُسْرِف فِي القَتْل} [الإسراء: 33] {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ} [الأنبياء: 15] . وكذا كل حرف ساكن لقي مثله في جميع القرآن، سواء أكان ساكنًا أساسًا أم أصله الحركة1. وعلة الإدغام في هذه الحالة. إرادة التخفيف؛ لأن اللسان إذ لفظ بالحرف من مخرجه، ثم عاد مرة أخرى إلى المخرج بعينه، ليلفظ بحرف آخر مثله صعب ذلك، وشبه النحويون بمشي المقيد؛ لأنه يرفع رجلًا ثم يعيدها إلى موضعها، أو قريب منه، وشبهة بعضهم بإعادة الحديث مرتين وهو ثقيل على السامع2. وتشبيه النحويين أدق؛ لأنه يصور صعوبة النطق بالمثلين من الناحية   1 الإقناع ج1 ص164 بتصرف. 2 الكشف ج1 ص134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 العضوية، وهي المعتبرة هنا أعني في الدرس اللغوي، وفيما اتسم به الحرف القرآني من السهولة واليسر. القسم الثاني: ما يجب فيه الإظهار والإظهار عكس الإدغام، بمعنى أن ينطق اللسان بالحرف مستقلًّا بنفسه، واضحًا بصفاته. وصورته: أن يتباين الحرفان مخرجًا وصفة، أو مخرجًا أو صفة. واختلاف المخرج وإن قلَّ من أسباب الإظهار، وكذلك تباين الصفتين، وكل حرف فيه زيادة صوت لا يدغم فيما هو أنقص صوتًا منه لذهاب ما يذهب منه من الصوت1. وعلة الإظهار: أن الأصل إظهار الحروف، وكان هو الأصل؛ لأنه الأكثر، والإدغام دخل لعلة فإذا لم توجد علة فلا بد من الرجوع إلى الأصل2. القسم الثالث: ما يجوز فيه الإظهار والإدغام وهو ما اجتمع علة كل من الإظهار والإدغام كاختلاف الحرفين مع تقارب المخرج مثل: {قَالَت طَائِفَة} ، {وَدَّت طَائِفَة} 3، وتماثل الحرفين مع فتح الأول مثل: {قَالَ لَهُمْ} ، {ذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} 4، فنجد هنا سببًا للإدغام، كما نجد سببًا للإظهار. وقد يكون الإدغام في العربية أوجه، وقد يكون الإظهار أوجه، وقد يكونا متساويين على قدر القرب والبعد.   1 الإقناع ج1 ص170. 2 الكشف ج1 ص134 بتصرف. 3 الحرفان من سورة آل عمران "آية 72- 69". 4 الحرفان من سورة البقرة "آية 247- 200". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وهذا الباب طريقه الرواية ومن هنا كان محل عناية القراء وعلماء القراءات، ويعتمدون عليه في التعليل لكل مروي. وهو ينقسم عند القراء إلى قسمين: إدغام صغير، وإدغام كبير. الإدغام الصغير: ليس فيه إدغام متحرك، ولا مثل1 بل له مواطن معينة يلتزم فيها تجاوز دائرة الإدغام القياسي المعروف في علم التصريف، وهذا النوع له مسوغاته الصوتية التي تحسنه أو تجيزه، كما أن الاعتماد فيه -كما أشرنا- على السند والرواية. وهو عند القراء على قسمين. القسم الأول: كلمات نطقها العرب ساكنة، أو على تعبير القراء سكونها خلقه2. وهي ستة أصناف. 1- قد. 2- إذ. 3- تاء التأنيث المتصلة بالفعل. 4- لام هل وبل. 5- حروف الهجاء ويقصد بها التي في أوائل السور. 6- النون الساكنة والتنوين3. وقد فصلت كتب القراءات الروايات التي وردت بإدغام ما أدغم منها، والقراء الذين قرءوا بها ولا نريد أن نفصل ذلك هنا ونحن نريد أن نقدم مدخلًا يعرف الباحث الخطوط العريضة فحسب.   1 الإقناع ج1 ص238، وعرفه صاحب النشر بقوله: ما كان أول الحرفين منهما ساكنًا، راجع ج1 ص374. 2 المرجع السابق، والنشر ج1. 3 ذكر أبو العز في كتابه إرشاد المبتدئ وتذكرة المنتهي خمسة أصناف فقط، ولم يذكر النون والتنوين راجع ص89، رسالة ماجستير تحقيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 لكن سأقصر الحديث على سبيل المثال على ما قيل في واحد من هذه الستة. قال أبو جعفر بن الباذش: باب دال قد. اتفقوا على إدغامها في مثلها، والتاء نحو: {وَقَد دَّخَلُوا} [المائدة: 61] ولا يجوز غيره حسب ما قدمناه، ونحو: {وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم} [العنكبوت: 38] ويجوز الإظهار، وقد رواه المسيبي1. واختلفوا فيها عند ثمانية أحرف: الجيم والسين، والشين، والصاد، والزاي، والذال، والضاد، والظاء نحو: {لَقَدْ جَاءَكُم} [التوبة: 128] {لَقَدْ سَمِع} [آل عمران: 181] {قَدْ شَغَفَهَا} [يوسف: 30] وليس غيره، و {لَقَدْ صَدَقَكُم} [آل عمران: 152] و {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} [الأعراف: 179] وليس غيره و {لَقَدْ زَيَّنَّا} [الملك: 5] و {لَقَدْ ضَرَبْنَا} [الروم: 58] و {لَقَدْ ظَلَمَك} [ص: 24] . فقرأ ابن كثير وقالون وعاصم بإظهار الدال عند الثمانية. وأدغم ورش في الظاء والضاد. وأدغم ابن ذكوان في الذال والضاد والطاء، زاد له غير الفارسي2 الزاي. الباقون وهم: أبو عمرو وحمزة والكسائي وهشام بالإدغام في الثمانية.   1 المسيّبي هو أبو محمد إسحاق بن محمد بن عبد الرحمن المسيبي، قيم في قراءة نافع ضابطًا لها، عالم بالحديث آخذ عنه ولده محمد، وخلف بن هشام وغيرهما توفي سنة 206هـ. 2 هو أبو القاسم عبد العزيز بن جعفر بن محمد بن إسحاق الفارسي يعرف بابن غسان، مقرئ نحوي، شيخ صدوق، قرأ عليه أبو عمرو الداني توفي سنة 412هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 القسم الثاني: ما كان سكونه عن حركة وصورته: أن يكون الحرفان اللذان وقع فيهما الإدغام متقاربين مخرجًا، وكان سكون أولهما غير أساس بأن كان نتيجة لوضع إعرابي. وقد ذكر له القراء تسعة أنواع: 1- الباء مع الفاء. 2- الباء عند الميم. 3- الثاء عند التاء. 4- الثاء عند الذال. 5- الدال عند الثاء. 6- الذال عند التاء. 7- الراء عند اللام. 8- اللام عند الذال. 9- الفاء عند الباء. وتحدد الروايات ما نقل من إدغام في هذه المواضع التسعة. ومثال ذلك ما قاله القراء من إدغام في باب الباء عند الفاء. على النحو التالي: وجملة ذلك خمسة مواضع1 في سورة النساء: آية 74، {أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ} ، وفي سورة الرعد: آية 5، {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَب} ، وفي سورة سبحان2: آية 63، {اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَك} ، وفي سورة طه: آية 97، {اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَك} ، وفي سورة الحجرات: آية 11، {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ} . فأدغم فيهن أبو عمرو والكسائي بلا خلاف عنهما، وخلاد وهشام3 بخلاف عنهما والذي ثبت عن الجوهري4 عن خلاد، وعن   1 هذا النص بكامله من كتاب الإقناع لابن الباذش ج1 ص262 وما بعدها. 2 سورة الإسراء. 3- خلاد أحد الرواة عن حمزة، وهشام أحد الرواة عن ابن عامر وقد ترجمنا لهما في فصل القراء. 4- هو أبو بكر محمد بن شاذان، مقرئ حاذق، مشهور، روى القراءة عرضًا عنه الحسن بن شنبوذ، وأبو بكر النقاش ت سنة 286. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 الحلواني عن هشام الإدغام1، وبه قرأت2 على أبي القاسم من طرفيهما عنهما. وقرأت على أبي رضي الله عنه، وعلى ابن شريح بالإدغام لخلاد، وبالإظهار لهشام وكذلك ذكر أبو الطيب. وقال أبو عمرو3 وخيَّر خلاد في: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِك} وخَيَّرني فارس بن أحمد لهشام، فقرأت عليه بالوجهين، وبالإظهار آخُذُ. قال أبو جعفر4: بالإدغام آخذ لهما في الباب. وقال الأهوازي: سمعت أبا عبد الله العجلي5 يقول: وجدت الحذاق من أهل الآداء على إخفائها عند الفاء عن اليزيدي عن أبي عمرو. الباقون بالإظهار في الخمسة. هذه صورة لما ورد من خلافات حول الإظهار والإدغام في الموضع الأول من المواضع التسعة وعلى هذه النحو توفرت كتب القراءات على ما ورد من روايات حول الخلاف في المواضع الباقية. وقد تحدث مكي عن أحكام الإدغام بصورتيه. يقول وأعلم أن الإدغام إنما يحسن في غير المثلين ويقوي إذا سكن الأول،   1 هو أبو الحسن محمد بن يزيد الحلواني، إمام كبير قرأ بمكة على النواس، وبالمدينة على قالون توفي سنة 250هـ. 2 هذا كلام ابن الباذش. 3 أبو عمرو الداني، انظر التيسير ص44. 4 هو ابن الباذش. 5 هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله العجلي اللالكائي المقرئ، وهو شيخ متصدر صاحب القصيدة الرائية التي عارض بها قصيدة أبي مزاحم الخاقاني، قرأ عليه أبو علي الأزهري وآخرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وهو على ضربين: أحدهما: إذا كان الحرفان متقاربين في المجزع، والحرف الأول أضعف من الثاني، فيصير بالإدغام إلى زيادة قوة؛ لأنك تبدل من الأول حرفًا من جنس الثاني، فإذا فعلت ذلك نقل لفظ الضعيف إلى لفظ القوة، فذلك حسن جيد. والضرب الثاني: أن يكون الحرفان المتقاربان في القوة سواء كالمثلين فيحسن الإدغام؛ إذ لا ينتقص لأول من قوته قبل الإدغام، وضرب ثالث من إدغام المتقاربين ضعيف قليل، هو أن يكون الحرف الأول أقوى من الثاني، فيصير بالإدغام أضعف من حاله قبل الإدغام1. وهكذا علل مكي لأحكام الإدغام الصغير، ولما ورد فيه من قراءات في مواضعه التي ذكرها القراء. الإدغام الكبير: ما كان أول الحرفين فيه متحركًا سواء كانا مثلين أم جنسين أم متقاربين. وسمي كبيرًا؛ لأنه أكثر من الصغير، ولما فيه من تصيير المتحرك ساكنًا، ولما فيه من الصعوبة2، وقيل لكثرة وقوعه؛ إذ الحركة أكثر من السكون، وقيل لشموله المثلين والجنسين والمتقاربين2. ذكر ابن الباذش أن هذا الإدغام انفرد به أبو عمرو بن العلاء، وكان له مذهبان: أحدهما الإظهار كسائر القراء والآخر الإدغام، وأنه كان يأخذ به عند الحدر، وإدراج القراءة4.   1 الكشف ج1 ص135. 2 الإقناع ج1 ص195. 3 النشر ج1 ص374. 4 نوع من القراءة شرحنا أصوله في الفصل الخاص بالترتيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 ثم قال: وكان أبو عمرو يدغم المتحرك في مثله وفي مقاربة إذا كانا متحركين، سواء سكن ما قبله أو تحرك، ولا تصل إلى الإدغام حتى تسكن المدغم، وترد الأول لمقاربه، الذي تدغم فيه. وإذا كان أول المثلين مشددًا أو منونًا، أو منقوصًا، أو تاء مخاطبة ذكرًا أو أنثى لم يدغم باتفاق الأئمة -كما ذكر الخزاعي- ونقل عن أبي عمرو الإدغام في ذلك أيضًا مثل قوله تعالى: {صَوَافَّ فَإِذَا} [الحج: 36] {مَسَّ سَقَر} [القمر: 48] . والمتقاربان كالمثلين في امتناع الإدغام في حالتي التشديد والتنوين1. ويذكر ابن الجزري أن أبا عمرو غير منفرد بالإدغام الكبير تل قد ورد أيضًا عن الحسن البصري، وابن محيصن، والأعمش، وعيسى بن عمر، ويعقوب الحضرمي، ومسلمة بن عبد الله الفهري، ومسلمة بن محارب السدوسي وغيرهم. وقد قام أبو جعفر بن الباذش دراسة جيدة مدعومة بأقوال النحاة وأسانيد القراء شرحت أصول الإدغام الكبير وما قيل فيه حسب حروف المعجم بحيث يغني الناظر فيه، والمتتبع له عن النظر في فرش الحروف2. ملحوظة: ما أسلفناه من الكلام عن الإدغام سواء الواجب منه أم الجائز، الصغير أم الكبير إنما هو الإدغام القائم على الرواية أعني الإدغام في دائرة   1 راجع الإقناع ص195 وما بعدها. 2 المرجع السابق من ص198 إلى ص237. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 بحوث القراءات، أما الإدغام التصريفي أو القياسي، والذي يعد ظاهرة لغوية مطردة في اللسان العربي في مثل شد، يشد، والذي له شروطه المعروفة بالتفصيل في كتب التصريف فذلك غير داخل معنا؛ لأن الالتزام به شرط لا بد من تحققه؛ لأنه هو الوجه في العربية ولا يمكن أن تكون قراءات القرآن على خلافه؛ لأنه بلسان عربي مبين. حروف يخاف على القارئ اللحن فيها حال الإدغام: ذكر القراء بعض الحروف التي وقع الخلاف فيها بين الإظهار والإدغام، غير أنه في حالة الاتجاه إلى الإدغام في بعضها قد يترتب عليه وقوع اللحن. من هذه الحروف التي ذكرها القراء. على سبيل المثال لا الحصر: حروف الفاء لا يجوز إدغامها في الميم والواو والباء، والباعث على المنع هنا باعث صوتي؛ وذلك لأنها انحدرت إلى الفم حتى قاربت مخرج الثاء نحو: {وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم} [الأنعام: 133] {نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص: 75] {لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوه} [الذاريات: 28] {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْض} [سبأ: 9] وليس في القرآن من الفاء عند الباء غيره. فخوفًا من اللحن منع المانعون الإدغام. وقد قرأ الكسائي مدغمًا ووجهه أنها من حروف الشفة، وأن الباء مجهورة، والفاء مهموسة. ومن ذلك الميم عند الفاء والواو نحو: {هُمْ فِيهَا} ، {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِم} [البقرة: 15] ، {قُمْ فَأَنْذِر} [المدثر: 2] ، {مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَه} [لقمان: 22] ، وشبه ذلك حيث سكنت، لا يجوز في شيء من الإدغام لما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 فيه من الإخلال بالغنة، فالحكم أن تظهر الميم عندهما، وتبين بيانًا حسنًا من غير تكلف1. ومن ذلك الظاء عند التاء: وهو موضع واحد في قوله تعالى: {أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} في [الشعراء: 136] ، فالقراء على الإظهار، وكأنهم عدلوا عن الإدغام لما فيه من اللبس. وقد روى عباس2 عن أبي عمرو عن ابن سعدان3 عن اليزيدي عنه، وعن أبي المنذر نصير بن يوسف بن أبي نصر الرازي، ثم البغدادي النحوي المتوفى سنة 240هـ، عن الكسائي إدغامها فيها، وإذهاب صفتها، فتكون في السمع مثل: "أوعدت" من الوعد وهو جائز4. وهذا الجواز في تقديره من الناحية اللغوية البحتة، وموقف أهل الأداء أدق لما فيه من دفع اللبس، والبعد عن اللحن. وهناك حروف أخرى فصلها القراء، وتوفرت عليها كتب القراءات.   1 راجع الإقناع ج1 ص176- 177. 2 هو أبو الفضل العباس بن الفضل بن عمرو الواقفي، الأنصاري البصري، قاضي الموصل، أستاذ ثقة من أكابر أصحاب أبي عمرو توفي سنة 186. 3 هو أبو جعفر محمد بن سعدان، النحوي، الكوفي، الضرير، إمام كامل ثقة عدل، صنف في العربية والقراءات، وأخذ القراءة عن سليم عن حمزة، توفي سنة 221هـ. 4 راجع الإقناع ج1 ص187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 3- المد والقصر : المد في اللغة: مطلق الزيادة، قال تعالى: {أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ} ، {يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِين} 1. وفي الاصطلاح: إطالة الصوت في النطق بحرف المد عند ملاقاته الهمزة أو السكون ويقابله القصر. وهو في اللغة: الحبس، قال تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَام} 2، وقال: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْف} 3، أي حبس أنظارهن على أزواجهن من أهل الجنة لا ينظرن إلى غيرهم ومن الاصطلاح: ترك الزيادة وإبقاء المد الطبيعي على حالته4. أسباب المد: أسباب معنوية، وأخرى لفظية. أما الأسباب المعنوية: فهي قصد المبالغة في النفي، وهو سبب قوي مقصود عند العرب، ومنه مد التعظيم في نحو: "لا إله إلا الله، لا إله إلا هو، لا إله إلا أنت". قال ابن مهران في كتاب "المداث" له: إنما سمي مد المبالغة؛ لأنه طلب للمبالغة في نفي إلهية غير الله سبحانه قال: وهذا معروف   1 الأولى: النمل: 36 والثانية: نوح: 12. 2 الرحمن: 72. 3 الرحمن: 56. 4 النشر ج1 ص421. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 عند العرب؛ لأنها تمد عند الدعاء وعند الاستغاثة، وعند المبالغة في نفس شيء، ويمدون ما لا أصل له بهذه العلة، والذي له أصل أولى وأحرى. وقال الشيخ محيي الدين النووي -رحمه الله- في الأذكار، ولهذا كان المذهب الصحيح المختار استحباب مد الذاكر قوله: لا إله إلا الله، لما ورد فيه من التدبر، وأقوال السلف، وأئمة الخلف في مد هذا مشهوره1. وأما الأسباب اللفظية: فهي تتلخص في أن حروف المد الثلاثة: "الياء الساكنة بعد كسر، والواو الساكنة بعد ضم، والألف ولا تكون إلا ساكنة بعد فتح"، تلاقي همزة أو سكونًا2. أقسام المد: على أساس الأسباب اللفظية ينقسم المد إلى أقسام مختلفة. فهو أولًا إما طبيعة لم تتهيأ له أسباب المد، وإما فرعي تهيأت فيه لحروف المد أسبابه، والمد الفرعي إذا كان سببه ملاقاة الهمزة انقسم إلى: متصل ومنفصل وبدل، وإن كان سببه السكون العارض سمي المد العارض للسكون، وإن كان سببه سكونًا لازمًا سمي المد اللازم، والمد اللازم ينقسم إلى كلمي وحرفي حسب موقعه3، وإليك هذا الرسم البياني.   1 راجع النشر ج1 ص458 مع بعض تصرفه. 2 وهناك سبب آخر صوتي وراء وجوب المد أو جوازه: هو أن حرف المد ضعيف، والهمز قوي، فزيد في المد تقوية للضعيف عند مجاورة القوى، وقيل: لأن الهمز شديد مجهور، فلكي نتمكن في النطق به كما ينبغي لجأنا إلى المد. 3 الأصل في دراسة هذا الباب، وتقدير المدى الصوتي، واختلاف وجهات نظر القراء في تحقيقه يرجع إلى ما رواه الطبراني عن ابن مسعود -رضي الله عنه- ولفظه: كان ابن مسعود يقرئ رجلًا، فقرأ الرجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين} مرسلة، أي مقصورة، فقال ابن مسعود: ما هكذا أقرأنيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: وكيف أقرأكها يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: أقرأنيها: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين} ، فمدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 "يوجد رسم توضيحي يسحب سكان" 1- المد الطبيعي: وهو أداء حروف المد إذ لم تلاق همزة أو سكونًا الأداء المعتاد دون زيادة، ويسمى المد الأصل، ومقداره: حركتان وأمثلته: "قال، يقول، قيل"، ونحوها. ومن أجل هذا لا يعد في حقيقة الأمر مدًّا، وإنما هو القصر المقابل للمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 2- المد المتصل: وهو ما اجتمع فيه حرف المد مع الهمزة في كلمة واحدة، وسمي متصلًا لاتصال المد بحرف الهمزة في كلمة واحدة1، وذلك نحو: "السماء، جاء، شاء، الملائكة، أولئك، هاؤم"، "الحاقة: 19"، "سوء، تبوء، سيئت". 3- المد المنفصل: ما جاء فيه بعد حرف المد همزة، منفصلة عنه في كلمة أخرى ومن أمثلته: "بما أنزل، قالوا آمنا، وفي أنفسكم". 4- مد البدل: وهو ما تقدم فيه الهمز على حرف المد، نحو: "آمنوا، إيمانًا، أوتوا". وسمي بدلًا لإبدال حرف المد من الهمز؛ إذا أصله: "أَأْمنوا" قلبت الثانية حرف مد من جنس حركة الأولى، وهكذا الأمثلة الباقية. 5- المد العارض للسكون: وهو ما جاء فيه بعد حرف المد، أو حرف اللين سكون عارض في حالة الوقف فقط مثل: "العالمين، نستعين، بيت، خوف، مآب". وسمي عارضًا لعروض المد بعروض السكون. 6- المد اللازم: وهو ما جاء فيه بعد حرف المد سكون أصلي، لازم في الوقف والوصل جميعًا. نحو: "الصاخَّة، آلآن، الم". وهو على قسمين: كلمي، وحرفي.   1 الفرق بينه وبين مد البدل، أن في المتصل يسبق حرف المدة الهمزة، وفي البدل عكس هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 فإذا كان بعد حرف المد سكون أصلي ثابت في الأصل وفي الوقف في كلمة تزيد على ثلاثة أحرف سمي: كلميًّا، فإن كان الساكن الذي بعده مدغمًا فيما يليه سمي كلميًّا مثقلًا مثل: "الصاخَّة، دابّة، أتحاجّوني". وإن كان الساكن غير مدغم فيما يليه سمي كلميًّا مخففًا، ووقع ذلك في كلمة واحدة هي كلمة "آلآن" في موضعين بسورة يونس: {آَلْآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ} ، {آَلآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْل} . وإذا كان بعد حرف المد سكون أصلي لازم وصلًا ووقفًا في حرف هجاؤه على ثلاثة أحرف أوسطها حرف مد ولين، أو حرف لين فقط، وهذا المد مقصور على فواتح السور، ويقع في ثمانية أحرف جمعت في قولنا: كم عسل نقص. فإن أدغم ساكنه فيما بعده سمي مثقلًا، وإن لم يدغم سمي مخففًا، وقد اجتمع النوعان في: "ألم". وسمي هذا المد بأنواعه الأربعة: "كلمي مثقل، كلمي مخفف، حرفي مثقل، حرفي مخفف"، لازمًا للزوم سببه، وهو السكون الأصلي بعد المد وصلًا ووقفًا. أحكام المد: للمد أحكام تتراوح بين الوجوب والجواز. وقد اختلفت وجهات القراء في المدى الذي يتبع في كل نوع من أنواع المد بين حركتين أو أربع، أو خمس، أو ست، أو سبع1.   1 قدر علماء القراءات الحركة بقدر قبض الأصبع أو بسطه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وسنعرض مذاهب القراء في المد بشمول وإيجاز بعون الله وحده: 1- اتفق العلماء على أن المد الطبيعي لا يتجاوز حركتين بقدر ما يبرز صوت الحرف فحسب. 2- واتفق العلماء أيضًا على وجوب المد، وتمكينه في نوعين المد المتصل، سواء أكانت الهمزة متوسطة أم متطرفة، والمد اللازم الكلمي بنوعيه: المثقل والمخفف، وكذلك اللازم الحرفي بنوعيه أيضًا. وكذلك كلمة: {مَحْيَاي} في سورة الأنعام: الآية 162، في الوقف والوصل في قراءة ورش1 عن نافع. وتمد بمقدار أربع حركات أو خمس فإن وقفت عليها تزاد إلى ست، وإلى هذا ذهب حفص وآخرون. وهناك ملاحظة: هي أن المد اللازم الحرفي مقصور على فواتح السور، لكن فواتح السور ليست كلها مما يمد مدًّا واجبًا باتفاق؛ إذ إن المد فيها إنما كان لعلة التقاء الساكنين، ومن هنا قسمت إلى أربعة أقسام، كما ذهب لذلك مكي وأبو عمرو. أ- قسم هجاؤه على حرفين، يجمع حروفه قولنا: "حي طهر" ويمد مدًّا طبيعيًّا لا إشباع فيه وروى عن ورش الإشباع فيه إتباعًا لما التقى فيه ساكنان. ب- قسم هجاؤه على ثلاثة أحرف أوسطه متحرك نحو: "ألف" ولا مد فيه؛ لأنه ليس فيه حرف مد.   1 راجع الإقناع ج1 ص462. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 ح- قسم هجاؤه على ثلاثة أحرف، ثانيه حرف مد ولين، وهو حروف: "كم عسل نقص" ما عدا العين. أجمع القراء على إشباع المد فيه، وهذا القسم وحده الذي يدخل في الحكم السابق، وهو وجوب المد. د- قسم على ثلاثة أحرف، ثانيه ياء قبلها فتحة، وذلك نحو "عين". وللمتأخرين فيه قولان: منهم من يمده لورش وحده، ولا يمده لسائر القراء، وهو مذهب أبي عبد الله بن سفيان، ومنهم من يمده للجماعة فيسوي بينه وبين حرف المد "من المد الطبيعي"، وهو ابن مجاهد، أو أقل من حرف المد وهو مذهب ابن غلبون وأصحابه1. 3- المد المنفصل، ومد البدل، والمد العارض للسكون، يجوز مدها وقصرها مع اختلافات كثيرة ومتعددة للقراء فيها. أ- ففي المد المنفصل كان ابن كثير، وأبو عمرو، وقالون يقصرون حرف المد، فلا يزيدونه تمكينًا على ما فيه من المد الذي لا يوصل إلا به2. وروى عن قنبل مد "لا إله إلا الله" حيث وقع. وروى عن حفص جوازًا من أربع حركات أو خمس. ب- المد العارض للسكون يجوز مده وقصره، والمراد بالمد ما يشمل التوسط وما فوقه والتوسط أربع، والمد ست حركات، والقصر حركتان.   1 الإقناع ج1 ص478- 479 مع تصرف. 2 المرجع السابق ص463. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 فإذا كان الحرف الذي عرض له السكون مفتوحًا جاز فيه: القصر والتوسط والمد. وإن كان مكسورًا ففيه أربعة أوجه، الثلاثة المتقدمة بالسكون المحض، والروم1 مع القصر. وإن كان مضمومًا نحو "نستعينُ" ففيه سبعة أوجه: الثلاثة المتقدمة بالسكون المحض، والإشمام مع الثلاثة، والروم على القصر. وقد أوجز صاحب النشر مواقف القراء من المد العارض للسكون في ثلاثة مذاهب. أولها: الإشباع كاللازم لاجتماع الساكنين اعتدادًا بالعارض، قال الداني: وهو مذهب القدماء من مشيخة المصريين، قال: وهو اختيار الشاطبي لجميع القراء، واختاره بعضهم لأصحاب التحقيق كحمزة، وورش، والأخفش عن ابن ذكوان. ثانيها: التوسط لمراعاة اجتماع الساكنين وملاحظة كونه عارضًا، وهو مذهب أبي بكر بن مجاهد وأصحابه. ثالثها: القصر؛ لأن السكون عارض فلا يعتد به؛ ولأن الجمع بين الساكنين مما يختص بالوقف. ثم يقول ابن الجزري: الصحيح جواز كل من الثلاثة لجميع   1 الروم هو الإتيان ببعض الحركة بصوت خفي يسمعه القريب دون البعيد، ويكون في المرفوع والمجرور، والإشمام: هو إطباق الشفتين بعد الإسكان، وتدع بينهما انفراجًا ليخرج النفس بغير صوت، وذلك إشارة للحركة التي ختمت بها الكلمة، ولا يكون إلا في المرفوع والمجرور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 القراء لعموم قاعدة الاعتداد بالعارض وعدمه1. ج- ومد البدل: يجوز قصره عند جميع القراء، وذهب ورش إلى إشباع المد بإفراط أو اعتدال على اختلاف في ذلك بين الرواة عنه2.   1 النشر ج1 ص447 وما بعدها. 2 النشر ج1 ص451- 452 محيش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 4- الهمزة والتليين : الهمزة حرف يخرج من أقصى الحلق، وهي أدخل حروف الحلق في الحلق؟ ولأجل هذا استثقل أهل التخفيف مخرجها فخففوها. وتخفيف الهمزة، وتسهيلها أو تحقيقها سمات عرف بها اللسان العربي، ونطق بها الفصحاء، ووردت في لغات القبائل. وفي مجال القراءات، وهي تقوم على السند والتلقي مع الحافظ على خصائص اللسان العربي نرى علماء القراءات لهم آراء مختلفة باختلاف أحوال الهمزة ساكنة أو متحركة، مفردة أو معها همزة أخرى، في كلمة أو في كلمتين. وضبطًا لهذه الحالات المتعددة نقدم الرسم البياني التالي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 صفحة سكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 الصورة الأولى: تلاقي همزتين في كلمة إذا التقت الهمزة المتحركة بهمزة أخرى في كلمة فإن لها صورتين: أن تدخل على "أل" وجملتها في القرآن ستة مواضع، والهمزة الداخلة فيها كلها للاستفهام وهي: {قُلْ آَلذَّكَرَيْن} [الأنعام: 143، 144] ، {الْآن} [يونس: 51، 91] ، {قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُم} [يونس: 59] ، {آللَّهُ خَيْر} [النمل: 59] . وقد أجمع القراء على تحقيق همزة الاستفهام وتخفيف الثانية. ويقول ابن الباذش: وصورة التخفيف قد ذكر أصحاب سيبويه أنه بالبدل ألفًا1. والصورة الأخرى: الداخلة على غير أل. وهي ثلاث أضرب: مفتوحتان، مفتوحة ومكسورة، ومفتوحة ومضمومة. الهمزتان المفتوحتان في كلمة: هذه الصورة وقعت في ثمانية وعشرين موضعًا من القرآن الكريم كله. منها تسعة عشر موضعًا مضى فيها القراء على أصولهم بين التسهيل والتحقيق.   1 الإقناع ج1 ص359. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وتسعة مواضع لم يسيروا فيها على أصولهم، واختلفوا في كل موضع منها اختلافات شتى يمكن الرجوع إليها من مصادرها من كتب القراءات وفي فرش الحروف. والمواضع التسعة عشر هي: {أَنْذَرْتَهُمْ} ، {أَأَنْتُمْ أَعْلَم} [البقرة: 6، 140] {أأَأَسْلَمْتُمْ} ، {أَأَقْرَرْتُمْ} [آل عمران: 20، 81] {أَأَنْتَ قُلْتَ} [المائدة: 116] {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ} [هود: 72] {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ} [يوسف: 39] {أَأَسْجُد} [الإسراء: 61] {أَأَنْتَ فَعَلْتَ} [الأنبياء: 62] {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُم} [الفرقان: 17] {أَأَشْكُر أَمْ أَكْفُرْ} [النمل: 40] {أَأَنْذَرْتَهُم} [يس: 10] {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ} [يس: 23] {أَأَنْتُمْ} [الواقعة: 54، 64، 72] {أَأَشْفَقْتُمْ} [المجادلة: 13] {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ} [النازعات: 27] . قرأ الكوفيون وابن ذكوان بتحقيق الهمزة في هذا الموضع، وقرأ الباقون وهم: الحرميان، وأبو عمرو وهشام بتسهيل الثانية، واختلفوا في درجة التسهيل بإبدالها ألفًا كما ذهب ورش، أم بين بين كما ذهب ابن كثير1. وسأقدم مثالًا واحدًا من المواضع التسعة التي لم يجر القراء فيها على أصولهم قوله تعالى: {أَنْ يُؤْتَى أَحَد} [آل عمران: 73] . قرأه ابن كثير بهمزتين على الاستفهام، الثانية منها بين بين من غير فصل والباقون بهمزة واحدة على الخبر. وقوله تعالى: "آمَنْتُمْ" [الأعراف: 123] ، [وطه: 71] ، [والشعراء: 49] .   1 المصدر السابق ص261 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 قرأ أبو بكر وحمزة والكسائي فيهن على الاستفهام بهمزتين محققتين بعدهما ألف. وروى حفص في الثلاثة بهمزة وألف على الخبر1. الهمزتان: المفتوحة والمكسورة في كلمة وردت هذه الصورة في أربعة وعشرين موضعًا. وكانت الهمزة الأولى في جميع هذه المواضع للاستفهام إلا في: "أئمة" التي وردت في خمسة مواضع من القرآن: "التوبة: 12، الأنبياء: 73، القصص: 25- 41، السجدة: 24"، ومن أمثلتها أيضًا: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُون} [الأنعام: 19] ، {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} [الشعراء: 41] . قرأ الحرميان وأبو عمرو بتحقيق الأولى، وتسهيل الثانية بين بين. وفصل بينهما بألف قالون وأبو عمرو، والباقون بتحقيق الهمزتين فيهن. وفي الأربعة والعشرين موضعًا ثمانية عشر موضعًا جرت على أصولهم، وهي التي ذكرناها. وبقيت مواضع ستة اختلف فيها القراء اختلافات شتى على غير أصولهم2. ووردت هاتان الهمزتان للاستفهام في أحد عشرة موضعًا من القرآن جرى فيها القراء على أصولهم من القول بالتخفيف، والتحقيق، والفصل وتركه ولها تفصيلات في كتب القراءات.   1 راجع بقية الأمثلة التسعة في الإقناع ج1 ص262 وما بعدها. 2 راجع الإقناع ج1 ص371 وما بعدها، وكذلك الكشف ج1، وراجع السبعة لابن مجاهد في فرش الحروف في السور المختلفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 الهمزتان: المفتوحة والمضمومة في كلمة جاءت في أربعة مواضع من القرآن والهمزة الأولى فيهن للاستفهام وهن: {أَؤُنَبِّئُكُمْ} [آل عمران: 15] {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ} [ص: 8] {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ} [القمر: 25] . فهنا الحرميان وأبو عمر يسهلون الثانية، وقالون: يدخل بينهما ألفًا. والموضع الرابع: {أَشْهِدُوا} قرأه نافع بهمزتين، الثانية مضمومة مسهلة بين الهمزة والواو، وفصل قالون من غير طريق مكي بألف. الصورة الثانية: الهمزتان المتحركتان في كلمتين وهذا النوع على ضربين: أ- أن تتفق حركة الهمزتين. ب- أن تختلف. أ- تلاقي الهمزتين مع اتفاق الحركة: تحت هذا النوع صور ثلاث: المكسورتان، المفتوحتان، المضمومتان. الهمزتان المكسورتان: وردت في خمسة عشر موضعًا من القرآن الكريم. وفي المواضع كلها سبقت الهمزة الأولى منهما بألف إلا موضعًا واحدًا سبقت فيه بواو. من ذلك: {هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ} [البقرة: 31] {مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا} [النساء: 22، 24] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاق} [هود: 71] {هَؤُلاءِ إِلا} [الإسراء: 102] 1. والموضع الذي سبقت فيه الأولى بواو {بِالسُّوءِ إِلَّا} [يوسف: 53] . قرأ الكوفيون وابن عامر بتحقيق الهمزتين فيهن، وسهل الباقون مع اختلاف في صور التسهيل، فقنبل وورش يبدلان الثانية ياء ممدودة، والقياس فيه بين بين. وقرأ قالون والبزي بجعل الأولى بين بين، وتحقيق الثانية، إلا قوله تعالى: "بالسوء إلا" فإنهما حذفًا الهمزة الأولى، وألقيا حركتها على الواو قبلها، وحققا الثانية. يقول أبو جعفر بن الباذش: هكذا أخذ علينا أُبَيّ -رضي الله عنه- وهو القياس، ولا أعلمه رُوِي ثم يذكر أن مذهب الكوفيين في الهمزة المسبوقة بواو أن تجعل الأولى بين بين2. المفتوحتان: وردت في القرآن في تسعة وعشرين موضعًا. منها: {السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُم} [النساء: 5] ، {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُم} [النساء: 43] . وملاحظتنا أن الهمزة الأولى فيها سبقت بالألف، ذكر الفعل "جاء" في سبعة عشر موضعًا3 منها.   1 بقية المواضع راجع فيها الإقناع ج1 ص378. 2 المرجع السابق. 3 بقية المواضع -المرجع السابق ص380. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 حقق الهمزة فيهن الكوفيون وابن عامر. وسهل ورش وقنبل الثانية بأن أبدلاها ألفًا، والقياس أن تجعل بين بين، فقد روى سيبويه عن الخليل عن أبي عمرو جعل الأولى بين بين على ما يوجبه القياس1، وإن كان رأي الخليل وسيبويه أن تسهيل الثانية أولى من تسهيل الأولى بحجة أنه التخفيف وقع على الثانية إذا كانتا في كلمة واحدة نحو آدم وآخر، فكذلك إذا كانتا من كلمتين2. لكن ابن الباذش يذكر أنه قرأ على أبيه على نحو ما ذهب إليه ورش وقنبل، وكذلك طاهر بن غلبون، ثم يقول: ولا أعلمه روى.3. أما قالون والبزي وأبو عمرو فيحذفون الولى، هكذا أخذ القراء عنهم. المضمومتان: وردت الهمزتان المضمومتان في موضع واحد. هو قوله تعالى: {أَولِيَاءُ أُولَئِك} [الأحقاف: 32] . ورش وقنبل يخففان الثانية، والقياس بين بين. وقالون والبزي يجعلان الأولى بين بين، أي بين الهمزة والواو. وأبو عمرو يسقطها، والوجه في ذلك بين بين. والباقون يحققونهما معًا. ب- تلاقي الهمزتين في كلمتين مع اختلاف الحركة: ولها خمس صور:   1 راجع الكتاب لسيبويه ج3 ص 549 هارون. 2 الكتاب ج3 ص552 هارون. 3 الإقناع ج1 ص380. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 1- تلاقي الهمزة المضمومة مع المفتوحة. وأمثلتها: {السُّفَهَاءُ أَلا} [البقرة: 13] ، {يَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} [هود: 44] {الْبَغْضَاءُ أَبَدًا} [الممتحنة: 4] . 2- المفتوحة مع المضمومة، وذلك في موضع واحد، قوله تعالى: {جَاءَ أُمَّة} [المؤمنون: 44] . 3- المكسورة مع المفتوحة، مثل: {مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن} [البقرة: 282] {مِنْ وِعَاءِ أَخِيه} [يوسف: 76] . 4- المفتوحة مع المكسورة، عكس السابقة، نحو: {شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ} [البقرة: 133] . 5- مضمومة ومكسورة، نحو: {مَنْ يَشَاءُ إِلَى} [البقرة: 142، 213] . {نَشَاءُ إِنَّك} [هود: 87] . هذا وعكس الصورة الخامسة لا وجود له في القرآن الكريم. قرأ الكوفيون وابن عامر بتحقيق الهمزتين. وقرأ الباقون بتسهيل الثانية على ما تقتضيه وجوه التسهيل1. ملاحظة مهمة: "هذه الاختلافات بين القراء في وجوه النطق بالهمزتين، مختلفتي الحركة، أو متفقتين إنما تكون في حالة الوصل فحسب، أما في الوقف فلا شيء سوى التحقيق، يقول أبو عمرو الداني: والتسهيل لإحدى الهمزتين في هذا الباب إنما يكون في حال الوصل لا غير، لكون التلاحق فيه"2.   1 في كتب القراءات بحوث مستفيضة في شرح وجوه التسهيل والموازنة بينها ومدى موافقتها أو مخالفتها لقواعد العربية، راجع الإقناع لابن الباذش والكشف لمكي، والسبعة لابن مجاهد والنشر لابن الجزري. 2 التيسير ص34طـ استانبول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 الصورة الثالثة: الهمزة المتحركة المفردة سندرس هذه الهمزة عند القراء حسب موقعها من الكلمة. فالهمزة المتحركة تقع فاء للكلمة، وتقع عينًا، وتقع لامًا. 1- الهمزة المتحركة إذا وقعت فاء 1: أ- قد تقع فاء وقبلها حركة مماثلة. ب- قد تقع فاء وقبلها حركة مخالفة. ج- قد تقع فاء وقبلها سكون. أ- مع الحركة المماثلة: أمثلتها: مآب، مآرب، وما تأخر، تأذن2. أجمع القراء على تحقيقها إلا همزة في الوقف فإنه يقول بتسهيلها بين بين3. ب- مع الحركة المخالفة: 1- الهمزة المفتوحة، المضموم ما قبلها. يقول ورش بتسهيلها واوًا في ثلاثة أسماء: {مُؤَجَّلًا} [آل عمران: 145] {مُؤَذِّن} [الأعراف: 44] ، و [يوسف: 70] {وَالْمُؤَلَّفَة} [التوبة: 60] وخمسة أفعال: {يُؤَاخذ} [النحل: 61، وفاطر: 45] {يُؤَخِّرَ} [المنافقون: 11] .   1 المقصود بكونها فاء ليس وقوعها الأصل الأول للكلمة كما يحدد الصرفيون، وإنما وقوعها في أول الكلام. 2 لم يذكر القراء في الحركة المماثلة إلا المفتوحة بعد فتح. 3 الإقناع ج1 ص430- 432. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 {يُؤَيِّدُ بِنَصْرِه} [آل عمران: 13] {يُؤَدِّه} [آل عمران: 75] {يُؤَلِّف} [النور: 43] . وبقية القراء يقولون بالتحقيق إلا حمزة في الوقف فقط فإنه يوافق ورشًا. 2- الهمزة المفتوحة المكسور ما قبلها: يبدلها ورش ياء في كلمة "لئِلا" حيث وقعت وفي قوله تعالى: {لِأَهَبَ لَك} [مريم: 19] ووافقه أبو عمرو على التخفيف في {لِأَهَبَ لَك} فتصير "ليهب لك" ومن هنا قيل: هي ياء المضارعة، فمعنا احتمالان: إما أنها بدل من ألف المتكلم، أو ياء مضارعة، وكلا الوجهين صحيح1. ولو نظرنا للهمزة في الكلمتين نجد أنها ليست فاء على الحقيقة، إذ هي في الأولى همزة "أن" والحروف لا توزن عند الصرفيين، والفاء في "أهب" حذفت لوقوعها فاء للمثال المكسور العين في المضارع مثل وعد يعد2. 3- الهمزة المضمومة، المفتوح ما قبلها: جاءت في حرفين {يَؤُوُده} [البقرة: 255] {تَؤُزُّهُم} [مريم: 83] . أجمع القراء على تحقيقها إلا حمزة في حالة الوقف فحسب. ج- المتحركة وقبلها ساكن: ومن أمثلتها: الأرض، الآخرة، الآن.   1 المرجع السابق ص386. 2 حذفت فاء وهب شذوذًا لعدم كسر العين في المضارع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 يذهب ورش إلى أن كل همزة في أول كلمة سبقها ساكن تحذف. وتنقل حركتها إلى الساكن قبلها أيا كانت هذه الحركة إذا كانا من كلمتين بشرط ألا يكون الساكن حرف مد ولين، أو ميم الجمع. هذا في حالة الوصل، وفي حالة الوقف يحقق الهمزة لابتدائه بها. ونلاحظ أن القراء يعاملون الأمثلة السابقة على هذا النحو. وهذا النقل الذي اختص به ورش وهو لغة لبعض العرب. وإن كان الساكن والهمزة في كلمة لم ينقل ورش الحركة إليه نحو: {شَيْئًا} ، {كَهَيْئَة} [آل عمران: 49] ، [والمائدة: 110] ، {جُزْءًا} [البقرة: 260] ، ونحوه، إلا1 {رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} [القصص: 34] ، فإنه خالف أصله فألقى الحركة على الدال وهما في كلمة، وتابعه على ذلك قالون فقرئت: "رِدًّا" بفتح الدال من غير همز. وقد قسم أبو عمرو الساكن الواقع قبل الهمزة إلى ثلاثة أقسام: 1- أن يكون تنوينًا. نحو: "حامية، ألهاكم" [القارعة: 11، التكاثر: 1] ، {مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا} [الأعراف: 94] . 2- أن يكون لام تعريف نحو: "الأرض، الآخرة، الأزفة"، وشبهه. 3- أن يكون سائر حروف المعجم: {مَنْ آمَنَ} ، {قَدْ أَفْلَحَ} ، {خَلَوا إِلَى} [البقرة: 14] . نخلص من هذا إلى باب النقل على ثلاثة أوجه:   1 روى نافع أن "رِدّا" في هذه القراءة ليس مخففًا من "ردءًا" وأنه فِعَل من قولهم: أردى على المائة أي زاد عليها، واستشهد ببيت حاتم: وَأَسمَرَ خَطِّيًّا كَأَنَّ كُعوبَهُ ... نَوى القَسبِ قَد أَردى ذِرا العَشْرِ والقسب: الصلب، أو تمر يابس يتفتت في الفم، صلب النواة. راجع ديوان حاتم ص121، والبيان والتبيين 3/ 25، والإقناع ج1 ص395 والصحاح للجوهري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 1- قسم يجوز نقل الحركة إليه نحو: {مَنْ آمَنَ} ، {الْأَرْض} ، {شَيءٍ إِذْ} ونحوها. 2- قسم لا يجوز نقل الحركة إليه وهو الألف وميم الجمع، وكذلك إذا كان الساكن والهمزة في كلمة عند ورش. 3- قسم يجوز نقل الحركة إليه، ولم ينقل ورش الحركة إليه، وهو حرف اللين: الواو والياء. 2- المتحركة عينًا: النوع الثاني من الهمزة المفردة المتحركة: أن تقع عينًا ولها صورتان: الصورة الأولى أن يسبقها متحرك. وللقراء في هذه الصورة أصل مطرد وحرفان. أما الأصل المطرد فهو: "أَرَأَيْتَ -أَرَأَيْتُم- أَرَأَيْتُكُم" وشبهه إذا كان في أوله ألف الاستفهام. قرأ نافع بتخفيف الهمزة الثانية بجعلها بين الهمزة والألف. وقيل عن ورش في ذلك بالبدل. والباقون بتحقيقها، وإذا وقف حمزة خفف، والواجب في تخفيفها أن يكون بين بين، ويجوز البدل والحذف. وأما الحرفان: أحدهما: {التَّنَاوُش} [سبأ: 52] . قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر بالهمز، ويمدون زيادة. وقرأ الباقون بواو مضمومة فلا يزيدون في المد. والآخر: {سَأَلَ سَائِل} [المعارج: 1] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 قرأ نافع وابن عامر: "سال" بإبدال الهمزة ألفًا، والبدل في هذا الفعل مسموع، حكاه سيبويه عن العرب1. وقرأ الباقون بالهمزة، وخفف حمزة بالبدل أو بين بين. الصورة الثانية: أن يسبقها ساكن. وإن سكن قبل الهمزة الواقعة عينًا اختلفوا من ذلك أصلين: أولهما: قول الله تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 33] ، {فَاسْأَلُوهُمْ} ، [الأنبياء: 63] {فَاسْأَلِ الّذِينَ} [يونس: 94] {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل: 43] ، و [الأنبياء: 7] ونحوه من كل فعل أمر من الفعل "سأل" وقيل: السين واو أو فاء. قرأ ابن كثير والكسائي، ومعهما حمزة في حالة الوقف فقط، بحذف الهمزة، وإلقاء حركتها على السين، وقرأ الباقون بالإثبات. فإن كانت مادة: "سأل" على صورة النهي مثل: {لا تَسْأَلُوا عَنْ} [المائدة: 201] أو الماضي نحو: {سَأَلَ} [المعارج: 1] ، {سُئِلَ} [البقرة: 108] ، أو المضارع مثل: "تَسْأَلُوا" [البقرة: 108] أو المضارع الغائب المقترن بلام الأمر "أمر الغائب": {وَلْيَسْئَلُوا} [الممتحنة: 10] . فقد اتفقوا على الهمزة في كل ذلك. وإن كان أمر المواجه ليس قبله واو أو فاء فقد اتفقوا على ترك الهمزة نحو: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيل} [البقرة: 211] . والأصل الآخر: قوله تعالى: {اسْتَيْأَس} حيث وقع، وقد وقع   1 الكتاب ج3 ص543 هارون، وراجع الإقناع ج1 ص369 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 في خمسة مواضع: {فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ} [يوسف: 80] ، {وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ} [يوسف: 87] ، {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ} [يوسف: 110] ، وفي [الرعد: 31] ، {أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا} . قرأ البزي بالألف وفتح الياء من غير همز، وهناك روايات مختلفة عنه. وقرأ الجماعة بالهمز. 3- المتحركة لَامًا: النوع الثالث من الهمزة المفردة المتحركة: أن تقع لَامًا. ولها صورتان: الأولى: أن يسبقها متحرك. مثل {الصَّابِئِين} [البقرة: 262] و [الحج: 17] ، {وَالصَّابِئُون} [المائدة: 69] . فقد ترك همزهما نافع، وهمز الباقون. وهناك أحد عشرة حرفًا أخرى اختلفت فيه آراء القراء1، وليس لهم أصول مطردة فيها. الصورة الأخرى: أن يسبقها ساكن. اختلف القراء فيها في أصلين مطردين وفي ثلاثة أحرف. أول الأصلين: "النبي، النبيين، الأنبياء، النبوة"، ونحوها حيث وقع. قرأ نافع بالهمز إلا أن قالون ترك الهمز في الأحزاب: "للنبي إن أراد، بيوت النبي إلا"، 50، 53، وذلك في الوصل فقط، وفي الوقف يهمز، وبقية القراء بغير همز.   1 راجع الإقناع ج1 ص401 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 والأصل الثاني: "القرآن، قرآنًا، قرآنه" حيث وقع إذا كان اسمًا. ترك همزه ابن كثير وهمزه الباقون. ويوافق حمزةُ ابن كثير في الوقف. والأحرف الثلاثة هي: {النَّسِيء} [التوبة: 37] ، قرأه ورش بتشديد الياء من غير همز، وهمز الباقون، وإذا وقف حمزة وهشام وافقا ورشًا. "البريَّة" في موضعين من سورة البينة: 6، 7. قرأ نافع وابن ذكوان بالهمز فيهما، وخفف الباقون. القسم الثاني: الهمزة الساكنة ولها حالتان: أ- حالة تلاقي فيها همزة أخرى. ب- وحالة تكون فيها مفردة. أ- التقاء الساكنة مع همزة أخرى: إذا التفت الهمزة الساكنة بهمزة أخرى فلا بد أن تكون الأخرى متحركة؛ لأن الساكنين لا يجتمعان. فإذا وقعت المتحركة بعدها لزم الإدغام إذا كانت عينًا مثل: "رَأَّس، سأَّل" ولم تجئ هذه الصورة في كتاب الله. وإن كانتا منفصلتين، مثل: "اقرأ، إنا أنزلناه" فيرى ابن الباذش أن الْأَوْلى تخفيف الأُولَى، وذكر الأهوازي جواز التحقيق والإدغام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 والتحقيق أجود1. ولم تأت هذه الصورة في الكتاب العزيز أيضًا: فإذا كانت الهمزة المتحركة سابقة قلبت الثانية -أعني الساكنة- حرف مد من جنس حركة الأولى مثل: آدم، آمن، آخر، أوتى قلبت الساكنة واوًا، ومثل: إيمان، إتياء، قلبت ياء. وهذا أمر أجمع عليه الفراء والنحويون إذا استثنينا ما حكاه سيبويه من قوله: "وزعموا أن ابن أبي إسحاق2 كان يحقق الهمزتين وأناس معه، وقد تكلم ببعضه العرب، وهو رديء"3. ب- الساكنة المفردة: وردت الساكنة المفردة كثيرًا في القرآن الكريم، سواء أكانت فاء أم عينًا أم لامًا. فإن كانت فاء أو عينًا كثير ورودها في الأسماء والأفعال. من أمثلتها في الأسماء: "المؤتفكات، المؤمن، المؤمنون، الكأس، الرأس، البأس، البئر، الذئب، سؤلك، الرؤيا" ونحوها. ومن أمثلة الأفعال: "يؤمن، يؤمنون"، "يؤلون" "البقرة: 266".   1 الإقناع ج1 ص405 والأهوازي هو أبو علي الحسن صاحب المؤلفات وشيخ القراء في عصره، قرأ عليه غلام الهراس وأبو القاسم الهذلي، وله الوجيز في القراءات الثمان توفي بدمشق سنة 446هـ. 2 هو عبد الله بن إسحاق الحضرمي النحوي البصري جد يعقوب بن إسحاق أحد القراء العشر أخذ القراءة عن يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم وروى عنه عيسى بن عمر الثقفي وأبو عمرو بن العلاء توفي سنة 117 هـ. 3 الكتاب ج4 ص443 هارون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 "يقول أئذن لي" [التوبة: 49] ، "الذي أئتمن" [البقرة: 283] ، "لقاءنا أئت" [يونس: 15] ، وشبهه. وإذا كانت لامًا لا تأتي إلا في الأفعال نحو: "أنشأنا، أخطأنا، شئنا، شئتم، جئنا، جئتم، تبرأنا" وشبهه. في كل هذه الحالات يذهب ورش إلى ترك الهمزة إذا كانت فاء للفعل، وإن كانت عينًا أو لامًا همز كالباقين. وأبو عمرو بن العلاء لا يهمز كل همزة ساكنة فاء كانت أو عينًا، أو لامًا في اسم أو فعل، ويبدلها على حركة ما قبلها. لكن الروايات اختلفت عنه متى يفعل ذلك؟ فيروي أبو عمر الدوري عن اليزيدي عنه: إنه كان لا يهمز إذا قرأ فأدرج القراءة وقيل: لا يهمز إلا قرأ في الصلاة، وقيل: لا يهمز إذا قرأ بالإدغام. ويرى ابن الباذش أن الذي عليه الأئمة لأبي عمر تحقيق الهمز مع الإظهار، وبالتخفيف لا غير مع الإدغام1. والباقون بتحقيق الهمزة في هذا كله.   1 راجع الإقناع ج1 ص408 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 5- الإمالة والفتح : وهي من الأصول المطردة في القراءات. معنى الإمالة. تقريب الألف نحو الياء، والفتحة التي قبلها نحو الكسرة1. ويصفها ابن الباذش فيقول: أن تنتحي بالفتحة نحو الكسرة انتحاء خفيفًا كأنه واسطة بين الفتحة والكسرة، فتميل الألف من أجل ذلك نحو الياء، ولا تستعلي كما كانت تستعلي قبل إمالتك الفتحة قبلها نحو الكسرة2. ويقرب منها اصطلاح "بين بين" وهو أن ينحو القارئ أو المتكلم بالفتحة نحو الكسرة، وبالألف نحو الباء قليلًا، ويقال له أيضًا: التقليل والتلطيف. وسماها الداني: الإمالة الوسطى. وهي بهذا درجة من درجات الإمالة. الإمالة وتأثيرها الصوتي، وفائدتها في الأداء: توجد الإمالة نوعًا من التناسب الصوتي، وعدم التباين، ويقول صاحب النشر: وأما فائدة الإمالة فهي سهولة اللفظ، وذلك أن اللسان يرتفع بالفتح، وينحدر بالإمالة والانحدار أخف على اللسان من الارتفاع، فلهذا أمال من أمال، وأما من فتح فإن راعى كون الفتح أمتن، أو أنه الأصل3، وقد يكون من أسباب الإمالة الدالة على الأصل.   1 راجع كتاب سيبويه 2/ 310 الأميرية، وأسرار العربية ص406 والكشف ج1 ص168، والشافية الكافية ج4 ص1970. 2 الإقناع ج1 ص262. 3 المرجع السابق، والنشر ج2، ص25، والكشف ج1 ص168. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 الإمالة بين اللسان العربي والقراءات: الإمالة منهج لبعض قبائل العرب في القول والحديث، ومن هنا فهي داخلة في الحروف السبعة التي نزل بها القرآن الكريم، ووردت بها الروايات المتواترة. قال أبو عمرو الداني فيما نقله عنه صاحب النشر. "والإمالة والفتح لغتان مشهورتان، فاشيتان على ألسنة الفصحاء، من العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، فالفتح لغة أهل الحجاز، والإمالة لغة عامة أهل نجد من تميم وأسد وقيس، قال: وعلماؤنا مختلفون في أي هذه الأوجه أوجه وأولى، قال: واختار الإمالة الوسطى التي هي بين بين؛ لأن الغرض من الإمالة حاصل بها، وهو الإعلام بأن أصل الألف الياء، أو التنبيه على انقلابها إلى الياء في موضع، أو مشاكلتها للكسر المجاور لها أو الياء، ثم أسند حديث أبي حذيفة بن اليمان، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون1 أهل الفسق وأهل الكتابين"، ثم قال: فالإمالة لا شك من الأحرف السبعة، ومن لحون العرب وأصواتها". يتضح مما سبق أن المشهور بين عامة اللغويين أن الإمالة لغة عامة أهل نجد من قيس وأسد، وتميم، وأن الفتح لغة أهل الحجاز. وليس معنى هذا أن ظاهرة الإمالة مقصورة على النجديين، والفتح مقصور على أهل الحجاز؛ إذ نجد الإمالة في قبائل أخرى غير عامة أهل نجد، كما نرى الفتح في بعضهم أيضًا. يقول سيبويه: بلغنا عن ابن أبي إسحاق أنه سمع كثير عزة   1 راجع الموضح للداني مخطوط ورقة 2، 3، والنشر ج2 ص30ت الضياع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 يقول: "صار بمكان كذا وكذا أي بإمالة الألف في صار"1، والمعروف أن كثير عزة من خزاعة2. وقال أبو بكر بن مقسم: إن أكثر أهل اليمن يميلون ألف حتى؛ لأن الإمالة غالبة على ألسنتهم في أكثر الكلام3. ويقول الأشموني في شرحه على الألفية: نقل عن بعض الحجازيين إمالة نحو: "خاف، وطاب" وفاقًا لبني تميم، وعامتهم يفرقون بين ذوات الواو نحو: "خاف"، فلا يميلون، وذوات الياء نحو: "طاب"، فيميلون4، ومثل هذا القول سبق لأبي حيان أن قرره في الارتشاف5. وعند القراء: من القراء من لم يمل وهو ابن كثير، ومنهم من اتجه إلى الإمالة. والذين يميلون قسمان: قسم يكثر من الإمالة وهم ورش وأبو عمرو، وحمزة والكسائي. والقسم الآخر منهم مقلون وهم قالون وابن عامر وعاصم. وهناك علاقة واضحة بين القراء المكثرين من الإمالة، وبيئاتهم وشيوخهم؛ إذا أغلبهم من العراقيين وقد نزل فيهم من قبائل العرب أسد وتميم6.   1 الكتاب لسيبويه ج2 ص261. 2 الأغاني ج2 ص25. 3 همع الهوامع للسيوطي ج2 ص204. 4 منهج السالك ج4 ص210. 5 ارتشاف الضرب لأبي حيان مخطوط ص209. 6 راجع بحث هذه المسألة بتفصيل في كتاب الإمالة في القراءات واللهجات العربية ص154 وما بعدها. د. شلبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وابن الجزري يقدم نظرة شاملة للإمالة عند القراء تختلف قليلًا عما ذكرنا؛ إذ يقول: وما من أحد من القراء إلا رويت عنه إمالة قلت أو كثرت1. ومعنى هذا أنه قد روى عن ابن كثير إمالة، وإذا كان ابن الجزري لم يبينها فقد بينها الداني في كتابها لموضح؛ إذ ذكر أن ابن كثير في رواية البزي عنه أنه كان يقرأ الهاء والياء مكسورة من قوله تعالى: {كهيعص} 2. وبالرجوع إلى كتب القراءات ترى التفصيلات الشاملة والدقيقة لقراءة الإمالة، وأحيل القارئ بخاصة إلى كتاب الإقناع في القراءات السبع لابن الباذش. أسباب الإمالة عند القراء والنحاة. لا تكاد تختلف أسباب الإمالة عند القراء والنحاة إلا اختلافًا يسيرًا، وذلك راجع إلى أمرين فيهما تفسير للاتفاق والاختلاف. 1- أن جمهرة القراء كانوا أصحاب قدم راسخة في النحو وعلوم العربية. 2- أن القراءة سنة متبعة تخضع للسند والأثر أكثر من القياس والنظر. ومن هنا نرى صورًا من الإمالة قد لا تكون شائعة عند النحاة بينما هي شائعة وسائغة عند القراء، كما نرى أسبابًا للإمالة يعتد بها في العربية ولا يعتد بها عند القراء.   1 منجد القارئين ص60. 2 الموضح للداني ورقة 57 والإمالة في القراءات ص60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وسأشير إلى أمثلة لذلك بعد بيان أسباب الإمالة. سأذكر هذه الأسباب من خلال ما قرره علمان من أعلام النحو والقراءة، وهما أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي 347هـ، وأبو جعفر أحمد بن الباذش 540هـ. يقول مكي وقد أوجز علل الإمالة: اعلم أن العلل التي توجب الإمالة ثلاث: وهي الكسرة، وما أميل ليدل على أصله، والإمالة للإمالة1. ثم يتبع ذلك بتفصيلات وأمثلة متعددة من واقع القراءات المتواترة. وأما ابن الباذش فيذكر أسباب الإمالة على نحو ما جاءت في كتب النحاة، فيصل بالأسباب إلى ستة، ثم يفصل القول فيها على ضوء أمثلة من القراءات المتواترة. يقول: وللإمالة أسباب توجبها قد حصرها أبو بكر بن السراج في أصوله2، وفيما نقل أبو علي عنه3، إلى ستة أسباب، وهي: كسرة تكون قبل الألف أو بعدها، وياء، وألف منقلبة عن الياء، وألف مشبهة بالألف المنقلبة عن الياء، وكسرة تعوض في بعض الأحوال، وإمالة الإمالة4.   1 الكشف ج1 ص170. 2 هو محمد بن السري البغدادي، كنيته أبو بكر، وهو من تلامذة المبرد، كما تتلمذ عليه الزجاجي والسيرافي، وأبو علي الفارسي، والرماني، وله مصنفات في النحو واللغة والقراءات والأدب، ومن أشهر مؤلفاته: الأصول الكبير توفي سنة 310هـ. 3 وهو أبو علي الفارسي تتلمذ على الزجاج، وأخذ كتاب سيبويه عن ابن السراج، وروي القراءة عرضًا عن أبي بكر بن مجاهد، ومن مؤلفاته: الحجة والإيضاح توفي سنة 377هـ. 4 الإقناع ج1 ص268. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 فهذه هي الأسباب الموجبة للإمالة ما لم يمنع من ذلك الحروف المستعلية1، أو الراء غير المكسورة. من الواضح أن هذه الأسباب لا تخرج عن الثلاثة التي ذكرها مكي، وأن ابن السراج نقل هذه الأصول عن كتاب سيبويه2، وقد صرح ابن الباذش أن أباه أخبره بذلك، كما أخبره أن سيبويه زاد ثلاثة أسباب شاذة: وهي إمالة الألف المشبهة بالألف المنقلبة، وذلك مثل هاء التأنيث في الوقف. والإمالة للفرق بين الاسم والحرف مثل الحروف في فواتح السور. والإمالة لكثرة الاستعمال3، كما أميل "الحجاج" إذا كان علمًا لكثرته في الكلام. بعض وجوه الاختلاف والاتفاق بين النحاة والقراء: نتيجة لما عرفناه من أن منهج القراء والقراءات السند المتواتر والاتباع وجدنا ما أشرت إليه آنفًا من وجوه اختلاف واتفاق بين النحاة والقراء، وكلها في دائرة أسباب الإمالة سواء القياسية منها والشاذة. 1- ما وقع فيه حرف استعلاء متقدمًا على الألف، أو متأخرًا عنها   1 هي التي يجمعها قولهم: خص ضغط قظ. 2 باب الإمالة في الكتاب لسيبويه ج4 ص117 "هارون" أشار الدكتور شلبي في كتاب الإمالة أنه بالموازنة بين ما استخرجه من الكتاب. وما جاء في أصول ابن السراج اتضح فيه أن ابن السراج أغفل الإمالة للإمالة مع أن نقل ابن الباذش يؤكد أن ابن السراج لم يغفل هذا الأمر، ولعل سر هذا أن الدكتور شلبي اعتمد في نقل كلام ابن السراج على الهمع ج2 ص200. 3 الإقناع ج1 ص269، والكتاب ج4 ص135- 138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 ومتصلًا بها فلا يمال عند النحاة والقراء جميعًا مثل: لقاء، نفاق، شفاق، قصاص. 2- ما وقعت فيه بعد الألف راء مضمومة أو مفتوحة، أو وقعت فيه قبل الألف راء مفتوحة فقد اتفق النحاة والقراء على عدم إمالته1. 3- الياء وإن كانت من أقوى أسباب الإمالة عند النحاة لم تكن سببًا لإمالة شيء عند القراء. فالقراء لم يميلوا مثلًا: أيام، بيان، ثياب، حياة. وأمالوا لفظ "الديار" في: خلال الديار، من دياركم، من ديارنا، في ديارهم؛ وذلك لأجل الراء المكسورة بعد الألف بدليل إمالة نحو: كفار، نهار، مقدار، أبكار2. 4- الإمالة بالأسباب الشاذة التي أشرنا إليها، وقلنا إنها نقلت عن سيبويه. فبرغم أن أسبابها شاذة على حد تعبير النحاة لكن القراء أخذوا بها. من ذلك هاء التأنيث في الوقف. قال سيبويه: سمعت العرب يقولون: ضربت ضرِبه، وأخذت أخذِه، وشبه الهاء بالألف فأمال ما قبلها كما يميل ما قبل الألف3. وجاء القراء وعالجوا هذه القضية معالجة مفصلة. يقول مكي: اعلم أن هاء التأنيث أشبهت الألف التي للتأنيث من   1 راجع الإمالة الدكتور شلبي ص219 وما بعدها. 2 المرجع السابق ص234 وما بعدها. 3 الكتاب ج4 ص140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 خمس جهات: إحداها: قرب المخرج من الألف، والثانية: أنها زائدة كألف التأنيث، والثالثة: أنها تدل على التأنيث كالألف، والرابعة: أنها تسكن في الوقف كالألف، والخامسة: أن ما قبلها لا يكون إلا مفتوحًا كالألف" ثم يقول: فلما تمكن الشبه في الوقف بالسكون أجراها الكسائي مجرى الألف في الوقف خاصة، فأمال ما قبلها من الفتح، فقربه من الكسر، كما يفعل بألف التأنيث1. وهكذا يوجه مكي هذا النوع من الإمالة الذي اتجه إليه القراء، ولم يهتم به النحاة إلا قليلًا. ويروي ابن الباذش عن خلف بن هشام قوله: سمعت الكسائي يقف على قوله تعالى: {بِالْآَخِرَة} وعلى: "نعمة، ومعصية، ومرية، والقيمة"، ونحو ذلك بكسر الراء في الآخرة، والميم في نعمة، والياء في معصية، وكذلك بقيتها2. ويقول ابن الجزري عن إمالة ما قبل هاء التأنيث في الوقف: فتبدل في الوقف هاء، وقد أمالها بعض العرب، كما أمالوا الألف. وقيل للكسائي: إنك تميل ما قبل هاء التأنيث، فقال: هذا طباع العربية. قال الحافظ أبو عمرو الداني: يعني بذلك أن الإمالة لغة أهل الكوفة، وهي باقية فيهم إلى الآن، وهم بقية أبناء العرب، يقولون: أخذته أخذِه، وضربته ضرِبه. وقال: وحكى ذلك عنهم الأخفش سعيد بن مسعدة. قلت: الإمالة في هاء التأنيث وما شابهها من نحو: "همزة، ولمزة، وخليفة، وبصيرة" هي لغة الناس اليوم، والجارية على ألسنتهم في أكثر البلاد، شرقًا وغربًا، وشامًا، ومصرًا، لا يحسنون غيرها، ولا ينطقون بسواها، يرون ذلك أخف على لسانهم، وأسهل في طباعهم،   1 الكشف ج1 ص203. 2 الإقناع ج1 ص315. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 وقد حكاها سيبويه عن العرب1. وهكذا أصل ابن الجزري قراءة الكسائي بإمالة ما قبل هاء التأنيث، وذكر أنها وثيقة الصلة بلغات العرب الفصيحة، ولا يعني شذوذها عند النحاة أن هذه القراءة غير فصيحة. وكذلك الإمالة للفرق، والإمالة لكثرة الاستعمال كثر ورودها في القراءات برغم شذوذها عند النحاة2.   1 النشر ج2 ص82. 2 راجع الإقناع ج1 ص321 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 6- الراءات واللامات، بين التفخيم والترقيق: الحديث عن الراءات واللامات عند القراء بين التفخيم والترقيق يتصل بالإمالة؛ ذلك لأن ترقيق الراء فيه إمالة محدودة نحو الكسر يبدو ذلك من قول مكي: واعلم أن الترقيق في الراء إمالة نحو الكسر، ولكنها إمالة ضعيفة لانفرادها في حرف واحد؛ لأن الإمالة القوية ما كانت في حرفين، وأقوى منها ما كان في ثلاثة أحرف أو أربعة1. التفخيم والترقيق. التفخيم ويسمى أحيانًا: الفتح هو: تضخيم المدى الصوتي للحرف وتسمينه، والتفخيم والتغليظ سواء إلا أنهم استعملوا التفخيم مع الراء، والتغليظ مع اللام. وأما الترقيق فهو مقابل لهما، وهو من الرقة التي هي ضد السمن،   1 الكشف ج1 ص209. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وهو عبارة عن إنحاف ذات الحرف وذبوله. أحكام الراءات: الأصل في الراءات التفخيم والتغليظ، وقد ترقق في حالات معينة. وهو على ضربين: ضرب متفق عليه، وضرب مختلف فيه والمتفق عليه ثلاثة أقسام: قسم أجمع القراء على تفخيمه. وقسم أجمعوا على ترقيقه. وقسم أجازوا فيه الوجهين. 1- ما أجمعوا على تفخيمه. أ- كل راء مفتوحة أو مضمومة وقبلها فتحة أو ضمة أو كسرة عارضة، أو ساكن قبله أحد هذه الثلاث أو كان بعدها حرف استعلاء1، أو راء أخرى في كلمة بينهما ألف فتفخم الراء في هذه الأحوال كلها متوسطة أو متطرفة، منونة أو غير منونة، مشددة أو مخففة وأمثلتها: ربك، يردون، ذكروا، اليسر، العسر، غفور، شكور، لربهم. ب- كل راء مفتوحة قبلها كسرة لازمة، وبعدها ضاد أو طاء بأي حركة محركًا، أو راء مفتوحة أو مضمومة بينهما ألف، أو كان الاسم أعجميًا. وأمثلة ذلك: إعراضًا، صراط، الفرار، فرارًا، إسرائيل، عمران، إبراهيم. ج- كل راء مفتوحة وقعت بعد ساكن هو صاد أو طاء أو قاف.   1 حروف الاستعلاء جمعت في قولهم: "خص، ضغط، قظ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وقد وقعت هذه في سبع كلمات من الكتاب العزيز. {إِصْرَهُم} [الأعراف: 157] و {مِصْر} في أربعة مواضع: [يونس: 87] و [يوسف: 21، 99] ، و [الزخرف: 51] ، و {فِطْرَةَ اللَّه} 1 [الروم: 30] ، و {قِطْرًا} [الكهف: 96] ، و {مِصْرًا} [البقرة: 61] {إِصْرًا} [البقرة: 286] و {وِقْرًا} [الذاريات: 2] . وهنا يبدو أن القراء لم يحفلوا بالكسر في هذه الكلمات السبع وذلك لسبب صوتي هو وجود الحرف المستعلي. د- كل راء ساكنة قبلها فتحة أوضمة أو كسرة عارضة، أو كانت الكسرة لازمة وبعد الراء حرف استعلاء مفتوح. وأمثلة ذلك: مرجعكم، كرسيه، أم ارتابوا، إرصادًا، مرصادًا، فرقة، قرطاس. 1- ما أجمعوا على ترقيقه. أ- كل راء مكسورة كسرة عارضة أو لازمة مثل: فريق، الحريق، رئاء، نكر، نهر. ب- كل راء ساكنة، وما قبلها مكسور كسرًا لازمًا وليس بعدها حرف استعلاء مثل: مريه، شرعة، فرعون، الإربة، فرق. 3- ما أجازوا فيه الوجهين. كل راء ساكنة بعدها ياء مفتوحة نحو: "مريم، قرية، من قريتنا، من قريتكم".   1 في خط المصحف التاء مفتوحة، والتاء المربوطة تكتب في خط المصحف مفتوحة في 13 كلمة منها كلمة فطرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 من أهل الأداء من ذهب إلى تفخيم هذا النوع مثل أبي بكر الداجوني، وإليه ذهب عثمان بن سعيد الداني، وقال: الياء إذا تحركت بالفتح كسائر الحروف لا توجب إمالة ولا ترقيقًا وخطأ من أخذ بالترقيق1. وكان أبو محمد مكي والناس الجماء الغفير يأخذون بالترقيق، وعليه أكثر قراء الأندلس. وذكر الأهوازي أنه على الترقيق وجد أهل البصرة، ومدينة السلام "بغداد"2. الضرب المختلف فيه: ضابطه: كل راء مفتوحة، منونة كانت أو غير منونة قبلها كسرة لازمة، وليس بعدها في الكلمة نفسها صاد ولا طاء ولا ضاد ولا قاف ولا راء أخرى. فورش يرقق مثل: الآخرة، فاقرة، تبصرة، قاصرات، فاطر، قطران، المدبرات، فراشًا، سراجًا، سراعًا.. إلخ. واستثنى قوم: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر: 7] ففخموه، واختار ذلك عثمان بن سعيد3، وحجته أنه أعجمي، واختار ابن غلبون4، ترقيقه واستثنى قوم: "حصرت" في الوقف وأكثرهم على الترقيق له. فأما في الوصل فمنهم من يفخمه ومنهم من يرققه.   1 الإقناع، ج1 ص228. 2 المرجع السابق. 3 هو أبو عمرو الداني القرشي، القرطبي صاحب التيسير ت 444هـ. 4 هو أبو الحسن طاهر بن عبد المنعم بن غلبون، الحلبي، نزيل مصر، شيخ الداني، ومؤلف كتاب التذكرة في القراءات الثمان ت399. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وهناك صور أخرى كثيرة من هذا الضرب ارجع إليها في مظانها1. وفي حالة الوقف: في حالة الوقف تختلف أحكام الراءات عند القراء من حيث التفخيم والترقيق. أ- فكل راء في الطرف مفتوحة سبقها كسرة أو ياء متصلين بها أو منفصلين عنها يرققها جميع القراء نحو: "ليغفِرَ، الخيرَ، الطيرَ، الشعرَ، الخنازيرَ، الفقيرَ". ب- وكل راء في الطرف مفتوحة قبلها فتحة أو ضمة متصلتان بها أو منفصلتان عنها، فالوقف عليها بالتفخيم كالوصل مثل: "ألم تَرَ، الدبُرَ، الأمورَ، والعسرَ، واليسرَ". وكذلك إن كان قبلها ألف مثل: "إلا النار"2. ج- كل راء مضمومة في الطرف منونة أو غير منونة وليها كسرة لازمة أو باء ساكنة فالقراء إلا ورشًا إن وقفوا بالروم فخموا، وإن وقفوا بالسكون أو الإشمام رققوا، وأما ورش فيرقق في الجميع. وإذا تلا الراء المضمومة ضمة أو فتحة وقفوا بالتفخيم مع السكون والروم والإشمام. وأمثلة ذلك "تستكثِرُ، مستمِرَ، إلا نذيرٌ" "مُسْتَطَر، النذُرُ". د- وكل راء مكسورة طرفًا قبلها ياء أو كسرة يقف عليها جميع   1- راجع الإقناع ج1 ص329 وما بعدها والكشف ج1 ص209 وما بعدها. 2 معنى وليها أتى قبلها مباشرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 القراء بالترقيق مع الإسكان والروم نحو: "منهمرٍ، مُسْتَمِرٍّ، من بشيرٍ، ولا نذيرٍ" وإذا كان قبلها فتحة أو ضمة فيقف الجميع عليها بالترقيق مع الروم، وبالتفخيم مع السكون نحو: "مَطَرٍ، وسفَرٍ، ودسُرٍ، ونُكُرٍ"1. أحكام اللامات: الأصل في اللام الترقيق. وقد تفخم أو تغلظ لمشاركتها الراء في المخرج، والراء حرف تفخيم، ولمشاركتها النون في المخرج، والنون حرف غنة. وتفخم اللام لأمرين: أولهما: التعظيم. والآخر: حروف الإطباق ليعمل اللسان عملًا واحدًا في التفخيم. أما الأول فيكون في اللام من لفظ الجلالة مثل: {الله رَبِي} ، {قَالَ الله} ، {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه} . فإذا سبقه كسرة رقق لأجل الكسرة: {لله مَا فِي السَّمَواتِ وَالْأَرْضِ} ، {مِنْ عِنْدِ الله} ، {فِي سَبِيلِ الله} . فإن ذهبت الكسرة عدنا للتفخيم. وقد أجمع القراء على ذلك إلا من شذ2. التفخيم لحروف الإطباق. وتفخم اللام إذا كان قبلها طاء، أو ظاء، أو صاد ما لم تنكسر اللام أو تنضم، أو تنكسر الظاء أو تنضم.   1 راجع الإقناع ج1 ص335- 336 بتصرف. 2 ذكر ابن الباذش أن أبا بكر بن مقسم كان يأخذ بالترقيق، وأن ذلك مذكور عن أبي عمرو الكسائي ثم أشار إلى أنه يأخذ بالتغليظ. الإقناع ج1 ص337- 338. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وقد تفرد بالتفخيم على هذا النحو ورش عن نافع مثل: "ظلموا، ومن أظلم، والصلاة، ومصلى، والطلاق، وطلقتم"، وشبهه. ورققه باقي القراء. وتفخيم ورش قائم على أسس صوتية قوية، وذلك أن اللام سبقها حرف مطبق مفخم مستعلٍ، فأراد أن يقرب اللام منه، فيعمل اللسان في التفخيم عملًا واحدًا "وهذا هو معظم مذاهب العرب في مثل هذا، يقربون الحرف من الحرف ليعمل اللسان عملًا واحدًا، ويقربون الحركة من الحركة ليعمل اللسان عملًا واحدًا، وعلى هذا أتت الإمالات في عللها"1. فإن وقعت الألف بين اللام المفتوحة والصاد نجد بعض القراء يرقق، وبعضهم يفخم، وذلك نحو: "فصالًا"، "يَصَّالحًا2"، وكذا إذا فصل بين اللام والطاء ألف مثل: "فطالَ"3. وإن وقعت اللام المسبوقة بالصاد رأس آية جاز الترقيق والتفخيم؛ لأنه تعارض أصلان: أحدهما يوجب الترقيق وهو كونها رأس آي، والآخر يوجب التفخيم وهو وقوع لام مفتوحة قبلها صاد مفتوحة. وقد وقعت هذا الموقع في ثلاث آيات من القرآن الكريم: {وَلَا صَلّى} في [القيامة: 31] ، و {فَصَلّى} في [الأعلى: 15] ، و {إِذَا صَلَّى} في [اقرأ: 10] .   1 الكشف ج1 ص219. 2 سورة النساء: 128 والمذكور في المثال قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وأبي عمرو "السبعة لابن مجاهد ص238". 3 طه: 87: {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العَهْدُ} ، {حَتَّى طَالَ عَلَيْهِم العُمُرُ} [الأنبياء: 44] {فَطَالَ عَلَيْهِم الأَمَدُ} [الحديد: 16] ، وراجع الإقناع ج1 ص241، والنشر ج2 ص113 الضباع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 فإن انكسرت اللام، أو انضمت، أو سكنت، أو انضمت الطاء، فإن ورشًا يرقق اللام شأنه شأن سائر القراء نحو: "لظلوم، فطلّ، ويصلّون، ومن يظلم، فَظَلَلْتُم، ظُلُمُات، ويصلّي، وفصلناه"1. وهذه اللام المفخمة عند ورش في الوصل لوقوع حروف الإطباق قبلها إذا وقفت عليها وكانت طرفًا فلك في الوقف عليها وجهان: إن شئت فخمت كما في الوصل، وإن شئت رققت؛ لأنها تصير ساكنة، والساكنة لا تفخم لحرف الإطباق إلا كلمة "صلصال"، ولا يقاس عليها؛ لأن اللام وقعت بين حرفي إطباق2.   1 الكشف ج2 ص220. 2 المرجع السابق ص222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 7- الهاءات : بالنظر إلى الهاءات المستعملة في اللسان العربي نجدها تنحصر في ست، وهي: 1- الهاء الأصلية، وهي التي تعد جزءًا من بنية الكلمة. 2- هاء التأنيث. 3- هاء البدل. 4- هاء العوض. 5- هاء السكت. 6- هاء ضمير المذكر. وللقراء، وعلماء القراءات مذاهب في هذه الهاءات منها الأصول المطردة التي يهمنا أن نشير إليها هنا بإيجاز، ومنها حروف مختلف فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 تراها مسجلة فيما يسمى بالفرش في كتب القراءات. 1- الهاء الأصلية: ومن أمثلتها: "إله، إلهًا، الله، نفقه، فواكه، وجوه، برهان". هذه الهاء لا خلاف بين القراء في أن تكون على ما هي عليه من حركة إعرابية أو من حركة بناء حسب وضعها في الكلمة فاء أو عينًا أو لامًا. إلا حالة واحدة: الهاء التي هي جزء من الضمير "هو أو هي" إذا سبقت بواو أو فاء، أو ثم حيث وقعت. قرأ قالون والكسائي بإسكان الهاء في ذلك، وتابعهما أبو عمرو إلا مع "ثم" وهو موضع واحد: {ثُمَّ هُو} في [القصص الآية: 61] . وبقية القراء بتحريك الهاء في ذلك حيث وقعت. 2- هاء التأنيث: أمثلتها: "رحمة، نعمة، كلمة ربك، لعنة الله، سنة الأولين". القاعدة فيها أنها في الوصل تاء، وتقلب في الوقف هاء، والدليل على أنها تاء اتصالها بالفعل نحو: ضربت، وبقاؤها فيه وصلًا ووقفًا على حال واحد، وإنما قلبت في الوقف هاء؛ لأن الشأن في الوقف أن يغير الحروف، كما أبدلوا الألف من التنوين في نحو: رأيت زيدًا1. وحكى سيبويه أن بعض العرب يجعلها في الوقف تاء، ولم يحدد القبائل التي تفعل ذلك2.   1 الإقناع ج1 ص493. 2 الكتاب ج4 ص167 هارون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وقد ذكر السيرافي في شرحه على الكتاب: إن من العرب قومًا، وهو من طيئ يقفون على التاء، فيقولون: شجرت وجحفت يريدون:شجرة وجحفة1. ومثل ذلك روي عن الفراء، النحوي الكوفي تلميذ الكسائي2. وقد كتبت في المصحف في بعض المواضع بالتاء على هذه اللغة. والقراء لهم اختلاف في الوقف على هاء التأنيث. وقد ذكرنا في الوقف أن الكسائي يقف على ما قبل تاء التأنيث، المنقلبة في الوقف هاء بالإمالة عند خمسة عشر حرفًا يجمعها قولهم: فجثت زينب لذود شمس3. 3- الهاء التي هي بدل: وذلك مثل الهاء في "هذه" التي هي بدل من الياء في "هذي" كما أبدلت من الهمزة في "هراق" ولا يصح أن يقال: إن الهاء هنا للتأنيث؛ لأنه لم يؤنث بها في أي موضع من مواضع الكلام وإنما أنث بالياء في مثل تقولين، ونحوها أعني ياء المخاطبة. لا خلاف بين القراء في قراءة "هذه" بهاء موصلة بياء حيث وقع، وهذه الياء زائدة كالزيادة التي تلحق هاء الضمير في "به" فإذا وقفت عليها، أو لقيت ساكنًا سقطت الزيادة وسكنت الهاء "هذه الشجرة" "هذه الأنعام"4.   1 شرح السيرافي على الكتاب ج1 ص61. 2 راجع لسان العرب ج20 ص370. 3 إرشاد المبتدي لأبي العز القلانسي "باب الوقف". 4 الإقناع ج1 ص494. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 4- هاء العوض: ومثالها: أن مذهب "البزي" في الوقف على "ما" الاستفهامية إذا دخل عليها حرف الجر أن يحذف ألفها، ويعوض عنها الهاء نحو: "لمه، فيمه، عمه، وممه، فلمه". 5- هاء السكت: وهي هاء ساكنة تزاد في الوقف لبيان الحركة، وحقها أن تسقط في درج الكلام. ومذهب القراء فيها أنهم اختلفوا في إثباتها وحذفها في خمسة مواضع: في {لَمْ يَتَسَنَّه} [البقرة: 259] ، وفي {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} [الأنعام: 90] ، وفي {عَنِّي مَالِيَهْ} ، {عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28، 29] ، وفي {مَاهِيَهْ} [القارعة: 10] . ذهب حمزة إلى إسقاطها في الوصل في هذه المواضع. وتابعه الكسائي في موضعين هما: "يتسنه" و "واقتده" وأثبتها فيما عداهما. وعند الباقين ساكنة وصلًا ووقفًا فيهن إلا ما جاء عن ابن عامر في "اقتده"؛ إذ روى هشام كسر الهاء فيه من غير صلة بالياء في الوصل ويقف بالإسكان. يقول ابن الباذش: قرأت لابن ذكوان1 عن طريق الأهوازي عن أهل العراق على نحو ما روى هشام ثم يقول: والمشهور عنه: كسر الهاء فيه وفصلها بالياء، ويقف بالإسكان نص على ذلك الأخفش2.   1 هو أحد الرواة عن ابن عامر مثل هشام. 2 الإقناع ج1 ص495. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 والهاء في هذه الحالة لا تكون للسكت، وإنما هي ضمير يعود على مصدر الفعل، أي: اقتد الاقتداء، وكذلك "يتسنه" عند من أثبت في الوصل: الهاء لام الفعل أو بدل. 6- هاء الكناية عن المذكر "هاء ضمير المذكر": هذه الهاء كما نعلم، تتصل بالأسماء والأفعال والحروف، وهي كثيرة الدور في القرآن الكريم. وهي عند القراء على قسمين: متفق عليه، ومختلف فيه. القسم المتفق عليه: 1- إذا تحرك ما قبل الهاء بإحدى الحركات الثلاث: الضمة نحو: "يعلمه ويخلقُه"، والفتحة نحو: "قدَّرَه، وأنشرَه"، والكسر نحو: "أمه وصاحبته". في هذه الحالة اتفق القراء على صلة الهاء بواو مع الضمة والفتحة، وبياء مع الكسرة، فإذا وقفوا سقطت الياء والواو وسكنت الهاء. 2- إذا التقى ساكنان نحو: {تَحْمِلْهُ الْمَلَائِكَة} [البقرة: 248] ، {فَلْيُلْقِهِ الْيَم} [طه: 39] وشبهه والساكنان هنا: ألف وصل وحرف الإشباع. اتفق القراء على سقوط حرفي العلة، وبقاء حركة هاء الضمير على ما كانت عليه، يستثنى من ذلك ما قرأ به حمزة الآيتين: {لِأَهْلِهِ امْكُثُوا} [طه: 10] و [القصص: 29] بضم الهاء على الأصل؛ لأن الأصل أن تضم، ولا تكسر إلا إذا سبقها ياء أو كسرة على أن بقية القراء يسير على كسر الهاء1.   1 المرجع السابق ص496. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 القسم المختلف فيه: ونستطيع أن نحصره في المواضع التالية: 1- أن يكون قبل هاء الضمير حرف لين، موجودًا في اللفظ، ساكنًا. ومن أمثلته: {اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ} [النحل: 121] ، {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاه} [الشعراء: 45] ، {عَلَيْهِ مَا حُمِّل} [النور: 54] ومنه: "عقلوه، خذوه، فعلوه، فيه". 2- أن يكون قبل هاء الضمير حرفًا غير لين ساكنًا: ومن أمثلته: "منه، عنه، لدنه". ابن كثير في هاتين الحالتين يصل الهاء بياء إذا كان قبلها ياء، وبواو فيما عدا ذلك، وهذا في حالة الوصل حيث وقع. تابعه حفص في كلمة واحدة هي قوله تعالى: {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 69] . وكذلك إذا لقيها ساكن مدغم أو غيره مثل: {عَلَيْهُ اللَّه} [الفتح: 10] ، {مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَاب} [الحديد: 13] ، {أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّه} [الحج: 15] . وعند الوقف تسقط الواو والياء. وبقية القراء يختلسون الكسرة والضمة في الحرفين من غير صلتهما بياء ولا واو. وذهب حفص إلى ضم هاء الضمير المسبوقة بياء في حرفين، وهما: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا} [الكهف: 63] و {عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّه} [الفتح: 10] 1.   1 الإقناع ج1 ص498. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وموقف النحاة من هذا الأمر يفسره ما ذهب إليه سيبويه من أن حذف الياء والواو مع حرف اللين أجود، وإثباتها مع غيرها أجود1. 3- أن يكون قبل هاء الضمير ساكن محذوف، بأن يكون حرف علة حذف لأجل الجزم. ووقع ذلك في سنة عشر فعلًا مضارعًا، منها اثنا عشر، كثر فيها ما قبل الهاء، وأربعة فتح فيها ما قبل الهاء وهي على هذا النحو، كما ذكرها أبو جعفر بن الباذش2. في {يُؤَدِّهِ إِلَيْك} ، {لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْك} ، {نُؤْتِهِ مِنْهَا} ، في موضعين في آل عمران: 75، 145. ومن [النساء: 115] {نُوَلِّه} ، {وَنُصْلِه} وفي [الأعراف: 111] ، و [الشعراء: 36] {أَرْجِه} وفي [طه: 75] {وَمَنْ يَأْتِه} وفي [النور: 52] {وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} . وفي [النمل: 28] {فَأَلْقِهِ إِلَيْهِم} وفي [الشورى: 20] {نُؤْتِهِ مِنْهَا} فهذه الاثنا عشر حرفًا. والأربعة: {يَرْضَهُ لَكُم} [الزمر: 7] ، {أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَد} [البلد: 7] ، و {خَيْرًا يَرَه} ، و {شَرًّا يَرَه} [الزلزلة: 7، 8] . وفي هذا القسم وجوه كثيرة من اختلاف القراء، نذكر بعضًا منها، ونحيل الراغب في الاستيعاب إلى المراجع التي تتناول في فرش الحروف كل رواية وردت3.   1 الكتاب ج2 ص291 بولاق. 2 الإقناع ج1 ص498 وما بعدها. 3 راجع الإقناع ج1 ص500 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 2- قرأ أبو بكر1، وأبو عمرو وحمزة بإسكان الهاء في سبعة أحرف: "يُؤَدِّهْ" [آل عمران] ، "نُؤْتِهْ" [آل عمران والشورى] ، و"نُوَلِّهْ"، "وَنُصْلِهْ" في النساء، وروي مثل هذا عن هشام. وقرأ قالون باختلاس كسرة الهاء فيهن، وروي مثل هذا عن هشام أيضًا. وقرأ الباقون بإشباع الكسرة فيهن، وهي رواية أبي عبد الله الرازي عن الفضل بن شاذان عن الحلواني عن هشام، وبذلك يأخذ له أصحاب ابن غلبون2. والهاء في الوقف ساكنة عند الجميع. ب- {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} [النور: 52] . قرأ أبو بكر وأبو عمرو "وَيَتَّقْهْ" بإسكان الهاء. وقرأ قالون باختلاس حركتها. وقرأ الباقون بصلتها بالياء. وقرأ حفص: {وَيَتَّقْهِ} بإسكان القاف واختلاس كسرة الهاء. وقرأ الباقون بكسر القاف. والهاء في الوقف ساكنة بالإجماع.   1 أبو بكر بن عياش، أحد الرواة عن عاصم والمعروف بشعبة. 2 هو طاهر بن عبد المنعم بن عبيد الله بن غلبون أبو الحسن الحلبي، أستاذ، عارف، شيخ الداني، ومؤلف كتاب التذكرة في القراءات الثمان، روى القراءة عنه عرضًا وسماعًا أبو عمر والداني وأحمد بن بابشاذ توفي سنة 399هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 8- الياءات : تناول القراء نوعين منها: الأول: ياءات الإضافة والآخر: الياءات الزوائد. ياءات الإضافة "بين الإسكان والفتح": ياء الإضافة في اصطلاح الفراء، هي الياء الزاءدة الدالة على المتكلم، وتتصل بالاسم والفعل والحرف مثل: نفسي، ذكرِي، وفطرني، وهداني، وإني، ولي. وهو باب عظيم الفائدة توفر عليه شيوخ القراءة وحصروا صورها المختلفة وذكروا ما رواه القراء بشأنها من سكون أو فتح. وقد ذكر أبو عمرو الداني الياءات موضوع الاختلاف في مائتي وأربع عشرة ياء1. وسنقدم بيانًا موجزًا عنها يتناول الأصول العامة، ويترك الجزئيات التي تعد فرشًا ليبحث عنها المستزيد في مظامها. ونركز ذلك في النقاط الآتية: أ- ياء الإضافة المكسور ما قبلها إذا تلتها همزة مفتوحة أو مكسورة. مثل: {إِنِّي أَرَى} [الأنفال: 48] ، {أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [يونس: 72] ، {ذَرُونِي أَقْتُل} [غافر: 26] ، {أَرِنِي أَنْظُر} [الأعراف: 153] ، {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُم} [البقرة: 152] ونحوها. يذهب أبو عمرو إلى فتح الياء ما لم يطل الحرف، وكذلك نافع.   1 راجع التيسير ص63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وابن كثير في هذا الأمر لا يسير على قياس واحد كما فعل أبو عمرو، وكذا بقية القراء يفتحون بعض الياءات في هذه الحالة دون التزام بقواعد مطردة. ب- ياء الإضافة المكسور ما قبلها إذا تلتها همزة مضمومة. ومثالها: {إِنِّي أُمِرْت} [الأنعام: 14] ، {وَإِنِّي أُعِيذُهَا} [آل عمران: 36] ، {إِنِّي أُرِيد} ، {فَإِنِّي أُعَذِّبُه} [المائدة: 29، 115] ، ونحوها، ومجموعها عشرة مواضع من القرآن الكريم1. يفتح الياء نافع وحده، ويسكنها الباقون. ج- ياء الإضافة المكسور ما قبلها إذا تلتها ألف الوصل مفردة "أي في الفعل". وجملة ما في القرآن الكريم منها سبع وهي: {إِنِّي اصْطَفَيْتُك} [الأعراف: 144] ، {أَخِي، اشْدُدْ} ، {لِنَفْسِي، اذْهَبْ} {فِي ذِكْرِي، اذْهَبَا} [طه: 30، 31، 41، 42، 43] ، {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْت} [الفرقان: 27] ، {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا} [الفرقان: 30] ، {مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد} [الصف: 6] . فتح أبو عمرو الياء فيهن جميعًا، ووافقه ابن كثير إلا في: {لَيْتَنِي اتَّخَذْت} فقط. وأسكن نافع ثلاثًا منهن: {إِنِّي اصْطَفَيْتُك} ، {أَخِي، وَاشْدُد} ، {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْت} ، وفتح الباقيات   1 بقية المواضع: {إِنِّي أُمِرْت} [الأنعام: 14] ، {عَذَابِي أُصِيبُ} [الأعراب: 156] ، {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّه} [هود: 54] ، {أَنِّي أُوفِي} [يوسف: 95] ، {إِنِّي أُلْقِي} [النحل: 29] ، {إِنِّي أُرِيد} [القصص: 27] ، {إِنِّي أُمِرْت} [الزمر: 11] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وفتح أبو بكر1: {مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} فقط. وأسكن بقية القراء الياء في الجميع. د- ياء الإضافة مع همزة أل. جملة ما في القرآن مما اختلفوا فيه أربع عشرة. وهي في [البقرة: 124، 258] {عَهْدِي الظَّالِمِين} ، {رَبِّيَ الَّذِي} وفي [الأعراف: 33، 146] {رَبِّيَ الْفَوَاحِش} ، {عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِين} وفي [إبراهيم: 31] {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِين} ونحوها2. وعدها أبو عمرو الداني ست عشرة زاد {فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ} [الزمر: 17، 18] {فَمَا آَتَانِيَ اللَّه} [النمل: 36] 3. أسكن حمزة كل هذه الياءات، وتابعه الكسائي في ثلاثة مواضع وهي: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِين} [إبراهيم: 31] {يَا عِبَادِيَ الَّذِين} [العنكبوت: 56] ، [الزمر: 53] وفتح الباقيات. وتابعه أوب عمرو في العنكبوت والزمر وفتح الباقيات. وتابعه ابن عامر في إبراهيم، وإحدى آيتي الأعراف {عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِين} . وفتح الباقون الياء حيث وقعت. واتفقوا على فتح الياء في {نِعْمَتِيَ الَّتِي} ، {حَسْبِيَ اللَّه} .   1 هو أبو بكر بن عياش، المعروف بشعبة أحد رواة عاصم. 2 بقية المواضع: من [مريم: 30] {آَتَانِيَ الْكِتَاب} وفي [الأنبياء: 83، 105] {مَسَّنِيَ الضُّر} ، {عِبَادِيَ الصَّالِحُون} وفي [العنكبوت: 56] {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا} ومن [سبأ: 13] {عِبَادِيَ الشَّكُور} وفي [ص: 41] {مَسَّنِيَ الشَّيْطَان} وفي [الزمر: 38، 53] {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّه} ، {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} وفي [الملك: 18] {إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّه} . 3 راجع التيسير ص63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 {شُرَكَائِيَ الَّذِين} حيث وقعن. كما اتفقوا على الفتح في تسعة حروف متفرقة1. وأما قوله تعالى: {فَمَا آَتَانِيَ اللَّه} فقد فتحها في الوصل نافع وأبو عمرو وحفص، وحذفها الباقون. وتفرد أبو شعيب بفتح الياء في الوصل، وإسكانها في الوقف في الزمر في قوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ} وحذفها الباقون في الحالين2. هـ- ياء الإضافة المكسورة ما قبلها مع بقية حروف المعجم. نحو "بيتي، وجهي، مماتي، لي" وجملة ما في القرآن الكريم منها ثلاثون. يقول ابن الباذش: وقال العطار وابن عبد الوهاب: اثنتان وثلاثون زادًا: {مَا أُخْفِيَ لَهُم} [السجدة: 17] ، {أُمْلِي لَهُم} [القتال: 25] . وهذا وهم منهما؛ لأن الياء في الآيتين ليست ياء المتكلم وإنما هي لام الفعل. للقراء في هذه الآيات اختلافات شتى يفتح القارئ منهم بعض الآيات ويسكن بعضها على اختلاف بينهم في أعداد ما يفتح منها وما يسكن طبقًا لما صح عند كل منهم في روايته. وسأذكر هنا ما فتحه حفص من هذه الياءات.   1 هي: [آل عمران: 40] {بَلَغَنِيَ الْكِبَر} ، {تُشْمِتْ بِي} ، {مَا مَسَّنِيَ السُّوء} ، {إِنَّ وَلِي الله} [الأعراف: 150، 188، 196] {مَسَّنِيَ الْكِبَر} [الحجر: 54] {أَرُونِيَ الَّذِين} [سبأ: 27] ، {رَبِّيَ اللَّه} ، {جَاءَنِيَ الْبَيِّنَات} [غافر: 28، 66] {نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِير} [التحريم: 3] . 2 الإقناع ج1 ص542. أبو شعيب هو السوسي، أحد الرواة عن أبي عمرو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 فتح حفص ياء {بَيْتِيَ} ، {وَجْهِيَ} ، {مَعِيَ} حيث وقعن فهذا أصل مطرد عنده. وفتح {مَحْيَايَ} في الأنعام و {لِيَ} في [إبراهيم: 41] و [طه: 18] ، و [النمل: 20] ، و [يس: 22] . وفي موضعين في [ص: 23، 69] و [الكافرون: 6] 1. 2- الياءات بين الإثبات والحذف: أثبتت بعض الياءات خطأ في المصحف العثماني، وحذفت آيات أخرى، وهذه وتلك من الناحية التصريفية منها ما هو لام للكلمة، ومنها ما هو ياء المتكلم، ومنها ما هو ياء المنقوص. الياءات الثابتة: أثبتت هذه الياءات في تسع وعشرين آية من الكتاب العزيز وردت في إحدى وعشرين سورة. ومن أمثلتها: {وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِم} ، {يَأْتِي بِالشَّمْس} [البقرة: 150، 258] . {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه} [آل عمران: 3] ، {فَكِيدُونِي جَمِيعًا} [هود: 55] 2. اتفق القراء على إثباتها كلها وصلًا ووقفًا لثبوتها في الخط إلا ما روي عن ابن ذكوان من حذفها في قوله تعالى: {فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ} في الكهف، ورواها جماعة عن الأخفش3.   1 راجع السبعة لابن مجاهد ص152، وما بعدها والإقناع ج1 ص536 وما بعدها والتيسير للداني. 2 راجع بقية المواضع في الإقناع ج1 ص549. 3 المرجع السابق ص551. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 الياءات الزوائد: سميت بهذا لأنها زائدة على خط المصحف عند من أثبتها من القراء في التلاوة وقد تكون كما قلت لامًا للكلمة، أو ياء متكلم، أو ياء منقوص. وهي تختلف عن ياءات الإضافة التي ذكرناها في عدة أمور. أولها: أن ياءات الإضافة كلها ضمير متكلم أما الزوائد فهي عامة كما أشرت. ثانيها: ياءات الزوائد تدخل الأسماء مثل: الداعي، الجواري، والأفعال مثل: "يوم يأت ي"، ولا تكون في الحرف، وياءات الإضافة تتصل بالأسماء والأفعال والحروف. ثالثها: الياء الزوائد محذوفة من المصاحف العثمانية، وياءات الإضافة ثابتة. رابعًا: في آيات الإضافة اختلف القراء فيها بين الفتح والسكون، وأما الزوائد فاختلافهم من حيث الإثبات والحذف. بلغ عدد هذه الياءات في القرآن الكريم إحدى وستون آية، منها اثنتان وثلاثون وقعت حشوًا وسط الآيات، وتسع وعشرون وقعت فواصل في آخر الآي. اختلف القراء اختلافًا واسعًا فيما يثبت وما يحذف منها عند التلاوة وصلًا ووقفًا. أثبت ورش منها في الوصل سبعًا وأربعين. وأثبت قالون منهن عشرين، منها ثمانية عشر من زوائد ورش، واختص باثنين وهما: {إِنْ تَرَنِ أَنَا} [الكهف: 39] و {اتَّبِعُونِ أَهْدِكُم} [غافر: 38] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وأثبت ابن كثير في الوصل والوقف ثنتين وعشرين. وتفرد قنبل بإثبات الياء في: "إِنَّهُ مَنْ يَتَّقي وَيَصْبِرْ: [يوسف: 90] وصلًا ووقفًا. وأثبت أبو عمرو في الوصل فقط أربعًا وثلاثين كلهن في حشو الكلمة لا رأس آية إلا: {وَتَقَبَّلْ دُعَاء} [إبراهيم: 40] {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْر} [الفجر: 4] . وأثبت الكسائي في الوصل ياءين: {يَوْمَ يَأْت} [هود: 105] و {مَا كُنَّا نَبْغ} [الكهف: 64] . وحذف عاصم هذه الياءات كلها، غير أنه اختلف في ياءين. أحداهما: في [النحل: 36] ، {فَمَا آَتَانِيَ اللَّه} فتحها حفص في الوصل، وأثبتها ساكنة في الوقف. والأخرى: [الزخرف: 68] {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ} فتحها أبو بكر في الوصل وأثبتها ساكنة في الوقف وحذفها حفص في الحالين1.   1 الإقناع ج1 ص525 وما بعدها والتيسير للداني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 9- صلة ميم الجمع بواو الإشباع : المقصود بميم الجمع: هي الميم التي تلحق الضمائر المتصلة في حالتي الخطاب والغيبة عندما يراد بها الجمع، أو تكون كناية عن الجمع مثل: "منكم، إليكم، رأيتكم، عليهم، منهم، بهم". فإذا كان قبل الميم كاف الخطاب أو التاء مثل: "منكم، بكم، أنتم" فلا يجوز فيها عند الجميع إلا الضم أو التسكين، وهو ما تقتضيه قواعد اللسان العربي. وإذا كان قبل الميم هاء فهنا يكون اختلاف القراء حسب حركة الهاء السابقة كميم؛ لأن هاء الضمير تكسر إذا سبقتها كسرة أو ياء، وفيما عدا ذلك تضم. ومن هنا ذهب ابن كثير إلى وصل الميم بالواو انضمت الهاء قبلها أو انكسرت فيقول: "عَلَيْهِمُ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ" [الفاتحة: 7] "عَلَى قُلُوبِهِمُ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ" [البقرة: 7] . واختلفوا عن نافع في الميم، فقال إسماعيل بن جعفر، وابن جماز، وقالون، والمسيبي: الهاء مكسورة والميم مرفوعة أو منجزمة، أنت فيها مخير، وقال أحمد بن قالون عن أبيه: كان نافع لا يعيب رفع الميم، فهذا يدل على أن قراءته كانت بالإسكان. وقال ورش، الهاء مكسورة، والميم موقوفة1، إلا أن تلقاها ألف أصلية، فعند ذاك توصل الميم بواو في الوصل مثل: "سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمُ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ" [البقرة: 6] . وكان أبو عمرو وعاصم وابن عامر والكسائي يكسرون الهاء ويسكنون الميم، فإذا لقي الميم، حرف ساكن اختلفوا: فكان عاصم ونافع وابن كثير وابن عامر يمضون على كسر الهاء ويضمون الميم مثل قوله تعالى: {عَلَيْهِمُ الذِّلَّة} [البقرة: 61] {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ} [القصص: 23] وما أشبه ذلك. أما أبو عمرو فكان يكسر الهاء والميم فيقول: "عَلَيْهِمِ الذِّلَّة"، "إِلَيْهِمِ اثْنَيْن" [يس: 14] وما أشبه ذلك. وكان حمزة والكسائي يضمان الميم والهاء معًا، فيقولان:   1 راجع السبعة لابن مجاهد ص109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 "عَلَيْهُمُ الذِّلَّة"، "ومن دونِهُمُ امرأتين" وما أشبه ذلك. مع ملاحظة أن الخلاف في كسر الهاء أو ضمها إنما هو في الهاء التي قبلها كسرة أو ياء ساكنة فإذا كانت مضمومة لعدم كسر ما قبلها أو عدم وقوع ياء ساكنة، فليس فيها إلا الضم1.   1 راجع السبعة لابن مجاهد ص109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 الفصل الثالث: رسم المصحف رسم المصحف: الرسم في اللغة الأثر، ومنه قول الشاعر: .................................. ... رسم دار وقفت في طلله1 وفي الاصطلاح: تصوير الألفاظ بحروف هجائها2، لتتحول اللغة المنطوقة إلى آثار مرئية تتيح لمن يطلعون عليها أن يحصلوا ما تدل عليه من علوم وأفكار. ورسم الحروف في لسان من الألسنة اصطلاح وعرف يخضع لما يمر به أهل هذا اللسان من مؤثرات بيئية، واجتماعية وثقافية متعددة، ومن هنا يختلف الرسم ويتطور من وقت إلى آخر. ويستثنى من ذلك "رسم المصحف"؛ إذ من مقولات العلماء: خطان لا يقاس عليهما: خط المصحف العثماني، وخط العروضيين. ومن هنا إذا تكلمنا عن المصحف فالمقصود به: المصاحف العثمانية التي أجمع عليها الصحابة3.   1 هذا صدر بيت لجميل بن معمر العذري، وصدره: كدت أقضي الحياة من جلله ... .................................... ومعنى: جلله أي من أجله، أو من عظمه في نفسي. 2 شرح الشافية ج3 ص312. 3 راجع لطائف الإشارات في علم القراءات لشهاب الدين أبي العباس القسطلاني ص211. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 أسباب توحيد المصاحف : قام أبو بكر -رضي الله عنه- بالجمع الأول للقرآن الكريم، فكتب في عهده أول مصحف، وكان مشتملًا على السبعة الأحرف التي أذن الله للأمة بالتلاوة بها، ولم يخص حرفًا بعينه1، وهذا المصحف هو الذي اعتمد عليه عثمان فيما بعد، وكان بجانب هذا مصاحف لكبار الصحابة مثل: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، كما ذكروا مصاحف أخرى لزوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل: عائشة، وحفصة، وأم سلمة، ومصاحف لبعض التابعين مثل: عطاء بن رباح، وعكرمة، ومجاهد2. وكان في هذه المصاحف ما صح سنده، وثبتت تلاوته، ووافق العربية، ولكن اختلف بعضها عن بعض مما ترتب عليه اختلاف الناشئة واختلاف القراء من أهل العراق والشام، وسندع الصحابي الجليل أبا حذيفة يصف هذا الموقف، ويشرح التصرف الذي قام به: حضر حذيفة بن اليمان فتح أرمينية، وأذربيجان فرأى الناس يختلفون في القرآن، ويقول أحدهم للآخر: قراءتي أصح من قراءتك، فأفزعه ذلك وقدم على عثمان وقال: أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود   1 المقنع في القراءات لأبي عمرو الداني ص129. 2 المصاحف لأبي داود السجستاني صفحات 50، 53، 54، 88، 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها ثم نردها إليك فأرسلتها إليه فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف، وقال: إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، فكتب منها عدة مصاحف، فوجه بمصحف إلى البصرة وآخر إلى الكوفة، وثالث إلى مكة، ورابع إلى اليمن، وخامس إلى البحرين، وأمسك لنفسه مصحفًا يقال له: الإمام1. وبهذا العمل العظيم الذي يتسم بالدقة والإحكام والذي قام به الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- توقفت الاختلافات والمنازعات في الأمصار حول تفضيل قراءة على أخرى؟ إذ منع عثمان القراءة بما خالفها وأصبح رسمها حجة، وساعده على ذلك جماهير الصحابة والتابعين، وسار على ذلك من بعدهم، وتلقتها الأمة بالقبول وأصبح مصحف عثمان هذا هو الإمام، والمرجع في رسمه وخطه، وترتيبه، وأصبحت القراءة بما يخالفه، وإن وافق العربية وصح سنده -كالذي جاء في مصاحف الصحابة والتابعين- شاذة لكونها شذت عن رسم المصحف الإمام المجمع عليه فلا تجوز القراءة بها لا في الصلاة ولا في غيرها2. مظاهر الدقة والإحكام في رسم المصحف الإمام: 1- نسخت المصاحف العثمانية ومن بينها المصحف الإمام على أساس الجمع الأول للقرآن في عهد أبي بكر -رضي الله عنه- إذا اعتمدوا   1 النشر في القراءات العشر لابن الجزري ص51، ت محيش، وراجع الصاحف للسجستاني ص12. 2 راجع النشر ج1 ص52، ومنجد المقرئين لابن الجزري ص16 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 على مصحفه الذي كان موجودًا إذ ذاك عند حفصة بنت عمر -رضي الله عنهما- والذي تم على أساس العرضة الأخيرة للقرآن1، بين جبريل ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شهر رمضان من السنة العاشرة للهجرة. 2- قام بهذا الجمع عدد من أجلاء الصحابة وقرائهم الذين تلقوا قراءتهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانوا أهل علم وفقه وفصاحة، حتى إن عليًّا -رضي الله عنه- قال عن هذا العمل العظيم: لو وليت في المصاحف ما ولي عثمان لفعلت ما فعل2. 3- شرح لهم عثمان -رضي الله عنه- خطة العمل بما يكفل السداد والاقتصار على القراءات التي صحت سندًا ولغة، فالنسخ يتم من مصحف أبي بكر -رضي الله عنه- والناسخون من الصحابة، وهم أنفسهم مرجع في ذلك لحفظهم، وفصاحتهم، وزيد بن ثابت حجتهم فإن اختلفوا مع زيد، فلتكن الكتابة بلسان قريش. 4- خط المصحف العثماني وعاء صالح للأحرف السبعة التي نزل بها القرآن الكريم، وأصبح هذا الخط -فيما تعارف عليه علماء المسلمين- غير خاضع لتطور الرسم الإملائي، حتى أصبح له سمت مُمَيَّز، يحافظ عليه المسلمون إلى الآن حتى إنه كتب بدون "نقط أو شكل" شأن الكتابة في ذلك العهد، ثم تم نقط المصحف وشكله دفعًا لتيار اللحن الذي بدأ يتكاثر في أواخر القرن الأول من الهجرة. أمثلة للاختلاف بين الرسم العثماني، والرسم الذي اعتدناه في الكتابة في هذا العصر: توضع صورة سكانر   1 المرجع السابق. 2 المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 نماذج من الرسم العثماني هاء التأنيث ... نماذج من الرسم العثماني: نظرًا لأن موافقة الرسم العثماني صارت شرطًا لصحة القراءة وقبولها، نقدم نماذج للرسم العثماني في مواضع مختلفة، وسأشير إلى حكمة الاتجاه لهذا الرسم وصلته بعلوم القراءات. 1- هاء التأنيث: ما يكتب منها بالتاء المجرورة "المفتوحة" نوعان: نوع اتفق على قراءته بالإفراد وهو ثلاث عشرة كلمة على النحو التالي. 1- "رحمت"، رسمت هكذا في سبعة مواضع. {يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّه} البقرة، {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِين} الأعراف، {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُه} هود، {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّك} مريم، {فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} الروم، {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّك} ، {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْر} كلاهما بالزخرف، وما عدا ذلك فبالهاء المربوطة.   1 الفاتحة: 7. 2 البقرة: 3. 3 البقرة: 7. 4 آل عمران: 162. 5 المائدة: 101. 6 الأعراف: 157. 7 الدخان: 8. 8 القلم: 6. 9 الذاريات: 47. 10 النحل: 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 2- "نعمت"، رسمت هكذا في أحد عشر موضعًا. {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ} البقرة، {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ} آل عمران، {اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ} المائدة، {بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّه} ، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّه} إبراهيم، {وَبِنِعْمَتَ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُون} ، {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّه} ، {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّه} النحل، {فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتَ اللَّه} لقمان، {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّه} فاطر، {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتَ رَبِّك} الطور، وما عدا ذلك فبالهاء. 3- "امرأت" تكتب هكذا إذا أضيفت إلى زوجها، وذلك في سبعة مواضع: {امْرَأَتُ عِمْرَان} آل عمران، {امْرَأَتُ الْعَزِيز} يوسف، {امْرَأَتُ فِرْعَوْن} القصص والتحريم، {امْرَأَتَ نُوحٍ} ، {وَامْرَأَتَ لُوطٍ} كلاهما بالتحريم، وما عدا ذلك فبالهاء المربوطة. 4- "سنت" رسمت هكذا في خمسة مواضع: {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِين} الأنفال، {إِلَّا سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} ، {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتَ اللَّهِ تَبْدِيلًا} ، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّت اللَّهِ تَحْوِيلًا} فاطر، {سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَت} غافر، وما عدا ذلك بالهاء مثل: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} الأحزاب. 5- "لعنت"، رسمت هكذا في موضعين وما عدا ذلك بالهاء المربوطة. {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِين} آل عمران، {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْه} بالنور. 6- "معصيت"، رسمت هكذا في موضعين ولا ثالث لهما في الكتاب العزيز، وهما {مَعْصِيَتِ الرَّسُول} موضعان بالمجادلة. 7- "كلمت"، سمعت هكذا في موضع واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وهو قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى} الأعراف. 8- "بقيت"، رسمت هكذا في موضع واحد هو {بَقِيَّت اللَّهِ خَيْرٌ لَكُم} هود، وما عداه بالهاء مثل: {أُولُو بَقِيَّة} [هود: 116] {بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى} البقرة. 9- "قرت"، رسمت هكذا في موضع واحد: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَك} القصص، وما عداه بالهاء {قُرَّةِ أَعْيُن} بالفرقان والسجدة. 10- "فطرت"، رسمت هكذا في موضع واحد بالروم وهو: {فِطْرَتَ اللَّه} ولا ثاني له. 11- "شجرت"، رسمت هكذا في موضع واحد وهو: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّوم} بالدخان وما عداه بالهاء مثل: {أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّوم} [الصافات: 62] {شَجَرَةِ الْخُلْد} طه. 12- "جنت"، رسمت هكذا في موضع واحد {وَجَنَّتُ نَعِيم} وما عداه بالهاء مثل: {جَنَّةَ نَعِيم} بالمعارج. 13- "ابنت"، رسمت هكذا في موضع واحد: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ} التحريم، ولا ثاني له. ب- والنوع الآخر قرئ بالجمع وبالإفراد، ويرسم بالتاء المجرورة "المفتوحة" وهي سبع كلمات في اثني عشر موضعًا1. 1- كلمت في أربعة مواضع: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} الأنعام، {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّك} ، {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} يونس، {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} غافر. وهناك خلاف في الآية الثانية من يونس، وآية غافر.   1 راجع في هذا الموضوع: المقنع في رسم مصاحف الأمصار للداني ص82 ما بعدها وملخص العقد الفريد للشيخ علي صبرة ط1913هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 2- {آَيَاتٌ لِلسَّائِلِين} بيوسف. {آَيَاتٌ مِنْ رَبِّه} آخر العنكبوت. 3- {غَيَابَتِ الْجُبِّ} ، في موضعين بيوسف. 4- {الْغُرُفَات} بسبأ. 5- {بَيِّنَةٍ مِنْه} فاطر. 6- {مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا} فصلت. 7- {جِمَالَتٌ صُفْر} المرسلات. ومما يرسم بالتاء المفتوحة غير ما سبق. {هَيْهَات} في موضعين بـ"المؤمنون"، و {ذَاتَ بَهْجَة} النمل، و {يَا أَبَت} حيث وقعت، {وَلَاتَ حِينَ مَنَاص} ص، "مرضات" بالبقرة والنساء والتحريم، و "اللات" بالنجم. ورسم ما رسم بالتاء له علاقة بالوقف؛ إذ يوقف عليه بالتاء، وهي لغة لبعض قبائل العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 2- الحذف والإثبات : مما تعارف عليه علماء الرسم أن كل واو للمفرد أو الجمع حذفت في الوصل لالتقاء الساكنين فإنها ثابتة رسمًا، ووقفًا نحو: {يَمْحُو الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} ، ونحو: "ملاقو الله، مرسلو الناقة، كاشفو العذاب، جابو الصخر بالواد" وما أشبه ذلك. يستثنى من ذلك أربعة أفعال، واسم واحد تحذف فيها رسمًا ولفظًا، ووصلًا ووقفًا وهي: {وَيَدْعُ الْإِنْسَان} الإسراء، {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِل} الشورى، {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاع} القمر، {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة} العلق، أما الاسم فهو {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِين} التحريم، على القول بأنه جمع مذكر سالم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وأما الياء: فأثبتت في "الأيدي" من قوله تعالى: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَار} ص، وحذفت من {ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} ص، ويوقف على الأولى بإثباتها وعلى الثانية بحذفها، وهذا يدل على العلاقة الوطيدة بين الرسم والقراءات. ويوقف بالياء كذلك على نحو: {مُعْجِزِي اللَّه} ، {مُحِلِّي الصَّيْدِ} ، {حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَام} ، {آَتِي الرَّحْمَن} ، {مُهْلِكِي الْقُرَى} ، {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ} من كل ياء ثبتت في الرسم وإن حذفت في الوصل. وقدمنا تفصيلات في هذه الناحية عند حديثنا عن الأصول- فصل الياءات. وأما الألف: فإن حذفت في الوصل لالتقاء الساكنين فإنها ثابتة رسمًا ووقفًا نحو: {ذَاقَا الشَّجَرَة} ، {كِلْتَا الْجَنَّتَيْن} ، {يَأَيُّهَا النَّبِي} إلا ثلاثة مواضع حذفت فيها الألف رسمًا، ويوقف على الهاء فيها من غير ألف وهي {أَيُّهَ الْمُؤْمِنُون} النور، {يَا أَيُّهَ السَّاحِر} الزخرف، {أَيُّهَ الثَّقَلان} الرحمن. واتفق على إثبات الألف عند الوقف في قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْرًا} البقرة، {وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ} يوسف، {لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ} العلق، وفي إذًا المنونة حيث وقعت، وألف {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} الكهف. وتثبت الألف وقفًا وتحذف وصلًا كذلك في "أنا" الضمير وفي "الظنونا، الرسولا، السبيلا" في الأحزاب و"قواريرا" الأولى في سورة الإنسان، أما الثانية فتحذف ألفها وصلًا ووقفًا. ومما حذف وصلًا ووقفًا كذلك وإن ثبت رسمًا ألف ثمود في أربعة مواضع: {أَلَا إِنَّ ثَمُودَا كَفَرُوا رَبَّهُمْ} هود، {وَثَمُودَا وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} الفرقان، {وَثَمُودَا وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ} العنكبوت، {وَثَمُودَا فَمَا أَبْقَى} النجم1. ما ذكرناه هنا في بيان الثابت والمحذوف طبقًا لما ذهب إليه حفص.   1 راجع البرهان في تجويد القرآن للشيخ محمد الصادق قمحاوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 القطع والوصل : في الرسم العثماني حروف توصل بما يليها، وأخرى تقطع عما بعدها، وقد نجد كلمة بعينها أو حرفًا من حروف المعاني يوصل بما بعده أحيانًا، وفي أحيان أخرى يفصل عما بعده، طبقًا لما سار عليه رسم المصحف، وهو واجب الاتباع بحكم إجماع الصحابة على مصحف عثمان -رضي الله عنه. وهذا الرسم تترتب عليه نتيجة في القراءات هي أن الكلمة المقطوعة يجوز الوقف عليها دون الموصولة. وهذه بعض صور المقطوع والموصول في رسم المصحف. 1- أَنْ "بفتح الهمزة وسكون النون" أيًّا كان معناها النحوي. تقطع عن "لا" النافية في عشرة مواضع: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ} ، {أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَق} الأعراف، {أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} التوبة، {وَأَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُو} ، {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ} هود، {أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} الحج، {أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَان} يس، {وَأَنْ لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} الدخان، {أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} الممتحنة، {أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم} القلم. واختلف في موضع واحد في الأنبياء {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك} وصل في بعض المصاحف، وقطع في بعضها، وعليه العمل وما عدا هذه المواضع توصل أن بما بعدها مثل: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} النجم. 2- إنْ بكسر الهمزة وسكون النون. تقطع عن ما في موضع واحد بسورة الرعد {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} وتوصل فيما سواه مثل: {وَإِمَّا نُرِيَنَّك} يونس، {وَإِمَّا تَخَافَن} الأنفال. وأَنْ المفتوحة الهمزة موصولة بما مثل: {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْن} الأنعام. 3- "عن"، تقطع عن "ما" الموصولة في موضع واحد بالأعراف {عَنْ مَا نُهُوا عَنْه} ، وما عداه فموصول نحو: {عَمَّا يُشْرِكُون} . 4- من تقطع عن "ما" في موضعين: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} النساء، {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَت} الروم. ووقع الخلاف في موضع بالمنافقون: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُم} والعمل فيه على القطع، ويوصل ما عدا ذلك. 5- تقطع "أَمْ" عن "مَنْ" في أربعة مواضع، ويوصل ما عداها. {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} النساء، {أَمْ مَنْ أَسَّس} التوبة، {أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا} فصلت، {أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} الصافات. 6- وتقطع "أن" بفتح الهمزة وسكون النون عن "لم" في موضعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّك} الأنعام، {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَد} البلد. 7- إن "بكسر فسكون" موصولة بلم في موضع واحد: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} هود، وما عداه فمقطوع. 8- إِنّ "بكسر الهمزة وتشديد النون" حرف توكيد ونصب تقطع عن "ما" الموصولة في موضع واحد بلا خلاف وهو: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَت} الأنعام، وفي موضع بخلاف وهو: {إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُم} النحل. وما عدا ذلك فتوصل بـ"ما"1: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِر} طه، {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِع} الذاريات. 9- "أنّ" المفتوحة الهمزة المشددة النون، أخت إن تقطع عن "ما" في موضعين بلا خلاف هما: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِل} الحج، {أَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} لقمان، ووقع الخلاف في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم} الأنفال، والعمل فيه على الوصل، وما عدا ذلك موصول: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [التغابن: 13] . 10- "حيث" تقطع عن "ما" في موضعين بسورة البقرة: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} في موضعيها. 11- وتقطع "كل" عن "ما" في موضع بلا خلاف وهو: {وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} إبراهيم. ووقع الخلاف في أربعة مواضع، والعمل فيها على الوصل، وهي: {كُلَّ مَا رُدُّوا} النساء، {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ} المؤمنون {كُلَّمَا   1 "ما" هنا تحتمل أن تكون مصدرية "موصول حرفي" وأن تكون موصولًا اسميًّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} الملك، وما عدا ذلك فموصول باتفاق. 12- وتقطع "بئس" عن ما في جميع المواضع إلا موضعين توصل فيهما: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُم} البقرة، {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي} الأعراف، ووقع الخلاف في موضع واحد، والوصل فيه أولى {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} البقرة. 13- وتقطع "في" عن "ما" في موضع واحد بلا خلاف، وهو: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ} الشعراء. ووقع الخلاف في عشرة مواضع، والعمل فيها على القطع: {فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوف} البقرة، {مَا آَتَاكُم} المائدة والأنعام، {فِي مَا أُوحِيَ إِلَي} ، {فِي مَا اشْتَهَت} الأنبياء {فِي مَا أَفَضْتُم} النور، {فِي مَا رَزَقْنَاكُم} الروم، {فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ، {فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُون} الزمر، {فِي مَا لَا تَعْلَمُون} ، الواقعة، وما عدا ذلك فموصول باتفاق. 14- وتقطع "أين" عن ما في جميع مواضع القرآن ما عدا موضعين توصل فيهما اتفاقًا: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} البقرة، {أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْر} النحل، ووقع الخلاف في ثلاثة مواضع والأكثر القطع {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ} النساء {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُون} الشعراء، {أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا} الأحزاب. 15- تقطع "أن" عن "لن" في جميع المواضع ما عدا موضعين توصل فيهما وهما: {أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} الكهف {أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَه} القيامة. 16- وتقطع كي عن "لا" في جميع مواضع القرآن ما عدا أربعة مواضع توصل فيها {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُم} آل عمران {لِكَيْلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} الحج، {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَج} ثاني الأحزاب، {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} الحديد. 17- وتقطع "عن" عن "من" في موضعين ليس غير، وهما: {وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاء} النور، {عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} النجم. 18- وتقطع "يوم" عن "هم" في موضعين وهما: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُون} غافر، {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُون} الذاريات وما عداهما موصول. 19- وتقطع "لام الجر" عن مجرورها في أربعة مواضع: {مَالِ هَذَا الْكِتَاب} الكهف، {مَالِ هَذَا الرَّسُول} الفرقان {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْم} النساء، {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا} المعارج، وما عدا ذلك موصول. هذه فقرات من الموصول والمقطوع: وفائدة معرفة هذا الباب، جواز الوقف على إحدى الكلمتين المقطوعتين باتفاق، ووجوبه على الأخيرة من الموصولتين باتفاق، أما ما اختلف في وصله وقطعه فيجوز الوقف على كلتا الكلمتين نظرًا لقطعهما، وعلى الأخير نظرًا لوصلهما1. ومن تتجلى لنا قضية مهمة؛ هي العلاقة الوثيقة بين الرسم العثماني، وروايات القراءات، على أساس أن الرسم موضح لها، دال عليها، وليست القراءات ناشئة عنه كما زعم المستشرقون ورددنا عليه في غير هذا المكان من هذا الكتاب.   1 المقنع في رسم مصاحف الأمصار للداني، وراجع البرهان في تجويد القرآن للشيخ محمد الصادق قمحاوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 الرسم العثماني ومواقف المتشككين ... الرسم العثماني ومواقف المشككين: تشكك المستشرقون في القراءات، وصحة نسبتها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وألقوا بسحائب شكوكهم حول قضية رسم المصحف، وهذا التشكك قد يكون ناشئًا عن غياب التصور الصحيح للقراءات، ومنهج تناقلها، وأن رواياتها تواترت قبل كتابة المصحف الإمام إذا فرضنا حسن الظن فيهم، وقد يكون أمرًا متعمدًا، وتعمد التضليل وارد في كتابات المستشرقين. ولنناقش القضية على ضوء ما قالوه. قال جولد تسيهر: "فلا يوجد كتاب تشريع اعترفت به طائفة دينية اعترافًا عَقَدِيًّا على أنه نص منزل، موحًى به، يقدم نصه في أقدم عصور تداوله مثل هذه الصورة من الاضطراب، وعدم الثبات كما نجد في نص القرآن"1. وبعد هذا يأتي ويعلل قضية الاضطراب التي رآها فيقول: "والقسم الأكبر من هذه القراءات يرجع السبب في ظهوره إلى خاصية الخط العربي فإن من خصائصه أن الرسم الواحد للكلمة الواحدة قد يقرأ بأشكال مختلفة، تبعًا للنقط فوق الحروف أو تحتها، كما أن عدم وجود الحركات النحوية، وفقدان الشكل في الخط العربي يمكن أن يجعل للكلمة حالات مختلفة من ناحية موقعها من الإعراب، فهذه التكميلات للرسم الكتابي، ثم هذه الاختلافات في الحركات والشكل كل ذلك كان السبب الأول لظهور حركة القراءات فيما أهمل نقطه أو شكله من القرآن"2.   1 مذاهب التفسير الإسلامي لجولد تسيهر- ترجمة عبد الحليم البخاري ص4 ج1 دار الكتب الحديثة. 2 المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 ثم يعود بعد صفحات ليردد هذا التفسير قائلًا: وترجع نشأة قسم كبير من هذه الاختلافات إلى خصوصية الخط العربي الذي يقدم هيكله المرسوم مقادير صوتية مختلفة، تبعًا لاختلاف النقط الموضوعة فوق هذا الهيكل، أو تحته وعدد تلك النقط بل كذلك في حالة تساوي المقادير الصوتية يدعو اختلاف الحركات الذي لا يوجد في الكتابة العربية الأصلية ما يحدده، إلى اختلاف مواقع الإعراب للكلمة، وبهذا إلى اختلاف دلالتها، وإذن فاختلاف الحركات في المحصول الموحد القالب من الحروف الصامتة كانا هما السبب الأول في نشأة حركة اختلاف القراءات في نص لم يكن منقوطًا أصلًا، أو لم تنحر الدقة في نقطه أو تحريكه"1. ويمكن أن نحدد طعون جولد تسيهر من خلال كلماته في هذه النقاط المحددة. 1- وصف النص القرآني بأنه لا نظير له في الاضطراب. 2- أرجع هذا الاضطراب إلى خلو المصحف من النقط. 3- فقدان الشكل في الخط العربي، وعدم وجود الحركات النحوية وعلامات الإعراب. والمتأمل فيما كتبه هذا المستشرق يدرك من أول وهلة أنه يدلي بتفسيرات على أساس الحدس، والتخمين ومجرد التصور الخيالي لا على أساس المنهج العلمي الذي يتشدق به المستشرقون. فهو مرتاب في أمور هي من قبيل الواقع المحقق؛ إذ يقول: "في نص لم يكن منقوطًا أصلًا، أو لم تنحر الدقة في نقطة وتحريكه" مع أن من الأمور المشهورة التي لا تقبل الجدل أن المصحف الإمام وإخوته   1 المرجع السابق ص928. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 كتبت في عهد عثمان، وكتبت بدون نقط أو شكل، وهو المتبع في الكتابة العربية في هذا الطور، ولم يتم النقط أو الشكل إلا في النصف الأخيرة من القرن الأول للهجرة. ولو كان تسيهر درس الأمر دراسة واعية ما وقف هذا الموقف المتردد؟ إذ لم يقل أحد من الباحثين القدماء منهم أو المحدثين إن المصحف الإمام كتب بشكل وبنقط لم يتحرَ الدقة فيهما، فلم يكن النقط والشكل حينذاك قد عرفا بعد. أما وصفه النص القرآني بأنه لا نظير له في الاضطراب فقد خالفه الصواب تمامًا، وكشف بمقالته عن جهل واضح أو تعصب فاضح. فما مظاهر الاضطراب التي رأها؟ أهي القراءات القرآنية؟ إنه لو ألقى عليها نظرة واعية لعلم حقيقة هذه الاختلافات بين القراءات وأنها اختلاف تنوع وتغاير لا اختلاف اضطراب وتناقض، وأن محصلة هذه القراءات واحدة، بل إن لها ثمارًا تشريعية ولغوية وبلاغية تبرز جوانب العظمة في الآية القرآنية التي أفحمت أساطين الفصاحة والبيان. وإذا كان هذا الاضطراب قد وقع في هذا العهد الباكر، والقرآن الكريم غضًّا، ولم يمض على نهاية نزوله أكثر من عشرين عامًا فما بالنا في العالم الإسلامي لا نجد هذا الاضطراب ولا نحسه، بل إن النظرة العلمية للقراءات عند علماء الألسنة المتجردين من الهوى لا تتعدى كونها صورًا متنوعة ومتناسقة للسان يملك إمكانات قوية ومتعددة في التعبير؟!! إنه كان من المتوقع لو كان هناك اضطراب كما تصوره "جولد تسيهر" في هذا العصر لكان ينبغي أن يكون الاضطراب الآن بعيد المدى، عميق الأثر بصورة تضيع معها معالم النص الصحيح. لكن هذا لم يحدث من قريب أو من بعيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 وهنا أريد أن أسأل: إذا كان القرآن الكريم قد حظي بهذا الاضطراب وحده، فماذا تقول في نص التوراة أو الإنجيل؟ وهما لم يدونا إلا بعد عصر الرسولين الكريمين موسى وعيسى عليهما السلام بقرون؟!! وهل تستطيع بمنهج العلم الذي تحتكم إليه أن تقطع بصحة النصين، وأنهما المنزلان من السماء دون تحريف أو تبديل؟! وأخيرًا أضيف إلى ما سبق. هناك قراءات يحتملها الرسم، صحيحة في اللغة، ولكن لم يقرأ بها؛ إذ لم يكن لها سند صحيح يعتد به. من ذلك ما جاء في تفسير البحر المحيط: قال ابن عطية: "أجمع القراء على ضم الميم من "مُكث" في قوله تعالى: {وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} 1. واللغة تجيز في الميم من "مُكث" الضم والفتح والكسر2 لكن القراء لم يقرءوا إلا بضم الميم3. وكذلك يجوز في اللغة خَطِفَ يخطَف، وخَطَف يخطِف، ولكن القراء لم يقرءوا إلا: "يخطَف"، وخطَف من باب علم. قال أبو علي الفارسي: "ولا نعلم أحدًا قرأ الأخرى"4. وفي هذا دليل آخر على أن احتمالات الرسم ليست هي سبب اختلاف القراءات. وقد اعتد أعلام النحو بالنقل والرواية وصحة السند، ولو كان توجيهها النحوي غير قوي.   1 سورة الإسراء: 106. 2 البحر المحيط ج6 ص88. 3 الإتحاف ص287. 4 الحجة لأبي على الفارسي ج1 ص365. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 روى الكسائي لغة كسر الراء في "الرضاعة" ولكنها لم ترد عنه قراءة1. "جاء الأصمعي يومًا إلى مجلس المازني، فقال له: ما تقول في قول الله عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر} ؟ قال المازني: سيبويه يذهب إلى أن الرفع فيه أقوى من النصب في العربية لاشتغال الفعل بالمضمر، وأنه ليس ههنا شيء هو بالفعل أولى، ولكن أبت عامة القراء إلا النصب، فنحن نقرؤها لذلك اتباعًا؛ لأن القراءة سنة"2. بقيت ظاهرة لا بد من الإشارة إليها؛ لأنها تؤكد أن القراءة سنة متبعة، وأساسها التلقي والرواية وهي ظاهرة الاختيار عند القراء. وتتمثل في إيثار القارئ قراءة على أخرى مع صحتهما جيمعًا، ويكون أساس الاختيار غالبًا صحة السند. شعبة3، كان يقول: انظروا ما يقرأ أبو عمرو بن العلاء "154" مما يختار لنفسه فإنه سيصير للناس إسنادًا"4. وكان الكسائي يتخير القراءات فأخذ من قراءة حمزة بعضها وترك بعضًا"5. وأبو علي الفارسي يرى حمزة يميل: الأشرار، والقرار، وذات قرار، والقهار، والبوار، دون ما عداها من الكلم مما كان على صورتها ويستحق الإمالة فيقول: "فالقياس في ذلك وغيرها واحد، ولعله اتبع في ذلك أثرًا ترك القياس إليه، أو أحب أن يأخذ بالوجهين،وكره أن   1 معاني القرآن للقراء، ج1 ص149. 2 أخبار الزجاجي -مخطوط ورقة 36. 3 شعبة من الرواة: عن عاصم، ويكنى بأبي بكر بن عياش. 4 طبقات القراء ج1 ص292. 5 المصدر السابق ج1 ص38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 يرفض أحدهما ويستعمل الآخر، مع أن كل واحد مثل الآخر في الحسن والكثرة"1. قضية النقط والشكل، والحركات الإعرابية.. أهي السبب فيما وقع من اختلاف القراءات. لقد ساق جولد تسيهر عددًا من الأمثلة التي كشفت عن سوء فهمه أو سوء طويته. فذكر عددًا من القراءات سبب الاختلاف فيها عدم النقط مثل قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} 2، بالباء الموحدة وفي قراءة "تستكثرون" بالثاء المثلثة3، وفي السورة نفسها4: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} بالباء في قراءة "نَشْرًا"5، بالنون، ثم يعرض صورًا أخرى ويقول: "وفي آية94 من سورة النساء تظهر على الأخص هذه الظاهرة في كل الحروف تقريبًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} وفي قراءة "فتثبتوا" ورسم هذه الكلمة محتمل للقراءتين "وَسَوَا". ثم يسوق الأمثلة للقراءات الناشئة عن فقدان الشكل في الخط العربي وعدم وجود الحركات النحوية فيذكر هذه الآية من سورة الحجر: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} 6، ففيها هذه   1 الحجة 1ص 376. 2 سورة الأعراف: 48. 3 لم ترد في القراءات الأربع عشرة -راجع الإتحاف ص225. 4 الآية 75. 5 بالباء قراءة عاصم وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالنون -النشر ج2 ص269. 6 سورة الحجر: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 القراءات: "تُنَزِّل، تُنَزل، نُنْزِل، تَنَزَّل"1 وكذلك ما جاء في سورة الرعد -الآية الأخيرة منها- {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَاب} 2، وفي قراءة أخرى3 "وَمِنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَاب" وهناك قراءة ثالثة4: "وَمِنْ عِنْدَهُ عُلِمُ الْكِتَاب"5. وقد ردد هذا الرأي الدكتور آثر جفري في مقدمة كتاب المصاحف للسجستاني الذي قام بتحقيقه. كما تورط في هذا الفهم الخاطئ بعض الباحثين المعاصرين الذين لم يمعنوا النظر جيدًا في هذه القضية. وبادئ ذي بدء أقول قد يكون وراء هذا الفهم المنحرف عند الباحثين من العرب أو من المستشرقين نص غير دقيق جاء في كتاب النشر لابن الجزري وفيه يقول: وجردت هذه المصاحف جميعها، يعني المصاحف التي كتبت في عصر عثمان- من النقط والشكل ليحتملها ما صح نقله، وثبتت تلاوته عن النبي -صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان الاعتماد على الحفظ لا على مجرد الخط"6. فتعبير "وجردت" قد يفهم منه أن النقط موجود، وتعمد الكاتبون تركه. وفي تقديره أن الكلمة لحقها تحريف؛ لأن بقية النص فيه ما يصحح السياق، ويكشف عن المراد؛ إذ يقول ابن الجزري: إذ كان   1 إتحاف فضلاء البشر ص274. 2 هذه قراءة الجمهور- الإتحاف ص270 3 قراءة الحسن -لإتحاف ص270. 4 قال البنا الدمياطي: هذه القراءة ليست واردة في طرق كتابه إتحاف فضلاء البشر -انظر ص270. 5 راجع مذاهب التفسير ص5- 7 وراجع كتاب رسم المصحف العثماني د. عبد الفتاح شلبي ص218- 219. 6 النشر ج1 ص51، 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 الاعتماد على الحفظ لا على مجرد الخط. وعلى أية حال فهذا التفسير ناشئ عن تصور غير سديد لنشأة القراءات القرآنية، وفهم غامض لأصلها، وكأن جولد تسيهر ومن حذا حذوه يتوهمون أن القراءات ظهرت بعد كتابة المصحف الإمام، وكانت أثرًا للطريقة التي اتبعت في كتابته. وهذا وهم عجيب؛ لأن المعلوم لكل من له أدنى دراية بعلوم القرآن أن القراءات ثبتت بأسانيد متواترة مرفوعة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأن أي قراءة تفقد السند الصحيح، أو تواتره لا يؤخذ بها. كما كانت القراءات في روايتها، وتداولها تعتمد على المشافهة والتلقي، وهذا منهج أدخل في التدقيق وللتحقيق والتحري والضبط، وكأن تدوين المصحف مجرد مرجع يفزع إليه القوم لحسم ما ينشأ من خلاف. والدليل على سداد هذا المنهج أن الرواة أنفسهم كانوا يعرفون قيمته. يقول الحسن بن هانئ في مدح خلف الأحمر. لا يَهِم الحاءَ في القراءة بالخا ... ء، ولا يأخذ إسناده من الصحف كما قيل في رثائه: أودى جماع العلم مذ أودى خلف ... رواية لا يجتني من الصحف1 فقبل تدوين المصحف في عصر عثمان، وفي أثناء التدوين وبعده كان القرآن في صدور الجمهرة من الصحابة والتابعين على أتم صوره وأدقها،   1التصحيف والتحريف ص13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وأنقاها، وتناقلته عنهم الجماهير المسلمة من شتى الأمصار الإسلامية. والاختلافات التي ظهرت في عهد عثمان -رضي الله عنه- كانت أحداثًا فردية حسمت بكتابة المصحف الإمام ليكون ضابطًا للقراءات الصحيحة مانعًا لغيرها. والأسلوب الذي اتبع في كتابته كان يسمح باستيعاب الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن الكريم تيسيرًا على العباد، كما فصلنا ذلك في موضع آخر. وأمر آخر: لو كانت القراءات مرجعها إلى الرسم لكان ينبغي أن تكون كل قراءة موافقة لرسم المصحف صحيحة مقبولة، ولكن الأمر على غير ذلك؛ إذ هناك قراءات موافقة للرسم ومردودة مثل قراءة حماد الراوية: {مَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} قرأها "أباه"1 وقراءة "وما كنتم تستكثرون"2 في سورة الأعراف، وسبق أن أشرنا إليها وكلتا القراءتين مما استشهد به جولد تسيهر. لكن الرسم تابع للرواية والنقل، وأن القراءة منقولة من أفواه الرجال الحفظة3، وهذه قضية فات المستشرقون وأذنابهم أن يفقهوها. ومن المعلوم في تاريخ القراءات والقراء أنهم كانوا يردون قراءة ابن مقسم، وابن شنبوذ أما أولهما فكان يقول: إن كل قراءة وافقت   1 التوبة: 114، راجع الإتحاف ص245. 2 سبق أن قلنا لم ترد هذه القراءة في السبع ولا العشر، ولا الأربع عشرة الاتحاد ص225. 3 التصحيف للعسكري ص9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 المصحف ووجهها في العربية فالقراءة بها جائزة وإن لم يكن لها سند"1، وأما الآخر فكان يغير حروفًا من القرآن، ويقرأ بخلاف ما أنزل2، كان يعتمد على السند وإن خالف المصحف، واتفقا على موافقة العربية3. وهذا دليل على مدى الدقة والإحكام في منهج القراء في إثبات القراءات، فالسند والتلقي مع الموافقة لرسم المصحف. إن منهج جولد تسيهر يفتح أبوابًا من الفوضى، ويدفع إلى تحريف النص القرآني، أو مسخ فصاحته وقد وقعت بعض قراءات ردت على أصحابها من أول الأمر ووثدت في مهدها، وأصبحت مجرد ذكرى لهذا الضلال في بطون الكتب والمراجع، وإن لجأت إليها بعض الفرق المنحرفة لتدعم انحرافها. من ذلك قراءة الرافضة: "وما كنت متخذ المضِلَّين عضدا" بفتح اللام، يعنون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما4. ولعل وراء هذا الوهم في تفسير المستشرقين لاختلاف القراءات شيء آخر. هو أنهم قاسوا القرآن الكريم على ما وقع فيه التصحيف والتحريف من كلام العرب شعرًا ونثرًا، فعدوا القراءات من هذا القبيل. وإذا صح هذا فقد وقعوا في ضلال بعيد؛ لأن ما وقع من تصحيف وتحريف في كلام العرب تصدى له أعلام العلماء وصوبوه، وردوا آثار التصحيف والتحريف، وألفت عشرات الكتب في هذا الصدد منها "التصحيف   1 طبقات القراء ج2 ص124. 2 وفيات الأعيان ج3 ص 326. 3 طبقات القراء ج2 ص54. 4 منجد المقرئين ص23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 والتحريف لأبي أحمد العسكري" فهل يتصور أن يحدث هذا في القرآن ويسكت عنه هؤلاء الغُير من العلماء؟. وهنا ملاحظة جديرة بالاعتبار هي أن المصاحف التي نسخت في عهد عثمان على يد هذه المجموعة الطيبة من الصحابة القراء عندما وزعت على الأمصار الإسلامية كان يرسل مع كل مصحف عالمًا من علماء القراءة يعلم المسلمين القرآن وفق هذا المصحف، وعلى مقتضاه، فأمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدينة، وبعث عبد الله بن السائب إلى مكة، والمغيرة بن شهاب إلى الشام، وعامر بن عبد قيس إلى البصرة، وأبا عبد الرحمن السلمي إلى الكوفة، ولا شك أن الحكمة من إرسال القارئ مع المصحف تقييد ما يحتمله الرسم من القراءات بالمنقول منها تواترًا، فلو كانت القراءات مأخوذة من رسم المصحف، وأن أي قراءة توافق الرسم مقبولة ما كان هناك ما يدعو لإرسال عالم مع المصحف، فهذا دليل على أن القراءة تعتمد على التلقي والنقل والرواية، لا على الخط والرسم والكتابة1.   1 القراءات في نظر المستشرقين والملحدين، الشيخ عبد الفتاح القاضي ص48، 49 وراجع تفسير القرطبي، الجامع لأحكم القرآن ج1 ص60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 كتابة المصحف بين الرسم العثماني والرسم الإملائي ... كتاب المصحف بين الرسم العثماني، والرسم الإملائي: ارتفعت بعض الأصوات في الآونة الأخيرة، وفي النصف الثاني من القرن الهجري1 الماضي تطالب بتيسير رسم المصحف، وكتابته حسب قواعد الإملاء التي تعارف عليها أبناء اللسان العربي، وانتهوا إليها في صورتها المعاصرة وذلك بهدف تيسير القراءة على الناشئة والعامة من   1 ورد سؤال بهذا الشأن لمجلة الفتوى بالأزهر، مجلة الرسالة عدد 216 سنة 1937، ومجلة المقتطف يوليو سنة 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 المسلمين الذين لا يعرفون أصول الرسم العثماني، وتصدى لهؤلاء من يعارضونهم ويقولون بضرورة الحفاظ على الرسم العثماني. والذي أريد أن أقرره بين يدي هذه القضية أن المطالبة بتيسير رسم المصحف قضية عرفت من عدة قرون, وليست وليدة القرن الماضي. ففي هذه المسألة رأيان، ولكل صاحب رأي وجهة هو موليها وله أدلته التي يستند إليها. وسنعرض بإيجاز لكلا الرأيين، والحجج التي تساند كلا منهما، ونحاول أن ننتهي إلى التصور الذي نرجو أن يكون سديدًا فيحقق الغاية دون تضييع أو تفريط. القائلون بضرورة كتابة المصحف بالرسم العثماني. يرى هؤلاء أن هذا الرسم توقيفي، كتب به كتبة الوحي، وكتب المصحف الأول في عهد أبي بكر، وسار الصحابة على هذا النمط من الهجاء دون محاولة تغييره، وسار الأمر على ذلك في عهد عثمان رضي الله عنه. وهذه حجة أولى ولهم حجة ثانية. هي رأي الإمام مالك، والإمام أحمد بن حنبل -رضي الله عنهما- أما رأي الإمام مالك فقد روى السخاوي أن مالك بن أنس سئل: أرأيت من استكتب مصحفًا، أرأيت أن يكتب ما استحدثه الناس من الهجاء اليوم؟ فقال: لا أرى ذلك، ولكن يكتب على الكتبة الأولى1. ثم يعلق السخاوي على هذا بقوله: والذي ذهب إليه مالك هو   1 البرهان للزركشي "1/ 379"، والإتقان للسيوطي "2/ 283"، والحكم للداني ص15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 الحق؛ إذ فيه بقاء الحالة الأولى إلى أن تعلمها الطبقة الأخرى، ولا شك أن هذا هو الأحرى؛ إذ في خلال ذلك تجهيل الناس بأولية ما في الطبقة الأولى". وقال الإمام أبو عمرو الداني: سئل مالك عن الحروف في القرآن مثل الواو والياء والألف: أترى أن يغير من المصحف إذا وجد فيه شيء من ذلك؟ قال: لا. ثم يعلق الداني على هذا فيقول: يعني الواو والياء والألف الزائدات في الرسم، المعلومات في اللفظ نحو: "لا أذبحنه" و "بأييد" و "أولوا" ونحوها ثم يقول. لا مخالف لمالك من علماء هذه الأمة"1. أما الإمام أحمد بن حنبل فقد قال: تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ألف، أو ياء، أو غير ذلك"2. والحجة الثالثة تنحو منحى صوفيًّا؛ إذا يرى أصحابها أن هذا الرسم توقيف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي أمر بالكتابة على هذه الهيئة المعروفة؛ وذلك لأسرار لا يعلمها إلا الله، ولا تهتدي إليها عقول البشر، كما أنها في تصورهم تمثل جانبًا من جوانب الإعجاز القرآني، ثم يتساءلون: لماذا زيدت الألف في "مائة" دون "فئة" والياء في "بأييد" و "بأييكم"؟ وما السر في زيادة الألف في "سعوا" في سورة الحج دون "سعو" في سبأ وزيادتها في "عتوا" في جميع مواضعها دون "سعوا" في سبأ وزيادتها في {عَتَوْا} في جميع مواضعها دون "عتو" في الفرقان، وزيادتها في {يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} البقرة، ونقصانها من {يَعْفُوَ عَنْهُم} في النساء؟ ولماذا ثبتت   1 مناهل العرفان للزرقاني "1/ 382". 2 الإتقان "2/ 283"؛ والمحكم ص15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 في {سِرَاجًا} في كل مواضعها، وحذفت من موضعها في الفرقان ثم يقولون: "فكل ذلك لأسرار إلهية، وأغراض نبوية، وإنما خفيت على الناس؟ لأنها أسرار باطنية لا تدرك إلا بالفتح الرباني بمنزلة الألفاظ والحروف المقطعة التي في أوائل السور فإنها لها أسرار عظيمة، ومعاني كثيرة1. 4- خط الإملاء السائد متطور، لا يستقر على صورة واحدة، وإمكانات تطوره وتغييره قائمة، ويخشى لو كتب المصحف به أن يكون وسيلة لتحريف أو تغيير، وضمان الحفاظ على النص القرآني رهن بالاستمساك بقواعد الخط العثماني. والحجة الخامسة: يرتبط بالرسم العثماني مزايا عظيمة. أ- منها الإشارة إلى ما في الكلمة من قراءات قرآنية لا تتأتى في حالة الرسم الإملائي من ذلك كلمة "سراجا". وردت في سورة الفرقان: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} 2، وفي سورة الأحزاب: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} 3، وفي سورة النبأ: {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} 4. كتبت بدون ألف في "الفرقان" وبالألف في "الأحزاب" و "النبأ"؛ وذلك لأنها في الفرقان فيها قراءتان أولاهما بكسر السين وفتح الراء بعدها ألف أعني بصيغة الإفراد، والأخرى بضم السين والراء أي   1 مناهل العرفان ج1 ص382- 383 وهذا نقل ابن المبارك عن شيخه عبد العزيز الدباغ. 2 الفرقان: 61. 3 الأحزاب: 46. 4 النبأ: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 بصيغة الجمع، فإذا كتبت بالرسم الإملائي لن يفهم منه: إلا قراءة واحدة. ب- الإشارة إلى بعض لغات العرب. فنرى في المصحف العثماني كتابة تاء التأنيث المربوطة مفتوحة في بعض المواضع إيذانًا بجواز الوقف عليها بالتاء على لغة طيئ نحو قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} 1، وقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} 2، وقوله سبحانه: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ} 3، وقوله: {وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} 4، وقوله: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّوم} 5. ومما نلاحظه بأن هذا الاتجاه المحافظ بالغ في التحفظ حتى إنهم كرهوا ما حدث من نقط المصاحف ورووا عن الإمام مالك قوله: "جردوا القرآن ولا تخلطوه بشيء" وقوله: "ولا تخلطوا به ما ليس منه إني أخاف أن يزيدوا في الحروف أو ينقصوا"6. كما كرهوا ذكر أسماء السور، ورسم فواتح السور وعدد الآيات. قال أبو بكر السراج قلت لأبي رزين: "أأكتب في مصحفي سورة كذا وكذا؟ قال: إني أخاف أن ينشأ قوم لا يعرفونه، فيظنوا أنه من القرآن"7.   1 الأعراف: 56. 2 إبراهيم: 34. 3 التحريم: 10. 4 الأنفال: 38. 5 الدخان: 43. 6 المحكم ص 10- 11. 7 المرجع السابق ص17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 فكل زيادات في الرسم، حتى ولو كان الهدف منها التنسيق والتنظيم، والبيان كرهوها. واستمر هذا التيار المحافظ حتى عصرنا الحاضر. وأسهمت فيه لجنة الفتوى بالأزهر، وعندما سئلوا عن كتابة المصحف بخط الإملاء المعتاد أفتوا بعدم جواز ذلك التزامًا بما كان عليه الصحابة والتابعون1. ورأى حفني ناصف وجوب المحافظة على الرسم العثماني لمعرفة القراءة المقبولة والمردودة، وفي المحافظة احتياط شديد لبقاء القرآن على أصله لفظًا وكتابة، فلا يفتح فيه باب الاستحسان2. رأي المطالبين بالرسم الإملائي. في مقدمة هذا الرأي يؤكدون أن الهدف تيسير القرآن للناشئة حتى يقرؤه صحيحًا دون أن تعترضهم صعوبات الرسم، وقد بنوا حجتهم على عدة أسس. منها أن الرسم العثماني ليس توقيفيًّا، وإنما كتب المصحف بالخط المتعارف عليه حينذاك، وعندما كان كتبة الوحي يكتبون ما ينزل من آيات ما أوصاهم الرسول عليه الصلاة والسلام بكتابة معينة، أو رسم معين أو زيادة أو نقص، ولو فعل لآمنا به ولحرصنا عليه، ولكان هذا الرسم توقيفيًّا كما قالوا. بل إنهم ذهبوا إلى أبعد من هذا وقالوا: إن ما حدث إنما هو خطأ من الكتاب. قال ابن خلدون: "لقد كان الخط العربي الأول الإسلام غير بالغ   1 مجلة الرسالة -العدد 216 سنة 1937. 2 مجلة المقتطف يوليو "تموز" 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة ولا إلى التوسط لمكان العرب من البداوة والتوحش، وبعدهم عن الصنائع، وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسم المصحف حيث رسمه الصحابة بخطوطهم، وكانت غير مستحكمة في الإجادة، فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته رسوم صناعة الخط عند أهلها1. وحقائق التاريخ تشير إلى أن الرسم العثماني لم يقف على الصورة التي كان عليها، بل لحقت به بعض تطورات وتغييرات تهدف إلى الحفاظ على القرآن من تيارات اللحن، وتيسير قراءته بعدما فشت العجمة، ولا ريب أنها قوبلت في أول الأمر بشيء من التحرج، لكن التطور المفيد قد تم إيمانًا من القائمين بها بأن فيها بيانًا وتوضيحًا2. من ذلك أن المصاحف في أول الأمر كانت خالية من الشكل. ثم ظهرت الحاجة ماسة لذلك، فوجدنا العلماء يترخصون ويقولون: العجم نور الكتاب، وأنه لا بأس به ما لم تبغوا3. على أن هذا العمل جاء في وقت مبكر؛ إذ رأينا أبا الأسود الدؤلي "ت 69هـ" قام بشكل المصحف لدفع التحريف، وكان الشكل عبارة عن نقط تبين الحركات والتنوين، وتم ذلك في خلافة معاوية4. كما قام نصر بن عاصم "89 هـ" ويحيى بن يعمر "129 هـ" بإعجام المصحف بالنقط دفعًا للتصحيف بأمر الحجاج في خلافة   1 مقدمة ابن خلدون ص419 ط مصطفى محمد، وراجع مجلة البحوث الإسلامية العدد السادس -الرياض 1403هـ وفيها رأي للسيد رشيد رضا يؤيد ما ذهب إليه ابن خلدون. 2 رسم المصحف، د. عبد الفتاح شلبي ص123. 3 المحكم ص12. 4 وفيات الأعيان ترجمة أبي الأسود الدؤلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 2- من غير المقبول عقلًا ونصًّا القول بالرمز، أو بأن هناك أسرارًا إلهية في هذه الحروف الزائدة، وأن هذه الأسرار لا تدرك إلا بالفتح الرباني فهذا نوع من التكلف والتعسف والإيغال في الوهم. ولو كان هذا الرسم توقيفًا لكنا ملزمين به واتباعه، وألا نغير فيه، مع أن الذي حدث أنه تمت تغييرات في الرسم على يد أعلام لا مطعن فيهم أكسب النص القرآني وضوحًا، ولم تحدث لبسًا، ونحن الآن نهتدي بما زاده القوم على الرسم العثماني. 3- إذا حاول بعض المتمسكين بحرفية الرسم العثماني أن يوجدوا تفسيرات كما أوضحنا لزيادة الألف في: "لا أذبحنه" "ولا أوضعوا" وللياء في "أييد" فبم يفسرون زيادة الألف في: "ملاقوا ربهم" "بنوا إسرائيل" "أولوا الألباب" وزيادة الياء في "نبإي المرسلين" "آناءى الليل". 4- أنا مع المحافظين فيا ذكروه من مزايا للرسم العثماني في الإشارة للقراءات ولهجات القبائل. 5- من أجل هذا أحدد وجهة نظري في الآتي: المحافظة التامة على كتابة المصحف بالرسم العثماني على الصورة التي هو عليها الآن، وفيها التطورات التي تمت على أيدي أبي الأسود الدؤلي ونصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر، ونحوها من المصطلحات التي زادها علماء القراءات في عصرنا الحاضر، وتم على أساسها طباعة المصحف في عصرنا الحديث. ولا مانع مع هذا إذا نقلنا نصوصًا قرآنية للاستشهاد بها في كتبنا وبحوثنا، أو لنعلمها للناشئة في المدارس، أو لتكتب على لوحات للتوجيه والإرشاد أن تكون بخط الإملاء العادي تيسيرًا على الناس الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 لا علم لهم بدقائق رسم المصحف العثماني، ولا يتاح لهم الآن الرجوع إلى المتخصصين في ذلك للمراجعة والضبط. وقد اتجهت إلى ذلك وزارة التربية والتعليم في مصر، فكتبت النصوص القرآنية في الكتب المدرسية بالرسم الإملائي المعروف. على أنه ينبغي لنا أن نضع في اعتبار أن رائد الجميع هو العمل على الحفاظ على الكتاب العزيز، وتيسيره للناس ولقد يسره الله علينا من حيث المفهوم والمحتوى فقال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} ، فبقي علينا ألا نرى مضاضة في تيسيره -إلى حد ما- في الرسم والكتابة. وقد تكفل الله بحفظ كتابه فقال عز من قائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} . يقول العز بن عبد السلام -سلطان العلماء: لا تجوز كتابة المصحف الآن على الرسم الأول باصطلاح الأئمة، لئلا يوقع في تغيير من الجهال، ولكن لا ينبغي إجراء هذا على إطلاقه، لئلا يؤدي إلى دروس العلم، وشيء قد أحكمته العلماء، لا يترك مراعاة لجهل الجاهلين، ولن تخلو الأرض من قائم لله بحجته1. وهذا قول فيه حصافة، وفطنة، رحم الله صاحبه.   1 البرهان في علوم القرآن للزركشي ص379، ومعنى دروس العلم: ذهاب آثاره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 الفصل الرابع: صور من الاحتجاج للقراءات صور من الاحتجاج بالأسانيد ... الفصل الرابع: صور من الاحتجاج للقراءت صور من الاحتجاج بالأسانيد: الإسناد في القراءات هو في أعلى درجات الإسناد -كما علمنا- وهو متواتر لا ريب في تواتره والقراءة التي تفتقد التواتر لا تقبل؛ لأن غير المتواتر لا يكون قرآنًا. وبسبب هذا اختفى علماء القراءات بالإسناد احتفاء بالغًا، وكل عالم من علماء القراءات ينص على الأسانيد وطرقها المتعددة حتى عصره. وأحيل القارئ على ما كتبه ابن الباذش في الإقناع، وما كتبه العلامة ابن الجزري في النشر، ومن قبل هذين ابن مجاهد. وسأقدم على سبيل المثال لا الحصر سند قراءة عاصم كما ذكره ابن مجاهد. أسانيد قراءة عاصم: يقول ابن مجاهد: "وما كان من قراءة بن أبي النجود عن أبي بكر بن عياش، فإن عبد الله بن محمد بن شاكر أخبرني بها، عن يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش عن عاصم من أول القرآن إلى خاتمة الكهف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وأخبرني إبراهيم بن أحمد بن عمر الوكيعي عن أبيه1، عن يحيى بن آدم، عن أبي بكر، عن عاصم، من أول القرآن إلى آخره. وأخبرني محمد بن الجهم قال: حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي أمية البصري، عن أبي بكر عن عاصم بذلك من أوله إلى آخره. قال: وحدثني ابن الجهم أيضًا، قال: وحدثنا: أبو توبة2 ميمون بن حفص النحوي، عن الكسائي، عن أبي بكر، عن عاصم. قال: وأخبرني أبو بكر موسى بن إسحاق، عن هارون بن حاتم، أبي بشر، عن حسين بن علي الجعفي، عن أبي بكر عن عاصم. وحدثني موسى بن إسحاق، ومحمد بن عيسى بن حيان المقرئ، عن أبي هشام، عن يحيى، عن أبي بكر، عن عاصم. وحدثني الكسائي محمد بن يحيى عن أبي عمارة عن أبي عمارة عن حفص3 عن عاصم. وحدثني أحمد بن علي الْخَزَّار، قال: حدثنا أبو عمر هبيرة4 بن محمد التمار، عن حفص بن سليمان بن عاصم. وحدثنا أبو محمد الرقي، عن أبي عمرو الدوري، عن أبي عمارة، عن حفص، عن عاصم. وأخبرني محمد بن حماد بن ماهان الدباغ5، قال: حدثني أبو الربيع، عن حفص، عن عاصم.   1 أبوه أحمد بن عمر بن حفص توفي سنة 235هـ. 2 روى القراءة عن الكسائي عرضًا، ورواها عنه محمد بن الجهم. 3 هو حفص بن سليمان الراوي الثاني عن عاصم. 4 هبيرة التمار، تلميذ حفص، وأستاذ الخزار أحمد بن علي بن الفضل أخذ عنه بن مجاهد توفي سنة 286هـ. 5 هو شيخ مقرئ بغداد، وأبو الربيع هذا هو أستاذه وهو سليمان بن داود الزهراني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وحدثنا أبو بكر وهب بن عبد الله المروزي، قال: حدثنا الحسين ابن المبارك الأنماطي، ويعرف بابن اليتيم، قال: حدثنا أبو حفص عمرو بن الصباح بن صبيح قال: رويت هذه القراءة عن أبي عمر البزار، وهو حفص بن سليمان بن المغيرة، ويعرف بالأسدي قال: قرأت عن عاصم بن أبي النجود، وذكر أبو عمر أنه لم يخالف عاصمًا إلا في حرف من كتاب الله، إلا في قوله تعالى: "مِنْ ضُعْف" [الروم: 54] . وحدثني أحمد بن علي الخزار ومحمد بن حيان، عن محمد بن يحيى القطعي، عن أبي زيد النحوي، عن المفضل بن محمد1 الضبي، عن عاصم. محمد بن حيان: من أول القرآن إلى آخر سورة آل عمران، والخزاز: من أول النساء: إلى آخر الكتاب. وحدثني عبد الله بن سليمان، قال حدثني أبو زيد "عمر بن شبة" قال: حدثنا جبلة، عن المفضل، عن عاصم. وحدثني غير واحد من أصحاب أبان عن أبان عن عاصم2. وفي تكملة هذا السند إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ابن الجزري: وقرأ حفص وأبو بكر على إمام الكوفة وقارئها عاصم بن أبي النجود الأسدي، فذلك مائة وثمانين وعشرون3 طريقًا لعاصم، وقرأ عاصم على أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب بن ربيعة السلمي الضرير، وعلى أبي مريم زر بن حبيش بن حباشة الأسدي، وعلى أبي عمرو سعد بن إلياس الشيباني، وقرأ هؤلاء الثلاثة على عبد الله بن مسعود، وقرأ السلمي، وزر أيضًا على عثمان بن عفان وعلي بن أبي   1 عالم الكوفة اللغوي، المشهور، صاحب المفضليات توفي سنة 168 أخذ القراءة عنه أبو زيد الأنصاري، وهو غير أبي زيد "عمر بن شبة". 2 راجع السبعة ص94 وما بعدها. 3 هذه الطرق فصلها وذكرها طريقًا طريقًا ابن الجزري في النشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 طالب -رضي الله عنهما- وقرأ السلمي أيضًا على أُبَيّ بن كعب وزيد بن ثابت -رضي الله عنهما- وقرأ ابن مسعود وعثمان وعلي وأبي، وزيد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم1. ونظرة إلى هذه الأسانيد توقفنا على الحقائق التالية. 1- الدقة البالغة، والضبط المحكم في عرض السند، ووضع كل لفظ موضعه من "أخبرني" إلى "حدثني" ثم تحديد القدر الذي قرأه على كل منهم. 2- غزارة هذه الأسانيد وتواترها وإذا كان ابن مجاهد وصلت إليه قراءة عاصم من هذه الطرق المتعددة، وكلها موثقة فمن غير شك هناك طرق كثيرة وغزيرة، وقد عرفنا أن ابن الجزري في القرن التاسع أوصلها 128 طريقًا. 3- هؤلاء الرواة الذين نقلت قراءة عاصم عنهم علماء ونحاة ولغويون وليسوا مجرد حفظة فقط. 4- اتضح لنا علو إسناد القراءات بصورة لم تتوافر لأي كتاب في الوجود غير كتاب الله تعالى.   1 راجع النشر ص225 وما بعدها "محيسن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 عبد الملك بن مروان. وأسهم الخليل بن أحمد "175هـ" في هذا المجال، وذلك بالهمز والتشديد والروم والإشمام1. قال خلف بن هشام البزار: كنت أحضر بين يدي الكسائي، وهو يقرأ على الناس، وينقطون مصاحفهم بقراءته عليهم2. وسار الناس بدافع الغيرة على نهج هؤلاء الأعلام، وأضافوا إلى رسم المصحف علامات دالة على الأرباع والأحزاب، والأجزاء، وسجدات التلاوة، ووقفات السكت، وعلامات الوقف، وأصبحت المصاحف في عصرنا تذيل باصطلاحات الضبط، وتكتب بألوان متنوعة من الخطوط، وما أصاب النص القرآني أدنى تغيير. على أن ينبغي أن نضع في الاعتبار أننا مهما طورنا في خط المصحف لتيسير قراءته فإن ذلك لن ينال منه شيئًا وقد قال رب العالمين: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . وهذا رأي وسط نراه أمام هذا الخلاف أولى بالقبول. وأوجزه في نقاط محددة. 1- على ضوء ما سجلته المراجع التاريخية واللغوية يتبين أن المصحف لم يكتب بخط متميز وإنما كتب بالخط المتعارف عليه في عصر الصحابة، وأنه قد طرأت عليه تغييرات على يد أعلام الأمة وعلمائها الذين أشرنا إليهم، وهذه التغييرات تمت على مراحل مختلفة، وآخرها مصطلحات الوقف، ونحوها3.   1 المحكم ص6، وراجع قصة النقط الشكل في المصحف الشريف د. عبد الحي حسن الفرماوي ص96. 2 المحكم ص6، وراجع قصة النقط الشكل في المصحف الشريف د. عبد الحي حسن الفرماوي ص96. 3 راجع التعريف بالمصحف الشريف، المطبعة الأميرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 صرور من الاحتجاج للأصول ... صور من الاحتجاج للأصول: يقول مكي في التعليل لاجتماع همزتين في كلمة بالتحقيق أو التخفيف: "حجة من حقق الهمزتين في كلمة، وهي قراءة أهل الكوفة، وابن ذكوان في نحو: {أَأَنْذَرْتَهُم} وشبهه أنه لما رأى الأولى في تقدير الانفصال من الثانية، ورآها داخلة على الثانية قبل أن لم تكن حقق كما يحقق ما هو من كلمتين، وحسن ذلك عنده لأنه الأصل، وزاده قوة أن أكثر هذا النوع بعد الهمزة الثانية فيه ساكن، فلو خفف الثانية التي قبل الساكن لقرب ذلك من اجتماع ساكنين لا سيما على مذهب من يبدل الثانية ألفًا فلما خاف اجتماع الساكنين حقق ليسلم من ذلك؛ ولأنه أتى بالكلمة على أصلها محققة". ويقول: وحجة من خفف الثانية هو ما قدمنا من استثقال الهمزة المفردة، فتكريرها أعظم استثقالًا، وعليه أكثر العرب، وهو مذهب نافع وابن كثير وأبي عمرو وهشام، وأيضًا فإنه لما رأى العرب وكل القراء قد خففوا الثانية إذا كانت ساكنة استثقالًا، كان تخفيفها إذا كانت متحركة أولى؛ لأن المتحرك أقوى من الساكن وأثقل1. وفي التعليل للروم والإشمام قال: "أعلم أن الروم والإشمام إنما استعملتها العرب في الوقف لتبيين الحركة، كيف كانت في الوصل وأصل الروم أظهر للحركة من أصل الإشمام؛ لأن الرَّوم يسمع ويرى، والإشمام يرى ولا يسمع، فمن رام الحركة أتى بدليل قوي على أصل حركة الكلمة في الوصل، ومن أشم الحركة أتى بدليل ضعيف على ذلك، والإشمام لا يكون إلا في المرفوع والمضموم"2. ويقول في التعليل للمد في حروف المد واللين إذا لاصقتها همزة أو ساكن مشدد، أو غير مشدد: "فإن قيل: في العلة التي أوجبت المد فيما ذكرت؟ فالجواب أن   1 الكشف ج1 ص73. 2 المرجع السابق ص122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 هذه الحروف حروف خفية، والهمزة حرف جلد، بعيد المخرج، صعب في اللفظ، فلما لاصقت حرفًا خفيًّا، خيف عليه أن يزداد بملاصقة الهمزة له خفاء، فبين بالمد ليظهر، وكان بيانه بالمد أولى؛ لأنه يخرج من مخرجه بمد، فبين بما هو منه، وبيان حرفي اللين بمد دون البيان في حروف المد واللين لنقص حرفي اللين بانفتاح ما قبلهما عن حروف المد واللين اللواتي حركة ما قبلهن منهن، فقوين في المد لتمكنهن بكون حركة ما قبلهن منهن وضعف حرف اللين في المد لكون حركة ما قبله ليست منه"1. ويقول في التعليل للاستعاذة: إن الاستعاذة دعاء إلى الله جل ذكره، واستجارة به من الشيطان وامتثال لما أمر به نبيه محمد عليه السلام؛ إذ قال له في كتابه: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} 2.   1 المرجع السابق ص45 وما بعدها. 2 النحل: 98 والكشف ج1 ص7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 صور من الاحتجاج النحوي : قوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ} [البقرة: 177] . قرأ حمزة وحفص بنصب "البر" الأولى، قرأ الباقون بالرفع. فعلى النصب يكون البر خبرًا لليس مقدمًا، ويكون {أَنْ تُوَلُّوا} مصدرًا مؤولًَا اسمًا ليس، والمعنى: ليست توليتكم وجوهكم قبل المشرق والمغرب البر كله. وعلى الرفع يكون {الْبِر} اسمًا لليس، والمصدر المؤول خبرًا لها والمعنى: ليس البر كله توليتكم. فكلتا القراءتين له وجه قوي في النحو؛ لأن الاسم والخبر كليهما معرفة، وفي هذه الحالة يجوز في كل منهما أن يكون اسمًا أو خبرًا. لكن يرجع الأولى: أن الاسم فيها هو المصدر المؤول وهو معرفة لا تتنكر، والبر يتنكر فهو أقوى تعريفًا من المحلى بأل، كما أن "أن وصلتها" تشبه المضمر؛ لأنها لا توصف كما لا يوصف المضمر، ومن الأصول أنه إذا اجتمع مع ليس وأخواتها مظهر ومضمر، فالمضمر هو الاسم والمظهر هو الخبر؛ لأنه أعرف. وكذلك أن وصلتها في تقدير الإضافة إلى المضمر؛ لأن معناها "توليتكم" والمضاف إلى المضمر أعرف مما فيه أل، والأعرف أولى أن يكون هو الاسم. وأمر آخر هو أن تعريف البر ضعيف؛ لأنه يدل على الجنس لا على شخص بعينه، وتعريف الجنس ضعيف؛ لأنه يشبه النكرة. كما يرجع قراءة الرفع: "لَيْسَ الْبِّرُ" أن اسم ليس كالفاعل، ورتبة الفاعل أن يلي الفعل، فإذا نصبته كان لا بد من نية تأخيره على الخبر، ومجيء الكلام على رتبته التي أتت بها التلاوة أولى من التقديم والتأخير. كما يقوي الرفع مجيء "البّر" مرفوعًا في الآية 189 من السورة: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} ؛ إذ لا يجوز هنا إلا الرفع فحمل الأول على الثاني أولى من المخالفة1. كما يقويها ما جاء في مصحف ابن مسعود وأُبَيّ: "لَيْسَ الْبِرُّ بِأَن   1 راجع في هذه الترجيحات الكشف ج1 ص280- 281. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 تُوَلُّوا" بزيادة الباء. المراجع: حجة القراءات لابن أبي زرعة ص123. الكشف لمكي ج1 ص280- وص281- الحجة في القراءات السبع لابن خالويه ص92 النشر في القراءات العشر ج2. قوله تعالى: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 71] . قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: "وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونُ" بالرفع، وأضاف ابن الجزري: خلفًا ويعقوب. وقرأ الباقون: {أَلَّا تَكُونَ} بالنصب. وحجة القراءة الأولى قوله تعالى: {أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} 1. فجعل "حسب" بمعنى العلم واليقين الذي في آية الحديد، فإن هنا مخففة من الثقيلة تؤكد ما بعدها، وما قبلها من اليقين يجعلها أقرب من الناصبة، فيسير الكلام على نمط اليقين، وعلى هذا يكون التقدير: "أنه لا تكون فتنة" فاسمها ضمير محذوف، ويرفع الفعل؛ لأنه لا ناصب له حينئذ، وتصير "لا" عوض من المحذوف مع أن، وجملة كان واسمها في محل رفع خبر "أن" المخففة، ولا تحتاج كان إلى خبر؛ لأنها تامة. وحجة من نصب أنه أجرى "حسب" على بابها للشك فأتت معه أن الناصبة للفعل؛ لأنها لأمر غير ثابت مثل ما قبلها فهي ملائمة له.   1 الحديد: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 و"لا" لا تفصل بين العامل والمعمول كقولك: أحب أن تذهب أحب ألا تذهب، وقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُد} 1، وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} 2، فالنصب باق مع "لا" كما هو موجود بدون "لا" كما جاء قوله تعالى: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّه} 3، وقوله سبحانه: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} 4. وحكى بعض النحويين أنه قال: من رفع هذا الفعل كتب: "أن لا" منفصلة؛ لأن الهاء المضمرة المقدرة تحول في المعنى بين "أن" و "لا" من نصب الفعل كتبه غير منفصل؛ إذ لا شيء يقدر يحول بين "أن" و "لا"5. المراجع، حجة القراءات لابن أبي زرعة ص233. الحجة لابن خالويه ص135. الكشف لمكي ج1 ص416. النشر ج2 ص44. وراجع كتاب سيبويه ج1 ص515، وتفسير مشكل إعراب القرآن لمكي بن أبي طالب ص 30 مخطوط المدرسة الأحمدية، حلب. طـ ثانية بيروت. قوله تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [سورة الأعراف: 185] .   1 سورة ص: 75. 2 سورة الأعراف: 12. 3 البقرة: 246. 4 سورة الحديد: 10. 5 الكشف ج1 ص416. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 قرأ الحرميان: نافع وابن كثير، وابن عامر: "وَنذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ"، بالنون ورفع الفعل "نذر". وقرأ أبو عمرو بن العلاء1، وعاصم: {وَيَذَرُهُم} بالياء والرفع. وقرأ حمزة والكسائي: "ويذرهم"، بالياء وجزم الفعل، وأضاف إليهما صاحب النشر خلفًا. توجيه القراءة الأولى: رفع الفعل على الاستئناف أي "ونحن نذرهم" على أساس أن الله عز وجل يخبر عن نفسه، فهو التفات من الغيبة إلى التكلم "مَنْ يُضْلِلِ، ... وَنَذَرُهُم" مثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ} ثم قوله: {أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} 2، ولو حمله على لفظ الغيبة لقال: {مِنْ رَحْمَتِه} . توجيه القراءة الثانية: رفع الفعل على الاستئناف، وبالياء على الغيبة، والإخبار عن الله، وهذا حسن للمشاكلة، وسير الكلام على وتيرة واحدة في الضمائر "يُضْلِل، وَيَذَرُهُم" ويكون تقدير الكلام: من يضلل الله فلا هادي له، ثم استأنف فقال: والله يذرهم. وأما القراءة الثالثة فليس فيها قطع ولا استئناف. ويكون الفعل {وَيَذَرُهُم} معطوفًا على محل جملة جواب الشرط المقترنة بالفاء. ولا يكون في الكلام التفات.   1 ذكر ابن الجزري أبو عمرو في قراءة النون -راجع النشر ج2 ص84. 2 سورة العنكبوت: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 يقول مكي: إن الاختيار ما عليه قراءة أهل الحرفين من الرفع والنون1. المراجع: حجة القراءات ص303. الحجة لابن خالويه ص167. الكشف ج1 ص485. النشر ج3 ص84. قرأ ابن كثير قوله تعالى: "إِنَّهُ مَنْ يَتَّقي وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" [يوسف: 90] . بإثبات الياء2. وقرأ الباقون: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ} بغير ياء مجزومًا بالشرط. أما حجة ابن كثير3: هناك من العرب من يجري المعتل مجرى الصحيح فيقول: "زيد لم يقضي" ويقدر في الياء الحركة فيحذفها منها فتبقى الياء ساكنة للجزم، قال الشاعر: ألم يأتيك والأبناء تمني ... بما لاقت لبون بني زياد ولم يقل: ألم يأتك4، وقال آخر5: هزي إليك الجذع يجنيك الجني. وكان ينبغي6 أن يقول: "يجنك الجنى"؛ لأنه جواب الجزاء.   1 الكشف ج1، ص485. 2 تفرد بهذا قنبل عن ابن كثير. 3 ابن زنجلة حجة القراءات ص364. 4 روى ابن جني في سر الصناعة: ألم يأتك لا ياء فيها ولا ضرورة، وروى أيضًا: ألم يبلغك، والبيت أول مقطوعة: لقيس بن زهير العبسي. 5 أنشده الفراء ولم ينسبه راجع لسان العرب مادة "جنى". 6 ابن زنجلة غير دقيق هنا لأن الجزم في جواب الطلب جائز لا واجب بشرط صحة تقدير الشرط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 ويقوي هذا قراءة حمزة في قوله تعالى: "فلا تخف دركًا ولا تخشى" [طه: 77] ولم يقل: "تخش" في موضع جزم؛ لأن من العرب من يفعل ذلك، قال: وإن شئت استأنفت: "وَلَا تَخْشَى". وقال نحويو البصرة: يجوز أن يجعل "من يتقي" بمنزلة: الذي يتقي، والموصول كالشرط في العموم والإبهام؛ ولأن كل واحد منهما يصلح دخول الفاء في جوابه فتقول: "الذي يأتني فله درهم" كما تقول: "من يأتني فله درهم". وأما تسكين "يصبر" فيقولون: إما لتوالي الحركات، حركات الباء والراء والفاء والهمزة، أو على أنه وصل بنية الوقف، وإما على العطف على المعنى على الأساس الذي ذكر سابقًا وهو أن مَنْ الموصلة بمعنى الشرطية لعمومها وإبهامها. وأما قراءة الباقين فهي سائرة على المشهور من قواعد النحو؛ لأن "يتق" فعل الشرط مجزوم بـ "من" وعلامة جزمه حذف حرف العلة وهو الياء. السبعة لابن مجاهد. حجة القراءات لابن زنجلة. الكشف لمكي بن أبي طالب. أوضح المسالك لابن هشام ج1 ص80 ت محيي الدين. قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه: 63] . قرأ أبو عمرو "إن هذين" بالياء وتشديد النون في "إنّ"، وقرأ الباقون بالألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وقرأ ابن كثير وحفص: {قَالُوا إِنْ} بتخفيف"إن" وشدد الباقون الكشف ج2 ص63. ويختلف ابن كثير عن حفص في تشديد النون من "هذانِّ" حجة أبي زرعة ص456. وحجة أبي عمرو أن تثنية المنصوب والمجرور لغة فصحاء العرب، وأبو عمرو مستغن عن إقامة دليل على صحتها. وحجة من خفف "ابن كثير وحفص" أنه لما رأى القراءة وخط المصحف في "هذان" بالألف أراد أن يحتاط بالإعراب، فخفف إن ليحسن الرفع بعدها على الابتداء؛ لأن إن إذا خففت حسن رفع ما بعدها على الابتداء؛ لأن إن إذا خففت حسن رفع ما بعدها على الابتداء لنقصها عن شبه الفعل؛ ولأنها لم تقوَ قوة الفعل، فتعمل ناقصة كما يعمل الفعل ناقصًا في نحو: لم يك زيد أخانا، ومنهم من يعملها وهي مخففة عملها وهي مشددة، فالذي خفف "إن" اجتمع له في قراءته موافقة الخط، وصحة الإعراب في "هذان". فتكون "إن" مهملة مخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة أو تقول: إن نافية بمعنى "ما" واللام بمعنى إلا والتقدير: ما هذان إلا ساحران. ويكون تشديد النون عند ابن كثير عوضًا عن الألف الثانية في {هَذَانِ} فتكون "إن" مهملة مخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة أو تقول: إن نافية بمعنى "ما" واللام بمعنى إلا والتقدير: ما هذان إلا ساحران. ويكون تشديد النون عند ابن كثير عوضًا عن الألف الثانية في {هَذَانِ} ؛ إذ أصلها: "هذا ان" فحذفت ألف هذان، وعوض عنها بتشديد النون1. وحجة من شدد النون مع بقاء الألف في "هذان" أنها مكتوبة هكذا في الإمام، مصحف عثمان، وهذا مشكل على أهل اللغة، وقد ذكر أبو زرعة ابن زنجلة اختلاف النحاة واللغويين في تفسيره على النحو التالي:   1 حجة القراءات ص456. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 حكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب1، وهو رأس رؤساء الرواة: أنها لغة كنانة يجعلون ألف الاثنين في الرفع والنصب والخفض على لفظ واحد، ومنه قوله الشاعر2: تزود منا بين أذناه ضربة ... دعته إلى هابي التراب عقيم وقال الزجاح: وقال النحويون القدماء: ها هنا هاء مضمرة، والمعنى: "إنه هذان لساحران" كما نقول: "إنه زيد منطلق" ثم نقول: "إن زيدٌ منطلق". وقال المبرد: أحسن ما قيل في هذا أن يجعل: "إن" بمعنى "نعم"، المعنى: "نعم هذان لساحران" فيكون ابتداء وخبرًا قال الشاعر3: ويقلن شيب قد علا ... ك وقد كبرت فقلت: إنَّه أي: نعم. فإن قيل: اللام لا تدخل بين المبتدأ وخبره، لا يقال: زيد لقائم، فما وجه هذان لساحران؟ الجواب في ذلك: أن من العرب من يدخل لام التوكيد في خبر المبتدأ، فيقول: زيد لأخوك، قال الشاعر: خالي لأنت ومن جرير خاله ... ينل العلاء ويكرم الأخوالا وقال الزجاج: المعنى: "نعم هذان لساحران".   1 هو عبد الحميد بن عبد المجيد الأخفش الكبير، وأستاذ سيبويه. 2 البيت لهوبر الحارني "لسان العرب مادة هبا" والهابي: التراب المختلط بالرماد. 3 البيت لعبد الله بن قيس الرقيات "ديوانه ص66" وانظر الكتاب لسيوبه 1/ 475، 2/ 279 وخزانة الأدب 4/ 487. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وقال قطرب: يجوز أن يكون المعنى: "أجل" فيكون المعنى والله أعلم: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} قالوا: "أجل" تصديقًا من بعضهم لبعض، ثم قالوا: "هذان لساحران" ويجوز أن يكون اللام داخلة في الخبر على التوكيد. وقال الفراء في "هذان" إنهم زادوا فيها النون في التثنية وتركوها على حالها في الرفع والنصب والجر كما فعلوا في "الذي" فقالوا: {الَّذِين} في الرفع والنصب والجر1. وللإمام ابن تيمية رأي في تخريج هذه القراءة: وهو أن الإعراب لا يظهر في الواحد وهو هذا فجعل كذلك في التثنية؛ ليكون المثنى كالمفرد؛ لأنه فرع عليه، وبناء المثنى إذا كان مفرده مبينًا أفصح من إعرابه، ثم اعترض على نفسه بأمرين: أحدهما: أن السبعة أجمعوا على الياء في قوله تعالى: {إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْن} 2، مع أن هاتين تثنية "هاتا" وهو مبني والآخر: أن الذي مبني وقد قالوا في تثنية "الذين" وهي لغة القرآن كقوله تعالى: {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا} 3. وأجاب عن الأول بأن "هاتين" جاءت بالياء على لغة الإعراب لمناسبة "ابنتي"، فالإعراب هنا أفصح من البناء لأجل المناسبة كما أن البناء في {هَذَان} أفصح من الإعراب لمناسبة الألف في "ساحران". وأجاب عن الآخر بأن هناك فرقًا بين "هذان" و"اللذان"؛ إذ الأخير تثنية اسم ثلاثي، فهو شبه بالزيدان، والأول تثنية اسم على   1 هذه الوجوه مفصلة في حجة القراءات لأبي زرعة في ص454 إلى 456. 2 سورة القصص: 27. 3 سورة فصلت: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 حرفين فهو عريق في البناء لشبهه بالحروف. كما رد ردًّا قويًّا على الخبر المنسوب إلى عثمان -رضي الله عنه- بما يبطله، وهو قولهم: إن في المصحف لحنًا وستقيمه العرب بألسنتها1. المراجع: حجة القراءات لأبي زرعة، تفسير ابن كثير ج3 ص157. الكشف ج3 لمكي، شذور الذهب لابن هشام. النشر ج3 لابن الجزري. قال الله تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88] . قرأ أبو بكر "شعبة بن عياش" وابن عامر "نُجِّي" بنون واحدة، وجيم مشددة، ونسب ابن خالويه، وابن الجزري هذه القراءة لعاصم. وشعبة من رواة عاصم. وقرأ الباقون بنونين والتخفيف "ننجي". بالنسبة لقراءة شعبة وابن عامر. توجه إليها النقد التالي من الوجهة النحوية: قال الفراء: لا وجه له عندي؛ لأن ما لم يسم فاعله إذا خلا باسم رفع. وقالوا أيضًا في نقدها: نُجِّي لم يسم فاعله، وكان الواجب أن تكون الياء مفتوحة، كما تقول: عزِّي وقُضِيَ.   1 شذور الذهب لابن هشام ص49- 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وقيل في توجيهها: إن هذه القراءة على طريق إخفاء النون الثانية في الجيم، وهذا بعيد؛ لأن الرواية بتشديد الجيم، والإخفاء لا يكون معه تشديد. وقيل أدغم النون في الجيم، وهذا أيضًا لا نظير له؛ لأن النون لا تدغم في الجيم في شيء من كلام العرب لبعدما بينهما. يقول مكي1: وإنما تعلق من قرأ هذه القراءة أن هذه اللفظة في أكثر المصاحف بنون واحدة، فهذه القراءة إذا قرئت بتشديد الجيم، وضم النون، وإسكان الياء غير متمكنة في العربية". وكان أبو عبيد2- يختار هذه القراءة اتباعًا للمصحف على إضمار المصدر بقيمة مقام الفاعل، وينصب المؤمنين، ويسكن الياء في موضع الفتح، ويرى مكي أن هذا كله قبيح بعيد، كما اختار أن يكون أصله "ننجي" ثم أدغم النون في الجيم، وعلق مكي على ذلك بأنه غلط قبيح؛ لأنه لا يجوز الإدغام في حرف مشدد كما لا يجوز إدغام النون في الجيم عند أحد3، وعلى الاختيار الثاني لأبي عبيد يكون "نجي" فعل مضارع، وعلامة الاستقبال سكون الياء4. واحتج بعضهم لهذه القراءة بأن "نجي" فعل ماض، مبني للمجهول، ثم سكنوا الياء، وتأويله: "نجى النجاء المؤمنين" فيكون "النجاء" مرفوعًا على أنه نائب عن الفاعل، والمؤمنين مفعول به، كما تقول: "ضرب الضرب زيدًا" ثم يكنى عن الضرب، فتقول:   1 الكشف ج2 ص113. 2 هو أبو عبيد القاسم بن سلام وهو من أوائل الأعلام الذين بحثوا في القراءات رواية وتوجيهًا. 3 الكشف ج2 ص113. 4 حجة القراءات ص468. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 "ضرب زيدًا"، وحجتهم قراءة جعفر: {ليجزى قوما بما كانوا} 1، أي ليجزى الجزاء قومًا2. وأما قراءة الباقين: ننجي بنونين، فهو فعل مضارع من: أنجى ينجي، والمؤمنين مفعول به، وكتبوا في المصاحف بنون واحدة على الاختصار، على اجتماع المثلين في الخط، ولأن النون الثانية تخفى عند الجيم بلا اختلاف، واختار ابن قتيبة هذه القراءة3. المراجع: الكشف ج2 حجة القراءت لابن زنجلة، الحجة لابن خالوية، النشر ج3. قال الله تعالى: {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10] . قرأ أبو عمرو "فَأَصَّدَّقَ وَأَكُونَ" بإثبات الواو في "أكون"، ونصبها. وقرأ الباقون: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ} بحذف الواو والجزم "أكن". توجيه القراءة الأولى: "أكون" منصوبة بالعطف على {فَأَصَّدَّقَ} ؛ لأن "فأصدق" منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء، لوقوعها في جواب التمني، فهو محمول على مصدر "أخرتني"4.   1 سورة الجاثية: 14. 2 هذه القراءة لآية السجدة والآية التي معنا حجة للكوفيين في وقلهم بجواز نيابة غير المفعول به عن الفاعل، مع وجود المفعول به وخالفهم البصريون. 3 الكشف ج2 ص114. 4 يقول ابن خالويه "لولا" هنا للاستفهام والتخصيص، وتعبير مكي في الكشف بالتمني أنسب لسباق الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وحجة من جزم أنه عطف على موضع "فَأَصَّدَّقَ"؛ لأن موضعه قبل دخول الفاء فيه جزم؛ لأنه جواب التمني، وجواب التمني إذا كان بغير فاء ولا واو مجزوم؛ لأنه غير واجب، ففيه مضارعة للشرط وجوابه، فلذلك كان مجزومًا، كما يجزم جواب الشرط، ويعطف عليه بالجزم كقراءة من قرأ: "مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرْهُم" لما كان "فلا هادي له" في موضع فعل مجزوم، حمل: "يذرهم" عليه، وكأن الأصل في الآية: "لولا أخرتني أتصدقْ وأكن" كما قال الشاعر1: فأبلوني بليتكم لعلي ... أصالحكم وأستدرج نويا ففي هذا البيت جزم "استدرجْ" عطفًا على موضع "أصالحكم" قبل دخول لعل عليه ومعناه: فأبلوني بليتكم أصالحكم. المراجع: حجة القراءات لابن زنجلة ص710. الحجة لابن خالويه ص346. الكشف ج2 ص322- ص323. النشر ج3 ص335. قوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح: 25] . قرأ أبو عمرو "مما خطاياهم" مثل قضاياهم. وقرأ الباقون: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} .   1 نسبة ابن جني في الخصائص إلى أبي داود، ونسبة ابن هشام في المغني ج2 ص97 إلى الهذلي.. وأبلوني: أعطوني. والبلية: الناقة تعقل على قبر صاحبها الميت بلا طعام، ولا شراب حتى تموت، ونوي: بفتح الواو كهوي، وأصله: نواي كعصاي قلبت الألف ياء على لغة هذيل. انظر الخصائص ج1 ص176، ومعاني القرآن ج1 ص88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 وحجة أبي عمرو أن الخطايا أكثر من الخطيئات؛ لأن جمع المؤنث بالتاء في الأغلب من كلام العرب أن يكون للقليل مثل نخلة ونخلات، وبقرة وبقرات. قال الأصمعي: كان أبو عمرو يقرأ "خطاياهم" ويقول: إن قومًا كفروا ألف سنة كانت لهم خطيئات؟ لا، بل خطايا. كأن أبا عمرو يذهب إلى أن الألف والتاء للجمع القليل، و "خطايا" جمع تكسير يفيد الكثرة. كما احتج بإجماع القراء في سورة البقرة على: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} 1. والأصل في: "خطايا" خطاءا على وزن "خطاعي"2 ثم لينت الهمزة فقيل خطايا. وقال الفراء: هو جمع خطية على تخفيف الهمزة. وحجة الباقين رسم المصحف الذي جاء على صيغة جمع السلامة للمؤنث. وقالوا: إن الألف والتاء تكون للقليل والكثير، وإليه ذهب الكسائي؛ لأن الله قال: {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه} 3، وقال: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ} 4. ولابن كيسان رأي في توجيه الآية يقول فيه: "ما" نكرة في موضع   1 سورة البقرة: 58. 2 راجع حجة القراءات لابن زنجلة ص 299- 726. 3 لقمان: 27. 4 سبأ: 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 خفض بمن، و"خطيئاتهم" بدل من "ما" كأنه قال: من عمل خطيئاتهم1. المراجع: حجة القراءات لابن زنجلة. الحجة لابن خالويه. الكشف ج2. النشرج3.   1 الكشف ج2 ص337. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 خاتمة: في ختام هذا العمل العلمي، وبعد جولة باحثة فاحصة في ميادين القراءات المتعددة والمتشعبة لا أستطيع أن أنزه هذا العمل من الهفوات والعثرات شأن أي جهد يبذله بشر {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} . غير أني أحسب بعد هذه الجولة أني أستطيع أن أضع أمام الدارس والباحث عددًا من النتائج التي يمكن أن ينطلق منها إلى عمر آخر، وأن يحقق بعد الوقوف عليها والتحرك من مفاهيمها نتائج أعمق أثرًا، وأشد خطرًا. وهذا شأن العلم لبنات تتعاقب الأجيال في إرساء صرحه الشامخ حتى يأوي الإنسانية في ظلاله الوارفة. والأجيال المسلمة في حياتنا المعاصرة في أمس الحاجة إلى علوم القراءات لترشد مسيرتها المهتدية بكتاب الله، والقائمة على حفظه ودرسه. ودونكم النتائج التي رأيت إثباتها في هذه الخاتمة . القراءات المقبولة نزلت وحيًا، ولم تكن من اجتهاد رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 صلى الله عليه وسلم، واختلاف القراءات اختلاف تنوع لا اختلاف تعارض وتناقض. مصدر اختلاف القراءات الأسانيد المتواترة التي تثبت أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قرأ بها جميعًا، ولم تنشأ عن الرسم العثماني كما يزعم المستشرقون وأذنابهم. الحروف السبعة التي نزل بها القرآن الكريم هي تنوع في صور الأداء مع اتحاد المعنى في الجميع، والعدد ليس مرادًا، ولا يعني سوى الكثرة. وكل قراءة ثبتت بسند متواتر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووافقت قوانين اللسان العربي على أساس أن القرآن نزل بلسان عربي مبين، ولم تخالف رسم المصحف العثماني فهي من الحروف السبعة، ولو نسبت لغير القراء السبعة أو العشرة. من أعظم الأعمال في تاريخ القرآن المجيد المصحف العثماني أو المصحف الإمام الذي وضع ضوابط دقيقة ومحددة أجمع عليها قراء الصحابة لتكون مرجعًا للقراء من بعدهم، ولتدفع احتمالات الفوضى التي قد تنشأ من تعدد القراءات بدون وعي. ولهذا عددت هذا العمل من وسائل الحفظ الذي تكفل به رب العالمين لكتابه العزيز. وعمل ابن مجاهد -مهما قال العلماء في تقويمه- عمل مشكور، له آثاره الطيبة في جمع الأمة على عدد من القراءات الصحيحة المتواترة. أعلام القراء حتى عصر ابن الجزري كانوا علماء هذه الأمة، وأعرف الناس بعلوم العربية وفنون الرواية، والحديث، والتفسير، وسائر علوم القرآن. علوم القراءات، الدراية بها ضرورة لدارس اللسان العربي على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 كل مستويات الدراسة فيه. الأصول من القراءات كثيرة ومتنوعة، ويراد بها القواعد العامة المطردة التي عززتها الأسانيد الصحيحة، وليست سبعة فقط كما رأى بعض العلماء. في كتب التفسير، ومعاني القرآن، وإعرابه قراءات كثيرة، وغير منسوبة، ويكتفي فيها بأن يقال: وقرئ كذا، وهذا الأمر يحدث أكثر ما يحدث في غير القراءات العشرة، أو لغير القراءات العشرة ممن صحت قراءاتهم، ويتطلب هذا جهدًا يبذله المهتمون بعلوم القراءات لنسبة هذه القراءات والتعرف على أسانيدها، ولا يكفي مجرد عمل معجمي يكتفي بذكر القراءة دون نسبة واضحة محددة. القراءات الشاذة التي تنتهي أسانيدها إلى بعض الأعلام من قراء الصحابة، أساسها وهم من بعض الرواة، فقد يلجأ الصحابي إلى ذكر كلمة للتفسير والتوضيح فيدخلها الراوي في صلب الآية مثل: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات" التي نسبت لابن مسعود رضي الله عنه. القراءة الشاذة مصدر صحيح لقضايا النحو والصرف واللغة، وإن اختلف العلماء في الاستشهاد بها في الأحكام الشرعية. كما ذكرت. هناك فرق بين الاحتجاج بالقراءات، والاحتجاج للقراءات. أما الأول فلا ريب فيه؛ إذ نحتج بالقراءات السبع والعشر في كل الأمور شرعية أم لغوية أم غير ذلك؛ لأنها القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم، والتوقف أمام واحدة منها ضلالة ضالة. وأما الثاني فهو منهج علماء القراءات في إثبات صحتها، إما عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 طريق ذكر الأسانيد المتواترة، وإما عن طريق كشف صلتها الوثيقة بقواعد اللسان العربي، وإما عن طريق إثبات موافقتها لما أجمع عليه الصحابة من الرسم العثماني. القراءات مصدر لتقنين النحو، وضبط قواعده، ولا يصح أن تحكم عليها بما قرره النحاة من قواعد على أساس بيت مجهول القائل، أو عبارة قالها عربي في البادية. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 مراجع البحث ومصادره : مرتبة ترتيبًا أبجديًّا وهي بعد القرآن الكريم وكتب السنة. أولًا: القرآن الكريم ثانيًا: كتب السنة: صحيح البخاري -صحيح مسلم ط عيسى الحلبي- القاهرة- المستدرك للحاكم- سنن الترمذي: القاهرة شعب الإيمان للبيهقي. ثالثًا: مؤلفات مطبوعة ومخطوطة 1- الإبانة عن معاني القراءات لمكي بن أبي طالب ت د. عبد الفتاح شلبي. 2- إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر- للدمياطي ط القاهرة سنة 1951. 3- الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ط الحلبي القاهرة. 4- ارتشاف الضرب من كلام العرب لأبي حيان مخطوط. 5- إرشاد الفحول للشوكاني ط القاهرة. 6- إرشاد المبتدى وتذكرة المنتهى لأبي العز القلانسي -ت عمر الكبيسي- رسالة ماجستير بإشرافنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 7- أسرار العربية لأبي البركات الأنباري ط دمشق. 8- الاشتقاق لابن دريد تحقيق عبد السلام هارون مطبعة السنة المحمدية القاهرة. 9- الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، دار الكتب المصرية. 10- الإقناع في القراءات السبع لابن الباذش ت د- عبد المجيد قطامش- مركز البحث العلمي- مكة. 11- الإمالة في القراءات واللهجات العربية دكتور عبد الفتاح شلبي. 12- أوضح المسالك إلى ألفية بن مالك لابن هشام ت محمد محيي الدين عبد الحميد. 13- البحر المحيط لأبي حيان. 14- البرهان في علوم القرآن للزركشي ط الحلبي القاهرة. 15- البرهان في تجويد القرآن الشيخ محمد الصادق قمحاوي. 16- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة للسيوطي. 17- البيان والتبيين للجاحظ. 18- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي "463هـ" م السعادة. 19- تاريخ التراث: فؤاد سزكين: قسم القراءات. 20- تاريخ القراء العشرة ورواتهم للشيخ القاضي. 21- تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ت السيد صقر دار التراث -القاهرة. 22- التبيان في آداب حملة القرآن للنووي ط القاهرة. 23- التصحيف والتحريف لأبي أحمد العسكري. 24- التعريف بالقرآن والحديث الشيخ محمد الزفزاف ط دار الكتب العلمية- بيروت. 25- التعريفات للسيد الجرجاني. 26- تفسير ابن كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 27- تفسير الطبري. 28- القراءات القرآنية -تاريخ وتعريف د. عبد الهادي الفضلي. 29- التيسير لأبي عمرو الداني ط استانبول. 30- الجامع لأحكام القرآن -القرطبي ط دار الكتب المصرية. 31- جمع الجوامع لابن السبكي وعليه حاشية البناني ط الحلبي: القاهرة. 32- جمهرة أنساب العرب لابن حزم دار المعارف القاهرة. 33- الحجة في القراءات السبع لابن خالويه ت عبد العال سالم مكرم -دار الشروق. 34- الحجة في القراءات السبع لأبي على الفارسي ت د. عبد الفتاح شلبي. 35- حجة القراءات لابن زنجلة ت سعيد الأفعاني. 36- حرز الأماني ووجه التهاني للإمام الشاطبي ت "538" ط. القاهرة. 37- خزانة الأدب للبغدادي. 38- رسم المصحف وأوهام المستشرقين د. عبد الفتاح شلبي دار الشروق. 39- السبعة لابن مجاهد ت د. شوقي ضيف دار المعارف بمصر. 40- سراج القاري المبتدي لابن القاصح -المكتبة التجارية الكبرى- القاهرة. 41- شرح السيرافي على كتاب سيبويه. 42- شرح الكافية الشافية لابن مالك -ت د. هريدي- مركز البحث العلمي- جامعة أم القرى- مكة. 43- شرح الشافية للرضي ت محيي الدين وزميليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 44- شذور الذهب في معرفة كلام العرب لابن هشام ت محيي الدين. 45- الصحاح للجوهري. 46- طيبة النشر في القراءات العشر لابن الجزري -ط الحلبي- القاهرة. 47- غاية النهاية في طبقات القراء- لابن الجزري- ط الحلبي- القاهرة. 48- غيث النقع تأليف الشيخ علي النوري الصفاقسي- على هامش سراج القارئ المبتدئ- ط الحلبي القاهرة. 49- فضائل القرآن لابن كثير. 50- الفهرست لابن النديم. 51- في رحاب القرآن. د. محمد سالم محيسن. 52- القاموس المحيط للفيروزأبادي. 53- القراءات الشاذة وتوجيهها من لغة العرب -عبد الفتاح القاضي. 54- القراءات في نظر المستشرقين والملحدين- الشيخ عبد الفتاح القاضي. 55- قصة النقط والشكل في المصحف الشريف د. عبد الحي حسن الفرماوي. 56- القطع والائتناف لأبي جعفر النحاس ت د. أحمد خطاب العمر- العراق. 57- الكتاب لسيبويه ط الأميرية وطبعة عبد السلام هارون. 58- كشف الظنون لحاجي خليفة. 59- الكشف في وجوه القراءات السبع وعللها لمكي بن أبي طالب ت محيي الدين رمضان ط دمشق. 60- الكفاية في علم الرواية للبغدادي ط القاهرة. 61- لسان العرب لابن مكرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 62- لطائف الإشارات في علم القراءات لشهاب الدين أبي العباس القسطلاني ت الشيخ عامر سليمان ود. شاهين. 63- مباحث في علوم القرآن للشيخ مناع القطان. 64- المحتسب في القراءات الشاذة لابن جني -المجلس الأعلى للشئون الإسلامية القاهرة. 65- المحكم في نقط المصاحف للداني. 66- المدارس النحوية د. شوقي ضيف. 67- مذاهب التفسير الإسلامي -جولد تسيهر- ترجمة عبد الحليم النجار دار الكتب الحديثة. 68- المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز -لأبي شامة المقدسة ط بيروت. 69- معاني القرآن للفراء، ت: محمد على النجار وآخرين ط دار الكتب مصر. 70- المعجم الوسيط -مجمع اللغة العربية- القاهرة. 71- معرفة القراء الكبار للذهبي "ت 748هـ" ط القاهرة. 72- المقتضب للمبرد، ت: عضيمة، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية- القاهرة. 73- مقدمة ابن خلدون ط مصطفى محمد. 74- المقنع في رسم مصاحف الأمصار للداني. 75- منجد المقرئين ومرشد الطالبين لابن الجزري، ت: عبد الحي فرماي - القاهرة. 76- منهج السالك إلى ألفية ابن مالك لأبي الحسن الأشموني، ت: محيي الدين. 77- والموضح لمذاهب الثراي واختلافهم في الفتح والإمالة لأبي عمر وعثمان بن سعيد الداني مخطوط بمكتبة الأزهر "ضمن مجموعة من ورقة 24- 73 برقم 103 قراءات مخطوطة سنة 836هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 78- النبأ العظيم د. محمد عبد الله دراز ط دار العلم بالكويت. 79- نزهة الألبا في طبقات الأدبا النحاة لأبي البركات الأنباري. 80- النشر في القراءات العشر لابن الجزري ط القاهرة، الضياع، وط د. محيش. 81- همع الهوامع شرح جمع الجوامع للسيوطي. 82- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خَلِّكَان، ت: محيي الدين القاهرة. دوريات: 1- مجلة الرسالة العدد 216 سنة 1937. 2- مجلة المقتطف يوليو سنة 1933. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 فهرس الكتاب : الصفحة الموضوع 9 المقدمة 13 تمهيد- القرآن الكريم وقراءاته الباب الأول القراءات والقراء الفصل الأول مفاهيم أساسية 27 تعريف القراءات 28 وجوه الاختلاف بينها 29 أساس اختلاف القراءات 30 القراءة والرواية 31 نشأة علم القراءات 32 أين نزلت القراءات؟ 34 تدوين القراءات 36 ما ألف في القراءات 40 مكانة علم القراءات 42 فروع علم القراءات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 صفحة موضوع الفصل الثاني القراءات المقبولة والشاذة 47 ضوابط القراءة المقبولة 48 شرط التواتر 51 موافقة العربية 53 موافقة رسم المصحف 54 القراءات من حيث السند 55 الاختيار في القراءات 57 القراءة الشاذة وصورها 59 متى بدأ الحكم بالشذوذ؟ 60 رواة القراءة الشاذة والباحثون فيها 63 القراءة في الصلاة بالشاذة 64 الاستشهاد بالقراءة الشاذة في الفقه 66 الاستشهاد بالقراءة الشاذة في النحو واللغة الفصل الثالث القراء 69 القراء من الصحابة 72 القراء من التابعين وتابعيهم 74 القراء العشرة ورواتهم 75 ابن عامر 77 ابن كثير 80 عاصم 83 أبو عمرو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 صفحة موضوع 86 حمزة 88 نافع 91 الكسائي 94 أبو جعفر 95 يعقوب 97 خلف 99 الأربع الشواذ 99 الحسن البصري 100 ابن محيص 101 الأعمش 103 اليزيدي الفصل الرابع ترتيل القرآن 107 معنى الترتيل 108 قراءة النبي صلى الله عليه وسلم 110 أنواع القراءة 110 التحقيق 111 الحدر 111 التدوير 112 أي الثلاثة أفضل؟ 114 التجويد: معناه 115 أصوله 116 التدوين في علم التجويد 118 مخارج الحروف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 صفحة موضوع 119 عدد مخارج الحروف 122 صفات الحروف 127 ملاحظات مهمة الباب الثاني بحوث في القراءات الفصل الأول الأحرف السبعة 134 المقصود بالحرف 135 أقوال العلماء في الأحرف السبعة 143 رأي وتعليق 144 كيف وجدت الأحرف السبعة 146 حكمة تعدد الحروف والقراءات 149 كيف نشأت فكرة القراءات السبع الفصل الثاني الأصول والفرش الوقف والابتداء معنى الوقف 162 الوقف الكافي 162 الوقف الحسن 163 وقف السنة 164 الوقف اللازم أو الواجب 165 الوقف القبيح 166 موقف أئمة القراء من مواضع الوقف والابتداء 167 الوقف المتكلف 168 تعانق الوقف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 صفحة موضوع 169 الوقف والقطع والسكت 171 كيف تقف؟ 174 الابتداء 175 الإدغام والإظهار 176 أسباب الإدغام 176 ما يجب فيه الإدغام 178 ما يجوز فيه الإظهار والإدغام 179 الإدغام الصغير: أقسامه 183 الإدغام الكبير 185 حروف يخاف على القارئ اللحن فيها 187 المد والقصر 187 أسباب المد 188 أقسام المد 191 أحكام المد 195 الهمز والتليين 197 تلاقي همزتين في كلمة 200 الهمزتان المتحركتان في كلمتين 204 الهمزة المتحركة المفردة 210 الهمزة الساكنة الإمالة والفتح 213 موقف القراء من الإمالة 216 أسباب الإمالة عند القراء والنحاة 218 اختلاف واتفاق بين النحاة والقراء 221 الراءات واللامات بين التفخيم والترقيق 222 أحكام الراءات 226 أحكام اللامات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 صفحة موضوع 228 الهاءات 236 الياءات 240 بين الإثبات والحذف 242 صلة ميم الجمع بواو الإشباع الفصل الثالث رسم المصحف 248 أسباب توحيد المصاحف 251 نماذج من الرسم العثماني 251 هاء التأنيث 254 الحذف والإثبات 256 القطع والوصل 261 الرسم العثماني ومواقف المتشككين 267 شبه وردود 271 كتابة المصحف بين الرسم العثماني، والرسم الإملائي 273 رأي المؤيدين 275 رأي المخالفين 278 رأي وسط الفصل الرابع صور من الاحتجاج للقراءات 283 صور من الاحتجاج بالأسانيد 286 صور من الاحتجاج للأصول 288 صور من الاحتجاج النحوي 305 خاتمة 315 الفهارس 309 مراجع البحث ومصادره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320